بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده قال شيخ الإسلام رحمه الله فصل
الكتاب والسنة والإجماع وبازائه لقوم آخرين المنامات والإسرائيليات والحكايات وذلك أن الحق الذى لا باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن الله وذلك فى حقنا ويعرف بالكتاب والسنة والإجماع وأما ما لم تجىء به الرسل عن الله أو جاءت به ولكن ليس لنا طريق موصلة إلى العلم به ففيه الحق والباطل فلهذا كانت الحجة الواجبة الإتباع للكتاب والسنة والإجماع فان هذا حق لا باطل فيه واجب الإتباع لا يجوز تركه بحال عام الوجوب لا يجوز ترك شيء مما دلت عليه هذه الأصول وليس لأحد الخروج عن شيء مما دلت عليه وهى مبنية على أصلين
____________________
(19/5)
( أحدهما ( أن هذا جاء به الرسول ( والثانى ( أن ما جاء به الرسول وجب اتباعه
وهذه الثانية إيمانية ضدها الكفر أو النفاق وقد دخل فى بعض ذلك طوائف من المتكلمة والمتفلسفة والمتأمرة والمتصوفة إما بناء على نوع تقصير بالرسالة وإما بناء على نوع تفضل عليها وإما على عين إعراض عنها وإما على انها لا تقبل إلا فى شيء يتغير كالفروع مثلا دون الأصول العقلية أو السياسية او غير ذلك من الأمور القادحة فى الإيمان بالرسالة
أما الأولى فهي مقدمة علمية مبناها على العلم بالإسناد والعلم بالمتن وذلك لأهل العلم بالكتاب والسنة والإجماع لفظا ومعنى وإسنادا ومتنا وأما ما سوى ذلك فاما أن يكون مأثورا عن الأنبياء أولا
أما الأول فيدخل فيه الإسرائيليات مما بأيدى المسلمين وأيدى أهل الكتاب وذلك قد لبس حقه بباطله قال النبى ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فاما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه ( ولكن يسمع ويروى إذا علمنا موافقته لما علمناه لأنه مؤنس مؤكد
____________________
(19/6)
وقد علم أنه حق وأما إثبات حكم بمجرده فلا يجوز اتفاقا وشرع من قبلنا إنما هو شرع لنا فيما ثبت أنه شرع لهم دون ما رووه لنا وهذا يغلط فيه كثير من المتعبدة والقصاص وبعض اهل التفسير وبعض اهل الكلام
وأما الثانى فما يروى عن الأوائل من المتفلسفة ونحوهم وما يلقى فى قلوب المسلمين يقظة ومناما وما دلت عليه الأقيسة الأصلية أو الفرعية وما قاله الأكابر من هذه الملة علمائها وأمرائها فهذا التقليد والقياس والإلهام فيه الحق والباطل لا يرد كله ولا يقبل كله وأضعفه ما كان منقولا عمن ليس قوله حجة باسناد ضعيف مثل المأثور عن الأوائل بخلاف المأثور عن بعض أمتنا مما صح نقله فان هذا نقله صحيح ولكن القائل قد يخطئ وقد يصيب ومن التقليد تقليد أفعال بعض الناس وهو الحكايات
ثم هذه الأمور لا ترد ردا مطلقا لما فيها من حق موافق ولا تقبل قبولا مطلقا لما فيها من الباطل بل يقبل منها ما وافق الحق ويرد منها ما كان باطلا والأقيسة العقلية الأصلية والفرعية الشرعية هي من هذا الباب فليست العقليات كلها صحيحة ولا كلها فاسدة بل فيها حق وباطل
____________________
(19/7)
بل ما فى الكتاب والسنة والإجماع فانه حق ليس فيه باطل بحال فما علم من العقليات أنه حق فهو حق لكن كثير من اهلها يجعلون الظن يقينا بشبهة وشهوة وهم ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) ويدلك على ذلك كثرة نزاعهم مع ذكائهم فى مسائل ودلائل يجعلها أحدهم قطعية الصحة ويجعلها الآخر قطعية الفساد بل الشخص الواحد يقطع بصحتها تارة وبفسادها أخرى وليس فى المنزل من عند الله شيء أكثر ما فى الباب أنه إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ويحكم الله آياته والله عليم حكيم فغاية ذلك غلط فى اللسان يتداركه الله فلا يدوم
وجميع ما تلقته الأمة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا باطل فيه وهدى لا ضلال فيه ونور لا ظلمة فيه وشفاء ونجاة والحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله
____________________
(19/8)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل
يجب على الإنسان أن يعلم ان الله عز وجل أرسل محمدا إلى جميع الثقلين الإنس والجن وأوجب عليهم الايمان به وبما جاء به وطاعته وان يحللوا ما حلل الله ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله ويحبوا ما احبه الله ورسوله ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد من الانس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث اليهم الرسول
وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم باحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم رضى
____________________
(19/9)
الله عنهم اجمعين لم يخالف أحد من طوائف المسلمين فى وجود الجن ولا فى ان الله أرسل محمدا اليهم وجمهور طوائف الكفار على اثبات الجن أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كاقرار المسلمين وان وجد فيهم من ينكر ذلك وكما يوجد فى المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد فى طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك وان كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك
وهذا لأن وجود الجن تواترت به اخبار الأنبياء تواترا معلوما بالإضطرار ومعلوم بالإضطرار انهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة بل مأمورون منهيون ليسوا صفات واعراضا قائمة بالانسان او غيره كما يزعمه بعض الملاحدة فلما كان أمر الجن متواترا عن الأنبياء تواترا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل انكار الملائكة ولا انكار معاد الأبدان ولا انكار عبادة الله وحده لا شريك له ولا انكار أن يرسل الله رسولا من الانس إلى خلقه ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترا تعرفه العامة والخاصة كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسى إلى فرعون وغرق فرعون ومجيء المسيح إلى اليهود وعداوتهم له وظهور محمد
____________________
(19/10)
بمكة وهجرته إلى المدينة ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة وجنس الآيات الخارقة التى ظهرت على يديه كتكثير الطعام والشراب والاخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التى لا يعلمها بشر إلا باعلام الله وغير ذلك
ولهذا أمر الله رسوله بسؤال أهل الكتاب عما تواتر عندهم كقوله ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى اليهم فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ) فان من الكفار من أنكر أن يكون لله رسول بشر فأخبر الله ان الذين أرسلهم قبل محمد كانوا بشرا وامر بسؤال أهل الكتاب عن ذلك لمن لا يعلم
وكذلك سؤالهم عن التوحيد وغيره مما جاءت به الأنبياء وكفر به الكافرون قال تعالى ( قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) وقال تعالى ( فان كنت فى شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ) وقال تعالى ( قل أرأيتم ان كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم )
وكذلك شهادة أهل الكتاب بتصديق ما أخبر به من أنباء الغيب التى لا يعلمها إلا نبى أو من أخبره نبى وقد علموا أن محمدا لم يتعلم
____________________
(19/11)
من أهل الكتاب شيئا
وهذا غير شهادة أهل الكتاب له نفسه بما يجدونه من نعته فى كتبهم كقوله تعالى ( أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى اسرائيل ) وقوله تعالى ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) وأمثال ذلك
وهذا بخلاف ما تواتر عند الخاصة من أهل العلم كأحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته وأحاديث الشفاعة والصراط والحوض فهذا قد ينكره بعض من لم يعرفه من اهل الجهل والضلال ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائى وأبى بكر الرازى وغيرهما دخول الجن فى بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن إذ لم يكن ظهور هذا فى المنقول عن الرسول كظهور هذا وان كانوا مخطئين فى ذلك ولهذا ذكر الأشعرى فى مقالات اهل السنة والجماعة أنهم يقولون ان الجنى يدخل فى بدن المصروع كما قال تعالى ( الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس ) وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل قلت لأبى ان قوما يزعمون أن الجنى لا يدخل فى بدن الانسى فقال يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه وهذا مبسوط فى موضعه
____________________
(19/12)
والمقصود هنا أن جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن وكذلك جمهور 2 الكفار كعامة أهل الكتاب وكذلك عامة مشركى العرب وغيرهم من أولاد سام والهند وغيرهم من أولاد حام وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين وغيرهم من أولاد يافث فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسم سواء أكان ذلك سائغا عند أهل الايمان او كان شركا فان المشركين يقرأون من العزائم والطلاسم والرقى ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم وعامة ما بأيدى الناس من العزائم والطلاسم والرقى التى لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن
ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التى لا يفقه معناها لأنها مظنة الشرك وان لم يعرف الراقى انها شرك وفى صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعى قال كنا نرقى فى الجاهلية فقلنا يارسول الله كيف ترى فى ذلك فقال اعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ( وفى صحيح مسلم أيضا عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله انه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب وانك نهيت عن الرقى قال فعرضوها عليه فقال ( ما أرى بأسا من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه
____________________
(19/13)
وقد كان للعرب ولسائر الامم من ذلك امور يطول وصفها واخبار العرب فى ذلك متواترة عند من يعرف اخبارهم من علماء المسلمين وكذلك عند غيرهم ولكن المسلمين اخبر بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم إذ كان خير القرون كانوا عربا وكانوا قد عاينوا وسمعوا ما كانوا عليه فى الجاهلية وكان ذلك من أسباب نزول القرآن فذكروا فى كتب التفسير والحديث والسير والمغازى والفقه فتواترت ايام جاهلية العرب فى المسلمين وإلا فسائر الأمم المشركين هم من جنس العرب المشركين فى هذا وبعضهم كان أشد كفرا وضلالا من مشركى العرب وبعضهم أخف
والآيات التى أنزلها الله على محمد فيها خطاب لجميع الخلق من الانس والجن إذ كانت رسالته عامة للثقلين وان كان من أسباب نزول الايات ما كان موجودا فى العرب فليس شيء من الآيات مختصا بالسبب المعين الذى نزل فيه باتفاق المسلمين وانما تنازعوا هل يختص بنوع السبب المسؤول عنه وأما بعين السبب فلم يقل احد من المسلمين ان آيات الطلاق أو الظهار او اللعان أو حد السرقة والمحاربين وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذى كان سبب نزول الآية
وهذا الذى يسميه بعض الناس تنقيح المناط وهو أن يكون
____________________
(19/14)
الرسول صلى الله عليه وسلم حكم فى معين وقد علم ان الحكم لا يختص به فيريد أن ينقح مناط الحكم ليعلم النوع الذى حكم فيه كما أنه لما أمر الاعرابى الذى واقع امرأته فى رمضان بالكفارة وقد علم ان الحكم لا يختص به وعلم أن كونه أعرابيا أو عربيا أو الموطوءة زوجته لا أثر له فلو وطىء المسلم العجمى سريته كان الحكم كذلك ولكن هل المؤثر فى الكفارة كونه مجامعا فى رمضان أو كونه مفطرا فالأول مذهب الشافعى وأحمد فى المشهور عنه والثانى مذهب مالك وأبى حنيفة وهو رواية منصوصة عن أحمد فى الحجامة فغيرها أولى ثم مالك يجعل المؤثر جنس المفطر وأبو حنيفة يجعلها المفطر كتنوع جنسه فلا يوجبه فى ابتلاع الحصاة والنواة
وتنازعوا هل يشترط أن يكون أفسد صوما صحيحا وأحمد لا يشترط ذلك بل كل امساك وجب فى شهر رمضان أوجب فيه الكفارة كما يوجب الأربعة مثل ذلك فى الاحرام الفاسد فالصيام الفاسد عنده كالاحرام الفاسد كلاهما يجب اتمامه والمضى فيه والشافعى وغيره لا يوجبونها إلا فى صوم صحيح والنزاع فيمن أكل ثم جامع او لم ينو الصوم ثم جامع ومن جامع وكفر ثم جامع
ومثل قوله لمن أحرم بالعمرة فى جبة متضمخا بالخلوق ( انزع
____________________
(19/15)
عنك الجبة واغسل عنك أثر الصفرة ) هل أمره بالغسل لكون المحرم لا يستديم الطيب كما يقوله مالك أو لكونه نهى أن يتزعفر الرجل فلا يمنع من استدامة الطيب كقول الثلاثة وعلى الأول فهل هذا الحديث منسوخ بتطييب عائشة له فى حجة الوداع
ومثل قوله لما سئل عن فأرة وقعت فى سمن ( القوها وما حولها وكلوا سمنكم ) هل المؤثر عدم التغير بالنجاسة او بكونه جامدا أو كونها فأرة وقعت فى سمن فلا يتعدى إلى سائر المائعات ومثل هذا كثير وهذا لابد منه فى الشرائع ولا يسمى قياسا عند كثير من العلماء كأبى حنيفة ونفاة القياس لاتفاق الناس على العمل به كما اتفقوا على تحقيق المناط وهو أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلى فينظر فى ثبوته فى بعض الأنواع أو بعض الأعيان كأمره باستقبال الكعبة وكأمره بإستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضى من الشهداء وكتحريمه الخمر والميسر وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة وكتفريقه بين الفدية والطلاق وغير ذلك
فيبقى النظر فى بعض الأنواع هل هي خمر ويمين وميسر وفدية أو طلاق وفى بعض الأعيان هل هي من هذا النوع وهل هذا المصلى مستقبل القبلة وهذا الشخص عدل مرضى ونحو ذلك فان هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين بل بين العقلاء فيما يتبعونه من شرائع دينهم وطاعة ولاة أمورهم ومصالح دنياهم وآخرتهم
____________________
(19/16)
وحقيقة ذلك يرجع إلى تمثيل الشيء بنظيره وادراج الجزئى تحت الكلى وذاك يسمى قياس التمثيل وهذا يسمى قياس الشمول وهما متلازمان فان القدر المشترك بين الافراد فى قياس الشمول الذى يسميه المنطقيون الحد الأوسط هو القدر المشترك فى قياس التمثيل الذى يسميه الأصوليون الجامع والمناط والعلة والامارة والداعى والباعث والمقتضى والموجب والمشترك وغير ذلك من العبارات
وأما تخريج المناط وهو القياس المحض وهو أن ينص على حكم فى امور قد يظن أنه يختص الحكم بها فيستدل على أن غيرها مثلها إما لانتفاء الفارق أو للإشتراك فى الوصف الذى قام الدليل على أن الشارع علق الحكم به فى الأصل فهذا هو القياس الذى تقر به جماهير العلماء وينكره نفاة القياس وإنما يكثر الغلط فيه لعدم العلم بالجامع المشترك الذى علق الشارع الحكم به وهو الذى يسمى سؤال المطالبة وهو مطالبة المعترض للمستدل بأن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم أو دليل العلة فأكثر غلط القائسين من ظنهم علة فى الأصل ما ليس بعلة ولهذا كثرت شناعاتهم على أهل القياس الفاسد فأما إذا قام دليل على الغاء الفارق وانه ليس بين الأصل والفرع فرق يفرق الشارع لأجله بين الصورتين أو قام
____________________
(19/17)
الدليل على ان المعنى الفلانى هو الذى لأجله حكم الشارع بهذا الحكم فى الأصل وهو موجود فى صورة أخرى فهذا القياس لا ينازع فيه الا من لم يعرف هاتين المقدمتين وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة للثقلين الإنس والجن على إختلاف أجناسهم فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلا بل إنما علق الأحكام بإسم مسلم وكافر ومؤمن ومنافق وبر وفاجر ومحسن وظالم وغير ذلك من الأسماء المذكورة فى القرآن والحديث وليس فى القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة ولكن بعض العلماء ظن ذلك في بعض الأحكام وخالفه الجمهور كما ظن طائفة منهم أبو يوسف أنه خص العرب بأن لا يسترقوا وجمهور المسلمين على أنهم يسترقون كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة حيث إسترق بنى المصطلق وفيهم جويرية بنت الحارث ثم أعتقها وتزوجها وأعتق بسببها من إسترق من قومها
وقال فى حديث هوازن ( اختاروا احدى الطائفتين اما السبى واما المال ( وفى الصحيحين عن أبي أيوب الأنصارى عن رسول الله أنه قال ( من قال لا إله إلا الله وحده
____________________
(19/18)
لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل (
وفى الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أنه كانت سبية من سبى هوازن عند عائشة فقال ( أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل ( وعامة من استرقه الرسول صلى الله عليه وسلم من النساء والصبيان كانوا عربا وذكر هذا يطول ولكن عمر بن الخطاب لما رأى كثرة السبى من العجم وإستغناء الناس عن إسترقاق العرب رأى أن يعتقوا العرب من باب مشورة الإمام وأمره بالمصلحة لا من باب الحكم الشرعى الذى يلزم الخلق كلهم فأخذ من أخذ بما ظنه من قول عمر وكذلك ظن من ظن أن الجزية لا تؤخذ من مشركى العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين
وجمهور العلماء على أنه لا يفرق بين العرب وغيرهم ثم منهم من يجوز أخذها من كل مشرك ومنهم من لا يأخذها الا من أهل الكتاب والمجوس وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية من مشركي العرب وأخذها من المجوس وأهل الكتاب
فمن قال تؤخذ من كل كافر قال ان آية الجزية لما نزلت
____________________
(19/19)
أسلم مشركوا العرب فإنها نزلت عام تبوك ولم يبق عربى مشرك محاربا ولم يكن النبى ليغزو النصارى عام تبوك بجميع المسلمين الا من عذر الله ويدع الحجاز وفيه من يحاربه ويبعث أبا بكر عام تسع فنادى فى الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ونبذ العهود المطلقة وأبقى المؤقته مادام أهلها موفين بالعهد كما أمر الله بذلك فى أول سورة التوبة وأنظر الذين نبذ إليهم أربعة أشهر وأمر عند إنسلاخها بغزو المشركين كافة قالوا فدان المشركون كلهم كافة بالاسلام ولم يرض بذل أداء الجزية لأنه لم يكن لمشركي العرب من الدين بعد ظهور دين الإسلام ما يصبرون لأجله على أداء الجزية عن يد وهم صاغرون إذ كان عامة العرب قد أسلموا فلم يبق لمشركى العرب عز يعتزون به فدانوا بالإسلام حيث أظهره الله فى العرب بالحجة والبيان والسيف والسنان
وقول النبى ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ( مراده قتال المحاربين الذين أذن الله فى قتالهم لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم وكان النبى قبل نزول ( براءة ( يعاهد من عاهده من الكفار
____________________
(19/20)
من غير أن يعطى الجزية عن يد فلما أنزل الله براءة وأمره بنبذ العهود المطلقة لم يكن له أن يعاهدهم كما كان يعاهدهم بل كان عليه أن يجاهد الجميع كما قال ( فإذا إنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم ( وكان دين أهل الكتاب خيرا من دين المشركين ومع هذا فأمروا بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإذا كان أهل الكتاب لا تجوز معاهدتهم كما كان ذلك قبل نزول براءة فالمشركون أولى بذلك أن لا تجوز معاهدتهم بدون ذلك
قالوا فكان فى تخصيص أهل الكتاب بالذكر تنبيها بطريق الأولى على ترك معاهدة المشركين بدون الصغار والجزية كما كان يعاهدهم فى مثل هدنة الحديبية وغير ذلك من المعاهدات قالوا وقد ثبت فى الصحيح من حديث بريدة قال ( كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه فى خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم
____________________
(19/21)
وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم ان فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فان أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذى يجرى على المؤمنين ولا يكون لهم فى الغنيمة والفىء شيء الا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فان هم أجابوك 2 فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فإستعن بالله عليهم وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فانكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله واذا حاصرت اهل حصن فأرادوك ان تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا )
قالوا ففى الحديث أمره لمن أرسله أن يدعو الكفار إلى الإسلام ثم إلى الهجرة إلى الأمصار والا فالى أداء الجزية وإن لم يهاجروا كانوا كأعراب المسلمين والأعراب عامتهم كانوا مشركين فدل على أنه دعا إلى أداء الجزية من حاصره من المشركين وأهل الكتاب والحصون كانت باليمن كثيرة بعد نزول آية الجزية وأهل اليمن كان
____________________
(19/22)
فيهم مشركون وأهل كتاب وأمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عد له معافريا ولم يميز بين المشركين وأهل الكتاب فدل ذلك على أن المشركين من العرب آمنوا كما آمن من آمن من أهل الكتاب ومن لم يؤمن من أهل الكتاب أدى الجزية
وقد أخذ النبى الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا وأسلمت عبد القيس وغيرهم من أهل البحرين طوعا ولم يكن النبى ضرب الجزية على أحد من اليهود بالمدينة ولا بخيبر بل حاربهم قبل نزول آية الجزية وأقر اليهود بخيبر فلاحين بلا جزية إلى أن أجلاهم عمر لأنهم كانوا مهادنين له وكانوا فلاحين فى الأرض فأقرهم لحاجة المسلمين إليهم ثم أمر بإجلائهم قبل موته وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب فقيل هذا الحكم مخصوص بجزيرة العرب وقيل بل هو عام فى جميع أهل الذمة إذا إستغنى المسلمون عنهم أجلوهم من ديار الإسلام وهذا قول بن جرير وغيره ومن قال أن الجزية لا تؤخذ من مشرك قال ان آية الجزية نزلت والمشركون موجودون فلم يأخذها منهم
والمقصود أنه لم يخص العرب بحكم وان قيل أنه خص جزيرة العرب التى هي حول المسجد الحرام كما خص المسجد الحرام بقوله ( انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا
____________________
(19/23)
وكذلك من قال من العلماء أنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبى حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه ولكن الخرقى وطائفة منهم وافقوا الشافعى على هذا القول وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق بإستطابة العرب ولا بإستخباثهم بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله كالدم والميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع وما أهل به لغير الله وكانوا بل خيارهم يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبى يكرهه وقال ( لم يكن بأرض قومي فأجدنى أعافه ( وقال مع هذا ( أنه ليس بمحرم ( وأكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه ( لا آكله ولا أحرمه (
وقال جمهور العلماء الطيبات التى أحلها الله ما كان نافعا لآكلة فى دينه والخبيث ما كان ضارا له فى دينه
وأصل الدين العدل الذى بعث الله الرسل بإقامته فما أورث الآكل بغيا وظلما حرمه كما حرم كل ذى ناب من السباع لأنها باغية عادية والغاذى شبيه بالمغتذى فإذا تولد اللحم منها صار فى الإنسان خلق البغى والعدوان
____________________
(19/24)
وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب فإذا إغتذى منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل ولهذا لم يحرم منه الا المسفوح بخلاف القليل فانه لا يضر
ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة إذ كان أعظم الحيوان فى أكل كل شيء لا يعاف شيئا والله لم يحرم على أمة محمد شيئا من الطيبات وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب كما قال تعالى ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) وقال تعالى ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما إختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وانا لصادقون (
وأما المسلمون فلم يحرم عليهم الا الخبائث كالدم المسفوح فاما غير المسفوح كالذى يكون فى العروق فلم يحرمه بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم فى القدر فيرون آثار الدم فى القدر ولهذا عفى جمهور الفقهاء عن الدم اليسير فى البدن والثياب إذا كان غير مسفوح وإذا عفى عنه فى الأكل ففى اللباس والحمل أولى أن يعفى عنه
وكذلك ريق الكلب يعفى عنه عند جمهور العلماء فى الصيد كما هو
____________________
(19/25)
مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد فى أظهر القولين فى مذهبه وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى وان وجب غسل الإناء من ولوغه عند جمهورهم إذ كان الريق فى الولوغ كثيرا ساريا فى المائع لا يشق الإحتراز منه بخلاف ما يصيب الصيد فإنه قليل ناشف فى جامد يشق الإحتراز منه
وكذلك التقديم فى إمامة الصلاة بالنسب لا يقول به أكثر العلماء وليس فيه نص عن النبى بل الذي ثبت فى الصحيح عنه أنه قال ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فان كانوا فى القراة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سنا ( فقدمه بالفضيلة العلمية ثم بالفضيلة العملية وقدم العالم بالقرآن على العالم بالسنة ثم الأسبق إلى الدين بإختياره ثم الأسبق إلى الدين بسنه ولم يذكر النسب
وبهذا أخذ أحمد وغيره فرتب الأئمة كما رتبهم النبى ولم يذكر النسب وكذلك أكثر العلماء كمالك وأبى حنيفة لم يرجحوا بالنسب ولكن رجح به الشافعى وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقى وبن حامد والقاضى وغيرهم وإحتجوا بقول سلمان
____________________
(19/26)
الفارسى أن لكم علينا معشر العرب ألا نؤمكم فى صلاتكم ولا ننكح نساءكم
والأولون يقولون إنما قال سلمان هذا تقديما منه للعرب على الفرس كما يقول الرجل لمن هو أشرف منه حقك على كذا وليس قول سلمان حكما شرعيا يلزم جميع الخلق اتباعه كما يجب عليهم اتباع أحكام الله ورسوله ولكن من تأسى من الفرس بسلمان فله به أسوة حسنة فإن سلمان سابق الفرس
وكذلك إعتبار النسب فى أهل الكتاب ليس هو قول أحد من الصحابة ولا يقول به جمهور العلماء كمالك وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه ولكن طائفة منهم ذكرت عنه روايتين واختار بعضهم إعتبار النسب موافقة للشافعى والشافعى أخذ ذلك عن عطاء وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن النبى أنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغض فامر بما يحبه الله ودعا إليه بحسب الإمكان ونهى عما يبغضه الله وحسم مادته بحسب الإمكان لم يخص العرب بنوع من أنواع الأحكام الشرعية إذ كانت دعوته لجميع البرية لكن نزل القرآن بلسانهم بل نزل بلسان قريش كما ثبت
____________________
(19/27)
عن عمر بن الخطاب أنه قال لإبن مسعود أقرئ الناس بلغة قريش فإن القرآن نزل بلسانهم وكما قال عثمان للذين يكتبون المصحف من قريش والأنصار إذا إختلفتم فى شيء فإكتبوه بلغة هذا الحى من قريش فإن القرآن نزل بلسانهم وهذا لأجل التبليغ لأنه بلغ قومه أولا ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم وأمره الله بتبليغ قومه أولا ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب إليه كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب
وما ذكره كثير من العلماء من أن غير العرب ليسوا أكفاء للعرب فى النكاح فهذه مسألة نزاع بين العلماء فمنهم من لا يرى الكفاءة إلا فى الدين ومن رآها فى النسب أيضا فإنه يحتج بقول عمر لأمنعن ذوات الإحساب الا من الأكفاء لأن النكاح مقصوده حسن الألفة فإذا كانت المرأة أعلى منصبا إشتغلت عن الرجل فلا يتم به المقصود وهذه حجة من جعل ذلك حقا لله حتى أبطل النكاح إذا زوجت المرأة بمن لا يكافئها فى الدين أو المنصب ومن جعلها حقا لآدمى قال ان فى ذلك غضاضة على أولياء المرأة وعليها والأمر اليهم فى ذلك
ثم هؤلاء لا يخصون الكفاءة بالنسب بل يقولون هي من الصفات التى تتفاضل بها النفوس كالصناعة واليسار والحرية وغير ذلك وهذه مسائل إجتهادية ترد إلى الله والرسول فان جاء عن الله ورسوله
____________________
(19/28)
ما يوافق أحد القولين فما جاء عن الله لا يختلف والا فلا يكون قول أحد حجة على الله ورسوله
وليس عن النبى نص صحيح صريح فى هذه الأمور بل قد قال ( إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس رجلان مؤمن تقى وفاجر شقى ( وفى صحيح مسلم عنه أنه قال ( أربع فى أمتى من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب والطعن فى الأنساب والنياحة والإستسقاء بالنجوم )
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( إن الله إصطفى كنانة من بنى إسماعيل وإصطفى قريشا من كنانة وإصطفى بني هاشم من قريش وإصطفانى من بنى هاشم فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا (
وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم كما أن جنس قريش خير من غيرهم وجنس بنى هاشم خير من غيرهم وقد ثبت فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا (
لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد فان فى غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب
____________________
(19/29)
وفى غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش وفى غير بنى هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بنى هاشم كما قال رسول الله ( إن خير القرون القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ( وفى القرون المتأخرة من هو خير من كثير من القرن الثانى والثالث ومع هذا فلم يخص النبى القرن الثانى والثالث بحكم شرعى كذلك لم يخص العرب بحكم شرعى بل ولا خص بعض أصحابه بحكم دون سائر أمته ولكن الصحابة لما كان لهم من الفضل أخبر بفضلهم وكذلك السابقون الأولون لم يخصهم بحكم ولكن أخبر بما لهم من الفضل لما إختصوا به من العمل وذلك لا يتعلق بالنسب
والمقصود هنا أنه أرسل إلى جميع الثقلين الإنس والجن فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية ولكن خص قريشا بأن الأمامة فيهم وخص بنى هاشم بتحريم الزكاة عليهم وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل وجب أن تكون الإمامة فى أفضل الأجناس مع الامكان وليست الإمامة أمرا شاملا لكل أحد منهم وإنما يتولاها واحد من الناس
وأما تحريم الصدقة فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلا لتطهيرهم ودفعا للتهمة عنه كما لم يورث فلا يأخذ ورثته درهما ولا دينارا
____________________
(19/30)
بل لا يكون له ولمن يمونه من مال الله الا نفقتهم وسائر مال الله يصرف فيما يحبه الله ورسوله وذوو قرباه يعطون بمعروف من مال الخمس والفيء الذى يعطى منه فى سائر مصالح المسلمين لا يختص بأصناف معينة كالصدقات ثم ما جعل لذوى القربى قد قيل أنه سقط بموته كما يقوله أبو حنيفة وقيل هو لقربى من يلى الأمر بعده كما روى عنه ( ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلى الأمر بعده ( وهذا قول أبى ثور وغيره وقيل أن هذا كان مأخذ عثمان فى إعطاء بنى أمية وقيل هو لذوي قربى الرسول صلى الله عليه وسلم دائما
ثم من هؤلاء من يقول هو مقدر بالشرع وهو خمس الخمس كما يقوله الشافعى وأحمد فى المشهور عنه وقيل بل الخمس والفىء يصرف فى مصالح المسلمين بإجتهاد الإمام ولا يقسم على أجزاء مقدرة متساوية وهذا قول مالك وغيره وعن أحمد أنه جعل خمس الزكاة فيئا وعلى هذا القول يدل الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين وبسط هذه الأمور له موضع آخر
والمقصود هنا أن بعض آيات القرآن وان كان سببه أمورا كانت فى العرب فحكم الآيات عام يتناول ما تقتضيه الآيات لفظا
____________________
(19/31)
ومعنى فى أى نوع كان ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن
وجماهير الأمم يقر بالجن ولهم معهم وقائع يطول وصفها ولم ينكر الجن الا شر ذمة قليلة من جهال المتفلسفة والأطباء ونحوهم وأما أكابر القوم فالمأثور عنهم اما الإقرار بها وأما أن لا يحكى عنهم فى ذلك قول ومن المعروف عن بقراط أنه قال فى بعض المياه انه ينفع من الصرع لست أعني الذى يعالجه أصحاب الهياكل وإنما أعنى الصرع الذى يعالجه الأطباء وأنه قال طبنا مع طب أهل الهياكل كطب العجائز مع طبنا
وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي وإنما معه عدم العلم إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك كالطبيب الذى ينظر فى البدن من جهة صحته ومرضه الذى يتعلق بمزاجه وليس فى هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن وان كان قد علم من غير طبه أن للنفس تأثيرا عظيما فى البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية وكذلك للجن تأثير فى ذلك كما قال النبى فى الحديث الصحيح ( ان الشيطان يجري من بن آدم مجرى الدم ) وفى الدم الذى هو البخار الذى تسميه الأطباء الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري فى البدن الذي به حياة البدن كما
____________________
(19/32)
قد بسط هذا فى موضع آخر
والمراد هنا أن محمدا أرسل إلى الثقلين الإنس والجن وقد أخبر الله فى القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به كما قال تعالى ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا ) إلى قوله ( أولئك فى ضلال مبين ( ثم أمره أن يخبر الناس بذلك فقال تعالى ( قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ) الخ فأمره أن يقول ذلك ليعلم الإنس بأحوال الجن وأنه مبعوث إلى الإنس والجن لما فى ذلك من هدى الإنس والجن ما يجب عليهم من الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر وما يجب من طاعة رسله ومن تحريم الشرك بالجن وغيرهم كما قال فى السورة ( وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا )
كان الرجل من الإنس ينزل بالوادي والأودية مظان الجن فإنهم يكونون بالأودية أكثر مما يكونون بأعالي الأرض فكان الإنسي يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه فلما رأت الجن أن الإنس تستعيذ بها زاد طغيانهم وغيرهم وبهذا يجيبون المعزم والراقى بأسمائهم وأسماء ملوكهم فإنه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه
____________________
(19/33)
فيحصل لهم بذلك من الرئاسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سؤلهم لا سيما وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم قدرا فإذا خضعت الإنس لهم وإستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لأصاغرهم ليقضى له حاجته
ثم الشياطين منهم من يختار الكفر والشرك ومعاصي الرب وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر ويلتذون به ويطلبونه ويحرصون عليه بمقتضى خبث أنفسهم وان كان موجبا لعذابهم وعذاب من يغوونه كما قال ابليس ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين ) وقال تعالى ( قال أرأيتك هذا الذى كرمت على لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) وقال تعالى ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فإتبعوه إلا فريقا من المؤمنين )
والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به بل يعشق ذلك عشقا يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله والشيطان هو نفسه خبيث فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذلك اليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم فيقضون بعض أغراضه كمن يعطى غيره مالا
____________________
(19/34)
ليقتل له من يريد قتله أو يعينه على فاحشة أو ينال معه فاحشة
ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل إما حروف الفاتحة وإما حروف قل هو الله أحد وأما غيرهما إما دم واما غيره واما بغير نجاسة أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان أو يتكلمون بذلك فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم أما تغوير ماء من المياة واما أن يحمل فى الهواء إلى بعض الأمكنة واما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين ومن لم يذكر إسم الله عليه وتأتى به وإما غير ذلك
وأعرف فى كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة ومن وقعت له ممن أعرفه ما يطول حكايته فإنهم كثيرون جدا
والمقصود أن محمدا بعث إلى الثقلين واستمع الجن لقراءته وولوا إلى قومهم منذرين كما اخبر الله عز وجل وهذا متفق عليه بين المسلمين ثم اكثر المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم يقولون انهم جاؤوه بعد هذا وانه قرأ عليهم القرآن وبايعوه وسألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال لهم ( لكم كل عظم
____________________
(19/35)
ذكر اسم الله عليه يعود اوفر ما يكون لحما ولكم كل بعرة علف لدوابكم ) قال النبى صلى الله عليه وسلم ( فلا تستنجوا بهما فانهما زاد اخوانكم من الجن ) وهذا ثابت فى صحيح مسلم وغيره من حديث بن مسعود
وقد ثبت فى صحيح البخاري وغيره من حديث أبى هريرة نهيه عن الإستنجاء بالعظم والروث فى أحاديث متعددة وفى صحيح مسلم وغيره عن سلمان قال قيل له قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة قال فقال أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول وان نستنجي باليمين وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار وأن نستنجي برجيع أو عظم وفى صحيح مسلم وغيره أيضا عن جابر قال ( نهى رسول الله أن نتمسح بعظم أو ببعر ( وكذلك النهى عن ذلك فى حديث خزيمة بن ثابت وغيره
وقد بين علة ذلك فى حديث بن مسعود ففي صحيح مسلم وغيره عن إبن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( أتانى داعى الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر إسم الله عليه يقع
____________________
(19/36)
في أيديكم لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال النبى فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد أخوانكم ) وفى صحيح البخاري وغيره عن أبى هريرة ( أنه كان يحمل مع النبى أداوة لوضوئه وحاجته فبينما هو يتبعه بها قال من هذا قلت أبا هريرة قال ابغنى أحجارا أستنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة فأتيته بأحجار أحملها فى طرف ثوبى حتى وضعتها إلى جنبه ثم إنصرفت حتى إذا فرغ مشيت فقلت ما بال العظم والروثة قال هما من طعام الجن وأنه أتانى وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألونى الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة الا وجدوا عليها طعاما
ولما نهى النبى عن الإستنجاء بما يفسد طعام الجن وطعام دوابهم كان هذا تنبيها على النهي عما يفسد طعام الإنس وطعام دوابهم بطريق الأولى لكن كراهة هذا والنفور عنه ظاهر فى فطر الناس بخلاف العظم والروثة فإنه لا يعرف نجاسة طعام الجن فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة المتعددة بالنهي عنه وقد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة انه خاطب الجن وخاطبوه وقرأ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد
وقد ثبت فى الصحيحين عن بن عباس أنه كان يقول ان النبى
____________________
(19/37)
لم ير الجن ولا خاطبهم ولكن أخبره أنهم سمعوا القرآن وبن عباس قد علم ما دل عليه القرآن من ذلك ولم يعلم ما علمه بن مسعود وأبو هريرة وغيرهما من إتيان الجن إليه ومخاطبته إياهم وأنه أخبره بذلك فى القرآن وأمره أن يخبر به وكان ذلك فى أول الأمر لما حرست السماء وحيل بينهم وبين خبر السماء وملئت حرسا شديدا وكان فى ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة كما قد بسط فى موضع آ خر وبعد هذا أتوه وقرأ عليهم القرآن وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وصار كلما قال ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) قالوا ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد
وقد ذكر الله فى القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل كقوله تعالى ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا ) وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا ( وانا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ) أي مذاهب شتى مسلمون وكفار وأهل سنة وأهل بدعة وقالوا ( وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) والقاسط الجائر يقال قسط إذا جار وأقسط إذا عدل
وكافرهم معذب فى الآخرة بإتفاق العلماء وأما مؤمنهم فجمهور
____________________
(19/38)
العلماء على أنه فى الجنة وقد روى ( أنهم يكونون فى ربض الجنة تراهم الإنس من حيث لا يرونهم ( وهذا القول مأثور عن مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد وقيل إن ثوابهم النجاة من النار وهو مأثور عن أبى حنيفة وقد إحتج الجمهور بقوله ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) قالوا فدل ذلك على تأتى الطمث منهم لأن طمث الحور العين إنما يكون فى الجنة ( فصل (
وإذا كان الجن أحياء عقلاء مأمورين منهيين لهم ثواب وعقاب وقد أرسل اليهم النبى فالواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما يستعمله فى الإنس من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والدعوة إلى الله كما شرع الله ورسوله وكما دعاهم النبى ويعاملهم إذا إعتدوا بما يعامل به المعتدون فيدفع صولهم بما يدفع صول الإنس
وصرعهم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق كما يتفق للإنس مع الإنس وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد وهذا كثير معروف وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه وكره أكثر
____________________
(19/39)
العلماء مناكحة الجن وقد يكون وهو كثير أو الأكثر عن بغض ومجازاة مثل أن يؤذيهم بعض الإنس أو يظنوا أنهم يتعمدوا أذاهم إما ببول على بعضهم وإما بصب ماء حار وإما بقتل بعضهم وإن كان الإنسي لا يعرف ذلك وفى الجن جهل وظلم فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه وقد يكون عن عبث منهم وشر بمثل سفهاء الإنس
وحينئذ فما كان من الباب الأول فهو من الفواحش التى حرمها الله تعالى كما حرم ذلك على الإنس وإن كان برضى الآخر فكيف إذا كان مع كراهته فإنه فاحشة وظلم فيخاطب الجن بذلك ويعرفون أن هذا فاحشة محرمة أو فاحشة وعدوان لتقوم الحجة عليهم بذلك ويعلموا أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله الذى أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن
وما كان من القسم الثانى فان كان الإنسي لم يعلم فيخاطبون بأن هذا لم يعلم ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة وإن كان قد فعل ذلك فى داره وملكه عرفوا بأن الدار ملكه فله أن يتصرف فيها بما يجوز وأنتم ليس لكم أن تمكثوا فى ملك الإنس بغير أذنهم بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخراب والفلوات ولهذا يوجدون كثيرا فى الخراب
____________________
(19/40)
والفلوات ويوجدون فى مواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل والقمامين والمقابر والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية يأوون كثيرا إلى هذه الأماكن التى هي مأوى الشياطين
وقد جاءت الآثار بالنهي عن الصلاة فيها لأنها مأوى الشياطين والفقهاء منهم من علل النهى بكونها مظنة النجاسات ومنهم من قال أنه تعبد لا يعقل معناه والصحيح أن العلة في الحمام وأعطان الإبل ونحو ذلك أنها مأوى الشياطين وفى المقبرة أن ذلك ذريعة إلى الشرك مع أن المقابر تكون أيضا مأوى للشياطين
والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة على غير الوجه الشرعى ولهم أحيانا مكاشفات ولهم تأثيرات يأوون كثيرا إلى مواضع الشياطين التى نهى عن الصلاة فيها لأن الشياطين تتنزل عليهم بها وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان وكما كانت تدخل فى الأصنام وتكلم عابدي الأصنام وتعينهم فى بعض المطالب كما تعين السحرة وكما تعين عباد الأصنام وعباد الشمس والقمر والكواكب إذا عبدوها بالعبادات التى يظنون أنها تناسبها من تسبيح لها ولباس وبخور وغير ذلك فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها روحانية الكواكب وقد تقضي بعض حوائجهم أما قتل بعض أعدائهم أو
____________________
(19/41)
إمراضه وإما جلب بعض من يهوونه وإما إحضار بعض المال ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع
والذين يستخدمون الجن بهذه الأمور يزعم كثير منهم أن سليمان كان يستخدم الجن بها فإنه قد ذكر غير واحد من علماء السلف أن سليمان لما مات كتبت الشياطين كتب سحر وكفر وجعلتها تحت كرسيه وقالوا كان سليمان يستخدم الجن بهذه فطعن طائفة من أهل الكتاب فى سليمان بهذا وآخرون قالوا لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان فضل الفريقان هؤلاء بقدحهم فى سليمان وهؤلاء باتباعهم السحر فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ) إلى قوله تعالى ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ) ( بين سبحانه أن هذا لا يضر ولا ينفع إذ كان النفع هو الخير الخالص أو الراجح والضرر هو الشر الخالص أو الراجح وشر هذا إما خالص وإما راجح
والمقصود أن الجن إذا إعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله وأقيمت عليهم الحجة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كما يفعل
____________________
(19/42)
بالإنس لأن الله يقول ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وقال تعالى ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) ولهذا نهى النبى عن قتل حيات البيوت حتى تؤذن ثلاثا كما فى صحيح مسلم وغيره عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله ( ان بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا فان بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان (
وفى صحيح مسلم أيضا عن أبى السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبى سعيد الخدري فى بيته قال فوجدته يصلى فجلست أنتظره حتى يقضى صلاته فسمعت تحريكا فى عراجين فى ناحية البيت فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلى أن أجلس فجلست فلما إنصرف أشار إلى بيت فى الدار فقال أترى هذا البيت فقلت نعم فقال كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس قال فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ويرجع إلى أهله فإستأذنه يوما فقال له رسول الله ( خذ عليك سلاحك فإنى أخشى عليك قريظة ) فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة فقالت
____________________
(19/43)
أكفف عليك رمحك وإدخل البيت حتى تنظر ما الذى أخرجنى فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى اليها بالرمح فإنتظمها به ثم خرج فركزه فى الدار فاضطربت عليه فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى قال فجئنا إلى رسول الله فذكرنا له ذلك وقلنا ادع الله يحييه لنا قال ( إستغفروا لصاحبكم ( ثم قال ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا فاذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فانما هو شيطان ( وفى لفظ آخر لمسلم أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ان لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليه ثلاثا فان ذهب والا فاقتلوه فانه كافر ( وقال لهم ( اذهبوا فادفنوا صاحبكم (
وذلك ان قتل الجن بغير حق لا يجوز كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق والظلم محرم فى كل حال فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا ولو كان كافرا بل قال تعالى ( ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (
والجن يتصورون فى صور الإنس والبهائم فيتصورون فى صور الحيات والعقارب وغيرها وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفى صور الطير وفى صور بنى آدم كما أتى الشيطان قريشا فى صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر قال تعالى ( وإذ زين لهم الشيطان
____________________
(19/44)
أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وانى جار لكم ) إلى قوله ( والله شديد العقاب )
وكما روى أنه تصور فى صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول أو يحبسوه أو يخرجوه كما قال تبارك وتعالى ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا فان ذهبت والا قتلت فانها ان كانت حية قتلت وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس فى صورة حية تفزعهم بذلك والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلا وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز
وأهل العزائم والأقسام يقسمون على بعضهم ليعينهم على بعض تارة يبرون قسمه وكثيرا لا يفعلون ذلك بان يكون ذلك الجني معظما عندهم وليس للمعزم وعزيمته من الحرمة ما يقتضى إعانتهم على ذلك إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذى يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه وهذا تختلف أحواله فمن أقسم على الناس ليؤذوا من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه وقد يكون ذاك منيعا فأحوالهم شبيهة بأحوال
____________________
(19/45)
الإنس لكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر
والمقصود أن أرباب العزائم مع كون عزائمهم تشتمل على شرك وكفر لا تجوز العزيمة والقسم به فهم كثيرا ما يعجزون عن دفع الجني وكثيرا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجنى الصارع للأنس أو حبسه فيخيلوا اليهم أنهم قتلوه أو حبسوه ويكون ذلك تخييلا وكذبا هذا إذا كان الذي يرى ما يخيلونه صادقا فى الرؤية فان عامة ما يعرفونه لمن يريدون تعريفه إما بالمكاشفة والمخاطبة أن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تضلهم الجن والشياطين وأما ما يظهرونه لأهل العزائم والأقسام أنهم يمثلون ما يريدون تعريفه فإذا رأى المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال وقد يوهمونه أنه نفس المرئى وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الضالين من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين إذا إستغاث به بعض محبيه فقال يا سيدي فلان فان الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي فإذا رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة
____________________
(19/46)
فصل
وكثيرا ما يتصور الشيطان بصورة المدعو المنادى المستغاث به إذا كان ميتا وكذلك قد يكون حيا ولا يشعر بالذى ناداه بل يتصور الشيطان بصورته فيظن المشرك الضال المستغيث بذلك الشخص أن الشخص نفسه أجابه وانما هو الشيطان وهذا يقع للكفار المستغيثين بمن يحسنون به الظن من الأموات والأحياء كالنصارى المستغيثين بجرجس وغيره من قداد بسهم ويقع لأهل الشرك والضلال من المنتسبين إلى الإسلام الذين يستغيثون بالموتى والغائبين يتصور لهم الشيطان فى صورة ذلك المستغاث به وهو لا يشعر
واعرف عددا كثيرا وقع لهم فى عدة أشخاص يقول لى كل من الأشخاص انى لم أعرف ان هذا استغاث بى والمستغيث قد رأى ذلك الذى هو على صورة هذا وما اعتقد انه الا هذا وذكر لى غير واحد انهم استغاثوا بى كل يذكر قصة غير قصة صاحبه فاخبرت كلا منهم انى لم أجب أحدا منهم ولا علمت باستغاثته فقيل
____________________
(19/47)
هذا يكون ملكا فقلت الملك لا يغيث المشرك انما هو شيطان أراد ان يضله
وكذلك يتصور بصورته ويقف بعرفات فيظن من يحسن به الظن انه وقف بعرفات وكثير منهم حمله الشيطان إلى عرفات او غيرها من الحرم فيتجاوز الميقات بلا احرام ولا تلبية ولا يطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة وفيهم من لا يعبر مكة وفيهم من يقف بعرفات ويرجع ولا يرمى الجمار إلى أمثال ذلك من الأمور التى يضلهم بها الشيطان حيث فعلوا ما هو منهى عنه فى الشرع اما محرم وأما مكروه ليس بواجب ولا مستحب وقد زين لهم الشيطان أن هذا من كرامات الصالحين وهو من تلبيس الشيطان فان الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب وكل من عبد عبادة ليست واجبة ولا مستحبة وظنها واجبة أو مستحبة فانما زين ذلك له الشيطان وان قدر أنه عفى عنه لحسن قصده واجتهاده لكن ليس هذا مما يكرم الله به أولياءه المتقين إذ ليس فى فعل المحرمات والمكروهات اكرام بل الإكرام حفظه من ذلك ومنعه منه فان ذلك ينقصه لا يزيده وان لم يعاقب عليه بالعذاب فلا بد ان يخفضه عما كان ويخفض اتباعه الذين يمدحون هذه الحال ويعظمون صاحبها فان مدح المحرمات والمكروهات وتعظيم صاحبها هو من الضلال عن سبيل الله وكلما ازداد العبد فى
____________________
(19/48)
البدع اجتهادا ازداد من الله بعدا لأنها تخرجه عن سبيل الله سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى بعض سبيل المغضوب عليهم والضالين { فصل }
إذا عرف الأصل فى هذا الباب فنقول يجوز بل يستحب وقد يجب ان يذب عن المظلوم وأن ينصر فان نصر المظلوم مأمور به بحسب الامكان وفى الصحيحين حديث البرآء بن عازب قال ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع امرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وابرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم واجابة الداعى وافشاء السلام ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي ولبس الحرير والإستبرق والديباج ) وفى الصحيح عن أنس قال قال رسول الله ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يارسول الله انصره مظلوما فكيف انصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه (
وايضا ففيه تفريج كربة هذا المظلوم وفى صحيح مسلم عن ابى
____________________
(19/49)
هريرة عن النبى انه قال ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله فى الدنيا والآخرة والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه ( وفى صحيح مسلم أيضا عن جابر أن رسول الله لما سئل عن الرقى قال ( من استطاع منكم أن ينفع اخاه فليفعل (
لكن ينصر بالعدل كما أمر الله ورسوله مثل الأدعية والأذكار الشرعية ومثل امر الجنى ونهيه كما يؤمر الانسي وينهى ويجوز من ذلك ما يجوز مثله فى حق الإنسى مثل أن يحتاج إلى انتهار الجنى وتهديده ولعنه وسبه كما ثبت فى صحيح مسلم عن ابى الدرداء قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول ( اعوذ بالله منك ثم قال ألعنك بلعنة الله ثلاثا ( وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا يارسول الله قد سمعناك تقول فى الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال ( ان عدو الله ابليس جاء بشهاب من نار ليجعله فى وجهى فقلت اعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم اردت أخذه ووالله لولا دعوة اخينا سليمان لا صبح موثقا يلعب به ولدان اهل المدينة ( ففى هذا الحديث الإستعاذة منه
____________________
(19/50)
ولعنته بلعنة الله ولم يستأخر بذلك فمد يده إليه وفى الصحيحين عن ابى هريرة عن النبى قال ( ان الشيطان عرض لى فشد على ليقطع الصلاة على فامكننى الله منه فذعته ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه فذكرت قول اخى سليمان ( رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى ) فرده الله خاسئا (
فهذا الحديث يوافق الأول ويفسره وقوله ( ذعته ( أى خنقته فبين أن مد اليد كان لخنقه وهذا دفع لعدوانه بالفعل وهو الخنق وبه اندفع عدوانه فرده الله خاسئا
واما الزيادة وهو ربطه إلى السارية فهو من باب التصرف الملكى الذى تركه لسليمان فان نبينا كان يتصرف فى الجن كتصرفه فى الانس تصرف عبد رسول يأمرهم بعبادة الله وطاعته لا يتصرف لأمر يرجع إليه وهو التصرف الملكى فانه كان عبدا رسولا وسليمان نبى ملك والعبد الرسول افضل من النبى الملك كما أن السابقين المقربين افضل من عموم الأبرار اصحاب اليمين وقد روى النسائى على شرط البخارى عن عائشة ان النبى كان يصلى فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه قال رسول الله ( حتى وجدت برد لسانه على يدى ولولا
____________________
(19/51)
دعوة سليمان لأصبح موثقا حتى يراه الناس ) ورواه احمد وابو داود من حديث ابى سعيد وفيه ( فأهويت بيدي فما زلت اخنقه حتى وجدت برد لعابه بين اصبعى هاتين الابهام والتى تليها ( وهذا فعله فى الصلاة وهذا مما احتج به العلماء على جواز مثل هذا فى الصلاة وهو كدفع المار وقتل الاسودين والصلاة حال المسايفة
وقد تنازع العلماء فى شيطان الجن اذا مر بين يدى المصلي هل يقطع على قولين هما قولان فى مذهب أحمد كما ذكرهما بن حامد وغيره
أحدهما يقطع لهذا الحديث ولقوله لما أخبر ان مرور الكلب الأسود يقطع للصلاة ( الكلب الأسود شيطان ( فعلل بأنه شيطان وهو كما قال رسول الله فان الكلب الأسود شيطان الكلاب والجن تتصور بصورته كثيرا وكذلك بصورة القط الأسود لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره وفيه قوة الحرارة
ومما يتقرب به إلى الجن الذبائح فان من الناس من يذبح للجن وهو من الشرك الذى حرمه الله ورسوله وروى أنه نهى عن ذبائح الجن واذا بريء المصاب بالدعاء والذكر وأمر الجن ونهيهم وانتهارهم
____________________
(19/52)
وسبهم ولعنهم ونحو ذلك من الكلام حصل المقصود وان كان ذلك يتضمن مرض طائفة من الجن أو موتهم فهم الظالمون لأنفسهم اذا كان الراقى الداعى المعالج لم يتعد عليهم كما يتعدى عليهم كثير من أهل العزائم فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله وقد يحبسون من لا يحتاج إلى حبسه ولهذا قد تقاتلهم الجن على ذلك ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه وفيهم من يفعل ذلك باهله وأولاده أو دوابه
وأما من سلك فى دفع عداوتهم مسلك العدل الذى أمر الله به ورسوله فإنه لم يظلمهم بل هو مطيع لله ورسوله فى نصر المظلوم وإغاثه الملهوف والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعى التى ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق ومثل هذا لا تؤذيه الجن أما لمعرفتهم بأنه عادل وإما لعجزهم عنه وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه فينبغى لمثل هذا أن يحترز بقراءة العوذ مثل آية الكرسى والمعوذات والصلاة والدعاء ونحو ذلك مما يقوى الإيمان ويجنب الذنوب التى بها يسلطون عليه فانه مجاهد فى سبيل الله وهذا من أعظم الجهاد فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق
ومن أعظم ما ينتصر به عل 4 يهم آية الكرسى فقد ثبت فى صحيح
____________________
(19/53)
البخارى حديث أبى هريرة قال وكلنى رسول الله بحفظ زكاة رمضان فأتانى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنى محتاج وعلى عيال ولي حاجة شديدة قال فخليت عنه فأصبحت فقال رسول الله ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ) قلت يارسول الله شكى حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال ( إما أنه قد كذبك وسيعود ( فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله قال دعنى فإنى محتاج وعلى عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لى رسول الله ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك ) قلت يارسول الله شكى حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال ( اما إنه قد كذبك وسيعود ) فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله وهذا آخر ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود قال دعنى أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ما هن قال إذا أويت إلى فراشك فإقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو الحى القيوم ) حتى تختم الآية فانك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى
____________________
(19/54)
تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله ( ما فعل أسيرك البارحة ( قلت يارسول الله زعم أنه يعلمنى كلمات ينفعنى الله بها فخليت سبيله قال ما هي قلت قال لى إذا أويت إلى فراشك فإقرأ آية الكرسى من أولها حتى تختم الآية ( الله لا إله إلا هو الحى القيوم ) وقال لي ( لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ( وكانوا أحرص شيء على الخير فقال النبى ( أما أنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ( قلت لا قال ( ذاك شيطان (
ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير فى دفع الشياطين وإبطال أحوالهم مالا ينضبط من كثرته وقوته فان لها تأثيرا عظيما فى دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين مثل أهل الظلم والغضب وأهل الشهوة والطرب وأرباب السماع المكاء والتصدية إذا قرئت عليهم بصدق دفعت الشياطين وبطلت الأمور التى يخيلها الشيطان ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطاني إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله
____________________
(19/55)
المتقين وإنما هي من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين والصائل المعتدى يستحق دفعه سواء كان مسلما أو كافرا وقد قال النبى ( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ( فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادى فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته فان الشيطان يفسد عقله ويعاقبه فى بدنه وقد يفعل معه فاحشة إنسي بإنسي وان لم يندفع الا بالقتل جاز قتله
وأما إسلام صاحبه والتخلى عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين وهذا فرض على الكفاية مع القدرة ففى الصحيحين عن النبى أنه قال ( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه ( فإن كان عاجزا عن ذلك أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام به غيره لم يجب وإن كان قادرا وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه
وأما قول السائل هل هذا مشروع فهذا من أفضل الأعمال وهو من أعمال الأنبياء والصالحين فإنه ما زال الأنبياء والصالحون
____________________
(19/56)
يدفعون الشياطين عن بنى آدم بما أمر الله به ورسوله كما كان المسيح يفعل ذلك وكما كان نبينا يفعل ذلك فقد روى أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه من حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق قال حدثتنى أم أبان بنت الوازع بن زارع بن عامر العبدي عن أبيها أن جدها الزارع إنطلق إلى رسول الله فإنطلق معه بإبن له مجنون أو إبن أخت له قال جدي فلما قدمنا على رسول الله قلت إن معي إبنا لي أو إبن أخت لي مجنون أتيتك به تدعو الله له قال ( إئتنى به ( قال فانطلقت به إليه وهو فى الركاب فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين وأخذت بيده حتى إنتهيت به إلى رسول الله فقال ادنه منى إجعل ظهره مما يلينى ( قال بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه ويقول ( أخرج عدو الله أخرج عدو الله ( فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول ثم أقعده رسول الله بين يديه فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له فلم يكن فى الوفد أحد بعد دعوة رسول الله يفضل عليه
وقال أحمد فى المسند ثنا عبد الله بن نمير عن عثمان بن حكيم انا عبد الرحمن بن عبد العزيز عن يعلى بن مرة قال لقد رأيت من
____________________
(19/57)
رسول الله ثلاثا ما رآها أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي لقد خرجت معه فى سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بإمرأة جالسة معها صبى لها فقالت يارسول الله هذا صبى أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء يؤخذ فى اليوم ما أدري كم مرة قال ( ناولينيه ) فرفعته إليه فجعله بينه وبين واسطة الرحل ثم فغر ( فاه ( فنفث فيه ثلاثا وقال ( بسم الله أنا عبد الله اخسأ عدو الله ( ثم ناولها إياه فقال إلقينا فى الرجعة فى هذا المكان فأخبرينا ما فعل قال فذهبنا ورجعنا فوجدناها فى ذلك المكان معها شياه ثلاث فقال ما فعل صبيك فقالت والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة فإجترر هذه الغنم قال أنزل خذ منها واحدة ورد البقية وذكر الحديث بتمامه
ثنا وكيع قال ثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن يعلى بن مرة عن أبيه قال وكيع مرة يعنى الثقفي ولم يقل مرة عن أبيه أن إمرأة جاءت إلى النبى معها صبى لها به لمم فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( اخرج عدو الله أنا رسول الله ( قال فبرأ قال فاهدت إليه كبشين وشيئا من أقط وشيئا من سمن قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خذ الأقط والسمن وخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر
____________________
(19/58)
( ثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عطاء بن السائب عن عبد الله إبن حفص عن يعلى بن مرة الثقفي قال ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله وذكر الحديث وفيه قال ثم سرنا فمررنا بماء فأتته إمرأة بإبن لها به جنة فأخذ النبى بمنخره فقال ( اخرج انى محمد رسول الله ( قال ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته المرأة بجزر ولبن فأمرها أن ترد الجزر وأمر أصحابه فشربوا من اللبن فسألها عن الصبى فقالت والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبا بعدك ولو قدر أنه لم ينقل ذلك لكون مثله لم يقع عند الأنبياء لكون الشياطين لم تكن تقدر تفعل ذلك عند الأنبياء وفعلت ذلك عندنا فقد أمرنا الله ورسوله من نصر المظلوم والتنفيس عن المكروب ونفع المسلم بما يتناول ذلك
وقد ثبت فى الصحيحين حديث الذين رقوا بالفاتحة وقال النبى ( وما أدراك إنها رقية ( وأذن لهم فى أخذ الجعل على شفاء اللديغ بالرقية وقد قال النبى للشيطان الذى أراد قطع صلاته ( اعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله التامة ثلاث مرات ( وهذا كدفع ظالمي الإنس من الكفار والفجار فإن النبى وأصحابه وإن كانوا لم يروا الترك ولم يكونوا يرمون بالقسى الفارسية ونحوها مما يحتاج إليه فى قتال فقد
____________________
(19/59)
ثبت عن النبى أنه أمر بقتالهم وأخبر أن أمته ستقاتلهم ومعلوم أن قتالهم النافع إنما هو بالقسى الفارسية ولو قوتلوا بالقسى العربية التى تشبه قوس القطن لم تغن شيئا بل إستطالوا على المسلمين بقوة رميهم فلابد من قتالهم بما يقهرهم
وقد قال بعض المسلمين لعمر بن الخطاب أن العدو إذا رأيناهم قد لبسوا الحرير وجدنا فى قلوبنا روعة فقال وأنتم فالبسوا كما لبسوا وقد أمر النبى أصحابه فى عمرة القضية بالرمل والإضطباع ليرى المشركين قوتهم وان لم يكن هذا مشروعا قبل هذا ففعل لأجل الجهاد ما لم يكن مشروعا بدون ذلك
ولهذا قد يحتاج فى إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب فيضرب ضربا كثيرا جدا والضرب إنما يقع على الجنى ولا يحس به المصروع حتى يفيق المصروع ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك ولا يؤثر فى بدنه ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة وأكثر وأقل بحيث لو كان على الإنسى لقتله وإنما هو على الجنى والجنى يصيح ويصرخ ويحدث الحاضرين بأمور متعددة كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين
____________________
(19/60)
وأما الإستعانة عليهم بما يقال ويكتب مما لا يعرف معناه فلا يشرع لا سيما إن كان فيه شرك فإن ذلك محرم وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك وقد يقرأون مع ذلك شيئا من القرآن ويظهرونه ويكتمون ما يقولونه من الشرك وفى الإستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله
والمسلمون وإن تنازعوا فى جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير فلا يتنازعون فى أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال لأن ذلك محرم فى كل حال وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخف بالعزائم لم يساعده وأيضا فإن المكره مضطر إلى التكلم به ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين
أحدهما أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم فلا يؤثر بل يزيده شرا
والثانى أن فى الحق ما يغنى عن الباطل
____________________
(19/61)
والناس فى هذا الباب ثلاثة أصناف قوم يكذبون بدخول الجنى فى الإنس وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة فهؤلاء يكذبون بالموجود وهؤلاء يعصون بل يكفرون بالمعبود والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود وتؤمن بالإله الواحد المعبود وبعبادته ودعائه وذكره واسمائه وكلامه فتدفع شياطين الإنس والجن
وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم فهذا إن كان على وجه التصديق لهم فى كل ما يخبرون به والتعظيم للمسئول فهو حرام كما ثبت فى صحيح مسلم وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي قال قلت يا رسول الله أمورا كنا نصنعها فى الجاهلية كنا نأتى الكهان قال ( فلا تأتوا الكهان ( وفى صحيح مسلم أيضا عن عبيد الله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما (
وأما إن كان يسأل المسئول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز كما ثبت فى الصحيحين ( أن النبى سأل إبن صياد فقال ما يأتيك فقال يأتينى صادق وكاذب قال ما ترى قال أرى عرشا على الماء قال فإنى قد خبأت لك خبيئا قال الدخ الدخ قال اخسأ فلن
____________________
(19/62)
تعدو قدرك فإنما أنت من إخوان الكهان
وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة كما قال تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ( وقد ثبت فى صحيح البخارى عن أبى هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوارة ويفسرونها بالعربية فقال النبى ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فأما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا ( آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ( فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه ولم يصدقوه ولم يكذبوه
وقد روى عن أبى موسى الأشعرى أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك إمرأة لها قرين من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم إنتصروا على عدوهم وشاع الخبر فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن وسيأتى بريد الإنس بعد ذلك فجاء بعد ذلك بعدة أيام
____________________
(19/63)
فصل
ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئا من كتاب الله وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى كما نص على ذلك أحمد وغيره قال عبد الله بن أحمد قرأت على أبى ثنا يعلى بن عبيد ثنا سفيان عن محمد بن أبى ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن إبن عباس قال إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب بسم الله لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيه أو ضحاها ( كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ( قال أبى ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه وقال يكتب فى إناء نظيف فيسقى قال أبى وزاد فيه وكيع فتسقى وينضح ما دون سرتها قال عبد الله رأيت أبى يكتب للمرأة فى جام أو شيء نظيف
وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحيرى أنا الحسن بن سفيان النسوي حدثنى عبد الله بن أحمد بن شبويه ثنا علي بن
____________________
(19/64)
الحسن بن شقيق ثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن إبن أبى ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن إبن عباس قال إذا عسر على المرأة ولادها فليكتب بسم الله لا إله إلا الله العلى العظيم لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله وتعالى رب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيه أو ضحاها ( كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعه من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ( قال علي يكتب فى كاغدة فيعلق على عضد المرأة قال علي وقد جربناه فلم نر شيئا أعجب منه فإذا وضعت تحله سريعا ثم تجعله فى خرقه أو تحرقه آخر كلام شيخ الإسلام بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه
____________________
(19/65)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل
في الإكتفاء بالرسالة والإستغناء بالنبى عن إتباع ما سواه إتباعا عاما وأقام الله الحجة على خلقه برسله فقال تعالى ( انا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) إلى قوله ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )
فدلت هذه الآية على أنه لا حجة لهم بعد الرسل بحال وأنه قد يكون لهم حجة قبل الرسل
ف ( الأول ( يبطل قول من أحوج الخلق إلى غير الرسل حاجة عامة كالأئمة و ( الثانى ) يبطل قول من أقام الحجة عليهم قبل الرسل من المتفلسفة والمتكلمة
____________________
(19/66)
وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول ) فأمر بطاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء إذا لم يتنازعوا وهو يقتضى أن إتفاقهم حجة وأمرهم بالرد عند التنازع إلى الله والرسول فأبطل الرد إلى امام مقلد أو قياس عقلى فاضل
وقال تعالى ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) فبين أنه بالكتاب يحكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه
وقال تعالى ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) وقال تعالى ( كتاب أنزلناه إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) ففرض اتباع ما أنزله من الكتاب والحكمة وحظر إتباع أحد من دونه وقال تعالى ( أو لم يكفهم انا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) فزجر من لم يكتف بالكتاب المنزل وقال تعالى ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آيات ربكم ) الآيات وقال تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وقال تعالى ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ) الآيات وقال تعالى ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ) الآيتين فدلت هذه
____________________
(19/67)
الآيات على أن من أتاه الرسول فخالفه فقد وجب عليه العذاب وإن لم يأته إمام ولا قياس وأنه لا يعذب أحد حتى يأتيه الرسول وإن أتاه إمام أو قياس وقال تعالى ( ومن يطع الله ورسوله فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله )
الآية وقد ذكر سبحانه هذا المعنى فى غير موضع فبين أن طاعة الله ورسوله موجبة للسعادة وان معصية الله موجبة للشقاوة وهذا يبين أن مع طاعة الله ورسوله لا يحتاج إلى طاعة إمام أو قياس ومع معصية الله ورسوله لا ينفع طاعة إمام أو قياس
ودليل هذا الأصل كثير فى الكتاب والسنة وهو أصل الاسلام ( شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ( وهو متفق عليه بين الذين أوتوا العلم والايمان قولا واعتقادا وإن خالفه بعضهم عملا وحالا فليس عالم من المسلمين يشك فى أن الواجب على الخلق طاعة الله ورسوله وان ما سواه إنما تجب طاعته حيث أوجبها الله ورسوله
____________________
(19/68)
وفى الحقيقة فالواجب في الأصل إنما هو طاعة الله لكن لا سبيل إلى العلم بمأموره وبخبره كله إلا من جهة الرسل والمبلغ عنه اما مبلغ امره وكلماته فتجب طاعته وتصديقه فى جميع ما أمر وأخبر وأما ماسوى ذلك فإنما يطاع في حال دون حال كالأمراء الذين تجب طاعتهم فى محل ولايتهم ما لم يأمروا بمعصية الله والعلماء الذين تجب طاعتهم على المستفتى والمأمور فيما أوجبوه عليه مبلغين عن الله أو مجتهدين اجتهادا تجب طاعتهم فيه على المقلد ويدخل فى ذلك مشايخ الدين ورؤساء الدنيا حيث أمر بطاعتهم كاتباع أئمة الصلاة فيها وأتباع أئمة الحج فيه واتباع امراء الغزو فيه واتباع الحكام في احكامهم واتباع المشايخ المهتدين فى هديهم ونحو ذلك
والمقصود بهذا الأصل أن من نصب إماما فأوجب طاعته مطلقا اعتقادا أو حالا فقد ضل فى ذلك كأئمة الضلال الرافضة الامامية حيث جعلوا في كل وقت إماما معصوما تجب طاعته فإنه لا معصوم بعد الرسول ولا تجب طاعة أحد بعده فى كل شيء والذين عينوهم من أهل البيت منهم من كان خليفة راشدا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله وهو علي ومنهم أئمة فى العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين كعلى بن الحسين وأبى جعفر الباقر وجعفر إبن محمد الصادق ومنهم دون ذلك
____________________
(19/69)
وكذلك من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين فى كل طريق من غير تخصيص ولا استثناء وأفرده عن نظرائه كالشيخ عدي والشيخ أحمد والشيخ عبد القادر والشيخ حيوة ونحوهم
وكذلك من دعا إلى اتباع امام من أئمة العلم فى كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقا كالأئمة الأربعة
وكذلك من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة والولاة فى كل ما يأمرون وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء لكن هؤلاء لا يدعون العصمة لمتبوعيهم إلا غالية اتباع المشايخ كالشيخ عدي وسعد المديني بن حمويه ونحوهما فإنهم يدعون فيهم نحوا مما تدعيه الغالية فى أئمة بني هاشم من العصمة ثم من الترجيح على النبوة ثم من دعوى الالهية
وأما كثير من أتباع أئمة العلم ومشايخ الدين فحالهم وهواهم بضاهي حال من يوجب اتباع متبوعه لكنه لا يقول ذلك بلسانه ولا يعتقده علما فحاله يخالف اعتقاده بمنزلة العصاة أهل الشهوات وهؤلاء أصلح ممن يرى وجوب ذلك ويعتقده وكذلك اتباع الملوك والرؤساء هم كما أخبر الله عنهم بقوله ( أنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ) فهم مطيعون حالا وعملا وانقيادا وأكثرهم من غير عقيدة دينية وفيهم
____________________
(19/70)
من يقرن بذلك عقيدة دينية ولكن طاعة الرسول إنما تمكن مع العلم بما جاء به والقدرة على العمل به فإذا ضعف العلم والقدرة صار الوقت وقت فترة في ذلك الأمر فكان وقت دعوة ونبوة فى غيره فتدبر هذا الأصل فإنه نافع جدا والله أعلم
وكذا من نصب القياس أو العقل أو الذوق مطلقا من أهل الفلسفة والكلام والتصوف أو قدمه بين يدي الرسول من أهل الكلام والرأي والفلسفة والتصوف فإنه بمنزلة من نصب شخصا فالاتباع المطلق دائر مع الرسول وجودا وعدما فصل
أول البدع ظهورا فى الاسلام وأظهرها ذما فى السنة والآثار بدعة الحرورية المارقة فإن أولهم قال للنبى فى وجهه اعدل يامحمد فإنك لم تعدل وأمر النبى بقتلهم وقتالهم وقاتلهم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
والأحاديث عن النبى مستفيضة بوصفهم وذمهم
____________________
(19/71)
والأمر بقتالهم قال أحمد بن حنبل صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه قال النبى صلى الله عليه وسلم ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لايجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة (
ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم أحدهما خروجهم عن السنة وجعلهم ماليس بسيئة سيئة أو ماليس بحسنة حسنة وهذا هو الذي أظهروه فى وجه النبى حيث قال له ذو الخويصرة التميمي اعدل فانك لم تعدل حتى قال له النبى ( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ( فقوله فانك لم تعدل جعل منه لفعل النبى سفها وترك عدل وقوله ( اعدل ( أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التى لا تصلح وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة فقائلها لابد أن يثبت ما نفته السنة وينفى ما أثبتته السنة ويحسن ما قبحته السنة أو يقبح ما حسنت السنة وإلا لم يكن بدعة وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ فى بعض المسائل لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة
____________________
(19/72)
والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته ولم يوجبوا طاعته ومتابعته وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التى تخالف بزعمهم ظاهر القرآن
وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم فى الحقيقة على هذا فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه كما يحكى عن عمرو بن عبيد فى حديث الصادق المصدوق وإنما يدفعون ( عن ) نفوسهم الحجة اما برد النقل وإما بتأويل المنقول فيطعنون تارة في الاسناد وتارة في المتن وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التى جاء بها الرسول بل ولا بحقيقة القرآن
الفرق الثانى فى الخوارج وأهل البدع انهم يكفرون بالذنوب والسيئات ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم وان دار الاسلام دار حرب ودارهم هي دار الايمان وكذلك يقول جمهور الرافضة وجمهور المعتزلة والجهمية وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم فهذا أصل البدع التى ثبت بنص سنة رسول الله وإجماع السلف أنها بدعة وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرا
____________________
(19/73)
فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم
وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة ومن كفر المسلمين بما رآه ذنبا سواء كان دينا أو لم يكن دينا وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين أما الأول فشبه التأويل الفاسد أو القياس الفاسد أما حديث بلغه عن الرسول لا يكون صحيحا أو أثر عن غير الرسول قلده فيه ولم يكن ذلك القائل مصيبا أو تأويل تأوله من آية من كتاب الله أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح أو ضعيف أو أثر مقبول أو مردود ولم يكن التأويل صحيحا وإما قياس فاسد أو رأي رآه اعتقده صوابا وهو خطأ
فالقياس والرأي والذوق هو عامة خطأ المتكلمة والمتصوفة وطائفة من المتفقهة
وتأويل النصوص الصحيحة أو الضعيفة عامة خطأ طوائف المتكلمة والمحدثة والمقلدة والمتصوفة والمتفقهة
____________________
(19/74)
وأما التكفير بذنب أو اعتقاد سنى فهو مذهب الخوارج
والتكفير باعتقاد سنى مذهب الرافضة والمعتزلة وكثير من غيرهم
وأما التكفير باعتقاد بدعى فقد بينته فى غير هذا الموضع ودون التكفير قد يقع من البغض والذم والعقوبة وهو العدوان أو من ترك المحبة والدعاء والاحسان وهو التفريط ببعض هذه التأويلات ما لا يسوغ وجماع ذلك ظلم فى حق الله تعالى أو فى حق المخلوق كما بينته فى غير هذا الموضع ولهذا قال أحمد بن حنبل لبعض أصحابه أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس
____________________
(19/75)
وقال شيخ الاسلام
إمام الأئمة والمسلمين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم إبن عبد السلام بن تيمية قدس الله روحه
الحمد لله نستعينه ونستغفرة ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
( أصل جامع (
فى الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه وبيان الاهتداء به فى كل ما يحتاج إليه الناس من دينهم وأن النجاة والسعادة فى اتباعه والشقاء فى مخالفته وما دل عليه من اتباع السنة والجماعة قال الله تعالى ( قال اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال
____________________
(19/76)
رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) قال إبن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل فى الدنيا ولا يشقى فى الآخرة ثم قرأ هذه الآية
وفى السورة الأخرى ( فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) وقال تعالى ( المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) وقال تعالى ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ان تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزى الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون )
وقال تعالى ( يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
____________________
(19/77)
وقال تعالى ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا فى ضلال كبير ) وقال تعالى ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ) وقال تعالى ( ما يجادل فى آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم فى البلاد ) إلى قوله ( الذين يجادلون فى آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) إلى قوله ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) إلى قوله ( ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بنى إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار إن الذين يجادلون فى آيات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير )
وفى قوله ( يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ) بيان أنه لا يجوز أن يعارض كتاب الله بغير كتاب الله لا بفعل احد ولا أمره لا دولة ولا سياسة فإنه حال الذين يجادلون فى آيات الله بغير
____________________
(19/78)
سلطان أتاهم ولكن يجوز أن يكون فى آيات الله ناسخ ومنسوخ فيعارض منسوخه بناسخه كما قال تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) وكما قال تعالى ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ونظائره متعددة
وقال تعالى ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) وقال تعالى ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) وقال تعالى ( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) وقال تعالى ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط
____________________
(19/79)
مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ) فأمر بالاعتصام بحبل الله وهو كتابه كما قال النبى ( إن هذا القرآن حبل ممدود طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ما تمسكتم به ( وفى الحديث الآخر ( وهو حبل الله المتين ( ثم قال تعالى ( ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فالف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) الآيات
وقال تعالى ( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) وقال تعالى ( ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) وقال تعالى ( الم ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين ) وقال ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) وقال ( ان الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لايقصرون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما اتبع ما يوحى إلى من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )
وقال تعالى ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين
____________________
(19/80)
ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) وقال تعالى ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) وقال تعالى ( يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا ) وقال تعالى ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) وقال تعالى ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) وقال تعالى ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما فى الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) وقال تعالى ( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة ( وقال تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به وقال تعالى ( والذين يمسكون بالكتاب واقاموا الصلاة انا لانضيع أجر المصلحين ) وقال تعالى ( واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين
____________________
(19/81)
فصل
قد أمرنا الله تعالى بإتباع ما أنزل إلينا من ربنا وبإتباع ما يأتى منه من الهدى وقد أنزل علينا الكتاب والحكمة كما قال تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) والحكمة من الهدى قال تعالى ( وان تطيعوه تهتدوا ) والأمر باتباع الكتاب والقرآن يوجب الأمر باتباع الحكمة التى بعث بها الرسول وباتباعه وطاعته مطلقا
وقال تعالى ( واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة ) وقال تعالى ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) وقال تعالى ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) وقال تعالى ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين ) وقال تعالى ( هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم
____________________
(19/82)
ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم
وقد أمر بطاعة الرسول في نحو أربعين موضعا كقوله تعالى ( قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) وقوله تعالى ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين ) وقوله ( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ماحمل وعليكم ماحملتم وأن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) إلى قوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ) إلى قوله تعالى ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ) إلى قوله ( أو يصيبهم عذاب أليم ) وقوله تعالى ( وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )
وقوله تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) وقوله تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وقوله تعالى ( ومن يطع الله والرسول فاولئك
____________________
(19/83)
مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ) وقوله تعالى ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ) إلى قوله ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ) وقوله تعالى ( ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها ابدا ) وقوله تعالى ( يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون ياليتنا اطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا انا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) وقوله تعالى ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للانسان خذولا )
فهذه النصوص توجب اتباع الرسول وإن لم نجد ما قاله منصوصا بعينه فى الكتاب كما أن تلك الآيات توجب اتباع الكتاب وان لم نجد ما فى الكتاب منصوصا بعينه فى حديث عن الرسول غير الكتاب فعلينا ان نتبع الكتاب وعلينا أن نتبع الرسول واتباع أحدهما هو اتباع الآخر فإن الرسول بلغ الكتاب والكتاب أمر بطاعة الرسول ولا يختلف الكتاب والرسول ألبتة كما لا يخالف الكتاب بعضه بعضا قال تعالى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
____________________
(19/84)
والأحاديث كثيرة عن النبى فى وجوب اتباع الكتاب وفى وجوب اتباع سنته كقوله ( لا الفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من امري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال حللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه آلا واني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا وانه مثل القرآن أو أعظم ( هذا الحديث فى السنن والمسانيد مأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم من عدة جهات من حديث أبي ثعلبة وأبى رافع وأبي هريرة وغيرهم
وفى صحيح مسلم عنه من حديث جابر أنه قال فى خطبة الوداع ( وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب الله تعالى ( وفى الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قيل له هل أوصى رسول الله قال لا قيل فكيف كتبه على الناس الوصية قال أوصى بكتاب الله وسنة رسول الله تفسر القرآن كما فسرت أعداد الصلوات وقدر القراءة فيها والجهر والمخافتة وكما فسرت فرائض الزكاة ونصبها وكما فسرت المناسك وقدر الطواف بالبيت والسعي ورمي الجمار ونحو ذلك
وهذه السنة إذا ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب
____________________
(19/85)
اتباعها وقد يكون من سنته ما يظن أنه مخالف لظاهر القرآن وزيادة عليه كالسنة المفسرة لنصاب السرقة والموجبة لرجم الزاني المحصن فهذه السنة أيضا مما يجب اتباعه عند الصحابة والتابعين لهم باحسان وسائر طوائف المسلمين (
إلا من نازع فى ذلك من الخوارج المارقين الذين قال فيهم النبى ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لايجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قاتلهم يوم القيامة (
وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة فى وصفهم وذمهم والأمر بقتالهم عن النبى صلى الله عليه وسلم قال أحمد بن حنبل صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وقد روى مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه كأنها هي التى أشار إليها احمد بن حنبل فإن مسلما أخذ عن أحمد
وقد روى البخاري حديثهم من عدة أوجه وهؤلاء أولهم قال للنبى يا محمد اعدل فانك لم تعدل فمن جوز عليه أن يظلمه فلا يعدل كمن يوجب طاعته فيما ظلم فيه لكنهم يوجبون اتباع مابلغه عن الله وهذا من جهلهم وتناقضهم ولهذا قال النبى
____________________
(19/86)
( ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل ( وقال ( لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ( أي إن اتبعت من هو غير عادل فأنت خائب خاسر وقال ( أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني ( يقول إذا كان الله قد ائتمننى على تبليغ كلامه أفلا تأمنوني على أن أؤدي الأمانة إلى الله قال تعالى ( وما كان لنبى أن يغل
وفى الجملة فالقرآن يوجب طاعته فى حكمه وفي قسمه ويذم من يعدل عنه فى هذا أو هذا كما قال تعالى فى حكمه ( فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) وقال تعالى ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا ان يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف اذا اصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن اردنا الا احسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم فى أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول
____________________
(19/87)
لوجدوا الله توابا رحيما ) وقال تعالى ( ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون )
وقال فى قسمه للصدقات والفىء قال فى الصدقات ( ومنهم من يلمزك فى الصدقات فان أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) وقال فى الفيء ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وبن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ) الآيات الثلاث
فالطاعن فى شيء من حكمه أو قسمه كالخوارج طاعن في
____________________
(19/88)
كتاب الله مخالف لسنة رسول الله مفارق لجماعة المسلمين وكان شيطان الخوارج مقموعا لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبى بكر وعمر وعثمان فلما إفترقت الأمة فى خلافة علي رضي الله عنه وجد شيطان الخوارج موضع الخروج فخرجوا وكفروا عليا ومعاوية ومن والاهما فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبى طالب كما ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( تمرق مارقة على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحق (
ولهذا لما ناظرهم من ناظرهم كابن عباس وعمر بن عبد العزيز وغيرهما بينوا لهم بطلان قولهم بالكتاب والميزان كما بين لهم بن عباس حيث أنكروا على علي بن أبي طالب قتاله لأهل الجمل ونهيه عن اتباع مدبرهم والاجهاز على جريحهم وغنيمة أموالهم وذراريهم وكانت حجة الخوارج أنه ليس فى كتاب الله الا مؤمن أو كافر فإن كانوا مؤمنين لم يحل قتالهم وإن كانوا كفارا أبيحت دماؤهم وأموالهم وذراريهم فأجابهم بن عباس بأن القرآن يدل على أن عائشة أم المؤمنين وبين أن أمهات المؤمنين حرام فمن أنكر أمومتها فقد خالف كتاب الله ومن استحل فرج أمه فقد خالف كتاب الله
وموضع غلطهم ظنهم ان من كان مؤمنا لم يبح قتاله بحال وهذا مما ضل به من ضل من الشيعة حيث ظنوا أن من قاتل عليا كافر
____________________
(19/89)
فإن هذا خلاف القرآن قال تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) فأخبر سبحانه أنهم مؤمنون مقتتلون وأمر إن بغت احداهما على الأخرى ان تقاتل التى تبغى فانه لم يكن امر بقتال أحدهما ابتداء ثم أمر إذا فاءت إحداهما بالاصلاح بينهما بالعدل وقال ( إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم ) فدل القرآن على إيمانهم واخوتهم مع وجود الأقتتال والبغي وأنه يأمر بقتال الباغية حيث أمر الله به
وكذلك عمر بن عبد العزيز لما ناظرهم وأقروا بوجوب الرجوع إلى ما نقله الصحابة عن الرسول من فرائض الصلاة بين لهم عمر أنه كذلك يجب ( الرجوع ) إلى ما نقلوه عنه من فريضة الرجم ونصاب الزكاة وان الفرق بينهما فرق بين المتماثلين فرجعوا إلى ذلك وكذلك بن عباس ناظرهم لما أنكروا تحكيم الرجال بأن الله قال فى الزوجين إذا خيف شقاق بينهما أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها وقال ( إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) وأمر ايضا أن يحكم في الصيد بجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم فمن أنكر التحكيم مطلقا فقد خالف كتاب الله تعالى وذكر إبن عباس ان
____________________
(19/90)
التحكيم في أمر أميرين لأجل دماء الأمة أولى من التحكيم في أمر الزوجين والتحكيم لأجل دم الصيد وهذا استدلال من إبن عباس بالاعتبار وقياس الأولى وهو من الميزان فاستدل عليهم بالكتاب والميزان قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )
أمر سبحانه بطاعته وطاعه رسوله وأولي الأمر منا وأمر إن تنازعنا فى شيء أن نرده إلى الله والرسول فدل هذا على ان كل ما تنازع المؤمنون فيه من شيء فعليهم ان يردوه إلى الله والرسول والمعلق بالشرط يعدم عند عدم الشرط فدل ذلك على أنهم اذا لم يتنازعوا لم يكن هذا الأمر ثابتا وكذلك إنما يكون لأنهم إذا لم يتنازعوا كانوا على هدى وطاعة لله ورسوله فلا يحتاجوا حينئذ ان يأمروا بما هم فاعلون من طاعة الله والرسول
ودل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا بل اجتمعوا فانهم لايجتمعون على ضلالة ولو كانوا قد يجتمعون على ضلالة لكانوا حينئذ أولى بوجوب الرد إلى الله والرسول منهم اذا تنازعوا فقد يكون احد الفريقين مطيعا لله والرسول فإذا كانوا مأمورين في هذا الحال بالرد إلى الله والرسول ليرجع إلى ذلك فريق منهم خرج عن ذلك فلأن يؤمروا بذلك
____________________
(19/91)
إذا قدر خروجهم كلهم عنه بطريق الأولى والأحرى أيضا فقد قال لهم ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) فلما نهاهم عن التفرق مطلقا دل ذلك على أنهم لايجتمعون على باطل إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم وبين أنه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا كما قال ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم ومما من به عليهم فلم يكن ذلك اجتماعا على باطل لأن الله تعالى أعلم بجميع الأمور انتهى والحمد لله رب العالمين
____________________
(19/92)
وقال شيخ الإسلام
تقى الدين أبو العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن ابى القاسم بن محمد بن تيمية الحرانى رضى الله عنه ونور ضريحه
الحمد لله رب العالمين ( قاعدة نافعة فى وجوب الاعتصام بالرسالة ( وبيان ان السعادة والهدى فى متابعة الرسول وأن الضلال والشقاء فى مخالفته وان كل خير فى الوجود إما عام وإما خاص فمنشأه من جهة الرسول وأن كل شر فى العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به وأن سعادة العباد فى معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة
والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها وحاجتهم اليها فوق حاجتهم إلى كل شيء والرسالة روح العالم ونوره وحياته فأى صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور والدنيا مظلمة ملعونة الا ما طلعت عليه شمس الرسالة وكذلك العبد ما لم تشرق فى قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو فى ظلمة وهو من الأموات قال الله
____________________
(19/93)
تعالى ( او من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها ) فهذا وصف المؤمن كان ميتا فى ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نورا يمشى به فى الناس واما الكافر فميت القلب فى الظلمات
وسمى الله تعالى رسالته روحا والروح اذا عدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى ( وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا ) فذكر هنا الأصلين وهما الروح والنور فالروح الحياة والنور النور
وكذلك يضرب الله الأمثال للوحى الذى انزله حياة للقلوب ونورا لها بالماء الذى ينزله من السماء حياة للأرض وبالنار التى يحصل بها النور وهذا كما فى قوله تعالى ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض كذلك يضرب الله الأمثال )
فشبه العلم بالماء المنزل من السماء لأن به حياة القلوب كما ان
____________________
(19/94)
بالماء حياة الأبدان وشبه القلوب بالأودية لأنها محل العلم كما ان الأودية محل الماء فقلب يسع علما كثيرا وواد يسع ماء كثيرا وقلب يسع علما قليلا وواد يسع ماء قليلا وأخبر تعالى أنه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء وأنه يذهب جفاء أى يرمى به ويخفى والذى ينفع الناس يمكث فى الأرض ويستقر وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات فاذا ترابى فيها الحق ثارت فيها تلك الشهوات والشبهات ثم تذهب جفاء ويستقر فيها الايمان والقرآن الذى ينفع صاحبه والناس وقال ( ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل ) فهذا المثل الآخر وهو النارى فالأول للحياة والثانى للضياء
ونظير هذين المثالين المثالان المذكوران فى سورة البقرة فى قوله تعالى ( مثلهم كمثل الذى استوقد نارا ) إلى قوله ( او كصيب من السماء ) إلى آخر الآية واما الكافر ففى ظلمات الكفر والشرك غير حى وإن كانت حياته حياة بهيمية فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التى سببها سبب الايمان وبها يحصل للعبد السعادة والفلاح فى الدنيا والآخرة فان الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده فى تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم وتكميل ما يصلحهم فى معاشهم ومعادهم وبعثوا جميعا بالدعوة الى الله وتعريف الطريق الموصل إليه وبيان حالهم بعد الوصول إليه
____________________
(19/95)
فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام الله فى أوليائه واعدائه وهى القصص التى قصها على عباده والأمثال التى ضربها لهم والأصل الثانى يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهى والاباحة وبيان ما يحبه الله وما يكرهه
والأصل الثالث يتضمن الايمان باليوم الآخر والجنة والنار والثواب والعقاب
وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر والسعادة والفلاح موقوفة عليها ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل فان العقل لا يهتدى إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها وإن كان قد يدرك وجه الضرورة اليها من حيث الجملة كالمريض الذى يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه ولا يهتدى إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه
وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب فان آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان وأما اذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقى
____________________
(19/96)
شقاوة لا سعادة معها أبدا فلا فلاح إلا باتباع الرسول فان الله خص بالفلاح اتباعه المؤمنين وأنصاره كما قال تعالى ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه اولئك هم المفلحون ) أى لا مفلح إلا هم كما قال تعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) فخص هؤلاء بالفلاح كما خص المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم ويؤمنون بما انزل إلى رسوله وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة وبالهدى والفلاح فعلم بذلك ان الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودا وعدما وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء وبعث به جميع الرسل ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل وما صارت إليه عاقبتهم وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة وكذلك مسخ من مسخ قرده وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم وكذلك من خسف به وأرسل عليه الحجارة من السماء وأغرقه فى اليم وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل واعراضهم عما جاؤوا به واتخاذهم أولياء من دونه
وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاؤوا به
____________________
(19/97)
واتبع غير سبيلهم ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم كما قال تعالى ( إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ) وقال تعالى ( ثم دمرنا الآخرين وانكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون ) أي تمرون عليهم نهارا بالصباح وبالليل ثم قال ( أفلا تعقلون ( وقال تعالى فى مدائن قوم لوط ( وامطرنا عليهم حجارة من سجيل إن فى ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم ) يعنى مدائنهم بطريق مقيم يراها المار بها وقال تعالى ( او لم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم )
وهذا كثير فى الكتاب العزيز يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة اتباع المرسلين ولهذا يذكر سبحانه فى سورة الشعراء قصة موسى وابراهيم ونوح وعاد وثمود ولوط وشعيب ويذكر لكل نبى إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم ثم يختم القصة بقوله ( إن فى ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) فختم القصة باسمين من اسمائه تقتضيها تلك الصفة وهو ( العزيز الرحيم فانتقم من أعدائه بعزته وانجى رسله واتباعهم برحمته
____________________
(19/98)
فصل
والرسالة ضرورية فى اصلاح العبد فى معاشه ومعاده فكما أنه لا صلاح له فى آخرته إلا باتباع الرسالة فكذلك لا صلاح له فى معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة فان الانسان مضطر إلى الشرع فانه بين حركتين حركة يجلب بها ما ينفعه وحركة يدفع بها ما يضره والشرع هو النور الذى يبين ما ينفعه وما يضره والشرع نور الله فى أرضه وعدله بين عباده وحصنه الذى من دخله كان آمنا
وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس فان ذلك يحصل للحيوانات العجم فان الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب بل التمييز بين الأفعال التى تضر فاعلها فى معاشه ومعاده كنفع الايمان والتوحيد والعدل والبر والتصدق والاحسان والأمانة والعفة والشجاعة والحلم والصبر والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وصلة الأرحام وبر الوالدين والاحسان إلى المماليك والجار واداء الحقوق وإخلاص العمل لله والتوكل عليه والإستعانة به والرضا بمواقع القدر به والتسليم لحكمه والانقياد لأمره وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه
____________________
(19/99)
وخشيته فى الغيب والشهادة والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه واحتساب الثواب عنده وتصديقه وتصديق رسله فى كل ما اخبروا به وطاعته فى كل ما أمروا به مما هو نفع وصلاح للعبد فى دنياه وآخرته وفى ضد ذلك شقاوته ومضرته فى دنياه وآخرته
ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار فى المعاش والمعاد فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم أن أرسل اليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبين لهم الصراط المستقيم ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الانعام والبهائم بل أشر حالا منها فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم
وفى الصحيح من حديث أبى موسى رضى الله عنه عن النبى قال ( مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل غيث اصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب امسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وانتفعوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه فى دين الله تعالى ونفعه ما بعثنى الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به ( متفق على صحته
____________________
(19/100)
فالحمد لله الذى أرسل الينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفى ضلال مبين وقال اهل الجنة ( الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة وأسس بنيانه عليها ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم فاذا درست آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية خرب الله العالم العلوى والسفلى وأقام القيامة
وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر ولا كحاجة الانسان إلى حياته ولا كحاجة العين إلى ضوئها والجسم إلى الطعام والشراب بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه فى أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده
وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد بن عبد الله يقول ( يا ايها الناس إنما أنا رحمه مهداة ( وقال الله تعالى ( وما أرسلناك الا رحمة للعالمين ) وقال صلوات الله وسلامه عليه ( إن الله نظر إلى اهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ( وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل
____________________
(19/101)
فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله فبعثه رحمه للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بأداء حقوقه وسد إليه جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه وأخذ العهود والمواثيق بالايمان به واتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين
أرسله الله بالهدى ودين الحق بين يدى الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا فختم به الرسالة وهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة وفتح برسالته أعينا عميا وآذنا صما وقلوبا غلفا فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت بها القلوب بعد شتاتها فأقام بها الملة العوجاء وأوضح بها المحجة البيضاء وشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع ذكره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره أرسله على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب حين حرف الكلم وبدلت الشرائع واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم فهدى الله به الخلائق وأوضح به الطريق وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور وأبصر به من العمى وأرشد به من الغى وجعله قسيم الجنة والنار وفرق ما بين الأبرار والفجار وجعل الهدى والفلاح فى إتباعه وموافقته
____________________
(19/102)
والضلال والشقاء فى معصيته ومخالفته
وإمتحن به الخلائق فى قبورهم فهم فى القبور عنه مسؤولون وبه ممتحنون يؤتى العبد فى قبره فيقال ما كنت تقول فى هذا الرجل الذى بعث فيكم
فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه فيقال له صدقت على هذا حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله نم نومة العروس لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ثم يفسح له فى قبره وينور له فيه ويفتح له باب إلى الجنة فيزداد غبطة وسرورا وأما الكافر والمنافق فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيقال له قد كنا نعلم ذلك وعلى ذلك حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الانسان
وقد أمر الله بطاعة رسوله فى أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن وقرن طاعته بطاعته وقرن بين مخالفته ومخالفته كما قرن بين اسمه واسمه فلا يذكر الله إلا ذكر معه قال بن عباس
____________________
(19/103)
رضى الله عنه فى قوله تعالى ( ورفعنا لك ذكرك ) قال لا أذكر إلا ذكرت معى وهذا كالتشهد والخطب والأذان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فلا يصح الاسلام إلا بذكره والشهادة له بالرسالة
وكذلك لا يصح الأذان إلا بذكره والشهادة له ولا تصح الصلاة إلا بذكره والشهادة له ولا تصح الخطبة إلا بذكره والشهادة له
وحذر الله سبحانه وتعالى من العذاب والكفر لمن خالفه قال تعالى ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) قال الامام أحمد رحمه الله تعالى أى فتنة هي إنما هي الكفر
وكذلك ألبس الله سبحانه الذلة والصغار لمن خالف أمره كما فى مسند الامام أحمد من حديث عبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( بعثت بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقى تحت ظل رمحى وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى ومن تشبه بقوم فهو منهم
____________________
(19/104)
وكما ان من خالفه وشاقه وعاداه هو الشقى الهالك فكذلك من أعرض عنه وعما جاء به واطمأن إلى غيره ورضى به بدلا منه هو هالك أيضا فالشقاء والضلال فى الاعراض عنه وفى تكذيبه والهدى والفلاح فى الاقبال على ما جاء به وتقديمه على كل ما سواه فالأقسام ثلاثة المؤمن به وهو المتبع له المحب له المقدم له على غيره والمعادى له والمنابذ له والمعرض عما جاء به فالأول هو السعيد والآخران هما الهالكان
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا من المتبعين له المؤمنين به وأن يحيينا على سنته ويتوفانا عليها لا يفرق بيننا وبينها إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين
____________________
(19/105)
قال شيخ الاسلام رحمه الله فصل
فى توحد الملة وتعدد الشرائع وتنوعها وتوحد الدين الملى دون الشرعى وما فى ذلك من اقرار ونسخ وجريان ذلك فى اهل الشريعة الواحدة بنوع من الاعتبار قال الله تعالى ( وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال انى جاعلك للناس اماما فهذا نص فى انه امام الناس كلهم وقال ( ان ابراهيم كان أمة ) وهو القدوة الذى يؤتم به وهو معلم الخير وقال ( ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه فى الدنيا وانه فى الاخرة لمن الصالحين اذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بنى ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وانتم مسلمون ام كنتم شهداء اذ حضر يعقوب الموت اذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد الهك واله ابائك
____________________
(19/106)
ابراهيم واسماعيل واسحاق الها واحدا ونحن له مسلمون تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون
) فقد بين انه لا يرغب عن ملة ابراهيم الا من هو سفيه وانه امر بالاسلام فقال ( اسلمت لرب العالمين ) وان هذه وصية إلى بنيه ووصية اسرائيل إلى بنيه وقد اصطفى ادم ونوحا وال ابراهيم وال عمران على العالمين
ثم قال ( وقالوا كونوا هودا او نصارى تهتدوا قل بل ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) فامر باتباع ملة ابراهيم ونهى عن التهود والتنصر وامر بالايمان الجامع كما انزل على النبيين وما اوتوه والاسلام له وان نصبغ بصبغة الله وأن نكون له عابدين ورد على من زعم ان ابراهيم وبنيه واسرائيل وبنيه كانوا هودا او نصارى وقد قال قبل هذا ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت اهواءهم ) الاية والمعنى ولن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتهم ولا النصارى حتى تتبع ملتهم
وقد يستدل بهذا على ان لكل طائفة ملة لقوله تعالى
____________________
(19/107)
( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) وقال تعالى فى اخر السورة ( امن الرسول بما انزل إليه من ربه ) إلى اخر السورة كما قال فى اولها ( والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون ففتحها بالايمان الجامع وختمها بالايمان الجامع ووسطها بالايمان الجامع ونبينا اعطى فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه
وقال تعالى فى آل عمران بعد ان قص امر المسيح ويحيى ( قل يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون ) وهى التى كتبها النبى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم لما دعاهم إلى الاسلام وقال ( يا اهل الكتاب لم تحاجون فى ابراهيم وما انزلت التوراة والانجيل الا من بعده افلا تعقلون ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وانتم لا تعلمون ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبى والذين امنوا والله ولى المؤمنين ) إلى قوله ( واذ اخذ الله ميثاق
____________________
(19/108)
النبيين لما اتيتكم من كتاب وحكمة ) إلى قوله ( وله اسلم من فى السماوات والارض طوعا وكرها ) فانكر على من يبغى غير دين الله كما قال فى اول السورة ( شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولوا العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم ان الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) فاخبر ان الدين عند الله الاسلام وان الذين اختلفوا من اهل الكتاب وصاروا على ملل شتى ما اختلفوا الا من بعد ما جاءهم العلم وفيه بيان ان الدين واحد لا اختلاف فيه
وقال تعالى ( قل اننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركن قل ان صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين ) هذا بعد ان ذكر الانبياء فقال ( اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )
وذكر فى الاعراف دعوة المرسلين جميعهم واتفاقهم على عبادة الله وحده لا شريك له فقال ( ولقد بعثنا فى كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) الاية وقال ( ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم واتيناه فى الدنيا حسنة وانه فى الاخرة لمن الصالحين
____________________
(19/109)
ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) وقال ( ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ) إلى قوله ( مشهد يوم عظيم )
وقال فى سورة الانبياء ( وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحى إليه انه لا اله الا انا فاعبدون ) وقال بعد ان قص قصصهم ( ان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون ) وقال فى اخرها ( قل انما يوحى إلى انما الهكم اله واحد فهل انتم مسلمون ) وقال فى سورة المؤمنين ( يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا انى بما تعملون عليم وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاتقون فتقطعوا امرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون )
وقال فى آخر سورة الحج التى ذكر فيها الملل الست وذكر ما جعل لهم من المناسك والمعابد وذكر ملة ابراهيم خصوصا ( وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) وقال ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى اوحينا اليك ) الاية وقال ( لم يكن الذين كفروا من اهل الكتاب ) إلى قوله ( وذلك دين القيمة
____________________
(19/110)
وهذا فى القرآن مذكور فى مواضع كثيرة
وكذلك فى الأحاديث الصحيحة مثل ما ترجم عليه البخارى فقال ( باب ما جاء فى أن دين الأنبياء واحد ) وذكر الحديث المتفق عليه عن أبى هريرة عن النبى قال ( انا معاشر الأنبياء اخوة لعلات ( ومثل صفته فى التوراة ( لن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء فافتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ولهذا وحد الصراط والسبيل فى مثل قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ومثل قوله تعالى ( وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) ومثل قوله ( الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) وقوله ( مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله ) ( وجاهدوا فى سبيل الله ) وقوله ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )
والاسلام دين جميع المرسلين قال نوح عليه السلام ( فان توليتم فما سالتكم من أجر إن أجرى الا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ) وقال الله عن ابراهيم وبنيه ما تقدم وقال الله عن السحرة ( ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ) وعن فرعون ( آمنت أنه لا اله إلا الذى آمنت به بنوا اسرائيل وأنا من المسلمين
____________________
(19/111)
وقال الحواريون ( آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) وفى السورة الاخرى ( واشهد بأننا مسلمون ) وقال يوسف الصديق ( توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين ) وقال موسى ( ان كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ان كنتم مسلمين ) وقالت بلقيس ( رب إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) وقال فى التوراة ( يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار )
قال شيخ الاسلام وقد قررت فى غير هذا الموضع الاسلام العام والخاص والايمان العام والخاص كقوله ( ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
وأما تنوع الشرائع وتعددها فقال تعالى لما ذكر القبلة بعد الملة بقوله ( فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وان الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ) إلى قوله ( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ) فأخبر أن لكل أمة وجهة ولم يقل جعلنا لكل أمة وجهة بل قد يكون هم ابتدعوها كما ابتدعت النصارى وجهة المشرق بخلاف ما ذكره فى الشرع والمناهج فانه قال ( يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر ) إلى قوله
____________________
(19/112)
( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) وهذه الآيات نزلت بسبب الحكم فى الحدود والقصاص والديات أخبر أن التوراة ( يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما إستحفظوا ) وهذا عام فى النبيين جميعهم والربانيين والاحبار
ثم لما ذكر الانجيل قال ( وليحكم أهل الانجيل بما انزل الله فيه ) فامر هؤلاء بالحكم لأن الانجيل بعض ما فى التوراة واقر الاكثر والحكم بما انزل الله فيه حكم بما فى التوراة أيضا ثم قال ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) فأمره أن يحكم بما أنزل الله على من قبله لكل جعلنا من الرسولين والكتابين شرعة ومنهاجا أى سنة وسبيلا فالشرعة الشريعة وهى السنة والمنهاج الطريق والسبيل وكان هذا بيان وجه تركه لما جعل لغيره من السنة والمنهاج إلى ما جعل له ثم أمره أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه فالأول نهى له أن يأخذ بمنهاج غيره وشرعته والثانى وان كان حكما غير الحكم الذى أنزل نهى له ان يترك شيئا مما انزل فيها عن اتباع محمد الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل فمن لم يتبعه لم يحكم بما أنزل الله وان لم يكن من أهل الكتاب الذين أمروا أن يحكموا بما فيها مما يخالف حكمه
____________________
(19/113)
وقال تعالى فى الحج ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام ) ( ولكل امة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك فى الأمر ) وذكر فى أثناء السورة ( لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) فبين انه هو جعل المناسك وذكر مواضع العبادات كما ذكر فى البقرة الوجهة التى يتوجهون اليها وقال فى سورة الجاثية بعد أن ذكر بنى اسرائيل ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) الآية وقال فى النسخ ووجوب اتباعهم للرسول ( واذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ) إلى قوله ( وأنا معكم من الشاهدين ) وقال ( فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ) الآية والتى بعدها وقد تقدم ما فى البقرة وآل عمران من أمرهم بالايمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك فى سورة النساء وهو كثير فى القرآن
فصل قال الله تعالى لنا ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
____________________
(19/114)
واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا ) إلى قوله تعالى ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى قوله ( كنتم خير امة اخرجت للناس
فامرنا بملازمة الاسلام إلى الممات كما أمر الأنبياء جميعهم بالاسلام وان نعتصم بحبلة جميعا ولا نتفرق ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وذكر أنه تبيض وجوه وتسود وجوه قال بن عباس تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة وذكر انه يقال لهم ( أكفرتم بعد ايمانكم ) وهذا عائد إلى قوله ( ولا تموتن الا وأنتم مسلمون ) فأمر بملازمة الاسلام وبين ان المسودة وجوههم أهل التفرق والاختلاف يقال لهم أكفرتم بعد ايمانكم وهذا دليل على كفرهم وارتدادهم وقد تأولها الصحابه فى الخوارج
وهذا نظير قوله للرسل ( ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) وقد قال فى البقرة ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) الآية وقال ايضا ( ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شيء ) وقال تعالى ( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما
____________________
(19/115)
لديهم فرحون ) وقال تعالى ( وان اقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) وقال تعالى ( إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) الآية ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة ) الآية ونظيرها فى الجاثية
وقال الله تعالى ( يا ايها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم فان تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) وقال تعالى ( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولا خواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنواربنا إنك رؤوف رحيم ) فصل اذا كان الله تعالى قد أمرنا بطاعة الله وطاعة رسوله وأولى الامر منا وامرنا عند التنازع فى شيء أن نرده إلى الله والى الرسول وامرنا بالاجتماع والائتلاف ونهانا عن التفرق والاختلاف وأمرنا
____________________
(19/116)
أن نستغفر لمن سبقنا بالايمان وسمانا المسلمين وأمرنا ان ندوم عليه إلى الممات فهذه النصوص وما كان فى معناها توجب علينا الاجتماع فى الدين كاجتماع الأنبياء قبلنا فى الدين وولاة الأمور فينا هم خلفاء الرسول قال النبى فى الحديث الصحيح ( إن بنى اسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبى قام نبى وإنه لا نبى بعدى وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال اوفوا بيعة الأول فالأول وأدوا لهم الذى لهم فان الله سائلهم عما استرعاهم ( وقال ايضا ( العلماء ورثة الأنبياء ( وروى عنه أنه قال ( وددت أنى قد رأيت خلفائى قالوا ومن خلفاؤك قال الذين يحيون سنتى يعلمونها الناس ( فهؤلاء هم ولاة الأمر بعده وهم الأمراء والعلماء وبذلك فسرها السلف ومن تبعهم من الأئمة كالامام احمد وغيره وهو ظاهر قد قررناه فى غير هذا الموضع
فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والاجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها ومن دخل فيها كان من أهل الاسلام المحض وهم أهل السنة والجماعة وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء قال الله تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) وقال تعالى ( قد
____________________
(19/117)
جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ) وقال 0 يا أيهاالذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة ) والتنوع قد يكون فى الوجوب تارة وفى الاستحباب أخرى
فالأول مثل ما يجب على قوم الجهاد وعلى قوم الزكاة وعلى قوم تعليم العلم وهذا يقع فى فروض الأعيان وفى فروض الكفايات ففروض الأعيان مثل ما يجب على كل رجل إقامة الجماعة والجمعة فى مكانه مع أهل بقعته ويجب عليه زكاة نوع ماله بصرفه إلى مستحقه لجيران ماله ويجب عليه إستقبال الكعبة من ناحيته والحج إلى بيت الله من طريقه ويجب عليه بر والديه وصلته ذوى رحمه والاحسان إلى جيرانه وأصحابه ومماليكه ورعيته ونحو ذلك من الأمور التى تتنوع فيها أعيان الوجوب وان اشتركت الأمة فى جنس الوجوب وتارة تتنوع بالقدرة والعجز كتنوع صلاة المقيم والمسافر والصحيح والمريض والآمن والخائف
وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان ولها تنوع يخصها وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره فقد تتعين فى وقت ومكان وعلى شخص أو طائفة وفى وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخرى كما يقع مثل ذلك فى الولايات والجهاد والفتيا والقضاء وغير ذلك
____________________
(19/118)
وأما فى الاستحباب فهو أبلغ فان كل تنوع يقع فى الوجوب فانه يقع مثله فى المستحب ويزداد المستحب بان كل شخص انما يستحب له من الأعمال التى يتقرب بها إلى الله تعالى التى يقول الله فيها ( وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ) ما يقدر عليه ويفعله وينتفع به والأفضل له من الأعمال ما كان أنفع له وهذا يتنوع تنوعا عظيما فاكثر الخلق يكون المستحب لهم ما ليس هو الأفضل مطلقا اذ اكثرهم لا يقدرون على الأفضل ولا يصبرون عليه اذا قدروا عليه وقد لا ينتفعون به بل قد يتضررون اذا طلبوه مثل من لا يمكنه فهم العلم الدقيق اذا طلب ذلك فانه قد يفسد عقله ودينه أو من لا يمكنه الصبر على مرارة الفقر ولا يمكنه الصبر على حلاوة الغنى أولا يقدر على دفع فتنة الولاية عن نفسه والصبر على حقوقها
ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه عز وجل ( ان من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ( وقال النبى لأبى ذر لما سأله الامارة ( يا أبا ذر إنى أراك ضعيفا وانى أحب لك ما أحب لنفسى لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ( وروى عنه أنه قال للعباس عمه ( نفس تنجيها خير من امارة لا تحصيها ( ولهذا اذا قلنا هذا العمل أفضل فهذا قول مطلق
____________________
(19/119)
ثم المفضول يكون افضل فى مكانه ويكون أفضل لمن لا يصلح له الأفضل مثال ذلك أن قراءة القرآن أفضل من الذكر بالنص والاجماع والاعتبار
أما النص فقوله ( أفضل الكلام بعد القرآن اربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله أكبر ( وقوله ( فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ( وقوله عن الله ( من شغله قراءة القرآن عن ذكرى ومسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ( وقوله ( ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه ) وقول الاعرابى له انى لا استطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمنى ما يجزينى فى صلاتى فقال ( قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر )
وأما الاجماع على ذلك فقد حكاه طائفة ولا عبرة بخلاف جهال المتعبدة
وأما الاعتبار فان الصلاة تجب فيها القراءة فان عجز عنها انتقل إلى الذكر ولا يجزيه الذكر مع القدرة على القراءة والمبدل منه أفضل من البدل الذى لا يجوز إلا عند العجزعن المبدل
____________________
(19/120)
وايضا فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى كما تشترط للصلاة الطهارتان والذكر لا يشترط له الكبرى ولا الصغرى فعلم أن أعلى انواع ذكر الله هو الصلاة ثم القراءة ثم الذكر المطلق ثم الذكر فى الركوع والسجود أفضل بالنص والاجماع من قراءة القرآن وكذلك كثير من العباد قد ينتفع بالذكر فى الابتداء مالا ينتفع بالقراءة اذ الذكر يعطيه ايمانا والقرآن يعطيه العلم وقد لا يفهمه ويكون إلى الايمان احوج منه لكونه فى الابتداء والقرآن مع الفهم لأهل الايمان افضل بالاتفاق
فهذا وأمثاله يشبه تنوع شرائع الأنبياء فانهم متفقون على ان الله أمر كلا منهم بالدين الجامع وان نعبده بتلك الشرعة والمنهاج كما أن الامة الاسلامية متفقة على ان الله امر كل مسلم من شريعة القرآن بما هو مأمور به اما ايجابا وإما استحبابا وان تنوعت الأفعال فى حق أصناف الامة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم ولا اخطأ أحد منهم بل كلهم متفقون على ذلك يصدق بعضهم بعضا
____________________
(19/121)
فصل و
أما ما يشبه ذلك من وجه دون وجه فهو ما تنازعوا فيه مما اقروا عليه وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والامراء والملوك كاجتهاد الصحابة فى قطع اللينة وتركها واجتهادهم فى صلا ة العصر لما بعثهم النبى إلى بنى قريظة وأمرهم ان لا يصلوا العصر الا فى بنى قريظة فصلى قوم فى الطريق فى الوقت وقالوا انما اراد التعجل لا تفويت الصلاة وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت تمسكا بظاهر لفظ العموم فلم يعنف النبى صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين وقال ( اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله اجران واذا اجتهد فأخطأ فله أجر (
وقد اتفق الصحابة فى مسائل تنازعوا فيها على اقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم كمسائل فى العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك وحكم عمر أول عام فى الفريضة الحمارية بعدم التشريك وفى العام الثانى بالتشريك فى واقعة مثل الأولى ولما سئل عن ذلك قال تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضى
____________________
(19/122)
وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص انهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم
وتنازعوا فى مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحى وتعذيب الميت ببكاء اهله ورؤية محمد ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة
وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا ومنها ما المصيب فى نفس الأمر واحد عند الجمهور اتباع السلف والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة ادراكه وهل يقال له مصيب أو مخطىء فيه نزاع ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم فى نفس الامر
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا اثم على من اجتهد وإن أخطأ فهذا النوع يشبه النوع الأول من وجه دون وجه أما وجه المخالفة فلأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الاقرار على الخطأ بخلاف الواحد من العلماء والامراء فانه ليس معصوما من ذلك ولهذا يسوغ بل يجب ان نبين الحق الذى يجب اتباعه وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والامراء وأما الأنبياء فلا يبين أحدهما ما يظهر به خطأ الآخر وأما المشابهة فلأن كلا مأمور باتباع ما بان له من الحق بالدليل الشرعى كأمر النبى باتباع ما أوحى إليه
____________________
(19/123)
وليس لاحدهما أن يوجب على الآخر طاعته كما ليس ذلك لاحد النبيين مع الآخر وقد يظهر له من الدليل ما كان خافيا عليه فيكون انتقاله بالاجتهاد عن الاجتهاد ويشبه النسخ فى حق النبى لكن هذا رفع للإعتقاد وذاك رفع للحكم حقيقة وعلى الاتباع اتباع من ولى أمرهم من الامراء والعلماء فيما ساغ له اتباعه وأمر فيه باتباع اجتهاده كما على الامة اتباع أى نبى بعث اليهم وان خالف شرعه شرع الاول لكن تنوع الشرع لهؤلاء وانتقاله لم يكن لتنوع نفس الامر النازل على الرسول ولكن تنوع أحوالهم وهو ادراك هذا لما بلغه من الوحى سمعا وعقلا وعجز الآخر عن ادراك ذلك البلاغ اما سمعا لعدم تمكنه من سماع ذلك النص وإما عقلا لعدم فهمه لما فهمه الاول من النص واذا كان عاجزا سقط عنه الاثم فيما عجز عنه وقد يتبين لاحدهما عجز الآخر وخطؤه وتعذره فى ذلك وقد لا يتبين له عجزه وقد لا يتبين لكل منهما أيهما الذى أدرك الحق وأصابه
ولهذا امتنع من امتنع من تسمية مثل هذا خطأ قال لان التكليف مشروط بالقدرة فما عجز عنه من العلم لم يكن حكم الله فى حقه فلا يقال اخطأه
وأما الجمهور فيقولون أخطأه كما دلت عليه السنة والاجماع لكن خطؤه معذور فيه وهو معنى قوله عجز عن ادراكه وعلمه لكن
____________________
(19/124)
هذا لايمنع أن يكون ذاك هو مراد الله وماموره فان عجز الانسان عن فهم كلام العالم لايمنع أن يكون قد أراد بكلامه ذلك المعنى وان يكون الذى فهمه هو المصيب الذى له الأجران
ولهذا تنازع أصحابنا فيمن لم يصب الحكم الباطن هل يقال إنه مصيب فى الظاهر لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده واقتصاره أو لا يطلق عليه اسم الاصابة بحال وإن كان له اجر على اجتهاده وقصده الحق على قولين هما روايتان عن أحمد وذلك لأنه لم يصب الحكم الباطن ولكن قصد الحق وهل اجتهد الاجتهاد المأمور به التحقيق أنه اجتهد الاجتهاد المقدور عليه فهو مصيب من هذا الوجه من جهة المأمور المقدور وإن لم يكن مصيبا من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق
يوضح ذلك أن السلطان نوعان سلطان الحجة والعلم وهو أكثر ما سمى فى القرآن سلطانا حتى روى عن بن عباس أن كل سلطان فى القرآن فهو الحجة والثانى سلطان القدرة والعمل الصالح لا يقوم الا بالسلطانين فاذا ضعف سلطان الحجة كان الأمر بقدره واذا ضعف سلطان القدرة كان الأمر بحسبه والأمر مشروط بالقدرة على السلطانين فالاثم ينتفى عن الأمر بالعجز عن كل منهما وسلطان الله فى العلم هوالرسالة وهو حجة الله على خلقه كما قال تعالى
____________________
(19/125)
( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) وقال تعالى ( ان هي الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) وقال ( أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ) ونظائره متعددة
فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والامراء اذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الاهواء ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذى هو عبادة الله وحده لا شريك له واتبعوا ما أنزل اليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الامكان بعد الاجتهاد التام هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له وهو الدين الاصلى الجامع كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له ويثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به لا من شرعة رسوله ومنهاجه كما يثاب كل نبى على طاعة الله فى شرعه ومنهاجه
ويتنوع شرعهم ومناهجهم مثل أن يبلغ أحدهم الاحاديث بألفاظ غير الالفاظ التى بلغت الآخر وتفسر له بعض آيات القرآن بتفسير يخالف لفظه لفظ التفسير الآخر ويتصرف فى الجمع بين النصوص واستخراج الاحكام منها بنوع من الترتيب والتوفيق ليس هو النوع
____________________
(19/126)
الذى سلكه غيره وكذلك فى عباداته وتوجهاته وقد يتمسك هذا بآية أو حديث وهذا بحديث أو آية أخرى
وكذلك فى العلم من العلماء من يسلك بالاتباع طريقة ذلك العالم فتكون هي شرعهم حتى يسمعوا كلام غيره ويروا طريقته فيرجح الراجح منهما فتتنوع فى حقهم الاقوال والافعال السالفة لهم من هذا الوجه وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه كما أمرت الرسل بذلك ومأمورون بأن لا يفرقوا بين الأمة بل هي أمة واحدة كما أمرت الرسل بذلك وهؤلاء آكد فان هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد
وأما القدر الذى تنازعوا فيه فلا يقال ان الله أمر كلا منهم باطنا وظاهرا بالتمسك بما هو عليه كما أمر بذلك الانبياء وان كان هذا قول طائفة من أهل الكلام فانما يقال ان الله أمر كلا منهم أن يطلب الحق بقدر وسعه وامكانه فان اصابه والا فلا يكلف الله نفسا الا وسعها وقد قال المؤمنون ( ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او أخطأنا ) وقال الله قد فعلت وقال تعالى ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ) فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى من الله فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى
____________________
(19/127)
من الله ومن فعل ما أمر به بحسب حاله من اجتهاد يقدر عليه أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد وسلك فى تقليده مسلك العدل فهو مقتصد اذ الأمر مشروط بالقدرة ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) فعلى المسلم فى كل موطن أن يسلم وجهه لله وهو محسن ويدوم على هذا الاسلام فإسلام وجهه اخلاصه لله واحسان فعله الحسن فتدبر هذا فانه اصل جامع نافع عظيم
____________________
(19/128)
وقال شيخ الاسلام
هذه ( قاعدة عظيمة جامعة متشعبة ( وللناس فى تفاصيلها اضطراب عظيم حتى إن منهم من صار فى طرفى نقيض فى كلا نوعى الاحكام العلمية والاحكام العينية النظرية وذلك ان كل واحد من العلوم والاعتقادات والاحكام والكلمات بل والمحبة والارادات اما ان يكون تابعا لمتعلقه مطابقا له وإما أن يكون متبوعه تابعا له مطابقا له
ولهذا انقسمت الحق والحقائق والكلمات إلى موجود ومقصود إلى كونى ودينى إلى قدرى وشرعى كما قد بينته فى غير هذا الموضع وقد تنازع النظار فى العلم هل هو تابع للمعلوم غير مؤثر فيه بل هو انفعالى كما يقوله كثير من أهل الكلام أو المعلوم تابع له والعلم مؤثر فيه وهو فعلى كما يقوله كثير من أهل الفلسفة
والصواب أن العلم نوعان أحدهما تابع والثانى متبوع والوصفان يجتمعان فى العلم غالبا أو دائما فعلمنا بما لا يفتقر الى علمنا كعلمنا بوجود السماوات والارض وكذلك علمنا بالله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر والنبيين وغير ذلك
____________________
(19/129)
علم تابع انفعالى وعلمنا بما يقف على علمنا مثل ما نريده من أفعالنا علم فعلى متبوع وهو سبب لوجود المعلوم وكذلك علم الله بنفسه المقدسة تابع غير مؤثر فيها واما علمه بمخلوقاته فهو متبوع وبه خلق الله الخلق كما قال تعالى ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) فان الارادة مستلزمة للعلم فى كل مريد كما أن هذه الصفات مستلزمة للحياة فلا ارادة إلا بعلم ولا إرادة وعلم إلا بحياة وقد يجوز أن يقال كله علم فهو تابع للمعلوم مطابق سواء كان سببا فى وجود المعلوم أو لم يكن فيكون اطلاق المتكلمين أحسن وأصوب من اطلاق المتفلسفة ان كل علم فهو فعلى متبوع
وما أظن العقلاء من الفريقين الا يقصدون معنى صحيحا وهو أن يشيروا إلى ما تصوروه فينظر هؤلاء فى ان العلم تابع لمعلومه مطابق له ويشير هؤلاء إلى ما فى حسن العلم فى الجملة من أنه قد يؤثر فى المعلوم وغيره ويكون سببا له وأن وجود الكائنات كان بعلم الله وعلم الانسان بما هو حق أو باطل وهدى أو ضلال ورشاد أو غى وصدق أو كذب وصلاح أو فساد من اعتقاداته واراداته وأقواله وأعماله ونحو ذلك يجتمع فيه الوصفان بل غالب العلم أو كله يجتمع فيه الأمران
ولهذا كان الايمان قولا وعملا قول القلب وعمله وقول الجسد
____________________
(19/130)
وعمله فانه من عرف الله أحبه فعمله بالله تابع للمعلوم ومتبوع لحبه لله ومن عرف الشيطان أبغضه فمعرفته به تابعة للمعلوم ومتبوعة لبغضه وكذلك عامة العلم لابد أن يتبعه أثر ما فى العالم من حب أو غيره حتى علم الرب سبحانه بنفسه المقدسة يتبعه صفات وكلمات وأفعال متعلقة بنفسه المقدسة فما من علم الا ويتبعه حال ما وعمل ما فيكون متبوعا مؤثرا فاعلا بهذا الاعتبار وما من علم إلا وهو مطابق لمعلومه موافق له سواء كان المعلوم مستغنيا عنه أو كان وجود المعلوم بوجوده فيكون تابعا منفعلا مطابقا بهذا الاعتبار لكن كل علم وان كان له تأثير فلا يجب أن يكون تأثيره فى معلومه فان من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فأحب الله وملائكته وأنبياءه والجنة وأبغض النار لم يكن علمه بذلك مؤثرا فى المعلوم وإنما أثر فى محبة المعلوم وإرادته أو فى بغضه وكراهته لذلك
وإن كان كل علم فانه مطابق للمعلوم لكن قد يكون ثبوت المعلوم فى ذهن العالم وتصوره قبل وجوده فى الخارج كتصور الانسان لأقواله وأعماله وقد يكون وجوده فى الخارج قبل تصور الانسان له وعلمه او بدون تصور الانسان له فلهذا التفريق حصل التقسيم الذى قدمناه من أنه ينقسم إلى مؤثر فى المعلوم وغير مؤثر فيه والى تابع للمعلوم وغير تابع له وان كان كل علم فان له أثرا فى نفس العالم وان كان
____________________
(19/131)
كل علم فانه تابع تبع المطابقة والموافقة وإن لم يكن بعضه تابعا تبع التأخر والتأثر والافتقار والتعلل
فهذه مقدمة جامعة نافعة جدا فى أمور كثيره إذا تبين هذا فى جنس العلم ظهر ذلك فى الاعتقاد والرأى والظن ونحو ذلك الذى قد يكون علما وقد لايكون علما بل يكون اعتقادا صحيحا أو غير صحيح أو ظنا صحيحا او غير صحيح أو غير ذلك من أنواع الشعور والاحساس والادراك فان هذا الجنس هو الأصل فى الحركات والأفعال الروحانية والجسمانية ما كان من جنس الحب والبغض وغير ذلك وما كان من جنس القيام والقعود وغير ذلك فان جميع ذلك تابع للشعور مفتقر إليه مسبوق به والعلم أصل العمل مطلقا وإن كان قد يكون فرعا لعلوم غير العمل كما تقدم
فالاعتقاد تارة يكون فرعا للمعتقد تابعا له كاعتقاد الأمور الخارجة عن كسب العبد كاعتقاد المؤمنين والكفار فى الله تعالى وفى اليوم الآخر وقد يكون أصلا للمعتقد متبوعا له كاعتقاد المعتقد وظنه أن هذا العمل يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضره إما فى الدنيا وإما فى الآخرة مثل اعتقاده أن أكل هذا الطعام يشبعه وأن تناول هذا السم يقتله وأن هذه الرمية تصيب هذا الغرض وهذه الضربة تقطع هذا العنق وهذا البيع والتجارة يورثه ربحا أوخسارة وأن
____________________
(19/132)
صلاته وزكاته وحجه وبره وصدقه ونحو ذلك من الأعمال الصالحة يورثه السعادة فى الدنيا والآخرة وأن كفره وفسوقه وعصيانه يورثه الشقاوة فى الدنيا والآخرة
وهذا باب واسع تدخل فيه الديانات والسياسات وسائر الأعمال الدينية والدنيوية ويشترك فيه الدين الصحيح والفاسد لكن هذا الاعتقاد العملى لابد أن يتعلق أيضا بأمور غير العمل فان اعتقاده أن هذا العمل ينفعه فى الدنيا والآخرة أو يضره يتعلق أيضا بصفات ثابته الأعيان لا يتعلق باعتقاده كما أن الاعتقاد النظرى وإن كان معتقده غير العمل فانه يتبعه عمل كما تقدم أن كلا من الاعتقادين تابع متبوع
والأحكام أيضا من جنس الاعتقادات فانه أيضا ينقسم قسمين أحكام عينيه تابعة للمحكوم فيه كالحكم بما يستحقه الله تعالى من الحمد والثناء وما يتقدس عنه من الفقر والشركاء وأحكام عملية يتبعها المحكوم فيه كالحكم بأن هذا العمل حسن او قبيح صالح او فاسد خير أو شر نافع أو ضار واجب أو محرم مأمور به أو منهى عنه رشاد أوغى عدل أو ظلم وكذلك الكلمات فانها تنقسم إلى خبرية وإنشائية فالكلمات الخبرية
____________________
(19/133)
تطابق المخبر عنه وتتبعه وهى موافقة للعلم التابع والاعتقاد التابع والحكم التابع والكلمات الانشائية مثل الأمر والنهى والاباحة تستتبع المتكلم فيه المأمور به والمنهى عنه والمباح وتكون سببا فى وجوده أو عدمه كالعلم المتبوع والاعتقاد المتبوع وهو الحكم العملي
إذا عرف هذان النوعان فمن الناس من يسمى العلم والاعتقاد والحكم والقول الخبرى التابع علم الأصول وأصول الدين أو علم الكلام أو الفقه الأكبر ونحو ذلك من الأسماء المتقاربه وإن اختلفت فيها المقاصد والاصطلاحات ويسمى النوع الآخر علم الفروع وفروع الدين وعلم الفقه والشريعة ونحو ذلك من الأسماء وهذا اصطلاح كثير من المتفقهة والمتكلمة المتأخرين
ومن الناس من يجعل أصول الدين اسما لكل ما اتفقت فيه الشرائع مما لا ينسخ ولا يغير سواء كان علميا أو عمليا سواء كان من القسم الأول أو الآخر حتى يجعل عبادة الله وحده ومحبته وخشيته ونحو ذلك من أصول الدين وقد يجعل بعض الأمور الاعتقادية الخبرية من فروعه ويجعل اسم الشريعة ينتظم العقائد والأعمال ونحو ذلك وهذا اصطلاح غلب على أهل الحديث والتصوف وعليه أئمة الفقهاء وطائفة من أهل الكلام
____________________
(19/134)
فصل
إذا تبين هذا فمن الناس من صار فى طرفى نقيض فحكى عن بعض السوفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة فى الاعتقادات ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة فى نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى بل جعل الحق فى كل شيء ما اعتقده المعتقد وجعل الحقائق تابعه للعقائد وهذا القول على اطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل وإنما هو من جنس ما يحكى أن السوفسطائية أنكروا الحقائق ولم يثبتوا حقيقة ولا علما بحقيقة وأن لهم مقدما يقال له سوفسطا كما يذكره فريق من أهل الكلام
وزعم آخرون ان هذا القول لا يعرف أن عاقلا قاله ولا طائفة تسمى بهذا الاسم وإنما هي كلمة معربة من اللغة اليونانية ومعناها الحكمة المموهة يعنون الكلام الباطل الذى قد يشبه الحق كما قد يتخيله الانسان لفساد عقله أو مزاجه أو اشتباه الأمر عليه وجعلوا
____________________
(19/135)
هذا نوعا من الكلام والرأى يعرض للنفوس لا أنه صنف من الآدميين
وبكل حال فمعلوم أن التخيلات الفاسدة كثيرا ما تعرض لبنى آدم بل هي كثيرة عليهم وهم يجحدون الحق إما عنادا وإما خطأ فى أمور كثيرة وفى أحوال كثيرة وإن كان الجاحد قد يقر بحق آخر أو يقر بذلك الحق فى وقت آخر فالجهل والعناد الذى هو السفسطة هو فيهم خاص مقيد لا أنه عام مطلق قد يبتلى به بعضهم مطلقا وان لم يستمر به الأمر وقد يبتلى به فى شيء بعينه على سبيل الدوام واما ابتلاء الشخص المعين به فقد يكون اما مع فساد العقل المسقط للتكليف وهو الجنون وإما مع صحة العقل المشروط فى التكليف فما أعلم شخصا جاهلا بكل شيء معاندا لكل شيء حتى يكون سوفسطائيا
ومما يبين أن هذا لم يقع عند المتكلمة أيضا أن كثيرا من متكلمة أهل الحديث والسنة وغيرهم يقولون إن العقل المشروط فى التكليف نوع من العلوم الضرورية كالعلم بوجوب الواجبات وجواز الجائزات وامتناع الممتنعات واستدلوا على ذلك بأن العاقل لا يخلو من علم شيء من ذلك وهذا قول القاضي أبى بكر وبن الباقلانى وأبى الطيب الطبرى والقاضى أبى يعلى وبن عقيل وغيرهم فمن كان هذا
____________________
(19/136)
قوله لم يصح أن يحكى عن عاقل أنه أنكر العلوم جميعها إلا على سبيل العناد ومعلوم أن العناد لا يكون إلا لغرض وليس لأحد غرض أن يعاند فى كل شيء ويجحده على سبيل الدوام
ومن الناس بازاء هؤلاء من قد يتوهم أنه لا تأثير للعقائد فى المعتقدات ولا تختلف الأحكام باختلاف العقائد بل يتخيل أنه إذا اعتقد وجوب فعل أو تحريمه كان من خرج عن اعتقاده مبطلا مرتكبا للمحرم أو تاركا للواجب وأنه يستحق من الذم والعقاب ما يستحقه جنس من ترك الواجب او فعل المحرم واذا عورض بأنه متأول او مجتهد لم يلتفت إلى هذا وقال هو ضال مخطىء مستحق للعقاب وهذا ايضا على اطلاقه وعمومه لايعتقده صحيح العقل والدين ما أعلم قائلا به على الاطلاق والعموم كالطرف الأول وإنما أعلم أقواما وطوائف يبتلون ببعض ذلك ولوازمه فى بعض الأشياء فان من غالب من يقول بعصمة الأنبياء والأئمة الأثنى عشر عن الخطأ فى الأقوال والأعمال من قد يرى أنه لو أخطأ الامام فى فعل لكان ذلك عيبا وذما وبين هذين الطرفين المتباعدين أطراف ايضا نشأ عنها اختلاف الناس فى تصويب المجتهدين وتخطئتهم فى الأصول والفروع كما سننبه عليه إن شاء الله
____________________
(19/137)
فصل
والمتحقق أن الأحكام والأقوال والاعتقادات كما تقدم نوعان عيني وعملى تابع للمعتقد ومتبوع للمعتقد فرع للمعتقد وأصل له
فأما الأول وهوالعينى التابع للمعتقد المتفرع عليه فهذا لا تؤثر فيه الاعتقادات ولا يختلف باختلافها فان حقائق الموجودات ثابتة فى نفسها سواء اعتقدها الناس او لم يعتقدوها وسواء اتفقت عقائدهم فيها او اختلفت واذ اختلف الناس فيها على قولين متناقضين لم يكن كل مجتهد مصيبا بمعنى ان قوله مطابق للمعتقد موافق له لايقول ذلك عاقل كما تقدم ومن حكى عن أحد من علماء المسلمين سواء كان عبيد الله بن الحسن العنبرى أو غيره أنه قال كل مجتهد فى الأصول مصيب بمعنى أن القولين المتناقضين صادقان مطابقان فقد حكى عنه الباطل بحسب توهمه وإذا رد هذا القول وأبطله فقد أحسن فى رده وابطاله وإن كان هذا القول المردود لا قائل به
ولكن المنازعات والمخالفات فى هذا الجنس تشتمل على أقسام وذلك أن التنازع إما أن يكون فى اللفظ فقط أو فى المعنى فقط او فى كل منهما أو فى مجموعهما
____________________
(19/138)
فان كان فى المعنى مع اللفظ أو بدونه فلايخلو اما أن يتناقض المعنيان أو يمكن الجمع بينهما فان كان النزاع فى المعنيين المتناقضين فأحد القولين صواب والآخر خطأ وأما بقية الأقسام فيمكن فيها أن يكون القولان صوابا ويمكن أن يكون الجميع خطأ ويمكن أن يكون كل منهما أو احدهما صوابا من وجه خطأ من وجه وحيث كان القولان خطأ وقد لايكون واذا لم يكن كفرا فقد يكون فسوقا وقد لا يكون فمن قال ان المتنازعين كل منهما صواب بمعنى الاصابة فى بعض الأقسام المتقدمة أو بمعنى أنه لا يعاقب على ذلك فهذا ممكن وأما تصويب المتناقضين فمحال فانه كثيرا ما يكون النزاع فى المعنى نزاع تنوع لا نزاع تضاد وتناقض فيثبت أحدهما شيئا وينفى الآخر شيئا آخر ثم قد لا يشتركان فى لفظ ما نفاه أحدهما وأثبته الآخر وقد يشتركان فى اللفظ فيكون التناقض والاختلاف فى اللفظ وأما المعنى فلا يختلفان فيه ولا يتناقضان
ثم قد يكونان متفقين عليه يقوله كل منهما وقد يكون أحدهما قاله أو يقوله والآخر لا يتعرض له باثبات ولا نفى وقد يكون النزاع اللفظى مع اتحاد المعنى لا تنوعه وكثير من تنازع الأمة فى دينهم هو من هذا الباب في الأصول والفروع والقرآن والحديث وغير ذلك
مثال التنوع الذى ليس فيه نزاع لفظى أن يقول أحدهما الصراط
____________________
(19/139)
المستقيم هو الاسلام ويقول الآخر هو السنة والجماعة ويقول الآخر هو القرآن ويقول الآخر هو طريق العبودية فان هذا تنوع فى الأسماء والصفات التى يبين بها الصراط المستقيم بمنزلة اسماء الله وأسماء رسوله وكتابه وليس بينها تضاد لا فى اللفظ ولا فى المعنى
وكذلك إذا 6 قال بعضهم فى السابق والمقتصد والظالم أقوالا يذكر فيها كل قوم نوعا من المسلمين ويكون الاسم متناولا للجميع من غير منافاة
ومثال التنوع الذى فيه نزاع لفظى لأجل اشتراك اللفظ كما قيل اكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء تنازع قوم فى ان محمدا رأى ربه فى الدنيا أو فى الآخرة فقال قوم رآه فى الدنيا لأنه رآه قبل الموت وقال آخرون بل فى الآخرة لأنه رآه وهو فوق السماوات ولم يره وهو فى الأرض والتحقيق أن لفظ الآخرة يراد به الحياة الدنيا والحياة الآخرة ويراد به الدار الدنيا والدار الآخرة ومحمد رأى ربه فى الحياة الدنيا فى الدار الآخرة
وكذلك كثير ممن يتنازعون فى أن الله فى السماء أو ليس فى السماء فالمثبته تطلق القول بان الله فى السماء كما جاءت به النصوص ودلت عليه بمعنى أنه فوق السماوات على عرشه بائن من خلقه وآخرون ينفون
____________________
(19/140)
القول بان الله فى السماء ومقصودهم أن السماء لا تحويه ولا تحصره ولا تحمله ولا تقله ولا ريب أن هذا المعنى صحيح أيضا فان الله لا تحصره مخلوقاته بل وسع كرسيه السماوات والأرض والكرسى فى العرش كحلقة ملقاه بأرض فلاة وكذلك ليس هو مفتقرا إلى غيره محتاجا إليه بل هو الغنى عن خلقه الحى القيوم الصمد فليس بين المعنيين تضاد ولكن هؤلاء أخطأوا فى نفى اللفظ الذى جاء به الكتاب والسنة وفى توهم ان اطلاقه دال على معنى فاسد
وقد يعذر بعضهم إذا رأى من أطلق هذا اللفظ وأراد به أن السماء تقله أو تظله واذا أخطأ من عنى هذا المعنى فقد أصاب وأما الأول فقد أصاب فى اللفظ لا طلاقه ما جاء به النص وفى المعنى الذى تقدم لأنه المعنى الحق الذى دل عليه النص لكن قد يخطىء بعضهم فى تكفير من يطلق اللفظ الثانى إذا كان مقصوده المعنى الصحيح فان من عنى المعنى الصحيح لم يكفر باطلاق لفظ وان كان مسيئا أو فاعلا أمرا محرما وأما من فسر قوله انه ليس فى السماء بمعنى أنه ليس فوق العرش وانما فوق السماوات عدم محض فهؤلاء هم الجهمية الضلال المخالفون لاجماع الأنبياء ولفطرة العقلاء
____________________
(19/141)
{ فصل } ونحن نذكر من ذلك أصولا
أحدها تأثير الاعتقادات فى رفع العذاب والحدود فنقول ان الاحكام الشرعية التى نصبت عليها ادلة قطعية معلومة مثل الكتاب والسنة المتواترة والاجماع الظاهر كوجوب الصلاة والزكاة والحج والصيام وتحريم الزنى والخمر والربا اذا بلغت هذه الأدلة للمكلف بلاغا يمكنه من اتباعها فخالفها تفريطا فى جنب الله وتعديا لحدود الله فلا ريب انه مخطىء آثم وان هذا الفعل سبب لعقوبه الله فى الدنيا والآخرة فان الله أقام حجته على خلقه بالرسل الذين بعثهم اليهم مبشرين ومنذرين ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) قال تعالى عن أهل النار ( كلما القى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء أن أنتم الا فى ضلال كبير ) وقال تعالى ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى اذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها الم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم
____________________
(19/142)
لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين )
وأما إذا كان فى الفعل والحادثه والمسألة العملية نص لا يتمكن المكلف من معرفته ومعرفة دلالته مثل أن يكون الحديث النبوى الوارد فيها عند شخص لم يعلم به المجتهد ولم يشعر بما يدله عليه أو تكون دلالته خفيه لا يقدر المجتهد على فهمها أو لم يكن فيها نص بحال فهذا مورد نزاع فذهب فريق من أهل الكلام مثل أبى على وأبى هاشم والقاضى أبى بكر والغزالى إلى قول مبتدع يشبه فى المجتهدات قول الزنادقة الاباحية فى المنصوصات وهو أنه ليس لهذه الحادثة حكم عند الله فى نفس الأمر وانما حكمه فى حق كل مكلف يتبع اجتهاده واعتقاده فمن اعتقد وجوب الفعل فهو واجب عليه ومن اعتقد تحريمه فهو حرام عليه وبنوا ذلك على مقدمتين
احداهما أن الحكم انما يكون بالخطاب فما لا خطاب فيه لا حكم لله فيه فاذا لم يكن للعقل فيه حكم اما لعدم الحكم العقلى مطلقا او فى هذه الصورة علم أنه لا حكم فيه يكون من اصابه مصيبا ومن أخطأه مخطئا
الثانى انه قد علم أن من اعتقد وجوب شيء فعليه فعله ومن
____________________
(19/143)
اعتقد تحريمه فعليه اجتنابه فالحكم فيه يتبع الاعتقاد قالوا والأحكام الشرعية تختلف باختلاف أحوال المكلفين فى إجتهاداتهم وغير اجتهاداتهم بدليل اتفاق الفقهاء واهل السنة على أن الاجتهاد والاعتقاد يؤثر فى رفع الاثم والعقاب كما جاءت به النصوص وأن الوجوب والتحريم يختلف بالاقامة والسفر والطهارة والحيض والعجز والقدرة وغير ذلك فيجوز أن تختلف الأحكام باختلاف الاعتقادات ويكون الحكم فى حق المجتهد عند عدم النص ما اعتقده هذا ملخص قولهم وأما السلف والفقهاء والصوفية والعامة وجمهور المتكلمين فعلى انكار هذا القول وأنه مخالف للكتاب والسنة واجماع السلف بل هو مخالف للعقل الصريح حتى قال أبو إسحاق الاسفرائينى وغيره هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة يعنى أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه فمن قال ان الإيجاب والتحريم يتبع الإعتقادات فقد سفسط فى الأحكام العملية وان لم يكن مسفسطا فى الاحكام العينية وقد قدمنا أنه لم تجر العادة بان عاقلا يسفسط فى كل شيء لا خطأ ولا عمدا لا ضلالا ولا عنادا لا جهلا ولا تجاهلا واما كون آخره زندقة فلأنه يرفع الأمر والنهى والايجاب والتحريم والوعيد فى هذه الأحكام ويبقى الانسان ان شاء أن يوجب وان شاء
____________________
(19/144)
أن يحرم وتستوى الاعتقادات والأفعال وهذا كفر وزندقة
وجماع الكلام على هؤلاء فى مقامين
أحدهما امتناع هذا القول في نفسه واستحالته وذلك معلوم بالعقل والثاني أنه لو كان جائزا فى العقل لكن لم يرد به الشرع بل هو مخالف له وتعرف مخالفته للنص والاجماع أما الأول فمن وجوه
أحدها أنه قد تقدم ان كل علم واعتقاد وحكم لابد له من معلوم معتقد محكوم به يكون الاعتقاد مطابقا له موافقا سواء كان للاعتقاد تأثير فى وجوده أو لم يكن فان الاعتقادات العملية المؤثرة في المعتقد مثل اعتقاد ان أكل هذا الخبز يشبع واعتقاد أن أكل هذا السم يقتل وان كان هذا الاعتقاد يؤثر فى وجود الأكل مثلا فلا بد له من معتقد ثابت بدونه وهو كون أكل ذلك الخبز موصوفا بتلك الصفة والأكل فان كان معدوما قبل وجوده فان محله وهو الخبز والأكل موجودان فان لم يكن الخبز متصفا بالاشباع اذا أكل والأكل متصفا بأنه يشبع اذا أكله لم يكن الاعتقاد صحيحا بل
____________________
(19/145)
فاسدا كما لو اعتقد فى شيء انه رغيف فاكله فاذا هو جص او جبصين فان اعتقاده وان أقدم به على الأكل فانه لا يشبعه لفساد الاعتقاد وهكذا من اعتقد فى شيء أنه ينفعه أو يضره فان الاعتقاد يدعوه إلى الفعل او الترك ويبعثه على ذلك فان كان مطابقا حصلت المنفعة واندفعت المضرة اذا انتفت الموانع والا فمجرد الانتفاع بالفعل او الضرر به لا يوجب حصول المنفعة والمضرة وانما هذا قول بعض جهال الكفار لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه فيجعلون الانتفاع بالشيء تبعا لظن المنفعة فيه
وقد اعتقد المشركون الانتفاع بالاصنام التى قال الله فيها ( يدعو لمن ضره اقرب من نفعه ( فاذا اعتقد المعتقد ان هذا الفعل مأمور به أمر استحباب يثيب الله عليه ثواب الفعل المستحب أو أمر ايجاب يعاقب من تركه عقوبة العاصى او اعتقد ان الله نهى عنه كذلك فهو معتقد اما صفة فى ربه فقط من الأمر والنهي وهي صفة إضافية للفعل كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من اصحابنا وغيرهم واما صفة فى الفعل فقط من الحسن والقبح والامر والنهى كاشفة لذلك كما يقوله طائفة من المتكلمة والفقهاء من اصحابنا وغيرهم وإما ثبوت الصفتين جميعا للأمر والمأمور به كما عليه جمهور الفقهاء وهو انما يعتقد وجود تلك الصفة التى هي الحكم الشرعى لاعتقاده انها ثابتة فى
____________________
(19/146)
نفسها موجودة بدون اعتقاده لا أنه يطلب باعتقاده أن يثبت للأمر والفعل صفة لم تكن له قبل ذلك اذ ليس لأحد من المجتهدين غرض فى ان يثبت للأفعال احكاما باعتقاده ولا ان يشرع دينا لم يأذن به الله وإنما مطلوبه ان يعتقد حكم الله ودينه ولا له مقصود ان يجيء إلى الأفعال المتساوية فى ذواتها وفي أمر الله فيعتقد فى أحدها الوجوب على نفسه وفى الآخر التحريم من غير سبب تختص به الأفعال
فهذا موضع ينبغى تدبره فان المؤمن الطالب لحكم الله اذا علم ان تلك الأفعال عند الله سواء لم يميز بعضها عن بعض بامر ولا نهي وهى فى أنفسها سواء لم يميز بعضها عن بعض بحسن ولا سوء ولا مصلحة ولا مفسدة فان هذا الاعتقاد منه موجب لاستوائها وتماثلها فاعتقاده بعد هذا أن هذا واجب يذم تاركه وهذا حرام يعاقب فاعله تناقض فى العقل وسفسطة وكفر فى الدين وزندقة
أما الأول فلأن اعتقاد التساوى والتماثل ينافى اعتقاد الرجحان والتفضيل فضلا عن وجوب هذا وتحريم هذا فكيف يجمع العاقل بين الاعتقادين المتناقضين الا أن يكون اخرق كافرا فيقول أنا اوجب هذا وأحرم هذا بلا أمر من الله ولا مرجح لاحدهما من جهة العقل فإذا فعل هذا كان شارعا من الدين لما لم يأذن به الله وهو مع هذا دين معلوم الفساد بالعقل حيث جعل الأفعال المستوية
____________________
(19/147)
بعضها واجب وبعضها محرم بلا سبب يوجب التخصيص الا محض التحكم الذى لا يفعله حيوان اصلا لا عاقل ولا مجنون اذ لو فرض اختصاص احد الفعلين لشهوة او لذة امكن ان يقال تلك جهة توجب الترجيح وهى جهة حسن عند من يقول بالتحسين العقلي فيجب لذلك والغرض انتفاء ذلك جميعه واذا انتفى ذلك كله علم أن اعتقاد حسن الفعل وقبحه ووجوبه وتحريمه يتبع امرا ثابتا فى نفسه يكون مطابقا له او غير مطابق واذا كان كذلك فالاعتقاد المطابق صواب والاعتقاد المخالف ليس بصواب لا ان الحكم يتبع الاعتقاد من كل وجه
الثانى ان الطالب المستدل بالدليل ليستبين له الأحكام هو يطلب العلم بمدلول الدليل فإن لم يكن للدليل مدلول وإنما مدلول الدليل يحصل عقب التأمل لم يكن مطلوبه العلم بالمدلول وانما مطلوبه وجود المدلول وليس هذا شأن الأدلة التى تبين المدلولات وانما هو شأن الأسباب والعلل توجد المسببات وفرق كثير بين الدليل المقتضى للعلم القائم بالقلب وبين العلم المقتضى للوجود القائم فى الخارج فان مقتضى الأول الاعتقاد الذهنى ومقتضى الثانى الوجود الخارجى وأحد النوعين مباين للآخر
____________________
(19/148)
فصل
وأما الأحكام والاعتقادات والأقوال العملية التى يتبعها المحكوم فهي الأمر والنهى والتحسين والتقبيح واعتقاد الوجوب والتحريم ويسميها كثير من المتفقهة والمتكلمة الأحكام الشرعية وتسمى الفروع والفقه ونحو ذلك وهذه تكون فى جميع الملل والاديان وتكون فى الامور الدنيوية من السياسات والصناعات والمعاملات وغير ذلك وهي التى قصدنا الكلام عليها فى هذه القاعدة حيث قلنا ان الاعتقادات قد تؤثر فى الاحكام الشرعية فهذه ايضا الناس فيها طرفان ووسط
الطرف الأول طرف الزنادقة الاباحية الكافرة بالشرائع والوعيد والعقاب فى الدار الآخرة الذين يرون ان هذه الأحكام تتبع الاعتقاد مطلقا والاعتقاد هو المؤثر فيها فلا يكون الشيء واجبا الا عند من اعتقد تحريمه ويرون أن الوعيد الذي يلحق هؤلاء هو عذاب نفوسهم بما اعتقدوه من الأمر والنهى والايجاب والتحريم وما اعتقدوه من أنهم إذا فعلوا المحرمات وتركوا الواجبات عذبوا وعوقبوا فيبقى فى
____________________
(19/149)
نفوسهم خوف وتألم وتوهم للعذاب وتخيل له فيزعمون ان هذا الألم الناشىء عن هذا الاعتقاد والتخيل هو عقابهم وعذابهم وذاك ناشىء عما اعتقدوه كمن اعتقد ان هنا اسدا او لصا او قاطع طريق من غير ان يكون له وجود فيتألم ويتضرر بخوفه من هذا المحذور الذى اعتقده فاجتمع اعتقاد غير مطابق ومعتقد يؤلم وجوده فتألمت النفس بهذا الاعتقاد والتخيل وقد يقول حذاق هؤلاء من الاسماعيلية والقرامطة وقوم يتصوفون او يتكلمون وهم غالية المرجئة ان الوعيد الذى جاءت به الكتب الالهية انما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير ان يكون له حقيقة بمنزلة ما يخوف العقلاء الصبيان والبله بما لا حقيقة له لتأديبهم وبمنزلة مخادعة المحارب لعدوه اذا اوهمه امرا يخافه لينزجر عنه او ليتمكن هو من عدوه وغير ذلك
وهؤلاء هم الكفار برسل الله وكتبه واليوم الآخر المنكرون لأمره ونهيه ووعده ووعيده وما ضربه الله فى القرآن من الأمثال وقصة من اخبار الأمم المكذبة للرسل فهو متناول لهؤلاء ويكفى ما عاقب الله به اهل الكفر والفسوق والعصيان فى الدنيا من انواع المثلات فانه امر محسوس مشاهد لا يمكن دفعه وما من احد الا قد سمع من ذلك انواعا او رأى بعضه
وأهل الأرض متفقون على أن الصادق البار العادل ليس حاله كحال
____________________
(19/150)
الكاذب الفاجر الظالم بل يرون من ثواب الحسنات وعقوبة السيئات ما فيه عبرة ومزدجر كما كانوا عليه فى الجاهلية قبل الرسل فلما جاءت الرسالة بوعيد الآخرة بين ذلك ما كان الناس عنه غافلين
الطرف الثانى طرف الغالية المتشددين الذين لا يرون للاعتقاد اثرا فى الأفعال بل يقول غاليتهم كقوم من متكلمة المعتزلة ان لله حكما فى كل فعل من أخطأه كان آثما معاقبا فيرون المسلم العالم المجتهد متى خفى عليه دليل شرعى وقد اجتهد واستفرغ وسعه فى طلب حكم الله انه آثم معاقب على خطئه فهذا قولهم فى الاجتهاد والاعتقاد ثم اذا ترك واجبا او فعل محرما قالوا بنفوذ الوعيد فيه فيوجبون تخليد فساق اهل الملة فى النار وهذا قول جمهور المعتزلة والخوارج ولكن الخوارج يكفرون بالذنب الكبير او الصغير عند بعضهم واما المعتزلة فيقولون هو في منزلة بين منزلتين لا مؤمن ولا كافر
وأما الأمة الوسط فعلى ان الاعتقاد قد يؤثر فى الأحكام وقد لا يؤثر بحسب الأدلة والأسباب كما ان ذلك هو الواقع فى الامور الطبيعية فالاغذية والادوية قد يختلف حكمها بحسب اعتقاد الطبيب والمتداوى وقد لا يختلف وقد يعتقد الانسان فى الشيء صفة نافعة أو ضارة فينتفع به أو يتضرر وان لم يكن كذلك وقد يعتقد ذلك
____________________
(19/151)
فلا يؤثر فلو اعتقد فى الخبز واللحم أنه غير مشبع لم يؤثر ذلك بل هو مشبع ولو اعتقد ضد ذلك فصل
مذاهب الأئمة تؤخذ من اقوالهم وأما افعالهم فقد اختلف اصحابنا فى فعل الامام احمد هل يؤخذ منه مذهبه على وجهين
أحدهما لا لجواز الذنب عليه او ان يعمل بخلاف معتقده او يكون عمله سهوا او عادة او تقليدا او لسبب ما غير الاعتقاد الذى يفتى به فان عمل المرء بعلمه فى كل حادثة والا يعمل الا بعلم يفتى به فى كل حادثة يفتقر إلى ان يكون له فى ذلك رأى وان يذكره وان يكون مريدا له من غير صارف اذ الفعل مع القدرة يقف على الداعى والداعى هو الشعور وميل القلب
والثانى بل يؤخذ منه مذهبه لما عرف من تقوى ابي عبد الله وورعه وزهده فإنه كان من أبعد الناس عن تعمد الذنب وان لم ندع فيه العصمة لكن الظاهر والغالب أن عمله موافق لعلمه فيكون الظاهر فيما عمله أنه مذهبه وهكذا القول فيمن يغلب عليه التقوى
____________________
(19/152)
والورع وبعضهم أشد من بعض فكل ما كان الرجل اتقى لله واخشى له كان ذلك اقوى فيه وابو عبد الله من اتقى الأمة واعظمهم زهدا وورعا بل هو فى ذلك سابق ومقدم كما تشهد به سيرته وسيرة غيره المعروفة عند الخاص والعام
وكذلك أصحاب الشافعى لما رأوا نصه انه لا يجوز بيع الباقلا الاخضر ثم انه اشتراه فى مرضه فاختلف اصحابه هل يخرج له فى ذلك مذهب على وجهين وقد ذكروا مثل هذا فى اقامة جمعتين فى مكان واحد لما دخل بغداد فاذا قلنا هو مذهب الامام احمد فهل يقال فيما فعله انه كان افضل عنده من غيره هذا اضعف من الأول فان فعله يدل على جوازه فيما ليس من تعبداته واذا كان متعبدا به دل على انه مستحب عنده او واجب اما كونه افضل من غيره عنده فيفتقر إلى دليل منفصل وكثيرا ما يعدل الرجل عن الأفضل إلى الفاضل لما فى الأفضل من الموانع وما يفتقر إليه من الشروط او لعدم الباعث واذا كان فعله جائزا او مستحبا او افضل فانه لا عموم له فى جميع الصور بل لا يتعدى حكمه الا إلى ما هو مثله فان هذا شأن جميع الأفعال لا عموم لها حتى فعل النبى لا عموم له
ثم يقال فعل الأئمة وتركهم ينقسم كما تنقسم افعال النبى صلى
____________________
(19/153)
الله عليه وسلم تارة يفعله على وجه العبادة والتدين فيدل على استحبابه عنده وأما رجحانه ففيه نظر واما على غير وجه التعبد ففى دلالته الوجهان فعلى هذا ما يذكر عن الأئمة من انواع التعبدات والتزهدات والتورعات يقف على مقدمات
إحداها هل يعتقد حسنها بحيث يقوله ويفتى به أو فعله بلا إعتقاد لذلك بل تأسيا بغيره او ناسيا على الوجهين كالوجهين فى المباح
والثانية هل فيه ارادة لها توافق اعتقاده فكثيرا ما يكون طبع الرجل يخالف اعتقاده
والثالثة هل يرى ذلك افضل من غيره أو يفعل المفضول لأغراض اخرى مباحة والأول أرجح
والرابعة أن ذلك الرجحان هل هو مطلق أو فى بعض الأحوال والله أعلم
____________________
(19/154)
بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الامام العالم تقى الدين أوحد المجتهدين احمد بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما فصل
فى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميع الدين اصوله وفروعه باطنه وظاهره علمه وعمله فان هذا الاصل هو أصل
____________________
(19/155)
أصول العلم والايمان وكل من كان اعظم اعتصاما بهذا الاصل كان أولى بالحق علما وعملا
ومن كان أبعد عن الحق علما وعملا كالقرامطة والمتفلسفة الذين يظنون ان الرسل ما كانوا يعلمون حقائق العلوم الالهية والكلية وانما يعرف ذلك بزعمهم من يعرفه من المتفلسفة ويقولون خاصة النبوة هي التخييل ويجعلون النبوة افضل من غيرها عند الجمهور لا عند أهل المعرفة كما يقول هذا ونحوه الفارابى وامثاله مثل مبشر بن فاتك وامثاله من الاسماعيلية وآخرون يعترفون بأن الرسول علم الحقائق لكن يقولون لم يبينها بل خاطب الجمهور بالتخييل فيجعلون التخييل فى خطابه لا فى علمه كما يقول ذلك بن سينا وامثاله
وآخرون يعترفون بأن الرسل علموا الحق وبينوه لكن يقولون لا يمكن معرفته من كلامهم بل يعرف بطريق آخر اما المعقول عند طائفة واما المكاشفة عند طائفة اما قياس فلسفى واما خيال صوفى ثم بعد ذلك ينظر فى كلام الرسول فما وافق ذلك قبل وما خالفه اما ان يفوض واما ان يؤول وهذه طريقة كثير من اهل الكلام الجهمية والمعتزلة وهى طريقة خيار الباطنية والفلاسفة الذين يعظمون الرسول وينزهونه عن الجهل والكذب لكن يدخلون فى التأويل
____________________
(19/156)
وأبو حامد الغزالى لما ذكر فى كتابه طرق الناس فى التأويل وان الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا وان الحق بين جمود الحنابلة وبين انحلال الفلاسفة وان ذلك لا يعرف من جهة السمع بل تعرف الحق بنور يقذف فى قلبك ثم ينظر فى السمع فما وافق ذلك قبلته والا فلا وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة وهم الذين يعظمون الرسول عن ان يكذب للمصلحة ولكن هؤلاء وقعوا فى نظير ما فروا منه نسبوه إلى التلبيس والتعمية واضلال الخلق بل إلى ان يظهر الباطل ويكتم الحق
وبن سينا وامثاله لما عرفوا ان كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية بل قد عرفوا انه اراد مفهوم الخطاب سلك مسلك التخييل وقال انه خاطب الجمهور بما يخيل اليهم مع علمه ان الحق فى نفس الأمر ليس كذلك فهؤلاء يقولون ان الرسل كذبوا للمصلحة
وهذا طريق بن رشد الحفيد وامثاله من الباطنية فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والاضلال والذين اقروا بأنهم بينوا الحق قالوا انهم كذبوا للمصلحة
وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على ان الرسل لم يقولوا الا
____________________
(19/157)
الحق وانهم بينوه مع علمهم بأنهم اعلم الخلق بالحق فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه فمن قال انهم كذبوا للمصلحة فهو من اخوان المكذبين للرسل لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل فى العالم لم يمكنه ان يقول كذبوا لطلب العلو والفساد بل قال كذبوا لمصلحة الخلق كما يحكى عن بن التومرت وامثاله
ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبى والساحر الا من جهة حسن القصد فان النبى يقصد الخير والساحر يقصد الشر والا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية وكلاهما عندهم يكذب لكن الساحر يكذب للعلو والفساد والنبى عندهم يكذب للمصلحة اذ لم يمكنه اقامة العدل فيهم الا بنوع من الكذب
والذين علموا ان النبوة تناقض الكذب على الله وان النبى لا يكون الاصادقا من هؤلاء قالوا انهم لم يبينوا الحق ولو انهم قالوا سكتوا عن بيانه لكان اقل الحادا لكن قالوا انهم اخبروا بما يظهر منه للناس الباطل ولم يبينوا لهم الحق فعندهم انهم جمعوا بين شيئين بين كتمان حق لم يبينوه وبين اظهار ما يدل على الباطل وان كانوا لم يقصدوا الباطل فجعلوا كلامهم من جنس المعاريض التى يعنى بها المتكلم معنى صحيحا لكن لا يفهم المستمع منها الا الباطل واذا قالوا قصدوا التعريض كان اقل الحادا ممن قال انهم قصدوا الكذب
____________________
(19/158)
والتعريض نوع من الكذب اذ كان كذبا فى الافهام ولهذا قال النبى ( ان ابراهيم لم يكذب الا ثلاث كذبات كلهن فى ذات الله ( وهى معاريض كقوله عن سارة انها أختى اذ كان ليس هناك مؤمن الا هو وهى
وهؤلاء يقولون ان كلام ابراهيم وعامة الأنبياء مما اخبروا به عن الغيب كذب من المعاريض واما جمهور المتكلمين فلا يقولون بهذا بل يقولون قصدوا البيان دون التعريض لكن مع هذا يقول الجهمية ونحوهم ان بيان الحق ليس فى خطابهم بل انما فى خطابهم ما يدل على الباطل والمتكلمون من الجهمية والمعتزلة والأشعرية ونحوهم ممن سلك فى اثبات الصانع طريق الاعراض يقولون أن الصحابة لم يبينوا اصول الدين بل ولا الرسول اما لشغلهم بالجهاد او لغير ذلك
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء فى غير هذا الموضع وبينا ان اصول الدين الحق الذى انزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وهى الأدلة والبراهين والآيات الدالة على ذلك قد بينها الرسول أحسن بيان وانه دل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التى بها يعلمون المطالب الالهية وبها يعلمون اثبات ربوبية الله ووحدانيته
____________________
(19/159)
وصفاته وصدق رسوله والمعاد وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية وان كان لا يحتاج اليها فان كثيرا من الامور تعرف بالخبر الصادق ومع هذا فالرسول بين الأدلة العقلية الدالة عليها فجمع بين الطريقين السمعى والعقلى
وبينا ان دلالة الكتاب والسنة على اصول الدين ليست بمجرد الخبر كما تظنه طائفة من الغالطين من اهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم بل الكتاب والسنة دلا الخلق وهدياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما فى القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا اذا صنفوا فى اصول الدين أحزابا
حزب يقدمون فى كتبهم الكلام فى النظر والدليل والعلم وان النظر يوجب العلم وانه واجب ويتكلمون فى جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل ثم اذا صاروا إلى ما هوالاصل والدليل للذين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الاجسام وهو دليل مبتدع في الشرع وباطل فى العقل
والحزب الثانى عرفوا ان هذا الكلام مبتدع وهو مستلزم مخالفة الكتاب والسنة وعنه ينشأ القول بأن القرآن مخلوق وان
____________________
(19/160)
الله لا يرى فى الآخرة وليس فوق العرش ونحو ذلك من بدع الجهمية فصنفوا كتبا قدموا فيها ما يدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة من القرآن والحديث وكلام السلف وذكروا اشياء صحيحة لكنهم قد يخلطون الآثار صحيحها بضعيفها وقد يستدلون بما لا يدل على المطلوب وايضا فهم انما يستدلون بالقرآن من جهة اخباره لا من جهة دلالته فلا يذكرون ما فيه من الادلة على اثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والمعاد وأنه قد بين الأدلة العقلية الدالة على ذلك ولهذا سموا كتبهم أصول السنة والشريعة ونحو ذلك وجعلوا الايمان بالرسول قد استقر فلا يحتاج ان يبين الأدلة الدالة عليه فذمهم اولئك ونسبوهم إلى الجهل اذ لم يذكروا الأصول الدالة على صدق الرسول وهؤلاء ينسبون اولئك إلى البدعة بل إلى الكفر لكونهم أصلوا أصولا تخالف ما قاله الرسول والطائفتان يلحقهما الملام لكونهما اعرضتا عن الاصول التى بينها الله بكتابه فإنها اصول الدين وأدلته وآياته فلما أعرض عنها الطائفتان وقع بينهما العداوة كما قال الله تعالى ( فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
____________________
(19/161)
وحزب ثالث قد عرف تفريط هؤلاء وتعدى اولئك وبدعتهم فذمهم وذم طالب العلم الذكى الذي اشتاقت نفسه إلى معرفة الأدلة والخروج عن التقليد اذا سلك طريقهم وقال ان طريقهم ضارة وان السلف لم يسلكوها ونحو ذلك مما يقتضى ذمها وهو كلام صحيح لكنه انما يدل على أمر مجمل لا تتبين دلالته على المطلوب بل قد يعتقد طريق المتكلمين مع قوله انه بدعة ولا يفتح ابواب الأدلة التى ذكرها الله فى القرآن التى تبين ان ما جاء به الرسول حق ويخرج الذكي بمعرفتها عن التقليد وعن الضلال والبدعة والجهل
فهؤلاء أضل بفرقهم لانهم لم يتدبروا القرآن وأعرضوا عن آيات الله التى بينها بكتابه كما يعرض من يعرض عن آيات الله المخلوقة قال الله تعالى ( وكأين من آية فى السماوات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون ( وقال تعالى ( وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ( وقال تعالى ( ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ( وقال تعالى ( كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الالباب ( وقال تعالى ( ولقد ضربنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل ( وقال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحى اليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر ( الآية وقال
____________________
(19/162)
تعالى ( وان يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ( وقال تعالى ( وان يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات والزبر والكتاب لمنير ) ومثل هذا كثير لبسطه مواضع أخر
والمقصود ان هؤلاء الغالطين الذين أعرضوا عما فى القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية لا يذكرون النظر والدليل والعلم الذى جاء به الرسول والقرآن مملوء من ذلك والمتكلمون يعترفون بأن فى القرآن من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين ما فيه لكنهم يسلكون طرقا أخر كطريق الأعراض
ومنهم من يظن ان هذه طريق ابراهيم الخليل وهو غالط
والمتفلسفة يقولون القرآن جاء به بالطريق الخطابية والمقدمات الاقناعية التى تقنع الجمهور ويقولون ان المتكلمين جاؤوا بالطرق الجدلية ويدعون أنهم هم أهل البرهان اليقينى وهم أبعد عن البرهان فى الالهيات من المتكلمين والمتكلمون اعلم منهم بالعلميات البرهانية فى الالهيات والكليات ولكن للمتفلسفة فى الطبيعيات خوض وتفصيل تميزوا به بخلاف الالهيات فانهم من أجهل الناس بها وأبعدهم عن معرفة الحق فيها وكلام ارسطو معلمهم فيها قليل كثير الخطأ فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع
____________________
(19/163)
والقرآن جاء بالبينات والهدى بالآيات البينات وهى الدلائل اليقينيات وقد قال الله تعالى لرسوله ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي أحسن ( والمتفلسفة يفسرون ذلك بطرقهم المنطقية فى البرهان والخطابة والجدل وهو ضلال من وجوه قد بسطت فى غير هذا الموضع بل الحكمة هي معرفة الحق والعمل به فالقلوب التى لها فهم وقصد تدعى بالحكمة فيبين لها الحق علما وعملا فتقبله وتعمل به
وآخرون يعترفون بالحق لكن لهم أهواء تصدهم عن اتباعه فهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب فى الحق والترهيب من الباطل والوعظ أمر ونهى بترغيب وترهيب كما قال تعالى ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ( وقال تعالى ( يعظكم الله ان تعودوا لمثله أبدا ( فالدعوة بهذين الطريقين لمن قبل الحق ومن لم يقبله فانه يجادل بالتى هي أحسن
والقرآن مشتمل على هذا وهذا ولهذا إذا جادل يسأل ويستفهم عن المقدمات البينة البرهانية التى لا يمكن أحد ان يجحدها لتقرير المخاطب بالحق ولاعترافه بانكار الباطل كما فى مثل قوله ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( وقوله ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم فى لبس من خلق جديد ( وقوله ( أو ليس الذى خلق
____________________
(19/164)
السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ( وقوله ( أيحسب الانسان ان يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والانثى اليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ( وقوله ( أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ( وقوله ( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما فى الصحف الأولى ( وقوله ( أو لم يكفهم انا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ( وقوله ( أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى اسرائيل ( وقوله ( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين ( إلى أمثال ذلك مما يخاطبهم باستفهام التقرير المتضمن اقرارهم واعترافهم بالمقدمات البرهانية التى تدل على المطلوب فهو من أحسن جدل بالبرهان فان الجدل انما يشترط فيه أن يسلم الخصم المقدمات وان لم تكن بينة معروفة فاذا كانت بينة معروفة كانت برهانية
والقرآن لا يحتج فى مجادلته بمقدمة لمجرد تسليم الخصم بها كما هي الطريقة الجدلية عند اهل المنطق وغيرهم بل بالقضايا والمقدمات التى تسلمها الناس وهى برهانية وان كان بعضهم يسلمها وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل على صحتها كقوله ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذى
____________________
(19/165)
جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ( فان الخطاب لما كان مع من يقر بنبوة موسى من أهل الكتاب ومع من ينكرها من المشركين ذكر ذلك بقوله ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ( وقد بين البراهين الدالة على صدق موسى فى غير موضع
وعلى قراءة من قرأ يبدونها كابن كثير وابي عمرو جعلوا الخطاب مع المشركين وجعلوا قوله ( وعلمتم ما لم تعلموا ( احتجاجا على المشركين بما جاء به محمد فالحجة على اولئك نبوة موسى وعلى هؤلاء نبوة محمد ولكل منهما من البراهين ما قد بين بعضه فى غير موضع
وعلى قراءة الأكثرين بالتاء هو خطاب لأهل الكتاب وقوله ( وعلمتم ما لم تعلموا ( بيان لما جاءت به الأنبياء مما انكروه فعلمهم الأنبياء ما لم يقبلوه ولم يعلموه فاستدل بما عرفوه من أخبار الأنبياء وما لم يعرفوه
وقد قص سبحانه قصة موسى وأظهر براهين موسى وآياته التى هي من أظهر البراهين والادلة حتى اعترف بها السحرة الذين جمعهم فرعون وناهيك بذلك فلما أظهر الله حق موسى وأتى بالآيات التى علم بالاضطرار أنها من الله وابتلعت عصاه الحبال والعصي التى أتى
____________________
(19/166)
بها السحرة بعد ان جاؤوا بسحر عظيم وسحروا أعين الناس واسترهبوا الناس ثم لما ظهر الحق وانقلبوا صاغرين قالوا ( آمنا برب العالمين رب موسى وهرون ( فقال لهم فرعون ( آمنتم به قبل أن آذن لكم انه لكبيركم الذي علمكم السحر فلا قطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ولاصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ( من الدلائل البينات اليقينية القطعية وعلى الذى فطرنا وهو خالقنا وربنا الذي لابد لنا منه لن نؤثرك على هذه الدلائل اليقينية وعلى خالق البرية ( فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (
وقد ذكر الله هذه القصة فى عدة مواضع من القرآن يبين فى كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعا غير النوع الآخر كما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء متعددة كل اسم يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر وليس فى هذا تكرار بل فيه تنويع الآيات مثل أسماء النبى إذا قيل محمد وأحمد والحاشر والعاقب والمقفى ونبى الرحمة ونبى التوبة ونبى الملحمة فى كل اسم دلالة على معنى ليس فى الاسم الآخر وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة
____________________
(19/167)
وكذلك القرآن إذا قيل فيه قرآن وفرقان وبيان وهدى وبصائر وشفاء ونور ورحمة وروح فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الآخر
وكذلك أسماء الرب تعالى إذا قيل الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الذى فى الاسم الآخر فالذات واحدة والصفات متعددة فهذا فى الاسماء المفردة
وكذلك فى الجمل التامة يعبر عن القصة بجمل تدل على معان فيها ثم يعبر عنها بجمل أخرى تدل على معان أخر وان كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة ففى كل جملة من الجمل معنى ليس فى الجمل الأخر
وليس فى القرآن تكرار أصلا وأما ما ذكره بعض الناس من انه كرر القصص مع ( إمكان ) الاكتفاء بالواحدة وكان الحكمة فيه ان وفود العرب كانت ترد على رسول الله فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا وكان يبعث إلى القبائل
____________________
(19/168)
المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم تكن الآيات والقصص مثناة متكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم وقصة نوح إلى قوم فأراد الله أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض وأن يلقيها إلى كل سمع فهذا كلام من لم يقدر القرآن قدره وأبو الفرج اقتصر على هذا الجواب فى قوله ( مثانى ( لما قيل لم ثنيت وبسط هذا له موضع آخر فان التثنية هي التنويع والتجنيس وهي استيفاء الأقسام ولهذا يقول من يقول من السلف الأقسام والأمثال
والمقصود هنا التنبيه على أن القرآن اشتمل على أصول الدين التى تستحق هذا الاسم وعلى البراهين والآيات والأدلة اليقينية بخلاف ما أحدثه المبتدعون والملحدون كما قال الرازي مع خبرته بطرق هؤلاء لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدتها تشفى عليلا ولا تروى غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ فى الاثبات ( إليه يصعد الكلم الطيب ( الرحمن على العرش استوى ( واقرأ في النفى ( ليس كمثله شيء ( ولا يحيطون به علما ( قال ومن جرب مثل تجربتى عرف مثل معرفتى
والخير والسعادة والكمال والصلاح منحصر فى نوعين فى العلم النافع والعمل الصالح وقد بعث الله محمدا بافضل ذلك وهو الهدى
____________________
(19/169)
ودين الحق كما قال ( هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ( وقد قال تعالى ( واذكر عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ( فذكر النوعين قال الوالبى عن بن عباس يقول أولوا القوة فى العبادة قال بن ابي حاتم وروى عن سعيد بن جبير وعطاء الخراسانى والحسن والضحاك والسدى وقتادة وأبي سنان ومبشر بن عبيد نحو ذلك و ( الابصار ( قال الأبصار الفقه فى الدين وقال مجاهد ( الابصار ( الصواب في الحكم وعن سعيد بن جبير قال البصيرة بدين الله وكتابه وعن عطاء الخراسانى ( أولى الأيدى والأبصار ( قال أولوا القوة في العبادة والبصر والعلم بأمر الله وعن مجاهد وروى عن قتادة قال أعطوا قوة فى العبادة وبصرا فى الدين
وجميع حكماء الأمم يفضلون هذين النوعين مثل حكماء اليونان والهند والعرب قال بن قتيبة الحكمة عند العرب العلم والعمل فالعمل الصالح هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو الدين دين الاسلام والعلم والهدى هو تصديق الرسول فيما أخبر به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وغير ذلك فالعلم النافع هو الايمان والعمل الصالح هو الاسلام العلم النافع من علم الله والعمل الصالح هو العمل بأمر الله هذا تصديق الرسول فيما أخبر وهذا
____________________
(19/170)
طاعته فيما أمر وضد الأول ان يقول على الله ما لا يعلم وضد الثانى ان يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا والأول أشرف فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا ( قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ( وجميع الطوائف تفضل هذين النوعين لكن الذي جاء به الرسول هو أفضل ما فيهما كما قال ( ان هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم (
وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ فى ركعتى الفجر تارة ( سورة الاخلاص ( و ( قل يا أيها الكافرون ( ففى ( قل يا أيها الكافرون ( عبادة الله وحده وهو دين الاسلام وفي ( قل هو الله أحد ( صفة الرحمن وان يقال فيه ويخبر عنه بما يستحقه وهو الايمان هذا هو التوحيد القولي وذلك هو التوحيد العملى
وكان تارة يقرأ فيهما فى الأولى بقوله فى البقرة ( قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( وفى الثانية ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ( إلى قوله ( فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
____________________
(19/171)
قال أبو العالية فى قوله ( فلنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ( قال خلتان يسئل عنهما كل أحد ماذا كنت تعبد وماذا أجبت المرسلين فالأولى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله والثانية تحقيق الشهادة بان محمدا رسول الله
والصوفية بنوا أمرهم على الارادة ولا بد منها لكن بشرط أن تكون ارادة عبادة الله وحده بما أمر
والمتكلمون بنوا أمرهم على النظر المقتضى للعلم ولا بد منه لكن بشرط ان يكون علما بما أخبر به الرسول والنظر فى الأدلة التى دل بها الرسول وهي آيات الله ولا بد من هذا وهذا
ومن طلب علما بلا إرادة أو ارادة بلا علم فهو ضال ومن طلب هذا وهذا بدون اتباع الرسول فيهما فهو ضال بل كما قال من قال من السلف الدين والايمان قول وعمل واتباع السنة وأهل الفقه فى الأعمال الظاهرة يتكلمون فى العبادات الظاهرة وأهل التصوف والزهد يتكلمون في قصد الانسان وارادته وأهل النظر والكلام وأهل العقائد من اهل الحديث وغيرهم يتكلمون فى العلم والمعرفة والتصديق الذي هو أصل الارادة ويقولون العبادة لابد فيها من القصد والقصد لايصح إلا بعد العلم بالمقصود المعبود وهذا صحيح
____________________
(19/172)
فلابد من معرفة المعبود وما يعبد به فالضالون من المشركين والنصارى وأشباههم لهم عبادات وزهادات لكن لغير الله او بغير أمر الله وانما القصد والارادة النافعة هو ارادة عبادة الله وحده وهو انما يعبد بما شرع لا بالبدع
وعلى هذين الأصلين يدور دين الاسلام على أن يعبد الله وحده وأن يعبد بما شرع ولا يعبد بالبدع وأما العلم والمعرفة والتصوف فمدارها على أن يعرف ما أخبر به الرسول ويعرف ان ما أخبر به حق اما لعلمنا بانه لا يقول الا حقا وهذا تصديق عام واما لعلمنا بان ذلك الخبر حق بما أظهر الله من آيات صدقه فانه انزل الكتاب والميزان وأرى الناس آياته فى الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم ان القرآن حق ( فصل )
وأما ( العمليات ( وما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان فما شيء مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه الا بين ذلك وقد قال تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وقال تعالى ( ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق
____________________
(19/173)
الذى بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمه لقوم يؤمنون ) وقال تعالى ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمه وبشرى للمسلمين ) وقال تعالى ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) وقال تعالى ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) فقد بين سبحانه أنه ما أنزل عليه الكتاب إلا ليبين لهم الذى أختلفوا فيه كما بين أنه أنزل جنس الكتاب مع النبيين ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
وقال تعالى ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت واليه أنيب ) وقال تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه كما قال ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم إليه ) وقال تعالى ( فان تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول ) وهو الرد إلى كتاب الله أو إلى سنة الرسول بعد موته وقوله ( فان تنازعتم ) شرط والفعل نكرة فى سياق الشرط فاى شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول ولو لم يكن بيان الله
____________________
(19/174)
والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه
والرسول أنزل الله عليه الكتاب والحكمة كما ذكر ذلك فى غير موضع وقد علم أمته الكتاب والحكمة كما قال ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) وكان يذكر فى بيته الكتاب والحكمة وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك فقال ( واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة ) فآيات الله هي القرآن اذ كان نفس القرآن يدل على انه منزل من الله فهو علامة ودلالة على منزله و ( الحكمة ) قال غير واحد من السلف هي السنة وقال أيضا طائفة كمالك وغيره هي معرفة الدين والعمل به وقيل غير ذلك وكل ذلك حق فهي تتضمن التمييز بين المأمور والمحظور والحق والباطل وتعليم الحق دون الباطل وهذه السنة التى فرق بها بين الحق والباطل وبين الأعمال الحسنة من القبيحة والخير من الشر وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم انه قال ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي الا هالك )
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كلام نحو هذا وهذا كثير فى الحديث والآثار يذكرونه فى الكتب التى تذكر فيها هذه الآثار كما يذكر مثل ذلك غير واحد فيما يصنفونه فى السنة مثل بن بطة واللالكائى والطلمنكى وقبلهم المصنفون فى السنة كاصحاب
____________________
(19/175)
احمد مثل عبد الله والاثرم وحرب الكرماني وغيرهم ومثل الخلال وغيره
والمقصود هنا تحقيق ذلك وان الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين
وأما اجماع الأمة فهو في نفسه حق لا تجتمع الأمة على ضلالة وكذلك القياس الصحيح حق فان الله بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل وقد فسروا انزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك والله ورسوله يسوى بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين وهذا هو القياس الصحيح وقد ضرب الله فى القرآن من كل مثل وبين القياس الصحيح وهى الأمثال المضروبة ما بينه من الحق لكن القياس الصحيح يطابق النص فان الميزان يطابق الكتاب والله أمر نبيه أن يحكم بما أنزل وأمره أن يحكم بالعدل فهو أنزل الكتاب وانما أنزل الكتاب بالعدل قال تعالى ( وان احكم بينهم بما أنزل الله ) ( وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط )
واما اجماع الأمة فهو حق لا تجتمع الأمة ولله الحمد على ضلالة كما وصفها الله بذلك فى الكتاب والسنة فقال تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون
____________________
(19/176)
بالله ) وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر كما وصف نبيهم بذلك فى قوله ( الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) وبذلك وصف المؤمنين فى قوله ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) فلو قالت الامة فى الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف فى ذلك ولم تنه عن المنكر فيه وقال تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) والوسط العدل الخيار وقد جعلهم الله شهداء على الناس وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول
وقد ثبت فى الصحيح أن النبى مر عليه بجنازة فاثنوا عليها خيرا فقال ( وجبت وجبت ) ثم مر عليه بجنازة فاثنوا عليها شرا فقال ( وجبت وجبت ( قالوا يارسول الله ما قولك وجبت وجبت قال ( هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله فى الأرض )
فاذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل فاذا شهدوا ان الله أمر بشيء فقد أمر به واذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله
____________________
(19/177)
فى الأرض بل زكاهم الله فى شهادتهم كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق وكذلك الأمة لا تشهد على الله الا بحق وقال تعالى ( واتبع سبيل من أناب الي ) والأمة منيبة إلى الله فيجب اتباع سبيلها وقال تعالى ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة فدل على ان متابعهم عامل بما يرضى الله والله لا يرضى الا بالحق لا بالباطل وقال تعالى ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )
وكان عمر بن عبد العزيز يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيرا قال سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله ومعونة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا النظر فى رأى من خالفها فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله تعالى ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا والشافعى رضى الله عنه لما جرد الكلام فى أصول الفقه احتج بهذه الآية على الاجماع كما كان هو وغيره ومالك ذكر عن عمر بن عبد العزيز والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق
____________________
(19/178)
للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مستحق للوعيد ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل فى ذلك لكان لا فائدة فى ذكره
وهنا للناس ثلاثة أقوال قيل اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرد مخالفة الرسول المذكورة فى ألآية وقيل بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم وقيل بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية لكن هذا لا يقتضى مفارقة الأول بل قد يكون مستلزما له فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو فى نفس الأمر مشاق للرسول وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين وهذا كما في طاعة الله والرسول فان طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم وهما متلازمان فانه من يطع الرسول فقد أطاع الله
وفى الحديث الصحيح عن النبى قال ( من أطاعنى فقد أطاع الله ومن أطاع أميرى فقد أطاعنى ومن عصانى فقد عصى الله ومن عصى أميرى فقد عصانى ) وقال ( انما الطاعة فى المعروف ) يعنى اذا أمر اميرى بالمعروف فطاعته من طاعتى وكل من عصى الله فقد عصى الرسول فان الرسول يأمر بما أمر الله
____________________
(19/179)
به بل من أطاع رسولا واحدا فقد أطاع جميع الرسل ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع ومن عصى واحدا منهم فقد عصى الجميع ومن كذب واحدا منهم فقد كذب الجميع لأن كل رسول يصدق الآخر ويقول انه رسول صادق ويأمر بطاعته فمن كذب رسولا فقد كذب الذي صدقه ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته
ولهذا كان دين الأنبياء واحدا كما فى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى أنه قال ( انا معاشر الأنبياء ديننا واحد ) وقال تعالى ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) وقال تعالى ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا اني بما تعملون عليم وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ) وقال تعالى ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون )
ودين الأنبياء كلهم الاسلام كما أخبر الله بذلك فى غير موضع
____________________
(19/180)
وهو الإستسلام لله وحده وذلك انما يكون بطاعته فيما أمر به فى ذلك الوقت فطاعة كل نبى هي من دين الاسلام اذ ذاك واستقبال بيت المقدس كان من دين الاسلام قبل النسخ ثم لما أمر باستقبال الكعبة صار استقبالها من دين الاسلام ولم يبق استقبال الصخرة من دين الاسلام ولهذا خرج اليهود والنصارى عن دين الاسلام فانهم تركوا طاعة الله وتصديق رسوله واعتاضوا عن ذلك بمبدل أو منسوخ
وهكذا كل مبتدع دينا خالف به سنة الرسول لا يتبع الا دينا مبدلا او منسوخا فكل من خالف ما جاء به الرسول اما أن يكون ذلك قد كان مشروعا لنبى ثم نسخ على لسان محمد واما أن لا يكون شرع قط فهذا كالأديان التى شرعها الشياطين على ألسنة أوليائهم قال تعالى ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ( وقال ( وان الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وان أطعتموهم انكم لمشركون ( وقال ( وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (
ولهذا كان الصحابة اذا قال أحدهم برأيه شيئا يقول ان كان صوابا فمن الله وان كان خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله بريئان
____________________
(19/181)
منه كما قال ذلك بن مسعود وروى عن أبى بكر وعمر فالأقسام ثلاثة فانه اما ان يكون هذا القول موافقا لقول الرسول اولا يكون واما أن يكون موافقا لشرع غيره واما أن لا يكون فهذا الثالث المبدل كأديان المشركين والمجوس وما كان شرعا لغيره وهو لا يوافق شرعه فقد نسخ كالسبت وتحريم كل ذى ظفر وشحم الثرب والكليتين فان اتخاذ السبت عيدا وتحريم هذه الطيبات قد كان شرعا لموسى ثم نسخ بل قد قال المسيح ( ولا حل لكم بعض الذى حرم عليكم ( فقد نسخ الله على لسان المسيح بعض ما كان حراما فى شرع موسى
وأما محمد فقال الله فيه ( الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون ( والشرك كله من المبدل لم يشرع الله الشرك قط كما قال ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) وقال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحى إليه أنه لا اله الا أنا فاعبدون (
وكذلك ما كان يحرمه أهل الجاهلية مما ذكره الله فى القرآن
____________________
(19/182)
كالسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك هو من الدين المبدل ولهذا لما ذكر الله ذلك عنهم فى سورة الأنعام بين ان من حرم ذلك فقد كذب على الله وذكر تعالى ما حرمه على لسان محمد وعلى لسان موسى في الانعام فقال ( قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فانه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وانا لصادقون ( وكذلك قال بعد هذا ( وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل (
فبين ان ما حرمه المشركون لم يحرمه على لسان موسى ولا لسان محمد وهذان هما اللذان جاءا بكتاب فيه الحلال والحرام كما قال تعالى ( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ( وقال تعالى ( ومن قبله كتاب موسى اماما ورحمة ( وقال تعالى ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ( إلى قوله ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه ( وقالت الجن لما سمعت القرآن ( انا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق والى طريق مستقيم ( وقال ورقة بن نوفل
____________________
(19/183)
ان هذا والذى جاء به موسى ليخرجان من مشكاة واحدة وكذلك قال النجاشى
فالقرآن والتوراة هما كتابان جاءا من عند الله لم يأت من عنده كتاب أهدى منهما كل منهما أصل مستقل والذى فيهما دين واحد وكل منهما يتضمن اثبات صفات الله تعالى والأمر بعبادته وحده لا شريك له ففيه التوحيد قولا وعملا كما فى سورتى الاخلاص ( قل يا أيها الكافرون ( و ( قل هو الله احد (
وأما الزبور فان داود لم يأت بغير شريعة التوراة وانما فى الزبور ثناء على الله ودعاء وأمر ونهى بدينه وطاعته وعبادته مطلقا
واما المسيح فانه قال ( ولأحل لكم بعض الذى حرم عليكم ( فاحل لهم بعض المحرمات وهو فى الاكثر متبع لشريعة التوراة ولهذا لم يكن بد لمن اتبع المسيح من ان يقرأ التوراة ويتبع ما فيها اذ كان الانجيل تبعا لها
وأما القرآن فانه مستقل بنفسه لم يحوج أصحابه إلى كتاب آخر بل اشتمل على جميع ما في الكتب من المحاسن وعلى زيادات كثيرة لا توجد فى الكتب فلهذا كان مصدقا لما بين يديه من الكتاب
____________________
(19/184)
ومهيمنا عليه يقرر ما فيها من الحق ويبطل ما حرف منها وينسخ ما نسخه الله فيقرر الدين الحق وهو جمهور ما فيها ويبطل الدين المبدل الذى لم يكن فيها والقليل الذى نسخ فيها فان المنسوخ قليل جدا بالنسبة إلى المحكم المقرر
والأنبياء كلهم دينهم واحد وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم وكذلك التكذيب والمعصية لا يجوز ان يكذب نبى نبيا بل ان عرفه صدقه والا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقا وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته ولهذا كان من صدق محمدا فقد صدق كل نبى ومن أطاعه فقد أطاع كل نبى ومن كذبه فقد كذب كل نبى ومن عصاه فقد عصى كل نبى قال تعالى ( ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا ( وقال تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزى فى الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (
ومن كذب هؤلاء تكذيبا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع ولهذا يقول تعالى ( كذبت قوم نوح المرسلين ( ولم
____________________
(19/185)
يرسل اليهم قبل نوح أحدا وقال تعالى ( وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم (
وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنا فى جنس الرسل كما قدمنا بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه فهو مكذب لجميع الرسل كالذين قال فيهم ( الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون اذ الأغلال فى اعناقهم والسلاسل يسحبون فى الحميم ثم فى النار يسجرون ( وقال تعالى ( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون ( وقال تعالى عن الوليد ( انه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال ان هذا الا سحر يؤثر ان هذا الا قول البشر (
وأهل الكتاب منهم من يؤمن بجنس الرسالة لكن يكذب بعض الرسل كالمسيح ومحمد فهؤلاء لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقا وكثير من الفلاسفة والباطنية وكثير من أهل الكلام والتصوف لا يكذب الرسل تكذيبا صريحا ولا يؤمن بحقيقة النبوة والرسالة بل يقر بفضلهم في الجملة مع كونه يقول ان غيرهم أعلم
____________________
(19/186)
منهم أو انهم لم يبينوا الحق او لبسوه او ان النبوة هي فيض يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم ولا يقر بملائكة مفضلين ولا بالجن ونحو ذلك فهؤلاء يقرون ببعض صفات الأنبياء دون بعض وبما أوتوه دون بعض ولا يقرون بجميع ما أوتيه الأنبياء وهؤلاء قد يكون أحدهم شرا من اليهود والنصارى الذين أقروا بجميع صفات النبوة لكن كذبوا ببعض الأنبياء فان الذي أقر به هؤلاء مما جاءت به الأنبياء أعظم واكثر اذ كان هؤلاء يقرون بأن الله خلق السماوات والأرض فى ستة ايام ويقرون بقيام القيامة ويقرون بأنه تجب عبادته وحده لا شريك له ويقرون بالشرائع المتفق عليها وأولئك يكذبون بهذا وانما يقرون ببعض شرع محمد
ولهذا كان اليهود والنصارى أقل كفرا من الملاحدة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلاء فقد جمع نوعى الكفر اذ لم يؤمن بجميع صفاتهم ولا بجميع أعيانهم وهؤلاء موجودون فى دول الكفار كثيرا كما يوجد أيضا فى المنتسبين إلى الاسلام من هؤلاء وهؤلاء اذ كانوا فى دولة المسلمين
وأهل الكتاب كانوا منافقين فيهم من النفاق بحسب ما فيهم
____________________
(19/187)
من الكفر والنفاق يتبعض والكفر يتبعض ويزيد وينقص كما ان الايمان يتبعض ويزيد وينقص قال الله تعالى ( انما النسيء زيادة فى الكفر ( وقال ( واذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه ايمانا فاما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ( وقال ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا ( وقال ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا وكفرا ( وقال ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ( وقال ( فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ( وقال ( ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا (
وكثير من المصنفين فى الكلام لا يردون على أهل الكتاب الا ما يقولون انه يعلم بالعقل مثل تثليث النصارى ومثل تكذيب محمد ولا يناظرونهم فى غير هذا من أصول الدين وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن فان الله يبين فى القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك والقرآن مملوء من ذلك اذ كان الكفر والايمان يتعلق بالرسالة والنبوة فاذا تبين ما خالفوا فيه الأنبياء ظهر كفرهم
____________________
(19/188)
وأولئك المتكلمون لما أصلوا لهم دينا بما أحدثوه من الكلام كالاستدلال بالاعراض على حدوث الأجسام ظنوا ان هذا هو أصول الدين ولو كان ما قالوه حقا لكان ذلك جزءا من الدين فكيف اذا كان باطلا
وقد ذكرت في الرد على النصارى من مخالفتهم للانبياء كلهم مع مخالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر ولهذا قيل فيه ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ( وخطابهم فى مقامين
أحدهما
تبديلهم لدين المسيح
والثانى تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم واليهود خطابهم في تكذيب من بعد موسى إلى المسيح ثم في تكذيب محمد كما ذكر الله ذلك فى سورة البقرة فى قوله ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ( ثم قال ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( إلى أن ذكر انهم أعرضوا
____________________
(19/189)
عن كتاب الله مطلقا واتبعوا السحر فقال ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ( إلى قوله ( ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون
والنصارى نذمهم على الغلو والشرك الذى ابتدعوه وعلى تكذيب الرسول والرهبانية التى ابتدعوها ولا نحمدهم عليها اذ كانوا قد ابتدعوها وكل بدعة ضلالة لكن اذا كان صاحبها قاصدا للحق فقد يعفى عنه فيبقى عمله ضائعا لا فائدة فيه وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه فلا يعاقب ولا يثاب ولهذا قال ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( فان المغضوب عليه يعاقب بنفس الغضب والضال فاته المقصود وهو الرحمة والثواب ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك بل يكون ملعونا مطرودا ولهذا جاء فى حديث زيد بن عمرو بن نفيل ان اليهود قالوا له لن تدخل فى ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله وقال له النصارى حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله
وقال الضحاك وطائفة ان جهنم طبقات فالعليا لعصاة هذه الامة والتى تليها للنصارى والتى تليها لليهود فجعلوا اليهود تحت النصارى
____________________
(19/190)
والقرآن قد شهد بان المشركين واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا انا نصارى وشدة العداوة زيادة في الكفر فاليهود أقوى كفرا من النصارى وان كان النصارى أجهل وأضل لكن أولئك يعاقبون على عملهم اذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عنادا فكانوا مغضوبا عليهم وهؤلاء بالضلال حرموا أجر المهتدين ولعنوا وطردوا عما يستحقه المهتدون ثم اذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب إذ كان اسم الضلال عاما
وقد كان النبى يقول في الحديث الصحيح فى خطبة يوم الجمعة ( خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ( ولم يقل وكل ضلالة فى النار بل يضل عن الحق من قصد الحق وقد اجتهد فى طلبه فعجز عنه فلا يعاقب وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له
وكثير من مجتهدى السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا انه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأى رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم
____________________
(19/191)
واذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل فى قوله ( ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا ( وفي الصحيح ان الله قال ( قد فعلت ( وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا ان الرسول بين جميع الدين بالكتاب والسنة وأن الاجماع اجماع الأمة حق فانها لا تجتمع على ضلالة وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة
والآية المشهورة التى يحتج بها على الاجماع قوله ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ( ومن الناس من يقول انها لا تدل على مورد النزاع فان الذم فيها لمن جمع الامرين وهذا لا نزاع فيه أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التى بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول وهذا لا نزاع فيه أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة وهذا لا نزاع فيه فهذا ونحوه قول من يقول لا تدل على محل النزاع
وآخرون يقولون بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقا وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك باجوبة شافية
____________________
(19/192)
والقول الثالث الوسط انها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا كما تقدم لكن لا ينفى تلازمهما كما ذكر فى طاعة الله والرسول وحينئذ نقول الذم اما أن يكون لاحقا لمشاقة الرسول فقط أو باتباع غير سبيلهم فقط أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا أو يلحق الذم بكل منهما وان انفرد عن الآخر أو بكل منهما لكونه مستلزما للآخر والأولان باطلان لأنه لو كان المؤثر احدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعا لا فائدة فيه وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعا فان مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه ولحوق الذم بكل منهما وان انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية فان الوعيد فيها انما هو على المجموع
بقي القسم الآخر وهو ان كلا من الوصفين يقتضى الوعيد لأنه مستلزم للآخر كما يقال مثل ذلك فى معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والاسلام فيقال من خالف القرآن والاسلام أو من خرج عن القرآن والاسلام فهو من أهل النار ومثله قوله ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ( فان الكفر بكل من هذه الاصول يستلزم الكفر بغيره فمن كفر بالله كفر
____________________
(19/193)
بالجميع ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرا بالله إذ كذب رسله وكتبه وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرا
وكذلك قوله ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ( ذمهم على الوصفين وكل منهما مقتض للذم وهما متلازمان ولهذا نهى عنهما جميعا في قوله ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وانتم تعلمون ( فانه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذى تبين أنه باطل إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق
فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه ايضا فانه قد جعل له مدخلا فى الوعيد فدل على أنه وصف مؤثر فى الذم فمن خرج عن اجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا والآية توجب ذم ذلك وإذا قيل هي انما ذمته مع مشاقة الرسول قلنا لأنهما متلازمان وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فانه يكون منصوصا عن الرسول فالمخالف لهم مخالف للرسول كما أن المخالف للرسول مخالف لله ولكن هذا يقتضى ان كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول وهذا هو الصواب
____________________
(19/194)
فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الاجماع فيستدل به كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص وهو دليل ثان مع النص كالأمثال المضروبة فى القرآن وكذلك الاجماع دليل آخر كما يقال قد دل على ذلك الكتاب والسنة والاجماع وكل من هذه الاصول يدل على الحق مع تلازمها فان ما دل عليه الاجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه ولا يوجد مسألة يتفق الاجماع عليها الا وفيها نص
وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها اجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك بل المضاربة كانت مشهورة بينهم فى الجاهلية لا سيما قريش فان الأغلب كان عليهم التجارة وكان أصحاب الاموال يدفعونها إلى العمال ورسول الله قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة والعير التى كان فيها أبو سفيان كان اكثرها مضاربة مع أبى سفيان وغيره فلما جاء الاسلام أقرها رسول الله وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك والسنة قوله وفعله واقراره فلما اقرها كانت ثابتة بالسنة
____________________
(19/195)
والاثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك فى الموطأ ويعتمد عليه الفقهاء لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لا بنيه واتجرا فيه وربحا وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش فقال له أحدهما لو خسر المال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان فقال له بعض الصحابة اجعله مضاربا فجعله مضاربة وانما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده فعلم انها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأى الموافق للنص لكن كان النص عند غيرهم
وبن جرير وطائفة يقولون لا ينعقد الاجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول مع قولهم بصحة القياس
ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار لكن استقرأنا موارد الاجماع فوجدناها كلها منصوصة وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة كما أنه قد يحتج بقياس وفيها اجماع لم يعلمه فيوافق الاجماع وكما يكون فى المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعضهم بعموم كاستدلال بن مسعود وغيره بقوله ( وأولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن ( وقال بن مسعود
____________________
(19/196)
سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى أي بعد البقرة وقوله ( أجلهن أن يضعن حملهن ( يقتضى انحصار الأجل فى ذلك فلو أوجب عليها أن تعتد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها وعلي وبن عباس وغيرهما أدخلوها فى عموم الآيتين وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الاسلمية بما يوافق قول بن مسعود
وكذلك لما تنازعوا فى المفوضة إذا مات زوجها هل لها مهر المثل أفتى بن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك وقد خالفه علي وزيد وغيرهما فقالوا لا مهر لها
فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتى بعموم أو قياس ويكون فى الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على انه لا نص فيها بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص أولئك احتجوا بنص كالمتوفى عنها الحامل وهؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها والآخرين قالوا إنما يدخل فى آية الحمل فقط وإن آية الشهور في غير الحامل كما أن آية القروء فى غير الحامل
وكذلك لما تنازعوا فى الحرام احتج من جعله يمينا بقوله ( لم تحرم
____________________
(19/197)
ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (
وكذلك لما تنازعوا فى المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى احتج هؤلاء بحديث فاطمة وبان السكنى التى فى القرآن للرجعية وأولئك قالوا بل هي لهما
ودلالات النصوص قد تكون خفية فخص الله بفهمهن بعض الناس كما قال علي الا فهما يؤتيه الله عبدا فى كتابه
وقد يكون النص بينا ويذهل المجتهد عنه كتيمم الجنب فانه بين فى القرآن فى آيتين ولما احتج ابو موسى على بن مسعود بذلك قال الحاضر ما درى عبد الله ما يقول إلا أنه قال لو أرخصنا لهم فى هذا لأوشك أحدهم إذا وجد المرء البرد أن يتيمم وقد قال بن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر ان المطلقة فى القرآن هي الرجعية بدليل قوله ( لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ( وأى أمر يحدثه بعد الثلاثة
وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله ( وأتموا الحج والعمرة لله ( واحتج بهذه الآية من منع الفسخ وآخرون يقولون إنما أمر
____________________
(19/198)
بالاتمام فقط وكذلك أمر الشارع أن يتم وكذلك في الفسخ قالوا من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى بما تم مما شرع فيه فانه شرع فى حج مجرد فأتى بعمرة في الحج ولو لم يكن هذا إتماما لما أمر به النبى أصحابه عام حجة الوداع
وتنازعوا فى الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله ( او لامستم النساء ( ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه
وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جلى ولا خفى فهذا ما لا أعرفه
والجد لما قال أكثرهم انه أب استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله ( كما أخرج أبويكم من الجنة ( وقال بن عباس لو كانت الجن تظن ان الانس تسمى أبا الاب جدا لما قالت ( وانه تعالى جد ربنا ( يقول إنما هو أب لكن أب أبعد من أب
وقد روى عن على وزيد أنهما احتجا بقياس فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأى والقياس مطلقا فقد غلط ومن ادعى ان من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأى والقياس فقد غلط بل
____________________
(19/199)
كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها ومن رأى دلالة الميزان ذكرها والدلائل الصحيحة لا تتناقض لكن قد يخفى وجه اتفاقها أو ضعف أحدها على بعض العلماء
وللصحابة فهم فى القرآن يخفى على أكثر المتأخرين كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين فانهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس
ومن قال من المتأخرين إن الاجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله فانه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك وهذا كقولهم ان أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها فانما هذا قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الاحكام وقد قال الامام أحمد رضي الله عنه إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها فانه لما فتحت البلاد وانتشر الاسلام حدثت جميع أجناس الاعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة وإنما تكلم بعضهم بالرأي فى مسائل قليلة والاجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه إذ هم أهل الاجماع فلا اجماع قبلهم لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح اقض بما فى كتاب
____________________
(19/200)
الله فان لم تجد فبما فى سنة رسول الله فان لم تجد فبما به قضى الصالحون قبلك وفي رواية فبما أجمع عليه الناس
وعمر قدم الكتاب ثم السنة وكذلك بن مسعود قال مثل ما قال وعمر قدم الكتاب ثم السنة ثم الاجماع وكذلك بن عباس كان يفتى بما فى الكتاب ثم بما فى السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر لقوله ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ( وهذه الآثار ثابتة عن عمر وبن مسعود وبن عباس وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء وهذا هو الصواب
ولكن طائفة من المتأخرين قالوا يبدأ المجتهد بان ينظر أولا فى الاجماع فان وجده لم يلتفت إلى غيره وإن وجد نصا خالفه اعتقد انه منسوخ بنص لم يبلغه وقال بعضهم الاجماع نسخه والصواب طريقة السلف
وذلك لأن الاجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الاجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ فأما ان يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد قط وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه واضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك ومعرفة الاجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا فمن ذا الذي
____________________
(19/201)
يحيط بأقوال المجتهدين بخلاف النصوص فان معرفتها ممكنة متيسرة
وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب اولا لأن السنة لا تنسخ الكتاب فلا يكون فى القرآن شيء منسوخ بالسنة بل إن كان فيه منسوخ كان فى القرآن ناسخه فلا يقدم غير القرآن عليه ثم إذا لم يجد ذلك طلبه فى السنة ولا يكون فى السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته لا ينسخ السنة اجماع ولا غيره ولا تعارض السنة باجماع واكثر الفاظ الآثار فان لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة مع انه فيها وكذلك في القرآن فيجوز له إذا لم يجده فى القرآن أن يطلبه فى السنة واذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضا لما فى القرآن وكذلك الاجماع الصحيح لا يعارض كتابا ولا سنة
تم بحمد الله وعونه وصلواته على خير بريته محمد وآله وسلم
____________________
(19/202)
وقال رحمه الله بعد كلام له
ونحن نذكر ( قاعدة جامعة ( فى هذا الباب لسائر الامة فنقول
لابد أن يكون مع الانسان أصول كلية ترد اليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت والا فيبقى فى كذب وجهل فى الجزئيات وجهل وظلم فى الكليات فيتولد فساد عظيم فنقول ان الناس قد تكلموا فى تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم فى مسائل الفروع والاصول ونحن نذكر أصولا جامعة نافعة ( الاصل الاول )
انه هل يمكن كل واحد أن يعرف باجتهاده الحق فى كل مسألة فيها نزاع وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق بل قال ما اعتقد أنه هو الحق فى نفس الامر ولم يكن هو الحق في نفس الأمر هل
____________________
(19/203)
يستحق أن يعاقب أم لا هذا أصل هذه المسألة
وللناس فى هذا الاصل ثلاثة أقوال كل قول عليه طائفة من النظار
الأول قول من يقول ان الله قد نصب على الحق فى كل مسألة دليلا يعرف به يتمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه ان يعرف الحق وكل من لم يعرف الحق فى مسألة أصولية أو فروعية فانما هو لتفريطه فيما يجب عليه لا لعجزه وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة وهو قول طائفة من أهل الكلام غير هؤلاء ثم قال هؤلاء أما المسائل العلمية فعليها أدلة قطعية تعرف بها فكل من لم يعرفها فانه لم يستفرغ وسعه فى طلب الحق فيأثم وأماالمسائل العملية الشرعية فلهم مذهبان
أحدهما أنها كالعلمية وأنه على كل مسألة دليل قطعى من خالفه فهو آثم وهؤلاء الذين يقولون المصيب واحد فى كل مسألة أصلية وفرعية وكل من سوى المصيب فهو آثم لأنه مخطيء والخطأ والاثم عندهم متلازمان وهذا قول بشر المريسي وكثير من المعتزلة البغداديين
الثانى ان المسائل العملية ان كان عليها دليل قطعي فان من خالفه
____________________
(19/204)
آثم مخطىء كالعلمية وان لم يكن عليها دليل قطعي فليس لله فيها حكم في الباطن وحكم الله فى حق كل مجتهد ما أداه اجتهاده إليه
وهؤلاء وافقوا الأولين فى ان الخطأ والاثم متلازمان وان كل مخطىء آثم لكن خالفوهم فى المسائل الاجتهادية فقالوا ليس فيها قاطع والظن ليس عليه دليل عند هؤلاء وانما هو من جنس ميل النفوس إلى شيء دون شيء فجعلوا الاعتقادات الظنية من جنس الارادات وادعوا أنه ليس فى نفس الامر حكم مطلوب بالاجتهاد والاثم فى نفس الأمر أمارة أرجح من أمارة وهذا القول قول أبى الهذيل العلاف ومن اتبعه كالجبائى وابنه وهو أحد قولي الاشعرى وأشهرهما وهو اختيار القاضي الباقلانى وأبى حامد الغزالي وأبى بكر بن العربى ومن اتبعهم وقد بسطنا القول فى ذلك بسطا كثيرا فى غير هذا الموضع
والمخالفون لهم كابى إسحاق الاسفرائينى وغيره من الاشعرية وغيرهم يقولون هذا القول أوله سفسطة وآخره زندقة وهذا قول من يقول ان كل مجتهد فى المسائل الاجتهادية العملية فهو مصيب باطنا وظاهرا إذ لا يتصور عندهم أن يكون مجتهدا مخطئا إلا بمعنى أنه خفى عليه بعض الأمور وذلك الذى خفى عليه ليس هو حكم الله لا
____________________
(19/205)
فى حقه ولا فى حق أمثاله واما من كان مخطئا وهو المخطىء فى المسائل القطعية فهو آثم عندهم والقول الثانى فى أصل المسألة ان المجتهد المستدل قد يمكنه ان يعرف الحق وقد يعجز عن ذلك لكن اذا عجز عن ذلك فقد يعاقبه الله تعالى وقد لا يعاقبه فان له أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء بلا سبب أصلا بل لمحض المشيئة وهذا قول الجهمية والاشعرية وكثير من الفقهاء واتباع الأئمة الأربعة وغيرهم
ثم قال هؤلاء قد علم بالسمع أن كل كافر فهو فى النار فنحن نعلم ان كل كافر فان الله سيعذبه سواء كان قد اجتهد وعجز عن معرفة دين الاسلام أو لم يجتهد وأما المسلمون المختلفون فان كان اختلافهم فى الفروعيات فأكثرهم يقول لا عذاب فيها وبعضهم يقول لأن الشارع عفا عن الخطأ فيها وعلم ذلك باجماع السلف على أنه لا إثم على المخطىء فيها وبعضهم يقول لأن الخطأ فى الظنيات ممتنع كما تقدم ذكره عن بعض الجهمية والاشعرية
وأما القطعيات فأكثرهم يؤثم المخطىء فيها ويقول إن السمع قد دل على ذلك ومنهم من لا يؤثمه والقول المحكى عن عبيد الله بن الحسن العنبرى هذا معناه أنه كان لا يؤثم المخطىء من المجتهدين من
____________________
(19/206)
هذه الأمة لا فى الأصول ولا فى الفروع وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأى على عبيد الله هذا القول وأما غير هؤلاء فيقول هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبى حنيفة والشافعى والثورى وداود بن على وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا فى المسائل الاصولية ولا فى الفروعية كما ذكر ذلك عنهم بن حزم وغيره ولهذا كان أبو حنيفة والشافعى وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية ويصححون الصلاة خلفهم
والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلى خلفه وقالوا هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين لا فى مسألة عملية ولا علمية قالوا والفرق بين مسائل الفروع والأصول انما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك فى اصول الفقه ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره
قالوا والفرق بين ذلك فى مسائل الأصول والفروع كما أنها محدثة فى الاسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة فهي باطلة عقلا فان المفرقين بين ما جعلوه مسائل
____________________
(19/207)
أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة فمنهم من قال مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التى يطلب فيها العلم والا عتقاد فقط ومسائل الفروع هي العملية التى يطلب فيها العمل قالوا وهذا فرق باطل فان المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنى والربا والظلم والفواحش وفى المسائل العلمية مالا يأثم المتنازعون فيه كتنازع الصحابة هل رأى محمد ربه وكتنازعهم فى بعض النصوص هل قاله النبى أم لا وما أراد بمعناه وكتنازعهم فى بعض الكلمات هل هي من القرآن أم لا وكتنازعهم فى بعض معانى القرآن والسنة هل أراد الله ورسوله كذا وكذا وكتنازع الناس فى دقيق الكلام كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الاعراض ونحو ذلك فليس فى هذا تكفير ولا تفسيق
قالوا والمسائل العملية فيها عمل وعلم فاذا كان الخطأ مغفورا فيها فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورا
____________________
(19/208)
ومنهم من قال المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعى والفرعية ما ليس عليها دليل قطعى قال اولئك وهذا الفرق خطأ ايضا فان كثيرا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها وفيها ما هو قطعى بالاجماع كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قدامة ورأوا أنها حلال لهم ولم تكفرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا
وقد كان على عهد النبى طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم يؤثمهم النبى صلى الله عليه وسلم فضلا عن تكفيرهم وخطؤهم قطعى وكذلك أسامة بن زيد قد قتل الرجل المسلم وكان خطؤه قطعيا وكذلك الذين وجدوا رجلا فى غنم له فقال إنى مسلم فقتلوه وأخذوا ماله كان خطؤهم قطعيا
وكذلك خالد بن الوليد قتل بنى جذيمة وأخذ أموالهم كان مخطئا قطعا وكذلك الذين تيمموا إلى الآباط وعمار الذى تمعك فى التراب للجنابة كما تمعك الدابة بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلوا كانوا مخطئين قطعا وفى زماننا لو أسلم قوم فى بعض الأطراف ولم
____________________
(19/209)
يعلموا بوجوب الحج أو لم يعلموا تحريم الخمر لم يحدوا على ذلك وكذلك لو نشأوا بمكان جهل
وقد زنت على عهد عمر امرأة فلما أقرت به قال عثمان انها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يحدوها واستحلال الزنى خطأ قطعا
والرجل إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فهو مخطىء قطعا ولا إثم عليه باتفاق وكذلك لا كفارة عليه عند الاكثرين
ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل فهو مخطىء قطعا إذا تبين له الأكل بعد الفجر ولا إثم عليه وفى القضاء نزاع وكذلك من اعتقد غروب الشمس فتبين بخلافه ومثل هذا كثير
وقول الله تعالى فى القرآن ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال الله تعالى ( قد فعلت ( ولم يفرق بين الخطأ القطعى فى مسألة قطعية أو ظنية والظنى مالا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان اخطأ قطعا قالوا فمن قال ان المخطىء فى مسألة قطعية أو ظنية يأثم فقد خالف الكتاب والسنة والاجماع القديم
____________________
(19/210)
قالوا وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافى بحسب حال المعتقدين ليس هو وصفا للقول فى نفسه فان الانسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا وقد يكون الانسان ذكيا قوى الذهن سريع الإدراك فيعرف من الحق ويقطع به مالا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا
فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الانسان من الأدلة وبحسب قدرته على الاستدلال والناس يختلفون فى هذا وهذا فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال كل من خالفه قد خالف القطعى بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد وهذا مما يختلف فيه الناس فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس
ومنهم من فرق بفرق ثالث وقال المسائل الأصولية هي المعلومة بالعقل فكل مسألة علمية استقل العقل بدركها فهي من مسائل الأصول التى يكفر أو يفسق مخالفها والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع قالوا فالأول كمسائل الصفات والقدر والثانى كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار
____________________
(19/211)
فيقال لهم ما ذكرتموه بالضد أولى فان الكفر والفسق أحكام شرعية ليس ذلك من الأحكام التى يستقل بها العقل إلى أن قال وحينئذ فان كان الخطأ فى المسائل العقلية التى يقال إنها أصول الدين كفرا فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة فى العقل المبتدعة فى الشرع هم الكفار لا من خالفهم وان لم يكن الخطأ فيها كفرا فلا يكفر من خالفهم فيها فثبت أنه ليس كافرا فى حكم الله ورسوله على التقديرين ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة فى الدين بل يجعلونها من الايمان الذى لابد منه ويكفرون من خالفهم فيها ويستحلون دمه كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم
واهل السنة لا يبتدعون قولا ولا يكفرون من اجتهد فاخطأ وإن كان مخالفا لهم مستحلا لدمائهم كما لم تكفر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلى ومن والاهما وإستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم
وكلام هؤلاء المتكلمين فى هذه المسائل بالتصويب والتخطئة والتأثيم ونفيه والتكفير ونفيه لكونهم بنوا على القولين المتقدمين فى قول القدرية الذين يجعلون كل مستدل قادرا على معرفة الحق
____________________
(19/212)
فيعذب كل من لم يعرفه وقول الجهمية الجبرية الذين يقولون لا قدرة للعبد على شيء أصلا بل الله يعذب بمحض المشيئة فيعذب من لم يعمل ذنبا قط وينعم من كفر وفسق وقد وافقهم على ذلك كثير من المتأخرين
وهؤلاء يقولون يجوز أن يعذب الأطفال والمجانين وإن لم يفعلوا ذنبا قط ثم منهم من يجزم بعذاب أطفال الكفار فى الآخرة ومنهم من يجوزه ويقول لا أدري ما يقع وهؤلاء يجوزون أن يغفر لأفسق أهل القبلة بلا سبب أصلا ويعذب الرجل الصالح على السيئة الصغيرة وان كانت له حسنات أمثال الجبال بلا سبب أصلا بل بمحض المشيئة
وأصل الطائفتين أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح إلى آخر ما نقل رحمه الله
ثم قال وبهذا يظهر القول الثالث فى هذا الأصل وهو أنه ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورا أو فعل محظورا وهذا هو قول الفقهاء والأئمة وهو القول المعروف عن سلف الأمة وقول جمهور المسلمين وهذا القول يجمع الصواب من القولين
____________________
(19/213)
فالصواب من القول الأول قول الجهمية الذى وافقوا فيه السلف والجمهور وهو أنه ليس كل من طلب واجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق فيه بل استطاعة الناس فى ذلك متفاوتة
والقدرية يقولون ان الله تعالى سوى بين المكلفين فى القدرة ولم يخص المؤمنين بما فضلهم به على الكفار حتى آمنوا ولا خص المطيعين بما فضلهم به على العصاة حتى أطاعوا وهذا من أقوال القدرية والمعتزلة وغيرهم التى خالفوا بها الكتاب والسنة واجماع السلف والعقل الصريح كما بسط فى موضعه
ولهذا قالوا إن كل مستدل فمعه قدرة تامة يتوصل بها إلى معرفة الحق ومعلوم ان الناس إذا اشتبهت عليهم القبلة فى السفر فكلهم مأمورون بالاجتهاد والاستدلال على جهة القبلة ثم بعضهم يتمكن من معرفة جهتها وبعضهم يعجز عن ذلك فيغلط فيظن فى بعض الجهات أنها جهتها ولا يكون مصيبا فى ذلك لكن هو مطيع لله ولا إثم عليه فى صلاته اليها لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها فعجزهم عن العلم بها كعجزه عن التوجه اليها كالمقيد والخائف والمحبوس والمريض الذى لا يمكنه التوجه اليها
ولهذا كان الصواب في الأصل الثاني قول من يقول إن الله لايعذب فى الآخرة إلا من عصاه بترك
____________________
(19/214)
المأمور أو فعل المحظور والمعتزلة فى هذا وافقوا الجماعة بخلاف الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم فإنهم قالوا بل يعذب من لا ذنب له أو نحو ذلك
ثم هؤلاء يحتجون على المعتزلة فى نفى الايجاب والتحريم العقلى بقوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وهو حجة عليهم أيضا فى نفى العذاب مطلقا إلا بعد ارسال الرسل وهم يجوزون التعذيب قبل ارسال الرسل فأولئك يقولون يعذب من لم يبعث إليه رسولا لأنه فعل القبائح العقلية وهؤلاء يقولون بل يعذب من لم يفعل قبيحا قط كالأطفال وهذا مخالف للكتاب والسنة والعقل أيضا قال تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وقال تعالى عن أهل النار ( كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم الا فى ضلال كبير ) فقد أخبر سبحانه وتعالى بصيغة العموم أنه كلما القى فيها فوج سألهم الخزنة هل جاءهم نذير فيعترفون بأنهم قد جاءهم نذير فلم يبق فوج يدخل النار الا وقد جاءهم نذير فمن لم يأته نذير لم يدخل النار
وقال ( ذلك ان لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ) أى هذا بهذا السبب فعلم أنه لا يعذب من كان غافلا ما لم يأته
____________________
(19/215)
نذير ودل أيضا على أن ذلك ظلم تنزه سبحانه عنه
وأيضا فان الله تعالى قد أخبر فى غير موضع انه لا يكلف نفسا الا وسعها كقوله ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وقوله تعالى ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها ) وقوله ( لا تكلف نفس إلا وسعها ) وقوله ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها )
وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وقد دعاه المؤمنون بقولهم ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ( ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به ) فقال ( قد فعلت )
فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا ما تعجز عنه خلافا للجهمية المجبرة ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطىء والناسى خلافا للقدرية والمعتزلة
وهذا فصل الخطاب فى هذا الباب فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذى كلفه الله إياه وهو مطيع لله مستحق
____________________
(19/216)
للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله ألبته خلافا للجهمية المجبرة وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله لكن قد يعلم الحق فى نفس الأمر وقد لا يعلمه خلافا للقدرية والمعتزلة فى قولهم كل من استفرغ وسعه علم الحق فان هذا باطل كما تقدم بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب
وكذلك الكفار من بلغه دعوة النبى فى دار الكفر وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشى وغيره ولم تمكنه الهجرة إلى دار الاسلام ولا التزام جميع شرائع الاسلام لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الاسلام فهذا مؤمن من أهل الجنة كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون وكما كانت امرأة فرعون بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر فإنهم كانوا كفارا ولم يمكنه ان يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الاسلام فإنه دعاهم إلى التوحيد والايمان فلم يجيبوه قال تعالى عن مؤمن آل فرعون ( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا
وكذلك النجاشى هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه فى
____________________
(19/217)
الدخول فى الاسلام بل إنما دخل معه نفر منهم ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلى عليه فصلى عليه النبى بالمدينة خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه وأخبرهم بموته يوم مات وقال ( إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات ) وكثير من شرائع الاسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت بل قد روى أنه لم يصل الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤدى الزكاة الشرعية لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه
وهذا مثل الحكم فى الزنى للمحصن بحد الرجم وفى الديات بالعدل والتسوية فى الدماء بين الشريف والوضيع النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك
والنجاشى ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن فان قومه لا يقرونه على ذلك وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفى نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا ألا وسعها
____________________
(19/218)
وعمر بن عبد العزيز عودى وأوذى على بعض ما أقامه من العدل وقيل إنه سم على ذلك فالنجاشى وأمثاله سعداء فى الجنة وان كانوا لم يلتزموا من شرائع الاسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التى يمكنهم الحكم بها
ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب قال الله تعالى ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل اليكم وما أنزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا اولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ) وهذه الآية قد قال طائفة من السلف إنها نزلت فى النجاشى ويروى هذا عن جابر وبن عباس وأنس ومنهم من قال فيه وفى اصحابه كما قال الحسن وقتادة وهذا مراد الصحابة ولكن هو المطاع فان لفظ الآية لفظ الجمع لم يرد بها واحد
وعن عطاء قال نزلت فى أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى فآمنوا بمحمد ولم يذكر هؤلاء من آمن بالنبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة مثل عبد الله بن سلام وغيره ممن كان يهوديا وسلمان الفارسى وغيره ممن كان نصرانيا الا هؤلاء صاروا من المؤمنين فلا يقال فيهم ( وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل اليكم
____________________
(19/219)
وما أنزل اليهم ) ولا يقول أحد إن اليهود والنصارى بعد اسلامهم وهجرتهم ودخولهم فى جملة المسلمين المهاجرين المجاهدين يقال انهم من أهل الكتاب أى من جملتهم وقد آمنوا بالرسول كما قال تعالى فى المقتول خطأ ( وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ) إلى قوله ( عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) فهو من العدو ولكن هو كان قد آمن وما أمكنه الهجرة وإظهار الايمان والتزام شرائعه فسماه مؤمنا لأنه فعل من الايمان ما يقدر عليه
وهذا كما أنه قد كان بمكة جماعة من المؤمنين يستخفون بإيمانهم وهم عاجزون عن الهجرة قال تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ) فعذر سبحانه المستضعف العاجز عن الهجرة وقال تعالى ( وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) فأولئك كانوا عاجزين عن اقامة دينهم فقد سقط عنهم ما عجزوا عنه فاذا
____________________
(19/220)
كان هذا فيمن كان مشركا وآمن فما الظن بمن كان من أهل الكتاب وآمن
وقوله ( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن ) قيل هو الذى يكون عليه لباس أهل الحرب مثل ان يكون فى صفهم فيعذر القاتل لأنه مأمور بقتاله فتسقط عنه الدية وتجب الكفارة وهو قول الشافعى وأحمد فى أحد القولين وقيل بل هو من أسلم ولم يهاجر كما يقوله أبو حنيفة لكن هذا قد أوجب فيه الكفارة وقيل اذا كان من اهل الحرب لم يكن له وارث فلا يعطى أهل الحرب ديته بل تجب الكفارة فقط وسواء عرف أنه مؤمن وقتل خطأ أو ظن أنه كافر وهذا ظاهر الآية
وقد قال بعض المفسرين ان هذه الآية نزلت فى عبد الله بن سلام وأصحابه كما نقل عن بن جريج ومقاتل وبن زيد يعنى قوله ( وان من أهل الكتاب ) وبعضهم قال انها فى مؤمنى أهل الكتاب فهو كالقول الأول وإن أراد العموم فهو كالثانى وهذا قول مجاهد ورواه أبو صالح عن بن عباس
وقول من ادخل فيها بن سلام وأمثاله ضعيف فان هؤلاء من المؤمنين ظاهرا وباطنا من كل وجه لا يجوز أن يقال فيهم ( وان
____________________
(19/221)
من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل اليكم وما أنزل اليهم خاشعين لله لايشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب )
أما أولا فان بن سلام أسلم فى أول ما قدم النبى المدينة وقال فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب وسورة آل عمران إنما نزل ذكر أهل الكتاب فيها لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر
وثانيا أن بن سلام وأمثاله هو واحد من جملة الصحابة والمؤمنين وهو من أفضلهم وكذلك سلمان الفارسى فلا يقال فيه إنه من أهل الكتاب وهؤلاء لهم أجور مثل أجور سائر المؤمنين بل يؤتون أجرهم مرتين وهم ملتزمون جميع شرائع الاسلام فأجرهم أعظم من أن يقال فيه ( أولئك لهم أجرهم عند ربهم )
وأيضا فان أمر هؤلاء كان ظاهرا معروفا ولم يكن أحد يشك فيهم فأى فائدة فى الاخبار بهم وما هذا الا كما يقال الاسلام دخل فيه من كان مشركا أو كان كتابيا وهذا معلوم لكل أحد بأنه دين لم يعرف قبل محمد فكل من دخل فيه كان قبل ذلك إما مشركا وإما من أهل الكتاب إما كتابيا وإما
____________________
(19/222)
أميا فأى فائدة فى الاخبار بهذا بخلاف أمر النجاشى وأصحابه ممن كانوا متظاهرين بكثير مما عليه النصارى فان أمرهم قد يشتبه
ولهذا ذكروا فى سبب نزول هذه الآية انه لما مات النجاشى صلى عليه النبى صلى الله عليه وسلم فقال قائل تصلى على هذا العلج النصرانى وهو فى أرضه فنزلت هذه الآية هذا منقول عن جابر وأنس بن مالك وبن عباس وهم من الصحابة الذين باشروا الصلاة على النجاشى وهذا بخلاف بن سلام وسلمان الفارسى فانه اذا صلى على واحد من هؤلاء لم ينكر ذلك أحد
وهذا مما يبين أن المظهرين للإسلام فيهم منافق لا يصلى عليه كما نزل فى حق بن أبى وأمثاله وان من هو فى أرض الكفر يكون مؤمنا يصلى عليه كالنجاشى
ويشبه هذه الآية انه لما ذكر تعالى اهل الكتاب فقال ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون واكثرهم الفاسقون لن يضروكم الا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا الا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
____________________
(19/223)
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى الخيرات وأولئك من الصالحين ) وهذه الآية قيل انها نزلت فى عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل أن قوله ( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) هو عبد الله بن سلام واصحابه
وهذا والله اعلم من نمط الذى قبله فان هؤلاء ما بقوا من أهل الكتاب وإنما المقصود من هو منهم فى الظاهر وهو مؤمن لكن لا يقدر على ما يقدر عليه المؤمنون المهاجرون المجاهدون كمؤمن آل فرعون هو من آل فرعون وهو مؤمن ولهذا قال تعالى ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه اتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) فهو من آل فرعون وهو مؤمن
وكذلك هؤلاء منهم المؤمنون ولهذا قال ( واكثرهم الفاسقون وقد قال قبل هذا ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون واكثرهم الفاسقون ) ثم قال ( لن يضروكم الا أذى ) وهذا عائد اليهم جميعهم لا إلى أكثرهم ولهذا قال ( وان يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولايمكنه الهجرة وهو مكره على القتال ويبعث
____________________
(19/224)
يوم القيامة على نيته كما فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( يغزو جيش هذا البيت فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل يارسول الله وفيهم المكره قال يبعثون على نياتهم وهذا فى ظاهر الأمر وان قتل وحكم عليه بما يحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته كما ان المنافقين منا يحكم لهم فى الظاهر بحكم الاسلام ويبعثون على نياتهم
والجزاء يوم القيامة على ما فى القلوب لا على مجرد الظواهر ولهذا روى ان العباس قال يارسول الله كنت مكرها قال ( اما ظاهرك فكان علينا واما سريرتك فالى الله )
وبالجملة لا خلاف بين المسلمين ان من كان فى دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها بل الوجوب بحسب الامكان وكذلك ما لم يعلم حكمه فلو لم يعلم ان الصلاة واجبة عليه وبقى مدة لم يصل لم يجب عليه القضاء فى اظهر قولى العلماء وهذا مذهب ابى حنيفة وأهل الظاهر وهو أحد الوجهين فى مذهب أحمد
وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء الزكاة وغير ذلك ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يحد باتفاق المسلمين وإنما
____________________
(19/225)
اختلفوا فى قضاء الصلوات وكذلك لو عامل بما يستحله من ربا أو ميسر ثم تبين له تحريم ذلك بعد القبض هل يفسخ العقد أم لا كما لا نفسخه لو فعل ذلك قبل الاسلام وكذلك لو تزوج نكاحا يعتقد صحته على عادتهم ثم لما بلغته شرائع الاسلام رأى أنه قد أخل ببعض شروطه كما لو تزوج فى عدة وقد انقضت فهل يكون هذا فاسدا أو يقر عليه كما لو عقده قبل الاسلام ثم أسلم
وأصل هذا كله ان الشرائع هل تلزم من لم يعلمها ام لا تلزم أحدا إلا بعد العلم أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة هذا فيه ثلاثة أقوال هي ثلاثة أوجه فى مذهب أحمد ذكر القاضي أبو يعلى الوجهين المطلقين فى كتاب له وذكر هو وغيره الوجه المفرق فى أصول الفقه وهو أن النسخ لا يثبت فى حق المكلف حتى يبلغه الناسخ وأخرج أبو الخطاب وجها فى ثبوته
ومن هذا الباب من ترك الطهارة الواجبة ولم يكن علم بوجوبها أو صلى فى الموضع المنهى عنه قبل علمه بالنهى هل يعيد الصلاة فيه روايتان منصوصتان عن أحمد
والصواب فى هذا الباب كله أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم وأنه لا يقضى ما لم يعلم وجوبه فقد ثبت فى الصحيح أن
____________________
(19/226)
من الصحابة من أكل بعد طلوع الفجر فى رمضان حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم يأمرهم النبى صلى الله عليه وسلم بالقضاء ومنهم من كان يمكث جنبا مدة لا يصلى ولم يكن يعلم جواز الصلاة بالتيمم كأبى ذر وعمر بن الخطاب وعمار لما أجنب ولم يأمر النبى أحدا منهم بالقضاء ولا شك ان خلقا من المسلمين بمكة والبوادى صاروا يصلون إلى بيت المقدس حتى بلغهم النسخ ولم يؤمروا بالاعادة ومثل هذا كثير
وهذا يطابق الأصل الذى عليه السلف والجمهور أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فالوجوب مشروط بالقدرة والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور أو فعل محظور بعد قيام الحجة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(19/227)
وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه ( فصل (
قول الناس العلوم الشرعية والعقلية قد يكون بينهما عموم وخصوص وقد يكون احدهما قسيم الآخر ويكون الصواب فى مواضع ان يقال السمعية والعقلية وذلك ان قولنا العلوم الشرعية قد يراد به ما أمر به الشارع وقد يراد به ما أخبر به الشارع وقد يراد به ما شرع أن يعلم وقد يراد به ما علمه الشارع
فالأول هو العلم المشروع كما يقال العمل المشروع وهو الواجب أو المستحب وربما دخل فيه المباح بالشرع
والثانى هو العلم المستفاد من الشارع وهو ما علمه الرسول لأمته بما بعث به من الايمان والقرآن والكتاب والحكمة وهو ما دل عليه الكتاب والسنة أو الاجماع أو توابع ذلك
فالأول اضافه له بحسب حكمه فى الشرع والثانى اضافه إلى
____________________
(19/228)
طريقه ودليله فقولنا فى الأول علم شرعى كما يقال عمل شرعى والثانى كما يقال علم عقلى وسمعى الأول نظر فيه من جهة المدح والذم والثواب والعقاب والأمر والنهى وهو خطاب التكليف والثانى نظر فيه من جهة طريقه ودليله وصحته وفساده ومطابقته ومخالفته وهو من جهة خطاب الأخبار
ثم كل من القسمين على قسمين فإنه إذا عرف أن الشرعى إما أن يكون ما أخبر به وأما أن يكون ما أمر به فما أخبر به إما أن يبين له دليلا عقليا أو لا يذكر وما أمر به اما أن يكون مقصودا للشارع أو لازما لمقصود الشارع وهو ما لا يتم مقصوده الواجب أو المستحب إلا به فهذه أربعة أقسام
وان شئت أن تقسم المأمور به إلى ما يعرف بالعقل فقط والى ما يعرف بالشرع أيضا فيكون شرعيا خبرا وأمرا فان ما علم بالشرع لا يخلو اما أن يراد به اخبار الشارع أو دلالة الشارع فاذا عنى به ما دل عليه الشارع مثل دلالته على آيات الربوبية ودلالة الرسالة ونحو ذلك فانه يجتمع فى هذا ان يكون شرعيا عقليا فان الشارع لما نبه العقول على الآيات والبراهين والعبر اهتدت العقول فعلمت ما هداها إليه الشارع
____________________
(19/229)
واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مثل الاقرار بوجود الخالق وبوحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته وعظمته والاقرار بالثواب وبرسالة محمد وغير ذلك مما يعلم بالعقل قد دل الشارع على أدلته العقلية وهذه الأصول التى يسميها أهل الكلام العقليات وهى ما تعلم بالعقل فانها تعلم بالشرع لا أعنى بمجرد أخباره فان ذلك لا يفيد العلم إلا بعد العلم بصدق المخبر فالعلم بها من هذا الوجه موقوف على ما يعلم بالعقل من الاقرار بالربوبية وبالرسالة وإنما أعنى بدلالته وهدايته كما أن ما يتعلمه المتعلمون ببيان المعلمين وتصنيف المصنفين إنما هو لما بينوه للعقول من الأدلة
فهذا موضع يجب التفطن له فان كثيرا من الغالطين من متكلم ومحدث ومتفقه وعامى وغيرهم يظن أن العلم المستفاد من الشرع إنما هو لمجرد اخباره تصديقا له فقط وليس كذلك بل يستفاد منه بالدلالة والتنبيه والارشاد جميع ما يمكن ذلك فيه من علم الدين
والقسم الثانى من الشرعى ما يعلم باخبار الشارع فهذا لا يخلو إما أن يمكن علمه بالعقل أيضا أولا يمكن فان لم يمكن فهذا يعلم بمجرد اخبار الشارع وأن امكن علمه بالعقل فهل يوجد مثل هذا وهو أن يكون أمر أخبر الشارع به وعلمه ممكن بالعقل أيضا ولم يدل الشارع على دليل له عقلى فهذا ممكن ولا نقص إذا وقع مثل
____________________
(19/230)
هذا فى الشريعة فانه اذا عرف صدق المبلغ جاز أن يعلم بخبره كل ما يحتاج إليه ولا ريب ان كثيرا من الناس لا ينالون علم ذلك الا من جهة خبر الشارع وقد أحسنوا فى ذلك حيث آمنوا به لكن هل ذلك واقع مطلقا
وقد ذهب خلائق من المتفلسفة والمتكلمة والمتفقهة والمتصوفة والعامة وغير ذلك إلى وقوع ذلك وهو ان فيما أخبر به الشارع أمورا قد تعلم بالعقل أيضا وان كان الشارع لم يذكر دلالته العقلية
وهذا فيه نظر فان من تأمل وجوه دلالة الكتاب والسنة وما فيها من جلى وخفى وظاهر وباطن قد يقول ان الشارع نبه فى كل ما يمكن علمه بالعقل على دلالة عقلية كما قد حصل الاتفاق على أن ذلك واقع فى مسائل أصول الدين الكبار وفى هذا نظر
فصارت العلوم بهذا الاعتبار أما أن تعلم بالشرع فقط وهو ما يعلم بمجرد اخبار الشرع مما لا يهتدى العقل إليه بحال لكن هذه العلوم قد تعلم بخبر آخر غير خبر شارعنا محمد واما أن تعلم بالعقل فقط كمرويات الطب والحساب والصناعات واما أن تعلم بهما فاما أن يكون الشارع قد هدى إلى دلالتها كما أخبر بها أم لا فإن كان الأول فهي عقليات الشرعيات أو عقلى
____________________
(19/231)
الشارع أو ما شرع عقله أو العقل المشروع واما أن يكون قد أخبر بها فقط فهذه عقلية من غير الشارع فيجب التفطن
لكن العقلى قد يعقل من الشارع وهو عامة أصول الدين وقد يعقل من غيره ولم يعقل منه فهذا فى وجوده نظر
وبهذا التحرير يتبين لك أن عامة المتفلسفة وجمهور المتكلمة جاهلة بمقدار العلوم الشرعية ودلالة الشارع عليها ويوهمهم علو العقلية عليها فان جهلهم ابتنى على مقدمتين جاهليتين
إحداهما ان الشريعة ما أخبر الشارع بها
والثانية أن ما يستفاد بخبره فرع للعقليات التى هي الأصول فلزم من ذلك تشريف العقلية على الشرعية
وكلا المقدمتين باطلة فان الشرعيات ما أخبر الشارع بها وما دل الشارع عليها وما دل الشارع عليه وينتظم جميع ما يحتاج إلى علمه بالعقل وجميع الأدلة والبراهين وأصول الدين ومسائل العقائد بل قد تدبرت عامة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدت دلائل الكتاب والسنة تأتى بخلاصته الصافيه عن الكدر وتأتى بأشياء
____________________
(19/232)
لم يهتدوا لها وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع كثرتها واضطرابها وقد بينت تفصيل هذه الجملة فى مواضع
وأما إذا أريد بالشرعية ما شرع علمه فهذا يدخل فيه كل علم مستحب أو واجب وقد يدخل فيه المباح وأصول الدين على هذا من العلوم الشرعية أيضا وما علم بالعقل وحده فهو من الشرعية أيضا إذا كان علمه مأمورا به فى الشرع
وعلى هذا فتكون الشرعية قسمين عقلية وسمعية وتجعل السمعية هنا بدل الشرعية فى الطريقة الأولى وقد تبين بهذا أن كل علم عقلى أمر الشرع به أو دل الشرع عليه فهو شرعى أيضا اما باعتبار الأمر أو الدلالة او باعتبارهما جميعا
ويتبين بهذا التحرير أن ما خرج من العلوم العقلية عن مسمى الشرعية وهو ما لم يأمر به الشارع ولم يدل عليه فهو يجرى مجرى الصناعات كالفلاحة والبناية والنساجة وهذا لا يكون إلا فى العلوم المفضولة المرجوحه ويتبين أن مسمى الشرعية أشرف وأوسع وأن بين العقلية والشرعية عموما وخصوصا ليس أحدهما قسيم الآخر وانما السمعى قسيم العقلى وأنه يجتمع فى العلم أن يكون عقليا وهو شرعى بالاعتبارات الثلاثة إخباره به أمره به دلالة عليه فتدبر أن النسبة
____________________
(19/233)
إلى الشرع بهذه الوجوه الثلاثة ثم ما أمر به الشارع من العلم إما أن يكون أمره به يعود أو لزوما من جهة ما لا يتأتى المشروع إلا به
وكذلك الحكم الشرعى يريد به المعتزلة ما أخبر به الشارع فقط ويريد به الأشعرية ما أثبته الشارع وقد وافق كل فريق قوم من أصحابنا وغيرهم والصواب أن الحكم الشرعى يكون تارة ما أخبر به ويكون تارة ما أثبته وتارة يجتمع الأمران والله أعلم
____________________
(19/234)
وقال شيخ الإسلام فصل جامع نافع
الأسماء التى علق الله بها الأحكام فى الكتاب والسنة منها ما يعرف حده ومسماه بالشرع فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج والايمان والاسلام والكفر والنفاق ومنه ما يعرف حده باللغة كالشمس والقمر والسماء والأرض والبر والبحر ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم فيتنوع بحسب عادتهم كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التى لم يحدها الشارع بحد ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس
فما كان من النوع الأول فقد بينه الله ورسوله وما كان من النوع الثانى والثالث فالصحابة والتابعون المخاطبون بالكتاب والسنة قد عرفوا المراد به لمعرفتهم بمسماه المحدود فى اللغة أو المطلق فى عرف الناس
____________________
(19/235)
وعادتهم من غير حد شرعى ولا لغوي وبهذا يحصل التفقه فى الكتاب والسنة
والاسم اذا بين النبى حد مسماه لم يلزم أن يكون قد نقله عن اللغة أو زاد فيه بل المقصود أنه عرف مراده بتعريفه هو صلى الله عليه وسلم كيفما كان الأمر فان هذا هو المقصود وهذا كاسم الخمر فانه قد بين أن كل مسكر خمر فعرف المراد بالقرآن وسواء كانت العرب قبل ذلك تطلق لفظ الخمر على كل مسكر أو تخص به عصير العنب لا يحتاج إلى ذلك اذ المطلوب معرفة ما أراد الله ورسوله بهذا الاسم وهذا قد عرف ببيان الرسول وبأن الخمر فى لغة المخاطبين بالقرآن كانت تتناول نبيذ التمر وغيره ولم يكن عندهم بالمدينة خمر غيرها وإذا كان الامر كذلك فما أطلقه الله من الأسماء وعلق به الأحكام من الأمر والنهى والتحليل والتحريم لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله
فمن ذلك اسم الماء مطلق فى الكتاب والسنة ولم يقسمه النبى صلى الله عليه وسلم إلى قسمين طهور وغير طهور فهذا التقسيم مخالف للكتاب والسنة وانما قال الله ( فلم تجدوا ماء ) وقد بسطنا هذا فى غير هذا الموضع وبينا ان كل ما وقع عليه اسم الماء فهو طاهر طهور سواء كان مستعملا فى طهر واجب أو مستحب
____________________
(19/236)
أو غير مستحب وسواء وقعت فيه نجاسة أو لم تقع اذا عرف انها قد استحالت فيه واستهلكت واما أن ظهر أثرها فيه فانه يحرم استعماله لأنه استعمال للمحرم
فصل
ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاما متعددة فى الكتاب والسنة ولم يقدر لا أقله ولا أكثره ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه واللغة لا تفرق بين قدر وقدر فمن قدر فى ذلك حدا فقد خالف الكتاب والسنة والعلماء منهم من يحد أكثره وأقله ثم يختلفون فى التحديد ومنهم من يحد أكثره دون أقله والقول الثالث أصح انه لا حد لا لأقله ولا لأكثره بل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض وان قدر أنه أقل من يوم استمر بها على ذلك فهو حيض وان قدر ان أكثره سبعة عشر استمر بها على ذلك فهو حيض وأما اذا استمر الدم بها دائما فهذا قد علم أنه ليس بحيض لأنه قد علم من الشرع واللغة ان المرأة تارة تكون طاهرا وتارة تكون حائضا ولطهرها أحكام ولحيضها أحكام
____________________
(19/237)
والعادة الغالبة انها تحيض ربع الزمان ستة أو سبعة والى ذلك رد النبى المستحاضة التى ليس لها عادة ولا تمييز والطهر بين الحيضتين لا حد لأكثره باتفاقهم إذ من النسوة من لا تحيض بحال وهذه اذا تباعد ما بين اقرائها فهل تعتد بثلث حيض أو تكون كالمرتابة تحيض سنة فيه قولان للفقهاء وكذلك أقله على الصحيح لا حد له بل قد تحيض المرأة فى الشهر ثلاث حيض وان قدر انها حاضت ثلاث حيض فى اقل من ذلك أمكن لكن اذا ادعت انقضاء عدتها فيما يخالف العادة المعروفة فلا بد ان يشهد لها بطانة من أهلها كما روى عن على رضى الله عنه فيمن ادعت ثلاث حيض فى شهر
والأصل فى كل ما يخرج من الرحم انه حيض حتى يقوم دليل على انه استحاضة لأن ذلك هو الدم الأصلى الجبلى وهو دم ترخيه الرحم ودم الفساد دم عرق ينفجر وذلك كالمرض والأصل الصحة لا المرض فمتى رأت المرأة الدم جار من رحمها فهو حيض تترك لأجله الصلاة ومن قال أنها تغتسل عقيب يوم وليلة فهو قول مخالف للمعلوم من السنة واجماع السلف فانا نعلم أن النساء كن يحضن على عهد النبى وكل امرأة تكون فى أول أمرها مبتدأة قد ابتدأها الحيض ومع هذا فلم يأمر النبى صلى الله عليه
____________________
(19/238)
وسلم واحدة منهن بالاغتسال عقب يوم وليلة ولو كان ذلك منقولا لكان ذلك حدا لأقل الحيض والنبى لم يحد اقل الحيض باتفاق اهل الحديث والمروى فى ذلك ثلاث وهى أحاديث مكذوبة عليه باتفاق اهل العلم بحديثه وهذا قول جماهير العلماء وهو أحد القولين فى مذهب احمد
وكذلك المرأة المنتقلة اذا تغيرت عادتها بزيادة او نقص أو انتقال فذلك حيض حتى يعلم أنه استحاضة باستمرار الدم فانها كالمبتدأة
والمستحاضة ترد إلى عادتها ثم إلى تمييزها ثم إلى غالب عادات النساء كما جاء فى كل واحدة من هؤلاء سنة عن النبى صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الامام احمد بالسنن الثلاث ومن العلماء من أخذ بحديثين ومنهم من لم يأخذ الا بحديث بحسب ما بلغه وما أدى إليه اجتهاده رضى الله عنهم أجمعين
والحامل اذا رأت الدم على الوجه المعروف لها فهو دم حيض بناء على الأصل
والنفاس لا حد لأقله ولا لأكثره فلو قدر أن امرأة رأت
____________________
(19/239)
الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع فهو نفاس لكن ان اتصل فهو دم فساد وحينئذ فالحد أربعون فانه منتهى الغالب جاءت به الآثار
ولا حد لسن تحيض فيه المرأة بل لو قدر انها بعد ستين أو سبعين زاد الدم المعروف من الرحم لكان حيضا واليأس المذكور فى قوله ( واللائي يئسن من المحيض ) ليس هو بلوغ سن لو كان بلوغ سن لبينه الله ورسوله وانما هو ان تيأس المرأة نفسها من أن تحيض فاذا انقطع دمها ويئست من أن يعود فقد يئست من المحيض ولو كانت بنت أربعين ثم اذا تربصت وعاد الدم تبين انها لم تكن آيسة وان عاودها بعد الأشهر الثلاثة فهو كما لو عاود غيرها من الآيسات والمستريبات ومن لم يجعل هذا هو اليأس فقوله مضطرب ان جعله سنا وقوله مضطرب ان لم يحد اليأس لا بسن ولا بانقطاع طمع المرأة فى المحيض وبنفس الانسان لا يعرف وإذا لم يكن للنفاس قدر فسواء ولدت المرأة توأمين أو أكثر ما زالت ترى الدم فهي نفساء وما تراه من حين تشرع فى الطلق فهو نفاس وحكم دم النفاس حكم دم الحيض
ومن لم يأخذ بهذا بل قدر أقل الحيض بيوم أو يوم وليلة أو ثلاثة ايام فليس معه فى ذلك ما يعتمد عليه فان النقل فى ذلك عن
____________________
(19/240)
النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه باطل عند أهل العلم بالحديث والواقع لا ضابط له فمن لم يعلم حيضا الا ثلاثا قال غيره قد علم يوما وليلة ومن لم يعلم الا يوما وليلة قد علم غيره يوما ونحن لا يمكننا ان ننفى مالا نعلم واذا جعلنا حد الشرع ما علمناه فقلنا لا حيض دون ثلاث أو يوم وليلة أو يوم لانا لم نعلم الا ذلك كان هذا وضع شرع من جهتنا بعد العلم فان عدم العلم ليس علما بالعدم ولو كان هذا حدا شرعيا فى نفس الأمر لكان الرسول أولى بمعرفته وبيانه منا كما حد للأمة ما حده الله لهم من اوقات الصلوات والحج والصيام ومن اماكن الحج ومن نصب الزكاة وفرائضها وعدد الصلوات وركوعها وسجودها فلو كان للحيض وغيره مما لم يقدره النبى حد عند الله ورسوله لبينه الرسول فلما لم يحده دل على انه رد ذلك إلى ما يعرفه النساء ويسمى فى اللغة حيضا ولهذا كان كثير من السلف اذا سئلوا عن الحيض قالوا سلوا النساء فانهن اعلم بذلك يعنى هن يعلمن ما يقع من الحيض ومالا يقع
والحكم الشرعى تعلق بالاسم الدال على الواقع فما وقع من دم فهو حيض اذا لم يعلم انه دم عرق او جرح فان الدم الخارج اما أن ترخيه الرحم او ينفجر من عرق من العروق او من جلد المرأة أو
____________________
(19/241)
لحمها فيخرج منه وذلك يخرج من عروق صغار لكن دم الجرح الصغير لا يسيل سيلا مستمرا كدم العرق الكبير ولهذا قال النبى للمستحاضة ان هذا دم عرق وليست بالحيضة وانما يسيل الجرح اذا انفجر عرق كما ذكرنا فصد الانسان فان الدم فى العروق الصغار والكبار ( فصل )
والنبى صلى الله عليه وسلم قد أمر أمته بالمسح على الخفين فقال صفوان بن عسال أمرنا رسول الله اذا كنا سفرا أو مسافرين ( ان لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم ) ولم يقيد ذلك بكون الخف يثبت بنفسه أولا يثبت بنفسه وسليما من الخرق والفتق أو غير سليم فما كان يسمى خفا ولبسه الناس ومشوا فيه مسحوا عليه المسح الذى اذن الله فيه ورسوله وكلما كان بمعناه مسح عليه فليس لكونه يسمى خفا معنى موثر بل الحكم يتعلق بما يلبس ويمشى فيه ولهذا جاء فى الحديث المسح على الجوربين
____________________
(19/242)
( فصل )
والله ورسوله علق القصر والفطر بمسمى السفر ولم يحده بمسافة ولافرق بين طويل وقصير ولو كان للسفر مسافة محدودة لبينه الله ورسوله ولا له فى اللغة مسافة محدودة فكلما يسميه أهل اللغة سفرا فانه يجوز فيه القصر والفطر كما دل عليه الكتاب والسنة وقد قصر أهل مكة مع النبى إلى عرفات وهى من مكة بريد فعلم ان التحديد بيوم أو يومين أو ثلاثة ليس حدا شرعيا عاما وما نقل فى ذلك عن الصحابة قد يكون خاصا كان فى بعض الأمور لايكون السفر الا كذلك ولهذا اختلفت الرواية عن كل منهم كابن عمر وبن عباس وغيرهما فعلم انهم لم يجعلوا للمسافر ولا الزمان حدا شرعيا عاما كمواقيت الصوم والصلاة بل حدوه لبعض الناس بحسب ما رأوه سفرا لمثله فى تلك الحال وكما يحد الحاد الغنى والفقير فى بعض الصور بحسب ما يراه لا لأن الشرع جعل للغنى والفقير مقدارا من المال يستوى فيه الناس كلهم بل قد يستغنى الرجل بالقليل وغيره لا يغنيه اضعافه لكثرة عياله وحاجاته وبالعكس
وبعض الناس قد يقطع المسافة العظيمة ولا يكون مسافرا كالبريد
____________________
(19/243)
إذا ذهب من البلد لتبليغ رسالة أو أخذ حاجة ثم كر راجعا من غير نزول فان هذا لا يسمى مسافرا بخلاف ما إذا تزود زاد المسافر وبات هناك فانه يسمى مسافرا وتلك المسافة يقطعها غيره فيكون مسافرا يحتاج ان يتزود لها ويبيت بتلك القرية ولا يرجع إلا بعد يوم أو يومين فهذا يسميه الناس مسافرا وذلك الذى ذهب إليها طردا وكر راجعا على عقبه لا يسمونه مسافرا والمسافة واحدة
فالسفر حال من أحوال السير لا يحد بمسافة ولا زمان وكان النبى صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء كل سبت راكبا وماشيا ولم يكن مسافرا وكان الناس يأتون الجمعة من العوالى والعقيق ثم يدركهم الليل فى أهلهم ولا يكونون مسافرين وأهل مكة لما خرجوا إلى منى وعرفة كانوا مسافرين يتزودون لذلك ويبيتون خارج البلد ويتأهبون أهبة السفر بخلاف من خرج لصلاة الجمعة أو غيرها من الحاجات ثم رجع من يومه ولو قطع بريدا فقد لايسمى مسافرا
وما زال الناس يخرجون من مساكنهم إلى البساتين التى حول مدينتهم ويعمل الواحد فى بستانه اشغالا من غرس وسقى وغير ذلك كما كانت الأنصار تعمل فى حيطانهم ولا يسمون مسافرين ولو أقام أحدهم طول النهار ولو بات فى بستانه وأقام فيه أياما ولو كان البستان ابعد من بريد فان البستان من توابع البلد عندهم والخروج
____________________
(19/244)
إليه كالخروج إلى بعض نواحى البلد والبلد الكبير الذى يكون اكثر من بريد متى سار من أحد طرفيه إلى الآخر لم يكن مسافرا فالناس يفرقون بين المتنقل فى المساكن وما يتبعها وبين المسافر الراحل عن ذلك كله كما كان أهل مدينة النبى يذهبون إلى حوائطهم ولا يكونون مسافرين والمدينة لم يكن لها سور بل كانت قبائل قبائل ودورا دورا وبين جانبيها مسافة كبيرة فلم يكن الراحل من قبيلة إلى قبيلة مسافرا ولو كان كل قبيلة حولهم حيطانهم ومزارعهم فان اسم المدينة كان يتناول هذا كله
ولهذا قال تعالى ( وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ) فجعل الناس قسمين أهل بادية هم الاعراب وأهل المدينة فكان الساكنون كلهم فى المدر أهل المدينة وهذا يتناول قباء وغيرها ويدل على أن اسم المدينة كان يتناول ذلك كله فانه لم يكن لها سور كما هي اليوم والأبواب تفتح وتغلق وانما كان لها انقاب وتلك الأنقاب وان كانت داخل قباء وغيرها لكن لفظ المدينة قد يعم حاضر البلد وهذا معروف فى جميع المدائن يقول القائل ذهبت إلى دمشق أو مصر أو بغداد أو غير ذلك وسكنت فيها واقمت فيها مدة ونحو ذلك وهو انما كان ساكنا خارج السور فاسم المدينة يعم تلك المساكن كلها وان كان الداخل
____________________
(19/245)
المسور أخص بالاسم من الخارج
وكذلك مدينة رسول الله كان لها داخل وخارج تفصل بينهما الانقاب واسم المدينة يتناول ذلك كله فى كتاب الله تعالى ولهذا كان هؤلاء كلهم يصلون الجمعة والعيدين خلف النبى وخلفائه لم تكن تقام جمعة ولا عيدان لا بقباء ولا غيرها كما كانوا يصلون الصلوات الخمس فى كل قبيلة من القبائل
ومن هذا الباب قول النبى ( ان بالمدينة لرجالا ) هو يعم جميع المساكن
وكذلك لفظ القرى الشامل للمدائن كقوله ( وكم من قرية أهلكناها ) وقوله ( لتنذر أم القرى ومن حولها ) وقوله ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث فى أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون ) وقوله ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ) فان هذا يتناول المساكن الداخلية والخارجية وان فصل بينها سور ونحوه فان البعث والاهلاك وغير ذلك لم يخص بعضهم دون بعض وعامة المدائن لها داخل وخارج
____________________
(19/246)
ولفظ الكعبة هو فى الأصل اسم لنفس البنية ثم فى القرآن قد استعمل فيما حولها كقوله ( هديا بالغ الكعبة ) وكذلك لفظ المسجد الحرام يعبر به عن المسجد وعما حوله من الحرم وكذلك لفظ بدر هو اسم للبئر ويسمى به ما حولها وكذلك أحد اسم للجبل ويتناول ما حوله فيقال كانت الوقعة بأحد وانما كانت تحت الجبل وكذلك يقال لمكان العقبة ولمكان القصر والعقيبة تصغير العقبة والقصير تصغير قصر ويكون قد كان هناك قصر صغير أو عقبة صغيرة ثم صار الاسم شاملا لما حول ذلك مع كبره فهذا كثير غالب فى اسماء البقاع
والمقصود أن المتردد فى المساكن لا يسمى مسافرا وإذا كان الناس يعتادون المبيت فى بساتينهم ولهم فيها مساكن كان خروجهم اليها كخروجهم إلى بعض نواحى مساكنهم فلا يكون المسافر مسافرا حتى يسفر فيكشف ويظهر للبرية الخارجة عن المساكن التى لا يسير السائر فيها بل يظهر فيها وينكشف فى العادة والمقصود أن السفر يرجع فيه إلى مسماه لغة وعرفا
____________________
(19/247)
فصل
وكذلك النبى قال ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيها دون خمس أواق صدقة وليس فيها دون خمس ذود صدقة ) وقال ( لا شيء فى الرقة حتى تبلغ مائتى درهم ) وقال في السارق ( يقطع اذا سرق ما يبلغ ثمن المجن ) وقال ( تقطع اليد فى ربع دينار ) والاوقية فى لغته أربعون درهما ولم يذكر للدرهم ولا للدينار حدا ولا ضرب هو درهما ولا كانت الدراهم تضرب فى أرضه بل تجلب مضروبة من ضرب الكفار وفيها كبار وصغار وكانوا يتعاملون بها تارة عددا وتارة وزنا كما قال ( زن وأرجح فان خير الناس أحسنهم قضاء ) وكان هناك وازن يزن بالأجر ومعلوم انهم إذا وزنوها فلابد لهم من صنجة يعرفون بها مقدار الدراهم لكن هذا لم يحده النبى صلى الله عليه وسلم ولم يقدره وقد ذكروا أن الدراهم كانت ثلاثة أصناف ثمانية دوانق وستة وأربعة فلعل البائع قد يسمى أحد تلك الأصناف فيعطيه المشترى من وزنها ثم هو مع هذا اطلق لفظ الدينار والدرهم ولم يحده فدل على أنه يتناول هذا كله وان من ملك من
____________________
(19/248)
الدراهم الصغار خمس أواق مائتى درهم فعليه الزكاة وكذلك من الوسطى وكذلك من الكبرى
وعلى هذا فالناس في مقادير الدراهم والدنانير على عاداتهم فما اصطلحوا عليه وجعلوه درهما فهو درهم وما جعلوه دينارا فهو دينار وخطاب الشارع يتناول ما اعتادوه سواء كان صغيرا أو كبيرا فاذا كانت الدراهم المعتادة بينهم كبارا لا يعرفون غيرها لم تجب عليه الزكاة حتى يملك منها مائتى درهم وان كانت صغارا لا يعرفون غيرها وجبت عليه اذا ملك منها مائتى درهم وان كانت مختلطة فملك من المجموع ذلك وجبت عليه وسواء كانت بضرب واحد أو ضروب مختلفة وسواء كانت خالصة أو مغشوشة مادام يسمى درهما مطلقا وهذا قول غير واحد من أهل العلم
فاما إذا لم يسم إلا مقيدا مثل أن يكون أكثره نحاسا فيقال له درهم أسود لا يدخل فى مطلق الدرهم فهذا فيه نظر وعلى هذا فالصحيح قول من أوجب الزكاة فى مائتى درهم مغشوشة كما هو قول أبى حنيفة وأحد القولين فى مذهب أحمد وإذا سرق السارق ثلاثة دراهم من الكبار أو الصغار أو المختلطة قطعت يده
وأما الوسق فكان معروفا عندهم أنه ستون صاعا والصاع
____________________
(19/249)
معروف عندهم وهو صاع واحد غير مختلف المقدار وهم صنعوه لم يجلب إليهم فلما علق الشارع الوجوب بمقدار خمسة أوسق كان هذا تعليقا بمقدار محدود يتساوى فيه الناس بخلاف الاواقى الخمسة فانه لم يكن مقدارا محدودا يتساوى فيه الناس بل حده فى عادة بعضهم أكثر من حده فى عادة بعضهم كلفظ المسجد والبيت والدار والمدينة والقرية هو مما تختلف فيه عادات الناس فى كبرها وصغرها ولفظ الشارع يتناولها كلها
ولو قال قائل ان الصاع والمد يرجع فيه إلى عادات الناس واحتج بان صاع عمر كان أكبر وبه كان يأخذ الخراج وهو ثمانية أرطال كما يقوله أهل العراق لكان هذا يمكن فيما يكون لأهل البلد فيه مكيالان كبير وصغير وتكون صدقة الفطر مقدرة بالكبير والوسق ستون مكيالا من الكبير فان النبى صلى الله عليه وسلم قدر نصاب الموسقات ومقدار صدقة الفطر بصاع ولم يقدر بالمد شيئا من النصب والواجبات لكن لم اعلم بهذا قائلا ولا يمكن أن يقال إلا ما قاله السلف قبلنا لأنهم علموا مراد الرسول قطعا فان كان من الصحابة أو التابعين من جعل الصاع غير مقدر بالشرع صارت مسألة اجتهاد
وأما الدرهم والدينار فقد عرفت تنازع الناس فيه واضطراب
____________________
(19/250)
أكثرهم حيث لم يعتمدوا على دليل شرعى بل جعلوا مقدار ما أراده الرسول هو مقدار الدراهم التى ضربها عبد الملك لكونه جمع الدراهم الكبار والصغار والمتوسطة وجعل معدلها ستة دوانيق فيقال لهم هب أن الأمر كذلك لكن الرسول لما خاطب أصحابه وأمته بلفظ الدرهم والدينار وعندهم أوزان مختلفة المقادير كما ذكرتم لم يحد لهم الدرهم بالقدر الوسط كما فعل عبد الملك بل اطلق لفظ الدرهم والدينار كماأطلق لفظ القميص والسراويل والازار والرداء والدار والقرية والمدينة والبيت وغير ذلك من مصنوعات الآدميين فلو كان للمسمى عنده حد لحده مع علمه باختلاف المقادير فاصطلاح الناس على مقدار درهم ودينار أمر عادى
ولفظ الذراع أقرب إلى الأمور الخلقية منه فان الذراع هو فى الأصل ذراع الانسان والانسان مخلوق فلا يفضل ذراع على ذراع إلا بقدر مخلوق لا اختيار فيه للناس بخلاف ما يفعله الناس باختيارهم من درهم ومدينة ودار فان هذا لا حد له بل الثياب تتبع مقاديرهم والدور والمدن بحسب حاجتهم وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعى بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح وذلك لأنه فى الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل
____________________
(19/251)
بها ولهذا كانت أثمانا بخلاف سائر الأموال فان المقصود الانتفاع بها نفسها فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية والوسيلة المحضة التى لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت
وأيضا فالتقدير انما كان لخمسة أوسق وهى خمسة أحمال فلو لم يعتبر فى ذلك حدا مستويا لوجب أن تعتبر خمسة أحمال من أحمال كل قوم
وأيضا فسائر الناس لايسمون كلهم صاعا فلا يتناوله لفظ الشارع كما يتناول الدرهم والدينار اللهم إلا أن يقال ان الصاع اسم لكل ما يكال به بدليل قوله ( صواع الملك ) فيكون كلفظ الدرهم فصل
وكذلك لفظ الاطعام لعشرة مساكين لم يقدره الشرع بل كما قال الله ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) وكل بلد يطعمون من أوسط ما يأكلون كفاية غيره كما قد بسطناه فى غير هذا الموضع
____________________
(19/252)
وكذلك لفظ ( الجزية ) و ( الدية ) فانها فعلة من جزى يجزى إذا قضى وأدى ومنه قول النبى ( تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك ) وهى فى الاصل جزا جزية كما يقال وعد عدة ووزن زنة وكذلك لفظ ( الدية ) هو من ودى يدى دية كما يقال وعد يعد عدة والمفعول يسمى باسم المصدر كثيرا فيسمى المودى دية والمجزى المقضى جزية كما يسمى الموعود وعدا فى قوله ( ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين قل انما العلم عند الله وانما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة ) وانما رأوا ما وعدوه من العذاب وكما يسمى مثل ذلك الاتاوة لأنه تؤتى أى تعطى وكذلك لفظ الضريبة لما يضرب على الناس فهذه الألفاظ كلها ليس لها حد فى اللغة ولكن يرجع إلى عادات الناس فان كان الشرع قد حد لبعض حدا كان اتباعه واجبا
ولهذا اختلف الفقهاء فى الجزية هل هي مقدرة بالشرع أو يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة
وكذلك الخراج والصحيح أنها ليست مقدرة بالشرع وأمر النبى لمعاذ ( أن يأخذ من كل حالم دينارا او عدله معافريا ) قضية فى عين لم يجعل ذلك شرعا عاما لكل من تؤخذ منه الجزية إلى يوم القيامة بدليل أنه صالح لأهل البحرين على
____________________
(19/253)
حالم ولم يقدره هذا التقدير وكان ذلك جزية وكذلك صالح أهل نجران على أموال غير ذلك ولا مقدرة بذلك فعلم أن المرجع فيها إلى ما يراه ولي الأمر مصلحة وما يرضى به المعاهدون فيصير ذلك عليهم حقا يجزونه أى يقصدونه ويؤدونه
وأما الدية ففى العمد يرجع فيها إلى رضى الخصمين وأما فى الخطأ فوجبت عينا بالشرع فلا يمكن الرجوع فيها إلى تراضيهم بل قد يقال هي مقدرة بالشرع تقديرا عاما للأمة كتقدير الصلاة والزكاة وقد تختلف باختلاف أقوال الناس فى جنسها وقدرها وهذا أقرب القولين وعليه تدل الآثار وان النبى انما جعلها مائة لاقوام كانت أموالهم الابل ولهذا جعلها على أهل الذهب ذهبا وعلى أهل الفضة فضة وعلى أهل الشاء شاءا وعلى أهل الثياب ثيابا وبذلك مضت سيرة عمر بن الخطاب وغيره
فصل
وقال الله تعالى ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على ازواجهم أو ما ملكت ايمانهم ) وقال النبى ( احفظ عورتك إلا من زوجتك أوما ملكت يمينك ) وقد دل القرآن على ان ما حرم وطؤه بالنكاح
____________________
(19/254)
حرم بملك اليمين فلا يحل التسري بذوات محارمه ولا وطىء السرية فى الاحرام والصيام والحيض وغير ذلك مما يحرم وطء الزوجة فيه بطريق الأولى
وأما الاستبراء فلم تأت به السنة مطلقا فى كل مملوكة بل قد نهى أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره وقال فى سبايا أو طاس ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ ) وهذا كان فى رقيق سبى ولم يقل مثل ذلك فيما ملك بارث أو شراء أو غيره فالواجب أنه ان كانت توطأ المملوكة لا يحل وطؤها حتى تستبرأ لئلا يسقى الرجل ماءه زرع غيره وأما اذا علم انها لم يكن سيدها يطؤها إما لكونها بكرا أو لكون السيد امرأة أو صغيرا أو قال وهو صادق اني لم أكن أطأها لم يكن لتحريم هذه حتى تستبرأ وجه لا من نص ولا من قياس فصل
النبى صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة وهم الذين ينصرون الرجل ويعينونه وكانت العاقلة على عهده هم عصبته فلما كان فى زمن عمر جعلها على أهل الديوان ولهذا اختلف فيها الفقهاء
____________________
(19/255)
فيقال أصل ذلك أن العاقلة هم محدودون بالشرع او هم من ينصره ويعينه من غير تعيين فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب فانهم العاقلة على عهده ومن قال بالثانى جعل العاقلة فى كل زمان ومكان من ينصر الرجل ويعينه فى ذلك الزمان والمكان فلما كان في عهد النبى انما ينصره ويعينه أقاربه كانوا هم العاقلة إذ لم يكن على عهد النبى ديوان ولا عطاء فلما وضع عمر الديوان كان معلوما أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضا ويعين بعضه بعضا وان لم يكونوا أقارب فكانوا هم العاقلة وهذا أصح القولين وانها تختلف باختلاف الاحوال والافرجل قد سكن بالمغرب وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته من بالمشرق فى مملكة أخرى ولعل أخباره قد انقطعت عنهم والميراث يمكن حفظه للغائب فان النبى ( قضى فى المرأة القاتلة ان عقلها على عصبتها وان ميراثها لزوجها وبنيها ) فالوارث غير العاقلة
وكذلك تأجيلها ثلاث سنين فان النبى لم يؤجلها بل قضى بها حالة وعمر اجلها ثلاث سنين فكثير من الفقهاء يقولون لا تكون إلا مؤجله كما قضى به عمر ويجعل ذلك بعضهم اجماعا وبعضهم قال لا تكون إلا حالة والصحيح ان تعجيلها وتأجيلها بحسب الحال والمصلحة فان كانوا مياسير ولا ضرر عليهم فى التعجيل أخذت
____________________
(19/256)
حالة وان كان فى ذلك مشقة جعلت مؤجلة وهذا هو المنصوص عن أحمد ان التأجيل ليس بواجب كما ذكر كثير من أصحابه انه واجب موافقة لمن ذكر ذلك من أصحاب ابى حنيفة والشافعى ومالك وغيرهم فان هذا القول فى غاية الضعف وهو يشبه قول من يجعل الأمة يجوز لها نسخ شريعة نبيها كما يقوله بعض الناس من ان الاجماع ينسخ وهذا من انكر الأقوال عند أحمد فلا تترك سنة ثابتة إلا بسنة ثابتة ويمتنع انعقاد الاجماع على خلاف سنة إلا ومع الاجماع سنة معلومة نعلم انها ناسخة للأولى فصل
وقد قال الله تعالى فى آية الخمس ( فأن لله خمسة وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين ) ومثل ذلك فى آية الفيء وقال فى آية الصدقات ( للفقراء والمساكين والعاملين عليها ) الآية فاطلق الله ذكر الاصناف وليس فى اللفظ ما يدل على التسوية بل على خلافها فمن أوجب باللفظ التسوية فقد قال ما يخالف الكتاب والسنة إلا ترى أن الله لما قال ( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبة ذوي القربى واليتامى والمساكين
____________________
(19/257)
وبن السبيل ) وقال تعالى ( وآت ذاالقربى حقه والمسكين وبن السبيل ) وقال تعالى ( واذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ) وقال تعالى ( والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) وقال تعالى ( فكلوا منها واطعموا القانع والمعتر ) وأمثال ذلك لم تكن التسوية فى شيء من هذه المواضع واجبة بل ولا مستحبة فى أكثر هذه المواضع سواء كان الاعطاء واجبا أو مستحبا بل بحسب المصلحة
ونحن اذا قلنا فى الهدى والاضحية يستحب ان يأكل ثلثا ويتصدق بثلث فانما ذلك إذا لم يكن هناك سبب يوجب التفضيل والا فلو قدر كثرة الفقراء لاستحببنا الصدقة بأكثر من الثلث وكذلك إذا قدر كثرة من يهدى إليه على الفقراء وكذلك الأكل فحيث كان الأخذ بالحاجة أو المنفعة كان الاعتبار بالحاجة والمنفعة بحسب ما يقع بخلاف المواريث فانها قسمت بالأنساب التى لايختلف فيها أهلها فان إسم الإبن يتناول الكبير والصغير والقوى والضعيف ولم يكن الأخذ لا لحاجته ولا لمنفعته بل لمجرد نسبه فلهذا سوى فيها بين الجنس الواحد
وأما هذه المواضع فالأخذ فيها بالحاجة والمنفعة فلا يجوز أن تكون التسوية بين الاصناف لا واجبة ولا مستحبة بل العطاء بحسب الحاجة والمنفعة كما كان أصل الاستحقاق معلقا بذلك والواو تقتضي
____________________
(19/258)
التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه فى الحكم المذكور والمذكور أنه لايستحق الصدقة إلا هؤلاء فيشتركون فى أنها حلال لهم وليس إذا اشتركوا فى الحكم المذكور وهو مطلق الحل يشتركون فى التسوية فان اللفظ لا يدل على هذا بحال
ومثله يقال فى كلام الواقف والموصي وكان بعض الواقفين قد وقف على المدرس والمعيد والقيم والفقهاء والمتفقهة وجرى الكلام فى ذلك فقلنا يعطى بحسب المصلحة فطلب المدرس الخمس بناء على هذا الظن فقيل له فاعطى القيم أيضا الخمس لأنه نظير المدرس فظهر بطلان حجته آخره والحمد لله رب العالمين
____________________
(19/259)
وقال شيخ الاسلام رحمه الله فصل
قد ذم الله تعالى فى القرآن من عدل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه وهذا هو التقليد الذى حرمه الله ورسوله وهو أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد فانه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة فى كل وقت وكل مكان فى سره وعلانيته وفى جميع أحواله
وهذا من الايمان قال الله تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) وقال ( انما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) وقال ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) وقال ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة
____________________
(19/260)
أو يصيبهم عذاب أليم ) وقال ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله )
وقد أوجب الله طاعة الرسول على جميع الناس فى قريب من أربعين موضعا من القرآن وطاعته طاعة الله وهى عبادة الله وحده لا شريك له وذلك هو دين الله وهو الاسلام وكل من أمر الله بطاعته من عالم وأمير ووالد وزوج فلان طاعته طاعة لله وإلآ فاذا أمر بخلاف طاعة الله فانه لا طاعة له وقد يأمر الوالد والزوج بمباح فيطاع وكذلك الامير إذا أمر عالما يعلم أنه معصية لله والعالم إذا أفتى المستفتى بما لم يعلم المستفتى أنه مخالف لأمر الله فلا يكون المطيع لهؤلاء عاصيا واما إذا علم أنه مخالف لأمر الله فطاعته فى ذلك معصية لله ولهذا نقل غير واحد الاجماع على أنه لا يجوز للعالم أن يقلد غيره إذا كان قد اجتهد واستدل وتبين له الحق الذى جاء به الرسول فهنا لا يجوز له تقليد من قال خلاف ذلك بلا نزاع ولكن هل يجوز مع قدرته على الاستدلال أنه يقلد هذا فيه قولان
فمذهب الشافعى وأحمد وغيرهما لا يجوز وحكى عن محمد بن الحسن جوازه والمسألة معروفة وحكى بعض الناس ذلك عن أحمد
____________________
(19/261)
ولم يعرف هذا الناقل قول أحمد كما هو مذكور فى غير هذا الموضع
وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور وفى صفة من يجوز له التقليد تفصيل ونزاع ليس هذا موضعه
والمقصود هنا ان التقليد المحرم بالنص والاجماع أن يعارض قول الله ورسوله بما يخالف ذلك كائنا من كان المخالف لذلك قال الله تعالى ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا لقد اضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للانسان خذولا وقال الرسول يارب ان قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) وقال تعالى ( يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) إلى قوله ( والعنهم لعنا كبيرا
وقال تعالى ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) إلى قوله ( ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون ) فذكر براءة المتبوعين من اتباعهم فى خلاف طاعة الله ذكر هذا بعد قوله ( وإلهكم إله واحد ) فالاله الواحد هو المعبود والمطاع فمن أطاع
____________________
(19/262)
متبوعا فى خلاف ذلك فله نصيب من هذا الذم قال تعالى ( ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ) إلى قوله ( وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى )
ثم خاطب الناس بأكل ما فى الأرض حلالا طيبا وأن لا يتبعوا خطوات الشيطان فى خلاف ذلك فانه إنما يأمر بالسوء والفحشاء وأن يقولوا على الله مالا يعلمون فيقولوا هذا حرام وهذا حلال أو غير ذلك مما يقولونه على الله فى الأمور الخبرية والعملية بلا علم كما قال تعالى ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام
ثم إن هؤلاء الذين يقولون على الله بغير علم إذا قيل لهم ( اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) فليس عندهم علم بل عندهم اتباع سلفهم وهو الذى اعتادوه وتربوا عليه
ثم خاطب المؤمنين خصوصا فقال ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فأمرهم بأكل الطيبات مما رزقهم لأنهم هم المقصودون بالرزق ولم يشترط الحل هنا
____________________
(19/263)
لأنه إنما حرم ما ذكر فما سواه حلال لهم والناس إنما أمرهم بأكل ما فى الأرض حلالا طيبا وهو إنما أحل للمؤمنين والكفار لم يحل لهم شيئا فالحل مشروط بالايمان ومن لم يستعن برزقه على عبادته لم يحل له شيئا وإن كان أيضا لم يحرمه فلا يقال إن الله أحله لهم ولا حرمه وإنما حرم على الذين هادوا ما ذكره فى سورة الأنعام
ولهذا أنكر فى سورة الأنعام وغيرها على من حرم ما لم يحرمه كقوله ( قل آلذكرين حرم أم الانثيين ) ثم قال ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ) ثم قال تعالى ( قل تعالوا اتلو ما حرم ربكم عليكم ) الآيات وقال فى سورة النحل ( وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ) الآية وأخبر أنه حرم ذلك ببغيهم فقال ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) وقال ( ذلك جزيناهم ببغيهم )
وهذا كله يدل على أصح قولى العلماء وهو أن هذا التحريم باق عليهم بعد مبعث محمد لا يزول إلا بمتابعته لأنه تحريم عقوبة على ظلمهم وبغيهم وهذا لم يزل بل زاد وتغلظ فكانوا أحق بالعقوبة
وايضا فان الله تعالى أخبر بهذا التحريم بعد مبعث محمد ليبين أنه لم يحرم إلا هذا وهذا فلو كان ذلك التحريم قد زال لم يستثنه
____________________
(19/264)
وأيضا فان التحريم لا يزول الا بتحليل منه وهو انما أحل أكل الطيبات للمؤمنين بقوله ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) الآية وقوله ( احلت لكم بهيمة الأنعام الا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد ) وقوله ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) إلى قوله ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) وهذا خطاب للمؤمنين ولهذا قال ( وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم ) ثم قال ( وطعامكم حل لهم ) فلو كان ما أحل لنا حلا لهم لم يحتج إلى هذا وقوله ( وطعامكم حل لهم ) لا يدخل فيه ما حرم عليهم كما أن قوله ( وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم ) لا يدخل فيه ما حرم علينا مما يستحلونه هم كصيد الحرم وما أهل به لغير الله
وهل يدخل فى طعامهم الذى احل لنا ما حرم عليهم ولم يحرم علينا مثل ما اذا ذكوا الابل هذا فيه نزاع معروف فالمشهور من مذهب مالك وهو أحد القولين فى مذهب أحمد تحريمه ومذهب ابى حنيفة والشافعى والقول الآخر فى مذهب أحمد حله
وهل العلة انهم لم يقصدوا ذكاته أو العلة انه ليس من طعامهم فيه نزاع
____________________
(19/265)
وإذا ذبحوا للمسلم فهل هو كما اذا ذبحوا لأنفسهم فيه نزاع
وفى جواز ذبحهم النسك اذا كانوا ممن يحل ذبحهم قولان هما روايتان عن أحمد فالمنع مذهب مالك والجواز مذهب ابى حنيفة والشافعى فاذا كان الذابح يهوديا صار فى الذبح علتان وليس هذا موضع هذه المسائل
ثم إنه سبحانه لما ذكر حال من يقول على الله بلا علم بل تقليدا لسلفه ذكر حال من يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس فى الكتاب فقال ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون فى بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) فهذا حال من كتم علم الرسول وذاك حال من عدل عنها إلى خلافها والعادل عنها إلى خلافها يدخل فيه من قلد أحدا من الأولين والآخرين فيما يعلم أنه خلاف قول الرسول سواء كان صاحبا أو تابعا أو أحد الفقهاء المشهورين الأربعة أو غيرهم وأما من ظن أن الذين قلدهم موافقون للرسول فيما قالوه فان كان قد سلك فى ذلك طريقا علميا فهو مجتهد له حكم أمثاله وإن كان متكلما بلا علم فهو من المذمومين
____________________
(19/266)
ومن إدعى إجماعا يخالف نص الرسول من غير نص يكون موافقا لما يدعيه واعتقد جواز مخالفة أهل الاجماع للرسول برأيهم وأن الاجماع ينسخ النص كما تقوله طائفة من أهل الكلام والرأى فهذا من جنس هؤلاء
وأما إن كان يعتقد أن الاجماع يدل على نص لم يبلغنا يكون ناسخا للأول فهذا وإن كان لم يقل قولا سديدا فهو مجتهد فى ذلك يبين له فساد ما قاله كمن عارض حديثا صحيحا بحديث ضعيف اعتقد صحته فان قوله وإن لم يكن حقا لكن يبين له ضعفه وذلك بان يبين له عدم الاجماع المخالف للنص او يبين له انه لم تجتمع الأمة على مخالفة نص إلا ومعها نص معلوم يعلمون أنه الناسخ للأول فدعوى تعارض النص والاجماع باطلة ويبين له أن مثل هذا لا يجوز فان النصوص معلومة محفوظة والأمة مأمورة بتتبعها واتباعها وأما ثبوت الاجماع على خلافها بغير نص فهذا لا يمكن العلم بان كل واحد من علماء المسلمين خالف ذلك النص
والاجماع نوعان قطعى فهذا لا سبيل إلى أن يعلم اجماع قطعى على خلاف النص واما الظنى فهوالاجماع الاقرارى والاستقرائى بأن يستقرىء أقوال العلماء فلا يجد فى ذلك خلافا او يشتهر القول فى القرآن ولا يعلم احدا أنكره فهذا الاجماع وإن جاز الاحتجاج به
____________________
(19/267)
فلا يجوز أن تدفع النصوص المعلومة به لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الانسان بصحتها فانه لا يجزم بانتفاء المخالف وحيث قطع بانتفاء المخالف فالاجماع قطعى وأما إذا كان يظن عدمه ولا يقطع به فهو حجة ظنية والظنى لا يدفع به النص المعلوم لكن يحتج به ويقدم على ما هو دونه بالظن ويقدم عليه الظن الذى هو أقوى منه فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الاجماع قدم دلالة النص ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا والمصيب فى نفس الأمر واحد
وإن كان قد نقل له فى المسألة فروع ولم يتعين صحته فهذا يوجب له أن لا يظن الاجماع إن لم يظن بطلان ذلك النقل وإلا فمتى جوز ان يكون ناقل النزاع صادقا وجوز أن يكون كاذبا يبقى شاكا فى ثبوت الاجماع ومع الشك لا يكون معه علم ولا ظن بالاجماع ولا تدفع الأدلة الشرعية بهذا المشتبه مع أن هذا لا يكون فلا يكون قط إجماع يجب اتباعه مع معارضته لنص آخر لا مخالف له ولا يكون قط نص يجب اتباعه وليس فى الأمة قائل به بل قد يخفى القائل به على كثير من الناس قال الترمذى كل حديث فى كتابى قد عمل به بعض أهل العلم إلا حديثين حديث الجمع وقتل الشارب ومع هذا فكلا الحديثين قد عمل به طائفة وحديث الجمع قد عمل به أحمد وغيره
____________________
(19/268)
ولكن من ثبت عنده نص ولم يعلم قائلا به وهو لا يدرى أجمع على نقيضه أم لا فهو بمنزلة من رأى دليلا عارضه آخر وهو بعد لم يعلم رجحان أحدهما فهذا يقف إلى ان يتبين له رجحان هذا أو هذا فلا يقول قولا بلا علم ولا يتبع نصا مع ظن نسخه وعدم نسخه عنده سواء لما عارضه عنده من نص آخر أو ظن اجماع ولا عاما ظن تخصيصه وعدم تخصيصه عنده سواء فلا بد أن يكون الدليل سالما عن المعارض المقاوم فيغلب على ظنه نفى المعارض المقاوم وإلا وقف
وأيضا فمن ظن أن مثل هذا الاجماع يحتج به فى خلاف النص إن لم يترجح عنده ثبوت الاجماع أو يكون معه نص آخر ينسخ الأول وما يظنه من الاجماع معه وأكثر مسائل أهل المدينة التى يحتجون فيها بالعمل يكون معهم فيها نص فالنص الذى معه العمل مقدم على الآخر وهذا هو الصحيح فى مذهب أحمد وغيره كتقديم حديث عثمان ( لا ينكح المحرم ) على حديث بن عباس وأمثال ذلك
وأما رد النص بمجرد العمل فهذا باطل عند جماهير العلماء وقد تنازع الناس فى مخالف الاجماع هل يكفر على قولين
____________________
(19/269)
والتحقيق أن الاجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به وأما العلم بثبوت الاجماع فى مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره
وحينئذ فالاجماع مع النص دليلان كالكتاب والسنة
وتنازعوا فى الاجماع هل هو حجة قطعية أو ظنية والتحقيق أن قطعية قطعى وظنية ظنى والله أعلم
وقد ذكر نظير هذه الآية فى سورة المائدة وذكر فى سورة الزخرف قوله ( أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ) وهذا يتناول من بين له أن القول الآخر هو أهدى من القول الذى نشأ عليه فعليه أن يتبعه كما قال ( واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم ) وقال ( فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) وقال ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) والواجب فى الاعتقاد أن يتبع أحسن القولين ليس لأحد أن يعتقد قولا وهو يعتقد أن القول المخالف له أحسن منه وما خير فيه بين فعلين وأحدهما أفضل فهو أفضل وإن جاز له فعل المفضول فعليه أن يعتقد أن ذلك أفضل ويكون ذاك أحب إليه من هذا وهذا اتباع للأحسن
____________________
(19/270)
وإذا نقل عالم الاجماع ونقل آخر النزاع إما نقلا سمى قائله وإما نقلا بخلاف مطلقا ولم يسم قائله فليس لقائل أن يقول نقلا لخلاف لم يثبت فانه مقابل بأن يقال ولا يثبت نقل الاجماع بل ناقل الاجماع ناف للخلاف وهذا مثبت له والمثبت مقدم على النافى
وإذا قيل يجوز فى ناقل النزاع أن يكون قد غلط فيما أثبته من الخلاف إما لضعف الاسناد أو لعدم الدلالة قيل له ونافى النزاع غلطه أجوز فانه قد يكون فى المسألة أقوال لم تبلغه أو بلغته وظن ضعف اسنادها وكانت صحيحة عند غيره أو ظن عدم الدلالة وكانت دالة فكلما يجوز على المثبت من الغلط يجوز على النافى مع زيادة عدم العلم بالخلاف
وهذا يشترك فيه عامة الخلاف فان عدم العلم ليس علما بالعدم لا سيما فى أقوال علماء أمة محمد التى لا يحصيها الا رب العالمين ولهذا قال أحمد وغيره من العلماء من ادعى الاجماع فقد كذب هذه دعوى المريسى والأصم ولكن يقول لا أعلم نزاعا والذين كانوا يذكرون الاجماع كالشافعى وأبى ثور وغيرهما يفسرون مرادهم بأنا لا نعلم نزاعا ويقولون هذا هو الاجماع الذى ندعيه
فتبين أن مثل هذا الاجماع الذى قوبل بنقل نزاع ولم يثبت واحد
____________________
(19/271)
منهما لا يجوز أن يحتج به ومن لم يترجح عنده نقل مثبت النزاع على نافيه ولا نافيه على مثبته فليس له أيضا أن يقدمه على النص ولا يقدم النص عليه بل يقف لعدم رجحان أحدهما عنده فان ترجح عنده المثبت غلب على ظنه ان النص لم يعارضه إجماع يعمل به وينظر فى ذلك إلى مثبت الاجماع والنزاع فمن عرف منه كثرة ما يدعيه من الاجماع والأمر بخلافه ليس بمنزله من لم يعلم منه اثبات اجماع علم انتفاؤه وكذلك من علم منه فى نقل النزاع أنه لا يغلط الا نادرا ليس بمنزلة من علم منه كثرة الغلط
واذا تظافرعلى نقل النزاع اثنان لم يأخذ احدهما عن صاحبه فهذا يثبت به النزاع بخلاف دعوى الاجماع فانه لو تظافر عليه عدد لم يستفد بذلك إلا عدم علمهم بالنزاع وهذا لمن أثبت النزاع فى جمع الثلاث ومن نفى النزاع مع أن عامة من أثبت النزاع يذكر نقلا صحيحا لا يمكن دفعه وليس مع النافى ما يبطله
وكثير من الفقهاء المتأخرين أو أكثرهم يقولون انهم عاجزون عن تلقى جميع الأحكام الشرعية من جهة الرسول فيجعلون نصوص أئمتهم بمنزلة نص الرسول ويقلدونهم ولا ريب ان كثيرا من الناس يحتاج إلى تقليد العلماء فى الأمور العارضة التى لا يستقل هو بمعرفتها ومن سالكى طريق الارادة والعبادة والفقر والتصوف من يجعل شيخه
____________________
(19/272)
كذلك بل قد يجعله كالمعصوم ولا يتلقى سلوكه الا عنه ولا يتلقى عن الرسول سلوكه مع أن تلقى السلوك عن الرسول أسهل من تلقى الفروع المتنازع فيها فان السلوك هو بالطريق التى أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق وهذا كله مبين فى الكتاب والسنة فان هذا بمنزلة الغذاء الذى لابد للمؤمن منه
ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول لا يحتاجون فى ذلك إلى فقهاء الصحابة ولم يحصل بين الصحابة نزاع فى ذلك كما تنازعوا فى بعض مسائل الفقه التى خفيت معرفتها على أكثر الصحابة وكانوا يتكلمون فى الفتيا والاحكام طائفة منهم يستفتون فى ذلك
وأما ما يفعله من يريد التقرب إلى الله من واجب ومستحب فكلهم يأخذه عن الكتاب والسنة فان القرآن والحديث مملوء من هذا وإن تكلم أحدهم فى ذلك بكلام لم يسنده هو يكون هو أو معناه مسندا عن الله ورسوله وقد ينطق أحدهم بالكلمة من الحكمة فتجدها مأثورة عن النبى صلى الله عليه وسلم وهذا كما قيل فى تفسير قوله ( نور على نور ) ولكن كثير من أهل العبادة والزهادة أعرض عن طلب العلم النبوى الذى يعرف به طريق الله ورسوله فإحتاج لذلك إلى تقليد شيخ
____________________
(19/273)
وفى السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ لكن يوجد فى الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب فى ذلك ما يفهمه غالب السالكين فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة فى الكتاب والسنة وانما إختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة فلما دخلوا فى البدع وقع الاختلاف وهكذا طريق العبادة عامة ما يقع فيه من الاختلاف انما هو بسبب الاعراض عن الطريق المشروع فيقعون فى البدع فيقع فيهم الخلاف
وهكذا الفقه إنما وقع فيه الاختلاف لما خفى عليهم بيان صاحب الشرع ولكن هذا إنما يقع النزاع فى الدقيق منه وأما الجليل فلا يتنازعون فيه والصحابة أنفسهم تنازعوا فى بعض ذلك ولم يتنازعوا فى العقائد ولا فى الطريق إلى الله التى يصير بها الرجل من أولياء الله الأبرار المقربين ولهذا كان عامة المشايخ اذا احتاجوا فى مسائل الشرع مثل مسائل النكاح والفرائض والطهارة وسجود السهو ونحو ذلك قلدوا الفقهاء لصعوبة أخذ ذلك عليهم من النصوص وأما مسائل التوكل والاخلاص والزهد ونحو ذلك فهم يجتهدون فيها فمن كان منهم متبعا للرسول أصاب ومن خالفه أخطأ
ولا ريب أن البدع كثرت فى باب العبادة والارادة اعظم مما كثرت فى باب الاعتقاد والقول لأن الارادة يشترك الناس فيها اكثر مما
____________________
(19/274)
يشتركون فى القول فان القول لا يكون الا بعقل والنطق من خصائص الانسان وأما جنس الارادة فهو مما يتصف به كل الحيوان فما من حيوان الا وله ارادة وهؤلاء اشتركوا فى ارادة التأله لكن افترقوا فى المعبود وفى عبادته ولهذا وصف الله فى القرآن رهبانية النصارى بأنهم ابتدعوها وذم المشركين فى القرآن على ما ابتدعوه من العبادات والتحريمات وذلك اكثر مما ابتدعوه من الاعتقادات فان الاعتقادات كانوا فيها جهالا فى الغالب فكانت بدعهم فيها أقل ولهذا كلما قرب الناس من الرسول كانت بدعهم أخف فكانت فى الأقوال ولم يكن فى التابعين وتابعيهم من تعبد بالرقص والسماع كما كان فيهم خوارج ومعتزلة وشيعة وكان فيهم من يكذب بالقدر ولم يكن فيهم من يحتج بالقدر
فالبدع الكثيرة التى حصلت فى المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء والصوفية لم يكن عامتها فى زمن التابعين وتابعيهم بخلاف أقوال اهل البدع القولية فانها ظهرت فى عصر الصحابة والتابعين فعلم أن الشبهة فيها أقوى وأهلها أعقل وأما بدع هؤلاء فاهلها اجهل وهم أبعد عن متابعة الرسول
ولهذا يوجد فى هؤلاء من يدعى الالهية والحلول والاتحاد ومن يدعى أنه أفضل من الرسول وأنه مستغن عن الرسول وأن
____________________
(19/275)
لهم إلى الله طريقا غير طريق الرسول وهذا ليس من جنس بدع المسلمين بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة ونحوهم وأولئك قد عرف الناس أنهم ليسوا مسلمين وهؤلاء يدعون أنهم أولياء الله مع هذه الأقوال التى لا يقولها الا من هو أكفر من اليهود والنصارى وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف ان ذلك مخالفة للرسول بل عند طائفة منهم أن أهل الصفة قاتلوا الرسول وأقرهم على ذلك وعند آخرين أن الرسول أمر أن يذهب ليسلم عليهم ويطلب الدعاء منهم وانهم لم يأذنوا له وقالوا اذهب إلى من ارسلت اليهم وانه رجع إلى ربه فأمره ان يتواضع ويقول خويدمكم جاء ليسلم عليكم فجبروا قلبه وأذنوا له بالدخول
فمع اعتقادهم هذا الكفر العظيم الذى لا يعتقده يهودى ولا نصرانى يقر بانه رسول الله إلى الأميين يقولون ان الرسول أقرهم على ذلك واعترف به واعترف انهم خواص الله وأن الله يخاطبهم بدون الرسول لم يحوجهم إليه كبعض خواص الملك مع وزرائه ويحتجون بقصة الخضر مع موسى وهى حجة عليهم لا لهم من وجوه كثيرة قد بسطت فى موضع آخر
والضلال والجهل فى جنس العباد والمبتدعة أكثر منه فى جنس اهل الأقوال لكن فيهم من الزهد والعبادة والأخلاق مالا يوجد فى
____________________
(19/276)
اولئك وفى أولئك من الكبر والبخل والقسوة ما ليس فيهم فهؤلاء فيهم شبه من النصارى وهؤلاء فيهم شبه من اليهود والله تعالى أمرنا ان نقول ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ولهذا آل الأمر بكثير من اكابر مشايخهم إلى انهم شهدوا توحيد الربوبية والايمان بالقدر وذلك شامل لجميع الكائنات فعدوا الفناء فى هذا بزوال الفرق بين الحسنات والسيئات غاية المقامات وليس بعده الا ما سموه توحيدا وهو من جنس الحلول والاتحاد الذى تقوله النصارى ولكنهم يهابون الافصاح عن ذلك ويجعلونه من الأسرار المكتومة
ومنهم من يقول ان الحلاج هذا كان مشهده وانما قتل لأنه باح بالسر الذى ما ينبغى البوح به واذا انضم إلى ذلك ان يكون أحدهم قد أخذ عمن يتكلم فى إثبات القدر من أهل الكلام أو غيرهم ويجعل الجميع صادرا عن ارادة واحدة وليس هنا حب ولا بغض ولا رضا ولا سخط ولا فرح ولكن المرادات متنوعة فما كان ثوابا سمى تعلق الارادة به رضا وما كان عقابا سمى سخطا فحينئذ مع هذا المشهد لا يبقى عنده تمييز ويسمون هذا الجمع والاصطلام
وكان الجنيد قدس الله روحه لما وصل أصحابه كالثورى
____________________
(19/277)
وأمثاله إلى هذا المقام امرهم بالفرق الثانى وهو ان يفرقوا بين المأمور والمحظور ومحبوب الله ومرضيه ومسخوطه ومكروهه وهو مشهد الالهية الذى جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو حقيقة قول لا اله الا الله فمنهم من انكر على الجنيد ومنهم من توقف ومنهم من وافق والصواب ما قاله الجنيد من ذكر هذه الكلمة فى الفرق بين المأمور والمحظور والكلمة الاخرى فى الفرق بين الرب والعبد وهو قوله التوحيد إفراد الحدوث عن القدم فهذا رد على الاتحادية والحلولية منهم وتلك رد على من يقف عند الحقيقة الكونية منهم وما اكثر من ابتلى بهذين منهم
ثم من الناس من يقوم بهذا الفرق لكن لنفسه وهواه لا عبادة وطاعة لله فهذا مثل من يجاهد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لهواه كالمقاتل شجاعة وحمية ورياء وذاك بمنزلة من لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يجاهد هذا شبيه بالراهب وذاك شبيه بمن لم يطلب الا الدنيا ذاك مبتدع وهذا فاجر
وقد كثر فى المتزهدة والمتفقرة البدع وفى المعرضين عن ذلك طلب الدنيا وطلاب الدنيا لا يعارضون تاركها الا لأغراضهم وإن كانوا مبتدعة وأولئك لا يعارضون ابناء الدنيا الا لأغراضهم فتبقى المنازعات للدنيا
____________________
(19/278)
لا لتكون كلمة الله هي العليا ولا ليكون الدين لله بخلاف طريقة السلف رضى الله عنهم أجمعين وكلاهما خارج عن الصراط المستقيم
نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا آخره والحمد لله رب العالمين
____________________
(19/279)
وسئل رحمه الله
عمن يقول ان النصوص لا تفى بعشر معشار الشريعة هل قوله صواب وهل أراد النص الذى لا يحتمل التأويل أو الالفاظ الواردة المحتملة ومن نفى القياس وأبطله من الظاهريه هل قوله صواب وما حجته على ذلك وما معنى قولهم النص
فأجاب
الحمد لله رب العالمين هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأى كأبى المعالى وغيره وهو خطأ بل الصواب الذى عليه جمهور أئمة المسلمين ان النصوص وافية بجمهور احكام أفعال العباد ومنهم من يقول انها وافية بجميع ذلك وإنما انكر ذلك من انكره لأنه لم يفهم معانى النصوص العامة التى هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد وذلك أن الله بعث محمدا بجوامع الكلم فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التى هي قضية كليه وقاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد
____________________
(19/280)
مثال ذلك أن الله حرم الخمر فظن بعض الناس ان لفظ الخمر لا يتناول الا عصير العنب خاصة ثم من هؤلاء من لم يحرم الا ذلك اوحرم معه بعض الأنبذة المسكرة كما يقول ذلك من يقوله من فقهاء الكوفة فان ابا حنيفة يحرم عصير العنب المشتد الزبد وهذا الخمر عنده ويحرم المطبوخ منه ما لم يذهب ثلثاه فاذا ذهب ثلثاه لم يحرمه ويحرم النيء من نبيذ التمر فان طبخ ادنى طبخ حل عنده وهذه المسكرات الثلاثة ليست خمرا عنده مع أنها حرام وما سوى ذلك من الأنبذة فانما يحرم 4 منه ما يسكر
وأما محمد بن الحسن فوافق الجمهور فى تحريم كل مسكر قليله وكثيره وبه أفتى المحققون من أصحاب أبى حنيفة وهو اختيار أبى الليث السمرقندى
ومن العلماء من حرم كل مسكر بطريق القياس إما فى الاسم وإما فى الحكم وهذه الطريقة التى سلكها طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعى وأحمد يظنون أن تحريم كل مسكر انما كان بالقياس فى الأسماء أو القياس فى الحكم
والصواب الذى عليه الأئمة الكبار أن الخمر المذكورة فى القرآن تناولت كل مسكر فصار تحريم كل مسكر بالنص العام
____________________
(19/281)
والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده وان كان القياس دليلا آخر يوافق النص وثبتت أيضا نصوص صحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم بتحريم كل مسكر ففى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ) وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها عن النبى أنه قال ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وفى الصحيحين عن أبى موسى عن النبى انه سئل فقيل له عندنا شراب من العسل يقال له البتع وشراب من الذرة يقال له المزر قال وكان قد أوتى جوامع الكلم فقال ( كل مسكر حرام ) إلى احاديث أخر يطول وصفها وعلى هذا فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص وكان هذا النص متناولا لشرب الأنواع المسكرة من أى مادة كانت من الحبوب أو الثمار أو من لبن الخيل أو من غير ذلك ومن ظن أن النص انما يتناول خمر العنب قال انه لم يبين حكم هذه المسكرات التى هي فى الأرض أكثر من خمر العنب بل كان ذلك ثابتا بالقياس وهؤلاء غلطوا فى فهم النص ومما يبين ذلك انه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة
____________________
(19/282)
من خمر العنب شيء فان المدينة لم يكن فيها شجر العنب وانما كان عندهم النخل فكان خمرهم من التمر ولما حرمت الخمر اراقوا تلك الأشربة التى كانت من التمر وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم فعلم ان لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصا بعصير العنب وسواء كان ذلك فى لغتهم فتناول غيره أو كانوا عرفوا التعميم ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم فانه المبين عن الله مراده فان الشارع يتصرف فى اللغة تصرف أهل العرف يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه فى اللغة وتارة فيما هو أخص
وكذلك لفظ الميسر هو عند أكثر العلماء يتناول اللعب بالنرد والشطرنج ويتناول بيوع الغرر التى نهى عنها النبى فان فيها معنى القمار الذى هو ميسر إذ القمار معناه أن يؤخذ مال الانسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوضه أو لا يحصل كالذى يشترى العبد الآبق والبعير الشارد وحبل الحبلة ونحو ذلك مما قد يحصل له وقد لا يحصل له وعلى هذا فلفظ الميسر فى كتاب الله تعالى يتناول هذا كله وما ثبت فى صحيح مسلم عن النبى انه نهى عن بيع الغرر يتناول كل ما فيه مخاطرة كبيع الثمار قبل بدو صلاحها وبيع الأجنة فى البطون وغير ذلك
ومن هذا الباب لفظ الربا فانه يتناول كل ما نهى عنه من ربا
____________________
(19/283)
النسأ وربا الفضل والقرض الذى يجر منفعة وغير ذلك فالنص متناول لهذا كله لكن يحتاج فى معرفة دخول الأنواع والأعيان فى النص إلى ما يستدل به على ذلك وهذا الذى يسمى تحقيق المناط
وكذلك قوله تعالى ( يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) وقوله ( والمطلقات يتربصن بانفسهن ثلاثة قروء ) ونحو ذلك يعم بلفظه كل مطلقة ويدل على ان كل طلاق فهو رجعى ولهذا قال أكثر العلماء بذلك وقالوا لا يجوز للرجل ان يطلق المرأة ثلاثا ويدل أيضا على ان الطلاق لا يقع إلا رجعيا وأن ما كان بائنا فليس من الطلقات الثلاث فلا يكون الخلع من الطلقات الثلاث كقول بن عباس والشافعى فى قول وأحمد فى المشهور عنه لكن بينهم نزاع هل ذلك مشروط بان يخلو الخلع عن لفظ الطلاق ونيته أو بالخلو عن لفظه فقط أو لا يشترط شيء من ذلك على ثلاثة أقوال
وكذلك قوله تعالى ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) و ( ذلك كفارة أيمانكم ) هو متناول لكل يمين من أيمان المسلمين فمن العلماء من قال كل يمين من أيمان المسلمين ففيها كفارة كما دل عليه الكتاب والسنة ومنهم من قال لا يتناول النص الا الحلف باسم الله وغير ذلك لا تنعقد ولا شيء فيها ومنهم من قال بل
____________________
(19/284)
هي أيمان يلزم الحالف بها ما التزمه ولا تدخل فى النص ولا ريب ان النص يدل على القول الأول فمن قال ان النص لم يبين حكم جميع أيمان المسلمين كان هذا رأيا منه لم يكن هذا مدلول النص
وكذلك الكلام فى عامة مسائل النزاع بين المسلمين إذا طلب ما يفصل النزاع من نصوص الكتاب والسنة وجد ذلك وتبين ان النصوص شاملة لعامة أحكام الأفعال وكان الامام أحمد يقول انه ما من مسألة يسأل عنها الا وقد تكلم الصحابة فيها أو فى نظيرها والصحابة كانوا يحتجون فى عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأى ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا
والقياس الصحيح نوعان
أحدهما أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرق غير مؤثر فى الشرع كما ثبت عن النبى فى الصحيح انه سئل عن فأرة وقعت فى سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ) وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن فلهذا قال جماهير العلماء إنه أى نجاسة وقعت فى دهن من الأدهان كالفأرة التى تقع فى الزيت وكالهر الذى يقع فى السمن فحكمها حكم تلك الفأرة التى وقعت فى السمن ومن قال من
____________________
(19/285)
اهل الظاهر ان هذا الحكم لا يكون إلا فى فأرة وقعت فى سمن فقد أخطأ فان النبى لم يخص الحكم بتلك الصورة لكن لما استفتى عنها أفتى فيها والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو نوع فأجاب المفتى عن ذلك خصه لكونه سئل عنه لا لاختصاصه بالحكم
ومثل هذا انه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمخة بخلوق فقال ( انزع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق واصنع فى عمرتك ما كنت تصنع فى حجك ) فاجابه عن الجبة ولو كان عليه قميص أو نحوه كان الحكم كذلك بالاجماع 3 والنوع الثانى من القياس
أن ينص على حكم لمعنى من المعانى ويكون ذلك المعنى موجودا فى غيره فاذا قام دليل من الأدلة على ان الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما وكان هذا قياسا صحيحا
فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم باحسان يستعملونهما وهما من باب فهم مراد الشارع فان الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على ان يعرف ثبوت اللفظ عنه وعلى ان يعرف مراده باللفظ واذا عرفنا مراده فان علمنا انه حكم للمعنى المشترك لا لمعنى يخص
____________________
(19/286)
الاصل أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك وان علمنا انه قصد تخصيص الحكم بمورد النص منعنا القياس كما أنا علمنا ان الحج خص به الكعبة وان الصيام الفرض خص به شهر رمضان وان الاستقبال خص به جهة الكعبة وان المفروض من الصلوات خص به الخمس ونحو ذلك فانه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره
وإذا عين الشارع مكانا أو زمانا للعبادة كتعيين الكعبة وشهر رمضان أو عين بعض الأقوال والأفعال كتعيين القراءة فى الصلاة والركوع والسجود بل وتعيين التكبير وأم القرآن فالحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم وقالوا المقصود أربعة أشهر من السنة فقال تعالى ( انما النسيء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ) وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص من جنس قياس الذين قالوا ( إنما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرم الربا ) وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكى وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله قال تعالى ( وان الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وان أطعتموهم انكم لمشركون ) فهذه الأقيسة الفاسدة
وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد وكل من ألحق
____________________
(19/287)
منصوصا بمنصوص يخالف حكمه فقياسه فاسد وكل من سوى بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة فى حكم الله ورسوله فقياسه فاسد لكن من القياس ما يعلم صحته ومنه ما يعلم فساده ومنه ما لم يتبين أمره فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته فقد استدل بما لا يعلم صحته بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته
فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته والى ما يعلم فساده والى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدهما ولفظ النص يراد به تارة الفاظ الكتاب والسنة سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة وهذا هو المراد من قول من قال النصوص تتناول أحكام أفعال المكلفين ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض كقوله ( تلك عشرة كاملة ) و ( الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان ) فالكتاب هو النص والميزان هو العدل
والقياس الصحيح من باب العدل فانه تسوية بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح
____________________
(19/288)
ومن كان متبحرا فى الأدلة الشرعية أمكنه ان يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة فثبت ان كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة فان القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك فان الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة كما دل القرآن على هذا المعنى وهذا المعنى موجود فى جميع الأشربة المسكرة لافرق فى ذلك بين شراب وشراب فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين وخروج عن موجب القياس الصحيح كما هو خروج عن موجب النصوص وهم معترفون بان قولهم خلاف القياس لكن يقولون معنا آثار توافقه اتبعناها ويقولون ان اسم الخمر لم يتناول كل مسكر وغلطوا فى فهم النص وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم ومعرفة عموم الأسماء الموجودة فى النص وخصوصها من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله وقد قال تعالى ( الأعراب اشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله )
والكلام فى ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول إستقصاؤه لا تحتمل هذه الورقة بسطه أكثر من هذا والله أعلم
____________________
(19/289)
وقال فصل
العبادات المأمور بها كالايمان الجامع وكشعبة مثل الصلاة والوضوء والاغتسال والحج والصيام والجهاد والقراءة والذكر وغير ذلك لها ثلاثة أحوال وربما لم يشرع لها الا حالان لأن العبد إما أن يقتصر على الواجب فقط وإما أن يأتى بالمستحب فيها وإما أن ينقص عن الواجب فيها فالأول حال المقتصدين فيها وإن كان سابقا فى غيرها والثانى حال السابق فيها والثالث حال الظالم فيها
والعبادة الكاملة تارة تكون ما أدى فيها الواجب وتارة ما أتى فيها بالمستحب وبازاء الكاملة الناقصة قد يعنى بالنقص نقص بعض واجباتها وقد يعنى به ترك بعض مستحباتها فاما تفسير الكامل بما كمل بالمستحبات فهو غالب استعمال الفقهاء فى الطهارة والصلاة وغير ذلك فانهم يقولون الوضوء ينقسم إلى كامل ومجزى والغسل ينقسم إلى كامل ومجزى ويريدون بالمجزى الاقتصار
____________________
(19/290)
على الواجب وبالكامل ما اتى فيه بالمستحب فى العدد والقدر والصفة وغير ذلك
ولذلك استعملوا ما جاء فى حديث بن مسعود مرفوعا ( إذا قال فى ركوعه سبحان ربى العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه وذلك ادناه وإذا قال فى سجوده سبحان ربى الأعلى ثلاثا فقد تم سجوده وذلك أدناه ) فقالوا أدنى الكمال ثلاث تسبيحات يعنون أدنى الكمال المسنون وقالوا أقل الوتر ركعة وأدنى الكمال ثلاث فجعلوا للكمال أدنى وأعلى وكلاهما فى الكمال المسنون لا المفروض
ثم يختلفون فى حرف النفى الداخل على المسميات الشرعية كقوله ( لا قراءة الا بام الكتاب ) ( ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ) ( ولا صلاة لمن لا وضوء له ) ( ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) فاكثرهم يقولون هو لنفى الفعل فلا يجزى مع هذا النفى ومنهم من يقول هو لنفى الكمال يريدون نفى الكمال المسنون
وأما تفسيره بما كمل بالواجب فهو فى عرف الشارع لكن الموجود فيه كثيرا لفظ التمام كقوله ( وأتموا الحج والعمرة لله ) والمراد بالاتمام الواجب الاتمام بالواجبات وكذلك قوله ( ثم أتموا الصيام
____________________
(19/291)
إلى الليل ) وقوله ( لا تتم صلاة عبد حتى يضع الطهور مواضعه ) الحديث وقوله ( فما انتقصت من هذا فقد انتقصت من صلاتك ( ويمكن ان يقال فى اتمام الحج والصيام ونحو ذلك هو أمر مطلق بالاتمام واجبه ومستحبه فما كان واجبا فالامر به ايجاب وما كان مستحبا فالأمر به استحباب وجاء لفظ التمام فى قوله ( فقد تم ركوعه وذلك أدناه ( وقوله ( أقيموا صفوفكم فان إقامة الصف من تمام الصلاة ( وروى ( من إقامة الصلاة (
والنقص بازاء التمام والكمال كقوله ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج ( فالجمهور يقولون هو نقص الواجبات لأن الخداج هو الناقص فى أعضائه وأركانه وآخرون يقولون هو الناقص عن كماله المستحب فان النقص يستعمل فى نقص الاستحباب كثيرا كما تقدم فى تقسيم الفقهاء الطهارة إلى كامل ومجزى ليس بكامل وما ليس بكامل فهو ناقص وقوله ( فقد تم ركوعه وسجوده وذلك أدناه ( وما لم يتم فهو ناقص وإن كان مجزئا
ثم النقص عن الواجب نوعان نوع يبطل العبادة كنقص أركان الطهارة والصلاة والحج ونقص لا يبطلها كنقص واجبات الحج التى ليست بأركان ونقص واجبات الصلاة إذا تركها سهوا على المشهور عند أحمد ونقص الواجبات التى يسميه أبو حنيفة فيها مسيئا ولا تبطل
____________________
(19/292)
صلاته كقراءة الفاتحة ونحوها
وبهذا تزول الشبهة فى ( مسائل الاسماء والاحكام ( وهى مسألة الايمان وخلاف المرجئة والخوارج فان الايمان وان كان اسما لدين الله الذى أكمله بقوله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وهو اسم لطاعة الله وللبر وللعمل الصالح وهو جميع ما أمر الله به فهذا هو الايمان الكامل التام وكماله نوعان كمال المقربين وهو الكمال بالمستحب وكمال المقتصدين وهو الكمال بالواجب فقط
وإذا قلنا فى مثل قول النبى ( لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ( ولا إيمان لمن لا أمانة له ) وقوله ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ( الآية وقوله ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله ) وقوله ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) الآية إلى قوله ( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) إذا قال القائل فى مثل هذا ليس بمؤمن كامل الايمان أو نفى عنه كمال الايمان لا أصله فالمراد به كمال الايمان الواجب ليس بكمال الايمان المستحب كمن ترك رمى الجمار أو ارتكب محظورات الإحرام غير الوطىء ليس هذا مثل قولنا غسل كامل ووضوء كامل وأن المجزى منه ليس
____________________
(19/293)
بكامل ذاك نفى الكمال المستحب
وكذا المؤمن المطلق هو المؤدى للايمان الواجب ولا يلزم من كون إيمانه ناقصا عن الواجب أن يكون باطلا حابطا كما فى الحج ولا أن يكون معه الايمان الكامل كما تقوله المرجئة ولا أن يقال ولو أدى الواجب لم يكن ايمانه كاملا فان الكمال المنفى هنا الكمال المستحب
فهذا فرقان يزيل الشبهة فى هذا المقام ويقرر النصوص كما جاءت وكذلك قوله ( من غشنا فليس منا ( ونحو ذلك لا يجوز أن يقال فيه ليس من خيارنا كما تقوله المرجئة ولا أن يقال صار من غير المسلمين فيكون كافرا كما تقوله الخوارج بل الصواب أن هذا الاسم المضمر ينصرف إطلاقه إلى المؤمنين الايمان الواجب الذى به يستحقون الثواب بلا عقاب ولهم الموالاة المطلقة والمحبة المطلقة وان كان لبعضهم درجات فى ذلك بما فعله من المستحب فاذا غشهم لم يكن منهم حقيقة لنقص إيمانه الواجب الذى به يستحقون الثواب المطلق بلا عقاب ولا يجب أن يكون من غيرهم مطلقا بل معه من الإيمان ما يستحق به مشاركتهم فى بعض الثواب ومعه من الكبيرة ما يستحق به العقاب كما يقول من استأجر قوما ليعملوا عملا فعمل بعضهم بعض الوقت فعند التوفية يصلح أن يقال هذا ليس منا فلا يستحق
____________________
(19/294)
الأجر الكامل وإن استحق بعضه
وقد بسطت القول فى هذه المسألة فى غير هذا الموضع وبينت ارتباطها بقاعدة كبيرة فى ان الشخص الواحد أو العمل الواحد يكون مأمورا به من وجه منهيا عنه من وجه وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة وقد وافقهم طائفة من أهل الاثبات متكلميهم وفقهائهم من أصحابنا وغيرهم فى مسألة العمل الواحد فى أصول الفقه فقالوا لا يجوز أن يكون مأمورا به منهيا عنه وإن كانوا مخالفين لهم فى مسألة الشخص الواحد فى أصول الدين ولا ريب أن إحدى الروايتين عن أحمد أن هذا العمل لا يجزئ وهى مسألة الصلاة فى الدار المغصوبة وفى الرواية الأخرى يجزى كقول أكثر الفقهاء لكن من أصحابنا من جعلها عقلية ورأى أنه لا يمتنع ذلك عقلا وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية كابن الباقلانى وبن الخطيب
فالكلام فى مقامين فى الامكان العقلى وفى الاجزاء الشرعى والناس فيها على أربعة أقوال
منهم من يقول يمتنع عقلا ويبطل شرعا وهو قول طائفة من
____________________
(19/295)
متكلمى أصحابنا وفقهائهم
ومنهم من يقول يجوز عقلا لكن المانع سمعى وهذا قد يقوله أيضا من لا يرى الاجزاء من أصحابنا ومن وافقهم وهو أشبه عندى بقول أحمد فان أصوله تقتضى أنه يجوز ورود التعبد بذلك كله وهذا هو الذى يشبه أصول أهل السنة وأئمة الفقه ومنهم من يجوزه عقلا وسمعا كأكثر الفقهاء ومنهم من يمنعه عقلا لكن يقول ورد سمعا وهذا قول بن الباقلانى وأبى الحسن وبن الخطيب زعموا أن العقل يمنع كون الفعل الواحد مأمورا به منهيا عنه ولكن لما دل السمع إما الاجماع أو غيره على عدم وجوب القضاء قالوا حصل الاجزاء عنده لا به وهذا القول عندى أفسد الأقوال
والصواب أن ذلك ممكن فى العقل فأما الوقوع السمعى فيرجع فيه إلى دليله وذلك أن كون الفعل الواحد محبوبا مكروها مرضيا مسخوطا مأمورا به منهيا عنه مقتضيا للحمد والثواب والذم والعقاب ليس هو من الصفات اللازمة كالأسود والأبيض والمتحرك والساكن والحى والميت وإن كان فى هذه الصفات كلام أيضا وإنما هو من
____________________
(19/296)
الصفات التى فيها إضافة متعدية إلى الغير مثل كون الفعل نافعا وضارا ومحبوبا ومكروها والنافع هو الجالب للذة والضار هو الجالب للألم وكذلك المحبوب هوالذى فيه فرح ولذة للمحب مثلا والمكروه هو الذى فيه ألم للكاره ولهذا كان الحسن والقبح العقلى معناه المنفعة والمضرة والأمر والنهى يعودان الى المطلوب والمكروه فهذه صفة فى الفعل متعلقة بالفاعل أو غيره وهذه صفة فى الفعل متعلقة بالآمر الناهى
ولهذا قلت غير مرة إن حسن الفعل يحصل من نفسه تارة ومن الآمر تارة ومن مجموعهما تارة والمعتزلة ومن وافقهم من الفقهاء أصحابنا وغيرهم الذين يمنعون النسخ قبل التمكن من الفعل لا يثبتون الا الأول والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحابنا وغيرهم الذين لا يثبتون للفعل صفة الا إضافة لتعلق الخطاب به لا يثبتون الا الثانى والصواب إثبات الآمرين وقدر زائد يحصل للفعل من جنس تعلق الخطاب غير تعلق الخطاب ويحصل للفعل بعد الحكم فالخطاب مظهر تارة ومؤثر تارة وجامع بين الأمرين تارة وبسط هذا له موضع آخر
وإذا كان كذلك فنحن نعقل ونجد أن الفعل الواحد من الشخص أو من غيره يجلب له منفعة ومضرة معا والرجل يكون له عدوان
____________________
(19/297)
يقتل أحدهما صاحبه فيسر من حيث عدم عدو ويساء من حيث غلب عدو ويكون له صديقان يعزل أحدهما صاحبه فيساء من حيث إنعزال الصديق ويسر من حيث تولى صديق واكثر أمور الدنيا من هذا فان المصلحة المحضة نادرة فأكثر الحوادث فيها ما يسوء ويسر فيشتمل الفعل على ما ينفع ويحب ويراد ويطلب وعلى ما يضر ويبغض ويكره ويدفع وكذلك الآمر يأمر بتحصيل النافع وينهى عن تحصيل الضار فيأمر بالصلاة المشتملة على المنفعة وينهى عن الغضب المشتمل على المضرة
فاذا قالوا الممتنع أن يأمره بفعل واحد من وجه واحد فيقول صل هنا ولا تصل هنا فان هذا جمع بين النقيضين والجمع بين النقيضين ممتنع لأنه جمع بين النفى والاثبات فقد يقال لهم الجمع بين النقيضين ممتنع فى الخبر فاذا قلت صلى زيد هنا لم يصل هنا امتنع ذلك لأن الصلاة هنا إما ان تكون وإما أن لا تكون وكونها هو عينها وما يتبعه من الصفات اللازمة التى ليس فيها نسبة وإضافة وتعلق فأما الجمع بينهما فى الإرادة والكراهة والطلب والدفع والمحبة والبغضة والمنفعة والمضرة فهذا لا يمتنع فان وجود الشيء قد يكون مرادا ويكون عدمه مرادا أيضا إذا كان فى كل منهما منفعة للمريد ويكون أيضا وجوده أو عدمه مرادا مكروها بحيث يلتذ العبد ويتألم بوجوده وبعدمه كما قيل
____________________
(19/298)
** الشيب كره وكره أن نفارقه ** فاعجب لشيء على البغضاء محبوب ** فهو يكره الشيب ويبغضه لما فيه من زوال الشباب النافع ووجود المشيب الضار
وهو يحبه أيضا ويكره عدمه لما فيه من وجود الحياة وفى عدمه من الفناء
وهذه حال ما اجتمع فيه مصلحة ومفسدة من جميع الأمور لكن التحقيق أن الفعل المعين كالصلاة فى الدار المعينة لا يؤمر بعينها وينهى عن عينها لأنه تكليف مالا يطاق فانه تكليف للفاعل أن يجمع بين وجود الفعل المعين وعدمه وإنما يؤمر بها من حيث هي مطلقة وينهى عن الكون فى البقعة فيكون مورد الأمر غير مورد النهى ولكن تلازما فى المعين والعبد هو الذى جمع بين المأمور به والمنهى عنه لا أن الشارع أمره بالجمع بينهما فأمره بصلاة مطلقة ونهاه عن كون مطلق وأما المعين فالشارع لا يأمر به ولاينهى عنه كما فى سائر المعينات وهذا أصل مطرد فى جميع ما أمر الله به من المطلقات بل فى كل أمر فانه اذا أمر بعتق رقبة مطلقة كقوله ( فتحرير رقبة ( أو باطعام ستين مسكينا أو صيام شهرين متتابعين أو بصلاة فى مكان أو غير ذلك فان العبد لا يمكنه الامتثال إلا باعتاق رقبة معينة وإطعام طعام معين لمساكين معينين وصيام أيام معينة وصلاة
____________________
(19/299)
معينة فى كل مكان معين فالمعين فى جميع المأمورات المطلقة ليس مأمورا بعينه وإنما المأمور به مطلق والمطلق يحصل بالمعين
فالمعين فيه شيئان خصوص عينه والحقيقة المطلقة فالحقيقة المطلقة هي الواجبة واما خصوص العين فليس واجبا ولا مامورا به وانما هو احد الاعيان التى يحصل بها المطلق بمنزلة الطريق إلى مكة ولا قصد للآمر فى خصوص التعيين
وهذا الكلام مذكور فى مسألة الواجب على التخيير والواجب المطلق والواجب المعين والفرق بينها أن الواجب المخير قد أمر فيه بأحد أشياء محصورة والمطلق لم يؤمر فيه بأحد أشياء محصورة وانما أمر بالمطلق ولهذا اختلف فى الواجب المخير فيه هل الواجب هو القدر المشترك كالواجب المطلق او الواجب هو المشترك والمميز أيضا على التخيير فيه وجهان والمشترك هو كونه أحدها فعلى هذا ما تميز به أحدها عن الاخر لا يثاب عليه ثواب الواجب بخلاف ما اذا قيل المتميز واجب أيضا على البدل وأما المطلق فلم يتعرض فيه للأعيان المتميزة بقصد لكنه من ضرورة الواقع فهو من باب ما لايتم الواجب إلا به وهو وإن قيل هو واجب فهو واجب فى الفعل وهو مخير فيه فاختياره لاحدى العينين لا يجعله واجبا عينا فتبين بذلك أن تعيين عين الفعل وعين المكان ليس مأمورا به فاذا نهى
____________________
(19/300)
عن الكون فيه لم يكن هذا المنهى عنه قد امر به إذ المأمور به مطلق وهذا المعين ليس من لوازم المأمور به وإنما يحصل به الامتثال كما يحصل بغيره
فان قيل أن لم يكن مأمورا به فلا بد أن يباح الامتثال به والجمع بين النهى والاباحة جمع بين النقيضين قيل ولا يجب أن يباح الامتثال به بل يكفى أن لا ينهى عن الامتثال به فما به يؤدى الواجب لايفتقر إلى إيجاب ولا إلى اباحة بل يكفى أن لايكون منهيا عن الامتثال به فاذا نهاه عن الامتثال به امتنع ان يكون المأمور به داخلا فيه من غير معصية فهنا اربعة أقسام
أن يكون ما به يمتثل واجبا كإيجاب صيام شهر رمضان بالامساك فيه عن الواجب
وان يكون مباحا كخصال الكفارة فانه قد أبيح له نوع كل منها وكما لو قال اطعم زيدا أو عمرا وأن لا يكون منهيا عنه كالصيام المطلق والعتق المطلق فالمعين ليس منهيا عنه ولا مباحا بخطاب بعينه اذ لايحتاج إلى ذلك
والرابع أن يكون منهيا عنه كالنهى عن الأضاحى المعيبة وإعتاق
____________________
(19/301)
الكافر فاذا صلى فى مكان مباح كان ممتثلا لاتيانه بالواجب بمعين ليس منهيا عنه واذا صلى فى المغصوب فقد يقال إنما نهى عن جنس الكون فيه لا عن خصوص الصلاة فيه فقد أدى الواجب بما لم ينه عن الامتثال به لكن نهى عن جنس فعله فبه اجتمع فى الفعل المعين ما امر به من الصلاة المطلقة وما نهى عنه من الكون المطلق فهو مطيع عاص ولا نقول إن الفعل المعين مأمور به منهى عنه لكن إجتمع فيه المأمور به والمنهى عنه كما لو صلى ملابسا لمعصية من حمل مغصوب
وقد يقال بل هو منهى عن الامتثال به كما هو منهى عن الامتثال بالصلاة فى المكان النجس والثوب النجس لأن المكان شرط فى الصلاة والنهى عن الجنس نهى عن أنواعه فيكون منهيا عن بعض هذه الصلاة بخلاف المنهى عنه إذا كان منفصلا عن أبعاضها كالثوب المحمول فالحمل ليس من الصلاة فهذا محل نظر الفقهاء وهو محل للاجتهاد لا أن عين هذه الاكوان هي مأمور بها ومنهى عنها فان هذا باطل قطعا بل عينها وإن كانت منهيا عنها فهي مشتملة على المأمور به وليس ما اشتمل على المأمور به المطلق يكون مأمورا به
ثم يقال ولو نهى عن الامتثال على وجه معين مثل أن يقال
____________________
(19/302)
صل ولا تصل فى هذه البقعة وخط هذا الثوب ولا تخطه فى هذا البيت فاذا صلى فيه وخاط فيه فلا ريب أنه لم يأت بالمأمور به كما أمر لكن هل يقال أتى ببعض المأمور به او بأصله دون وصفه وهو مطلق الصلاة والخياطة دون وصفه أو مع منهى عنه بحيث يثاب على ذلك الفعل وإن لم يسقط الواجب أو عوقب على المعصية قد تقدم القول فى ذلك وبينت أن الأمر كذلك وهى تشبه مسألة صوم يوم العيد ونحوه مما يقول أبو حنيفة فيه بعدم الفساد
وأن الاجزاء والاثابة يجتمعان ويفترقان فالاجزاء براءة الذمة من عهدة الأمر وهو السلامة من ذم الرب أو عقابه والثواب الجزاء على الطاعة وليس الثواب من مقتضيات مجرد الامتثال بخلاف الاجزاء فان الأمر يقتضى اجزاء المأمور به لكن هما مجتمعان فى الشرع إذ قد استقر فيه أن المطيع مثاب والعاصى معاقب وقد يفترقان فيكون الفعل مجزئا لا ثواب فيه اذا قارنه من المعصية ما يقابل الثواب كما قيل ( رب صائم حظه من صيامه العطش ورب قائم حظه من قيامه السهر ( فان قول الزور والعمل به فى الصيام اوجب إثما يقابل ثواب الصوم وقد اشتمل الصوم على الامتثال المامور به والعمل المنهى عنه فبرئت الذمة للامتثال ووقع الحرمان للمعصية وقد يكون مثابا عليه غير مجزىء إذا فعله ناقصا عن الشرائط والأركان فيثاب على ما فعل ولا تبرأ الذمة إلا بفعله كاملا
____________________
(19/303)
وهذا تحرير جيد أن فعل المأمور به يوجب البراءة فان قارنه معصية بقدرة تخل بالمقصود قابل الثواب وإن نقص المأمور به أثيب ولم تحصل البراءة التامة فاما أن يعاد وإما أن يجبر وإما أن يأثم
فتدبر هذا الأصل فان المأمور به مثل المحبوب المطلوب إذا لم يحصل تاما لم يكن المأمور بريئا من العهدة فنقصه إما أن يجبر بجنسه أو ببدل أو باعادة الفعل كاملا إذا كان مرتبطا وإما أن يبقى فى العهدة كركوب المنهى عنه
فالأول مثل من أخرج الزكاة ناقصا فانه يخرج التمام
والثانى مثل من ترك واجبات الحج فانه يجبر بالدم ومن ترك واجبات الصلاة المجبورة بالسجود
والثالث مثل من ضحى بمعيبة او اعتق معيبا او صلى بلا طهارة
والرابع مثل من فوت الجمعة والجهاد المتعين
وإذا حصل مقارنا لمحظور يضاد بعض أجزائه لم يكن قد حصل كالوطىء فى الاحرام فانه يفسده وإن لم يضاد بعض الأجزاء يكون
____________________
(19/304)
قد اجتمع المأمور والمحظور كفعل محظورات الاحرام فيه او فعل قول الزور والعمل به فى الصيام فهذه ثلاثة أقسام فى المخظور كالمأمور إذ المأمور به إذا تركه يستدرك تارة بالجبران والتكميل وتارة بالاعادة وتارة لا يستدرك بحال
والمحظور كالمأمور إما أن يوجب فساده فيكون فيه الإعادة أو لا يستدرك وإما أن يوجب نقصه مع الاجزاء فيجبر أو لا يجبر وإما أن يوجب إثما فيه يقابل ثوابه فالأول كافساد الحج والثانى كافساد الجمعة والثالث كالحج مع محظوراته والرابع كالصلاة مع مرور المصلى أمامه والخامس كالصوم مع قول الزور والعمل به
فهذه المسائل مسألة الفعل الواحد والفاعل الواحد والعين الواحدة هل يجتمع فيه أن يكون محمودا مذموما مرضيا مسخوطا محبوبا مبغضا مثابا معاقبا متلذذا متألما يشبه بعضها بعضا والاجتماع ممكن من وجهين لكن من وجه واحد متعذر وقد قال تعالى ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما
____________________
(19/305)
فصل قد كتبت فيما قبل هذا مسمى العلم الشرعى وانه ينقسم إلى ما أخبر به الشارع أو عرف بخبره والى ما أمر به الشارع
والذى أخبر به ينقسم إلى ما دل على علمه بالعقل والى ما ليس كذلك والذى أمر به إما أن يكون مستفادا بالعقل أو مستفادا بالشرع وإما أن يكون مقصودا للشارع أو لازما للمقصود
وكذلك اسم الشريعة والشرع والشرعة فانه ينتظم كلما شرعه الله من العقائد والاعمال وقد صنف الشيخ ابو بكر الاجرى ( كتاب الشريعة ) وصنف الشيخ ابو عبد الله بن بطة ( كتاب الابانة عن شريعة الفرقة الناجية ) وغير ذلك وانما مقصود هؤلاء الائمة فى السنة باسم الشريعة العقائد التى يعتقدها اهل السنة من الايمان مثل اعتقادهم ان الايمان قول وعمل وان الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله وان القرآن كلام الله غير مخلوق وان الله خالق
____________________
(19/306)
كل شيء وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وانه على كل شيء قدير وانهم لا يكفرون اهل القبلة بمجرد الذنوب ويؤمنون بالشفاعة لأهل الكبائر ونحو ذلك من عقود اهل السنة فسموا اصول اعتقادهم شريعتهم وفرقوا بين شريعتهم وشريعة غيرهم
وهذه العقائد التى يسميها هؤلاء الشريعة هي التى يسمى غيرهم عامتها العقليات ) و ( علم الكلام ) او يسميها الجميع ( اصول الدين ) ويسميها بعضهم ( الفقه الاكبر ) وهذا نظير تسمية سائر المصنفين فى هذا الباب ( كتاب السنة ) كالسنة لعبدالله بن أحمد والخلال والطبرانى والسنة للجعفى وللأثرم ولخلق كثير صنفوا فى هذه الابواب وسموا ذلك كتب السنة ليميزوا بين عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل البدعة
فالسنة كالشريعة هي ما سنه الرسول وما شرعه فقد يراد به ما سنه وشرعه من العقائد وقد يراد به ما سنه وشرعه من العمل وقد يراد به كلاهما فلفظ السنة يقع على معان كلفظ الشرعة ولهذا قال بن عباس وغيره فى قوله ( شرعة ومنهاجا ) سنة وسبيلا ففسروا الشرعة بالسنة والمنهاج بالسبيل واسم ( السنة ( و ( الشرعة ( قد يكون فى العقائد والأقوال وقد يكون فى المقاصد والأفعال فالأولى فى طريقة العلم والكلام
____________________
(19/307)
والثانية فى طريقة الحال والسماع وقد تكون فى طريقة العبادات الظاهرة والسياسات السلطانية فالمتكلمة جعلوا بازاء الشرعيات العقليات أو الكلاميات والمتصوفة جعلوا بازائها الذوقيات والحقائق والمتفلسفة جعلوا بازاء الشريعة الفلسفة والملوك جعلوا بازاء الشريعة السياسة وأما الفقهاء والعامة فيخرجون عما هو عندهم الشريعة إلى بعض هذه الأمور أو يجعلون بازائها العادة أو المذهب أو الرأى
والتحقيق أن الشريعة التى بعث الله بها محمدا جامعة لمصالح الدنيا والآخرة وهذه الأشياء ما خالف الشريعة منها فهو باطل وما وافقها منها فهو حق لكن قد يغير أيضا لفظ الشريعة عند اكثر الناس فالملوك والعامة عندهم ان الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم ومعلوم ان القضاء فرع من فروع الشريعة وإلا فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة فى العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات ثم هي مستعملة فى كلام الناس على ثلاثة أنحاء شرع منزل وهو ما شرعه الله ورسوله وشرع متأول وهو ما ساغ فيه الاجتهاد وشرع مبدل وهو ما كان من الكذب والفجور الذى يفعله المبطلون بظاهر من الشرع أو البدع أو الضلال الذى يضيفه
____________________
(19/308)
الضالون إلى الشرع والله سبحانه وتعالى أعلم
وبما ذكرته فى مسمى الشريعة والحكم الشرعى والعلم الشرعى يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة فى شيء من أموره بل كلما يصلح له فهو فى الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك والحمد لله رب العالمين
وسبب ذلك أن الشريعة هي طاعة الله ورسوله وأولى الأمر منا وقد قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ) وقد أوجب طاعته وطاعة رسوله فى آى كثير من القرآن وحرم معصيته ومعصية رسوله ووعد برضوانه ومغفرته ورحمته وجنته على طاعته وطاعة رسوله وأوعد بضد ذلك على معصيته ومعصية رسوله فعلى كل أحد من عالم أو أمير أو عابد أو معامل أن يطيع الله ورسوله فيما هو قائم به من علم أو حكم أو أمر أو نهى أو عمل أو عبادة أو غير ذلك
وحقيقة الشريعة اتباع الرسل والدخول تحت طاعتهم كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرسل وطاعة الرسل هي دين الله الذى أمر بالقتال عليه فقال ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ويكون الدين
____________________
(19/309)
كله لله ) فانه قد قال ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) والطاعة له دين له وقال النبى ( من أطاعنى فقد أطاع الله ومن أطاع أميرى فقد أطاعنى ومن عصانى فقد عصا الله ومن عصى أميرى فقد عصانى ) والأمراء والعلماء لهم مواضع تجب طاعتهم فيها وعليهم هم أيضا أن يطيعوا الله والرسول فيما يأمرون فعلى كل من الرعاة والرعية والرؤوس والمرؤوسين أن يطيع كل منهم الله ورسوله فى حاله ويلتزم شريعة الله التى شرعها له
وهذه جملة تفصيلها يطول غلط فيها صنفان من الناس
صنف سوغوا لنفوسهم الخروج عن شريعة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله لظنهم قصور الشريعة عن تمام مصالحهم جهلا منهم أو جهلا وهوى أو هوى محضا وصنف قصروا فى معرفة قدر الشريعة فضيقوها حتى توهموا هم والناس أنه لا يمكن العمل بها وأصل ذلك الجهل بمسمى الشريعة ومعرفة قدرها وسعتها والله أعلم
ومن العلماء والعامة من يرى أن اسم الشريعة والشرع لا يقال إلا للأعمال التى يسمى علمها علم الفقه ويفرقون بين العقائد والشرائع أو الحقائق والشرائع فهذا الإصطلاح مخالف لذلك وأما قوله ( ثم جعلناك على
____________________
(19/310)
شريعة من الأمر ) فاما أن يحمل
وكذلك الأحكام الشرعية قد يراد بها ما أخبر بها الشارع بناء على أن الأحكام صفات للفعل وأن الشارع بينها وكشفها ومنها ما يعلم بالعقل ضرورة أو نظرا ومنها ما يعلم بهما ويسمى الجميع أحكاما شرعية أو تخص الأحكام الشرعية بما لم يستفد إلا من الشارع وهذا إصطلاح المعتزلة وغيرهم من المتكلمين والفقهاء من اصحابنا وغيرهم وقد يراد بها ما أثبتها الشارع واتى بها ولم تكن ثابتة بدونه بناء على أن الفعل حكم له فى نفسها وإنما الحكم ما أتى به الشارع وهذا قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحابنا وغيرهم ثم قد يقال الحكم هو خطاب الشارع وهو الايجاب والتحريم منه وقد يقال هو مقتضى الخطاب وموجبه وهو الوجوب والحرمة مثلا وقد يقال المتعلق الذى بين الخطاب والفعل
والصحيح ان إسم الحكم الشرعى ينطبق على هذه الثلاثة وقد يقال بل الحكم الشرعى يقال على ما أخبر به وعلى ما جاء به من الخطاب ومقتضاه وهذا كما قلناه فى العلم الشرعى فتدبر هذه الأصول الثلاثة العلم الشرعى والحكم الشرعي والشريعة والله أعلم
____________________
(19/311)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده
قال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونثنى عليه الخير بما هو أهله ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
ونشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا فهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة وبصر به من العمى وارشد به من الغي وفتح به آذانا صما واعينا عميا وقلوبا غلفا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
وبعد فان الله سبحانه دلنا على نفسه الكريمة بما أخبرنا به فى
____________________
(20/5)
كتابه العزيز وعلى لسان نبيه وبذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل فقال تعالى ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ) إلى قوله ( منيب ) وقال ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) وقال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )
وقد ثبت عن النبى أنه قال ( انا معاشر الأنبياء ديننا واحد والشرائع مختلفة ( فجميع الرسل متفقون فى الدين الجامع في الأصول الاعتقادية والعلمية كالايمان بالله ورسله واليوم الآخر والعملية كالأعمال العامة المذكورة فى سورة الأنعام والأعراف وبني إسرائيل وهو قوله تعالى { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا } الآيات الثلاث وقوله ( قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) الآية وقوله ( قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) الآية وقوله { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } إلى آخر الوصايا وقوله { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة } الآية
فالدعوة والعبادة اسم جامع لغاية الحب لله وغاية الذل له فمن ذل له من غير حب لم يكن عابدا بل يكون هو المحبوب المطلق فلا يحب
____________________
(20/6)
شيئا إلا له ومن أشرك غيره فى هذا وهذا لم يجعل له حقيقة الحب فهو مشرك وإشراكه يوجب نقص الحقيقة كقوله تعالى ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) الآية
والحب يوجب الذل والطاعة والاسلام أن يستسلم لله لا لغيره فمن إستسلم له ولغيره فهو مشرك ومن لم يستسلم له فهو متكبر وكلاهما ضد الاسلام
والقلب لا يصلح إلا بعبادة الله وحده وتحقيق هذا تحقيق الدعوة النبوية
ومن المحبة الدعوة إلى الله وهي الدعوة إلى الايمان به وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم بما أمروا به فالدعوة إليه من الدعوة إلى الله تعالى وما أبغضه الله ورسوله فمن الدعوة إلى الله النهي عنه ومن الدعوة إلى الله أن يفعل العبد ما أحبه الله ورسوله ويترك ما أبغضه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة بما أخبر به الرسول من أسماء الله وصفاته ومن سائر المخلوقات كالعرش والكرسي والملائكة والأنبياء وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
____________________
(20/7)
والدعوة إلى الله واجبة على من اتبع الرسول وهم أمته وقد وصفهم الله بذلك كقوله تعالى { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } إلى قوله { المفلحون } فهذه فى حقه وفى حقهم قوله ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) الآية وقوله ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) الآية
وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة وهو فرض كفاية يسقط عن البعض بالبعض كقوله ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ) الآية فجميع الأمة تقوم مقامه فى الدعوة فبهذا إجماعهم حجة وإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله فاذا تقرر هذا فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحب الله ورسوله وأن يبغض ما أبغضه الله ورسوله مما دل عليه فى كتابه فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل فى الدين لشخص إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لقول إلا لكتاب الله عز وجل
ومن نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته فى القول والفعل فهو ( من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) الآية وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل إتباع الأئمه والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار فيوالي من وافقهم
____________________
(20/8)
ويعادي من خالفهم فينبغي للانسان أن يعود نفسه التفقه الباطن فى قلبه والعمل به فهذا زاجر وكمائن القلوب تظهر عند المحن وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة او يعتقدها لكونها قول أصحابه ولا يناجز عليها بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله أو أخبر الله به ورسوله لكون ذلك طاعة لله ورسوله
وينبغى للداعي أن يقدم فيما استدلوا به من القرآن فانه نور وهدى ثم يجعل إمام الأئمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كلام
الأئمة ولا يخلو أمر الداعي من أمرين
الأول أن يكون مجتهدا اومقلدا فالمجتهد ينظر فى تصانيف المتقدمين من القرون الثلاثة ثم يرجح ما ينبغي ترجيحه
الثانى المقلد يقلد السلف إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها
فاذا تبين هذا فنقول كما أمرنا ربنا ( قولوا آمنا بالله ) إلى قوله ( مسلمون ) ونأمر بما أمرنا به وننهى عما نهانا عنه فى نص كتابه وعلى لسان نبيه كما قال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) الآية فمبنى أحكام هذا الدين على ثلاثة أقسام الكتاب والسنه والاجماع
____________________
(20/9)
وسئل رحمه الله تعالى عن معنى اجماع العلماء وهل يسوغ للمجتهد خلافهم وما معناه وهل قول الصحابى حجة (
فأجاب
) الحمد لله معنى الاجماع أن تجتمع علماء المسلمين على حكم من الاحكام وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن اجماعهم فان الأمة لا تجتمع على ضلالة ولكن كثير من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعا ولا يكون الأمر كذلك بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة
وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمه ولا إجماعا باتفاق المسلمين بل قد ثبت عنهم رضي الله عنهم أنهم نهوا الناس عن تقليدهم وأمروا إذا رأوا قولا في الكتاب والسنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة لا يزالون إذا
____________________
(20/10)
ظهر لهم دلالة الكتاب أو السنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك مثل مسافة القصر فان تحديدها بثلاثة أيام أو ستة عشر فرسخا لما كان قولا ضعيفا كان طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ترى قصر الصلاة فى السفرالذي هو دون ذلك كالسفر من مكة إلى عرفة فانه قد ثبت ان أهل مكة قصروا مع النبى صلى الله عليه وسلم بمنى وعرفة
وكذلك طائفة من أصحاب مالك وأبى حنيفة وأحمد قالوا ان جمع الطلاق الثلاث محرم وبدعة لأن الكتاب والسنة عندهم انما يدلان على ذلك وخالفوا ائمتهم
وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة رأوا غسل الدهن النجس وهو خلاف قول الأئمة الاربعة
وطائفة من أصحاب أبى حنيفة رأوا تحليف الناس بالطلاق وهو خلاف الائمة الأربعة بل ذكر بن عبدالبر ان الاجماع منعقد على خلافه وطائفة من أصحاب مالك وغيرهم قالوا من حلف بالطلاق فانه يكفر يمينه وكذلك من حلف بالعتاق وكذلك قال طائفة من اصحاب
____________________
(20/11)
أبي حنيفة والشافعي قالوا ان من قال الطلاق يلزمني لا يقع به طلاق ومن حلف بذلك لا يقع به طلاق وهذا منقول عن أبى حنيفة نفسه وطائفة من العلماء قالوا ان الحالف بالطلاق لا يقع به طلاق ولا تلزمه كفارة وقد ثبت عن الصحابة وأكابر التابعين فى الحلف بالعتق أنه لا يلزمه بل تجزئه كفارة يمين وأقوال الأئمة الأربعة بخلافه فالحلف بالطلاق بطريق الأولى ولهذا كان من هو من أئمة التابعين يقول الحلف بالطلاق لا يقع به الطلاق ويجعله يمينا فيه الكفارة
وهذا بخلاف ايقاع الطلاق فانه إذا وقع على الوجه الشرعي وقع باتفاق الأمة ولم تكن فيه كفارة باتفاق الأمة بل لا كفارة فى الايقاع مطلقا وإنما الكفارة خاصة في الحلف
فاذا تنازع المسلمون فى مسألة وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فأي القولين دل عليه الكتاب والسنة وجب اتباعه كقول من فرق بين النذر والعتق والطلاق وبين اليمين بذلك فان هذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس فان الله ذكر حكم الطلاق فى قوله تعالى { إذا طلقتم النساء } وذكر حكم اليمين في قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وثبت في الصحاح عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( من حلف
____________________
(20/12)
على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) فمن جعل اليمين بها لها حكم والنذر والاعتاق والتطليق له حكم آخر كان قوله موافقا للكتاب والسنة
ومن جعل هذا وهذا سواء فقد خالف الكتاب والسنة
ومن ظن فى هذا اجماعا كان ظنه بحسب علمه حيث لم يعلم فيه نزاعا وكيف تجتمع الامة على قول ضعيف مرجوح ليس عليه حجة صحيحة بل الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والقياس الصحيح يخالفه
والصيغ ثلاثة صيغة ايقاع كقوله أنت طالق فهذه ليست يمينا باتفاق الناس
وصيغة قسم كقوله الطلاق يلزمني لافعلن كذا فهذه صيغة يمين باتفاق الناس
وصيغة تعليق كقوله ان زنيت فانت طالق فهذا ان قصد به الايقاع عند وجود الصفة بأن يكون يريد إذا زنت ايقاع الطلاق
____________________
(20/13)
ولا يقيم مع زانية فهذا ايقاع وليس بيمين وان قصد منعها وزجرها ولا يريد طلاقها إذا زنت فهذا يمين باتفاق الناس فصل
وأما أقوال الصحابة فان انتشرت ولم تنكر فى زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء وان تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء وان قال بعضهم قولا ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر فهذا فيه نزاع وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة ومالك وأحمد فى المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه وفى كتبه الجديدة الاحتجاج بمثل ذلك فى غير موضع ولكن من الناس من يقول هذا هو القول القديم
____________________
(20/14)
وسئل
عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع (
فأجاب
) أما التقليد الباطل المذموم فهو قبول قول الغير بلا حجة قال الله تعالى { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } فى البقرة وفى المائدة وفى لقمان { أولو كان الشيطان يدعوهم } وفي الزخرف { قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } وفى الصافات { إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون } وقال { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } الآيه وقال { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } وقال { فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار } وفى الآيه الأخرى { من عذاب الله من شيء } وقال { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم }
____________________
(20/15)
فهذا الاتباع والتقليد الذى ذمه الله هو اتباع الهوى اما للعادة والنسب كاتباع الآباء وأما للرئاسة كاتباع الا كابر والسادة والمتكبرين فهذا مثل تقليد الرجل لأبيه أو سيده أو ذي سلطانه وهذا يكون لمن لم يستقل بنفسه وهو الصغير فان دينه دين أمه فان فقدت فدين ملكه وأبيه فان فقد كاللقيط فدين المتولى عليه وهو أهل البلد الذي هو فيه فأما إذا بلغ وأعرب لسانه فاما شاكرا وإما كفورا
وقد بين الله أن الواجب الاعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزل الله على رسله فانهم حجة الله التى أعذربها إلى خلقه
والكلام فى التقليد فى شيئين فى كونه حقا أو باطلا من جهة الدلالة وفي كونه مشروعا أو غير مشروع من جهة الحكم
أما الأول فان التقليد المذكور لا يفيد علما فان المقلد يجوز أن يكون مقلده مصيبا ويجوز أن يكون مخطئا وهو لا يعلم أمصيب هو أم مخطىء فلا تحصل له ثقة ولا طمأنينة فان علم ان مقلده مصيب
____________________
(20/16)
كتقليد الرسول أو أهل الاجماع فقد قلده بحجة وهو العلم بأنه عالم وليس هو التقليد المذكور وهذا التقليد واجب للعلم بأن الرسول معصوم وأهل الاجماع معصومون
وأما تقليد العالم حيث يجوز فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن كخبر الواحد والقياس لأن المقلد يغلب على ظنه إصابه العالم المجتهد كما يغلب على ظنه صدق المخبر لكن بين اتباع الراوى والرأى فرق يذكر إن شاء الله فى موضع آخر
فان اتباع الراوي واجب لأنه انفرد بعلم ما أخبر به بخلاف الرأى فانه يمكن أن يعلم من حيث علم ولأن غلط الرواية بعيد فان ضبطها سهل ولهذا نقل عن النساء والعامه بخلاف غلط الرأي فأنه كثير لدقة طرقة وكثرتها وهذا هو العرف لمن يجوز قبول الخبر مع إمكان مراجعه المخبر عنه ولا يجوز قبول المعنى مع إمكان معرفة الدليل
وأما العرف الأول فمتفق عليه بين أهل العلم ولهذا يوجبون اتباع الخبر ولا يوجب أحد تقليد العالم على من أمكنه الاستدلال وإنما يختلفون في جوازه لأنه يمكنه أن يعلم من حيث علم فهذه جمله
____________________
(20/17)
وأما تفصيلها فنقول
الناس فى الاستدلال والتقليد على طرفى نقيض منهم من يوجب الاستدلال حتى فى المسائل الدقيقه أصولها وفروعها على كل أحد ومنهم من يحرم الاستدلال فى الدقيق على كل أحد وهذا في الأصول والفروع وخيار الأمور أوساطها
____________________
(20/18)
وسئل هل كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والباقى مخطئون (
فأجاب
) قد بسط الكلام فى هذه المسألة في غير موضع وذكر نزاع الناس فيها وذكر أن لفظ الخطأ قد يراد به الاثم وقد يراد به عدم العلم
فان أريد الأول فكل مجتهد اتقى الله ما استطاع فهو مصيب فانه مطيع لله ليس بآثم ولا مذموم
وإن أريد الثانى فقد يخص بعض المجتهدين بعلم خفي على غيره ويكون ذلك علما بحقيقة الأمر لو أطلع عليه الآخر لوجب عليه اتباعه لكن سقط عنه وجوب اتباعه لعجزه عنه وله أجر على اجتهاده ولكن الواصل إلى الصواب له أجران كما قال النبى فى الحديث المتفق على صحته ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر
____________________
(20/19)
ولفظ ( الخطأ ( يستعمل في العمد وفى غيرالعمد قال تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا } والا كثرون يقرؤون ( خطأ ) على وزن ردأ وعلما وقرأ بن عامر ( خطأ ) على وزن عملا كلفظ الخطأ فى قوله ( وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمنا الا خطأ ) وقرا إبن كثير ( خطاء ) على وزن هجاء وقرا بن رزين ( خطاء ) على وزن شرابا وقرأ الحسن وقتادة ( خطا ) على وزن قتلا وقرأ الزهري ( خطا ) بلا همز على وزن عدى قال الاخفش خطى يخطأ بمعنى أذنب وليس معنى أخطأ لان اخطأ في ما لم يصنعه عمدا يقول فيما اتيته عمدا خطيت وفيما لم يتعمده أخطأت
وكذلك قال أبو بكر إبن الانباري الخطأ الاثم يقال قد خطا يخطا اذا اثم وأخطأ يخطىء اذا فارق ا لصواب
وكذلك قال بن الانبارى فى قوله { تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين } فان المفسرين كابن عباس وغيره ( قالوا ) لمذنبين آثمين فى أمرك وهو كما قالوا فانهم قالوا { يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين } وكذلك قال العزيز لامرأته { واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } قال بن الانباري ولهذا اختير خاطئين على مخطئين وان كان اخطأ على ألسن الناس اكثر من خطا يخطى لان معنى خطا يخطى فهو خاطىء آثم ومعنى أخطأ يخطىء ترك الصواب
____________________
(20/20)
ولم ياثم قال عبادك يخطئون وأنت رب تكفل المنايا والحتوم وقال الفراء الخطأ الاثم الخطا والخطا والخطا ممدود ثلاث اللغات قلت يقال في العمد خطأ كما يقال في غير العمد على قراءة بن عامر فيقال لغير المتعمد أخطأت كما يقال له خطيت ولفظ الخطيئة من هذا ومنه قوله تعالى { مما خطيئاتهم أغرقوا } وقول السحرة إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين
ومنه قوله في الحديث الصحيح الالهي يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم وفي الصحيحين عن أبى موسى عن النبي أنه كان يقول في دعائه اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول قال أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد
____________________
(20/21)
والذين قالوا كل مجتهد مصيب والمجتهد لا يكون على خطأ وكرهوا أن يقال للمجتهد إنه أخطأ هم وكثير من العامة يكره أن يقال عن إمام كبير إنه أخطأ وقوله أخطأ لأن هذا اللفظ يستعمل في الذنب كقراءة بن عامر إنه كان خطأ كبيرا ولأنه يقال في العامد أخطأ يخطىء كما قال يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم فصار لفظ الخطا وأخطأ قد يتناول النوعين كما يخص غير العامل وأما لفظ الخطيئة فلا يستعمل إلا في الاثم
والمشهور أن لفظ الخطأ يفارق العمد كما قال تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ } الاية ثم قال بعد ذلك { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم }
وقد بين الفقهاء أن الخطأ ينقسم إلى خطأ في الفعل وإلى خطأ فى القصد
فالأول أن يقصد الرمى إلى ما يجوز رميه من صيد وهدف فيخطىء بها وهذا فيه الكفارة والدية
والثانى أن يخطى فى قصده لعدم العلم كما أخطأ هناك لضعف
____________________
(20/22)
القوة وهو أن يرمى من يعتقده مباح الدم ويكون معصوم الدم كمن قتل رجلا فى صفوف الكفار ثم تبين أنه كان مسلما والخطأ فى العلم هو من هذا النوع ولهذا قيل في أحد القولين إنه لا دية فيه لأنه مأمور به بخلاف الأول
وأيضا فقد قال تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } ففرق بين النوعين وقال تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت في الصحيح ان الله تعالى قال قد فعلت
فلفظ الخطا وأخطا عند الاطلاق يتناول غير العامد واذا ذكر مع النسيان أو ذكر فى مقابلة العامد كان نصا فيه وقد يراد به مع القرينة العمد أو العمد والخطأ جميعا كما في قراءة بن عامر وفى الحديث الالهي إن كان لفظه كما يرويه عامة المحدثين ( تخطئون ( بالضم
واما اسم الخاطىء فلم يجيء فى القرآن الا للاثم بمعنى الخطيئة كقوله ( { واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } وقوله { لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين } وقوله ( يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ) وقوله ( لا يأكله إلا الخاطئون
____________________
(20/23)
وإذا تبين هذا فكل مجتهد مصيب غير خاطىء وغير مخطىء أيضا إذا أريد بالخطأ الاثم على قراءة بن عامر ولا يكون من مجتهد خطأ وهذا هو الذي اراده من قال كل مجتهد مصيب وقالوا الخطا والاثم متلازمان فعندهم لفظ الخطأ كلفظ الخطيئة على قراءة بن عامر وهم يسلمون أنه يخفى عليه بعض العلم الذي عجز عنه لكن لا يسمونه خطا لانه لم يؤمر به وقد يسمونه خطأ إضافيا بمعنى أنه اخطأ شيئا لو علمه لكان عليه ان يتبعه وكان هو حكم الله فى حقه ولكن الصحابة والأئمة الأربعة رضي الله عنهم وجمهور السلف يطلقون لفظ الخطأ على غير العمد وإن لم يكن إثما كما نطق بذلك القرآن والسنة في غير موضع كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران واذا اجتهد فاخطأ فله أجر (
وقال غير واحد من الصحابة كابن مسعود أقول فيها برأيي فان يكن صوابا فمن الله وان يكن خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه وقال علي فى قصة التى أرسل اليها عمر فاسقطت لما قال له عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما انت مؤدب ولا شيء عليك ان كانا اجتهدا فقد أخطآ وان لم يكونا اجتهدا فقد غشاك
____________________
(20/24)
وأحمد يفرق فى هذا الباب فاذا كان فى المسألة حديث صحيح لا معارض له كان من أخذ بحديث ضعيف أو قول بعض الصحابة مخطئا وإذا كان فيها حديثان صحيحان نظر فى الراجح فأخذ به ولا يقول لمن أخذ بالآخر إنه مخطىء وإذا لم يكن فيها نص اجتهد فيها برأيه قال ولا أدري أصبت الحق أم اخطأته ففرق بين أن يكون فيها نص يجب العمل به وبين أن لا يكون كذلك وإذا عمل الرجل بنص وفيها نص آخر خفي عليه لم يسمه مخطئا لأنه فعل ما وجب عليه لكن هذا التفصيل في تعيين الخطأ فان من الناس من يقول لا أقطع بخطأ منازعي في مسائل الاجتهاد ومنهم من يقول أقطع بخطئه وأحمد فصل وهو الصواب وهو إذا قطع بخطئه بمعنى عدم العلم لم يقطع باثمه هذا لا يكون إلا في من علم أنه لم يجتهد وحقيقة الأمر أنه إذا كان فيها نص خفي على بعض المجتهدين وتعذر عليه علمه ولو علم به لوجب عليه اتباعه لكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر وهو منسوخ أو مخصوص فقد فعل ما وجب عليه بحسب قدرته كالذين صلوا إلى بيت المقدس بعد أن نسخت وقبل أن يعلموا بالنسخ وهذا لان حكم الخطاب لايثبت في حق المكلفين إلا بعد تمكنهم من معرفته في أصح الأقوال وقيل يثبت معنى وجوب القضاء لا
____________________
(20/25)
بمعنى الاثم وقيل يثبت في الخطاب المبتدأ دون الناسخ والأقوال الثلاثه في مذهب أحمد وغيره وإذا كان كذلك فما لم يسمعه المجتهد من النصوص الناسخة أو المخصوصة فلم تمكنه معرفته فحكمه ساقط عنه وهو مطيع لله في عمله بالنص المنسوخ والعام ولا إثم عليه فيه وهنا تنازع الناس على ثلاثة أقوال
قيل عليه اتباع الحكم الباطن وأنه إذا أخطأ كان مخطئا عند الله وفى الحكم تارك لما أمر به مع قولهم إنه لا إثم عليه وهذا تناقض فان من ترك ما أمر به فهو آثم فكيف يكون تاركا لمأمور به وهو غير آثم
وقيل بل لم يؤمر قط بالحكم الباطن ولا هو حكم فى حقه ولا أخطأ حكم الله ولا لله في الباطن حكم في حقه غير ما حكم به ولا يقال له أخطأ فان الخطأ عندهم ملازم للاثم وهم يسلمون أنه لو علمه لوجب عليه العمل به ولكان حكما فى حقه فكان النزاع لفظيا وقد خالفوا فى منع اللفظ فى الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأيضا فقولهم ليس فى الباطن حكم خطأ بل حكم الله فى الباطن
____________________
(20/26)
هو ما جاء به النص الناسخ والخاص ولكن لا يجب عليه أن يعمل به حتى يتمكن من معرفته فسقط عنه لعجزه
وقيل كان حكم الله في حقه هو الأمر الباطن ولكن لما إجتهد فغلب على ظنه أن هذا هو حكم الله انتقل حكم الله فى حقه فصار مأمورا بهذا
والصحيح ما قاله أحمد وغيره أن عليه أن يجتهد فالواجب عليه الاجتهاد ولا يجب عليه إصابته فى الباطن إذا لم يكن قادرا عليه وأنما عليه أن يجتهد فان ترك الاجتهاد أثم وإذا اجتهد ولم يكن فى قدرته أن يعلم الباطن لم يكن مأمورا به مع العجز ولكن هو مأمور به وهو حكم الله فى حقه بشرط أن يتمكن منه
ومن قال إنه حكم الله فى الباطن بهذا الاعتبار فقد صدق وإذا اجتهد فبين الله له الحق في الباطن فله أجران كما قال تعالى ( ففهمناها سليمان ) ولا نقول ان حكم الله انتقل فى حقه فكان مأمورا قبل الاجتهاد بالحق للباطن ثم صار مامورا بعد الاجتهاد لما ظنه بل مازال مأمورا بأن يجتهد ويتقى الله ما استطاع وهو إنما أمر بالحق لكن بشرط أن يقدر عليه فاذا عجز عنه لم يؤمر به وهو مأمور بالاجتهاد فاذا كان اجتهاده اقتضى قولا آخر فعليه أن يعمل
____________________
(20/27)
به لا لأنه أمر بذلك القول بل لان الله أمره أن يعمل بما يقتضيه اجتهاده وبما يمكنه معرفته وهو لم يقدر إلا على ذلك القول فهو مأمور به من جهة أنه مقدوره لا من جهة عينه كالمجتهدين في القبلة إذا صلوا إلى أربع جهات فالمصيب للقبلة واحد والجميع فعلوا ما أمروا به لا إثم عليهم وتعيين القبلة سقط عن العاجزين عن معرفتها وصار الواجب على كل أحد أن يفعل ما يقدر عليه من الاجتهاد وهو ما يعتقد أنه الكعبة بعد اجتهاده فهو مأمور بعين الصواب لكن بشرط القدرة على معرفته ومأمور بما يعتقد أنه الصواب وأنه الذي يقدر عليه وإذا رآه لم يتعين من جهة الشارع صلوات الله وسلامة عليه بل من جهة قدرته لكن إذا كان متبعا لنص ولم يبلغه ناسخه فهو مأمور باتباعه إلى أن يعلم الناسخ فان المنسوخ كان حكم الله في حقه باطنا وظاهرا وذلك لا يقبل إلا بعد بلوغ الناسخ له وأما اللفظ العام إذا كان مخصوصا فقد يقال صورة التخصيص لم يردها الشارع لكن هو اعتقد أنه أرادها لكونه لم يعلم التخصيص وهكذا يقال فيما نسخ من النصوص قبل ان يجب العمل به على المجتهد كالنصوص التى نسخت فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم ولم يعلم بعض الناس بنسخها وقد بلغه المنسوخ بها لا يقال إن المنسوخ
____________________
(20/28)
ثبت حكمه فى حقه باطنا وظاهرا كما قيل فى أهل القبلة الذين وجب عليهم استقبالها باطنا وظاهرا قبل النسخ ولكن يقال من لم يبلغه النص الناسخ وبلغه النص الآخر فعليه اتباعه والعمل به وعلى هذا فتختلف الأحكام فى حق المجتهدين بحسب القدرة على معرفة الدليل فمن كان غير متمكن من معرفة الدليل الراجح كالناسخ والمخصص فهذا حكم الله من جهة العمل بما قدر عليه من الأدلة وان كان فى نفس الأمر دليل معارض راجح لم يتمكن من معرفته فليس عليه اتباعه الا اذا قدر على ذلك
وعلى هذا فالآية اذا احتملت معنيين وكان ظهور أحدهما غير معلوم لبعض الناس بل لم يعلم الا ما لايظهر للآخر كان الواجب عليه العمل بما دله على ذلك المعنى وان كان غيره عليه العمل بما دله على المعنى الآخر وكل منهما فعل ماوجب عليه لكن حكم الله فى نفس الأمر واحد بشرط القدرة واذا قيل فما فعله ذاك أمره الله به أيضا قيل لم يأمر به عينيا بل أمره أن يتقي الله ما استطاع ويعمل بما ظهر له ولم يظهر له الا هذا فهو مأمور به من جهة جنس المقدور والمعلوم والظاهر بالنسبة إلى المجتهد ليس مأمورا به من جهة عينه نفسه فمن قال لم يؤمر به فقد أصاب ومن قال هو مأمور به من جهة أنه هو الذى قدر عليه وعلمه وظهر له ودل عليه الدليل فقد أصاب
____________________
(20/29)
كما لو شهد شاهدان عند الحاكم وقد غلطا فى الشهادة فهو مأمور أن يحكم بشهادة ماشهدا به مطلقا لم يؤمر بغير ماشهدا به فى هذه القضية
ولهذا قال ( إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض وانما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فانما أقطع له قطعة من النار ( فهو اذا ظهرت له حجة أحدهما فلم يذكر الآخر حجته فقد عمل بما ظهر له ولا يكلف الله نفسا الا وسعها وهو مطيع لله فى حقه من جهة قدرته وعلمه لا من جهة كون ذلك المعين أمر الله به فإن الله لايأمر بالباطل والظلم والخطأ ولكن لا يكلف نفسا الا وسعها وهذا يتناول الأحكام النبوية والخبرية
والمجتهد المخطىء له أجر لأن قصده الحق وطلبه بحسب وسعه وهو لا يحكم الا بدليل كحكم الحاكم باقرار الخصم بما عليه ويكون قد سقط بعد ذلك بابراء أو قضاء ولم يقم به حجة
____________________
(20/30)
وحكمه بالبراءة مع اليمين ويكون قد اشتغلت الذمة باقتراض أو ابتياع أو غير ذلك لكن لم يقم به حجة وحكم لرب اليد مع اليمين ويكون قد انتقل الملك عنه أو يده يد غاصب لكن لم يقم به حجة وكذلك الأدلة العامة يحكم المجتهد بعمومه وما يخصه ولم يبلغه أو بنص وقد نسخ ولم يبلغه أو يقول بقياس ظهر وفيه التسوية وتكون تلك الصورة امتازت بفرق مؤثر وتعذرت عليه معرفته فان تأثير الفرق قد يكون بنص لم يبلغه وقد يكون وصفا خفيا
ففى الجملة الاجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده و ( لو ) كان فى الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قدر على معرفته لكن لم يقدر فهذا كالمجتهدين فى جهات الكعبة وكذلك كل من عبد عبادة نهى عنها ولم يعلم بالنهى لكن هي من جنس المأمور به مثل من صلى فى أوقات النهى وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهى أو تمسك بدليل خاص مرجوح مثل صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر لأن النبى صلاهما ومثل صلاة رويت فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة كالفية نصف شعبان وأول رجب وصلاة التسبيح كما جوزها بن المبارك وغير ذلك فانها اذا دخلت فى عموم استحباب الصلاة ولم يبلغه ما يوجب النهى أثيب على ذلك وان كان فيها نهى من وجه لم يعلم بكونها بدعة تتخذ شعارا ويجتمع عليها كل عام فهو مثل أن يحدث صلاة سادسه ولهذا لو أراد أن يصلى مثل هذه الصلاة بلا حديث لم يكن له ذلك لكن لما روى الحديث اعتقد أنه صحيح فغلط فى ذلك فهذا يغفر له
____________________
(20/31)
خطؤه ويثاب على جنس المشروع وكذلك من صام يوم العيد ولم يعلم بالنهى بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك فان هذا لا ثواب فيه وإن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة كما قال تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } لكنه وإن كان لا يعذب فان هذا لا يثاب بل هذا كما قال تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } قال بن المبارك هي الأعمال التي عملت لغير الله وقال مجاهد هي الأعمال التي لم تقبل وقال تعالى { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح } الآية فهؤلاء أعمالهم باطلة لا ثواب فيها
وإذا نهاهم الرسول عنها فلم ينتهوا عوقبوا فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول وأما بطلانها في نفسها فلأنها غير مأمور بها فكل عبادة غير مأمور بها فلا بد أن ينهى عنها ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب فان لم يعلم لم يستحق العقاب وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت من جنس المشروع فانه يثاب عليها وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به وهذا لا يكون مجتهدا لأن المجتهد لابد أن يتبع دليلا شرعيا وهذه لا يكون عليها دليل شرعي لكن قد يفعلها باجتهاد مثله وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع أو لحديث كذب سمعوه فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون وأما الثواب فانه قد يكون ثوابهم أنهم أرجح من أهل جنسهم وأما الثواب بالتقرب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الأعمال
____________________
(20/32)
فصل والخطأ المغفور في الاجتهاد هو فى نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط فى غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد ان الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته او اعتقد ان الله لا يرى لقوله { لا تدركه الأبصار } ولقوله { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على إنتفاء الرؤية فى حق النبى وانما يدلان بطريق العموم
____________________
(20/33)
وكما نقل عن بعض التابعين ان الله لا يرى وفسروا قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } بإنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح
أو من اعتقد ان الميت لا يعذب ببكاء الحى لاعتقاده ان قوله ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) يدل على ذلك وان ذلك يقدم على رواية الراوي لان السمع يغلط كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف
او اعتقد ان الميت لا يسمع خطاب الحي لاعتقاده ان قوله { إنك لا تسمع الموتى } يدل على ذلك أو اعتقد ان الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح لاعتقاده ان العجب انما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل
أو اعتقد ان عليا أفضل الصحابة لاعتقاده صحة حديث الطير وان النبى صلى الله عليه
____________________
(20/34)
وسلم قال ( اللهم ائتنى بأحب الخلق اليك يأكل معى من هذا الطائر (
أو اعتقد ان من جس للعدو وعلمهم بغزو النبى صلى الله عليه وسلم فهو منافق كما اعتقد ذلك عمر فى حاطب وقال دعنى اضرب عنق هذا المنافق او اعتقد ان من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق كما اعتقد ذلك اسيد بن حضير فى سعد بن عبادة وقال انك منافق تجادل عن المنافقين
او اعتقد ان بعض الكلمات او الآيات انها ليست من القرآن لان ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت كما نقل عن غير واحد من السلف انهم انكروا الفاظا من القران كانكار بعضهم { وقضى ربك } وقال انما هي ووصى ربك وإنكار بعضهم قوله { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } وقال انما هو ميثاق بنى اسرائيل وكذلك هي فى قراءة عبد الله وانكار بعضهم ( او لم ييئس الذين آمنوا ) انما هي او لم يتبين الذين آمنوا وكما انكر عمر على هشام بن الحكم لما رآه يقرا سورة الفرقان على غير ماقرأها وكما انكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها حتى جمعهم عثمان على المصحف الامام
وكما أنكر طائفة من السلف والخلف ان الله يريد المعاصى لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به وانكر طائفة
____________________
(20/35)
من السلف والخلف ان الله يريد المعاصى لكونهم ظنوا ان الارادة لا تكون الابمعنى المشيئة لخلقها وقد علموا ان الله خالق كل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والقران قد جاء بلفظ الارادة بهذا المعنى وبهذا المعنى لكن كل طائفة عرفت احد المعنيين وأنكرت الآخر
وكالذى قال لاهله اذا أنامت فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبنى عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين
وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } وفي قول الحواريين { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } وكالصحابة الذين سألوا النبى هل نرى ربنا يوم القيامة فلم يكونوا يعلمون انهم يرونه وكثير من الناس لا يعلم ذلك اما لانه لم تبلغه الاحاديث واما لانه ظن أنه كذب وغلط
____________________
(20/36)
فصل
وقد فرق الله بين ما قبل الرسالة وما بعدها فى أسماء وأحكام وجمع بينهما فى أسماء وأحكام وذلك حجة على الطائفتين على من قال ان الافعال ليس فيها حسن وقبيح ومن قال انهم يستحقون العذاب على القولين
اما الاول فانه سماهم ظالمين وطاغين ومفسدين لقوله ( إذهب إلى فرعون إنه طغى ) وقوله { وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون } وقوله { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } فاخبر انه ظالما وطاغيا ومفسدا هو وقومه وهذه اسماء ذم الافعال والذم انما يكون فى الافعال السيئة القبيحة فدل ذلك على ان الأفعال تكون قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول اليهم لا يستحقون العذاب الا بعد اتيان الرسول اليهم لقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وكذلك أخبر عن هود انه قال لقومه ( اعبدوا الله ما لكم من
____________________
(20/37)
اله غيره إن أنتم إلا مفترون ) فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه لكونهم جعلوا مع الله الها آخر فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة فانه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهه أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسول ويثبت أن هذه الاسماء مقدم عليها وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول واما التعذيب فلا
والتولى عن الطاعة كقوله { فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى } فهذا لا يكون الا بعد الرسول مثل قوله عن فرعون ( فكذب وعصى ) كان هذا بعد مجيء الرسول إليه كما قال تعالى { فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى } وقال { فعصى فرعون الرسول }
هذا آخر ما وجد
____________________
(20/38)
وسئل أيضا رضي الله عنه
هل البخارى ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائى وبن ماجة وأبو داود الطيالسى والدارمي والبزار والدار قطنى والبيهقى وبن خزيمة وأبو يعلى الموصلى هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الائمة ام كانوا مقلدين
وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب ابى حنيفة وهل اذا وجد فى موطأ مالك عن يحيى بن سعيد عن ابراهيم بن محمد بن الحارث التيمي عن عائشة ووجد فى البخارى حدثنى معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام عن يحيى هو بن ابى كثير عن ابي سلمة عن أبى هريرة فهل يقال ان هذا أصح من الذي فى الموطا وهل اذا كان الحديث فى البخارى بسند وفي الموطأ بسند فهل يقال ان الذي في البخارى أصح
واذا روينا عن رجال البخارى حديثا ولم يروه البخارى فى صحيحه فهل يقال هو مثل الذي فى الصحيح
____________________
(20/39)
فأجاب
الحمد لله رب العالمين اما البخارى وأبو داود فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد
وأما مسلم والترمذى والنسائى وبن ماجة وبن خزيمة وأبو يعلى والبزار ونحوهم فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء ولا هم من الائمة المجتهدين على الاطلاق بل هم لا يميلون إلى قول أئمة الحديث كالشافعى وأحمد واسحاق وأبى عبيد وأمثالهم ومنهم من له اختصاص ببعض الائمة كاختصاص ابى داود ونحوه بأحمد بن حنبل وهم إلى مذاهب أهل الحجاز كمالك وأمثاله أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق كأبى حنيفة والثورى
وأما ابو داود الطيالسى فأقدم من هؤلاء كلهم من طبقة يحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون الواسطى وعبد الله بن داود ووكيع بن الجراح وعبد الله بن ادريس ومعاذ بن معاذ وحفص بن غياث وعبد الرحمن بن مهدي وأمثال هؤلاء من طبقة شيوخ الامام أحمد
وهؤلاء كلهم يعظمون السنة والحديث ومنهم من يميل إلى مذهب
____________________
(20/40)
العراقيين كأبى حنيفة والثوري ونحوهما كوكيع ويحيى بن سعيد ومنهم من يميل إلى مذهب المدنيين مالك ونحوه كعبد الرحمن بن مهدى
وأما البيهقى فكان على مذهب الشافعى منتصرا له فى عامة أقواله
والدار قطنى هو أيضا يميل إلى مذهب الشافعى وأئمة السند والحديث لكن ليس هو فى تقليد الشافعى كالبيهقي مع ان البيهقي له اجتهاد في كثير من المسائل واجتهاد الدار قطنى أقوى منه فانه كان أعلم وأفقه منه
____________________
(20/41)
وقال شيخ الاسلام
القلب المعمور بالتقوى اذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعى قال فمتى ما وقع عنده وحصل فى قلبه ما بطن معه إن هذا الأمر أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله كان هذا ترجيحا بدليل شرعي والذين أنكروا كون الالهام ليس طريقا إلى الحقائق مطلقا أخطأوا فاذا اجتهد العبد فى طاعة الله وتقواه كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة فالهام مثل هذا دليل فى حقه وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة والظواهر والاستصحابات الكثيرة التى يحتج بها كثير من الخائضين فى المذاهب والخلاف وأصول الفقه
وقد قال عمر بن الخطاب اقربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فانهم تتجلى لهم أمور صادقة وحديث مكحول المرفوع ( ما أخلص عبد العبادة لله تعالى أربعين يوما إلا أجرى الله الحكمة على قلبه وأنطق بها لسانه ( وفى رواية ( إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ( وقال أبو سليمان الداراني إن القلوب إذا اجتمعت
____________________
(20/42)
على التقوى جالت في الملكوت ورجعت إلى أصحابها بطرف الفوائد من غير أن يؤدى اليها عالم علما
وقد قال النبى ( الصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء ( ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها ولا سيما الأحاديث النبوية فانه يعرف ذلك معرفة تامة لأنه قاصد العمل بها فتتساعد فى حقه هذه الأشياء مع الامتثال ومحبة الله ورسوله حتى أن المحب يعرف من فحوى كلام محبوبه مراده منه تلويحا لا تصريحا ** والعين تعرف من عيني محدثها ** إن كان من حزبها أو من أعاديها ** انارة العقل مكشوف بطوع هوى ** وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا **
وفي الحديث الصحيح ( لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشي بها ( ومن كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة ونفس فعالة وإذا كان
____________________
(20/43)
الاثم والبر فى صدور الخلق له تردد وجولان فكيف حال من الله سمعه وبصره وهو فى قلبه وقد قال بن مسعود الاثم حواز القلوب وقد قدمنا أن الكذب ريبة والصدق طمأنينة فالحديث الصدق تطمئن إليه النفس ويطمئن إليه القلب
وأيضا فان الله فطر عباده على الحق فاذا لم تستحل الفطرة شاهدت الأشياء على ما هي عليه فأنكرت منكرها وعرفت معروفها قال عمر الحق أبلج لا يخفى على فطن
فاذا كانت الفطرة مستقيمة على الحقيقة منورة بنور القرآن تجلت لها الأشياء على ما هي عليه فى تلك المزايا وانتفت عنها ظلمات الجهالات فرأت الأمور عيانا مع غيبها عن غيرها
وفى السنن والمسند وغيره عن النواس بن سمعان عن النبى قال ( ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتى الصراط سوران وفى السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو من فوق الصراط والصراط المستقيم هو الاسلام والستور المرخاة حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله فاذا أراد العبد أن يفتح بابا من تلك الأبواب ناداه المنادي يا عبد الله لا تفتحه فانك إن فتحته تلجه والداعي على رأس
____________________
(20/44)
الصراط كتاب الله والداعى فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن ( فقد بين فى هذا الحديث العظيم الذي من عرفه انتفع به انتفاعا بالغا إن ساعده التوفيق واستغنى به عن علوم كثيرة أن فى قلب كل مؤمن واعظ والوعظ هو الأمر والنهي والترغيب والترهيب
وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت بخلاف القلب الخراب المظلم قال حذيفة بن اليمان إن في قلب المؤمن سراجا يزهر وفى الحديث الصحيح ( إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ ( فدل على أن المؤمن يتبين له مالا يتبين لغيره ولا سيما فى الفتن وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله فإن الدجال أكذب خلق الله مع أن الله يجري على يدية أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة حتى ان من رآه افتتن به فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها
وكلما قوي الايمان فى القلب قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها وكلما ضعف الايمان ضعف الكشف وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف فى البيت المظلم ولهذا قال بعض السلف في قوله { نور على نور } قال هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر فاذا سمع فيها بالأثر كان نورا
____________________
(20/45)
على نور فالايمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن فالالهام القلبى تارة يكون من جنس القول والعلم والظن أن هذا القول كذب وأن هذا العمل باطل وهذا أرجح من هذا أو هذا أصوب
وفي الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( قد كان فى الأمم قبلكم محدثون فان يكن فى أمتى منهم أحد فعمر ( والمحدث هو الملهم المخاطب فى سره وما قال عمر لشيء إنى لأظنه كذا وكذا إلا كان كما ظن وكانوا يرون أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه
وأيضا فاذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقينا وظنا فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى فانه إلى كشفها أحوج فالمؤمن تقع فى قلبه أدلة على الأشياء لا يمكنه التعبير عنها فى الغالب فان كل أحد لا يمكنه إبانة المعانى القائمة بقلبه فاذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه فتدخل عليه نخوة الحياء الايمانى فتمنعه البيان ولكن هو فى نفسه قد أخذ حذره منه وربما لوح أو صرح به خوفا من الله وشفقة على خلق الله ليحذروا من روايته أو العمل به
____________________
(20/46)
وكثير من أهل الايمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام وأن هذا الرجل كافر أو فاسق أو ديوث أو لوطي أو خمار أو مغن أو كاذب من غير دليل ظاهر بل بما يلقي الله فى قلبه
وكذلك بالعكس يلقي فى قلبه محبة لشخص وأنه من أولياء الله وأن هذا الرجل صالح وهذا الطعام حلال وهذا القول صدق فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستبعد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين
وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب وان الخضر علم هذه الأحوال المعينة بما أطلعه الله عليه وهذا باب واسع يطول بسطه قد نبهنا فيه على نكت شريفة تطلعك على ما وراءها وقال
____________________
(20/47)
فصل
جامع فى تعارض الحسنات أو السيئات أو هما جميعا إذا اجتمعا ولم يمكن التفريق بينهما بل الممكن إما فعلهما جميعا وإما تركهما جميعا
وقد كتبت ما يشبه هذا فى ( قاعدة الامارة والخلافة ( وفى أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما فنقول
قد أمر الله ورسوله بأفعال واجبة ومستحبة وإن كان الواجب مستحبا وزيادة ونهى عن أفعال محرمة او مكروهة والدين هو طاعته وطاعة رسوله وهو الدين والتقوى والبر والعمل الصالح والشرعة والمنهاج وإن كان بين هذه الأسماء فروق وكذلك حمد أفعالا هي الحسنات ووعد عليها وذم أفعالا هي السيئات وأوعد عليها وقيد
____________________
(20/48)
الأمور بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة فقال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وقال تعالى { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } وكل من الآيتين وإن كانت عامه فسبب الأولى المحاسبه على ما فى النفوس وهو من جنس أعمال القلوب وسبب الثانيه الاعطاء الواجب
وقال { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } وقال { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال ( يريد الله أن يخفف عنكم ) وقال { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } وقال { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } الآيه وقال { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } وقال { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقال { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله }
وقد ذكر في الصيام والاحرام والطهارة والصلاة والجهاد من هذا أنواعا
وقال فى المنهيات { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه }
____________________
(20/49)
) وقال { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } { ولو شاء الله لأعنتكم } وقال تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام } الايه
وقال فى المتعارض { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } وقال { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } وقال { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وقال { والفتنة أكبر من القتل } وقال { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } إلى قوله { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } وقال { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } إلى قوله { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي }
ونقول إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة كان فى تركها مضار والسيئات فيها مضار وفى المكروه بعض
____________________
(20/50)
حسنات فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما فيدفع اسوأهما باحتمال أدناهما واما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما بل فعل الحسنه مستلزم لوقوع السيئة وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة
فالأول كالواجب والمستحب وكفرض العين وفرض الكفاية مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع
والثانى كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين وتقديم نفقة الوالدين عليه كما فى الحديث الصحيح أي العمل أفضل قال ( الصلاة على مواقيتها ( قلت ثم أي قال ( ثم بر الوالدين ( قلت ثم أى قال ( ثم الجهاد فى سبيل الله ( وتقديم الجهاد على الحج كما فى الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما فى عمل القلب والا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التى لا تجاوز الحناجر وهذا باب واسع
والثالث كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها
____________________
(20/51)
بدار الحرب كما فعلت أم كلثوم التى أنزل الله فيها آية الامتحان { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } وكتقديم قتل النفس على الكفر كما قال تعالى { والفتنة أكبر من القتل } فتقتل النفوس التى تحصل بها الفتنه عن الايمان لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس وكتقديم قطع السارق ورجم الزانى وجلد الشارب على مضرة السرقه والزنا والشرب وكذلك سائر العقوبات المأمور بها فانما أمر بها مع أنها فى الأصل سيئه وفيها ضرر لدفع ما هو أعظم ضررا منها وهى جرائمها إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير الا بهذا الفساد الصغير
وكذلك فى ( باب الجهاد ( وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل الرمى بالمنجنيق والتبييت بالليل جاز ذلك كما جاءت فيها السنه فى حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق وفى أهل الدار من المشركين يبيتون وهو دفع لفساد الفتنه أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله
وكذلك ( مسأله التترس ( التى ذكرها الفقهاء فان الجهاد هو دفع فتنه الكفر فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي ( إلى ) قتل اولئك المتترس بهم جاز ذلك وأن لم يخف الضرر لكن
____________________
(20/52)
لم يمكن الجهاد الا بما يفضي إلى قتلهم ففيه قولان
ومن يسوغ ذلك يقول قتلهم لأجل مصلحة الجهاد مثل قتل المسلمين المقاتلين يكونون شهداء ومثل ذلك إقامة الحد على المباذل وقتال البغاة وغير ذلك ومن ذلك إباحة نكاح الأمة خشية العنت وهذا باب واسع أيضا
وأما الرابع فمثل أكل الميتة عند المخمصة فان الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة وعكسه الدواء الخبيث فان مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه ولأن البرء لا يتيقن به وكذلك شرب الخمر للدواء
فتبين أن السيئة تحتمل فى موضعين دفع ما هو أسوأ منها اذا لم تدفع الا بها وتحصل بما هو أنفع من تركها اذا لم تحصل الا بها والحسنة تترك فى موضعين اذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية
وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا واباحة المحرم لحاجة فى الدنيا كسقوط الصيام لأجل السفر وسقوط محظورات الاحرام
____________________
(20/53)
وأركان الصلاة لأجل المرض فهذا باب آخر يدخل فى سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع بخلاف الباب الأول فان جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وان اختلفت فى أعيانه بل ذلك ثابت في العقل كما يقال ليس العاقل الذى يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذى يعلم خير الخيرين وشر الشرين وينشد ** ان اللبيب اذا بدى من جسمه ** مرضان مختلفان داوى الأخطرا **
وهذا ثابت في سائر الأمور فان الطبيب مثلا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض والفساد أداة تزيدهما معا فانه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافا للمرض وعند ضعف القوة فعله لان منفعة ابقاء القوة والمرض إولى من إذهابهما جميعا فان ذهاب القوة مستلزمة للهلاك ولهذا استقر فى عقول الناس انه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمه وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم لكن عدمه اشد ضررا عليهم ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان كما قال بعض العقلاء ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان
ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من
____________________
(20/54)
الحقوق مع التمكن لكن اقول هنا اذا كان المتولي للسلطان العام او بعض فروعة كالامارة والولاية والقضاء ونحو ذلك اذا كان لا يمكنه اداء واجباته وترك محرماته ولكن يتعمد ذلك مالا يفعله غيره قصدا وقدرة جازت له الولاية وربما وجبت وذلك لان الولاية اذا كانت من الواجبات التى يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء واقامة الحدود وامن السبيل كان فعلها واجبا فاذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق واخذ بعض مالا يحل واعطاء بعض من لا ينبغي ولا يمكنه ترك ذلك صار هذا من باب مالا يتم الواجب او المستحب الا به فيكون واجبا أو مستحبا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب او المستحب بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم ومن تولاها اقام الظلم حتى تولاها شخص قصدة بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره كان ذلك حسنا مع هذه النية وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو اشد منها جيدا
وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد فمن طلب منه ظالم قادر والزمه مالا فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم واخذ منه واعطى الظالم مع اختياره ان لا يظلم ودفعه ذلك لو امكن كان محسنا ولو توسط اعانه للظالم كان مسيئا
____________________
(20/55)
وانما الغالب فى هذه الاشياء فساد النية والعمل اما النية فبقصده السلطان والمال واما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لاجل التعارض ولا لقصد الانفع والاصلح
ثم الولايه وان كانت جائزة او مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها اوجب او احب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى
ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الارض وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به } الآية وقال تعالى عنه { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } ( الآية ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة فى قبض الاموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فان القوم لم يستجيبوا له لكن فعل الممكن من العدل والاحسان ونال بالسلطان من اكرام المؤمنين من أهل بيته مالم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل فى قوله
____________________
(20/56)
{ فاتقوا الله ما استطعتم }
فاذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر فى هذه الحال واجبا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب فى الحقيقة
وكذلك اذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما الا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما فى الحقيقة وان سمى ذلك ترك واجب وسمى هذا فعل محرم باعتبار الاطلاق لم يضر ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها فى غير الوقت المطلق قضاء
هذا وقد قال النبى ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها فان ذلك وقتها لاكفارة لها الا ذلك (
وهذا باب التعارض باب واسع جدا لاسيما فى الأزمنة والأمكنة التى نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة فان هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة فانه اذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع
____________________
(20/57)
الاشتباه والتلازم فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وان تضمن سيئات عظيمة وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وان ترك حسنات عظيمة والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أولأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء ولهذا جاء فى الحديث ( إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ( فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والاسقاط مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبرمنها فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدى عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر
فالعالم تارة يأمر وتارة ينهي وتارة يبيح وتارة يسكت عن
____________________
(20/58)
الأمر أو النهي أو الاباحة كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح وعند التعارض يرجح الراجح كما تقدم بحسب الامكان فأما اذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله واما لظلمه ولا يمكن ازالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والامساك عن أمره ونهيه كما قيل ان من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الاسلام وظهر
فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله تسليما إلى بيانها
يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } والحجة على العباد انما تقوم بشيئين بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله والقدرة على العمل به فاما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي واذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلا وهذه أوقات الفترات فاذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول
____________________
(20/59)
شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا ومعلوم أن الرسول لا يبلغ الا ما أمكن علمه والعمل به ولم تأت الشريعة جملة كما يقال اذا أردت ان تطاع فأمر بما يستطاع
فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ الا ما أمكن علمه والعمل به كما أن الداخل في الاسلام لا يمكن حين دخوله ان يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها
وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في اول الأمر ان يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فانه لا يطيق ذلك واذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال واذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير ان يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الامكان كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه ولا يكون ذلك من باب اقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بامكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فانه نافع
ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وان كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم امكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في
____________________
(20/60)
الوجوب أو التحريم فان العجز مسقط للأمر والنهي وان كان واجبا في الأصل والله أعلم
ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهاديه علما وعملا ان ما قاله العالم أو الأمير او فعله باجتهاد أو تقليد فاذا لم ير العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فانه لا يأمر به أو لا يأمر الا بما يراه مصلحة ولا ينهى عنه اذ ليس له ان ينهى غيره عن اتباع اجتهاده ولا ان يوجب عليه اتباعه فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها بل هي بين الاباحة والعفو وهذا باب واسع جدا فتدبره
____________________
(20/61)
وقال فصل قد كتبت فى كراس قبل هذا أن الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام عقلية وهو ما يشترك فيه العقلاء مؤمنهم وكافرهم وملي وهو ما يختص به اهل الملل كعبادة الله وحده لا شريك له وشرعي وهو ما اختص به شرع الاسلام مثلا وأن الثلاثة واجبة فالشرعي باعتبار الثلاثة المشروعة وباعتبار يختص بالقدر المميز
وهكذا العلوم والأقوال عقلي وملي وشرعي فالعقل المحض مثل ما ينظر فيه الفلاسفة من عموم المنطق والطبيعي والالهي ولهذا كان فيهم المشرك والمؤمن والملي مثل ما ينظر فيه المتكلم من إثبات الصانع وإثبات النبوات والشرائع
فان المتكلمين متفقون على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولكنهم فى رسائلهم ومسائلهم لا يلتزمون حكم الكتاب
____________________
(20/62)
والسنة ففيهم السنى والبدعى ويجتمعون هم والفلاسفة فى النظر فى الأمور الكلية من العلم والدليل والنظر والوجود والعدم والمعلومات لكنهم أخص بالنظر فى العلم الالهي من الفلاسفة وأبسط علما ولسانا فيه وإن شركهم الفلاسفة فى بعضه كما أن الفلاسفة أخص بالنظر فى الأمور الطبيعية وإن شركهم المتكلمون فى بعضه
والشرعى ما ينظر فيه أهل الكتاب والسنة ثم هم إما قائمون بظاهر الشرع فقط كعموم أهل الحديث والمؤمنين الذين فى العلم بمنزلة العباد الظاهرين فى العبادة وإما عالمون بمعاني ذلك وعارفون به فهم فى العلوم كالعارفين من الصوفية الشرعية فهؤلاء هم علماء أمة محمد المحضة وهم أفضل الخلق وأكملهم وأقومهم طريقة والله أعلم
ويدخل فى العبادات السماع فانه ثلاثة أقسام سماع عقلي وملى وشرعي
فالأول ما فيه تحريك محبة أو مخافة أو حزن أو رجاء مطلقا
والثانى ما فى غيرهم كمحبة الله ومخافته ورجائه وخشيته والتوكل عليه ونحو ذلك
____________________
(20/63)
والثالث السماع الشرعي وهو سماع القرآن كما أن الصلاة أيضا ثلاثة أقسام
وهذه الأقسام الثلاثة أصولها صحيحة دل عليها قوله { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } الآية فالذين آمنوا هم أهل شريعه القرآن وهو الدين الشرعى بما فيه من الملي والعقلى والذين هادوا والنصارى أهل دين ملى بشريعه التوراة والانجيل بما فيه من ملي وعقلى والصابئون أهل الدين العقلى بما فيه من ملى أو ملي وشرعيات
____________________
(20/64)
وقال فصل
( قاعدة جامعة ( كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات ومن التحريمات كما قال تعالى { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق } وكما قال تعالى { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } وكما أخبر عما ذمه من حال المشركين فى دينهم وتحريمهم حيث قال { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } إلى آخر الكلام فانه ذكر فيه ما كانوا عليه من العبادات الباطلة من أنواع الشرك ومن الاباحة الباطلة فى قتل الأولاد ومن التحريمات الباطلة من السائبة والبحيرة والوصيلة والحامي ونحو ذلك فذم المشركين فى عباداتهم وتحريماتهم وإباحتهم وذم النصارى فيما تركوه من دين الحق والتحريم كما ذمهم على الدين الباطل فى قوله ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم ) وأصناف ذلك
____________________
(20/65)
فكل واحد من العبادات وسائر المأمور به من الواجبات والمستحبات ومن المكروهات المنهى عنها نهى حظر أو نهى تنزيه ينقسم إلى ثلاثة أقسام عقلي وملي وشرعي والمراد بالعقلي ما اتفق عليه اهل العقل من بنى آدم سواء كان لهم صلة كتاب أو لم يكن والمراد بالملي ما اتفق عليه أهل الملل والكتب المنزلة ومن اتبعهم والمراد بالشرعي ما اختص به أهل الشريعة القرآنية وهم أمة محمد وأخص من ذلك ما اختص به أهل مذهب أو أهل طريقة من الفقهاء والصوفية ونحو ذلك
لكن هذا التخصيص والامتياز لا توجبه شريعة الرسول مطلقا وإنما قد توجبه ما قد توجب بتخصيص بعض العلماء والعباد والأمراء فى استفتاء أو طاعة كما يجب على أهل كل غزاة طاعة أميرهم وأهل كل قرية استفتاء عالمهم الذى لا يجدون غيره ونحوذلك وما من أهل شريعة غير المسلمين الا وفي شرعهم هذه الأقسام الثلاثة فان مأموراتهم ومنهياتهم تنقسم إلى ما يتفق عليه العقلاء وما يتفق عليه الأنبياء وأما السياسات الملكية التى لا تتمسك بملة وكتاب فلابد فيها من القسم الأول والثالث فان القدر المشترك بين الآدميين لابد من الأمر به فى كل سياسة وإمامة
وكذلك لا بد لكل ملك من خصيصة يتميز بها ولو لم تكن الا
____________________
(20/66)
رعاية من يواليه ودفع من يعاديه فلابد لهم من الأمر بما يحفظ الولي ويدفع العدو كما فى مملكة جنكزخان ملك الترك ونحوه من الملوك
ثم قد يكون لهم ملة صحيحة توحيدية وقد يكون لهم ملة كفرية وقد لا يكون لهم ملة بحال ثم قد يكون دينهم مما يوجبونه وقد يكون مما يستحبونه
ووجه القسمة أن جميع بنى آدم العقلاء لا بد لهم من أمور يأمرون بها وأمور ينهون عنها فان مصلحتهم لا تتم بدون ذلك ولا يمكن أن يعيشوا فى الدنيا بل ولا يعيش الواحد منهم لو انفرد بدون أمور يفعلونها تجلب لهم المنفعة وامور ينفونها تدفع عنهم المضرة بل سائر الحيوان لا بد فيه من قوتى الاجتلاب والاجتناب ومبدأهما الشهوة والنفرة والحب والبغض فالقسم المطلوب هو المأمور به والقسم المرهوب هو المنهى عنه
فأما ان تكون تلك الأمور متفقا عليها بين العقلاء بحيث لا يلتفت إلى الشواذ منهم الذين خرجوا عند الجمهور عن العقل وإما أن لا تكون كذلك وما ليس كذلك فاما أن يكون متفقا عليه بين الأنبياء والمرسلين وإما أن يختص به أهل شريعة الاسلام
____________________
(20/67)
فالقسم الأول الطاعات العقلية وليس الغرض بتسميتها عقلية إثبات كون العقل يحسن ويقبح على الوجه المتنازع فيه بل الغرض ما اتفق عليه المسلمون وغيرهم من التحسين والتقبيح العقلي الذي هو جلب المنافع ودفع المضار وإنما الغرض اتفاق العقلاء على مدحها مثل الصدق والعدل وأداء الامانة والاحسان إلى الناس بالمال والمنافع ومثل العلم والعبادة المطلقة والورع المطلق والزهد المطلق مثل جنس التأله والعبادة والتسبيح والخشوع والنسك المطلق بحيث لا يمنع القدر المشترك أن يكون لأي معبود كان وبأي عبادة كانت فان هذا الجنس متفق عليه بين الآدميين ما منهم الا من يمدح جنس التأله مع كون بعضه فيه ما يكون صالحا حقا وبعضه فيه ما يكون فاسدا باطلا
وكذلك الورع المشترك مثل الكف عن قتل النفس مطلقا وعن الزنى مطلقا وعن ظلم الخلق وكذلك الزهد المشترك مثل الامساك عن فضول الطعام واللباس وهذا القسم انما عبر أهل العقل باعتقاد حسنه ووجوبه لأن مصلحة دنياهم لا تتم إلا به وكذلك مصلحة دينهم سواء كان دينا صالحا أو فاسدا
ثم هذه الطاعات والعبادات العقلية قسمان
____________________
(20/68)
أحدهما ما هو نوع واحد لا يختلف أصلا كالعلم والصدق وهما تابعان للحق الموجود ومنها ما هو جنس تختلف أنواعه كالعدل وأداء الأمانة والصلاة والصيام والنسك والزهد والورع ونحو ذلك فانه قد يكون العدل فى ملة وسياسة خلاف العدل عند آخرين كقسمة المواريث مثلا وهذه الأمور تابعة للحق المقصود
لكن قد يقال الناس وإن اتفقوا على أن العلم يجب ان يكون مطابقا للمعلوم وأن الخبر مطابق للمخبر لكن هم مختلفون فى المطابقة اختلافا كثيرا جدا فان منهم من يعد مطابقا علما وصدقا ما يعده الآخر مخالفا جهلا وكذبا لا سيما فى الأمور الالهية فكذلك العدل هم متفقون على أنه يجب فيه التسوية بين المتماثلين لكن يختلفون فى الاستواء والموافقة والتماثل فكل واحد من العلم والصدق والعدل لا بد فيه من موافقة ومماثلة واعتبار ومقايسة لكن يختلفون فى ذلك فيقال هذا صحيح لكن الموافقة العلمية والصدقية هي بحسب وجود الشيء فى نفسه وهو الحق الموجود فلا يقف على أمر وإرادة وأما الموافقة العدلية فبحسب ما يجب قصده وفعله وهذا يقف على القصد والأمر الذي قد يتنوع بحسب الأحوال
ولهذا لم تختلف الشرائع فى جنس العلم والصدق كما اختلفت فى جنس العدل وأما جنس العبادات كالصلاة والصيام والنسك والورع عن
____________________
(20/69)
السيئات وما يتبع ذلك من زهد ونحو ذلك فهذا مختلف اختلافا كثيرا وإن كان يجمع جنس الصلاة التأله بالقلب والتعبد للمعبود ويجمع جنس الصوم الامساك عن الشهوات من الطعام والشراب والنكاح على اختلاف أنو اع ذلك وكذلك أنواع النسك بحسب الأمكنة التى تقصد وما يفعل فيها وفى طريقها لكن تجتمع هذه الأنواع فى جنس العبادة وهو تأله القلب بالمحبة والتعظيم وجنس الزهادة وهو الاعراض عن الشهوات البدنية وزينة الحياة الدنيا وهما جنس نوعي الصلاة والصيام
القسم الثانى الطاعات الملية من العبادات وسائر المأمور به والتحريمات مثل عبادة الله وحده لا شريك له بالاخلاص والتوكل والدعاء والخوف والرجاء وما يقترن بذلك من الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتحريم الشرك به وعبادة ما سواه وتحريم الايمان بالجبت وهو السحر والطاغوت وهو الأوثان ونحو ذلك
وهذا القسم هو الذي حضت عليه الرسل ووكدت أمره وهو أكبر المقاصد بالدعوة فان القسم الأول يظهر أمره ومنفعته بظاهر العقل وكأنه فى الاعمال مثل العلوم البديهية
____________________
(20/70)
والقسم الثالث تكملة وتتميم لهذا القسم الثاني فان الأول كالمقدمات والثالث كالمعقبات وأما الثانى فهو المقصود بخلق الناس كما قال تعالى ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) وذلك لأن التعبد المطلق والتأله المطلق يدخل فيه الاشراك بجميع أنواعه كما عليه المشركون من سائر الأمم وكان التأله المطلق هو دين الصابئة ودين التتار ونحوهم مثل الترك فأنهم كانوا يعبدون الله وحده تارة ويبنون له هيكلا يسمونه هيكل العله الأولى ويعبدون ما سواه تارة من الكواكب السبعة والثوابت وغيرها بخلاف المشركة المحضة فانهم لايعبدون الله وحده قط فلا يعبدونه إلا بالاشراك بغيره من شركائهم وشفعائهم
والصابئون منهم يعبده مخلصا له الدين ومنهم من يشرك به والحنفاء كلهم يخلص له الدين فلهذا صار الصابئون فيهم من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا بخلاف المشركين والمجوس ولهذا كان رأس دين الاسلام الذى بعث به خاتم المرسلين كلمتان شهادة أن لا إله إلا الله تثبت التأله الحق الخالص وتنفي ما سواه من تأله المشركين أو تأله مطلق قد يدخل فيه تأله المشركين فأخرجت هذه الكلمة كل تأله ينافي الملي من التأله المختص بالكفار أو المطلق المشترك
____________________
(20/71)
والكلمة الثانية شهادة أن محمدا رسول الله وهي توجب التأله الشرعى النبوي وتنفي ما كان من العقلي والملي والشرعي خارجا عنه
القسم الثالث الطاعات الشرعية التى تختص بشريعة القرآن مثل خصائص الصلوات الخمس وخصائص صوم شهر رمضان وحج البيت العتيق وفرائض الزكوات وأحكام المعاملات والمناكحات ومقادير العقوبات ونحو ذلك من العبادات الشرعية وسائر ما يؤمر به من الشرعية وسائر ما ينهى عنه
فصل إذا تبين ذلك فغالب الفقهاء إنما يتكلمون به فى الطاعات الشرعية مع العقلية وغالب الصوفية إنما يتبعون الطاعات الملية مع العقلية وغالب المتفلسفة يقفون على الطاعات العقلية
ولهذا كثر فى المتفقهة من ينحرف عن طاعات القلب وعباداته من الاخلاص لله والتوكل عليه والمحبة له والخشية له ونحو ذلك
____________________
(20/72)
وكثر فى المتفقرة والمتصوفة من ينحرف عن الطاعات الشرعية فلا يبالون إذا حصل لهم توحيد القلب وتألهه أن يكون ما أوجبه الله من الصلوات وشرعه من أنواع القراءة والذكر والدعوات أن يتناولوا ما حرم الله من المطاعم وأن يتعبدوا بالعبادات البدعية من الرهبانية ونحوها ويعتاضوا بسماع المكاء والتصدية عن سماع القرآن وأن يقفوا مع الحقيقة القدرية معرضين عن الأمر والنهي فان كل ما خلقه الله فهو دال على وحدانيته وقائم بكلماته التامات التى لا يجاوزها بر ولا فاجر وصادر عن مشيئته النافذة ومدبر بقدرته الكاملة فقد يحصل للانسان تأله ملي فقط ولابد فيه من العقلي والملي وهو ما جاءت به الرسل بحيث ينيب إلى الله ويحبه ويتوكل عليه ويعرض عن الدنيا لكن لا يقف عند المشروع من الأفعال الظاهرة فعلا وتركا وقد يحصل العكس بحيث يقف عند المشروع من الأفعال الظاهرة من غير أن يحصل لقلبه إنابة وتوكل ومحبة وقد يحصل التمسك بالواجبات العقلية من الصدق والعدل وأداء الامانة ونحو ذلك من غير محافظة على الواجبات الملية والشرعية
وهؤلاء الأقسام الثلاثة إذا كانوا مؤمنين مسلمين فقد شابوا الاسلام إما بيهودية وإما بنصرانية وإما بصابئية إذا كان ما انحرفوا إليه مبدلا منسوخا وإن كان أصله مشروعا فموسوية أو عيسوية
____________________
(20/73)
وقال
فصل الصدق أساس الحسنات وجماعها والكذب أساس السيئات ونظامها ويظهر ذلك من وجوه
أحدها أن الانسان هو حي ناطق فالوصف المقوم له الفاصل له عن غيره من الدواب هو المنطق والمنطق قسمان خبر وانشاء والخبر صحته بالصدق وفساده بالكذب فالكاذب أسوأ حالا من البهيمة العجماء والكلام الخبري هو المميز للانسان وهو أصل الكلام الانشائى فانه مظهر العلم والانشاء مظهر العمل والعلم متقدم على العمل وموجب له فالكاذب لم يكفه أنه سلب حقيقة الانسان حتى قلبها إلى ضدها ولهذا قيل لامروءة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملوك ولا سؤدد لبخيل فان المروءة مصدر المرء كما ان الانسانية مصدر الانسان
الثانى أن الصفة المميزة بين النبى والمتنبىء هو الصدق والكذب
____________________
(20/74)
فإن محمدا رسول الله الصادق الأمين ومسيلمة الكذاب قال الله تعالى { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين } { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون }
الثالث أن الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق هو الصدق فان أساس النفاق الذى بنى عليه الكذب وعلى كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب وفى الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ( ثلاث من كن فيه كان منافقا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان (
الرابع أن الصدق هو أصل البر والكذب أصل الفجور كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( عليكم بالصدق فان الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فان الكذب يهدي إلى الفجور وان الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
الخامس ان الصادق تنزل عليه الملائكة والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال تعالى { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون }
____________________
(20/75)
السادس أن الفارق بين الصديقين والشهداء والصالحين وبين المتشبه بهم من المرائين والمسمعين والملبسين هو الصدق والكذب
السابع أنه مقرون بالاخلاص الذي هو أصل الدين فى الكتاب وكلام العلماء والمشايخ قال الله تعالى { واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به } ولهذا قال ( عدلت شهادة الزور الاشراك بالله مرتين ( وقرأ هذه الآية وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ( ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ( فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت
الثامن أنه ركن الشهادة الخاصة عند الحكام التى هي قوام الحكم والقضاء والشهادة العامة فى جميع الأمور والشهادة خاصة هذه الأمة التى ميزت بها في قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } وركن الاقرار الذي هو شهادة المرء على نفسه وركن الأحاديث والأخبار التى بها يقوم الاسلام بل هي ركن النبوة والرسالة التى هي واسطة بين الله وبين خلقه وركن الفتيا التى
____________________
(20/76)
هي إخبار المفتى بحكم الله وركن المعاملات التى تتضمن اخبار كل واحد من المتعاملين للآخر بما فى سلعته وركن الرؤيا التى قيل فيها أصدقهم رؤيا أصدقهم كلاما والتى يؤتمن فيها الرجل على ما رأى
التاسع أن الصدق والكذب هو المميز بين المؤمن والمنافق كما جاء فى الأثر أساس النفاق الذي بني عليه الكذب وفى الصحيحين عن أنس عن النبى أنه قال ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان ( وفى حديث آخر ( على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب ( ووصف الله المنافقين فى القرآن بالكذب فى مواضع متعددة ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة وان المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل من النار
العاشر أن المشايخ العارفين اتفقوا على ان أساس الطريق إلى الله هو الصدق والاخلاص كما جمع الله بينهما فى قوله { واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به } ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة دال على ذلك فى مواضع كقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } وقوله تعالى { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين } { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون }
____________________
(20/77)
) وقال تعالى لما بين الفرق بين النبى والكاهن والساحر { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين } إلى قوله { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } وقال تعالى { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا }
____________________
(20/78)
وقال فصل
قد كتبت في غير موضع أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم وأن الله إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط وقد ذكرت أن القسط والظلم نوعان نوع فى حق الله تعالى كالتوحيد فانه راس العدل والشرك رأس الظلم ونوع في حق العباد إما مع حق الله كقتل النفس أو مفردا كالدين الذي ثبت برضا صاحبه
ثم إن الظلم فى حق العباد نوعان نوع يحصل بغير رضا صاحبه كقتل نفسه وأخذ ماله وانتهاك عرضه ونوع يكون برضا صاحبه وهو ظلم كمعاملة الربا والميسر فان ذلك حرام لما فيه من أكل مال غيره بالباطل وأكل المال بالباطل ظلم ولو رضي به صاحبة لم يبح ولم يخرج عن أن يكون ظلما فليس كل ما طابت به نفس صاحبه يخرج عن الظلم وليس كل ما كرهه باذله يكون ظلما بل القسمة رباعية
____________________
(20/79)
أحدها ما نهى عنه الشارع وكرهه المظلوم
الثاني ما نهي عنه الشارع وإن لم يكرهه المظلوم كالزنا والميسر
والثالث ما كرهه صاحبه ولكن الشارع رخص فيه فهذا ليس بظلم
والرابع ما لم يكرهه صاحبه ولا الشارع وإنما نهى الشارع عن ما يرضى به صاحبه إذا كان ظلما لأن الانسان جاهل بمصلحته فقد يرضى مالا يعرف أن عليه فيه ضررا ويكون عليه فيه ضرر غير مستحق ولهذا إذا إنكشف له حقيقة الحال لم يرض ولهذا قال طاووس ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلا تفرقا عن تقال فالزانى بامرأة أو غلام إن كان استكرهها فهذا ظلم وفاحشة وان كانت طاوعته فهذا فاحشة وفيه ظلم أيضا للآخر لأنه بموافقته أعان الآخر على مضرة نفسه لا سيما إن كان أحدهما هو الذي دعا الآخر إلى الفاحشة فانه قد سعى فى ظلمه واضراره بل لو أمره بالمعصية التى لا حظ له فيها لكان ظالما له ولهذا يحمل من أوزار الذي يضله بغير علم فكيف إذا سعى فى أن ينال غرضه منه مع إضراره
____________________
(20/80)
ولهذا يكو ن دعاء الغلام إلى الفجور به أعظم ظلما من دعاء المرأة لأن المرأة لها هوى فيكون من باب المعاوضة كل منهما نال غرضه الذي هو من جنس غرض الاخر فيسقط هذا بهذا ويبقى حق الله عليهما فلهذا ليس فى الزنى المحض ظلم الغير إلا أن يفسد فراشا أو نسبا أو نحو ذلك
وأما المتلوط فان الغلام لا غرض له فيه إلا برغبة أو برهبة والرغبة والمال من جنس الحاجات المباحة فاذا طلب منه الفجور قد يبذله له فهذا إذا رضى الآن به من جنس ظلم المؤتى لحاجته إلى المال لكن هذا الظلم فى نفسه وحرمته فهو أشد وكذلك استئجاره على الأفعال المحرمة كالكهانة والسحر وغير ذلك كلها ظلم له وإن كانت برضاه وإن كان الاخر قد ظلم الآخر أيضا بما افسد عليه من دينه حيث وافقه على الذنب لكن احد نوعي الظلم من غير جنس الآخر وهذا باب ينبغى التفطن له فاكثر الذنوب مشتملة على ظلم الغير وجميعها مشتملة على ظلم النفس
____________________
(20/81)
وقال فصل
فى العدل القولى والصدق
ذكرت فى مواضع شيئا من الصدق والعدل وموقعهما من الكتاب والسنة ومصالح الدنيا والآخرة وذكرت أيضا فى مواضع أن عامة السيئات يدخل فى الظلم وأن الحسنات غالبها عدل وأن القسط هو المقصود بارسال الرسل وإنزال الكتب والقسط والعدل هو التسوية بين الشيئين فان كان بين متماثلين كان هو العدل الواجب المحمود وإن كان بين الشيء وخلافه كان من باب قوله ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) كما قالوا ( لقد كنا فى ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ) فهذا العدل والتسوية والتمثيل والاشراك هو الظلم العظيم
وإذا عرف أن مادة العدل والتسوية والتمثيل والقياس والاعتبار والتشريك والتشبيه والتنظير من جنس واحد فيستدل بهذه الأسماء على القياس الصحيح العقلي والشرعي ويؤخذ من ذلك تعبير الرؤيا فان مداره على القياس والاعتبار والمشابهة التى بين الرؤيا
____________________
(20/82)
وتأويلها ويؤخذ من ذلك ما فى الأسماء واللغات من الاستعارة والتشبيه إما فى وضع اللفظ بحيث يصير حقيقة فى الاستعمال وإما فى الاستعمال فقط مع القرينة اذا كانت الحقيقة أحرى فان مسميات الأسماء المتشابهة متشابهة ويؤخذ من ذلك ضرب الأمثال للتصور تارة وللتصديق أخرى وهي نافعة جدا وذلك أن إدراك النفس لعين الحقائق قليل وما لم يدركه فإنما يعرفه بالقياس على ما عرفته فاذا كان هذا فى المعرفة ففي التعريف ومخاطبة الناس أولى وأحرى
ثم التماثل والتعادل يكون بين الوجودين الخارجين وبين الوجودين العلميين الذهنيين وبين الوجود الخارجي والذهني فالأول يقال هذا مثل هذا والثانى يقال فيه مثل هذا كمثل هذا والثالث يقال فيه هذا كمثل هذا
فالمثل إما أن يذكر مره أو مرتين أو ثلاث مرات إذا كان التمثيل بالحقيقة الخارجية كما فى قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } فهذا باب المثل وأما باب العدل فقد قال تعالى { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } ) وقال تعالى { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } الآية وقال { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } وقال { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم } { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فهذا العدل والقسط فى هذه المواضع هو الصدق
____________________
(20/83)
المبين وضده الكذب والكتمان
وذلك أن العدل هو الذي يخبر بالأمر على ما هو عليه لا يزيد فيكون كاذبا ولا ينقص فيكون كاتما والخبر مطابق للمخبر كما تطابق الصورة العلمية والذهنية للحقيقة الخارجية ويطابق اللفظ للعلم ويطابق الرسم للفظ فاذا كان العلم يعدل المعلوم لا يزيد ولا ينقص والقول يعدل العلم لا يزيد ولا ينقص والرسم يعدل القول كان ذلك عدلا والقائم به قائم بالقسط وشاهد بالقسط وصاحبه ذو عدل ومن زاد فهو كاذب ومن نقص فهو كاتم ثم قد يكون عمدا وقد يكون خطأ فتدبر هذا فانه عظيم نافع جدا
____________________
(20/84)
وقال الشيخ الامام العالم
شيخ الاسلام أبو العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه قاعدة
فى أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهى عنه وان جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهى عنه وان مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات وان عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات
وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذه القاعدة فيما تقدم لما ذكرت أن العلم والقصد يتعلق بالموجود بطريق الأصل ويتعلق بالمعدوم بطريق التبع
وبيان هذه القاعدة من وجوه
____________________
(20/85)
أحدها
ان أعظم الحسنات هو الايمان بالله ورسوله وأعظم السيئات الكفر والايمان أمر وجودي فلا يكون الرجل مؤمنا ظاهرا حتى يظهر أصل الايمان وهو شهادة أن لا إله الا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ولا يكون مؤمنا باطنا حتى يقر بقلبه بذلك فينتفي عنه الشك ظاهرا وباطنا مع وجود العمل الصالح والا كان كمن قال الله فيه { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وكمن قال تعالى فيه { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } وكمن قال فيه { إذا جاءك المنافقون } الآية والكفر عدم الايمان باتفاق المسلمين سواء اعتقد نقيضه وتكلم به او لم يعتقد شيئا ولم يتكلم ولا فرق فى ذلك بين مذهب أهل السنة والجماعة الذين يجعلون الايمان قولا وعملا بالباطن والظاهر وقول من يجعله نفس اعتقاد القلب كقول الجهمية واكثر الاشعرية أو إقرار اللسان كقول الكرامية أو جميعها كقول فقهاء المرجئة وبعض الأشعرية فان هؤلاء مع أهل الحديث وجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية وعامة الصوفية وطوائف من أهل الكلام من متكلمي السنة وغير متكلمي السنة من المعتزلة والخوارج
____________________
(20/86)
وغيرهم متفقون على أن من لم يؤمن بعد قيام الحجة عليه بالرسالة فهو كافر سواء كان مكذبا أو مرتابا أو معرضا أو مستكبرا أو مترددا أو غير ذ لك
وإذا كان أصل الايمان الذي هو أعظم القرب والحسنات والطاعات فهو مأمور به والكفر الذي هو أعظم الذنوب والسيئات والمعاصي ترك هذا المأمور به سواء اقترن به فعل منهى عنه من التكذيب أو لم يقترن به شيء بل كان تركا للايمان فقط علم ان جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهى عنه
واعلم أن الكفر بعضه أغلظ من بعض فالكافر المكذب أعظم جرما من الكافر غير المكذب فانه جمع بين ترك الايمان المأمور به وبين التكذيب المنهى عنه ومن كفر وكذب وحارب الله ورسوله والمؤمنين بيده أو لسانه أعظم جرما ممن اقتصر على مجرد الكفر والتكذيب ومن كفر وقتل وزنا وسرق وصد وحارب كان اعظم جرما كما أن الايمان بعضه أفضل من بعض والمؤمنون فيه متفاضلون تفاضلا عظيما وهم عند الله درجات كما أن أولئك دركات فالمقتصدون فى الايمان افضل من ظالمي انفسهم والسابقون بالخيرات افضل من
____________________
(20/87)
المقتصدين { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } الآيات { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله }
وانما ذكرنا أن أصل الايمان مأمور به وأصل الكفر نقيضه وهو ترك هذا الايمان المأمور به وهذا الوجه قاطع بين الوجه الثاني
أن أول ذنب عصى الله به كان من أبى الجن وابى الانس أبوي الثقلين المأمورين وكان ذنب أبي الجن أكبر وأسبق وهو ترك المأمور به وهو السجود إباء واستكبارا وذنب أبى الانس كان ذنبا صغيرا ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) وهو إنما فعل المنهى عنه وهو الأكل من الشجرة وإن كان كثير من الناس المتكلمين فى العلم يزعم أن هذا ليس بذنب وان آدم تأول حيث نهى عن الجنس بقوله ( ولا تقربا هذه الشجرة ) فظن أنه الشخص فاخطأ أو نسى والمخطىء والناسي ليسا مذنبين
وهذا القول يقوله طوائف من أهل البدع والكلام والشيعة وكثير من المعتزلة وبعض الأشعرية وغيرهم ممن يوجب عصمة الأنبياء من الصغائر وهؤلاء فروا من شيء ووقعوا فيما هو اعظم منه فى
____________________
(20/88)
تحريف كلام الله عن مواضعه
وأما السلف قاطبة من القرون الثلاثة الذين هم خير قرون الأمة وأهل الحديث والتفسير وأهل كتب قصص الأنبياء والمبتدأ وجمهور الفقهاء والصوفية وكثير من أهل الكلام كجمهور الاشعرية وغيرهم وعموم المؤمنين فعلى ما دل عليه الكتاب والسنة مثل قوله تعالى { وعصى آدم ربه فغوى } وقوله { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } بعد أن قال لهما { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } وقوله تعالى { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } مع أنه عوقب باخراجه من الجنة
وهذه نصوص لا ترد إلا بنوع من تحريف الكلم عن مواضعه والمخطىء والناسي إذا كانا مكلفين فى تلك الشريعة فلا فرق وإن لم يكونا مكلفين امتنعت العقوبة ووصف العصيان والاخبار بظلم النفس وطلب المغفرة والرحمة وقوله تعالى { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } وإنما ابتلى الله الأنبياء بالذنوب رفعا لدرجاتهم بالتوبة وتبليغا لهم إلى محبته وفرحه بهم فان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويفرح بتوبة التائب اشد فرح فالمقصود كمال الغاية لا نقص البداية فان العبد تكون له الدرجة لا ينالها إلا بما قدره الله له من العمل او البلاء
____________________
(20/89)
وليس المقصود هنا هذه المسألة وانما الغرض أن ينظر تفاوت ما بين الذنبين اللذين احدهما ترك المأمور به فانه كبير وكفر ولم يتب منه والآخر صغير تيب منه
الوجه الثالث
انه قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يكفرون احدا من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الاسلام بعمل إذا كان فعلا منهيا عنه مثل الزنى والسرقة وشرب الخمر ما لم يتضمن ترك الايمان واما إن تضمن ترك ما أمر الله بالايمان به مثل الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت فانه يكفر به وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وعدم تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة
فان قلت فالذنوب تنقسم إلى ترك مأمور به وفعل منهى عنه
قلت لكن المأمور به إذا تركه العبد فاما ان يكون مؤمنا بوجوبه أولا يكون فان كان مؤمنا بوجوبه تاركا لادائه فلم يترك الواجب كله بل ادى بعضه وهو الايمان به وترك بعضه وهو العمل
____________________
(20/90)
به وكذلك المحرم إذا فعله فاما أن يكون مؤمنا بتحريمه أولا يكون فان كان مؤمنا بتحريمه فاعلا له فقد جمع بين اداء واجب وفعل محرم فصار له حسنة وسيئة والكلام إنما هو فيما لا يعذر بترك الايمان بوجوبه وتحريمه من الامور المتواترة واما من لم يعتقد ذلك فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به فالكلام فى تركه هذا الاعتقاد كالكلام فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به
واما كون ترك الايمان بهذه الشرائع كفرا وفعل المحرم المجرد ليس كفرا فهذا مقرر فى موضعه وقد دل على ذلك كتاب الله فى قوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } اذ الاقرار بها مراد بالاتفاق وفى ترك الفعل نزاع وكذلك قوله { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } فان عدم الايمان بوجوبه وتركه كفر والايمان بوجوبه وفعله يجب أن يكون مرادا من هذا النص كما قال من قال من السلف هو من لا يرى حجه برا ولا تركه اثما وأما الترك المجرد ففيه نزاع
وأيضا حديث ابى بردة بن نيار لما بعثه النبى إلى من تزوج امرأة ابيه فامرة ان يضرب عنقه ويخمس ماله فإن
____________________
(20/91)
تخميس المال دل على أنه كان كافرا لا فاسقا وكفره بأنه لم يحرم ما حرم الله ورسوله
وكذلك الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما لما شرب الخمر قدامة بن عبد الله وكان بدريا وتأول انها تباح للمؤمنين المصلحين وانه منهم بقوله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } الآية فاتفق الصحابة على أنه إن أصر قتل وان تاب جلد فتاب فجلد
واما الذنوب ففي القرآن قطع السارق وجلد الزاني ولم يحكم بكفرهم وكذلك فيه اقتتال الطائفتين مع بغي احداهما على الأخرى والشهادة لهما بالايمان والاخوة وكذلك فيه قاتل النفس الذي يجب عليه القصاص جعله أخا وقد قال الله فيه { فمن عفي له من أخيه شيء } فسماه اخا وهو قاتل
وقد ثبت فى الصحيحين حديث ابى ذر لما قال له النبى صلى الله عليه وسلم عن جبريل ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وان زنا وان سرق وان شرب الخمر على رغم انف ابي ذر ( وثبت فى الصحاح حديث ابى سعيد وغيره فى الشفاعة فى أهل الكبائر وقوله ( اخرجوا من النار من كان فى قلبه مثقال برة من ايمان مثقال حبة من
____________________
(20/92)
ايمان مثقال ذرة من إيمان ( فهذه النصوص كما دلت على أن ذا الكبيرة لا يكفر مع الايمان وانه يخرج من النار بالشفاعة خلافا للمبتدعة من الخوارج فى الاولى ولهم وللمعتزلة فى الثانية نزاع فقد دلت على أن الايمان الذي خرجوا به من النار هو حسنة مأمور بها وأنه لا يقاومها شيء من الذنوب وهذا هو
الوجه الرابع
وهو ان الحسنات التى هي فعل المأمور به تذهب بعقوبة الذنوب والسيئات التى هي فعل المنهى عنه فان فاعل المنهى يذهب اثمه بالتوبة وهي حسنة مأمور بها وبالأعمال الصالحة المقاومة وهي حسنات مأمور بها وبدعاء النبى صلى الله عليه وسلم وشفاعته ودعاء المؤمنين وشفاعتهم وبالأعمال الصالحة التى تهدى إليه وكل ذلك من الحسنات المأمور بها فما من سيئة هي فعل منهى عنه إلا لها حسنة تذهبها هي فعل مأمور به حتى الكفر سواء كان وجوديا أو عدميا فإن حسنه الايمان تذهبه كما قال تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( الاسلام يجب ما كان قبله ( وفى رواية ( يهدم ما كان قبله ( رواه مسلم
وأما الحسنات فلا تذهب ثوابها السيئات مطلقا فان حسنة الايمان
____________________
(20/93)
لا تذهب إلا بنقيضها وهو الكفر لأن الكفر ينافى الايمان فلا يصير الكافر مؤمنا فلو زال الايمان زال ثوابه لا لوجود سيئة ولهذا كان كل سيئة لا تذهب بعمل لا يزول ثوابه وهذا متفق عليه بين المسلمين حتى المبتدعة من الخوارج والمعتزلة فان الخوارج يرون الكبيرة موجبة للكفر المنافى للإيمان والمعتزلة يرونهامخرجة له من الايمان وإن لم يدخل بها فى الكفر واهل السنة والجماعة يرون أصل إيمانه باقيا فقد اتفقت الطوائف على انه مع وجود إيمانه لا يزول ثوابه بشيء من السيئات والكفر وان كانوا متفقين على ان مع وجوده لا يزول عقابه بشيء من الحسنات فذلك لأن الكفر يكفى فيه عدم الايمان ولا يجب أن يكون امرا موجودا كما تقدم فعقوبة الكفر هي ترك الايمان وان انضم إليها عقوبات على ما فعله من الكفر الوجودى أيضا
وكذلك قد روى فى بعض ثواب الطاعات المأمور بها ما يدفع ويرفع عقوبة المعاصي المنهى عنها فاذا كان جنس ثواب الحسنات المأمور بها يدفع عقوبة كل معصية وليس جنس عقوبات السيئات المنهى عنها يدفع ثواب كل حسنة ثبت رجحان الحسنات المأمور بها على ترك السيئات المنهى عنها وفي هذا المعنى ما ورد فى فضل لا اله الا الله وانها تطفىء نا ر السيئات مثل حديث البطاقة وغيره
____________________
(20/94)
الوجة الخامس
أن تارك المأمور به عليه قضاؤه وان تركه لعذر مثل ترك الصوم لمرض أولسفر ومثل النوم عن الصلاة أو نسيانها ومثل من ترك شيئا من نسكه الواجب فعليه دم او عليه فعل ما ترك ان امكن وأما فاعل المنهى عنه إذا كان نائما أو ناسيا أو مخطئا فهو معفو عنه ليس عليه جبران الا اذا اقترن به اتلاف كقتل النفس والمال والكفارة فيه هل وجبت جبرا او زجرا او محوا فيه نزاع بين الفقهاء فحاصله ان تارك المأمور به وان عذر فى الترك لخطأ او نسيان فلابد له من الاتيان بالمثل أو بالجبران من غير الجنس بخلاف فاعل المنهى عنه فإنه تكفى فيه التوبة الا فى مواضع لمعنى آخر فعلم ان اقتضاء الشارع لفعل المأمور به اعظم من اقتضائه لترك المنهى عنه
الوجه السادس
ان مباني الاسلام الخمس المأمور بها وان كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها فانه يقتل بتركها فى الجملة عند جماهير العلماء ويكفر أيضا
____________________
(20/95)
عند كثير منهم او اكثر السلف واما فعل المنهى عنه الذى لا يتعدى ضرره صاحبه فانه لا يقتل به عند أحد من الأئمة ولا يكفر به إلا اذا ناقض الايمان لفوات الايمان وكونه مرتدا أو زنديقا
وذلك ان من الأئمة من يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس لأن الاسلام بنى عليها وهو قول طائفة من السلف ورواية عن احمد اختارها بعض أصحابه
ومنهم من لا يقتله ولا يكفره الا بترك الصلاة والزكاة وهي رواية اخرى عن احمد كما دل عليه ظاهر القرآن فى براءة وحديث بن عمر وغيره ولأنهما منتظمان لحق الحق وحق الخلق كانتظام الشهادتين للربوبية والرسالة ولابدل لهما من غير جنسهما بخلاف الصيام والحج
ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة وبالزكاة اذا قاتل الامام عليها كرواية عن احمد
ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة كرواية عن احمد
ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره كرواية عن أحمد ومنهم من
____________________
(20/96)
لا يقتله الا بالصلاة ولا يكفره كالمشهور من مذهب الشافعي لا مكان الاستيفاء منه
وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين
ومورد النزاع هو فيمن اقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها واما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم وليس الأمر كما يفهم من اطلاق بعض الفقهاء من اصحاب أحمد وغيرهم أنه إن جحد وجوبها كفر وان لم يجحد وجوبها فهو مورد النزاع بل هنا ثلاثة اقسام
أحدها إن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق
والثانى ان لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرا أو حسدا أو بغضا لله ورسوله فيقول اعلم أن الله اوجبها على المسلمين والرسول صادق فى تبليغ القرآن ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكبارا أو حسدا للرسول أو عصبية لدينه او بغضا لما جاء به الرسول فهذا أيضا كافر بالاتفاق فان إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحدا للايجاب فان الله تعالى باشره بالخطاب وانما أبى واستكبر وكان من الكافرين وكذلك ابو طالب كان
____________________
(20/97)
مصدقا للرسول فيما بلغه لكنه ترك اتباعه حمية لدينه وخوفا من عار الانقياد واستكبارا عن ان تعلو أسته رأسه فهذا ينبغي ان يتفطن له
ومن اطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالايجاب ومتناولا للامتناع عن الاقرار والالتزام كما قال تعالى { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ) وقال تعالى { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } والا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق
والثالث أن يكون مقرى ملتزما لكن تركها كسلا وتهاونا أو اشتغالا بأغراض له عنها فهذا مورد النزاع كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلا أو تهاونا
وهنا قسم رابع وهو ان يتركها ولا يقر بوجوبها ولا يجحد وجوبها لكنه مقر بالاسلام من حيث الجملة فهل هذا من موارد النزاع أو من موارد الاجماع ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا وهو المعرض عنها لا مقرى ولا منكرا وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر فان قلنا يكفر بالاتفاق فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الايمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام كما فى
____________________
(20/98)
الخبريات من احوال الجنة والنار والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام بل لا بد من اعتقاد خاص بخلاف الأمور الخبرية فان الايمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه ما لم ينقض الجملة بالتفصيل ولهذا اكتفوا فى هذه العقائد بالجمل وكرهوا فيها التفصيل المفضى إلى القتال والفتنة بخلاف الشرائع المأمور بها فانه لا يكتفى فيها بالجمل بل لا بد من تفصيلها علما وعملا
وأما القاتل والزانى والمحارب فهؤلاء انما يقتلون لعدوانهم على الخلق لما فى ذلك من الفساد المتعدي ومن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه حد الله ولا يكفر احد منهم
وأيضا فالمرتد يقتل لكفره بعد ايمانه وان لم يكن محاربا
فثبت ان الكفر والقتل لترك المأمور به اعظم منه لفعل المنهى عنه
وهذا الوجه قوى على مذهب الثلاثة مالك والشافعى وأحمد وجمهور السلف ودلائله من الكتاب والسنة متنوعة وأما على مذهب أبى حنيفة فقد يعارض بما قد يقال انه لا يوجب قتل
____________________
(20/99)
احد على ترك واجب اصلا حتى الايمان فانه لا يقتل الا المحارب لوجود الحراب منه وهو فعل المنهي عنه ويسوى بين الكفر الأصلي والطارئ فلا يقتل المرتد لعدم الحراب منه ولا يقتل من ترك الصلاة أو الزكاة الا اذا كان فى طائفة ممتنعة فيقاتلهم لوجود الحراب كما يقاتل البغاة واما المنهى عنه فيقتل القاتل والزانى المحصن والمحارب اذا قتل فيكون الجواب من ثلاثة أوجه
أحدها ان الاعتبار عند النزاع بالرد إلى الله والى الرسول والكتاب والسنة دال على ما ذكرناه من ان المرتد يقتل بالاتفاق وان لم يكن من أهل القتال إذا كان أعمى أو زمنا أو راهبا والأسير يجوز قتله بعد أسره وان كان حرابه قد انقضى
الثانى ان ما وجب فيه القتل انما وجب على سبيل القصاص الذى يعتبر فيه المماثلة فان النفس بالنفس كما تجب المقاصة في الأموال فجزاء سيئة سيئة مثلها فى النفوس والأموال والأعراض والأبشار لكن ان لم يضر الا المقتول كان قتله صائرا إلى أولياء المقتول لأن الحق لهم كحق المظلوم فى المال وان قتله لأخذ المال كان قتله واجبا لأجل المصلحة العامة التى هي حد الله كما يجب قطع يد السارق لأجل حفظ الأموال ورد المال المسروق حق لصاحبه ان شاء اخذه وان شاء تركه فخرجت هذه الصور عن
____________________
(20/100)
النقض لم يبق ما يوجب القتل عنده بلا مماثلة الا الزنى وهو من نوع العدوان أيضا ووقوع القتل به نادر لخفائه وصعوبة الحجة عليه
الثالث ان العقوبة فى الدنيا لا تدل على كبر الذنب وصغره فان الدنيا ليست دار الجزاء وانما دار الجزاء هي الآخرة ولكن شرع من العقوبات فى الدنيا ما يمنع الفساد والعدوان كما قال تعالى { من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } وقالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فهذان السببان اللذان ذكرتهما الملائكة هما اللذان كتب الله على بني اسرائيل القتل بهما ولهذا يقر كفار أهل الذمة بالجزية مع أن ذنبهم فى ترك الايمان أعظم باتفاق المسلمين من ذنب من نقتله من زان وقاتل
فأبو حنيفة رأى أن الكفر مطلقا إنما يقاتل صاحبه لمحاربته فمن لا حراب فيه لا يقاتل ولهذا يأخذ الجزية من غير أهل الكتاب العرب وإن كانوا وثنيين
وقد وافقه على ذلك مالك وأحمد فى احد قوليه ومع هذا يجوز القتل تعزيرا وسياسة فى مواضع
____________________
(20/101)
وأما الشافعي فعنده نفس الكفر هو المبيح للدم الا أن النساء والصبيان تركوا لكونهم مالا للمسلمين فيقتل المرتد لوجو د الكفر وامتناع سببها عنده من الكفر بلا منفعة
وأما أحمد فالمبيح عنده انواع أما الكافر الأصلي فالمبيح عنده هو وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه أما الأول فالمحاربة بيد أو لسان فلا يقتل من لا محاربة فيه بحال من النساء والصبيان والرهبان والعميان والزمنى ونحوهم كما هو مذهب الجمهور وأما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الايمان وهو نوع خاص من الكفر فانه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل فى الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين وللدين فان ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه بخلاف من لم يدخل فيه فانه ان كان كتابيا أو مشبها له فقد وجد احدى غايتى القتال فى حقه وإن كان وثنيا فان اخذت منه الجزية فهو كذلك وإن لم تؤخذ منه ففي جواز استرقاقه نزاع فمتى جاز استرقاقه كان ذلك كأخذ الجزية منه ومتى لم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقى كافرا لا منفعة فى حياته لنفسه لأنه يزداد إثما ولا للمؤمنين فيكون قتله خيرا من إبقائه
وأما تارك الصلاة والزكاة فاذا قتل كان عنده من قسم المرتدين لأنه بالاسلام ملتزم لهذه الأفعال فاذا لم يفعلها فقد ترك ما التزمه
____________________
(20/102)
أو لأنها عنده من الغاية التى يمتد القتال اليها كالشهادتين فانه لو تكلم باحداهما وترك الأخرى لقتل لكن قد يفرق بينهما وأما اذا لم ويفرق فى المرتد بين الردة المجردة فيقتل الا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة
فهذه مآخذ فقهية نبهنا بها على بعض أسباب القتل وقد تبين أنهم لا يتنازعون ان ترك المأمور به فى الآخرة أعظم وأما فى الدنيا فقد ذكرنا ما تقدم
الوجه السابع
أن أهل البدع شر من أهل المعاصى الشهوانية بالسنة والاجماع فان النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم وقال فى الذي يشرب الخمر ( لا تلعنه فانه يحب الله ورسوله ( وقال فى ذى الخويصرة ( يخرج من ضئضىء هذا أقوام يقرأون القرأن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين وفي رواية من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية يحقر أحدكم صلاته مع
____________________
(20/103)
صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم اينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة (
وقد قررت هذه القاعدة بالدلائل الكثيرة مما تقدم من القواعد ثم ان أهل المعاصي ذنوبهم فعل بعض ما نهوا عنه من سرقة او زنا أو شرب خمر أو أكل مال بالباطل
وأهل البدع ذنوبهم ترك ما امروا به من اتباع السنة وجماعة المؤمنين فان الخوارج أصل بدعتهم انهم لا يرون طاعة الرسول واتباعه فيما خالف ظاهر القرآن عندهم وهذا ترك واجب وكذلك الرافضة لا يرون عدالة الصحابة ومحبتهم والاستغفار لهم وهذا ترك واجب وكذلك القدرية لا يؤمنون بعلم الله تعالى القديم ومشيئته الشاملة وقدرته الكاملة وهذا ترك واجب وكذلك الجبرية لا تثبت قدرة العبد ومشيئته وقد يدفعون الأمر بالقدر وهذا ترك واجب وكذلك مقتصدة المرجئة مع ان بدعتهم من بدع الفقهاء ليس فيها كفر بلا خلاف عند أحد من الأئمة ومن ادخلهم من أصحابنا فى البدع التى حكى فيها التكفير ونصره فقد غلط فى ذلك وإنما كان لأنهم لا يرون إدخال الأعمال أو الأقوال فى الايمان وهذا ترك واجب وأما غالية المرجئة الذين يكفرون بالعقاب ويزعمون ان النصوص خوفت بما لا حقيقة له فهذا القول عظيم وهو ترك واجب
____________________
(20/104)
وكذلك الوعيدية لا يرون اعتقاد خروج أهل الكبائر من النار ولا قبول الشفاعة فيهم وهذا ترك واجب فان قيل قد يضمون إلى ذلك اعتقادا محرما من تكفير وتفسيق وتخليد قيل هم فى ذلك مع أهل السنة بمنزلة الكفار مع المؤمنين فنفس ترك الايمان بما دل عليه الكتاب والسنة والاجماع ضلالة وان لم يكن معه اعتقاد وجودي فاذا انضم إليه اجتمع الأمران ولو كان معهم أصل من السنة لما وقعوا فى البدعة
الوجه الثامن
ان ضلال بنى آدم وخطأهم فى أصول دينهم وفروعه اذا تأملته تجد اكثره من عدم التصديق بالحق لا من التصديق بالباطل فما من مسألة تنازع الناس فيها فى الغالب الا وتجد ما اثبته الفريقان صحيحا وانما تجد الضلال وقع من جهة النفي والتكذيب مثال ذلك ان الكفار لم يضلوا من جهة ما أثبتوه من وجود الحق وانما أتوا من جهة ما نفوه من كتابه وسنة رسوله وغير ذلك وحينئذ وقعوا فى الشرك وكل أمة مشركة أصل شركها عدم كتاب منزل من السماء وكل أمة مخلصة أصل اخلاصها كتاب منزل من السماء فان بنى آدم
____________________
(20/105)
محتاجون إلى شرع يكمل فطرهم فافتتح الله الجنس بنبوة آدم كما قال تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } وهلم جرا
فمن خرج عن النبوات وقع فى الشرك وغيره وهذا عام فى كل كافر غير كتابى فانه مشرك وشركه لعدم إيمانه بالرسل الذين قال الله فيهم { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }
ولم يكن الشرك أصلا فى الآدميين بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله لاتباعهم النبوة قال تعالى { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } قال بن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام فبتركهم اتباع شريعة الانبياء وقعوا في الشرك لا بوقوعهم في الشرك خرجوا عن شريعة الاسلام فان آدم أمرهم بما أمره الله به حيث قال له { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقال فى الآية الأخرى { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى }
____________________
(20/106)
فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما اهبطهم قد تضمن أنه اوجب عليهم اتباع هداه المنزل وهو الوحي الوارد على أنبيائه وتضمن ان من اعرض عنه وان لم يكذب به فانه يكون يوم القيامة في العذاب المهين وان معيشتة تكون ضنكا فى هذه الحياة وفي البرزخ والآخرة وهي المضنوكة النكدة المحشوة بأنواع الهموم والغموم والاحزان كما أن الحياة الطيبة هي لمن آمن وعمل صالحا
فمن تمسك به فانه لا يشرك بربه فان الرسل جميعهم أمروا بالتوحيد وأمروا به قال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحي إليه إنه لا إله الا أنا فاعبدون ) فبين انه لا بد ان يوحي بالتوحيد إلى كل رسول وقال تعالى ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) فبين انه لم يشرع الشرك قط فهذان النصان قد دلا على أنه امر بالتوحيد لكل رسول ولم يأمر بالاشراك قط وقد أمر آدم وبنية من حين اهبط باتباع هداه الذي يوحيه إلى الأنبياء فثبت ان علة الشرك كان من ترك اتباع الانبياء والمرسلين فيما امروا به من التوحيد والدين لا أن الشرك كان علة للكفر بالرسل فان الاشراك والكفر بالرسل متلازمان فى الواقع فهذا فى الكفار بالنبوات المشركين
وأما أهل الكتاب فان اليهود لم يؤتوا من جهة ما أقروا به
____________________
(20/107)
من نبوة موسى والايمان بالتوراة بل هم في ذلك مهتدون وهو رأس هداهم وإنما أتوا من جهة ما لم يقروا به من رسالة المسيح ومحمد كما قال تعالى فيهم { فباؤوا بغضب على غضب } غضب بكفرهم بالمسيح وغضب بكفرهم بمحمد وهذا من باب ترك المأمور به
وكذلك النصارى لم يؤتوا من جهة ماأقروا به من الايمان بانبياء بنى اسرائيل والمسيح وانما أتوا من جهة كفرهم بمحمد واما ما وقعوا فيه من التثليث والاتحاد الذي كفروا فيه بالتوحيد والرسالة فهو من جهة عدم اتباعهم لنصوص التوراة والانجيل المحكمة التى تأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وتبين عبودية المسيح وأنه عبد لله كما أخبر الله عنه بقوله { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } فلما تركوا اتباع هذه النصوص ايمانا وعملا وعندهم رغبة فى العبادة والتأله ابتدعوا الرهبانية وغلوا فى المسيح هوى من عند أنفسهم وتمسكوا بمتشابه من الكلمات لظن ظنوه فيها وهوى اتبعوه خرج بهم عن الحق فهم ( { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } ولهذا كان سيماهم الضلال كما قال تعالى
____________________
(20/108)
{ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } والضال ضد المهتدي وهو العادل عن طريق الحق بلا علم وعدم العلم المأمور به والهدى بالمأمور ترك واجب فاصل كفرهم ترك الواجب وحينئذ تفرقوا فى التثليث والاتحاد ووقعت بينهم العداوة والبغضاء وصاروا ملكية ويعقوبية ونسطورية وغيرهم وهذا المعنى قد بينه القرآن مع أن هذا يصلح أن يكون دليلا مستقلا لما فيه من بيان أن ترك الواجب سبب لفعل المحرم قال تعالى { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } فهذا نص فى أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سببا لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين وكان هذا دليلا على أن ترك الواجب يكون سببا لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء والسبب أقوى من المسبب
وكذلك قال فى اليهود { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به } فنقض الميثاق ترك ما أمروا به فان الميثاق يتضمن واجبات وهي قوله { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية }
____________________
(20/109)
) الآيات
فقد أخبر تعالى انه بترك ما أوجبه عليهم من الميثاق وان كان واجبا بالأمر حصلت لهم هذه العقوبات التى منها فعل هذه المحرمات من قسوة القلوب وتحريف الكلم عن مواضعه وانهم نسوا حظا مما ذكروا به وأخبر فى اثناء السورة انه ألقى بينهم العداوة والبغضاء فى قوله { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } الآية وقد قال المفسرون من السلف مثل قتادة وغيره في فرق النصارى ما اشرنا إليه
وهكذا اذا تأملت أهل الضلال والخطأ من هذه الأمة تجد الأصل ترك الحسنات لا فعل السيئات وانهم فيما يثبتونه أصل امرهم صحيح وانما اتوا من جهة ما نفوه والاثبات فعل حسنة والنفي ترك سيئة فعلم ان ترك الحسنات اضر من فعل السيئات وهو أصله
مثال ذلك أن الوعيدية من الخوارج وغيرهم فيما يعظمونه
____________________
(20/110)
من أمر المعاصي والنهي عنها واتباع القرآن وتعظيمه أحسنوا لكن إنما أتوا من جهة عدم اتباعهم للسنة وايمانهم بما دلت عليه من الرحمة للمؤمن وان كان ذا كبيرة
وكذلك المرجئة فيما اثبتوه من ايمان أهل الذنوب والرحمة لهم احسنوا لكن إنما أصل اساءتهم من جهة ما نفوه من دخول الأعمال فى الايمان وعقوبات أهل الكبائر
فالأولون بالغوا فى النهي عن المنكر وقصروا فى الأمر بالمعروف وهؤلاء قصروا في النهي عن المنكر وفى الأمر بكثير من المعروف
وكذلك القدرية هم فى تعظيم المعاصي وذم فاعلها وتنزيه الله تعالى عن الظلم وفعل القبيح محسنون وانما أساءوا فى نفيهم مشيئة الله الشاملة وقدرته الكاملة وعلمه القديم ايضا
وكذلك الجهمية فان أصل ضلالهم انما هو التعطيل وجحد ما جاءت به الرسل عن الله عز وجل من أسمائه وصفاته
والأمر فيهم ظاهر جدا ولهذا قلنا غير مرة ان الرسل جاؤوا بالاثبات المفصل والنفى المجمل والكفار من المتفلسفة الصابئين والمشركين
____________________
(20/111)
جاؤوا بالنفي المفصل والاثبات المجمل والاثبات فعل حسنات مأمور بها ايجابا واستحبابا والنفي ترك سيئات أو حسنات مأمور بها فعلم ان ضلالهم من باب ترك الواجب وترك الاثبات
وبالجملة فالأمور نوعان اخبار وانشاء
فالاخبار ينقسم إلى اثبات ونفي ايجاب وسلب كما يقال فى تقسيم القضايا إلى إيجاب وسلب
والانشاء فيه الأمر والنهي
فاصل الهدى ودين الحق هو اثبات الحق الموجود وفعل الحق المقصود وترك المحرم ونفي الباطل تبع واصل الضلال ودين الباطل التكذيب بالحق الموجود وترك الحق المقصود ثم فعل المحرم واثبات الباطل تبع لذلك فتدبر هذا فانه امر عظيم تنفتح لك به أبواب من الهدى
الوجه التاسع
ان الكلمات الجوامع التى فى القرآن تتضمن امتثال المأمور به والوعيد على المعصية بتركه مثل قوله تعالى لنبيه { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا }
____________________
(20/112)
) وقال { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم } وقال { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين } وقال { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين } وقال { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي } { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } وقال { واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين } وقال { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } إلى أمثال هذه النصوص التى يوصى فيها باتباع ما أمر ويبين أن الاستقامة فى ذلك وانه لم يأمر الا بذلك وأنه ان ترك ذلك كان عليه العذاب ونحو ذلك مما يبين ان اتباع الامر أصل عام وان اجتناب المنهى عنه فرع خاص
الوجه العاشر
ان عامة ما ذم الله به المشركين فى القرآن من الدين المنهي عنه انما هو الشرك والتحريم وكذلك حكى عنهم في قوله { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء }
____________________
(20/113)
) ومثل ذلك فى النحل وفى الزخرف { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } وقال ( { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون } وقال { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } وقال { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }
وأما من ترك المأمور به فقد ذمهم الله كما ذمهم على ترك الايمان به وبأسمائه وآياته وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وترك الصلاة والزكاة والجهاد وغير ذلك من الاعمال والشرك قد تقدم أن أصله ترك المأمور به من عبادة الله واتباع رسله وتحريم الحلال فيه ترك ما أمروا به من الاستعانة به على عبادته
ولما كان أصل المنهى عنه الذي فعلوه الشرك والتحريم روى فى الحديث ( بعثت بالحنيفية السمحة ( فالحنيفية ضد الشرك والسماحة ضد الحجر والتضييق وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ( انى خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وامرتهم ان يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا
____________________
(20/114)
وظهر اثر هذين الذنبين فى المنحرفة من العلماء والعباد والملوك والعامة بتحريم ما أحله الله تعالى والتدين بنوع شرك لم يشرعه الله تعالى والأول يكثر فى المتفقهة والمتورعة والثانى يكثر فى المتصوفة والمتفقرة فتبين بذلك أن ما ذمه الله تعالى وعاقب عليه من ترك الواجبات اكثر مما ذمه الله وعاقب عليه من فعل المحرمات
الوجه الحادى عشر
أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وذلك هو أصل ما أمرهم به على السن الرسل كما قال نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } إلى قوله { إلها واحدا ونحن له مسلمون } وقال لموسى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقال المسيح { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم }
والاسلام هو الاستسلام لله وحده وهو أصل عبادته وحده وذلك يجمع معرفته ومحبته والخضوع له وهذا المعنى الذي
____________________
(20/115)
خلق الله له الخلق هو أمر وجودي من باب المأمور به ثم الأمر بعد ذلك بما هو كمال ما خلق له واما المنهى عنه فاما مانع من أصل ما خلق له واما من كمال ما خلق له نهوا عن الاشراك لأنه مانع من الاصل وهو ظلم فى الربوبية كما قال تعالى { إن الشرك لظلم عظيم } ومنعوا عن ظلم بعضهم بعضا فى النفوس والاموال والابضاع والاعراض لأنه مانع من كمال ما خلق له
فظهر ان فعل المأمور به أصل وهو المقصود وان ترك المنهى عنه فرع وهو التابع وقال تعالى (
ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
) لان الشرك منع الاصل فلم يك في النفس استعداد للفلاح فى الاخرة بخلاف ما دونه فان مع المغفور له أصل الايمان الذي هو سبب السعادة
الوجه الثاني عشر
ان مقصود النهي ترك المنهى عنه والمقصود منه عدم المنهى عنه والعدم لا خير فيه الا إذا تضمن حفظ موجود والا فلا خير في لا شيء وهذا معلوم بالعقل والحس لكن من الاشياء ما يكون وجوده مضرا بغيره فيطلب عدمه لصلاح الغير كما يطلب عدم القتل لبقاء النفس
____________________
(20/116)
وعدم الزنى لصلاح النسل وعدم الردة لصلاح الايمان فكل ما نهى عنه انما طلب عدمه لصلاح أمر موجود
وأما المأمور به فهو أمر موجود والموجود يكون خيرا ونافعا ومطلوبا لنفسه بل لا بد فى كل موجود من منفعة ما أو خير ما فلا يكون الموجود شرا محضا فان الموجود خلقه الله تعالى والله لم يخلق شيئا إلا لحكمه وتلك الحكمة وجه خير بخلاف المعدوم فانه لا شيء ولهذا قال سبحانه { الذي أحسن كل شيء خلقه } وقال { صنع الله الذي أتقن كل شيء } فالموجود اما خير محض أو فيه خير والمعدوم اما انه لا خير فيه بحال أو خيره حفظ الموجود وسلامته والمأمور به قد طلب وجوده والمنهى عنه قد طلب عدمه فعلم أن المطلوب بالأمر اكمل واشرف من المطلوب بالنهي وانه هو الاصل المقصود المراد لذاته وانه هو الذى يكون عدمه شرا محضا
الوجه الثالث عشر أن المأمور به هو الأمور التى يصلح بها العبد ويكمل والمنهى عنه هو ما يفسد به وينقص فان المأمور به من العلم والايمان وارادة
____________________
(20/117)
وجه الله تعالى وحده ومحبته والانابة إليه ورحمة الخلق والاحسان اليهم والشجاعة التى هي القوة والقدرة والصبر الذي يعود إلى القوة والامساك والحبس إلى غير ذلك كل هذه من الصفات والاخلاق والأعمال التى يصلح بها العبد ويكمل ولا يكون صلاح الشيء وكماله إلا فى أمور وجودية قائمة به لكن قد يحتاج إلى عدم ما ينافيها فيحتاج إلى العدم بالعرض فعلم أن المأمور به أصل والمنهى عنه تبع فرع
الوجه الرابع عشر
أن الناس اتفقوا على أن المطلوب بالأمر وجود المأمور به وأن لزم من ذلك عدم ضده ويقول الفقهاء الأمر بالشيء نهى عن ضده فان ذلك متنازع فيه والتحقيق أنه منهى عنه بطريق اللازم وقد يقصده الآمر وقد لا يقصده واما المطلوب بالنهي فقد قيل أنه نفس عدم المنهى عنه وقيل ليس كذلك لأن العدم ليس مقدورا ولا مقصودا بل المطلوب فعل ضد المنهى عنه وهو الامتناع وهو أمر وجودي
والتحقيق أن مقصود الناهي قد يكون نفس عدم المنهى عنه وقد يكون فعل ضده وذلك العدم عدم خاص مقيد يمكن أن يكون
____________________
(20/118)
مقدورا بفعل ضده فيكون فعل الضد طريقا إلى مطلوب الناهي وان لم يكن نفس المقصود وذلك أن الناهي إنما نهى عن الشيء لما فيه من الفساد فالمقصود عدمه كما ينهى عن قتل النفس وشرب الخمر وإنما نهى لابتلاء المكلف وامتحانه كما نهى قوم طالوت عن الشرب الا بملء الكف فالمقصود هنا طاعتهم وانقيادهم وهو أمر وجودي وإذا كان وجوديا فهو الطاعة التى هي من جنس فعل المأمور به فصار المنهى عنه إنما هو تابع للمأمور به فان مقصوده اما عدم ما يضر المأمور به أو جزء من أجزاء المأمور به وإذا كان اما حاويا للمأمور به أو فرعا منه ثبت أن المأمور به أكمل وأشرف وهو المقصود الأول
الوجه الخامس عشر
أن الأمر أصل والنهي فرع فان النهى نوع من الأمر إذ الأمر هو الطلب والاستدعاء والاقتضاء وهذا يدخل فيه طلب الفعل وطلب الترك لكن خص النهي باسم خاص كما جرت عادة العرب ان الجنس إذا كان له نوعان احدهما يتميز بصفة كمال أو نقص افردوه باسم وابقوا الاسم العام على النوع الآخر كما يقال مسلم ومنافق ويقال نبى ورسول
____________________
(20/119)
ولهذا تنازع الفقهاء لو قال لها إذا خالفت أمرى فانت طالق فعصت نهيه هل يحنث على ثلاثة أوجه لآصحابنا وغيرهم
أحدها يحنث لان ذلك مخالفة لأمره فى العرف ولان النهي نوع من الأمر
والثانى لا يحنث لعدم الدخول فيه فى اللغة كما زعموا والثالث يفرق بين العالم بحقيقة الأمر والنهي وغير العالم
والأول هو الصواب فكل من عصى النهي فقد عصى الأمر لأن الأمر استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء والناهي مستدع من النهى فعلا اما بطريق القصد أو بطريق اللزوم فان كان نوعا منه فالأمر اعم والأعم أفضل وان لم يكن نوعا منه فهو أشرف القسمين ولهذا اتفق العلماء على تقديمه على النهي وبذلك جاء الكتاب والسنة قال تعالى { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } وقال ( ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
____________________
(20/120)
الوجه السادس عشر
ان الله لم يأمر بأمر الا وقد خلق سببه ومقتضيه فى جبلة العبد وجعله محتاجا إليه وفيه صلاحه وكما له فانه أمر بالايمان به وكل مولود يولد على الفطرة فالقلوب فيها اقوى الاسباب لمعرفة باريها والاقرار به وأمر بالعلم والصدق والعدل وصلة الارحام واداء الأمانة وغير ذلك من الامور التى فى القلوب معرفتها ومحبتها ولهذا سميت معروفا ونهى عن الكفر الذي هو أصل الجهل والظلم وعن الكذب والظلم والبخل والجبن وغير ذلك من الامور التى تنكرها القلوب وانما يفعل الآدمي الشر المنهى عنه لجهله به أو لحاجته إليه بمعنى انه يشتهيه ويلتذ بوجوده أو يستضر بعدمه والجهل عدم العلم فما كان من المنهى عنه سببه الجهل فلعدم فعل المأمور به من العلم وما كان سببه الحاجة من شهوة أو نفرة فلعدم المأمور به الذي يقتضى حاجته مثل أن يزني لعدم استعفافه بالنكاح المباح أو يأكل الطعام الحرام لعدم استعفافه بما أمر به من المباح والا فاذا فعل المأمور به الذي يغنيه عن الحرام لم يقع فيه
فثبت ان المأمور به خلق الله فى العبد سببه ومقتضيه وأن المنهى
____________________
(20/121)
عنه انما يقع لعدم الفعل المأمور به المانع عنه فثبت بذلك أن المأمور به فى خلقته ما يقتضيه وما يحتاج إليه وبه صلاحه بمنزلة الاكل للجسد بل هو من جملة المأمور به وبمنزلة النكاح للنوع وهو من المأمور به والمنهى عنه ليس فيه سببه الا لعدم المأمور به فكان وجوده لعدم المأمور به فكان عدم المأمور به أضر عليه من وجود المنهى عنه لتضرره به من وجهين وفى تركه أشد استحقاقا للذم والعقاب لوجود مقتضيه فيه المعين له عليه والمنهى عنه ليس فيه مقتضيه فى الأصل الا مع عدم المأمور به وأما عدمه فلا يقتضيه إلا بفعل المأمور به فهذا هذا
الوجه السابع عشر
أن فعل الحسنات يوجب ترك السيئات وليس مجرد ترك السيئات يوجب فعل الحسنات لأن ترك السيئات مع مقتضيها لا يكون إلا بحسنة وفعل الحسنات عند عدم مقتضيها لا يقف على ترك السيئة وذلك يؤجر لأنه ترك السيئات مع مقتضيها وذلك لأن الله خلق بن آدم هماما حارثا كما قال النبى ( اصدق الاسماء حارث وهمام ( والحارث
____________________
(20/122)
العامل الكاسب والهمام الكثير الهم وهذا معنى قولهم متحرك بالارادة والهم والارادة لا تكون الا بشعور واحساس فهو حساس متحرك بالارادة دائما
ولهذا جاء فى الحديث ( للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا ( و ( مثل القلب مثل ريشة ملقاة بارض فلاة ( و ( ما من قلب من قلوب العباد الا بين اصبعين من أصابع الرحمن ( واذا كان كذلك فعدم احساسه وحركته ممتنع فان لم يكن احساسه وحركته من الحسنات المأمور بها أوالمباحات وإلا كان من السيئات المنهي عنها فصار فعل الحسنا ت يتضمن الأمرين فهو أشرف وأفضل
وذلك لأن من فعل ما أمر به من الايمان والعمل الصالح قد يمتنع بذلك عما نهي عنه من أحد وجهين اما من جهة اجتماعهما فان الايمان ضد الكفر والعمل الصالح ضد السيء فلا يكون مصدقا مكذبا محبا مبغضا وإما من جهة اقتضاء الحسنة ترك السيئة كما قال تعالى ( ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( وهذا محسوس فان الانسان اذا قرأ القرآن وتدبره كان ذلك من أقوى الأسباب المانعة له من المعاصي أو بعضها وكذلك الصوم جنة وكذلك نفس الايمان بتحريم المحرمات وبعذاب الله عليها يصد القلب عن ارادتها
____________________
(20/123)
فالحسنات اما ضد السيئات واما مانعة منها فهي إما ضد وإما صد وإنما تكون السيئات عند ضعف الحسنات المانعة منها كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ( فان كمال الايمان وحقيقته يمنع ذلك فلا يقع إلا عند نوع ضعف فى الايمان يزيل كماله
وأما ترك السيئات فاما أن يراد به مجرد عدمها فالعدم المحض لا ينافي شيئا ولا يقتضيه بل الخالي القلب متعرض للسيئات اكثر من تعرضه للحسنات وإما أن يراد به الامتناع من فعلها فهذا الامتناع لا يكون الا مع اعتقاد قبحها وقصد تركها وهذا الاعتقاد والاقتصاد حسنتان مأمور بهما وهما من أعظم الحسنات
فثبت بذلك أن وجود الحسنات يمنع السيئات وان عدم السيئات لا يوجب الحسنات فصار في وجود الحسنات الامران بخلاف مجرد عدم السيئات فليس فيه الا أمر واحد وهذا هو المقصود
____________________
(20/124)
الوجه الثامن عشر
ان فعل الحسنات موجب للحسنات ايضا فان الايمان يقتضي الأعمال الصالحة والعمل الصالح يدعو إلى نظيره وغير نظيره كما قيل ان من ثواب الحسنة الحسنة بعدها
واما عدم السيئة فلا يقتضى عدم سيئة الا إذا كان امتناعا فيكون من باب الحسنات كما تقدم وما اقتضى فرعا أفضل مما لا يقتضى فرعا له وهذا من نمط الذي قبله
الوجه التاسع عشر
ترجيح الوجود على العدم اذا علم أنه حسنة وأما المختلط والمشتبه عليه فقد يكون الامساك خيرا ( له ) ليبقى مع الفطرة فهذا حال المهتدي والضال وحال فاذا قام المقتضى للكفر والفسوق والعصيان فى قلبه من الشبهات والشهوات لم يزل هذا الحس والحركة الا بما يزيله أو يشغل عنه من إيمان وصلاح كالعلم الذي يزيل الشبهة والقصد الذى يمنع الشهوة وهذا أمر يجده المرء فى نفسه وهو فى كل شيء فإن ما وجد مقتضيه فلا يزول الا بوجود منافيه فان قيل فقد يزول ذلك بمباح
____________________
(20/125)
الوجه العشرون
أن الله تعالى بعث الرسل وانزل الكتب فى العلوم والاعمال بالكلم الطيب والعمل الصالح بالهدى ودين الحق وذلك بالأمور الموجودة فى العقائد والأعمال فامرهم فى الاعتقادات بالاعتقادات المفصلة فى أسماء الله وصفاته وسائر ما يحتاج إليه من الوعد والوعيد وفى الاعمال بالعبادات المتنوعة من أصناف العبادات الباطنة والظاهرة وأما في النفي فجاءت بالنفي المجمل والنهي عما يضر المأمور به فالكتب الالهية وشرائع الرسل ممتلئة من الاثبات فيما يعلم ويعمل
واما المعطلة من المتفلسفة ونحوهم فيغلب عليهم النفي والنهي فانهم فى عقائدهم الغالب عليهم السلب ليس بكذا ليس بكذا ليس بكذا وفى الأفعال الغالب عليهم الذم والترك من الزهد الفاسد والورع الفاسد لا يفعل لا يفعل لا يفعل من غير أن يأتوا بأعمال صالحة يعملها الرجل تنفعه وتمنع ما يضره من الأعمال الفاسدة ولهذا كان غالب من سلك طرائقهم بطالا متعطلا معطلا فى عقائده وأعماله
____________________
(20/126)
واتباع الرسل فى العلم والهدى والصلاح والخير فى عقائدهم واعمالهم وهذا بين فى أن الذي جاءت به الرسل يغلب عليه الأمر والاثبات وطريق الكافرين من المعطلة ونحوهم يغلب عليه النهي والنفي وهذا من أوضح الادلة على ترجيح الأمر والاثبات على النهى والنفى
الوجه الحادى والعشرون
ان النفى والنهى لا يستقل بنفسه بل لابد ان يسبقه ثبوت وامر بخلاف الامر والاثبات فانه يستقل بنفسه وهذا لأن الانسان لا يمكنه أن يتصور المعدوم ابتداء ولا يقصد المعدوم ابتداء وقد قررت هذا فيما تقدم وبينت ان الانسان لا يمكنه ان يتصور المعدوم الا بتوسط تصور الموجود فاذا لم يمكنه تصوره لم يمكنه قصده بطريق الاولى فان القصد والارادة مسبوق بالشعور والتصور والامر فى القصد والارادة أوكد منه فى الشعور والعلم فان الانسان يتصور الموجود والمعدوم ويخبر عنهما واما ارادة المعدوم فلا يتصور من كل وجه وانما ارادة عدم الشيء هي بغضه وكراهته فان الانسان اما ان يريد وجود الشيء او عدمه او لا يريد وجوده ولا عدمه فالاول هو اصل الارادة والمحبة واما الثانى وهو ارادة عدمه فهو بغضه وكراهته وذلك مسبوق بتصور المبغض المكروه فصار البغض والكراهة للشيء المقتضى لتركه الذى هو مقصود الناهى وهو المطلوب من المنهى فرعا من جهتين
____________________
(20/127)
من جهة ان تصوره فرع على تصور المحبوب المراد المأمور به وان قصد عدمه الذى هو بغضه وكراهته فرع على ارادة وجود المأمور به الذى هو حبه وارادته وذلك لأن الانسان اذا علم عدم شيء واخبر عن عدمه مثل قولنا اشهد ان لا اله الا الله وقولنا لا نبى بعد محمد وقولنا ليس المسيح باله ولا رب وقولنا ذلك الكتاب لا ريب فيه إلى امثال ذلك حتى ينتهى التمثيل إلى قول القائل ليس الجبل ياقوتا ولا البحر زئبقا ونحو ذلك فان هذه الجمل الخبرية النافية التى هي قضايا سلبية لولا تصور النفى والمنفى عنه لما أمكنه الاخبار بالنفى والحكم فلابد أن يتصور النفى والمنفى عنه مثل تصور الجبل والياقوت
والمنفى هو عدم محض ونفس الانسان التى هي الشاعرة العالمة المدركة بقواها وآلاتها لم تجد العدم ولم تفقهه ولم تصادفه ولم تحسه بشيء من حواسها الباطنة ولا الظاهرة ولا شعرت الا بموجود لكن لما شعرت بموجود اخذ العقل والخيال يقدر فى النفس امورا تابعة لتلك الامور الموجودة اما امور مركبة واما مشابهة لها فانه أدرك الياقوت وأدرك الجبل ثم ركب فى خياله جبل ياقوت وعرف جنس النبوة وعرف الزمان المتأخر عن مبعث محمد ثم قدر نبيا فى هذا الزمان المتأخر وعرف الاله والالوهية الثابتة لله رب
____________________
(20/128)
العالمين ثم قدر وجودها بغيره من الموجودات
ثم المؤمن ينفى هذا المقدر من ألوهية غير الله تعالى ونبوة احد بعد محمد والكافر قد يعتقد ثبوت هذا القدر فيرى ثبوت الالوهية للشمس أو القمر او الكواكب او الملائكة او النبيين او بعضهم او الصالحين او بعضهم او غيرهم من البشر او الاوثان المصنوعة مثلا لبعض هذه الآلهة المتخذة من دون الله سبحانه فالمقصود ان الانسان لم يمكنه تصور عدم شيء ولا الاخبار به الا بعد ان يتصور وجودا قاس به عليه وقدر به شيئا آخر ثم نفى ذلك المقيس المقدر به ثم اثبته والفرع المقيس المقدر تبع للاصل المقيس عليه المقدر به فلا يتصور العدم الا بطريق القياس والتمثيل والتفريع لا بطريق الاستقلال والحقيقة والتأصيل وان كان بعض الموجودات لا يمكن الناس أو بعضهم ان يتصوره فى الدنيا الا بطريق القياس او التمثيل لكن من الموجودات ما يدركه الانسان حقيقة وتأويلا ومنها ما يدركه قياسا او تمثيلا كمدركات المنام
واما المعدوم فلا يدركه الا قياسا او تمثيلا اذ ليس له حقيقة ينالها الحى المدرك وتباشرها الذوات الشاعرة اذ حقيقة كل شيء فى الخارج عين ماهيته واما ما يقدر فى العقل من الماهيات والحقائق فقد يكون له حقيقة فى الوجود الخارجى العينى الكونى وقدلا يكون
____________________
(20/129)
وهكذا الأمر فى القصد والحب والارادة من جهتين
من جهة أن المقصود المحبوب أو المكروه المبغض لا يتصور حبه ولا بغضه الا بعد نوع من الشعور به والشعور فى الموجود اصل وفى المعدوم فرع فالحب والبغض الذي يتبعه أولى بذلك
ومن جهة أن الانسان إنما يحب ما يلائمه ويناسبه وله به لذة ونعيم ونفسه لا تلائم العدم المحض والنفي الصرف ولا تناسبه ولا له فى العدم المحض لذة ولا سرور ولا نعمة ولا نعيم ولا خير اصلا ولا فائدة قطعا بل محبة العدم المحض كعدم المحبة واللذة بالعدم المحض كعدم اللذة وما ليس شيء اصلا كيف يكون فيه منفعة أو لذة أو خير ولكن نفسه تحب ما لها فيه منفعة ولذة مثل محبة اللبن عند ولادته ولغير ذلك من الاغذية ثم لما يلتذ به من منكوح ونحوه ثم ما يلتذ به من شرف ورياسة ونحو ذلك ثم ما يلتذ به من العقل والعلم والايمان ويحب ما يدفع عنه المضرة من اللباس والمساكن والخير الذى يقيه عدوه من الحر والبرد والآدميين المؤذين والدواب المؤذية وغير ذلك فيحب وجود ما ينفعه وعدم ما يضره
والنافع له انما هو امر موجود كما تقدم واما الضار له فتارة
____________________
(20/130)
يراد به عدم النافع فان اكثر ما يضره عدم النافع وعدم النافع إنما يقصد بوجود النافع وتارة يضرة امر موجود فذلك الذي يضره لم يبغض منه إلا مضرته له ومضرته له إزالة نعيمه او تحصيل عذابه فإن
قيل ما ذكرته معارض فان القرآن من اوله إلى آخره يأمر بالتقوى ويحض عليها حتى لم يذكر فى القرآن شيء اكثر منها وهى وصية الله إلى الاولين والاخرين وهى شعار الاولياء واول دعوة الانبياء واهل اصحاب العاقبة واهل المقعد الصدق إلى غير ذلك من صفاتها والتقوى هي ترك المنهى عنه وقد قال سهل بن عبد الله أعمال البر يعملها البر والفاجر ولن يصبر عن الآثام الا صديق
وفى تعظيم الورع واهله والزهد وذويه ما يضيق هذا الموضع عن ذكره
وانما ذلك عائد إلى ترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات وهى بقسم المنهى عنه أشبه منها بقسم المأمور به والناس يذكرون من فضائل أهل هذا الورع ومناقبهم ما لا يذكرون عن غيرهم
____________________
(20/131)
فنقول هذا السؤال مؤلف من شيئين جهل بحقيقة التقوى والورع والزهد وجهل بجهة حمد ذلك
فنقول اولا ومن الذى قال ان التقوى مجرد ترك السيئات بل التقوى كما فسرها الاولون والاخرون فعل ما امرت به وترك ما نهيت عنه كما قال طلق بن حبيب لما وقعت الفتنة اتقوها بالتقوى قالوا وما التقوى قال ان تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وان تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله
وقد قال الله تعالى فى اكبر سورة فى القرآن { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } إلى اخرها فوصف المتقين بفعل المأمور به من الإ يمان والعمل الصالح من اقام الصلاة وايتاء الزكاة وقال { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون }
وقال { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون }
____________________
(20/132)
) وهذه الاية عظيمة جليله القدر من أعظم آى القرآن واجمعه لامر الدين وقد روى ان النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن خصال الايمان فنزلت وفى الترمذى عن فاطمة بنت قيس عنه أنه قال ( ان فى المال حقا سوى الزكاة وقرأ هذه الآية ) وقددلت على امور
أحدها انه اخبر ان الفاعلين لهذه الامور هم المتقون وعامة هذه الامور فعل مأمور به
الثانى انه أخبر ان هذه الأ مور هي البر واهلها هم الصادقون يعنى فى قوله ( آمنا ) وعامتها امور وجودية هي افعال مأمور بها فعلم أن المامور به أدخل فى البر والتقوى والايمان من عدم المنهى عنه وبهذه الاسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعالى ( ان الابرار لفى نعيم وان الفجار لفى جحيم ) وقال ( أم نجعل المتقين كالفجار ) ( ان المتقين فى جنات ونهر ) وقال ( افمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون )
وهذه الخصال المذكورة فى الآية قد دلت على وجوبها لأنه
____________________
(20/133)
اخبر ان اهلها هم الذين صدقوا فى قولهم وهم المتقون والصدق واجب والايمان واجب ايجاب حقوق سوى الزكاة وقوله { فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا } وقوله لبنى اسرائيل { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا } وقوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وقوله { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم } وقوله { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } فى ( سبحان ) ( والروم ) فاتيان ذى القربى حقه صله الرحم والمسكين اطعام الجائع وبن السبيل قرى الضيف وفى الرقاب فكاك العانى واليتيم نوع من اطعام الفقير
وفى البخارى عن النبى ( عودوا المريض واطعموا الجائع وفكوا العانى ) وفى الحديث الذى أفتى به أحمد ( لو صدق السائل ( ما ) أفلح من رده )
وأيضا فالرسول مثل نوح وهود وصالح وشعيب فاتحة دعواهم فى هود { أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وفى الشعراء
____________________
(20/134)
{ ألا تتقون } { فاتقوا الله وأطيعون } وقال تعالى { ولكن البر من اتقى } وقال تعالى { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } وقال تعالى { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } وقال { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين }
فقد بين ان الوفاء بالعهود من التقوى التى يحبها الله والوفاء بالعهود هو جملة المأمور به فان الواجب اما بالشرع أو بالشرط وكل ذلك فعل مأمور به وذلك وفاء بعهد الله وعهد العبيد وذلك أن التقوى اما تقوى الله واما تقوى عذابه كما قال { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة } { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } فالتقوى اتقاء المحذور بفعل المأمور به وبترك المنهى عنه وهو بالأول اكثر وانما سمى ذلك تقوى لأن ترك المأمور به وفعل المنهى عنه سبب الأمن من ذم الله وسخط الله وعذاب الله فالباعث عليه خوف الاثم بخلاف ما فيه منفعة وليس فى تركه مضرة فان هذا هو المستحب الذى له ان يفعله وله أن لا يفعله فذكر ذلك باسم التقوى ليبين وجوب ذلك وان صاحبه متعرض للعذاب بترك التقوى
ونقول ثانيا انه حيث عبر بالتقوى عن ترك المنهى ان قيل ذلك كما فى قوله { وتعاونوا على البر والتقوى } قال بعض السلف البر ما امرت به والتقوى ما نهيت عنه فلا يكون ذلك الا مقرونا
____________________
(20/135)
بفعل المأمور به كما ذكر معها البر وكما فى قول نوح { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } وذلك لان هذه التقوى مستلزمة لفعل المامور به
ونقول ثالثا ان اكثر بنى آدم قد يفعل بعض المامور به ولا يترك المنهى عنه الا الصديقون كما قال سهل لان المأمور به له مقتضى فى النفس واما ترك المنهى عنه إلى خلاف الهوى ومجاهدة النفس فهو أصعب وأشق فقل أهله ولا يمكن أحدا أن يفعله الا مع فعل المأمور به لا تتصور تقوى وهى فعل ترك قط فان من ترك الشرك واتباع الهوى المضل واتباع الشهوات المحرمات فلابد أن يفعل من المامور به أمورا كثيرة تصده عن ذلك فتقواهم تحفظ لهم حسناتهم التى امروا بها وتمنعهم من السيئات التى تضرهم بخلاف من فعل ما أمر به وما نهى عنه مثلا فان وجود المنهى عنه يفسد عليه من المأمور به ما يفسد فلا يسلم له ولهذا كانت العاقبة للتقوى كما قال تعالى { والعاقبة للتقوى } { والعاقبة للمتقين } { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }
وذلك لأن المتقين بمنزلة من أكل الطعام النافع واتقى الاطعمة المؤذية فصح جسمه وكانت عاقبته سليمة وغير المتقى بمنزلة من خلط من الاطعمة فانه وان اغتذى بها لكن تلك التخاليط قد تورثه
____________________
(20/136)
أمراضا اما مؤذية واما مهلكة ومع هذا فلا يقول عاقل ان حاجته وانتفاعه بترك المضر من الاغذية اكثر من حاجته وانتفاعه بالأغذية النافعة بل حاجته وانتفاعه بالأغذية التى تناولها اعظم من انتفاعه بما تركه منها بحيث لو لم يتناول غذاء قط لهلك قطعا واما اذا تناول النافع والضار فقد يرجى له السلامة وقد يخاف عليه العطب واذا تناول النافع دون الضار حصلت له الصحة والسلامة
فالاول نظير من ترك المامور به والثانى نظير من فعل المامور به والمنهى عنه وهو المخلط الذى خلط عملا صالحا واخر سيئا والثالث نظير المتقى الذى فعل ما امر به واجتنب ما نهى عنه فعظم امر التقوى لتضمنها السلامة مع الكرامة لا لأجل السلامة فقط فانه ليس فى الاخرة دارا الا الجنة او النار فمن سلم من النار دخل الجنة ومن لم ينعم عذب فليس فى الادميين من يسلم من العذاب والنعيم جميعا فتدبر هذا فكل ( خصلة ) قد أمر ( الله بها ) أو أثنى عليها ففيها فعل المأمور به ولابد تضمنا او استلزاما وحمدها لنيل الخير عن الشر والثواب عن العقاب
وكذلك الورع المشروع والزهد المشروع من نوع التقوى الشرعية ولكن قد غلط بعض الناس فى ذلك فاما الورع المشروع المستحب الذى بعث الله به محمدا فهو اتقاء من يخاف
____________________
(20/137)
ان يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح ويدخل فى ذلك اداء الواجبات والمشتبهات التى تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التى تشبه الحرام وان ادخلت فيها المكروهات قلت نخاف ان يكون سببا للنقص والعذاب
واما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب وهو فعل الواجب وترك المحرم والفرق بينهما فيما اشتبه امن الواجب هوام ليس منه وما اشتبه تحريمه امن المحرم ام ليس منه فاما ما لا ريب فى حله فليس تركه من ا لورع وما لا ريب فى سقوطه فليس فعله من الورع وقولى عند عدم المعارض الراجح فانه قد لا يترك الحرام البين اوالمشتبه الا عند ترك ما هو حسنة موقعها فى الشريعة اعظم من ترك تلك السيئة مثل من يترك الائتمام بالامام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو وكذلك قد لا يؤدى الواجب البين او المشتبه الا بفعل سيئة اعظم اثما من تركه مثل من لا يمكنه اداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان الا بقتال فيه من الفساد اعظم من فساد ظلمه
والاصل فى الورع المشتبه قول النبى ( الحلال بين والحرام بين وبين ذلك امور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع فى الشبهات وقع فى
____________________
(20/138)
الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه وهذا ( فى الصحيحين وفى السنن قوله ( دع ما يريبك الى ما لا يريبك ( وقوله ( البر مااطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب ( وقوله فى صحيح مسلم فى رواية ( البر حسن الخلق والاثم ما حاك فى نفسك وان افتاك الناس ( وانه رأى على فراشه تمرة فقال لولا انى اخاف ان تكون من تمر الصدقة لأكلتها (
واما فى الواجبات لكن يقع الغلط فى الورع من ثلاث جهات
احدها اعتقاد كثير من الناس انه من باب الترك فلا يرون الورع الا فى ترك الحرام لا في اداء الواجب وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة ترى احدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة ويتورع ( عن ) الركون إلى الظلمة من اجل البدع فى الدين وذوى الفجور فى الدنيا ومع هذا يترك امورا واجبة عليه اما عينا واما كفاية وقد تعينت عليه من صلة رحم وحق جار ومسكين وصاحب ويتيم وبن سبيل وحق مسلم وذى سلطان وذى علم وعن أمر بمعروف
____________________
(20/139)
ونهى عن منكر وعن الجهاد فى سبيل الله الى غير ذلك مما فيه نفع للخلق فى دينهم ودنياهم مما وجب عليه او يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى بل من جهة التكليف ونحو ذلك
وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار فان ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة والحج والجهاد ونصيحة المسلمين والرحمة لهم وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة كالأئمة الأربعة وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد انه اذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغى ان يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى والا فكثير من الناس تنفر نفسه عن اشياء لعادة ونحوها فيكون ذلك مما يقوى تحريمها واشتباهها عنده ويكون بعضهم فى اوهام وظنون كاذبة فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } وهذه حال اهل الوسوسة فى النجاسات فانهم من اهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم وكذلك ورع قوم يعدون غالب اموال الناس محرمة
____________________
(20/140)
اومشتبهه او كلها وآل الأمر ببعضهم إلى احلالها لذى سلطان لانه مستحق لها والى انه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة
وقدانكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وذم المتنطعين فى الورع وقد روى مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( هلك المتنطعون ( قالها ثلاثا
وورع اهل البدع كثير منه من هذا الباب بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الاسلام من هذا الباب وكذلك ما ذمه الله تعالى فى القرآن من ورعهم عما حرموه ولم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ومن هذا الباب الورع الذى ذمه الرسول فى الحديث الذى فى الصحيح لما ترخص فى اشياء فبلغه ان اقواما تنزهوا عنها فقال ( ما بال رجال يتنزهون عن اشياء اترخص فيها والله انى لأرجو أن اكون اعلمهم بالله واخشاهم ( وفى رواية ( اخشاهم واعلمهم بحدوده له ( وكذلك حديث صاحب القبلة
ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه
____________________
(20/141)
فى الدين والا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار واهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم
الثالثة جهة المعارض الراجح هذا اصعب من الذى قبله فان الشيء قد يكون جهة فساده يقتضى تركه فيلحظه المتورع ولا لحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح وبالعكس فهذا هذا وقد تبين ان من جعل الورع الترك فقط وادخل فى هذا الورع افعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم واعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة فان الذى فاته من دين الاسلام اعظم مما ادركه فانه قد يعيب اقواما هم إلى النجاة والسعادة اقرب
وهذه القاعدة منفعتها لهذا الضرب وامثاله كثيرة فانه ينتفع بها اهل الورع الناقص او الفاسد وكذلك اهل الزهد الناقص اوالفاسد فان الزهد المشروع الذي به امر الله ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول المباح فترك فضول المباح الذى لا ينفع فى الدين زهد وليس بورع ولا ريب ان الحرص والرغبة فى الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر كما روى الترمذى عن كعب بن مالك قال قال رسول الله ( ما ذئبان جائعان ارسلا فى زريبة غنم بافسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ( قال الترمذى حديث حسن صحيح فذم النبى الحرص
____________________
(20/142)
على المال والشرف وهو الرياسة والسلطان واخبر ان ذلك يفسد الدين مثل او فوق افساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم
وهذا دليل على أن هذا الحرص انما ذم لانه يفسد الدين الذى هو الايمان والعمل الصالح فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل وهذان هما المذكوران فى قوله تعالى { ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه } وهما اللذان ذكرهما الله فى سورة القصص حيث افتتحها بأمر فرعون وذكر علوه فى الارض وهو الرياسة والشرف والسلطان ثم ذكر فى آخرها قارون وما أوتيه من الاموال وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا ثم قال { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا } كحال فرعون وقارون فان جمع الاموال من غير انفاقها فى مواضعها المامور بها وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد
وكذلك الانسان اذا اختار السلطان لنفسه بغير العدل والحق لا يحصل الا بفساد وظلم واما نفس وجود السلطان والمال الذى يبتغى به وجه الله والقيام بالحق والدا ر الاخرة ويستعان به على طاعة الله ولا يفتر القلب عن محبة الله ورسوله والجهاد فى سبيله كما كان النبى وابو بكر وعمر ولا يصده عن ذكر الله فهذا من اكبر نعم الله تعالى على عبده اذا كان كذلك ولكن قل أن
____________________
(20/143)
تجد ذا سلطان أو مال الا وهو مبطأ مثبط عن طاعة الله ومحبته متبع هواه فيما آتاه الله وفيه نكول حال الحرب والقتال فى سبيل الله والامر بالمعروف والنهى عن المنكر فبهذه الخصال يكتسب المهانة والذم دنيا واخرى
وقد قال تعالى لنبيه واصحابه { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } فاخبر انهم هم الاعلون وهم مع ذلك لا يريدون علوا فى الارض ولا فسادا وقال تعالى { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم } { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } وقال { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } فالشرف والمال لا يحمد مطلقا ولا يذم مطلقا بل يحمد منه ما أعان على طاعة الله وقد يكون ذلك واجبا وهو ما لابد منه فى فعل الواجبات وقد يكون مستحبا وانما يحمد اذا كان بهذه النية ويذم ما استعين به على معصية الله أو صد عن الواجبات فهذا محرم
وينتقص منه ما شغل عن المستحبات واوقع فى المكروهات والله اعلم كما جاء فى الحديث ( من طلب هذا المال استغناء عن الناس واستعفافا عن المسالة وعودا على جاره الضعيف والارملة والمسكين لقى الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبه مرائيا مفاخرا
____________________
(20/144)
مكاثرا لقى الله وهو عليه غضبان ) وقال ( التاجر الامين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) وقال ( نعم المال الصالح للرجل الصالح )
واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب الا بفعل المامور به من الاخلاص اما فى الورع بفعل المامور به فظاهر فان الله تعالى لا يقبل من العمل الا ما اريد به وجهه واما بترك المنهى عنه الذى يسميه بعض الناس ورعا فانه اذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها وان لم يعاقب عليها وان تركها لوجه الله اثيب عليها ولا يكون ذلك الا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله أو خشية عذابه ورجاء رحمته وخشية عذابه من الامور الوجودية المأمور بها فتبين ان الورع لا يكون عملا صالحا الا بفعل المأمور به من الرجاء والخشية والا فمجرد الترك العدمى لا ثواب فيه
واما الزهد الذى هو ضد الرغبة فانما يحمد حمدا مطلقا وتذم الرغبة لترك العمل للآخرة قال تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } وقال { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } وقال { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا }
____________________
(20/145)
) فمن لم يرد الدار الاخرة قولا وعملا وايثارا ومحبة ورغبة وانابة فلا خلاق له فى الاخرة ولا فائدة له فى الدار الدنيا بل هو كافر ملعون مشتت معذب لكن قد ينتفع بزهده فى الدنيا بنوع من الراحة العاجلة وهو زهد غير مشروع وقد يستضر بما يفوته من لذات الدنيا وان كان غير زاهد فلا راحة له فى هذا
فمن زهد لطلب راحة الدنيا او رغب لطلب لذاتها لم يكن واحد منهما فى عمل صالح ولا هو محمود فى الشرع على ذلك ولكن قد يترجح هذا تارة وهذا تارة فى مصلحة الدنيا كما تترجح صناعة على صناعة وتجارة على تجارة وذلك ان لذات الدنيا لا تنال غالبا الا بنوع من التعب فقد تترجح تارة لذة الترك على تعب الطلب وقد يترجح تعب الطلب على لذة الترك فلا حمد على ترك الدنيا لغير عمل الاخرة كما لا حمد لطلبها لغير عمل الاخرة
فثبت ان مجرد الزهد فى الدنيا لا حمد فيه كما لا حمد على الرغبة فيها وانما الحمد على ارادة الله والدار الاخرة والذم على ارادة الدنيا المانعة من ارادة ذلك كما تقدم وكما فى قوله تعالى { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } ولهذا جرت عادة اهل المعرفة بتسمية هذا الطالب المريد
____________________
(20/146)
فان أول الخير ارادة الله ورسوله والدار الاخرة ولهذا قال النبى ( انما الاعمال بالنيات ) فثبت أن الزهد الواجب هو ترك ما يمنع عن الواجب من ارادة الله والدار الاخرة والزهد المستحب هو ما يشغل عن المستحب من اعمال المقربين والصديقين
فظهر بذلك ان المطلوب بالزهد فعل المامور به من ثلاثة أوجه
احدها أنه لولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله والدار الاخرة لم يشرع الزهد فيها بل كان يكون فعله وتركه سواء او يرجح هذا او يرجح هذا ترجحا دنيويا
الثانى انه اذا قدر أن شخصين أحدهما يريد الآخرة ويريد الدنيا والاخر زاهد فى الدنيا وفي الآخرة لكان الاول منهما مؤمنا محمودا والثانى كافرا ملعونا مع ان الثانى زاهد فى الدنيا والاول طالب لها لكن امتاز الاول بفعل مامور مع ارتكاب محظور والثانى لم يكن معه ذلك المامور به فثبت أن فعل المأمور به من ارادة الاخرة ينفع والزهد بدون فعل هذا المامور لا ينفع
الثالث المحمود فى الكتاب والسنة انما هوارادة الدار الاخرة والمذموم انما هو من ترك ارادة الدار الاخرة واشتغل بارادة الدنيا
____________________
(20/147)
عنها فاما مجرد مدح ترك الدنيا فليس فى كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تنظر إلى كثرة ذم الناس الدنيا ذما غير دينى فان اكثر العامة انما يذمونها لعدم حصول اغراضهم منها فانها لم تصف لاحد قط ولو نال منها ما عساه ان ينال وما امتلأت دار حبرة الا امتلات عبرة فالعقلاء يذمون الجهال الذين يركنون اليها ويظنون بقاء الرياسة والمال وتناول الشهوات فيها وهم مع هذا يحتاجون إلى ما لابد لهم منه منها واكثرهم طالب لما يذمه منها وهؤلاء حقيقة ذمهم لها ذم دنيوى لما فيها من الضرر الدنيوى كما يذم العقلاء التجارة والصناعة التى لا ربح فيها بل فيها تعب وكما تذم معاشرة من يضرك ولا ينفعك فى التزويج بسيئة الخلق ونحو ذلك من الامور التى لا تعود مضرتها ومنفعتها الا إلى الدنيا ايضا
ولا ريب أن ما فيه ضرر فى الدنيا مذموم اذا لم يكن نافعا فى الاخرة كاضاعة المال والعبادات الشاقة التى لم يأمر الله بها ولا رسوله وما فيه منفعة فى الدنيا مذموم اذا كان ضارا فى الاخرة كنيل اللذات وادراك الشهوات المحرمة وكذلك اللذات والشهوات المباحات اذا حصل للعبد بها وهنا وتاخيرا فى امر الاخرة وطلبها وما كان مضرا فى الدنيا والاخرة فهو شر وشدة وما كان نافعا فى الاخرة فهو محمود وان كان ضارا فى الدنيا كاذهاب النفوس والاموال
____________________
(20/148)
فى الجهاد فى سبيل الله وكذلك ما لم يكن ضارا فى الدنيا مثل كثير من العبادات وما كان نافعا فى الدنيا والاخرة فهو محمود ايضا فالاقسام سبعة
فما كان نافعا فى الاخرة فهو محمود سواء ضر فى الدنيا او نفع او لم ينفع ولم يضر وما كان ضارا فى الاخرة فهو مذموم وان كان نافعا فى الدنيا او ضارا او لا نافعا ولا ضارا
وبقى ثلاثة أقسام ما كان نافعا فى الدنيا غير ضار فى الاخرة وضارا فى الدنيا غير نافع فى الاخرة والنافع محمود والضار مذموم
والقسم الثالث فيه قولان قيل لا حمد فيه ولا ذم وقيل بل هو مذموم
فاكثر ذم الناس للدنيا ليس من جهة شغلها لهم عن الاخرة وانما هو من جهة ما يلحقهم من الضرر فيها وهى مذمومة من ذلك الوجه
واعلى وجوه الذم هو ما شغل عن الاخرة ولكن الانسان قد يعدد المصائب وينسى النعم فقد يذم امورا كثيرة لمضرة تلحقه ويكون فيها منافع كثيرة لا يذكرها وهذا الذم من نوع الهلع والجزع كما
____________________
(20/149)
قال تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين } وانما الذم المحقق هو ما يشغل عن مصلحة الاخرة من الواجب والنقص هو ما يشغل عن مصلحتها المستحبة ويذم ما ترجحت مضرته على منفعته فيها فهذه ثلاثة امور هي فصل الخطاب فقد تبين ان المحمود فيها وجودى او عدمى
وقد يقع الغلط فى الزهد من وجوه كما وقع فى الورع
أحدها ان قوما زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرة فوقعوا به فى ترك واجبات او مستحبات كمن ترك النساء واللحم ونحو ذلك وقد قال لكنى اصوم وافطر واتزوج النساء واكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى )
والثانى ان زهد هذا اوقعه فى فعل محظورات كمن ترك تناول ما ابيح له من المال والمنفعة واحتاج إلى ذلك فاخذه من حرام او سأل الناس المسالة المحرمة او استشرف اليهم والاستشراف مكروه
والثالث من زهد زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدار الاخرة بالعمل الصالح والعلم النافع فان العبد اذا كان زاهدا بطالا فسد أعظم فساد فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الاخرة كما قال
____________________
(20/150)
عبد الله بن مسعود انى لاكره ان ارى الرجل بطالا ليس فى امر الدنيا ولا فى امر الاخرة وهؤلاء من اهل النار وكما قال النبى فى الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه عن عياض بن حمار عن النبى قال ( اهل النار خمسة فذكر منهم الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون اهلا ولا مالا )
فمن ترك بزهده حسنات مامور بها كان ما تركه خيرا من زهده او فعل سيئات منهيا عنها او دخل فى الكسل والبطالات فهو من ( الاخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا )
ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات او يوقعه فى المحرمات فهو من المقتصدين اصحاب اليمين
ومن زهد فيما يشغله عن المستحبات والدرجات فهو من المقدمين السابقين
فهذه جملة مختصرة فى الزهد وقد تبين المطلوب الاول انما هو فعل المامور به لأنه يعين عليه وهذا هو المقصود هنا والله أعلم
____________________
(20/151)
واحذر ان تغتر بزهد الكافرين والمبتدعين فان الفاسق المؤمن الذى يريد الاخرة ويريد الدنيا خير من زهاد اهل البدع وزهاد الكفار اما لفساد عقدهم واما لفساد قصدهم واما لفسادهما جميعا
الوجه الثانى والعشرون
أن الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا والسيئات سبب للتحريم دينا وكونا فان التحريم قد يكون حمية وقد يكون عقوبة والاحلال قد يكون سعة وقد يكون عقوبة وفتنة قال تعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم } فاباح بهيمة الأنعام فى حال كونهم غير محلى الصيد وهو اعتقاد تحريم ذلك واجتنابه وقال { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } إلى قوله { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } وقد ثبت أنها نزلت عشية عرفة فى حجة الوداع فأكمل الله الدين بايجابه لما اوجبه من الواجبات التى آخرها الحج وتحريمه للمحرمات المذكورة فى هذه الآية هذا من جهة شرعه ومن جهة الفعل الذي هو تقويته واعانته ونصره بئس الذين كفروا من ديننا وحج النبى حجة الاسلام فلما اكملوا الدين قال عقب ذلك
____________________
(20/152)
{ يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين } إلى قوله { اليوم أحل لكم الطيبات } فكان احلاله الطيبات يوم اكمل الدين فاكمله تحريما وتحليلا لما اكملوه امتثالا
وقال { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية وهي بينة فى الاصلاح والتقوى والاحسان موجبة لرفع الحرج وان المؤمن العامل الصالحات المحسن لا حرج عليه ولا جناح فيما طعم فان فيه عونا له وقوة على الايمان والعمل الصالح والاحسان ومن سواهم على الحرج والجناح لان النعم إنما خلقها الله ليستعان بها على الطاعة والآية مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن وقال تعالى عن إبراهيم { وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } وقال { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } وقال { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض }
وقال { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم }
____________________
(20/153)
واما الطرف الآخر فقال تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل } وقال { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } إلى قوله { ذلك جزيناهم ببغيهم } وقال تعالى { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت } إلى آخر الآيات
واما كون الاحلال والاعطاء فتنة فقوله (
{ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه } { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } الآيات { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } { يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم } إلى قوله { كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى }
ويختلف التحليل والتحريم باعتبار النية كما قال تعالى { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } وقال { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار }
____________________
(20/154)
وقد كتبت فى قاعدة ( العهود والعقود ( القاعدة فى العهود الدينية فى القواعد المطلقة والقاعدة فى العقود الدنيوية فى القواعد الفقهية وفى كتاب النذر أيضا أن ما وجب بالشرع إن نذره العبد أو عاهد الله عليه أو بايع عليه الرسول أو الامام أو تحالف عليه جماعة فان هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبا ثانيا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فتكون واجبة من وجهين بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهد والميثاق وما يستحقه عاصي الله ورسوله هذا هو التحقيق
ومن قال من أصحاب احمد انه إذا نذر واجبا فهو بعد النذر كما كان قبل النذر بخلاف نذر المستحب فليس كما قال بل النذر إذا كان يوجب فعل المستحب فايجابه لفعل الواجب اولى وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل هما وجوبان من نوعين لكل نوع حكم غير حكم الآخر مثل الجدة إذا كانت أم أم أم وأم أب أب فان فيها شيئين كل منهما تستحق به السدس
وكذلك من قال من أصحاب أحمد ان الشروط التى هي من مقتضى العقد لا يصح اشتراطها أو قد تفسده حتى قال بعض أصحاب الشافعي إذا قال زوجتك على ما أمر الله به من امساك بمعروف أو تسريح باحسان كان النكاح فاسدا لأنه شرط فيه الطلاق فهذا
____________________
(20/155)
كلام فاسد جدا فان العقود إنما وجبت موجباتها لايجاب المتعاقدين لها على أنفسهما ومطلق العقد له معنى مفهوم فاذا اطلق كانا قد اوجبا ما هو المفهوم منه فان موجب العقد هو واجب بالعقد كموجب النذر لم يوجبه الشارع ابتداء وإنما اوجب الوفاء بالعقود كما اوجب الوفاء بالنذر فاذا كان له موجب معلوم بلفظ مطلق أو يعرف المتعاقدان إيجابه بلفظ خاص كان هذا من باب عطف الخاص على العام فيكون قد أوجبه مرتين أو جعل له إيجابا خاصا يستغنى به عن الايجاب العام
وفى القرآن من هذا نظائر مثل قوله { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } وقوله { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } ومثل قوله { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } وقوله { قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين } وقوله { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } وقوله { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } فان الله أعلن عهد الله االذي امرهم به من بعد ما أخذ عليهم الميثاق بالوفاء به فاجتمع فيه الوجهان العهدي والميثاقي
____________________
(20/156)
وفى القرآن من العهود والمواثيق على ما وجب بامر الله شيء كثير فمن ذلك قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } الاية وقوله { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا } إلى آخر الكلام وقوله { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا } وقوله { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } الاية إلى قوله { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } فان قوله { بلى من أوفى بعهده } بعد ذكره للايمان يقتضى انه الوفاء بموجب العقود فى المعاملات ونحوها كما قال فى آية البيع { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } فاداء الامانة هو الوفاء بموجب العقود فى المعاملات من القبض والتسليم فان ذلك واجب بعقده فقط ثم قال بعده { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم } فعهد الله ما عهده اليهم وايمانهم ما عقدوه من الايمان وسبب نزولها قصة الاشعث بن قيس التى فى الصحيحين فى محاكمته مع اليهودى حين قال النبى ( من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان ) وأنزل الله هذه الاية فان ذلك المال كان يجب تسليمه إلى مستحقه
____________________
(20/157)
بموجب عهده فاذا حلف بعد هذا على استحقاقه دون مستحقه فقد صار عاصيا من وجهين نظير قوله ( ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) وضدهم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق وقوله { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا } الآية قال بن عباس ما بعث الله نبيا الا اخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه وامر أن يأخذ الميثاق على أمته ان بعث محمد وهم احياء ليؤمنن به ولينصرنه
ومعلوم أن محمدا اذا بعثه الله برسالة عامة وجب الايمان به ونصرته على كل من بلغته دعوته وان لم يكن قد أخذ عليه ميثاق بذلك وقد أخذ عليهم الميثاق بما هو واجب بامر الله بلا ميثاق وقوله تعالى { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } إلى قوله { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف } الآيات فهذا ميثاق أخذه الله
____________________
(20/158)
وقال رحمه الله
تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه وهل يكون نهيا عن ضده مع اتفاقهم على أن فعل المأمور لا يكون إلا مع فعل لوازمه وترك ضده
ومنشأ النزاع أن الآمر بالفعل قد لا يكون مقصوده اللوازم ولا ترك الضد ولهذا إذا عاقب المكلف لا يعاقبه إلا على ترك المأمور فقط لا يعاقبه على ترك لوازمه وفعل ضده وهذه المسألة هي الملقبة بأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب وقد غلط فيها بعض الناس فقسموا ذلك إلى مالا يقدر المكلف عليه كالصحة فى الاعضاء والعدد فى الجمعة ونحو ذلك مما لا يكون قادرا على تحصيله وإلى ما يقدر عليه كقطع المسافة فى الحج وغسل جزء من الرأس فى الوضوء وإمساك جزء من الليل فى الصيام ونحو ذلك فقالوا مالا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب
____________________
(20/159)
وهذا التقسيم خطأ فان هذه الأمور التى ذكروها هي شرط في الوجوب فلا يتم الواجب إلا بها وما لا يتم الواجب إلا به يجب على العبد فعله باتفاق المسلمين سواء كان مقدورا عليه أولا كالاستطاعة فى الحج واكتساب نصاب الزكاة فان العبد إذا كان مستطيعا للحج وجب عليه الحج وإذا كان ما لكا لنصاب الزكاة وجبت عليه الزكاة فالوجوب لا يتم إلا بذلك فلا يجب عليه تحصيل استطاعة الحج ولا ملك النصاب ولهذا من يقول إن الاستطاعة فى الحج ملك المال كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد فلا يوجبون عليه الاكتساب ولم يتنازعوا إلا فيما إذا بذلت له الاستطاعة إما بذل الحج وإما بذل المال له من ولده
وفيه نزاع معروف في مذهب الشافعي وأحمد ولكن المشهور من مذهب أحمد عدم الوجوب وإنما أوجبه طائفة من أصحابه لكون الأب له على أصله أن يتملك مال ولده فيكون قبوله كتملك المباحات والمشهور من مذهب الشافعي الوجوب ببذل الابن بالفعل
والمقصود هنا الفرق بين ما لا يتم الواجب إلا به وما لا يتم الوجوب إلا به وأن الكلام في القسم الثانى إنما هو فيما لايتم الواجب إلا به كقطع المسافة فى الجمعة والحج ونحو ذلك فعلى المكلف فعله باتفاق المسلمين لكن من ترك الحج وهو بعيد الدار عن مكة أو ترك
____________________
(20/160)
الجمعة وهو بعيد الدار عن الجامع فقد ترك أكثر مما ترك قريب الدار ومع هذا فلا يقال إن عقوبة هذا أعظم من عقوبة قريب الدار
والواجب ما يكون تركه سببا للذم والعقاب فلو كان هذا الذي لزمه فعله بطريق التبع مقصودا بالوجوب لكان الذم والعقاب لتاركه أعظم فيكون من ترك الحج من أهل الهند والأندلس أعظم عقابا ممن تركه من أهل مكة والطائف ومن ترك الجمعة من أقصى المدينة أعظم عقابا ممن تركها من جيران المسجد الجامع فلما كان من المعلوم أن ثواب البعيد أعظم وعقابه إذا ترك ليس أعظم من عقاب القريب نشأت من ها هنا الشبهة هل هو واجب أو ليس بواجب
والتحقيق أن وجوبه بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الأمر بل الأمر بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالما بأنه لابد من وجودها وإن كان ممن تجوز عليه الغفلة فقد لا تخطر بقلبه اللوازم
ومن فهم هذا انحلت عنه شبه الكعبى هل فى الشريعة مباح أم لا فان الكعبى زعم أنه لا مباح فى الشريعة الخ فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يجب كتمان النصوص التى تخالفه ويبغضها ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف
____________________
(20/161)
ما أبتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه
ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لابد أن يلبس فيه حقا بباطل بحسب ما يقول من الألفاظ المجملة المتشابهة ولهذا قال الامام أحمد فى أول ما كتبه فى ( الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله ( مما كتبه فى حبسه وقد ذكره الخلال في ( كتاب السنة ( والقاضى أبو يعلي وأبو الفضل التميمي وأبو الوفاء بن عقيل وغير واحد من أصحاب أحمد ولم ينفه أحد منهم عنه والحمد لله
والمقصود قوله يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فان كانوا فى مقام دعوة الناس إلى قولهم والتزامهم به أمكن أن يقال لهم لا يجب على أحد أن يجيب داعيا إلا إلى ما دعا إليه رسول الله فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس اجابة من دعا إليه ولا له دعوة الناس إلى ذلك ولو قدر أن ذلك المعنى حق وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور وأدخلوه فى بدعهم كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه فى بدعهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال إئتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة
____________________
(20/162)
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل
ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا أو اعتقادا زعم أن الايمان لا يتم الا به مع العلم بأن الرسول لم يذكره وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة قال الشافعي رحمه الله البدعة بدعتان بدعة خالفت كتابا وسنة وإجماعا وأثرا عن بعض ( أصحاب ) رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بدعه ضلاله وبدعه لم تخالف شيئا من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر نعمت البدعة هذه هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي باسنادة الصحيح فى المدخل ويروى عن مالك رحمه الله أنه قال إذا قل العلم ظهر الجفا وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء
ولهذا تجد قوما كثيرين يحبون قوما ويبغضون قوما لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحا عن النبى وسلف الأمة ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ولا يعرفون لازمها ومقتضاها
وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة وجعلها مذاهب يدعى
____________________
(20/163)
إليها ويوالى ويعادى عليها وقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول فى خطبته ( إن أصدق الكلام كلام الله الخ ( فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول
وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبى ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون
والخوارج إنما تأولوا آيات من القرآن على ما أعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع اقوالا ليس لها أصل فى القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج
ويجب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام فكل من لم يناظر أهل الالحاد والبدع
____________________
(20/164)
مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الاسلام حقه ولا وفى بموجب العلم والايمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين
وقد أوجب الله على المؤمنين الايمان بالرسول والجهاد معه ومن الايمان به تصديقه فى كل ما أخبر به ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به والحد فى أسماء الله وآياته
ومن المعلوم أنه لا بد فى كل مسألة دائرة بين النفي والاثبات من حق ثابت فى نفس الأمر أو تفصيل لكن من لم يكن عارفا بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول بمبلغ علمه ولا يكلف الله نفسا الا وسعها
ولا ريب أن الخطأ فى دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك فى المسائل العلمية ولولا ذلك لهلك اكثر فضلاء الأمة وإذا كان الله يغفرلمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونة لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد فى طلب العلم بحسب ما أدركه فى زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأ تحقيقا لقوله
____________________
(20/165)
{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }
وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى كما نطق به القرآن وإنما توقفوا فى شخص معين لعدم العلم بدخوله فى المتقين وحال سائر أهل الأقوال الضعيفة الذين يحتجون بظاهر القرآن على ما يخالف السنة إذا خفي الأمر عليهم مع إنه لم يوجد فى ظاهر القرآن ما يخالف السنة كمن قال من الخوارج لا يصلى فى السفر إلا اربعا ومن قال إن الأربع أفضل ومن قال لانحكم بشاهد ويمين وما دل عليه ظاهر القرآن حق وأنه ليس بعام مخصوص فانه ليس هناك عموم لفظى وإنما هو مطلق كقوله { فاقتلوا المشركين } فانه عام فى الأعيان مطلق فى الأحوال وقوله { يوصيكم الله في أولادكم } عام فى الأولاد مطلق فى الأحوال
ولفظ الظاهر يراد به ما يظهر للأنسان وقد يراد به مايدل عليه اللفظ فالأول يكون بحسب مفهوم الناس وفى القرآن مما يخالف الفهم الفاسد شيء كثير
وقال شيخ الاسلام رحمه الله
____________________
(20/166)
فصل
فى تعليل الحكم الواحد بعلتين وما يشبه ذلك من وجود مقدر واحد بين قادرين ووجود الفعل الواحد من فاعلين فنقول
النزاع وان كان مشهورا فى ذلك فأكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يجوز تعليل الحكم بعلتين وكثير من الفقهاء والمتكلمين يمنع ذلك فالنزاع فى ذلك يعود إلى نزاع تنوعي ونزاع فى العبارة وليس بنزاع تناقض ونظير ذلك النزاع فى تخصيص العلة فان هذا فيه خلاف مشهور بين الطوائف كلها من أصحابنا وغيرهم حتى يذكر ذلك روايتان عن أحمد
وأصل ذلك أن مسمى العلة قد يعنى به العلة الموجبة وهى التامة التى يمتنع تخلف الحكم عنها فهذه لايتصور تخصيصها ومتى انتقضت فسدت ويدخل فيها ما يسمى جزء العله وشرط الحكم
____________________
(20/167)
وعدم المانع فسائر ما يتوقف الحكم عليه يدخل فيها
وقد يعنى بالعله ما كان مقتضيا للحكم يعنى أن فيه معنى يقتضى الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجبا فيمتنع تخلف الحكم عنه فهذه قد يقف حكمها على ثبوت شروط وانتفاء موانع فاذا تخصصت فكان تخلف الحكم عنها لفقدان شرط أو وجود مانع لم يقدح فيها وعلى هذا فينجبر النقص بالفرق وإن كان التخلف عنها لا لفوات شرط ولا وجود مانع كان ذلك دليلا على أنها ليست بعلة إذ هي بهذا التقدير علة تامة إذا قدر أنها جميعها بشروطها وعدم موانعها موجودة حكما والعلة التامة يمتنع تخلف الحكم عنها فتخلفه يدل على أنها ليست علة تامة والمقصود من التنظير ان سؤال النقض الوارد على العلة مبنى على تخصيص العلة وهو ثبوت الوصف بدون الحكم وسؤال عدم التأثير عكسه وهو ثبوت الحكم بدون الوصف وهو ينافى عكس العلة كما أن الأول ينافى طردها والعكس مبني على تعليل الحكم بعلتين
وجمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم وان كانوا لا يشترطون الانعكاس فى العلل الشرعية ويجوزون تعليل الحكم الواحد بعلتين فهم مع ذلك يقولون العلة تفسد بعدم التأثير لأن ثبوت الحكم بدون هذا الوصف يبين أن هذا الوصف ليس علة اذا لم يخلف هذا
____________________
(20/168)
الوصف وصفا آخر يكون عله له فهم يوردون هذا السؤال فى الموضع الذي ليست العلة فيه الا علة واحدة إما لقيام الدليل على ذلك وإما لتسليم المستدل لذلك
والمقصود هنا أن نبين أن النزاع فى تعليل الحكم بعلتين يرجع إلى نزاع تنوع ونزاع فى العبارة لا إلى نزاع تناقض معنوي وذلك أن الحكم الواحد بالجنس والنوع لا خلاف فى جواز تعليله بعلتين يعنى أن بعض أنواعه أو أفراده يثبت بعلة وبعض أنواعه أو أفراده يثبت بعله أخرى كالارث الذي يثبت بالرحم وبالنكاح وبالولاء والملك الذي يثبت بالبيع والهبة والارث وحل الدم الذي يثبت بالردة والقتل والزنا ونواقض الوضوء وموجبات الغسل وغير ذلك
وأما التنازع بينهم فى الحكم المعين الواحد بالشخص مثل من لمس النساء ومس ذكره وبال هل يقال انتقاض وضوئه ثبت بعلل متعددة فيكون الحكم الواحد معللا بعلتين ومثل من قتل وارتد وزنا ومثل الربيبة إذا كانت محرمة بالرضاع كما قال النبى فى درة بنت أم سلمة لما قالت له أم حبيبة إنا نتحدث أنك ناكح درة بنت أم سلمة فقال ( بنت أبي سلمة ( فقالت نعم فقال ( إنها لو لم تكن ربيبتى فى حجري لما حلت لي لأنها بنت أخي من الرضاعة أرضعتنى وأبا سلمة ثويبة مولاة أبي لهب ( وكما قال أحمد
____________________
(20/169)
فى بعض ما يذكره هذا كلحم خنزير ميت حرام من وجهين وأمثال ذلك
فنقول لا نزاع بين الطائفتين فى أمثال هذه الأمور ان كل واحدة من العلتين مستقلة بالحكم فى حال الانفراد وأنه يجوز أن يقال إنه اجتمع لهذا الحكم علتان كل واحدة منهما مستقلة به إذا انفردت فهذا أيضا مما لا نزاع فيه وهو معنى قولهم يجوز تعليله بعلتين على البدل بلا نزاع
ولا يتنازع العقلاء أن العلتين إذا اجتمعتا لم يجز أن يقال إن الحكم الواحد ثبت بكل منهما حال الاجتماع على سبيل الاستقلال فان استقلال العلة بالحكم هو ثبوته بها دون غيرها فاذا قيل ثبت بهذه دون غيرها وثبت بهذه دون غيرها كان ذلك جمعا بين النقيضين وكان التقدير ثبت بهذه ولم يثبت بها وثبت بهذه ولم يثبت بها فكان ذلك جمعا بين إثبات التعليل بكل منهما وبين نفي التعليل عن كل منهما وهذا معنى ما يقال إن تعليله بكل منهما على سبيل الاستقلال ينفى ثبوته بواحدة منهما وما أفضى إثباته إلى نفيه كان باطلا
وهنا يتقابل النفاة والمثبتة والنزاع لفظى فتقول النفاة إثبات الحكم بهذه العلة على سبيل الاستقلال ينافى إثباته بالأخرى على سبيل الاستقلال وتقول المثبتة نحن لا نعنى بالاستقلال الاستقلال فى حال
____________________
(20/170)
الاجتماع وإنما نعنى أن الحكم ثبت بكل منهما وهي مستقلة به إذا انفردت
فهؤلاء لم ينازعوا الأولين فى أنهما حال إلاجتماع لم تستقل واحدة منهما به وأولئك لم ينازعوا هؤلاء في أن كل واحدة من العلتين مستقلة حال انفرادها
فهذا هو الكلام فى العلتين المجتمعتين
وأما الحكم الثابت حين اجتماعهما فقد يكون مختلفا كحل القتل الثابت بالردة وبالزنا وبالقصاص فان هذه الأحكام مختلفة غير متماثلة لا يسد كل واحد منها مسد الآخر وقد تكون الأحكام متماثلة كانتقاض الوضوء فالذين يمنعون تعليل الحكم بعلتين يقولون الثابت بالعلل أحكام متعددة لا حكم واحد لا سيما عند من سلم لهم على أحد قولي الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه إذا نوى التوضؤ أو الاغتسال من حدث بعض الاسباب لم يرتفع الحدث الآخر والخلاف معروف فى اجتماع ذلك فى الحدث الأصغر والاكبر وهو ينزع إلى اجتماع الامثال فى المحل الواحد وأن الامثال هل هي متضادة أم لا وفيه نزاع معروف
ومن يقول بتعليل الحكم الواحد بعلتين لا ينازع فى أنه إذا اجتمع
____________________
(20/171)
علتان كان الحكم أقوى وأوكد مما إذا انفردت إحداهما ولهذا إذا جاء تعليل الحكم الواحد بعلتين فى كلام الشارع أو الأئمة كان ذلك مذكورا لبيان توكيد ثبوت الحكم وقوته كقول أحمد في بعض ما يغلظ تحريمه هذا كلحم خنزير ميت فانه ذكر ذلك لتغليظ التحريم وتقويته وهذا أيضا يرجع إلى ان الايجاب والتحريم والاباحة هل يتفاوت فى نفسه فيكون ايجاب أعظم من إيجاب وتحريم أعظم من تحريم وهذا فيه أيضا نزاع والمشهور عند اكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم تجويز تفاوت ذلك ومنع منه طائفة منهم بن عقيل وغيرهم
وكذلك النزاع فى أنه هل يكون عقل اكمل من عقل وهو يشبه النزاع في أن التصديق والمعرفة التى فى القلب هل تتفاوت وقد ذكر فى ذلك روايتان عن أحمد والذي عليه أئمة السنة المخالفون للمرجئة أن جميع ذلك يتفاوت ويتفاضل وكذلك سائر صفات الحي من الحب والبغض والارادة والكراهة والسمع والبصر والشم والذوق واللمس والشبع والري والقدرة والعجز وغير ذلك فالنزاع فى هذا كالنزاع فى جواز اجتماع المثلين مثل سوادين وحلاوتين فانه لا نزاع أنه قد يكون احد السوادين أقوى واحدى الحلاوتين اقوى لكن هل يقال إنه اجتمع فى المحل سوادان وحلاوتان أو هو سواد واحد قوي وهذا أيضا نزاع لفظي
____________________
(20/172)
فقول من يقول إنه اجتمع في المحل حكمان كايجابين وتحريمين وإباحتين وهو شبيه بقول من يقول إجتمع سوادان وقول من يقول هو حكم واحد مؤكد كقول من يقول سواد واحد قوي وكلا القولين مقصودهما واحد فان التوكيد لا ينافى تعدد الامثال اذ التوكيد قد يكون بتكرير الامثال كقول النبى صلى الله عليه وسلم ( والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لا غزون قريشا ( وقول القائل ثم ثم وجاء زيد جاء زيد وأمثال ذلك فالقول بثبوت أحكام والقول بثبوت حكم قوي مؤكد هما سواء فى المعنى
ومن المعلوم أنه سواء قال القائل ثبت أحكام متعددة أو حكم قوي مؤكد فذلك المجموع لم يحصل الا بمجموع العلتين لم تستقل به إحداهما ولا تستقل به إحداهما لا في حال الاجتماع ولا فى حال الانفراد فكل منهما جزء من العلة التى لهذا المجموع لا علة له كما أنه من المعلوم ان كل واحدة من العلتين مستقلة بأصل الحكم الواحد حال انفرادها ولكن لفظ الواحد فيه إجمال كما أن في لفظ الاستقلال إجمالا فكما أن من أثبت استقلال العلة حال الانفراد لا يعارض من نفى استقلالها حال الاجتماع فكذلك من قال يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين إذا أراد به أن كلا منهما تستقل به حال الانفراد فهذا لا نزاع فيه
____________________
(20/173)
ومن قال ان المجموع الواحد الحاصل بمجموعهما لا يحصل بأحدهما فهذا لا نزاع فيه
ومن جعل هذا المجموع احكاما متعددة لم يعارض قول من جعله واحدا إذا عنى به وحدة النوع في المحل الواحد فيكون المقصود أن الحكم الواحد بالنوع تارة يكون شخصان منه فى محلين فهذا ظاهر وتارة يجتمع منه شخصان فى محل واحد فهما نوعان باعتبار أنفسهما وهما شخص واحد باعتبار محلهما فمن قال إن الحكم الحاصل بالعلتين حكم واحد فان أراد به نوعا واحدا فى عين واحدة فقد صدق ومن أراد به شخصين من نوع فى عين واحدة فقد صدق فصل
وقد تبين بذلك أن العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع وهذا معلوم بالضرورة البديهية بعد التصور فان الاستقلال ينافي الاشتراك إذ المستقل لا شريك له فالمجتمعان على أمر واحد لا يكون أحدهما مستقلا به وأن الحكم الثابت بعلتين سواء قيل هو أحكام أو حكم واحد مؤكد لا تستقل به إحداهما بل كل منهما جزء من علته لا علة له
____________________
(20/174)
وهكذا يقال في اجتماع الأدلة على المدلول الواحد أنها توجب علما مؤكدا أو علوما متماثلة ومن هنا يحصل بها من الايضاح والقوة مالا يحصل بالواحد وهذا داخل فى القاعدة الكلية وهو أن المؤثر الواحد سواء كان فاعلا بارادة واختيار أو بطبع أو كان داعيا إلى الفعل وباعثا عليه متى كان له شريك فى فعله وتأثيره كان معاونا ومظاهرا له ومنعه أن يكون مستقلا بالحكم منفردا به ولزم من ذلك حاجة كل منهما إلى الآخر وعدم استغنائه بنفسه فى فعله وأن الاشتراك موجب للافتقار مزيل للغنى فان المشتركين فى الفعل متعاونان عليه وأحدهما لا يجوز إذا لم يتغير بالاشتراك والانفراد أن يفعل وحده ما فعله هو والآخر فانه إذا فعل شيئا حال الانفراد وقدر أنه لم يتغير وأنه اجتمع بنظيره امتنع أن يكون مفعولهما حال الاشتراك هو مثل مفعول كل منهما حال الانفراد فان المفعول إذا لم يكن له وجود الا من الفاعل والفاعل حال انفراده له مفعول فاذا اجتمعا كان مفعولهما جميعا اكثر أو أكبر من مفعول أحدهما وإلا كان الزائد كالناقص بخلاف ما إذا تغير الفاعل كالانسان الذي يرفع هو وآخر خشبة أو يصنع طعاما ثم هو وحده مثل ذلك فان ذلك لا بد أن يكون بتغيير منه فى إرادته وحركته وآلاته ونحو ذلك وإلا فاذا استوى حالاه امتنع تساوي المفعولين حال الانفراد والاشتراك
____________________
(20/175)
وفى الجملة فكل من المشتركين فى مفعول فأحدهما مفتقر إلى الأخر فى وجود ذلك المفعول محتاج إليه فيه والا لم يكونا مشتركين لأن كلا منهما إما أن يكون مستقلا بالفعل منفردا به أو لايكون فإن كان مستقلا به منفردا به إمتنع أن يكون له فيه شريك أو معاون وإن لم يكن مستقلا منفردا به لم يكن المفعول به وحده بل به وبالأخر ولم يكن هو وحده كافيا فى وجود ذلك المفعول بل كان محتاجا إلى الأخر فى وجود ذلك المفعول مفتقرا إليه فيه
وهذا يقتضى أنه ليس رب ذلك المفعول ولا مالكه ولا خالقه بل هو شريك فيه
ويقتضى أنه لم يكن غنيا عن الشريك فى ذلك المفعول بل كان مفتقرا إليه فيه محتاجا إليه فيه
وذلك يقتضى عجزه وعدم قدرته عليه حال الانفراد أيضا كما نبهنا عليه من أن الانسان لا ينفرد بما شاركه فيه غيره وإن لم يتغير تغيرا يوجب تمام قدرته على ما شاركه فيه الغير وذلك أن الفاعل إذا كان حال الانفراد قادرا تام القدرة والتقدير انه مريد للمفعول إرادة جازمه إذ لو لم يرده إرادة جازمه لما وجد حال الانفراد ولا حال الاجتماع والاشتراك إذ الارادة التى ليست بجازمه لا يوجد مرادها الذى يفعله
____________________
(20/176)
المريد بحال والارادة الجازمه بلا قدرة لا يوجد مرادها والارادة الجازمة مع القدرة التامة تستلزم وجود المراد فلو كان أحد المشتركين تام القدرة تام الارادة لوجب وجود المفعول به وحده ووجوده به وحده يمنع وجوده بالأخر فيلزم إجتماع النقيضين وهو وجود المفعول به وحده وعدم وجود المفعول به وحده وأن يكون فاعلا غير فاعل وذلك ظاهر البطلان
وهذا التمانع ليس هو أن كل واحد من الفاعلين يمنع الآخر كما يقال إذا أراد أحدهما تحريك جسم والأخر تسكينه أو اماتة شخص والآخر إحياءه وإنما هو تمانع ذاتى وهو أنه تمانع اشتراك شريكين تامى القدرة والارادة فى مفعول هما عليه تاما القدرة والارادة فان من كان على الشيء تام القدرة وهو له تام الارادة وجب وجود المفعول به وحده وإذا كان الآخر كذلك وجب وجود المفعول به وهذان يتتابعان ويتمانعان إذ الاثبات يمنع النفى والنفى يمنع الاثبات تمانعا وتناقضا ذاتيا فتبين أن الاشتراك موجب لنقص الشريك فى نفس القدرة وإذا قدر إثنان مريدان لأمر من الأمور فلابد من أمرين
إما أن يكون المفعول الذي يفعله هذا ليس هو المفعول الذى يفعله الأخر ولكن كل منهما مستقل ببعض المفعول
____________________
(20/177)
وإما أن يكون المفعول الذى اشتركا فيه لا يقدر أحدهما على أن يفعله إذا انفرد الا أن يتجدد له قدره أكمل من القدرة التى كانت موجوده حال الاشتراك فاذا كان المفعول واحدا قد اختلط بعضه ببعض على وجه لا يمكن انفراد فاعل ببعضه وفاعل أخر ببعضه امتنع فيه اشتراك الامتياز كاشتراك بنى آدم فى مفعولاتهم التى يفعل هذا بعضها وهذا بعضها وامتنع فيه إشتراك الاختلاط الا مع عجز أحدهما ونقص قدرته وأنه ليس على شيء قدير وهذا الذى ذكرناه بقولنا أن الاشتراك موجب لنقص القدرة فصل
ثم يقال هذا أيضا يقتضى أن كلا منهما ليس واجبا بنفسه غنيا قويا بل مفتقرا إلى غيره فى ذاته وصفاته كما كان مفتقرا إليه في مفعولاته وذلك أنه إذا كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر فى مفعولاته عاجزا عن الانفراد بها إذ الاشتراك مستلزم لذلك كما تقدم فاما أن يكون قابلا للقدرة على الاستقلال بحيث يمكن ذلك فيه أولا يمكن
والثانى ممتنع لأنه إذا امتنع أن يكون الشيء مقدورا ممكنا لواحد
____________________
(20/178)
امتنع أن يكون مقدورا ممكنا لاثنين فان حال الشيء في كونه مقدورا ممكنا لا يختلف بتعدد القادر عليه وتوحده فاذا امتنع أن يكون مفعولا مقدورا لواحد امتنع أن يكون مفعولا مقدورا لاثنين وإذا جاز أن يكون مفعولا مقدورا عليه لاثنين هو ممكن جاز أن يكون أيضا لواحد
وهذا بين إذا كان الامكان والامتناع لمعنى فى الممكن المفعول المقدور عليه إذ صفات ذاته لا تختلف فى الحال وكذلك إذا كان لمعنى فى القادر فان القدرة القائمة باثنين لا يمتنع أن تقوم بواحد بل امكان ذلك معلوم ببديهة العقل فان من المعلوم ببديهة العقل أن الصفات بأسرها من القدرة وغيرها كل ما كان محلها متحدا مجتمعا كان أكمل لها في أن يكون متعددا متفرقا ولهذا كان الاجتماع والاشتراك فى المخلوقات يوجب لها من القوة والقدرة مالا يحصل لها إذا تفرقت وانفردت وان كانت احوالها باقية بل الأشخاص والاعضاء وغيرها من الاجسام المفترقة قد قام بكل منها قدرة فإذا قدر إتحادها واجتماعها كانت تلك القدرة أقوى واكمل لأنه حصل لها من الاتحاد والاجتماع بحسب الامكان ما لم يكن حين الافتراق والتعداد
وهذا يبين أن القدرة القائمة باثنين إذا قدر أن ذينك الاثنين كانا شيئا واحدا تكون القدرة أكمل فكيف لا تكون مساوية للقدرة
____________________
(20/179)
القائمة بمحلين وإذا كان من المعلوم أن المحلين المتباينين اللذين قام بهما قدرتان إذا قدر أنهما محل واحد وأن القدرتين قامتا به لم تنقص القدرة بذلك بل تزيد علم أن المفعول الممكن المقدور عليه لقادرين منفصلين إذا قدر أنهما بعينهما قادر واحد قد قام به ما قام بهما لم ينقص بذلك بل يزيد فعلم أنه يمكن أن يكون كل منهما قابلا للقدرة على الاستقلال فإن ذلك ممكن فيه
فتبين أنه ليس يمكن فى المشتركين على المفعول الواحد أن يكون كل منهما قادرا عليه بل من الممكن أن يكونا شيئا واحدا قادرا عليه فتبين أن كلا منهما يمكن أن يكون أكمل مما هو عليه وأن يكون بصفة أخرى وإذا كان يمكن فى كل منهما أن تتغير ذاته وصفاته ومعلوم أنه هو لا يمكن أن يكمل نفسه وحده ويغيرها إذ التقدير أنه عاجز عن الانفراد بمفعول منفصل عنه فان يكون عاجزا عن تكميل نفسه وتغييرها أولى واذا كان هذا يمكن أن يتغير ويكمل وهو لا يمكنه ذلك بنفسه لم يكن واجب الوجود بنفسه بل يكون فيه إمكان وافتقار إلى غيره والتقدير أنه واجب الوجود بنفسه ( غير واجب الوجود بنفسه ) فيكون واجبا ممكنا وهذا تناقض اذ ما كان واجب الوجود بنفسه تكون نفسه كافية فى حقيقة ذاته وصفاته لا يكون فى شيء من ذاته وأفعاله وصفاته مفتقرا إلى غيره إذ ذلك كله داخل فى مسمى ذاته بل ويجب أن لا يكون مفتقرا إلى غيره فى شيء من أفعاله ومفعولاته فان أفعاله القائمة به داخلة فى
____________________
(20/180)
مسمى نفسه وافتقاره إلى غيره فى بعض المفعولات يوجب افتقاره فى فعله وصفته القائمة به إذ مفعوله صدر عن ذلك فلو كانت ذاته كافية غنية لم تفتقر إلى غيره فى فعلها فافتقاره إلى غيره بوجه من الوجوه دليل عدم غناه وعلى حاجته إلى الغير وذلك هو الامكان المناقض لكونه واجب الوجود بنفسه
ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين والغنى عن الغير من خصائص رب العالمين كان الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين وكان التنزه عن شريك فى الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين فليس فى المخلوقات ما هو مستقل بشيء من المفعولات وليس فيها ما هو وحده عله تامه وليس فيها ما هو مستغنيا عن الشريك فى شيء من المفعولات بل لا يكون فى العالم شيء موجود عن بعض الأسباب إلا يشاركه سبب آخر له فيكون وان سمي علة علة مقتضية سببية لا علة تامة ويكون كل منهما شرطا للآخر
كما أنه ليس فى العالم سبب إلا وله مانع يمنعه فى الفعل فكل ما فى المخلوق مما يسمى علة أو سببا أو قادرا أو فاعلا أو مؤثرا فله شريك هو له كالشرط وله معارض هو له مانع وضد وقد قال سبحانه { ومن كل شيء خلقنا زوجين } والزوج يراد به النظير المماثل والضد المخالف
____________________
(20/181)
وهذا كثير فما من مخلوق إلا له شريك وند والرب سبحانه وحده هو الذى لا شريك له ولا ند ولا مثل له بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا ولا ربا مطلقا ونحو ذلك لأن ذلك يقتضى الاستقلال والانفراد بالمفعول المصنوع وليس ذلك الا لله وحده
ولهذا وان تنازع بعض الناس فى كون العلة يكون ذات أوصاف وادعى أن العلة لا تكون إلا ذات وصف واحد فان اكثر الناس خالفوا فى ذلك وقالوا يجوز أن تكون ذات أوصاف بل قيل لا يكون فى المخلوق علة ذات وصف واحد إذ ( ليس ) فى المخلوق ما يكون وحده عله ولا يكون فى المخلوق علة إلا ما كان مركبا من أمرين فصاعدا فليس فى المخلوقات واحد يصدر عنه شيء فضلا عن أن يقال الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بل لا يصدر من المخلوق شيء إلا عن اثنين فصاعدا
وأما الواحد الذى يفعل وحده فليس إلا الله فكما أن الوحدانية واجبة له لازمة له فالمشاركة واجبة للمخلوق لازمة له والوحدانية مستلزمة للكمال والكمال مستلزم لها والاشتراك مستلزم للنقصان والنقصان مستلزم له والوحدانية مستلزمة للغنى عن الغير والقيام بنفسه ووجوبه بنفسه وهذه الأمور من الغنى والوجوب بالنفس
____________________
(20/182)
والقيام بالنفس مستلزمة للوحدانية والمشاركة مستلزمة للفقر إلى الغير والامكان بالنفس وعدم القيام بالنفس وكذلك الفقر والامكان وعدم القيام بالنفس مستلزم للاشتراك
فهذه وأمثالها من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها وهي من دلائل إمكان المخلوقات المشهودات وفقرها وأنها مربوبة فهي من أدلة إثبات الصانع لأن ما فيها من الافتراق والتعداد والاشتراك يوجب إفتقارها وإمكانها والممكن المفتقر لابد له من واجب غني بنفسه وإلا لم يوجد ولو فرض تسلسل الممكنات المفتقرات فهي بمجموعها ممكنة والممكن قد علم بالاضطرار أنه مفتقر فى وجوده إلى غيره فكل ما يعلم أنه ممكن فقير فانه يعلم أنه فقير أيضا فى وجوده إلى غيره فلابد من غنى بنفسه واجب الوجود بنفسه وإلا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال وهذه المعاني تدل على توحيد الربوبية وعلى توحيد الالهية وهو التوحيد الواجب الكامل الذي جاء به القرآن لوجوه قد ذكرنا منها ما ذكرنا فى غير هذا الموضع مثل أن المتحركات لا بد لها من حركة إرادية ولابد للارادة من مراد لنفسه وذلك هو الاله والمخلوق يمتنع أن يكون مرادا لنفسه كما يمتنع أن يكون فاعلا بنفسه فاذا امتنع أن يكون فاعلان بأنفسهما إمتنع أن يكون مرادان بأنفسهما
____________________
(20/183)
وقال شيخ الاسلام فصل
المنحرفون من اتباع الأئمة فى الأصول والفروع كبعض الخراسانيين من أهل جيلان وغيرهم المنتسبين إلى احمد وغير أحمد انحرافهم انواع
أحدها قول لم يقله الامام ولا أحد من المعروفين من أصحابه بالعلم كما يقوله بعضهم من قدم روح بني آدم ونور الشمس والقمر والنيران وقال بعض متأخريهم بقدم كلام الآدميين وخرس الناس إذا رفع القرآن وتكفير أهل الرأي ولعن أبى فلان وقدم مداد المصحف
الثاني قول قاله بعض علماء أصحابه وغلط فيه كقدم صوت العبد ورواية أحاديث ضعيفة يحتج فيها بالسنة فى الصفات والقدر والقرآن والفضائل ونحو ذلك
____________________
(20/184)
الثالث قول قاله الامام فزيد عليه قدرا أو نوعا كتكفيره نوعا من أهل البدع كالجهمية فيجعل البدع نوعا واحدا حتى يدخل فيه المرجئة والقدرية أو ذمه لأصحاب الرأي بمخالفة الحديث والارجاء فيخرج ذلك إلى التكفير واللعن أو رده لشهادة الداعية وروايته وغير الداعية فى بعض البدع الغليظة فيعتقد رد خبرهم مطلقا مع نصوصه الصرائح بخلافه وكخروج من خرج فى بعض الصفات إلى زيادة من التشبيه
الرابع أن يفهم من كلامه ما لم يرده أو ينقل عنه ما لم يقله
الخامس أن يجعل كلامه عاما أو مطلقا وليس كذلك ثم قد يكون فى اللفظ إطلاق أو عموم فيكون لهم فيه بعض العذر وقد لا يكون كاطلاقه تكفير الجهمية الخلقية مع أنه مشروط بشروط انتفت فيمن ترحم عليه من الذين امتحنوه وهم رؤوس الجهمية
السادس أن يكون عنه فى المسألة اختلاف فيتمسكون بالقول المرجوح
السابع أن لا يكون قد قال أو نقل عنه ما يزيل شبهتهم مع كون لفظه محتملا لها
____________________
(20/185)
الثامن أن يكون قوله مشتملا على خطأ
فالوجوه الستة تبين من مذهبه نفسه أنهم خالفوه وهو الحق والسابع خالفوا الحق وإن لم يعرف مذهبه نفيا وإثباتا والثامن خالفوا الحق وإن وافقوا مذهبه فالقسمة ثلاثية لآنهم إذا خالفوا الحق فاما أن يكونوا قد خالفوه أيضا أو وافقوه أو لم يوافقوه ولم يخالفوه لانتفاء قوله في ذلك وكذلك إذا وافقوا الحق فاما أن يوافقوه هو أو يخالفوه أو ينتفي الأمران
وأهل البدع فى غير الحنبلية أكثر منهم فى الحنبلية بوجوه كثيرة لأن نصوص أحمد فى تفاصيل السنة ونفى البدع أكثر من غيره بكثير فالمبتدعة المنتسبون إلى غيره إذا كانوا جهمية أو قدرية أو شيعة أو مرجئة لم يكن ذلك مذهبا للامام إلا فى الارجاء فانه قول أبى فلان وأما بعض التجهم فاختلف النقل عنه ولذلك اختلف اصحابه المنتسبون إليه ما بين سنية وجهمية ذكور وإناث مشبهة ومجسمة لأن أصوله لا تنفي البدع وإن لم تثبتها
وفى الحنبلية أيضا مبتدعة وإن كانت البدعة فى غيرهم أكثر وبدعتهم غالبا فى زيادة الاثبات فى حق الله وفى زيادة الانكار على مخالفهم بالتكفير وغيره لأن أحمد كان مثبتا لما جاءت به السنة منكرا على من خالفها مصيبا فى غالب الأمور مختلفا عنه فى البعض ومخالفا فى البعض
____________________
(20/186)
واما بدعة غيرهم فقد تكون أشد من بدعة مبتدعهم فى زيادة الاثبات والانكار وقد تكون في النفي وهو الأغلب كالجهمية والقدرية والمرجئة والرافضة وأما زيادة الانكار من غيرهم على المخالف من تكفير وتفسيق فكثير
والقسم الثالث من البدع الخلو عن السنة نفيا وإثباتا وترك الأمر بها والنهي عن مخالفتها وهو كثير فى المتفقهة والمتصوفة
____________________
(20/187)
وقال رحمه الله تعالى فصل
المتكلم باللفظ العام لابد أن يقوم بقلبه معنى عام فان اللفظ لابد له من معنى ومن قال العموم من عوارض الألفاظ دون المعانى فما أراد والله أعلم إلا المعانى الخارجة عن الذهن كالعطاء والمطر على أن قوله مرجوح فاذا حكم بحكم عام لمسمى من أمر أو نهي أو خبر سلب أو ايجاب فهذا لابد أن يستشعر ذلك المعنى العام والحكم عليه ولا يجب أن يتصور الأفراد من جهة تميز بعضها عن بعض بل قد لا يتصور ذلك إذا كانت مما لا ينحصر للبشر وإنما يتصورها ويحكم عليها من جهة المعنى العام المشترك بينها سواء كانت صيغة العموم اسم جمع أو اسم واحد فانه لا بد أن يعم الاسم لتلك المسميات لفظا ومعنى فهو يحكم عليها باعتبار القدر المشترك العام بينها وقد يستحضر أحيانا بعض آحاد ذلك العام بخصوصه أو بعض الأنواع بخصوصه وقد يستحضر الجميع إن كان مما يحصر وقد لا يستحضر ذلك بل يكون عالما بالأفراد على وجه كلي جملة
____________________
(20/188)
لا تفصيلا ثم إن ذلك الحكم يتخلف عن بعض تلك الآحاد لمعارض
مثل أن يقول أعط لكل فقير درهما فاذا قيل له فان كان كافرا أو عدوا فقد ينهى عن الاعطاء
فهذا الذي أراد دخوله فى العموم إما أن يريد دخوله بخصوصه أو لمجرد شمول المعنى له من غير استشعار خصوصه بحيث لم يقم به ما يمنع الدخول مع قيام المقتضى للدخول وأما الأول فقد أراد دخوله بعينه فهذا نظير ما ورد عليه اللفظ العام من السبب وهذا إحدى فوائد عطف الخاص على العام وهو ثبوت المعنى المشترك فيه من غير معارض وإن كان من فوائده أن يتبين دخوله بعموم المعنى المشترك وبخصوص المعنى المميز وإن لم يكن الحكم ثابتا للمشترك
وأما الذى لم يرد دخوله في العموم فأما أن يكون حين التكلم بالعموم قد استشعر قيام المعارض فيه فذاك يمنعه عن أن يكون أراد دخوله فى حكم المعنى العام مع قيام المقتضى فيه وهو المعنى العام وإما أن يكون قد استشعر ذلك قبل التكلم بالعام وذهل وقت التكلم بالعموم عن دخوله وخروجه فالأول كالمخصص المقارن وهذا كالمخصص السابق وإما أن يستشعر ذلك المعنى بعد تكلمه بالعام مع
____________________
(20/189)
علمه بأنه لا يريد بالعموم ما قام فيه ذلك المعارض فهنا قد يقال قد دخل في اللفظ العام من غير تخصيص واستشعار المانع من إرادته فيما بعد يكون نسخا لأن المقتضى للدخول فى الارادة هو ثبوت ذلك المعنى فيه وهو حاصل وهذا المعنى إنما يصلح أن يكون مانعا من الارادة إذا استشعر حين الخطاب ولم يكن مستشعرا
ومن قال هذا فقد يقول فى استشعار المانع السابق لا يؤثر إلا إذا قارن بل إذا غفل وقت التعميم عن إخراج شيء دخل في الارادة العامة كما دخل فى استشعار المعنى العام إذ التخصيص بيان ما لم يرد باللفظ العام وهذا الفرد قد أريد باللفظ العام لأنه لا يشترط إرادته بخصوصه وإنما يراد إرادة القدر المشترك وذاك حاصل
وقد يقال بل هذا لم يرده بالاسم العام لأنه إنما أراد بالاسم العام ما لم يقم فيه معارض وكل من الأمرين وإن كان لم يتصور المعارض مفصلا ذلك المعنى فمراده أن ذلك المعنى مقتض لارادته لا موجب لثبوت الحكم فيه بمجرد ذلك المعنى من غير التفات إلى المعارض وإذا كان مراده أن ذلك المعنى مقتض فاذا عارض ما هو عنده مانع لم يكن قد أراده فمدار الأمر على أن ثبوت المعنى العام يقتضي ثبوت الارادة فى مراده إلا أن يزول عن بعضها أو ثبوت المقتضى لأرادة الأفراد والمقتضى يقتضى ثبوت الأفراد إذا لم يعارضه معارض
____________________
(20/190)
وعلى هذا فلو لم يستشعر المعارض المانع لكن إذا استشعره لعلم أنه لا يريده هل يقال لم يتناوله حكمه وإرادته من جهة المعنى وإن تناوله لفظه ومعنى لفظه العام قد يقال ذلك فانه أراد المعنى الكلي المشترك باعتبار معناه العام ولم يرد من الافراد ما فيه معنى معارض لذلك المعنى العام راجحا عليه عنده ثم لا يكلف استشعار الموانع مطلقا فى الأنواع والأشخاص لكثرتها ولو استشعر بعضها لم يحسن التعرض لنفي كل مانع مانع منها فان الكلام فيه هجنة ولكنة وطول وعى فقد يتعسر أو يتعذر علم الموانع أو بيانها أو هما جميعا فهنا ما قام بالأفراد من الخصائص المعارضة مانع من إرادة المتكلم وإن كان لفظه ومعناه العام يشمل ذلك باعتبار القدر المشترك
وعلى هذا فاذا كان ذلك المانع يحتمل أنه يكون عنده مانعا ويحتمل أن لا يكون فهل نحكم بدخوله لقيام المقتضى وانتفاء المخصص بالأصل أو نقف فيه لأن المقتضى قائم والمعارض محتمل فيه نظر فان لصاحب القول الثانى أن يقول هذا المانع يمنع أن يكون المقتضى مقتضيا مع قيام هذا المانع وللأول أن يقول بل اقتضاؤه ثابت والمانع مشكوك فيه والأظهر التوقف فى إرادة المتكلم حينئذ
____________________
(20/191)
وقال شيخ الاسلام فصل (
قاعدة ( الحسنات تعلل بعلتين احداهما ما تتضمنه من جلب المصلحة والمنفعة والثانية ما تتضمنه من دفع المفسدة والمضرة
وكذلك السيئات تعلل بعلتين إحداهما ما تتضمنه من المفسدة والمضرة والثانية ما تتضمنه من الصد عن المنفعة والمصلحة
مثال ذلك قوله تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر } فبين الوجهين جميعا فقوله { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } بيان لما تتضمنه من دفع المفاسد والمضار فان النفس إذا قام بها ذكر الله ودعاؤه لا سيما على وجه الخصوص أكسبها ذلك صبغة صالحة تنهاها عن الفحشاء والمنكر كما يحسه الانسان من نفسه ولهذا قال تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة } فان القلب يحصل له من الفرح والسرور وقرة العين ما يغنيه عن
____________________
(20/192)
اللذات المكروهة ويحصل له من الخشية والتعظيم لله والمهابة وكل واحد من رجائه وخشيته ومحبته ناه ينهاه
وقوله { ولذكر الله أكبر } بيان لما فيها من المنفعة والمصلحة أي ذكر الله الذي فيها أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر فان هذا هو المقصود لنفسه كما قال { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } والأول تابع فهذه المنفعة والمصلحة أعظم من دفع تلك المفسدة ولهذا كان المؤمن الفاسق يؤول أمره إلى الرحمة والمنافق المتعبد أمره صائر إلى الشقاء فان الايمان بالله ورسوله هو جماع السعادة وأصلها
ومن ظن أن المعنى ولذكر الله أكبر من الصلاة فقد أخطأ فان الصلاة أفضل من الذكر المجرد بالنص والاجماع والصلاة ذكر الله لكنها ذكر على أكمل الوجوه فكيف يفضل ذكر الله المطلق على أفضل أنواعه ومثال ذلك قوله ( عليكم بقيام الليل فانه قربة إلى ربكم ودأب الصالحين قبلكم ومنهاة عن الاثم ومكفرة للسيئات ومطردة لداعى الحسد ( فبين ما فيه من المصلحة بالقرب إلى الله وموافقة الصالحين ومن دفع المفسدة بالنهي عن المستقبل من السيئات والتكفير للماضي منها وهو نظير الآية
____________________
(20/193)
وكذلك قوله { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } فهذا دفع المؤذي ثم قال { ذلك ذكرى للذاكرين } فهذا مصلحة وفضائل الأعمال وثوابها وفوائدها ومنافعها كثير فى الكتاب والسنة من هذا النمط كقوله فى الجهاد { يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار } إلى قوله { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب } فبين ما فيه من دفع مفسدة الذنوب ومن حصول مصلحة الرحمة بالجنة فهذا فى الآخرة وفى الدنيا النصر والفتح وهما أيضا دفع المضرة وحصول المنفعة ونظائره كثيرة
وأما من السيئات فكقوله { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } فبين فيه العلتين
إحداهما حصول مفسدة العداوة الظاهرة والبغضاء الباطنة
والثانية المنع من المصلحة التى هي رأس السعادة وهي ذكر الله والصلاة فيصد عن المأمور به إيجابا أو استحبابا
وبهذا المعنى عللوا أيضا كراهة أنواع الميسر من الشطرنج ونحوه
____________________
(20/194)
فانه يورث هذه المفسدة ويصد عن المأمور به وكذلك الغناء فانه يورث القلب نفاقا ويدعو إلى الزنى ويصد القلب عن ما أمر به من العلم النافع والعمل الصالح فيدعو إلى السيئات وينهى عن الحسنات مع أنه لا فائدة فيه والمستثنى منه عارضه ما أزال مفسدته كنظائره
وكذلك البدع الاعتقادية والعملية تتضمن ترك الحق المشروع الذى يصد عنه من الكلم الطيب والعمل الصالح إما بالشغل عنه وإما بالمناقضة وتتضمن أيضا حصول ما فيها من مفسدة الباطل اعتقادا وعملا وهذا باب واسع إذا تؤمل انفتح به كثير من معاني الدين
____________________
(20/195)
وقال فصل
قاعدة شرعية شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والاطلاق لا يقتضى أن يكون مشروعا بوصف الخصوص والتقييد فان العام والمطلق لا يدل على ما يختص بعض أفراده ويقيد بعضها فلا يقتضى أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعا ولا مأمورا به فان كان فى الأدلة ما يكره ذلك الخصوص والتقييد كره وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه استحب وإلا بقى غير مستحب ولا مكروه
مثال ذلك أن الله شرع دعاءه وذكره شرعا مطلقا عاما فقال { اذكروا الله ذكرا كثيرا } وقال { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } ونحو ذلك من النصوص فالاجتماع للدعاء والذكر فى مكان معين أو زمان معين أو الاجتماع لذلك تقييد للذكر والدعاء لا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة بخصوصه وتقييده لكن تتناوله لما فيه من القدر المشترك فان دلت أدلة الشرع على استحباب ذلك كالذكر
____________________
(20/196)
والدعاء يوم عرفة بعرفة أو الذكر والدعاء المشروعين فى الصلوات الخمس والأعياد والجمع وطرفي النهار وعند الطعام والمنام واللباس ودخول المسجد والخروج منه والأذان والتلبية وعلى الصفا والمروة ونحو ذلك صار ذلك الوصف الخاص مستحبا مشروعا استحبابا زائدا على الاستحباب العام المطلق
وفى مثل هذا يعطف الخاص على العام فانه مشروع بالعموم والخصوص كصوم يوم الاثنين والخميس بالنسبة إلى عموم الصوم وإن دلت أدلة الشرع على كراهة ذلك كان مكروها مثل اتخاذ ما ليس بمسنون سنة دائمة فان المداومة فى الجماعات على غير السنن المشروعة بدعة كالاذان فى العيدين والقنوت فى الصلوات الخمس والدعاء المجتمع عليه أدبار الصلوات الخمس أو البردين منها والتعريف المداوم عليه فى الأمصار والمداومة على الاجتماع لصلاة تطوع أو قراءة أو ذكر كل ليلة ونحو ذلك فان مضاهاة غير المسنون بالمسنون بدعة مكروهة كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار والقياس
وإن لم يكن فى الخصوص أمر ولا نهي بقي على وصف الاطلاق كفعلها أحيانا على غير وجه المداومة مثل التعريف أحيانا كما فعلت الصحابة والاجتماع أحيانا لمن يقرأ لهم أو على ذكر أو دعاء
____________________
(20/197)
والجهر ببعض الأذكار فى الصلاة كما جهر عمر بالاستفتاح وبن عباس بقراءة الفاتحة وكذلك الجهر بالبسملة أحيانا
وبعض هذا القسم ملحق بالأول فيكون الخصوص مأمورا به كالقنوت فى النوازل وبعضها ينفى مطلقا ففعل الطاعة المأمور بها مطلقا حسن وإيجاب ما ليس فيه سنة مكروه
وهذه القاعدة اذا جمعت نظائرها نفعت وتميز بها ما هو البدع من العبادات التى يشرع جنسها من الصلاة والذكر والقراءة وأنها قد تميز بوصف اختصاص تبقى مكروهة لأجله أو محرمة كصوم يومي العيدين والصلاة فى أوقات النهي كما قد تتميز بوصف اختصاص تكون واجبة لأجله أو مستحبة كالصلوات الخمس والسنن الرواتب ولهذا قد يقع من خلقه العبادة المطلقة والترغيب فيها فى أن شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما قد يقع من خلقه العلم المجرد فى النهي عن بعض المستحب أو ترك الترغيب ولهذا لما عاب الله على المشركين أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله وهذا كثير فى المتصوفة من يصل ببدع الأمر لشرع الدين وفى المتفقهة من يصل ببدع التحريم إلى الكفر
____________________
(20/198)
وقال فصل (
الايجاب والتحريم ( قد يكون نعمة وقد يكون عقوبة وقد يكون محنة
فالأول كايجاب الايمان والمعروف وتحريم الكفر والمنكر وهو الذى أثبته القائلون بالحسن والقبح العقليين والعقوبة كقوله { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وقوله { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } إلى قوله { ذلك جزيناهم ببغيهم } وقوله ( ويضع عنهم اصرهم والأغلال التى كانت عليهم ) فسماها آصارا وأغلالا والآصار فى الايجاب والأغلال فى التحريم وقوله { ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } ويشهد له قوله { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } فان هذا النفي العام ينفي كل ما يسمى حرجا
____________________
(20/199)
والحرج الضيق فما أوجب الله ما يضيق ولا حرم ما يضيق وضده السعة والحرج مثل الغل وهو الذى لا يمكنه الخروج منه مع حاجته إلى الخروج وأما المحنة فمثل قوله { إن الله مبتليكم بنهر } الآية
ثم ذلك قد يكون بانزال الخطاب وهذا لا يكون الا فى زمن الأنبياء وقد انقطع وقد يكون باظهار الخطاب لمن لم يكن سمعه ثم سمعه وقد يكون باعتقاد نزول الخطاب أو معناه وإن كان إعتقادا مخطئا لآن الحكم الظاهر تابع لاعتقاد المكلف
فالتكليف الشرعى إما أن يكون باطنا وظاهرا مثل الذي تيقن أنه منزل من عند الله وإما أن يكون ظاهرا مثل الذي يعتقد أن حكم الله هو الايجاب أو التحريم إما اجتهادا وإما تقليدا وإما جهلا مركبا بأن نصب سبب يدل على ذلك ظاهرا دون ما يعارضه تكليف ظاهر إذ المجتهد المخطىء مصيب فى الظاهر لما أمر به وهو مطيع فى ذلك هذا من جهة الشرع وقد يكون من جهة الكون بأن يخلق سبحانه ما يقتضى وجود التحريم الثابت بالخطاب والوجوب الثابت بالخطاب كقوله { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } فأخبر أنه
____________________
(20/200)
بلاهم بفسقهم حيث أتى بالحيتان يوم التحريم ومنعها يوم الاباحة كما يؤتى المحرم المبتلى بالصيد يوم إحرامه ولا يؤتى به يوم حله أو يؤتى بمن يعامله ربا ولا يؤتى بمن يعامله بيعا
ومن ذلك مجيء الاباحة والاسقاط نعمة وهذا كثير كقوله { الآن خفف الله عنكم } وقد تقدم نظائرها
____________________
(20/201)
وقال رحمه الله
أما فى المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد حتى على العامة والنساء حتى يوجبوه فى المسائل التى تنازع فيها فضلاء الأمة قالوا لأن العلم بها واجب ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص
وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك فان ما وجب علمه انما يجب على من يقدر على تحصيل العلم وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق فكيف يكلف العلم بها وأيضا فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص بل بطرق أخر من اضطرار وكشف وتقليد من يعلم أنه مصيب وغير ذلك
وبازاء هؤلاء قوم من المحدثة والفقهاء والعامة قد يحرمون النظر فى دقيق العلم والاستدلال والكلام فيه حتى ذوى المعرفة به وأهل الحاجة إليه من أهله ويوجبون التقليد فى هذه المسائل أو الاعراض عن تفصيلها
____________________
(20/202)
وهذا ليس بجيد أيضا فان العلم النافع مستحب وإنما يكره إذا كان كلاما بغير علم أو حيث يضر فاذا كان كلاما بعلم ولا مضرة فيه فلا بأس به وإن كان نافعا فهو مستحب فلا إطلاق القول بالوجوب صحيحا ولا إطلاق القول بالتحريم صحيحا
وكذلك المسائل الفروعية من غالية المتكلمة والمتفقهة من يوجب النظر والاجتهاد فيها على كل أحد حتى على العامة وهذا ضعيف لأنه لو كان طلب علمها واجبا على الأعيان فانما يجب مع القدرة والقدرة على معرفتها من الأدلة المفصلة تتعذر أو تتعسر على أكثر العامة
وبازائهم من أتباع المذاهب من يوجب التقليد فيها على جميع من بعد الأئمة علمائهم وعوامهم
ومن هؤلاء من يوجب التقليد بعد عصر أبى حنيفة ومالك مطلقا ثم هل يجب على كل واحد اتباع شخص معين من الأئمة يقلده فى عزائمه ورخصه على وجهين وهذان الوجهان ذكرهما أصحاب أحمد والشافعي لكن هل يجب على العامي ذلك
والذى عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز فى الجملة والتقليد
____________________
(20/203)
جائز فى الجملة لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد هذا فيه خلاف والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد إما لتكافؤ الأدلة وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد وإما لعدم ظهور دليل له فانه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد كما لو عجز عن الطهارة بالماء
وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد فى بعض المسائل جاز له الاجتهاد فان الاجتهاد منصب يقبل التجزى والانقسام فالعبرة بالقدرة والعجز وقد يكون الرجل قادرا فى بعض عاجزا فى بعض لكن القدرة على الاجتهاد لا تكون الا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب فأما مسألة واحدة من فن فيبعد الاجتهاد فيها والله سبحانه أعلم
____________________
(20/204)
وقال شيخ الاسلام فصل
وأما حلف كل واحد أن أفضل المذاهب مذهب فلان فهذا إن كان كل منهم يعتقد أن الأمر كما حلف عليه ففيها قولان أظهرهما لا يحنث واحد منهم والثانى يحنثون إلا واحدا منهم فان حنثه مشكوك فيه يجوز أن يكون صادقا ويجوز كونهم سواء فيحنثون كلهم وإذا حنثوا إلا واحدا منهم وقد وقع الشك فى عينه فهي كما لو قال أحد الزوجين إن كان غرابا فزوجته طالق وقال الآخر إن لم يكن غرابا فزوجته طالق وهذه فيها قولان فى مذهب أحمد وغيره
أحدهما لا يقع بواحد منهما طلاق وهو مذهب الشافعي وغيره لكن يكف كل منهما عن وطىء زوجته قيل حتما وقيل ردعا
والقول الثانى انه يقع بأحدهما كما لو كان الحالف واحدا وأوقعه
____________________
(20/205)
باحدى زوجتيه وعلى هذا فهل تخرج المطلقة بالقرعة أو يوقف الأمر على قولين أيضا فى مذهب أحمد والوقف قول الشافعي
والصحيح أن من حلف على شيء يعتقده كما لو حلف عليه فتبين بخلافه فلا طلاق عليه وأما مالك فانه يحنث الجميع ولو تبين صدق الحالف بناء على أصله فيمن حلف على ما لا يعلم صحته كما لو حلف أنه يدخل الجنة والنزاع فيها كالنزاع فى أصل تلك المسألة
وجمهور العلماء لا يوقعون الطلاق لأجل الشك ومالك يوقعه لعدم علم الحالف بما حلف عليه فهذه كما لو حلف واحد على ما لا يعلمه ولم يناقضه غيره مثل أن يحلف أن مذهب فلان أفضل وهو غير عالم بذلك
____________________
(20/206)
وسئل
عمن يقلد بعض العلماء فى مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه أم يهجر وكذلك من يعمل بأحد القولين
فأجاب الحمد لله مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه وإذا كان فى المسألة قولان فان كان الانسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم فى بيان أرجح القولين والله أعلم
____________________
(20/207)
وسئل رضي الله عنه
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فى رجل سئل إيش مذهبك فقال محمدي أتبع كتاب الله وسنة رسوله محمد فقيل له ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبا ومن لا مذهب له فهو شيطان فقال إيش كان مذهب أبى بكر الصديق والخلفاء بعده رضي الله عنهم فقيل له لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبا من هذه المذاهب فأيهما المصيب أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول وهؤلاء أولوا الأمر الذين أمر الله بطاعتهم فى قوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } إنما تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله لا استقلالا ثم قال { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
وإذا نزلت بالمسلم نازلة فانه يستفتى من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله
____________________
(20/208)
ورسوله من أي مذهب كان ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء فى كل ما يقول ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول في كل ما يوجبه ويخبر به بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك الا رسول الله صلى الله عليه وسلم
واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له ليس هو مما يجب على كل أحد اذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق بل كل أحد عليه أن يتقى الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله فيفعل المأمور ويترك المحظور والله أعلم
____________________
(20/209)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن
رجل تفقه فى مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها فهل يجوز له العمل بذلك المذهب أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ويخالف مذهبه
فأجاب
الحمد لله قد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه فى كل ما يأمر به وينهى عنه الا رسول الله حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول أطيعونى ما أطعت الله فاذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم
واتفقوا كلهم على أنه ليس احد معصوما فى كل ما يأمر به وينهى
____________________
(20/210)
عنه الا رسول الله ولهذا قال غير واحد من الأئمة كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك الا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهؤلاء الائمة الاربعة رضى الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم فى كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم فقال ابو حنيفة هذا رأيى وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأى خير منه قبلناه ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه ابو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضراوات ومسألة الأجناس فاخبره مالك بما تدل عليه السنة فى ذلك فقال رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبى ما رايت لرجع إلى قولك كما رجعت
ومالك كان يقول انما انا بشر اصيب واخطىء فاعرضوا قولى على الكتاب والسنة أوكلاما هذا معناه
والشافعى كان يقول اذا صح الحديث فاضربوا بقولى الحائط واذا رايت الحجة موضوعه على الطريق فهي قولى وفى مختصر المزنى لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعى لمن اراد معرفة مذهبه قال مع اعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء والامام احمد كان يقول لا تقلدونى ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعى
____________________
(20/211)
ولاالثورى وتعلموا كما تعلمنا وكان يقول من قلة علم الرجل ان يقلد دينه الرجال وقال لا تقلد دينك الرجال فانهم لن يسلموا من ان يغلطوا
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين ( ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه فى الدين فرضا والتفقه فى الدين معرفة الاحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها فى الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية فى جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه وأما القادر على الاستدلال فقيل يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل يجوز مطلقا وقيل يجوز عند الحاجة كما اذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال
والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا فى فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر فى مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين
____________________
(20/212)
إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الامام الذى اشتغل على مذهبه ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذهب إمام آخر وإما أن يتبع القول الذي ترجح فى نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لامام يقاوم ذلك الامام وتبقى النصوص سالمة فى حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح
وانما تنزلنا هذا التنزل لانه قد يقال إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما فى هذه المسأله لضعف آلة الاجتهاد فى حقه أما اذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وان لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الانفس وكان من اكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له قد قال الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ( والذي تستطيعه من العلم والفقه فى هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل اذا تغير اجتهاده وانتقال الانسان من قول إلى
____________________
(20/213)
قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم
واذا كان الامام المقلد قد سمع الحديث وتركه لا سيما إذا كان قد رواه أيضا فمثل هذا وحده لا يكون عذرا فى ترك النص فقد بينا فيما كتبناه فى ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) نحو عشرين عذرا للأئمة فى ترك العمل ببعض الحديث وبينا أنهم يعذرون فى الترك لتلك الأعذار وأما نحن فمعذورون فى تركها لهذا القول
فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح أو أن راويه مجهول ونحو ذلك ويكون غيره قد علم صحته وثقة راويه فقد زال عذر ذلك فى حق هذا ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه أو القياس أو عمل لبعض الأمصار وقد تبين للآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه وان نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ومقدم على القياس والعمل لم يكن عذر ذلك الرجل عذرا فى حقه فان ظهور المدارك الشرعية للأذهان وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه لا سيما اذا كان التارك للحديث معتقدا أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية وغيرها الذين يقال انهم لا يتركون الحديث الا لاعتقادهم أنه منسوخ أو معارض براجح وقد بلغ من بعده أن المهاجرين
____________________
(20/214)
والأنصار لم يتركوه بل عمل به طائفه منهم أو من سمعه منهم ونحو ذلك مما يقدح فى هذا المعارض للنص
وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد أنت أعلم أم الامام الفلاني كانت هذه معارضة فاسدة لأن الامام الفلاني قد خالفه فى هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ولست أعلم من هذا ولا هذا ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة ( كنسبة ) أبى بكر وعمر وعثمان وعلي وبن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض اكفاء فى موارد النزاع وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وان كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع آخر فكذلك موارد النزاع بين الأئمة وقد ترك الناس قول عمر وبن مسعود في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول من هو دونهما كأبى موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة وتركوا قول عمر في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبى قال ( هذه وهذه سواء (
وقد كان بعض الناس يناظر بن عباس فى المتعة فقال له قال أبو بكر وعمر فقال بن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر
____________________
(20/215)
وكذلك بن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوا بقول عمر فتبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم أمر عمر مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق بن عمر وبن عباس
ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل امام فى اتباعه بمنزلة النبى صلى الله عليه وسلم فى أمته وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى فى قوله ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده
____________________
(20/216)
وسئل شيخ الاسلام قدس الله روحه
هل لازم المذهب مذهب أم لا
فأجاب
وأما قول السائل هل لازم المذهب مذهب أم ليس بمذهب فالصواب أن مذهب الانسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه فانه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبا عليه بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه فى المقال غير التزامه اللوازم التى يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو اكثر فالذين قالوا بأقوال يلزمهاأقوال يعلم أنه لا يلتزمها لكن لم يعلم أنها تلزمه ولو كان لازم المذهب مذهبا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء او غيره من الصفات انه مجاز ليس بحقيقة فإن لازم هذا القول يقتضى أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقه وكل من لم يثبت بين الاسمين قدرا مشتركا لزم أن لا يكون شيء من الايمان بالله ومعرفته والاقرار به ايمانا فانه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال فى الآخر ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين الذين هم اكفر من اليهود والنصارى
____________________
(20/217)
لكن نعلم أن كثيرا ممن ينفي ذلك لا يعلم لوازم قوله بل كثير منهم يتوهم أن الحقيقة ليست إلا محض حقائق المخلوقين وهؤلاء جهال بمسمى الحقيقة والمجاز وقولهم افتراء على اللغة والشرع وإلا فقد يكون المعنى الذي يقصد به نفي الحقيقة نفي مماثلة صفات الرب سبحانه لصفات المخلوقين قيل له أحسنت فى نفي هذا المعنى الفاسد ولكن أخطأت في ظنك أن هذا هو حقيقة ما وصف الله به نفسه فصار هذا بمنزلة من قال إن الله ليس بسميع حقيقة ولا بصير حقيقة ولا متكلم حقيقة لأن الحقيقة فى ذلك هو ما يعهده من سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم والله تعالى منزه عن ذلك فيقال له أصبت فى تنزيه الله عن مماثلته خلقه لكن أخطأت فى ظنك أنه إذا كان الله سميعا حقيقة بصيرا حقيقة متكلما حقيقة كان هذا متضمنا لمماثلته خلقه
فكذلك لو قال القائل إذا قلنا إنه مستو على عرشه حقيقة لزم التجسيم والله منزه عنه فيقال له هذا المعنى الذي سميته تجسيما ونفيته هو لازم لك إذا قلت ان له علما حقيقة وقدرة حقيقة وسمعا حقيقة وبصرا حقيقة وكلاما حقيقه وكذلك سائر ما أثبته من الصفات فان هذه الصفات هي فى حقنا أعراض قائمة بجسم فاذا كنت تثبتها لله تعالى مع تنزيهك له عن مماثلة المخلوقات وما يدخل فى ذلك من التجسيم فكذلك القول فى الاستواء ولا فرق
____________________
(20/218)
فان قلت أهل اللغة إنما وضعوا هذه الألفاظ لما يختص به المخلوق فلا يكون حقيقة فى غير ذلك قلت ولكن هذا خطأ باجماع الأمم مسلمهم وكافرهم وبإجماع أهل اللغات فضلا عن أهل الشرائع والديانات وهذا نظير قول من يقول ان لفظ الوجه إنما يستعمل حقيقة فى وجه الانسان دون وجه الحيوان والملك والجني أو لفظ العلم إنما إستعمل حقيقة فى علم الإنسان دون علم الملك والجنى ونحو ذلك بل قد بينا أن أسماء الصفات عند أهل اللغة بحسب ما تضاف إليه فالقدر المشترك أن نسبة كل صفة إلى موصوفها كنسبة تلك الصفة إلى موصوفها فالقدر المشترك هو النسبة فنسبة علم الملك والجنى ووجوههما إليه كنسبة علم الانسان ووجهه إليه وهكذا فى سائر الصفات والله أعلم
____________________
(20/219)
وسئل شيخ الاسلام أن يشرح ما ذكره نجم الدين بن حمدان من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد أو عذر آخر
فأجاب هذا يراد به شيئان
أحدهما أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله فانه يكون متبعا لهواه وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلا للمحرم بغير عذر شرعى فهذا منكر وهذا المعنى هو الذي أورده الشيخ نجم الدين وقد نص الامام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه مثل أن يكون طالبا لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقدها أنها ليست ثابتة أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الأخوة تقاسم الجد فاذا صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الأخوة أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها كشرب النبيذ المختلف فيه ولعب الشطرنج
____________________
(20/220)
وحضور السماع أن هذا ينبغي أن يهجر وينكر عليه فاذا فعل ذلك صديقه اعتقد ذلك من مسائل الاجتهاد التى لا تنكر فمثل هذا ممكن فى اعتقاده حل الشيء وحرمته ووجوبه وسقوطه بحسب هواه هو مذموم بخروجه خارج عن العدالة وقد نص أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز
وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها واما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا فهذا يجوز بل يجب وقد نص الامام أحمد على ذلك
وما ذكره بن حمدان المراد به القسم الأول ولهذا قال من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر شرعي فدل على أنه إذا خالفه لدليل فتبين له بالقول الراجح أو تقليد يسوغ له أن يقلد فى خلافه أو عذر شرعي أباح المحظور الذى يباح بمثل ذلك العذر لم ينكر عليه
وهنا مسألة ثانية قد يظن أنه أرادها ولم يردها لكنا نتكلم على تقدير إرادتها وهو أن من التزم مذهبا لم يكن له أن ينتقل عنه
____________________
(20/221)
قاله بعض أصحاب أحمد وكذلك غير هذا ما يذكره بن حمدان أو غيره يكون مما قاله بعض أصحابه وإن لم يكن منصوصا عنه وكذلك ما يوجد فى كتب أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة كثير منه يكون مما ذكره بعض أصحابهم وليس منصوصا عنهم بل قد يكون المنصوص عنهم خلاف ذلك
وأصل هذه المسألة أن العامي هل عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه فيه وجهان لأصحاب أحمد وهما وجهان لأصحاب الشافعي والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك والذين يوجبونه يقولون إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما له أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه
ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر دينى مثل أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو بمنزلة من لا يسلم إلا لغرض دنيوى أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها وقد كان فى زمن النبى رجل هاجر لامرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس فقال النبى صلى الله عليه وسلم على المنبر فى الحديث الصحيح ( إنما الأعمال
____________________
(20/222)
بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (
وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر دينى مثل أن يتبين رجحان قول على قول فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله فهو مثاب على ذلك بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله فى أمر إن لا يعدل عنه ولا يتبع أحدا فى مخالفة الله ورسوله فان الله فرض طاعة رسوله على كل أحد فى كل حال وقال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقال تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }
وقد صنف الامام أحمد كتابا فى طاعة الرسول وهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين فطاعة الله ورسوله وتحليل ما حلله الله ورسوله وتحريم ما حرمه الله ورسوله وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله واجب على جميع الثقلين الانس والجن واجب على
____________________
(20/223)
كل أحد فى كل حال سرا وعلانية لكن لما كان من الأحكام مالا يعرفه كثير من الناس رجع الناس فى ذلك إلى من يعلمهم ذلك لأنه أعلم بما قاله الرسول وأعلم بمراده فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم وقد يخص الله هذا العالم من العلم والفهم ما ليس عند الآخر وقد يكون عند ذلك فى مسألة أخرى من العلم ما ليس عند هذا
وقد قال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فهذان نبيان كريمان حكما فى قضية واحدة فخص الله أحدهما بالفهم وأثنى على كل منهما والعلماء ورثة الأنبياء واجتهاد العلماء فى الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة فاذا صلى أربعة أنفس كل واحد منهم بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن القبلة هناك فان صلاة الأربعة صحيحة والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران كما فى الصحيح عن النبى أنه قال ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر (
وأكثر الناس إنما التزموا المذاهب بل الأديان بحكم ما تبين لهم
____________________
(20/224)
فان الانسان ينشأ على دين أبيه أو سيده أو أهل بلده كما يتبع الطفل فى الدين أبويه وسابيه وأهل بلده ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يقصد طاعة الله ورسوله حيث كانت ولا يكون ممن ( إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله والرسول إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد
وكذلك من تبين له فى مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنه إلى عادته فهو من أهل الذم والعقاب وأما من كان عاجزا عن معرفة حكم الله ورسوله وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله فهو محمود يثاب لا يذم على ذلك ولا يعاقب وإن كان قادرا على الاستدلال ومعرفة ما هو الراجح وتوقى بعض المسائل فعدل عن ذلك إلى التقليد فهو قد اختلف فى مذهب أحمد المنصوص عنه والذي عليه أصحابه أن هذا آثم أيضا وهو مذهب الشافعي وأصحابه وحكى عن محمد بن الحسن وغيره أنه يجوز له التقليد مطلقا وقيل يجوز تقليد الأعلم
وحكى بعضهم هذا عن أحمد كما ذكره أبو إسحاق فى اللمع وهو غلط على أحمد فان أحمد إنما يقول هذا فى أصحابه فقط
____________________
(20/225)
على اختلاف عنه فى ذلك وأما مثل مالك والشافعي وسفيان ومثل إسحاق بن راهويه وأبى عبيد فقد نص فى غير موضع على أنه لا يجوز للعالم القادر على الاستدلال أن يقلدهم وقال لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثورى وكان يحب الشافعى ويثنى عليه ويحب إسحاق ويثنى عليه ويثني على مالك والثوري وغيرهما من الأئمة ويأمر العامي أن يستفتى إسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وأبا مصعب وينهى العلماء من أصحابه كأبى داود وعثمان بن سعيد وإبراهيم الحربي وأبى بكر الأثرم وأبي زرعة وأبى حاتم السجستاني ومسلم وغيرهم أن يقلدوا أحدا من العلماء ويقول عليكم بالأصل بالكتاب والسنة
____________________
(20/226)
وسئل رحمه الله
أن يشرح ما ذكره نجم الدين بن حمدان فى آخر ( كتاب الرعاية ( وهو قوله ( من التزم مذهبا انكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر آخر ) ويبين لنا ما أشكل علينا من كون بعض المسائل يذكر فيها فى ( الكافى ( و ( المحرر ( و ( المقنع ( و ( الرعاية ( و ( الخلاصة ( و ( الهداية ( روايتان أو وجهان ولم يذكر الأصح والأرجح فلا ندري بأيهما نأخذ وإن سألونا عنه أشكل علينا
فأجاب الحمد لله أما هذه الكتب التى يذكر فيها روايتان أو وجهان ولا يذكر فيها الصحيح فطالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أخرى مثل كتاب ( التعليق ( للقاضي أبى يعلى و ( الانتصار ( لأبى الخطاب و ( عمد الأدلة ) لابن عقيل وتعليق القاضي يعقوب البرزيني وأبى الحسن بن الزاغوني وغير ذلك من الكتب الكبار التى يذكر فيها مسائل الخلاف ويذكر فيها الراجح
وقد اختصرت رؤوس مسائل هذه الكتب فى كتب مختصرة
____________________
(20/227)
مثل ( رؤوس المسائل ( للقاضى أبى الحسين وقد نقل عن الشيخ أبى البركات صاحب ( المحرر ( أنه كان يقول لمن يسأله عن ظاهر مذهب أحمد أنه ما رجحه أبو الخطاب فى رؤوس مسائله
ومما يعرف منه ذلك كتاب ( المغنى ( للشيخ أبى محمد وكتاب شرح الهداية لجدنا أبي البركات وقد ( شرح الهداية ( غير واحد كأبى حليم النهروانى وأبى عبد الله بن تيمية صاحب ( التفسير ( الخطيب عم أبي البركات وأبى المعالي بن المنجا وأبي البقاء النحوي لكن لم يكمل ذلك
وقد اختلف الاصحاب فيما يصححونه فمنهم من يصحح رواية ويصحح آخر رواية فمن عرف ذلك نقله ومن ترجح عنده قول واحد على قول آخر اتبع القول الراجح ومن كان مقصوده نقل مذهب أحمد نقل ما ذكروه من اختلاف الروايات والوجوه والطرق كما ينقل أصحاب الشافعى وأبى حنيفه ومالك مذاهب الأئمة فانه في كل مذهب من اختلاف الأقوال عن الأئمة واختلاف أصحابهم فى معرفة مذهبهم ومعرفة الراجح شرعا ما هو
معروف ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح فى مذهبه فى عامة المسائل وان كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح فى
____________________
(20/228)
الشرع وأحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم باحسان ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما يوجد لغيره ولا يوجد له قول ضعيف فى الغالب إلا وفى مذهبه قول يوافق القول الأقوى واكثر مفاريده التى لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحا كقوله بجواز فسخ الافراد والقران إلى التمتع وقبوله شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة كالوصية فى السفر وقوله بتحريم نكاح الزانية حتى تتوب وقوله بجواز شهادة العبد وقوله بأن السنة للمتيمم ان يمسح الكوعين بضربة واحدة
وقوله فى المستحاضة بانها تارة ترجع إلى العادة وتارة ترجع إلى التمييز وتارة ترجع إلى غالب عادات النساء فانه روى عن النبى فيها ثلاث سنن عمل بالثلاثة أحمد دون غيره
وقوله بجواز المساقاة والمزارعة على الأرض البيضاء والتى فيها شجر وسواء كان البذر منهما أو من احدهما وجواز ما يشبه ذلك وان كان من باب المشاركة ليس من باب الاجارة ولا هو على خلاف القياس ونظير هذا كثير
وأما ما يسميه بعض الناس مفردة لكونه انفرد بها عن أبي حنيفة والشافعي مع أن قول مالك فيها موافق لقول احمد أو قريب منه
____________________
(20/229)
وهي التى صنف لها الهراسي ردا عليها وانتصر لها جماعة كابن عقيل والقاضي أبي يعلى الصغير وأبي الفرج بن الجوزي وأبى محمد بن المثنى فهذه غالبها يكون قول مالك وأحمد ارجح من القول الآخر وما يترجح فيها القول الآخر يكون مما اختلف فيه قول أحمد وهذا كابطال الحيل المسقطة للزكاة والشفعة ونحو ذلك الحيل المبيحة للربا والفواحش ونحو ذلك وكاعتبار المقاصد والنيات فى العقود والرجوع فى الايمان إلى سبب اليمين وما هيجها مع نيه الحالف وكاقامة الحدود على أهل الجنايات كما كان النبى وخلفاؤه الراشدون يقيمونها كما كانوا يقيمون الحد على الشارب بالرائحة والقيء ونحو ذلك وكاعتبار العرف فى الشروط وجعل الشرط العرفى كالشرط اللفظى والاكتفاء فى العقود المطلقة بما يعرفه الناس وان ما عده الناس بيعا فهو بيع وما عدوه اجارة فهو اجارة وما عدوه هبة فهو هبة وما عدوه وقفا فهو وقف لا يعتبر في ذلك لفظ معين ومثل هذا كثير
____________________
(20/230)
وقال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله
الحبر الكامل العلامة الأوحد الحافظ الزاهد العابد الورع الربانى المقذوف فى قلبه النور الالهي والعلوم الرفيعة والفنون البديعة الآخذ بازمة الشريعة الناكص عن الآراء المزلة والأهواء المضلة المقتفي لآثار السلف علما وعملا مفتى الفرق مجتهد العصر أوحد الدهر تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية أدام الله بركته ورفع فى الدنيا والآخرة محله ودرجته
الحمد لله على آلائه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فى أرضه وسمائه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه وسلم تسليما
وبعد فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين
____________________
(20/231)
جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم فى ظلمات البر والبحر وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم إذ كل أمة قبل مبعث محمد فعلماؤها شرارها الا المسلمين فان علماءهم خيارهم فانهم خلفاء الرسول فى أمته والمحيون لما مات من سنته بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا
وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شيء من سنته دقيق ولا جليل فانهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول وعلى ان كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عذر فى تركه
وجميع الاعذار ثلاثة أصناف
أحدها عدم اعتقاده أن النبى قاله
والثاني عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول
والثالث اعتقاده ان ذلك الحكم منسوخ
____________________
(20/232)
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة
السبب الأول أن لايكون الحديث قد بلغه ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه وإذا لم يكن قد بلغه وقد قال فى تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو موجب استصحاب فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث فان الاحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأمة
وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يحدث أو يفتى أو يقضى أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا ويبلغه أولئك أو بعضهم لمن يبلغونه فينتهى علم ذلك إلى من يشاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ثم فى مجلس آخر قد يحدث أو يفتى أو يقضى أو يفعل شيئا ويشهده بعض من كان غائبا عن ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم فيكون عند هؤلاء من العلم ماليس عند هؤلاء وعند هؤلاء ماليس عند هؤلاء وانما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم بكثرة العلم أو جودته
وأما احاطة واحد بجميع حديث رسول الله
____________________
(20/233)
فهذا لا يمكن ادعاؤه قط واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله وسنته وأحواله خصوصا الصديق رضي الله عنه الذي لم يكن يفارقه حضرا ولا سفرا بل كان يكون معه فى غالب الأوقات حتى أنه يسمر عنده بالليل فى أمور المسلمين وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فانه صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت انا وأبو بكر وعمر ثم مع ذلك لما سئل أبو بكر رضى الله عنه عن ميراث الجدة قال مالك فى كتاب الله من شيء وما علمت لك فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء ولكن أسأل الناس فسألهم فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا ان النبى أعطاها السدس وقد بلغ هذه السنة عمران بن حصين أيضا وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر وغيره من الخلفاء ثم قد اختصوا بعلم هذه السنة التى قد اتفقت الأمة على العمل بها
وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يعلم سنة الاستئذان حتى أخبره بها ابو موسى واستشهد بالأنصار وعمر أعلم ممن حدثه بهذه السنة
ولم يكن عمر أيضا يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها بل يرى
____________________
(20/234)
أن الدية للعاقلة حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان وهو أمير لرسول الله على بعض البوادي يخبره أن رسول الله ورث امرأة اشيم الضبابى من دية زوجها فترك رأيه لذلك وقال لو لم نسمع بهذا لقضينا بخلافه
ولم يكن يعلم حكم المجوس فى الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما أن رسول الله قال ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب (
ولما قدم سرغ وبلغه أن الطاعون بالشام استشار المهاجرين الأولين الذين معه ثم الأنصار ثم مسلمة الفتح فاشار كل عليه بما رأى ولم يخبره أحد بسنة حتى قدم عبد الرحمن بن عوف فاخبره بسنة رسول الله فى الطاعون وأنه قال ( إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بارض فلا تقدموا عليه (
وتذاكر هو وبن عباس أمر الذى يشك فى صلاته فلم يكن قد بلغته السنة فى ذلك حتى قال عبد الرحمن بن عوف عن النبى ( إنه يطرح الشك ويبني على ما استيقن (
وكان مرة فى السفر فهاجت ريح فجعل يقول من يحدثنا عن
____________________
(20/235)
الريح قال أبو هريرة فبلغنى وأنا فى أخريات الناس فحثثت راحلتى حتى أدركته فحدثته بما أمر به النبى عند هبوب الريح
فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلغه اياها من ليس مثله ومواضع أخر لم يبلغه ما فيها من السنة فقضى فيها أو أفتى فيها بغير ذلك مثل ما قضى فى دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها وقد كان عند أبى موسى وبن عباس وهما دونه بكثير فى العلم علم بأن النبى قال ( هذه وهذه سواء ( يعني الابهام والخنصر فبلغت هذه السنة لمعاوية رضي الله عنه فى إمارته فقضى بها ولم يجد المسلمون بدا من اتباع ذلك ولم يكن عيبا فى عمر رضي الله عنه حيث لم يبلغه الحديث
وكذلك كان ينهى المحرم عن التطيب قبل الإحرام وقبل الافاضة إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة هو وابنه عبد الله رضي الله عنهما وغيرهما من أهل الفضل ولم يبلغهم حديث عائشة رضى الله عنها ( طيبت رسول الله لاحرامه قبل ان يحرم ولحله قبل أن يطوف (
وكان يأمر لابس الخف ان يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير
____________________
(20/236)
توقيت واتبعه على ذلك طائفة من السلف ولم تبلغهم احاديث التوقيت التى صحت عند بعض من ليس مثلهم فى العلم وقد روي ذلك عن النبى من وجوه متعددة صحيحة
وكذلك عثمان رضي الله عنه لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد فى بيت الموت حتى حدثته الفريعة بنت مالك أخت أبى سعيد الخدري بقضيتها لما توفى زوجها وان النبى قال لها ( أمكثى فى بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ( فأخذ به عثمان
وأهدى له مرة صيد كان قد صيد لأجله فهم بأكله حتى أخبره على رضي الله عنه أن النبى رد لحما أهدي له
وكذلك علي رضي الله عنه قال كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء ان ينفعنى منه وإذا حدثنى غيره استحلفته فاذا حلف لى صدقته وحدثنى أبو بكر وصدق أبو بكر وذكر حديث صلاة التوبة المشهور
وأفتى هو وبن عباس وغيرهما بان المتوفى عنها إذا كانت حاملا تعتد
____________________
(20/237)
بأبعد الأجلين ولم يكن قد بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سبيعة الأسلمية حيث أفتاها النبى صلى الله عليه وسلم بان عدتها وضع حملها
وأفتى هو وزيد وبن عمر وغيرهم بان المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها ولم تكن بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بروع بنت واشق
وهذا باب واسع يبلغ المنقول منه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا كثيرا جدا
وأما المنقول منه عن غيرهم فلا يمكن الاحاطة به فانه ألوف فهؤلاء كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها فمن بعدهم أنقص فخفاء بعض السنة عليه أولى فلا يحتاج إلى بيان فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماما معينا فهو مخطىء خطا فاحشا قبيحا
ولا يقولن قائل الأحاديث قد دونت وجمعت فخفاؤها والحال هذه بعيد لأن هذه الدواوين المشهورة فى السنن انما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين ومع هذا فلا يجوز ان يدعى انحصار حديث
____________________
(20/238)
رسول الله فى دواوين معينة ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله فليس كل ما فى الكتب يعلمه العالم ولا يكاد ذلك يحصل لأحد بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين اعلم بالسنة من المتأخرين بكثير لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا الا عن مجهول أو باسناد منقطع أولا يبلغنا بالكلية فكانت دواوينهم صدورهم التى تحوي اضعاف ما فى الدواوين وهذا امر لا يشك فيه من علم القضية
ولا يقولن قائل من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا لأنه ان اشترط فى المجتهد علمه بجميع ما قاله النبى وفعله فيما يتعلق بالأحكام فليس في الأمة مجتهد وانما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل ثم انه قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذى يبلغه
السبب الثاني ان يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الاسناد مجهول عنده أو متهم أو سيء الحفظ وإما لأنه لم يبلغه مسندا بل منقطعا أو لم يضبط لفظ الحديث مع أن ذلك الحديث قد رواه الثقات لغيره باسناد متصل بأن يكون غيره يعلم من المجهول عنده الثقة أو يكون قد
____________________
(20/239)
رواه غير أولئك المجروحين عنده أو قد اتصل من غير الجهة المنقطعة وقد ضبط الفاظ الحديث بعض المحدثين الحفاظ أو لتلك الرواية من الشواهد والمتابعات ما يبين صحتها
وهذا أيضا كثير جدا وهو فى التابعين وتابعيهم إلى الأئمة المشهورين من بعدهم أكثر من العصر الأول او كثير من القسم الأول فان الآحاديث كانت قد انتشرت واشتهرت لكن كانت تبلغ كثيرا من العلماء من طرق ضعيفة وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق فتكون حجة من هذا الوجه مع انها لم تبلغ من خالفها من هذا الوجه ولهذا وجد فى كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته فيقول قولي فى هذه المسألة كذا وقد روي فيها حديث بكذا فان كان صحيحا فهو قولي
السبب الثالث اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول كل مجتهد مصيب ولذلك أسباب
منها أن يكون المحدث بالحديث يعتقده أحدهما ضعيفا ويعتقده الآخر ثقة ومعرفة الرجال علم واسع ثم قد يكون المصيب من
____________________
(20/240)
يعتقد ضعفه لاطلاعه على سبب جارح وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفته ان ذلك السبب غير جارح اما لأن جنسه غير جارح أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح وهذا باب واسع وللعلماء بالرجال وأحوالهم فى ذلك من الاجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم فى علومهم
ومنها أن لايعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب توجب ذلك معروفه
ومنها أن يكون للمحدث حالان حال استقامة وحال اضطراب مثل أن يختلط أو تحترق كتبه فما حدث به فى حال الاستقامة صحيح وما حدث به فى حال الاضطراب ضعيف فلا يدرى ذلك الحديث من أي النوعين وقد علم غيره أنه مما حدث به فى حال الاستقامة
ومنها أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد أو انكر أن يكون حدثه معتقدا أن هذا علة توجب ترك الحديث ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به والمسألة معروفة
ومنها ان كثيرا من الحجازيين يرون ان لا يحتج بحديث عراقي او شامى ان لم يكن له أصل بالحجاز حتى قال قائلهم نزلوا أحاديث
____________________
(20/241)
أهل العراق بمنزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقيل لآخر سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة قال ان لم يكن له أصل بالحجاز فلا
وهذا لاعتقادهم أن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء وان أحاديث العراقيين وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها
وبعض العراقيين يرى أن لايحتج بحديث الشاميين وان كان اكثر الناس على ترك التضعيف بهذا فمتى كان الاسناد جيدا كان الحديث حجة سواء كان الحديث حجازيا أو عراقيا أو شاميا أو غير ذلك
وقد صنف أبو داود السجستانى كتابا فى مفاريد أهل الأمصار من السنن يبين ما اختص به أهل كل مصر من الأمصار من السنن التى لا توجد مسندة عند غيرهم مثل المدينة ومكة والطائف ودمشق وحمص والكوفة والبصرة وغيرها إلى أسباب أخر غير هذه
السبب الرابع اشتراطه فى خبر الواحد العدل الحافظ شروطا يخالفه فيها غيره مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب
____________________
(20/242)
والسنة واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقيها اذا خالف قياس الأصول واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره اذا كان فيما تعم به البلوى إلى غير ذلك مما هو معروف فى مواضعه
السبب الخامس أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه وهذا يرد فى الكتاب والسنة مثل الحديث المشهور عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب فى السفر فلا يجد الماء فقال لا يصل حتى يجد الماء فقال له عمار يا أمير المؤمنين أما تذكر اذ كنت أنا وأنت فى الابل فاجنبنا فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة وأما أنت فلم تصل فذكرت ذلك للنبى فقال ( انما يكفيك هكذا ( وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه فقال له عمر اتق الله يا عمار فقال ان شئت لم أحدث به فقال بل نوليك من ذلك ما توليت فهذه سنة شهدها عمر ثم نسيها حتى أفتى بخلافها وذكره عمار فلم يذكر وهو لم يكذب عمارا بل أمره أن يحدث به
وأبلغ من هذا انه خطب الناس فقال لا يزيد رجل على صداق أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وبناته الا رددته فقالت امرأة يا أمير المؤمنين لم تحرمنا شيئا أعطانا الله اياه ثم قرأت
____________________
(20/243)
( وآتيتم احداهن قنطارا ) فرجع عمر إلى قولها وقد كان حافظا للآية ولكن نسيها
وكذلك ما روي ان عليا ذكر الزبير يوم الجمل شيئا عهده اليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره حتى انصرف عن القتال وهذا كثير فى السلف والخلف
السبب السادس عدم معرفته بدلالة الحديث تارة لكون اللفظ الذي فى الحديث غريبا عنده مثل لفظ المزابنة والمحاقلة والمخابرة والملامسة والمنابذة والغرر إلى غير ذلك من الكلمات الغريبة التى قد يختلف العلماء فى تفسيرها وكالحديث المرفوع ( لا طلاق ولا عتاق فى اغلاق ( فانهم قد فسروا الاغلاق بالاكراه ومن يخالفه لا يعرف هذا التفسير
وتارة لكون معناه فى لغته وعرفه غير معناه فى لغة النبى صلى الله عليه وسلم وهو يحمله على ما يفهمه فى لغته بناء على ان الاصل بقاء اللغة كما سمع بعضهم آثارا فى الرخصة فى النبيذ فظنوه بعض أنواع المسكر لأنه لغتهم وانما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد فانه جاء مفسرا فى أحاديث كثيرة صحيحة وسمعوا لفظ الخمر فى الكتاب والسنة فاعتقدوه عصير العنب المشتد خاصة بناء على انه كذلك فى
____________________
(20/244)
اللغة وان كان قد جاء من الأحاديث أحاديث صحيحة تبين أن الخمر اسم لكل شراب مسكر
وتارة لكون اللفظ مشتركا أو مجملا أو مترددا بين حقيقة ومجاز فيحمله على الأقرب عنده وان كان المراد هو الآخر كما حمل جماعة من الصحابة فى أول الأمر الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل وكما حمل آخرون قوله { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } على اليد إلى الابط
وتارة لكون الدلالة من النص خفية فان جهات دلالات الأقوال متسعة جدا يتفاوت الناس فى إدراكها وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن لكون هذا المعنى داخلا فى ذلك العام ثم قد يتفطن له تارة ثم ينساه بعد ذلك
وهذا باب واسع جدا لا يحيط به الا الله وقد يغلط الرجل فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية التى بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بها
السبب السابع اعتقاده أن لا دلالة فى الحديث والفرق بين هذا وبين الذي قبله ان الأول لم يعرف جهة الدلالة والثانى عرف
____________________
(20/245)
جهة الدلالة لكن اعتقد انها ليست دلالة صحيحة بان يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة سواء كانت فى نفس الأمر صوابا أو خطأ مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة وان المفهوم ليس بحجة وان العموم الوارد على سبب مقصور على سببه أو أن الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب أو لا يقتضى الفور أو أن المعرف باللام لا عموم له أو ان الأفعال المنفية لا تنفي ذواتها ولا جميع أحكامها أو ان المقتضى لا عموم له فلا يدعى العموم فى المضمرات والمعاني إلى غير ذلك مما يتسع القول فيه فان شطر أصول الفقه تدخل مسائل الخلاف منه فى هذا القسم وان كانت الأصول المجردة لم تحط بجميع الدلالات المختلف فيها وتدخل فيه أفراد أجناس الدلالات هل هي من ذلك الجنس أم لا مثل أن يعتقد أن هذا اللفظ المعين مجمل بأن يكون مشتركا لا دلالة تعين أحد معنييه أو غير ذلك
السبب الثامن اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة مثل معارضة العام بخاص أو المطلق بمقيد أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز إلى أنواع المعارضات
وهو باب واسع أيضا فان تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم
____________________
(20/246)
السبب التاسع اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله ان كان قابلا للتأويل بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق مثل آية أو حديث آخر أو مثل اجماع وهذا نوعان
أحدهما أن يعتقد أن هذا المعارض راجح فى الجملة فيتعين أحد الثلاثة من غير تعيين واحد منها
وتارة يعين أحدها بأن يعتقد أنه منسوخ أو أنه مؤول ثم قد يغلط فى النسخ فيعتقد المتأخر متقدما وقد يغلط فى التأويل بأن يحمل الحديث على ما لا يحتمله لفظه أو هناك ما يدفعه واذا عارضه من حيث الجملة فقد لا يكون ذلك المعارض دالا وقد لا يكون الحديث المعارض فى قوة الأول اسنادا أو متنا وتجيء هنا الاسباب المتقدمة وغيرها فى الحديث الاول والاجماع المدعى فى الغالب انما هو عدم العلم بالمخالف
وقد وجدنا من أعيان العلماء من صاروا إلى القول بأشياء متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف مع أن ظاهر الأدلة عندهم يقتضى خلاف ذلك لكن لا يمكن العالم أن يبتدىء قولا لم يعلم به قائلا مع علمه بأن الناس قد قالوا خلافه حتى أن منهم من يعلق القول فيقول ان كان فى المسألة اجماع فهو أحق ما يتبع والا فالقول عندي كذا وكذا
____________________
(20/247)
وذلك مثل من يقول لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد وقبولها محفوظ عن علي وأنس وشريح وغيرهم ويقول اجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث وتوريثه محفوظ عن علي وبن مسعود وفيه حديث حسن عن النبى
ويقول آخر لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبى فى الصلاة وايجابها محفوظ عن أبي جعفر الباقر وذلك أن غاية كثير من العلماء أن يعلم قول أهل العلم الذين أدركهم فى بلاده وأقوال جماعات غيرهم كما تجد كثيرا من المتقدمين لا يعلم إلا قول المدنيين والكوفيين وكثير من المتأخرين لا يعلم إلا قول اثنين أو ثلاثة من الأئمة المتبوعين وما خرج عن ذلك فانه عنده يخالف الاجماع لأنه لا يعلم به قائلا وما زال يقرع سمعه خلافه فهذا لا يمكنه ان يصير إلى حديث يخالف هذا لخوفه أن يكون هذا خلافا للاجماع أو لاعتقاده أنه مخالف للاجماع والاجماع أعظم الحجج
وهذا عذر كثير من الناس فى كثير مما يتركونه وبعضهم معذور فيه حقيقة وبعضهم معذور فيه وليس فى الحقيقة بمعذور وكذلك كثير من الاسباب قبله وبعده
السبب العاشر معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله
____________________
(20/248)
مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارض أو لا يكون فى الحقيقة معارضا راجحا كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث الصحيح بظاهر القرآن واعتقادهم ان ظاهر القرآن من العموم ونحوه مقدم على نص الحديث ثم قد يعتقد ما ليس بظاهر ظاهرا لما فى دلالات القول من الوجوه الكثيرة
ولهذا ردوا حديث الشاهد واليمين وإن كان غيرهم يعلم أن ليس فى ظاهر القرآن ما يمنع الحكم بشاهد ويمين ولو كان فيه ذلك فالسنة هي المفسرة للقرآن عندهم
وللشافعي فى هذه القاعدة كلام معروف ولأحمد فيها رسالته المشهورة فى الرد على من يزعم الاستغناء بظاهر القرآن عن تفسير سنة رسول الله وقد أورد فيها من الدلائل ما يضيق هذا الموضع عن ذكره
ومن ذلك دفع الخبر الذي فيه تخصيص لعموم الكتاب او تقييد لمطلقه او فيه زيادة عليه واعتقاد من يقول ذلك ان الزيادة على النص كتقييد المطلق نسخ وأن تخصيص العام نسخ وكمعارضه طائفه من المدنيين الحديث الصحيح بعمل أهل المدينة بناء على أنهم مجمعون على مخالفة الخبر وأن اجماعهم حجة مقدمة على الخبر كمخالفة أحاديث خيار المجلس بناء على هذا الاصل وان كان أكثر الناس قد يثبتون
____________________
(20/249)
ان المدنيين قد اختلفوا فى تلك المسألة وانهم لو أجمعوا وخالفهم غيرهم لكانت الحجة فى الخبر
وكمعارضة قوم من البلدين بعض الأحاديث بالقياس الجلي بناء على أن القواعد الكلية لا تنقض بمثل هذا الخبر
إلى غير ذلك من أنواع المعارضات سواء كان المعارض مصيبا أو مخطئا فهذه الأسباب العشرة ظاهرة وفى كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة فى ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها فان مدارك العلم واسعة ولم نطلع نحن على جميع ما فى بواطن العلماء والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها وإذا ابداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه سواء كانت الحجة صوابا فى نفس الأمر أم لا لكن نحن وان جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وان كان أعلم اذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الادلة الشرعية فان الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عبادة بخلاف رأي العالم
____________________
(20/250)
والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر ورأي العالم ليس كذلك ولو كان العمل بهذا التجويز جائزا لما بقي فى أيدينا شيء من الأدلة التى يجوز فيها مثل هذا لكن الغرض أنه فى نفسه قد يكون معذورا فى تركه له ونحن معذورون فى تركنا لهذا الترك وقد قال سبحانه { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت } الآية وقال سبحانه { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }
وليس لأحد أن يعارض الحديث عن النبى بقول أحد من الناس كما قال بن عباس رضي الله عنهما لرجل سأله عن مسألة فأجابه فيها بحديث فقال له قال أبو بكر وعمر فقال بن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر
وإذا كان الترك يكون لبعض هذه الأسباب فاذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم يعاقب لكونه حلل الحرام أو حرم الحلال أو حكم بغير ما أنزل الله
وكذلك ان كان فى الحديث وعيد على فعل من لعنة أو غضب أو عذاب ونحو ذلك فلا يجوز أن يقال ان ذلك العالم الذي أباح
____________________
(20/251)
هذا أو فعله داخل فى هذا الوعيد وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافا إلا شيئا يحكى عن بعض معتزلة بغداد مثل المريسي وأضرابه انهم زعموا أن المخطىء من المجتهدين يعاقب على خطئه وهذا لأن لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم أو بتمكنه من العلم بالتحريم فان من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بالاسلام وفعل شيئا من المحرمات غير عالم بتحريمها لم يأثم ولم يحد وإن لم يستند في استحلاله إلى دليل شرعي فمن لم يبلغه الحديث المحرم واستند فى الاباحة إلى دليل شرعى أولى أن يكون معذورا ولهذا كان هذا مأجورا محمودا لأجل اجتهاده قال الله سبحانه { وداود وسليمان } إلى قوله { وعلما } فاختص سليمان بالفهم واثنى عليهما بالحكم والعلم
وفى الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ان النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إذا اجتهد الحاكم فاصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ( فتبين أن المجتهد مع خطئه له أجر وذلك لأجل اجتهاده وخطؤه مغفور له لأن درك الصواب فى جميع أعيان الاحكام اما متعذر أو متعسر وقد قال تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وفى الصحيحين عن النبى أنه قال لأصحابه عام الخندق ( لا يصلين أحد العصر إلا فى بني قريظة ) فأدركتهم صلاة
____________________
(20/252)
العصر فى الطريق فقال بعضهم لا نصلي إلا فى بني قريظة وقال بعضهم لم يرد منا هذا فصلوا فى الطريق فلم يعب واحدة من الطائفتين فالأولون تمسكوا بعموم الخطاب فجعلوا صورة الفوات داخله فى العموم والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم فان المقصود المبادرة إلى القوم وهي مسألة اختلف فيها الفقهاء اختلافا مشهورا هل يخص العموم بالقياس ومع هذا فالذين صلوا فى الطريق كانوا اصوب
وكذلك بلال رضى الله عنه لما باع الصاعين بالصاع امره النبى برده ولم يرتب على ذلك حكم آكل الربا من التفسيق واللعن والتغليظ لعدم علمه بالتحريم
وكذلك عدي بن حاتم وجماعة من الصحابة لما اعتقدوا أن قوله تعالى { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } معناه الحبال البيض والسود فكان احدهم يجعل عقالين ابيض واسود ويأكل حتى يتبين احدهما من الآخر فقال النبى لعدي ( إن وسادك إذا لعريض انما هو بياض النهار وسواد الليل ( فأشار إلى عدم فقهه لمعنى الكلام ولم يرتب على هذا الفعل ذم من افطر فى رمضان وإن كان من اعظم الكبائر بخلاف الذين أفتوا المشجوج فى البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات فانه قال ( قتلوه
____________________
(20/253)
قتلهم الله هلا سألوا اذا لم يعلموا انما شفاء العي السؤال ( فان هؤلاء أخطأوا بغير اجتهاد إذ لم يكونوا من أهل العلم
وكذلك لم يوجب على أسامة بن زيد قودا ولادية ولا كفارة لما قتل الذي قال لا إله إلا الله فى غزوة الحرقات فانه كان معتقدا جواز قتله بناء على أن هذا الاسلام ليس بصحيح مع أن قتله حرام
وعمل بذلك السلف وجمهور الفقهاء فى أن ما استباحه أهل البغى من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود ولا دية ولا كفارة وان كان قتلهم وقتالهم محرما
وهذا الشرط الذي ذكرناه فى لحوق الوعيد لا يحتاج أن يذكر فى كل خطاب لاستقرار العلم به فى القلوب كما أن الوعد على العمل مشروط باخلاص العمل لله وبعدم حبوط العمل بالردة ثم أن هذا الشرط لايذكر فى كل حديث فيه وعد ثم حيث قدر قيام الموجب للوعيد فان الحكم يتخلف عنه لمانع وموانع لحوق الوعيد متعددة منها التوبة ومنها الاستغفار ومنها الحسنات الماحية للسيئات ومنها بلاء الدنيا ومصائبها ومنها شفاعة
____________________
(20/254)
شفيع مطاع ومنها رحمة ارحم الراحمين فاذا عدمت هذه الأسباب كلها ولن تعدم إلا فى حق من عتا وتمرد وشرد على الله شراد البعير على أهله فهنالك يلحق الوعيد به وذلك أن حقيقة الوعيد بيان أن هذا العمل سبب فى هذا العذاب فيستفاد من ذلك تحريم الفعل وقبحه أما أن كل شخص قام به ذلك السبب يجب وقوع ذلك المسبب به فهذا باطل قطعا لتوقف ذلك المسبب على وجود الشرط وزوال جميع الموانع
وإيضاح هذا أن من ترك العمل بحديث فلا يخلو من ثلاثة أقسام إما أن يكون تركا جائزا باتفاق المسلمين كالترك فى حق من لم يبلغه ولا قصر فى الطلب مع حاجته إلى الفتيا أو الحكم كما ذكرناه عن الخلفاء الراشدين وغيرهم فهذا لا يشك مسلم أن صاحبه لا يلحقه من معرة الترك شيء
وإما أن يكون تركا غير جائز فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة ان شاء الله تعالى لكن قد يخاف على بعض العلماء أن يكون الرجل قاصرا فى درك تلك المسألة فيقول مع عدم أسباب القول وان كان له فيها نظر واجتهاد أو يقصر فى الاستدلال فيقول قبل أن يبلغ النظر نهايته مع كونه متمسكا بحجة أو يغلب عليه عادة أو غرض يمنعه من استيفاء النظر لينظر فيما يعارض ما عنده وان كان لم يقل إلا
____________________
(20/255)
بالاجتهاد والاستدلال فان الحد الذي يجب أن ينتهى إليه الاجتهاد قد لا ينضبط للمجتهد
ولهذا كان العلماء يخافون مثل هذا خشية أن لا يكون الاجتهاد المعتبر قد وجد فى تلك المسألة المخصوصة فهذه ذنوب لكن لحوق عقوبة الذنب بصاحبه أنما تنال لمن لم يتب وقد يمحوها الاستغفار والإحسان والبلاء والشفاعة والرحمة ولم يدخل فى هذا من يغلبه الهوى ويصرعه حتى ينصر ما يعلم أنه باطل أو من يجزم بصواب قول أو خطئه من غير معرفة منه بدلائل ذلك القول نفيا واثباتا فان هذين فى النار كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة فأما الذى فى الجنة فرجل علم الحق فقضى به وأما اللذان فى النار فرجل قضى للناس على جهل ورجل علم الحق وقضى بخلافه ( والمفتون كذلك
لكن لحوق الوعيد للشخص المعين أيضا له موانع كما بيناه فلو فرض وقوع بعض هذا من بعض الاعيان من العلماء المحمودين عند الامة مع أن هذا بعيد أو غير واقع لم يعدم أحدهم أحد هذه الأسباب ولو وقع لم يقدح فى امامتهم على الاطلاق فإنا لا نعتقد فى القوم العصمة بل تجوز عليهم الذنوب ونرجو لهم مع ذلك أعلى الدرجات لما اختصهم الله به من الأعمال الصالحة والأحوال السنية
____________________
(20/256)
وانهم لم يكونوا مصرين على ذنب وليسوا بأعلى درجة من الصحابة رضى الله عنهم والقول فيهم كذلك فيما اجتهدوا فيه من الفتاوى والقضايا والدماء التى كانت بينهم وغير ذلك
ثم إنهم مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التى لا نعلم لها معارضا يدفعها وأن نعتقد وجوب العمل على الأمة ووجوب تبليغها وهذا مما لا يختلف العلماء فيه
ثم هي منقسمة إلى ما دلالته قطعية بان يكون قطعي السند والمتن وهو ما تيقنا أن رسول الله قاله وتيقنا انه أراد به تلك الصورة والى مادلالته ظاهرة غير قطعية
فأما الأول فيجب اعتقاد موجبه علما وعملا وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء فى الجملة وانما قد يختلفون فى بعض الأخبار هل هو قطعي السند أو ليس بقطعي وهل هو قطعي الدلالة أو ليس بقطعي مثل اختلافهم في خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول والتصديق أو الذي اتفقت على العمل به فعند عامة الفقهاء وأكثر المتكلمين أنه يفيد العلم وذهب طوائف من المتكلمين إلى انه لا يفيده
وكذلك الخبر المروي من عدة جهات يصدق بعضها بعضا من أناس
____________________
(20/257)
مخصوصين قد تفيد العلم اليقينى لمن كان عالما بتلك الجهات وبحال اولئك المخبرين وبقرائن وضمائم تحتف بالخبر وان كان العلم بذلك الخبر لا يحصل لمن لم يشركه فى ذلك
ولهذا كان علماء الحديث الجهابذة فيه المتبحرون فى معرفته قد يحصل لهم اليقين التام باخبار وان كان غيرهم من العلماء قد لا يظن صدقها فضلا عن العلم بصدقها ومبنى هذا على أن الخبر المفيد للعلم يفيده من كثرة المخبرين تارة ومن صفات المخبرين أخرى ومن نفس الاخبار به أخرى ومن نفس ادراك المخبر له أخرى ومن الأمر المخبر به أخرى فرب عدد قليل أفاد خبرهم العلم لما هم عليه من الديانة والحفظ الذي يؤمن معه كذبهم أو خطؤهم واضعاف ذلك العدد من غيرهم قد لا يفيد العلم هذا هو الحق الذي لا ريب فيه وهو قول جمهور الفقهاء والمحدثين وطوائف من المتكلمين
وذهب طوائف من المتكلمين وبعض الفقهاء إلى أن كل عدد أفاد العلم خبرهم بقضية أفاد خبر مثل ذلك العدد العلم فى كل قضية وهذا باطل قطعا لكن ليس هذا موضع بيان ذلك
فاما تأثير القرائن الخارجة عن المخبرين فى العلم بالخبر فلم نذكره لأن تلك القرائن قد تفيد العلم لو تجردت عن الخبر وإذا كانت
____________________
(20/258)
بنفسها قد تفيد العلم لم تجعل تابعة للخبر على الاطلاق كما لم يجعل الخبر تابعا لها بل كل منهما طريق إلى العلم تارة والى الظن أخرى وان اتفق اجتماع ما يوجب العلم به منهما أو اجتماع موجب العلم من أحدهما وموجب الظن من الآخر وكل من كان بالاخبار أعلم قد يقطع بصدق أخبار لا يقطع بصدقها من ليس مثله وتارة يختلفون فى كون الدلالة قطعية لاختلافهم فى أن ذلك الحديث هل هو نص أو ظاهر واذا كان ظاهرا فهل فيه ما ينفي الاحتمال المرجوح أولا وهذا أيضا باب واسع فقد يقطع قوم من العلماء بدلالة أحاديث لا يقطع بها غيرهم إما لعلمهم بان الحديث لا يحتمل الا ذلك المعنى أو لعلمهم بان المعنى الآخر يمنع حمل الحديث عليه أو لغير ذلك من الأدلة الموجبة للقطع
وأما القسم الثاني وهو الظاهر فهذا يجب العمل به فى الاحكام الشرعية باتفاق العلماء المعتبرين فان كان قد تضمن حكما علميا مثل الوعيد ونحوه فقد اختلفوا فيه
فذهب طوائف من الفقهاء إلى أن خبر الواحد العدل اذا تضمن وعيدا على فعل فانه يجب العمل به فى تحريم ذلك الفعل ولا يعمل به فى الوعيد الا أن يكون قطعيا وكذلك لو كان المتن قطعيا لكن الدلالة ظاهرة وعلى هذا حملوا قول عائشة رضي الله عنها أبلغي
____________________
(20/259)
زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يتوب قالوا فعائشة ذكرت الوعيد لأنها كانت عالمة به ونحن نعمل بخبرها فى التحريم وان كنا لا نقول بهذا الوعيد لأن الحديث انما ثبت عندنا بخبر واحد
وحجة هؤلاء ان الوعيد من الأمور العلمية فلا تثبت الا بما يفيد العلم وأيضا فان الفعل اذا كان مجتهدا فى حكمه لم يلحق فاعله الوعيد فعلى قول هؤلاء يحتج باحاديث الوعيد فى تحريم الأفعال مطلقا ولا يثبت بها الوعيد الا أن تكون الدلالة قطعية ومثله احتجاج اكثر العلماء بالقراءات التى صحت عن بعض الصحابة مع كونها ليست فى مصحف عثمان رضي الله عنه فانها تضمنت عملا وعلما وهي خبر واحد صحيح فاحتجوا بها فى اثبات العمل ولم يثبتوها قرآنا لأنها من الأمور العلمية التى لا تثبت الا بيقين
وذهب الأكثرون من الفقهاء وهو قول عامة السلف إلى أن هذه الأحاديث حجة فى جميع ما تضمنته من الوعيد فان أصحاب رسول الله والتابعين بعدهم مازالوا يثبتون بهذه الأحاديث الوعيد كما يثبتون بها العمل ويصرحون بلحوق الوعيد الذي فيها للفاعل فى الجملة وهذا منتشر عنهم فى أحاديثهم وفتاويهم وذلك لأن الوعيد من جملة الأحكام الشرعية التى ثبتت بالأدلة الظاهرة تارة
____________________
(20/260)
وبالأدلة القطعية أخرى فانه ليس المطلوب اليقين التام بالوعيد بل المطلوب الاعتقاد الذي يدخل فى اليقين والظن الغالب كما أن هذا هو المطلوب فى الأحكام العملية
ولا فرق بين اعتقاد الانسان أن الله حرم هذا وأوعد فاعله بالعقوبة المجملة واعتقاده ان الله حرمه وأوعده عليه بعقوبة معينة من حيث أن كلا منهما اخبار عن الله فكما جاز الاخبار عنه بالأول بمطلق الدليل فكذلك الاخبار عنه بالثانى بل لو قال قائل العمل بها فى الوعيد أوكد كان صحيحا
ولهذا كانوا يسهلون فى اسانيد أحاديث الترغيب والترهيب مالا يسهلون فى أسانيد احاديث الأحكام لأن اعتقاد الوعيد يحمل النفوس على الترك فان كان ذلك الوعيد حقا كان الانسان قد نجا وان لم يكن الوعيد حقا بل عقوبة الفعل أخف من ذلك الوعيد لم يضر الانسان اذا ترك ذلك الفعل خطؤه فى اعتقاده زيادة العقوبة لأنه ان اعتقد نقص العقوبة فقد يخطىء أيضا وكذلك ان لم يعتقد فى تلك الزيادة نفيا ولا اثباتا فقد يخطىء فهذا الخطأ قد يهون الفعل عنده فيقع فيه فيستحق العقوبة الزائدة ان كانت ثابتة أو يقوم به سبب استحقاق ذلك فاذا الخطأ فى الاعتقاد على التقديرين تقدير اعتقاد الوعيد وتقدير عدمه سواء والنجاة من العذاب على تقدير اعتقاد
____________________
(20/261)
الوعيد أقرب فيكون هذا التقدير أولى
وبهذا الدليل رجح عامة العلماء الدليل الحاظر على الدليل المبيح وسلك كثير من الفقهاء دليل الاحتياط فى كثير من الأحكام بناء على هذا واما الاحتياط فى الفعل فكالمجمع على حسنه بين العقلاء في الجملة فاذا كان خوفه من الخطأ بنفى اعتقاد الوعيد مقابلا لخوفه من الخطأ فى عدم هذا الاعتقاد بقى الدليل الموجب لاعتقاده والنجاة الحاصلة فى اعتقاده دليلين سالمين عن المعارض
وليس لقائل أن يقول عدم الدليل القطعي على الوعيد دليل على عدمه كعدم الخبر المتواتر على القراءات الزائدة على ما في المصحف لأن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول عليه ومن قطع بنفي شيء من الأمور العلمية لعدم الدليل القاطع على وجودها كما هو طريقة طائفة من المتكلمين فهو مخطىء خطأ بينا لكن إذا علمنا ان وجود الشيء مستلزم لوجود الدليل وعلمنا عدم الدليل وقطعنا بعدم الشيء المستلزم لأن عدم اللازم دليل على عدم الملزوم وقد علمنا أن الدواعي متوفرة على نقل كتاب الله ودينه فانه لا يجوز على الامة كتمان ما يحتاج إلى نقله حجة عامة فلما لم ينقل نقلا عاما صلاة سادسة ولا سورة اخرى علمنا يقينا عدم ذلك
____________________
(20/262)
وباب الوعيد ليس من هذا الباب فانه لا يجب فى كل وعيد على فعل أن ينقل نقلا متواترا كما لا يجب ذلك فى حكم ذلك الفعل فثبت أن الأحاديث المتضمنة للوعيد يجب العمل بها فى مقتضاها باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعد بذلك الوعيد لكن لحوق الوعيد به متوقف على شروط وله موانع
وهذه القاعدة تظهر بأمثلة منها أنه قد صح عن النبى أنه قال ( لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ( وصح عنه من غير وجه أنه قال لمن باع صاعين بصاع يدا بيد ( أوه عين الربا ( كما قال ( البر بالبر ربا الا هاء وهاء ( الحديث وهذا يوجب دخول نوعي الربا ربا الفضل وربا النسأ فى الحديث
ثم ان الذين بلغهم قول النبى ( انما الربا فى النسيئة ( فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يدا بيد مثل بن عباس رضي الله عنه وأصحابه أبى الشعثاء وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم من أعيان المكيين الذين هم من صفوة الأمة علما وعملا لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحدا منهم بعينه أو من قلده بحيث يجوز تقليده تبلغهم لعنة آكل الربا لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلا سائغا فى الجملة
____________________
(20/263)
وكذلك ما نقل عن طائفة من فضلاء المدنيين من إتيان المحاش مع ما رواه أبو داود عن النبى أنه قال ( من أتى امرأة فى دبرها فهو كافر بما أنزل على محمد ( أفيستحل مسلم أن يقول إن فلانا وفلانا كانا كافرين بما أنزل على محمد
وكذلك قد ثبت عنه أنه لعن فى الخمر عشرة عاصر الخمر ومعتصرها وشاربها وثبت عنه من وجوه أنه قال ( كل شراب أسكر فهو خمر ( وقال ( كل مسكر خمر ( وخطب عمر رضي الله عنه على منبره فقال بين المهاجرين والانصار الخمر ما خامر العقل وأنزل الله تحريم الخمر وكان سبب نزولها ما كانوا يشربونه فى المدينة ولم يكن لهم شراب الا الفضيخ لم يكن لهم من خمر الأعناب شيء
وقد كان رجال من أفاضل الأمة علما وعملا من الكوفيين يعتقدون أن لا خمر الا من العنب وأن ما سوى العنب والتمر لا يحرم من نبيذه الا مقدار ما يسكر ويشربون ما يعتقدون حله فلا يجوز أن يقال ان هؤلاء مندرجون تحت الوعيد لما كان لهم من العذر الذي تأولوا به أو لموانع أخر فلا يجوز أن يقال إن الشراب الذي شربوه ليس من الخمر الملعون شاربها فان سبب القول العام لابد أن يكون داخلا فيه ولم يكن بالمدينة خمر من العنب ثم أن النبى صلى
____________________
(20/264)
الله عليه وسلم قد لعن البائع للخمر وقد باع بعض الصحابة خمرا حتى بلغ عمر فقال قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ( ولم يكن يعلم أن بيعها محرم ولم يمنع عمر رضي الله عنه علمه بعدم علمه أن يبين جزاء هذا الذنب ليتناهى هو وغيره عنه بعد بلوغ العلم به
وقد لعن العاصر والمعتصر وكثير من الفقهاء يجوزون للرجل أن يعصر لغيره عنبا وان علم أن من نيته أن يتخذه خمرا فهذا نص في لعن العاصر مع العلم بأن المعذور تخلف الحكم عنه لمانع
وكذلك لعن الواصلة والموصولة فى عدة أحاديث صحاح ثم من الفقهاء من يكرهه فقط
وقال النبى ( ان الذي يشرب فى آنية الفضة انما يجرجر فى بطنه نار جهنم ( ومن الفقهاء من يكرهه كراهة تنزيه
وكذلك قوله ( اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار ( يجب العمل به فى تحريم قتال المؤمنين
____________________
(20/265)
بغير حق ثم انا نعلم أن أهل الجمل وصفين ليسوا فى النار لأن لهما عذرا وتأويلا فى القتال وحسنات منعت المقتضى أن يعمل عمله
وقال فى الحديث الصحيح ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء يمنعه بن السبيل فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ورجل بايع اماما لا يبايعه إلا لدنيا ان أعطاه رضي وان لم يعطه سخط ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا لقد أعطى بها أكثر مما أعطى ( فهذا وعيد عظيم لمن منع فضل مائه مع أن طائفة من العلماء يجوزون للرجل أن يمنع فضل مائه فلا يمنعنا هذا الخلاف أن نعتقد تحريم هذا محتجين بالحديث ولا يمنعنا مجيء الحديث أن نعتقد أن المتأول معذور فى ذلك لا يلحقه هذا الوعيد
وقال ( لعن الله المحلل والمحلل له ( وهو حديث صحيح قد روى عنه من غير وجه وعن أصحابه مع ان طائفة من العلماء صححوا نكاح المحلل مطلقا ومنهم من صححه اذا لم يشترط فى العقد ولهم فى ذلك أعذار معروفة فان قياس الأصول عند الاول ان النكاح لا يبطل بالشروط كما لا يبطل بجهالة أحد العوضين وقياس الاصول عند الثانى ان العقود المجردة عن شرط مقترن لا تغير
____________________
(20/266)
أحكام العقود ولم يبلغ هذا الحديث من قال هذا القول هذا هو الظاهر فان كتبهم المتقدمة لم تتضمنه ولو بلغهم لذكروه آخذين به أو مجيبين عنه أو بلغهم وتأولوه أو اعتقدوا نسخه أو كان عندهم ما يعارضه فنحن نعلم أن مثل هؤلاء لا يصيبه هذا الوعيد لو أنه فعل التحليل معتقدا حله على هذا الوجه ولا يمنعنا ذلك أن نعلم ان التحليل سبب لهذا الوعيد وإن تخلف فى حق بعض الاشخاص لفوات شرط أو وجود مانع
وكذلك استلحاق معاوية رضي الله عنه زياد بن أبيه المولود على فراش الحارث بن كلدة لكون ابى سفيان كان يقول انه من نطفته مع أنه قد قال ( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ( وقال ( من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ( حديث صحيح وقضى أن الولد للفراش وهو من الاحكام المجمع عليها فنحن نعلم أن من انتسب إلى غير الاب الذي هو صاحب الفراش فهو داخل فى كلام الرسول مع أنه لا يجوز أن يعين أحد دون الصحابة فضلا عن الصحابة فيقال ان هذا الوعيد لاحق به لا مكان أنه لم يبلغهم قضاء رسول الله بان الولد للفراش واعتقدوا
____________________
(20/267)
أن الولد لمن أحبل أمه واعتقدوا أن أبا سفيان هو المحبل لسمية أم زياد فان هذا الحكم قد يخفى على كثير من الناس لا سيما قبل انتشار السنة مع ان العادة فى الجاهلية كانت هكذا أو لغير ذلك من الموانع المانعة هذا المقتضى للوعيد ان يعمل عمله من حسنات تمحو السيئات وغير ذلك
وهذا باب واسع فانه يدخل فيه جميع الامور المحرمة بكتاب أو سنة إذا كان بعض الامة لم يبلغهم أدلة التحريم فاستحلوها أو عارض تلك الادلة عندهم أدلة أخرى رأوا رجحانها عليها مجتهدين فى ذلك الترجيح بحسب عقلهم وعلمهم فان التحريم له أحكام من التأثيم والذم والعقوبة والفسق وغير ذلك لكن لها شروط وموانع فقد يكون التحريم ثابتا وهذه الاحكام منتفية لفوات شرطها أو وجود مانع أو يكون التحريم منتفيا فى حق ذلك الشخص مع ثبوته فى حق غيره
وانما رددنا الكلام لأن للناس فى هذه المسألة قولين (
أحدهما ) وهو قول عامة السلف والفقهاء أن حكم الله واحد وأن من خالفه باجتهاد سائغ مخطىء معذور مأجور فعلى هذا يكون ذلك الفعل الذي فعله المتأول بعينه حراما لكن لا يترتب أثر التحريم عليه لعفو الله عنه فانه لا يكلف نفسا الا وسعها
____________________
(20/268)
والثانى ) فى حقه ليس بحرام لعدم بلوغ دليل التحريم له وان كان حراما فى حق غيره فتكون نفس حركة ذلك الشخص ليست حراما والخلاف متقارب وهو شبيه بالاختلاف فى العبارة
فهذا هو الذي يمكن أن يقال فى أحاديث الوعيد اذا صادفت محل خلاف اذ العلماء مجمعون على الاحتجاج فى تحريم الفعل المتوعد عليه سواء كان محل وفاق أو خلاف بل اكثر ما يحتاجون إليه الاستدلال بها فى موارد الخلاف لكن اختلفوا فى الاستدلال بها على الوعيد إذا لم تكن قطعية على ما ذكرناه
فان قيل فهلا قلتم إن أحاديث الوعيد لا تتناول محل الخلاف وإنما تتناول محل الوفاق وكل فعل لعن فاعله أو توعد بغضب أو عقاب حمل على فعل اتفق على تحريمه لئلا يدخل بعض المجتهدين فى الوعيد إذا فعل ما اعتقد تحليله بل المعتقد أبلغ من الفاعل اذ هو الآمر له بالفعل فيكون قد ألحق به وعيد اللعن أو الغضب بطريق الاستلزام
قلنا الجواب من وجوه (
أحدها ) أن جنس التحريم اما أن يكون ثابتا فى محل خلاف
____________________
(20/269)
أو لا يكون فان لم يكن ثابتا فى محل خلاف قط لزم أن لا يكون حراما الا ما أجمع على تحريمه فكل ما اختلف فى تحريمه يكون حلالا وهذا مخالف لاجماع الأمة وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الاسلام
وان كان ثابتا ولو فى صورة فالمستحل لذلك الفعل المحرم من المجتهدين اما أن يلحقه ذم من حلل الحرام أو فعله وعقوبته أولا فان قيل انه يلحقه أو قيل انه لا يلحقه فكذلك التحريم الثابت فى حديث الوعيد اتفاقا والوعيد الثابت فى محل الخلاف على ما ذكرناه من التفصيل بل الوعيد انما جاء على الفاعل وعقوبة محلل الحرام فى الاصل أعظم من عقوبة فاعله من غير اعتقاد فاذا جاز ان يكون التحريم ثابتا فى صورة الخلاف ولا يلحق المحلل المجتهد عقوبة ذلك الاحلال للحرام لكونه معذورا فيه فلأن لا يلحق الفاعل وعيد ذلك الفعل أولى وأحرى
وكما لم يلزم دخول المجتهد تحت حكم هذا التحريم من الذم والعقاب وغير ذلك لم يلزم دخوله تحت حكمه من الوعيد اذ ليس الوعيد الا نوعا من الذم والعقاب فان جاز دخوله تحت هذا الجنس فما كان الجواب عن بعض أنواعه كان جوابا عن البعض الآخر ولا يغنى الفرق بقلة الذم وكثرته أو شدة العقوبة وخفتها فان المحذور في قليل الذم
____________________
(20/270)
والعقاب فى هذا المقام كالمحذور فى كثيره فان المجتهد لا يلحقه قليل ذلك ولا كثيره بل يلحقه ضد ذلك من الاجر والثواب (
الثانى ) أن كون حكم الفعل مجمعا عليه أو مختلفا فيه أمور خارجة عن الفعل وصفاته وإنما هي أمور اضافية بحسب ما عرض لبعض العلماء من عدم العلم واللفظ العام ان اريد به الخاص فلابد من نصب دليل يدل على التخصيص إما مقترن بالخطاب عند من لا يجوز تأخير البيان وإما موسع فى تأخيره إلى حين الحاجة عند الجمهور ولا شك ان المخاطبين بهذا على عهد رسول الله كانوا محتاجين إلى معرفة حكم الخطاب فلو كان المراد باللفظ العام فى لعنة آكل الربا والمحلل ونحوهما المجمع على تحريمه وذلك لا يعلم إلا بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم وتكلم الامه في جميع افراد ذلك العام لكان قد أخر بيان كلامه إلى أن تكلم جميع الامة فى جميع أفراده وهذا لا يجوز (
الثالث ) أن هذا الكلام إنما خوطبت الامة به لتعرف الحرام فتجتنبه ويستندون فى إجماعهم إليه ويحتجون فى نزاعهم به فلو كانت الصورة المرادة هي ما أجمعوا عليه فقط لكان العلم بالمراد موقوفا على الاجماع فلا يصح الاحتجاج به قبل الاجماع فلا يكون مستندا للاجماع لأن مستند الاجماع يجب أن يكون متقدما عليه فيمتنع تأخره
____________________
(20/271)
عنه فانه يفضى إلى الدور الباطل فان أهل الاجماع حينئذ لا يمكنهم الاستدلال بالحديث على صورة حتى يعلموا أنها مرادة ولا يعلمون أنها مرادة حتى يجتمعوا فصار الاستدلال موقوفا على الاجماع قبله والاجماع موقوفا على الاستدلال قبله اذا كان الحديث هو مستندهم فيكون الشيء موقوفا على نفسه فيمتنع وجوده ولا يكون حجة فى محل الخلاف لأنه لم يرد وهذا تعطيل للحديث عن الدلالة على الحكم فى محل الوفاق والخلاف وذلك مستلزم ان لا يكون شيء من النصوص التى فيها تغليظ للفعل أفادنا تحريم ذلك الفعل وهذا باطل قطعا (
الرابع ) أن هذا يستلزم ان لا يحتج بشيء من هذه الاحاديث إلا بعد العلم بأن الأمة أجمعت على تلك الصورة فاذا الصدر الأول لا يجوز أن يحتجوا بها بل ولا يجوز أن يحتج بها من يسمعها من فى رسول الله ويجب على الرجل اذا سمع مثل هذا الحديث ووجد كثيرا من العلماء قد عملوا به ولم يعلم له معارض ان لا يعمل به حتى يبحث عنه هل في أقطار الأرض من يخالفه كما لا يجوز له أن يحتج فى مسألة بالاجماع الا بعد البحث التام واذا يبطل الاحتجاج بحديث رسول الله بمجرد خلاف واحد من المجتهدين فيكون قول الواحد مبطلا لكلام رسول الله وموافقته محققة لقول رسول الله وإذا كان ذلك الواحد قد أخطأ صار خطؤه
____________________
(20/272)
مبطلا لكلام رسول الله
وهذا كله باطل بالضرورة فانه ان قيل لا يحتج به الا بعد العلم بالاجماع صارت دلالة النصوص موقوفة على الإجماع وهو خلاف الاجماع وحينئذ فلا يبقى للنصوص دلالة فان المعتبر إنما هو الاجماع والنص عديم التأثير فان قيل يحتج به إذ لا يعلم وجود الخلاف فيكون قول واحد من الأمة مبطلا لدلالة النص وهذا أيضا خلاف الاجماع وبطلانه معلوم بالاضطرار من دين الاسلام (
الخامس ) أنه اما أن يشترط فى شمول الخطاب اعتقاد جميع الامة للتحريم أو يكتفى باعتقاد العلماء
فان كان الاول لم يجز أن يستدل على التحريم باحاديث الوعيد حتى يعلم أن جميع الامة حتى الناشئين بالبوادي البعيدة والداخلين فى الاسلام من المدة القريبة قد اعتقدوا ان هذا محرم وهذا لا يقوله مسلم بل ولا عاقل فان العلم بهذا الشرط متعذر
وان قيل يكتفى باعتقاد جميع العلماء قيل له انما اشترطت إجماع العلماء حذرا من أن يشمل الوعيد لبعض المجتهدين وان كان مخطئا وهذا بعينه موجود فيمن لم يسمع دليل التحريم من العامة فان
____________________
(20/273)
محذور شمول اللعنة لهذا كمحذور شمول اللعنة لهذا ولا ينجي من هذا الالزام أن يقال ذلك من أكابر الأمة وفضلاء الصديقين وهذا من أطراف الأمة فان افتراقهما من هذا الوجه لا يمنع اشتراكهما فى هذا الحكم فان الله سبحانه كما غفر للمجتهد اذا أخطأ غفر للجاهل إذا أخطأ ولم يمكنه التعلم بل المفسدة التى تحصل بفعل واحد من العامة محرما لم يعلم تحريمه ولم يمكنه معرفة تحريمه أقل بكثير من المفسدة التى تنشأ من احلال بعض الائمة لما قد حرمه الشارع وهو لم يعلم تحريمه ولم يمكنه معرفة تحريمه
ولهذا قيل احذروا زلة العالم فانه اذا زل زل بزلته عالم قال بن عباس رضي الله عنهما ويل للعالم من الاتباع فان كان هذا معفوا عنه مع عظم المفسدة الناشئة من فعله فلأن يعفى عن الآخر مع خفة مفسدة فعله أولى نعم يفترقان من وجه آخر وهو أن هذا اجتهد فقال باجتهاد وله من نشر العلم واحياء السنة ما تنغمر فيه هذه المفسدة وقد فرق الله بينهما من هذا الوجه فأثاب المجتهد على اجتهاده وأثاب العالم على علمه ثوابا لم يشركه فيه ذلك الجاهل فهما مشتركان فى العفو مفترقان فى الثواب ووقوع العقوبة على غير المستحق ممتنع جليلا كان أو حقيرا فلابد من اخراج هذا الممتنع من الحديث بطريق يشمل القسمين
____________________
(20/274)
السادس ) أن من أحاديث الوعيد ما هو نص فى صورة الخلاف مثل لعنة المحلل له فان من العلماء من يقول إن هذا لا يأثم بحال فانه لم يكن ركنا فى العقد الأول بحال حتى يقال لعن لاعتقاده وجوب الوفاء بالتحليل فمن اعتقد أن نكاح الأول صحيح وان بطل الشرط فانها تحل للثانى جرد الثانى عن الاثم بل وكذلك المحلل فانه اما أن يكون ملعونا على التحليل أو على اعتقاده وجوب الوفاء بالشرط المقرون بالعقد فقط أو على مجموعهما فان كان الأول أو الثالث حصل الغرض وان كان الثانى فهذا الاعتقاد هو الموجب للعنة سواء حصل هناك تحليل أو لم يحصل وحينئذ فيكون المذكور فى الحديث ليس هو سبب اللعنة وسبب اللعنة لم يتعرض له وهذا باطل
ثم هذا المعتقد وجوب الوفاء ان كان جاهلا فلا لعنة عليه وان كان عالما بانه لا يجب فمحال أن يعتقد الوجوب الا أن يكون مراغما للرسول فيكون كافرا فيعود معنى الحديث إلى لعنة الكفار والكفر لا اختصاص له بانكار هذا الحكم الجزئى دون غيره فان هذا بمنزلة من يقول لعن الله من كذب الرسول فى حكمه بأن شرط الطلاق فى النكاح باطل ثم هذا كلام عام عموما لفظيا ومعنويا وهو عموم مبتدأ ومثل هذا العموم لا يجوز حمله على الصور النادرة اذ الكلام يعود لكنة
____________________
(20/275)
وعيا كتأويل من يتأول قوله ( أيما امرأة نكحت من غير اذن وليها ( على المكاتبة
وبيان ندورة أن المسلم الجاهل لا يدخل فى الحديث والمسلم العالم بأن هذا الشرط لا يجب الوفاء به لا يشترطه معتقدا وجوب الوفاء به الا أن يكون كافرا والكافر لا ينكح نكاح المسلمين الا أن يكون منافقا وصدور هذا النكاح على مثل هذا الوجه من أندر النادر ولو قيل إن مثل هذه الصورة لا تكاد تخطر ببال المتكلم لكان القائل صادقا
وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة فى غير هذا الموضع على أن هذا الحديث قصد به المحلل القاصد وان لم يشترط وكذلك الوعيد الخاص من اللعنة والنار وغير ذلك قد جاء منصوصا فى مواضع مع وجود الخلاف فيها مثل حديث بن عباس رضي الله عنهما عن النبى أنه قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( قال الترمذى حديث حسن وزيارة النساء رخص فيها بعضهم وكرهها بعضهم ولم يحرمها وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبى ( لعن الله الذين يأتون النساء فى محاشهن ( وحديث أنس رضي الله عنه عن النبى انه قال ( الجالب مرزوق والمحتكر ملعون
____________________
(20/276)
وقد تقدم حديث الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وفيهم من منع فضل مائه وقد لعن بائع الخمر وقد باعها بعض المتقدمين
وقد صح عنه من غير وجه أنه قال ( من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ( وقال ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ( مع ان طائفة من الفقهاء يقولون ان الجر والاسبال للخيلاء مكروه غير محرم
وكذلك قوله ( لعن الله الواصلة والمستوصلة وهو من أصح الأحاديث وفي وصل الشعر خلاف معروف
وكذلك قوله ( ان الذي يشرب فى آنية الفضة انما يجرجر فى بطنه نار جهنم ( ومن العلماء من لم يحرم ذلك (
السابع ) أن الموجب للعموم قائم والمعارض المذكور لا يصلح أن يكون معارضا لأن غايته أن يقال حمله على صور الوفاق والخلاف يستلزم دخول بعض من لا يستحق اللعن فيه فيقال اذا كان التخصيص على خلاف الأصل فتكثيره على خلاف الأصل فيستثنى من هذا العموم
____________________
(20/277)
من كان معذورا بجهل أو اجتهاد أو تقليد مع أن الحكم شامل لغير المعذورين كما هو شامل لصور الوفاق فان هذا التخصيص أقل فيكون أولى (
الثامن ) انا إذا حملنا اللفظ على هذا كان قد تضمن ذكر سبب اللعن ويبقى المستثنى قد تخلف الحكم عنه لمانع ولا شك ان من وعد وأوعد ليس عليه أن يستثنى من تخلف الوعد أو الوعيد فى حقه لمعارض فيكون الكلام جاريا على منهاج الصواب
أما إذا جعلنا اللعن على فعل المجمع على تحريمه أو سبب اللعن هو اعتقاد المخالف للاجماع كان سبب اللعن غير مذكور فى الحديث مع أن ذلك العموم لابد فيه من التخصيص أيضا فاذا كان لابد من التخصيص على التقديرين فالتزامه على الأول أولى لموافقة وجه الكلام وخلوه عن الاضمار (
التاسع ) ان الموجب لهذا انما هو نفي تناول اللعنة للمعذور وقد قدمنا فيما مضى ان أحاديث الوعيد انما المقصود بها بيان أن ذلك الفعل سبب لتلك اللعنة فيكون التقدير هذا الفعل سبب اللعن فلو قيل هذا لم يلزم منه تحقق الحكم فى حق كل شخص لكن يلزم منه قيام السبب اذا لم يتبعه الحكم ولا محذور فيه وقد قررنا فيما مضى أن
____________________
(20/278)
الذم لا يلحق المجتهد حتى انا نقول ان محلل الحرام أعظم اثما من فاعله ومع هذا فالمعذور معذور
فان قيل فمن المعاقب فان فاعل هذا الحرام اما مجتهد أو مقلد له وكلاهما خارج عن العقوبة
قلنا الجواب من وجوه
أحدها أن المقصود بيان أن هذا الفعل مقتض للعقوبة سواء وجد من يفعله أو لم يوجد فاذا فرض انه لا فاعل إلا وقد انتفى فيه شرط العقوبة أو قد قام به ما يمنعها لم يقدح هذا في كونه محرما بل نعلم أنه محرم ليجتنبه من يتبين له التحريم ويكون من رحمة الله بمن فعله قيام عذر له وهذا كما ان الصغائر محرمة وان كانت تقع مكفرة باجتناب الكبائر وهذا شأن جميع المحرمات المختلف فيها فان تبين أنها حرام وان كان قد يعذر من يفعلها مجتهدا أو مقلدا فان ذلك لا يمنعنا أن نعتقد تحريمها
الثانى ان بيان الحكم سبب لزوال الشبهة المانعة من لحوق العقاب فان العذر الحاصل بالاعتقاد ليس المقصود بقاءه بل المطلوب زواله بحسب الامكان ولولا هذا لما وجب بيان العلم ولكان ترك
____________________
(20/279)
الناس على جهلهم خيرا لهم ولكان ترك دلائل المسائل المشتبهة خيرا من بيانها الثالث أن بيان الحكم والوعيد سبب لثبات المجتنب على اجتنابه ولولا ذلك لانتشر العمل بها
الرابع ان هذا العذر لا يكون عذرا الا مع العجز عن إزالته والا فمتى أمكن الانسان معرفة الحق فقصر فيها لم يكن معذورا
الخامس انه قد يكون فى الناس من يفعله غير مجتهد اجتهادا يبيحه ولا مقلدا تقليدا يبيحه فهذا الضرب قد قام فيه سبب الوعيد من غير هذا المانع الخاص فيتعرض للوعيد ويلحقه الا أن يقوم فيه مانع آخر من توبة أو حسنات ماحية أو غير ذلك ثم هذا مضطرب قد يحسب الانسان ان اجتهاده أو تقليده مبيح له أن يفعل ويكون مصيبا فى ذلك تارة ومخطئا أخرى لكن متى تحرى الحق ولم يصده عنه اتباع الهوى فلا يكلف الله نفسا الا وسعها (
العاشر ) انه ان كان ابقاء هذه الأحاديث على مقتضياتها مستلزما لدخول بعض المجتهدين تحت الوعيد واذا كان لازما على التقديرين بقي الحديث سالما عن المعارض فيجب العمل به
____________________
(20/280)
بيان ذلك أن كثيرا من الأئمة صرحوا بأن فاعل الصورة المختلف فيها ملعون منهم عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فانه سأل عمن تزوجها ليحلها ولم تعلم بذلك المرأة ولا زوجها فقال هذا سفاح وليس بنكاح لعن الله المحلل والمحلل له وهذا محفوظ عنه من غير وجه وعن غيره منهم الامام أحمد بن حنبل فانه قال إذا أراد الاحلال فهو محلل وهو ملعون وهذا منقول عن جماعات من الأئمة فى صور كثيرة من صور الخلاف في الخمر والربا وغيرهما
فان كانت اللعنة الشرعية وغيرها من الوعيد الذي جاء لم يتناول الا محل الوفاق فيكون هؤلاء قد لعنوا من لا يجوز لعنه فيستحقون من الوعيد الذي جاء فى غير حديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( لعن المسلم كقتله وقوله فيما رواه بن مسعود رضي الله عنه ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ( متفق عليهما وعن أبى الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ان الطعانين واللعانين لا يكونون يوم القيامة شفعاء ولا شهداء ( وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لاينبغى لصديق أن يكون لعانا ( رواهما مسلم وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء ( رواه الترمذي
____________________
(20/281)
وقال حديث حسن وفى أثر آخر ( ما من رجل يلعن شيئا ليس له بأهل إلا حارت اللعنة عليه
فهذا الوعيد الذي قد جاء فى اللعن حتى قيل إن من لعن من ليس بأهل كان هو الملعون وان هذا اللعن فسوق وأنه مخرج عن الصديقية والشفاعة والشهادة يتناول من لعن من ليس بأهل فاذا لم يكن فاعل المختلف فيه داخلا فى النص لم يكن أهلا فيكون لا عنه مستوجبا لهذا الوعيد فيكون أولئك المجتهدون الذين رأوا دخول محل الخلاف فى الحديث مستوجبين لهذا الوعيد فاذا كان المحذور ثابتا على تقدير اخراج محل الخلاف وتقدير بقائه علم أنه ليس بمحذور ولا مانع من الاستدلال بالحديث وإن كان المحذور ليس ثابتا على واحد من التقديرين فلا يلزم محذور ألبتة وذلك أنه إذا ثبت التلازم وعلم أن دخولهم على تقدير الوجود مستلزم لدخولهم على تقدير العدم فالثابت أحد الأمرين إما وجود الملزوم واللازم وهو دخولهم جميعا او عدم اللازم والملزوم وهو عدم دخولهم جميعا لأنه إذا وجد الملزوم وجد اللازم وإذا عدم اللازم عدم الملزوم
وهذا القدر كاف فى ابطال السؤال لكن الذي نعتقده أن الواقع عدم دخولهم على التقديرين على ما تقرر وذلك أن الدخول تحت الوعيد مشروط بعدم العذر فى الفعل وأما المعذور عذرا شرعيا فلا
____________________
(20/282)
يتناوله الوعيد بحال والمجتهد معذور بل مأجور فينتفي شرط الدخول فى حقه فلا يكون داخلا سواء اعتقد بقاء الحديث على ظاهره أو أن فى ذلك خلافا يعذر فيه وهذا الزام مفحم لا محيد عنه إلا إلى وجه واحد وهو أن يقول السائل أنا أسلم أن من العلماء المجتهدين من يعتقد دخول مورد الخلاف فى نصوص الوعيد ويوعد على مورد الخلاف بناء على هذا الاعتقاد فيلعن مثلا من فعل ذلك الفعل لكن هو مخطيىء فى هذا الاعتقاد خطأ يعذر فيه ويؤجر فلا يدخل فى وعيد من لعن بغير حق لأن ذلك الوعيد هو عندي محمول على لعن محرم بالاتفاق فمن لعن لعنا محرما بالاتفاق تعرض للوعيد المذكور على اللعن وإذا كان اللعن من موارد الاختلاف لم يدخل فى أحاديث الوعيد كما أن الفعل المختلف فى حله ولعن فاعله لا يدخل فى أحاديث الوعيد فكما أخرجت محل الخلاف من الوعيد الأول أخرج محل الخلاف من الوعيد الثاني
واعتقد أن احاديث الوعيد فى كلا الطرفين لم تشمل محل الخلاف لا فى جواز الفعل ولا فى جواز لعنة فاعله سواء اعتقد جواز الفعل أو عدم جوازه فاني على التقديرين لا أجوز لعنة فاعله ولا أجوز لعنة من لعن فاعله ولا اعتقد الفاعل ولا اللاعن داخلا فى حديث وعيد ولا أغلظ على اللاعن إغلاظ من يراه متعرضا للوعيد بل
____________________
(20/283)
لعنه لمن فعل المختلف فيه عندي من جملة مسائل الاجتهاد وأنا أعتقد خطأه فى ذلك كما قد أعتقد خطأ المبيح فان المقالات في محل الخلاف ثلاثة أحدها القول بالجواز والثانى القول بالتحريم ولحوق الوعيد والثالث القول بالتحريم الخالي من هذا الوعيد الشديد
وأنا قد أختار هذا القول الثالث لقيام الدليل على تحريم الفعل وعلى تحريم لعنه فاعل المختلف فيه مع إعتقادى أن الحديث الوارد فى توعد الفاعل وتوعد اللاعن لم يشمل هاتين الصورتين
فيقال للسائل أن جوزت أن تكون لعنه هذا الفاعل من مسائل الاجتهاد جاز أن يستدل عليها بالظاهر المنصوص فانه حينئذ لا أمان من إرادة محل الخلاف من حديث الوعيد والمقتضى لارادته قائم فيجب العمل به وان لم تجوز أن يكون من مسائل الاجتهاد كان لعنه محرما تحريما قطعيا
ولا ريب أن من لعن مجتهدا لعنا محرما تحريما قطعيا كان داخلا فى الوعيد الوارد للاعن وإن كان متأولا كمن لعن بعض السلف الصالح فثبت أن الدور لازم سواء قطعت بتحريم لعنة فاعل المختلف فيه أو سوغت الاختلاف فيه وذلك الاعتقاد الذي ذكرته لا يدفع الاستدلال بنصوص الوعيد على التقديرين وهذا بين
____________________
(20/284)
ويقال له أيضا ليس مقصودنا بهذا الوجه تحقيق تناول الوعيد لمحل الخلاف وانما المقصود تحقيق الاستدلال بحديث الوعيد على محل الخلاف والحديث أفاد حكمين التحريم والوعيد وما ذكرته إنما يتعرض لنفي دلالته على الوعيد فقط والمقصود هنا انما هو بيان دلالته على التحريم فاذا التزمت أن الأحاديث المتوعدة للاعن لا تتناول لعنا مختلفا فيه لم يبق فى اللعن المختلف فيه دليل على تحريمه وما نحن فيه من اللعن المختلف فيه كما تقدم فاذا لم يكن حراما كان جائزا
أو يقال فاذا لم يقم دليل على تحريمه لم يجز اعتقاد تحريمه والمقتضى لجوازه قائم وهي الأحاديث اللاعنة لمن فعل هذا وقد اختلف العلماء فى جواز لعنته ولا دليل على تحريم لعنته على هذا التقدير فيجب العمل بالدليل المقتضى لجواز لعنته السالم عن المعارض
وهذا يبطل السؤال فقد دار الأمر على السائل من جهة أخرى وإنما جاء هذا الدور الآخر لأن عامة النصوص المحرمة للعن متضمنة للوعيد فان لم يجز الاستدلال بنصوص الوعيد على محل الخلاف لم يجز الاستدلال بها على لعن مختلف فيه كما تقدم
ولو قال انا استدل على تحريم هذه اللعنة بالاجماع
قيل له الاجماع منعقد على تحريم لعنة معين من أهل الفضل
____________________
(20/285)
أما لعنة الموصوف فقد عرفت الخلاف فيه وقد تقدم ان لعنة الموصوف لا تستلزم إصابة كل واحد من أفراده إلا إذا وجدت الشروط وارتفعت الموانع وليس الأمر كذلك
ويقال له أيضا كل ما تقدم من الأدلة الدالة على منع حمل هذه الأحاديث على محل الوفاق ترد هنا وهي تبطل هذا السؤال هنا كما أبطلت أصل السؤال وليس هذا من باب جعل الدليل مقدمة من مقدمات دليل آخر حتى يقال هذا مع التطويل انما هو دليل واحد إذ المقصود منه أن نبين أن المحذور الذي ظنوه هو لازم على التقديرين فلا يكون محذورا فيكون دليل واحد قد دل على إرادة محل الخلاف من النصوص وعلى انه لا محذور فى ذلك وليس بمستنكر ان يكون الدليل على مطلوب مقدمة فى دليل مطلوب آخر وان كان المطلوبان متلازمين (
الحادي عشر ) ان العلماء متفقون على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم فانما خالف بعضهم فى العمل [ بآحادها فى الوعيد خاصة فاما فى التحريم فليس فيه خلاف معتد محتسب وما زال العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم رضي الله عنهم أجمعين فى خطابهم وكتابهم يحتجون بها فى موارد الخلاف وغيره بل إذا كان فى الحديث وعيد كان ذلك أبلغ فى اقتضاء التحريم على ما تعرفه
____________________
(20/286)
القلوب وقد تقدم أيضا التنبيه على رجحان قول من يعمل بها فى الحكم واعتقاد الوعيد وانه قول الجمهور وعلى هذا فلا يقبل سؤال يخالف الجماعة (
الثانى عشر ) ان نصوص الوعيد من الكتاب والسنة كثيرة جدا والقول بموجبها واجب على وجه العموم والاطلاق من غير ان يعين شخص من الأشخاص فيقال هذا ملعون ومغضوب عليه أو مستحق للنار لا سيما ان كان لذلك الشخص فضائل وحسنات فان من سوى الأنبياء تجوز عليهم الصغائر والكبائر مع امكان أن يكون ذلك الشخص صديقا أو شهيدا أو صالحا لما تقدم أن موجب الذنب يتخلف عنه بتوبة أو استغفار أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة أو لمحض مشيئته ورحمته
فاذا قلنا بموجب قوله تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } وقوله تعالى { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وقوله تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا } إلى غير ذلك من آيات الوعيد أو قلنا بموجب قوله
____________________
(20/287)
( لعن الله من شرب الخمر أو عق والديه أو من غير منار الأرض أو لعن الله السارق أو لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه أو لعن الله لاوي الصدقة والمعتدى فيها أو من أحدث فى المدينة حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أو من جر ازاره بطرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة أو لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ومن غشنا فليس منا أو من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فالجنة عليه حرام أو من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان أو من استحل مال امرئ مسلم بيمين كاذبة فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة أو لا يدخل الجنة قاطع ( إلى غير ذلك من احاديث الوعيد لم يجز ان نعين شخصا ممن فعل بعض هذه الأفعال ونقول هذا المعين قد اصابه هذا الوعيد لإمكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة ولم يجز أن نقول هذا يستلزم لعن المسلمين ولعن أمة محمد أو لعن الصديقين أو الصالحين لأنه يقال الصديق والصالح متى صدرت منه بعض هذه الأفعال فلابد من مانع يمنع لحوق الوعيد به مع قيام سببه ففعل هذه الأمور ممن يحسب انها مباحة باجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك غايته أن يكون نوعا من أنواع الصديقين الذين أمتنع لحوق الوعيد بهم لمانع كما امتنع لحوق الوعيد به لتوبة
____________________
(20/288)
أو حسنات ماحية أو غير ذلك
واعلم ان هذه السبيل هي التى يجب سلوكها فان ما سواها طريقان خبيثان
احدهما القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد بعينه ودعوى ان هذا عمل بموجب النصوص وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب والمعتزلة وغيرهم وفساده معلوم بالاضطرار وادلته معلومة فى غير هذا الموضع
الثاني ترك القول والعمل بموجب احاديث رسول الله ظنا ان القول بموجبها مستلزم للطعن فيما خالفها وهذا الترك يجر إلى الضلال واللحوق بأهل الكتابين الذين اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح بن مريم فان النبى قال ( لم يعبدوهم ولكن احلوا لهم الحرام فاتبعوهم وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم ( ويفضي إلى طاعة المخلوق فى معصية الخالق ويفضي إلى قبح العاقبة وسوء التأويل المفهوم من فحوى قوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
____________________
(20/289)
ثم إن العلماء يختلفون كثيرا فان كان كل خبر فيه تغليظ خالفه مخالف ترك القول بما فيه من التغليظ أو ترك العمل به مطلقا لزم من هذا من المحذور ما هو اعظم من ان يوصف من الكفر والمروق من الدين وان لم يكن المحذور من هذا اعظم من الذي قبله لم يكن دونه فلابد ان نؤمن بالكتاب ونتبع ما أنزل إلينا من ربنا جميعه ولا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض وتلين قلوبنا لا تباع بعض السنة وتنفر عن قبول بعضها بحسب العادات والاهواء فان هذا خروج عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين
والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه من القول والعمل فى خير وعافية لنا ولجميع المسلمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتخبين وازواجه امهات المؤمنين والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا
____________________
(20/290)
وسئل
عن الشيخ عبد القادر أنه أفضل المشائخ والامام أحمد أنه أفضل الأئمة فهل هذا صحيح أم لا
فأجاب
أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض مثل من يرجح إمامه الذي تفقه على مذهبه أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره كمن يرجح الشيخ عبد القادر أو الشيخ أبا مدين او أحمد او غيرهم فهذا الباب أكثر الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس فانهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة والمشايخ ولا يقصدون اتباع الحق المطلق بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح متبوعه فيرجحه بظن يظنه وإن لم يكن معه برهان على ذلك وقد يفضى ذلك إلى تحاجهم وقتالهم وتفرقهم وهذا مما حرم الله ورسوله كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه }
____________________
(20/291)
) قال بن عباس تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والفرقة
فما دخل فى هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم فانه يجب النهي عنه فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله وأما من ترجح عندة فضل امام على امام أو شيخ على شيخ بحسب إجتهاده كما تنازع المسلمون أيما أفضل الترجيع فى الأذان او تركه أو إفراد الاقامة أو إثنائها وصلاة الفجر بغلس او الاسفار بها والقنوت فى الفجر او تركه والجهر بالتسمية او المخافتة بها أو ترك قراءتها ونحو ذلك فهذه مسائل الاجتهاد التى تنازع فيها السلف والأئمة فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده من كان فيها أصاب الحق فله أجران ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر وخطؤه مغفور له فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك ومن ترجح عنده تقليد أحمد
____________________
(20/292)
لم ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعى ونحو ذلك
ولا أحد فى الاسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام أن فلانا أفضل من فلان فيقبل منه هذا الجواب لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه كما أن من يرجح قولا أو عملا لا يقبل قول من يفتى بخلاف ذلك لكن إن كان الرجل مقلدا فليكن مقلدا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق فان كان مجتهدا اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } لكن عليه أن لا يتبع هواه ولا يتكلم بغير علم قال تعالى { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } وقال تعالى { يجادلونك في الحق بعد ما تبين }
وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره ولا يعرف هذا التفاضل إلا من خاض فى تفاصيل العلم والله أعلم
____________________
(20/293)
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
عن ( صحة أصول مذهب أهل المدينة ( ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم فى الامامة والديانة وضبطه علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار
فأجاب رضي الله عنه
الحمد لله مذهب أهل المدينة النبوية دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة اذ فيها سن الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم سنن الاسلام وشرائعه وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله وبها كان الأنصار ( الذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم ) مذهبهم فى زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الاسلامية شرقا وغربا فى الأصول والفروع
وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون الثلاثة المفضلة التى
____________________
(20/294)
قال فيها النبى فى الحديث الصحيح من وجوه ( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ( فذكر بن حبان بعد قرنه قرنين بلا نزاع وفى بعض الأحاديث الشك فى القرن الثالث بعد قرنه وقد روى فى بعضها بالجزم باثبات القرن الثالث بعد قرنه فتكون أربعة
وقد جزم بذلك بن حبان البستى ونحوه من علماء أهل الحديث في طبقات هذه الأمة فان هذه الزيادة ثابتة في الصحيح
أما أحاديث الثلاثة ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( خير أمتى القرن الذين يلوننى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ( وفى صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت سأل رجل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي الناس خير قال ( القرن الذي بعثت فيهم ثم الثاني ثم الثالث (
وأما الشك فى الرابع ففي الصحيحين عن عمران بن حصين ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال ( ان خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ( قال عمران فلا ادري أقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قرنه مرتين او ثلاثا ( ثم
____________________
(20/295)
يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن ( وفى لفظ ( خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الحديث وقال فيه ( ويحلفون ولا يستحلفون (
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ( خير أمتى القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ( والله أعلم اذكر الثالث أم لا ( ثم يخلف قوم يحبون السمانة يشهدون قبل أن يستشهدوا (
وقوله فى هذه الأحاديث ( يشهدون قبل أن يستشهدوا ( قد فهم منه طائفة من العلماء ان المراد به أداء الشهادة بالحق قبل أن يطلبها المشهود له وحملوا ذلك على ما اذا كان عالما جمعا بين هذا وبين قوله ( الا انبئكم بخير الشهداء الذي يأتى بشهادته قبل أن يسألها ( وحملوا الثاني على أن يأتى بها المشهود له فيعرفه بها
والصحيح أن الذم فى هذه الأحاديث لمن يشهد بالباطل كما جاء فى بعض ألفاظ الحديث ثم يفشو فيهم الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد ولهذا قرن ذلك بالخيانة وبترك الوفاء بالنذر وهذه الخصال الثلاثة هي آية المنافق كما ثبت فى الحديث المتفق عليه عنه
____________________
(20/296)
صلى الله تعالى عليه وسلم انه قال ( آية المنافق ثلاث اذا حدث كذب واذا وعد أخلف واذا اؤتمن خان ( وفى لفظ لمسلم ( وان صام وصلى وزعم انه مسلم ( فذمهم صلى الله تعالى عليه وسلم على ما يفشو فيهم من خصال النفاق وبين انهم يسارعون إلى الكذب حتى يشهد الرجل بالكذب قبل أن يطلب منه ذلك فانه شر ممن لا يكذب حتى يسأل أن يكذب
وأما ما فيه ذكر القرن الرابع فمثل ما فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدري عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال ( يأتى على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم ( ثم يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب أصحاب رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم ( 0 ولفظ البخارى ( ثم يأتى على الناس زمان يغزو فئام من الناس ( ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم فى الثانية والثالثة وقال فيها كلها صحب ولم يقل رأى
____________________
(20/297)
ولمسلم من رواية أخرى ( يأتى على الناس زمان يبعث فيهم البعث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاني فيقولون هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يبعث البعث الثالث فيقولون انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم يكون البعث الرابع فيقال انظروا هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح لهم به (
وحديث أبى سعيد هذا يدل على شيئين على أن صاحب النبى هو من رآه مؤمنا به وان قلت صحبته كما قد نص على ذلك الأئمة أحمد وغيره وقال مالك من صحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سنة او شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك وذلك ان لفظ الصحبة جنس تحته أنواع يقال صحبه شهرا وساعة
وقد بين فى هذا الحديث ان حكم الصحبة يتعلق بمن رآه مؤمنا به فانه لابد من هذا
وفى الطريق الثانى لمسلم ذكر أربعة قرون ومن أثبت هذه
____________________
(20/298)
الزيادة قال هذه من ثقة وترك ذكرها فى بقية الأحاديث لا ينفي وجودها كما انه لما شك فى حديث أبى هريرة أذكر الثالث لم يقدح فى سائر الأحاديث الصحيحة التى ثبت فيها القرن الثالث ومن أنكرها قال فى حديث بن مسعود الصحيح اخبر انه بعد القرون الثلاثة يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته فيكون مابعد الثلاثة ذكر بذم وقد يقال لامنافاة بين الخبرين فانه قد يظهر الكذب فى القرن الرابع ومع هذا فيكون فيه من يفتح به لاتصال الرؤية
وفى القرون التى اثنى عليها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان مذهب أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن فانهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله اكثر من سائر الأمصار وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم فى العلم بالسنة النبوية واتباعها حتى انهم لا يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك وان افتقار العلماء ومقاصد العباد اكثر من افتقار أهل المدينة حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله بما كان عندهم من الأثار النبوية التى يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد
ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن اجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة لا فى تلك الاعصار ولا فيما
____________________
(20/299)
بعدها لا اجماع أهل مكة ولا الشام ولا العراق ولا غير ذلك من أمصار المسلمين ومن حكى عن أبى حنيفة أو أحد من اصحابه ان اجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعها على كل مسلم فقد غلط على أبى حنيفة وأصحابه فى ذلك وأما المدينة فقد تكلم الناس فى اجماع أهلها واشتهر عن مالك وأصحابه ان اجماع أهلها حجة وان كان بقية الأئمة ينازعونهم فى ذلك
والكلام انما هو فى اجماعهم فى تلك الأعصار المفضلة وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن اجماع أهلها ليس بحجة اذ كان حينئذ فى غيرها من العلماء ما لم يكن فيها لاسيما من حين ظهر فيها الرفض فان أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة او قبل ذلك او بعد ذلك فانهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم لا سيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية وقدم عليهم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة وبذل لهم أموالا كثيرة فكثرت البدعة فيها من حينئذ
فاما الاعصار الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة ولا خرج منها بدعة فى أصول الدين ألبتة كما خرج من سائر الامصار فان الامصار الكبار التى سكنها اصحاب رسول الله صلى الله تعالى
____________________
(20/300)
عليه وسلم وخرج منها العلم والايمان خمسة الحرمان والعراقان والشام منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من امور الاسلام
وخرج من هذه الامصار بدع أصولية غير المدينة النبوية
فالكوفة خرج منها التشيع والارجاء وانتشر بعد ذلك فى غيرها
والبصرة خرج منها القدر والاعتزال والنسك الفاسد وانتشر بعد ذلك في غيرها
والشام كان بها النصب والقدر
وأما التجهم فانما ظهر من ناحية خراسان وهو شر البدع
وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية وتقدم بعقوبتها الشيعة من الأصناف الثلاثة الغالية حيث حرقهم علي بالنار والمفضلة حيث تقدم بجلدهم ثمانين والسبائية حيث توعدهم وطلب أن يعاقب بن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه
ثم فى أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية فى آخر عصر بن عمر
____________________
(20/301)
وبن عباس وجابر وأمثالهم من الصحابة
وحدثت المرجئة قريبا من ذلك وأما الجهمية فانما حدثوا فى أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز وقد روى انه انذر بهم وكان ظهور جهم بخراسان فى خلافة هشام بن عبد الملك وقد قتل المسلمون شيخهم الجعد بن درهم قبل ذلك ضحى به خالد بن عبد الله القسري وقال يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فاني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا ثم نزل فذبحه وقد روى ان ذلك بلغ الحسن البصري وأمثاله من التابعين فشكروا ذلك
وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع وإن كان بها من هو مضمر لذلك فكان عندهم مهانا مذموما اذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم ولكن كانوا مذمومين مقهورين بخلاف التشيع والارجاء بالكوفة والاعتزال وبدع النساك بالبصرة والنصب بالشام فانه كان ظاهرا
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ان
____________________
(20/302)
الدجال لا يدخلها وفى الحكاية المعروفة ان عمرو بن عبيد وهو رأس المعتزلة مر بمن كان يناجي سفيان الثوري ولم يعلم انه سفيان فقال عمرو لذلك الرجل من هذا فقال هذا سفيان الثوري او قال من أهل الكوفة قال لو علمت بذلك لدعوته إلى رأيى ولكن ظننته من هؤلاء المدنيين الذين يجيئونك من فوق ولم يزل العلم والايمان بها ظاهرا إلى زمن أصحاب مالك وهم أهل القرن الرابع حيث اخذ ذلك القرن عن مالك وأهل طبقته كالثورى والأوزاعى والليث بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وأمثالهم وهؤلاء أخذوا عن طوائف من التابعين وأولئك اخذوا عمن ادركوا من الصحابة
والكلام فى اجماع أهل المدينة فى تلك الاعصار
والتحقيق في ( مسألة اجماع أهل المدينة ( ان منه ما هو متفق عليه بين المسلمين ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين ومنه مالا يقول به الا بعضهم
وذلك أن اجماع أهل المدينة على أربع مراتب (
الاولى ( ما يجري مجرى النقل عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم
____________________
(20/303)
مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد وكترك صدقة الخضراوات والأحباس فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء أما الشافعي وأحمد واصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع كما هو حجة عند مالك وذلك مذهب ابي حنيفة واصحابه
قال ابو يوسف رحمه الله وهو اجل اصحاب ابى حنيفة وأول من لقب قاضي القضاة لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر رجع أبو يوسف إلى قوله وقال لو رأى صاحبى مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت فقد نقل أبو يوسف ان مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث فلا لوم عليهم فى ترك ما لم يبلغهم علمه وكان رجوع أبى يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما لعلمهما بان شيخهما كان يقول ان هذه الاحاديث أيضا حجة إن صحت لكن لم تبلغه
ومن ظن بأبى حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين انهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم وتكلم اما بظن وإما بهوى فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ فى
____________________
(20/304)
السفر مخالفة للقياس وبحديث القهقهة فى الصلاة مع مخالفته للقياس لاعتقاده صحتهما وان كان أئمة الحديث لم يصححوهما
وقد بينا هذا في رسالة ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ( وبينا ان أحدا من أئمة الاسلام لا يخالف حديثا صحيحا بغير عذر بل لهم نحو من عشرين عذرا مثل أن يكون احدهم لم يبلغه الحديث أو بلغه من وجه لم يثق به أو لم يعتقد دلالته على الحكم او اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك والاعذار يكون العالم فى بعضها مصيبا فيكون له اجران ويكون فى بعضها مخطئا بعد اجتهاده فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له لقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت فى الصحيح ان الله استجاب هذا الدعاء وقال ( قد فعلت ) ولأن العلماء ورثة الانبياء
وقد ذكر الله عن داود وسليمان انهما حكما فى قضية وأنه فهمها أحدهما ولم يعب الآخر بل اثنى على كل واحد منهما بانه آتاه حكما وعلما فقال { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }
____________________
(20/305)
وهذه الحكومة تتضمن مسألتين تنازع فيهما العلماء مسألة نفش الدواب فى الحرث بالليل وهو مضمون عند جمهور العلماء كمالك والشافعى وأحمد وأبو حنيفة لم يجعله مضمونا والثانى ضمان بالمثل والقيمة وفى ذلك نزاع فى مذهب الشافعي واحمد وغيرهما
والمأثور عن أكثر السلف فى نحو ذلك يقتضي الضمان بالمثل إذا امكن كما قضى به سليمان وكثير من الفقهاء لا يضمنون ذلك إلا بالقيمة كالمعروف من مذهب أبى حنيفة والشافعي واحمد
والمقصود هنا ان عمل اهل المدينة الذي يجرى مجرى النقل حجه باتفاق المسلمين كما قال مالك لأبي يوسف لما سأله عن الصاع والمد وأمر أهل المدينة باحضار صيعانهم وذكروا له ان اسنادها عن اسلافهم أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون قال لا والله ما يكذبون فانا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق فقال رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبى ما رأيت لرجع كما رجعت وسأله عن صدقة الخضراوات فقال هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما يعنى وهي تنبت فيها الخضراوات وسأله عن الاحباس فقال هذا حبس فلان وهذا حبس فلان يذكر لبيان الصحابة فقال ابو يوسف في كل منهما
____________________
(20/306)
قد رجعت يا ابا عبد الله ولو رأى صاحبى ما رأيت لرجع كما رجعت
وابو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء فى انه ليس فى الخضراوات صدقة كمذهب مالك والشافعي وأحمد وفى انه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء وان الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء
وإنما قال مالك ارطالكم يا أهل العراق لأنه لما انقرضت الدولة الأموية وجاءت دولة ولد العباس قريبا فقام أخوه ابو جعفر الملقب بالمنصور فبنى بغداد فجعلها دار ملكه وكان ابو جعفر يعلم أن أهل الحجاز حينئذ كانوا اعنى بدين الاسلام من أهل العراق ويروى انه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة قال نظرت فى هذا الأمر فوجدت أهل العراق اهل كذب وتدليس أو نحو ذلك ووجدت أهل الشام انما هم اهل غزو وجهاد ووجدت هذا الأمر فيكم ويقال انه قال لمالك انت اعلم أهل الحجاز او كما قال
فطلب ابو جعفر علماء الحجاز ان يذهبوا إلى العراق وينشروا العلم فيه فقدم عليهم هشام بن عروة ومحمد بن إسحاق ويحيى بن
____________________
(20/307)
سعيد الأنصارى وربيعة بن ابي عبد الرحمن وحنظلة بن ابى سفيان الجمحي وعبد العزيز بن ابى سلمة الماجشون وغير هؤلاء وكان ابو يوسف يختلف فى مجالس هؤلاء ويتعلم منهم الحديث واكثر عمن قدم من الحجاز ولهذا يقال فى اصحاب ابى حنيفة ابو يوسف اعلمهم بالحديث وزفر اطردهم للقياس والحسن بن زياد اللؤلؤي اكثرهم تفريعا ومحمد أعلمهم بالعربية والحساب وربما قيل اكثرهم تفريعا فلما صارت العراق دار الملك واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة غير المكيال الشرعي برطل أهل العراق وكان رطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس اذ ذاك تسعين مثقالا مائة وثمانية وعشرون درهما واربعة اسباع الدرهم فهذا هو المرتبة الأولى لاجماع اهل المدينة وهو حجة باتفاق المسلمين
المرتبة الثانية ( العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان فهذا حجة فى مذهب مالك وهو المنصوص عن الشافعي قال في رواية يونس بن عبد الأعلى إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف فى قلبك ريبا انه الحق وكذا ظاهر مذهب احمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها وقال احمد كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة نبوة ومعلوم ان بيعة ابي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة وكذلك بيعة علي كانت بالمدينة ثم خرج منها وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة بيعة
____________________
(20/308)
وقد ثبت فى الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الامور فان كل بدعة ضلالة (
وفى السنن من حديث سفينة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يصير ملكا عضوضا (
فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي ان قول الخلفاء الراشدين حجة وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
و ( المرتبة الثالثة ( اذا تعارض فى المسألة دليلان كحديثين وقياسين جهل ايهما ارجح واحدهما يعمل به اهل المدينة ففيه نزاع فمذهب مالك والشافعي انه يرجح بعمل أهل المدينة ومذهب ابى حنيفة انه لا يرجح بعمل اهل المدينة
ولاصحاب احمد وجهان احدهما وهو قول القاضي ابى يعلى وبن عقيل انه لا يرجح والثانى وهو قول ابى الخطاب وغيره انه يرجح به قيل هذا هو المنصوص عن احمد ومن كلامه قال اذا رأى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية وكان يفتى على مذهب أهل
____________________
(20/309)
المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرا كثيرا وكان يدل المستفتى على مذاهب اهل الحديث ومذهب أهل المدينة ويدل المستفتى على إسحاق وابي عبيد وابى ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث ويدله على حلقه المدنيين حلقه ابى مصعب الزهري ونحوه وابو مصعب هو آخر من مات من رواة الموطأ عن مالك مات بعد احمد بسنة سنة اثنتين واربعين ومائتين وكان احمد يكره ان يرد على أهل المدينة كما يرد على أهل الرأي ويقول انهم اتبعوا الآثار
فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك فى الترجيح لأقوال أهل المدينة
واما ( المرتبة الرابعة ( فهي العمل المتأخر بالمدينة فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبى حنيفة وغيرهم وهو قول المحققين من اصحاب مالك كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب فى كتابه ( اصول الفقه ( وغيره ذكر أن هذا ليس اجماعا ولا حجة عند المحققين من اصحاب مالك وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من اصحابه وليس معه للأئمة نص ولا دليل بل هم أهل تقليد
قلت ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة وهو فى الموطأ انما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم وتارة
____________________
(20/310)
يقول الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الاجماع القديم وتارة لا يذكر
ولو كان مالك يعتقد ان العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وان خالفت النصوص لوجب عليه ان يلزم الناس بذلك حد الامكان كما يجب عليه ان يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التى لا تعارض فيها وبالاجماع وقد عرض عليه الرشيد أو غيره ان يحمل الناس على موطأه فامتنع من ذلك وقال ان اصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفرقوا فى الامصار وإنما جمعت علم أهل بلدي او كما قال
واذا تبين ان اجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك ان قولهم اصح أقوال أهل الامصار رواية ورأيا وانه تارة يكون حجة قاطعة وتارة حجة قوية وتارة مرجحا للدليل اذ ليست هذه الخاصية لشيء من امصار المسلمين
ومعلوم ان من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة اذ لم يخرج منها احد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه فانه لما فتح الشام والعراق وغيرهما ارسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الامصار من يعلمهم الكتاب والسنة فذهب إلى العراق عبد الله
____________________
(20/311)
بن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وعمران بن حصين وسلمان الفارسي وغيرهم وذهب إلى الشام معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء وبلال بن رباح وأمثالهم وبقي عنده مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومثل ابى بن كعب ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وغيرهم
وكان بن مسعود وهو اعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك يفتى بالفتيا ثم يأتى المدينة فيسأل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله فيرجع إليهم كما جرى فى مسألة امهات النساء لما ظن بن مسعود ان الشرط فيها وفي الربيبة وانه اذا طلق امرأته قبل الدخول حلت امها كما تحل ابنتها فلما جاء إلى المدينة وسأل عن ذلك اخبره علماء الصحابة ان الشرط فى الربيبة دون الامهات فرجع إلى قولهم وامر الرجل بفراق امرأته بعد ما حملت
وكان أهل المدينة فيما يعملون اما أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب ويقال إن مالكا أخذ جل الموطأ عن ربيعة وربيعة عن سعيد بن المسيب وسعيد بن المسيب عن عمر وعمر محدث وفى الترمذي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال ( لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر ( وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم انه
____________________
(20/312)
قال ( كان فى الأمم قبلكم محدثون فان يكن فى امتى احد فعمر ( وفى السنن عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم انه قال ( اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر (
وكان عمر يشاور أكابر الصحابة كعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وهم اهل الشورى ولهذا قال الشعبى انظروا ما قضى به عمر فانه كان يشاور ومعلوم ان ما كان يقضي أو يفتى به عمر ويشاور فيه هؤلاء ارجح مما يقضي أو يفتى به بن مسعود أو نحوه رضي الله عنهم أجمعين
وكان عمر فى مسائل الدين والأصول والفروع إنما يتبع ما قضى به رسول الله وكان يشاور عليا وغيره من أهل الشورى كما شاوره فى المطلقة المعتدة الرجعية فى المرض إذا مات زوجها هل ترث وأمثال ذلك
فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة وانتقل علي إلى العراق هو وطلحة والزبير لم يكن بالمدينة من هو مثل هؤلاء ولكن كان بها من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من هو أجل ممن مع علي من الصحابة
فأعلم من كان بالكوفة من الصحابة علي وبن مسعود وعلي كان
____________________
(20/313)
بالمدينة إذ كان بها عمر وعثمان وبن مسعود وهو نائب عمر وعثمان ومعلوم ان عليا مع هؤلاء أعظم علما وفضلا من جميع من معه من أهل العراق ولهذا كان الشافعي يناظر بعض أهل العراق فى الفقه محتجا على المناظر بقول علي وبن مسعود فصنف الشافعي ( كتاب اختلاف علي وعبد الله ( يبين فيه ما تركه المناظر وغيره من أهل العلم من قولهما وجاء بعده محمد بن نصر المروزي فصنف فى ذلك أكثر مما صنف الشافعي قال انكم وسائر المسلمين تتركون قوليهما لما هو راجح من قوليهما وكذلك غيركم يترك ذلك لما هو راجح منه
ومما يوضح الأمر في ذلك ان سائر أمصار المسلمين غير الكوفة كانوا منقادين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم اكفاءهم في العلم كأهل الشام ومصر مثل الأوزاعي ومن قبله وبعده من الشاميين ومثل الليث بن سعد ومن قبل ومن بعد من المصريين وان تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بين وكذلك علماء أهل البصرة كايوب وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم
ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصار فان أهل مصر صاروا نصرة لقول أهل المدينة وهم اجلاء أصحاب مالك المصريين كابن وهب وبن القاسم وأشهب وعبد الله بن الحكم والشاميون
____________________
(20/314)
مثل الوليد بن مسلم ومروان بن محمد وأمثالهم لهم روايات معروفة عن مالك
وأما أهل العراق كعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن زيد ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم كانوا على مذهب مالك وكانوا قضاة القضاة واسماعيل ونحوه كانوا من أجل علماء الاسلام
واما الكوفيون بعد الفتنة والفرقة يدعون مكافاة أهل المدينة واما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا متبعين لأهل المدينة ومنقادين لهم لا يعرف قبل مقتل عثمان ان أحدا من أهل الكوفة أو غيرها يدعى أن أهل مدينته أعلم من أهل المدينة فلما قتل عثمان وتفرقت الأمة وصاروا شيعا ظهر من أهل الكوفة من يساوى بعلماء أهل الكوفة علماء أهل المدينة
ووجه الشبهة في ذلك أنه ضعف أمر المدينة لخروج خلافة النبوة منها وقوي أمر أهل العراق لحصول علي فيها لكن ما فيه الكلام من مسائل الفروع والأصول قد استقر فى خلافة عمر ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر الأمصار قبل الفرقة اولى من قولهم وحديثهم بعد الفرقة قال عبيدة السلماني قاضي علي رضي الله عنه رأيك مع عمر فى الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك فى الفرقة
____________________
(20/315)
ومعلوم أنه كان بالكوفة من الفتنة والتفرق ما دل عليه النص والاجماع لقول النبى صلى الله عليه وسلم ( الفتنة من ها هنا الفتنة من ها هنا الفتنة من ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان ( وهذا الحديث قد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه
ومما يوضح الأمر فى ذلك أن العلم إما رواية واما رأى وأهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأيا وأما حديثهم فاصح الأحاديث وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة ثم أحاديث أهل البصرة وأما أحاديث أهل الشام فهي دون ذلك فانه لم يكن لهم من الاسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء ولم يكن فيهم يعنى أهل المدينة ومكة والبصرة والشام من يعرف بالكذب لكن منهم من يضبط ومنهم من لا يضبط
وأما أهل الكوفة فلم يكن الكذب فى أهل بلد اكثر منه فيهم ففي زمن التابعين كان بها خلق كثيرون منهم معروفون بالكذب لا سيما الشيعة فانهم أكثر الطوائف كذبا باتفاق أهل العلم ولاجل هذا يذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة انهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق لانهم قد علموا ان فيهم كذابين ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب فاما اذا علموا صدق الحديث فانهم يحتجون به كما روى مالك عن ايوب السختياني وهو عراقي فقيل
____________________
(20/316)
له ( فى ) ذلك فقال ما حدثتكم عن أحد إلا وايوب افضل منه او نحو هذا
وهذا القول هو القول القديم للشافعي حتى روى انه قيل له إذا روى سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله حديثا لا يحتج به فقال ان لم يكن له أصل بالحجاز وإلا فلا ثم ان الشافعى رجع عن ذلك وقال لاحمد بن حنبل انتم أعلم بالحديث منا فاذا صح الحديث فأخبرنى به حتى أذهب إليه شاميا كان أو بصريا أو كوفيا ولم يقل مكيا أو مدنيا لأنه كان يحتج بهذا قبل
واما علماء اهل الحديث كشعبة ويحيى بن سعيد واصحاب الصحيح والسنن فكانوا يميزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم فيعلمون من بالكوفة والبصرة من الثقات الذين لا ريب فيهم وان فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز ولا يستريب عالم فى مثل أصحاب عبد الله بن مسعود كعلقمة والاسود وعبيدة السلمانى والحارث التيمي وشريح القاضي ثم مثل ابراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وامثالهم من أوثق الناس واحفظهم فلهذا صار علماء اهل الاسلام متفقين على الاحتجاج بما صححه اهل العلم بالحديث من اي مصر كان وصنف ابو داود السجستانى مفاريد اهل الامصار يذكر فيه ما انفرد اهل كل مصر من المسلمين من أهل العلم بالسنة
____________________
(20/317)
واما الفقه والرأي فقد علم ان أهل المدينة لم يكن فيهم من ابتدع بدعة فى اصول الدين ولما حدث الكلام فى الرأي فى اوائل الدولة العباسية وفرع لهم ربيعة بن هرمز فروعا كما فرع عثمان البستى وامثاله بالبصرة وابو حنيفة وامثاله بالكوفة وصار فى الناس من يقبل ذلك وفيهم من يرد وصار الرادون لذلك مثل هشام بن عروة وابي الزناد والزهري وبن عيينة وامثالهم فان ردوا ما ردوا من الرأى المحدث بالمدينة فهم للرأي المحدث بالعراق اشد ردا فلم يكن أهل المدينة اكثر من أهل العراق فيما لا يحمدوهم فوقهم فيما يحمدونه وبهذا يظهر الرجحان
واما ما قال هشام بن عروة لم يزل امر بني اسرائيل معتدلا حتى فشى فيهم المولدون ابناء سبايا الامم فقالوا فيهم بالرأى فضلوا واضلوا قال بن عيينة فنظرنا فى ذلك فوجدنا ما حدث من الرأي انما هو من المولدين ابناء سبايا الامم وذكر بعض من كان بالمدينة وبالبصرة وبالكوفة والذين بالمدينة احمد عند هذا ممن بالعراق من أهل المدينة
ولما قال مالك رضي الله عنه عن احدى الدولتين انهم كانوا اتبع للسنن من الدولة الاخرى قال ذلك لأجل ما ظهر بمقاربتها من الحدثان لأن اولئك اولى بالخلافة نسبا وقرنا
____________________
(20/318)
وقد كان المنصور والمهدي والرشيد وهم سادات خلفاء بنى العباس يرجحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق كما كان خلفاء بني أمية يرجحون اهل الحجاز على علماء أهل الشام ولما كان فيهم من لم يسلك هذا السبيل بل عدل إلى الآراء المشرقية كثر الأحداث فيهم وضعفت الخلافة
ثم ان بغداد انما صار فيها من العلم والايمان ما صار وترجحت على غيرها بعد موت مالك وامثاله من علماء أهل الحجاز وسكنها من افشى السنة بها واظهر حقائق الاسلام مثل أحمد بن حنبل وأبي عبيد وأمثالهما من فقهاء أهل الحديث ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة فى الاصول والفروع وكثر ذلك فيها وانتشر منها إلى الامصار وانتشر ايضا من ذلك الوقت في المشرق والمغرب فصار فى المشرق مثل إسحاق بن ابراهيم بن راهويه واصحابه واصحاب عبد الله بن المبارك وصار إلى المغرب من علم أهل المدينة ما نقل اليهم من علماء الحديث فصار فى بغداد وخراسان والمغرب من العلم مالا يكون مثله إذ ذاك بالحجاز والبصرة
أما أحوال الحجاز فلم يكن بعد عصر مالك واصحابه من علماء الحجاز من يفضل على علماء المشرق والعراق والمغرب
____________________
(20/319)
وهذا باب يطول تتبعه ولو استقصينا فضل علماء اهل المدينة وصحة أصولهم لطال الكلام
اذا تبين ذلك فلا ريب عند أحد أن مالكا رضي الله عنه اقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا فانه لم يكن فى عصره ولا بعده اقوم بذلك منه كان له من المكانة عند أهل الاسلام الخاص منهم والعام مالا يخفى على من له بالعلم ادنى إلمام وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب اخبار الرواة عن مالك فبلغوا الفا وسبعمائة أو نحوها وهؤلاء الذين اتصل إلى الخطيب حديثهم بعد قريب من ثلاثمائة سنة فكيف بمن انقطعت اخبارهم او لم يتصل إليه خبرهم فان الخطيب توفى سنة اثنتين وستين واربعمائة وعصره وعصر بن عبد البر والبيهقي والقاضى أبى يعلى وامثال هؤلاء واحد ومالك توفى سنة تسع وسبعين ومائة وتوفى أبو حنيفة سنة خمسين ومائة وتوفى الشافعى سنة أربع ومائتين وتوفى أحمد إبن حنبل سنة أحدى وأربعين ومائتين ولهذا قال الشافعى رحمه الله ما تحت اديم السماء كتاب اكثر صوابا بعد كتاب الله من موطأ مالك وهو كما قال الشافعى رضى الله عنه
وهذا لا يعارض ما عليه أئمة الاسلام من انه ليس بعد القرآن كتاب أصح من صحيح البخاري ومسلم مع أن الأئمة على أن البخارى
____________________
(20/320)
اصح من مسلم ومن رجح مسلما فانه رجحه بجمعه ألفاظ الحديث فى مكان واحد فان ذلك ايسر على من يريد جمع ألفاظ الحديث واما من زعم ان الأحاديث التى انفرد بها مسلم أو الرجال الذين انفرد بهم اصح من الأحاديث التى انفرد بها البخارى ومن الرجال الذين انفرد بهم فهذا غلط لا يشك فيه عالم كما لا يشك احد ان البخاري اعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ وأنه افقه منه إذ البخارى وأبو داود افقه اهل الصحيح والسنن المشهورة وان كان قد يتفق لبعض ما انفرد به مسلم ان يرجح على بعض ما انفرد به البخاري فهذا قليل والغالب بخلاف ذلك فان الذي اتفق عليه أهل العلم انه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخارى ومسلم
وإنما كان هذان الكتابان كذلك لأنه جرد فيهما الحديث الصحيح المسند ولم يكن القصد بتصنيفهما ذكر آثار الصحابة والتابعين ولا سائر الحديث من الحسن والمرسل وشبه ذلك ولا ريب ان ما جرد فيه الحديث الصحيح المسند عن رسول الله فهو اصح الكتب لأنه اصح منقولا عن المعصوم من الكتب المصنفة
واما الموطأ ونحوه فانه صنف على طريقة العلماء المصنفين اذ ذاك فان الناس على عهد رسول الله كانوا يكتبون القرآن وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد نهاهم ان يكتبوا عنه غير
____________________
(20/321)
القرآن وقال ( من كتب عنى شيئا غير القرآن فليمحه ( ثم نسخ ذلك عند جمهور العلماء حيث أذن فى الكتابة لعبد الله بن عمرو وقال ( اكتبوا لابى شاه ( وكتب لعمرو بن حزم كتابا قالوا وكان النهي أولا خوفا من اشتباه القرآن بغيره ثم أذن لما أمن ذلك فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكتبون وكتبوا ايضا غيره
ولم يكونوا يصنفون ذلك فى كتب مصنفة إلى زمن تابع التابعين فصنف العلم فاول من صنف بن جريج شيئا فى التفسير وشيئا فى الاموات وصنف سعيد بن ابى عروبة وحماد بن سلمة ومعمر وامثال هؤلاء يصنفون ما في الباب عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وهذه هي كانت كتب الفقة والعلم والأصول والفروع بعد القرآن فصنف مالك الموطأ على هذه الطريقة
وصنف بعد عبد الله بن المبارك وعبد الله بن وهب ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وغير هؤلاء فهذه الكتب التى كانوا يعدونها فى ذلك الزمان هي التى أشار اليها الشافعي رحمه الله فقال ليس بعد القرآن كتاب اكثر صوابا من موطأ مالك فان حديثه اصح من حديث نظرائه وكذلك الامام احمد لما سئل عن حديث مالك ورأيه
____________________
(20/322)
وحديث غيره ورأيهم رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم
وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذى وغيره عن النبى انه قال ( يوشك ان يضرب الناس اكباد الابل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة ( فقد روى عن غير واحد كابن جريج وبن عيينة وغيرهما انهم قالوا هو مالك
والذين نازعوا فى هذا لهم مأخذان احدهما الطعن فى الحديث فزعم بعضهم ان فيه انقطاعا والثاني أنه أراد غير مالك كالعمري الزاهد ونحوه
فيقال ما دل عليه الحديث وانه مالك امر متقرر لمن كان موجودا وبالتواتر لمن كان غائبا فانه لا ريب انه لم يكن في عصر مالك احد ضرب إليه الناس اكباد الابل اكثر من مالك وهذا يقرر بوجهين
أحدهما بطلب تقديمه على مثل الثوري والأوزاعي والليث وابى حنيفة وهذا فيه نزاع ولا حاجة إليه فى هذا المقام
والثانى أن يقال ان مالكا تأخر موته عن هؤلاء كلهم فانه
____________________
(20/323)
توفى سنة تسع وسبعين ومائة وهؤلاء كلهم ماتوا قبل ذلك فمعلوم انه بعد موت هؤلاء لم يكن فى الأمة اعلم من مالك فى ذلك العصر وهذا لا ينازع فيه احد من المسلمين ولا رحل إلى احد من علماء المدينة ما رحل إلى مالك لا قبله ولا بعده رحل إليه من المشرق والمغرب ورحل إليه الناس على اختلاف طبقاتهم من العلماء والزهاد والملوك والعامة وانتشر موطأه فى الأرض حتى لا يعرف في ذلك العصر كتاب بعد القرآن كان اكثر انتشارا من الموطأ واخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق ومن اصغر من اخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما وكان محمد بن الحسن إذا حدث بالعراق عن مالك والحجازيين تمتلىء داره وإذا حدث عن أهل العراق يقل الناس لعلمهم بان علم مالك واهل المدينة اصح واثبت
وأجل من أخذ عنه الشافعي العلم اثنان مالك وبن عيينة ومعلوم عند كل أحد ان مالكا اجل من بن عيينة حتى إنه كان يقول إنى ومالكا كما قال القائل ** وبن اللبون اذا ما لز فى قرن ** لم يستطع صولة البزل القناعيس **
ومن زعم ان الذي ضربت إليه اكباد الابل فى طلب العلم هو العمري الزاهد مع كونه كان رجلا صالحا زاهدا آمرا بالمعروف
____________________
(20/324)
ناهيا عن المنكر لم يعرف ان الناس احتاجوا إلى شيء من علمه ولا رحلوا إليه فيه وكان إذا أراد أمرا يستشير مالكا ويستفتيه كما نقل أنه استشاره لما كتب إليه من العراق ان يتولى الخلافة فقال حتى اشاور مالكا فلما استشارة اشار عليه ان لا يدخل في ذلك واخبره ان هذا لايتركه ولد العباس حتى تراق فيه دماء كثيرة وذكر له ما ذكره عمر بن عبد العزيز لما قيل له ول القاسم بن محمد ان بني امية لا يدعون هذا الأمر حتى تراق فيه دماء كثيرة
وهذه علوم التفسير والحديث والفتيا وغيرها من العلوم لم يعلم أن الناس اخذوا عن العمرى الزاهد منها ما يذكر فكيف يقرن هذا بمالك فى العلم ورحلة الناس إليه
ثم هذه كتب الصحيح التى اجل ما فيها كتاب البخاري اول ما يستفتح الباب بحديث مالك وان كان في الباب شيء من حديث مالك لا يقدم على حديثه غيره ونحن نعلم ان الناس ضربوا اكباد الابل فى طلب العلم فلم يجدوا عالما اعلم من مالك فى وقته
والناس كلهم مع مالك وأهل المدينة إما موافق واما منازع فالموافق لهم عضد ونصير والمنازع لهم معظم لهم مبجل لهم
____________________
(20/325)
عارف بمقدارهم وما تجد من يستخف باقوالهم ومذاهبهم الا من ليس معدودا من ائمة العلم وذلك لعلمهم ان مالكا هو القائم بمذهب اهل المدينة وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الامصار فان موطأه مشحون اما بحديث أهل المدينة واما بما اجتمع عليه أهل المدينة اما قديما واما حديثا واما مسألة تنازع فيها أهل المدينة وغيرهم فيختار فيها قولا ويقول هذا احسن ما سمعت فأما بأثار معروفة عند علماء المدينة ولو قدر انه كان فى الازمان المتقدمة من هو اتبع لمذهب اهل المدينة من مالك فقد انقطع ذلك ولسنا ننكر أن من الناس من انكر على مالك مخالفته أولا لاحاديثهم فى بعض المسائل كما يذكر عن عبد العزيز الدراوردي انه قال له فى مسألة تقدير المهر بنصاب السرقة تعرقت يا ابا عبد الله اي صرت فيها إلى قول أهل العراق الذين يقدرون اقل المهر بنصاب السرقة لكن النصاب عند أبى حنيفة واصحابه عشرة دراهم وأما مالك والشافعى واحمد فالنصاب عندهم ثلاثة دراهم أو ربع دينار كما جاءت بذلك الاحاديث الصحاح
فيقال أولا ان مثل هذه الحكاية تدل على ضعف أقاويل أهل العراق عند أهل المدينة وانهم كانوا يكرهون للرجل أن يوافقهم
____________________
(20/326)
وهذا مشهور عندهم يعيبون الرجل بذلك كما قال بن عمر لما استفتاه عن دم البعوض وكما قال بن المسيب لربيعة لما سأله عن عقل أصابع المرأة
وأما ثانيا فمثل هذا فى قول مالك قليل جدا وما من عالم الا وله ما يرد عليه وما احسن ما قال بن خويز منداد فى مسألة بيع كتب الرأي والاجارة عليها لا فرق عندنا بين رأي صاحبنا مالك وغيره في هذا الحكم لكنه أقل خطأ من غيره وأما الحديث فاكثره نجد مالكا قد قال به في احدى الروايتين وانما تركه طائفة من اصحابه كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع موافقا للحديث الصحيح الذي رواه لكن بن القاسم ونحوه من البصريين هم الذين قالوا بالرواية الاولى ومعلوم ان مدونة بن القاسم اصلها مسائل اسد بن الفرات التى فرعها اهل العراق ثم سأل عنها اسد بن القاسم فاجابه بالنقل عن مالك وتارة بالقياس على قوله ثم اصلها فى رواية سحنون فلهذا يقع فى كلام بن القاسم طائفة من الميل إلى اقوال اهل العراق وإن لم يكن ذلك من اصول أهل المدينة ثم اتفق انه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس وكان يحيى بن يحيى
____________________
(20/327)
عامل الاندلس والولاة يستشيرونه فكانوا يأمرون القضاة ان لا يقضوا الا بروايته عن مالك ثم رواية غيره فانتشرت رواية بن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها وقد تكون مرجوحة فى المذهب وعمل اهل المدينة والسنة حتى صاروا يتركون رواية الموطأ الذي هو متواتر عن مالك وما زال يحدث به إلى ان مات لرواية بن القاسم وان كان طائفة من أئمة المالكية انكروا ذلك فمثل هذا ان كان فيه عيب فانما هو على من نقل ذلك لا على مالك ويمكن المتبع لمذهبه ان يتبع السنة فى عامة الأمور اذ قل من سنة إلا وله قول يوافقها بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة فانهم كثيرا ما يخالفون السنة وان لم يتعمدوا ذلك
ثم من تدبر اصول الاسلام وقواعد الشريعة وجد اصول مالك واهل المدينة اصح الأصول والقواعد وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما حتى إن الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين رجح محمد لصاحبه على صاحب الشافعي فقال له الشافعي بالانصاف أو بالمكابرة قال له بالانصاف فقال ناشدتك الله صاحبنا اعلم بكتاب الله أم صاحبكم فقال بل صاحبكم فقال صاحبنا اعلم بسنة رسول الله ام صاحبكم فقال بل صاحبكم فقال صاحبنا اعلم بأقوال اصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ام
____________________
(20/328)
صاحبكم فقال بل صاحبكم فقال ما بقي بيننا وبينكم الا القياس ونحن نقول بالقياس ولكن من كان بالاصول اعلم كان قياسه اصح
وقالوا للامام احمد من اعلم بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مالك أم سفيان فقال بل مالك فقيل له ايما اعلم بآثار اصحاب رسول الله مالك ام سفيان فقال بل مالك فقيل له ايما ازهد مالك أم سفيان فقال هذه لكم
ومعلوم ان سفيان الثوري اعلم اهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث فان ابا حنيفة والثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن ابي ليلى والحسن بن صالح بن جني وشريك بن عبد الله النخعي القاضي كانوا متقاربين فى العصر وهم أئمة فقهاء الكوفة فى ذلك العصر وكان ابو يوسف يتفقه أولا على محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلي القاضي ثم انه اجتمع بأبى حنيفة فرأى انه افقه منه فلزمه وصنف كتاب ( اختلاف ابى حنيفة وبن أبى ليلى ( وأخذه عنه محمد بن الحسن ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن وذكر فيه اختياره وهو المسمى بكتاب ( اختلاف العراقيين
____________________
(20/329)
ومعلوم أن سفيان الثوري اعلم هذه الطبقة فى الحديث مع تقدمه فى الفقه والزهد والذين انكروا من أهل العراق وغيرهم ما انكروا من الرأي المحدث بالكوفة لم ينكروا ذلك على سفيان الثوري بل سفيان عندهم أمام العراق فتفضيل أحمد لمذهب مالك على مذهب سفيان تفضيل له على مذهب أهل العراق وقد قال الامام احمد فى علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة والآثار ما تقدم مع أن احمد يقدم سفيان الثورى على هذه الطبقة كلها وهو يعظم سفيان غاية التعظيم ولكنه كان يعلم ان مذهب أهل المدينة وعلمائها اقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب اهل الكوفة وعلمائها
واحمد كان معتدلا عالما بالأمور يعطي كل ذي حق حقه ولهذا كان يحب الشافعي ويثنى عليه ويدعو له ويذب عنه عند من يطعن فى الشافعي أو من ينسبه إلى بدعة ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها ومعرفته باصول الفقه كالناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره وكان الشافعي يقول سمونى ببغداد ناصر الحديث
ومناقب الشافعي واجتهاده فى اتباع الكتاب والسنة واجتهاده فى الرد على من يخالف ذلك كثير جدا وهو كان على مذهب اهل الحجاز وكان قد تفقه على طريقة المكيين اصحاب بن جريج
____________________
(20/330)
كمسلم بن خالد الزنجي وسعيد بن سالم القداح ثم رحل إلى مالك واخذ عنه الموطأ وكمل أصول أهل المدينة وهم اجل علما وفقها وقدرا من أهل مكة من عهد النبى إلى عهد مالك ثم اتفقت له محنة ذهب فيها إلى العراق فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه وناظره وعرف اصول ابي حنيفة واصحابه واخذ من الحديث ما أخذه على أهل العراق ثم ذهب إلى الحجاز
ثم قدم إلى العراق مرة ثانية وفيها صنف كتابه القديم المعروف ب ( الحجة ( واجتمع به أحمد بن حنبل فى هذه القدمة بالعراق واجتمع به بمكة وجمع بينه وبين إسحاق بن راهويه وتناظرا بحضور احمد رضي الله عنهم اجمعين ولم يجتمع بابى يوسف ولا بالاوزاعي وغيرهما فمن ذكر ذلك في الرحلة المضافة إليه فهو كاذب فان تلك الرحلة فيها من الأكاذيب عليه وعلى مالك وابى يوسف ومحمد وغيرهم من اهل العلم مالا يخفى على عالم وهي من جنس كذب القصاص ولم يكن ابو يوسف ومحمد سعيا فى اذى الشافعي قط ولا كان حال مالك معه ما ذكر فى تلك الرحلة الكاذبة
ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنف كتابه الجديد وهو فى خطابه وكتابه ينسب إلى مذهب اهل الحجاز فيقول قال بعض اصحابنا وهو يعنى أهل المدينة أو بعض علماء أهل المدينة كمالك ويقول فى
____________________
(20/331)
اثناء كلامه وخالفنا بعض المشرقيين وكان الشافعي عند اصحاب مالك واحدا منهم ينسب إلى أصحابهم وأختار سكنى مصر إذ ذاك لأنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من أهل مصر كالليث بن سعد وامثاله وكان اهل الغرب بعضهم على مذهب هؤلاء وبعضهم على مذهب الأوزاعي واهل الشام ومذهب اهل الشام ومصر والمدينة متقارب لكن أهل المدينة اجل عند الجميع
ثم ان الشافعى رضى الله عنه لما كان مجتهدا فى العلم ورأى من الاحاديث الصحيحة وغيرها من الادلة ما يجب عليه اتباعه وان خالف قول اصحاب المدنيين قام بما رآه واجبا عليه وصنف الاملاء على مسائل بن القاسم واظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه وقد احسن الشافعى فيما فعل وقام بما يجب عليه وان كان قد كره ذلك من كرهه واذوه وجرت محنة مصرية معروفة والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات الاحياء منهم والاموات
وابو يوسف ومحمد هما صاحبا ابي حنيفة وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك وكل ذلك اتباعا للدليل وقياما بالواجب
والشافعي رضي الله عنه قرر اصول اصحابه والكتاب
____________________
(20/332)
والسنة وكان كثير الاتباع لما صح عنده من الحديث ولهذا كان عبد الله بن الحكم يقول لابنه محمد يابنى الزم هذا الرجل فانه صاحب حجج فما بينك وبين أن تقول قال بن القاسم فيضحك منك الا أن تخرج من مصر قال محمد فلما صرت إلى العراق جلست إلى حلقة فيها بن ابى داود فقلت قال بن القاسم فقال ومن بن القاسم فقلت رجل مفت يقول من مصر إلى اقصى الغرب وأظنه قال قلت رحم الله ابى
وكان مقصود أبيه اطلب الحجة لقول أصحابك ولا تتبع فالتقليد إنما يقبل حيث يعظم المقلد بخلاف الحجة فانها تقبل في كل مكان فان الله أوجب على كل مجتهد أن يقول بموجب ما عنده من العلم والله يخص هذا من العلم والفهم مالا يخص به هذا وقد يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم فى نوع من العلم او باب منه او مسألة وهذا هو مخصوص بذلك فى نوع آخر
لكن جملة مذاهب اهل المدينة النبوية راجحة فى الجملة على مذاهب أهل المغرب والمشرق وذلك يظهر بقواعد جامعة
منها قاعدة الحلال والحرام المتعلقة بالنجاسات فى المياه فانه من المعلوم أن الله قال فى كتابه { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم }
____________________
(20/333)
) فالله تعالى أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث والخبائث نوعان ما خبثه لعينه لمعنى قام به كالدم والميتة ولحم الخنزير وما خبثه لكسبه كالمأخوذ ظلما او بعقد محرم كالربا والميسر
فاما الأول فكل ما حرم ملابسته كالنجاسات حرم أكله وليس كل ما حرم أكله حرمت ملابسته كالسموم والله قد حرم علينا اشياء من المطاعم والمشارب وحرم أشياء من الملابس
ومعلوم أن مذهب أهل المدينة فى الأشربة أشد من مذهب الكوفيين فان أهل المدينة وسائر الامصار وفقهاء الحديث يحرمون كل مسكر وان كل مسكر خمر وحرام وان ما اسكر كثيره فقليله حرام ولم يتنازع فى ذلك أهل المدينة لا أولهم ولا آخرهم سواء كان من الثمار أو الحبوب أو العسل أو لبن الخيل أو غير ذلك والكوفيون لا خمر عندهم الا ما اشتد من عصير العنب فان طبخ قبل الاشتداد حتى ذهب ثلثاه حل ونبيذ التمر والزبيب محرم اذا كان مسكرا نيئا فان طبخ ادنى طبخ حل وإن اسكر وسائر الأنبذة
____________________
(20/334)
تحل وان اسكرت لكن يحرمون المسكر منها
وأما الأطعمة فأهل الكوفة اشد فيها من أهل المدينة فانهم مع تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم اللحم حتى يحرمون الضب والضبع والخيل تحرم عندهم فى أحد القولين ومالك يحرم تحريما جازما ما جاء في القرآن فذوات الانياب اما أن يحرمها تحريما دون ذلك واما ان يكرهها فى المشهور وروي عنه كراهة ذوات المخالب والطير لا يحرم منها شيئا ولا يكرهه وان كان التحريم على مراتب والخيل يكرهها ورويت الاباحة والتحريم أيضا
ومن تدبر الأحاديث الصحيحة في هذا الباب علم أن أهل المدينة اتبع للسنة فان باب الاشربة قد ثبت فيه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من الاحاديث ما يعلم من علمها انها من ابلغ المتواترات بل قد صح عنه في النهي عن الخليطين والاوعية ما لا يخفى على عالم بالسنة واما الاطعمة فانه وان قيل ان مالكا خالف أحاديث صحيحة فى التحريم ففي ذلك خلاف والأحاديث الصحيحة التى خالفها من حرم الضب وغيره تقاوم ذلك أو تربو عليه ثم ان هذه الأحاديث قليلة جدا بالنسبة إلى أحاديث الأشربة
____________________
(20/335)
وأيضا فمالك معه فى ذلك آثار عن السلف كابن عباس وعائشة وعبد الله بن عمر وغيرهم مع ما تأوله من ظاهر القرآن ومبيح الاشربة ليس معه لا نص ولا قياس بل قوله مخالف للنص والقياس
وأيضا فتحريم جنس الخمر اشد من تحريم اللحوم الخبيثة فانها يجب اجتنابها مطلقا ويجب على من شربها الحد ولا يجوز اقتناؤها وأيضا فمالك جوز إتلاف عينها اتباعا لما جاء من السنة فى ذلك ومنع من تخليلها وهذا كله فيه من اتباع السنة ما ليس فى قول من خالفه من أهل الكوفة فلما كان تحريم الشارع للأشربة المسكرة اشد من تحريمه للأطعمة كان القول الذي يتضمن موافقة الشارع أصح ومما يوضح هذا أن طائفة من أهل المدينة استحلت الغناء حتى صار يحكى ذلك عن أهل المدينة وقد قال عيسى بن إسحاق الطباع سئل مالك عما يترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء فقال انما يفعله عندنا الفساق ومعلوم أن هذا أخف مما استحله من استحل الأشربة فانه ليس في تحريم الغناء من النصوص المستفيضة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما في تحريم الأشربة المسكرة فعلم أن أهل المدينة اتبع للسنة
____________________
(20/336)
ثم ان من أعظم المسائل مسألة اختلاط الحلال بالحرام لعينه كاختلاط النجاسات بالماء وسائر المائعات فأهل الكوفة يحرمون كل ماء او مائع وقعت فيه نجاسة قليلا كان أو كثيرا ثم يقدرون مالا تصل إليه النجاسة بما لا تصل إليه الحركة ويقدرونه بعشرة أذرع في عشرة أذرع ثم منهم من يقول ان البئر اذا وقعت فيها النجاسة لم تطهر بل تطم والفقهاء منهم من يقول تنزح اما دلاء مقدرة منها واما جميعها على ما قد عرف لأجل قولهم ينجس الماء والمائع بوقوع النجاسة فيه
وأهل المدينة بعكس ذلك فلا ينجس الماء عندهم الا اذا تغير لكن لهم فى قليل الماء هل يتنجس بقليل النجاسة قولان ومذهب أحمد قريب من ذلك وكذلك الشافعي لكن هذان يقدر أن القليل بما دون القلتين دون مالك وعن مالك فى الأطعمة خلاف وكذلك فى مذهب احمد نزاع فى سائر المائعات ومعلوم أن هذا أشبه بالكتاب والسنة فان اسم الماء باق والاسم الذي به أبيح قبل الوقوع باق وقد دلت سنة رسول الله فى بئر بضاعة وغيره على انه لا يتنجس ولم يعارض ذلك الا حديث ليس بصريح فى محل النزاع فيه وهو حديث النهي عن البول فى الماء الدائم فانه قد يخص البول بالحكم
____________________
(20/337)
وخص بعضهم ان يبال فيه دون ان يجري إليه البول
وقد يخص ذلك بالماء القليل
وقد يقال النهى عن البول لا يستلزم التنجيس بل قد ينهى عنه لان ذلك يفضى إلى التنجيس اذا كثر يقرر ذلك انه لاتنازع بين المسلمين ان النهى عن البول فى الماء الدائم لا يعم جميع المياه بل ماء البحر مستثنى بالنص والاجماع وكذلك المصانع الكبار التى لا يمكن نزحها ولا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الاخر لا ينجسه البول بالاتفاق والحديث الصحيح الصريح لا يعارضه حديث في هذا الاجمال والاحتمال
وكذلك تنجس الماء المستعمل ونحوه مذهب اهل المدينة ومن وافقهم فى طهارته ثابت بالاحاديث الصحيحة عن النبى كحديث صب وضوئه على جابر وقوله ( المؤمن لا ينجس ( وأمثال ذلك
وكذلك بول الصبى الذي لم يطعم مذهب بعض أهل المدينة ومن وافقهم لهم فيه أحاديث صحيحة عن النبى لا يعارضها شيء
____________________
(20/338)
وكذلك مذهب مالك وأهل المدينة في أعيان النجاسات الظاهرة في العبادات أشبه شيء بالاحاديث الصحيحة وسيرة الصحابة ثم أنهم لا يقولون بنجاسة البول والروث مما يؤكل لحمه وعلى ذلك بضع عشرة حجة من النص والاجماع القديم والاعتبار ذكرناها في غير هذا الموضع وليس مع المنجس إلا لفظ يظن عمومه وليس بعام او قياس يظن مساواة الفرع فيه للاصل وليس كذلك
ولما كانت النجاسات من الخبائث المحرمة لاعيانها ومذهبهم في ذلك اخذ من مذهب الكوفيين كما فى الاطعمة كان ما ينجسونه اولئك اعظم واذا قيل له خالف حديث الولوغ ونحوه في النجاسات فهو كما يقال انه خالف حديث سباع الطير ونحوه ولا ريب ان هذا اقل مخالفة للنصوص ممن ينجس روث ما يؤكل لحمه وبوله او بعض ذلك او يكره سؤر الهرة
وقد ذهب بعض الناس إلى أن جميع الأرواث والابوال طاهرة الا بول الانسى وعذرته وليس هذا القول بابعد فى الحجة من قول من ينجس الذي يذهب إليه أهل المدينة من أهل الكوفة ومن وافقهم
ومن تدبر مذهب أهل المدينة وكان عالما بسنة رسول الله صلى الله
____________________
(20/339)
عليه وسلم تبين له قطعا ان مذهب أهل المدينة المنتظم للتيسير في هذا الباب أشبه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المذهب المنتظم للتعسير وقد قال فى الحديث الصحيح لما بال الاعرابى فى المسجد وأمرهم بالصب على بوله قال ( انما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ( وهذا مذهب أهل المدينة وأهل الحديث ومن خالفهم يقول انه يغسل ولا يجزئ الصب وروى في ذلك حديثا مرسلا لا يصح فصل
وأما النوع الثاني من المحرمات وهو المحرم لكسبه كالمأخوذ ظلما بأنواع الغصب من السرقة والخيانة والقهر وكالمأخوذ بالربا والميسر وكالمأخوذ عوضا عن عين او نفع محرم كثمن الخمر والدم والخنزير والاصنام ومهر البغي وحلوان الكاهن وأمثال ذلك فمذهب أهل المدينة فى ذلك من أعدل المذاهب فان تحريم الظلم وما يستلزم الظلم اشد من تحريم النوع الاول فان الله حرم الخبائث من المطاعم اذ هي تغذى تغذية خبيثة توجب للانسان الظلم كما اذا اغتذى من الخنزير والدم والسباع فان المغذى شبيه بالمغتذى به فيصير فى نفسه من البغى والعدوان بحسب ما اغتذى منه
____________________
(20/340)
واباحتها للمضطر لان مصلحة بقاء النفس مقدم على دفع هذه المفسدة مع أن ذلك عارض لا يؤثر فيه مع الحاجة الشديدة اثرا يضر واما الظلم فمحرم قليلة وكثيرة وحرمه تعالى على نفسه وجعله محرما على عباده
وحرم الربا لانه متضمن للظلم فانه أخذ فضل بلا مقابل له وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار لان المرابى قد اخذ فضلا محققا من محتاج واما المقامر فقد يحصل له فضل وقد لا يحصل له وقد يقمر هذا هذا وقد يكون بالعكس
وقد نهى النبى عن بيع الغرر وعن بيع الملامسة والمنابذة وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها وبيع حبل الحبلة ونحو ذلك مما فيه نوع مقامرة وارخص فى ذلك فيما تدعو الحاجة إليه ويدخل تبعا لغيره كما ارخص فى ابتياعها بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح وان كان بعض اجزائها لم يخلق وكما أرخص فى ابتياع النخل المؤبر مع جديده اذا اشترطه المبتاع وهو لم يبد صلاحه وهذا جائز باجماع المسلمين وكذلك سائر الشجر الذى فيه ثمر ظاهر وجعل للبائع ثمره النخل المؤبر اذا لم يشترطها المشترى فتكون الشجرة للمشترى والبائع ينتفع بها بابقاء ثمره عليها إلى حين الجذاذ
____________________
(20/341)
وقد ثبت فى الصحيح انه أمر بوضع الجوائح وقال ( ان بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك ان تأخذ من مال اخيك شيئا بم يأخذ احدكم مال اخيه بغير حق (
ومذهب مالك واهل المدينة في هذا الباب أشبه بالسنة والعدل من مذهب من خالفهم من أهل الكوفة وغيرهم وذلك ان مخالفهم جعل البيع اذا وقع على موجود جاز سواء كان قد بدا صلاحه اولم يكن قد بدا صلاحه وجعل موجب كل عقد قبض المبيع عقبه ولم يجز تاخير القبض فقال انه اذا اشترى الثمر باديا صلاحه اوغير باد صلاحه جاز وموجب العقد القطع فى الحال لا يسوغ له تاخير الثمر إلى تكمل صلاحه ولا يجوز له ان يشترطه وجعلوا ذلك القبض قبضا ناقلا للضمان إلى المشترى دون البائع وطردوا ذلك فقالوا اذا باع عينا مؤجرة لم يصح لتأخير التسليم وقالوا اذا استثنى منفعة المبيع كظهر البعير وسكنى الدار لم يجز وذلك كله فرع على ذلك القياس وأهل المدينة وأهل الحديث خالفوهم في ذلك كله واتبعوا النصوص الصحيحة وهو موافقة القياس الصحيح العادل فان قول القائل العقد موجب القبض عقبه يقال له موجب العقد إما أن يتلقى من الشارع أو من قصد العاقد والشارع ليس في كلامه ما يقتضي ان هذا
____________________
(20/342)
يوجب موجب العقد مطلقا وأما المتعاقدان فهما تحت ما تراضيا به ويعقدان العقد عليه فتارة يعقدان على ان يتقابضا عقبه وتارة على أن يتأخر القبض كما في الثمر فان العقد المطلق يقتضي الحلول ولهما تأجيله إذا كان لهما في التأجيل مصلحة فكذلك الأعيان فاذا كانت العين المبيعة فيها منفعة للبائع أو غيره كالشجر الذي ثمره ظاهر وكالعين المؤجرة وكالعين التي استثنى البائع نفعها مدة لم يكن موجب هذا العقد أن يقتضي المشتري ماليس له ومالم يملكه إذا كان له ان يبيع بعض العين دون بعض كان له أن يبيعها دون منفعتها ثم سواء قيل ان المشترى يقبض العين أو قيل لا يقبضها بحال لا يضر ذلك فان القبض في البيع ليس هو من تمام العقد كما هو فى الرهن بل الملك يحصل قبل القبض للمشترى تابعا ويكون نماء المبيع له بلا نزاع وان كان فى يد البائع ولكن اثر القبض اما فى الضمان واما فى جواز التصرف وقد ثبت عن بن عمر انه قال مضت السنة ان ما ادركته الصفقة حيا مجموعا فهو من ضمان المشترى
ولهذا ذهب إلى ذلك اهل المدينة واهل الحديث فان تعليق الضمان بالتمكين من القبض احسن من تعليقه بنفس القبض وبهذا جاءت السنة ففى الثمار التى اصابتها جائحة لم يتمكن المشترى من الجذاذ
____________________
(20/343)
وكان معذورا فاذا تلفت كانت من ضمان البائع ولهذا التى تلفت بعد تفريطه في القبض كانت من ضمانه والعبد والدابة التى تمكن من قبضها تكون من ضمانه على حديث علي وبن عمر
ومن جعل التصرف تابعا للضمان فقد غلط فانهم متفقون على ان منافع الاجارة اذا تلفت قبل تمكن المستأجر من استيفائها كانت من ضمان المؤجر ومع هذا للمستاجر ان يؤجرها بمثل الاجرة وانما تنازعوا فى ايجارها باكثر من الاجرة لئلا يكون ذلك ربحا فيما لا يضمن والصحيح جواز ذلك لانها مضمونة على المستاجر فانها اذا تلفت مع تمكنه من الاستيفاء كانت من ضمانه ولكن اذا تلفت قبل تمكنه من الاستيفاء لم تكن من ضمانه
وهذا هو الاصل ايضا فقد ثبت في الصحيح عن بن عمر انه قال كنا نبتاع الطعام جزافا على عهد رسول الله فنهى ان نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا وبن عمر هو القائل مضت السنة ان ما ادركته الصفقة حيا مجموعا فهو من ضمان المشترى فتبين ان مثل هذا الطعام مضمون على المشترى ولا يبيعه حتى ينقله وغلة الثمار والمنافع له ان يتصرف فيها ولو تلفت قبل التمكن من قبضها كانت من ضمان المؤجر والبائع والمنافع لا يمكن التصرف فيها الا بعد
____________________
(20/344)
استيفائها وكذلك الثمار لا تباع على الاشجار بعد الجذاذ بخلاف الطعام المنقول
والسنة فى هذا الباب فرقت بين القادر على القبض وغيرالقادر فى الضمان والتصرف فاهل المدينة اتبع للسنة فى هذا الحكم كله وقولهم اعدل من قول من يخالف السنة
ونظائر هذا كثير مثل بيع الاعيان الغائبة من الفقهاء من جوز بيعها مطلقا وان لم توصف ومنهم من منع بيعها مع الوصف ومالك جوز بيعها مع الصفة دون غيرها وهذا
اعدل والعقود من الناس من أوجب فيها الألفاظ وتعاقب الايجاب والقبول ونحو ذلك وأهل المدينه جعلوا المرجع فى العقود إلى عرف الناس وعادتهم فما عده الناس بيعا فهو بيع وما عدوه إجارة فهو إجارة وما عدوه هبة فهو هبة وهذا أشبه بالكتاب والسنه وأعدل فإن الأسماء منها ما له حد فى اللغة كالشمس والقمر ومنهاما له حد فى الشرع كالصلاه والحج ومنها ما ليس له حد لا فى اللغه ولا فى الشرع بل يرجع إلى العرف كالقبض ومعلوم ان إسم البيع والإجارة والهبة فى هذا الباب لم يحدها الشارع ولا لها حد فى اللغة بل يتنوع ذلك
____________________
(20/345)
بحسب عادات الناس وعرفهم فما عدوه بيعا فهو بيع وما عدوه هبة فهو هبة وما عدوه إجارة فهو إجارة
ومن هذا الباب ان مالكا يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت وبيع المقاثي جملة كما يجوز هو والجمهور بيع الباقلاء ونحوه فى قشره ولا ريب ان هذا هو الذي عليه عمل المسلمين من زمن نبيهم وإلى هذا التاريخ ولا تقوم مصلحة الناس بدون هذا وما يظن أن هذا نوع غرر فمثله جائز فى غيره من البيوع لأنه يسير والحاجة داعية إليه وكل واحد من هذين يبيح ذلك فكيف إذا اجتمعا
وكذلك ما يجوز مالك من منفعة الشجر تبعا للأرض مثل أن يكرى أرضا او دارا فيها شجرة او شجرتان هو أشبه بالأصول من قول من منع ذلك وقد يجوز ذلك طائفة من أصحاب أحمد بن حنبل مطلقا وجوزوا ضمان الحديقة التى فيها أرض وشجر كما فعل عمر بن الخطاب لما قبل الحديقة من أسيد بن الحضير ثلثا وقضى بما تسلفه دينا كان عليه وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع
وهذا يتبين بذكر الربا فان تحريم الربا أشد من تحريم القمار لأنه ظلم محقق والله سبحانه وتعالى لما جعل خلقه نوعين غنيا وفقيرا
____________________
(20/346)
اوجب على الأغنياء الزكاة حقا للفقراء ومنع الأغنياء عن الربا الذي يضر الفقراء وقال تعالى { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وقال تعالى { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } فالظالمون يمنعون الزكاة ويأكلون الربا وأما القمار فكل من المتقامرين قد يقمر الآخر وقد يكون المقمور هو الغني او يكونان متساويين فى الغنى والفقر فهو أكل مال بالباطل فحرمه الله لكن ليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما فى الربا ومعلوم ان ظلم المحتاج أعظم من ظلم غير المحتاج
ومعلوم أن أهل المدينة حرموا الربا ومنعوا التحيل على استحلاله وسدوا الذريعة المفضية إليه فأين هذا ممن يسوغ الاحتيال على أخذه بل يدل الناس على ذلك
وهذا يظهر بذكر مثل ربا الفضل وربا النسأ
أما ربا الفضل فقد ثبت فى الأحاديث الصحيحة واتفق جمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة على أنه لا يباع الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب بجنسه إلا مثلا بمثل إذ الزيادة على المثل أكل مال بالباطل وظلم فاذا أراد المدين أن يبيع مائة دينار مكسور
____________________
(20/347)
وزنه مائة وعشرون دينارا يسوغ له مبيح الحيل أن يضيف إلى ذلك رغيف خبز او منديل يوضع فيه مائة دينار ونحو ذلك مما يسهل على كل مرب فعله لم يكن لتحريم الربا فائدة ولا فيه حكمة ولا يشاء مرب ان يبيع نوعا من هذا بأكثر منه من جنسه إلا أمكنه أن يضم إلى القليل ما لا قدر له من هذه الأمور
وكذلك إذا سوغ لهما أن يتواطآ على أن يبيعه إياه بعرض لا قصد للمشترى فيه ثم يبتاعه منه بالثمن الكثير أمكن طالب الربا أن يفعل ذلك
ومعلوم أن من هو دون الرسول إذا حرم شيئا لما فيه من الفساد وأذن ان يفعل بطريق لا فائدة فيه لكان هذا عيبا وسفها فان الفساد باق ولكن زادهم غشا وإن كان فيه كلفة فقد كلفهم ما لا فائدة فيه فكيف يظن هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم بل معلوم ان الملوك لو نهوا عما نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم واحتال المنهي على ما نهى عنه بمثل هذه الطريق لعدوه لاعبا مستهزئا بأوامرهم وقد عذب الله أهل الجنة الذين احتالوا على أن لا يتصدقوا وعذب الله القرية التى كانت حاضرة البحر لما استحلوا المحرم بالحيلة بان مسخهم قردة وخنازير وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل
____________________
(20/348)
وقد بسطنا الكلام على ( قاعدة ابطال الحيل وسد الذرائع ( في كتاب كبير مفرد وقررنا فيه مذهب أهل المدينة بالكتاب والسنة واجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار
وكذلك ربا النسأ فان أهل ثقيف الذين نزل فيهم القرآن ان الرجل كان يأتى إلى الغريم عند حلول الأجل فيقول اتقضى أم تربى فان لم يقضه والا زاده المدين فى المال وزاده الطالب فى الأجل فيضاعف المال في المدة لأجل التأخير وهذا هو الربا الذي لا يشك فيه باتفاق سلف الأمة وفيه نزل القرآن والظلم والضرر فيه ظاهر
والله سبحانه وتعالى أحل البيع وأحل التجارة وحرم الربا فالمبتاع يبتاع ما يستنفع به كطعام ولباس ومسكن ومركب وغير ذلك والتاجر يشترى ما يريد أن يبيعه ليربح فيه وأما آخذ الربا فانما مقصوده ان يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل فيلزم الآخر اكثر مما اخذ بلا فائدة حصلت له لم يبع ولم يتجر والمربى آكل مال بالباطل بظلمه ولم ينفع الناس لا بتجارة ولا غيرها بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له ولا للناس
فاذا كان هذا مقصودهما فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم مثل أن تواطآ على ان يبيعه ثم يبتاعه فهذه بيعتان في بيعة وفي
____________________
(20/349)
السنن عن النبى أنه قال ( من باع بيعتين فى بيعة فله أوكسهما أو الربا ( مثل أن يدخل بينهما محللا يبتاع منه أحدهما ما لا غرض له فيه ليبيعه آكل الربا لموكله فى الربا ثم الموكل يرده إلى المحلل بما نقص من الثمن وقد ثبت عن النبى أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه ولعن المحلل والمحلل له ومثل ان يضما إلى الربا نوع قرض وقد ثبت عن النبى ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك (
ثم ان النبى نهى عن المزابنة والمحاقلة وهو اشتراء الثمر والحب بخرص وكما نهى عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمى لان الجهل بالتساوى فيما يشترط فيه التساوى كالعلم بالتفاضل والخرص لا يعرف مقدار المكال انما هو حزر وحدس وهذا متفق عليه بين الائمة
ثم انه قد ثبت عنه انه ارخص فى العرايا يبتاعها اهلها بخرصها تمرا فيجوز ابتياع الربوى هنا بخرصه واقام الخرص عند الحاجة مقام الكيل وهذا من تمام محاسن الشريعة كما انه فى العلم بالزكاة وفى المقاسمة أقام الخرص مقام الكيل فكان يخرص الثمار على اهلها يحصى الزكاة وكان عبد الله بن رواحة يقاسم اهل خيبر خرصا بامر النبى
____________________
(20/350)
ومعلوم انه اذا امكن التقدير بالكيل فعل فاذا لم يمكن كان الخرص قائما مقامه للحاجة كسائر الأبدال فى المعلوم والعلامة فان القياس يقوم مقام النص عند عدمه والتقويم يقوم مقام المثل وعدم الثمن المسمى عند تعذر المثل والثمن المسمى
ومن هذا الباب القافة التى هي استدلال بالشبه على النسب إذا تعذر الاستدلال بالقرائن إذ الولد يشبه والده فى الخرص والقافة والتقويم ابدال في العلم كالقياس مع النص وكذلك العدل فى العمل فان الشريعة مبناها على العدل كما قال تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }
والله قد شرع القصاص في النفوس والأموال والاعراض بحسب الامكان فقال تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } الآية وقال تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } الآية وقال تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } الآية وقال تعالى { فمن اعتدى عليكم } الآية وقال تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية فاذا قتل الرجل من يكافئه عمدا عدوانا كان عليه القود ثم يجوز أن يفعل به مثل ما فعل كما يقوله أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد فى إحدى الروايتين بحسب الامكان إذا لم يكن تحريمه بحق الله
____________________
(20/351)
كما إذا رضخ رأسه كما رضخ النبى رأس اليهودي الذي رضخ رأس الجارية كان ذلك أتم فى العدل بمن قتله بالسيف في عنقه وإذا تعذر القصاص عدل إلى الدية وكانت الدية بدلا لتعذر المثل
وإذا اتلف له مالا كما لو تلفت تحت يده العارية فعليه مثله ان كان له مثل وان تعذر المثل كانت القيمة وهي الدراهم والدنانير بدلا عند تعذر المثل ولهذا كان من أوجب المثل فى كل شيء بحسب الامكان مع مراعاة القيمة اقرب إلى العدل ممن أوجب القيمة من غير المثل وفى هذا كانت قصة داود وسليمان وقد بسطنا الكلام على هذه الأبواب كلها فى غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا التنبيه
وحينئذ فتجويز العرايا ان تباع بخرصها لأجل الحاجة عند تعذر بيعها بالكيل موافق لأصول الشريعة مع ثبوت السنة الصحيحة فيه وهو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث ومالك جوز الخرص فى نظير ذلك للحاجة وهذا عين الفقه الصحيح
ومذهب أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد فى جزاء الصيد انه يضمن بالمثل فى الصورة كما مضت بذلك السنة واقضية الصحابة فان فى السنن أن النبى قضى في الضبع بكبش
____________________
(20/352)
وقضت الصحابة فى النعامة ببدنة وفى الظبى بشاة وأمثال ذلك
ومن خالفهم من أهل الكوفة انما يوجب القيمة فى جزاء الصيد وأنه يشتري بالقيمة الانعام والقيمه مختلفة باختلاف الأوقات فصل
ولما كان المحرم نوعين نوع لعينه ونوع لكسبه فالكسب الذي هو معاملة الناس نوعان معاوضه ومشاركة
فالمبايعة والمؤاجرة ونحو ذلك هي المعاوضة
وأما المشاركة فمثل مشاركة العنان وغيرها من المشاركات
ومذهب مالك فى المشاركات من أصح المذاهب واعدلها فانه يجوز شركة العنان والابدان وغيرهما ويجوز المضاربة والمزارعة والمساقاة
والشافعى لا يجوز من الشركة الا ما كان تبعا لشركة الملك فان الشركة نوعان شركة في الاملاك وشركة فى العقود فاما شركة الاملاك كاشتراك الورثة فى الميراث فهذا لا يحتاج إلى عقد ولكن اذا
____________________
(20/353)
اشترك اثنان في عقد فمذهب الشافعى ان الشركة لا تحصل بعقد ولا تحصل القسمة بعقد
وأحمد تحصل الشركة عنده بالعقد والقسمة بالعقد فيجوز شركة العنان مع اختلاف المالين وعدم الاختلاط واذا تحاسب الشريكان عنده من غير افراز كان ذلك قسمة حتى لو خسر المال بعد ذلك لم تجبر الوضيعة بالربح
والشافعى لا يجوز شركة الابدان ولا الوجوه ولا الشركة بدون خلط المالين ولا أن يشترط لاحدهما ربحا زائدا على نصيب الاخر من ماله اذ لا تأثير عنده للعقد وجوز المضاربة وبعض المساقاة والمزارعة تبعا لاجل الحاجة لا لوفق القياس
وأما ابو حنيفة نفسه فلا يجوز مساقاة ولا مزارعة لانه راى ذلك من باب المواجرة والمواجرة لابد فيها من العلم بالاجرة
ومالك فى هذا الباب اوسع منهما حيث جوز المساقاة على جميع الثمار مع تجويز الانواع من المشاركات التى هي شركة العنان والابدان لكنه لم يجوز المزارعة على الارض البيضاء موافقة للكوفيين
وأما قدماء أهل المدينة هم وغيرهم من الصحابة والتابعين فكانوا
____________________
(20/354)
يجوزون هذا كله وهو قول الليث و ( بن ) ابى ليلى وأبى يوسف ومحمد وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وغيره
والشبهة التى منعت اولئك المعاملة انهم ظنوا أن هذه المعاملة اجارة والاجارة لابد فيها من العلم بقدر الاجرة ثم استثنوا من ذلك المضاربة لاجل الحاجة اذ الدراهم لا تؤجر
والصواب ان هذه المعاملات من نفس المشاركات لا من جنس المعاوضات فان المستاجر يقصد استيفاء العمل كما يقصد استيفاء عمل الخياط والخباز والطباخ ونحوهم وأما فى هذا الباب فليس العمل هو المقصود بل هذا يبذل نفع بدنه وهذا يبذل نفع ماله ليشتركا فيما رزق الله من ربح فاما يغنمان جميعا او يغرمان جميعا وعلى هذا عامل النبى اهل خيبر ان يعمروها من اموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع
والذي نهى عنه النبى من كراء المزارعة فى حديث رافع بن خديج وغيره متفق عليه كما ذكره الليث وغيره فانه نهى ان يكرى بما تنبت الماذيانات والجداول وشيء من التبن فربما غل هذا ولم يغل هذا فنهى ان يعين المالك زرع بقعة بعينها كما نهى فى المضاربة ان يعين العامل مقدارا من الربح وربح ثوب بعينه
____________________
(20/355)
لان ذلك يبطل العدل فى المشاركة
وأصل أهل المدينة فى هذا الباب أصح من أصل غيرهم الذي يوجب أجرة المثل والاول هو الصواب فان العقد لم يكن على عمل ولهذا لم يشترط العلم بالعمل وقد تكون اجرة المثل اكثر من المال وربحه فانما يستحق فى الفاسد نظير ما يستحق من الصحيح فاذا كان الواجب في البيع والاجارة الصحيحة ثمنا واجرة وجب فى الفاسد قسط من الربح كان الواجب فى الفاسد قسطا من الربح وكذلك فى المساقاة والمزارعة وغيرهما
وما يضعف فى هذا الباب من قول متاخرى اهل المدينة فقول الكوفيين فيه اضعف ويشبه ان يكون هذا كله من الراى المحدث الذي علم به من عابه من السلف واما ما مضت به السنة والعمل فهو العدل
ومن تدبر الاصول تبين له ان المساقاة والمزارعة والمضاربة اقرب إلى العدل من المؤاجرة فان المؤاجرة مخاطرة والمستاجر قد ينتفع وقد لاينتفع بخلاف المساقاة والمزارعة فانهما يشتركان فى الغنم والغرم فليس فيها من المخاطرة من احد الجانبين ما فى المؤاجرة
____________________
(20/356)
فصل
واما العبادات فان اصل الدين انه لا حرام الا ما حرمه الله ولا دين الا ما شرعه الله فان الله سبحانه فى سورة الانعام والاعراف عاب على المشركين انهم حرموا ما لم يحرمه الله وانهم شرعوا من الدين مالم يأذن به الله كما قال بن عباس اذا أردت ان تعرف جهل العرب فاقرأ من قوله { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام } الاية وذلك ان الله ذم المشركين على ما ابتدعوه من تحريم الحرث والانعام وما ابتدعوه من الشرك وذمهم على احتجاجهم على بدعهم بالقدر قال تعالى { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا } الاية
وفى الصحيح عن عياض بن حمار عن النبى انه قال يقول الله تعالى ( انى خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما احللت لهم وأمرتهم ان يشركوا بي ما لم انزل به سلطانا ( وذكر في سورة الاعراف ما حرموه وما شرعوه وقال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش } الاية وقال
____________________
(20/357)
{ قل أمر ربي بالقسط } الاية فبين لهم ما أمرهم به وما حرمه هو وقال ذما لهم { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين } الاية وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع
والمقصود انه ليس لاحد ان يحرم الا ما جاءت الشريعة بتحريمه والا فالاصل عدم التحريم سواء فى ذلك الاعيان والافعال وليس له ان يشرع دينا واجبا او مستحبا ما لم يقم دليل شرعى على وجوبه واستحبابه
اذا عرف هذا فأهل المدينة أعظم الناس اعتصاما بهذا الاصل فانهم اشد أهل المدائن الاسلامية كراهية للبدع وقد نبهنا على ما حرمه غيرهم من الاعيان والمعاملات وهم لا يحرمونه
وأما الدين فهم اشد أهل المدائن اتباعا للعبادات الشرعية وأبعدهم عن العبادات البدعية
ونظائر هذا كثيرة منها ان طائفة من الكوفيين وغيرهم استحبوا للمتوضىء والمغتسل والمصلى ونحوهم ان يتلفظوا بالنية فى هذه العبادات وقالوا ان التلفظ بها اقوى من مجرد قصدها بالقصد وان كان التلفظ بها لم يوجبه احد من الائمة واهل المدينة لم يستحبوا شيئا من
____________________
(20/358)
ذلك وهذا هو الصواب ولاصحاب احمد وجهان وذلك ان هذه بدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اصحابه بل كان يفتتح الصلاة بالتكبير ولا يقول قبل التكبير شيئا من هذه الالفاظ وكذلك فى تعليمه للصحابة انما علمهم الافتتاح بالتكبير فهذه بدعة فى الشرع وهى ايضا غلط في القصد فان القصد إلى الفعل امر ضرورى فى النفس فالتلفظ به من باب العبث كتلفظ الاكل بنية الاكل والشارب بنية الشرب والناكح بنية النكاح والمسافر بنية السفر وامثال ذلك
ومن ذلك ( صفات العبادات ( فان مالكا واهل المدينة لا يجوزون تغيير صفة العبادة المشروعة فلا يفتتح الصلاة بغير التكبير المشروع وهو قول الله أكبر كما ان هذا التكبير هو المشروع فى الاذان والاعياد ولا يجوزون ان يقرا القرأن بغير العربية ولا يجوزون ان يعدل عن المقصود المنصوص في الزكاة إلى ما يختار المالك من الاموال بالقيمة
وهم فى مواقيت الصلاة اتبع للسنة من أهل الكوفة حيث يستحبون تقديم الفجر والعصر ويجعلون وقت العصر اذا صار ظل كل شيء مثله وهو آخر وقت الظهر ويجعلون وقت صلاة العشاء وصلاة المغرب مشتركا للمعذور كالحائض اذا طهرت والمجنون اذا أفاق
____________________
(20/359)
ويجوزون الجمع للمسافر الذى جد به السير والمريض وفى المطر
وهم فى صلاة السفر معتدلون فان من الفقهاء من يجعل الاتمام أفضل من القصر او يجعل القصر افضل لكن لايكره الاتمام بل يرى أنه الأظهر وانه لايقصر الا أن ينوى القصر ومنهم من يجعل الاتمام غير جائز وهم يرون ان السنة هي القصر واذا ربع كره له ذلك ويجعلون القصر سنة راتبة والجمع رخصة عارضة ولا ريب ان هذا القول اشبه الأقوال بالسنة
وكذلك فى ( السنن الراتبة ( يجعلون الوتر ركعة واحدة وان كان قبلها شفع وهذا أصح من قول الكوفيين الذين يقولون لاوتر الا كالمغرب مع ان تجويز كليهما أصح لكن الفصل أفضل من الوصل فقولهم أرجح من قول الكوفيين مطلقا ولا يرون للجمعة قبلها سنة راتبة خلافا لمن خالفهم من الكوفيين
ومالك لا يوقت مع الفرائض شيئا وبعض العراقيين وقت أشياء بأحاديث ضعيفة فقول مالك اقرب إلى السنة
وأهل المدينة يرون الجمع والقصر للحاج بعرفة ومزدلفة والقصر
____________________
(20/360)
بمنى سواء كان من أهل مكة أو غيرهم ولا ريب ان هذا هو الذى مضت به سنه رسول الله بلا ريب وهذا القول احد الأقوال فى مذهب الشافعى واحمد ومن قال انه لايجوز القصر الا لمن كان منهم على مسافة القصر فقوله مخالف للسنة وأضعف منه قول من يقول لا يجوز الجمع إلا لمن كان على مسافه القصر وقد علم ان للجمع اسبابا غير السفر الطويل ولهذا كان قول من يقول انه يجوز الجمع فى السفرالقصير كما يجوز فى الطويل اقوى من قول من لايجوزه الا فى الطويل لا فى القصير
وظن من قال هذه الأقوال من أهل العراق وغيرهم ان النبى صلى بمنى ثم قال ( يا اهل مكة أتموا صلاتكم فانا قوم سفر ( وهذا باطل عن النبى صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل الحديث وانما الذى فى السنن انه قال ذلك لما صلى فى مكة فى غزوة الفتح وكذلك قد نقلوا هذا عن عمر
ويروى أن الرشيد لما حج أمر أبا يوسف أن يصلى بالناس فلما سلم قال يااهل مكة اتموا صلاتكم فانا قوم سفر فقال له بعض المكيين أتقول لنا هذا ومن عندنا خرجت السنة وقال هذا من فقهك تكلم وانت فى الصلاة
____________________
(20/361)
وهذا المكى وافق ابا يوسف على ظنه انهم لايقصرون لكن من قلة فقهه تكلم وتكلم الناسى والجاهل بتحريم الكلام لايبطل صلاته عند مالك والشافعى واحمد فى احدى الروايتين ويبطلها عند أبى حنيفة ولو كان المكى عالما بالسنة لقال ليست هذه السنة بل قد صلى بمنى ركعتين وابو بكر وعمر وكذلك صلوا بعرفة ومزدلفة ركعتين ولم يأمروا من خلفهم من المكيين باتمام الصلاة فيها كما هو مذهب اهل المدينة
ومن ذلك ( صلاة الكسوف ( فانه قد تواترت السنن فيها عن النبى صلى الله عليه وسلم بأنه صلاها بركوعين فى كل ركعة واتبع اهل المدينة هذه السنة وخفيت على اهل الكوفة حيث منعوا ذلك
وكذلك ( صلاة الاستسقاء ( فإنه قد ثبت فى الحديث الصحيح عن النبى انه وسلم صلى صلاة الاستسقاء واهل المدينة يرون ان يصلى للأستسقاء وخفيت هذه السنة على من انكر صلاة الاستسقاء من أهل العراق
ومن ذلك تكبيرات العيد الزوائد فان غالب السنن والآثار توافق مذهب أهل المدينة في الأولى سبع بتكبيرات الافتتاح والاحرام وفى الثانية خمس
____________________
(20/362)
ومن ذلك أن الصلاة هل تدرك بركعة أو بأقل من ركعة فمذهب مالك انها إنما تدرك بركعة وهذا هو الذي صح عن النبى حيث قال ( من ادرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ( وقال ( من ادرك ركعة من الفجر قبل ان تطلع الشمس فقد ادرك ومن ادرك ركعة من العصر قبل ان تغرب الشمس فقد أدرك ( فمالك يقول فى الجمعة والجماعة انما تدرك بركعة وكذلك ادراك الصلاة فى اخر الوقت وكذلك ادراك الوقت كالحائض اذا طهرت والمجنون اذا افاق قبل خروج الوقت
وابو حنيفة يعلق الادراك فى الجميع بمقدار التكبيرة حتى فى الجمعة يقول اذا أدرك منها مقدار تكبيرة فقد ادركها والشافعى وأحمد يوافقان مالكا في الجمعة ويختلف قولهما فى غيرها والاكثرون من اصحابهما يوافقون ابا حنيفة فى الباقى ومعلوم ان قول من وافق مالكا في الجميع اصح نصا وقياسا
وقد احتج بعضهم على مالك بقوله فى الحديث الصحيح ( من ادرك سجدة من الصلاة ( وليس فى هذا حجة لان المراد بالسجدة الركعة كما قال بن عمر حفظت عن رسول الله ( سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها ( ونظائرها متعددة
____________________
(20/363)
ومن ذلك ان مذهب اهل المدينة ان الامام اذا صلى ناسيا لجنابته وحدثه ثم علم اعاد هو ولم يعد المأموم وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين كعمر وعثمان وعند ابى حنيفة يعيد الجميع وقد ذكر ذلك رواية عن احمد والمنصوص المشهور عنه كقول مالك وهو مذهب الشافعي وغيره ومما يؤيد ذلك ان هذه القصة جرت لابى يوسف فان الخليفة استخلفه فى صلاة الجمعة فصلى بالناس ثم ذكر انه كان محدثا فاعاد ولم يامر الناس بالاعادة فقيل له فى ذلك فقال ربما ضاق علينا الشيء فاخذنا بقول اخواننا المدنيين مع ان صلاة الجمعة فيها خلاف كثير لكون الامامة شرطا فيها
وطرد مالك هذا الاصل أيضا فى سائر خطأ الامام فإذا صلى الامام باجتهاده فترك ما يعتقد المأموم وجوبه مثل ان يكون الامام لا يرى وجوب قراءة البسملة او لا يرى الوضوء من الدم او من القهقهة او من مس النساء والمأموم يرى وجوب ذلك فمذهب مالك صحة صلاة المأموم وهذا أحد القولين عن احمد والشافعى والقول الاخر لا يصح كقول ابى حنيفة
ومذهب أهل المدينة هوالذى لا ريب فى
____________________
(20/364)
صحته فقد ثبت فى صحيح البخارى عن النبى انه قال ( يصلون لكم فان أصابوا فلكم ولهم وان أخطأوا فلكم وعليهم ( وهذا صريح فى المسألة ولان الإمام صلى باجتهاده فلا يحكم ببطلان صلاته الا ترى انه ينفذ حكمه اذا حكم باجتهاده فالائتمام به اولى
والمنازع بنى ذلك على ان المأموم يعتقد بطلان صلاة الامام وهذا غلط فان الامام صلى باجتهاده او تقليده وانه ان كان مصيبا فله اجران وان كان مخطئا فله اجر واحد وخطؤه مغفور له فكيف يقال انه يعتقد بطلان صلاته
ثم من المعلوم بالتواتر عن سلف الامة ان بعضهم ما زال يصلى خلف بعض مع وجود مثل ذلك فما زال الشافعى وأمثاله يصلون خلف اهل المدينة وهم لا يقرأون البسملة سرا ولا جهرا
ومن المأثور ان الرشيد احتجم فاستفتى مالكا فافتاه بانه لا وضوء عليه فصلى خلفه ابو يوسف ومذهب ابى حنيفة واحمد ان خروج النجاسة من غير السبيلين ينقض الوضوء ومذهب مالك والشافعى انه لاينقض الوضوء فقيل لابى يوسف أتصلى خلفه فقال سبحان الله امير المؤمنين فان ترك الصلاة خلف الائمة لمثل ذلك من شعائر اهل البدع كالرافضة والمعتزلة ولهذا لما سئل الامام احمد عن هذا
____________________
(20/365)
فأفتى بوجوب الوضوء فقال له السائل فان كان الامام لايتوضأ أصلي خلفه فقال سبحان الله الا تصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك بن انس ومالك يرى ان كلام الناسي والجاهل في الصلاة لا يبطلها على حديث ذى اليدين وحديث معاوية بن الحكم لما شمت العاطس وحديث الاعرابى الذى قال فى الصلاة اللهم ارحمنى ومحمدا ولا ترحم معنا احدا
وهذا قول الشافعى وأحمد فى احدى الروايتين والرواية الاخرى كقول ابى حنيفة قالوا حديث ذي اليدين كان قبل تحريم الكلام وليس كذلك بل حديث ذي اليدين كان بعد خيبر اذ قد شهده ابو هريرة وانما اسلم ابو هريرة عام خيبر وتحريم الكلام كان قبل رجوع بن مسعود من الحبشة وبن مسعود شهد بدرا
ومذهب أهل المدينة في الدعاء فى الصلاة والتنبيه بالقرآن والتسبيح وغير ذلك فيه من التوسع ما يوافق السنة بخلاف الكوفيين فانهم ضيقوا في هذا الباب تضييقا كثيرا وجعلوا ذلك كله من الكلام المنهى عنه
____________________
(20/366)
ومن ذلك فى الطهارة ان مالكا رأى الوضوء من مس الذكر ولمس النساء لشهوة دون القهقهة فى الصلاة ولمس النساء لغير شهوة ودون الخارج النادر من السبيلين والخارج النجس من غيرهما وأبو حنيفة رآها من القهقهة والخارج النجس من السبيلين مطلقا ولا يراها من مس الذكر
ومعلوم ان أحاديث نقض الوضوء من مس الذكر اثبت وأعرف من أحاديث القهقهة فانه لم يرو أحد منها فى السنن شيئا وهى مراسيل ضعيفة عند اهل الحديث ولهذا لم يذهب إلى وجوب الوضوء من القهقهة احد من علماء الحديث لعلمهم بانه لم يثبت فيها شيء
والوضوء من مس الذكر فيه طريقان
منهم من يجعله تعبدا لا يعقل معناه فلا يكون بعيدا عن الاصول كالوضوء من القهقهة في الصلاة
ومنهم من لا يجعله تعبدا فهو حينئذ اظهر واقوى
واما لمس النساء ففيه ثلاثة اقوال مشهورة قول ابى حنيفة لا وضوء منه بحال وقول مالك واهل المدينة وهو المشهور عن
____________________
(20/367)
احمد انه ان كان بشهوة نقض الوضوء والا فلا وقول الشافعى يتوضأ منه بكل حال
ولا ريب ان قول ابى حنيفة وقول مالك هما القولان المشهوران في السلف واما ايجاب الوضوء من لمس النساء بغير شهوة فقول شاذ ليس له اصل في الكتاب ولا فى السنة ولا فى اثر عن احد من سلف الامة ولا هو موافق لأصل الشريعة فان اللمس العارى عن شهوة لا يؤثر لا في الاحرام ولا فى الاعتكاف كما يؤثر فيهما اللمس مع الشهوة ولا يكره لصائم ولا يوجب مصاهرة ولا يؤثر فى شيء من العبادات وغيرها من الاحكام فمن جعله مفسدا للطهارة فقد خالف الاصول وقوله تعالى { أو لامستم النساء } ان اريد به الجماع فقط كما قاله عمر وغيره فمعلوم ان قوله اولامستم في الوضوء كقوله في الاعتكاف { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } والمباشرة بغير شهوة لا تؤثر هناك فكذلك هنا وكذلك قوله { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن }
هذا مع أنا نعلم انه مازال الرجال يمسون النساء بغير شهوة فلو كان الوضوء من ذلك واجبا لامر به رسول الله المسلمين ولكان ذلك مما ينقل ويؤثر
____________________
(20/368)
وهذا كما انه احتج من احتج على مالك في مسألة المنى ان الناس لا يزالون يحتلمون فى المنام فتصيب الجنابة ابدانهم وثيابهم فلو كان الغسل واجبا لكان النبى يامر به مع انه لم يأمر أحدا من المسلمين بغسل ما اصابه من منى لا فى بدنه ولا فى ثيابه وقد أمر الحائض ان تغسل دم الحيض من ثوبها ومعلوم ان اصابة الجنابة ثياب الناس اكثر من اصابة دم الحيض ثياب النساء فكيف يبين هذا للحائض ويترك بيان ذلك الحكم العام مع ان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وما ثبت عنه فى الصحيح من ان عائشة كانت تغسل المنى من ثوبه لا يدل على الوجوب وثبت عنها ايضا في الصحيح انها كانت تفركه فكيف وقد ثبت هذا ايضا ان الغسل يكون لقذارته كما قال سعد بن ابى وقاص وبن عباس أمطه عنك ولو بأذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق
فان كانت هذه الحجة مستقيمة فمثلها يقال فى الوضوء من لمس النساء لغير شهوة ولمسهن لشهوة في التوضي منه اجتهاد وتنازع قديم واما لمسهن بغير شهوة فكما ترى
وكذلك الاغتسال من الجنابة فمذهب مالك واحد القولين من مذهب احمد بل هو المأثور عنه اتباع السنة فيه فان من نقل غسل النبى صلى الله عليه وآله وسلم كعائشة وميمونة لم ينقل انه غسل بدنه
____________________
(20/369)
كله ثلاثا بل ذكر انه بعد الوضوء وتخليل اصول الشعر حثاثية على شق رأسه وانه افاض الماء بعدذلك على سائر بدنه
والذين استحبوا الثلاث انما ذكروه قياسا على الوضوء والسنة قد فرقت بينهما
وقد ثبت ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع وهو أربعة امداد ومعلوم انه لو كان السنة فى الغسل التثليث لم يكفه ذلك فان سائر الأعضاء فوق أعضاء الوضوء اكثر من أربع مرات
ومن ذلك التيمم منهم من يقول لا يجب ان يتيمم لكل صلاة كقول أبى حنيفه ومنهم من يقول بل يتيمم لكل صلاه كقول الشافعى ومذهب مالك يتيمم لوقت كل صلاة وهذا أعدل الأقوال وهو يشبه الآثار المأثورة عن الصحابة والمأثورة فى المستحاضة ولهذا كان ذلك هو المشهور فيهما عند فقهاء الحديث
ومن ذلك أهل المدينة يوجبون الزكاة فى مال الخليطين كمال المالك الواحد ويجعلون فى الابل اذا زادت على عشرين ومائة في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة وهذا موافق لكتاب النبى فى الصدقة الذي اخرجه البخارى من حديث ابى بكر الصديق وعامة كتب النبى
____________________
(20/370)
كالتى كانت عند آل عمر بن الخطاب وآل علي بن أبى طالب وغيرهما توافق هذا
ومن خالفهم من الكوفيين يستأنف الفريضة بعد ذلك ولا يحصل للخلطة تأثير ومعهم اثار الاستئناف لكن لا تقاوم هذا وان كان ثابتا فهو منسوخ كما نسخ ما روى فى البقر انها تزكى بالغنم
ومذهب اهل المدينة ان لا وقص الا فى الماشية ففي النقدين ما زاد فبحسبه كما روى ذلك فى الآثار وأبو حنيفة يجعل الوقص تابعا للنصاب ففي النقدين عنده لا زكاة فى الوقص كما فى الماشية واما المعشرات فعنده لا وقص فيها ولا نصاب بل يجب العشر فى كل قليل وكثير في الخضراوات لكن صاحباه وافقا اهل المدينة لما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة ( وبما ثبت عنه من ترك أخذ الصدقة من الخضراوات مع ما روى عنه ( ليس في الخضراوات صدقة (
ومذهب أهل المدينة ان الركاز الذي قال عنه ( وفى الركاز الخمس ( لا يدخل المعدن بل المعدن تجب فيه الزكاة
____________________
(20/371)
كما أخذت من معادن بلال بن الحارث كما ذكر ذلك مالك فى موطأه فان الموطأ لمن تدبره وتدبر تراجمه وما فيه من الاثار وترتيبه علم قول من خالفها من أهل العراق فقصد بذلك الترتيب والآثار بيان السنة والرد على من خالفها ومن كان بمذهب أهل المدينة والعراق اعلم كان اعلم بمقدار الموطأ ولهذا كان يقول كتاب جمعته في كذا وكذا سنة تأخذونه في كذا وكذا يوما كيف تفقهون ما فيه أو كلاما يشبه هذا
ومن خالف ذلك من أهل العراق يجعلون الركاز إسما يتناول المعادن ودفن الجاهلية
وكذلك أمور المناسك فان أهل المدينة لا يرون للقارن أن يطوف الا طوافا واحدا ولا يسعى الا سعيا واحدا ومعلوم ان الاحاديث الصحيحة عن النبى كلها توافق هذا القول
ومن صار من الكوفيين إلى أن يطوف أولا ثم يسعى للعمرة ثم يطوف ثانيا ويسعى للحج فمتمسك بآثار منقولة عن علي وبن مسعود وهذا ان صح لا يعارض السنة الصحيحة
فان قيل فأبو حنيفة يرى القران أفضل ومالك يرى الافراد
____________________
(20/372)
أفضل وعلماء الحديث لا يرتابون ان النبى صلى الله عليه وسلم كان قارنا كما هو مبسوط فى غير هذا الموضع قيل هذه المسائل كثر نزاع الناس فيها واضطرب عليهم ما نقل فيها وما من طائفة الا وقد قالت فيها قولا مرجوحا والتحقيق الثابت بالاحاديث الصحيحة ان النبى لما حج بأصحابه أمرهم ان يحلوا من احرامهم ويجعلوها عمرة الا من ساق الهدى وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدى فلما لم يحلل توقفوا فقال ( لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة ( وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد جمع بين العمرة والحج
فالذى تدل عليه السنة ان من لم يسق الهدى فالتمتع أفضل له وأن من ساق الهدى فالقران افضل له هذا اذا جمع بينهما فى سفرة واحدة وأما اذا سافر للحج سفرة وللعمرة سفرة فالافراد أفضل له وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة اتفقوا على ان الافراد أفضل اذا سافر لكل منهما سفرة والقران الذى فعله رسول الله كان بطواف واحد وبسعى واحد لم يقرن بطوافين وسعيين كما يظنه من يظنه من أصحاب ابى حنيفة كما انه لم يفرد الحج كما يظنه من ظنه من أصحاب الشافعي ومالك ولا اعتمر بعد الحج لا هو ولا أحد من أصحابة الاعائشة لأجل عمرتها التى حاضت فيها مع انه قد
____________________
(20/373)
صح انه اعتمر أربع عمر احداهن فى حجة الوداع ولم يحل النبى من احرامه كما ظنه بعض اصحاب احمد
ومذهبهم ان المحصر لاقضاء عليه
وهذا أصح من قول الكوفيين فان النبى وأصحابه صدوا عن العمرة عام الحديبية ثم من العام القابل اعتمر النبى وطائفة ممن معه لم يعتمروا وجميع أهل الحديبية كانوا أكثر من الف وأربعمائة وهم الذين بايعوا تحت الشجرة ومنهم من مات قبل عمرة القضية
ومذهبهم انه لا يستحب لأحد بل يكره ان يحرم قبل الميقات المكانى والكوفيون يستحبون الاحرام قبله
وقول أهل المدينة الموافق لسنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين فان النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر قبل حجة الوداع عمرة الحديبية وعمرة القضية وكلاهما احرم فيهما من ذي الحليفة واعتمر عام حنين من الجعرانة ثم حجة الوداع واحرم فيها من ذي الحليفة ولم يحرم من المدينة قط ولم يكن رسول الله ليداوم على ترك الافضل وخلفاؤه
____________________
(20/374)
كعمر وعثمان نهوا عن الاحرام قبل الميقات
وقد سئل مالك عن رجل أحرم قبل الميقات فقال أخاف عليه من الفتنة فقال قال تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } فقال السائل وأي فتنة فى ذلك وإنما هي زيادة امتثال فى طاعة الله تعالى قال واي فتنة أعظم من أن تظن أنك خصصت بفعل لم يفعله رسول الله او كما قال وكان يقول لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها أو كلما جاءنا رجل اجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد بجدل هذا
ومذهب أهل المدينة ان وطىء بعد التعريف قبل التحلل فسد حجه ومن وطىء بعد التحلل الأول فعليه عمرة وهذا هو المأثور عن الصحابة دون قول من قال ان الوطء بعد التعريف لا يفسد وقول من قال ان الوطء بعد التحلل الأول لا يوجب احراما ثانيا واتبع مالك في ذلك قول بن عباس وذكره فى موطأه لكن لم يسم من نقله فيه عن بن عباس إذ الراوي له عكرمة لما بلغه فيه عن بن عمر وسعد وان كان الذي اتمه توثيق عكرمة ولهذا روى له البخاري
فان قيل قد خالف حديث ضباعة بنت الزبير فى اشتراطها
____________________
(20/375)
التحلل إذا حبسها حابس وحديث عائشة فى تطييب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إحرامه وقبل طوافه بالبيت وحديث بن عباس في أنه مازال يلبى حتى رمى جمرة العقبة وغير ذلك
قيل إذا قيس هذا بما خالفه غيره من الكوفيين ونحوه كان ذلك اكثر مع أنه فى مثل هذه المسائل اتبع فيها آثارا عن عمر بن الخطاب وبن عمر وغيرهما وإن كان الصواب عند تنازع الصحابة الرد إلى سنة رسول الله لكن من لم تبلغه بعض السنة فاتبع عمر وبن عمر ونحوهما كان ارجح مما خفي عنه اكثر مما خفي عن أهل المدينة النبوية ولم يكن له سلف مثل سلف أهل المدينة
ومن ذلك حرم المدينة النبوية فان الأحاديث قد تواترت عن النبى من غير وجه باثبات حرمها بل صح عنه أيضا أنه جعل جزاء من عضد بها شجرا ان سلبه لواجده ومذهب أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد أنها حرام أيضا وان كان لهم فى جزاء الصيد نزاع ومن خالف فى ذلك من الكوفيين لم تبلغه هذه السنن ولكن بعض اتباعهم أخذ يعارض ذلك بمثل حديث ابى عمير وحديث الوحش وهذه لو كانت تقاوم ذلك فى الصحة لم يجز أن تعارض بها لكن تلك متواترات وحديث ابى عمير محمول على ان
____________________
(20/376)
الصيد صيد خارج المدينة ثم ادخل اليها وكذلك حديث الوحش ان صح
وان قدر انهما متعارضان فكان مثل تحريم المدينة لان احاديث الحرم رواها ابو هريرة ونحوه ممن صحبته متأخرة واما دخول النبى عند أبى طلحة فكان من اوائل الهجرة او انه إذا تعارض نصان احدهما ناقل عن الأصل والآخر ناف مبق لحكم الأصل كان الناقل اولى لانه إذا قدم الناقل لم يلزم تعيين الحكم الا مرة واحدة وإذا قدم المبقى تغير الحكم مرتين فلو قيل ان حديث ابى عمير بعد أحاديث تحريم المدينة لكان قد حرمه ثم أحله واذا قدر انه كان قبل ذلك لم يلزم الا كونه قد حرمه بعد التحليل وهذا لا ريب فيه والله اعلم فصل
واما المناكح فلا ريب ان مذهب اهل المدينة فى بطلان نكاح المحلل ونكاح الشغار اتبع للسنة ممن لم يبطل ذلك من اهل العراق فانه قد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم انه لعن المحلل والمحلل له
____________________
(20/377)
وثبت عن أصحابه كعمر وعثمان وعلي وبن مسعود وبن عمر وبن عباس انهم نهوا عن التحليل لم يعرف عن أحد منهم الرخصة فى ذلك وهذا موافق لأصول أهل المدينة فان من أصولهم أن القصود فى العقود معتبرة كما يجعلون الشرط المتقدم كالشرط المقارن ويجعلون الشرط العرفى كالشرط اللفظي ولأجل هذه الأصول أبطلوا نكاح المحلل وخلع اليمين الذي يفعل حيلة لفعل المحلوف عليه وابطلوا الحيل التى يستحل بها الربا وأمثال ذلك
ومن نازعهم فى ذلك من الكوفيين ومن وافقهم الغى النيات فى هذه الأعمال وجعل القصد الحسن كالقصد السيء وسوغ اظهار أعمال لا حقيقة لها ولا قصد بل هي نوع من النفاق والمكر كما قال أيوب السختيانى يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان اهون عليهم
والبخاري قد أورد فى صحيحه كتابا فى الرد على أهل الحيل وما زال سلف الأمة وائمتها ينكرون على من فعل ذلك كما بسطناه فى الكتاب المفرد
ونكاح الشغار قد ثبت عن النبى من غير
____________________
(20/378)
وجه النهى عنه ولكن من صححه من الكوفيين رأي أنه لا محذور فيه إلا عدم اعلام المهر والنكاح يصح بدون تسمية المهر ولهذا كان المبطلون له لهم مأخذان
أحدهما ان مأخذه جعل بضع كل واحدة مهر الاخرى فيلزم التشريك فى البضع كما يقول ذلك الشافعي وكثير من أصحاب أحمد وهؤلاء منهم طائفة يبطلونه إلا أن يسمى مهرا لأنه مع تسميته انتفى التشريك فى البضع ومنهم من لايبطله إلا بقول وبضع كل واحدة مهر للاخرى لكونه إذا لم يقل ذلك لم يتعين جعل البضع مهرا ومنهم من يبطله مطلقا كما جاء عنه بذلك حديث مصرح به فى السنن وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره
والمأخذ الثاني أن بطلانه لاشتراط عدم المهر وفرق بين السكوت عن تسمية المهر وبين اشتراط المهر فان هذا النكاح من خصائص النبى وعلى هذا فلو سمى المهر بما يعلمان تحريمه كخمر وخنزير بطل النكاح كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك وهو أحد القولين فى مذهب أحمد وهو اشبه بظاهر القرآن واشبه بقياس الأصول
وكذلك نكاح الحامل أو المعتدة من الزنى باطل في مذهب مالك
____________________
(20/379)
وهو أشبه بالآثار والقياس لئلا يختلط الماء الحلال بالحرام وقد خالفه ابو حنيفة فجوز العقد دون الوطء والشافعي جوزهما
وأحمد وافقه وزاد عليه فلم يجوز نكاح الزانية حتى تتوب لدلالة القرآن والأحاديث على تحريم نكاح الزانية وأما من ادعى أن ذلك منسوخ وأن المراد به الوطء ففساد قوله ظاهر من وجوه متعددة
وكذلك مسألة تداخل العدتين من رجلين كالتى تزوجت في عدتها أوالتى وطئت بشبهة فان مذهب مالك أن العدتين لا يتداخلان بل تعتد لكل واحد منهما وهذا هو المأثور عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة قال بتداخلهما
وكذلك مسألة اصابة الزوج الثاني هل تهدم ما دون الثلاث وهو الذى يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ثم تتزوج من يصيبها ثم تعود إلى الأول فانها تعود على ما بقى عند مالك وهو قول الاكابر من الصحابة كعمر بن الخطاب وأمثاله وهو مذهب الشافعي وأحمد فى المشهور عنه وإنما قال لا تعود على ما بقى بن عمر وبن عباس وهو قول أبى حنيفة
____________________
(20/380)
وكذلك فى الايلاء مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث وغيرهم أنه عند انقضاء أربعة أشهر يوقف إما أن يفي وإما أن يطلق وهذا هو المأثور عن بضعة عشر من الصحابة وقد دل عليه القرآن والأصول من غير وجه وقول الكوفيين أن عزم الطلاق انقضاء العدة فاذا انقضت ولم يف طلقت وغاية ما يروى ذلك عن بن مسعود ان صح عنه
ومسألة الرجعة بالفعل كما إذا طلقها فهل يكون الوطء رجعة فيه ثلاثة أقوال احدها يكون رجعة كقول أبى حنيفة والثانى لا يكون كقول الشافعي والثالث يكون رجعة مع النية وهو المشهور عند مالك وهو اعدل الأقوال الثلاثة فى مذهب أحمد فصل
وأما العقوبات والأحكام فمذهب أهل المدينة أرجح من مذهب أهل الكوفة من وجوه
أحدها أنهم يوجبون القود فى القتل بالمثقل كما جاءت بذلك السنة وكما تدل عليه الأصول بل بالغ مالك حتى أنكر الخطأ شبه
____________________
(20/381)
العمد وخالفه غيره فى ذلك لهجر الشبه لكنه في الحقيقة نوع من الخطأ امتاز بمزيد حكم فليس هو قسما من الخطأ المذكور في القرآن
ومن ذلك مسألة قتل المسلم بالكافر والذمي والحر بالعبد للناس فيه ثلاثة أقوال أحدها يقتل به بكل حال كقول أبي حنيفة وأصحابه والثانى لايقتل به بحال كقول الشافعي وأحمد في احد القولين والثالث لا يقتل به إلا فى المحاربة فان القتل فيها حد لعموم المصلحة فلا تتعين فيه المكافأة بل يقتل فيه الحر وان كان المقتول عبدا والمسلم وان كان المقتول ذميا وهذا قول أهل المدينة والقول الآخر لأحمد وهو أعدل الأقوال وفيه جمع بين الآثار المنقولة في هذا الباب أيضا
ومذهب مالك فى المحاربين وغيرهم اجراء الحكم على الردء والمباشر كما اتفق الناس على مثل ذلك في الجهاد ومن نازعه في هذا سلم ان المشتركين فى القتل يجب عليهم القود فانه متفق عليه من مذهب الأئمة كما قال عمر لو تمالأ أهل صنعاء لقتلتهم به فان كانوا كلهم مباشرين فلا نزاع وان كان بعضهم غير مباشر لكنه متسبب سببا يفضى إلى القتل غالبا كالمكره وشاهد الزور اذا رجع والحاكم الجائر اذا رجع فقد سلم له الجمهور على ان القود يجب على هؤلاء كما قال على رضى الله عنه فى الرجلين اللذين شهدا على رجل انه سرق
____________________
(20/382)
فقطع يده ثم رجعا وقالا اخطأنا قال ( لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما ( فدل على قطع الايدى باليد وعلى وجوب القود على شاهد الزور
والكوفيون يخالفون فى هذين وعمر بن الخطاب رضى الله عنه جعل رقبة المحاربين بينهم ومعلوم أن قول من جعل المتعاونين على الاثم والعدوان مشتركين فى العقوبة اشبه بالكتاب والسنة لفظا ومعنى ممن لم يوجب العقوبة الا على نفس المباشر
ومن ذلك اهل المدينة يتبعون ما خطب به عمر بن الخطاب على منبر رسول الله حيث قال الرجم فى كتاب الله حق على كل من زنا من الرجال والنساء إذا أحصن وقامت البينة أو كان الحبل او الاعتراف وكذلك يحدون فى الخمر بما اذا وجد سكرانا او تقيأ او وجدت منه الرائحة ولم يكن هناك شبهة وهذا هو الماثور عن النبى وخلفائه الراشدين كعمر وعثمان وعلى
وابو حنيفة والشافعى لا يرون الحد إلا باقرار أو بينة على الفعل وزعموا ان ذلك شبهة وعن أحمد روايتان
ومعلوم أن الاول اشبه لسنة رسول الله
____________________
(20/383)
وسنة خلفائه الراشدين وهو حفظ لحدود الله تعالى التى امر الله بحفظها والشبهة فى هذا كالشبهة فى البينة والاقرار الذى يحتمل الكذب والخطأ
ومن ذلك أن أهل المدينة يرون ( العقوبات المالية ) مشروعة حيث مضت بها سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين كما ان العقوبات البدنية مشروعة حيث مضت بها السنة وقد انكر العقوبات المالية من انكرها من اهل الكوفة ومن اتبعهم وادعوا أنها منسوخة ومن أين ياتون على نسخها بحجة وهذا يفعلونه كثيرا اذا رأوا حديثا صحيحا يخالف قولهم واما علماء اهل المدينة وعلماء الحديث فرأوا السنن والآثار قد جاءت بالعقوبات المالية كما جاءت بالعقوبات البدنية مثل كسر دنان الخمر وشق ظروفها وتحريق حانوت الخمار كما صنع موسى بالعجل وصنع النبى بالاصنام وكما امر عليه السلام عبد الله بن عمرو بتحريق الثوبين المعصفرين وكما امرهم عليه السلام بكسر القدور التى فيها لحم الحمر ثم اذن لهم فى غسلها وكما ضعف القود على من سرق من غير الحرز وفى حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب غرم الضالة المكتومة وضعف ثمن دية الذمى المقتول عمدا
وكذلك مذهبهم فى ( العقود والديات ( من أصح المذاهب فمن
____________________
(20/384)
ذلك دية الذمى فمن الناس من قال ديته كدية المسلم كقول ابى حنيفة ومنهم من قال ديته ثلث دية المسلم لانه أقل ما قيل كما قاله الشافعى والقول الثالث ان ديته نصف دية المسلم وهذا مذهب مالك وهو أصح الأقوال لان هذا هو الماثور عن النبى كما رواه أهل السنن ابو داود وغيره عن النبى
ومن ذلك العاقلة تحمل جميع الدية كما يقول الشافعى او تحمل المقدرات كدية الموضحة والاصابع فما فوقها كما يقوله ابو حنيفة او تحمل ما زاد على الثلث وهو مذهب مالك وهذا الثالث هو الماثور وهو مذهب احمد وفي الثلث قولان فى مذهب مالك واحمد
ويذكر انه تناظر مدنى وكوفى فقال المدنى للكوفى قد بورك لكم فى الربع كما تقول يمسح ربع الرأس ويعفى عن النجاسة المخففة عن ربع المحل وكما تقولونه فى غير ذلك فقال له الكوفى وانتم بورك لكم فى الثلث كما تقولون اذا نذر صدقة ماله اجزأه الثلث وكما تقولون العاقلة تحمل ما فوق الثلث وعقل المراة كعقل الرجل إلى الثلث فاذا زادت كانت على النصف وأمثال ذلك
وهذا صحيح ولكن يقال للكوفى ليس في الربع أصل لا
____________________
(20/385)
فى كتاب الله ولا سنة رسوله وانما قالوا الانسان له أربع جوانب ويقال رأيت الانسان اذا رأيت أحد جوانبه وهى أربعة فيقام الربع مقام الجميع واما الثلث فله اصل في غير موضع من سنة رسول الله فانه قد ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق المسلمين ان المريض له ان يوصى بثلث ماله لا اكثر كما أمر به النبى سعد بن أبى وقاص لما عاده فى حجة الوداع وكما ثبت فى الصحيح فى الذى أعتق ستة مملوكين له عند موته فجزاهم النبى ثلاثة اجزاء فاعتق اثنين وارق اربعة وكما روى انه قال لابى لبابة ( يجزيك الثلث ( وكما في غير ذلك فاين هذا من هذا
وما فى هذا الحديث يقول ( به ) اهل المدينة والقرعة فيها آية من كتاب الله وستة احاديث عن النبى منها هذا الحديث
ومنها قوله ( لو يعلم الناس ما فى النداء والصف الاول ولم يجدوا الا ان يستهموا عليه ( ومنها ( اذا اراد سفرا أقرع بين نسائه فايتهن خرج سهمها خرج بها معه ( ومنها ان الانصار كانوا يستهمون على المهاجرين لما هاجروا اليهم ومنها فى المتداعيين اللذين أمرهما النبى ان يستهما على اليمين حبا ام كرها ومنها فى اللذين
____________________
(20/386)
اختصما في مواريث درست فقال لهما ( توخيا الحق واستهما وليحلل كل منكما صاحبه (
والقرعة يقول بها أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي واحمد وغيرهما ومن خالفهم من الكوفيين لا يقول بها بل نقل عن بعضهم انه قال القرعة قمار وجعلوها من الميسر والفرق بين القرعة التى سنها رسول الله وبين الميسر الذي حرمه ظاهر بين فان القرعة انما تكون مع استواء الحقوق وعدم امكان تعيين واحد وعلى نوعين
احدهما ان لا يكون المستحق معينا كالمشتركين اذا عدم المقسوم فيعين لكل واحد بالقرعة وكالعبيد الذين جزأهم النبى ثلاثة اجزاء وكالنساء اللاتي يريد السفر بواحدة منهن فهذا لانزاع بين القائلين بالقرعة انه يقرع فيه
والثانى ما يكون المعين مستحقا فى الباطن كقصة يونس والمتداعيين وكالقرعة فيما اذا اعتق واحدا بعينه ثم انسيه وفيما اذا طلق امراة من نسائه ثم انسيها او مات او نحو ذلك فهذه القرعة فيها نزاع واحمد يجوز ذلك دون الشافعي
____________________
(20/387)
فصل
ومذهبهم فى الاحكام انهم يرجحون جانب اقوى المتداعيين ويجعلون اليمين فى جانبه فيقضون بالشاهد ويمين الطالب فى الحقوق وفى القسامة يبدءون بتحليف المدعين فان حلفوا خمسين يمينا استحقوا الدم والكوفيون يرون أنه لا يحلف الا المدعى عليه فلا يحلفون المدعى لا فى قسامة ولا فى غيرها ولا يقضون بشاهد ويمين ولا يرون اليمين على المدعى
ومعلوم أن سنة النبى الصحيحة توافق مذهب المدنيين فان حديث القسامة صحيح ثابت فيه وقد قال النبى للانصار ( تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم ) وكان الشافعى ونحوه من أهل العراق اذا ناظروا علماء اهل المدينة كابى الزناد وغيره فى القسامة واحتج عليهما اهل المدينة بالسنة التى لا مندوحة لاحد عن قبولها ويقولون لهم ان السنة ووجوه الحق لتأتى على خلاف الرأى فلا يجد المسلمون بدا من قبولها فى كلام طويل مروى باسناد
____________________
(20/388)
وكذلك ( مسالة الحكم بشاهد ويمين ) فيها أحاديث فى الصحيح والسنن كحديث بن عباس الذى رواه مسلم وكحديث ابى هريرة وغيره مما رواه ابو داود لما قال بعض العلماء نرى ان من حكم بشاهد ويمين نقض حكمه انتصر لهذه السنة العلماء كمالك والشافعى واحمد بن حنبل وابى عبيد وغيرهم فمالك بحث فيها فى موطئه بحثا لا يعد له نظير فى الموطأ والشافعى فى الام بحث فيها نحو عشر اوراق وكذلك ابو عبيد فى كتاب القضاء
وليس مع الكوفيين الا ما يروونه من قوله ( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ) وهذا اللفظ ليس فى السنن وان كان قد رواه بعض المصنفين فى الاحاديث ولكن فى الصحيح حديث بن عباس عن النبى انه قال لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) وهذا اللفظ اما ان يقال لا عموم فيه بل اللام لتعريف المعهود وهو المدعى عليه اذ ليس مع المدعى الا مجرد الدعوى كما قال لو يعطى الناس بدعواهم ومن يحلف المدعى لا يحلفه مع مجرد الدعوى بل انما يحلفه اذا قامت حجة يرجح بها جانبه كالشاهد فى الحقوق والارث فى القسامة ان قيل هو عام فالخاص يقضى على العام
واحتجاجهم بما فى القرآن من ذكر الشاهدين والرجل والمرأتين
____________________
(20/389)
ضعيف جدا فان هذا انما هو مذكور فى تحمل الشهادة دون الحكم بها ولو كان فى الحكم فالحكم بالشهادة المجردة لم يفتقر إلى ذلك ومن حلف مع الشاهد لم يحكم بشهادة غير الشهادة المذكورة فى القرآن
ثم الائمة متفقون على انه يحكم بلا شهادة أصلا بل بالنكول أو الرد وانه يحكم بشهادة النساء منفردات فى مواضع فكيف يحكم مع ان هذا ليس بمخالف للقرآن فكيف باليمين مع الشاهد
ثم مالك يوجب القود فى القسامة ويقيم الحد على المرأة اذا التعن الرجل ولم تلتعن المرأة والشافعى يقيم الحد ولا يقتل من القسامة وأبو حنيفة يخالف فى المسألتين واحمد يوافق على القود بالقسامة دون حد المراة بل يحبسها اذا لم تلتعن ويخليها وظاهر الكتاب والسنة يوافق قول مالك
ومن ذلك أهل المدينة يرون قتل اللوطى الفاعل والمفعول به محصنين كانا او غير محصنين وهذا هو الذى دلت عليه السنة واتفاق الصحابة وهو احد القولين في مذهب الشافعى واحمد ومن قال لا قتل عليه من الكوفيين فلا سنة معه ولا اثر عن الصحابة وقد قال ربيعة للكوفى الذى ناظره ايجعل مالا يحل بحال كما يباح بحال
____________________
(20/390)
دون حال وذكر الزهري ان السنة مضت بذلك
ومن ذلك ان الدعوى فى التهم كالسرقة والقتل يراعون فيها حال المتهم هل هو من اهل التهم ام ليس من اهل ذلك ويرون عقوبة من ظهرت التهمة فى حقه وقد ذكر ذلك من صنف فى الاحكام السلطانية من اصحاب الشافعى واحمد ذكروا فى عقوبة مثل هذا هل يعاقبه الوالى والقاضى ام يعاقبه الوالى قولان وكما يجب ان يعرف ان امر الله تعالى ورسوله متناول لكل من حكم بين الناس سواء كان واليا او قاضيا او غير ذلك فمن فرق بين هذا وهذا بما يتعلق بامر الله ورسوله فقد غلط واما من فرق بينهما بما يتعلق بالولاية لكون هذا ولى على مثل ذلك دون هذا فهذا متوجه
وهذا كما يوجد فى كثير من خطاب بعض إتباع الكوفيين وفى تصانيفهم اذا احتج عليهم محتج بمن قتله النبى صلى الله عليه وسلم او امر بقتله كقتله اليهودى الذى رض راس الجارية وكاهداره لدم السابة التى سبته وكانت معاهدة وكأمره بقتل اللوطى ونحو ذلك قالوا هذا يعمله سياسة فيقال لهم هذه السياسة ان قلتم هي مشروعة لنا فهي حق وهى سياسة شرعية وان قلتم ليست مشروعة لنا فهذه مخالفة للسنه ثم قول القائل بعد هذا سياسة اما ان يريد ان الناس
____________________
(20/391)
يساسون بشريعة الاسلام ام هذه السياسة من غير شريعة الاسلام فان قيل بالاول فذلك من الدين وان قيل بالثاني فهو الخطأ
ولكن منشأ هذا الخطأ ان مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله وسياسة خلفائه الراشدين وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال ان بنى اسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما مات نبى قام نبى وانه لا نبى بعدى وسيكون خلفاء يكثرون قالوا فما تأمرنا قال ( اوفوا بيعة الأول فالأول واعطوهم حقهم فان الله سائلهم عما استرعاهم ( فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق ولم يكن ما معهم من العلم كافيا فى السياسة العادلة احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع وتعاظم الامر فى كثير من امصار المسلمين حتى صار يقال الشرع والسياسة وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة سوغ حاكما ان يحكم بالشرع والآخر بالسياسة
والسبب فى ذلك ان الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا فى معرفة السنة فصارت امور كثيرة اذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء وتؤخذ الاموال وتستباح المحرمات والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأى من غير اعتصام
____________________
(20/392)
بالكتاب والسنة وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرى العدل وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو
ذلك وكذلك كانت الامصار التى ظهر فيها مذهب اهل المدينة يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها من جعل صاحب الحرب متبعا لصاحب الكتاب مالا يكون فى الامصار التى ظهر فيها مذهب اهل العراق ومن اتبعهم حيث يكون فى هذه والى الحرب غير متبع لصاحب العلم وقد قال الله تعالى فى كتابه { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم } الاية فقوام الدين بكتاب يهدى وسيف ينصر { وكفى بربك هاديا ونصيرا }
ودين الاسلام ان يكون السيف تابعا للكتاب فاذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الاسلام قائما واهل المدينة أولى الامصار بمثل ذلك اما على عهد الخلفاء الراشدين فكان الامر كذلك وأما بعدهم فهم فى ذلك أرجح من غيرهم واما اذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه كان دين من هو كذلك بحسب ذلك
وهذه الأمور من اهتدى إليها وإلى أمثالها تبين له ان أصول أهل المدينة أصح من أصول أهل المشرق بما لا نسبة بينهما
____________________
(20/393)
ومن ذلك ان القتال فى الفتنة الكبرى كان الصحابة فيها ثلاث فرق فرقة قاتلت من هذه الناحية وفرقة قاتلت من هذه الناحية وفرقة قعدت والفقهاء اليوم على قولين منهم من يرى القتال من ناحية علي مثل أكثر المصنفين لقتال البغاة ومنهم من يرى الامساك وهو المشهور من قول أهل المدينة وأهل الحديث والاحاديث الثابتة الصحيحة عن النبى في أمر هذه الفتنة توافق قول هؤلاء ولهذا كان المصنفون لعقائد اهل السنة والجماعة يذكرون فيه ترك القتال فى الفتنة والامساك عما شجر بين الصحابة
ثم ان أهل المدينة يرون قتال من خرج عن الشريعة كالحرورية وغيرهم ويفرقون بين هذا وبين القتال فى الفتنة وهو مذهب فقهاء الحديث وهذا هو الموافق لسنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين فانه قد ثبت عنه الحديث فى الخوارج من عشرة اوجه خرجها مسلم فى صحيحه وخرج البخارى بعضها وقال فيه ( يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقراون القران لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية اينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم اجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ( وقد ثبت اتفاق الصحابة على
____________________
(20/394)
قتالهم وقاتلهم أمير المؤمنين على بن ابى طالب رضي الله عنه وذكر فيهم سنة رسول الله المتضمنة لقتالهم وفرح بقتلهم وسجد لله شكرا لما رأى اباهم مقتولا وهو ذو الثدية بخلاف ما جرى يوم الجمل وصفين فان عليا لم يفرح بذلك بل ظهر منه من التالم والندم ما ظهر ولم يذكر عن النبى فى ذلك سنة بل ذكر انه قاتل باجتهاده
فأهل المدينة اتبعوا السنة في قتال المارقين من الشريعة وترك القتال فى الفتنة وعلى ذلك ائمة أهل الحديث بخلاف من سوى بين قتال هؤلاء وهؤلاء بل سوى بين قتال هؤلاء وقتال الصديق لما نعي الزكاة فجعل جميع هؤلاء من باب البغاة كما فعل ذلك من فعله من المصنفين فى قتال اهل البغى فان هذا جمع بين ما فرق الله بينهما
وأهل المدينة والسنة فرقوا بين ما فرق الله بينه واتبعوا النص الصحيح والقياس المستقيم العادل فان القياس الصحيح من العدل وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المتخالفين وأهل المدينة احق الناس باتباع النص الصحيح والقياس العادل
وهذا باب يطول استقصاؤه وقد ذكرنا من ذلك ما شاء الله
____________________
(20/395)
من القواعد الكبار فى القواعد الفقهية وغير ذلك وانما هذا جواب فتيا نبهنا فيه تنبيها على جمل يعرف بها بعض فضائل اهل المدينة النبوية فان معرفة هذا من الدين لاسيما اذا جهل الناس مقدار علمهم ودينهم فبيان هذا يشبه بيان علم الصحابة ودينهم اذا جهل ذلك من جهله فكما ان بيان السنة وفضائل الصحابة وتقديمهم الصديق والفاروق من اعظم امور الدين عند ظهور بدع الرافضة ونحوهم فكذلك بيان السنة ومذاهب اهل المدينة وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب اهل الامصار اعظم امور الدين عند ظهور بدع الجهال المتبعين للظن وما تهوى الانفس والله أعلم
والله تعالى يوفقنا وسائر اخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
____________________
(20/396)
وقال فصل
وأما ( نسخ القرآن بالسنة ( فهذا لا يجوزه الشافعى ولا احمد فى المشهور عنه ويجوزه فى الرواية الاخرى وهو قول أصحاب أبى حنيفة وغيرهم وقد احتجوا على ذلك بان الوصية للوالدين والاقربين نسخها قوله ( إن الله أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث ) وهذا غلط فان ذلك انما نسخه آية المواريث كما اتفق على ذلك السلف فانه لما قال بعد ذكر الفرائض ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) فلما ذكر ان الفرائض المقدرة حدوده ونهى عن تعديها كان في ذلك بيان انه لا يجوز ان يزاد احد على ما فرض الله له وهذا معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم ( ان الله قد اعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث ( والا فهذا الحديث وحده انما رواه ابو داود ونحوه من أهل السنن ليس
____________________
(20/397)
فى الصحيحين ولو كان من اخبار الآحاد لم يجز ان يجعل مجرد خبر غير معلوم الصحة ناسخا للقرآن
وبالجملة فلم يثبت ان شيئا من القرآن نسخ بسنة بلا قرآن وقد ذكروا من ذلك قوله تعالى { فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } وقد ثبت فى صحيح مسلم عن النبى انه قال ( خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (
وهذه الحجة ضعيفة لوجهين
احدهما ان هذا ليس من النسخ المتنازع فيه فان الله مد الحكم إلى غاية والنبى صلى الله عليه وسلم بين تلك الغاية لكن الغاية هنا مجهولة فصار هذا يقال انه نسخ بخلاف الغاية البينة في نفس الخطاب كقوله ( ثم اتموا الصيام إلى الليل ) فان هذا لا يسمى نسخا بلا ريب
الوجه الثانى ان جلد الزانى ثابت بنص القرآن وكذلك الرجم كان قد أنزل فيه قرآن يتلى ثم نسخ لفظه وبقى حكمه وهو
____________________
(20/398)
قوله ( والشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) وقد ثبت الرجم بالسنة المتواترة واجماع الصحابة
وبهذا يحصل الجواب عما يدعى من نسخ قوله { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } الآية فان هذا ان قدر انه منسوخ فقد نسخه قرآن جاء بعده ثم نسخ لفظه وبقى حكمه منقولا بالتواتر وليس هذا من موارد النزاع فان الشافعى واحمد وسائر الائمة يوجبون العمل بالسنة المتواترة المحكمة وان تضمنت نسخا لبعض آى القرآن لكن يقولون انما نسخ القرآن بالقرآن لابمجرد السنة ويحتجون بقوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } ويرون من تمام حرمة القرآن أن الله لم ينسخه إلا بقرآن
____________________
(20/399)
وقال شيخ الاسلام
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه فصل
قال أبو الحسن الامدى فى أحكامه ( المسألة الثانية ( اختلف الأصوليون فى اشتمال اللغة على الأسماء المجازية فنفاه الاستاذ أبو إسحاق ومن تابعه يعنى أبا إسحاق الاسفرائيني واثبته الباقون وهو الحق
قلت الكلام في شيئين
أحدهما فى تحرير هذا النقل والثانى فى النظر فى أدلة القولين
أما الاول فيقال ان اراد بالباقين من الأصوليين كل من تكلم فى
____________________
(20/400)
أصول الفقه من السلف والخلف فليس الامر كذلك فان الكلام في أصول الفقه وتقسيمها إلى الكتاب والسنة والاجماع واجتهاد الراى والكلام فى وجه دلالة الادلة الشرعية على الاحكام امر معروف من زمن اصحاب محمد والتابعين لهم باحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين وهم كانوا اقعد بهذا الفن وغيره من فنون العلم الدينية ممن بعدهم وقد كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى شريح اقض بما فى كتاب الله فان لم يكن فبما فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فان لم يكن فبما اجتمع عليه الناس وفى لفظ فبما قضى به الصالحون فان لم تجد فان شئت ان تجتهد رايك وكذلك قال بن مسعود وبن عباس وحديث معاذ من أشهر الأحاديث عند الأصوليين
وان كان مقصوده بالاصولي من يعرف ( أصول الفقه ( وهى ادلة الاحكام الشرعية على طريق الاجمال بحيث يميز بين الدليل الشرعى وبين غيره ويعرف مراتب الادلة فيقدم الراجح منها وهذا هو موضوع اصول الفقه فان موضوعه معرفة الدليل الشرعى ومرتبته فكل مجتهد فى الاسلام فهو اصولى اذ معرفة الدليل الشرعى ومرتبته بعض ما يعرفه المجتهد ولا يكفي فى كونه مجتهدا ان يعرف جنس الادلة بل لابد ان يعرف اعيان الادلة ومن عرف أعيانها وميز بين اعيان
____________________
(20/401)
الادلة الشرعية وبين غيرها كان بجنسها أعرف كمن يعرف ان يميز بين أشخاص الانسان وغيرها فالتمييز بين نوعها لازم لذلك اذ يمتنع تمييز الاشخاص بدون تمييز الأنواع
وأيضا فالأصوليون يذكرون فى مسائل أصول الفقه مذاهب المجتهدين كمالك والشافعى والأوزاعي وابى حنيفة واحمد بن حنبل وداود ومذهب أتباعهم بل هؤلاء ونحوهم هم أحق الناس بمعرفة اصول الفقه اذ كانوا يعرفونها بأعيانها ويستعملون الاصول فى الاستدلال على الاحكام بخلاف الذين يجردون الكلام فى أصول مقدرة بعضها وجد وبعضها لا يوجد من غير معرفة أعيانها فان هؤلاء لو كان ما يقولونه حقا فهو قليل المنفعة أو عديمها اذ كان تكلما فى ادلة مقدرة فى الاذهان لا تحقق لها فى الأعيان كمن يتكلم فى الفقه فيما يقدره من افعال العباد وهو لا يعرف حكم الافعال المحققة منه فكيف وأكثر ما يتكلمون به من هذه المقدرات فهو كلام باطل
واذا كان أسم الاصوليين يتناول المجتهدين المشهورين المتبوعين كالأئمة الأربعة والثورى والاوزاعى والليث بن سعد واسحاق بن راهويه وغيرهم وان كان مقصود الاصوليين من جرد الكلام فى أصول الفقه عن الادلة المعينة كما فعله الشافعى واحمد بن حنبل ومن بعدهما وكما فعله عيسى بن ابان ونحوه وكما فعله المصنفون فى اصول
____________________
(20/402)
الفقه من الفقهاء والمتكلمين فمعلوم أن أول من عرف انه جرد الكلام فى أصول الفقه هو الشافعى وهو لم يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز بل لا يعرف فى كلامه مع كثرة استدلاله وتوسعه ومعرفته الادلة الشرعية انه سمى شيئا منه مجازا ولا ذكر فى شيء من كتبه ذلك لا فى الرساله ولا فى غيرها
وحينئذ فمن اعتقد ان المجتهدين المشهورين وغيرهم من أئمة الاسلام وعلماء السلف قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز كما فعله طائفة من المتاخرين كان ذلك من جهله وقلة معرفته بكلام ائمة الدين وسلف المسلمين كما قد يظن طائفة اخرى ان هذا مما اخذ من الكلام العربى توقيفا وانهم قالوا هذا حقيقة وهذا مجاز كما ظن ذلك طائفة من المتكلمين فى أصول الفقه وكان هذا من جهلهم بكلام العرب كما سياتى الكلام عليه ان شاء الله تعالى وكما يظن بعضهم ان ما يوجد فى كلام بعض المتاخرين كالرازى والامدي وبن الحاجب هو مذهب الائمة المشهورين واتباعهم ولا يعرف ما ذكره اصحاب الشافعى ومالك وابى حنيفة واحمد وغيرهم من اصول الفقه الموافق لطريق ائمتهم فهذا ايضا من جهله وقلة علمه
وان قال الناقل عن كثير من الاصوليين مرادى بذلك اكثر المصنفين فى اصول الفقه من اهل الكلام والراى كالمعتزلة والاشعرية وأصحاب
____________________
(20/403)
الأئمة الأربعة فان اكثر هؤلاء قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز
قيل له لا ريب ان هذا التقسيم موجود فى كتب المعتزلة ومن اخذ عنهم وشابههم واكثر هؤلاء ذكروا هذا التقسيم وأما من لم يكن كذلك فليس الأمر فى حقه كذلك
ثم يقال ليس فى هؤلاء أمام من أئمة المسلمين الذين اشتغلوا بتلقى الاحكام من أدلة الشرع ولهذا لا يذكر أحد من هؤلاء فى الكتب التى يحكى فيها اقوال المجتهدين ممن صنف كتابا وذكر فيه اختلاف المجتهدين المشتغلين بتلقى الاحكام عن الادلة الشرعية وهم اكمل الناس معرفة بأصول الفقه واحق الناس بالمعنى الممدوح من اسم الاصولى فليس من هؤلاء من قسم الكلام إلى الحقيقة والمجاز
وان أراد من عرف بهذا التقسيم من المتاخرين المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام ومن سلك طريقتهم من ذلك من الفقهاء
قيل له لا ريب ان اكثر هؤلاء قسموا هذا التقسيم لكن ليس فيهم إمام فى فن من فنون الاسلام لا التفسير ولا الحديث ولا الفقه ولا اللغة ولا النحو بل أئمة النحاة اهل اللغة كالخليل وسيبويه والكسائى والفراء وامثالهم وابى عمرو بن العلاء وابى
____________________
(20/404)
زيد الانصارى والاصمعى وابى عمرو الشيبانى وغيرهم لم يقسموا تقسيم هؤلاء فصل
وأما ( المقام الثانى ( ففى أدلة القولين قال الامدى حجة المثبتين انه قد ثبت اطلاق اهل اللغة اسم الاسد على الانسان الشجاع والحمار على الانسان البليد وقولهم ظهر الطريق ومتنها وفلان على جناح السفر وشابت لمة الليل وقامت الحرب على ساق وكبد السماء وغير ذلك واطلاق هذه الاسماء لغة مما لا ينكر الا عن عناد
وعند ذلك فاما ان يقال هذه الاسماء حقيقة فى هذه الصورة او مجازية لاستحالة خلو هذه الاسماء اللغوية عنها ما سوى الوضع الاول كما سبق تحقيقه لا جائز ان يقال بكونها حقيقة فيها لانها حقيقة فيما سواه بالاتفاق فان لفظ الاسد حقيقة فى السبع والحمار فى البهيمة والظهر والمتن والساق والكبد في الاعضاء المخصوصة بالحيوان واللمة فى الشعر اذا جاوز الاذن
وعند ذلك فلو كانت هذه الأسماء حقيقة فيما ذكر من الصور
____________________
(20/405)
لكان اللفظ مشتركا ولو كان مشتركا لما سبق إلى الفهم عند اطلاق هذه الالفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوى فى الأدلة الحقيقية ولاشك ان السابق إلى الفهم من اطلاق لفظ الاسد انما هو السبع ومن اطلاق لفظ الحمار انما هو البهيمة وكذلك فى باقى الصور كيف وأن أهل الأعصار لم تزل تتناقل فى أقوالها وكتبها عن أهل الوضع تسمية هذا حقيقة وهذا مجازا
فان قيل لو كان فى لغة العرب لفظ مجازى فاما ان يقيد معناه بقرينة أولا يقيد بقرينة فان كان الاول فهو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك المعنى فكان مع القرينة حقيقة في ذلك المعنى وان كان الثانى فهو ايضا حقيقة اذ لا معنى للحقيقة الا ما يكون مستعملا بالافادة من غير قرينة
وأيضا فانه ما من صورة من الصور الا ويمكن ان يعبر عنها باللفظ الحقيقى الخاص بها فاستعمال اللفظ المجازى فيها مع افتقاره إلى القرينة من غير حاجة بعيد عن أهل الحكمة والبلاغة فى وضعهم
قلنا الجواب عن الأول ان المجاز لا يفيد عند عدم الشهرة الا بقرينة ولا معنى للمجاز سوى هذا النوع في ذلك اللفظي كيف وان المجاز والحقيقة من صفات الالفاظ دون القرائن المعنوية فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع
____________________
(20/406)
وجواب ثان ان الفائدة فى استعمال اللفظ المجازى دون الحقيقة قد يكون لاختصاصه بالخفة على اللسان او لمساعدته على وزن الكلام نظما ونثرا او للمطابقة والمجانسة والسجع وقصد التعظيم والعدول عن الحقيقى للتحقير إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة في الكلام
هذا كلام أبى الحسن الآمدى في كتابه الكبير وهو أجل كتب المتأخرين الناصرين لهذا الفرق
والجواب عن هذه الحجة من وجوه
أحدها ان يقال ما ذكرته من الاستعمال غير ممنوع لكن قولك ان هذه الاسماء اما ان تكون حقيقية او مجازية انما يصح اذا ثبت انقسام الكلام إلى الحقيقة والمجاز والا فمن ينازعك ويقول لك لم تذكر حدا فاصلا معقولا بين الحقيقة والمجاز يتميز به هذا عن هذا وانا اطالبك بذكر هذا الفرق بين النوعين او يقول ليس فى نفس الامر بينهما فرق ثابت او يقول انا لا اثبت انقسام الكلام إلى حقيقة ومجاز اما لمانع عقلى أو شرعى أو غير ذلك أو يقول لم يثبت عندى انقسام الكلام إلى هذا وهذا وجواز ذلك فى اللغة والشرع والعقل ونحو ذلك من الأقوال ليس لك ان تحتج عليه بقولك أما ان تكون حقيقية أو مجازية اذ دخول هذه الألفاظ فى أحد النوعين فرع ثبوت
____________________
(20/407)
التقسيم فلو اثبت التقسيم بهذا كان دورا فانه لا يمكن ان يقال ان هذه من احد القسمين دون الآخر إلا إذا اثبت ان هناك قسمين لا ثالث لهما وأنه لا يتناول شيء من أحدهما شيئا من الآخر وهذا محل النزاع فكيف تجعل محل النزاع مقدمة فى إثبات نفسه وتصادر على المطلوب فان ذلك أثبت الشيء بنفسه فلم تذكر دليلا وهذا أثبت الاصل بفرعه الذي لايثبت إلا به فهذا التطويل أثبت غاية المصادرة على المطلوب
الوجه الثانى ان يقال من الناس القائلين بالحقيقة والمجاز من جعل بعض الكلام حقيقة ومجازا فوصف اللفظ الواحد بانه حقيقة ومجاز كالفاظ العموم المخصوصة فان كثيرا من الناس قال هي حقيقة باعتبار دلالتها على ما بقى وهى مجاز باعتبار سلب دلالتها على ما اخرج وعند هؤلاء الكلام إما حقيقة وإما مجاز وإما حقيقة ومجاز
الوجه الثالث انك انت وطائفة كالرازى ومن اتبعه كابن الحاجب يقولون ان الالفاظ قبل استعمالها وبعد وضعها ليست حقيقة ولا مجازا او المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له وحينئذ فهذه الالفاظ كقولهم ظهر الطريق وجناح السفر ونحوها أن لم يثبتوا أنها وضعت لمعنى ثم استعملت فى غيره لم يثبت انها مجاز وهذا مما لا سبيل
____________________
(20/408)
لأحد إليه فانه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب أنها وضعت هذه الألفاظ لغير هذه المعانى المستعملة فيها
فان قالوا قد قالوا جناح الطائر وظهر الانسان وتكلموا بلفظ الظهر والجناح وأرادوا به ظهر الانسان وجناح الطائر
قيل لهم هذا لا يقتضى أنهم وضعوا جناح السفر وظهر الطريق بل هذا استعمل مضافا إلى غير ما اضيف إليه ذاك ان كان ذلك مضافا وأن لم يكن ذلك مضافا فالمضاف ليس هو مثل المعرف الذى ليس بمضاف فاللفظ المعرف والمضاف إلى شيء ليس هو مثل اللفظ المضاف إلى شيء آخر فاذا قال الجناح والظهر وقيل جناح الطائر وظهر الانسان فليس هذا وهذا مثل لفظ جناح السفر وظهر الطريق وجناح الذل
كذلك إذا قيل رأس الطريق وظهره ووسطه وأعلاه وأسفله كان ذلك مختصا بالطريق وان لم يكن ذلك مماثلا كرأس الانسان وظهره ووسطه وأعلاه وأسفله وكذلك أسفل الجبل وأعلاه هو مما يختص به وكذلك سائر الاسماء المضافة يتميز معناه بالاضافة ومعلوم ان اللفظ المركب تركيب مزج أو اسناد أو اضافة ليس هو فى لغتهم كاللفظ المجرد عن ذلك لا فى الاعراب ولا فى المعنى بل يفرقون
____________________
(20/409)
بينهما فى النداء والنفى فيقولون يازيد ويا عمرو بالضم كقوله يا آدم ويا نوح ويقولون فى المضاف وما اشبهه يا عبد الله يا غلام زيد كقوله يا بنى آدم يا بنى إسرائيل ويا أهل الكتاب ويا أهل يثرب ويا قومنا أجيبوا داعى الله ونحو ذلك فى المضاف المنصوب وكذلك في تركيب المزج فليس قولهم خمسة كقولهم خمسة عشر بل بالتركيب يغير المعنى
واذا كان كذلك فلو قال القائل الخمسة حقيقة فى الخمسة وخمسة عشر مجاز كان جاهلا لان هذا اللفظ ليس هو ذلك وان كان لفظ الخمسة موجودا في الموضعين لانها ركبت تركيبا آخر وجنس هذا التركيب موضوع كما أن جنس الأضافة موضوع وكذلك قولهم جناح السفر والذل وظهر الطريق تركيب آخر اضيف فيه الاسم إلى غير ما أضيف إليه فى ذلك المكان فليس هذا كالمجرد مثل الخمسة ولا كالمقرون بغيره كلفظ الخمسة والعشرين وهذا المعنى يقال فى
الوجه الرابع وهو انه سواء ثبت وضع متقدم على الاستعمال او كان المراد بالوضع هو ما عرف من الاستعمال فعلى التقديرين هذا اللفظ المضاف لم يوضع ولم يستعمل الا فى هذا المعنى ولا يفهم منه غيره بل ولا يحتمل سواه ولا يحتاج في فهم المراد به الا قرينة معنوية غير ما ذكر
____________________
(20/410)
فى الاضافة بل دلالة الاضافة على معناه كدلالة سائر الالفاظ المضافة فكل لفظ اضيف إلى لفظ دل على معنى يختص ذلك المضاف إليه فكما اذا قيل يد زيد وراسه وعلمه ودينه وقوله وحكمه وخبره دل على ما يختص به وان لم يكن دين زيد مثل دين عمرو بل دين هذا الكفر ودين هذا الاسلام ولا حكمه مثل حكمه بل هذا الحكم بالجور وهذا الحكم بالعدل ولا خبره مثل خبره بل خبر هذا صدق وخبر هذا كذب وكذلك اذا قيل لون هذا ولون هذا كان لون كل منهما يختص به وان كان هذا اسود وهذا ابيض فقد يكون اللفظ المضاف واحدا مع اختلاف الحقائق فى الموضعين كالسواد والبياض وانما يميز اللون احدهما عن الآخر باضافته إلى ما يميزه
فان قيل لفظ الكون والدين والخبر ونحو ذلك عند الاطلاق يعم هذه الانواع فكانت عامة وتسمى متواطئة بخلاف لفظ الراس والظهر والجناح فانها عند الاطلاق انما تنصرف إلى اعضاء الحيوان
قيل فهب ان الامر كذلك اليست بالاضافة اختصت فكانت عامة مطلقة ثم تخصصت بالاضافة او التعريف فهي من باب اللفظ العام اذا خص باضافة او تعريف وتخصيصه بذلك كتخصيصه بالصفة والاستثناء والبدل والغاية كما يقال اللون الاحمر والخبر الصادق
____________________
(20/411)
او قيل الف الا خمسين فقد تغيرت دلالتها بالاطلاق والتقييد
ثم انه فى كلا الموضعين لم يستعمل اللفظ المعين في غير ما استعمل فيه اولا فان النبى صلى الله عليه وسلم لما قال ( راس الامر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله ( وقال ( وهل يكب الناس في النار على مناخرهم الا حصائد السنتهم ( قد اضاف الراس إلى الامر وهذا اللفظ لم يستعمل في راس الحيوان
وكذلك اذا قالوا راس المال والشريكان يقتسمان ما يفضل بعد راس المال والمضارب يستحق نصيبه من الربح بعد راس المال فلفظ راس المال لم يستعمل فى راس الحيوان وكذلك لفظ راس العين سواء كان جنسا او علما بالغلبة
وايضا فقولهم تلك عند الاطلاق ينصرف إلى اعضاء الحيوان عنه جوابان
احدهما ان اللفظ لا يستعمل قط مطلقا لا يكون الامقيدا فانه إنما تقيد بعد العقد والتركيب اما في جملة اسمية او فعلية من متكلم معروف قد عرفت عاداته بخطابه وهذه قيود يتبين المراد بها
____________________
(20/412)
الثانى ان تجريده عن القيود الخاصة قيد ولهذا يقال للامر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه امرا وللعموم صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه عاما فنفس التكلم باللفظ مجردا قيد ولهذا يشترط في دلالته الامساك عن قيود خاصة فالامساك عن القيود الخاصة قيد كما ان الاسم الذى يتكلم به لقصد الاسناد إليه مع تجريده عن العوامل اللفظية فيه هو المبتدا الذى يرفع وسر ذلك تجريده عن العوامل اللفظية فهذا التجريد قيد فى رفعه كما ان تقييده بلفظ مثل ( كان ( و ( ان ( و ( ظننت ( يوجب له حكما اخر
ولهذا كان المتكلم بالكلام له حالان تارة يسكت ويقطع الكلام ويكون مراده معنى وتارة يصل ذلك الكلام بكلام آخر بغير المعنى الذى كان يدل عليه اللفظ الاول اذا جرد فيكون اللفظ الاول له حالان حال يقرنه المتكلم بالسكوت والامساك وترك الصلة وحال يقرنه بزيادة لفظ آخر ومن عادة المتكلم انه اذا امسك اراد معنى آخر واذا وصل اراد معنى آخر وفى كلا الحالين قد تبين مراده وقرن لفظه بما يبين مراده
ومعلوم ان اللفظ دلالة على المعنى والدلالات تارة تكون وجودية وتارة تكون عدمية سواء فى ذلك الادلة التى تدل بنفسها التى قد
____________________
(20/413)
تسمى الادلة العقلية والادلة التى تدل بقصد الدال وارادته وهى التى تسمى الادلة السمعية او الوضعية او الارادية وهى فى كلا القسمين كثيرا ما كان مستلزما لغيره فان وجوده يدل على وجود اللازم له وعدم اللازم له يدل على عدمه كما يدل عدم ذات من الذوات على عدم الصفات القائمة بها وعدم كل شرط معنوى على عدم مشروطه كما يدل عدم الحياة على عدم العلم وعدم الفساد على عدم الهية سوى الله وامثال ذلك
واما الثانى الذي يدل بالقصد والاختيار فكما ان حروف الهجاء اذا كتبوها يعلمون بعضها بنقطة وبعضها بعدم نقطة كالجيم والحاء والخاء فتلك علامتها نقطة من اسفل والخاء علامتها نقطة من فوق والحاء علامتها عدم النقطة وكذلك الراء والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء وكذلك يقال فى حروف المعانى علامتها عدم علامات الاسماء والافعال فكذلك الالفاظ اذا قال له علي الف درهم وسكت كان ذلك دليلا على انه اراد الفا وازنة فاذا قال الف زائفة او ناقصة وإلا خمسين كان وصله لذلك بالصفة والاستثناء دليلا ناقض الدليل الاول وهنا ألف متصلة بلفظ وهناك ألف منقطعة عن الصلة والانقطاع فيها غير الدلالة فليست الدلالة هي نفس اللفظ بل اللفظ مع
____________________
(20/414)
الاقتصار عليه وعدم زيادة عليه
وسواء قيل ان ترك الزيادة من المتكلم امر وجودى او قيل انه عدمى فان اكثر الناس يقولون الترك امر وجودى يقوم بذات التارك وذهب أبو هاشم وطائفة إلى انه عدمي ويسمون الذمية لانهم يقولون العبد يذم على ما لم يفعله وعلى التقديرين فهو يقصد الدلالة باللفظ وحده لا باللفظ مع المعنى وكونه وحده قيد فى الدلالة وهذا القيد منتف اذا كان معه لفظ آخر
ثم العادة فى اللفظ ان الزيادة في الالفاظ المقيدة نقص من اللفظ المفرد ولهذا يقال الزيادة فى الحد نقص فى المحدود وكلما زادت قيود اللفظ العام نقص معناه فاذا قال الانسان والحيوان كان معنى هذا اعم من معنى الانسان العربى والحيوان الناطق
الوجه الخامس لا جائز ان يقال بكونها حقيقة فيها لانها حقيقة فيما سواها بالاتفاق فان لفظ الاسد حقيقة فى السبع والحمار فى البهيمة والظهر والمتن والساق والكلكل فى الاعضاء المخصوصة بالحيوان ولو كانت حقيقة فيما ذكر كان اللفظ مشتركا ولو كان مشتركا لما سبق إلى الفهم عند الاطلاق هذا البعض دون بعض ضرورة التساوى في الدلالة الحقيقية
____________________
(20/415)
يقال له قولك لو كان حقيقة فيما ذكر كان اللفظ مشتركا ما تعنى بالمشترك ان عنيت الاشتراك الخاص وهو ان يكون اللفظ دالا على معنيين من غير ان يدل على معنى مشترك بينهما البتة فمن الناس من ينازع فى وجود معنى هذا فى اللغة الواحدة التى تستند إلى وضع واحد ويقول انما يقع هذا فى موضعين كما يسمى هذا ابنه باسم ويسمى آخر ابنه بذلك الاسم وهم لا يقولون ان تسمية الكوكب سهيلا والمشترى وقلب الاسد والنسر ونحو ذلك هو باعتبار وضع ثان سماها من سماها من العرب وغيرها باسماء منقولة كالاعلام المنقولة كما يسمى الرجل ابنه كلبا واسدا ونمرا وبحرا ونحو ذلك
ولا ريب ان الاشتراك بهذا المعنى مما لا ينازع فيه عاقل لكن معلوم ان هذا وضع ثان وهذا لا يغيره دلالة الاعلام الموضوعة على مسمياتها والعلامة المميزة فى المجاز وان كان المسمى بالاسم قد يقصد به اتصاف المسمى اما التفاؤل بمعناها واما دفع العين عنه واما تسميته باسم محبوب له من اب او استاذ او مميز او يكون فيه معنى محمود كعبد الله وعبد الرحمن ومحمد واحمد لكن بكل حال هذا وضع ثان لهذا واللفظ بهذا الاعتبار يصير به مشتركا ولهذا احتيج فى الاعلام إلى التمييز باسم الاب او الجد مع الاب اذا لم يحصل التمييز باسمه واسم ابيه وان حصل التمييز بذلك اكتفى به كما فعل النبى
____________________
(20/416)
في كتابه الصلح بينه وبين قريش حيث كتب ( هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ( بعد ان امتنع المشركون ان يكتبوا محمدا رسول الله وهو صلى الله عليه وسلم متميز بصفة الرسالة والنبوة عند الله فلما غير تمييزه بوصفه الذى يوجب تصديقه والايمان به وافقهم على التمييز باسم ابيه
والمقصود ان من الناس من يقول ما من لفظ على معنيين فى اللغة الواحدة الا وبينهما قدر مشترك بل ويلتزم ذلك فى الحروف فيجعل بينها وبين المعانى مناسبة تكون باعثة المتكلم على تخصيص ذلك المعنى بذلك اللفظ ولم يقل احد من العقلاء ان اللفظ يدل على المعنى بنفسه من غير قصد احد وان تلك الدلالة صفة لازمة للفظ حتى يقول القائل لو كان اللفظ يناسب المعنى لم يختلف باختلاف الامم فان الامور الاختيارية من الالفاظ والاعمال العادية يوجد فيها مناسبات وتكون داعية للفاعل المختار وان كانت تختلف بحسب الامكنة والازمنة والاحوال
والامور الطبيعية التى ليست باختيار حيوان تختلف ايضا فالحر والبرد والسواد والبياض ونحو ذلك من الامور الطبيعية تختلف باختلاف طبائع البلاد والامور الاختيارية من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمركب والمنكح وغير ذلك تختلف باختلاف عادات الناس
____________________
(20/417)
مع أنها أمور اختيارية ولها مناسبات فتناسب أهل مكان وزمان من ذلك ما لا تناسب أهل زمان آخر كما يختار الناس من ذلك فى الشتاء والبلاد الباردة ما لا يختارونه في الصيف والبلاد الحارة مع وجود المناسبة الداعية لهم اذ كانوا يختارون فى الحر من المأكل الخفيف والفاكهة ما يخف هظمه لبرد بواطنهم وضعف القوى الهاضمة وفى الشتاء والبلاد الباردة يختارون من المآكل الغليظة ما يخالف ذلك لقوة الحرارة الهاضمة في بواطنهم أو كان زمن الشتاء تسخن فيه الأجواف وتبرد الظواهر من الجماد والحيوان والشجر وغير ذلك لكون الهواء يبرد فى الشتاء وشبيه الشيء منجذب إليه فينجذب إليه البرد فتسخن الأجواف وفى الحر يسخن الهواء فتنجذب إليه الحرارة فتبرد الأجواف فتكون الينابيع فى الصيف باردة لبرد جوف الأرض وفى الشتاء تسخن لسخونة جوف الأرض
والمقصود هنا ان بشرا من الناس ليس عباد بن سليمان وحده بل كثير من الناس بل اكثر المحققين من علماء العربية والبيان يثبتون المناسبة بين الألفاظ والمعاني ويقسمون الاشتقاق إلى ثلاثة أنواع
الاشتقاق الاصغر وهو اتفاق اللفظين فى الحروف والترتيب مثل علم وعالم وعليم
والثاني الاشتقاق الاوسط وهو اتفاقهما فى الحروف دون الترتيب
____________________
(20/418)
مثل سمي ووسم وقول الكوفييين إن الاسم مشتق من السمة صحيح إذا أريد به هذا الاشتقاق وإذا أريد به الاتفاق فى الحروف وترتيبها فالصحيح مذهب البصريين أنه مشتق من السمو فانه يقال في الفعل سماه ولا يقال وسمه ويقال فى التصغير سمي ولا يقال وسيم ويقال فى جمعه اسماء ولا يقال أوسام
وأما الاشتقاق الثالث فانفاقهما فى بعض الحروف دون بعض لكن أخص من ذلك ان يتفقا فى جنس الباقي مثل ان يكون حروف حلق كما يقال حزر وعزر وأزر فالمادة تقتضي القوة والحاء والعين والهمزة جنسها واحد ولكن اعتبار كونها من حروف الحلق
ومنه المعاقبة بين الحروف المعتل والمضعف كما يقال تقضى البازي وتقضض
ومنه يقال السرية مشتق من السر وهو النكاح
ومنه قول ابى جعفر الباقر العامة مشتقة من العمى
ومنه قولهم الضمان مشتق من ضم احدى الذمتين إلى الأخرى
وإذا قيل هذا اللفظ مشتق من هذا فهذا يراد به شيئان احدهما ان يكون بينهما مناسبة فى اللفظ والمعنى من غير اعتبار
____________________
(20/419)
كون احدهما أصلا والآخر فرعا فيكون الاشتقاق من جنس آخر بين اللفظين
ويراد بالاشتقاق ان يكون أحدهما مقدما على الآخر أصلا له كما يكون الأب أصلا لولده
وعلى الأول فاذا قيل الفعل مشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل فكلا القولين قول البصريين والكفوفيين صحيح
وأما على الثاني فاذا أريد الترتيب العقلي فقول البصريين أصح فان المصدر إنما يدل على الحدث فقط والفعل يدل على الحدث والزمان وان أريد الترتيب الوجودي وهو تقدم وجود أحدهما على الآخر فهذا لا ينضبط فقد يكونون تكلموا بالفعل قبل المصدر وقد يكونون تكلموا بالمصدر قبل الفعل وقد تكلموا بأفعال لا مصادر لها مثل بد وبمصادر لا أفعال لها مثل ( ويح ( و ( ويل ( وقد يغلب عليهم استعمال فعل ومصدر فعل آخر كما فى الحب فان فعله المشهور هو الرباعى يقال أحب يحب ومصدره المشهور هو الحب دون الاحباب وفى اسم الفاعل قالوا محب ولم يقولوا حاب وفى المفعول قالوا محبوب ولم يقولوا محب الا في الفاعل وكان القياس ان يقال أحبه إحبابا كما يقال أعلمه اعلاما
____________________
(20/420)
وهذا أيضا له أسباب يعرفها النحاة وأهل التصريف إما كثرة الاستعمال وإما نقل بعض الالفاظ وإما غير ذلك كما يعرف ذلك أهل النحو والتصريف اذ كانت أقوى الحركات هي الضمة وأخفها الفتحة والكسرة متوسطة بينهما فجاءت اللغة على ذلك من الالفاظ المعربة والمبنية فما كان من المعربات عمدة فى الكلام لا بد له منه كان له المرفوع كالمبتدأ والخبر والفاعل والمفعول القائم مقامه وما كان فضلة كان له النصب كالمفعول والحال والتمييز وما كان متوسطا بينهما لكونه يضاف إليه العمدة تارة والفضلة تارة كان له الجر وهو المضاف إليه
وكذلك فى المبنيات مثل ما يقولون فى أين وكيف بنيت على الفتح طلبا للتخيف لأجل الياء وكذلك فى حركات الالفاظ المبينة الأقوى له الضم وما دونه له الفتح فيقولون كره الشيء والكراهية يقولون فيها كرها بالفتح كما قال تعالى { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وقال { ائتيا طوعا أو كرها }
وكذلك الكسر مع الفتح فيقولون فى الشيء المذبوح والمنهوب ذبح ونهب بالكسر كما قال تعالى ( وفديناه بذبح عظيم ( وكما فى الحديث ( اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب ابل ( فى المثل السائر ( اسمع جعجعة ولا ارى طحنا ( بالكسر اي ولا ارى
____________________
(20/421)
طحينا ومن قال بالفتح أراد الفعل كما ان الذبح والنهب هو الفعل ومن الناس من يغلط هذا القائل
وهذه الأمور وأمثالها هي معروفة من لغة العرب لمن عرفها معروفة بالاستقراء والتجربة تارة وبالقياس أخرى كما تفعل الاطباء في طبائع الاجسام وكما يعرف ذلك في الأمور العادية التي تعرف بالتجربة المركبة من الحس والعقل ثم قد قيل تعرف مالم تجرب بالقياس
ومعلوم ان هذه الأمور لها أسباب ومناسبات عند جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم ومن انكر ذلك من النظار فذلك لا يتكلم معه في خصوص مناسبات هذا فانه ليس عنده في المخلوقات قوة يحصل بها الفعل ولا سبب يخص احد المتشابهين بل من أصله ان محض مشيئة الخالق تخصص مثلا عن مثل بلا سبب ولالحكمة فهذا يقول كون اللفظ دالا على المعنى ان كان بقول الله فهذا لمجرد الاقتران العادي وتخصيص الرب عنده ليس لسبب ولا لحكمة بل نفس الارادة تخصص مثلا عن مثل بلا حكمة ولا سبب وان كان باختيار العبد فقد يكون السبب خطور ذلك اللفظ في القلب الواضع دون غيره
وبسط هذه الأمور له موضع آخر والمقصود هنا ان الحجة التي
____________________
(20/422)
احتج بها على اثبات المجاز وهي قوله ان هذه الالفاظ ان كانت حقيقة لزم ان تكون مشتركة هي مبنية على مقدمتين
إحداهما انه يلزم الاشتراك
والثانية انه باطل
وهذه الحجة ضعيفة فانه قد تمنع المقدمة الاولى وقد تمنع المقدمة الثانية وقد تمنع المقتدمتان جميعا وبذلك ان قوله يلزم الاشترك انما يصح اذا سلم له ان فى اللغه الواحدة باعتبار اصطلاح واحد الفاظا تدل على معان متباينة من غير قدر مشترك وهذا فيه نزاع مشهور وبتقدير التسليم فالقائلون بالاشتراك متفقون على انه في اللغة الفاظ بينها قدر مشترك وبينها قدر مميز وهذا يكون مع تماثل الألفاظ تارة ومع اختلافها أخرى وذلك أنه كما ان اللفظ قد يتحد ويتعدد معناه فقد يتعدد ويتحد معناها كالألفاظ المترادفة وان كان من الناس من ينكر الترادف المحض فالمقصود أنه قد يكون اللفظان متفقين في الدلالة على معنى ويمتاز أحدهما بزيادة كما إذا قيل فى السيف انه سيف وصارم ومهند فلفظ السيف يدل عليه مجردا ولفظ الصارم فى الأصل يدل على صفة الصرم عليه والمهند يدل على النسبة إلى الهند وان كان يعرف الاستعمال من نقل الوصفية إلى الأسمية فصار هذا اللفظ يطلق على
____________________
(20/423)
ذاته مع قطع النظر عن هذه الاضافة لكن مع مراعاة هذه الاضافة منهم من يقول هذه الاسماء ليست مترادفة لاختصاص بعضها بمزيد معنى ومن الناس من جعلها مترادفة باعتبار اتحادها في الدلالة على الذات وأولئك يقولون هي من المتباينة كلفظ الرجل والأسد فقال لهم هؤلاء ليست كالمتباينة
والانصاف أنها متفقة فى الدلالة على الذات متنوعة فى الدلالة على الصفات فهي قسم آخر قد يسمى المتكافئة واسماء الله الحسنى واسماه رسوله وكتابه من هذا النوع
فانك إذا قلت ان الله عزيز حكيم غفور رحيم عليم قدير فكلها دالة على الموصوف بهذه الصفات سبحانه وتعالى كل اسم يدل على صفة تخصه فهذا يدل على العزة وهذا يدل على الحكمة وهذا يدل على المغفرة وهذا يدل على الرحمة وهذا يدل على العلم وهذا يدل على القدرة
وكذلك قول النبى ( إن لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وانا الماحي الذي يمحو الله به الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبى وأنا العاقب الذي ليس بعده نبى
____________________
(20/424)
والاسماء التى انكرها الله على المشركين بتسميتهم أوثانهم بها من هذا الباب حيث قال ( ان هي إلا اسماء سميتموها انتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) فانهم سموها آلهة فاثبتوا لها صفة الالهية التى توجب استحقاقها أن تعبد وهذا المعنى لايجوز إثباته الا بسلطان وهو الحجة وكون الشيء معبودا تارة يراد به أن الله أمر بعبادته فهذا لا يثبت إلا بكتاب منزل وتارة يراد به أنه متصف بالربوبية والخلق المقتضى لاستحقاق العبودية فهذا يعرف بالعقل ثبوته وانتفاؤه
ولهذا قال تعالى { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } وقال فى سورة فاطر { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } فطالبهم ( بحجة ( عقلية عيانية وبحجة سميعة شرعية فقال { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات } ثم قال { أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه } كما قال هناك { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات } ثم قال ائتونى بكتاب
____________________
(20/425)
{ من قبل هذا أو أثارة من علم } فالكتاب المنزل والاثارة ما يؤثر عن الانبياء بالرواية والاسناد وقد يقيد فى الكتاب فلهذا فسر بالرواية وفسر بالخط
وهذا مطالبة بالدليل الشرعى على أن الله شرع ان يعبد غيره فيجعل شفيعا او يتقرب بعبادته إلى الله وبيان انه لاعبادة اصلا الا بامر من الله فلهذا قال تعالى { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } كما قال في موضع اخر { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون }
والسلطان الذي يتكلم بذلك الكتاب المنزل كما قال { أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } وقال { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه }
____________________
(20/426)
والمقصود هنا انه اذا كان من الأسماء المختلفة الألفاظ ما يكون معناه واحدا كالجلوس والقعود وهي المترادفة ومنها ما تتباين معانيها كلفظ السماء والأرض ومنها ما يتفق من وجه ويختلف من وجه كلفظ الصارم والمهند وهذا قسم ثالث فانه ليس معنى هذا مباينا لمعنى ذاك كمباينة السماء للأرض ولا هو مماثلا لها كماثلة لفظ الجلوس للقعود فكذلك الاسماء المتفقة اللفظ قد يكون معناها متفقا وهي المتواطئة وقد يكون معناها متباينا وهي المشتركة اشتراكا لفظيا كلفظ سهيل المقول على الكوكب وعلى الرجل وقد يكون معناها متفقا من وجه مختلفا من وجه فهذا قسم ثالث ليس هو كالمشترك اشتراكا لفظيا ولا هو كالمتفقة المتواطئة فيكون بينها اتفاق هو اشتراكا معنوي من وجه وافتراق هو اختلاف معنوي من وجه ولكن هذا لا يكون إلا اذا خص كل لفظ بما يدل على المعنى المختص
وهذه الألفاظ كثيرة فى الكلام المؤلف أو هي أكثر الألفاظ الموجودة في الكلام المؤلف الذي تكلم به كل متكلم فان الألفاظ التى يقال انها متواطئة كأسماء الأجناس مثل لفظ الرسول والوالى والقاضي والرجل والمرأة والامام والبيت ونحو ذلك قد يراد بها المعنى العام وقد يراد بها ما هو اخص منه مما يقترن بها تعريف الاضافة أو اللام كما فى قوله { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول }
____________________
(20/427)
) وقال فى موضع اخر ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) فلفظ الرسول فى الموضعين لفظ واحد مقرون باللام لكن ينصرف فى كل موضع إلى المعروف عند المخاطب فى ذلك الموضع فلما قال هنا { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول } كان اللام لتعريف رسول فرعون وهو موسي بن عمران عليه السلام ولما قال لامة محمد { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } كان اللام لتعريف الرسول المعروف عند المخاطبين بالقرآن والمامورين بامرهم والمنتهين بنهيه وهم امة محمد
ومعلوم ان مثل هذا لا يجوز ان يقال وهو مجاز فى احدهما باتفاق الناس ولا يجوز ان يقال هو مشترك اشتراكا لفظيا محضا كلفظ المشترى لمبتاع والكوكب وسهيل للكوكب والرجل ولا يجوز ان يقال هو متواطىء دل في الموضعين على القدر المشترك فقط فانه قد علم انه فى احد الموضعين هو محمد وفى الاخر موسى مع ان لفظ الرسول واحد
ولكن هذا اللفظ تكلم به من سياق كلام من مدلول لام التعريف وهكذا جميع اسماء المعارف فان الاسماء نوعان معرفة ونكرة
____________________
(20/428)
والمعارف مثل المضمرات واسماء الاشارة مثل انا وانت وهو ومثل وهذا وذاك
والاسماء الموصولة مثل { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة }
واسماء المعرفة باللام كالرسول
والاسماء الاعلام مثل ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب ويوسف ومثل شهر رمضان
والمضاف إلى المعرفة مثل قوله { وطهر بيتي } وقوله { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } ومثل { ناقة الله وسقياها } ومثل قوله { أحل لكم ليلة الصيام }
ومثل المنادى المعين مثل قول يوسف { يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا } وقول ابنه صاحب مدين { يا أبت استأجره } فان لفظ الاب هناك اريد به يعقوب وهنا اريد به صاحب مدين الذى تزوج موسى ابنته وليس هو شعيبا كما يظنه بعض الغالطين بل علماء المسلمين من اهل السلف واهل الكتاب يعرفون انه ليس شعيبا كما قد بسط فى موضع اخر
والمقصود هنا ان هذه الاسماء المعارف وهى اصناف كل
____________________
(20/429)
نوع منها لفظه واحد كلفظ انا وانت ولفظ هذا وذاك ومع هذا ففى كل موضع يدل على المتكلم المعين والمخاطب والغائب المعين ولا يجوز ان يقال هي مشتركة كلفظ سهيل ولا متواطئة كلفظ الانسان بل بينها قدر مشترك وقدر مميز فباعتبار المشترك تشبه المتواطئه وباعتبار المميز تشبه المشتركة اشتراكا لفظيا وهى لا تستعمل قط إلا مع ما يقترن بها مما تعين المضمر والمشار إليه ونحو ذلك فصارت دلالتها مؤلفة من لفظها ومن قرينة تقترن بها تعيين المعروف وهذه حقيقة باتفاق الناس لا يقول عاقل ان هذه مجاز مع انها لا تدل قط الا مع قرينة تبين تعيين المعروف والمراد
فاذا قيل لفظ انا قيل يدل على المتكلم مطلقا ولكن لم ينطق به احد قط مطلقا اذ ليس فى الوجود متكلم مطلق كلي مشترك بل كل متكلم هو معين متميز عن غيره فاذا طلب معرفة مدلوها ومعناها قيل من هو المتكلم بها ومن هو المخاطب بانت واياك ونحو ذلك فان كان المتكلم بها هو الله كقوله تعالى لموسى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } ونحو ذلك كان هذا اللفظ فى هذا الموضع اسما لله تعالى لا يحتمل غيره ولا يمكن مخلوق ان يقول { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري }
____________________
(20/430)
وقد ذكر سبحانه ان الذى حاج ابراهيم فى ربه قال { أنا أحيي وأميت } وذكر عن صاحب يوسف انه قال { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } واخبر عن عفريت من الجن انه قال { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } وعن الذى عنده علم من الكتاب انه قال { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } فلفظ انا فى كل موضع معين ليس هو مدلوله فى الموضع الآخر وان كان لفظ انا فى الموضعين واحدا ولم يقل احد من العقلاء ان هذا اللفظ مشترك ولا مجاز مع انه لا يدل الا بقرينة تبين المراد ( فصل ) اذا تبين هذا فيقال له ( هذه الاسماء التى ذكرتها مثل لفظ الظهر والمتن والساق والكبد لا يجوز ان تستعمل فى اللغة الا مقرونة بما يبين المضاف إليه وبذلك يتبين المراد
فقولك ظهر الطريق ومتنها ليس هو كقولك ظهر الانسان ومتنه بل ولا كقولك ظهر الفرس ومتنه ولا كقولك ظهر الجبل
وكذلك كبد السماء مثل كبد القوس ولا هذان مثل لفظ كبد الانسان
____________________
(20/431)
وكذلك لفظ السيف فى قول النبى ( إن خالدا سيف سله الله على المشركين ليس هذا لفظ السيف فى قوله ( من جاءكم وامركم على رجل واحد يريد ان يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان ) فكل من لفظ السيف ها هنا وههنا مقرون بما يبين معناه
نعم قد يقال التشابه بين معنى الرسول والرسول اتم من التشابه بين معنى الكبد والكبد والسيف والسيف فيقال هذا القدر الفارق دل عليه اللفظ المختص كما فى قوله { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } وفى قوله { وطهر بيتي للطائفين } وقوله { لا تدخلوا بيوت النبي } وقول النبى ( من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا فى الجنة ) ومعلوم ان بيت العنكبوت ليس مماثلا فى الحقيقة لبيته ولا لبيت النبى ولا لبيت فى الجنة مع ان لفظ البيت حقيقة فى الجميع بلا نزاع اذ كان المخصص هو الاضافة فى بيت العنكبوت وبيت النبى دل على سكنى صاحب البيت فيه وبيت الله لا يدل على ان الله ساكن فيه لكن اضافة كل شيء بحسبه بل بيته هو الذى جعله لذكره وعبادته ودعائه فهو كمعرفته بالقلوب وذكره باللسان وكل موجود فله وجود عينى وعلمى ولفظى ورسمى واسم الله يراد به كل من هذه الاربعة فى كلام الرسول وكلام الله
____________________
(20/432)
فاذا قال ( انا الله لا اله الا انا ) فهو الله نفسه واذا قال ( لا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى ) وقوله ( عبدى مرضت فلم تعدنى فيقول ربى كيف اعودك وانت رب العالمين فيقول اما علمت ان عبدى فلانا مرض فلو عدته لوجدتنى عنده ) فالذى فى قلوب المؤمنين هو الايمان بالله ومعرفته ومحبته وقد يعبر عنه بالمثل الأعلى والمثال العلمى ويقال انت فى قلبى كما قيل ** مثالك فى عينى وذكرك فى فمى ** ومثواك فى قلبى فأين تغيب ** ويقال ** ساكن فى القلب يعمره ** لست انساه فاذكره ** وما ينقل عن داود عليه السلام انه قال ( انت تحل قلوب الصالحين ) فمعلوم ان هذا كله لم يرد به ان نفس المذكور المعلوم المحبوب المعبر عنه بالمثال العلمى وقد قال النبي
____________________
(20/433)
يقول الله تعالى ( انا مع عبدي ما ذكرنى وتحركت بى شفتاه ( فقوله ( بى ( اراد انها تتحرك باسمه لم تتحرك بذاته ولا ما فى القلب هنا ذاته
وفى الصحيح عن انس ( ان نقش خاتم النبى كان ثلاثة اسطر الله سطر ورسول سطر ومحمد سطر ( فمعلوم ان مراده بلفظ الله هو النقش المنقوش فى الخاتم المطابق للفظ الدال على المعنى المعروف بالقلب المطابق للموجود فى نفس الامر
فهذه الاسماء العائدة إلى الله تعالى فى كل موضع اقترن بها ما بين المراد ولم يكن فى شيء من ذلك التباس فكذلك لفظ بيته وقلنا المساجد بيوت الله فيها ما بنى للقلوب والالسنة من معرفته والايمان به وذكره ودعائه والانوار التى يجعلها في قلوب المؤمنين كما في قوله تعالى { الله نور السماوات والأرض } ثم قال { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة } إلى قوله { في بيوت أذن الله أن ترفع } فبين أن هذا النور فى هذه القلوب وفى هذه البيوت كما جاء فى الاثر ( ان المساجد تضى لاهل السماوات كما تضىء الكواكب لاهل الارض ( واذا كان كذلك فقول القائل لو كانت هذه الاسماء حقيقة
____________________
(20/434)
فيما ذكر لكان اللفظ مشتركا يقال له ما تعني باللفظ المشترك تعني به ما هو الاشتراك االلفظي وهو مذكور في كتابك حيث قلت في تقسيم الألفاظ الاسم إما أن يكون واحدا أو متعددا فان كان واحدا فمفهومه ينقسم على وجوه القسمة الأولى انه إما ان يكون بحيث يصح ان يشترك في مفهومه أو لايصح فان كان الأول فهو طلبي وذكر تمامه بكلام بعضه حق وبعضه باطل اتبع فيه المنطقيين ثم قال أما إن كان مفهومه غير صالح لاشتراك كثيرين فيه فهو الجزئي وذكر أنه العلم خاصة وقسمه تقسيم النحاة
ثم قال واما إن كان الاسم واحدا والمسمى مختلفا فاما أن يكون موضوعا على الكل حقيقة بالوضع الأول أو هو مستعار في بعضها فان كان الأول فهو المشترك وسواء كانت المسميات متباينة كالجون للسواد والبياض أو غير متباينة كما إذا اطلقنا اسم الأسود على شخص بطريقة العلمية وبطريق الاشتقاق من السواد وإن كان الثاني فهو مجاز فان أردت هذا فالمشترك هو الاسم الواحد الذي يختلف مسماه ويكون موضوعا على الكل حقيقة بالوضع الأول وتقسيم هذا ان يكون المسمى واحدا ويكون كليا وجزئيا كما ذكرته
وحينئذ فيقال لك لانسلم ان هذه الأسماء اذا كانت حقيقة فيما ذكر من الصور كان اللفظ مشتركا وذلك لأن هذا التقسيم إنما
____________________
(20/435)
يصح فى واحد يكون معناه اما واحدا واما متعددا ونحن لا نسلم ان مورد النزاع داخل فيما ذكرته فانما يصح هذا اذا كان اللفظ واحدا في الموضعين وليس الامر كذلك فان اللفظ المذكور فى محل النزاع هو لفظ ظهر الطريق ومتنها وجناح السفر ونحو ذلك وهذا اللفظ ليس له الا معنى واحد ليس معناه متعددا مختلفا بل حيث وجد هذا اللفظ كان معناه واحدا كسائر الاسماء
فان قلت لكن لفظ الظهر والمتن والجناح يوجد له معنى غير هذا
قيل لفظ ظهر الطريق وجناحها ليس هو لفظ ظهر الانسان وجناح الطائر ولا اجنحة الملائكة ولفظ الظهر والطريق معرف باللام الدالة على معروف يدل اللفظ عليه وهو ظهر الانسان مثلا ليس هو مثل لفظ الطريق بل هذا اللفظ مغاير لهذا اللفظ فلا يجوز ان يقال اللفظ فى موضع واحد بل ابلغ من هذا ان لفظ الظهر يستعمل فى جميع الحيوان حقيقة بالاتفاق ومع هذا فكثير من الناس قد لا يسبق إلى ذهنهم الا ظهر الانسان لايخطر بقلبه ظهر الكلب ولا ظهر الثعلب والذئب وبنات عرس وظهر النملة والقملة وذلك لان ظهر الانسان هو الذى يتصورونه ويعبرون عنه كثيرا فى عامة كلامهم معرفا باللام ينصرف إلى الظهر المعروف
____________________
(20/436)
ولهذا كانت الايمان عند الفقهاء تنصرف إلى ما يعرفه المخاطب بلغته وان كان اللفظ يستعمل في غيره حقيقة ايضا كما اذا حلف لا ياكل الرؤوس فاما ان يراد به رؤوس الانعام او رؤوس الغنم او الراس الذى يؤكل فى العادة وكذلك لفظ البيض يراد به البيض الذى يعرفونه فاما راس النمل والبراغيث ونحو ذلك فلا يدخل في اللفظ ولا يدخل بيض السمك فى اليمين وان كان ذلك حقيقة اذا قيل بيض النمل وبيض السمك بالاضافة
وكذلك اذا قال بعتك بعشرة دراهم او دنانير انصرف الاطلاق إلى ما يعرفونه من مسمى هذا اللفظ فى مثل ذلك العقد فى ذلك المكان حتى انه فى المكان الواحد يكون لفظ الدينار يراد به ثمن بعض السلع الذهب الخالص وفي سلعة اخرى ذهب مغشوش وفى سلعة اخرى مقدار من الدراهم فيحمل العقد المطلق على ما يعرفه المتبايعان باتفاق الفقهاء وان كان اللفظ انما يستعمل فى غيره بما يبين معناه فكيف اذا كان نفس اللفظ متغايرا كلفظ ظهر الانسان وظهر الطريق وراس الانسان وراس الدرب وراس المال او راس العين او قيد احدهما بالتعريف كلفظ الظهر وقيد الاخر بالاضافة وكان اللام يوجب ارادة المعروف عند المخاطب والاضافة توجب الاختصاص بالمضاف إليه فالمعروف باللام ليس هو المعرف بالاضافة لا لفظا ولا معنى
____________________
(20/437)
وقد يكون التعريف باللام في الموضعين ومع هذا يختلف المعنى كما فى لفظ الرسول لان جزء الدلالة معرفة المخاطب وهو حقيقة فى الموضعين فكيف يكون تعريف الاضافة مع نعريف اللام فقد تبين انه ليس اللفظ الدال على ظهر الانسان هو اللفظ الدال على ظهر الطريق وحينئذ فلا يلزم من اختلاف معنى اللفظين ان يكون مشتركا لان الاشتراك لايكون في لفظ واحد اختلف معناه وليس الامر كذلك
فان قيل فهذا يوجب ان لايكون فى اللغة لفظ مشترك اشتراكا لفظيا فان اللفظ المشترك لا يستعمل الا مقرونا بما يبين احد المعنيين قيل اما ان يكون هذا لازما واما ان لا يكون فان لم يكن لازما بطل السؤال وان كان لازما التزامنا قول من ينفى الاشتراك اذا كان الامر كذلك كما يلتزم قول من ينفى المجاز
فان قيل كيف تمنعون ثبوت الاشتراك وقد قام الدليل على وجوده
قيل لا نسلم انه قام دليل على وجوده على الوجه الذي ادعوه وصاحب الكتاب ابى الحسين الامدى يعترف بضعف أدلة مثبتيه وقد ذكر لنفسه دليلا هو اضعف مما ذكره غيره فانه قال في مسائله
____________________
(20/438)
( المسألة الأولى ( اختلف الناس فى اللفظ المشترك هل له وجود فى اللغة فاثبته قوم ونفاه آخرون قال والمختار جواز وقوعه اما الخطابي العقلى فلا يمتنع من واضع واحد وان يتفق وضع قبيلة للاسم على معناه ووضع أخرى له بازاء معنى آخر من غير شعور كل واحدة بما وضعت الاخرى ثم يشتهر الوضعان لخفاء سببه قال وهو الاشبه
قال واما بيان الوقوع انه لو لم تكن الالفاظ المشتركة واقعة في اللغة مع ان المسببات غير متناهية والاسماء متناهية ضرورة تركيبها من الحروف المتناهية لخلت اكثر المسميات عن الفاظ الاسماء الدالة عليها مع الحاجة اليها وهو ممتنع قال وهو غير سديد من حيث ان الاسماء ان كانت مركبة من الحروف المتناهية فلا يلزم ان تكون متناهية الا ان يكون ما يحصل من تضاعف التركيبات متناهية فلا نسلم ان المسميات المتضادة والمختلفة وهى التى يكون اللفظ مشتركا بالنسبة اليها غير متناهية وان كانت غير متناهية غير ان وضع الاسماء على مسمياتها مشروط بكون كل واحد من المسميات مقصودا بالوضع وما لانهاية له مما يستحيل فيه ذلك وان سلمنا انه غير ممتنع ولكن لا يلزم من ذلك الوضع
ولهذا ياتى كثير من المعانى لم تضع العرب بازائها الفاظا تدل عليها بطريق الاشتراك ولا التفضيل كانواع الروائح وكثير من الصفات
____________________
(20/439)
قال وقال ابو الحسين البصرى أطلق اهل اللغة اسم ( القرء ( على الحيض والطهر وهما ضدان فدل على وقوع الاسم المشترك فى اللغة
قال ولقائل ان يقول القول بكونه مشتركا غير منقول عن اهل الوضع بل غاية الموضوع اتحاد الاسم وتعدد المسمى ولعله اطلق عليها باعتبار معنى واحد مشترك بيتهما لا باعتبار اختلاف حقيقتهما او انه حقيقة فى احداهما مجاز فى الاخرى وان خفى علينا موضع الحقيقة والمجاز وهذا هو الاولى اما بالنظر إلى الاحتمال الاول فلما فيه من نفي التجوز والاشتراك واما بالنظر إلى الاحتمال ( الثاني ) فلان التجوز اولى من الاشتراك كما ياتى فى موضعه
قال والاقرب من ذلك اتفاق اجماع الكل على اطلاق اسم الوجود على القديم والحادث حقيقة ولو كان مجازا في احدهما لصح نفيه اذ هي امارة المجاز وهو ممتنع وعند ذلك فاما ان يكون اسم الوجود دالا على ذات الرب او على حقيقة زائدة على ذاته
فان كان الاول فلا يخفى ان ذات الرب مخالفة بذاتها لما سواها من الموجودات الحادثة والا لوجب الاشتراك بينها وبين ما شاركها فى معناها فى الوجوب ضرورة التساوى فى مفهوم الذات وهو محال
وان كان مدلول اسم الوجود صفة زائدة على ذات الرب تعالى
____________________
(20/440)
فاما ان يكون المفهوم منها هو المهوم من اسم الوجود فى الحوادث واما خلافه فالأول يلزم منه ان يكون مسمى الوجود فى الوجود واجبا لذاته ضرورة ان وجود الباري واجب لذاته او ان يكون وجود الرب ممكنا ضرورة امكان وجود ما سوى الله وهو محال وان كان الثانى لزم منه الاشتراك وهو المطلوب
فهذا فى دليله وهو فى غاية الضعف فانه مبنى على مقدمتين على ان اسم الوجود حقيقة فى الواجب والممكن وان ذلك يستلزم الاشتراك
والمقدمة الثانية باطلة قطعا
والأولى فيها نزاع خلاف ما دعاه من الإجماع
فمن الناس من قال ان كل اسم تسمى به المخلوق لا يسمى به الخالق الا مجازا حتى لفظ الشيء وهو قول جهم ومن وافقه من الباطنية وهؤلاء لا يسمونه موجودا ولا شيئا ولا غير ذلك من الاسماء
ومن الناس من عكس وقال بل كلما يسمى به الرب فهو حقيقة ومجاز فى غيره وهو قول ابى العباس الناشي من المعتزلة
____________________
(20/441)
والجمهور قالوا انه حقيقة فيهما لكن أكثرهم قالوا انه متواطىء التواطىء العام او مشككا ان جعل المشكك نوعا آخر وهو غير التواطىء الخاص الذي تتماثل معانيه في موارد الفاظه وانما جعله مشتركا شرذمة من المتاخرين لا يعرف هذا القول عن طائفة كبيرة ولا نظار مشهورين
ومن حكى ذلك عن الاشعرى كما حكاه الرازي فقد غلط فان مذهب الرجل وعامة اصحابه ان الوجود اسم عام ينقسم إلى قديم وحادث ولكن مذهبه ان وجود كل شيء عين ماهيته وهذا مذهب جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم فظن الظان ان هذا يستلزم ( ان يكون ) اللفظ مشتركا كما احتج به الآمدي وذلك غلط كما قد بسطناه في موضعه وهو يتبين بالكلام على حجته
وقوله اما ان يكون اسم الوجود دالا على الذات أو على صفة زائدة على الذات
يقال له اتريد به لفظ الوجود العام به لفظ الوجودالعام المنقسم إلى واجب وممكن ام لفظ الوجود الخاص كما يقال وجود الواجب ووجود الممكن فانه من المعلوم ان الاسماء التى يسمى بها الرب وغيره بل كل
____________________
(20/442)
مسميين تارة تعتبر مطلقة عامة تتناول النوعين وتارة تعتبر مقيدة بهذا المسمى
ولفظ الحي والعليم والقدير والسميع والبصير والموجود والشيء والذات اذا كان عاما يتناول الواجب واذا قيل { وتوكل على الحي الذي لا يموت } { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } { وهو العليم الحكيم } ونحو ذلك مما يختص بالرب لم يتناول ذلك الخلوق كما إذا قيل { يخرج الحي من الميت } لم يدخل الخالق فى اسم هذا الحي
وكذلك اذا قيل العلم والقدرة والكلام والاستواء والنزول ونحو ذلك تارة يذكر مطلقا عاما وتارة يقال علم الله وقدرته وكلامه ونزوله واستواؤه فهذا يختص بالخالق لا يشركه فيه المخلوق كما إذا قيل علم المخلوق وقدرته وكلامه ونزوله واستواؤه فهذا يختص بالمخلوق ولا يشركه فيه الخالق فالاضافة او التعريف خصص وميز وقطع الاشتراك بين الخالق والمخلوق
وكذلك اذا قيل لفظ الوجود مطلقا وقيل وجود الواجب ووجود الممكن فهذه ثلاثة معان فاذا قيل وجود العبد وذاته وماهيته وحقيقته كان ذلك مختصا به دالا على ذاته المختصة به المتصفة بصفاته
____________________
(20/443)
وكذلك اذا قيل وجود الرب ونفسه وذاته وماهيته وحقيقته كان دالا على ما يختص بالرب وهو نفسه المتصفة بصفاته
فقوله اسم الوجود اما ان يكون دالا على ذات الرب او صفة زائدة يقال له ان اردت لفظ الوجود المطلق العام الذي يتناول الواجب والممكن فهذا لا يدل على ما يختص بالواجب ولا على ما يختص بالممكن بل يدل على المشترك الكلي والمشترك الكلي انما يكون مشتركا كليا في الذهن واللفظ والا فليس فى الخارج شيء هو نفسه كلي مع كونه فى الخارج
وهذا كما اذا قيل الذات والنفس بحيث يعم الواجب والممكن فانما يدل على المعنى العام الكلي لا على ما يختص بواحد منهما كما اذا قيل الوجود ينقسم إلى واجب وممكن والذات تنقسم إلى واجب وممكن ونحو ذلك واما ان اريد بالوجود ما يعمهما جميعا كما اذا قيل الوجود كله واجبه وممكنه او الوجود الواجب والممكن فهنا يدل على ما يختص بكل منهما كما اذا قيل وجود الواجب ووجود الممكن
ففي الجملة اللفظ اما ان يدل على المشترك فقط كالوجود المنقسم او على المميز فقط كقول وجود الواجب وقول وجود الممكن
____________________
(20/444)
او عليها كقولك الوجود كله واحبه وممكنه والوجود الواجب والممكن وعلى كل تقدير فلا يلزم الاشتراك
وقوله اذا كان دالا على ذات الرب فذاته مخالفة لما سواها من الموجودات يقال لفظ الوجود المطلق المنقسم لا يدل على ما يختص بالرب واما لفظ الوجود الخاص لوجود الرب او العام كقولنا الوجود الواجب والممكن ونحو ذلك فهذا يدل على ما يختص بذات الرب وان كان مخالفا لذات غيره كما ان لفظ ذات الرب وذات العبد تدل على ما يختص بالرب وبالعبد وان كان حقيقة هذا مخالفا لحقيقة هذا فكذلك لفظ الوجود يدل عليهما مع اختلاف حقيقة الموجودين
فان قيل اذا كان حقيقة هذا الوجود يخالف حقيقة هذا الوجود كان اللفظ مشتركا قيل هذا غلط منه نشا غلط هذا وامثاله وذلك ان جميع الحقائق المختلفة تتفق فى اسماء عامة تتناول بطريق التواطىء والتشكيك كلفظ اللون فانه يتناول السواد والبياض والحمرة مع اختلاف حقائق الالوان
وكذلك لفظ الصفة والعرض والمعنى يتناول العلم والقدرة والحياة والطعم واللون والريح مع اختلاف حقائق الالوان
____________________
(20/445)
وكذلك لفظ الحيوان يتناول الانسان والبهيمة مع اختلاف حقائقهما فلفظ الوجود اولى بذلك
وذلك ان هذه الحقائق المختلفة قد تشترك فى معنى عام يشملها ويكون اللفظ دالا على ذلك المعنى كلفظ اللون ثم بالتخصيص يتناول ما يختص بكل واحد كما يقال لون الاسود ولون الابيض وقيل وجود الرب ووجود العبد ولو تكلم بالاسم العام المتناول لأفراده كما إذا قيل اللون او الالوان او الحيوان والعرض او الوجود يتناول جميع ما دخل فى اللفظ وان كانت حقائق مختلفة لشمول اللفظ لها كسائر الالفاظ العامة وان كانت افرادها تختلف باعتبار آخر من جهة اللفظ العام
وايضا فقوله ان كان مدلول اسم الوجود صفة فان كان المفهوم واحدا فى الواجب والممكن لزم كون الواجب ممكنا والممكن واجبا والالزم الاشتراك
يقال له اتعنى مدلول الاسم الوجود المطلق او المقيد المضاف كما اذا قيل وجود الواجب ووجود الممكن فان عنيت الاول فالمفهوم واحد ولا يلزم تماثلهما فى الموضعين وان كان ما فى الذهن من معنى الوجود مماثلا لا يلزم ان يكون ما فى الخارج منه متماثلا
____________________
(20/446)
وانما يلزم ان يطابق الاثنين ويعمهما فقط كسائر الالفاظ المتواطئة المشككة اذا قيل السواد شارك سواد القار والحبر مع عدم تماثلهما واذا قيل الابيض والاحمر ونحو ذلك يتناول الكامل والناقص وكذلك اسم الحى يتناول حياة الملائكة وحياة اهل الجنة وحياة الذباب والبعوض مع عدم تماثلهما فكيف يكون وجود الرب او علمه او قدرته مماثلا لوجود المخلوق وعلمه وقدرته اذ يشملها اسم الوجود المطلق او العلم المطلق او القدرة المطلقة
وان قال بل اعنى به الوجود المقيد مثل قولنا وجود الواجب ووجود الممكن
قيل هنا المفهوم يختلف لاختصاص كل منهما بلفظ قيد به الوجود وهو الاضافة فهذه الاضافة المقيدة تمنع التماثل ولا يلزم من ذلك الاشتراك اللفظي فان الاختلاف هنا يحصل في نفس لفظ الوجود بل الاضافة الزائدة على اللفظ والاضافة او التعريف كقولنا وجود الرب او وجود الواجب ووجود المخلوق او وجود الممكن ونحو ذلك
فهذا الذى احتج به على الاشتراك فيما يسمى به الرب والعبد يلزم منه الاشتراك في سائر الاسماء العامة وهي من جنس الحجة التى
____________________
(20/447)
احتج بها على المجاز حيث قال ان كان اللفظ حقيقة فى الموضعين لزم الاشتراك وهو غلط فان الذي دل على خصوص هذا المعنى ليس هو الذى دل على خصوص ذاك بل الزائد على اللفظ
فإذا قيل وجود الرب ووجود العبد فهو من جنس ظهر الانسان وظهر الفرس كما تقول ظهر الانسان وظهر الطريق يعنى جميع هذه المواضع الدال على ما يخالف به هذا هو مما يختص بكل موضع لا مجرد اللفظ المشترك بل المشترك يدل على المشترك والمختص يدل على المختص وهذا يقتضى ان بين الظهرين جهة اتفاق وافتراق وكذلك بين الوجودين جهة اتفاق وافتراق وهو الذى يعنى به الاشتراك والامتياز لكن بعض الناس يظن ان المشترك بينهما موجود في الخارج مشتركا بينهما وذلك غلط بل كل واحد مختص بالخارج ولكن الذهن ياخذ منهما قدرا مشتركا كليا ويقال هما مشتركان فى الوجود والحيوانية والانسانية كما قال تعالى { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } وقال { فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون } فالعذاب الذي يصيب الاخر هو نظيره وهو من حنسه اشتراكا فى جنس العذاب ليس فى الخارج شيء بعينه يشتركان فيه ولكن اشتركا في العذاب الخاص بمعنى ان كل واحد له منه نصيب كالمشتركين فى العقار ونحو ذلك
____________________
(20/448)
الجواب السادس ان يقال منع ( المقدمة الثانية ( قوله لوكان مشتركا لما سبق إلى الفهم عند اطلاق هذه الالفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوى فى الأدلة الحقيقية ولا شك ان السابق إلى الفهم من اطلاق لفظ الاسد انما هوالسبع ومن اطلاق لفظ الحمار انما هوالبهيمة وكذلك ما فى الضرورة
فيقال اطلاق لفظ الاسد والحمار المعرف بالالف واللام ينصرف إلى ما يعرفة المتكلم اوالمخاطب واذا كان المعرف هوالبهيمة انصرف اليها وهذا هو المعروف عند اكثر الناس فى اكثر الاوقات ولا يلزم من ذلك اذا كان معرفا يوجب انصرافه إلى البليد والشجاع ولا يكون حقيقة ايضا كقول ابى بكر لاها الله اذا لا يعمد إلى اسد من اسد يقاتل عن الله ورسوله يعطيك سلبه وكما اشير إلى شخص وقيل هذا الاسد او إلى بليد وقيل هذا الحمار فالتعريف هنا عينه وقطع ارادة غيره كما ان لفظ الرؤوس والبيض والبيوت وغير ذلك ينصرف عند الاطلاق إلى الرؤوس والبيض الذى يؤكل فى العادة والبيوت إلى مساكن الناس ثم اذا قيل بيت العنكبوت وبيض النمل ورؤوس الجراد كان أيضا حقيقة باتفاق الناس
الجواب السابع ان يقال انت جعلت دليل الحقيقة ان يسبق إلى الفهم عند اطلاق اللفظ فاعتبرت فى المستمع السابق إلى فهمه
____________________
(20/449)
وفى المتكلم اطلاق لفظه وهذا لا ضابط له فانه انما يسبق إلى فهم المستمع فى كل موضع ما دل عليه دليل فى ذلك الموضع فاذا قال ظهر الطريق ومتنها لم يسبق إلى فهمه ظهر الحيوان البتة بل ممتنع عنده ارادته
الجواب الثامن قولك من اطلاق جميع اللفظ كلام مجمل فان اردت كون اللفظ مطلقا عن القيود فهذا لا يوجد قط فان النظر انما هو فى الاسماء الموجودة فى كلام كل متكلم كلام الله وملائكته وأنبيائه والجن وسائر بنى آدم والامم لايوجد الا مقرونا بغيره اما فى ضمن جملة اسمية أو فعلية ولا يوجد الا من متكلم ولا يستدل به الا اذا عرفت عادة ذلك المتكلم فى مثل ذلك اللفظ فهنا لفظ مقيد مقرون بغيره من الالفاظ ومتكلم قد عرفت عادته ومستمع قد عرف عادة المتكلم بذلك اللفظ فهذه القيود لا بد منها فى كلام يفهم معناه فلا يكون اللفظ مطلقا عنه فان اراد انه مطلق عن قيد دون قيد لم يكن ما ذكره دالا على ذلك فعلم ان قوله يرجع إلى مايفهم من اطلاق اللفظ
الجواب التاسع ان يقال له اذكر أي قيد شئت وفرق بين مقيد ومقيد فلا يذكر شيئا الا انتقض وابين لك من الحدود التى تذكرها فارقة بين الحقيقة والمجاز ان ما جعلته حقيقة تجعله مجازا وما
____________________
(20/450)
جعلته مجازا تجعله حقيقة وان المتكلم الفارق بين هذا وهذا بالاطلاق والتقييد تكلم بكلام من لا يتصور ما يقول فضلا عن ان يمكنه التعبير عنه فان التعبير فرع التصور فمن لم يتصور ما يقول لم يقل شيئا لا كان خطأ فصل
واما حجته الثانية فقوله كيف وان اهل الاعصار لم تزل تتناقل فى اقوالها وكتبها عن اهل الوضع تسمية هذا حقيقة وهذا مجازا
فيقال هذا مما يعلم بطلانه قطعا فلم ينقل احد قط عن اهل الوضع انهم قالوا هذا حقيقة وهذا مجاز وهذا معلوم بالاضطرار ان هذا لم يقع من اهل الوضع ولا نقله عنهم احد ممن نقل لغتهم بل ولا ذكر هذا احد عن الصحابة الذين فسروا القران وبينوا معانيه وما يدل فى كل موضع فليس منهم احد قال هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز ولا ما يشبه ذلك لا بن مسعود واصحابه ولا بن عباس واصحابه ولا زيد بن ثابت واصحابه ولا من بعدهم ولا مجاهد ولا سعيد بن جبير ولا عكرمه ولاالضحاك ولا طاوس ولا السدى ولاقتادة ولا غير هؤلاء ولا احد من أئمة الفقه كالائمة
____________________
(20/451)
الاربعة وغيرهم ولا الثورى ولا الاوزاعى ولا الليث بن سعد ولا غيره وانما وجد فى كلام احمد بن حنبل لكن بمعنى اخر كما انه وجد فى كلام ابى عبيدة معمر بن المثنى بمعنى أخر
ولم يوجد ايضا تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز فى كلام أئمة النحو واللغة كابى عمرو بن العلاء وابى عمرو الشيبانى وابى زيد والاصمعى والخليل وسيبويه والكسائي والفراء ولا يعلمه احد من هؤلاء عن العرب
وهذا يعلمه بالاضطرار من طلب علم ذلك كما يعلم بالاضطرار عند العرب انها لم تتكلم باصطلاح النحاة التى قسمت بعض الالفاظ فاعلا واللفظ الاخر مفعولا ولفظا ثالثا مصدرا وقسمت بعض الألفاظ معربا وبعضها مبنيا لكن يعلم ان هذا اصطلاح النحاة لكنه اصطلاح مستقيم المعنى بخلاف من اصطلح على لفظ الحقيقة والمجاز فانه اصطلاح حادث وليس بمستقيم فى هذا المعنى إذ ليس بين هذا وهذا فرق فى نفس الامر حتى يخص هذا بلفظ وهذا بلفظ بل أي معنى خصوا به اسم الحقيقة وجد فيما سموه مجازا واى معنى خصوا به اسم المجاز يوجد فيما سموه حقيقة ولا يمكنهم ان ياتوا بما يميز بين النوعين
وليسوا مطالبين بما يقال ان حد الحقيقى مركب من الجنس
____________________
(20/452)
والفصل فان هذا لو كان حقا لم يطالبوا به فكيف اذا كان باطلا بل المطلوب التمييز بين المسميين وهو معنى الحد اللفظى كما يميز بين مسمي الاسم المعرب والمبنى والفاعل والمفعول ويميز بين مسميات سائر الاسماء فيطالبون بما يميزون بين ما سموه حقيقة وما سموه مجازا وهذا منتف فى نفس الأمر إذ ليس فى نفس الأمر نوعان ينفصل أحدهما عن الآخر حتى يسمى هذا حقيقة وهذا مجازا وهذا بحث عقلى غير البحث اللفظى فانهم يعترفون بان النزاع فى المسألة لفظى
وقد ظنوا ان هذه التسمية والفرق منقول عن العرب وغلطوا فى ذلك كما يغلط من يظن ان هذه التسمية والفرق يوجد فى كلام الصحابة والتابعين وائمة العلم وان هذا ذكره الشافعى او غيره من العلماء اوتكلم به واحد من هؤلاء فان هذا غلط يشبه ان الواحد تربى على اصطلاح اصطلحه طائفة فيظن ان المتقدمين من اهل العلم كان هذا اصطلاحهم
ومن ظن ان العرب قسمت هذا التقسيم او ان هذا اخذ عنها توقيف كما يوجد فى كلام طائفة من المصنفين فى اصول الفقه فغلطه اظهر وقد وجد فى كلام طائفة كابى الحسين البصرى والقاضى ابى الطيب والقاضى ابى يعلى وغيرهم
____________________
(20/453)
واعجب من هذا دعوى تواتر هذا عن أهل الوضع وعن اهل الاعصار لم يزل يتناقل فى اقوالها وكتبها عن اهل الوضع تسمية هذا حقيقة وهذا مجازا وهذا التواتر الذى ادعاه لا يمكنه ولا غيره ان ياتى بخبر واحد فضلا عن هذا التواتر الذى ادعاه فصل
واما حجة النفاة التى ذكرها فانه قال فان قيل لو كان فى لغة العرب لفظ مجازى فاما ان يقيد معناه بقرينة اولا يقيد بقرينة فان كان الاول فهو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك فكان مع القرينة حقيقة فى ذلك المعنى وان كان الثانى فهو ايضا حقيقة اذ لا معنى للحقيقة الا ما يكون مستقلا بالافادة من غير قرينة ثم قال قلنا جواب الاول ان المجاز لا يفيد عند عدم الشهرة الا بقرينة ولا معنى للمجاز الا هذا والنزاع فى ذلك لفظى كيف وان المجاز والحقيقة من صفات الالفاظ دون القرائن المعنوية فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع
فيقال هو قد سلم ان النزاع لفظى فيقال اذا كان النزاع لفظيا وهذا التفريق اصطلاح حادث لم يتكلم به العرب ولا امة من الامم ولا الصحابة والتابعون ولا السلف كان المتكلم بالالفاظ الموجودة التى تكلموا بها ونزل بها القران اولى من المتكلم باصطلاح
____________________
(20/454)
حادث لو لم يكن فيه مفسدة واذا كان فيه مفاسد كان ينبغى تركه لو كان الفرق معقولا فكيف اذا كان الفرق غير معقول وفيه مفاسد شرعية وهو احداث فى اللغة كان باطلا عقلا وشرعا ولغة اما العقل فانه لا يتميز فيه هذا عن هذا واما الشرع فان فيه مفاسد يوجب الشرع ازالتها واما اللغة فلان تغيير الاوضاع اللغوية غير مصلحة راجحة بل مع وجود المفسدة
فان قيل وما المفاسد
قيل من المفاسد ان لفظ المجاز المقابل للحقيقة سواء جعل من عوارض الالفاظ او من عوارض الاستعمال يفهم ويوهم نقص درجة المجاز عن درجة الحقيقة لاسيما ومن علامات المجاز صحة اطلاق نفيه فاذا قال القائل ان الله تعالى ليس برحيم ولا برحمن لا حقيقة بل مجاز إلى غير ذلك مما يطلقونه على كثير من اسمائه وصفاته وقال ( لا اله الا الله ( مجاز لا حقيقة كما ذكر هذا الامدى من ان العموم المخصوص مجاز وقال من جهة منازعه فان قيل لو قال ( لا اله ( تامة مطلقة يكون كفرا ولو اقترن به الاستثناء وهو قوله ( الا الله ( كان ايمانا وكذلك لو قال لزوجته انت طالق كانت مطلقة بتنجيز الطلاق ولو اقترن به الشرط وهو قوله ان دخلت الدار كان
____________________
(20/455)
تعليقا مع ان الاستثناء والشرط له معنى ولولا الدلالة والوضع لما كان كذلك
قلنا لا نسلم التغيير فى الوضع بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه من جهة اطلاقه إلى غيره بالقرينة فقد تكلم فى ( لا اله الا الله ( اذا كانت من مورد النزاع فانه يزعم ان كل عام خص ولو بالاستثناء كان مجازا فيكون ( لا اله الا الله ( عنده مجازا
ومعلوم ان هذا الكلام من اعظم المنكرات فى الشرع وقائله إلى ان يستتاب فان تاب والا قتل اقرب منه إلى ان يجعل من علماء المسلمين ثم هذا القائل مفتر على اللغة والشرع والعقل فان العرب لم تتكلم بلفظ ( لا اله ( مجردا ولا كانوا نافين للصانع حتى يقولوا ( لا اله ( بل كانوا يجعلون مع الله آلهة اخرى قال تعالى ( أإنكم لتشهدون ان مع الله آلهة اخرى قل لا اشهد ) ولهذا قالوا ( اجعل الآلهة الها واحدا ان هذا لشيء عجاب )
والقرآن كله يثبت توحيد الالهية ويعيب عليهم الشرك وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه اول مادعى الخلق إلى شهادة أن لا اله الا الله وقال ( أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله ( والمشركون لم يكونوا ينازعونه في
____________________
(20/456)
الاثبات بل في النفي فكان الرسول والمشركون متفقين على اثبات إلهية الله وكان الرسول ينفى إلهية ما سوى الله وهم يثبتون فلم يتكلم أحد لا من المسلمين ولا من المشركين بهذه الكلمة إلا لاثبات إلهية الله ولنفى إلهية ماسواه والمشركون كانوا يثبتون إلهية ما سواه مع إلهيته أما الآلهة مطلقا بهذا المعنى فلم يكونوا مما يعتقدونه حتي يعبروا عنه فكيف يقال هذا المعنى هو الذى وضعوا له هذا اللفظ فى اصل لغتهم
وأما قول القائل لانسلم تغيير الدلالة بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه من جهة إطلاقه إلى غيره بالقرينة
فيقال له هذه مغلطة فانه فى حال القيد لم يكن مطلقا وهو لا يقتضي النفي العام إذا كان مطلقا غير مقيد فأما مع القيد فقوله ( لا اله الا الله ( اللفظ مطلقا فكيف يقال إنه صرف عما كان يقتضيه لو كان مطلقا فلو كان مطلقا لكان يقتضي النفي العام فبالتقييد زال الاطلاق المقتضى لذلك وهذا معنى تغيير الدلالة فانه لو كان له دلالة عند الاطلاق بطلت وصارت له دلالة أخرى عند التقييد والاستثناء فخرج من اللفظ ما لولاه لدخل فى اللفظ عند الجمهور القائلين بالعموم وعند اهل الوقف فخرج من اللفظ ما لولاه لصلح ان يدخل فعلى القولين لا يخرج من اللفظ ما دخل بل ما لولا الاستثناء لكان الاستثناء
____________________
(20/457)
يمنع ذلك الاقتضاء فلم يبق اللفظ مع الاستثناء مقتضيا لنفي المستثني البتة كما أنه لم يبق مقتضيا بقوله صرفه عن مقتضاه من جهة اطلاقه ليس بسديد فانه لو كان مقتضيا مطلقا لم يكن هناك استثناء ولا يصرف شيء واذا لم يكن مطلقا بل مقيدا بالاستثناء فليس هناك اطلاق يكون له اقتضاء ولا هناك لفظ يقتضى نفي المستثنى ولا هناك مستثنى منفي
وايضا من مفاسد هذا جعل عامة القرآن مجازا كما صنف بعضهم مجازات القراءات وكما يكثرون من تسمية آيات القرآن مجازا وذلك يفهم ويوهم المعانى الفاسدة هذا اذا كان ما ذكروه من المعانى صحيحا فكيف واكثر هؤلاء يجعلون ما ليس بمجاز مجازا وينفون ما أثبته الله من المعانى الثابتة ويلحدون فى اسماء الله وآياته كما وجد ذلك للمتوسعين فى المجاز من الملاحدة اهل البدع
واما قوله كيف والمجاز والحقيقه من صفات الالفاظ دون القرائن المعنويه
فيقال أولا ليس الامر كذلك عندكم بل كثيرا ما تجعلون الحقيقة والمجاز اسما للمعنى فتقولون حقيقه هذا اللفظ كذا ومجازه كذا وتقولون حقيقة هذا اللفظ فتجعلونه من عوارض الالفاظ تارة ومن
____________________
(20/458)
عوارض المعنى أخرى وقد تجعلونه من عوارض الاستعمال فيقال استعمال هذا اللفظ فى هذا المعنى حقيقة وفى هذا مجاز
ثم يقال لا ضابط لهؤلاء فان منهم من يجعل استعمال اللفظ فى بعض معناه حقيقه ومنهم من يجعله مجازا ومنهم من يجعله حقيقه ومجازا جميعا كما قد ذكر ذلك فى مسأله العموم والامر اذا اريد به الندب هو مما يبين تناقض هذا الاصل
ثم يقال هب ان هذا من عوارض الالفاظ فانما هو من عوارض اللفظ المستعمل الذى اريد به معناه فقولك هو من صفات الالفاظ دون القرائن المعنويه فلا تكون الحقيقة صفه للمجموع باطل من وجوه
أحدها ان اللفظ لم يدل قط الا بقرائن معنويه وهو كون المتكلم عاقلا له عادة باستعمال ذلك اللفظ فى ذلك المعنى وهو يتكلم بعادته والمستمع يعلم ذلك وهذه كلها قرائن معنويه تعلم بالعقل ولا يدل اللفظ الا معها فدعوى المدعى ان اللفظ يدل مع تجرده عن جميع القرائن العقليه غلط
الثانى ان يقال انت لم تفرق بين القرائن المعنويه واللفظيه فان
____________________
(20/459)
العامل المخصوص بالاستثناء والشرط والصفه والبدل انما اقترن به قرائن لفظيه وقد جعلته مجازا وايضا فقول النبى ( ان خالدا سيف سله الله على المشركين ( وقول ابى بكر رضي الله عنه لا يعمد إلى اسد من اسد الله يقاتل عن الله ورسوله وامثال ذلك وما مثلت به من قوله ظهر الطريق ومتنه هي قرائن لفظية بها عرف المعنى وهو عندك مجاز
الثالث ان نقول اذكر لنا ضابطا من القرائن التى بها يكون حقيقه والقرائن التى يكون بها مجازا فان هذا ممتنع لا سبيل لك إليه لبطلان الفرق فى نفس الامر
الرابع ان يقال هب انه مفتقر إلى قرينه معنويه فلو قيل لك الحقيقه اسم لنفس اللفظ لكان يشترط ان يقترن به ما يبين معناه سواء كانت القرينه لفظيه او معنوية ولفظ الحقيقة فى الموضعين اسم اللفظ لما اقترن به لم يكن ما يدفع ذلك
الخامس انه لو قيل لك انا اجعل لك لفظ الحقيقة اسما للفظ ولما اقترن مطلقا لم يكن لك جواب عن هذا الا ان يقول انا اجعله اسما للفظ والقرينه اللفظيه دون المعنويه وهذا المعنى لو كان صحيحا لم يكن معك الا مجرد تحكم قابلت به تحكما وليس تحكمك اولى
____________________
(20/460)
فكيف تجعل ذلك حجه معنويه على بطلان قول خصمك
وتحقيق ذلك ( بالوجه السادس ( وهو ان يقال قولك كيف وان المجاز والحقيقة من صفات الالفاظ دون القرائن المعنويه فلا تكون الحقيقه صفه للمجموع ليس فيه الا مجرد حكاية اللفظ الذى ابتدعته فاذا قال لك المنازع بل الحقيقه اسم لمجموع الدال من اللفظ والقرينه المعنويه كان قد قابل اصطلاحك باصطلاحه الذى هو احسن من اصطلاحك حيث سمى جميع البيان الذى علمة الله عباده حقيقه وانت جعلت كثيرا منه او اكثره مجازا
فان قلت فهذا النزاع لفظي قيل لك فهذا جوابك الاول وهو قولك النزاع فى ذلك لفظي
قوله لى بعد هذا جوابا آخر وهو قولك كيف وان المجاز والحقيقه من صفات الالفاظ دون القرائن المعنويه فلا تكون الحقيقه صفه للمجموع يقتضي أنك ذكرت جوابا ثانيا غير الاول وليس فيه الا اعادة معنى ذلك الاصطلاح هو انا اصطلحنا على ان يسمى بالحقيقة اللفظ دون القرائن المعنويه فتبين أنه ليس معك الا اعترافك بان النزاع لفظى فلو كان الاصطلاح مستقيما لم يكن نفاة المجاز الذين سموا جميع الكلام حقيقه اذا كان قد بين به المراد بأنقص
____________________
(20/461)
حالا ممن سمى ما هو من خيارالكلام واحسنه واتمه بيانا مجازا وجعله فرعا فى اللغه لا أصلا ووضعا حادثا غير به الوضع المتقدم وجعله تابعا لغيره لا متبوعا فصل
وقد ذكر نفاة المجاز حجه ضعيفه وهى قولهم وايضا ما من صورة من الصور الا ويمكن ان يعبر عنها باللفظ الحقيقي الخاص بها فاستعمال اللفظ المجازى فيها مع افتقاره إلى القرينه من غير حاجه بعيد عن اهل الحكمة والبلاغة فى وضعهم
وقد أجاب عن هذا بقوله وجواب الثانى ان الفائده فى استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقة قد يكون لاختصاصه بالخفه على اللسان او لمساغته فى وزن الكلام لفظا ونثرا والمطابقة والمجانسة والسجع وقصد التعظيم والعدول عن الحقيقي للتحقيق إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة من الكلام
فيقال هذه الحجة ضعيفة والمحتج بها يلزمه ان يسلم لها انقسام الكلام إلى حقيقه ومجاز لكنه يوجب استعمال الحقيقه دون المجاز وهذا يناقض قوله ليس فى اللغه مجاز بل المواضع التى سموها
____________________
(20/462)
مجازا اذا ثبت استعمالها فى اللغة فهي كلها حقيقة على هذا القول والتعبير لبعض الحقائق يكون أحسن وأبلغ من بعض ومراتب البيان والبلاغة متفاوتة وكل ذلك مما يدل عليه اللفظ بطريقة الحقيقة واللفظ لا يدل الا مع قرينة ومن ظن ان الحقيقة فى مثل قوله ( واسال القرية ) هو سؤال الجدران فهو جاهل
وهذا البحث يشبه بحث هؤلاء كلهم ينكرون استعمال اللفظ فى حال فى معنى وفى حال اخرى في معنى آخر كما يستعمل لفظ القرية تارة فى السكان وتارة فى المساكن ويدعون انه لا يعنى به الا المساكن وهذا غلط وافقوا فيه اولئك لكن أولئك يقولون هنا محذوف تقديره واسأل أهل القريه وأولئك يقولون بل المراد واسال الجدران
والصواب ان المراد بالقرية نفس الناس المشتركين الساكنين فى ذلك المكان فلفظ القريه هنا أريد به هؤلاء كما فى قوله تعالى { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } وكذلك قوله تعالى { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } وقوله { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا } ونظائره متعددة
____________________
(20/463)
فصل
وتمام هذا بالكلام على ما ذكره من المجاز في القرآن فانه قال يعتذر عن قوله { تجري من تحتها الأنهار } والانهار غير جارية
فيقال النهر كالقرية والميزاب ونحو ذلك يراد به الحال ويراد به المحل فاذا قيل حفر النهر أريد به المحل واذا قيل جرى النهر أريد به الحال
وعن قوله { واشتعل الرأس شيبا } وهو غير مشتعل كاشتعال النار فهذا مسلم لكن يقال لفظ الاشتعال لم يستعمل فى هذا المعنى إنما استعمل فى البياض الذى سرى من السواد سريان الشعلة من النار وهذا تشبيه واستعارة لكن قوله ( واشتعل الراس ) استعمل فيه لفظ الاشتعال مقيدا بالراس لم يحتمل اللفظ ( في ) اشتعال الحطب وهذا اللفظ وهو قوله { واشتعل الرأس شيبا } لم يستعمل قط في غير موضعه بل لم يستعمل الا فى هذا المعنى وإن كان هذا الوضع يغير بعد وضع اشتعلت النار فلا يضر وإن قصد به تشبيه ذلك المعنى بهذا المعنى فلا يضر بل هذا شأن الاسماء العامة لابد ان
____________________
(20/464)
يكون بين المعنيين قدر مشترك تشتبه فيه تلك الافراد
واما تسميته استعارة فمعلوم انهم لم يستعيروا ذلك اللفظ بعينه بل ركبوا لفظ ( اشتعل ) مع ( الراس ) تركيبا لم يتكلموا به ولا ارادوا به غير هذا المعنى قط ولهذا لا يجوز ان يقال فى مثل هذا لم يشتعل الراس شيبا بل يقال ليس اشتعال الراس مثل اشتعال الحطب وان اشبهه من بعض الوجوه
قال وعن قوله { واخفض لهما جناح الذل } والذل لا جناح له
فيقال له لاريب ان الذل ليس له جناح مثل جناح الطائر كما انه ليس للطائر جناح مثل اجنحة الملائكة ولا جناح الذل مثل جناح السفر لكن جناح الانسان جانبه كما ان جناح الطير جانبه والولد مامور بان يخفض جانبه لابويه ويكون ذلك على وجه الذل لهما لا على وجه الخفض الذي لا ذل معه وقد قال للنبى صلى الله عليه وسلم ( { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } ولم يقل جناح الذل فالرسول امر بخفض جناحه وهو جانبه والولد امر بخفض جناحه ذلا فلابد مع خفض جناحه ان يذل لابويه بخلاف الرسول فانه لم يؤمر بالذل فاقتران الفاظ القرآن تدل على اقتران معانيه واعطاء كل معنى حقه
____________________
(20/465)
ثم انه سبحانه كمل ذلك بقوله { من الرحمة } فهو جناح ذل من الرحمة لا جناح ذل من العجز والضعف اذ الاول محمود والثانى مذموم
قال وقوله { أشهر معلومات } والاشهر ليست هي الحج فيقال معلوم أن أوقات الحج أشهر معلومات ليس المراد أن نفس الافعال هي الزمان ولا يفهم هذا احد من اللفظ ولكن قد يقال في الكلام محذوف تقديره وقت الحج أشهر معلومات ومن عادة العرب الحسنة في خطابها انهم يحذفون من الكلام ما يكون المذكور دليلا عليه اختصارا كما انهم يوردون الكلام بزيادة تكون مبالغة فى تحقيق المعنى فالأول كقوله { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } فمعلوم ان المراد فضرب فانفلق لكن لم يحتج إلى ذكر ذلك فى اللفظ إذ كان قوله قلنا اضرب فانفلق دليلا على انه ضرب فانفلق وكذلك قوله { من آمن } تقديره بر من آمن او صاحب من آمن وكذلك قوله { الحج أشهر } أى أوقات الحج أشهر فالمعنى متفق عليه لكن الكلام فى تسمية هذا مجازا وقول القائل نفس الحج ليس بأشهر إنما يتوجه لو كان هذا مدلول الكلام وليس كذلك بل مدلوله عند من تكلم به او سمعه ان أوقات الحج أشهر معلومات
____________________
(20/466)
قال وقوله { لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد } والصلوات لا تنهدم فيقال قد قيل إن الصلوات اسم لمعابد اليهود يسمونها صلوات باسم ما يفعل فيها كنظائره وهو انما استعمل لفظ الصلوات فى المكان مقرونا بقوله ( لهدمت ) والهدم انما يكون للمكان فاستعمله مع هذا اللفظ فى المكان
قال وقوله { أو جاء أحد منكم من الغائط }
فنقول لفظ الغائط فى القرآن يستعمل فى معناه اللغوى وهو المكان المطمئن من الارض وكانوا ينتابون الاماكن المنخفضة لذلك وهو الغائط كما يسمى خلاء لقصد قاضي الحاجة الموضع الخالي ويسمى مرحاضا لاجل الرحض بالماء ونحو ذلك والمجيء من الغائط اسم لقضاء الحاجة لان الانسان في العادة انما يجيء من الغائط اذا قضى حاجته فصار اللفظ حقيقة عرفية يفهم منها عند الاطلاق التغوط فقد يسمون ما يخرج من الانسان غائطا تسمية للحال باسم محله كما فى قوله جرى الميزاب ومنه قول عائشة مرن أزواجكم يغسلن عنهن اثر الغائط وليس فى قوله { أو جاء أحد منكم من الغائط } استعمال اللفظ فى غير معناه بل المجيء من الغائط يتضمن التغوط فكنى عن ذلك المعنى باللفظ الدال على العمل
____________________
(20/467)
الظاهر المستلزم الامر المستور وكلاهما مراد
وهذا كثير فى الكلام يذكر الملزوم ليفهم منه لازمه المدلول وكلاهما دل عليه اللفظ لكن احدهما وسيلة إلى الآخر كقول أحدى النسوة فى حديث ام زرع ( زوجي عظيم الرماد طويل النجاد قريب البيت من الناد ( فان عظم الرماد يستلزم كثرة الطبخ المستلزم في عادتهم لكثرة الضيف المستلزم للكرم وطول النجاد يستلزم طول القامة وقرب البيت من الناد يستلزم قصده بحجة الناد إلى بيته والناد اسم للحال والمحل ايضا ومنه قوله ( فليدع ناديه ) وقوله ( وتاتون فى ناديكم المنكر ) فهنا هو المحل وفي تلك هو الحال وهم القوم الذين ينتدون ومنه ( دار الندوة (
واصله من مناداة بعضهم لبعض بخلاف النجاء فانهم الذين يتناجون قال الشعبى اذا كثرت الحلقة فهي اما نداء واما نجاء قال تعالى { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } فناداه وناجاه
وقال قوله { الله نور السماوات والأرض }
فيقال قد ثبت في الصحيح ان النبى كان يقول فى دعائه ( اللهم لك الحمد انت قيم السماوات والارض
____________________
(20/468)
ومن فيهن ولك الحمد انت نور السماوات والارض ومن فيهن ( فليس مفهوم اللفظ انه شعاع الشمس والنار فان هذا ليس هو نور السماوات والارض كما ظن بعض الغالطين ان هذا مدلول اللفظ والنور يراد به المستنير المنير لغيره بهديه فيدخل فى هذا انت الهادي لاهل السماوات والارض وقد قال بن مسعود ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه واذا كان كونه رب السماوات والارض وقيمها لا يناقض ان يكون قد جعل بعض عباده يرب بعضا من بعض الوجوه ويفهمه فكذلك كونه { نور السماوات والأرض } منيرها لا يناقض ان يجعل بعض مخلوقاته منيرا لبعض
واسم النور اذا تضمن صفته وفعله كان ذلك داخلا فى مسمى النور فانه لما جعل القمر نورا كان متصفا بالنور وكان منيرا على غيره وهو مخلوق من مخلوقاته والخالق اولى بصفة الكمال الذى لا نقص فيه من كل ما سواه
قال وقوله { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } قال والقصاص ليس بعدوان
فيقال العدوان مجاوزة الحد لكن ان كان بطريق الظلم كان محرما وان كان بطريق القصاص كان عدلا مباحا فلفظ العدوان فى
____________________
(20/469)
مثل هذا هو تعدى الحد الفاصل لكن لما اعتدى صاحبه جاز الاعتداء عليه والاعتداء الاول ظلم والثاني مباح ولفظ عدل مباح ولفظ الاعتداء هنا مقيد بما يبين انه اعتداء على وجه القصاص بخلاف العدوان ابتداء فانه ظلم فاذا لم يقيد بالجزاء فهم منه الابتداء اذ الاصل عدم ما يقابله
قال وقوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقوله { الله يستهزئ بهم } { ويمكرون ويمكر الله }
فيقال السيئة اسم لما سبق صاحبها فان فعلت به على وجه العدل والقصاص كان مستحقا لما فعل معه من السيئة وليس المراد انها تسبق الفاعل حتى ينهى عنها بل تسبق المجازى بها ولفظ السيئة والحسنة يراد به الطاعة والمعصية ويراد به النعمة والمصيبة كقوله { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وقوله { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } وقوله { وجزاء سيئة } لم يرد به كل من عمل ذنبا وانما المراد جزاء من اساء إلى غيره بظلم فهي من سيئات المصاب فجزاؤها ان يصاب المسيء بسيئة مثلها كانه قيل جزاء من اساء اليك ان تسيء إليه مثل ما اساء اليك وهذه سيئة حقيقة
____________________
(20/470)
واما الاستهزاء والمكر بان يظهر الانسان الخير والمراد شر فهذا اذا كان على وجه جحد الحق وظلم الخلق فهو ذنب محرم واما اذا كان جزاء على من فعل ذلك بمثل فعله كان عدلا حسنا قال الله تعالى { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم } فان الجزاء من جنس العمل وقال تعالى { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا } كما قال { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا } وقال { كذلك كدنا ليوسف }
وكذلك جزاء المعتدى بمثل فعله فان الجزاء من جنس العمل وهذا من العدل الحسن وهو مكر وكيد اذا كان يظهر له خلاف ما يبطن قال { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } فهذا اللفظ اصله ان المحاربين يوقدون نارا يجتمع اليها اعوانهم وينصرون وليهم ( على ) عدوهم فلا تتم محاربتهم الا بها فاذا طفئت لم يجتمع امرهم ثم صار هذا كما تستعمل الامثال في كل محارب بطل كيده كما يقال يداك اوكتا وفوك نفخ ومعناه انت الجانى على نفسك وكما يقال الصيف ضيعت اللبن معناه فرطت وقت الامكان
وهذه الالفاظ كان لها معنى خاص نقلت بعرف الاستعمال إلى معنى
____________________
(20/471)
اعم من ذلك وصاريفهم منها ذلك عند الاطلاق لغلبة الاستعمال ولا يفهم منها خصوص معناها الاول كسائر الالفاظ التى نقلها اهل العرف إلى اعم من معناها مثل لفظ الرقبة والراس فى قوله { فتحرير رقبة } وقد يقال ان هذا من باب دلالة اللزوم فان تحرير العنق يستلزم تحرير سائر البدن ولهذا تنازع الفقهاء اذا قال يدك حر ان دخلت الدار فقطعت يده ثم دخل الدار هل يعتق على وجهين بناء على انه من باب السراية او من باب العبادة
والصحيح انه من باب العبادة ومعناه انت حر ان فعلت كذا والحقيقة العرفية والشرعية معلومة في اللغة
قال إلى مالا يحصى ذكره من المجازات وقالوا ما يذكر من هذا الباب اما ان يكون النزاع في معناه أو المعنى متفق عليه والنزاع فى تسميته مجازا وعلى التقديرين فلا حجة لك فيه كقوله { يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء } قيل اراد بالسماء المطر أي يا مطر انقطع وليس كذلك بل الاقلاع الامساك اي ياسماء امسكي عن الامطار
وكثيرا ما ياتى المدعى إلى الفاظ لها معان معروفة فيدعي استعمالها
____________________
(20/472)
فى غير تلك المعانى بلا حجة ويقول هذا مجاز فهذا لا يقبل ومن قسم الكلام إلى حقيقة ومجاز متفقون على ان الاصل فى الكلام هو الحقيقة وهذا يراد به شيئان يراد به انه اذا عرف معنى اللفظ وقيل هذا الاستعمال مجاز قيل بل الاصل الحقيقة واذا عرف ان للفظ مدلولان حقيقي ومجازى فالاصل ان يحمل على معناه الحقيقى فيستدل تارة بالمعنى المعروف على دلالة اللفظ عليه وتارة باللفظ المعروف دلالته على المعنى المدلول عليه
فاذا قيل فى قوله تعالى { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } ان أصل الذوق بالفم قيل ذلك ذوق الطعام فالذوق يكون للطعام ويكون لجنس العذاب كما قال { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون } وقوله { ذق إنك أنت العزيز الكريم } وقوله { ذوقوا مس سقر } فقوله { ذوقوا مس سقر } صريح فى ذوق مس العذاب لا يحتمل ذوق الطعام
ثم الجوع والخوف اذا لبس البدن كان اعظم في الالم بخلاف القليل منه فاذا قال ( اذاقها الله لباس الجوع والخوف ) فانه لم يكن يدل على لبسه لصاحبه واحاطته به فهذه المعانى تدل عليها هذه الالفاظ دون ما اذا قيل جاعت وخافت فانه يدل على جنس لا على عظم كيفيته وكميته فهذا من كمال البيان والجميع انما استعمل فيه اللفظ في معناه المعروف في اللغة فان قوله ذوق لباس الجوع والخوف ليس
____________________
(20/473)
هو ذوق الطعام وذوق الجوع ليس هو ذوق لباس الجوع
ولهذا كان تحرير هذا الباب هو من علم البيان الذي يعرف به الانسان بعض قدر القرآن وليس فى القرآن لفظ الا مقرون بما يبين به المراد ومن غلط فى فهم القرآن فمن قصوره أو تقصيره فاذا قال القائل ( يشرب بها ) أن الباء زائدة كان من قبله علمه فان الشارب قد يشرب ولا يروى فاذا قيل يشرب منها لم يدل على الري واذا ضمن معنى الري فقيل ( يشرب بها ) كان دليلا على الشرب الذي يحصل به الري وهذا شرب خاص دل عليه لفظ الباء
كما دل لفظ الباء فى قوله
____________________
(20/474)
{ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } على الصاق الممسوح به بالعضو ليس المراد مسح الوجه فمن قال الباء زائدة جعل المعنى امسحوا وجوهكم وليس فى مجرد مسح الوجه الصاق الممسوح من الماء والصعيد ومن قرأ { وأرجلكم } فانه عائد على الوجه والأيدي بدليل انه قال { إلى الكعبين } ولو كان عطفا على المحل لفسد المعنى وكان يكون { وامسحوا برؤوسكم } وايضا فكلهم قرأوا قوله فى التيمم { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ولفظ الآيتين من جنس واحد فلو كان المعطوف على المجرور معطوفا على المحل لقرأوا ايديكم بالنصب فلما لم يقرأوها كذلك علم ان قوله { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } عطف على الوجوه والايدي
قال بن عقيل فصل
فى أسئلتهم وقد تكلفوا غاية التكليف وتعسفوا غاية التعسيف فى بيان انه حقيقة
فمن ذلك قولهم ان القرية هي مجتمع الناس مأخوذ من قريت الماء في الحوض وما قرأت الناقة فى رحمها فالضيافة مقرىء ومقرى لاجتماع الاضياف عندهم وسمي القرآن والقراءة لذلك لكونه مجموع كلام فكذلك حقيقة الاجتماع انما هو للناس دون الجدران فما اراد الا مجمع الناس وهو فى نفسه حقيقة القرية يوضح ذلك قوله تعالى { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا } وقوله تعالى { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } وهذا يرجع إلى المجتمع إلى الناس دون الجدران والعير اسم للقافلة
قالوا والابنية والحمير اذا اراد الله نطقها أنطقها وزمن النبوات وقت لخوارق العادات ولو سألها لأجابته عن حاله معجزة له وكرامة
____________________
(20/475)
وقوله تعالى { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق } انما اشار بقوله { قول الحق } إلى اسمه ونسبته إلى امه وذلك حقيقة قول الله وقد قال صاحبكم احمد الله هو الله يعنى الاسم هو المسمى وقوله تعالى { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } فانه لما نسف بعد ان برد فى البحر وشربوا من الماء كان ذلك حقيقة ذلك العجل فلا شيء مما ذكرتم الا وهو حقيقة
قال بن عقيل فيقال للقرية ما جمعت واجتمع فيها لانفس المجتمع فلهذا سمى القرء والاقراء لزمان الحيض اوزمان الطهر والتصرية والمصراة والصراة اسم مجمع اللبن والماء لا لنفس اللبن والماء المجتمع والقارى الجامع للقرى والمقري الجامع للاضياف فأما نفس الأضياف فلا والقافلة لا تسمى عيرا ان لم تكن ذات بهائم مخصوصة فان المشاة والرجال لا تسمى عيرا فلو كان اسما لمجرد القافلة لكان يقع على الرجال كما يقع على ارباب الدواب فبطل ما قالوه
وقولهم لو سأل لاجاب الجدار فمثل ذلك لا يقع بحسب الاختيار ولا يكون معتمدا على وقوعه إلا عند التحدي به فاما ان يقع بالهاجس وعموم الاوقات فلا
____________________
(20/476)
وقوله { ذلك عيسى } يرجع إلى الاسم فانهم اذا حملوه على هذا كان مجازا لأن القول الذي هو الاسم ليس بمضاف إليه ولذا نقول { ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه } والاسم الذي هو القول ليس بابن مريم وانما بن مريم نفس الجسم والروح الذي يقع عليهما الاسم الذي ظهرت على يديه الآيات الخارقة التى جعلوه لأجل ظهورها الها
وقولهم المراد نفس ذات العجل لما نسفه فاذا نسف خرج عن ان يكون عجلا بل العجل حقيقة الصورة المخصوصة التى خارت والابرادة الذهب لاتصل إلى القلوب وغاية ما تصل إلى الاجواف فاما ان يسبقها الطبع فيحيلها إلى ان تصل إلى القلب فليس كذلك بل سحالة الذهب اذا حصلت فى المعدة رسبت بحيث لا ترتقى إلى غير محلها فضلا عن ان تصل إلى القلب ولان قول العرب اشربوا لا يرجع إلى الشرب انما يرجع إلى الاسباب وهو الا يساغ وذلك يرجع إلى الحب لاالى الذوات التى هي الاجسام ولهذا لا يقال اشربوا في قلوبهم الماء اذ هو مشروب فكيف يقال فى العجل على أن إضافته نفسه إلى القلب إضافه له إلى محل الحب وقد ورد فى الخبر انهم كانوا يقولون في سحالته اذا تناولوها هذا أحب الينا من موسى ومن اله موسى لما نالهم من محبته فى قلوبهم
____________________
(20/477)
قلت أما ما ذكروه من القرية فالقرية والنهر ونحو ذلك اسم للحال والمحل فهو اسم يتناول المساكن وسكانها ثم الحكم قد يعود إلى الساكن وقد يعود إلى المساكن وقد يعود اليهما كاسم الانسان فانه اسم للروح والجسد وقد يعود الحكم على احدهما وكذلك الكلام اسم للفظ والمعنى وقد يعود الحكم إلى احدهما
وأما الاشتقاق فهذا الموضع غلط فيه طائفة من العلماء لم يفرقوا بين قرأ بالهمزة وقرى يقري بالياء فان الذى بمعنى الجمع هو قرى يقرى بلا همزة ومنه القرية والقراءة ونحو ذلك ومنه قريت الضيف اقريه أي جمعته وضممته اليك وقريت الماء فى الحوض جمعته وتقريت المياه تتبعتها وقروت البلاد وقريتها واستقريتها اذا تتبعتها تخرج من بلد إلى بلد ومنه الاستقراء وهو تتبع الشيء اجمعه وهذا غير قولك استقرأته القرآن فان ذاك من المهموز فالقرية هي المكان الذي يجتمع فيه الناس والحكم يعود إلى هذا تارة والى هذا اخرى
وأما قرأ بالهمز فمعناه الاظهار والبيان والقرء والقراءة من هذا الباب ومنه قولهم ما قرأت الناقة سلا جزور قط أى ما أظهرته وأخرجته من رحمها والقاري هو الذي يظهر القرآن ويخرجه قال تعالى { إن علينا جمعه وقرآنه } ففرق بين الجمع والقرآن
____________________
(20/478)
والقرء هو الدم لظهوره وخروجه وكذلك الوقت فان التوقيت انما يكون بالامر الظاهر
ثم الطهر يدخل فى اسم القرء تبعا كما يدخل الليل في اسم اليوم قال النبى صلى الله عليه وسلم للمستحاضة ( دعي الصلاة أيام أقرائك ( والطهر الذي يتعقبه حيض هو قرء فالقرء اسم للجميع
وأما الطهر المجرد فلا يسمى قرءا ولهذا اذا طلقت في أثناء حيضة لم تعتد بذلك قرءا لأن عليها أن تعتد بثلاثة قروء وإذا طلقت فى اثناء طهر كان القرء الحيضة مع ما تقدمها من الطهر ولهذا كان اكابر الصحابة على ان الاقراء الحيض كعمر وعثمان وعلي وابى موسى وغيرهم لأنها مامورة بتربص ثلاثة قروء فلو كان القرء هو الطهر لكانت العدة قرأين وبعض الثالث فان النزاع من الطائفتين في الحيضة الثالثة فان اكابر الصحابة ومن وافقهم يقولون هو احق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وصغار الصحابة اذا طعنت فى الحيضة الثالثة فقد حلت فقد ثبت بالنص والاجماع ان السنة ان يطلقها طاهرا من غير جماع وقد مضى بعض الطهر والله امر ان يطلق لاستقبال العدة لا في اثناء العدة وقوله { ثلاثة قروء } عدد ليس هو كقوله { أشهر } فان ذاك صيغة جمع لاعدد فلا بد من ثلاثة قروء كما امر الله لايكفى بعض الثالث
____________________
(20/479)
وأما قولك { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق } ففيه قراءتان مشهورتان الرفع والنصب وعلى القراءتين قد قيل ان المراد بقول الحق عيسى كما سمي كلمة الله وقيل بل المراد هذا الذي ذكرناه قول الحق فيكون خبر مبتدأ محذوف وهذا له نظائر كقوله { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم } الآية { وقل الحق من ربكم } أي هذا الحق من ربكم وان اريد به عيسى فتسميته قول الحق كتسميته كلمة الله وعلى هذا فيكون خبرا وبدلا
وعلى كل قول فله نظائر فالقول فى تسميته مجازا كالقول فى نظائره
والأظهر ان المراد به ان هذا القول الذي ذكرناه عن عيسى بن مريم قول الحق الا انه بن عبد الله يدخل فى هذا ومن قال المراد بالحق الله والمراد قول الله فهو وإن كان معنى صحيحا فعادة القرآن إذا أضيف القول إلى الله ان يقال قول الله لا يقال قول الحق الا اذا كان المراد القول الحق كما فى قوله { قوله الحق } وقوله الله يقول الحق وقوله { فالحق والحق أقول }
ثم مثل هذا اذا اضيف فيه الموصوف إلى الصفة كقوله ( حب الحصيد ) وقولهم صلاة الأولى ودار الآخرة هو عند كثير من
____________________
(20/480)
نحاة الكوفة وغيرهم اضافة الموصوف إلى صفته بلا حذف وعند كثير من نحاة البصرة ان المضاف إليه محذوف تقديره صلاة الساعة الأولى والأول اصح ليس في اللفظ ما يدل على المحذوف ولا يخطر بالبال وقد جاء فى غير موضع كقوله { الدار الآخرة } وقال { قوله الحق } )
وبالجملة فنظائر هذا فى القرآن وكلام العرب كثير وليس فى هذا حجة لمن سمى ذلك مجازا الا كحجته فى نظائره فيرجع فى ذلك إلى الاصل
قال بن عقيل ومن ادلتنا قوله تعالى { بلسان عربي مبين } واذا ثبت انه عربي فلغة العرب مشتملة على الاستعارة والمجاز وهي بعض طرق البيان والفصاحة فلو أخل بذلك لما تمت اقسام الكلام وفصاحته على التمام والكمال وانما يبين تعجيز القوم اذا طال وجمع من استعارتهم وامثالهم وصفاتهم ولا نص بجواز الالفاظ الا اذا طالت ولهذا لا يحصل التحدي بمثل بيت ولا بالاية والآيتين ولهذا جعل حكم القليل منه غير محترم احترام الطويل فسوغ الشرع للجنب والحائض تلاوته كل ذلك لانه لا اعجاز فيه فاذا اتى بالمجاز والحقيقة وسائر ضروب الكلام واقسامه ففاق كلامه الجامع المشتمل على تلك الاقسام كان الاعجاز وظهر التعجيز لهم فهذا يوجب ان يكون فى القرآن مجاز
____________________
(20/481)
قلت ما ذكره من ان السورة القصيرة لا اعجاز فيها مما ينازعه اكثر العلماء ويقولون بل السورة معجزة بل ونازعه بعض الاصحاب فى الايه والايتين قال ابو بكر بن العماد شيخ جدي ابى البركات قوله انما جاز للجنب قراءة اليسير من القرآن لانه لا اعجاز فيه ما أراه صحيحا لان الكل محترم وانما ساغ للجنب قراءة بعض الآية توسعة على المكلف ونظرا في تحصيل المثوبة والحرج مع قيام الحرمة كما سوغ له الصلاة مع يسير الدم مع نجاسته
قلت وأما قوله ان القرآن نزل بلغة العرب فحق بل بلسان قريش كما قال تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } وقال عمر وعثمان ان هذا القرآن نزل بلغة هذا الحي من قريش وحينئذ فمن قال أن الألفاظ التى فيه ليست مجازا ونظيرها من كلام العرب مجاز فقد تناقض لكن الاصحاب الذين قالوا ليس فى القرآن مجاز لم يعرف عنهم أنهم اعترفوا بأن في لغة العرب مجازا فلا يلزمهم التناقض
وأيضا فقول القائل ان فى لغة العرب مجازا غير ما يوجد نظيره في القرآن فان كلام المخلوقين فيه من المبالغة والمجازفة من المدح والهجو والمراثى وغير ذلك ما يصان عنه كلام الحكيم فضلا عن كلام الله فاذا كان المسمى لا يسمى مجازا الا ما كان كذلك لم يلزمه ان يسمي
____________________
(20/482)
ما فى القرآن مجازا وهذا لان تسمية بعض الكلام مجازا انما هو امر اصطلاحي ليس امرا شرعيا ولا لغويا ولا عقليا
ولهذا كان بعضهم يسمى بالمجاز ما استعمل فيما هو مباين لمسماه وما استعمل بعض مسماه لا يسميه مجازا فلا يسمون استعمال العام فى بعض معناه مجازا ولا الامر اذا اريد به الندب مجازا وهو اصطلاح اكثر الفقهاء وقد لا يقولون ان ذلك استعمال في غير ما وضع له بناء على ان بعض الجملة لايسمى غيرا عند الاطلاق فلا يقال الواحد من العشرة انه غيرها ولا ليد الانسان انها غيره ولان المجاز عندهم ما احتيج إلى القرينه فى اثبات المراد الا في دفع مالم يرد والقرينة فى الامر تخرج بعض ما دل عليه اللفظ وتبقى الباقي مدلولا عليه اللفظ بخلاف القرينة في الاسد فانها تبين ان المراد لا يدخل فى لفظ الاسد عند الاطلاق
واذا كان اصطلاح اكثر الفقهاء التفريق بين الحقيقة والمجاز وآخرون اصطلحوا على انه متى لم يرد باللفظ جميع معناه فهو مجاز عندهم ثم هؤلاء اكثرهم يفرقون بين القرينة المنفصلة او المستقلة وبين ما تأصلت باللفظ او كانت من لفظه او لم تستقل فلم يجعلوا ذلك مجازا لئلا يلزم ان يكون عامة الكلام مجازا حتى يكون قوله لا اله الا الله مجازا مع العلم بان المشركين لم يكونوا ينازعون
____________________
(20/483)
في ان الله اله حق وانما كانوا يجعلون معه آلهة أخرى فكان النزاع بين الرسول وبينهم فى نفي الالهية عما سوى الله حقيقة اذ لم يستعمل فى غير ما وضع له وان الموضوع الاصل هو النفي وهو نفي الاله مطلقا فهذا المعنى لم يعتقده احد من العرب بل ولا لهم قصد فى التعبير عنه ولا وضعوا له لفظا بالقصد الاول اذ كان التعبير هو عما يتصور من المعانى وهذا المعنى لم يتصوروه الا نافين له يتصوروه مثبتين له ونفي النفي اثبات
فمن قال ان هذا اللفظ قصدوا به في لغتهم كان ان يبعث الرسول لنفي كل اله وان هذا هو موضوع اللفظ الذي قصدوه به اولا وقولهم لا اله الا الله استعمال لذلك اللفظ فى غير المعنى الذي كان موضوع اللفظ عندهم فكذبه ظاهر عليهم في حال الشرك فكيف فى حال الايمان
ولا ريب ان جميع التخصيصات المتصلة كالصفة والشرط والغاية والبدل والاستثناء هو بهذه المنزلة لكن اكثر الالفاظ قد استعملوها تارة مجردة عن هذه التخصيصات وتارة مقرونة بها بخلاف قول لا اله الا الله فانهم لم يعرفوا قط عنهم انهم استعملوها مجردة عن الاستثناء اذ كان هذا المعنى باطلا عندهم فمن جعل هذا حقيقة فى لغتهم ظهر كذبه عليهم وان فرق بين ا ستثناء واستثناء تناقض وخالف الاجماع وذلك
____________________
(20/484)
لانه بني على اصل فاسد متناقض والقول المتناقض اذا طرده صاحبه والزم صاحبه لوازمه ظهر من فساده وقبحه ما لم يكن ظاهرا قبل ذلك وان لم يطرده تناقض وظهر فساده فيلزم فساده على التقديرين
ولهذا لا يوجد للقائلين بالمجاز قول البته بل كل اقوالهم متناقضة وحدودهم والعلامات التى ذكروها فاسدة اذ كان اصل قولهم باطلا فابتدعوا فى اللغة تقسيما وتعبيرا لاحقيقة له فى الخارج بل هو باطل فلا يمكن ان يتصور تصورا مطابقا ولا يعبر عنه بعبارة سديدة بخلاف المعنى المستقيم فانه يعبر عنه بالقول السديد كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } والسديد الساد الصواب المطابق للحق من غير زيادة ولانقصان وهو العدل والصدق بخلاف من أراد ان يفرق بين المتماثلين ويجعلهما مختلفين بل متضادين فان قوله ليس بسديد وهذا يبسط في موضعه
والمقصود هنا ان الذين يقولون ليس فى القرآن مجاز ارادوا بذلك ان قوله { واسأل القرية } اسأل الجدران والعير البهائم ونحو ذلك مما نقل عنهم فقد أخطأوا وان جعلوا اللفظ المستعمل فى معنى في غير القرآن مجازا وفيه ليس بمجاز فقد أخطأوا ايضا وان قصدوا ان في غير القرآن من المبالغات والمجازفات والالفاظ التى لا يحتاج اليها ونحو ذلك مما ينزه القرآن عنه فقد اصابوا فى ذلك واذا قالوا
____________________
(20/485)
نحن نسمى تلك الامور مجازا بخلاف ما استعمل في القران ونحوه من كلام العرب فهذا اصطلاح هم فيه اقرب إلى الصواب ممن جعل اكثر كلام العرب مجازا كما يحكى عن بن جني انه قال قول القائل خرج زيد مجاز لان الفعل يدل على المصدر والمصدر المعرف باللام يستوعب جميع افراد الخروج فيقتضى ذلك ان زيدا حصل منه جميع انواع الخروج هذا حقيقة اللفظ فان اريد فرد من افراد الخروج فهو مجاز
فهذا الكلام لا يقوله من يتصور ما يقول وبن جني له فضيلة وذكاء وغوص على المعانى الدقيقة فى سر الصناعة والخصائص واعراب القران وغير ذلك فهذا الكلام ان كان لم يقله فهو اشبه بفضيلته واذا قاله فالفاضل قد يقول مالا يقوله الا من هو من اجهل الناس وذلك ان الفعل انما يدل على مسمى المصدر وهو الحقيقة المطلقة من غير ان يكون مقيدا بقيد العموم بل ولا بقيد آخر
فاذا قيل خرج زيد وقام بكر ونحو ذلك فالفعل دل على انه وجد منه مسمى خروج ومسمى قيام من غير ان يدل اللفظ على نوع ذلك الخروج والقيام ولا على قدره بل هو صالح لذلك على سبيل البدل لا على سبيل الجمع كقوله { فتحرير رقبة } فانه اوجب رقبة واحدة لم يوجب كل رقبة وهي تتناول جميع
____________________
(20/486)
الرقاب على سبيل البدل فاى رقبة أعتقها اجزأته كذلك اذا قيل خرج دل على وجود خروج ثم قد يكون قليلا وقد يكون كثيرا وقد يكون راكبا وقد يكون ماشيا ومع هذا فلا يتناول على سبيل البدل الا خروجا يمكن من زيد
واما ان هذا اللفظ يقتضى عموم كل ما يسمى خروجا فى الوجود لا على سبيل الجمع فهذا لا يقوله القائل الا اذا فسد تصوره وكان إلى الحيوان اقرب والظن بابن جني انه لا يقول هذا
ثم هذا المعنى موجود في سائر اللغات فهل يقول عاقل ان اهل اللغات جميعهم الذين يتكلمون بالجمل الفعلية التى لابد منها فى كل امة انما وضعوا تلك الجملة الفعلية على جميع انواع ذلك الفعل الموجود فى العالم وان استعمال ذلك فى بعض الافراد عدول باللفظ عما وضع له ولكن هذا مما يدل على فساد اصل القول بالمجاز اذا افضى إلى ان يقال فى الوجود مثل هذا الهذيان ويجعل ذلك مسألة نزاع توضع فى أصول الفقه
فمن قال من نفاة المجاز في القران انا لا نسمي ما كان فى القرآن ونحوه من كلام العرب مجازا وانما نسمى مجازا ما خرج عن ميزان العدل مثل ما يوجد فى كلام الشعراء من المبالغة فى المدح والهجو
____________________
(20/487)
والمراثي والحماسة فمعلوم انه ان كان الفرق بين الحقيقة والمجاز اصطلاحا صحيحا فهذا الاصطلاح اولى بالقبول ممن يجعل اكثر الكلام مجازا بل وممن يجعل التخصيص المتصل كله مجازا فيجعل من المجاز قوله { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقوله { فتيمموا صعيدا طيبا } وقوله { فتحرير رقبة مؤمنة } وقوله { فصيام شهرين متتابعين } وقوله { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } وقوله { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } وقوله { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } وقوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون } إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقوله { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وقوله { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } وقوله { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وقوله { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد } وقوله { فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون } وقوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقوله { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم } وقوله { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } وقوله { ومن يقتل مؤمنا متعمدا }
____________________
(20/488)
) وقوله { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وقوله { فاعبد الله مخلصا له الدين } وقوله { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وقوله { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } وقوله { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وقوله { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } وقوله { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } وقوله { فشربوا منه إلا قليلا منهم } وقوله { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } وقوله { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وامثال هذا مما لا يعد الا بكلفة
فمن جعل هذا كله مجازا وان العرب تستعمل هذا كله وما اشبهه فى غير ما وضع اللفظ له اولا فقوله معلوم الفساد بالضرورة ولزمه أن يكون اكثر الكلام مجازا إذ كان هذا يلزمه فى كل لفظ مطلق قيد بقيد والكلام جملتان اسمية وفعليه والاسميه اصلها المبتدأ والخبر فيلزم اذا وصف المبتدأ والخبر او استثني منه او قيد بحال كان مجازا
ويلزمه اذا دخل عليه كان واخواتها وان واخواتها وظننت واخواتها فغيرت معناه واعرابه ان يصير مجازا فان دخول القيد عليه تارة يكون فى اول الكلام وتارة فى وسطه وتارة فى آخرة
____________________
(20/489)
لاسيما باب ظننت فانهم يقولون زيد منطلق وزيدا منطلقا ظننت ولهذا عند التقديم يجب الاعمال وفى التوسط يجوز الالغاء وفى التأخر يحسن مع جواز الاعمال فانه اذا قدم المفعول ضعف العمل ولهذا يقوونه بدخول حرف الجر كما يقوونه فى اسم الفاعل لكونه اضعف من الفعل كقوله { لربهم يرهبون } وقوله { إن كنتم للرؤيا تعبرون } وقوله { وإنهم لنا لغائظون }
ويلزمه في الجمله الفعلية اذا قيدت بمصدر موصوف او معدود او نوع من المصدر ان يكون مجازا كقوله ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) وقوله ( وينصرك الله نصرا عزيزا ) وكذلك ظرف المكان والزمان وكذلك سائر ما يقيد به الفعل من حروف الجر كقوله { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وقوله { على هدى من ربهم } وقوله { وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } وقوله { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق }
ومما ينبغى ان يعرف ان بن عقيل مع مبالغته هنا فى الرد على من يقول ليس فى القران مجاز فهو في موضع آخر ينصر انه ليس فى اللغة مجاز لا فى القرآن ولا غيره وذكر ذلك في مناظرة جرت
____________________
(20/490)
له مع بعض أصحابة الحنبليين الذين قالوا بالمجاز فقال فى فنونه جرت مسألة هل في اللغة مجاز فاستدل حنبلي ان فيها مجازا بانا وجدنا ان من الأسماء ما يحصل نفيه وهو تسمية الرجل المقدام اسدا والعالم والكريم الواسع العطاء والجود بحرا فنقول فيه ليس ببحر ولا باسد ولا يحسن ان نقول في السبع المخصوص والبحر ليس باسد ولا بحر فعلم ان الذى حسن نفى الاسم عنه انه مستعار كما نقول في المستعير لمال غيره ليس بمالك له ولا يحسن ان نقول في المالك ليس بمالك له
قال اعترض عليه معترض اصولى حنبلي فقال الذي عولت عليه لا اسلمه ولا تعويل على الصورة بل على المخصصة فان قولنا حيوان يشمل السبع والانسان فاذا قلنا سبع واسد كان هذا لما فيه من الاقدام والهواش والتفخم للصيال وذلك موجود فى صورة الانسان وصورة السبع والاتفاق واقع فى الحقيقة كسواد الحبر وسواد القار جميعا لا يختلفان فى اسم السواد بالمعنى وهي الحقيقة التى هي هبة تجمع البصر اتساع الحدقة فكذلك اتساع الجود والعلم واتساع الماء جميعا يجمعه الاتساع فيسمى كل واحد منهما بحرا للمعنى الذي جمعهما وهو حقيقة الاتساع ولانه لا يجوز ان يدعي الاستعارة لاحدهما الا اذا ثبت سبق التسمية لاحدهما ولاسيما على اصل من يقول ان الكلام
____________________
(20/491)
قديم والقديم لا يسبق بعضه بعضا فان السابق والمسبوق من صفات بعضه الحادث من الزمان
قلت فقد جعل هذا اللفظ متواطئا دالا على القدر المشترك كسائر الاسماء المتواطئة ولكنه يختص فى كل موضع بقدر متميز لما امتاز به من القرينة كما فى ما مثله به من السواد وهذا بعينه يرد عليه فيما احتج به للمجاز
قال ومن ادله المجاز ما زعم المستدلون له من اجود الاستدلال على النفاة وهو قوله تعالى { لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا } وقوله تعالى { فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه } والصلوات فى لغة العرب اما الادعية واما الافعال المخصوصة وكلاهما لا يوصف بالتهدم والجماد لا يتصف بالارادة
فان قيل كان من لغة العرب تسمية المصلى صلاه وقد ورد فى التفسير ( وان المساجد لله ) اعضاء السجود والجدار وان لم يكن له ارادة لكنه لا يستحيل من الله فعل الارادة فيه من غير احداث ابنية مخصوصة
فيقال هذا دعوى عن الوضع اذ لا يعلم ان الصلاة فى الاصل
____________________
(20/492)
الا الدعاء وزيد في الشرع او نقل إلى الافعال المخصوصة فأما الأبنية فلا يعلم ذلك من نقل عن العرب وان سميت صلوات فانما هو استعارة لانها مواضع الصلوات ولو خلق الله فى الجدار ارادة لم يكن بها مريدا كما لو خلق فيه كلاما لم يكن به متكلما
واما قوله ان كلمة الله المراد بها عيسى نفسه فلا ريب ان المصدر يعبر به عن المفعول به فى لغة العرب كقولهم هذا درهم ضرب الامير ومنه قوله ( هذا خلق الله ) ومنه تسمية المامور به امرا والمقدور قدرة والمرحوم به رحمة والمخلوق بالكلمة كلمة لكن هذا اللفظ انما يستعمل مع ما يقترن به مما يبين المراد كقوله { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين } فبين ان الكلمة هو المسيح
ومعلوم ان المسيح نفسه ليس هو الكلام { قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } فبين لما تعجبت من الولد انه سبحانه يخلق ما يشاء اذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون فدل ذلك على ان هذا الولد مما يخلقه الله بقوله { كن فيكون } ولهذا قال احمد بن حنبل عيسى مخلوق بالكن ليس هو نفس الكن
____________________
(20/493)
ولهذا قال في الاية الاخرى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فقد بين مراده انه خلق بكن لا انه نفس كن ونحوها من الكلام
وكذلك قوله { الحج أشهر معلومات } قد علم انه لم يرد ان الافعال ازمنة وانما اراد الخبر عن زمان الحج ولهذا قال بعدها ( فمن فرض فيهن الحج ) والحج المفروض فيهن ليس هو الاشهر فعلم ان قوله ( اشهر ) لم يرد به نفس الفعل بل بين مراده بكلامه لما بين ( ان ) اللفظ لا يدل على ان الافعال ازمنة
وكذلك قوله ( ولكن البر من اتقى ) لما قال { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى } دل الكلام على ان مراده ولكن البر هو التقوى فلا يوجد مثل هذا الاستعمال الا مع ما يبين المراد وحينئذ فهو مستعمل مع قيد يبين المراد هنا كما هو مستعمل فى موضع آخر مع قيد يبين المراد هناك وبين المعنيين اشتراك وبينهما امتياز بمنزلة الاسماء المترادفة والمتباينة كلفظ الصارم والمهند والسيف فانها تشترك فى دلالتها على الذات فهي من هذا الوجه كالمتواطئة ويمتاز كل منها بدلالته على معنى خاص فتشبه المتباينة واسماء الله وأسماء رسوله وكتابه من هذا الباب
____________________
(20/494)
وكذلك ما يعرف باللام لام العهد ينصرف فى كل موضع إلى ما يعرفه المخاطب اما بعرف متقدم واما باللفظ المتقدم وان كان غير هذا المراد ليس هو ذاك لكن بينهما قدر مشترك وقدر فارق كقوله تعالى { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول } وقال تعالى { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } ففي الموضعين لفظ الرسول ولام التعريف لكن المعهود المعروف هناك هو رسول فرعون وهو موسى عليه السلام والمعروف المعهود هنا عند المخاطبين بقوله ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم ) هو محمد وكلاهما حقيقة والاسم متواطىء وهو معرف باللام فى الموضعين لكن العهد فى احد الموضعين غير العهد فى الموضع الاخر وهذا احد الاسباب التى بها يدل اللفظ فان لام التعريف لا تدل الا مع معرفة المخاطب بالمعهود المعروف
وكذلك اسم الاشارة كقوله هذا وهؤلاء واولئك انما يدل فى كل موضع على المشار إليه هناك فلابد من دلالة حالية اولفظية تبين ان المشار إليه غير لفظ الاشارة فتلك الدلالة لا يحصل المقصود الا بها وبلفظ الاشارة كما ان لام التعريف لا يحصل المقصود الا بها
____________________
(20/495)
وبالمعهود ومثل هذه الدلالة لا يقال انها مجاز والا لزم ان تكون دلالة اسماء الاشارة بل والضمائر ولام العهد وغير ذلك مجازا وهذا لا يقوله عاقل وان قاله جاهل دل على انه لم يعرف دلالة الالفاظ وظن ان الحقائق تدل بدون هذه الامور التى لابد منها فى دلالة اللفظ بل لا يدل شيء من الالفاظ الا مقرونا بغيره من الالفاظ وبحال المتكلم الذي يعرف عادته بمثل ذلك الكلام والا فنفس استماع اللفظ بدون المعرفة للمتكلم وعادته لا يدل على شيء اذا كانت دلالتها دلالة قصدية إرادية تدل على ما أراد المتكلم أن يدل بها عليه لا تدل بذاتها فلابد أن تعرف ما يجب أن يريده المتكلم بها ولهذا لا يعلم بالسمع بل بالعقل مع السمع
ولهذا كانت دلالة الألفاظ على معانيها سمعية عقلية تسمى الفقه ولهذا يقال لمن عرفها هو يفقه ولمن لم يعرفها لا يفقه قال تعالى { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } وقال تعالى { وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا } وقال { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان }
____________________
(20/496)
المقصود من اصول الفقه ان يفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنة
تم بحمد الله وتوفيقه لا اله الا هو وصلى الله على نبيه وحبيبه وافضل خلقه محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل
____________________
(20/497)
وقال رحمه الله فصل فى (
أصول العلم والدين )
قال الله تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } إلى قوله { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وقال تعالى { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } وقال تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }
وفى التشهد ( التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك ايها النبى ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين )
وهذه الاصول التى امر بها عمر بن الخطاب لشريح حيث قال اقض بما فى كتاب الله فان لم يكن فبما فى سنة رسول الله فان لم يكن فبما اجتمع عليه الناس وفى رواية فبما قضى به الصالحون
وكذلك قال بن مسعود من سئل عن شيء فليفت بما فى كتاب
____________________
(20/498)
الله فان لم يكن فبما فى سنة رسول الله فان لم يكن فبما اجتمع عليه الناس وكذلك روى نحوه عن بن عباس وغيره ولذلك قال العلماء الكتاب والسنة والاجماع وذلك أنه أوجب طاعتهم اذا لم يكن نزاع ولم يأمر بالرد إلى الله والرسول الا اذا كان نزاع
فدل من وجهين من جهة وجوب طاعتهم ومن جهة ان الرد إلى الكتاب والسنة انما وجب عند النزاع فعلم أنه عند عدم النزاع لا يجب وان جاز لأن اتفاقهم دليل على موافقة الكتاب والسنة وأمر بموالاتهم والموالاة تقتضى الموافقة والمتابعة كما أن المعاداة تقتضى المخالفة والمجانبة فمن وافقته مطلقا فقد واليته مطلقا ومن وافقته فى غالب الأمور فقد واليته فى غالبها ومورد النزاع لم تواله فيه وان لم تعاده
فأما الأمر باتباع الكتاب والسنة فكثير جدا كقوله { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } { فاتبعوه واتقوا } { واتبعوا النور الذي أنزل معه } و { يتبعون الرسول النبي الأمي } { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } { فلا وربك لا يؤمنون } الاية { فردوه إلى الله والرسول } { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }
____________________
(20/499)
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } وهذا كثير
واما السلف فآيات احدها ما تقدم مثل قوله { وأولي الأمر } وقوله { فإن تنازعتم } وقوله { والمؤمنين } وقوله { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } ولو خرج المؤمنون عن الحق والهدى لما كانت لهم العزة اذ ذاك من تلك الجهة لآن الباطل والضلال ليس من الايمان الذى يستحق به العزة والعزة مشروطة بالايمان لقوله { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }
ومنها قوله { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } أمر بسؤاله الهداية إلى صراطهم وقال { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } الآية وفيها الدلالة
ومنها قوله { واتبع سبيل من أناب إلي } والسلف المؤمنون منيبون أي فيجب اتباع سبيلهم
ومنها قوله { اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } والسلف كذلك
ومنها قوله { ويتبع غير سبيل المؤمنين } ومن خرج عن اجماعهم
____________________
(20/500)
فقد اتبع غير سبيلهم
ومنها قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } وقوله { ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس } وقال قوم عيسى { فاكتبنا مع الشاهدين } فى ال عمران والمائدة لان لنا الشاهدة ولهم العبادة بلا شهادة والامة الوسط العدل الخيار والشهداء على الناس لابد أن يكونوا عالمين عادلين كالرسول ولهذا قال فى الجنازة ( وجبت وجبت ) وقال ( أنتم شهداء الله فى الارض ) وقال ( توشكوا ان تعلموا أهل الجنة من أهل النار بالثناء الحسن والثناء السىء ) فعلم أن شهادتهم مقبولة فيما يشهدون عليه من الاشخاص والأفعال ولو كانوا قد يشهدون بما ليس بحق لم يكونوا شهداء مطلقا
ومنها قوله ( كنتم خير امة اخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) وفيها أدلة مثل قوله ( خير أمة ) ومثل قوله ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) فلابد ان يامروا بكل معروف وينهوا عن كل منكر والصواب فى الاحكام معروف والخطأ منكر
____________________
(20/501)
ومنها قوله { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ومنها قول الخليل { رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين } وقول يوسف { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } ومنها قوله { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } والرضوان لا يكون مع اتفاقهم واصرارهم على ذنب او خطأ فان ذلك مقتضاه العفو
ومنها قوله { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وقوله { وسلام على عباده الذين اصطفى } فانه يدل من وجهين من جهة ان الاصطفاء يقتضى التصفية وذلك لا يكون مع الاتفاق والاصرار على الذنب والخطأ والثانى التسليم عليهم وذلك يقتضى سلامتهم من العيوب كما سلم على المرسلين وعلى نوح وعلى المسيح
ومنها قوله { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ومنها قوله { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } فانه يدل على انه هدى فى كل شيء وقوله { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } فانه يقتضى اخراجهم من كل ظلمة
____________________
(20/502)
ومنها قوله { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور } وقوله { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور } ومنها قوله { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وما كان نحوها من الامر بالجماعة والنهى عن الفرقة
____________________
(20/503)
وسئل شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله
عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص او قول الصحابة او بعضهم وربما كان حكما مجمعا عليه
فمن ذلك قولهم تطهير الماء اذا وقع فيه نجاسة خلاف القياس بل وتطهير النجاسة على خلاف القياس والتوضؤ من لحوم الابل على خلاف القياس والفطر بالحجامة على خلاف القياس والسلم على خلاف القياس والاجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والقرض وصحة صوم المفطر ناسيا والمضي فى الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس وغير ذلك من الاحكام فهل هذا القول صواب ام لا وهل يعارض القياس الصحيح النص ام لا
فاجاب الحمد
لله رب العالمين أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والقياس الفاسد
فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين
____________________
(20/504)
المتماثلين والفرق بين المختلفين الاول قياس الطرد والثاني قياس العكس وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله
فالقياس الصحيح مثل ان تكون العلة التى علق بها الحكم فى الاصل موجودة فى الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ومثل هذا القياس لا تأتى الشريعة بخلافه قط وكذلك القياس بالغاء الفارق وهو ان لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع فمثل هذا القياس لا تأتى الشريعة بخلافه وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الانواع بحكم يفارق به نظائره فلا بد ان يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل ان يعلم صحته كل أحد فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس فانما هو مخالف للقياس الذي انعقد فى نفسه ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت فى نفس الامر
وحيث علمنا ان النص جاء بخلاف قياس علمنا قطعا انه قياس فاسد بمعنى ان صورة النص امتازت عن تلك الصور التى يظن انها مثلها بوصف اوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم فليس فى الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد وان كان من الناس من لا يعلم فساده
____________________
(20/505)
ونحن نبين أمثلة ذلك مما ذكر في السؤال فالذين قالوا المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس ظنوا ان هذه العقود من جنس الاجارة لانها عمل بعوض والاجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض فلما رأوا العمل فى هذه العقود غير معلوم والربح فيها غير معلوم قالوا تخالف القياس وهذا من غلطهم فان هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات الخاصة التى يشترط فيها العلم بالعوضين والمشاركات جنس غير جنس المعاوضة وان قيل ان فيها شوب المعاوضة
وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة الخاصة وان كان فيها شوب معاوضة حتى ظن بعض الفقهاء انها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص
وايضاح هذا ان العمل الذى يقصد به المال ثلاثة أنواع
أحدها ان يكون العمل مقصودا معلوما مقدورا على تسليمه فهذه الاجارة اللازمه
والثاني ان يكون العمل مقصودا لكنه مجهول او غرر فهذه الجعالة وهي عقد جائز ليس بلازم فاذا قال من رد عبدى الآبق فله مائة فقد يقدر على رده وقد لا يقدر وقد يرده من مكان قريب وقد
____________________
(20/506)
يرده من مكان بعيد فلهذا لم تكن لازمة لكن هي جائزة فان عمل هذا العمل استحق الجعل والا فلا ويجوز ان يكون الجعل فيها اذا حصل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم مثل ان يقول امير الغزو من دل على حصن فله ثلث ما فيه ويقول للسرية التى يسريها لك خمس ما تغنمين او ربعه
وقد تنازع العلماء فى سلب القاتل هل هو مستحق بالشرع كقول الشافعى او بالشرط كقول ابى حنيفة ومالك على قولين هما روايتان عن احمد فمن جعله مستحقا بالشرط جعله من هذا الباب
ومن هذا الباب اذا جعل للطبيب جعلا على شفاء المريض جاز كما أخذ اصحاب النبى الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي فرقاه بعضهم حتى برا فاخذوا القطيع فان الجعل كان على الشفاء لا على القراءة ولو استأجر طبيبا اجارة لازمة على الشفاء لم يجز لان الشفاء غير مقدور له فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الاجارة اللازمة
واما النوع الثالث فهو مالا يقصد فيه العمل بل المقصود المال وهوالمضاربة فان رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كما للجاعل والمستاجر قصد فى عمل العامل ولهذا لو عمل
____________________
(20/507)
ما عمل ولم يربح شيئا لم يكن له شيء وان سمى هذا جعالة بجزء مما يحصل بالعمل كان نزاعا لفظيا بل هذه مشاركة هذا بنفع بدنه وهذا بنفع ماله وما قسم الله من الربح كان بينهما على الاشاعة ولهذا لا يجوز ان يخص احدهما بربح مقدر لان هذا يخرجهما عن العدل الواجب فى الشركة
وهذا هو الذي نهى عنه من المزارعة فانهم كانوا يشرطون لرب المال زرع بقعة بعينها وهو ما ينبت على الماذيانات واقبال الجداول ونحو ذلك فنهى النبى عن ذلك ولهذا قال الليث بن سعد وغيره ان الذي نهى عنه هو امر اذا نظرفيه ذو البصر بالحلال والحرام علم انه لا يجوز او كما قال فبين ان النهي عن ذلك موجب القياس فان مثل هذا لو شرط في المضاربة لم يجز لان مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين فاذا خص احدهما بربح دون الاخر لم يكن هذا عدلا بخلاف ما اذا كان لكل منهما جزء شائع فإنهما يشتركان فى المغنم وفى المغرم فان حصل ربح اشتركا فى المغنم وان لم يحصل ربح اشتركا فى الحرمان وذهب نفع بدن هذا كما ذهب نفع مال هذا ولهذا كانت الوضيعة على المال لان ذلك فى مقابلة ذهاب نفع العامل
____________________
(20/508)
ولهذا كان الصواب انه يجب فى المضاربة الفاسدة ربح المثل لا اجرة المثل فيعطى العامل ما جرت به العادة ان يعطاه مثله من الربح اما نصفه واما ثلثه واما ثلثاه فاما ان يعطى شيئا مقدرا مضمونا فى ذمة المالك كما يعطى فى الاجارة والجعالة فهذا غلط ممن قاله وسبب الغلط ظنه ان هذا اجارة فاعطاه في فاسدها عوض المثل كما يعطيه فى المسمى الصحيح ومما يبين غلط هذا القول ان العامل قد يعمل عشر سنين فلو اعطى اجرة المثل لأعطي اضعاف راس المال وهو في الصحيحة لا يستحق الا جزءا من الربح ان كان هناك ربح فكيف يستحق فى الفاسدة اضعاف ما يستحقه فى الصحيحة
وكذلك الذين ابطلوا المزارعة والمساقاة ظنوا انها اجارة بعوض مجهول فابطلوها وبعضهم صحح منها ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم امكان اجارتها بخلاف الارض فانه تمكن اجارتها وجوزوا من المزارعة ما يكون تبعا للمساقاة اما مطلقا واما اذا كان البياض الثلث وهذا كله بناء على ان مقتضى الدليل بطلان المزارعة وانما جوزت للحاجة
ومن اعطى النظر حقه علم ان المزارعة ابعد عن الظلم والقمار من الاجارة باجرة مسماة مضمونة في الذمة فان المستاجر انما يقصد الانتفاع بالزرع النابت فى الارض فاذا وجب عليه الاجرة ومقصوده من
____________________
(20/509)
الزرع قد يحصل وقد لا يحصل كان فى هذا حصول احد المتعاوضين على مقصوده دون الاخر واما المزارعة فان حصل الزرع اشتركا فيه وان لم يحصل شيء اشتركا فى الحرمان فلا يختص احدهما بحصول مقصوده دون الاخر فهذا اقرب إلى العدل وابعد عن الظلم من الاجارة
والاصل فى العقود جميعها هو العدل فانه بعثت به الرسل وانزلت الكتب قال تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم وعن الميسر لما فيه من الظلم والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا وكلاهما أكل المال بالباطل وما نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم من المعاملات كبيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع السنين وبيع حبل الحبلة وبيع المزابنة والمحاقلة ونحو ذلك هي داخلة اما فى الربا واما في الميسر فالاجارة بالاجرة المجهولة مثل ان يكريه الدار بما يكسبه المكتري فى حانوته من المال هو من الميسر فهذا لا يجوز واما المضاربة والمساقاة والمزارعة فليس فيها شيء من الميسر بل هو من اقوم العدل
وهذا مما يبين لك ان المزارعة التى يكون فيها البذر من العامل
____________________
(20/510)
احق بالجواز من المزارعة التى يكون فيها من رب الارض ولهذا كان اصحاب رسول الله يزارعون على هذا الوجه وكذلك عامل النبى اهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على ان يعمروها من اموالهم
والذين اشترطوا ان يكون البذر من رب الارض قاسوا ذلك على المضاربة فقالوا في المضاربة المال من واحد والعمل من آخر وكذلك ينبغى ان يكون فى المزارعة وجعلوا البذر من رب المال كالارض
وهذا القياس مع انه مخالف للسنة ولاقوال الصحابة فهو من افسد القياس وذلك ان المال فى المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فهو نظير الارض فى المزارعة واما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الارض فالحاقة بالنفع الذاهب اولى من الحاقة بالاصل الباقى فالعاقد اذا اخرج البذر ذهب عمله وبذره ورب الارض ذهب نفع ارضه وبذر هذا كارض هذا فمن جعل البذر كالمال كان ينبغي له ان يعيد مثل البذر إلى صاحبه كما قال مثل ذلك فى المضاربة فكيف ولو اشترط رب البذر نظير عود بذره إليه لم يجوزوا ذلك
____________________
(20/511)
وليس هذا موضع بسط هذه المسائل وانما الغرض التنبيه على جنس قول القائل هذا يخالف القياس فصل
واما ( الحوالة ( فمن قال تخالف القياس قال انها بيع دين بدين وذلك لا يجوز وهذا غلط من وجهين
أحدهما ان بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا اجماع وانما ورد النهى عن بيع الكالىء وبالكالىء والكالئ هو المؤخر الذى لم يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض وهذا كما لو اسلم شيئا فى شيء فى الذمة وكلاهما مؤخر فهذا لا يجوز بالاتفاق وهو بيع كالىء بكالىء واما بيع الدين بالدين فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرناه وينقسم إلى بيع ساقط بساقط وساقط بواجب وهذا فيه نزاع
الوجه الثانى ان الحوالة من جنس ايفاء الحق لا من جنس البيع فان صاحب الحق اذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء فاذا احاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي له فى ذمة المحيل ولهذا ذكر النبى
____________________
(20/512)
الحوالة فى معرض الوفاء فقال في الحديث الصحيح ( مطل الغنى ظلم واذا اتبع احدكم على ملىء فليتبع ( فامر المدين بالوفاء ونهاه عن المطل وبين انه ظالم اذا مطل وامر الغريم بقبول الوفاء اذا احيل على ملىء وهذا كقوله تعالى { فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } امر المستحق ان يطالب بالمعروف وامر المدين ان يؤدي باحسان
ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص وان كان فيه شوب المعاوضة وقد ظن بعض الفقهاء ان الوفاء انما يحصل باستيفاء الدين بسبب ان الغريم اذا قبض الوفاء صار فى ذمته للمدين مثله يتقاص ما عليه بماله وهذا تكلف انكره جمهور الفقهاء وقالوا بل نفس المال الذي قبضه يحصل به الوفاء ولا حاجة ان نقدر فى ذمة المستوفى دينا واولئك قصدوا ان يكون وفاء الدين بدين وهذا لا حاجة إليه بل الدين من جنس المطلق الكلي والمعين من جنس المعين فمن ثبت فى ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الاعيان الموجودة واي معين استوفاه حصل به المقصود من ذلك الدين المطلق
____________________
(20/513)
فصل
ومن قال القرض خلاف القياس قال لانه بيع ربوي بجنسه من غير قبض وهذا غلط فان القرض من جنس التبرع بالمنافع كالعارية ولهذا سماه النبى منيحة فقال ( او منيحة ذهب او منيحة ورق ( وباب العارية اصلة ان يعطيه اصل المال لينتفع بما يستخلف منه ثم يعيده إليه فتارة ينتفع بالمنافع كما فى عارية العقار وتارة يمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم يعيدها وتارة يعيره شجرة ليأكل ثمرها ثم يعيدها فان اللبن والثمر يستخلف شيئا بعد شيء بمنزلة المنافع ولهذا كان في الوقف يجرى مجرى المنافع والمقرض يقرضه ما يقرضه لينتفع به ثم يعيد له بمثله فان اعادة المثل تقوم مقام اعادة العين ولهذا نهي ان يشترط زيادة على المثل كما لو شرط فى العارية ان يرد مع الاصل غيره
وليس هذا من باب البيع فان عاقلا لا يبيع درهما بمثله من كل وجه إلى اجل ولا يباع الشيء بجنسه إلى اجل الا مع اختلاف الصفة او القدر كما يباع نقد بنقد آخر وصحيح بمكسور ونحو ذلك
____________________
(20/514)
ولكن قد يكون فى القرض منفعة للمقرض كما في مسالة السفتجة ولهذا كرهها من كرهها والصحيح انها لا تكره لان المقترض ينتفع بها ايضا ففيها منفعة لهما جميعا اذا اقرضه فصل
وأما قول من يقول ازالة النجاسة على خلاف القياس والنكاح على خلاف القياس ونحو ذلك فهو من افسد الاقوال وشبهتهم انهم يقولون الانسان شريف والنكاح فيه ابتذال المراة وشرف الانسان ينافي الابتذال وهذا غلط فان النكاح من مصلحة شخص المراة ونوع الانسان والقدر الذي فيه من كون الذكر يقوم على الانثى هو من الحكمة التى بها تتم مصلحة جنس الحيوان فضلا عن نوع الانسان ومثل هذا الابتذال لا ينافى الانسانية كما لا ينافيها ان يتغوط الانسان اذا احتاج إلى ذلك وان ياكل ويشرب وان كان الاستغناء عن ذلك اكمل بل ما احتاج إليه الانسان وحصلت له به مصلحته فانه لا يجوز ان يمنع منه والمراة محتاجة إلى النكاح وهو من تمام مصلحتها فكيف يقال القياس يقتضى منعها ان تتزوج
وكذلك ازالة النجاسة فان شبهة من قال انها تخالف القياس ان
____________________
(20/515)
الماء اذا لاقاها نجس الماء ثم اذا صب ماء آخر لاقى الاول وهلم جرا قالوا فكان القياس انه تنجس المياه المتلاحقة والنجس لا يزيل النجس
وهذا غلط فانه يقال لم قلتم القياس يقتضى ان الماء اذا لاقى النجاسة نجس
فان قلتم لانه فى بعض الصور كذلك قيل الحكم فى الاصل ممنوع عند من يقول الماء لا ينجس الا بالتغير ومن سلم الاصل قال ليس جعل الازالة مخالفة للقياس باولى من جعل تنجس الماء مخالفا للقياس بان يقال القياس يقتضى ان الماء اذا لاقى نجاسة لا ينجس كما انه اذا لاقاها حال الازالة لا ينجس فهذا القياس اصح من ذلك لان النجاسة تزول بالماء بالنص والاجماع واما تنجس الماء بالملاقاة فمورد نزاع فكيف يجعل مواقع النزاع حجة على مواقع الاجماع والقياس ان يقاس موارد النزاع على مواقع الاجماع
ثم يقال الذي يقتضيه المعقول ان الماء اذا لم تغيره النجاسة لا ينجس فانه باق على اصل خلقه وهو طيب داخل فى قوله تعالى { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } وهذا هو القياس فى المائعات جميعها اذا وقعت فيها نجاسة فاستحالت حتى لم يظهر طعمها
____________________
(20/516)
ولا لونها ولا ريحها ان لا تنجس فقد تنازع الفقهاء هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة الا مااستثناه الدليل او القياس يقتضي انه لا ينجس اذا لم يتغير على قولين والأول قول أهل العراق والثاني قول اهل الحجاز
وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ومنهم من يختار هذا وهم اهل الحجازوهو الصواب الذي تدل عليه الاصول والنصوص والمعقول فان الله اباح الطيبات وحرم الخبائث والطيب والخبث باعتبار صفات قائمة بالشيء فما دام على حاله فهو طيب فلا وجه لتحريمه ولهذا لو وقعت قطرة خمر فى جب لم يجلد شاربه
والذين يسلمون ان القياس نجاسة الماء بالملاقاة فرقوا بين ملاقاته في الازالة وبين غيرها بفروق
منهم من قال الماء ها هنا وارد على النجاسة وهناك وردت النجاسة عليه وهذا ضعيف فانه لو صب ماء فى جب نجس ينجس عندهم
ومنهم من قال الماء اذا كان في مورد التطهير لازالة الخبث او الحدث لم يثبت له حكم النجاسة ولا الاستعمال الا اذا انفصل واما قبل الانفصال فلا يكون مستعملا ولا نجسا وهذا حكاية مذهب ليس فيه حجة
____________________
(20/517)
ومنهم من قال الماء فى حال الازالة جار والماء الجاري لا ينجس الا بالتغير وهومذهب ابي حنيفة ومالك وهو انص الروايتين عن احمد وهو القول القديم للشافعي ولكن ازالة النجاسة تارة تكون بالجريان وتارة تكون بدونه كما لو صب الماء على الثوب فى الطست
فالصواب ان مقتضى القياس ان الماء لا ينجس الا بالتغير والنجاسة لا تزول به حتى يكون غير متغير واما في حال تغيره فهو نجس لكن تخفف به النجاسة واما الازالة فانما تحصل بالماء الذي ليس بمتغير
وهذا القياس فى الماء هو القياس فى المائعات كلها انها لا تنجس اذا استحالت النجاسة فيها ولم يبق لها فيها اثر فانها حينئذ من الطيبات لا من الخبائث وهذا القياس هو القياس في قليل الماءوكثيره وقليل المائع وكثيره فان قام دليل شرعى على نجاسة شيء من ذلك فلا نقول انه خلاف القياس بل نقول دل ذلك على ان النجاسة ما استحالت
ولهذا كان اظهر الاقوال فى المياه مذهب اهل المدينة والبصرة انه لا ينجس الا بالتغير وهو احدى الروايات عن الامام احمد نصرها طائفة من اصحابه كالامام ابى الوفاء بن عقيل وابى محمد بن المني
____________________
(20/518)
وكذلك الماء المستعمل فى طهارة الحدث باق على طهوريته وقد صح عن النبى انه قال ( الماء لا ينجس ( فلا يصير الماء جنبا ولا يتعدى إليه حكم الجنابة ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول فى الماء الدائم او عن الاغتسال فيه لا يدل على انه يصير نجسا بذلك بل قد نهى عنه لما يفضي إليه البول بعد البول من افساده او لما يؤدى إلى الوسواس كما نهى عن بول الرجل فى مستحمه وقال ( عامة الوسواس منه ( ونهيه عن الاغتسال قد جاء فيه انه نهى عن الاغتسال فيه بعد البول وهذا يشبه نهيه عن بول الانسان فى مستحمه
وقد ثبت في الصحيح عنه انه سئل عن فأرة وقعت فى سمن فقال ( ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ( والتفريق المروي فيه ( ان كان جامدا فألقوهاوما حولها وان كان مائعا فلا تقربوه ( غلط كما بينه البخاري والترمذي وغيرهما وهو من غلط معمر فيه وبن عباس رواية افتى فيما اذا ماتت ان تلقى وما حولها ويؤكل فقيل لهما انها قد دارت فيه فقال انما ذاك لما كانت حية فلما ماتت استقرت رواه احمد فى مسائل ابنه صالح وكذلك الزهري راوي الحديث افتى فى الجامد والمائع القليل والكثير سمنا كان او زيتا او غير ذلك بأن تلقى وما قرب منها ويؤكل الباقى
____________________
(20/519)
واحتج بالحديث فكيف قد يكون روى فيه الفرق
وحديث القلتين ان صح عن النبى يدل على ذلك ايضا فان قوله ( اذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ( وفى اللفظ الآخر ( لم ينجسه شيء ( يدل على ان الموجب لنجاسته كون الخبث فيه محمولا فمتى كان مستهلكا فيه لم يكن محمولا فمنطوق الحديث وتعليله لم يدل على ذلك
واما تخصيص القلتين بالذكر فانهم سألوه عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب وذلك الماء الكثير في العادة فبين ان مثل ذلك لا يكون فيه خبث في العادة بخلاف القليل فانه قد يحمل الخبث وقد لا يحمله فان الكثرة تعين على احالة الخبث إلى طبعه والمفهوم لايجب فيه العموم فليس إذا كان القلتان لاتحمل الخبث يلزم ان ما دونها يلزمه مطلقا على ان التخصيص وقع جوابا لأناس سألوه عن مياه معينة فقد يكون التخصيص لأن هذه كثيرة لا تحمل الخبث والقلتان كثير ولا يلزم ان لا يكون الكثير الا قلتين والا فلو كان هذا حدا فاصلا بين الحلال والحرام لذكره ابتداء ولأن الحدود الشرعية تكون معروفة كنصاب الذهب والمعشرات ونحو ذلك والماء الذى تقع فيه النجاسة لا يعلم كيله الا خرصا ولا يمكن كيله فى العادة فكيف يفصل بين
____________________
(20/520)
الحلال والحرام بما يتعذر معرفته على غالب الناس فى غالب الاوقات وقد أطلق فى غيرحديث قوله ( الماء طهور لاينجسه شيء ( و ( الماء لايجنب ( ولم يقدره مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ومنطوق هذا الحديث يوافق تلك ومفهومه انما يدل عند من يقول بدلالة المفهوم اذا لم يكن هناك سبب يوجب التخصيص بالذكر لا الاختصاص بالحكم وهذا لا يعلم هنا
وحديث الامر باراقة الاناء من ولوغ الكلب لأن الآنية التى يلغ فيها الكلب فى العادة صغيرة ولعابه لزج يبقى فى الماء ويتصل بالاناء فيراق الماء ويغسل الاناء من ريقه الذى لم يستحل بعد بخلاف ما اذا ولغ فى اناء كبير وقد نقل حرب عن أحمد فى كلب ولغ فى جب كبير فيه زيت فامره بأكله
وبسط هذه المسائل له موضع آخر وانما المقصود التنبيه على مخالفة القياس وموافقته ( فصل (
وقول القائل ان تطهير الماء على خلاف القياس هو بناء على هذا الاصل الفاسد والا فمن كان من أصله ان القياس ان الماء لا
____________________
(20/521)
ينجس الا بالتغير فالقياس عنده تطهيره فان الحكم اذا ثبت بعلة زال بزوالها واذا كانت العلة التغير فاذا زال التغير زالت النجاسة كما أن العلة لما كانت فى الخمر الشدة المطربة فاذا زالت طهرت كيف والنجاسة فى الماء واردة عليه كنجاسة الارض ولكن قد يقال هذا مبنى على ( مسالة الاستحالة ) وفيها نزاع مشهور ففى مذهب مالك واحمد قولان ومذهب ابى حنيفة واهل الظاهر انها تطهر بالاستحالة ومذهب الشافعى لا تطهر بالاستحالة
وقول القائل انها تطهر بالاستحالة اصح فان النجاسة اذا صارت ملحا او رمادا فقد تبدلت الحقيقة وتبدل الاسم والصفة فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير لا تتناول الملح والرماد والتراب لالفظا ولا معنى والمعنى الذى لاجله كانت تلك الاعيان خبيثة معدوم فى هذه الاعيان فلا وجه للقول بانها خبيثة نجسة والذين فرقوا بين ذلك وبين الخمر قالوا الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة فيقال لهم وكذلك البول والدم والعذرة انما نجست بالاستحالة فينبغى ان تطهر بالاستحالة فصل
واما قول القائل التوضؤ من لحوم الابل على خلاف القياس فهذا انما قاله لأنها لحم واللحم لا يتوضأ منه وصاحب الشرع قد
____________________
(20/522)
فرق بين لحم الغنم ولحم الابل كما فرق بين معاطن هذه ومبارك هذه فامر بالصلاة فى هذا ونهى عن الصلاة فى هذا فدعوى المدعى ان القياس التسوية بينهما من جنس قول الذين قالوا { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } والفرق بينهما ثابت فى نفس الامر كما فرق بين اصحاب الابل واصحاب الغنم فقال ( الفخر والخيلاء فى الفدادين اصحاب الابل والسكينة فى اهل الغنم ) وروى فى الابل ( انها جن خلقت من جن ) وروى ( على ذروة كل بعير شيطان ) فالابل فيها قوة شيطانية والغاذى شبيه بالمغتذى
ولهذا حرم كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير لانها دواب عادية بالاغتذاء بها تجعل فى خلق الانسان من العدوان ما يضره فى دينه فنهى الله عن ذلك لأن المقصود ان يقوم الناس بالقسط والابل اذا أكل منها تبقى فيه قوة شيطانية
وفى الحديث الذى فى السنن عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وانما تطفأ النار بالماء ) قال النبى ( ) ( فاذا غضب أحدكم فليتوضأ ) فاذا توضأ العبد من لحوم الابل كان فى ذلك من اطفاء القوة الشيطانية ما يزيل المفسدة بخلاف من لم يتوضأ منها فان الفساد حاصل معه ولهذا يقال ان الاعراب بأكلهم لحوم الابل مع عدم
____________________
(20/523)
الوضوء منها صار فيهم من الحقد ما صار
ولهذا امر بالوضوء مما مست النار وهو حديث صحيح وقد ثبت فى أحاديث صحيحة أنه أكل مما مست النار ولم يتوضأ فقيل ان الأول منسوخ لكن لم يثبت ان ذلك متقدم على هذا بل رواه ابو هريرة واسلامه متأخر عن تاريخ بعض تلك الاحاديث كحديث السويق الذى كان بخيبر فانه كان قبل اسلام أبى هريرة وقيل بل الامر بالتوضؤ مما مست النار استحباب كالأمر بالتوضؤ من الغضب وهذا أظهر القولين وهما وجهان فى مذهب أحمد فان النسخ لا يصار إليه الا عند التنافى والتاريخ وكلاهما منتف بخلاف حمل الامر على الاستحباب فان له نظائر كثيرة
وكذلك التوضؤ من مس الذكر ومس النساء هو من هذا الباب لما فيه من تحريك الشهوة فالتوضؤ مما يحرك الشهوة كالتوضؤ من الغضب وما مسته النار هو من هذا الباب فان الغضب من الشيطان والشيطان من النار واما لحم الابل فقد قيل التوضؤ منه مستحب لكن تفريق النبى ( ) بينه وبين لحم الغنم مع ان ذلك مسته النار والوضوء منه مستحب دليل على الاختصاص وما فوق الاستحباب الا الايجاب ولان الشيطنة فى الابل لازمة وفيما مسته النار عارضة ولهذا نهى عن الصلاة فى أعطانها للزوم الشيطان لها بخلاف الصلاة فى مباركها فى السفر فانه جائز لأنه عارض والحشوش
____________________
(20/524)
محتضرة فهي أولى بالنهى من أعطان الابل و
كذلك الحمام بيت الشيطان وفى الوضوء من اللحوم الخبيثة عن أحمد روايتان على أن الحكم مما عقل معناه فيعدى أو ليس كذلك والخبائث التى أبيحت للضرورة كلحوم السباع أبلغ فى الشيطنة من لحوم الابل فالوضوء منها أولى
وقد تنازع العلماء فى الوضوء من النجاسة الخارجة من غير السبيلين كالفصاد والحجامة والجرح والقيء والوضوء من مس النساء لشهوة وغير شهوة والتوضؤ من مس الذكر والتوضؤ من القهقهة فبعض الصحابة كان يتوضأ من مس الذكر كسعد وبن عمر وكثير منهم لم يكن يتوضأ منه والوضوء منه هل هو واجب أو مستحب فيه عن مالك وأحمد روايتان وايجابه قول الشافعى وعدم الايجاب مذهب ابى حنيفة
وكذلك مس النساء لشهوة اذا قيل باستحبابه فهذا يتوجه وأما وجوب ذلك فلا يقوم الدليل الا على خلافه ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن النبى ( ) أنه كان يأمر أصحابه بالوضوء من مس النساء ولا من النجاسات الخارجة لعموم البلوى بذلك وقوله تعالى { أو لامستم النساء } المراد به الجماع كما فسره بذلك بن عباس وغيره
____________________
(20/525)
لوجوه متعددة وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) للمستحاضة ( انما ذلك عرق وليس بالحيضة ) تعليل لعدم وجوب الغسل لا لوجوب الوضوء فان وجوب الوضوء لا يختص بدم العروق بل كانت قد ظنت ان ذلك الدم هو دم الحيض الذى يوجب الغسل فبين لها النبى ( ) ان هذا ليس هو دم الحيض الذى يوجب الغسل فان ذلك يرشح من الرحم كالعرق وانما هذا دم عرق انفجر فى الرحم ودماء العروق لا توجب الغسل وهذه مسائل مبسوطة فى مواضع أخر
والمقصود هنا التنبيه على فساد ( قول ) من يدعى التناقض فى معانى الشريعة أو ألفاظها ويزعم ان الشارع يفرق بين المتماثلين بل نبينا محمد بعث بالهدى ودين الحق بالحكمة والعدل والرحمة فلا يفرق بين شيئين فى الحكم الا لافتراق صفاتهما المناسبة للفرق ولايسوى بين شيئين الا لتماثلهما فى الصفات المناسبة للتسوية والاظهر أنه لايجب الوضوء من مس الذكر ولا النساء ولا خروج النجاسات من غير السبيلين ولا القهقهة ولا غسل الميت فانه ليس مع الموجبين دليل صحيح بل الادلة الراجحة تدل على عدم الوجوب لكن الاستحباب متوجه ظاهر فيستحب ان يتوضأ
____________________
(20/526)
من مس النساء لشهوة ويستحب ان يتوضأ من الحجامة والقيء ونحوهما كما فى السنن ان النبى ( صلى الله عليه وسلم ) قاء فتوضأ والفعل انما يدل على الاستحباب ولم يثبت عنه أنه أمر بالوضوء من الحجامة ولا امر أصحابه بالوضوء اذا جرحوا مع كثرة الجراحات والصحابة نقل عنهم فعل الوضوء لا ايجابه
وكذلك القهقهة فى الصلاة ذنب ويشرع لكل من أذنب أن يتوضأ وفى استحباب الوضوء من القهقهة وجهان فى مذهب أحمد وغيره
وأما الوضوء من الحدث الدائم لكل صلاة ففيه أحاديث متعددة عن النبى ( ) قد صحح بعضها غير واحد من العلماء فقول الجمهور الذين يوجبون الوضوء لكل صلاة أظهر وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد والله أعلم فصل
وأما الحجامة فانما اعتقد ان الفطر منها مخالف للقياس من اعتقد ان الفطر مما خرج لا مما دخل وهؤلاء اشكل عليهم القيء والاحتلام ودم الحيض والنفاس
____________________
(20/527)
وأما من تدبر أصول الشرع ومقاصده فانه رأى الشارع لما أمر بالصوم أمر فيه بالاعتدال حتى كره الوصال وامر بتعجيل الفطر وتاخير السحور وجعل اعدل الصيام وأفضله صيام داود وكان من العدل ان لا يخرج من الانسان ما هو قيام قوته فالقيء يخرج الغذاء والاستمناء يخرج المنى والحيض يخرج الدم وبهذه الامور قوام البدن لكن فرق بين ما يمكن الاحتراز منه وما لا يمكن فالاحتلام لا يمكن الاحتراز منه وكذلك من ذرعه القيء وكذا دم الاستحاضة فانه ليس له وقت معين بخلاف دم الحيض فان له وقتا معينا فالمحتجم اخرج دمه وكذلك المفتصد بخلاف من خرج دمه بغير اختياره كالمجروح فان هذا لا يمكن الاحتراز منه فكانت الحجامة من جنس القيء والاستمناء والحيض وكان خروج دم الجرح من جنس الاستحاضة والاحتلام وذرع القيء فقد تناسبت الشريعة وتشابهت ولم تخرج عن القياس
والاظهر انه لا يفطر بالكحل ولا بالتقطير فى الاحليل ولا بابتلاع ما لا يغذى كالحصاة ولكن يفطر بالسعوط لقوله ( وبالغ فى الاستنشاق الا ان تكون صائما
____________________
(20/528)
فصل
وأما قولهم السلم على خلاف القياس فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النبى انه قال ( لا تبع ما ليس عندك وارخص فى السلم ) وهذا لم يرو فى الحديث وانما هو من كلام بعض الفقهاء وذلك انهم قالوا السلم بيع الانسان ما ليس عنده فيكون مخالفا للقياس ونهى النبى حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده اما ان يراد به بيع عين معينة فيكون قد باع مال الغير قبل ان يشتريه وفيه نظر واما ان يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه وان كان فى الذمة وهذا اشبه فيكون قد ضمن له شيئا لا يدرى هل يحصل اولا يحصل وهذا فى السلم الحال اذا لم يكن عنده ما يوفيه والمناسبة فيه ظاهرة
فاما السلم المؤجل فانه دين من الديون وهو كالابتياع بثمن مؤجل فاى فرق بين كون احد العوضين مؤجلا فى الذمة وكون العوض الاخر مؤجلا فى الذمة وقد قال تعالى { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } وقال بن عباس اشهد ان السلف المضمون
____________________
(20/529)
فى الذمة حلال فى كتاب الله وقرا هذه الاية فاباحه هذا على وفق القياس لا على خلافه
فصل
وأما الكتابة فقال من قال هي خلاف القياس لكونه بيع ماله بماله وليس كذلك بل باعه نفسه بمال فى الذمة والسيد لا حق له فى ذمة العبد وانما حقه فى بدنه فان السيد حقه مالية العبد في انسانيته فهو من حيث يؤمر وينهى انسان مكلف فيلزمه الايمان والصلاة والصيام لانه انسان والذمة العهد وانما يطالب العبد بما فى ذمته بعد عتقه وحينئذ لا ملك للسيد عليه فالكتابة بيعه نفسه بمال في ذمته ثم إذا اشترى نفسه كان كسبه له ونفعه له وهو حادث على ملكه الذى استحقه بعقد الكتابة لكن لا يعتق فيها الا بالاذن لان السيد لم يرض بخروجه من ملكه إلا بأن يسلم له العوض فمتى لم يحصل له العوض وعجز العبد عنه كان له الرجوع فى المبيع وهذا هو القياس فى المعاوضات
ولهذا يقول اذا عجز المشترى عن الثمن لإفلاسه كان للبائع الرجوع فى المبيع فالعبد المكاتب مشتر لنفسه فعجزه عن أداء العوض كعجز المشترى وهذا القياس فى جميع المعاوضات اذا عجز
____________________
(20/530)
المعاوض عما عليه من العوض كان للاخر الرجوع في عوضه ويدخل فى ذلك عجز الرجل عن الصداق وعجز الزوج عن الوطء وطرده عجز الرجل عن العوض في الخلع والصلح عن القصاص
فصل
وأما الاجارة فالذين قالوا هي على خلاف القياس قالوا انها بيع معدوم لان المنافع معدومة حين العقد وبيع المعدوم لا يجوز
ثم ان القرآن جاء باجارة الظئر للرضاع فى قوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فقال كثير من الفقهاء ان اجارة الظئر للرضاع على خلاف قياس الاجارة فان الاجارة عقد على منافع واجارة الظئر عقد على اللبن واللبن من باب الاعيان لا من باب المنافع ومن العجب انه ليس فى القرآن ذكر اجارة جائزة الا هذه وقالوا هذه خلاف القياس والشيء انما يكون خلاف القياس اذا كان النص قد جاء فى موضع بحكم وجاء فى موضع يشابه ذلك بنقيضة فيقال هذا خلاف لقياس ذلك النص وليس فى القران ذكر الاجارة الباطلة حتى يقال القياس يقتضي بطلان هذه الاجارة بل فيه ذكر جواز هذه الاجارة وليس فيه ذكر فساد أجارة تشبهها بل ولا في السنة بيان اجارة فاسدة تشبه هذه وانما اصل قولهم
____________________
(20/531)
ظنهم ان الاجارة الشرعية انما تكون على المنافع التى هي أعراض لا على أعيان هي اجسام وسنبين ان شاء الله كشف هذه الشبهة
ولما اعتقد هؤلاء ان اجارة الظئر على خلاف القياس صار بعضهم يحتال لا جرائها على القياس الذي اعتقدوه فقالوا المعقود عليه فيها هو إلقام الثدي او وضعه فى الحجر او نحو ذلك من المنافع التى هي مقدمات الرضاع ومعلوم ان هذه الاعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الاجارة والا فهي بمجردها ليست مقصودة ولا معقودا عليها بل ولاقيمة لها اصلا وانما هو كفتح الباب لمن اكترى دارا او حانوتا او كصعود الدابه لمن اكترى دابه ومقصود هذا هو السكنى ومقصود هذا هو الركوب وانما هذه الاعمال مقدمات ووسائل إلى المقصود بالعقد
ثم هؤلاء الذين جعلوا اجارة الظئر على خلاف القياس طردوا ذلك فى مثل ماء البئر والعيون التى تنبع فى الأرض فقالوا أدخلت ضمنا وتبعا فى العقد حتى أن العقد إذا وقع على نفس الماء كالذي يعقد على عين تنبع ليسقى بها بستانه او ليسوقها إلى مكانه ليشرب منها وينتفع بمائها قالوا المعقود عليه الاجراء فى الارض او نحو ذلك مما يتكلفونه ويخرجوا الماء المقصود بالعقود عن أن يكون معقودا عليه
____________________
(20/532)
ونحن ننبه على هذين الاصلين على قول من جعل الإجارة على خلاف القياس وعلى قول من جعل اجارة الظئر ونحوها على خلاف القياس
أما الاول فنقول قولهم الاجارة بيع معدوم وبيع المعدوم على خلاف القياس مقدمتان مجملتان فيهما تلبيس فان قولهم الاجارة بيع ان ارادوا انها البيع الخاص الذي يعقد على الاعيان فهو باطل وان أرادوا البيع العام الذي هو معاوضة اما على عين واما على منفعة فقولهم فى المقدمة الثانية ان بيع المعدوم لا يجوز انما يسلم ان سلم في الاعيان لا فى المنافع ولما كان لفظ البيع يحتمل هذا وهذا تنازع الفقهاء فى الاجارة هل تنعقد بلفظ البيع على وجهين
والتحقيق ان المتعاقدين ان عرفا المقصود انعقدت فأي لفظ من الالفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما انعقد به العقد وهذا عام فى جميع العقود فان الشارع لم يحد فى الفاظ العقود حدا بل ذكرها مطلقة فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الالفاظ الفارسية والرومية وغيرهما من الالسن العجمية فهي تنعقد بما يدل عليها من الالفاظ العربية ولهذا وقع الطلاق والعتاق بكل لفظ يدل عليه وكذلك البيع وغيره
وطرد هذا النكاح فان اصح قولي العلماء انه ينعقد بكل لفظ
____________________
(20/533)
يدل عليه لا يختص بلفظ الانكاح والتزويج وهذا مذهب جمهور العلماء كابى حنيفة ومالك وهو احد القولين فى مذهب احمد بل نصوصه لم تدل الا على هذا الوجه واما الوجه الاخر من انه انما ينعقد بلفظ الانكاح والتزويج فهو قول ابى عبد الله بن حامد واتباعه كالقاضي ابى يعلى ومتبعيه واما قدماء أصحاب احمد وجمهورهم فلم يقولوا بهذا الوجه وقد نص احمد فى غير موضع على انه اذا قال اعتقت امتى وجعلت عتقها صداقها انعقد النكاح وليس هنا لفظ انكاح وتزويج ولهذا ذكر بن عقيل وغيره ان هذا يدل على أنه لا يختص النكاح بلفظ
وأما بن حامد فطرد قوله وقال لا بد أن يقول مع ذلك وتزوجتها والقاضى ابو يعلى جعل هذا خارجا عن القياس فجوز النكاح هنا بدون لفظ الانكاح والتزويج واصول الامام أحمد ونصوصه تخالف هذا فان من أصله ان العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل فهو لا يرى اختصاصها بالصيغ ومن اصله ان الكناية مع دلالة الحال كالصريح لا تفتقر إلى اظهار النية ولهذا قال بذلك في الطلاق والقذف وغير ذلك
والذين قالوا ان النكاح لا ينعقد الا بلفظ الانكاح والتزويج من أصحاب الشافعي قالوا لان ما سوى اللفظين كناية والكناية لا يثبت
____________________
(20/534)
حكمها الابالنية والنية باطن والنكاح مفتقر إلى شهادة والشهادة انما تقع على السمع فهذا أصل أصحاب الشافعى الذين خصوا عقد النكاح باللفظين
وبن حامد واتباعه وافقوهم لكن أصول احمد ونصوصه تخالف هذا فان هذه المقدمات باطلة على اصله أما قول القائل ما سوى هذين كناية فانما يستقيم أن لو كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعرف الشرع كما يقوله الشافعى ومن وافقه من اصحاب احمد كالخرقى والقاضى أبى يعلى وغيرهما ان الصريح فى الطلاق هو الطلاق والفراق والسراح لمجيء القرآن بذلك
فاما جمهور العلماء كابى حنيفة ومالك وغيرهما وجمهور أصحاب احمد كابى بكر وبن حامد وابى الخطاب وغيرهم فلا يوافقون على هذا الاصل بل منهم من يقول الصريح هو لفظ الطلاق فقط كابى حنيفة وبن حامد وابى الخطاب وغيرهما من اصحاب احمد وبعض اصحاب الشافعى ومنهم من يقول بل الصريح أعم من هذه الالفاظ كما يذكر عن مالك وهو قول أبى بكر وغيره من اصحاب احمد والجمهور يقولون كلا المقدمتين المذكورتين ان صريح الطلاق تليه مقدمة باطلة
أما قولهم ان هذه الالفاظ صريحة فى خطاب الشارع فليس
____________________
(20/535)
كذلك بل لفظ السراح والفراق فى القرآن مستعمل فى غير الطلاق قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } فامر بتسريحهن بعد الطلاق قبل الدخول وهو طلاق بائن لا رجعة فيه وليس التسريح هنا تطليقا باتفاق المسلمين وقال تعالى { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } وفى الآية الآخرى { أو فارقوهن بمعروف } فلفظ الفراق والسراح ليس المراد به هنا الطلاق فاما المطلقة الرجعية فهو مخير بين ارتجاعها وبين تخلية سبيلها لا يحتاج إلى طلاق ثان
واما المقدمة الثانية فلا يلزم من كون اللفظ صريحا فى خطاب الشارع ان يكون صريحا فى خطاب كل من يتكلم وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا ان قول القائل ان الاجارة نوع من البيع ان اراد به البيع الخاص وهو الذى يفهم من لفظ البيع عند الاطلاق فليس كذلك فان ذاك انما ينعقد على اعيان معينة او مضمونة فى الذمة وان اراد به انها نوع من المعاوضة العامة التى تتناول العقد على الاعيان والمنافع فهذا صحيح لكن قوله ان المعاوضة العامة لا تكون على معدوم دعوى مجردة بل دعوى كاذبة
537
فان الشارع جوز المعاوضة العامة على المعدوم وان قاس بيع المنافع
____________________
(20/536)
على بيع الاعيان فقال كما ان بيع الاعيان لا يكون الا على موجود فكذلك بيع المنافع وهذه حقيقة كلامه فهذا القياس فى غاية الفساد فان من شرط القياس ان يمكن اثبات حكم الاصل فى الفرع وهو هنا متعذر لان المنافع لا يمكن ان يعقد عليها فى حال وجودها فلا يتصور ان تباع المنافع فى حال وجودها كما تباع الاعيان فى حال وجودها
والشارع امر الانسان ان يؤخر العقد على الاعيان التى لم تخلق إلى ان تخلق فنهى عن بيع السنين وبيع حبل الحبلة وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وعن بيع الحب حتى يشتد ونهى عن بيع المضامين والملاقيح وعن المجر وهو الحمل وهذا كله نهى عن بيع حيوان قبل ان يخلق وعن بيع حب وثمر قبل ان يخلق وامر بتاخير بيعه إلى ان يخلق
وهذا التفصيل وهو منع بيعه فى الحال واجارته فى حال يمتنع مثله فى المنافع فانه لا يمكن ان تباع الا هكذا فما بقى حكم الاصل مساويا لحكم الفرع الا ان يقال فانا اقيسه على بيع الاعيان المعدومة فيقال له هنا شيئان أحدهما يمكن بيعه فى حال وجوده وحال عدمه فنهى الشارع عن بيعه الا اذا وجد والشيء الاخر لا يمكن بيعه الا فى حال عدمه فالشارع لما نهى عن بيع ذاك حال عدمه فلا بد اذا
____________________
(20/537)
قست عليه ان تكون العلة الموجبة للحكم فى الاصل ثابتة فى الفرع فلم قلت ان العلة فى الاصل مجرد كونه معدوما ولم لا يجوز ان يكون بيعه فى حال عدمه مع امكان تاخير بيعه إلى حال وجوده
وعلى هذا التقدير فالعلة مقيدة بعدم خاص وهو معدوم يمكن بيعه بعد وجوده وانت ان لم تبين ان العلة فى الاصل القدر المشترك كان قياسك فاسدا وهذا سؤال المطالبة وهو كاف فى وقف قياسك
لكن نبين فساده فنقول ما ذكرناه علة مطردة وما ذكرته علة منتقضة فانك إذا عللت المنع بمجرد العدم انتقضت علتك ببعض الأعيان والمنافع واذا عللته بعدم ما يمكن تاخير بيعه إلى حال وجوده او بعدم هو غرر اطردت العلة وايضا فالمناسبة تشهد لهذه العلة فانه اذا كان له حال وجود وعدم كان بيعه حال العدم فيه مخاطرة وقمار وبها علل النبى المنع حيث قال ( أرأيت ان منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ) بخلاف ما ليس له إلا حال واحده والغالب فيه السلامة فان هذا ليس مخاطرة فالحاجة داعية إليه
ومن أصول الشرع أنه اذا تعارض المصلحة والمفسدة قدم ارجحهما فهو انما نهى عن بيع الغرر لما فيه من المخاطرة التى تضر باحدهما وفى
____________________
(20/538)
المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر اعظم من ذلك فلا يمنعهم من الضرر اليسير بوقوعهم فى الضرر الكثير بل يدفع اعظم الضررين باحتمال ادناهما ولهذا لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من نوع ربا او مخاطرة فيها ضرر اباحها لهم فى العرايا للحاجة لان ضرر المنع من ذلك اشد وكذلك لما حرم عليهم الميتة لما فيها من خبث التغذية اباحها لهم عند الضرورة لان ضرر الموت اشد ونظائره كثيره
فان قيل فهذا كله على خلاف القياس
قيل قد قدمنا ان الفرع اختص بوصف اوجب الفرق بينه وبين الاصل فكل فرق صحيح على خلاف القياس الفاسد وان اريد بذلك ان الاصل والفرع استويا فى المقتضى والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل قطعا
ففى الجملة الشيء اذا شابه غيره فى وصف وفارقه فى وصف كان اختلافهما فى الحكم باعتبار الفارق مخالفا لاستوائهما باعتبار الجامع لكن هذا هو القياس الصحيح طردا وعكسا وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين واما التسوية بينهما فى الحكم مع افتراقهما فيما يوجب الحكم ويمنعه فهذا قياس فاسد
والشرع دائما يبطل القياس الفاسد كقياس ابليس وقياس
____________________
(20/539)
المشركين الذين قالوا { إنما البيع مثل الربا } والذين قاسوا الميت على المذكى وقالوا اتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله فجعلوا العلة فى الاصل كونه قتل آدمى وقياس الذين قاسوا المسيح على اصنامهم فقالوا لما كانت الهتنا تدخل النار لانها عبدت من دون الله فكذلك ينبغى ان يدخل المسيح النار قال الله تعالى { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } وهذا كان وجه مخاصمة بن الزبعرى لما انزل الله { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } فان الخطاب للمشركين لا لاهل الكتاب والمشركون لم يعبدوا المسيح وانما كانوا يعبدون الاصنام والمراد بقوله { وما تعبدون } الاصنام فالاية لم تتناول المسيح لا لفظا ولا معنى
وقول من قال ان الآية عامة تتناول المسيح ولكن اخر بيان تخصيصها غلط منه ولو كان ذلك صحيحا لكانت حجة المشركين متوجهة فان من خاطب بلفظ العام يتناول حقا وباطلا لم يبين مراده توجه الاعتراض عليه وقد قال تعالى { ولما ضرب ابن مريم مثلا } أي هم ضربوه مثلا كما قال { ما ضربوه لك إلا جدلا } أي جعلوه مثلا لآلهتهم فقاسوا الالهة عليه واوردوه مورد المعارضة
____________________
(20/540)
فقالوا اذا دخلت الهتنا النار لكونها معبودة فهذا المعنى موجود فى المسيح فيجب ان يدخل النار وهو لايدخل النار فهي لا تدخل النار وهذا قياس فاسد لظنهم ان العلة مجرد كونه معبودا وليس كذلك بل العلة انه معبود ليس مستحقا للثواب او معبود لاظلم فى ادخاله النار
فالمسيح والعزير والملائكة وغيرهم ممن عبد من دون الله وهو من عباد الله الصالحين وهو مستحق لكرامة الله بوعد الله وعدله وحكمته فلا يعذب بذنب غيره فانه لاتزر وازرة وزر اخرى والمقصود بالقاء الاصنام فى النار اهانة عابديها واولياء الله لهم الكرامة دون الاهانة فهذا الفارق بين فساد تعليق الحكم بذلك الجامع والاقيسة الفاسدة من هذا الجنس
فمن قال ان الشريعة تاتى بخلاف مثل هذا القياس فقد أصاب وهذا من كمال الشريعة واشتمالها على العدل والحكمة التى بعث الله بها رسوله
ومن لم يخالف مثل هذه الاقيسة الفاسدة بل سوى بين الشيئين باشتراكهما فى امر من الامور لزمه ان يسوى بين كل موجودين لاشتراكهما فى مسمى الوجود فيسوى بين رب العالمين وبين بعض
____________________
(20/541)
المخلوقين فيكون من الذين هم بربهم يعدلون ويشركون فان هذا من اعظم القياس الفاسد وهؤلاء يقولون { تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين } ولهذا قال طائفة من السلف أول من قاس ابليس وما عبدت الشمس والقمر الا بالمقاييس اي بمثل هذه المقاييس التى يشتبه فيها الشيء بما يفارقه كاقيسة المشركين
ومن كان له معرفه بكلام الناس فى العقليات راى عامة ضلال من ضل من الفلاسفة والمتكلمين بمثل هذه الاقيسة الفاسدة التى يسوى فيها بين الشيئين لاشتراكهما فى بعض الامور مع ان بينهما من الفرق ما يوجب أعظم المخالفة واعتبر هذا بكلامهم فى وجود الرب ووجود المخلوقات فان فيه من الاضطراب ما قد بسطناه فى غير هذا الموضع
وهذا الذي ذكرناه فى الاجارة بناء على تسليم قولهم ان بيع الاعيان المعدومه لايجوز وهذه المقدمه الثانية والكلام عليها من وجهين
أحدهما أن نقول لا نسلم صحه هذه المقدمه فليس فى كتاب الله ولا سنه رسوله بل ولا عن احد من الصحابه ان بيع المعدوم
____________________
(20/542)
لا يجوز لا لفظ عام ولا معنى عام وانما فيه النهي عن بيع بعض الاشياء التى هي معدومه كما فيه النهي عن بيع بعض الاشياء التى هي موجودة وليست العلة فى المنع لا الوجود ولا العدم بل الذي ثبت في الصحيح عن النبى انه نهي عن بيع الغرر والغرر ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودا او معدوما كالعبد الابق والبعير الشارد ونحو ذلك مما قد لا يقدر على تسليمة بل قد يحصل وقد لا يحصل هو غرر لا يجوز بيعه وان كان موجودا فان موجب البيع تسليم المبيع والبائع عاجز عنه والمشترى انما يشتريه مخاطرة ومقامرة فان امكنه اخذه كان المشترى قد قمر البائع وان لم يمكنه أخذه كان البائع قد قمر المشترى
وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهى عن بيعه لكونه غررا لا لكونه معدوما كما اذا باع ما يحمل هذا الحيوان او ما يحمل هذا البستان فقد يحمل وقد لا يحمل واذا حمل فالمحمول لا يعرف قدره ولا وصفة فهذا من القمار وهو من الميسر الذي نهى الله عنه
ومثل هذا اذا أكراه دواب لايقدر على تسليمها او عقارا لا يمكنه تسليمه بل قد يحصل وقد لا يحصل فانه اجارة غرر
____________________
(20/543)
الوجه الثانى أن نقول بل الشارع صحح بيع المعدوم فى بعض المواضع فانه ثبت عنه من غير وجه أنه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ونهى عن بيع الحب حتى يشتد وهذا من اصح الحديث وهو فى الصحيح عن غير واحد من الصحابه فقد فرق بين ظهور الصلاح وعدم ظهوره فأحل احدهما وحرم الاخر ومعلوم انه قبل ظهور الصلاح لو اشتراه بشرط القطع كما يشترى الحصرم ليقطع حصرما جاز بالاتفاق وانما نهى عنه اذا بيع على أنه باق فيدل ذلك على أنه جوزه بعد ظهور الصلاح أن يبيعه على البقاء إلى كمال الصلاح وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي واحمد وغيرهم
ومن جوز بيعه فى الموضعين بشرط القطع ونهى عنه بشرط التبقية او مطلقا لم يكن عنده لظهور الصلاح فائدة ولم يفرق بين ما نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم وما أذن فيه
وصاحب هذا القول يقول موجب العقد التسليم عقيبة فلا يجوز التاخير فيقال له لا نسلم ان هذا موجب العقد اما ان يكون ما اوجبة الشارع بالعقد او ما اوجبة المتعاقدان على انفسهما وكلاهما منتف فلا الشارع أوجب أن يكون كل بيع مستحق التسليم عقب العقد ولا العاقدان التزما ذلك بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه كما اذا باع معينا بدين حال وتارة يشترطان تاخير تسليم الثمن
____________________
(20/544)
كما في السلم وكذلك فى الاعيان
وقد يكون للبائع مقصود صحيح فى تأخير التسليم كما كان لجابر حين باع بعيره من النبى واستثنى ظهره إلى المدينة ولهذا كان الصواب انه يجوز لكل عاقد ان يستثنى من منفعة المعقود عليه ماله فيه غرض صحيح كما اذا باع عقارا واستثنى سكناه مدة أو دوابه واستثنى ظهرها او وهب ملكا واستثنى منفعته او اعتق العبد واستثنى خدمته مدة او ما دام السيد او وقف عينا واستثنى غلتها لنفسه مدة حياته وامثال ذلك وهذا منصوص أحمد وغيره وبعض اصحاب أحمد قال لا بد اذا استثنى منفعه المبيع من ان يسلم العين إلى المشترى ثم يأخذها ليستوفى المنفعة بناء على هذا الاصل الفاسد وهو انه لا بد من استحقاق القبض عقب العقد وهو قول ضعيف
وعلى هذا الاصل قال من قال انه لا تجوز الاجارة الا لمدة تلي العقد وهؤلاء نظروا إلى ما يفعله الناس احيانا جعلوه لازما لهم في كل حال وهو من القياس الفاسد وعلى هذا بنوا اذا باع العين المؤجرة فمنهم من قال البيع باطل لكون المنفعة لا تدخل فى البيع فلا يحصل التسليم ومنهم من قال هذا مستثنى بالشرع بخلاف المستثنى بالشرط ولو باع الامه المزوجة صح باتفاقهم وان كانت منفعة
____________________
(20/545)
البضع للزوج وقد فرق من فرق بينهما بما قد بسط فى موضعه
والمقصود هنا ان هذا كله تفريع على ذلك الاصل الضعيف وهو ان موجب العقد استحقاق التسليم عقبه والشرع لم يدل على هذا الاصل بل القبض في الاعيان والمنافع كالقبض في الدين تارة يكون موجب العقد قبضه عقبه بحسب الامكان وتارة يكون موجب العقد تاخير التسليم لمصلحة من المصالح
وعلى هذا فالنبى جوز بيع الثمر بعد بدو الصلاح مستحق الابقاء إلى كمال الصلاح وعلى البائع السقي والخدمة إلى كمال الصلاح ويدخل فى هذا ما هو معدوم لم يخلق وهذا اذا قبض كان بمنزلة قبض العين المؤجرة فقبضه يبيح له التصرف فيه فى اظهر قولي العلماء وهو اصح الروايتين عن احمد وقبضه لا يوجب انتقال الضمان إليه بل اذا تلف الثمر بعد بدو صلاحه كان من ضمان البائع كما هو مذهب اهل المدينة مالك وغيره وهو مذهب اهل الحديث احمد رضي الله عنه وغيره وهو قول معلق للشافعي وقد ثبت فى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( ان بعت من اخيك ثمرة فاصابتها جائحة فلا يحل لك ان تاخذ من مال اخيك شيئا بم ياخذ احدكم مال اخيه بغير حق ( وليس مع المنازع دليل شرعى يدل على ان كل قبض جوز التصرف ينقل الضمان وما لم يجوز
____________________
(20/546)
التصرف لم ينقل الضمان بل قبض العين المؤجرة يجوز التصرف ولا ينقل الضمان
ومن هذا الباب بيع المقاثي فان من العلماء من لم يجوز بيعها الا لقطة لقطة لانه بيع معدوم وجعلوا هذا من بيع الثمر قبل بدو صلاحه ثم من هؤلاء من قال اذا بيعت بعروقها كان كبيع اصل الشجر مع الثمر وذلك يجوز قبل ظهور صلاحه لقوله في الحديث المتفق على صحته ( من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع الا ان يشترطه المبتاع ( فاذا اشترط الثمر دخل فى البيع وهنا جاز بيع الثمر قبل بدو صلاحه تبعا للأصل ولهذا تكون خدمته على المشترى ومعلوم ان المقصود من الشجر هو الاصل والمقصود فى المقاثى هو الثمر فلا يقاس أحدهما بالآخر
ومن العلماء من جوز بيع المقاثى كما هو قول مالك وغيره وهو قول في مذهب احمد وهذا أصح فانه لا يمكن بيعها الاعلى هذا الوجه اذ لا تتميز لقطة عن لقطة وما لا يباع الاعلى وجه واحد لا ينهى عن بيعه كما تقدم والنبى انما نهى عن بيع الثمار التى يمكن تاخير بيعها حتى يبدو صلاحها فلم تدخل المقاثى في نهيه ولذلك كثير من العلماء ادخلوا ضمان البساتين فى نهيه فقالوا اذا ضمن الحديقة لمن يعمل عليها حتى تثمر بشيء معلوم كان هذا بيعا
____________________
(20/547)
للثمر قبل بدو صلاحه فلا يجوز
ومن الناس من حكى الاجماع على منع هذا وليس كما قال بل قد ثبت ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل حديقة اسيد بن حضير ثلاث سنين ويستلف الضمان فقضى به دينا كان على اسيد لانه كان وصيه وقد جوز بن عقيل ضمانها مع الأراضي المؤجرة اذا لم يمكن افراد احدهما عن الآخر وجوز مالك ذلك تبعا للأرض في قدر الثلث وقضية عمر بن الخطاب مما يشتهر مثلها فى العادة ولم ينقل ان احدا من الصحابة انكره فالصواب ما فعله عمر بن الخطاب اذ الفرق بين البيع والضمان هو الفرق بين البيع والاجارة الا ترى ان النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد
ثم اذا استاجر ارضا ليزرعها جاز هذا مع ان المستاجر مقصوده الحب لكن مقصوده ذلك بعمله هو لا بعمل البائع وكذلك الذي يستاجر البستان ليخدم شجره ويسقيها حتى تثمر هو بمنزلة المستاجر ليس بمنزلة المشترى الذي يشترى ثمرا وعلى البائع مؤونه خدمتها وسقيها
فان قيل هذه اعيان والإجارة لا تكون على الاعيان قيل الجواب من وجهين
أحدهما ان الاعيان هنا حصلت بعمله هو من الاصل المستاجر
____________________
(20/548)
كما حصل الحب بعمله المؤجر فى أرض واذا قيل الحب حصل من بذره والثمر حصل من شجر المؤجر كان هذا فرقا لا اثر له فى الشرع ألا ترى ان المساقاة كالمزارعة والمساقى يستحق جزءا من الثمرة الحاصلة من اصل المالك والمزارع يستحق جزءا من الزرع النابت فى ارض المالك وان كان البذر من المالك وكذلك ان كان البذر منه كما ثبت بالسنة واجماع الصحابه فالبذر يتلف لا يعود إلى صاحبه وقد ثبت فى الصحيح ان النبى عامل اهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على ان يعمروها من أموالهم فالارض والنخل والماء كان للنبى واستحقوا بعملهم جزءا من الثمر كما استحقوا جزءا من الزرع وان كان البذر منهم والشجر من النبى فعلم ان هذا الفر ق لا تاثير له فى الشرع واذا لم يؤثر فى المساقاة والمزارعة التى يكون النماء مشتركا لم يؤثر في الاجارة بطريق الاولى فان استئجار الارض ليس فيه من النزاع ما فى المزارعة فاذا كانت اجارتها اجوز من المزارعة فاجارة الشجر أجوز من المساقاة
الوجه الثانى ان نقول هذا كاجاره الظئر والبئر ونحو ذلك والكلام على هذا هو الكلام على الاصل الثانى في الاجارة فنقول قول القائل ان اجارة الظئر على خلاف القياس انما هو لاعتقاده ان
____________________
(20/549)
الاجارة لا تكون الاعلى منافع اعراض لا تستحق بها اعيان وهذا القدر لم يدل عليه كتاب ولا سنه ولا إجماع ولا قياس بل الذي دلت عليه الاصول ان الاعيان التى تحدث شيئا بعد شيء مع بقاء اصلها حكمها حكم المنافع كالثمر والشجر واللبن فى الحيوان ولهذا سوى بين هذا وهذا فى الوقف فان الاصل تحبيس الاصل وتسبيل الفائدة فلا بد ان يكون الاصل باقيا وان تكون الفائدة تحدث مع بقاء الأصل فيجوز أن تكون فائدة الوقف منفعه كالسكنى ويجوز ان تكون ثمرة كوقف الشجر ويجوز ان تكون لبنا كوقف الماشية للإنتفاع بلبنها
وكذلك ( باب التبرعات ( فان العارية والعرية والمنحة هي اعطاء العين لمن ينتفع بها ثم يردها فالمنحة اعطاء الماشية لمن يشرب لبنها ثم يردها والعريه اعطاء الشجرة لمن ياكل ثمرها ثم يردها والسكنى اعطاء الدار لمن يسكنها ثم يعيدها فكذلك فى الاجارة تارة تكريه العين للمنفعه التى ليست اعيانا كالسكنى والركوب وتارة للعين التى تحدث شيئا بعد شيء مع بقاء الاصل كلبن الظئر ونقع البئر والعين فان الماء واللبن لما كانا شيئا بعد شيء مع بقاء الاصل كان كالمنفعة والمسوغ للإجارة هو ما بينهما من القدر المشترك وهو حدث والمقصود بالعقد شيئا فشيئا سواء كان الحادث عينا او منفعة اذ كونه
____________________
(20/550)
جسما أو معنى قائما بالجسم لا أثر له في جهة الجواز مع اشتراكهما فى المقتضى للجواز بل هذا أحق بالجواز فان الاجسام اكمل من صفاتها ولا يمكن العقد عليها الاكذلك
وطرد هذا اكثر فى الظئر من الحيوان للارضاع ثم الظئر تارة تستاجر باجرة مقدرة وتارة بطعامها وكسوتها وتارة يكون طعامها وكسوتها من جمله الأجرة
وأما الماشية اذا عقد على لبنها بعوض فتارة يشترى لبنها مع أن علفها وخدمتها على المالك وتارة على ان ذلك على المشترى فهذا الثانى يشبه ضمان البساتين وهو بالاجارة اشبه لأن اللبن تسقيه الطفل فيذهب وينتفع به فهو كاستئجار العين يستقى بمائها ارضه بخلاف من يقبض اللبن فانه هنا قبض العين المعقود عليها وتسمية هذا بيعا وهذا اجارة نزاع لفظى والاعتبار بالمقاصد
ومن الفقهاء من يجعل اختلاف العبارات مؤثرا فى صحة العقد وفساده حتى ان من هؤلاء من يصحح العقد بلفظ دون لفظ كما يقول بعضهم ان السلم الحال لا يجوز واذا كان بلفظ البيع جاز ويقول بعضهم ان المزارعة على ان يكون البذر من العامل لا تجوز واذا عقده بلفظ الاجارة جاز وهذا قول بعض اصحاب احمد وهذا ضعيف فان الاعتبار
____________________
(20/551)
فى العقود بمقاصدها واذا كان المعنى المقصود فى الموضعين واحد فتجويزه بعبارة دون عبارة كتجويزه بلغة دون لغة نعم اذا كان احد اللفظين يقتضى حكما لا يقتضيه الاخر فهذا له حكم آخر وليس هذا موضع بسط هذه المسائل
وانما المقصود التنبيه على ما يقال انه موافق للقياس او مخالفه وان الشارع اذا سوى بين شيئين كما سوى بين الاستئجار على الرضاع والخدمة فالفارق بينهما عدم التاثير وهو كون هذا عينا وهذا منفعة واذا فرق بين شيئين فالجامع بينهما ليس هو وحده مناط الحكم بل للفارق تأثير فصل
ومن هذا الباب قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس فيقال لا ريب ان من اتلف مضمونا كان ضمانه عليه والناس متنازعون فى العقل هل تحمله العاقلة ابتداء أو تحملا
كما تنازعوا فى صدقة الفطر التى تجب على الغير كصدقة الفطر عن الزوجة والولد هل تجب ابتداء أو تحملا وفى ذلك نزاع معروف فى مذهب أحمد وغيره وعلى ذلك ينبنى لو أخرجها الذى يخرج عنه بدون اذن
____________________
(20/552)
المخاطب بها فمن قال هي واجبة على المخاطب تحملا قال تجزىء ومن قال هي واجبة عليه ابتداء قال هي كاداء الزكاة عن الغير
ولذلك تنازعوا فى العقل اذا لم تكن عاقلة هل تجب فى ذمة القاتل أم لا والعقل فارق غيره من الحقوق فى اسباب اقتضت اختصاصه بالحكم وذلك ان دية المقتول مال كثير والعاقلة انما تحمل الخطأ لا تحمل العمد بلا نزاع وفى شبه العمد نزاع والاظهر انها لا تحمله والخطأ مما يعذر فيه الانسان فايجاب الدية فى ماله ضرر عظيم به من غير ذنب تعمده ولابد من ايجاب بدل المقتول
فالشارع اوجب على من عليهم موالاة القاتل ونصره ان يعينوه على ذلك فكان هذا كايجاب النفقات التى تجب للقريب او تجب للفقراء والمساكين وايجاب فكاك الاسير من بلد العدو فان هذا اسير بالدية التى تجب عليه وهى لم تجب باختيار مستحقها ولا باختياره كالديون التى تجب بالقرض والبيع وليست ايضا قليلة فى الغالب كابدال المتلفات فان اتلاف مال كثير بقدر الدية خطأ نادر جدا بخلاف قتل النفس خطأ فما سببه العمد فى نفس او مال فالمتلف ظالم مستحق فيه للعقوبة وما سببه الخطأ فى الاموال فقليل فى العادة بخلاف الدية
____________________
(20/553)
ولهذا كان عند الاكثرين لا تحمل العاقلة الا ماله قدر كثير فعند مالك واحمد لا تحمل ما دون الثلث وعند أبى حنيفة ما دون السن والموضحة فكان ايجابها من جنس ما اوجبه الشارع من الاحسان إلى المحتاجين كبنى السبيل والفقراء والمساكين والاقارب المحتاجين ومعلوم أن هذا من اصول الشرائع التى بها قيام مصلحة العالم فان الله لما قسم خلقه إلى غنى وفقير ولا تتم مصلحتهم الا بسد خلة الفقراء وحرم الربا الذى يضر الفقراء فكان الامر بالصدقة من جنس النهى عن الربا ولهذا جمع الله بين هذا وهذا فى مثل قوله تعالى { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وفى مثل قوله تعالى { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون }
وقد ذكر الله فى آخر البقرة احكام الاموال وهى ثلاثة اصناف عدل وفضل وظلم فالعدل البيع والظلم الربا والفضل الصدقة فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم وذم المربين وبين عقابهم واباح البيع والتداين إلى اجل مسمى فالعقل من جنس ما اوجبه من الحقوق لبعض الناس على بعض كحق المسلم وحق ذى الرحم وحق الجار وحق المملوك والزوجة
____________________
(20/554)
فصل
والاحكام التى يقال إنها على خلاف القياس نوعان نوع مجمع عليه ونوع متنازع فيه
فما لا نزاع فى حكمه تبين أنه على وفق القياس الصحيح وينبنى على هذا ان مثل هذا هل يقاس عليه أم لا فذهب طائفة من الفقهاء إلى أن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه ويحكى هذا عن اصحاب أبى حنيفة والجمهور انه يقاس عليه وهذا هو الذى ذكره أصحاب الشافعى واحمد وغيرهما
وقالوا انما ينظر إلى شروط القياس فما علمت علته الحقنا به ما شاركه فى العلة سواء قيل انه على خلاف القياس او لم يقل وكذلك ما علم انتفاء الفارق فيه بين الأصل والفرع والجمع بدليل العلة كالجمع بالعلة واما اذا لم يقم دليل على ان الفرع كالاصل فهذا لا يجوز فيه القياس سواء قيل انه على وفق القياس او خلافه ولهذا كان الصحيح أن العرايا يلحق بها ما كان فى معناها
____________________
(20/555)
وحقيقة الامر انه لم يشرع شيء على خلاف القياس الصحيح بل ما قيل انه على خلاف القياس فلابد من اتصافه بوصف امتاز به عن الأمور التى خالفها واقتضى مفارقته لها فى الحكم واذا كان كذلك فذلك الوصف ان شاركه غيره فيه فحكمه كحكمه والا كان من الامور المفارقة له
وأما المتنازع فيه فمثل ما يأتى حديث بخلاف امر فيقول القائلون هذا بخلاف القياس أو بخلاف قياس الاصول وهذا له امثلة من اشهرها المصراة فان النبى ( صلى الله عليه وسلم ( قال ( لا تصروا الابل ولا الغنم فمن ابتاع مصراة فهو بخير النظرين بعد ان يحلبها ان رضيها امسكها وان سخطها ردها وصاعا من تمر ( وهو حديث صحيح فقال قائلون هذا يخالف قياس الاصول من وجوه
منها انه رد المبيع بلا عيب ولا خلف فى صفة
ومنها ان الخراج بالضمان فاللبن الذى يحدث عند المشترى غير مضمون عليه وهنا قد ضمنه
ومنها ان اللبن من ذوات الامثال فهو مضمون بمثله
ومنها ان ما لا مثل له يضمن بالقيمة من النقد وهنا ضمنه بالتمر
____________________
(20/556)
ومنها ان المال المضمون يضمن بقدرة لا بقدر بدله بالشرع وهنا قدر بالشرع
فقال المتبعون للحديث بل ما ذكرتموه خطأ والحديث موافق للاصول ولو خالفها لكان هو اصلا كما ان غيره اصل فلا تضرب الأصول بعضها ببعض بل يجب اتباعها كلها فانها كلها من عند الله
اما قولهم رد بلا عيب ولا فوات صفة فليس فى الأصول ما يوجب انحصار الرد فى هذين الشيئين بل التدليس نوع ثبت به الرد وهو من جنس الخلف فى الصفة فان البيع تارة تظهر صفاته بالقول وتارة بالفعل فاذا ظهر انه على صفة وكان على خلافها فهو تدليس وقد اثبت النبى الخيار للركبان اذا تلقوا واشترى منهم قبل ان يهبطوا السوق ويعلموا السعر وليس كذلك واحد من الأمرين ولكن فيه نوع تدليس
واما قوله ( الخراج بالضمان ( فأولا حديث المصراة اصح منه باتفاق اهل العلم مع انه لا منافاة بينهما فان الخراج ما يحدث فى ملك المشترى ولفظ الخراج اسم للغلة مثل كسب العبد واما اللبن ونحوه فملحق بذلك وهنا كان اللبن موجودا فى الضرع فصار جزءا من المبيع ولم يجعل الصاع عوضا عما حدث بعد العقد بل عوضا عن
____________________
(20/557)
اللبن الموجود فى الضرع وقت العقد واما تضمين اللبن بغيره وتقديره بالشرع فلأن اللبن المضمون اختلط باللبن الحادث بعد العقد فتعذرت معرفة قدره فلهذا قدر الشارع البدل قطعا للنزاع وقدر بغير الجنس لان التقدير بالجنس قد يكون اكثر من الأول او اقل فيفضى إلى الربا بخلاف غير الجنس فانه كأنه ابتاع لذلك اللبن الذى تعذرت معرفة قدره بالصاع من التمر والتمر كان طعام اهل المدينة وهو مكيل مطعوم يقتات به كما ان اللبن مكيل مقتات وهو ايضا يقتات به بلا صنعه بخلاف الحنطة والشعير فانه لا يقتات به الا بصنعة فهو اقرب الأجناس التى كانوا يقتاتون بها إلى اللبن
ولهذا كان من موارد الاجتهاد ان جميع الأمصار يضمنون ذلك بصاع من تمر او يكون ذلك لمن يقتات التمر فهذا من موارد الاجتهاد كأمره فى صدقة الفطر بصاع من شعير او تمر
ومن ذلك قول بعضهم ان امره للمصلى خلف الصف وحده بالاعادة على خلاف القياس فان الامام يقف وحده والمرأة تقف خلف الرجال وحدها كما جاءت به السنة
وليس الأمر كذلك فان الامام يسن فى حقه التقدم بالاتفاق والمؤتمون يسن فى حقهم الاصطفاف بالاتفاق فكيف يشبه هذا بهذا
____________________
(20/558)
وذلك لأن الامام يؤتم به فاذا كان امامهم رأوه وكان اقتداؤهم به اكمل
واما المرأة فانها تقف وحدها اذا لم يكن هناك امرأة غيرها فالسنة فى حقها الاصطفاف لكن قضية المرأة تدل على شيئين
تدل على انه اذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه وتعذر الدخول فى الصف صلى وحده للحاجة وهذا هو القياس فان الواجبات تسقط للحاجة وأمره بأن يصاف غيره من الواجبات فاذا تعذر ذلك سقط للحاجة كما سقط غير ذلك من فرائض الصلاة للحاجة فى مثل صلاة الخوف محافظة على الجماعة
وطرد ذلك اذا لم يمكنه ان يصلى مع الجماعة الا قدام الامام فانه يصلى هنا لأجل الحاجة امامه وهو قول طوائف من اهل العلم وهو احد الوجهين فى مذهب احمد وان كانوا لا يجوزون التقدم على الامام اذا امكن ترك التقدم عليه
وفى الجملة فليست المصافة اوجب من غيرها فاذا سقط غيرها للعذر فى الجماعة فهي اولى بالسقوط
ومن الاصول الكلية ان المعجوز عنه فى الشرع ساقط الوجوب وان المضطر إليه بلا معصية غير محظور فلم يوجب الله ما يعجز عنه
____________________
(20/559)
العبد ولم يحرم ما يضطر إليه العبد
ومن ذلك قول بعضهم فى الحديث الصحيح الذى فيه ( ان الرهن مركوب ومحلوب وعلى الذى يركب ويحلب النفقة ( انه على خلاف القياس وليس كذلك فان الرهن اذا كان حيوانا فهو محترم فى نفسه ولمالكه فيه حق وللمرتهن فيه حق واذا كان بيد المرتهن فلم يركب ولم يحلب ذهبت منفعته باطلة وقد قدمنا ان اللبن يجرى مجرى المنفعة فاذا استوفى المرتهن منفعته وعوض عنها نفقته كان فى هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين فان نفقته واجبة على صاحبه والمرتهن اذا انفق عليه ادى عنه واجبا وله فيه حق فله ان يرجع ببدله والمنفعة تصلح ان تكون بدلا فاخذها خير من ان تذهب على صاحبها وتذهب باطلا
وقد تنازع الفقهاء فيمن ادى عن غيره واجبا بغير اذنه كالدين فمذهب مالك واحمد فى المشهور عنه له ان يرجع به عليه ومذهب ابى حنيفة والشافعى ليس له ذلك
واذا انفق نفقة تجب عليه مثل ان ينفق على ولده الصغير او عبده فبعض اصحاب احمد قال لا يرجع وفرقوا بين النفقة والدين والمحققون من اصحابه سووا بينهما وقالوا الجميع واجب ولو افتداه
____________________
(20/560)
من الاسر كان له مطالبته بالفداء وليست دينا والقرآن يدل على هذا القول فان الله قال { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فأمر بايتاء الآجر بمجرد الارضاع ولم يشترط عقدا ولا اذن الاب وكذلك قال { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدا ولا اذنا ونفقة الحيوان واجبة على ربه والمرتهن والمستأجر له فيه حق فاذا انفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان احق بالرجوع من الانفاق على ولده فاذا قدر ان الراهن قال لم آذن لك فى النفقة قال هي واجبة عليك وانا استحق ان اطالبك بها لحفظ المرهون والمستأجر
واذا كان المنفق قد رضى بأن يعتاض بمنفعة الرهن التى لا يطالبه بنظير النفقة كان قد احسن إلى صاحبه فهذا خير محض مع الراهن وكذلك لو قدر ان المؤتمن على حيوان الغير كالمودع والشريك والوكيل انفق من مال نفسه واعتاض بمنفعة المال لأن هذا احسان إلى صاحبه اذا لم ينفق عليه صاحبه
ومما يقال انه ابعد الاحاديث عن القياس الحديث الذى فى السنن عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق ( ان رسول الله قضى فى رجل وقع على جارية امرأته
____________________
(20/561)
ان كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وان كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها ( وقد روى فى لفظ آخر ( وان كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها ( وهذا الحديث تكلم بعضهم فى اسناده لكنه حديث حسن وهم يحتجون بما هو دونه فى القوة ولكن لاشكاله قوى عندهم تضعيفه
وهذا الحديث يستقيم على القياس مع ثلاثة اصول هي صحيحة كل منها قول طائفة من الفقهاء
احدها ان من غير مال غيره بحيث يفوت مقصودة عليه فله ان يضمنه اياه بمثله وهذا كما اذا تصرف فى المغصوب بما ازال اسمة ففيه ثلاثة اقوال فى مذهب احمد وغيره
احدها انه باق على ملك صاحبه وعلى الغاصب ضمان النقص ولا شيء له فى الزيادة كقول الشافعى
والثانى يملكه الغاصب بذلك ويضمنه لصاحبه كقول ابى حنيفة
والثالث يخير المالك بين اخذه وتضمين النقص وبين المطالبة بالبدل وهذا اعدل الأقوال واقواها فان فوت صفاته المعنوية مثل
____________________
(20/562)
ان ينسيه صناعته او يضعف قوته او يفسد عقله ودينه فهذا ايضا يخير المالك بين تضمين النقص وبين المطالبة بالبدل ولو قطع ذنب بغلة القاضي فعند مالك يضمنها بالبدل ويملكها لتعذر مقصودها على المالك فى العادة او يخير المالك وكذلك السلطان اذا قطع آذان فرسة وذنبها
الأصل الثانى ان جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الامكان مع مراعاة القيمة حتى الحيوان كما انه فى القرض يجب فيه رد المثل واذا اقترض حيوانا رد مثله كما اقترض النبى بكرا ورد خيرا منه وكذلك فى المغرور يضمن ولده بمثلهم كما قضت به الصحابه وكذلك اذا استثنى رأس المبيع ولم يذبحه فان الصحابة قضوا بشرائه أي برأس مثله فى القيمة وهذا احد القولين فى مذهب احمد وغيره
وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب فان الماشية كانت قد اتلفت حرث القوم وهو بستانهم قالوا وكان عينا والحرث اسم للشجر والزرع فقضى داود بالغنم لاصحاب الحرث كانه ضمنهم ذلك بالقيمة ولم يكن لهم مال الا الغنم فأعطاهم الغنم بالقيمة واما سليمان فحكم بأن اصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمنهم اياه بالمثل واعطاهم الماشية يأخذون منفعتها عوضا
____________________
(20/563)
عن المنفعة التى فاتت من حين تلف الحرث إلى ان يعود وبذلك افتى الزهري لعمر بن عبد العزيز فيمن كان اتلف له شجرا فقال يغرسه حتى يعود كما كان وقيل ربيعة وابو الزناد قالا عليه القيمة فغلظ الزهري القول فيهما
وهذا موجب الأدلة فان الواجب ضمان المتلف بالمثل بحسب الامكان قال تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وقال { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقال { والحرمات قصاص } فاذا اتلف نقدا او حبوبا ونحو ذلك امكن ضمانها بالمثل وان كان المتلف ثيابا او آنية او حيوانا فهنا مثله من كل وجه وقد يتعذر فالأمر دائر بين شيئين اما ان يضمنه بالقيمة وهى دراهم مخالفة للمتلف فى الجنس والصفة لكنها تساويه فى الماليه واما ان يضمنه بثياب من جنس ثياب المثل او آنية من جنس آنيته او حيوان من جنس حيوانه مع مراعاة القيمة بحسب الامكان ومع كون قيمته بقدر قيمته فهنا المالية مساوية كما فى النقد وامتاز هذا بالمشاركة فى الجنس والصفة فكان ذلك امثل من هذا وما كان امثل فهو اعدل فيجب الحكم به اذا تعذر المثل من كل وجه
ونظير هذا ما ثبت بالسنة واتفاق الصحابة من القصاص فى اللطمة
____________________
(20/564)
والضربة وهو قول كثير من السلف وقد نص عليه احمد فى رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجى التى شرحها الجوزجاني فى كتابه المسمى بالمترجم فقال طائفة من الفقهاء المساواة متعذرة فى ذلك فيرجع إلى التعزير فيقال لهم ما جاءت به الآثار هو موجب القياس فان التعزير عقاب غير مقدر الجنس ولا الصفة ولا القدر والمرجع فيه إلى اجتهاد الوالى ومن المعلوم الأمر بضرب يقارب ضربة وان لم يعلم انه مساو له اقرب إلى العدل والمماثلة من عقوبة تخالفه فى الجنس والوصف غير مقدرة اصلا
واعلم ان المماثل من كل وجه متعذر حتى فى المكيلات فضلا عن غيرها فانه اذا اتلف صاعا من بر فضمن بصاع من بر لم يعلم ان احد الصاعين فيه من الحب ما هو مثل الآخر بل قد يزيد احدهما على الآخر ولهذا قال تعالى { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها } فان تحديد الكيل والوزن مما قد يعجز عنه البشر ولهذا يقال هذا امثل من هذا اذا كان اقرب إلى المماثلة منه اذا لم تحصل المماثلة من كل وجه
الاصل الثالث من مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب مالك واحمد وغيرهما وقد جاءت بذلك آثار مرفوعة عن النبى وأصحابه كعمر بن الخطاب كما قد ذكر فى غير هذا
____________________
(20/565)
الموضع فهذا الحديث موافق لهذه الاصول الثلاثة الثابتة بالأدلة الموافقة للقياس العادل فاذا طاوعته فقد افسدها على سيدها فانها مع المطاوعة تبقى زانية وذلك ينقص قيمتها ولا يمكن سيدها من استخدامها كما كانت تمكن قبل ذلك لبغضه لها ولطمع الجارية فى السيد ولاستشراف السيد اليها لا سيما ويعسر على سيدها فلا يطيعها كما كانت تطيعه وإذا تصرف بالمال بما ينقص قيمته كان لصاحبه المطالبه بالمثل فقضى لها بالمثل ومعلوم انها لو رضيت أن تبقى ملكا لها وتغرمه ما نقص من قيمتها لم يمتنع من ذلك وانما المقضى به ما ابيح لها ولكن موجب هذا ان الامة اذا افسدها رجل على اهلها حتى طاوعت على الزنى فلأهلها ان يطالبوه ببدلها ووجب مثلها بناء على ان المثل يجب فى كل مضمون بحسب الامكان واما اذا استكرهها فان هذا من باب المثلة فان الاكراه على الوطء مثلة فان الوطء يجري مجرى الاتلاف
ولهذا قيل ان من استكره عبده على التلوط به عتق عليه ولهذا لا يخلو من عقر او عقوبة لا تجري مجرى منفعة الخدمة فهي لما صارت له بافسادها على سيدها أوجب عليه مثلها كما فى المطاوعة واعتقها عليه لكونه مثل بها وقد يقال انه يلزم على هذا اذا استكره عبده على الفاحشة عتق عليه ولو استكره امة الغير على الفاحشة عتقت وضمنها
____________________
(20/566)
بمثلها الا أن يفرق بين أمة امرأته وبين غيرها فان كان بينهما فرق شرعى والا فموجب القياس التسوية واما قوله عز وجل { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } فهذا النهي عن اكراههن على كسب المال بالبغاء كما نقل ان بن ابي المنافق كان له من الاماء ما يكرههن على البغاء وليس هو استكراها للأمة على ان يزني هو بها فان هذا بمنزلة التمثيل بها وذاك الزام لها بأن تذهب فتزني بنفسها مع انه قد يمكن ان يقال العتق بالمثلة لم يكن مشروعا عند نزول الايه ثم شرع بعد ذلك
والكلام على هذا الحديث من ادق الامور فان كان ثابتا فهذا الذي ظهر فى توجيهه وتخرجه على الاصول الثابتة وان لم يكن ثابتا فلا يحتاج إلى الكلام عليه
وبالجملة فما عرفت حديثا صحيحا الا ويمكن تخرجه على الاصول الثابتة وقد تدبرت ما أمكننى من ادلة الشرع فما رايت قياسا صحيحا يخالف حديثا صحيحا كما ان المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح بل متى رايت قياسا يخالف اثرا فلا بد من ضعف احدهما لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على افاضل العلماء فضلا عمن هو دونهم فان ادراك الصفات المؤثرة فى الاحكام على وجهها
____________________
(20/567)
ومعرفه الحكم والمعاني التى تضمنتها الشريعة من اشرف العلوم فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس ومنه الدقيق الذي لا يعرفه الا خواصهم فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفا للنصوص لخفاء القياس الصحيح عليهم كما يخفي على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التى تدل على الاحكام فصل
واما قولهم ان المضي فى الحج الفاسد على خلاف القياس فليس الامر كذلك فان الله امر باتمام الحج والعمرة فعلى من شرع فيهما ان يمضي فيهما وان كان متطوعا بالدخول باتفاق الائمة وهم متنازعون فيما سوى ذلك من التطوعات هل تلزم بالشروع فقد وجب عليه بالاحرام ان يمضي إلى حين يتحلل وأن لا يطأ في الحج فاذا وطيء في الحج لم يمنع وطؤه ماوجب عليه من اتمام الحج
ونظير هذا الصيام في رمضان لما وجب عليه الاتمام بقوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } فاذا افطر لم يسقط عنه فطره ما وجب من الاتمام بل يجب عليه اتمام صوم رمضان وان افسده وهذا لان الصيام له حد محدود وهو غروب الشمس كما للحج وقت مخصوص
____________________
(20/568)
وهو يوم عرفة وما بعده ومكان مخصوص وهو عرفة ومزدلفه ومنى فلا يمكنه احلال الحج قبل وصوله إلى مكانه كما لا يمكنه احلال الصيام اللهم الا اذا كان معذورا كالمحصر فهذا كالمعذور فى الفطر وهذا بخلاف الصلاة اذا افسدها فانه يبتديها لان الصلاة يمكنه فعلها في اثناء الوقت والحج لا يمكنه فعله في اثناء الوقت
فصل
واما الأكل ناسيا فالذين قالوا هو خلاف القياس قالوا هو من باب ترك المامور ومن ترك المامور ناسيا لم تبرا ذمته كما لو ترك الصلاة ناسيا او ترك نية الصيام ناسيا لم تبطل عبادته الامن فعل محظور ولكن من يقول هو على وفق القياس يقول القياس ان من فعل محظورا ناسيا لم تبطل عبادته لان من فعل محظورا ناسيا فلا اثم عليه كما دل عليه قولة تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت في الصحيح ان الله قال ( قد فعلت ( وهذا مما لا يتنازع فيه العلماء ان الناسي لا يأثم
لكن يتنازعون في بطلان عبادته فيقول القائل اذا لم ياثم لم يكن قد فعل محرما ومن لم يفعل محرما لم تبطل عبادته فان العبادة انما تبطل بترك واجب او فعل محرم فاذا كان ما فعله من باب فعل المحرم وهو ناس فيه لم تبطل عبادته وصاحب هذا القول يقول القياس ان
____________________
(20/569)
لا تبطل الصلاة بالكلام في الصلاة ناسيا وكذلك يقول القياس ان من فعل شيئا من محظورات الاحرام ناسيا لا فدية عليه
وقيل الصيد هو من باب ضمان المتلفات كدية المقتول بخلاف الطيب واللباس فانه من باب الترفه وكذلك الحلق والتقليم هو فى الحقيقة من باب الترفه لا من باب متلف له قيمة فانه لا قيمة لذلك فلهذا كان أعدل الأقوال أن لا كفارة فى شيء من ذلك إلا في جزاء الصيد
وطرد هذا ان من فعل المحلوف عليه ناسيا لا يحنث سواء حلف بالطلاق او العتاق او غيرهما لان من فعل المنهى عنه ناسيا لم يعص ولم يخالف والحنث فى الايمان كالمعصية فى الامر والنهي
وكذلك من باشر النجاسة فى الصلاة ناسيا فلا اعادة عليه لانه من باب فعل المحظور بخلاف ترك طهارة الحدث فانه من باب المأمور فان
قيل الترك في الصوم مأمور به ولهذا يشترط فيه النية بخلاف الترك فى هذه المواضع فانه ليس مأمورا به فانه لا يشترط فيه النية
قيل لاريب ان النية فى الصوم واجبة ولولا ذلك لما أثيب
____________________
(20/570)
لان الثواب لا يكون الا مع النية وتلك الأمور اذا قصد تركها لله أثيب على ذلك ايضا وان لم يخطر بقلبه قصد تركها لم يثب ولم يعاقب ولو كان ناويا تركها لله وفعله ناسيا لم يقدح نسيانه فى اجره بل يثاب على قصد تركها لله وان فعلها ناسيا كذلك الصوم فانما يفعله الناسي لا يضاف إليه بل فعله الله به من غير قصده ولهذا قال النبى ( من اكل او شرب ناسيا فليتم صومه فانما اطعمه الله وسقاه ( فاضاف اطعامه واسقاءه إلى الله لانه لم يتعمد ذلك ولم يقصده وما يكون مضافا إلى الله لا ينهى عنه العبد فانما ينهى عن فعله والافعال التى ليست اختيارية لا تدخل تحت التكليف ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير ونحو ذلك
يبين ذلك ان الصائم اذا احتلم في منامه لم يفطر ولو استمنى باختياره افطر ولو ذرعه القيء لم يفطر ولو استدعى القيء افطر فلو كان ما يوجد بغير قصده بمنزله ما يوجد بقصده لأفطر بهذا وهذا
فان قيل فالمخطىء يفطر مثل من يأكل يظن بقاء الليل ثم تبين انه طلع الفجر او ياكل يظن غروب الشمس ثم تبين له ان الشمس لم تغرب
____________________
(20/571)
قيل هذا فيه نزاع بين السلف والخلف والذين فرقوا بين الناسي والمخطىء قالوا هذا يمكن الاحتراز منه بخلاف النسيان وقاسوا ذلك على ما اذا افطر يوم الشك ثم تبين انه من رمضان ونقل عن بعض السلف انه يقضي فى مسألة الغروب دون الطلوع كما لو استمر الشك والذين قالوا لا يفطر فى الجميع قالوا حجتنا اقوى ودلالة الكتاب والسنة على قولنا اظهر فان الله قال { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فجمع بين النسيان والخطأ ولأن من فعل المحظورات الحج والصلاة مخطئا كمن فعلها ناسيا وقد ثبت في الصحيح انهم افطروا على عهد النبى ثم طلعت الشمس ولم يذكروا فى الحديث انهم امروا بالقضاء ولكن هشام بن عروة قال لا بد من القضاء وابوه اعلم منه وكان يقول لا قضاء عليهم
وثبت في الصحيحين ان طائفة من الصحابة كانوا يأكلون حتى يظهر لأحدهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود وقال النبى لأحدهم ( ان وسادك لعريض انما ذلك بياض النهار وسواد الليل ( ولم ينقل انه امرهم بقضاء وهؤلاء جهلوا الحكم فكانوا مخطئين وثبت عن عمر بن الخطاب انه افطر ثم تبين النهار فقال لا نقضي فانا لم نتجانف لاثم وروى عنه انه قال نقضي ولكن
____________________
(20/572)
اسناد الاول اثبت وصح عنه انه قال الخطب يسير فتأول ذلك من تأوله على انه أراد خفة امر القضاء لكن اللفظ لا يدل على ذلك
وفى الجملة فهذا القول اقوى اثرا ونظرا واشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس وبه يظهر أن القياس فى الناسى أنه لايفطر والأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة ان من فعل محظورا ناسيا لم يكن قد فعل منهيا عنه فلا يبطل بذلك شيء من العبادات ولا فرق بين الوطء وغيره سواء كان فى احرام او صيام
فصل
وأما قول القائل انهم يقولون ذلك فيما يروى عن بعض الصحابة فهذا باب واسع والذي يلتزمه انما كان من اقوال الصحابة فقال بعضهم بقول وقال بعضهم بخلافهم فقد يكون احد القولين مخالفا للقياس الصحيح بل وللنص الصريح والذي لا ريب فيه انه حجة ما كان من سنة الخلفاء الراشدين الذي سنوه للمسلمين ولم ينقل ان احدا من الصحابة خالفهم فيه فهذا لا ريب انه حجة بل اجماع وقد دل عليه قول النبى ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
____________________
(20/573)
الراشدين المهديين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة
مثال ذلك حبس عمر وعثمان رضى الله 2 عنهما للأرضين المفتوحة وترك قسمتها على الغانمين فمن قال ان هذا لا يجوز قال لأن النبى قسم خيبر وقال ان الامام اذا حبسها نقض حكمه لأجل مخالفة السنة فهذا القول خطا وجراة على الخلفاء الراشدين فان فعل النبى فى خيبر انما يدل على جواز ما فعله لا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل يدل على عدم وجوب ذلك لكان فعل الخلفاء الراشدين دليلا على عدم الوجوب فكيف وقد ثبت انه فتح مكة عنوة كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة بل تواتر ذلك عند أهل المغازى والسير فانه قدم حين نقضوا العهد ونزل بمر الظهران ولم يأت احد منهم يصالحه ولا أرسل اليهم احدا يصالحهم بل خرج أبو سفيان يتجسس الاخبار فاخذه العباس وقدم به كالأسير وغايته ان يكون العباس أمنه فصار مستأمنا ثم اسلم فصار من المسلمين فكيف يتصور أن يعقد عقد صلح الكفار بعد اسلامه بغير اذن منهم
مما يبين ذلك ان النبى علق الامان بأسباب كقوله ( من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد
____________________
(20/574)
فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ( فأمن من لم يقاتله فلو كانوا معاهدين لم يحتاجوا إلى ذلك وأيضا فسماهم النبى طلقاء لأنه أطلقهم بعد القدرة عليهم كما يطلق الأسير فصاروا بمنزلة من أطلقهم من الأسر كثمامة بن أثال وغيره وأيضا فإنه أذن فى قتل جماعة منهم من الرجال والنساء
وأيضا فقد ثبت عنه فى الصحاح انه قال فى خطبته ( ان مكة لم تحل لأحد قبلى ولا تحل لأحد بعدى وانما أحلت لى ساعة من نهار ( ودخل مكة وعلى راسه المغفر لم يدخلها باحرام فلو كانوا قد صالحوه لم يكن قد أحل له شيء كما لو صالح مدينة من مدائن الحل لم تكن قد أحلت فكيف يحل له البلد الحرام وأهله مسالمون له صلح معه وأيضا فقد قاتلوا خالدا وقتل طائفة منهم
وفى الجملة من تدبرالآثار المنقولة علم بالاضطرار ان مكة فتحت عنوة ومع هذا فالنبى لم يقسم أرضها كما لم يسترق رجالها ففتح خيبر عنوة وقسمها وفتح مكة عنوة ولم يقسمها فعلم جواز الأمرين
والأقوال فى هذا الباب ثلاثة اما وجوب قسم العقار كقول الشافعى واما تحريم قسمه ووجوب تحبيسه كقول مالك واما التخيير
____________________
(20/575)
بينهما كقول الأكثرين الثورى وأبى حنيفة وأبى عبيد وهو ظاهر مذهب أحمد وعنه كالقولين الأولين
ومن أشكل ما أشكل على الفقهاء من أحكام الخلفاء الراشدين امرأة المفقود فانه قد ثبت عن عمر بن الخطاب انه لما أجل امرأته أربع سنين وأمرها أن تتزوج بعد ذلك ثم قدم المفقود خيره عمر بين امراته وبين مهرها وهذا مما اتبعه فيه الامام أحمد وغيره
وأما طائفة من متأخرى أصحابه فقالوا هذا يخالف القياس والقياس انها باقية على نكاح الأول الا ان نقول الفرقة تنفذ ظاهرا وباطنا فهي زوجة الثانى والأول قول الشافعى والثاني قول مالك
وآخرون اسرفوا فى إنكار هذا حتى قالوا لو حكم حاكم بقول عمر لنقض حكمه لبعده عن القياس وآخرون أخذوا ببعض قول عمر وتركوا بعضه فقالوا اذا تزوجت فهي زوجة الثانى واذا دخل بها الثانى فهي زوجته ولا ترد إلى الأول
ومن خالف عمر لم يهتد إلى ما اهتدى إليه عمر ولم يكن له من الخبرة بالقياس الصحيح مثل خبرة عمر فان هذا مبنى على
____________________
(20/576)
أصل وهو وقف العقود
اذا تصرف الرجل فى حق الغيربغير اذنه هل يقع تصرفه مردودا أو موقوفا على اجازته على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد
أحدهما الرد فى الجملة على تفصيل عنه والرد مطلقا قول الشافعى
والثانى انه موقوف وهو مذهب أبى حنيفة ومالك وهذا فى النكاح والبيع والاجارة وغير ذلك فظاهر مذهب أحمد أن المتصرف اذا كان معذورا لعدم تمكنه من الاستئذان وحاجته إلى التصرف وقف على الاجازة بلا نزاع وان أمكنه الاستئذان أو لم يكن به حاجة إلى التصرف ففيه النزاع فالأول مثل من عنده أموال لايعرف أصحابها كالغصوب والعوارى ونحوهما إذا تعذرت عليه معرفة أرباب الأموال ويئس منها فان مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد أنه يتصدق به عنهم فان ظهروا بعد ذلك كانوا مخيرين بين الامضاء وبين التضمين وهذا مما جاءت به السنة فى اللقطة فان الملتقط يأخذها بعد التعريف ويتصرف فيها ثم ان جاء صاحبها كان مخيرا بين امضاء تصرفه وبين المطالبة بها فهو تصرف موقوف لكن تعذر الاستئذان ودعت الحاجة إلى التصرف
وكذلك الموصى بما زاد على الثلث وصيته موقوفة على اجازة الورثة
____________________
(20/577)
عند الأكثرين وانما يخيرون عند الموت ففى المفقود المنقطع خبره ان قيل ان امرأته تبقى إلى ان يعلم خبره بقيت لا أيما ولا ذات زوج إلى ان تصير عجوزا وتموت ولم تعلم خبره والشريعة لم تأت بمثل هذا فلما اجلت أربع سنين ولم ينكشف خبره حكم بموته ظاهرا وان قيل انه يسوغ للامام ان يفرق بينهما للحاجة فانما ذلك لاعتقاده موته والا فلو علم حياته لم يكن مفقودا كما ساغ التصرف فى الأموال التى تعذر معرفة أصحابها فاذا قدم الرجل تبين انه كان حيا كما اذا ظهر صاحب المال والامام قد تصرف فى زوجته بالتفريق فيبقى هذا التفريق موقوفا على اجازته فان شاء أجاز ما فعله الامام واذا أجازه صار كالتفريق المأذون فيه
ولو أذن للامام ان يفرق بينهما ففرق وقعت الفرقة بلا ريب وحينئذ فيكون نكاح الأول صحيحا وان لم يجز ما فعله الامام كان التفريق باطلا من حين اختار امرأته لا ما قبل ذلك بل المجهول كالمعدوم كما فى اللقطة فانه اذا ظهر مالكها لم يبطل ما تقدم قبل ذلك وتكون باقية على نكاحه من حين اختارها فتكون زوجته فيكون القادم مخيرا بين اجازة ما فعله الامام ورده واذا أجازه فقد أخرج البضع عن ملكه
وخروج البضع من ملك الزوج متقوم عند الأكثرين كمالك
____________________
(20/578)
والشافعى وأحمد فى أنص الروايتين عنه وهو مضمون بالمسمى كما يقوله مالك وأحمد فى إحدى الروايتين عنه والشافعى يقول هو مضمون بمهر المثل
والنزاع بينهم فيما اذا شهد شهود انه طلق امراته ورجعوا عن الشهادة فقيل لاشيء عليهم بناء على أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم وهو قول أبى حنيفة وأحمد فى إحدى الروايتين اختارها متأخروا أصحابه كالقاضى أبى يعلى وأصحابه وقيل عليهم مهر المثل وهو قول الشافعى وهو وجه فى مذهب أحمد وقيل عليهم المسمى وهو مذهب مالك وهو أشهر فى نصوص أحمد وقد نص على ذلك فيما اذا أفسد نكاح امراته برضاع أنه يرجع بالمسمى والكتاب والسنة دلا على هذا القول ففى سورة الممتحنة فى قول الله تعالى { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } وقوله { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا }
وهذا المسمى دون مهر المثل وكذلك أمر النبى زوج المختلعة أن يأخذ ما أعطاها ولم يأمر بمهر المثل وهو انما يأمر فى المعاوضات المطلقة بالعدل وهو مبسوط فى غير هذا الموضع فقصة عمر تنبنى على هذا
والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة ثبت
____________________
(20/579)
ذلك عنهم فى قضايا متعددة ولم يعلم أن أحدا أنكر ذلك مثل قصة بن مسعود فى صدقته عن سيد الجارية التى ابتاعها بالثمن الذى كان له عليه فى ذمته لما تعذرت عليه معرفته وكتصدق الغال بالمال المغلول لما تعذر قسمته بين الجيش واقرار معاوية على ذلك وغير ذلك من القضايا مع أن القول بوقف العقود مطلقا هو الأظهر فى الحجة وهو قول الجمهور وليس ذلك اضرارا أصلا بل صلاح بلا فساد فان الرجل قد يرى أن يشترى لغيره أو يبيع له أو يستأجر له أو يوجب له ثم يشاوره فان رضى والا فلم يصبه ما يضره وكذلك فى تزويج موليته ونحو ذلك
وأما مع الحاجة فالقول به لا بد منه فمسألة المفقود هي مما يقف فيها تعريف الامام على اذن الزوج اذا جاء كما يقف تصرف الملتقط على اذن المالك اذا جاء والقول برد المهر إليه لخروج امرأته من ملكه ولكن تنازعوا فى المهر الذى يرجع به هل هو ما أعطاها هو أو ما أعطاها الثانى وفيه روايتان عن أحمد والصواب انه انما يرجع بمهره هو فانه الذى استحقه وأما المهر الذى أصدقها الثانى فلا حق له فيه
واذا ضمن الأول للثانى المهر فهل يرجع به عليها فيه روايتان
____________________
(20/580)
إحداهما يرجع لانها التى أخذته والثانى قد أعطاها المهر الذى عليه فلا يضمن مهرين بخلاف المرأة فانها لما اختارت فراق الاول ونكاح الثانى فعليها أن ترد المهر لان الفرقة جاءت منها
والثانية لايرجع لان المرأة تستحق المهر بما استحل من فرجها والأول يستحق المهر لخروج البضع من ملكه فكان على الثانى مهران
وهذا المأثور عن عمر فى ( مسألة المفقود ( هو عند طائفة من أئمة الفقهاء من أبعد الاقوال عن القياس حتى قال من أئمة الفقهاء فيه ما قال وهو مع هذا أصح الاقوال وأجراها على القياس وكل قول قيل سواه فهو خطا فمن قال انها تعاد إلى الأول وهو لايختارها ولا يريدها وقد فرق بينه وبينها تفريقا سائغا فى الشرع وأجاز هو ذلك التفريق فانه وان كان الامام تبين ان الامر بخلاف ما اعتقده فالحق فى ذلك للزوج فاذا أجاز ما فعله الامام زال المحذور
وأما كونها زوجة الثانى بكل حال مع ظهور زوجها وتبين الامر بخلاف ما فعل فهو خطا أيضا فانه لم يفارق امرأته وانما فرق بينهما بسبب ظهر أنه لم يكن كذلك وهو يطلب امرأته فكيف يحال بينهما وهو لو طلب ماله أو بدله رد إليه فكيف لا ترد إليه امرأته وأهله
____________________
(20/581)
أعز عليه من ماله وان قيل تعلق حق الثانى بها قيل حقه سابق على حق الثانى وقد ظهر انتقاض السبب الذى به استحق الثانى أن تكون زوجة له وما الموجب لمراعاة حق الثانى دون حق الاول
فالصواب ما قضى به امير المؤمنين عمر بن الخطاب واذا ظهر صواب الصحابة فى مثل هذه المشكلات التى خالفهم فيها مثل ابى حنيفة ومالك والشافعي فلأن يكون الصواب معهم فيما وافقهم فيه هؤلاء بطريق الاولى وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة افقه الامة واعلمها واعتبر هذا بمسائل الايمان بالنذر والعتق والطلاق وغير ذلك ومسائل تعليق الطلاق بالشروط ونحو ذلك وقد بينت فيما كتبته ان المنقول فيها عن الصحابة هو اصح الاقوال قضاء وقياسا وعليه يدل الكتاب والسنة وعليه يدل القياس الجلى وكل قول سوى ذلك تناقض فى القياس مخالف للنصوص
وكذلك فى مسائل غير هذه مثل مسألة بن الملاعنة ومسألة ميراث المرتد وما شاء الله من المسائل لم اجد اجود الاقوال فيها الا الاقوال المنقولة عن الصحابة
____________________
(20/582)
والى ساعتى هذه ما علمت قولا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه الا وكان القياس معه لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من اجل العلوم وانما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده وما اشتملت عليه شريعة الاسلام من المحاسن التى تفوق التعداد وما تضمنته من مصالح العباد فى المعاش والمعاد وما فيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة والعدل التام والله اعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
وسئل رحمه الله
هل يسوغ تقليد هؤلاء الائمة كحماد بن ابى سليمان وبن المبارك وسفيان الثوري والاوزاعى وقد قال عنهم رجل اعنى هؤلاء الائمة المذكورين هؤلاء لا يلتفت اليهم فصاحب هذا الكلام ما حكمه
فأجاب واما الائمة المذكورون فمن سادات ائمة الاسلام فان الثوري امام اهل العراق وهو عند اكثرهم اجل من اقرانه كابن ابى ليلى والحسن بن صالح بن حي وابى حنيفة وغيره وله مذهب باق إلى اليوم بأرض خراسان والأوزاعي امام اهل الشام وما زالوا على مذهبه إلى المائة الرابعة بل اهل المغرب كانوا على مذهبه قبل ان يدخل اليهم مذهب مالك وحماد بن ابى سليمان هو شيخ ابى حنيفة
____________________
(20/583)
ومع هذا فهذا القول هو قول احمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما ومذهبه باق إلى اليوم وهو مذهب داود بن علي واصحابه ومذهبهم باق إلى اليوم فلم يجمع الناس اليوم على خلاف هذا القول بل القائلون به كثير فى المشرق والمغرب وليس فى الكتاب والسنة فرق فى الائمة المجتهدين بين شخص وشخص فمالك والليث بن سعد والاوزاعى والثوري هؤلاء ائمة في زمانهم وتقليد كل منهم كتقليد الآخر لا يقول مسلم انه يجوز تقليد هذا دون هذا ولكن من منع من تقليد احد هؤلاء فى زماننا فانما يمنعه لأحد شيئين (
أحدهما ) اعتقاده انه لم يبق من يعرف مذاهبهم وتقليد الميت فيه نزاع مشهور فمن منعه قال هؤلاء موتى ومن سوغه قال لابد ان يكون فى الاحياء من يعرف قول الميت
و ( الثاني ) ان يقول الاجماع اليوم قد انعقد على خلاف هذا القول وينبني ذلك على مسألة معروفة في اصول الفقه وهي ان الصحابة مثلا او غيرهم من اهل الاعصار اذا اختلفوا في مسألة على قولين ثم اجمع التابعون او اهل العصر الثانى على احدهما فهل يكون هذا اجماعا يرفع ذلك الخلاف وفى المسألة نزاع مشهور فى مذهب احمد وغيره من العلماء فمن قال ان مع اجماع اهل العصر الثانى لا يسوغ الأخذ بالقول الآخر واعتقد ان اهل العصر اجمعوا على ذلك يركب من هذين
____________________
(20/584)
الاعتقادين المنع
ومن علم ان الخلاف القديم حكمه باق لأن الاقوال لا تموت بموت قائلها فانه يسوغ الذهاب إلى القول الآخر للمجتهد الذي وافق اجتهاده واما التقليد فينبني على مسألة تقليد الميت وفيها قولان مشهوران ايضا فى مذهب الشافعي واحمد وغيرهما واما اذا كان القول الذي يقول به هؤلاء الائمة او غيرهم قد قال به بعض العلماء الباقية مذاهبهم فلا ريب ان قوله مؤيد بموافقة هؤلاء ويعتضد به ويقابل بهؤلاء من خالفه من أقرانهم فيقابل بالثوري والاوزاعي أبا حنيفة ومالك اذا الامة متفقة على انه اذا اختلف مالك والاوزاعي والثوري وأبو حنيفة لم يجز ان يقال قول هذا هو صواب دون هذا إلا بحجة والله أعلم
____________________
(20/585)
باب المياه قال الشيخ الإمام العالم
العامل القدوة ربانى الأمة ومحيي السنة العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد خاتم المرسلين وإمام المهتدين وعلى آله أجمعين فصل
أما العبادات فأعظمها الصلاة والناس إما أن يبتدئوا مسائلها بالطهور لقوله ( مفتاح الصلاة الطهور ( كما رتبه أكثرهم وإما بالمواقيت التى تجب بها الصلاة كما فعله مالك وغيره
____________________
(21/5)
فأما الطهارة والنجاسة فنوعان من الحلال والحرام فى اللباس ونحوه تابعان للحلال والحرام فى الأطعمة والأشربة
ومذهب أهل الحديث فى هذا الأصل العظيم الجامع وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين فان أهل المدينة مالكا وغيره يحرمون من الأشربة كل مسكر كما صحت بذلك النصوص عن النبى من وجوه متعددة وليسوا فى الأطعمة كذلك بل الغالب عليهم فيها عدم التحريم فيبيحون الطيور مطلقا وإن كانت من ذات المخالب ويكرهون كل ذي ناب من السباع وفى تحريمها عن مالك روايتان وكذلك فى الحشرات عنه هل هي محرمة أو مكروهة روايتان وكذلك البغال والحمير وروى عنه أنها مكروهة أشد من كراهة السباع وروى عنه انها محرمة بالسنة دون تحريم الحمير والخيل أيضا يكرهها لكن دون كراهة السباع وأهل الكوفة فى باب الأشربة مخالفون لأهل المدينة ولسائر الناس ليست الخمر عندهم إلا من العنب ولا يحرمون القليل من المسكر إلا أن يكون خمرا من العنب أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب النيء أو يكون من مطبوخ عصير العنب إذا لم يذهب ثلثاه وهم فى
____________________
(21/6)
الأطعمة فى غاية التحريم حتى حرموا الخيل والضباب وقيل أن أبا حنيفة يكره الضب والضباع ونحوها فأخذ أهل الحديث فى الأشربة بقول أهل المدينة وسائر أهل الأمصار موافقة للسنة المستفيضة عن النبى وأصحابه فى التحريم وزادوا عليهم فى متابعة السنة وصنف الإمام أحمد كتابا كبيرا فى الأشربه ما علمت أحدا صنف أكبر منه وكتابا أصغر منه وهو أول من أظهر فى العراق هذه السنة حتى إنه دخل بعضهم بغداد فقال هل فيها من يحرم النبيذ فقالوا لا إلا أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة وأخذ فيه بعامة السنة حتى إنه حرم العصير والنبيذ بعد ثلاث وإن لم يظهر فيه شدة متابعة للسنة المأثورة فى ذلك لأن الثلاث مظنة ظهور الشدة غالبا والحكمة هنا مما تخفى فأقيمت المظنة مقام الحكمة حتى إنه كره الخليطين إما كراهة تنزية أو تحريم على إختلاف الروايتين عنه وحتى إختلف قوله فى الإنتباذ فى الأوعية هل هو مباح أو محرم أو مكروه لأن أحاديث النهى كثيرة جدا وأحاديث النسخ قليلة فاختلف إجتهاده هل تنسخ تلك الأخبار المستفيضة بمثل هذه الأخبار التى لا تخرج عن كونها أخبار آحاد ولم يخرج البخارى منها شيئا
____________________
(21/7)
وأخذوا فى الأطعمة بقول أهل الكوفة لصحة السنن عن النبى بتحريم كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير وتحريم لحوم الحمر لأن النبى أنكر على من تمسك فى هذا الباب بعدم وجود نص التحريم فى القرآن حيث قال ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله تعالى ( وهذا المعنى محفوظ عن النبى من غير وجه وعلموا أن ما حرمه رسول الله إنما هو زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن لأن القرآن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وعدم التحريم ليس تحليلا وإنما هو بقاء للأمر على ما كان وهذا قد ذكره الله فى سورة الأنعام التى هي مكية بإتفاق العلماء ليس كما ظنه أصحاب مالك والشافعى أنها من آخر القرآن نزولا وإنما سورة المائدة هي المتأخرة وقد قال الله فيها ( أحل لكم الطيبات ( فعلم أن عدم التحريم المذكور فى سورة الأنعام ليس تحليلا وإنما هو عفو فتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع
____________________
(21/8)
للعفو ليس نسخا للقرآن لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرموه بل أحلوا الخيل لصحة السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم بتحليلها يوم خيبر وبأنهم ذبحوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا وأكلوا لحمه وأحلوا الضب لصحة السنن عن النبى بأنه قال ( لا أحرمه ( وبأنه أكل على مائدته وهو ينظر ولم ينكر على من أكله وغير ذلك مما جاءت فيه الرخصة فنقصوا عما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة كما زادوا على أهل المدينة فى الأشربة لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة ولأهل المدينة سلف من الصحابة والتابعين فى إستحلال ما أحلوه أكثر من سلف أهل الكوفة فى إستحلال المسكر والمفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة ولهذا سميت الخمر ( أم الخبائث ( كما سماها عثمان بن عفان رضى الله عنه وغيره وأمر النبى بجلد شاربها وفعله هو وخلفاؤه وأجمع عليه العلماء دون المحرمات من الأطعمة فانه لم يحد فيها أحد من أهل العلم إلا ما بلغنا عن الحسن البصرى
بل قد أمر صلى الله عليه وسلم
____________________
(21/9)
بقتل شارب الخمر فى الثالثة أو الرابعة وإن كان الجمهور على أنه منسوخ ونهى النبى فيما صح عنه عن تخليل الخمر وأمر بشق ظروفها وكسر دنانها وإن كان قد إختلفت الرواية عن أحمد هل هذا باق أو منسوخ ولما كان الله سبحانه وتعالى إنما حرم الخبائث لما فيها من الفساد إما فى العقول أو الأخلاق أو غيرها ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة من النقص بقدر ما فيها من المفسدة ولولا التأويل لاستحقوا العقوبة ثم إن الامام أحمد وغيره من علماء الحديث زادوا فى متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات مثل لحوم الإبل فإنها حلال بالكتاب والسنة والإجماع ولكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبى بقوله ( انها جن خلقت من جن ( وقد قال فيما رواه أبو داود ( الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأالنار بالماء فاذا غضب أحدكم فليتوضأ ( فأمر بالتوضؤ من الأمر العارض من الشيطان فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول بما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحمها كما صح ذلك عنه من غير وجه من حديث جابر بن سمرة والبراء بن
____________________
(21/10)
عازب وأسيد بن الحضير وذى الغرة وغيرهم فقال مرة ( توضؤا من لحوم الإبل ولا توضئوا من لحوم الغنم وصلوا فى مرابض الغنم ولا تصلوا فى معاطن الإبل ( فمن توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمنين لأكلها من غير وضوء كالأعراب من الحقد وقسوة القلب التى أشار اليها النبى بقوله المخرج عنه فى الصحيحين ( إن الغلظة وقسوة القلوب فى الفدادين أصحاب الإبل وإن السكينة فى أهل الغنم (
وإختلف عن أحمد هل يتوضأ من سائر اللحوم المحرمة على روايتين بناء على أن الحكم مختص بها أو أن المحرم أولى بالتوضؤ منه من المباح الذى فيه نوع مضرة
وسائر المصنفين من أصحاب الشافعى وغيره وافقوا أحمد على هذا الأصل وعلموا أن من إعتقد أن هذا منسوخ بترك الوضوء مما مست النار فقد أبعد لأنه فرق فى الحديث بين اللحمين ليتبين أن العلة هي الفارقة بينهما لا الجامع
وكذلك قالوا بما إقتضاه الحديث من أنه يتوضأ منه نيئا ومطبوخا ولأن هذا الحديث كان بعد النسخ ولهذا قال فى لحم الغنم ( وإن شئت فلا تتوضأ ( ولأن النسخ لم يثبت إلا بالترك
____________________
(21/11)
من لحم غنم فلا عموم له وهذا معنى قول جابر ( كان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار ( فانه رآه يتوضأ ثم رآه أكل لحم غنم ولم يتوضأ ولم ينقل عن النبى صيغة عامة فى ذلك ولو نقلها لكان فيه نسخ للخاص بالعام الذى لم يثبت شموله لذلك الخاص عينا وهو أصل لا يقول به أكثر المالكيه والشافعية والحنبلية هذا مع أن أحاديث الوضوء مما مست النار لم يثبت أنها منسوخه بل قد قيل إنها متأخرة ولكن أحد الوجهين فى مذهب أحمد أن الوضوء منها مستحب ليس بواجب والوجه الآخر لا يستحب
فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية والتطهر منها حتى قال ( إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء فان الشيطان يبيت على خيشومه ) وقال ( إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده فى الاناء حتى يغسلها ثلاثا فان أحدكم لا يدري أين باتت يده ( فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل
____________________
(21/12)
وكذلك نهى عن الصلاة فى أعطان الإبل وقال ( إنها جن خلقت من جن ( كما ثبت عنه أنه قال ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ( وقد روى عنه ( أن الحمام بيت الشيطان ( وثبت عنه أنه لما إرتحل عن المكان الذى ناموا فيه عن صلاة الفجر قال ( إنه مكان حضرنا فيه الشيطان ( فعلل الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة وبهذا يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث ومذهبه الظاهر عنه أن ما كان مأوى للشياطين كالمعاطن والحمامات حرمت الصلاة فيه وما عرض الشيطان فيه كالمكان الذى ناموا فيه عن الصلاة كرهت فيه الصلاة والفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم أو سمعوها ولم يعرفوا العلة فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه
وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل وأنهم لم يكونوا يتوضؤن من لحوم الإبل فقد غلط عليهم وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم ( أنهم لم يكونوا يتوضؤن مما مست النار ( وإنما المراد أن أكل ما مس النار ليس هو سببا عندهم لوجوب
____________________
(21/13)
الوضوء والذى أمر به النبى من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار كما يقال كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذى
ومن تمام هذا أنه قد صح عن النبى فى صحيح مسلم وغيره من حديث أبى ذر وأبى هريرة رضى الله عنهما وجاء من حديث غيرهما أنه ( يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار ( وفرق النبى صلى الله عليه وسلم بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض بأن ( الأسود شيطان ( وصح عنه أنه قال ( إن الشيطان تفلت على البارحة ليقطع صلاتى فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ( الحديث فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته فهذا أيضا يقتضى أن مرور الشيطان يقطع الصلاة فلذلك أخذ أحمد بذلك فى الكلب الأسود وإختلف قوله فى المرأة والحمار لأنه عارض هذا الحديث حديث عائشة لما كان النبى يصلى وهى فى قبلته وحديث بن عباس رضى الله عنهما لما إجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف والنبى يصلى بأصحابه بمنى مع أن المتوجه أن الجميع يقطع وأنه يفرق بين المار واللابث كما فرق بينهما فى الرجل فى كراهة مروره دون لبثه فى القبلة إذا إستدبره المصلى ولم يكن متحدثا
____________________
(21/14)
وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث وإختلف المتقدمون من أصحاب أحمد فى الشيطان الجني إذا علم بمروره هل يقطع الصلاة والاوجه أنه يقطعها بتعليل رسول الله وبظاهر قوله ( يقطع صلاتى ( لأن الأحكام التى جاءت بها السنة فى الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب فى الطهارة والصلاة فى أمكنتهم وممرهم ونحو ذلك قوية فى الدليل نصا وقياسا ولذلك أخذ بها فقهاء الحديث ولكن مدرك علمها أثرا هو لأهل الحديث ومدركه قياسا هو فى باطن الشريعة وظاهرها دون التفقه فى ظاهرها فقط ولو لم يكن فى الأئمة من إستعمل هذه السنن الصحيحة النافعة لكان وصمة على الأمة ترك مثل ذلك والأخذ بما ليس بمثله لا أثرا ولا رأيا
ولقد كان أحمد رحمه الله يعجب ممن يدع حديث ( الوضوء من لحوم الإبل ( مع صحته التى لا شك فيها وعدم المعارض له ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل ولذلك أعرض عنها الشيخان البخارى ومسلم وإن كان أحمد على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء
____________________
(21/15)
من مس الذكر لكن غرضه أن الوضوء من لحوم الإبل أقوى فى الحجة من الوضوء من مس الذكر وقد ذكرت ما يبين أنه أظهر فى القياس منه فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ولهذا كان كل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الاكل نجسا وكان أحمد يعجب أيضا ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك فى الصلاة مع أنه أبعد عن القياس والأثر فيه مرسل قد ضعفه أكثر الناس وقد صح عن الصحابة ما يخالفه
والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يقطع الصلاة شيء ( أو بما روى فى ذلك عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين فى هذه المسألة أو برأى ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة خصوصا مذهب أحمد فهذا أصل فى الخبائث الجسمانية والروحانية
وأصل آخر وهو أن الكوفيين قد عرف تخفيفهم فى العفو
____________________
(21/16)
عن النجاسة فيعفون من المغلظة عن قدر الدرهم البغلي ومن المخففة عن ربع المحل المتنجس والشافعى بإزائهم فى ذلك فلا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الإستنجاء وونيم الذباب ونحوه ولا يعفو عن دم ولا عن غيره إلا عن دم البراغيث ونحوه مع أنه ينجس أرواث البهائم وأبوالها وغير ذلك فقوله فى النجاسات نوعا وقدرا أشد أقوال الأئمة الأربعة ومالك متوسط فى نوع النجاسة وفى قدرها فإنه لا يقول بنجاسة الأرواث والأبوال مما يؤكل لحمه ويعفو عن يسير الدم وغيره وأحمد كذلك فإنه متوسط فى النجاسات فلا ينجس الأرواث والأبوال ويعفو عن اليسير من النجاسات التى يشق الإحتراز عنها حتى أنه فى إحدى الروايتين عنه يعفو عن يسير روث البغل والحمار وبول الخفاش وغير ذلك مما يشق الإحتراز عنه بل يعفو فى إحدى الروايتين عن اليسير من الروث والبول من كل حيوان طاهر كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فى شرح المذهب وهو مع ذلك يوجب إجتناب النجاسة فى الصلاة فى الجملة من غير خلاف عنه لم يختلف قوله فى ذلك كما إختلف أصحاب مالك ولو صلى بها جاهلا أو ناسيا لم تجب عليه الإعادة فى أصح الروايتين كقول مالك كما دل عليه حديث
____________________
(21/17)
النبى لما خلع نعليه فى أثناء الصلاة لأجل الأذى الذى فيهما ولم يستقبل الصلاة ولما صلى الفجر فوجد فى ثوبه نجاسة أمر بغسلها ولم يعد الصلاة والرواية الأخرى تجب الإعادة كقول أبى حنيفة والشافعى وأصل آخر فى إزالتها فمذهب أبى حنيفة تزال بكل مزيل من المائعات والجامدات والشافعى لا يرى إزالتها إلا بالماء حتى ما يصيب أسفل الخف والحذاء والذيل لا يجزئ فيه إلا الغسل بالماء وحتى نجاسة الأرض ومذهب أحمد فيه متوسط فكل ما جاءت به السنة قال به يجوز فى الصحيح عنه مسحها بالتراب ونحوه من النعل ونحوه كما جاءت به السنة كما يجوز مسحها من السبيلين فان السبيلين بالنسبة إلى سائر الأعضاء كأسفل الخف بالنسبة إلى سائر الثياب فى تكرر النجاسة على كل منها وإختلف أصحابه فى أسفل الذيل هل هو كأسفل الخف كما جاءت به السنة واستوائها للأثر فى ذلك والقياس إزالتها عن الأرض بالشمس والريح يجب التوسط فيه فان التشديد فى النجاسات جنسا وقدرا هو دين اليهود والتساهل
____________________
(21/18)
هو دين النصارى ودين الإسلام هو الوسط فكل قول يكون فيه شيء من هذا الباب يكون أقرب إلى دين الإسلام
وأصل آخر وهو إختلاط الحلال بالحرام كإختلاط المائع الطاهر بالنجس فقول الكوفيين فيه من الشدة مالا خفاء به وسر قولهم إلحاق الماء بسائر المائعات وأن النجاسة إذا وقعت فى مائع لم يمكن إستعمالة إلا بإستعمال الخبث فيحرم الجميع مع أن تنجيس المائع غير الماء الآثار فيه قليلة وبإزائهم مالك وغيره من أهل المدينة فانهم فى المشهور لا ينجسون الماء إلا بالتغير ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره مبالغة فى طهورية الماء مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات ولأحمد قول كمذهبهم لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول الشافعى وإختلف قوله فى المائعات غير الماء هل يلحق بالماء أولا يلحق به كقول مالك والشافعى أو يفرق بين الماء وغير الماء كخل العنب على ثلاث روايات
____________________
(21/19)
وفى هذه الأقوال من التوسط أثرا ونظرا مالا خفاء به مع أن قول أحمد الموافق لقول مالك راجح فى الدليل
وأصل آخر وهو أن للناس فى أجزاء الميتة التى لا رطوبة فيها كالشعر والظفر والريش مذاهب هل هو طاهر أو نجس ثلاثة أقوال أحدها نجاستها مطلقا كقول الشافعى ورواية عن أحمد بناء على أنها جزء من الميتة والثانى طهارتها مطلقا كقول أبى حنيفة وقول فى مذهب أحمد بناء على أن الموجب للنجاسة هو الرطوبات [ وهى إنما تكون فيما يجرى فيه الدم ] ولهذا حكم بطهارة مالا نفس له سائلة فمالا رطوبة فيه من الأجزاء بمنزلة مالا نفس له سائلة والثالث نجاسة ما كان فيه حس كالعظم الحاقا له باللحم اليابس وعدم نجاسة مالم يكن فيه إلا النماء كالشعر إلحاقا له بالنبات
وأصل آخر وهو طهارة الأحداث التى هي الوضوء والغسل فان مذهب فقهاء الحديث استعملوا فيها من السنن مالا يوجد لغيرهم
____________________
(21/20)
ويكفى المسح على الخفين وغيرهما من اللباس والحوائل فقد صنف الإمام أحمد ( كتاب المسح على الخفين ( وذكر فيه من النصوص عن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى المسح على الخفين والجوربين وعلى العمامة بل على خمر النساء كما كانت أم سلمة زوج النبى وغيرها تفعله وعلى القلانس كما كان أبو موسى وأنس يفعلانه ما إذا تأمله العالم علم فضل علم أهل الحديث على غيرهم مع أن القياس يقتضى ذلك إقتضاء ظاهرا وإنما توقف عنه من توقف من الفقهاء لأنهم قالوا بما بلغهم من الأثر وجبنوا عن القياس ورعا ولم يختلف قول أحمد فيما جاء عن النبى كأحاديث المسح على العمائم والجوربين والتوقيت فى المسح وإنما إختلف قوله فيما جاء عن الصحابة كخمر النساء وكالقلانس الدنيات ومعلوم أن فى هذا الباب من الرخصة التى تشبه أصول الشريعة وتوافق الآثار الثابتة عن النبى وأعلم أن كل من تأول فى هذه الأخبار تأويلا مثل كون المسح على العمامة مع بعض الرأس هو المجزىء ونحو ذلك لم يقف على مجموع الأخبار وإلا فمن وقف على مجموعها أفادته علما يقينا بخلاف ذلك
____________________
(21/21)
وأصل آخر فى التيمم فان أصح حديث فيه حديث عمار بن ياسر رضى الله عنه المصرح بأنه يجزئ ضربة واحدة للوجه والكفين وليس فى الباب حديث يعارضه من جنسه وقد أخذ به فقهاء الحديث أحمد وغيره وهذا أصح من قول من قال يجب ضربتان والى المرفقين كقول أبى حنيفة والشافعى فى الجديد أو ضربتان إلى الكوعين
وأصل آخر فى الحيض والاستحاضة فان مسائل الإستحاضة من أشكل أبواب الطهارة وفى الباب عن النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث سنن سنة فى المعتادة أنها ترجع إلى عادتها وسنة فى المميزة أنها تعمل بالتمييز وسنة فى المتحيرة التى ليست لها عادة ولا تمييز بأنها تتحيض غالب عادات النساء ستا أو سبعا وأن تجمع بين الصلاتين إن شاءت فأما السنتان الأولتان ففى الصحيح وأما الثالثة فحديث حمنة بنت جحش رواه أهل السنن وصححه الترمذى وكذلك قد روى أبو داود وغيره فى سهلة بنت سهيل بعض معناه وقد إستعمل أحمد هذه السنن الثلاث فى المعتادة المميزة والمتحيرة فان إجتمعت العادة والتمييز قدم العادة فى أصح الروايتين كما جاء فى أكثر الأحاديث
____________________
(21/22)
فأما أبو حنيفة فيعتبر العادة إن كانت ولا يعتبر التمييز ولا الغالب بل إن لم تكن عادة إن كانت مبتدأة حيضها حيضة الأكثر وإلا حيضة الأقل ومالك يعتبر التمييز ولا يعتبر العادة ولا الأغلب فان لم يعتبر العادة ولا الأغلب فلا يحيضها بل تصلى أبدا إلا فى الشهر الأول فهل تحيض أكثر الحيض أو عادتها وتستظهر ثلاثة أيام على روايتين والشافعى يستعمل التمييز والعادة دون الأغلب فان إجتمع قدم التمييز وإن عدم صلت أبدا وإستعمل من الإحتياط فى الإيجاب والتحريم والإباحة ما فيه مشقة عظيمة علما وعملا فالسنن الثلاث التى جاءت عن النبى فى هذه الحالات الفقهية إستعملها فقهاء الحديث ووافقهم فى كل منها طائفة من الفقهاء
____________________
(21/23)
وسئل عن مسائل كثير وقوعها ويحصل الإبتلاء بها ويحصل الضيق والحرج والعمل بها على رأي إمام بعينه منها مسألة المياه اليسرة ووقوع النجاسة فيها من غير تغير وتغييرها بالطاهرات
فأجاب رحمة الله تعالى الحمد لله رب العالمين أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات كالأشنان والصابون والسدر والخطمي والتراب والعجين وغير ذلك مما قد يغير الماء مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمى ووضع فيه ماء فتغير به مع بقاء إسم الماء فهذا فيه قولان معروفان للعلماء أحدهما أنه لا يجوز التطهير به كما هو مذهب مالك والشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين عنه التى إختارها الخرقى والقاضى وأكثر متأخري أصحابه لأن هذا ليس بماء مطلق فلا يدخل فى قوله تعالى ( فلم تجدوا ماء ) ثم إن أصحاب هذا القول إستثنوا من هذا أنواعا بعضها متفق عليه بينهم وبعضها مختلف فيه فما كان من التغير حاصلا بأصل الخلقة أو بما يشق صون الماء عنه فهو طهور
____________________
(21/24)
باتفاقهم وما تغير بالأدهان والكافور ونحو ذلك ففيه قولان معروفان فى مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما وما كان تغيره يسيرا فهل يعفى عنه أولا يعفى عنه أو يفرق بين الرائحة وغيرها على ثلاثة أوجه إلى غير ذلك من المسائل والقول الثانى أنه لا فرق بين المتغير بأصل الخلقة وغيره ولا بما يشق الإحتراز عنه ولا بمالا يشق الإحتراز عنه فما دام يسمى ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورا كما هو مذهب أبى حنيفة وأحمد فى الرواية الأخرى عنه وهى التى نص عليها فى أكثر أجوبته وهذا القول هو الصواب لأن الله سبحانه وتعالى قال ( وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) وقوله ( فلم تجدوا ماء ( نكرة فى سياق النفي فيعم كل ما هو ماء لا فرق فى ذلك بين نوع ونوع فإن قيل ان المتغير لا يدخل فى اسم الماء قيل تناول الاسم لمسماه لا فرق فيه بين التغير الأصلى والطارئ ولا بين التغير الذى يمكن الإحتراز منه والذى لا يمكن الإحتراز منه فإن الفرق بين هذا وهذا إنما هو من جهة القياس لحاجة الناس إلى
____________________
(21/25)
استعمال هذا المتغير دون هذا فأما من جهة اللغة وعموم الإسم وخصوصه فلا فرق بين هذا وهذا ولهذا لو وكله فى شراء ماء أو حلف لا يشرب ماء أو غير ذلك لم يفرق بين هذا وهذا بل إن دخل هذا دخل هذا وإن خرج هذا خرج هذا فلما حصل الإتفاق على دخول المتغير تغيرا أصليا أو حادثا بما يشق صونه عنه علم أن هذا النوع داخل فى عموم الآية وقد ثبت بسنة رسول الله أنه قال فى البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) والبحر متغير الطعم تغيرا شديدا لشدة ملوحته فاذا كان النبي قد أخبر أن ماءه طهور مع هذا التغير كان ما هو أخف ملوحة منه أولى أن يكون طهورا وإن كان الملح وضع فيه قصدا إذ لا فرق بينهما فى الإسم من جهة اللغة وبهذا يظهر ضعف حجة المانعين فإنه لو استقى ماء أو وكله فى شراء ماء لم يتناول ذلك ماء البحر ومع هذا فهو داخل فى عموم الآية فكذلك ما كان مثله فى الصفة وأيضا فقد ثبت أن النبى ( أمر بغسل المحرم بماء وسدر ( وأمر بغسل ابنته بماء وسدر ( وأمر الذى أسلم أن يغتسل بماء وسدر ( ومن المعلوم أن السدر لابد أن يغير الماء فلو كان التغير يفسد الماء لم يأمر به
____________________
(21/26)
وقول القائل إن هذا تغير فى محل الاستعمال فلا يؤثر تفريق بوصف غير مؤثر لا فى اللغة ولا فى الشرع فان المتغير إن كان يسمى ماء مطلقا وهو على البدن فيسمى ماء مطلقا وهو فى الإناء وإن لم يسم ماء مطلقا فى أحدهما لم يسم مطلقا فى الموضع الآخر فانه من المعلوم أن أهل اللغة لا يفرقون فى التسمية بين محل ومحل وأما الشرع فان هذا فرق لم يدل عليه دليل شرعى فلا يلتفت إليه والقياس عليه إذا جمع أو فرق أن يبين أن ما جعله مناط الحكم جمعا أو فرقا مما دل عليه الشرع وإلا فمن علق الأحكام بأوصاف جمعا وفرقا بغير دليل شرعى كان واضعا لشرع من تلقاء نفسه شارعا فى الدين ما لم يأذن به الله ولهذا كان على القائس أن يبين تأثير الوصف المشترك الذى جعله مناط الحكم بطريق من الطرق الدالة على كون الوصف المشترك هو علة الحكم وكذلك فى الوصف الذى فرق فيه بين الصورتين عليه أن يبين تأثيره بطريق من الطرق الشرعية وأيضا فان النبى ( توضأ من قصعة فيها أثر العجين ومن المعلوم أنه لابد فى العادة من تغير الماء بذلك لا سيما فى
____________________
(21/27)
آخر الأمر إذا قل الماء وإنحل العجين فان قيل ذلك التغير كان يسيرا قيل وهذا أيضا دليل فى المسألة فانه إن سوى بين التغير اليسير والكثير مطلقا كان مخالفا للنص وإن فرق بينهما لم يكن للفرق بينهما حد منضبط لا بلغة ولا شرع ولا عقل ولا عرف ومن فرق بين الحلال والحرام بفرق غير معلوم لم يكن قوله صحيحا وأيضا فان المانعين مضطربون إضطرابا يدل على فساد أصل قولهم منهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره ويقول إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة ومنهم من يقول بل نحن نجد فى الماء أثر ذلك ومنهم من يفرق بين الورق الربيعى والخريفى ومنهم من يسوى بينهما ومنهم من يسوى بين الملحين الجبلي والمائي ومنهم من يفرق بينهما وليس على شيء من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه لا من نص ولا قياس ولا إجماع إذ لم يكن الأصل الذى تفرعت عليه مأخوذا من جهة الشرع وقد قال الله سبحانه وتعالى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) وهذا بخلاف ما جاء من عند
____________________
(21/28)
الله فانه محفوظ كما قال تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) فدل ذلك على ضعف هذا القول وأيضا فان القول بالجواز موافق للعموم اللفظي والمعنوي مدلول عليه بالظواهر والمعانى فان تناول إسم الماء لمواقع الإجماع كتناوله لموارد النزاع فى اللغة وصفات هذا كصفات هذا فى الجنس فتجب التسوية بين المتماثلين وأيضا فانه على قول المانعين يلزم مخالفة الأصل وترك العمل بالدليل الشرعى لمعارض راجح إذ كان يقتضى القياس عندهم أنه لا يجوز إستعمال شيء من المتغيرات فى طهارتي الحدث والخبث لكن إستثنى المتغير بأصل الخلقة وبما يشق صون الماء عنه للحرج والمشقة فكان هذا موضع إستحسان ترك له القياس وتعارض الأدلة على خلاف الأصل وعلى القول الأول يكون رخصة ثابتة على وفق القياس من غير تعارض بين أدلة الشرع فيكون هذا أقوى
____________________
(21/29)
فصل وأما الماء إذا تغير بالنجاسات فانه ينجس بالاتفاق وأما ما لم يتغير ففيه أقوال معروفة أحدها لاينجس وهو قول أهل المدينة ورواية المدنيين عن مالك وكثير من أهل الحديث وإحدى الروايات عن أحمد إختارها طائفة من أصحابه ونصرها بن عقيل فى المفردات وبن البناء وغيرهما والثانى ينجس قليل الماء بقليل النجاسة وهى رواية البصريين عن مالك والثالث وهو مذهب الشافعى وأحمد فى الرواية الأخرى إختارها طائفة من أصحابه الفرق بين القلتين وغيرهما فمالك لا يحد الكثير بالقلتين والشافعى وأحمد يحدان الكثير بالقلتين والرابع الفرق بين البول والعذرة المائعة وغيرهما فالأول ينجس
____________________
(21/30)
منه ما أمكن نزحه دون ما لم يمكن نزحه بخلاف الثانى فانه لا ينجس القلتين فصاعدا وهذا أشهر الروايات عن أحمد واختيار أكثر أصحابه والخامس أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة سواء كان قليلا أو كثيرا وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه لكن ما لم يصل إليه لا ينجسه ثم حدوا ما لا يصل إليه بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر ثم تنازعوا هل يحد بحركة المتوضيء أو المغتسل وقدر ذلك محمد بن الحسن بمسجده فوجدوه عشرة أذرع فى عشرة أذرع وتنازعوا فى الآبار إذا وقعت فيها نجاسة هل يمكن تطهيرها فزعم المزني أنه لا يمكن وقال أبو حنيفة وأصحابه يمكن تطهيرها بالنزح ولهم فى تقدير الدلاء أقوال معروفة والسادس قول أهل الظاهر الذين ينجسون ما بال فيه البائل دون ما ألقى فيه البول ولا ينجسون ما سوى ذلك إلا بالتغير
____________________
(21/31)
وأصل هذه المسألة من جهة المعنى أن إختلاط الخبيث وهو النجاسة بالماء هل يوجب تحريم الجميع أم يقال بل قد إستحال فى الماء فلم يبق له حكم فالمنجسون ذهبوا إلى القول الأول ثم من إستثنى الكثير قال هذا يشق الإحتراز من وقوع النجاسة فيه فجعلوا ذلك موضع إستحسان كما ذهب إلى ذلك طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد وأما أصحاب أبى حنيفة فبنوا الأمر على وصول النجاسة وعدم وصولها وقدروه بالحركة أو بالمساحة فى الطول والعرض دون العمق والصواب هو القول الأول وأنه متى علم أن النجاسة قد إستحالت فالماء طاهر سواء كان قليلا أو كثيرا وكذلك فى المائعات كلها وذلك لأن الله تعالى أباح الطيبات وحرم الخبائث والخبيث متميز عن الطيب بصفاته فاذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث وجب دخوله فى الحلال دون الحرام وأيضا فقد ثبت من حديث أبى سعيد ( أن النبى قيل له أنتوضأ من بئر بضاعة وهى بئر يلقى فيها الحيض
____________________
(21/32)
ولحوم الكلاب والنتن فقال الماء طهور لا ينجسه شيء ( قال أحمد حديث بئر بضاعة صحيح وهو فى المسند أيضا عن بن عباس ( أن النبى قال الماء طهور لا ينجسه شيء ) وهذا اللفظ عام فى القليل والكثير وهو عام فى جميع النجاسات وأما إذا تغير بالنجاسة فانما حرم إستعماله لأن جرم النجاسة باق ففى إستعماله إستعمالها بخلاف ما إذا إستحالت النجاسة فان الماء طهور وليس هناك نجاسة قائمة ومما يبين ذلك أنه لو وقع خمر فى ماء وإستحالت ثم شربها شارب لم يكن شاربا للخمر ولم يجب عليه حد الخمر إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها ولو صب لبن إمرأة فى ماء وإستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل ذلك الماء لم يصر إبنها من الرضاعة بذلك وأيضا فان هذا باق على أوصاف خلقته فيدخل فى عموم قوله تعالى ( فلم تجدوا ماء ( فان الكلام إنما هو فيما لم يتغير بالنجاسة لا طعمة ولا لونه ولا ريحه
فان قيل فان النبى قد نهى عن البول
____________________
(21/33)
فى الماء الدائم وعن الإغتسال فيه ( قيل نهيه عن البول فى الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول إذ ليس فى اللفظ ما يدل على ذلك بل قد يكون نهيه سدا للذريعة لأن البول ذريعة إلى تنجيسه فانه إذا بال هذا ثم بال هذا تغير الماء بالبول فكان نهيه سدا للذريعة أو يقال إنه مكروه بمجرد الطبع لا لأجل أنه ينجسه وأيضا فيدل نهيه عن البول فى الماء الدائم أنه يعم القليل والكثير فيقال لصاحب القلتين أتجوز بوله فيما فوق القلتين إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص وإن حرمته فقد نقضت دليلك وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه ومالا يمكن أتسوغ للحجاج أن يبولوا فى المصانع المبنية بطريق مكة إن جوزته خالفت ظاهر النص فإن هذا ماء دائم والحديث لم يفرق بين القليل والكثير وإلا نقضت قولك وكذلك يقال للمقدر بعشرة أذرع إذا كان لأهل القرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق أتسوغ لأهل القرية البول فيه فإن سوغته خالفت ظاهر النص وإلا نقضت قولك فاذا كان النص
____________________
(21/34)
بل والاجماع دل على أنه نهى عن البول فيما ينجسه البول بل تقدير الماء وغير ذلك فيما يشترك فيه القليل والكثير كان هذا الوصف المشترك بين القليل والكثير مستقلا بالنهى فلم يجز تعليل النهى بالنجاسة ولا يجوز أن يقال إنه إنما نهى عن البول فيه لأن البول ينجسه فإن هذا خلاف النص والإجماع وأما من فرق بين البول فيه وبين صب البول فقوله ظاهر الفساد فإن صب البول أبلغ من أن ينهى عنه من مجرد البول إذ الإنسان قد يحتاج إلى أن يبول وأما صب الأبوال فى المياه فلا حاجة إليه فإن قيل ففي حديث القلتين أنه سئل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فقال ( إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ( وفى لفظ ( لم ينجسه شيء ( قيل حديث القلتين فيه كلام قد بسط فى غير هذا الموضع وبين أنه من كلام بن عمر لا من كلام النبى
____________________
(21/35)
وسئل رحمه الله عن الماء الكثير إذا تغير لونه بمكثه أو تغير لونه وطعمه لا الرائحة فهل يكون طهورا فأجاب الحمد لله أما ما تغير بمكثه ومقره فهو باق على طهوريته بإتفاق العلماء وأما النهر الجارى فان علم أنه متغير بنجاسة فإنه يكون نجسا فان خالطه ما يغيره من طاهر ونجس وشك فى التغير هل هو بطاهر أو نجس لم يحكم بنجاسته بمجرد الشك والأغلب أن هذه الأنهار الكبار لا تتغير بهذه القنى التى عليها لكن إذا تبين تغيره بالنجاسة فهو نجس وإن كان متغيرا بغير نجس ففي طهوريته القولان المشهوران والله أعلم
____________________
(21/36)
وسئل عن بئر كثير الماء وقع فيه كلب ومات وبقى فيه حتى انهرى جلده وشعره ولم يغير من الماء وصفا قط لا طعم ولا لون ولا رائحة
فأجاب الحمد لله هو طاهر عند جماهير العلماء كمالك والشافعى وأحمد إذا بلغ الماء قلتين وهما نحو القربتين فكيف إذا كان أكثر من ذلك وشعر الكلب فى طهارته نزاع بين العلماء فانه طاهر فى مذهب مالك ونجس فى مذهب الشافعى وعن أحمد روايتان فاذا لم يعلم أن فى الدلو الصاعد شيئا من شعره لم يحكم بنجاسته بلا ريب وقد ثبت عن النبى أنه قيل له يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة وهى بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب وعذر الناس فقال ( الماء طهور لا ينجسه شيء ( وبئر بضاعة واقعة معروفة فى شرقي المدينة باقية إلى اليوم ومن قال
____________________
(21/37)
إنها كانت جارية فقد أخطأ فإنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عين جارية بل الزرقاء وعيون حمزة حدثتا بعد موته والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن بئر وقع فيه كلب أو خنزير أو جمل أو بقرة أو شاه ثم مات فيها وذهب شعره وجلده ولحمه وهو فوق القلتين فكيف يصنع به
فأجاب الحمد لله أي بئر وقع فيه شيء مما ذكر أو غيره إن كان الماء لم يتغير بالنجاسة فهو طاهر فان كانت عين النجاسة باقية نزحت منه وألقيت وسائر الماء طاهر وشعر الكلب والخنزير إذا بقى فى الماء لم يضره ذلك فى أصح قولي العلماء فإنه طاهر فى أحد أقوالهم وهو إحدى الروايتين عند أحمد وهذا القول أظهر فى الدليل فان جميع الشعر والريش والوبر والصوف طاهر سواء كان على جلد ما يؤكل لحمه أو جلد مالا يؤكل لحمه وسواء كان على حي أو ميت هذا
____________________
(21/38)
أظهر الأقوال للعلماء وهو إحدى الروايات عن أحمد وأما إن كان الماء قد تغير بالنجاسة فانه ينزح منه حتى يطيب وإن لم يتغير الماء لم ينزح منه شيء فإنه قيل للنبى إنك تتوضأ من بئر بضاعة وهى بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال ( الماء طهور لا ينجسه شيء ( وقد بسط الكلام على هذه المسألة فى غير هذا الموضع والله أعلم وسئل عن بئر سقطت فيه دجاجة ثم ماتت هل ينجس أم لا فأجاب إذا لم يتغير الماء لم ينجس والله أعلم
وسئل عن البئر تكون فى وسط البلد فيتغير لونه بالزبل فيصير أصفر
____________________
(21/39)
وهو روث ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل وربما صار فيه اللحمة هل ينجس أم لا فأجاب الحمد لله إن كان الزبل مما يؤكل لحمه فهو طاهر عند جمهور العلماء كمالك وأحمد بن حنبل وقد دلت على ذلك الدلائل الشرعية الكثيرة كما قد بسط القول فى ذلك وذكر فيه بضعة عشر حجة وأما ما تيقن أن تغيره بالنجاسه فإنه ينجس وإن شك هل الروث روث ما يؤكل لحمه أو روث ما لا يؤكل لحمه ففيه قولان فى مذهب أحمد وغيره والله أعلم
وسئل رحمه الله عن الماء الجاري إذا كان مزبلا هل يجوز الوضوء به فأجاب الحمد لله إذا لم يتيقن أنه مزبل بزبل نجس جاز أن يكون طاهرا وجاز أن يكون نجسا فجاز الوضوء به فى إحدى الروايتين فى مذهب أحمد وغيره
____________________
(21/40)
وسئل رحمه الله عن القلتين هل حديثه صحيح أم لا ومن قال إنه قلة الجبل وفى سؤر الهرة إذا أكلت نجاسة ثم شربت من ماء دون القلتين هل يجوز الوضوء به أم لا فأجاب الحمد لله قد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قيل له إنك تتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال ( الماء طهورلا ينجسه شيء ) وبئر بضاعة بإتفاق العلماء وأهل العلم بها هي بئر ليست جارية وما يذكر عن الواقدى من أنها جارية أمر باطل فإن الواقدى لا يحتج به بإتفاق أهل العلم ولا ريب أنه لم يكن بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء جار وعين الزرقاء وعيون حمزة محدثة بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبئر بضاعة باقية إلى اليوم فى شرقي المدينة وهى معروفة وأما حديث القلتين فأكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به وقد أجابوا عن كلام من طعن فيه وصنف أبو عبد
____________________
(21/41)
الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءا رد فيه ما ذكره إبن عبد البر وغيره وأما لفظ القلة فإنه معروف عندهم أنه الجرة الكبيرة كالحب وكان صلى الله عليه وسلم يمثل بهما كما فى الصحيحين أنه قال فى سدرة المنتهى ( وإذا ورقها مثل آذان الفيلة وإذا نبقها مثل قلال هجر ) وهى قلال معروفة الصفة والمقدار فإن التمثيل لا يكون بمختلف متفاوت وهذا مما يبطل كون المراد قلة الجبل لأن قلال الجبال فيها الكبار والصغار وفيها المرتفع كثيرا وفيها ما هو دون ذلك وليس فى الوجود ماء يصل إلى قلال الجبل إلا ماء الطوفان فحمل كلام النبى صلى الله عليه وسلم على مثل هذا يشبه الإستهزاء بكلامه ومن عادته صلى الله عليه وسلم أنه يقدر المقدرات بأوعيتها كما قال ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) والوسق حمل الجمل وكما كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع وذلك من أوعية الماء وهكذا تقدير الماء بالقلال مناسب فإن القلة وعاء الماء وأما الهرة فقد ثبت عنه أنه قال ( إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات
____________________
(21/42)
وتنازع العلماء فيما إذا أكلت فأرة ونحوها ثم ولغت فى ماء قليل على أربعة أقوال فى مذهب أحمد وغيره قيل أن الماء طاهر مطلقا وقيل نجس مطلقا حتى تعلم طهارة فمها وقيل إن غابت غيبة يمكن فيها ورودها على ما يطهر فمها كان طاهرا وإلا فلا وهذه الأوجه فى مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما وقيل إن طال الفصل كان طاهرا جعلا لريقها مطهرا لفمها لأجل الحاجة وهذا قول طائفة من أصحاب أبى حنيفة وأحمد وهو أقوى الأقوال والله أعلم
وسئل عن رجل غمس يده فى الماء قبل أن يغسلها من قيامه من نوم الليل فهل هذا الماء يكون طهورا وما الحكمة فى غسل اليد إذا باتت طاهرة أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله أما مصيره مستعملا لا يتوضأ به فهذا فيه نزاع مشهور وفيه روايتان عن أحمد إختار كل واحدة طائفة من أصحابه فالمنع إختيار أبى بكر والقاضى وأكثر أتباعه ويروى ذلك عن الحسن وغيره والثانية لا يصير مستعملا وهى إختيار الخرقى وأبي محمد وغيرهما
____________________
(21/43)
وهو قول أكثر الفقهاء وأما الحكمة فى غسل اليد ففيها ثلاثة أقوال أحدها أنه خوف نجاسة تكون على اليد مثل مرور يده موضع الإستجمار مع العرق أو على زبلة ونحو ذلك والثانى أنه تعبد ولا يعقل معناه والثالث أنه من مبيت يده ملامسة للشيطان كما فى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى أنه قال ( إذا إستيقظ أحدكم من منامه فليستنشق بمنخريه من الماء فان الشيطان يبيت على خيشومه ( فأمر بالغسل معللا بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للغسل عن النجاسة والحديث معروف وقوله ( فان أحدكم لا يدري أين باتت يده ( يمكن أن يراد به ذلك فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التى شهد لها النص بالإعتبار والله أعلم
____________________
(21/44)
وقال رضى الله عنه فصل وأما نهيه ( أن يغمس القائم من نوم الليل يده فى الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا ( فهو لا يقتضي تنجيس الماء بالإتفاق بل قد يكون لأنه يؤثر فى الماء أثرا وأنه قد يفضي إلى التأثير وليس ذلك بأعظم من النهى عن البول فى الماء الدائم وقد تقدم أنه لا يدل على التنجيس وأيضا ففى الصحيحين عن أبى هريرة ( إذا إستيقظ أحدكم من نومه فاليستنثر بمنخريه من الماء فان الشيطان يبيت على خيشومه ( فعلم أن ذلك الغسل ليس مسببا عن النجاسة بل هو معلل بمبيت الشيطان على خيشومه والحديث المعروف ( فان أحدكم لا يدري أين باتت يده ( يمكن أن يراد به ذلك فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التى شهد لها النص بالإعتبار
وأما نهيه عن الإغتسال فيه بعد البول فهذا إن صح عن النبى
____________________
(21/45)
فهو كنهيه عن البول فى المستحم وقوله ( فان عامة الوسواس منه ) فانه إذا بال فى المستحم ثم إغتسل حصل له وسواس وربما بقي شيء من أجزاء البول فعاد عليه رشاشة وكذلك إذا بال فى الماء ثم إغتسل فيه فقد يغتسل قبل الإستحالة مع بقاء أجزاء البول فنهى عنه لذلك ونهيه عن الإغتسال فى الماء الدائم إن صح يتعلق بمسألة الماء المستعمل وهذا قد يكون لما فيه من تقذير الماء على غيره لا لأجل نجاسته ولا لصيرورته مستعملا فانه قد ثبت فى الصحيح عنه أنه قال ( إن الماء لا يجنب )
وسئل أيضا رحمه الله عن الماء إذا غمس الرجل يده فيه هل يجوز إستعماله أم لا
فأجاب لا ينجس بذلك بل يجوز إستعماله عند جمهور العلماء كمالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد وعنه رواية أخرى أنه يصير مستعملا والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(21/46)
وسئل عن الرجل يغتسل إلى جانب الحوض أو الجرن فى الحمام وغيره وهو ناقص ثم يرجع بعض الماء من على بدنه إلى الجرن هل يصير ذلك الماء مستعملا أم لا وكذلك الجنب اذا وضع يده فى الماء او الجرن هل يصير مستعملا أم لا وعن مقدار الماء الذى اذا اغتسل فيه الجنب لا يصير مستعملا وعن الطاسة التى تحط على ارض الحمام والماء المستعمل جار عليها ثم يغترف بها من الجرن الناقص من غير أن تغسل أفتونا مأجورين فأجاب الحمد لله ما يطير من بدن المغتسل او المتوضىء من الرشاش فى اناء الطهارة لا يجعله مستعملا وكذلك غمس الجنب يده فى الاناء والجرن الناقص لا يصير مستعملا وأما مقدار الماء الذى إذا إغتسل فيه الجنب لا يصير مستعملا إذا كان كثيرا مقدار قلتين
____________________
(21/47)
وأما الطاسة التى توضع على أرض الحمام فالماء المستعمل طاهر لا ينجس إلا بملاقاه النجاسه فالأصل فى الأرض الطهارة حتى تعلم نجاستها لا سيما ما بين يدى الحياض الفائضه فى الحمامات فإن الماء يجرى عليها كثيرا والله أعلم وسئل عن رجل تدركه الصلاة وهو فى مدرسة فيجد فى المدارس بركا فيها ماء له مدة كثيرة ومثل ماء الحمام الذى فى الحوض فهل يجوز من ذلك الوضوء والطهارة أم لا فأجاب الحمد لله رب العالمين قد ثبت فى الصحيحين عن النبى من غير وجه كحديث عائشة وأم سلمة وميمونه وبن عمر رضي الله عنهم أن النبى كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد حتى يقول لها ( أبقى لي ( وتقول هي ( أبق لي ( وفى صحيح البخارى عن عبد الله بن عمر قال كان الرجال والنساء يغتسلون على عهد رسول الله من إناء واحد ولم
____________________
(21/48)
يكن بالمدينة على عهد رسول الله ماء جار ولا حمام فاذا كانوا يتوضؤن جميعا ويغتسلون جميعا من إناء واحد بقدر الفرق وهو بضعه عشر رطلا بالمصرى أو أقل وليس لهم ينبوع ولا أنبوب فتوضؤهم وإغتسالهم جميعا من حوض الحمام أولى وأحرى فيجوز ذلك وإن كان الحوض ناقصا والأنبوب مسدودا فكيف إذا كان الأنبوب مفتوحا وسواء فاض أو لم يفض وكذلك برك المدارس ومن منع غيره حتى ينفرد وحده بالإغتسال فهو مبتدع مخالف للسنة
وسئل شيخ الإسلام عن هؤلاء الذين يعبرون إلى الحمام فإذا أرادوا أن يغتسلوا من الجنابة وقف واحد منهم على الطهور وحده ولا يغتسل أحد معه حتى يفرغ واحدا بعد واحد فهل إذا إغتسل معه غيره لا يطهر وإن تطهر من بقية أحواض الحمام فهل يجوز وإن كان الماء بائتا فيها وهل الماء الذى يتقاطر من على بدن الجنب من الجماع طاهر أو نجس وهل ماء الحمام عند كونه مسخنا بالنجاسة نجس أم لا وهل الزنبور الذى
____________________
(21/49)
يكون فى الحمام أيام الشتاء هو من دخان النجاسة يتنجس به الرجل إذا إغتسل وجسده مبلول أم لا والماء الذى يجرى فى أرض الحمام من إغتسال الناس طاهر أم نجس أفتونا ليزول الوسواس فأجاب الحمد لله قد ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تغتسل هي ورسول الله من إناء واحد يغترفان جميعا وفى رواية أنها كانت تقول ( دع لي ( ويقول هو ( دعى لي ( من قلة الماء وثبت أيضا فى الصحيح أنه كان يغتسل هو وغير عائشة من أمهات المؤمنين من إناء واحد مثل ميمونه بنت الحارث وأم سلمة وثبت عن عائشة أنها قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد قدر الفرق والفرق بالرطل العراقى القديم ستة عشر رطلا وبالرطل المصرى أقل من خمسة عشر رطلا وثبت فى الصحيح عن النبى أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع وثبت فى الصحيح عن بن عمر أنه قال كان الرجال والنساء على عهد رسول الله يتوضؤون من ماء واحد وهذه السنن الثابتة عن النبى وأصحابه الذين كانوا بمدينته على عهده دلت على أمور
____________________
(21/50)
أحدها هو إشتراك الرجال والنساء فى الإغتسال من إناء واحد وإن كان كل منهما يغتسل بسؤر الآخر وهذا مما إتفق عليه أئمة المسلمين بلا نزاع بينهم أن الرجل والمرأة أو الرجال والنساء إذا توضؤا وإغتسلوا من ماء واحد جاز كما ثبت ذلك بالسنن الصحيحة المستفيضة
وإنما تنازع العلماء فيما إذا إنفردت المرأة بالإغتسال أو خلت به هل ينهى الرجل عن التطهر بسؤرها على ثلاثة أقوال فى مذهب أحمد وغيره أحدها لا بأس بذلك مطلقا والثانى يكره مطلقا والثالث ينهى عنه إذا خلت به دون ما إنفردت به ولم تخل به وقد روى فى ذلك أحاديث فى السنن وليس هذا موضع هذه المسألة فاما إغتسال الرجال والنساء جميعا من إناء واحد فلم يتنازع العلماء فى جوازه وإذا جاز إغتسال الرجال والنساء جميعا فإغتسال الرجال دون النساء جميعا أو النساء دون الرجال جميعا أولى بالجواز وهذا مما لانزاع فيه فمن كره أن يغتسل معه غيره أو رأى أن طهره لا يتم حتى يغتسل وحده فقد خرج عن إجماع المسلمين وفارق جماعة المؤمنين
____________________
(21/51)
يوضح ذلك أن الآنية التى كان النبى وأزواجه والرجال والنساء يغتسلون منها كانت آنية صغيرة ولم يكن لها مادة لا أنبوب ولا غيره ولم يكن يفيض فإذا كان تطهر الرجال والنساء جميعا من تلك الآنية جائزا فكيف بهذه الحياض التى فى الحمامات وغير الحمامات التى يكون الحوض أكبر من قلتين فان القلتين أكثر ما قيل فيهما على الصحيح أنهما خمسمائة رطل بالعراقى القديم فيكون هذا الرطل المصرى أكثر من ذلك بعشرات من الأرطال فان الرطل العراقى القديم مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وهذا الرطل المصرى مائة وأربعة وأربعون درهما يزيد على ذلك بخمسة عشر درهما وثلاثة أسباع درهم وذلك أكثر من أوقيه وربع مصرية فالخمسمائة رطل بالعراقى أربعة وستون ألف درهم ومائتا درهم وخمسة وثمانون درهما وخمسة أسباع درهم وذلك بالرطل الدمشقى الذى هو ستمائة درهم مائة وسبعة أرطال وسبع رطل وهذا الرطل المصرى أربعمائة رطل وستة وأربعون رطلا وكسر أوقية ومساحة القلتين ذراع وربع فى ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا ومعلوم أن غالب هذه الحياض التى فى الحمامات المصرية وغير الحمامات أكثر من هذا المقدار بكثير فان القلة نحو من هذه القرب الكائنة التى تستعمل بالشام ومصر فالقلتان قربتان بهذه القرب وهذا كله تقريب بلا ريب فان تحديد القلتين إنما هو بالتقريب على أصوب القولين
____________________
(21/52)
ومعلوم أن هذه الحياض فيها أضعاف ذلك فاذا كان النبى يتطهر هو وأزواجه من تلك الآنية فكيف بالتطهر من هذه الحياض
الأمر الثانى أنه يجوز التطهر من هذه الحياض سواء كانت فائضة أو لم تكن وسواء كانت الأنبوب تصب فيها أو لم تكن وسواء كان الماء بائنا فيها أو لم يكن فانها طاهرة والأصل بقاء طهارتها وهى بكل حال أكثر ماء من تلك الآنية الصغار التى كان النبى وأصحابه يتطهرون منها ولم تكن فائضة ولا كان بها مادة من انبوب ولا غيره ومن إنتظر الحوض حتى يفيض ولم يغتسل إلا وحده وإعتقد ذلك دينا فهو مبتدع مخالف للشريعة مستحق للتعزير الذى يردعه وأمثاله عن أن يشرعوا فى الدين ما لم يأذن به الله ويعبدون الله بإعتقادات فاسدة وأعمال غير واجبة ولا مستحبة
الأمر الثالث الإقتصاد فى صب الماء فقد ثبت عن النبى ( أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ( والصاع أكثر ما قيل فيه إنه ثمانية أرطال بالعراقى كما قال أبو حنيفة وأما أهل الحجاز وفقهاء الحديث كمالك والشافعى وأحمد وغيرهم
____________________
(21/53)
فعندهم أنه خمسة أرطال وثلث بالعراقى
وحكاية أبى يوسف مع مالك فى ذلك مشهورة لما سأله عن مقدار الصاع والمد فأمر أهل المدينة أن يأتوه بصيعانهم حتى إجتمع عنده منها شيء كثير فلما حضر أبو يوسف قال مالك لواحد منهم من أين لك هذا الصاع قال حدثنى أبى عن أبيه أنه كان يؤدى به صدقة الفطر إلى رسول الله وقال الآخر حدثتنى أمى عن أمها أنها كانت تؤدى به يعنى صدقة حديقتها إلى رسول الله وقال الآخر نحو ذلك وقال الآخرنحو ذلك فقال مالك لأبى يوسف أترى هؤلاء يكذبون قال لا والله ما يكذب هؤلاء قال مالك فأنا حررت هذا برطلكم يا أهل العراق فوجدته خمسة ارطال وثلثا فقال أبو يوسف لمالك قد رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبى ما رأيت لرجع كما رجعت فهذا النقل المتواتر عن أهل المدينة بمقدار الصاع والمد وقد ذهب طائفة من العلماء كابن قتيبه والقاضى أبى يعلى فى تعليقه وجدي أبى البركات إلى أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث وصاع الماء ثمانية وإحتجوا بحجج منها خبر عائشة أنها كانت تغتسل هي ورسول الله بالفرق والفرق ستة عشر رطلا بالعراقى والجمهور على أن الصاع والمد فى الطعام والماء
____________________
(21/54)
واحد وهو أظهر وهذا مبسوط فى موضعه
والمقصود هنا أن مقدار طهور النبى فى الغسل ما بين ثمانية أرطال عراقية إلى خمسة وثلث والوضوء ربع ذلك وهذا بالرطل المصرى أقل من ذلك
وإذا كان كذلك فالذى يكثر صب الماء حتى يغتسل بقنطار ماء أو أقل أو أكثر مبتدع مخالف للسنة ومن تدين [ به عوقب عقوبة تزجره وأمثاله عن ذلك كسائر المتدينين بالبدع المخالفة للسنة وهذا كله بين فى هذه الأحاديث
فان قيل إنما يفعل نحو هذا لأن الماء قد يكون نجسا أو مستعملا بان تكون الآنية مثل الطاسة اللاصقة بالأرض قد تنجست بما على الأرض من النجاسة ثم غرف بها منه أو بأن الجنب غمس يده فيه فصار الماء مستعملا أو قطر عليه من عرق سقف الحمام النجس أو المحتمل للنجاسة أو غمس بعض الداخلين أعضاءه فيه وهى نجسه فنجسته فلاحتمال كونه نجسا أو مستعملا إحتطنا لديننا وعدلنا إلى الماء الطهور بيقين لقول النبى ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ( ولقوله ( من إتقى الشبهات إستبرأ لعرضه ودينه
____________________
(21/55)
قيل الجواب عن هذا من وجوه أحدها أن الإحتياط بمجرد الشك فى أمور المياه ليس مستحبا ولا مشروعا بل ولا يستحب السؤال عن ذلك بل المشروع أن يبنى الأمر على الإستصحاب فان قام دليل على النجاسة نجسناه وإلا فلا يستحب أن يجتنب إستعماله بمجرد إحتمال النجاسة وأما إذا قامت إمارة ظاهرة فذاك مقام آخر والدليل القاطع أنه ما زال النبى صلى الله عليه وسلم والصحابه والتابعون يتوضؤون ويغتسلون ويشربون من المياه التى فى الآنية والدلاء الصغار والحياض وغيرها مع وجود هذا الإحتمال بل كل احتمال لا يستند إلى إمارة شرعية لم يلتفت إليه وذلك أن المحرمات نوعان محرم لوصفه ومحرم لكسبه فالمحرم لكسبه كالظلم والربا والميسر والمحرم لوصفه كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والأول أشد تحريما والتورع فيه مشهور ولهذا كان السلف يحترزون فى الأطعمة والثياب من الشبهات الناشئة من المكاسب الخبيثة وأما الثانى فانما حرم لما فيه من وصف الخبث وقد أباح الله لنا طعام أهل الكتاب مع إمكان أن لا يذكوه التذكية الشرعية أو يسموا عليه غير الله وإذا علمنا أنهم سموا عليه غير الله حرم ذلك
____________________
(21/56)
فى أصح قولى العلماء وقد ثبت فى الصحيح من حديث عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن قوم يأتون باللحم ولا يدرى أسموا عليه أم لا فقال ( سموا أنتم وكلوا ( وأما الماء فهو فى نفسه طهور ولكن إذا خالطته النجاسة وظهرت فيه صار استعماله إستعمالا لذلك الخبيث فإنما نهى عن إستعماله لما خالطه من الخبيث لا لأنه فى نفسه خبيث فإذا لم يكن هنا إمارة ظاهرة على مخالطة الخبيث له كان هذا التقدير والإحتمال مع طيب الماء وعدم التغيير فيه من باب الحرج الذى نفاه الله عن شريعتنا ومن باب الآصار والأغلال المرفوعة عنا
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه توضأ من جرة نصرانية مع قيام هذا الإحتمال ومر عمر بن الخطاب رضى الله عنه وصاحب له بميزاب فقال صاحبه يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أم نجس فقال عمر يا صاحب الميزاب لا تخبره فان هذا ليس عليه وقد نص على هذه المسألة الأئمة كأحمد وغيره نصوا على أنه إذا سقط عليه ماء من ميزاب ونحوه ولا إمارة تدل على النجاسة لم يلزم السؤال عنه بل يكره وإن سأل فهل يلزم رد الجواب على وجهين وقد إستحب بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره السؤال وهو ضعيف
____________________
(21/57)
والوجه الثانى أن يقول هذه الإحتمالات هنا منتفية أو فى غاية البعد فلا يلتفت اليها والإلتفات إليها حرج ليس من الدين ووسوسة يأتى بها الشيطان وذلك أن الطاسات وغيرها من الآنية التى يدخل بها الناس الحمامات طاهرة فى الأصل وإحتمال نجاستها أضعف من إحتمال نجاسة الأوعية التى فى حوانيت الباعة فإذا كانت آنية الأدهان والألبان والخلول والعجين وغير ذلك من المائعات والجامدات والرطبة محكوما بطهارتها غير ملتفت فيها إلى هذا الوسواس فكيف بطاسات الناس وأما قول القائل أنها تقع على الأرض فنعم وما عند الحياض من الأرض طاهر لا شبهة فيه فان الأصل فيه الطهارة وما يقع عليه من المياه والسدر والخطمى والأشنان والصابون وغير ذلك طاهر وأبدان الجنب من الرجال والنساء طاهرة
وقد ثبت فى الصحيح من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم لقيه فى بعض طرق المدينه قال فانخنست منه فإغتسلت ثم أتيته فقال ( أين كنت ( فقلت انى كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا جنب فقال ( سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ( وهذا متفق عليه بين الأئمة أن بدن الجنب طاهر وعرقه طاهر والثوب الذى يكون فيه عرقه طاهر ولو سقط الجنب
____________________
(21/58)
فى دهن أو مائع لم ينجسه بلا نزاع بين الأئمة بل وكذلك الحائض عرقها طاهر وثوبها الذى يكون فيه عرقها طاهر
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه أذن للحائض أن تصلى فى ثوبها الذى تحيض فيه وأنها إذا رأت فيه دما ازالته وصلت فيه
فإذا كان كذلك فمن أين ينجس ذلك البلاط أكثر ما يقال إنه قد يبول عليه بعض المغتسلين أو يبقى عليه أو يكون على بدن بعض المغتسلين نجاسة يطأ بها الأرض ونحو ذلك وجواب هذا من وجوه أحدها أن هذا قليل نادر وليس هذا المتيقن من كل بقعة الثانى أن غالب من تقع منه نجاسة يصب عليها الماء الذى يزيلها الثالث أنه إذا أصاب ذلك البلاط شيء من هذا فان الماء الذى يفيض من الحوض والذى يصبه الناس يطهر تلك البقعة وإن لم يقصد تطهيرها فان القصد فى إزالة النجاسة ليس بشرط عند أحد من الأئمة الأربعة ولكن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعى وأحمد ذكروا وجها ضعيفا فى ذلك ليطردوا قياسهم فى مناظرة أبى حنيفة فى إشتراط النية فى طهارة الحدث كما أن زفر نفى وجوب النية فى
____________________
(21/59)
التيمم طردا لقياسه وكلا القولين مطرح
وقد نص الأئمة على أن ماء المطر يطهر الأرض التى يصيبها وغالب الماء الذى يصب على الأرض ليس بمستعمل فان أكثر الماء الذى يصبه الناس لا يكون عن جنابة ولا يكون متغيرا
الوجه الثالث أن يقال هب أن الحوض وقعت فيه نجاسة محققة أو انغمس فيه جنب فهذا ماء كثير وقد ثبت عن أبى سعيد أن النبى صلى الله عليه وسلم قيل له يارسول الله أنك تتوضأ من بئر بضاعة وهى بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال ( الماء طهور لا ينجسه شيء ( قال الإمام أحمد حديث بئر بضاعة صحيح وفى السنن عن بن عمر أن النبى سئل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فقال ( إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء ( وفى لفظ ( لم يحمل الخبث ( وبئر بضاعة بئر كسائر الآبار وهى باقية إلى الآن بالمدينة من الناحية الشرقية ومن قال أنها كانت عينا جارية فقد غلط غلطا بينا فانه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عين جارية أصلا ولم يكن بها الا الآبار منها يتوضؤون ويغتسلون
____________________
(21/60)
ويشربون مثل بئر أريس التى بقباء أو البئر التى ببيرحاء ( حديقة أبى طلحة ( والبئر التى إشتراها عثمان وحبسها على المسلمين وغير هذه الآبار وكان سقيهم للنخل والزرع من الآبار بالنواضح والسوانى ونحو ذلك أو بماء السماء وما يأتى من السيول فاما عين جارية فلم تكن لهم وهذه العيون التى تسمى عيون حمزة إنما أحدثها معاوية فى خلافته وأمر الناس بنقل الشهداء من موضعها فصاروا ينبشونهم وهم رطاب لم ينتنوا حتى أصابت المسحاة رجل أحدهم فانبعثت دما وكذلك عين الزرقاء محدثة لكن لا أدري متى حدثت وهذا أمر لا ينازع فيه أحد من العلماء العالمين بالمدينة وأحوالها وإنما ينازع فى مثل هذا بعض أتباع علماء العراق الذين ليس لهم خبرة بأحوال النبى صلى الله عليه وسلم ومدينته وسيرته وإذا كان النبى يتوضأ من تلك البئر التى يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فكيف يشرع لنا أن نتنزه عن أمر فعله النبى وقد ثبت عنه أنه أنكر على من يتنزه عما يفعله وقال ( ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها والله انى لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده
____________________
(21/61)
ولو قال قائل نتنزه عن هذا لأجل الخلاف فيه فان من أهل العراق من يقول الماء إذا وقعت فيه نجاسة نجسته وإن كان كثيرا إلا أن يكون مما لا تبلغه النجاسة ويقدرونه بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر وهل العبرة بحركة المتوضىء أو بحركة المغتسل على قولين وقدر بعضهم ذلك بعشرة أذرع فى عشرة أذرع ويحتجون بقول النبى صلى الله عليه وسلم ( لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم ثم يغتسل منه ( ثم يقولون إذا تنجست البئر فانه ينزح منها دلاء مقدرة فى بعض النجاسات وفى بعضها تنزح البئر كلها وذهب بعض متكلميهم إلى أن البئر تطم فهذا الإختلاف يورث شبهة فى الماء إذا وقعت فيه نجاسة
قيل لهذا القائل الإختلاف إنما يورث شبهة إذا لم تتبين سنة رسول الله فأما إذا تبينا ان النبى صلى الله عليه وسلم أرخص فى شيء وقد كره أن نتنزه عما ترخص فيه وقال لنا ( إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ( رواه أحمد وبن خزيمة فى صحيحة فإن تنزهنا عنه عصينا رسول الله والله ورسوله أحق أن نرضيه وليس لنا أن نغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبهة وقعت لبعض العلماء كما كان عام الحديبية ولو فتحنا هذا الباب لكنا نكره لمن أرسل هديا أن يستبيح
____________________
(21/62)
ما يستبيحه الحلال لخلاف إبن عباس ولكنا نستحب للجنب إذا صام أن يغتسل لخلاف أبى هريرة ولكنا نكره تطيب المحرم قبل الطواف لخلاف عمر وإبنه ومالك ولكنا نكره له أن يلبى إلى أن يرمى الجمرة بعد التعريف لخلاف مالك وغيره ومثل هذا واسع لا ينضبط وأما من خالف فى شيء من هذا من السلف والأئمة رضى الله عنهم فهم مجتهدون قالوا بمبلغ علمهم وإجتهادهم وهم إذا أصابوا فلهم أجران وإذا أخطأوا فلهم أجر والخطأ محطوط عنهم فهم معذورون لإجتهادهم ولأن السنة البينة لم تبلغهم ومن إنتهى إلى ما علم فقد أحسن فأما من تبلغه السنة من العلماء وغيرهم وتبين له حقيقة الحال فلم يبق له عذر فى أن يتنزه عما ترخص فيه النبى صلى الله عليه وسلم ولا يرغب عن سنته لأجل إجتهاد غيره فإنه قد ثبت عنه فى الصحيحين أنه بلغه أن أقواما يقول أحدهم أما أنا فأصوم لا أفطر ويقول الآخر فأنا أقوم ولا أنام ويقول الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء ويقول الآخر أما أنا فلا آكل اللحم فقال ( بل أصوم وأفطر وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى
____________________
(21/63)
ومعلوم أن طائفة من المنتسبين إلى العلم والدين يرون ان المداومة على قيام الليل وصيام النهار وترك النكاح وغيره من الطيبات أفضل من هذا وهم فى هذا إذا كانوا مجتهدين معذورون ومن علم السنة فرغب عنها لأجل اعتقاد أن ترك السنة إلى هذا أفضل وإن هذا الهدى أفضل من هدى محمد لم يكن معذورا بل هو تحت الوعيد النبوى بقوله ( من رغب عن سنتى فليس منى (
وفى الجملة ( باب الإجتهاد والتأويل ( باب واسع يؤول بصاحبه إلى أن يعتقد الحرام حلالا كمن تأول فى ربا الفضل والأنبذة المتنازع فيها وحشوش النساء والى أن يعتقد الحلال حراما مثل بعض ما ذكرناه من صور النزاع مثل الضب وغيره بل يعتقد وجوب قتل المعصوم أو بالعكس فأصحاب الإجتهاد وإن عذروا وعرفت مراتبهم من العلم والدين فلا يجوز ترك ما تبين من السنة والهدى لأجل تأويلهم والله أعلم
وبهذا يظهر الجواب عن قولهم أنه قد يغمس يده فيه أو ينغمس فيه الجنب فانه قد ثبت بالسنة أن هذا لا يؤثر فيه النجاسة فكيف تؤثر فيه الجنابة وقد أجاب الجمهور عن نهى النبى عن ( أن يبول الرجل فى الماء الدائم ثم يغتسل منه ( بأجوبة
____________________
(21/64)
أحدها أن النهى عن الإغتسال وعن البول لأن ذلك قد يفضى إلى الإكثار من ذلك حتى يتغير الماء وإذا بال ثم إغتسل فقد يصيبه البول قبل إستحالته وهذا جواب من يقول الماء لا ينجس الا بالتغير كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك وأحمد فى رواية إختارها أبو محمد البغدادى صاحب التعليقة الثانى أن ذلك محمول على ما دون القلتين توفيقا بين الأحاديث وهذا جواب الشافعى وطائفة من أصحاب أحمد الثالث أن النص إنما ورد فى البول والبول أغلظ من غيره لأن أكثر عذاب القبر منه وصيانة الماء منه ممكنة لأنه يكون باختيار الإنسان فلما غلظ وصيانة الماء عنه ممكنة فرق بينه وبين ما يعسر صيانة الماء عنه وهو دونه وهذا جواب أحمد فى المشهور عنه وإختيار جمهور أصحابه الجواب الرابع انا نفرض أن الماء قليل وان المغتسلين غمسوا فيه أيديهم فهذا بعينه صورة النصوص التى وردت عن النبى فانه كان يغتسل هو والمرأة من أزواجة من إناء واحد وقد تنازع الفقهاء الذين يقولون بأن الماء المتطهر به يصير مستعملا إذا غمس الجنب يده فيه هل يصير مستعملا على قولين مشهورين
____________________
(21/65)
وهو نظير غمس المتوضىء يده بعد غسل وجهه عند من يوجب الترتيب كالشافعى وأحمد والصحيح عندهم الفرق بين أن ينوى الغسل أو لا ينويه فان نوى مجرد الغسل صار مستعملا وأن نوى مجرد الإغتراف لم يصر مستعملا وأن أطلق لم يصر مستعملا على الصحيح
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه إغترف من الإناء بعد غسل وجهه كما ثبت عنه أنه إغترف منه فى الجنابة ولم يحرج على المسلمين فى هذا الموضع بل قد علمنا يقينا أن أكثر توضؤ المسلمين وإغتسالهم على عهده كان من الآنية الصغار وأنهم كانوا يغمسون أيديهم فى الوضوء والغسل جميعا فمن جعل الماء مستعملا بذلك فقد ضيق ما وسعه الله فإن قيل فنحن نحترز من ذلك لأجل قول من ينجس الماء المستعمل قيل هذا أبعد عن السنة فان نجاسة الماء المستعمل نجاسة حسية كنجاسة الدم ونحوه وإن كان إحدى الروايتين عن أبى حنيفة فهو مخالف لقول سلف الأمة وأئمتها مخالف للنصوص الصحيحة والأدلة الجلية وليست هذه المسألة من موارد الظنون بل هي قطعية بلا ريب فقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه توضأ وصب وضوءه على جابر وأنهم كانوا يقتتلون على وضوئه كما يأخذون
____________________
(21/66)
نخامته وكما إقتسموا شعره عام حجة الوداع فمن نجس الماء المستعمل كان بمنزلة من نجس شعور الآدميين بل بمنزلة من نجس البصاق كما يروى عن سلمان وأيضا فبدن الجنب طاهر بالنص والإجماع والماء الطاهر إذا لاقى محلا طاهرا لم ينجس بالإجماع وأما إحتجاجهم بتسمية ذلك طهارة وأنها ضد النجاسة فضعيف من وجهين أحدهما أنه لا يسلم أن كل طهارة فضدها النجاسة فإن الطهارة تنقسم إلى طهارة خبث وحدث طهارة عينية وحكمية الثانى أنا نسلم ذلك ونقول النجاسة أنواع كالطهارة فيراد بالطهارة الطهارة من الكفر والفسوق كما يراد بالنجاسة ضد ذلك كقوله تعالى ( انما المشركون نجس ) وهذه النجاسة لا تفسد الماء بدليل أن سؤر اليهودى والنصرانى طاهر وآنيتهم التى يصنعون فيها المائعات ويغمسون فيها أيديهم طاهرة وقد أهدى اليهودى للنبى صلى الله عليه وسلم شاة مشوية وأكل منها لقمة مع علمة أنهم باشروها وقد أجاب صلى الله عليه وسلم يهوديا إلى خبز شعير وأهالة سنخة
____________________
(21/67)
والثانى يراد بالطهارة الطهارة من الحدث وضد هذه نجاسة الحدث كما قال أحمد فى بعض أجوبته لما سئل عن نحو ذلك أنه أنجس الماء فظن بعض أصحابه أنه أراد نجاسة الجنب فذكر ذلك رواية عنه وإنما أراد أحمد نجاسة الحدث واحمد رضى الله عنه لا يخالف سنة ظاهرة معلومة له قط والسنة فى ذلك أظهر من أن تخفى على أقل أتباعه لكن نقل عنه أنه قال اغسل بدنك منه والصواب أن هذا لا يدل على النجاسة فان غسل البدن من الماء المستعمل لا يجب بالإتفاق ولكن ذكروا عن أحمد رحمه الله فى إستحباب غسل البدن منه روايتين الرواية التى تدل على الإستحباب لأجل الشبهة والصحيح أن ذلك لا يجب ولا يستحب لأن هذا عمل النبى لم يكونوا يغسلون ثيابهم بما يصيبهم من الوضوء الثالث يراد بالطهارة الطهارة من الأعيان الخبيثة التى هي نجسة والكلام فى هذه النجاسة بالقول بأن الماء المستعمل صار بمنزلة الأعيان الخبيثة كالدم والماء المنجس ونحو ذلك هو القول الذى دلت النصوص والإجماع القديم والقياس الجلى على بطلانه وعلى هذا فجميع هذه المياه التى فى الحياض والبرك التى فى الحمامات والطرقات وعلى أبواب المساجد وفى المدارس وغير ذلك لا يكره التطهر بشيء منها وإن سقط فيها
____________________
(21/68)
الماء المستعمل وليس للإنسان أن يتنزه عن أمر ثبتت فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرخصة لأجل شبهة وقعت لبعض العلماء رضى الله عنهم أجمعين وقد تبين بما ذكرناه جواب السائل عن الماء الذى يقطر من بدن الجنب بجماع أوغيره وتبين أن الماء طاهر وأن التنزه عنه أو عن ملامسته للشبهة التى فى ذلك بدعة مخالفة للسنة ولا نزاع بين المسلمين أن الجنب لو مس مغتسلا لم يقدح فى صحة غسله
وأما المسخن بالنجاسة فليس بنجس بإتفاق الأئمة إذا لم يحصل له ما ينجسه وأما كراهته ففيها نزاع لا كراهة فيه مذهب الشافعى وأبى حنيفة ومالك وأحمد فى إحدى الروايتين عنهما وكرهه مالك وأحمد فى الرواية الأخرى عنهما وهذه الكراهة لها مأخذان أحدهما إحتمال وصول أجزاء النجاسة إلى الماء فيبقى مشكوكا فى طهارته شكا مستندا إلى إمارة ظاهرة فعلى هذا المأخذ متى كان بين الوقود والماء حاجز حصين كمياه الحمامات لم يكره لأنه قد تيقن أن الماء لم تصل إليه النجاسة وهذه طريقة طائفة من أصحاب أحمد كالشريف أبى جعفر وإبن عقيل وغيرهما
____________________
(21/69)
والثانى أن سبب الكراهة كونه سخن بإيقاد النجاسة وإستعمال النجاسة مكروه عندهم والحاصل بالمكروه مكروه وهذه طريقة القاضي وغيره فعلى هذا إنما الكراهة إذا كان التسخين حصل بالنجاسة فاما إذا كان غالب الوقود طاهرا أوشك فيه لم تكن هذه المسألة
وأما دخان النجاسة فهذا مبنى على أصل وهو أن العين النجسة الخبيثة إذا إستحالت حتى صارت طيبة كغيرها من الأعيان الطيبة مثل أن يصير ما يقع فى الملاحة من دم وميتة وخنزير ملحا طيبا كغيرها من الملح أو يصير الوقود رمادا وخرسفا وقصرملا ونحو ذلك ففيه للعلماء قولان أحدهما لا يطهر كقول الشافعى وهو أحد القولين فى مذهب مالك وهو المشهور عن أصحاب أحمد واحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى أنه طاهر وهذا مذهب ابى حنيفة ومالك فى أحد القولين وأحدى الروايتين عن أحمد ومذهب أهل الظاهر وغيرهم أنها تطهر وهذا هو الصواب المقطوع به فان هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظا ولا معنى فليست محرمه ولا فى معنى المحرم فلا وجه لتحريمها بل تتناولها نصوص الحل فانها من الطيبات وهى أيضا فى معنى ما إتفق على حله
____________________
(21/70)
فالنص والقياس يقتضى تحليلها وأيضا فقد إتفقوا كلهم على الخمر إذا صارت خلا بفعل الله تعالى صارت حلالا طيبا وإستحالة هذه الأعيان أعظم من إستحالة الخمر والذين فرقوا بينهما قالوا الخمر نجست بالإستحالة فطهرت بالإستحالة بخلاف الدم والميتة ولحم الخنزير وهذا الفرق ضعيف فان جميع النجاسات نجست أيضا بالإستحالة فإن الدم مستحيل عن أعيان طاهرة وكذلك العذرة والبول والحيوان النجس مستحيل عن مادة طاهرة مخلوقة وأيضا فإن الله تعالى حرم الخبائث لما قام بها من وصف الخبث كما أنه أباح الطيبات لما قام بها من وصف الطيب وهذه الأعيان المتنازع فيها ليس فيها شيء من وصف الخبث وإنما فيها وصف الطيب فإذا عرف هذا فعلى أصح القولين فالدخان والبخار المستحيل عن النجاسة طاهر لأنه أجزاء هوائية ونارية ومائية وليس فيه شيء من وصف الخبث وعلى القول الآخر فلا بد أن يعفى من ذلك عما يشق الإحتراز منه كما يعفى عما يشق الإحتراز منه على أصح القولين ومن حكم بنجاسة
____________________
(21/71)
ذلك ولم يعف عما يشق الإحتراز منه فقوله أضعف الأقوال هذا إذا كان الوقود نجسا فأما الطاهر كالخشب والقصب والشوك فلا يؤثر بإتفاق العلماء وكذلك أرواث ما يؤكل لحمه من الإبل والبقر والغنم والخيل فانها طاهرة فى أصح قولي العلماء والله أعلم
وأما الماء الذى يجرى على أرض الحمام مما يفيض وينزل من أبدان المغتسلين غسل النظافة وغسل الجنابة وغير ذلك فانه طاهر وإن كان فيه من الغسل كالسدر والخطمى والأشنان ما فيه إلا إذا علم فى بعضه بول أوقىء أو غير ذلك من النجاسات فذلك الماء الذى خالطته هذه النجاسات له حكم وأما ما قبله وما بعده فلا يكون له حكمه بلا نزاع لا سيما وهذه المياه جارية بلا ريب بل ماء الحمام الذى هو فيه إذا كان الحوض فائضا فانه جار فى أصح قولى العلماء وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء وهو بمنزلة ما يكون فى الأنهار من حفرة ونحوها فان هذا الماء وإن كان الجريان على وجهه فانه يستخلف شيئا فشيئا ويذهب ويأتى ما بعده لكن يبطىء ذهابه بخلاف الذى يجرى جميعه وقد تنازع العلماء فى الماء الجارى على قولين
____________________
(21/72)
أحدهما لا ينجس إلا بالتغير وهذا مذهب أبى حنيفة مع تشديده فى الماء الدائم وهو أيضا مذهب مالك والقول القديم للشافعى وهو أنص الروايتين عن أحمد وإختيار محققى أصحابه والقول الآخر للشافعى وهى الرواية الأخرى عن أحمد أنه كالدائم فتعتبر الجرية والصواب الأول فإن النبى صلى الله عليه وسلم فرق بين الدائم والجارى فى نهيه عن الإغتسال فيه والبول فيه وذلك يدل على الفرق بينهما ولأن الجارى إذا لم تغيره النجاسة فلا وجه لنجاسته وقوله ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ( إنما دل على ما دونهما بالمفهوم والمفهوم لا عموم له فلا يدل ذلك على أن ما دون القلتين يحمل الخبث بل إذا فرق فيه بين دائم وجار أو إذا كان في بعض الأحيان يحمل الخبث كان الحدث معمولا به فإذا كان طاهرا بيقين وليس فى نجاسته نص ولا قياس وجب البقاء على طهارته مع بقاء صفاته وإذا كان حوض الحمام الفائض إذا كان قليلا ووقع فيه بول أو دم أو عذرة ولم تغيره لم ينجسه على الصحيح فكيف بالماء الذى جميعه يجرى على أرض الحمام فإنه إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره لم ينجس
____________________
(21/73)
وهذا يتضح بمسألة أخرى وهو أن الأرض وإن كانت ترابا أو غير تراب إذا وقعت عليها نجاسة من بول أو عذرة أو غيرهما فانه إذا صب الماء على الأرض حتى زالت عين النجاسة فالماء والأرض طاهران وإن لم ينفصل الماء فى مذهب جماهير العلماء فكيف بالبلاط ولهذا قالوا أن السطح إذا كانت عليه نجاسه وأصابه ماء المطر حتى أزال عينها كان ما ينزل من الميازيب طاهرا فكيف بأرض الحمام فإذا كان بها بول أو قىء فصب عليه ماء حتى ذهبت عينه كان الماء والأرض طاهرين وإن لم يجر الماء فكيف إذا جرى وزال عن مكانه والله أعلم
وقد بسطنا الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع وذكرنا بضعة عشر دليلا شرعيا على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه فإذا كانت طاهرة فكيف بالمستحيل منها أيضا وطهارة هذه الأرواث بينة فى السنة فلا يجعل الخلاف فيها شبهة يستحب لأجله إتقاء ما خالطته إذ قد ثبت بالسنة الصحيحة أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلابسونها وأما روث مالا يؤكل لحمه كالبغال والحمير فهذه نجسة عند جمهور العلماء وقد ذهب طائفة إلى طهارتها وأنه لا ينجس من الأرواث والأبوال الا بول الآدمى وعذرته لكن على القول المشهور قول الجمهور إذا شك فى الروثه هل هي من روث ما يؤكل لحمه أو
____________________
(21/74)
من روث مالا يؤكل لحمه ففيها قولان للعلماء هما وجهان فى مذهب أحمد أحدهما يحكم بنجاستها لأن الأصل فى الأرواث النجاسة والثانى وهو الأصح يحكم بطهارتها لأن الأصل فى الأعيان الطهارة ودعوى أن الأصل فى الأرواث النجاسة ممنوع فلم يدل على ذلك لا نص ولا إجماع ومن إدعى أصلا بلا نص ولا إجماع فقد أبطل وإذا لم يكن معه إلا القياس فروث ما يؤكل لحمه طاهر فكيف يدعى أن الأصل نجاسة الأرواث إذا عرف ذلك فان تيقن ان الوقود نجس فالدخان من مسائل الإستحالة كما تقدم وأما إذا تيقن طهارته فلا نزاع فيه وان شك هل فيه نجس فالأصل الطهارة وإن تيقن أن فيه روثا وشك فى نجاسته فالصحيح الحكم بطهارته وإن علم إشتماله على طاهر ونجس وقلنا بنجاسة المستحيل عنه كان له حكمه فيما يصيب بدن المغتسل يجوز أن يكون من الطاهر ويجوز أن يكون من النجس فلا ينجس بالشك كما لو اصابه بعض رماد مثل هذا الوقود فانا لا نحكم بنجاسة البدن بذلك وإن تيقنا أن فى الوقود نجسا لامكان أن يكون هذا الرماد غير نجس والبدن طاهر بيقين فلا نحكم بنجاستة بالشك وهذا إذا لم يختلط الرماد النجس بالطاهر أو البخار النجس بالطاهر
____________________
(21/75)
فأما إذا إختلطا بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر فما أصاب الإنسان يكون منهما جميعا ولكن الوقود فى مقره لا يكون مختلطا بل رماد كل نجاسة يبقى فى حيزها
فإن قيل لو إشتبه الحلال بالحرام كإشتباه أخته بأجنبية أو الميتة بالمذكاة إجتنبهما جميعا ولو إشتبه الماء الطاهر بالنجس فقيل يتحرى للطهارة إذا لم يكن النجس نجس الأصل بان يكون بولا كما قاله الشافعى وقيل لا يتحرى بل يجتنبهما كما لو كان أحدهما بولا وهو المشهور من مذهب أحمد وطائفة من أصحاب مالك وقيل يتحرى إذا كانت الآنية أكبر وهذا مذهب أبى حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد وفى تقدير الكبير نزاع معروف عندهم فهنا أيضا إشتبهت الأعيان النجسة بالطاهرة فإشتبه الحلال بالحرام قيل هذا صحيح ولكن مسألتنا ليست من هذا الباب فانه إذا إشتبه الحلال بالحرام إجتنبهما لأنه إذا إستعملهما لزم إستعمال الحرام قطعا وذلك لا يجوز فهو بمنزلة إختلاط الحلال بالحرام على وجه لا يمكن تمييزه كالنجاسة إذا ظهرت فى الماء وإن إستعمل أحدهما من غير دليل شرعى كان ترجيحا بلا مرجح وهما مستويان فى الحكم فليس إستعمال هذا بأولى من هذا فيجتنبان جميعا
____________________
(21/76)
وأما إشتباه الماء الطاهر بالنجس فإنما نشأ فيه النزاع لأن الطهارة بالطهور واجبة وبالنجس حرام فقد إشتبه واجب بحرام والذين منعوا التحرى قالوا إستعمال النجس حرام وأما إستعمال الطهور فانما يجب مع العلم والقدرة وذلك منتف هنا ولهذا تنازعوا هل يحتاج إلى أن يعدم الطهور بخلط أوراقه على قولين مشهورين أصحهما أنه لا يجب لأن الجهل كالعجز والشافعى رحمه الله إنما جوز التحرى إذا كان الأصل فيهما الطهارة لأنه حينئذ يكون قد إستعمل ما أصله طاهر وقد شك فى تنجسه فيبقى الأمر فيه على إستصحاب الحال والذين نازعوه قالوا ما صار نجسا بالتغير فهو بمنزلة نجس الأصل وقد زال الإستصحاب بيقين النجاسة كما لو حرمت إحدى إمرأتيه برضاع أو طلاق أوغيرهما فانه بمنزلة من تكون محرمة الأصل عنده ومسألة إشتباه الحلال بالحرام ذات فروع متعددة وأما إذا إشتبه الطاهر بالنجس وقلنا يتحرى أو لا يتحرى فانه إذا وقع على بدن الإنسان أو ثوبه أو طعامه شيء من أحدهما لا ينجسه لأن الأصل الطهارة وما ورد عليه مشكوك فى نجاسته ونحن منعنا من إستعمال أحدهما لأنه ترجيح بلا مرجح فأما تنجس ما أصابه ذلك فلا يثبت بالشك نعم لو أصابا ثوبين حكم بنجاسة أحدهما ولو اصابا بدنين فهل يحكم بنجاسة أحدهما
____________________
(21/77)
هذا مبنى على ما إذا تيقن الرجلان أن أحدهما أحدث أو أن أحدهما طلق إمرأته وفيه قولان أحدهما أنه لا يجب على واحد منهما طهارة ولا طلاق كما هو مذهب الشافعى وغيره وأحد القولين فى مذهب أحمد لأن الشك فى رجلين لا فى واحد فكل واحد منهما له أن يستصحب حكم الأصل فى نفسه والثانى ان ذلك بمنزلة الشخص الواحد وهو القول الآخر فى مذهب أحمد وهو أقوى لأن حكم الإيجاب أو التحريم يثبت قطعا فى حق أحدهما فلا وجه لرفعه عنهما جميعا
وسر ما ذكرناه أنه إذا إشتبه الطاهر بالنجس فإجتنابهما جميعا واجب لأنه يتضمن لفعل المحرم واجتناب أحدهما لأن تحليله دون الآخر تحكم ولهذا لما رخص من رخص فى بعض الصور عضده بالتحرى أو به وإستصحابه الحلال فاما ما كان حلالا بيقين ولم يخالطة ما حكم بأنه نجس فكيف ينجس
ولهذا لو تيقن أن فى المسجد أو غيره بقعة نجسه ولم يعلم عينها وصلى فى مكان منه ولم يعلم أنه المتنجس صحت صلاته لأنه كان طاهرا بيقين ولم يعلم أنه نجس
وكذلك لو أصابه شيء من طين الشوارع لم يحكم بنجاسته وأن علم أن بعض طين الشوارع
____________________
(21/78)
نجس ولا يفرق فى هذا بين العدد المنحصر وغير المنحصر وبين القلتين والكثير كما قيل مثل ذلك فى إشتباه الأخت بالأجنبية لأنه هناك إشتبه الحلال بالحرام وهنا شك فى طريان التحريم على الحلال
وإذا شك فى النجاسة هل أصابت الثوب أو البدن فمن العلماء من يأمر بنضحه ويجعل حكم المشكوك فيه النضح كما يقوله مالك ومنهم من لا يوجب ذلك فاذا إحتاط ونضح المشكوك فيه كان حسنا كما روى فى نضح أنس للحصير الذى إسود من طول ما لبس ونضح عمر ثوبه ونحو ذلك والله أعلم
وسئل عن أناس فى مفازة ومعهم قليل ماء فولغ الكلب فيه وهم فى مفازة معطشة فما الحكم فيه فأجاب يجوز لهم حبسه لأجل شربه إذا عطشوا ولم يجدوا ماء طيبا فان الخبائث جميعا تباح للمضطر فله أن يأكل عند الضرورة الميتة والدم ولحم الخنزير وله أن يشرب عند الضرورة ما يرويه كالمياه النجسة والأبوال التى ترويه وإنما منعه أكثر الفقهاء عن شرب
____________________
(21/79)
الخمر قالوا لأنها تزيده عطشا وأما التوضؤ بماء الولوغ فلا يجوز عند جماهير العلماء بل يعدل عنه إلى التيمم
ويجب على المضطر أن يأكل ويشرب ما يقيم به نفسه فمن إضطر إلى الميتة أو الماء النجس فلم يشرب ولم يأكل حتى مات دخل النار ولو وجد غيره مضطرا إلى ما معه من الماء الطيب أو النجس فعليه أن يسقيه إياه ويعدل إلى التيمم سواء كان عليه جنابة أو حدث صغير ومن إغتسل وتوضأ وهناك مضطر من أهل الملة أو الذمة أو دوابهم المعصومة فلم يسقه كان آثما عاصيا والله أعلم
____________________
(21/80)
& باب الآنية سئل
عن أواني النحاس المطعمة بالفضة كالطاسات وغيرها هل حكمها حكم آنية الذهب والفضة أم لا
فأجاب الحمد لله اما المضبب بالفضة من الآنية وما يجري مجراها من الآلات سواء سمى الواحد من ذلك إناء أو لم يسم وما يجري مجرى المضبب كالمباخر والمجامر والطشوت والشمعدانات وأمثال ذلك فإن كانت الضبة يسيرة لحاجة مثل تشعيب القدح وشعيرة السكين ونحو ذلك مما لا يباشر بالاستعمال فلا بأس بذلك
ومراد الفقهاء بالحاجة هنا ان يحتاج إلى تلك الصورة كما يحتاج إلى التشعيب والشعيرة سواء كان من فضة او نحاس أو حديد أو غير ذلك وليس مرادهم أن يحتاج إلى كونها من فضة بل هذا يسمونه في مثل هذا ضرورة والضرورة تبيح الذهب والفضة مفردا وتبعا حتى لو احتاج إلى شد أسنانه بالذهب أو اتخذ أنفا من ذهب ونحو ذلك جاز كما جاءت به السنة مع أنه ذهب ومع انه مفرد
وكذلك لو لم يجد ما يشربه إلا في إناء ذهب أو فضة جاز له
____________________
(21/81)
شربه ولو لم يجد ثوبا يقيه البرد أو يقيه السلاح أو يستر به عورته إلا ثوبا من حرير منسوج بذهب أو فضة جاز له لبسه فإن الضرورة تبيح اكل الميتة والدم ولحم الخنزير بنص القرآن والسنة واجماع الامة مع أن تحريم المطاعم أشد من تحريم الملابس لأن تأثير الخبائث بالممازجة والمخالطة للبدن أعظم من تأثيرها بالملابسة والمباشرة للظاهر ولهذا كانت النجاسات التي تحرم ملابستها يحرم أكلها ويحرم من أكل السموم ونحوها من المضرات ما ليس بنجس ولا يحرم مباشرتها
ثم ما حرم لخبث جنسه أشد مما حرم لما فيه من السرف والفخر والخيلاء فإن هذا يحرم القدر الذي يقتضي ذلك منه ويباح للحاجة كما أبيح للنساء لبس الذهب والحرير لحاجتهن إلى التزين وحرم ذلك على الرجال وابيح للرجال من ذلك اليسير كالعلم ونحو ذلك مما ثبت في السنة ولهذا كان الصحيح من القولين في مذهب أحمد وغيره جواز التداوي بهذا الضرب دون الأول كما رخص النبي للزبير وطلحة في لبس الحرير من حكة كانت بهما
ونهى عن التداوي بالخمر وقال انها داء وليست بدواء ونهى عن الدواء الخبيث ونهى عن قتل الضفدع لأجل التداوي بها وقال ان نقنقتها تسبيح وقال ان الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ولهذا استدل باذنه للعرنيين في التداوي بأبوال الابل وألبانها على أن ذلك ليس من الخبائث المحرمة النجسة لنهيه عن التداوي بمثل
____________________
(21/82)
ذلك ولكونه لم يأمر بغسل ما يصيب الأبدان والثياب والآنية من ذلك
واذا كان القائلون بطهارة أبوال الإبل تنازعوا في جواز شربها لغير الضرورة وفيه عن أحمد روايتان منصوصتان فذاك لما فيها من القذارة الملحق لها بالمخاط والبصاق والمنى ونحو ذلك من المستقذرات التي ليست بنجسه التي يشرع النظافة منها كما يشرع نتف الابط وحلق العانة وتقليم الأظفار وإحفاء الشارب ولهذا ايضا كان هذا الضرب محرما في باب الآنية والمنقولات على الرجال والنساء فآنية الذهب والفضة حرام على الصنفين بخلاف التحلي بالذهب ولباس الحرير فانه مباح للنساء
وباب الخبائث بالعكس فانه يرخص في استعمال ذلك فيما ينفصل عن بدن الانسان ما لا يباح إذا كان متصلا به كما يباح اطفاء الحريق بالخمر واطعام الميتة للبزاة والصقور وإلباس الدابة الثوب النجس وكذلك الاستصباح بالدهن النجس في أشهر قولي العلماء وهو أشهر الروايتين عن أحمد وهذا لأن استعمال الخبائث فيها يجري مجرى الاتلاف ليس فيه ضرر وكذلك في الأمور المنفصلة بخلاف استعمال الحرير والذهب فان هذا غاية السرف والفخر والخيلاء
وبهذا يظهر غلط من رخص من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم في إلباس دابته الثوب الحرير قياسا على الباس الثوب النجس فان هذا بمنزلة من يجوز افتراش الحرير ووطأه قياسا على المصورات أو
____________________
(21/83)
من يبيح تحلية دابته بالذهب والفضة قياسا على من يبيح إلباسها الثوب النجس فقد ثبت بالنص تحريم إفتراش الحرير كما ثبت تحريم لباسه
وبهذا يظهر أن قول من حرم افتراشه على النساء كما هو قول المراوزة من أصحاب الشافعي أقرب إلى القياس من قول من أباحه للرجال كما قاله أبو حنيفة وان كان الجمهور على أن الافتراش كاللباس يحرم على الرجال دون النساء لأن الافتراش لباس كما قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس إذ لا يلزم من اباحة التزين على البدن اباحة المنفصل كما في آنية الذهب والفضة فانهم اتفقوا على أن إستعمال ذلك حرام على الزوجين الذكر والأنثى
واذا تبين الفرق بين ما يسميه الفقهاء في هذا الباب حاجة وما يسمونه ضرورة فيسير الفضة التابع يباح عندهم للحاجة كما في حديث أنس ان قدح رسول الله لما انكسر شعب بالفضة سواء كان الشاعب له رسول الله أو كان هو أنسا
وأما إن كان اليسير للزينة ففيه اقوال في مذهب أحمد وغيره التحريم والاباحة والكراهة قيل والرابع انه يباح من ذلك
____________________
(21/84)
ما لا يباشر بالاستعمال وهذا هو المنصوص عنه فينهى عن الضبة في موضع الشرب دون غيره ولهذا كره حلقة الذهب في الاناء اتباعا لعبد الله بن عمر في ذلك فانه كره ذلك وهو أولى ما اتبع في ذلك
وأما ما يروى عنه مرفوعا من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فاسناده ضعيف ولهذا كان المباح من الضبة إنما يباح لنا استعماله عند الحاجة فاما بدون ذلك قيل يكره وقيل يحرم ولذلك كره أحمد الحلقة في الاناء اتباعا لعبد الله بن عمر والكراهة منه هل تحمل على التنزيه أو التحريم على قولين لأصحابه وهذا المنع هو مقتضى النص والقياس فان تحريم الشيء مطلقا يقتضي تحريم كل جزء منه كما أن تحريم الخنزير والميتة والدم اقتضى ذلك وكذلك تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة يقتضي المنع من ابعاض ذلك وكذلك النهي عن لبس الحرير اقتضى النهي عن ابعاض ذلك لولا ما ورد من استثناء موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع في الحديث الصحيح ولهذا وقع الفرق في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس بين باب النهي والتحريم وباب الامر والايجاب فاذا نهى عن شيء نهى عن بعضه واذا أمر بشيء كان أمرا بجميعه
____________________
(21/85)
ولهذا كان النكاح حيث أمر به كان أمرا بمجموعه وهو العقد والوطء وكذلك إذا ابيح كما في قوله { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } { حتى تنكح زوجا غيره } { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج وحيث حرم النكاح كان تحريما لأبعاضه حتى يحرم العقد مفردا والوطء مفردا كما في قوله { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } وكما في قوله { حرمت عليكم أمهاتكم } الآية إلى آخرها وكما في قوله لا ينكح المحرم ولا ينكح ونحو ذلك
ولهذا فرق مالك وأحمد في المشهور عنه بين من حلف ليفعلن شيئا ففعل بعضه انه لا يبر ومن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه انه يحنث
وإذا كان تحريم الذهب والحرير على الرجال وآنية الذهب والفضة على الزوجين يقتضي شمول التحريم لأبعاض ذلك بقي اتخاذ اليسير لحاجة أو مطلقا فالاتخاذ اليسير فيه تفصيل ولهذا تنازع العلماء في جواز اتخاذ الآنية بدون إستعمالها فرخص فيه ابو حنيفة والشافعي وأحمد في قول وإن كان المشهور عنهما تحريمه إذ الأصل ان ما حرم إستعماله حرم إتخاذه كآلات الملاهي
____________________
(21/86)
وأما إن كانت الفضة التابعة كثيرة ففيها أيضا قولان في مذهب الشافعي وأحمد وفي تحديد الفرق بين الكثير واليسير والترخيص في لبس خاتم الفضة أو تحلية السلاح من الفضة وهذا فيه إباحة يسير الفضة مفردا لكن في اللباس والتحلي وذلك يباح فيه ما لا يباح في باب الآنية كما تقدم التنبيه على ذلك ولهذا غلط بعض الفقهاء من أصحاب أحمد حيث حكى قولا بإباحة يسير الذهب تبعا في الآنية عن أبي بكر عبد العزيز وأبو بكر إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي كعلم الذهب ونحوه
وفي يسير الذهب في باب اللباس عن أحمد اقوال
أحدها الرخصة مطلقا لحديث معاوية نهى عن الذهب إلا مقطعا ولعل هذا القول اقوى من غيره وهو قول ابي بكر
والثاني الرخصة في السلاح فقط
والثالث في السيف خاصة وفيه وجه بتحريمه مطلقا لحديث أسماء لا يباح من الذهب ولا خريصة والخريصة عين الجرادة لكن هذا قد يحمل على الذهب المفرد دون التابع ولا ريب أن هذا
____________________
(21/87)
محرم عند الأئمة الأربعة لأنه قد ثبت عن النبي أنه نهى عن خاتم الذهب وان كان قد لبسه من الصحابة من لم يبلغه النهي
ولهذا فرق أحمد وغيره بين يسير الحرير مفردا كالتكة فنهى عنه وبين يسيره تبعا كالعلم إذ الإستثناء وقع في هذا النوع فقط
فكما يفرق في الرخصة بين اليسير والكثير فيفرق بين التابع والمفرد ويحمل حديث معاوية الا مقطعا على التابع لغيره وإذا كانت الفضة قد رخص منها في باب اللباس والتحلي في اليسير وان كان مفردا فالذين رخصوا في اليسير أو الكثير التابع في الآنية الحقوها بالحرير الذي أبيح يسيره تبعا للرجال في الفضة التي أبيح يسيرها مفردا أولا ولهذا أبيح في احد قولي العلماء وهو احدى الروايتين عن أحمد حلية المنطقة من الفضة وما يشبه ذلك من لباس الحرب كالخوذة والجوشن والران وحمائل السيف
وأما تحلية السيف بالفضة فليس فيه هذا الخلاف والذين منعوا قالوا الرخصة وقعت في باب اللباس دون باب الآنية وباب اللباس أوسع كما تقدم وقد يقال إن هذا اقوى إذ لا أثر في هذه الرخصة والقياس كما ترى
____________________
(21/88)
وأما المضبب بالذهب فهذا داخل في النهي سواء كان قليلا أو كثيرا والخلاف المذكور في الفضة منتف ها هنا لكن في يسير الذهب في الآنية وجه للرخصة فيه
وأما التوضؤ والاغتسال من آنية الذهب والفضة فهذا فيه نزاع معروف في مذهب أحمد لكنه مركب على إحدى الروايتين بل أشهرهما عنه في الصلاة في الدار المغصوبة واللباس المحرم كالحرير والمغصوب والحج بالمال الحرام وذبح الشاة بالسكين المحرمة ونحو ذلك مما فيه أداء واجب واستحلال محظور فاما على الرواية الأخرى التي يصحح فيها الصلاة والحج ويبيح الذبح فانه يصحح الطهارة من آنية الذهب والفضة وأما على المنع فلأصحابه قولان أحدهما الصحة كما هو قول الخرقي وغيره والثاني البطلان كما هو قول أبي بكر طردا لقياس الباب
والذين نصروا قول الخرقي أكثر اصحاب أحمد فرقوا بفرقين
أحدهما أن المحرم هنا منفصل عن العبادة فان الإناء منفصل عن المتطهر بخلاف لابس المحرم وآكله والجالس عليه فانه مباشر له قالوا فاشبه ما لو ذهب إلى الجمعة بدابة مغصوبة وضعف آخرون هذا الفرق بأنه لا فرق بين أن يغمس يده في الإناء المحرم وبين أن
____________________
(21/89)
يغترف منه وبأن النبي جعل الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم وهو حين انصباب الماء في بطنه يكون قد انفصل عن الاناء
والفرق الثاني وهو أفقه قالوا التحريم إذا كان في ركن العبادة وشرطها أثر فيها كما إذا كان في الصلاة في اللباس أو البقعة وأما إذا كان في أجنبي عنها لم يؤثر والاناء في الطهارة اجنبي عنها فلهذا لم يؤثر فيها والله أعلم وسئل
عن جلود الحمر وجلد ما لا يؤكل لحمه والميتة هل تطهر بالدباغ أم لا أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما طهارة جلود الميتة بالدباغ ففيها قولان مشهوران للعلماء في الجملة
أحدهما انها تطهر بالدباغ وهو قول أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في احدى الروايتين
____________________
(21/90)
والثاني لا تطهر وهو المشهور في مذهب مالك ولهذا يجوز استعمال المدبوغ في الماء دون المائعات لان الماء لا ينجس بذلك وهو أشهر الروايتين عن أحمد أيضا اختارها أكثر اصحابه لكن الرواية الأولى هي آخر الروايتين عنه كما نقله الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه أنه كان يذهب إلى حديث بن عكيم ثم ترك ذلك بآخرة وحجة هذا القول شيئان
أحدهما انهم قالوا هي من الميتة ولم يصح في الدباغ شيء ولهذا لم يرو البخاري ذكر الدباغ في حديث ميمونة من قول النبي وطعن هؤلاء فيما رواه مسلم وغيره إذ كانوا أئمة لهم في الحديث اجتهاد وقالوا روى بن عيينة الدباغ عن الزهري والزهري كان يجوز استعمال جلود الميتة بلا دباغ وذلك يبين أنه ليس في روايته ذكر الدباغ وتكلموا في بن وعلة
والثاني انهم قالوا أحاديث الدباغ منسوخة بحديث بن عكيم وهو قوله فيما كتب إلى جهينة كنت رخصت في جلود الميتة فاذا أتاكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب فكلا هاتين الحجتين مأثورة عن الإمام أحمد نفسه في جوابه ومناظراته في الرواية الأولى المشهورة
____________________
(21/91)
وقد احتج القائلون بالدباغ بما في الصحيحين عن عبد الله بن عباس أن النبي مر بشاة ميتة فقال هلا استمتعتم باهابها قالوا يا رسول الله انها ميتة قال انما حرم من الميتة أكلها وفي رواية لمسلم ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به وعن سودة بنت زمعة زوج النبي قالت ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا وعن بن عباس قال سمعت رسول الله يقول إذا دبغ الأهاب فقد طهر قلت وفي رواية له عن عبد الرحمن بن وعلة انا نكون بالمغرب ومعنا البربر والمجوس نؤتى بالكبش قد ذبحوه ونحن لا نأكل ذبائحهم ونؤتى بالسقاء يجعلون فيه الدلوك فقال بن عباس قد سألنا رسول الله عن ذلك فقال دباغه طهوره
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت رواه الإمام احمد وأبو داود وبن ماجة والنسائي وفي رواية عن عائشة قالت سئل رسول الله عن جلود الميتة فقال دباغها طهورها رواه الامام أحمد والنسائي وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه أن رسول الله مر ببيت بفنائه قربة معلقة فاستقى فقيل انها
____________________
(21/92)
ميتة فقال ذكاة الأديم دباغه رواه الامام أحمد وأبو داود والنسائي
وأما حديث بن عكيم فقد طعن بعض الناس فيه بكون حامله مجهولا ونحو ذلك مما لا يسوغ رد الحديث به قال عبد الله بن عكيم أتانا كتاب رسول الله قبل أن يموت بشهر أو شهرين أن لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب رواه الامام أحمد وقال ما أصلح إسناده وأبو داود وبن ماجة والنسائي والترمذي وقال حديث حسن وأجاب بعضهم عنه بأن الاهاب اسم للجلد قبل الدباغ كما نقل ذلك النضر بن شميل وغيره من أهل اللغة وأما بعد الدبغ فإنما هو أديم فيكون النهي عن استعمالها قبل الدبغ فقال المانعون هذا ضعيف فإن في بعض طرقه كتب رسول الله ونحن في أرض جهينة إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب رواه الطبراني في المعجم الأوسط من رواية فضالة بن مفضل بن فضالة المصري وقد ضعفه ابو حاتم الرازي لكن هو شديد في التزكية وإذا كان النهي بعد الرخصة فالرخصة انما كانت في المدبوغ
وتحقيق الجواب أن يقال حديث بن عكيم ليس فيه نهي عن استعمال المدبوغ واما الرخصة المتقدمة فقد قيل انها كانت للمدبوغ
____________________
(21/93)
وغيره ولهذا ذهب طائفة منهم الزهري وغيره إلى جواز استعمال جلود الميتة قبل الدباغ تمسكا بقوله المطلق في حديث ميمونة وقوله انما حرم من الميتة أكلها فان هذا اللفظ يدل على التحريم ثم لم يتناول الجلد وقد رواه الامام أحمد في المسند عن بن عباس قال ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ماتت فلانة تعني الشاة فقال فلولا أخذتم مسكها فقالت آخذ مسك شاة قد ماتت فقال لها رسول الله انما قال { لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وانكم لا تطعمونه ان تدبغوه تنتفعوا به فأرسلت اليها فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها
فهذا الحديث يدل على أن التحريم لم يتناول الجلد وإنما ذكر الدباغ لابقاء الجلد وحفظه لا لكونه شرطا في الحل وإذا كان كذلك فتكون الرخصة لجهينة في هذا والنسخ عن هذا فان الله تعالى ذكر تحريم الميتة في سورتين مكيتين الانعام والنحل ثم في سورتين مدنيتين البقرة والمائدة والمائدة من آخر القرآن نزولا كما روى المائدة آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها وقد ذكر الله فيها من التحريم ما لم يذكره في غيرها وحرم النبي
____________________
(21/94)
اشياء مثل اكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير واذا كان التحريم زاد بعد ذلك على ما في السورة المكية التي استندت اليها الرخصة المطلقة فيمكن أن يكون تحريم الانتفاع بالعصب والاهاب قبل الدباغ ثبت بالنصوص المتأخرة وأما بعد الدباغ فلم يحرم ذلك قط بل بين أن دباغه طهوره وذكاته وهذا يبين أنه لا يباح بدون الدباغ
وعلى هذا القول فللناس فيما يطهره الدباغ أقوال
قيل انه يطهر كل شيء حتى الحمير كما هو قول أبي يوسف وداود
وقيل يطهر كل شيء سوى الحمير كما هو قول أبي حنيفة
وقيل يطهر كل شيء الا الكلب والحمير كما هو قول الشافعي وهو أحد القولين في مذهب أحمد على القول بتطهير الدباغ والقول الآخر في مذهبه وهو قول طوائف من فقهاء الحديث انه انما يطهر ما يباح بالذكاة فلا يطهر جلود السباع
ومأخذ التردد ان الدباغ هل هو كالحياة فيطهر ما كان طاهرا في الحياة أو هو كالذكاة فيطهر ما طهر بالذكاة والثاني أرجح
____________________
(21/95)
ودليل ذلك نهى النبي عن جلود السباع كما روى عن أسامة بن عمير الذهلي أن النبي نهى عن جلود السباع رواه أحمد وأبو داود والنسائي زاد الترمذي ان تفرش وعن خالد بن معدان قال وفد المقدام بن معدي كرب على معاوية فقال أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله نهى عن جلود السباع والركوب عليها قال نعم رواه أبو داود والنسائي وهذا لفظه وعن أبي ريحانة نهى رسول الله عن ركوب النمور رواه أحمد وأبو داود وبن ماجة وروى ابو داود والنسائي عن معاوية عن النبي قال لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر رواه ابو داود وفي هذا القول جمع بين الأحاديث كلها والله أعلم وسئل شيخ الإسلام
عن عظام الميتة وحافرها وقرنها وظفرها وشعرها وريشها وانفحتها هل ذلك كله نجس أم طاهر أم البعض منه طاهر والبعض نجس
فأجاب أما عظم الميتة وقرنها وظفرها وما هو من جنس
____________________
(21/96)
ذلك كالحافر ونحوه وشعرها وريشها ووبرها ففي هذين النوعين للعلماء ثلاثة أقوال
أحدها نجاسة الجميع كقول الشافعي في المشهور عنه وذلك رواية عن أحمد
والثاني أن العظام ونحوها نجسة والشعور ونحوها طاهرة وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد
والثالث أن الجميع طاهر كقول أبي حنيفة وهو قول في مذهب مالك وأحمد
وهذا القول هو الصواب وذلك لأن الأصل فيها الطهارة ولا دليل على النجاسة
وأيضا فان هذه الأعيان هي من الطيبات ليست من الخبائث فتدخل في آية التحليل وذلك لأنها لم تدخل فيما حرمه الله من الخبائث لا لفظا ولا معنى فان الله تعالى حرم الميتة وهذه الأعيان لا تدخل فيما حرمه الله لا لفظا ولا معنى
أما اللفظ فلان قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } لا يدخل فيها الشعور وما أشبهها وذلك لأن الميت ضد الحي والحياة نوعان
____________________
(21/97)
حياة الحيوان وحياة النبات فحياة الحيوان خاصتها الحس والحركة الارادية وحياة النبات خاصتها النمو والاغتذاء وقوله { حرمت عليكم الميتة } إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية فإن الشجر والزرع إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين وقد قال تعالى { والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } وقال { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } فموت الأرض لا يوجب نجاستها باتفاق المسلمين وإنما الميتة المحرمة ما فارقها الحس والحركة الارادية وإذا كان كذلك فالشعر حياته من جنس حياة النبات لا من جنس حياة الحيوان فانه ينمو ويغتذى ويطول كالزرع وليس فيه حس ولا يتحرك بارادته فلا تحله الحياة الحيوانية حتى يموت بمفارقتها فلا وجه لتنجيسه
وايضا فلو كان الشعر جزءا من الحيوان لما ابيح أخذه في حال الحياة فان النبي سئل عن قوم يحبون أسنمة الابل وأليات الغنم فقال ما أبين من البهيمة وهي حية فهو ميت رواه أبو داود وغيره وهذا متفق عليه بين العلماء فلو كان حكم الشعر حكم السنام والألية لما جاز قطعه في حال الحياة ولا كان طاهرا حلالا فلما اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان طاهرا حلالا علم أنه ليس مثل اللحم
____________________
(21/98)
وايضا فقد ثبت أن النبي أعطى شعره لما حلق رأسه للمسلمين وكان يستنجي ويستجمر فمن سوى بين الشعر والبول والعذرة فقد أخطأ خطأ بينا
وأما العظام ونحوها فاذا قيل إنها داخلة في الميتة لأنها تحس وتألم قيل لمن قال ذلك أنتم لم تأخذوا بعموم اللفظ فان ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب والخنفساء لا ينجس عندكم وعند جمهور العلماء مع أنها ميتة موتا حيوانيا وقد ثبت في الصحيح أن النبي قال إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فان في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ومن نجس هذا قال في أحد القولين إنه لا ينجس المائعات الواقع فيها لهذا الحديث
وإذا كان كذلك علم أن علة نجاسة الميتة إنما هو إحتباس الدم فيها فما لا نفس له سائلة ليس فيه دم سائل فاذا مات لم يحتبس فيه الدم فلا ينجس فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجيس من هذا فان العظم ليس فيه دم سائل ولا كان متحركا بالارادة إلا على وجه التبع فاذا كان الحيوان الكامل الحساس المتحرك بالارادة لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل
____________________
(21/99)
ومما يبين صحة قول الجمهور أن الله سبحانه إنما حرم علينا الدم المسفوح كما قال تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا } فاذا عفي عن الدم غير المسفوح مع أنه من جنس الدم علم أنه سبحانه فرق بين الدم الذي يسيل وبين غيره ولهذا كان المسلمون يضعون اللحم في المرق وخطوط الدم في القدور بين ويأكلون ذلك على عهد رسول الله كما أخبرت بذلك عائشة ولولا هذا لاستخرجوا الدم من العروق كما يفعل اليهود والله تعالى حرم ما مات حتف انفه أو بسبب غير جارح محدد فحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وحرم النبي ما صيد بعرض المعراض وقال إنه وقيذ دون ما صيد بحده والفرق بينهما إنما هو سفح الدم فدل على أن سبب التنجيس هو احتقان الدم واحتباسه واذا سفح بوجه خبيث بأن يذكر عليه غير اسم الله كان الخبث هنا من جهة أخرى فإن التحريم يكون تارة لوجود الدم وتارة لفساد التذكية كذكاة المجوسي والمرتد والذكاة في غير المحل
وإذا كان كذلك فالعظم والقرن والظفر والظلف وغير ذلك ليس فيه دم مسفوح فلا وجه لتنجيسه وهذا قول جمهور السلف قال الزهري كان خيار هذه الأمة يمتشطون بأمشاط من عظام الفيل وقد
____________________
(21/100)
روي في العاج حديث معروف لكن فيه نظر ليس هذا موضعه فانا لا نحتاج إلى الاستدلال بذلك
وايضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال في شاة ميمونة هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به قالوا انها ميتة قال إنما حرم أكلها وليس في صحيح البخاري ذكر الدباغ ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه ولكن ذكره بن عيينة ورواه مسلم في صحيحه وقد طعن الامام أحمد في ذلك واشار إلى غلط بن عيينة فيه وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لاجل هذا الحديث وحينئذ فهذا النص يقتضي جواز الانتفاع بها بعد الدبغ بطريق الأولى لكن إذا قيل إن الله حرم بعد ذلك الانتفاع بالجلود حتى تدبغ أو قيل إنها لا تطهر بالدباغ لم يلزم تحريم العظام ونحوها لأن الجلد جزء من الميتة فيه الدم كما في سائر أجزائها والنبي جعل دباغه ذكاته لأن الدباغ ينشف رطوباته فدل على أن سبب التنجيس هو الرطوبات والعظم ليس فيه رطوبة سائلة وما كان فيه منها فانه يجف وييبس وهو يبقى ويحفظ أكثر من الجلد فهو أولى بالطهارة من الجلد
والعلماء تنازعوا في الدباغ هل يطهر
____________________
(21/101)
فذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما أنه لا يطهر
ومذهب ابي حنيفة والشافعي والجمهور أنه يطهر وإلى هذا القول رجع أحمد كما ذكر ذلك عنه الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه
وحديث بن عكيم يدل على ان النبي نهاهم أن ينتفعوا من الميتة باهاب أو عصب بعد أن كان أذن لهم في ذلك لكن هذا قد يكون قبل الدباغ فيكون قد أرخص فان حديث الزهري الصحيح يبين أنه كان قد رخص في جلود الميتة قبل الدباغ فيكون قد أرخص لهم في ذلك ثم لما نهى عن الانتفاع بها قبل الدباغ نهاهم عن ذلك ولهذا قال طائفة من أهل اللغة ان الاهاب اسم لما لم يدبغ ولهذا قرن معه العصب والعصب لا يدبغ فصل
وأما لبن الميتة وانفحتها ففيه قولان مشهوران للعلماء
أحدهما أن ذلك طاهر كقول أبي حنيفة وغيره وهو إحدى الروايتين عن أحمد
____________________
(21/102)
والثاني أنه نجس كقول مالك والشافعي والرواية الأخرى عن أحمد
وعلى هذا النزاع انبنى نزاعهم في جبن المجوس فان ذبائح المجوس حرام عند جماهير السلف والخلف وقد قيل إن ذلك مجمع عليه بين الصحابة فاذا صنعوا جبنا والجبن يصنع بالأنفحة كان فيه هذان القولان
والأظهر أن جبنهم حلال وان أنفحة الميتة ولبنها طاهر وذلك لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس وكان هذا ظاهرا شائعا بينهم وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر فانه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر وأهل العراق كانوا أعلم بهذا فان المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز
ويدل على ذلك ان سلمان الفارسي كان هو نائب عمر بن الخطاب على المدائن وكان يدعو الفرس إلى الإسلام وقد ثبت عنه أنه سئل عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال الحلال ما احل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه وقد رواه أبو داود مرفوعا إلى النبي ومعلوم أنه لم يكن السؤال عن جبن المسلمين وأهل الكتاب فان هذا امر
____________________
(21/103)
بين وإنما كان السؤال عن جبن المجوس فدل ذلك على ان سلمان كان يفتي بحلها وإذا كان روى ذلك عن النبي انقطع النزاع بقول النبي
وأيضا فاللبن والأنفحة لم يموتا وإنما نجسهما من نجسهما لكونهما في وعاء نجس فيكون مائعا في وعاء نجس فالتنجيس مبني على مقدمتين على ان المائع لاقى وعاء نجسا وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسا
فيقال أولا لا نسلم ان المائع ينجس بملاقاة النجاسة وقد تقدم ان السنة دلت على طهارته لا على نجاسته
ويقال ثانيا إن الملاقاة في الباطن لا حكم لها كما قال تعالى { نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين } ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في بطنه والله أعلم
____________________
(21/104)
& باب الاستنجاء سئل رحمه الله عمن قال إن النبي قال غربوا ولا تشرقوا ومنهم من قال شرقوا ولا تغربوا
فأجاب الحديثان كذب ولكن في الصحيح عنه أنه قال لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا وفي السنن عنه أنه قال ما بين المشرق والمغرب قبلة وهذا خطاب منه لأهل المدينة ومن جرى مجراهم كأهل الشام والجزيرة والعراق وأما مصر فقبلتهم بين المشرق والجنوب من مطلع الشمس في الشتاء والله أعلم
____________________
(21/105)
وسئل عن الاستنجاء هل يحتاج إلى أن يقوم الرجل ويمشي ويتنحنح ويستجمر بالأحجار وغيرها بعد كل قليل في ذهابه ومجيئه لظنه أنه خرج منه شيء فهل فعل هذا السلف رضي الله عنهم أو هو بدعة أو هو مباح
فأجاب الحمد لله التنحنح بعد البول والمشي والطفر إلى فوق والصعود في السلم والتعلق في الحبل وتفتيش الذكر باسالته وغير ذلك كل ذلك بدعة ليس بواجب ولا مستحب عند أئمة المسلمين بل وكذلك نتر الذكر بدعة على الصحيح لم يشرع ذلك رسول الله
وكذلك سلت البول بدعة لم يشرع ذلك رسول الله والحديث المروي في ذلك ضعيف لا أصل له والبول يخرج بطبعه وإذا فرغ انقطع بطبعه وهو كما قيل كالضرع إن تركته قر وإن حلبته در
____________________
(21/106)
وكلما فتح الانسان ذكره فقد يخرج منه ولو تركه لم يخرج منه وقد يخيل إليه أنه خرج منه وهو وسواس وقد يحس من يجده بردا لملاقاة رأس الذكر فيظن انه خرج منه شيء ولم يخرج
والبول يكون واقفا محبوسا في رأس الإحليل لا يقطر فاذا عصر الذكر أو الفرج أو الثقب بحجر أو أصبع أو غير ذلك خرجت الرطوبة فهذا ايضا بدعة وذلك البول الواقف لا يحتاج إلى اخراج باتفاق العلماء لا بحجر ولا أصبع ولا غير ذلك بل كلما أخرجه جاء غيره فانه يرشح دائما
والاستجمار بالحجر كاف لا يحتاج إلى غسل الذكر بالماء ويستحب لمن استنجى أن ينضح على فرجه ماء فاذا احس برطوبته قال هذا من ذلك الماء
وأما من به سلس البول وهو أن يجري بغير اختياره لا ينقطع فهذا يتخذ حفاظا يمنعه فان كان البول ينقطع مقدار ما يتطهر ويصلي وإلا صلى وإن جرى البول كالمستحاضة تتوضأ لكل صلاة والله أعلم
____________________
(21/107)
& باب السواك سئل رحمه الله
عن السواك هل هو باليد اليسرى أولى من اليد اليمنى أو بالعكس وهل يسوغ الانكار على من يستاك باليسرى وأيما أفضل
فأجاب الحمد لله رب العالمين الأفضل أن يستاك باليسرى نص عليه الامام أحمد في رواية بن منصور الكوسج ذكره عنه في مسائله وما علمنا أحدا من الأئمة خالف في ذلك وذلك لأن الاستياك من باب إماطة الأذى فهو كالاستنثار والامتخاط ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى وذلك باليسرى كما أن إزالة النجاسات كالاستجمار ونحوه باليسرى وإزالة الأذى واجبها ومستحبها باليسرى
والأفعال نوعان أحدهما مشترك بين العضوين والثاني مختص بأحدهما
وقد استقرت قواعد الشريعة على ان الأفعال التي تشترك فيها
____________________
(21/108)
اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة كالوضوء والغسل والإبتداء بالشق الأيمن في السواك ونتف الابط وكاللباس والانتعال والترجل ودخول المسجد والمنزل والخروج من الخلاء ونحو ذلك
وتقدم اليسرى في ضد ذلك كدخول الخلاء وخلع النعل والخروج من المسجد
والذي يختص بأحدهما إن كان من باب الكرامة كان باليمين كالأكل والشرب والمصافحة ومناولة الكتب وتناولها ونحو ذلك وإن كان ضد ذلك كان باليسرى كالاستجمار ومس الذكر والاستنثار والامتخاط ونحو ذلك
فان قيل السواك عبادة مقصودة تشرع عند القيام إلى الصلاة وإن لم يكن هناك وسخ وما كان عبادة مقصودة كان باليمين
قيل كل من المقدمتين ممنوع فان الاستياك إنما شرع لازالة ما في داخل الفم وهذه العلة متفق عليها بين العلماء ولهذا شرع عند الأسباب المغيرة له كالنوم والاغماء وعند العبادة التي يشرع لها تطهير كالصلاة والقراءة ولما كان الفم في مظنة التغير شرع عند
____________________
(21/109)
القيام إلى الصلاة كما شرع غسل اليد للمتوضئ قبل وضوئه لأنها آلة لصب الماء وقد تنازع العلماء فيما إذا تحقق نظافتها هل يستحب غسلها على قولين مشهورين ومن استحب ذلك كالمعروف في مذهب الشافعي وأحمد يستحب على النادر بل الغالب وإزالة الشك باليقين
وقد يقال مثل ذلك في السواك إذا قيل باستحبابه مع نظافة الفم عند القيام إلى الصلاة مع أن غسل اليد قبل المضمضة المقصود بها النظافة فهذا توجيه المنع للمقدمة الأولى
وأما الثانية فاذا قدر أنه عبادة مقصودة فما الدليل على أن ذلك مستحب باليمنى وهذه مقدمة لا دليل عليها بل قد يقال العبادات تفعل بما يناسبها ويقدم فيها ما يناسبها
ثم قول القائل إن ذلك عبادة مقصودة إن أراد به أنه تعبد محض لا تعقل علته فليس هذا بصواب لاتفاق المسلمين على أن السواك معقول ليس بمنزلة رمي الجمار وان أراد أنها مقصودة أنه لا بد فيها من النية كالطهارة وأنها مشروعة مع تيقن النظافة ونحو ذلك فهذا الوصف إذا سلم لم يكن في ذلك ما يوجب كونها باليمنى إذ لا دليل على ذلك فان كونها منوية أو مشروعة مع تيقن النظافة
____________________
(21/110)
لا ينافي أن يكون من باب الكرامة تختص بها اليمنى بل يمكن ذلك فيها مع هذا الوصف ألا ترى أن الطواف بالبيت من أجل العبادات المقصودة ويستحب القرب فيه من البيت ومع هذا فالجانب الأيسر فيه أقرب إلى البيت لكون الحركة الدورية تعتمد فيها اليمنى على اليسرى فلما كان الاكرام في ذلك للخارج جعل لليمين ولم ينقل اذا كانت مقصودة فينبغي تقديم اليمنى فيها إلى البيت لأن إكرام اليمين في ذلك أن تكون هي الخارجة
وكذلك الاستنثار جعله باليسرى إكرام لليمين وصيانة لها وكذلك السواك ثم إذا قيل هو في الأصل من باب إزالة الأذى وإذا قيل إنه مشروع فيه العدول عن اليمنى إلى اليسرى أعظم في إكرام اليمين بدون ذلك لم يمنع أن يكون إزالة الأذى فيه ثابتة مقصودة كالاستجمار بالثلاث عند من يوجبه كالشافعي وأحمد فانهم يوجبون الحجر الثالث مع حصول الانقاء بما دونه
وكذلك التثليث والتسبيع في غسل النجاسات حيث وجب وعند من يوجبه يأمر به وإن حصلت الازالة بما دونه
وكذلك التثليث في الوضوء مستحب وإن تنظف العضو بما دونه مع أنه لا شك أن إزالة النجاسة مقصودة في الاستنجاء بالماء والحجر
____________________
(21/111)
فكذلك إماطة الأذى من الفم مقصودة بالسواك قطعا وإن شرع مع عدمه تحقيقا لحصول المقصود وذلك لا يمنع من أن يجعل باليسرى كما أن الحجر الثالث في الاستجمار يكون باليسرى والمرة السابعة في ولوغ الكلب تكون باليسرى ونحو ذلك مما كان المقصود به في الأصل إزالة الأذى وان قيل يشرع مع عدمه تكميلا للمقصود به وإزالة للشك باليقين إلحاقا للنادر بالغالب ولأن الحكمة في ذلك قد تكون خفية فعلق الحكم فيها بالمظنة إذ زوال الأذى بالكلية قد يظنه الظان من غير تيقن ويعسر اليقين في ذلك فأقيمت المظنة فيه مقام الحكمة فجعل مشروعا للقيام إلى الصلاة مع عدم النظر إلى التغير وعدمه لأن العبادة حصول التغير
فهذا اذا قيل به فهو من جنس أقوال العلماء وذلك لا يخرج جنس هذا الفعل أن يكون من باب إزالة الأذى وان كان عبادة مقصودة تشرع فيها النية وحينئذ يكون باليسرى كالاستنثار والاستنجاء بالأحجار ومباشرة محل الولوغ بالدلك ونحوه بخلاف صب الماء فانه من باب الكرامة ولهذا كان المتوضئ يستنشق باليمنى ويستنثر باليسرى والمستنجي يصب الماء باليمين ويدلك باليسرى
وكذلك المغتسل والمتوضئ من الماء كما فعل النبي يدخل يده اليمنى في الاناء فيصب بها على اليسرى مع أن
____________________
(21/112)
مباشرة العورة في الغسل باليسرى وهكذا غاسل مورد النجاسة يصب باليمنى واذا احتاج إلى مباشرة المحل باشره باليسرى وشواهد الشريعة وأصولها على ذلك متظاهرة والله أعلم وسئل عن الختان متى يكون
فأجاب أما الختان فمتى شاء اختتن لكن اذا راهق البلوغ فينبغي أن يختتن كما كانت العرب تفعل لئلا يبلغ الا وهو مختون
وأما الختان في السابع ففيه قولان هما روايتان عن أحمد قيل لا يكره لأن ابراهيم ختن إسحاق في السابع وقيل يكره لأنه عمل اليهود فيكره التشبه بهم وهذا مذهب مالك والله أعلم وسئل
عن مسلم بالغ عاقل يصوم ويصلي وهو غير مختون وليس مطهرا هل يجوز ذلك ومن ترك الختان كيف حكمه
فأجاب إذا لم يخف عليه ضرر الختان فعليه أن يختتن فان
____________________
(21/113)
ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة وهو واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقد اختتن ابراهيم الخليل عليه السلام بعد ثمانين من عمره ويرجع في الضرر إلى الأطباء الثقات واذا كان يضره في الصيف أخره إلى زمان الخريف والله أعلم وسئل عن المرأة هل تختتن أم لا
فأجاب الحمد لله نعم تختتن وختانها أن تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك قال رسول الله للخافضة وهي الخاتنة أشمي ولا تنهكي فانه أبهى للوجه وأحظى لها عند الزوج يعني لا تبالغي في القطع وذلك أن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها فانها اذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة
ولهذا يقال في المشاتمة يا بن القلفاء فان القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتر ونساء الافرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت الشهوة فلا يكمل مقصود الرجل فاذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود باعتدال والله أعلم
____________________
(21/114)
وسئل
اذا مات الصبي وهو غير مختون هل يختن بعد موته
فأجاب ولا يختن أحد بعد الموت وسئل
كم مقدار أن يقعد الرجل حتى يحلق عانته
فأجاب عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله وقت لهم في حلق العانة ونتف الابط ونحو ذلك أن لا يترك أكثر من أربعين يوما وهو في الصحيح والله أعلم ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم أجمعين
في اقوام يحلقون رؤوسهم على ايدي الأشياخ وعند القبور التي
____________________
(21/115)
يعظمونها ويعدون ذلك قربة وعبادة فهل هذا سنة او بدعة وهل حلق الرأس مطلقا سنة أو بدعة أفتونا مأجورين
فأجاب شيخ الاسلام الحمد لله رب العالمين
حلق الرأس على أربعة أنواع
أحدها حلقه في الحج والعمرة فهذا مما أمر الله به ورسوله وهو مشروع ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة قال تعالى { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون } وقد تواتر عن النبي أنه حلق راسه في حجه وفي عمره وكذلك أصحابه منهم من حلق ومنهم من قصر والحلق أفضل من التقصير ولهذا قال اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال والمقصرين وقد أمر الصحابة الذين لم يسوقوا الهدى في حجة الوداع أن يقصروا رؤوسهم للعمرة إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يحلقوا إذا قضوا الحج فجمع لهم بين التقصير أولا وبين الحلق ثانيا
____________________
(21/116)
والنوع الثاني حلق الرأس للحاجة مثل أن يحلقه للتداوي فهذا ايضا جائز بالكتاب والسنة والاجماع فان الله رخص للمحرم الذي لا يجوز له حلق رأسه أن يحلقه اذا كان به أذى كما قال تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وقد ثبت باتفاق المسلمين حديث كعب بن عجرة لما مر به النبي في عمرة الحديبية والقمل ينهال من رأسه فقال أيؤذيك هوامك قال نعم فقال احلق رأسك وانسك شاة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم فرقا بين ستة مساكين وهذا الحديث متفق على صحته متلقى بالقبول من جميع المسلمين
النوع الثالث حلقه على وجه التعبد والتدين والزهد من غير حج ولا عمرة مثل ما يأمر بعض الناس التائب اذا تاب بحلق رأسه ومثل أن يجعل حلق الراس شعار أهل النسك والدين أو من تمام الزهد والعبادة أو يجعل من يحلق رأسه أفضل ممن لم يحلقه أو أدين أو أزهد أو أن يقصر من شعر التائب كما يفعل بعض المنتسبين إلى المشيخة إذا توب أحدا أن يقص بعض شعره ويعين الشيخ صاحب مقص وسجادة فيجعل صلاته على السجادة وقصه رؤوس الناس من تمام المشيخة التي يصلح بها ان يكون قدوة يتوب
____________________
(21/117)
التائبين فهذا بدعة لم يأمر الله بها ولا رسوله وليست واجبة ولا مستحبة عند أحد من أئمة الدين ولا فعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم باحسان ولا شيوخ المسلمين المشهورين بالزهد والعبادة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا تابعيهم ومن بعدهم مثل الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأحمد بن أبي الحواري والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثال هؤلاء لم يكن هؤلاء يقصون شعر أحد إذا تاب ولا يأمرون التائب أن يحلق رأسه
وقد أسلم على عهد النبي جميع أهل الأرض ولم يكن يأمرهم بحلق رؤوسهم إذا أسلموا ولا قص النبي رأس أحد ولا كان يصلي على سجادة بل كان يصلي إماما بجميع المسلمين يصلي على ما يصلون عليه ويقعد على ما يقعدون عليه لم يكن متميزا عنهم بشيء يقعد عليه لا سجادة ولا غيره ولكن يسجد أحيانا على الخميرة وهي شيء يصنع من الخوص صغير يسجد عليها أحيانا لأن المسجد لم يكن مفروشا بل كانوا يصلون على الرمل والحصى وكان أكثر الأوقات يسجد على الأرض حتى يبين الطين في جبهته صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
ومن اعتقد البدع التي ليست واجبة ولا مستحبة قربة وطاعة
____________________
(21/118)
وطريقا إلى الله وجعلها من تمام الدين ومما يؤمر به التائب والزاهد والعابد فهو ضال خارج عن سبيل الرحمن متبع لخطوات الشياطين
والنوع الرابع أن يحلق راسه في غير النسك لغير حاجة ولا على وجه التقرب والتدين فهذا فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد
أحدهما أنه مكروه وهو مذهب مالك وغيره
والثاني أنه مباح وهو المعروف عند أصحاب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي رأى غلاما قد حلق بعض رأسه فقال احلقوه كله أو دعوه كله وأتي بأولاد صغار بعد ثلاث فحلق رؤوسهم ولأنه نهى عن القزع والقزع حلق البعض فدل على جواز حلق الجميع والأولون يقولون حلق الرأس شعار أهل البدع فان الخوارج كانوا يحلقون رؤوسهم وبعض الخوارج يعدون حلق الرأس من تمام التوبة والنسك وقد ثبت في الصحيحين أن النبي لما كان يقسم جاءه رجل عام الفتح كث اللحية محلوق
____________________
(21/119)
وسئل
عن رجل جندي يقلع بياض لحيته فهل عليه في ذلك إثم أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين نتف الشيب مكروه للجندي وغيره فان في الحديث أن النبي نهى عن نتف الشيب وقال إنه نور المسلم وسئل
عن الرجل اذا كان جنبا وقص ظفره أو شاربه أو مشط رأسه هل عليه شيء في ذلك فقد أشار بعضهم إلى هذا وقال إذا قص الجنب شعره أو ظفره فانه تعود إليه أجزاؤه في الآخرة فيقوم يوم القيامة وعليه قسط من الجنابة بحسب ما نقص من ذلك وعلى كل شعرة قسط من الجنابة فهل ذلك كذلك أم لا
فأجاب قد ثبت عن النبي من حديث حذيفة
____________________
(21/120)
ومن حديث ابي هريرة رضي الله عنهما أنه لما ذكر له الجنب قال إن المؤمن لا ينجس وفي صحيح الحاكم حيا ولا ميتا وما أعلم على كراهية إزالة شعر الجنب وظفره دليلا شرعيا بل قد قال النبي للذي أسلم الق عنك شعر الكفر واختتن فأمر الذي أسلم أن يغتسل ولم يأمره بتأخير الاختتان وإزالة الشعر عن الاغتسال فاطلاق كلامه يقتضي جواز الأمرين وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط في غسلها مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر والله أعلم
____________________
(21/121)
& باب الوضوء سئل رحمه الله
عن مسح الرأس في الوضوء من العلماء من أوجب جميع الرأس ومنهم من أوجب ربع الرأس ومنهم من قال بعض شعره يجزئ فما ينبغي أن يكون الصحيح من ذلك بينوا لنا ذلك
فأجاب الحمد لله اتفق الأئمة كلهم على أن السنة مسح جميع الرأس كما ثبت في الأحاديث الصحيحة والحسنة عن النبي فان الذين نقلوا وضوءه لم ينقل عنه احد منهم أنه اقتصر على مسح بعض رأسه وما يذكره بعض الفقهاء كالقدوري في أول مختصره وغيره انه توضأ ومسح على ناصيته إنما هو بعض الحديث الذي في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي توضأ عام تبوك ومسح على ناصيته
ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى جواز مسح بعض الرأس وهو
____________________
(21/122)
مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول في مذهب مالك وأحمد وذهب آخرون إلى وجوب مسح جميعه وهو المشهور من مذهب مالك وأحمد وهذا القول هو الصحيح فان القرآن ليس فيه ما يدل على جواز مسح بعض الرأس فان قوله تعالى { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } نظير قوله { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } لفظ المسح في الآيتين وحرف الباء في الآيتين فاذا كانت آية التيمم لا تدل على مسح البعض مع أنه بدل عن الوضوء وهو مسح بالتراب لا يشرع فيه تكرار فكيف تدل على ذلك آية الوضوء مع كون الوضوء هو الأصل والمسح فيه بالماء المشروع فيه التكرار هذا لا يقوله من يعقل ما يقول
ومن ظن أن من قال باجزاء البعض لأن الباء للتبعيض أو دالة على القدر المشترك فهو خطأ أخطأه على الأئمة وعلى اللغة وعلى دلالة القرآن والباء للإلصاق وهي لا تدخل الا لفائدة فاذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه أفادت قدرا زائدا كما في قوله { عينا يشرب بها عباد الله } فانه لو قيل يشرب منها لم تدل على الري فضمن يشرب معنى يروي فقيل { يشرب بها } فأفاد ذلك أنه شرب يحصل معه الري
وباب تضمين الفعل معنى فعل آخر حتى يتعدى بتعديته كقوله { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } وقوله { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا }
____________________
(21/123)
وقوله { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } وأمثال ذلك كثير في القرآن وهو يغني عند البصريين من النحاة عما يتكلفه الكوفيون من دعوى الاشتراك في الحروف
وكذلك المسح في الوضوء والتيمم لو قال فامسحوا رؤوسكم أو وجوهكم لم تدل على ما يلتصق بالمسح فانك تقول مسحت رأس فلان وان لم يكن بيدك بلل فاذا قيل فامسحوا برؤوسكم وبوجوهكم ضمن المسح معنى الالصاق فأفاد أنكم تلصقون برؤوسكم وبوجوهكم شيئا بهذا المسح وهذا يفيد في آية التيمم أنه لا بد أن يلتصق الصعيد بالوجه واليد ولهذا قال { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وإنما مأخذ من جوز البعض الحديث
ثم تنازعوا فمنهم من قال يجزئ قدر الناصية كرواية عن أحمد وقول بعض الحنفية ومنهم من قال يجزئ الأكثر كرواية عن أحمد وقول بعض المالكية ومنهم من قال يجزئ الربع ومنهم من قال قدر ثلاث أصابع وهما قولان للحنفية ومنهم من قال ثلاث شعرات أو بعضها ومنهم من قال شعرة أو بعضها وهما قولان للشافعية
وأما الذين أوجبوا الاستيعاب كمالك وأحمد في المشهور من
____________________
(21/124)
مذهبهما فحجتهم ظاهر القرآن وإذا سلم لهم منازعوهم وجوب الاستيعاب في مسح التيمم كان في مسح الوضوء أولى وأحرى لفظا ومعنى ولا يقال التيمم وجب فيه الاستيعاب لأنه بدل عن غسل الوجه واستيعابه واجب لأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه ولهذا المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين وأيضا للسنة المستفيضة من عمل رسول الله
وأما حديث المغيرة بن شعبة فعند أحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوز المسح على العمامة للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك وإذا مسح عنده بناصيته وكمل الباقي بعمامته أجزأه ذلك عنده بلا ريب
وأما مالك فلا جواب له عن الحديث الا أن يحمله على أنه كان معذورا لا يمكنه كشف الرأس فتيمم على العمامة للعذر ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته أجزأه مع العذر بلا نزاع وأجزأه بدون العذر عند الثلاثة ومسح الرأس مرة مرة يكفي بالاتفاق كما يكفي تطهير سائر الأعضاء مرة
وتنازعوا في مسحه ثلاثا هل يستحب فمذهب الجمهور أنه لا يستحب كمالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه
____________________
(21/125)
وقال الشافعي وأحمد في رواية عنه يستحب لما في الصحيح أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وهذا عام وفي سنن أبي داود أنه مسح برأسه ثلاثا ولأنه عضو من أعضاء الوضوء فسن فيه الثلاث كسائر الأعضاء والأول أصح فان الأحاديث الصحيحة عن النبي تبين انه كان يمسح رأسه مرة واحدة ولهذا قال أبو داود السجستاني احاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح مرة واحدة وبهذا يبطل ما رواه من مسحه ثلاثا فانه يبين أن الصحيح أنه مسح رأسه مرة وهذا المفصل يقضي على المجمل وهو قوله توضأ ثلاثا ثلاثا كما أنه لما قال اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول كان هذا مجملا وفسره حديث بن عمر أنه يقول عند الحيعلة لا حول ولا قوة الا بالله فإن الخاص المفسر يقضي على العام المجمل
وأيضا فان هذا مسح والمسح لا يسن فيه التكرار كمسح الخف والمسح في التيمم ومسح الجبيرة وإلحاق المسح بالمسح أولى من إلحاقه بالغسل لأن المسح إذا كرر كان كالغسل وما يفعله الناس من أنه يمسح بعض رأسه بل بعض شعره ثلاث مرات خطأ مخالف للسنة المجمع عليها من وجهين من جهة مسحه بعض رأسه فانه خلاف السنة باتفاق الأئمة ومن جهة تكراره فانه خلاف السنة على الصحيح ومن يستحب التكرار كالشافعي وأحمد في قول لا يقولون
____________________
(21/126)
امسح البعض وكرره بل يقولون امسح الجميع وكرر المسح
ولا خلاف بين الأئمة أن مسح جميع الرأس مرة واحدة أولى من مسح بعضه ثلاثا بل إذا قيل ان مسح البعض يجزئ وأخذ رجل بالرخصة كيف يكرر المسح ثم المسلمون متنازعون في جواز الاقتصار على البعض وفي استحباب تكرار المسح فكيف يعدل إلى فعل لا يجزئ عند أكثرهم ولا يستحب عند أكثرهم ويترك فعل يجزئ عند جميعهم وهو الأفضل عند أكثرهم والله أعلم وسئل
هل صح عن النبي أنه مسح على عنقه في الوضوء أو أحد من الصحابة رضي الله عنهم
فأجاب لم يصح عن النبي أنه مسح على عنقه في الوضوء بل ولا روي عنه ذلك في حديث صحيح بل الأحاديث الصحيحة التي فيها صفة وضوء النبي لم يكن يمسح على عنقه ولهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهم ومن استحبه فاعتمد فيه على أثر يروى عن
____________________
(21/127)
أبي هريرة رضي الله عنه أو حديث يضعف نقله انه مسح رأسه حتى بلغ القذال ومثل ذلك لا يصلح عمدة ولا يعارض ما دلت عليه الأحاديث ومن ترك مسح العنق فوضوؤه صحيح باتفاق العلماء والله أعلم وقال شيخ الاسلام رحمه الله
غسل القدمين في الوضوء منقول عن النبي نقلا متواترا منقول عمله بذلك وأمره به كقوله في الحديث الصحيح من وجوه متعددة كحديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعائشة ويل للأعقاب من النار وفي بعض الفاظه ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار فمن توضأ كما تتوضأ المبتدعة فلم يغسل باطن قدميه ولا عقبه بل مسح ظهرهما فالويل لعقبه وباطن قدميه من النار وتواتر عن النبي المسح على الخفين ونقل عنه المسح على القدمين في موضع الحاجة مثل أن يكون في قدميه نعلان يشق نزعهما
وأما مسح القدمين مع ظهورهما جميعا فلم ينقله أحد عن النبي وهو مخالف للكتاب والسنة أما مخالفته للسنة فظاهر
____________________
(21/128)
متواتر وأما مخالفته للقرآن فلأن قوله تعالى { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } فيه قراءتان مشهورتان النصب والخفض فمن قرأ بالنصب فإنه معطوف على الوجه واليدين والمعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس لأوجه
أحدها ان الذين قرأوا ذلك من السلف قالوا عاد الأمر إلى الغسل
الثاني أنه لو كان عطفا على الرؤوس لكان المأمور به مسح الأرجل لا المسح بها والله إنما أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو فقال تعالى { وامسحوا برؤوسكم } وقال { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ولم يقرأ القراء المعروفون في آية التيمم وأيديكم بالنصب كما قرأوا في آية الوضوء فلو كان عطفا لكان الموضعان سواء وذلك أن قوله { وامسحوا برؤوسكم } وقوله { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } يقتضي إلصاق الممسوح لأن الباء للالصاق وهذا يقتضي إيصال الماء والصعيد إلى أعضاء الطهارة وإذا قيل امسح رأسك ورجلك لم يقتض ايصال الماء إلى العضو وهذا يبين أن الباء حرف جاء لمعنى لا زائدة كما يظنه بعض الناس وهذا خلاف قوله
____________________
(21/129)
** معاوي إننا بشر فأسجح ** فلسنا بالجبال ولا الحديدا **
فان الباء هنا مؤكدة فلو حذفت لم يختل المعنى والباء في آية الطهارة إذا حذفت اختل المعنى فلم يجز أن يكون العطف على محل المجرور بها بل على لفظ المجرور بها أو ما قبله
الثالث أنه لو كان عطفا على المحل لقرئ في آية التيمم فامسحوا بوجوهكم وامسحوا أيديكم فكان في الآية ما يبين فساد مذهب الشارح بأنه قد دلت عليه { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } بالنصب لأن اللفظين سواء فلما اتفقوا على الجر في آية التيمم مع امكان العطف على المحل لو كان صوابا علم أن العطف على اللفظ ولم يكن في آية التيمم منصوب معطوف على اللفظ كما في آية الوضوء
الرابع أنه قال { وأرجلكم إلى الكعبين } ولم يقل إلى الكعاب فلو قدر أن العطف على المحل كالقول الآخر وان التقدير أن في كل رجلين كعبين وفي كل رجل كعب واحد لقيل إلى الكعاب كما قيل { إلى المرافق } لما كان في كل يد مرفق وحينئذ فالكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي الساق ليس هو معقد الشراك مجمع الساق والقدم كما يقوله من يرى المسح على الرجلين فاذا كان الله تبارك وتعالى انما أمر بطهارة الرجلين إلى الكعبين الناتئين
____________________
(21/130)
والماسح يمسح إلى مجمع القدم والساق علم أنه مخالف للقرآن
الوجه الخامس أن القراءتين كالآيتين والترتيب في الوضوء إما واجب وإما مستحب مؤكد الاستحباب فاذا فصل ممسوح بين مغسولين وقطع النظير عن النظير دل ذلك على الترتيب المشروع في الوضوء
الوجه السادس أن السنة تفسر القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وهي قد جاءت بالغسل
الوجه السابع أن التيمم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة فحذف شطر أعضاء الوضوء وخفف الشطر الثاني وذلك لأنه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا
وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ { وأرجلكم } بالخفض فهي لا تخالف السنة المتواترة إذ القراءتان كالآيتين والسنة الثابتة لا تخالف كتاب الله بل توافقه وتصدقه ولكن تفسره وتبينه لمن قصر فهمه عن فهم القرآن فإن القرآن فيه دلالات خفية تخفى على كثير من الناس وفيه مواضع ذكرت مجملة تفسرها السنة وتبينها
____________________
(21/131)
والمسح اسم جنس يدل على الصاق الممسوح به بالممسوح ولا يدل لفظه على جريانه لا بنفي ولا إثبات قال أبو زيد الأنصاري وغيره العرب تقول تمسحت للصلاة فتسمى الوضوء كله مسحا ولكن من عادة العرب وغيرهم إذا كان الاسم عاما تحته نوعان خصوا أحد نوعيه باسم خاص وأبقوا الاسم العام للنوع الآخر كما في لفظ الدابة فإنه عام للإنسان وغيره من الدواب لكن للإنسان اسم يخصه فصاروا يطلقونه على غيره وكذلك لفظ الحيوان ولفظ ذوي الأرحام يتناول لكل ذي رحم لكن للوارث بفرض أو تعصيب اسم يخصه وكذلك لفظ المؤمن يتناول من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ومن آمن بالجبت والطاغوت فصار لهذا النوع اسم يخصه وهو الكافر وأبقى اسم الإيمان مختصا بالأول وكذلك لفظ البشارة ونظائر ذلك كثيرة
ثم إنه مع القرينة تارة ومع الاطلاق أخرى يستعمل اللفظ العام في معنيين كما اذا أوصى لذوي رحمه فإنه يتناول أقاربه من مثل الرجال والنساء فقوله تعالى في آية الوضوء { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } يقتضي ايجاب مسمى المسح بينهما وكل واحد من المسح الخاص الخالي عن الاسالة والمسح الذي معه إسالة يسمى مسحا فاقتضت الآية القدر المشترك في الموضعين ولم يكن في لفظ الآية ما يمنع كون الرجل
____________________
(21/132)
يكون المسح بها هو المسح الذي معه إساله ودل على ذلك قوله { إلى الكعبين } فأمر بمسحهما إلى الكعبين
وأيضا فان المسح الخاص هو إسالة الماء مع الغسل فهما نوعان للمسح العام الذي هو ايصال الماء ومن لغتهم في مثل ذلك أن يكتفى بأحد اللفظين كقولهم ** علفتها تبنا وماء باردا ** والماء سقى لا علف ** وقوله ** ورأيت زوجك في الوغى ** متقلدا سيفا ورمحا **
والرمح لا يتقلد ومنه قوله تعالى { يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس } إلى قوله { وحور عين } فكذلك اكتفى بذكر أحد اللفظين وان كان مراده الغسل ودل عليه قوله { إلى الكعبين } والقراءة الأخرى مع السنة المتواترة
ومن يقول يمسحان بلا إسالة يمسحهما إلى الكعاب لا إلى الكعبين فهو مخالف لكل واحدة من القراءتين كما أنه مخالف للسنة المتواترة وليس معه لا ظاهر ولا باطن ولا سنة معروفة وانما هو غلط في فهم القرآن وجهل بمعناه وبالسنة المتواترة وذكر المسح بالرجل مما يشعر بان الرجل يمسح بها بخلاف الوجه واليد فانه لا يمسح بهما بحال ولهذا جاء في المسح على الخفين اللذين على الرجلين
____________________
(21/133)
ما لم يجئ مثله في الوجه واليد ولكن دلت السنة مع دلالة القرآن على المسح بالرجلين
ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع امكان الغسل والرجل اذا كانت ظاهرة وجب غسلها وإذا كانت في الخف كان حكمها كما بينته السنة كما في آية الفرائض فان السنة بينت حال الوارث إذا كان عبدا أو كافرا أو قاتلا ونظائره متعددة والله سبحانه أعلم
____________________
(21/134)
وقال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله فصل
الموالاة في الوضوء فيها ثلاثة اقوال
أحدها الوجوب مطلقا كما يذكره أصحاب الامام أحمد ظاهر مذهبه وهو القول القديم للشافعي وهو قول في مذهب
والثاني عدم الوجوب مطلقا كما هو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد والقول الجديد للشافعي
والثالث الوجوب الا اذا تركها لعذر مثل عدم تمام الماء كما هو المشهور في مذهب مالك وهو قول في مذهب
قلت هذا القول الثالث هو الأظهر والأشبه باصول الشريعة
____________________
(21/135)
وبأصول مذهب أحمد وغيره وذلك أن أدلة الوجوب لا تتناول الا المفرط لا تتناول العاجز عن الموالاة فالحديث الذي هو عمدة المسألة الذي رواه أبو داود وغيره عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي أنه رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي أن يعيد الوضوء والصلاة فهذه قضية عين والمأمور بالاعادة مفرط لأنه كان قادرا على غسل تلك اللمعة كما هو قادر على غسل غيرها وانما باهمالها وعدم تعاهده لجميع الوضوء بقيت اللمعة نظير الذين كانوا يتوضؤون واعقابهم تلوح فناداهم بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار وكذلك الحديث الذي في صحيح مسلم عن عمر أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي فقال ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى رواه مسلم
فالقدم كثيرا ما يفرط المتوضئ بترك استيعابها حتى قد اعتقد كثير من أهل الضلال انها لا تغسل بل فرضها مسح ظهرها عند طائفة من الشيعة والتخيير بينه وبين الغسل عند طائفة من المعتزلة الذين لم يوجبوا الموالاة عمدتهم في الأمر حديث عن بن عمر أنه توضأ
____________________
(21/136)
موالاة لفقد تمام الماء وأصول الشريعة تدل على ذلك قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم
والذي لم يمكنه الموالاة لقلة الماء أو انصبابه أو اغتصابه منه بعد تحصيله أو لكون المنبع أو المكان الذي يأخذ منه هو وغيره كالأنبوب أو البئر لم يحصل له منه الماء الا متفرقا تفرقا كثيرا ونحو ذلك لم يمكنه أن يفعل ما أمر به إلا هكذا بأن يغسل ما أمكنه بالماء الحاضر وإذا فعل ذلك ثم غسل الباقي بماء حصله فقد اتقى الله ما استطاع وفعل ما استطاع مما أمر به يبين ذلك أنه لو عجز عن غسل الأعضاء بالكلية لعدم الماء لسقط عنه ولكان فرضه التيمم ولو قدر على غسل بعضها فعنه ثلاثة أقوال
قيل يتيمم فقط لئلا يجمع بين بدل ومبدل
وقيل يستعمل ما قدر عليه ويتيمم للباقي وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره
وقيل بل يستعمل ذلك في الغسل دون الوضوء كما يذكر عن أبي بكر وهو مبني على وجوب الموالاة في الوضوء دون الغسل
____________________
(21/137)
قال صاحب هذا القول فينتفع باستعمال البعض في الغسل دون التيمم وضعفوا ذلك بأنه يفعل المقدور عليه فعلم بذلك أن هذا عندهم طهارة نافعة عند العجز في الوضوء كما هي نافعة في الغسل واذا كان كذلك لم يجب عليه عند القدرة على الماء اعادة ما غسله من أعضاء الوضوء كما لا يجب عليه ما صلاه بالتيمم وكما لا يجب عليه اعادة ما غسل في الغسل على المشهور عند أصحاب أحمد من الفرق بين الوضوء والغسل كما سنذكره ان شاء الله وذلك لأنه قد فعل ما أمر به كما امر ومن كان ممتثلا الأمر أجزأ عنه فلا اعادة عليه
يوضح هذا أنه في حال العجز لم يكن مأمورا بغسل العضو الثاني وانما يؤمر بتحصيل الطهور الذي يتمكن به من غسله أو بتأخره إلى القدرة وهو قادر على غسل العضو الأول وهو المستطاع من المأمور فعليه فعله كما لو قدر على غسل بعض الأعضاء أو بعض العضو الواحد دون بعض فان عليه غسله كالمقطوع يده من بعض الذراع
وطرد ذلك ما ذكرناه لو كان ببعض أعضائه ما يمنع الوجوب من جرح أو مرض أو غير ذلك فغسل الصحيح ثم قدر أن الألم زال وقد نشف ذلك العضو فانه اذا غسل الباقي فقد فعل المقدور عليه
____________________
(21/138)
وايضا فالترتيب واجب في صوم الشهرين بنص القرآن والسنة والاجماع ثم اتفق المسلمون على أنه اذا قطع لعذر لا يمكن الاحتراز منه كالحيض فانه لا يقطع التتابع الواجب
ومذهب أحمد في هذا أوسع من مذهب غيره فعنده اذا قطع التتابع لعذر شرعي لا يمكن مع امكان الاحتراز منه مثل أن يتخلل الشهرين صوم شهر رمضان أو يوم الفطر أو يوم النحر أو أيام منى أو مرض أو نفاس ونحو ذلك فانه لا يمنع التتابع الواجب ولو أفطر لعذر مبيح كالسفر فعلى وجهين فالوضوء أولى اذا ترك التتابع فيه لعذر شرعي وان أمكن الاحتراز منه
وأيضا فالموالاة واجبة في قراءة الفاتحة قالوا إنه لو قرأ بعضها وسكت سكوتا طويلا لغير عذر كان عليه اعادة قراءتها ولو كان السكوت لأجل استماع قراءة الامام أو لو فصل بذكر مشروع كالتأمين ونحوه لم تبطل الموالاة بل يتم قراءتها ولا يبتدئها ومسألة الوضوء كذلك سواء فانه فرق الوضوء لعذر شرعي ومعلوم أن الموالاة في الكلام أوكد من الموالاة في الأفعال
وأيضا فالمنصوص عن أحمد في العقود كذلك فان الموالاة بين الايجاب والقبول واجبة بحيث لو تأخر القبول عن الايجاب حتى
____________________
(21/139)
خرجا من ذلك الكلام إلى غيره او تفرقا بأبدانهما فلا بد من ايجاب ثان وقد نص أحمد على أنه إذا أوجب النكاح لغائب وذهب إليه الرسول فقبل في مجلس البلاغ انه يصح العقد فظن طائفة من أصحابه أن ذلك قول منه ثان بأنه يصح تراخي القبول مطلقا وان كانا في مجلس واحد بعد تفرقهما وطول الفصل وهي الرواية التي ذكرت في مثل الهداية والمقنع والمحرر وغيرها أنه يصح في النكاح ولو بعد المجلس
وذلك خطأ كما نبه عليه الجد فيما أظن في كتابه الكبير ولا فرق في ذلك بين النكاح والبيع والاجارة والفرق بين الصورتين ظاهر ويذهب إلى الفرق غيره من الفقهاء كأبي يوسف وغيره وهذا التفريق من أحسن الأقوال ويشبه أن يكون المنصوص عنه في الوضوء كذلك لكني لم أتأمل بعد نصه في الوضوء فانه كثيرا ما يحكي عنه روايتان في مثل ذلك ويكون منصوصه التفريق بين حال وحال ويكون هو الصواب كمسألة اخراج القيم ومسألة قتل الموصى
وايضا فالموالاة في الطواف والسعي اوكد منه في الوضوء ومع هذا فتفريق الطواف لمكتوبة تقام أو جنازة تحضر ثم يبنى على الطواف ولا يستأنف فالوضوء أولى بذلك وعلى هذا فلو توضأ بعد
____________________
(21/140)
الوضوء ثم عرض أمر واجب يمنعه عن الاتمام كانقاذ غريق أو أمر بمعروف ونهي عن منكر فعله ثم اتم وضوءه كالطواف وأولى وكذلك لو قدر أنه عرض له مرض منعه من اتمام الوضوء
وايضا فان أصول الشريعة تفرق في جميع مواردها بين القادر والعاجز والمفرط والمعتدي ومن ليس بمفرط ولا معتد والتفريق بينهما أصل عظيم معتمد وهو الوسط الذي عليه الأمة الوسط وبه يظهر العدل بين القولين المتباينين
وقد تأملت ما شاء الله من المسائل التي يتباين فيها النزاع نفيا وإثباتا حتى تصير مشابهة لمسائل الأهواء وما يتعصب له الطوائف من الأقوال كمسائل الطرائق المذكورة في الخلاف بين ابي حنيفة والشافعي وبين الأئمة الأربعة وغير هذه المسائل فوجدت كثيرا منها يعود الصواب فيه إلى الوسط كمسألة إزالة النجاسة بغير الماء ومسألة القضاء بالنكول وإخراج القيم في الزكاة والصلاة في أول الوقت والقراءة خلف الامام ومسالة تعيين النية وتبييتها وبيع الأعيان الغائبة واجتناب النجاسة في الصلاة ومسائل الشركة كشركة الأبدان والوجوه والمفاوضة ومسألة صفة القاضي
وكذلك هو الأصل المعتمد في المسائل الخبرية العلمية التي تسمى
____________________
(21/141)
مسائل الأصول أو أصول الدين أو أصول الكلام يقع ( فيها ) اتباع الظن وما تهوى الأنفس وقد قررنا أيضا ما دل عليه الكتاب والسنة فيها وفي غيرها من الفرق بين المؤمن باطنا وظاهرا وبين المنافق الزنديق المؤمن ظاهرا لا باطنا وأن المؤمنين قد عفى لهم عن الخطأ والنسيان ثم غالب الخلاف المتباين فيها يعود الحق فيه إلى القول الوسط في مسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والعدل ومسائل الأسماء والأحكام ومسائل الإيمان والاسلام ومسائل الوعد والوعيد ومسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على الأمراء ومذاهبهم أو موافقتهم على طاعة الله فأمرهم ونهيهم بحسب الامكان والامتناع عن الخروج والفتن وأمثال هذه الأهواء
وأيضا فعمدة القياس في مسألة الترتيب والموالاة إنما هو قياس ذلك على الصلاة فان الصلاة يجب فيها الترتيب فلا يجوز تقديم السجود على الركوع وتجب فيه الموالاة فلا يفرق بين ابعاضها بما ينافيها والصلاة مع هذا عبادة واحدة متصلة الأجزاء ليس بين أجزائها فصل اصلا حتى يمكن في ذلك المتابعة او التفريق ثم مع ذلك اذا فرق بينهما لعذر كالعمل الكثير لضرورة كما في حديث بن عمر أن الطائفة الأولى بعد صلاة ركعة تذهب وجاه العدو فاذا صلت الثانية الركعة الثانية ذهبت أيضا إلى وجاه العدو ثم رجعت
____________________
(21/142)