بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فصل
قال المعترض : وأما الجواب (1) عن الأحاديث بعد المطالبة بصحتها فمن وجوه :
أحدها أنها أخبار آحاد ، لا تفيد العلم بل الظن ، لما عرف في الأصول .
والثاني : أنها ليست نصوصاً في ذلك ، بل هي ظاهرة قابلة للتأويل .
والوجه الثالث : قد تأول السلف كثيراً منها ومن الآيات ، وأذن لنا في التأويل ابن عباس - وهو حبر هذه الأمة وترجمان القرآن - في غير ما آية ، وقال (2) : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر ، فإنه ديوان العرب . قال في قوله : { يوم يكشف عن ساق } [القلم/42] : أما سمعتم قول العرب : قامت الحرب [بنا] على ساق (3) .
________________
(1) في هامش الأصل : " الحواب عن الجواب بتوفيق الوهاب أنها بمجموع طرقها صحيحة متواترة ، تفيد العلم اليقيني لمن اطلع عليها ، ونصوص قاطعة في دلالتها على مضامينها ، ولم يعارضها شيء من الأدلة العقلية الصحيحة ، لأن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصريح . وإنما عارضها خيالات باطلة وآراء كاسدة وأوهام فاسدة ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . والله أعلم " .
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/499) والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (746) ، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2/295) . وصححه الحاكم .
(3) هذا بيت من مشطور السريع بلا نسبة في المصدرين السابقين وفي تفسير الطبري (23/187) والعقد الفريد (4/418) .(1/3)
والوجه الرابع : عارضتها الأدلة العقلية فيجب تأويلها ، والله لا يشبهه شيء من مخلوقاته ، ولا يحل فيه حادث ولا يحل هو في حادث ، وعند ذلك يستحيل وصفه بالتحيز والاتصال بالمحدودات . وقال تعالى : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } [فاطر/41] ، { ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه } [الحج/65] وفي الطير " وما يمسكهن إلا الله } [النحل/79] . فإذا ثبت أن الإمساك الحسي غير مراد إجماعاً فكذلك الإصبع والإصبعان التي وردت ، فإن صمموا وادعوا التعميم فقد جسموا .
الجواب
أما قوله : " أخبار آحاد لا تفيد العلم " ، فجوابه من ثلاثة طرق : بيان موافقة الآثار للقرآن وتفسيرها له ، وبيان وجوب قبولها ، وبيان صحة الاعتقاد الراجح لها .
الطريق الأول
أن نقول : الأحاديث الواردة الصحيحة في هذا الباب توافق القرآن ويطابقها ، ويدل على ما دلت عليه ، وإنما الحديث مع القرآن بمنزلة الحديث مع الحديث الموافق له ، والآية مع الآية الموافقة لها ، وبمنزلة موافقة القرآن للتوراة ، حتى قال النجاشي لما سمع القرآن قال : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة (1) . وكذلك قال ورقة بن
______________________
(1) قول النجاشي هذا ضمن حديث طويل أخرجه أحمد في مسنده (1 / 201-203) ، (5 / 290-292) عن أم سلمة . وانظر سيرة ابن هشام (1 / 334-338) .(1/4)
نوفل لما ذكرت له خديجة أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال : هذا الناموس الذي كان يأتي موسى (1) .
فإذا كان في القرآن أن لله علماً وقدرة لذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستخارة الصحيح (2) : " اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم " ، وقوله في حديث السنن (3) : " اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق " ونحو ذلك ، فهذا موافق . وكذلك إذا ذكرنا قوله الصحيح لأهل الجنة (4) : " ألا أعطيك ما هو أفضل من ذلك؟ أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً " ، وقول الأنبياء في حديث الشفاعة الصحيح (5) : " إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله " ، أو ذكرنا قوله : " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " (6) و " إن الله يحب العبد المفتَّن التواب " (7) و " إن الله يعجب من راعي غنم على رأس جبل شظية " (8) ، و " عجب ربنا
___________________
(1) أخرجه البخاري (3 ومواضع أخرى) ومسلم (160) عن عائشة .
(2) أخرجه البخاري (1162،6382،7390) عن جابر بن عبد الله .
(3) أخرجه أحمد (4/264) والنسائي (3/54،55) من طريقين عن عمار بن ياسر ، وصححه الحاكم (1/524) .
(4) أخرجه البخاري (7518،6549) ومسلم (2829) عن أبي سعيد الخدري .
(5) أخرجه البخاري (3340،4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة .
(6) أخرجه مسلم (2965) عن سعد بن أبي وقاص .
(7) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (1/80،103) عن علي بن أبي طالب . وإسناده ضعيف جداً ، انظر تعليق الأرناوط على المسند (605) .
(8) أخرجه أحمد (4/145،157،158) وأبو داود (1203) والنسائي (2/20) من حديث عقبة بن عامر . وهو حديث صحيح .(1/5)
من قنوط عباده وقرب غيره " (1) ، أو ذكرنا قوله : " لا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء محمد " (2) ونحو ذلك = فإنما نذكر هذه الأحاديث موافقة لكتاب الله تعالى ، من غضبه ورضوانه ومحبته وعجبه ومشيئته وغير ذلك .
ولهذا كان أئمة السلف يذكرون الآيات وما يناسبها من الأحاديث في هذا الباب وسائر أبواب العلم ، مثل ذكر آية الطهارة والصيام والحج والجهاد وما يناسب ذلك من الأحاديث ، التي (3) تقرر معناه وتفسر مجمله ، وكذلك إذا ذكرت الآيات في محبة العبد لربه وتوكله عليه وإخلاصه له وخوفه ورجائه ونحو ذلك ذكر (4) معه الأحاديث الموافقة للقرآن في ذلك ، وكذلك إذا ذكر ما في القرآن من صفة المعاد والجنة والنار [ذكر](5) ما في الأحاديث مما يوافق ذلك ، أو ذكر ما في القرآن من قصص الأولين وتذكير الله لسلفنا المؤمنين بآلائه عليهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم وغيرها ذكر الأحاديث المبينة لقصص المتقدمين والمبينة لصفة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته ، وكذلك إذا ذكرت الآيات ذكرت الأحاديث المبينة لسبب نزولها وما أريد بها .
ومعلوم بالضرورة أن هذا مما اتفق عليه المسلمون ، وهو أحسن ما
___________________
(1) أخرجه أحمد (4/11،12) وابن ماجه (181) عن لقيط بن عامر ، بلفظ " ضحك ربنا... " . وهو حديث حسن ، انظر السلسلة الصحيحة (2810) .
(2) أخرجه أحمد (5/72) والدارمي (2702) وابن ماجه (2118) عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها ، وهو حديث حسن .
(3) في الأصل : "والذي" .
(4) في الأصل : "وذكر" .
(5) في الأصل : "و" مكان "ذكر" .(1/6)
يكون من بيان اتفاق القرآن والحديث ، فهذا نافع في تفسير القرآن الذي هو تأويله الصحيح ، ونافع في إثبات ما دل عليه القرآن والحديث من الأحكام الخبرية العلمية الاعتقادية والأحكام العملية الإرادية . ثم الآية قد تكون نصاً ، وقد تكون ظاهرة ، وقد يكون فيها إجمال ، فالحديث يقرر النص ويكشف معناه كشفاً مفصلاً ، ويقرب المراد بالظاهر ويدفع عنه الاحتمالات ، ويفسر المجمل ويبينه ويوضحه ، لتقوم حجة الله به ، ولتبيين أن الرسول بين ما أنزل إليه من ربه ، بين معناه وحروفه جميعاً ، وأنه لم يترك البيان لا لمجمل ولا لظاهر ، ولم يؤخره عن وقت الحاجة ، بل قد بين ذلك أحسن البيان وأجمله .
وبهذا جرت عادة أئمة السلف وأتباعهم المصنفين في الأبواب أن يذكروا الآيات والأحاديث المناسبة في هذه الأبواب وغيرها ، كما فعل البخاري ومن قبله ومن بعدهم من سائر الأئمة ، فإن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما يحتجون على أحاديث النزول وصحة معانيها بما في القرآن من آيات المجيء والإتيان ونحو ذلك . وهل ينكر ذلك من له أدنى عقل وإيمان؟
وأيما أحسن : الاستدلال على معاني الكتاب بما رواه الثقات الأثبات ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل عن رسول الله المبلغ عن الله المبين لما أنزل الله عليه ، وبما قاله الصحابة والتابعون وأئمة الهدى ، وتأويل القرآن الذي هو تفسيره بهذه الطرق ؟ أم يؤخذ تفسير القرآن وتأويله وبيان معانيه من أئمة الضلال وشيوخ التجهم والاعتزال كالعلاف والنظام والمريسي ونحوهم ؟ فإن هذه التفسييرات والتأويلات عنهم وعن أمثالهم ، أو ينقل ذلك عن بعض أهل العربية الذي يتكلم فيه بنوع من(1/7)
الظن والهوى ، وإن كان أئمة العربية وعلماؤها على خلافه .
وأيما أحسن : الاستشهاد على معاني القرآن بنفس ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وألفاظ الصحابة والتابعين التي يستفاد بها معنى الآيات على الخصوص وهو المطلوب ، ويعلم بها اللغة التي نزل بها القرآن ، وبها خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالنقل الصحيح الثابت؟ أو الاستشهاد على ذلك ببيت من شعر ، كقوله (1) :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وكقوله (2) :
ثم استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق
وقوله (3) :
وجوه يوم بدر ناظرات *** إلى الرحمن تنتظر الفلاحا
وأمثال ذلك من الشعر الذي يقال فيه : إنه لم يرو بإسناد صحيح عن قائله ، بل كثير من أهل الصنعة يكذبه ، ولو روي بإسناد فمن المعلوم أن أسانيد الحديث والآثار أكثر وأكبر ، والعلماء بها أعلم
___________________
(1) البيت للأخطل في ديوانه 560 من الأبيات المنسوبة له ، وهو في الموشى 9 والتمهيد للباقلاني 284 وألف باء (1/32) وشرح شذور الذهب 28 . وبلا نسبة في البيان والتبيين (1/218) .
(2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (سوا) ورصف المباني 372 . ونسب للأخطل في تاج العروس (سوا) ، وهو في ديوانه 557 من الأبيات المنسوبة له .
(3) البيت لحسان بن ثابت في التمهيد 312 وتفسير الرازي (30 / 200،202) ولا يوجد في ديوانه .(1/8)
وأصدق ، وهم أعداد لا يحصيهم إلا الله .
فإذا لم يجز تفسير القرآن وتأويله بالألفاظ والمعاني التي هي بين (1) محفوظة منقولة من إمام إلى إمام ومن عدد إلى عدد ، أفيجوز أن يرجع في معاني القرآن إلى بيت من الشعر أو كلمة من الغريب أحسن أحوالها أن يرويها واحد عدل عن بعض الشعراء؟! وإذا كانت الأخبار لا تفيد علماً فجميع ما يذكرونه من اللغة العربية والشعر المنقولة بمثل ذلك دونه ، ولم نعلم أنه قاله عربي ، بل يجوز أن يكون كذاباً ، فإذا حملنا عليه كلام الله فقد قلنا على الله ما لم نعلم .
وهذا معلوم بالضرورة والاتفاق من المثبتة والنافية أن اللغة المستفادة من الشعر والغريب الذي يعلمه الآحاد دون ما يستفاد من نقل أهل الحديث ، فإذاً لا يفيد العلم بأن العربي قاله ، ولو علمنا أن العربي قاله لم يكن علمنا بمراد العربي منه إلا دون علمنا بمراد الرسول والصحابة والتابعين من ألفاظهم . فإذا كان هذا دون الحديث في النقل والدلالة لم يكن حمل معاني القرآن عليه بأولى من حملها على معنى الحديث والآثار ، بل تلك أولى من وجوه كثيرة ، بل لا يجوز أن يقال : هذا معنى الآية لمجرد إسناد الشعر والغريب ودلالة ذلك ، إذ هما لا يفيدان العلم به ، فيكون تفسير القرآن بهذه الطريق قولاً على الله بلا علم .
وإذا لم يكن هذا معلوماً ، وغيره ليس معلوماً ، بطلت دلالة الكتاب والسنة ، وسقط الاستدلال به وفهم معانيه ، والله أمرنا بتدبره وعقله ، فإذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بمعناه ، لا من جهة نقل الشعر والغريب ، ولا
______________________
(1) كذا في الأصل . ولعلها "سنن" أو "بينة" .(1/9)
من جهة نقل الحديث والآثار ، بطل العلم بمعناه ، فلا يصح الأمر بتدبره وعقله ، وهذا خلاف القرآن .
ثم لو ثبت النقل عن الشاعر العربي أو الناثر ، وعلم أنه أراد معنى بذلك اللفظ ، لكان ذلك لغة له قد أرادها باللفظ ، فلم يكن إثبات اللغة بمجرد هذا الاستعمال أولى من إثباتها بالاستعمال المنقول في الحديث والآثار ، ولا أولى من استعمال القرآن الموجود في نظائر ذلك اللفظ ، فإن اللفظ في القرآن يكون له نظائر ، ولهذا صنف العلماء كتب الوجوه والنظائر (1) ، ويروى ذلك عن السلف . فالوجوه : الألفاظ المشتركة ، والنظائر : الألفاظ المتواطئة ، الأول فيما اتفق لفظه واختلف معناه ، والثاني فيما اتفق لفظه ومعناه . فحمل معاني كلام الله على ما يوجد من اللغة في كلامه وكلام رسوله وكلام أصحابه الذين كانوا يتخاطبون بلغته ، والتابعين الذين أخذوا عنهم تلك اللغة = أولى من حمل معانيه على ما يوجد من اللغة في كلام بعض الشعراء والأعراب ، فإن كل احتمال يتطرق إلى فهم كلام هؤلاء يتطرق إلى فهم كلام أولئك لما يقولونه من النظم والنثر ، فإن المستمع لكلامهم يتطرق إلى فهمه لمعانيهم أكثر مما يتطرق إلى المستمع لكلام الرسول والصحابة والتابعين ، فما يذكر من احتمال مجاز أو اشتراك ونحو ذلك فتطرقه إلى كلامهم أكثر .
وهذا كله بطريق التنزل والتقرب إلى المنازع ، وإلا فالأمر أجل مما ذكر ، وذلك من طريقين : أحدهما بيان استقامة هذه الطريق ، والثاني بيان أنه لا طريق يقوم مقامها ، فيتعين .
_____________________
(1) من أشهرها مؤلفات مقاتل بن سلمان والدامغاني وابن الجوزي .(1/10)
فأما الأول فمن وجوه :
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه القرآن لفظه ومعناه جميعاً ، فإن البيان لا يحصل بدون هذا ، وقد قال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } [النحل/4] ، وقال : { هذا بيان للناس } [آل عمران/138] . ولو خاطبهم بلفظ لم يفهموا معناه لم يكن ذلك بياناً . وقد امتن عليهم في غير موضوع بكونه أرسله بلسان عربي وأنه يسره (1) عليهم بذلك ، فقال : { إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } [يوسف/2] ، فهل يعقلونه إذا لم يعرفوا اللفظ؟ وكذلك : { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون } [الدخان/58] ، فكيف يتذكر من لا يفهم الكلام؟ قال : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي } [فصلت/44] أي أقرآن أعجمي ونبي وعربي أو مخاطب عربي! فدل على أنه فصل آياته ، والتفصيل التبيين المنافي للإجمال ، فلو كانت آياته مجملة لم يفهم معناها لم تكن آياته قد فصلت ، والتفصيل إنما يكون للبيان والتمييز الذي يزول معه الاشتباه والاشتراك والإجمال المنافي لفهم المراد بالخطاب ، وإن كان المعني المفهوم قد يحصل بينه وبين معنى آخر مشابهة ومشاركة تمنع إدراك حقيقته التي لا تفهم بمجرد اللفظ . وقد قال الله تعالى : { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } [العنكبوت/18] ، وإذا كان المخاطبون لم يفهموا معنى كلامه لم يكن قد بلغهم بلاغاً مبيناً ، ومن قال ذلك فلم يشهد له بالبلاغ .
وهذا حال هؤلاء الذين يزعمون أنه لم يعرف من جهته معاني القرآن ، فإنهم يقولون : لم يبين ولم يبلغ ، وإن كانوا يقولون ما يستلزم
______________________
(1) في الأصل : "انسرح" .(1/11)
ذلك ولم يفهموه ، ففيهم من يعرف أنه حقيقة قولهم ويقول : إن معاني هذه الألفاظ لم يبينها ، إما لأن المصلحة كانت كتمانها ، وإما لأنه هو لا يعرفها . فمن الزنادقة من يقول هذا ، ومنهم من يقول هذا .
وأما الذين شاهدوه فقد شهدوا له بالبلاغ ، ونحن نشهد بما شهد به إخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، فإنه بلغ البلاغ المبين ، وعبد الله حتى أتاه اليقين ، صلى الله عليه وعلى آله أجمعين . ولهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي أحد أكابر التابعين : حدثنا الذي كانوا يقرؤوننا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل (1) .
وإذا علم أن الصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه ، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردة عن ألفاظه بألفاظ أخر ، كما قال جندب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمر : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن ، فازددنا إيماناً (2) . فكان يعلمهم الإيمان ، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبر عنه المتلقى بالطاعة والتصديق ، وهذا حق ، فإن حفاظ القرآن كانوا أقل من عموم المؤمنين ، فعلم أن بيان معانيه لهم كان أعم من بيان ألفاظه .
ومن هذا الباب صاروا يروون عنه الأحاديث التي ليست ألفاظها
______________________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/410) وابن سعد في الطبقات (6/172) وابن أبي شيبة في المصنف (10/460) والطبري في التفسير (1/74) وإسناده صحيح .
(2) أخرجه ابن ماجه (61) والطبراني في المعجم الكبير (2 / 158،165) عن جندب . قال البوصيري في الزوائد : هذا إسناده صحيح رجاله ثقات .(1/12)
ألفاظ القرآن ، لأنه قد كان يبين لهم معاني كثيرة بغير ألفاظ القرآن ، وذلك هو حديثه . فإذا كان الصحابة قد تلقوا عن نبيهم لفظ القرآن ومعناه لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لغة أحد ، فالمنقول عن الصحابة من معاني القرآن كان في ذلك كالمنقول عنهم من حروفه سواء بسواء ، وإن تنازع بعضهم في بعض معانيه فذلك كما قد يتنازعون في بعض حروفه ، وكما قد تنازعوا في بعض السنة لخفائها عن بعضهم ، إذ لم يكن كل منهم تلقى من نفس الرسول جميع القرآن وجميع السنة ، بل كان بعضهم يبلغ بعضاً القرآن لفظه ومعناه ، والسنة ، كما قال البراء بن عازب : ليس كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن كان لا يكذب بعضنا بعضاً (1) . ولهذا ما يذكره ابن عباس من الحديث في القرآن والسنة تارة يذكر من سمعه من الصحابة ، وتارة يرسله ، لكثرة من سمعه منه ، وبعض ذلك قد سمعه منه ، فأما ما كان قبل الهجرة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما نزل فيه من القرآن من ذلك فلم يشهده ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وابن عباس مراهق ، وكان عند الهجرة صغيراً جداً .
الوجه الثاني : أن الله تعالى أنزل على نبيه الحكمة كما أنزل عليه القرآن ، وامتن بذلك على المؤمنين ، وأمر أزواجه بذكر ذلك ، وقد بلغ ذلك الصحابة كما بلغهم القرآن ، فلا يحتاجون في ذلك إلى أحد . والحكمة هي السنة كما قال ذلك غير واحد من السلف ، وذلك أنه قال : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } [الأحزاب/34] ، فما يتلى غير القرآن في بيوتهم هو السنة ، إذ المراد بالسنة هنا هو ما أخذ عن الرسول سوى القرآن ، كما قال في غير حديث : " ألا إني أوتيت
________________________
(1) أخرج نحوه الحاكم في معرفة علوم الحديث 14 .(1/13)
الكتاب ومثله معه " (1) وفي لفظ : " ألا إنه مثل القرآن وأكثر " . ولهذا ذم المتخلف عن طلب السنة بالمكتفي بالقرآن فقال : " لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : بيننا وبينكم هذا القرآن ، فما وجدنا من حلال أحللناه ، وما وجدنا من حرام حرمناه ، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه " (2) . وهذا المعنى قد استفاض عنه من وجوه متعددة من حديث المقدام بن معدي كرب وأبي ثعلبة الخشني وأبي هريرة وأبي رافع وغيرهم ، وهو من مشاهير أحاديث السنن والمساند المتلقاة بالقبول عند أهل العلم .
الوجه الثالث : أن بعض الناس لو قرأ مصنفات الناس [في] الطب والنحو والفقه والأصول ، أو لو قرأ بعض قصائد الشعر ، لكان من أحرص الناس على فهم معنى ذلك ، ولكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلام لا يفهمه . فإذا كان السابقون يعلمون أن هذا كلام الله وكتابه الذي أنزل إليهم وهداهم به وأمرهم باتباعه ، أفلا يكونون من أحرص الناس على فهمه ومعرفة معناه ، من جهة العادة العامة وعادتهم الخاصة ، ومن جهة دينهم وما أمرهم الله به من ذلك؟ ولم يكن للصحابة كتاب يدرسونه وكلام محفوظ يتفهمون فيه يكتبونه إلا القرآن . لم يكن الأمر عندهم مثل
______________________
(1) أخرجه أبو داود (4604) والترمذي (2664) وابن ماجه (12) عن المقدام بن معدي كرب . وهو حديث صحيح .
(2) أخرجه أحمد (6/8) وأبو داود (4605) والترمذي (2663) وابن ماجه (13) عن أبي رافع . وحديث أبي ثعلبة الخشني في النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الحمر الأهلية أخرجه البخاري (5527) ومسلم (1932،1936) . وحديث أبي هريرة في النهي عن كل ذي ناب من السباع عند مسلم (1933) . ومضى حديث المقدام آنفاً .(1/14)
ما هو في المتأخرين أن قوماً يقرؤون القرآن ولا يفهمونه ، وآخرون يتفهمون في كلام آخرين ، وآخرون يشتغلون بعلوم أخر ، بل كان القراء عندهم أهل العلم المحفوظ ، وذلك اسم معروف لهم . وهذا مما يوجب العلم بحرصهم على فهم معناه ، وإذا كانوا حراصاً والرسول بين أظهرهم فمن الممتنع أن يكونوا يرجعون إلى غيره في بيان معانيه وتفصيل مجمله وبيان متشابهه ، فعلم أنهم أخذوا عن الرسول بيان معاني آيات القرآن التي يقال : أنها مشكلة أو مجملة .
الوجه الرابع : أن أصحابه المعروفين هم الذين نزل القرآن بلغتهم ، فإن لغات العرب وإن اشتركت في جنس العربية فبينها افتراق في مواضع كثيرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما خاطب أهل اليمن كتب إليهم بلغة هي غريبة بالنسبة إلى لغة قريش ، والقرآن نزل بلغة قريش ونحوهم من أهل الحاضرة والبادية ، وأولئك هم خواص أصحابه ، فلا يحتاجون في معرفة لغتهم وعادتهم في خطابهم إلى شعر شاعر غيرهم ، فضلاً عمن يكون حدث بعدهم .
الوجه الخامس : أن الصحابة سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الكثيرة ، ورأوا منه من الأحوال ، وعلموا بقلوبهم من الأمور ما يوجب لهم من فهم ما أراد بكلامه ما يتعذر على من بعدهم . فليس من سمع ورأى وعلم حال المتكلم كمن كان غائباً ، ولم ير ولم يسمع منه ، ولكن علم بعض أحواله وسمع بواسطة . وإذا كان الصحابة سمعوا لفظه وفهموا معناه كان الرجوع إليهم في ذلك واجباً متعيناً ، ولم يحتج مع ذلك إلى غيرهم . ولهذا قال الإمام أحمد (1) : أصول السنة عندنا التمسك بما كان
_____________________
(1) في أصول السنة (رواية عبدوس بن مالك العطار) 25 . وانظر طبقات الحنابلة =(1/15)
عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو ما كان عليه وأصحابه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الفرقة الناجية : " هو ما كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي " ، أو قال : " ما أنا عليه اليوم وأصحابي " (1) .
فثبت بهذه الوجوه القاطعة أن الرجوع في تفسير القرآن (2) -الذي هو تأويله الصحيح المبين لمراد الله تعالى به - إلى الصحابة هو الطريق الصحيح المستقيم ، وأن ما سواه إما أن يخطئ بصاحبه ، وإما أن يكون دونه في الإصابة . ولهذا نص الإمام أحمد على أنه يرجع إلى الواحد من الصحابة في تفسير القرآن إذا لم يخالفه منهم أحد (3) . ثم من أصحابه من يقول : هذا قول واحد ، وإن كان في الرجوع في الفتيا في الأحكام إليه روايتان . ومنهم من يقول : الخلاف في الموضعين واحد (4) .
ثم نعلم أن الصحابة إذا كانوا حفظوا فالتابعون لهم بإحسان الذين أخذوا عنهم وتلقوا منهم لا يجوز أن يكونوا عدلوا في ذلك عما بلغهم إياه الصحابة ، لا يجوز ذلك في العادة العامة ، ولا في عادة القوم وما عرف من عقلهم ودينهم ، مع ما علموه من وجوب ذلك عليهم في دينهم . فإذا كان هذا يوجب الرجوع إلى الصحابة والتابعين فكيف
_____________________________
= (1/241) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/156) .
(1) أخرجه الترمذي (2641) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقال : هذا حديث حسن مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه . وأخرج الطبراني في الأوسط (5019،8004) عن أنس نحوه .
(2) في الأصل : " تفسير القرآن إليهم " .
(3) انظر العدة (3/721) .
(4) انظر المسودة 336 .(1/16)
بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
وأما الطريق الثاني فمن وجوه :
أحدها : أن نقول : [من] لم يرجع إلى الصحابة والتابعين في نقل معاني القرآن وما [يراد] بها كما رجع إليهم في نقل حروفه وإلى لغتهم وعادتهم في خطابهم ، فلا بد أن يرجع في ذلك إلى لغة مأخوذة عن غيرهم ، لأن فهم الكلام موقوف على معرفة اللغة ، وغايته أن يباشر عرباً غيرهم ، فيسمع لغتهم ويعرف مقاصدهم ، ويقيس معاني ألفاظ القرآن على معاني تلك الألفاظ . وهذا إنما يصح إذا سلم اللفظ من كلام العربي هذا ويسلم في القرآن أيضاً من احتمال المعاني المختلفة لمجاز واشتراك ، وإلا فمتى كان اللفظ من أحدهما دون الآخر دالاً على معنى آخر بطريق الاشتراك والمجاز لم يكن المراد من أحد المتكلمين به مثل المراد به من المتكلم الآخر ، فغايته فيه القياس ، وهو موقوف على اتحاد معنى اللفظين .
ثم من المعلوم أن جنس ما دل على القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس في عادتهم ، وإن كان بينهما قدر مشترك ، فإن الرسول جاءهم بمعان غيبية لم يكونوا يعرفونها ، وأمرهم بأفعال لم يكونوا يعرفونها ، وأمرهم بأفعال لم يكونوا يعرفونها ، فإذا عبر عنها بلغتهم كان بين ما عناه وبين معاني تلك الألفاظ قدر مشترك ، ولم تكن مساويةً لها ، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تعرف إلا منه . فعلم أن عامة من يأخذ معاني القرآن من اللغة التي سمعها من العرب العرباء وباشرهم فيها أن يكون قائساً قياساً يحتمل الضد ، وأن يكون ما فاته من الفارق أعظم مما أدركه بالجامع ، وهذا برهان واضح ، ولهذا كانوا يقولون ما ذكره عبد الرزاق في(1/17)
تفسيره (1) عن ابن عباس أنه قال : التفسير على أربعة أوجه : تفسير تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير تعلمه العلماء ، وتفسير لا يعذر أحد بجهله ، وتفسير لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه فقد كذب .
الوجه الثاني : أن الدرجة الثانية أن يسمع اللغة ممن نقل الألفاظ عن العرب نظماً ونثراً ، وكل ما تعتري نقل الحديث من الآفات فهو هنا أكثر ، وهذا أمر معلوم لمن كان خبيراً بالواقع ، فيكون نقل ألفاظ اللغة ثم معرفة مرادهم من تلك الألفاظ يرد عليه أكثر مما يرد على معرفة مراد الرسول ، لأن معرفة مراد الرسول توفرت عليه الهمم والدواعي ، وصانه الله فهو محفوظ بحفظ الله ثم بالعادة العامة والخاصة ، أكثر من معرفة مراد شاعر مادح أو راث أو هاج أو مشبب أو واصف ناقة أو امرأة أو فلاة أو مفتخر .
الوجه الثالث : أن الدرجة الثالثة أن يسمع اللغة ممن سمع الألفاظ ، وذكر أنه فهم معناها من العرب ، كالأصمعي فيما سمعه من الأعراب وذكر أنه فهم معناه . ومن هذا الباب كتب اللغة التي (2) يذكرون فيها معاني كلام العرب بألفاظ المصنفين ، ومعلوم أن هذا يرد عليه (3) أكثر مما يرد على من سمع الكلام النبوي من صاحبه وقال : إنه فهم معناه ، وبينه لنا بعبارته .
الوجه الرابع : أن ينقل له كلام هؤلاء الذين الذين ذكروا أنهم سمعوا كلام العرب ، ومن المعلوم أنه يرد على هذا من الأسولة أكثر مما يرد على نقل(1/18)
الحديث .
الوجه الخامس : أن الدرجة الخامسة أن يعلّم اللغة بقياس نحوي أو تصريفي قد يدخله تخصيص لمعارض راجح ، وقد يكون فيه فرق لم يتفطن له واضع القياس القانوني . ومن المعلوم أن هذا يرد علبه أكثر مما يرد على من تعلم المعاني الشرعية من القواعد الكلية التي وضعها الفقهاء .
وإذا كان الأمر كذلك فمن لم يأخذ معاني الكتاب والسنة من الصحابة والتابعين ومن أخذ عنهم لم يكن له طريق أصلاً إلا ما يرد عليه من الآفات أضعاف ما يرد على هذه الطريق ، فلا يجوز له ترجيح غيرها عليها ، فيكون أحد الأمرين لازماً له :
إما أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويعدل عن الطريق التي فيها من العلوم اليقينية والأمور الإيمانية والاعتقادات الراجحة والظنون الغالبة ما لا يوجد في غيرها إلى ما هو دونها في ذلك كله ، بل يستبدل باليقين شكاً وبالظن الراجح وهماً ، ويستبدل بالإيمان كفراً وبالهدى ضلالة ، وبالعلم جهلاً ، وبالبيان عياً ، وبالعدل ظلماً ، وبالصدق كذباً ، وبالإيمان بكتب الله وبكلماته تحريفاً عن مواضعها .
وإما أن يعرض عن ذلك كله ، ولا يجعل للقرآن معنىً مفهوماً ، وقد قال الله تعالى : { إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } [يوسف/2] فلا يعقله ، وقال : { أفلا يتدبرون القرآن } [النساء/82] فلا يتدبره ، وقال : { ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } [ص/29] . فلا يتدبر ولا يتذكر ، وقال : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } [العنكبوت/43] فلا يكون من العالمين العاقلين لها . وإذا سلك هذا(1/19)
المسلك استطار شره وتعدى ضرره ، فيلزم تعطيل معاني الكتاب والسنة وفتور الرسالة ، إذ الرسول الذي لم يبين بمنزلة عدم الرسول ، والكلام الذي بلغه الرسول ولم يعقل معناه يدخل في حد الأصوات المسموعة التي ليس فيها حروف مبينة للمعاني .
وقد ذم الله تعالى من كان حاله في كتابه هكذا ، وجعلهم كفاراً بمنزلة الأموات ، وحمد من سمع كلامه فعقله ووعاه ، وجعل ذلك صفة المؤمن الحي ، فقال : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون } [البقرة/171] ، وقال تعالى : { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً } [الفرقان/73] ، وقال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها } [محمد/24] ، وقال تعالى : { إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } [الأنعام/36] ، وقال تعالى : { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي } [الزخرف/40] ، وقال تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } [البقرة/7] ، وقال تعالى : { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم } [محمد/16] ، وقال تعالى : { وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً } [النساء/155] .
وإذا كان من عدل عما فسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون القرآن فأحد الأمرين لازم له : إما أن يعدل إلى تفسيره بما هو دون ذلك ، فيكون محرفاً للكلم عن مواضعه ، وإما أن يبقى أصم أبكم لا يسمع من كلام الله ورسوله إلا الصوت المجرد الذي يشركه فيه البهائم ولا يعقله . وكل من هذين الأمرين باطل محرم = ثبت تعين الطريقة النبوية السلفية(1/20)
وبطلان الطريقة التحريفية والأمية ، فالتحريفية لها الجهل المركب والكفر المركب ، والأمية لها الجهل البسيط والكفر البسيط .
وقد ذم الله تعالى الطريقين في القرآن ، فقال تعالى في الأولى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلا بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } [البقرة/75-77] . فهذه الطريقة المذمومة التي سلكها علماء اليهود وأشباههم في أنهم يحرفون كلام الله أو يكتمونه لئلا يحتج به عليهم في خلاف أهوائهم . فمن عمد إلى نصوص الكتاب والسنة فحرفها أو كتمها ففيه شبه من هؤلاء ، كما تجد ذلك في كثير من أهل الأهواء ، يكتم ما أنزل الله تعالى من الكتاب والسنة عمن يحتج بها على خلاف هواه ، فيغل الكتب المسطورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ، ويمنع تبليغ الأحاديث النبوية وتفسير القرآن المنقول ، ولو قدر على منع القرآن لفعل ، وما ظهر من ذلك حرفه عن مواضعه بتأويله على غير تأويله ، ثم يعمدون إلى كتب يضعونها ، إما منقولات موضوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة ، فكم عند أهل الأهواء من الآثار المكذوبة ، ويقولون : هذه منزلة من عند الله ، إذ ما جاء به النبي فهو من عند الله ، أو يضعون كلاماً ابتدعوه أو رأياً اخترعوه ، ويسمونه مع ما وضعوه من المنقولات دين الله وأصول دينه وشرع الله والحق الذي أوجبه الله ، وأكثرهم [يأخذ] على ذلك أعواضاً من مال أو رئاسة . ففيهم شبه من الذين قال الله فيهم : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما(1/21)
يكسبون } [البقرة/79] . ولا ريب أن غالبهم ليس مثل اليهود ، إذ لا يكون إلا من كان كافراً محضاً ، لكن فيهم من الشبه بهم بقدر ما شاركوهم فيما ذمهم الله تعالى عليه . وقد يكون في الشخص أو الطائفة بعض المذموم من الخصال والأفعال التي هي مما ذم الله تعالى عليه أهل الكفر والنفاق ، وإن كان فيه أيضاً ما يحمد عليه من الإيمان . هذه صفة من حرف التنزيل أو كتمه أو استدل بما وضعه (1) وابتدعه .
وأما المعرض عن الكلام في معناه بالكلية فقد قال تعالى : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون } [البقرة/78] . والأماني التلاوة والقراءة ، فهم لا يعلمون إلا مجرد تلاوته وقراءته بألسنتهم ، يقيمون حروفه ويضيعون حدوده علماً وعملاً ، لا يعرفونها ولا يعملون بها .
فهذه أربعة أمور ذمها الله تعالى : تحريف ما أنزله الله ، وكتمانه ، وكتابة ما ينسب إليه مما يخالفه ، والإعراض عن تدبر كلامه . فمن الناس من يجمع الأربعة ، وهم رؤوس أهل البدع وأئمتهم الذين وضعوا مذاهب تخالف الكتاب والسنة ، وجعلوها من دين الله وأصول الدين وفروعه التي أوجب الله قولها واعتقادها ، وقالوا عن الله : إن الله يأمر بهذا القول والاعتقاد وهذا العمل والاعتماد ، فإخبارهم عن الله بإيجاب ذلك واستحبابه أعظم من مجرد إخبارهم عنه بأن ذلك جائز عند الله ، إذ قد يجيء من عند الله ما لا يجب علينا به عمل ، لكونه منسوخاً أو لكونه خبراً لا يجب علينا به عمل ونحو ذلك . وتحريفهم لنصوص الكتاب والسنة ظاهر ، وكذلك كتمانهم ما يحتج به أهل الإيمان عليهم من الآثار
_______________________
(1) في الأصل : "به ما وضعه" .(1/22)
المعروفة والكتب المنقولة نقلاً صحيحاً .
ثم إن هؤلاء لهم حالان : تارة يرون تحريف النصوص على وفق آرائهم ، ويسمون ذلك تأويلاً ، وتارة يرون الإعراض عن تدبرها وعقلها ، ويسمونه تفويضاً . فهم بين التحريف والأمية ، منهم من يوجب هذا ، ومنهم من يوجب هذا ، ومنهم من يستحب هذا ، ومنهم من يستحب هذا ، ومنهم من يوجب أو يستحب هذا لطائفة وهذا لطائفة ، أو هذا في حال وهذا في حال .
وكثير من الناس لا يجمع هذه الصفات الأربعة المذمومة ، بل يكون منها خصلة أو خصلتان : إما الأمية وإما التحريف وإما الكتمان أو غير ذلك ، ثم من كان مؤمناً لا يكون هذا حاله في جميع القرآن ، لكن في بعضه أو في كثير منه ، كما عليه طوائف من أهل الكلام ومن اتبعهم ، وربما فعل ذلك في أكثر القرآن ، كحال الفلاسفة من القرامطة والباطنية ونحوهم .
ثم اعلم أن طريقة التحريف لا تسلك ابتداءً ، لأن تفسير الكلام بخلاف مقتضاه لا يقبله القلب إلا بموجب ، بل تسلك ابتداءً طريقة الكلام والكتاب المضاف إلى الدين وليس منه ، وهو ما يسمونه المعقولات التي هي المجهولات ، ويجعلون ذلك هو الاعتقاد وأصول الدين التي أمر الله بها ، والحكمة الحقيقية والعلوم اليقينية التي ينبغي للفضلاء تحصيلها ، ويصدون الناس عن القرآن بالطريقة الأمية ، ويتفاوضون فيما بينهم بطريقة التحريف .
ولهذا يقررون أن الادلة اللفظية لا تفيد اليقين ، فإن هذا يمنع ما أمر الله به من عقله وتدبره والتفكر فيه ، ويجعل الطريقة الأمية حجة ،(1/23)
إذ كان ذلك لا يفيد علماً ويقيناً . وطريقة التحريف تتقابل فيها الاحتمالات ، فإنه إذا لم يكن إلى العلم بالمراد سبيل تعين الإعراض عن مراد القرآن ، وهي الطريقة الأمية . قال الله تعالى : { وإن هم إلا يظنون } [البقرة/78] ، { وما لهم بذلك من علم } [الجاثية/24] .
ومما يجب أن يعلم أن من أعظم أبواب الصد عن سبيل الله وإطفاء نور الله والإلحاد في آيات الله وإبطال رسالة الله دعوى كون القرآن لا يفهم معناه ، ولا طريق لنا إلى العلم بمعناه ، أو لا سبيل إلى ذلك إلا الطرق الظنية . ولهذا يسلك هذا الطريق من نافق هنا من المتكلمة والمتفلسفة ونحوهم ، فإنهم إذا انسد عليهم باب الرسالة والأخذ منها رجع كل منهم إلى ما يوحيه الشيطان إليه ، { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } [الأنعام/121] .
ثم إن القرآن إما أن يحرفوه ، فيكونون في معناه منافقين يظهرون الإيمان بلفظه وهم بمعناه كافرون ، وإما أن يعرضوا عن معناه فيكونوا به كافرين ، كما قال تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } [طه/123-126] . والنسيان تركها والإعراض عنها ، وكذلك ترك استماعها وترك تدبرها وفهمها ، وترك الإيمان بها والعمل بها ، كل ذلك من نسيانها . وقراءة مجرد حروفها وحفظه أو استماع مجرد صوت القارئ بها لا يمنع النسيان المذموم ، فلا بد من الإيمان الذي يتضمن معرفتها والعمل بها ، وهذا وإن لم يكن واجباً على كل أحد في كل آية على سبيل التفصيل ، لكن الإيمان بالله(1/24)
أوجب مجموع هذا على مجموع الأمة .
فمن كان يرى أن الذي أمر الله به [إما] أن تكون الأمة كلها أمية لا تعقل معاني الكتاب ، وإما أن يكون فيها من يحرفه بالتأويلات المبتدعة ، فهو ممن يدعو إلا الإعراض عن معاني كتاب الله ونسيانها . ولهذا صار هؤلاء ينسون معانيه حقيقة كما ينسى اللفظ ، فلا يخطر بقلوبهم المعنى الذي أراده الله ولا يتفكرونه ، وهذا نسيان حقيقي لمعاني كتاب الله ، وإن كان فيهم من يحفظ حروفه .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والدارمي (1) وغيرهما : " هذا أوان يقبض العلم " ، فقال زياد بن لبيد : يا رسول الله! كيف يقبض وقد قرأن القرآن ، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا ، فقال : " إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة ، أو ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما أغنت عنهم؟! " . بين صلى الله عليه وسلم أن وجود الكتب المسطورة والحروف المسموعة المقروءة بالأصوات المسموعة لا تغني من العلم شيئاً إذا لم يقترن بها فهمه وفقهه ومعرفته .
ولهذا قال عبد الله بن مسعود : " إنكم في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه - وفي رواية : كثير فقهاؤه قليل خطباؤه - كثير معطوه قليل سائلوه ، وسيأتي عليكم زمان كثير قراؤه أو خطباؤه قليل فقهاؤه قليل معطوه كثير سائلوه " (2) . فبين أن الزمان المحمود هو الذي يكون [فيه] فقهاء يفقهون معاني القراءة والخطاب ، أما كثرة من يقرأ القول ويتكلم بالخطاب بلا
______________________
(1) أخرجه الدارمي (294) والترمذي (2653) عن أبي الدرداء . وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
(2) أخرجه أبو خثيمة في العلم (109) .(1/25)
فقه فإن ذلك مذموم ، ذكر هذا في نعت أبناء الدين ، ثم قال في نعت أبناء الدنيا : إن المحمود كثرة المعطي وقلة السائل ، لا كثرة السائل وقلة المعطي . فعلم أن ما أوجب ترك فقه القرآن فهو مذموم ، فكيف بما أوجب تحريفه وتبديله!
واعلم أنه لما حرف من حرف من المنتسبين إلى العلم كثيراً من معاني القرآن ، وجعلوا ذلك هو فقهه وفهمه ومعرفة معانيه في أصول دينهم وفروعه ، ووضعوا من الكلام الذي ابتدعوه والكتب التي (1) كتبوها بأيديهم ، وجعلوها مأموراً بها من عند الله أو مأثورة من عند الله ، وكثر هؤلاء وكبر أمرهم = صار آخرون من المؤمنين الذين علموا بطلان ما ابتدعوه وتحريم ما قالوه وكتبوه ينهون عن ذلك كما أمر الله ورسوله ، وينهونهم عما ابتدعوه من التأويل الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ، ويقولون : هذا بدعة وضلالة ، والسلف لم يتأولوا هذه التأويلات ، ورأى أولئك أن في هذه التأويلات من الفساد ، ما لا تقبله العقول والقلوب ، [و] من الاختلاق ما يوجب الافتراق والشقاق . وضعف أولئك المؤمنون عن تحقيق الإيمان بمعاني القرآن ، إما في بواطنهم لما عارضوهم به من الشبهات ، وإما في ظواهرهم لما قاموا به من المجادلات والمجالدات ، أخلد الفريقان إلى الطريقة الأمية المتضمنة الإعراض عن معاني كثير من القرآن ، وصار ممن يرى هذه الفتن والافتراق يصد قلبه عن تدبر القرآن وفهمه ومعرفة الحديث وعلمه ، { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً } [النساء/61] خوفاً من شبهات المنافقين التي يوحيها شياطين إنسهم وجنهم إلى قلبه ،
____________________
(1) في الأصل : "الذي" .(1/26)
أو خوفاً منهم في الظاهر .
وهذا الثاني يعذر ، وأما الأول فلا يعذر ، إذ يجب على المؤمن الإيمان في قلبه في كل حال ، ويكون في المنكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " (1) . وكيف ينكر المنكر بقلبه من لا يعرف أنه منكر ، فالعلم قبل الحب والبغض ، والإيمان بالقرآن لفظه ومعناه واجب ، وإنكار ما خالفه ولو بالقلب واجب ، لكن يعذر المؤمن بعجزه . فالقلب كالبدن ، فمن عجز عن معرفته فهو كالعاجز عن حفظ حروفه ، ويسقط عنه خطاب الإيمان بذلك ، ويخاطب به القادرون ، لكن لا يكاد يعجز مثل هذا أن يعلم أي القولين أو القائلين أولى بالإيمان بالله ورسوله ، فعليه أن يكون مع أهل الإيمان بحسب إيمانهم ، وإن ابتلي بمخالفة الفاجر خالفه .
وهذا الذي ذكرته بين لمن تدبره ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . فإن الله تعالى إنما أنزل كتابه ليعقل ويتدبر ، وتتبع المعاني أشرف من الألفاظ والكمال المقصود بالألفاظ ، وهي معها كالأرواح مع الأجساد ، فاللفظ بلا معنى جسم بلا روح ، ومن لم يعلم من الكلام إلا لفظه فهو مثل من لم يعلم من الرسول إلا جسمه ، ومن لم [يعلم] من الصلاة إلا حركة البدن بالقيام والقعود والركوع والسجود . ولهذا قال تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " الآية [البقرة/177] ، وقد روي في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما هلك بنو إسرائيل حين شهدت أجسادهم وغابت
_______________________
(1) أخرجه مسلم (49) عن أبي سعيد الخدري .(1/27)
قلوبهم " (1) . ولهذا قال الله تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } [ق/37] ، قالوا : شاهد القلب غير غائبه .
ولهذا ذم العلماء الراسخون والمؤمنون الصادقون من اقتصر في إعجاز القرآن على ما فيه من الإعجاز من جهة لفظه أو تأليفه أو أسلوبه ، وقالوا : هذا وإن كان معجزاً فنسبته إلى ما في معانيه من الإعجاز نسبة الجسد إلى الروح ، ومحاسن الخَلْق إلى محسن الخُلُق ، وهو يشبه من عظم النبي صلى الله عليه وسلم بمحاسن خَلْقه وبدنه ، ولم يعلم ما شرف الله به قلبه الذي هو أشرف القلوب ونفسه التي هي أزكى النفوس ، من الأمور التي تعجز القلوب والألسنة عن كمال معرفتها وصفتها ، كما قال ابن مسعود (2) : " إن الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد خير القلوب ، فاصطفاه لرسالته ، ثم نظر في قلوب أصحابه بعد قلبه ، فوجد قلوبهم خير القلوب ، فاختارهم لصحبة نبيه وإقامة دينه " . وأظنه فيه أو في غيره (3) : " فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء " . وقال (4) : " من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات ،
________________________
(1) أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (157) من حديث عثمان بن أبي دهرش مرسلاً ، ولفظه : " خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل... " . وإسناده ضعيف انظر : السلسلة الضعيفة (5050) .
(2) أخرجه أحمد (1/379) والطيالسي في مسنده (ص23) والبزار كما في كشف الأستار (130) والطبراني في الكبير (8582) عنه موقوفاً . وإسناده حسن .
(3) هو ضمن الأثر المذكور ، وقد أخرج هذا الجزء فقط الحاكم في المستدرك (3/78) وقال : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي .
(4) أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " (2/97) من طريق قتادة عن ابن مسعود ، وهو منقطع .(1/28)
فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم ، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم " .
وهذا القدر الذي ذكرناه - من أن المقصود بالقرآن معانيه ومن ذم المعرض عن معناه- هو أجل في نفسه وأظهر معرفة من أن يحتاج إلى بسط ، فإذا كان كذلك فمن أعرض عن معناه بالكلية فهو معرض عن البر المقصود منه ، ومن أعرض عن معاني كثير منها فهو معرض عن كثير منه ، فإذا كان يأمر بذلك الإعراض ويرغب فيه فهو أمر بالإعراض عن القرآن والأمر بنسيانه وتركه ، ومعلوم أن هذا كفر صريح . وإذا كان يقول : إنه ليس بمعرض عن معناه ، ويتأوله على غير تأويله ، ويقول : هذه معانيه ، ويأتي بمعان تضاد معانيه ، فهو منافق كاذب ، بمنزلة من يقول : أنا أؤمن بحروفه ، وأتى بكلام ليس هو القرآن وقال : هذا هو القرآن ، فهو منافق كاذب ، ولهذا كان أضر وأخبث ، فإن الأول بمنزلة الكافر المعرض عن المسلمين ، والثاني بمنزلة المنافق الذي أظهر الإيمان وفعل في المسلمين ما ينافي الإيمان .
ولهذا كان مبدأ هذه البدع الكبار - مثل الرفض والتجهم ونحو ذلك - من منافقين زنادقة أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام ، وجاء في الحديث من غير وجه : " إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " (1) . وهذه الثلاثة تتفق في الأمور الخبرية
_____________________
(1) أخرجه الطبراني في الصغير (2/85) عن معاذ ، وفي إسناده عبد الحكيم بن منصور وهو متروك .(1/29)
والعلمية جميعاً ، فإن الأمور الخبرية قد يزل بعض العلماء فيها بالتأويل الذي هو تفسير آية أو حديث ، أو في الحكم على مضمون ذلك بإثبات أو نفي يخالف مضمون النص ، وهذا كثير . وقد كان كثير من أهل البدع منافقين حقيقة ، يجادلون الناس بالقرآن ويفسدونه بالتأويلات التي ابتدعوها ، ويؤيدون مقاييسهم الفاسدة بشواهد ذلك من غريب اللغة ونادرها .
والأئمة المضلون من الأمراء والعلماء والمشايخ والملوك ، الآمرون بخلاف ما أمر الله به ورسوله ، والناهون (1) عما أمر الله به ورسوله ، والمخبرون (2) بخلاف ما أخبر به ورسوله ، ففيهم الكذب في خبرهم والظلم في أمرهم وعلمهم ، ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن (3) أنه قال لكعب بن عجرة : " أعيذك بالله من إمارة السفهاء " ، قال : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : " أمراء يكونون من بعدي ، من دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليسوا مني ولست منهم ، ولن يردوا علي الحوض ، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني ، ويردون علي الحوض " .
فهذا الكلام قليل من كثير يتبين به أن من عدل عن تفسير الصحابة
______________________
(1) في الأصل : "والناهي" .
(2) في الأصل : "والمخبرين" .
(3) أخرجه الترمذي (614،615) وقال : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه من هذا الوجه إلا من حديث عبيد الله بن موسى . وأيوب بن عائذ الطائي يضعف ويقال : كان يرى رأي الإرجاء .(1/30)
وما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك - إما سالكاً [طريقاً] أخرى إلى فهم القرآن أو معرضاً عن الجميع - فلا بد له من الجهل والضلال والإفك والمحال ، وهو على شفا جرف هار يؤديه إلى الكفر والنفاق ، فإن انهار به وقع في نار جهنم ، وصار من أهل الحراب والشقاق ، { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } [الأنفال/13] ، و { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [المائدة/33] .
ولهذا ما زال كل ذي عقل ودين يردون علم معاني الكتاب والسنة إلى العلماء والفقهاء فيه ، الذي تلقوه طبقة بعد طبقة ميراثاً محفوظاً ، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خطبته التي رويناها عنه لكميل بن زياد (1) : " احفظ ما أقول لك ، القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق . يا كميل! العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، العلم يزكو على العمل والمال ينقصه النفقة ، العلم حاكم والمال محكوم عليه ، مات خُزان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة . آه آه! إن ههنا -وأشار بيده إلى صدره- علماً لو أصبت له حملةً ، بل أصبت لقناً غير مأمون عليه ، يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا ، يستظهر بنعم الله
_________________________
(1) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/79،80) وأبو هلال العسكري في ديوان المعاني (1/146،147) والمزي في تهذيب الكمال (24 : 220-222) .(1/31)
على عباده وبحججه على كتابه ، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ، لا ذا ولا ذاك ، فمنهوم باللذات سلس القياد للشهوات ، أو مغرى بجمع المال والادخار ، أقرب [شيء] شبهاً بهما الأنعام السائمة ، كذلك يموت العلم بموت حامليه " . ثم قال : " اللهم بلى! لن تخلوا الأرض من قائم لله بحجته " .
هذا لفظ العلم الذي رواه أهل العلم بذلك ، وأما قولهم " إما ظاهر مشهور وإما غائب مستور " فمن أكاذيب الرافضة الذين يزعمون أنه أشار به إلى ما لا حقيقة له . وليست هذه الزيادات في شيء من الروايات إلا في مثل " نهج البلاغة " (1) الذي أكثره موضوع ، وضعه واخترعه الشاعر المعروف الرضي . وتمام الحديث : " أولئك الأقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً ، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر ، فاستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى . آه آه! شوقاً إلى رؤيتهم " .
ففي هذا الحديث أن أمير المؤمنين قسم حملة العلم المذمومين ثلاثة أصناف :
المبتدع الفاجر الذي ليس عنده أمانة وإيمان ، يبطر الحق الذي جاء به الكتاب ويغمط الخلق ، يجادل في آياته بغير سلطان أتاه ، إن في صدره إلا كبر ما هو ببالغه . وهؤلاء مثل المتفلسفة والمتكلمة الذين يعارضون القرآن ويعتدون على أهل الإيمان .
__________________
(1) صفحة 497 بنحوه .(1/32)
والصنف الثاني : المقلد المنقاد بلا بصيرة ويقين ، مثل ما يوجد في كثير من العلماء والفقهاء الذين لهم ذكاء وصحة إيمان . وإنما ذكر الثالث لأن النفس يكون ذنبها تارة بالجهل ، وتارة بالظلم ، إما بالقوة الشهوانية ، وإما بالقوة الغضبية ، فهؤلاء أهل الاعتداء في القوة الغضبية بالكبر والطعن هم القسم الأول ، والجهال هم المقلدون وهم القسم الثاني ، وأهل الشهوة هم القسم الثالث .
ثم ذكر خلفاء الرسل القائمين بحجج الله وبيناته ، فقال : { لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته ، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته " . ومعلوم أن الله تعالى إنما أقام الحجة على خلقه برسله ، فقال : " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [النساء/165] ، فلم يبق لهم بعد الرسل حجة ، وإنما تقوم الحجة في مغيبهم ومماتهم بمن يبلغ عنهم ، كما قال : " لكيلا تبطل حجج الله وبيناته " ، ولا تقوم الحجة حتى يبلغ اللفظ والمعنى جميعاً ، إذ تبليغ اللفظ المجرد الذي لا يدل على المعنى المقصود لا تقوم به حجة ، بل وجوده كعدمه . فالقائمون بحجة الله هم المبلغون لما جاءت به الرسل لفظاً ومعنىً ، ولهذا قال : " وبيناته " وهي ما يبين الحق .
ثم وصفهم فقال : " هم الاقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً ، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر ، فاستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون " . فإنه قد ذكر أن من سوى هؤلاء جاهل أو مترف ، والمرء عدو ما جهل ، فيستوحش مما عداه وينفر عنه ، كما يصيب المكذبين ببعض ما جاءت به الرسل من استيحاشهم لكثير منه لجهلهم به ، وكما يصيب المؤمن بلفظ الجاهل بمعناه ، وأما العلماء فكما قال الله تعالى : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو(1/33)
الحق } [سبأ/6] . والمترف هو الذي ترك العمل بعلمه واستحسن ذلك ، كما تقدم في وصف صاحب الاعتداء في كبره وشهوته . فأخبر أن هؤلاء علموا ما جاءت به الرسل ، فأنسوا به وعملوا بذلك واستلانوا ، فقال : " فاستلانوا ما استوعره [المترفون] ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون " .
وهذه صفة أئمة الهدى من الصحابة والتابعين ، كسعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ، ومن بعدهم مثل الثوري ومالك وإبراهيم بن أدهم وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض ونحوهم ، وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد وعبد الله بن وهب وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والشافعي ونحو هؤلاء . ثم كان من أقوم هؤلاء بهذه المنزلة في وقته أحمد بن حنبل ومن يقاربه في ذلك ، كإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وبشر بن الحارث الحافي وغير هؤلاء . فإن الإمام أحمد كما قال فيه أبو عمر النحاس الرملي (1) رحمه الله : " عن الدنيا ما كان أصبره! وبالماضين ما كان أشبهه! أتته الدنيا فأباها ، والبدع فنفاها " ، فهو من أعظم من أنس بما استوحش منه الجاهلون ، واستلان ما استوعره المترفون .
وهؤلاء وأمثالهم من الأئمة كما قال الله تعالى فيهم : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } [السجدة/24] . فأيهم كان أعظم يقيناً بآيات الله وصبراً (2) على الحق فيها كان أعظم إمامة عند الله من غيره ، ومن مثل هؤلاء يؤخذ تفسير القرآن والحديث ، كما
_____________________
(1) انظر سير أعلام النبلاء (11/198) وفيه : أبو عمير بن النحاس .
(2) في الأصل : " صبروا" .(1/34)
قال أبو عبيد - وعلمه باللغة في الطبقة العليا ، مع ماله من البراعة في بقية العلوم - لما ذكر تنازع أهل اللغة وعلماء الفقه والحديث في تفسير نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء ، وأن بعض أهل الغريب فسره بالتجليل ، وأن علماء الدين فسروه بإبداء المنكب ، قال أبو عبيد (1) : " والفقهاء أعلم بالتأويل " ، والتأويل هو التفسير ، وهو حقيقة المراد . يعني أن الفقهاء يعلمون ما عني بالأمر والنهي ، لأن ذلك مطلوبهم ، وأهل الغريب يتكلمون فيه من جهة اللفظ فقط وما تريده به العرب كما قدمناه .
وكذلك ذكر هلال بن العلاء الرقي -فيما أظن- أنهم لما سمعوا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن العقر قال : سألنا فلاناً وفلاناً من أهل العلم باللغة فلم يعرفوا معناه ، وأظنه ذكر أبا عمرو الشيباني وطبقته ، قال : فقلنا : ارجعوا بنا إلى أهله ، فجاؤوا به إلى أحمد بن حنبل ، فسألوه فقال : كانوا في الجاهلية إذا مات فيه كبير ذبحوا عند قبره ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، لما فيه من تعظيم الميت الذي يشبه النياحة ويشبه الذبح لغير الله . ولهذا كره أحمد الأكل مما يذبح على القبور . قال هلال : فقلنا : وهذا والله العلم ، ثم أنشد لبعض عرب الجاهلية (2) :
وإذا مررت بقبره فاعقر به *** كوم الركاب وكل طرف سابح
فهذا بعض ما يتعلق بكون الأحاديث والآثار موافقة للقرآن ومفسرة له .
_______________________
(1) في غريب الحديث (2/118) .
(2) البيت لزياد الأعجم أو الصلتان العبدي من قصيدة في أمالي اليزيدي 2 وذيل أمالي القالي 9 .(1/35)
وأما الطريق الثاني
وهو بيان وجوب قبول الأخبار الصحيحة ، فنقول :
أما قوله : " هذه الأخبار آحاد لا تفيد العلم بل تفيد الظن ، كما عرف في الأصول " ، فنقول : الأخبار في هذا الباب - وهو باب الأمور الخبرية والعلمية - ثلاثة أقسام :
أحدها : متواتر لفظاً ومعنى .
والثاني : مستفيض متلقى بالقبول .
والثالث : خبر الواحد العدل الذي يجب قبوله .
أما الأول فمثل الأحاديث الواردة في عذاب القبر وفتنته ، وفي الشفاعة ، وفي الحوض ، ونحو ذلك . فإن هذه متواترة في باب الأمور الخبرية كتواتر الأحاديث الواردة في فرائض الزكاة والصوم والصلاة والحج والمناسك ، وفي رجم الزاني ونصاب السرقة ونحو ذلك . وأبلغ منها الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة ، وعلوه على العرش ، وإثبات الصفات له ، فإنه ما من باب من هذه الأبواب إلا وقد تواتر المعنى المقصود عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً معنوياً ، لِنَقْل ذلك عنه بعبارات متنوعة من وجوه كثيرة يمتنع بمثلها في العادة التواطؤ على الكذب أو وقوع الغلط ، والخبر لا تأتيه الآفة إلا من كذب المخبر عمداً أو من جهة خطئه ، فإذا كانت [العادة] العامة البشرية والعادة الخاصة المعروفة من حال سلف هذه الأمة وخلفها تمنع التواطؤ والتشاعر (1)
___________________________
(1) كذا في الأصل . ولعلها " التساعد " .(1/36)
على الاتفاق على الكذب في هذه الأخبار ، وتمنع في العادة وقوع الغلط فيها ، أفادت (1) العلم اليقيني بمخبرها .
وللناس بمخبر التواتر طريقان :
منهم من يقول : هو ضروري ، فنحن نستدل بحصول العلم الضروري على حصول التواتر الموجب له ، والأمر هنا كذلك ، فإنه ما من عالم بهذه الأحاديث وبطرقها ونقلتها سمعها كلها إلا أفادته علماً ضرورياً لا يمكنه دفعه عن نفسه ، أعظم من علم عموم الناس بسخاء حاتم وشجاعة عنتر وعدل كسرى وحرب البسوس ونحو ذلك من الأمور المتواترة عندهم من جهة المعنى . بل هذا عند أهل الحديث أبلغ من العلم بمشهور مذاهب الأئمة عند أتباعهم ، كما يعلم أصحاب أبي حنيفة أن مذهبه أن اللمس لا ينقض الوضوء ، وأن المسلم يقتل بالذمي ، وأنه لا يحلف المدعين ، وأنه يقول بالاستحسان في مواضع . ويعلم أصحاب مالك أن مذهبه سد الذرائع واتباع مذهب أهل المدينة ونحو ذلك . ويعلم أصحاب الشافعي أن مذهبه اتباع الخبر الصحيح وتقديمه على القياس والعمل ، وأنه لا يقتل المسلم بالذمي ، وأنه أخذ عن مالك ونحوه . ويعلم أصحاب أحمد أنه كان معظماً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وللحديث في أصوله وفروعه ، وأنه كان يقول بفقه أهل الحديث ، ويقدمه على القياس والعمل ونحو ذلك .
فتواتر العمل بما ذكرناه عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بحديثه أعظم من تواتر ما ذكرناه من أقوال المتبوعين عند أتباعهم ، ومن سمع من
_______________________
(1) في الأصل : " افادة " .(1/37)
سمعوه وتدبر ما تدبروه حصل له من العلم ما يحصل لهم . ولكن أكثر أهل الكلام وأتباعهم في غاية قلة المعرفة بالحديث ، وتجد أفضلهم لا يعتقد أنه روي في الباب الذي يتكلم فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ، أو يظن المروي فيه حديثاً أو حديثين ، كما تجده لأكابر شيوخ المعتزلة ، مثل أبي الحسين البصري يعتقد أنه ليس في الرؤية (1) إلا حديث واحد ، وهو حديث جرير (2) ، ولا يعلم أن فيها ما شاء الله من الأحاديث الثابتة المتلقاة بالقبول (3) ، حتى أن البخاري ومسلم مع كونهما مختصرين قد رويا فيه عدداً جيداً من ذلك ، والبخاري هو أكبر من مسلم ، ومع هذا فقد سماه " الجامع المسند المختصر من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه " . فإنكار هؤلاء لما علمه أهل الوراثة النبوية مثل حكاية كثير من الفقهاء لمذاهب الأئمة المشهورين بخلاف المتواتر عند أصحابهم ، وقد رأيت من ذلك عجائب حين رأيت في الكتب المشهورة عند الحنفية أن مالكاً يبيح نكاح المتعة ، وقد علم أن مذهب مالك يمنع توقيت الطلاق لئلا يشبه المتعة .
وكثير من الناس قد يطرق سمعه هذه الأحاديث ، ولا يجمعها وطرقها في قلبه ، وإن كان من سامعي الحديث وكتابه ، ومعلوم أن حصول العلم في القلب بموجب التواتر مثل حصول الشبع والري ، وكل واحد من الأنباء يفيد قدراً من الاعتقاد ، فإذا تعددت الأخبار وقويت أفادت العلم ، إما للكثرة وإما للقوة وإما لمجموعهما .
_________________________
(1) في الأصل : " رؤية " .
(2) أخرجه البخاري (529،547،4570،6997) ومسلم (633) .
(3) ذكر ابن القيم في حادي الأرواح (ص593-685) ثمانية وعشرين حديثاً مع بيان طرقها والكلام عليها .(1/38)
والعلم بموجب الخبر لا يكون بمجرد سماع حروفه ، بل بفهم معناه مع سماع لفظه ، فإذا اجتمع في القلب المستمع للأخبار المروية [العلم] بطرقها والعلم بحال رواتها حصل له العلم الضروري الذي لا يمكنه دفعه . ويدل على ذلك أن جميع أئمة الحديث المعروفين المشهورين قاطعون (1) بمضمون هذه الأحاديث ، شاهدون (2) على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، جازمون بأن من كذب بمضمونها فهو ضال أو كافر ، مع علم كل أحد بفرط علم القوم ودينهم ، وأنهم أعلم أهل الأرض علماً بما يصدق ويكذب بأحوال المخبرين ، وأنهم يجردون الرواية والخبر تجريداً لا يفعله أحد لا من المسلمين ولا من غير المسلمين فيما يأخذه بالنقل عن الأنبياء ولا عن غيرهم ، والمرجع في العلم بخبر هذه الأخبار إلى ما يجده الإنسان في نفسه من العلم الضروري ، ليس له إلا ذلك ، كما يرجع إلى ما يجده من العلوم الوجودية كاللذة والألم وما يحس ، وكل من كان من العلماء بالحديث من الأولين والآخرين يجد ذلك ويحلف عليه ويباهل عليه ، ومن ... (3) يباهلنا باهلناه ، فإن أتباع الأنبياء تباهل على ما جاءوا به ، كما دعا الأنبياء إلى المباهلة على ما أتاهم من عند الله .
وقول القادح في النبوة : يجوز أن يكون الذي جاءه شيطان ، ويجوز أن يكون [كاذباً] عليه ، مثل قول هؤلاء القادحين فيما أتاهم به ورثة الأنبياء : يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين ، وكل أحد يعلم أن المتدينين بالحديث أصدق الطوائف وأعدلها وأقلها كذباً
__________________________
(1) في الأصل : " قاطعة " .
(2) في الأصل : " شاهدين " .
(3) هنا في الأصل كلمة غير واضحة .(1/39)
وظلماً ، كما قال عبد الله بن المبارك : وجدت الدين لأهل الحديث والكلام للمعتزلة والكذب للرافضة والحيل لأهل الرأي ، وذكر كلمة أخرى (1) .
ثم لو ساوينا بين أهل الحديث وبين أقل الطوائف فمن المعلوم أن المناظرة إذا انتهت إلى العلم بالضرورة لم يكن لأحد الخصمين رد ذلك على خصمه ، فإنه أعلم بنفسه ، إلا أن يعلم كذب الخبر الذي يستدل به على انتفاء العلم به ، مثل علمنا بكذب الرافضة في دعوى النص وكذب النصارى في دعوى صلب المسيح .
فإن كان المناظر لنا يقول : إني أعلم كذب من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت هذه المعاني ، أو أني أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك ، سواء ادعى ذلك ضرورةً أو نظراً ، ونحن نقول : إنا عالمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك = كان بيننا وبينه ما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل النجران من المباهلة . قال الله تعالى : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } [آل عمران/61] ، فإنا قد جاءنا من جهة نبينا صلى الله عليه وسلم ما نقول لمن حاجنا فيه من بعد ما جاءنا من العلم : تعالوا ، فإن المحاجة التي هي المناظرة إذا انتهت إلى دعوى كل واحد من المناظرين علماً ما هو عليه ، بدليل اختص به أو عجز عنه أو ترك الاستدلال وأعرض عنه أو عجز عنه ، أو علماً ضرورياً = لم يفصل بينهما إلا المباهلة أو انقياد من لم يباهل لمن يباهل ، كما انقاد النجرانيون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن
_______________________
(1) أخرجه الهروي في ذم الكلام (5/210-212) . وذكره المؤلف في منهاج السنة (7/413) .(1/40)
المخاطب لنا المكذب بما (1) جاءنا عن نبينا إما أن يناظر بالعلم والعدل ، وإما ان يباهل ، إن ادعى أن عنده من العلم ما لا يمكنه المناظرة به ، فإن امتنع منهما فإما أن ينقاد ، وإلا فقد بان ظلمه وكذبه ، واستحق ما يستحقه الكاذب الظالم في هذا الباب .
وأما القسم الثاني - وهو طريق يقرر إفادة التواتر للعلم بالنظر والاستدلال - فنقول : التواتر يفيد العلم بكثرة العدد تارة وبصفات المخبرين أخرى ، فإن الواحد والاثنين ممن علم كمال عدله وضبطه - كأبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عمر - يفيد أخبارهم من العلم ما لا يفيده خبر عدد ليسوا مثلهم ، وليعتبر كل واحد ذلك بما يعلم منه ذلك ، ولكن هذا إنما يوجد كثيراً في أهل السنة والعدل ، وأما أهل الأهواء فالكذب فيهم كثير (2) . وتارة بحال المخبر عنه ، وتارة بقوة إدراك المخبر وفطنته ، فإن الذكاء وقوة الإدراك يحصل بهما من العلم ما لا يحصل لمن ليس له ذلك .
وإذا كان كذلك فالمخبرون بهذه الأخبار يتعين معرفة أحوالهم ، ولهذا تجد حال من علم حال مالك بن أنس وابن عمر يعلمون صدق روايتهم ما لا يحصل لهم من رواية شعبة وقتادة والثوري . وأما أهل الحديث فيعلمون أن الثوري كان أحفظ وأبعد عن الغلط من مالك ، وأن مالكاً أكثر تنقية من للشيوخ من الثوري ، فالثوري يروي عمن لا يروي عنه مالك ، فشيوخ مالك ثقات عنده بخلاف محدثي الثوري ، فليس كلهم ثقة عنده ، وكان يسمع من الكلبي وينهى عن السماع منه ويقول : أنا أعلم
______________________
(1) في الأصل : " لنا " .
(2) في الأصل : " كثيرا " .(1/41)
صدقه من كذبه . ويعلمون أن الزهري وقتادة ما كانا يغلطان ، ويعلمون أن ابن مسعود وابن عمر لا يتصور أن يتعمدا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك أكثر أئمة أهل الحديث - مثل مالك وشعبة والثوري وأحمد بن حنبل - من علم حالهم يعلم علماً ضرورياً أنهم لم يعتقدوا الكذب قط في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعلمون أن هؤلاء لم يغلطوا إن غلطوا إلا في لفظة أو لفظتين ، ومنهم من يعلمون أنه لم يغلط في الحديث النبوي ، فإن أحمد بن حنبل ما عرف أنه غلط فيه قط ، ولا الثوري ولا الزهري ، وكذلك خلق كثير غيرهم . والذين يعلمون أنهم قد يغلطون (1) - مثل حماد بن سلمة وجعفر بن محمد - يعلمون أن غلطهم إنما هو شيء يسير وفي مواضع يعرفونها .
وبالجملة يجب أن يعلم أن حفظ الله تعالى لسنة نبيه من جنس حفظه لكتابه الذي لا يروج فيه الغلط على صبيان المسلمين ، وكذلك الحديث لا يروج فيه الباطل على علماء الحديث ، مع أنا لا ندعي هذا في هذا المقام ، فإن ذلك من خواص أهل الحديث وخصائص الأمة ، وإنما يكفينا هنا الاكتفاء بالعادة المشتركة بين بني آدم ، فإن العلم بمخبر الأخبار يكون من الأسباب الأربعة التي تقدمت : الكثرة وحال المخبر وحال المخبر عنه وحال الأخبار أيضاً . ومن قال من المتكلمين ومن اتبعهم من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أن لا اعتبار إلا بالعدد ، وأنه إذا حصل [العلم] بخبر أربعة لقوم عن أمر وجب أن يحصل بخبر كل أربعة لكل قوم في قضية = فهذا قد عرف غلطه ، [و] قرر غلطه في مواضع .
_____________________________
(1) في الأصل : " يغلطوا " .(1/42)
فبهذين الطريقين الضروري والنظري يحصل العلم لأهل الحديث بمخبر هذه الأخبار المتواترة تواتراً لفظياً أو معنوياً في الأمور العلمية في باب الإيمان بالله ، والإيمان باليوم الآخر .
والقسم الثاني من الأخبار ما لم يروه إلا الواحد العدل ونحوه ، ولم يتواتر لا لفظه ولا معناه ، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به أو تصديقاً له ، كخبر أبي هريرة : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " (1) . فهذا يفيد العلم اليقيني أيضاً عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين . أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع ، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة ، والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ، مثل السرخسي (2) ، ومثل الشيخ أبي حامد وأبي الطيب وأبي إسحاق (3) وغيرهم ، ومثل القاضي أبي يعلى (4) وأبي الخطاب (5) وابن الزاغوني وغيرهم ، ومثل القاضي عبد الوهاب وغيره . وكذلك أكثر المتكلمين من المعتزلة والأشعرية مثل أبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك وغيرهما . وإنما نازع في ذلك طائفة كابن الباقلاني ، وتبعه مثل أبي المعالي والغزالي وابن عقيل وابن الجوزي ونحوهم (6) .
________________________
(1) أخرجه البخاري (5109،5110) ومسلم (1408) .
(2) في أصوله (1/321) .
(3) انظر شرح اللمع (2/303) .
(4) في العدة (3/889) .
(5) في التمهيد (3/36) .
(6) انظر فتح المغيث (1/59) وتدريب الراوي (1/143) .(1/43)
وقد ذكر أبو عمرو ابن الصلاح (1) القول الأول وصححه ، ولكنه لم يعرف مذاهب الناس فيه ليتقوى بها ، وإنما قاله بموجب الحجة . وظن من اعترض عليه من المشايخ (2) الذين فيهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة ، لكنهم يرجعون إلى ما يجدونه في مختصر أبي عمرو بن الحاجب ونحوه من مختصر أبي الحسن الآمدي والمحصل ونحوه من كلام أبي عبد الله الرازي وأمثاله ، ظنوا أن الذي قاله الشيخ أبو عمرو في جمهور أحاديث الصحيحين قول انفرد به عن الجمهور ، وليس كذلك ، بل عامة أئمة الفقهاء وكثير من المتكلمين أو أكثرهم وجميع علماء أهل الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو . وليس كل من وجد العلم قدر على التعبير عنه والاحتجاج له ، فالعلم شيء ، وبيانه شيء آخر ، والمناظرة عنه وإقامة دليله شيء ثالث ، والجواب عن حجة مخالفه شيء رابع .
والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقاً وعملاً إجماع منهم ، والأمة لا تجتمع على ضلالة (3) ، كما لو اجتمعت على عموم أو أمر أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس ، بل كما لو اجتمعت على ترك ظاهر من القول ، فإنها لا تجتمع على خطأ ، وإن كان ذلك لو جرد الواحد إليه نظره لم يأمن على الخطأ ، فإن العصمة ثبتت بالهيئة الاجتماعية ، كما أن خبر التواتر كل من المخبرين يجوز العقل
_______________________
(1) في علوم الحديث 24 .
(2) مهم النووي في الإرشاد (1/133) ، والعز بن عبد السلام كما في التقييد والإيضاح 28 والنكت لابن حجر (1/371) .
(3) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي (2167) عن ابن عمر ، وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة .(1/44)
عليه أن يكون كاذباً أو مخطئاً ، ولا يجوز ذلك إذا تواتر ، فالأمة في روايتها ورأيها ورؤياها أيضاً . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر ، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " (1) . فجعل تواطؤ (2) الرؤيا دليلاً على صحتها .
والواحد في الرواة قد يجوز عليه الغلط ، وكذلك الواحد في رأيه وفي رؤياه وكشفه ، فإن المفردات في هذا الباب تكون ظنوناً بشروطها ، فإذا قويت تكون علوماً ، وإذا ضعفت تكون أوهاماً وخيالات فاسدة .
وأيضاً فلا يجوز أن تكون في نفس الأمر كذباً على الله ورسوله ، وليس في الأمة من ينكره ، إذ هو خلاف ما وصفه الله .
فإن قيل : أما الجزم بصدقه فلا يمكن منهم إلا مجازفة ، وأما العمل به فهو الواجب عليهم [و] إن لم يكن صحيحاً في الباطن . وهذا سؤال ابن الباقلاني .
قلنا : أما الجزم بصدقه فلجزمهم بالأحكام التي يستندون فيها إلى ظاهر أو قياس ، كجزمهم بمعاني الآيات والأخبار ، وذلك أنه قد يحتف به عندهم من القرائن ما يوجب العلم ، إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها ، فكيف إذا احتف بالخبر . والمنازع بنى هذا على أصله الواهي أن العلم بمخبر الأخبار لا يحصل إلا من جهة العدد ، فلزمه أن يقول : ما دون العدد لا يفيد أصلاً . وهذا غلط خالفه فيه حذاق أتباعه .
وأما العمل به فنقول : لو جاز أن يكون في الباطن كذباً ، وقد وجب
______________________
(1) أخرجه البخاري (1158،2015،6991) ومسلم (1165) عن عبد الله بن عمر .
(2) في الأصل : " تواطي " .(1/45)
عليهم العمل بما هو كذب ، فهذا هو الخطأ ، ولا معنى لإجماع الأمة على خطأ إلا ذلك ، فإن المجوز لذلك لا يقول : إنهم عاصون أو فساق بالخطأ .
وإن بنى ذلك على أصله الفاسد من أن الإثم والخطأ متلازمان فقد سد على نفسه باب كون الإجماع حجة ، فإن المنازع يقول : أنا أجوز عليهم الخطأ بلا إثم ، فإن كنت تقول : إن ما لا إثم فيه لا خطأ فيه ، كان قول أهل الإجماع عندك مثل قول الواحد من المجتهدين ، إذ ليس عندك لا خطأ وإثماً ، وليس مثل هذا القول حجة على منازعه بلا ريب ، فيلزم أن لا يكون قول أهل الإجماع حجة ، بل هو كقول الواحد من المجتهدين ، وليس هذا مذهبه ، وإن لزم تناقضه . والمقصود هنا الاحتجاج بالقواعد المقررة ، وإلا قررنا كون الإجماع حجة .
وأيضاً فالإجماع ... (1) وإذا كان [تلقي] الأمة له بالقبول يدل على أنه صدق ، لأنه إجماع منهم على أنه صدق مقبول ، فإجماع السلف والصحابة على ذلك كان كإجماعهم على الأحكام أو معاني الآيات ، بل لا يمكن أحداً أن يدعي إجماع الأمة إلا فيما أجمع عليه سلفها ، وأما بعد ذلك فقد انتشرت انتشاراً لا يضبط معه أقوال جميعها .
واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب ، كما ذكر أبو عمرو ابن الصلاح ومن قبله من العلماء ، كالحافظ أبي طاهر السلفي وغيره .
وأما إن تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق دون من لا
________________________
(1) في الهامش : " هنا بياض في الأصل الذي نقل منه هذا " .(1/46)
يعرف الحديث من المتكلمة ونحوهم ، فهو كذلك يكون إجماعهم على ذلك حجة قطعية ، لأن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من أمور الدين بأهل العلم به دون غيرهم . فكما لا يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها وبطرقها ، وهم الفقهاء في الأحكام دون النحاة والأطباء ، فكذلك لا يعتد في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا بأهل العلم بطرق ذلك ، وهم علماء الحديث العالمون بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الضابطون لأقواله وأفعاله ، العالمون بأحوال حملة (1) الأخبار ، فإن علمهم بحال المخبر والمخبر عنه مما يعلمون به صدق الأخبار ، كما أن العلم المتفق على صدقه والفقيه والمتكلم والصوفي بالنسبة إلى علماء الحديث كالمحدث والمتكلم بالنسبة إلى الفقيه ، والجمهور على أن هؤلاء لا يعتد بخلافهم ، وقد قيل : إنه يعتد بخلافهم . فهكذا إذا خالف أهل الحديث متكلم أو فقيه .
وهذا في خبر الواحد المختص بالذي لم يتواتر لا لفظه ولا معناه ، وقد علمت أن التواتر لا يشترط فيه عدد معين على القول الصحيح ، فيتصل بعض هذا القسم بالقسم الأول إذا كان ما رواه الواحد أو الاثنان قد يحصل به العلم ، فيكون متواتراً باعتبار صفاتهم وغيرها من القرائن والضمائر ، وكثير من الناس لا يسميه متواتراً ، بل يجعل ما رواه الأربعة من أخبار الآحاد مطلقاً ، ويتوقف فيما رواه الخمسة ، كما يقول القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى في بعض كتبه . وللناس في العدد أقوال كثيرة ، سبعة ، واثنا عشر ، وأربعون ، وثلاثمئة وبضعة عشر ، وغير ذلك مما حكيت ، ولا أعلم بها قائلاً معيناً ولا حجة تذكر .
_____________________________
(1) في الأصل : " جملة " تصحيف .(1/47)
والقسم الثالث : خبر الواحد العدل الضابط الذي يجب قبوله والعمل به على المسلمين ، ليس كل خبر من كل عدل ضابط ، بل الخبر الذي أوجبت الشريعة تصديق مثله والعمل به ، فهذا في إفادة العلم به قولان هما روايتان [عن أحمد] :
إحداهما : أنه يفيد العلم أيضاً ، وهو إحدى الروايتين عن مالك ، وقول الحارث المحاسبي وغيره ، وقول محمد بن خويز منداد ، وقول طوائف من أهل الحديث وأهل الظاهر ، وطائفة من أصحاب أحمد .
والثانية : لا يوجب العلم ولا يحلف على مضمونه ، وهذا قول جمهور أهل الكلام وأكثر متأخري الفقهاء وطوائف من أهل الحديث ، لأن ذلك العدل يجوز عليه الكذب عمداً أو خطأً ، والعمد قد يعلم انتفاؤه ، لكن الخطأ لا يعلم انتفاؤه ، فإن الإنسان قد يخطئ سمعه ، وقد يخطئ فهمه لما سمعه ، وقد يخطئ ضبطه له وحفظه ، وقد يخطئ لسانه في تبليغه . فمع هذه التجويزات لا يقطع بعدمها .
وللأولين حجج ليس هذا موضع استقصائها ، إذ هم لا يجعلون حصول العلم بهذا من جهة العادة المطردة في حق الكفار وغيرهم ، كما يقوله المتكلمون في التواتر الذي يحصل العلم فيه بخبر الكفار والفساق ، وإنما يقولون : هذا من باب حفظ الله تعالى للذكر الذي بعث به رسوله وعصمته لحجته أن يوجب على الأمة اتباع ما يكون باطلاً ، إذ لو جاز ذلك ولم يبق بعد محمد نبي يبين الخطأ لم تقم حجة الله على أهل الأرض في ذلك ، ولكان قد أوجب الله على الناس أن يقولوا على ما هو في نفس الأمر كذباً ، ويقولون : متى كان المحدث قد كذب أو غلط فلا بد أن ينصب الله حجة يبين بها ذلك ، كما قال بعض(1/48)
السلف (1) : لو هم رجل في السحر أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح [و] الناس يقولون : هذا كذاب .
وفي ذلك من البسط ما لا يختص بهذا المكان ، ولا يقف غرضنا عليه ، فإن عامة الأحاديث التي يحتج بها في موارد النزاع لا يخرج عن القسم الأول أو الثاني . وأحاديث الأصول الكبار التي بها يميز أهل السنة والجماعة هي من القسم الأول المتواتر لفظاً ومعنى ، وفي لفظها يخالف الخوارج والروافض والجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم .
فصل
الطريق الثالث : أن يتكلم في الحديث الذي انتفت أسباب العلم بصدقه من كل وجه ، وهذا قد يكون عند شخص وطائفة دون شخص وطائفة ، فكثير من الأحاديث المعلوم صدقها عند علماء الحديث هي عند غيرهم غير معلومة الصدق ، بل يظن بها الصدق ، كما ذكره المعترض وذووه (2) .
فنقول على هذا التقدير : علينا أن نقدر الحديث قدره ، فإذا غلب على الظن صدقه اعتقدنا اعتقاداً راجحاً مضمونه ، ولم نجزم به جزمنا بالمتيقن صدقه ، كما نقول في أدلة الأحكام الظواهر والأقيسة . وخبر الواحد المجرد إذا لم يفدنا إلا غلبة الظن اعتقدنا غلبة الظن بها ، وهذا هو الواجب ، بل هذا في الأمور الخبرية أجود ، لأنه لا يترتب على ذلك فساد ولا مضرة ، إذ كنا لا نوجب به عملاً ولا نحرمه ، وإنما نظن
_________________________
(1) هو عبد الله بن المبارك كما أخرج عنه ابن الجوزي في الموضوعات (1/39) .
(2) في الأصل : " وذويه " .(1/49)
مضمونها .
ولهذا جوز العلماء أن تروى الأحاديث في الوعد والوعيد إذا كانت ضعيفة ، ولم يعلم صدقها ولا كذبها ، ولا يثبت بها استحباب ، لكن يثبت بها ظن يحرك القلب على فعل الخيرات أو ترك المنكرات . فإن كان هذا فيما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر ، فكذلك فيما يتعلق بالإيمان بالله ، إذا روي خبر في عظمة الله وبعض شؤونه التي لم يعلم بهذا الخبر انتفاؤها ولا ثبوتها ، والخبر مما يغلب على الظن صدقه ، اعتقدنا بموجبه ، وظننا بذلك ظناً غالباً ، فإن كان صادقاً في نفس الأمر وإلا فعظمة الله أكبر . كما أن حديث الوعد والوعيد الذي يعلم انتفاء مضمونه ، إن كان صادقاً وإلا فثواب الله أعم مما علمناه مفصلاً ، إذ فيه ما لم يخطر على قلب بشر ، فهذا هذا .
وهذا مما اتفق عليه سلف الأمة وأئمة الإسلام أن الخبر الصحيح مقبول مصدق به في جميع أبواب العلم ، لا يفرق بين المسائل العلمية والخبرية ، ولا يرد الخبر في باب من الأبواب سواء كانت أصولاً أو فروعاً بكونه خبر واحد ، فإن هذا من محدثات أهل البدع المخالفة للسنة والجماعة .
فإن قيل : هذا بشرط أن لا يعلم بالعقل ولا بالشرع انتفاء مضمونه .
قلنا : نعم ، لا بد من هذا الشرط ، وإلا فما قطعنا باستحالة مضمونه يستحيل أن يغلب على ظننا صدقه ، فإن هذا جمع بين النقيضين . لكن دعوى المعترض قيام الأدلة العقلية القطعية على انتفاء مضمون الآيات والأخبار هو السؤال الآخر ، فلهذا أخرنا الجواب إلى هناك . والواقع أنه ليس في الأخبار الصحيحة التي لا معارض لها من جنسها ما يخالف(1/50)
القرآن ولا العقل كما سنبين ذلك .
فإن قيل : من الناس من يقول : هذه المسائل العلمية التي أمرنا أن نقول فيها بالعلم متى لم يكن الدليل عليها علمياً قطعنا ببطلانه ، فلهذا يجب رد كل خبر أو دليل لا يفيد علماً في باب الخبر عن صفات الله ، ومنهم من يطرد ذلك في صفات المخلوقات كالأرضين والسماوات .
قلنا : لا ريب أن هذا الكلام قد يطلقه كثير من أهل النظر ، كالقاضي أبي بكر وابن عقيل والمازري ونحوهم ، وقد أطلقه قبلهم كثير من متكلمة المعتزلة وغيرهم ، وقد أنكر ذلك عليهم كثير من أرباب النظر وقالوا : العلم بالعدم غير عدم العلم ، وعدم الدليل غير دليل العدم ، وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث وأهل الكلام .
وفصل الخطاب أن نقول : لا يخلو إما أن يكون الموضع مما أوجب الله علينا فيه العلم ، أو أوجبت مشيئته وسنته فيه العلم ، وإما أن لا يكون مما يجب فيه العلم لا شرعاً ولا كوناً .
فإن كان الأول مثل ما أوجب الله علينا أن نعلم أن لا إله إلا هو ، وأن الله شديد العقاب ، وأن الله غفور رحيم ، وأنه على شيء قدير ، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً ، فلا بد أن ينصب سبباً يفيد هذا العلم ، لئلا يكون موجباً علينا ما لا نقدر على تحصيله ، وأن لا يكلفنا ما لا نطيقه له إذا أردنا تحصيله . ففي مثل هذا إذا لم يكن الدليل موجباً للعلم لم يكن صحيحاً . وكذلك ما اقتضت مشيئته وسنته العلم به ، مثل الأمور التي جرت سنته بتوفر الهمم والدواعي على نقلها نقلاً شائعاً ، فإذا لم ينقل فيعلم انتفاؤها وكذب الواحد المنفرد بها .
وأما ما لم يجب فيه العلم لا وجوباً دينياً ولا وجوباً كونياً فلا يعلم(1/51)
بطلان ما أفاد فيه غلبة الظن ، فإن اليقين له أسباب ، وللظن الغالب أسباب ، والتكذيب بما لم يعلم أنه كذب مثل التصديق بما لا يعلم أنه صدق ، والنفي بلا علم بالنفي مثل الإثبات بلا علم بالإثبات ، وكل من هذين قول بلا علم . ومن نفى مضمون خبر لم يعلم أنه كذب فهو مثل من أثبت مضمون خبر لم يعلم أنه صدق ، والواجب على الإنسان فيما لم يقم فيه دليل أحد الطرفين أن يسرحه إلى بقعة الإمكان الذهني ، إلى أن يحصل فيه مرجح أو موجب ، وإلا يكون قد سكت عما لم يعلم ، فهو نصف العلم . فرحم الله امرأ تكلم فغنم أو سكت فسلم (1) ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت (2) ، وإذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله (3) .
وإذا كان كذلك فنحن لم يجب علينا قط أن نعلم جميع ما لله من معاني أسمائه ولا نعلم جميع صفاته ، ولا أن نعلم صفات مخلوقاته ، ولا مقادير وعده ووعيده وصفات ذلك ، ولا إحدى سننه ، فإن سبب العلم بذلك [قد لا] يكون مشهوراً ، ولا قام دليل على نفي ما نعلمه من ذلك ، فإذا جاءنا خبر يغلب على الظن صدقه صدقناه في غالب الظن ، وإن غلب على الظن كذبه كذبناه ، وإن لم يعلم واحد منهما توقفنا فيه .
ويجوز لنا أن نرويه إذا لم نعلم أنه كذب ، لكن متى علمنا أنه كذب ، لكن متى علمنا أنه كذب
________________________
(1) كما في الحديث الذي أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " (4938) عن أنس بن مالك .
(2) أخرجه البخاري (6136،6138) ومسلم (47) عن أبي هريرة .
(3) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/54) من قول ابن عباس وابن عجلان .(1/52)
لم يجز روايته إلا مع البيان ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من حدث عني بحديث وهو يعلم أنه كذب فهو أحد الكذابين " ، وهو في صحيح مسلم (1) .
وأما من قال من ظاهري أهل العلم : إن ما لم يقم على ثبوته من الصفات دليل فإنه يجب نفيه = فإنه مبني على هذا الأصل المتقدم ، وقد بينا حكمه .
وأما قولهم : هذا من المسائل العلمية ، فلا نتكلم فيها بظن = فهذا لفظ مشترك ، قد يراد بالعلمية ما ليس تحته عمل ، كما يقول بعضهم : العلوم النظرية والمسائل الخبرية والاعتقادية ، وإذا كان المراد بها ذلك لم يجب أن يكون مقطوعاً بها . وقد يراد بالعلمية ما العلم فيها واجب أو واقع ، وهو ما يرد فيها ما لم يفد العلم ، ولهذا فصلنا ذلك إلى نوعين ، والله أعلم .
____________________________
(1) أول حديث في مقدمته عن سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة مرفوعاً .(1/53)