|
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1399
تحقيق: محمد حامد الفقي
عدد الأجزاء: 1
القواعد النورانية الفقهية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي وهو حسبي ونعم الوكيل
قال الشيخ الإمام العالم العامل القدوة رباني الأمة ومحيي السنة العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد خاتم المرسلين وإمام المهتدين وعلى آله أجمعين
فصل
أما العبادات فأعظمها الصلاة والناس آما أن يبتدئوا مسائلها بالطهور لقوله صلى الله عليه و سلم مفتاح الصلاة الطهور كما رتبه أكثرهم وأما بالمواقيت التي تجب بها الصلاة كما فعله مالك وغيره
فأما الطهارة والنجاسة فنوعان من الحلال والحرام في اللباس ونحوه تابعان للحلال والحرام في الأطعمة والأشربة
ومذهب أهل الحديث في هذا الأصل العظيم الجامع وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين فإن أهل المدينة مالكا وغيره يحرمون من الأشربة كل مسكر كما صحت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة وليسوا في الأطعمة كذلك بل الغالب عليهم فيها عدم التحريم
(1/1)
ابن وهب أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول لكل شيء زينة و زينة الصلاة التكبير و رفع الأيدي فيها وإذا كان ابن عمر يقول ذلك فكيف يظن به أنه لا يكبر إذا صلى وحده هذا لا يظنه عاقل بابن عمر
قال ابن عبد البر وقد روى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم انهم كانوا لا يتمون التكبير وذكر ذلك أيضا عن القاسم وسعيد بن جبير وروى عن أبي سلمة عن أبي هريرة انه كان يكبر هذا التكبير ويقول إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وهذا يدل على أن التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه وفي ترك الناس له من غير نكير من واحد منهم ما يدل على أن الأمر محمول عندهم على الإباحة قلت لايمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به فأما ترك الإمام التكبير سرا فلا يجوز أن يدعى تركه إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا لم يقله أحد من الأئمة ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون في كل خفض ورفع بل قالوا كانوا لا يتمونه ومعنى لا يتمونه لا ينقصونه ونقصه عدم فعله في حال الخفض كما تقدم من كلامه وهو نقص بترك رفع الصوت به أو نقص له بترك ذلك في بعض المواضع وقد روى ابن عبد البر عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال صليت خلف رسول الله صلى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم فكلهم كان يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض قال وهذا معارض لما روى عن عمر انه كان لا يتم التكبير وروى عن سعيد بن عبد العزيز عن الزهرى قال
(1/68)
والغرض من هذه المذاهب أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه فقياس قوله جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح بعضها والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق فإنه أمر لا ينضبط فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت
والغرض من هذا أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل كما قد يروي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أخرجه أصحابه على أصوله وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان فى وقتين فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر وإذا كانت الأفراد مستوية كان له فيها قولان فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد فقالت طائفة منهم أبو الخطاب لا يخرج وقال الجمهور كالقاضي أبي يعلى يخرج الجواب إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا به وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم فإن العلماء ورثة الأنبياء وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم أنتم أعلم بأمر دنياكم فأما ما كان من أمر دينكم فإلى
وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والاثبات فإذا كان في وقت قد قال إن
(1/127)
هذا حرام وقال في وقت آخر فيه أو في مثله إنه ليس بحرام أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام فقد تناقض قولاه وهو مصيب في كليهما عند من يقول كل مجتهد مصيب وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده
وأما الجمهور الذين يقولون إن الله حكما في الباطن علمه في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها وعدم علمه به مع اجتهاد مغفور له مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاد في طلبه ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهاد ن العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوج ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين
هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد
وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد
وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مذمومون في مناقضتهم لأنهم يتكلمون بغير علم ولا حسن قصد لما يجب قصده
وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان
أحدهما لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره وكثير ما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب
والثاني لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذا أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه
هذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل
(1/128)
يبلغ الهدى محله فراجعه بعضهم في ذلك فغضب وقال أنظروا ما أمرتكم به فافعلوه وكان هو صلى الله عليه و سلم قد ساق الهدى فلم يحل من إحرامه ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال لو استقبلت من أمري مااستدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة ولولا أن معي الهدى لأحللت وقال أيضا إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدى منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله فلما كان يوم التروية احرم المحلون بالحج وهم ذاهبون إلى منى فبات بهم تلك الليلة بمنى وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب ونمرة خارجة عن عرنة من يمانيها وغربيها ليست من الحرم ولا من عرفة فنصبت له القبة بنمرة وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده وبها الأسواق وقضاء الحاجة والأكل ونحو ذلك فلما زالت الشمس ركب وهو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة حيث قد بنى المسجد وليس هو من الحرم ولا من عرفة وإنما هو برزخ بين المشعرين الحلال والحرام هناك بينه وبين الموقف نحو ميل فخطب بهم خطبة الحج على راحلته وكان يوم الجمعة ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة واسمه إلال على وزن هلال وهو الذي تسميه العامة عرفة فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس فدفع بهم إلى مزدلفة فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة وبات بها حتى طلع الفجر فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مغلسا بها زيادة على كل يوم ثم وقف عند قزح وهو جبل مزدلفة الذي يسمى المشعر الحرام وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن فلم يزل واقفا بالمسلمين إلى أن أسفر جدا ثم دفع بهم حتى قدم منى فاستفتحها برمى جمرة العقبة ثم رجع
(1/95)
عن النبي صلى الله عليه و سلم ويطيلون السجود فيها كما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم ويجهرون فيها بالقراءة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك الاستسقاء يجوزون الخروج إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء والدعاء كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ويجوزون الخروج والدعاء بلا صلاة كما فعله عمر رضى الله عنه بمحضر من الصحابة ويجوزون الاستسقاء بالدعاء تبعا للصلوات الراتبة كخطبة الجمعة ونحوها كما فعله النبي صلى الله عليه و سلم
وكذلك الجنازة فإن اختيارهم أنه يكبر عليها أربعا كما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه أنهم كانوا يفعلونه غالبا ويجوز على المشهور عند احمد التخميس في التكبير ومتابعة الإمام في ذلك لما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كبر خمسا وفعله غير واحد من الصحابة مثل على بن أبي طالب وغيره ويجوز أيضا على الصحيح عنده التسبيع ومتابعة الإمام فيه لما ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يكبرون أحيانا سبعا بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم ولما في ذلك من الرواية عن النبي صلى الله عليه و سلم
فصل
الأصل الثاني الزكاة
وهم أيضا متبعون فيها لسنة النبي صلى الله عليه و سلم وخلفائه آخذين بأوسط الأقوال الثلاثة أو بأحسنها في السائمة فاخذوا في أوقاص الإبل بكتاب الصديق رضى الله عنه ومتابعيه المتضمن أن في الإبل الكثيرة في أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم بخلاف الكتاب الذي فيه استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين فإنه متقدم على هذا لأن استعمال عمرو بن حزم على نجران كان قبل موته بمدة وأما كتاب الصديق فإنه صلى الله عليه و سلم كتبه ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر
(1/87)
وتوسطوا في المعشرات بين أهل الحجاز وأهل العراق فإن أهل العراق كأبي حنيفة يوجبون العشر في كل ما أخرجت الأرض إلا القصب ونحوه في القليل والكثير منه بناء على أن العشر حق الأرض كالخراج ولهذا لا يجمعون بين العشر والخراج وأهل الحجاز لا يوجبون العشر إلا في النصاب المقدر بخمسة أوسق ووافقهم عليه أبو يوسف ومحمد ولا يوجبون من الثمار إلا في التمر والزبيب وفي الزروع في الأقوات ولا يوجبون في عسل ولا غيره والشافعي على مذهب أهل الحجاز
وأما أحمد وغيره من فقهاء الحديث فيوافقون في النصاب قول أهل الحجاز لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم بأنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا يوجبون الزكاة في الخضراوات لما في الترك من عمل النبي صلى الله عليه و سلم وخلفائه والأثر عنه لكن يوجبها في الحبوب والثمار التي تدخر وإن لم تكن تمرا أو زبيبا كالفستق والبندق جعلا للبقاء في المعشرات بمنزلة الحول في الماشية والجرين فيفرق بين الخضراوات وبين المدخرات وقد يلحق بالموسق الموزونات كالقطن على إحدى الروايتين لما في ذلك من الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم
ويوجبها في العسل لما فيه من الآثار التي جمعها هو وإن كان غيره لم تبلغه إلا من طريق ضعيفة وتسوية بين جنس ما أنزله الله من السماء وما أخرجه من الأرض
ويجمعون بين العشر والخراج لأن العشر حق الزرع والخراج حق الأرض وصاحبا أبي حنيفة قولمها هو قول أحمد أو قريب منه
وأما مقدار الصاع والمد ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أن الصاع خمسة أرطال وثلث والمد ربعه وهذا قول أهل الحجاز في الأطعمة والمياه وقصة مالك مع أبي يوسف فيه مشهورة وهو قول الشافعي وكثير من أصحاب أحمد أو أكثرهم
(1/88)
والثاني أنه ثمانية أرطال والمد ربعه وهو قول أهل العراق في الجميع
والقول الثالث أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث وصاع الطهارة ثمانية أرطال كما جاء بكل واحد منهما الأثر فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل والوضوء وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب لمن تأمل الأخبار الواردة في ذلك
ومن أصولها أن أبا حنيفة أوسع في إيجابها من غيره فإنه يوجب في الخيل السائمة المشتملة على الآثار ويوجبها في كل خارج من الأرض ويوجبها في جميع أنواع الذهب والفضة من الحلى المباح وغيره ويجعل الركاز المعدن وغيره فيوجب فيه الخمس لكنه لا يوجب ما سوى صدقة الفطر والعشر إلا على مكلف ويجوز الاحتيال لإسقاطها واختلف أصحابه هل هو مكروه أم لا فكرهه محمد ولم يكرهه أبو يوسف وأما مالك والشافعي فاتفقا على أنه لا يشترط لها التكليف بما في ذلك من الآثار الكثيرة عن الصحابة
ولم يوجبها في الخيل ولا في الحلى المباح ولا في الخارج إلا ما تقدم ذكره وحرم مالك الاحتيال لإسقاطها وأوجبها مع الحيلة وكره الشافعي الحيلة في اسقاطها
وأما أحمد فهو في الوجوب بين أبي حنيفة ومالك كما تقدم في المعشرات وهو يوجبها في مال المكلف وغير المكلف
واختلف قوله في الحلى المباح وإن كان المنصور عند أصحابه أنه لا يجب وقوله في الاحتيال كقول مالك يحرم الاحتيال لسقوطها ويوجبها مع الحيلة كما دلت عليه سورة نون وغيرها من الدلائل
والأئمة الأربعة وسائر الأمة إلا من شذ متفقون على وجوبها في عرض التجارة سواء كان التاجر مقيما أو مسافرا وسواء كان متربصا وهو
(1/89)
وغالب الذين أفطروا لم يصرحوا بالتحريم ولعل من كره الصوم منهم إنما كرهه لمن يعتقد وجوبه خشية إيجاب ما ليس بواجب كما كره من كره منهم الاستنجاء بالماء لمن خيف عليه أن يعتقد وجوبه وكما أمر طائفة منهم من صام في السفر أن يقضي لما ظنوه به من كراهة الفطر في السفر فتكون الكراهة عائدة إلى حال الفاعل لا إلى نفس الاحتياط بالصوم فإن تحريم الصوم أو إيجابه كلاهما فيه بعد عن أصول الشريعة والأحاديث المأثورة في الباب إذا تؤملت إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم إكمال العدة كما دل بعضها على الفعل قبل الإكمال أما الإيجاب قبل الإكمال للصوم ففيها نظر
فهذا القول المتوسط هو الذي يدل عليه غالب نصوص أحمد
ولو قيل بجواز الأمرين واستحباب الفطر لكان عن التحريم والإيجاب يؤثر عن الصديق أنهم كانوا يأكلون مع الشك في طلوع الفجر لكن
فصل وأما الحج فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في صفته وأحكامه
وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه و سلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة فقال من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدى فإنه لا يحل حتى
(1/94)
النصوص الصحيحة وهى مبنية عليها فيما يعذران فيه دون ما لا يعذران كما تقدم في الإمامة
فصل
وأما الصلوات في الأحوال العارضة
كالصلاة المكتوبة في الخوف والمرض والسفر ومثل الصلاة لدفع البلاء عند أسبابه كصلوات الآيات في الكسوف ونحوه أو الصلاة لاستجلاب النعماء كصلاة الاستسقاء ومثل الصلاة على الجنازة ففقهاء الحديث كأحمد وغيره متبعون لعامة الثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه في هذا الباب فيجوزون في صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن النبي صلى الله عليه و سلم ويختارون قصر الصلاة في السفر إتباعا لسنة النبي صلى الله عليه و سلم فأنه لم يصل في السفر قط رباعية إلا مقصورة ومن صلى أربعا لم يبطلوا صلاته لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك بل منهم من يكره ذلك ومنهم من لا يكرهه وإن رأى تركه أفضل وفي ذلك عن أحمد روايتان
وهذا بخلاف الجمع بين الصلاتين فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما لم يفعله إلا مرات قليلة فإنهم يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم حين جد به السير حتى اختلف عن أحمد هل يجوز الجمع للمسافر النازل الذي ليس بسائر أم لا ولهذا كان أهل السنة مجمعين على جواز القصر مختلفون في جواز الإتمام ومجمعون على جواز التفريق بين الصلاتين مختلفون في جواز الجمع بينهما
ويجوزون جميع الأنواع الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم في صلاة الكسوف
فأصحها وأشهرها أن يكون في كل ركعة ركوعان وفي الصحيح أيضا في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربعة ويجوزون حذف الركوع الزائد كما جاء
(1/86)
فصل
وأما إذا ابتدؤا الصلاة بالمواقيت ففقهاء الحديث قد استعلموا في هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه و سلم في أوقات الجواز وأوقات الاختيار
فوقت الفجر ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس ووقت الظهر من الزوال إلى مصير ظل كل شيء مثله سوى في الزوال ووقت العصر إلى اصفرار الشمس على ظاهر مذهب أحمد ووقت المغرب إلى مغيب الشفق ووقت العشاء إلى منتصف الليل على ظاهر مذهب أحمد وهذا بعينه قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو وروي أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث من قوله في المواقيت الخمس أصح منه وكذلك صح معناه من غير وجه من فعل النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة من حديث أبي موسى وبريدة رضى الله عنهما وجاء مفرقا في عدة أحاديث وغالب الفقهاء إنما استعملوا غالب ذلك
فأهل العراق المشهور عنهم أن العصر لا يدخل وقتها حتى يصير ظل كل شئ مثليه وأهل الحجاز مالك وغيره ليس للمغرب عندهم إلا وقت واحد
فصل
وكذلك نقول بما جاءت به السنة والآثار من الجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والمرض كما في حديث المستحاضة وغير ذلك من الأعذار
ونقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أن الوقت وقتان وقت اختيار وهو خمس مواقيت ووقت اضطرار وهو ثلاث مواقيت ولهذا أمرت الصحابة
(1/17)
كعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وغيرهما الحائض إذا طهرت قبل الغروب أن تصلي الظهر والعصر وإذا طهرت قبل الفجر أن تصلي المغرب والعشاء وأحمد موافق في هذه المسائل لمالك رحمه الله وزائد عليه بما جاءت به الآثار والشافعي رحمه الله هو دون مالك في ذلك وأبو حنيفة أصله في الجمع معروف وكذلك أوقات الاستحباب فإن أهل الحديث يستحبون الصلاة في أول الوقت في الجملة إلا حيث يكون في التأخير مصلحة راجحة كما جاءت به السنة فيستحبون تأخير الظهر في الحر مطلقا سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين ويستحبون تأخير العشاء ما لم يشق
وبكل ذلك جاءت السنن الصحيحة التي لا دافع لها وكل من الفقهاء يوافقهم في البعض أو الأغلب
فأبو حنيفة يستحب التأخير إلا في المغرب والشافعي يستحب التقديم مطلقا حتى في العشاء على أحد القولين وحتى في الحر إذا كانوا مجتمعين وحديث أبي ذر الصحيح فيه أمر النبي صلى الله عليه و سلم لهم بالإبراد وكانوا مجتمعين
فصل
وأما الأذان الذي هو شعار الإسلام فقد استعمل فقهاء الحديث كأحمد
(1/18)
بإقامة الصلاة و ذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها فقال تعالى في غير موضع و أقيموا الصلاة و إقامتها تتضمن إتمامها بحسب الإمكان كما سيأتي في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال أقيموا الركوع و السجود فإني أراكم من بعد ظهري و في رواية أتموا الركوع و السجود و سيأتي تقرير دلالة ذلك
و الدليل على ذلك من القرآن أنه سبحانه و تعالى قال و إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فأباح الله القصر من عددها و القصر من صفتها و لهذا علقه بشرطين السفر و الخوف فالسفر يبيح قصر العدد فقط كما قال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله وضع عن المسافر الصوم و شطر الصلاة ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم المتواترة التي اتفقت الأمة على نقلها عنه أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين و لم يصلها في السفر أربعا قط ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما لا في الحج و لا في العمرة و لا في الجهاد و الخوف يبيح قصر صفتها كما قال الله تعالى في تمام الكلام و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك و ليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم و لتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك و ليأخذوا حذرهم و أسلحتهم فذكر صلاة الخوف وهي صلاة ذات الرقاع إذ كان العدو في جهة القبلة و كان فيها أنهم كانوا يصلون خلفه فإذا قام إلى الثانية فارقوه و أتموا لأنفسهم الركعة الثانية ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم كما قال فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم فجعل السجود لهم خاصة فعلم أنهم يفعلونه منفردين ثم قال و لتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك فعلم أنهم يفعلونه
وفي هذه الصلاة تفريق المأمومين و مفارقة الأولين للإمام و قيام الآخرين قبل سلام الإمام و يتمون لأنفسهم ركعة ثم قال تعالى 4 : 103 فإذا
(1/34)
السبب وكذلك كان عمر رضى الله عنه إذا أبطأ خبر عليه جيوش السلمين قنت وكذلك على رضى الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم
قالوا وليس الترك نسخا فإن الناسخ لا بد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول ص - أمرا لحاجة ثم تركه لزالها لم يكن ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل
قالوا ونعلم قطعا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم أن حى على خير العمل لم يكن من الأذان الراتب وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة
فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة
وهذا أصل آخر في الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم فيما يسقط بالعذر فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة مالا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا
فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات انحلالا كثيرا
(1/84)
إلى منزله بمنى فحلق رأسه ثم نحر ثلاثا وستين بدنه من الهدى الذي ساقه وأمر عليا فنحر الباقي وكان مائة بدنة ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من مزدلفة قبل طلوع الفجر فرموا الجمرة بليل ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث يصلى بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يفتتح بالجمرة الأولى وهى الصغرى وهى الدنيا إلى منى والقصوى من مكة ويختم بجمرة العقبة ويقف بين الجمرتين الأولى والثانية وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر الله ويدعو فإن المواقف ثلاث عرفة ومزدلفة ومنى ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمى الجمرات هو والمسلمون فنزل بالمحصب عند خيف بنى كنانة فبات هو والمسلمون فيه ليلة الأربعاء وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن لتعتمر من التنعيم وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة وقد بنى بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي صلى الله عليه و سلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة وقال لها النبي صلى الله عليه و سلم اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة ولم يقم بعد أيام التشريق ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرام إلى الحل إلا عائشة وحدها
فأخذ فقهاء الحديث كأحمد وغيره بسنته في ذلك كله وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفى عليه فيه السنة
فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها متعة استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سف واحدة وأحرم في أشهر الحج
(1/96)
كما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم وعلموا أن من أفرد الحج واعتمر عقبه من الحل وإن قالوا إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا عائشة على قول من يقول إنها رفضت العمرة وأحرمت بالحج كما يقول الكوفيون وأما على قول أكثر الفقهاء أنها صارت قارنة فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك
وكذلك علموا أن من لم يسق الهدى وقرن بين النسكين لا يفعله وإن قال أكثرهم كأحمد وغيره إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي صلى الله عليه و سلم إلا عائشة على قول من قال إنها كانت قارنة
ولم يختلف أئمة الحديث فقهاء وعلماء كأحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم نفسه لم يكن مفردا للحج ولا كان متمتعا تمتعا حل به من إحرامه ومن قال من أصحاب أحمد إنه تمتع وحل من إحرامه فقد غلط وكذلك من قال إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط
وأما من توهم من بعض الفقهاء أنه اعتمر بعد حجته كما يفعله المختارون للأفراد إذا جمعوا بين النسكين فهذا لم يروه أحد ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته صلى الله عليه و سلم فأنه لا خلاف بينهم أنه صلى الله عليه و سلم لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة ولهذا لا يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمساجد عائشة حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هى ولا كان صلى الله عليه و سلم أيضا قارنا قرانا طاف فيه طوافين وسعى سعيين فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة
فمن قال من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد شيئا من هذه المقالات فقد غلط
وسبب غلطه ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة
(1/97)
فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن و لا بيع ما ليس عندك قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو من جنس حيل اليهود فإنهم إنما استحلوا الربا بالحيل و يسمونه المشكند وقد لعنهم الله على ذلك
و قد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل وفي الصحيحين عنه أنه قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها و أكلوا ثمنها وفي السنن عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس قمارا من أدخل فرسا بين فرسين و قد أمن أن يسبق فهو قمار وقال صلى الله عليه و سلم فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله
و دلائل تحريم الحيل من الكتاب و السنة و الإجماع و الاعتبار كثيرة ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك و ذكرنا ما يحتج به من يجوزها كيمين أبي أيوب و حديث تمر خيبر و معاريض السلف و ذكرنا جواب ذلك
ومن ذرائع ذلك مسألة العينة وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين لأنها حيلة وقد روى أحمد و أبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا تبايعتم بالعينة و اتبعتم أذناب البقر و تركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله
(1/120)
الربا و يشددان فيه حق التشديد لما تقدم من شدة تحريمه و عظم مفسدته و يمنعان الاحتيال له بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه و إن لم تكن حيلة و إن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها
و جماع الحيل نوعان إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود
فالأول مسألة مد عجوة و ضابطها أن يبيع ربويا بجنسه و معهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا و نحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار
فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة مد عجوة بلا خلاف عند مالك و أحمد و غيرهما و إنما يسوغ هذا من جوز الحيل من الكوفيين و إن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا
و أما إن كان كلاهما مقصودا كمد عجوة و درهم بمد عجوة و درهم أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد و المنع قول مالك و الشافعي و الجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد
و أما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي كبيع شاة ذات صوف ولبن بصوف أو لبن فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز
و النوع الثاني من الحيل أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود مثل أن يتواطآ على أن يبيعه بجرزه ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب أو يوطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا ثم يبيعه المبتاع لمعامله المرابي ثم يبيعه المرابي لصاحبه و هي الحيلة المثلثة أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة و نحو ذلك مثل أن يقرضه ألفا و يبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة و نحو ذلك
(1/119)
بيعه بحال كقول الشافعي الجديد و الثانية يصح و إن لم يوصف و للمشتري الخيار إذا رآه كقول أبي حنيفة و قد روي عن أحمد لا خيار له و الثالثة وهي المشهور أنه لا يصح بالصفة ولا يصح بدون الصفة كالمطلق الذي في الذمة و هو قول مالك
و مفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة و إن لم يعلم دواخل الحيطان و الأساس و مثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع و إن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن و إن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا و كذلك اللبن عند الأكثرين و كذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه يصح مستحق الإبقاء كما دلت عليه السنة و ذهب إليه الجمهور كمالك و الشافعي و أحمد و إن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد
و جوز النبي صلى الله عليه و سلم إذا باع نخلا قد أبرت أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها لكن على وجه البيع للأصل
فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا و تبعا ما لا يجوز من غيره
و لما احتاج الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص فلم يجوز المفاضلة المتيقنة بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دون النصاب على اختلاف القولين الشافعي و أحمد و إن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب
إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال عطاء أفقه الناس في المناسك و إبراهيم أفقههم في الصلاة و الحسن أجمع لذلك كله و لهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك في أجوبته و لهذا كان أحمد موافقا له في الأغلب فإنهما يحرمان
(1/118)
وقيل إنما تلقاه من علماء أهل بيته فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد حتى صاروا يقولون في الثلاث إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع و ذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا
فقول من يقول من الفقهاء إن السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعي و أحمد رضي الله عنهما و غيرهم هو من جنس قول من يقول من السنة أن لا يطيل الاعتدال بعد الركوع أو أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت أو نحو ذلك فإن الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلا بل الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه و سلم الثابتة في الصحاح و السنن و المسانيد وغيرها تبين أنه صلى الله عليه و سلم كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك كما تقدم دلالة الأحاديث عليه و لكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا أم أحدكم الناس فليخفف و إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ولم يعرفوا مقدار التطويل ولا علموا التطويل الذي نهى عنه لما قال لمعاذ أفتان أنت يا معاذ فجعلوا هذا برأيهم قدرا للمستحب ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله و رسوله إلى آراء العباد إذ النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات و كذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيجب البحث عما سنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي و إنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي و القياس
ومما يبين هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حد في اللغة ولا في العرف إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء و يستخف هؤلاء ما يستطيله
(1/71)
هؤلاء فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس و مقادير العبادات ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية
فعلم أن الواجب على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف و التطويل إلى السنة و بهذا يتبين أن أمره صلى الله عليه و سلم بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضا في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال إن طول صلاة الرجل و قصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة و أقصروا الخطبة و هناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة و التخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة ولهذا قال فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء
فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة بخلاف الإمام لأجل مراعاة المأمومين فإن خلفه السقيم و الكبير و ذو الحاجة و لهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض كما قال صلى الله عليه و سلم إني لأدخل الصلاة و أنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه و بذلك علل النبي صلى الله عليه و سلم فيما تقدم من حديث ابن مسعود
وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف و الكبير
(1/72)
و ذا الحاجة و إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء وفي رواية فإن فيهم السقيم و الشيخ الكبير و ذا الحاجة
و لهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقصرها أحيانا عما كان يفعل غالبا كما روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في صلاة الغداة فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس وروى أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة و كان يطولها أحيانا حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقالت يا بنى لقد أذكرتنى بقراءتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بها في المغرب وفي الصحيحين عن محمد ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بالطور في المغرب وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال قال لى زيد بن ثابت مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرا في المغرب بطولي الطوليين قال قلت ما طولى الطوليين قال الأعراف
فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور وتارة بالمرسلات مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر نم القراءة في الفجر فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها
ومن هذا الباب ما روى وكيع عن منصور عن ابراهيم النخعي قال كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه قال أبو محمد بن حزم العيب على من عاب عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم وعول على من لا حجة فيه
(1/73)
قلت قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح وموافقته لفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث لم يكونوا من الصحابة ولا عرف أنهم من أعيان التابعين وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود فابن بن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه بل الإمام الراتب كان غيره وابن بن مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين
فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة التي اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء
يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة وتوفى قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله فإن علقمة توفى سنة إحدى أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك وكذلك مسروق قيل إنه توفى قبل السبعين أيضا وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه
فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد الله بن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك مع أن من الناس إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي وقد عرفت أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك وهم رأوا ذلك وهم أخذوا العلم عن عبد الله ونحوه فقد تبين أن الأمر ليس كذلك
آخر ما وجد في الأصل والحمد لله رب العالمين
فصل
وأما السلام من الصلاة فالمختار عند مالك ومن تبعه من أهل المدينة تسليمة واحدة في جميع الصلاة فرضها ونقلها المشتملة على الأركان الفعلية أو على ركن واحد وعند أهل الكوفة تسليمتان في جميع ذلك وافقهم الشافعي
(1/74)
والمختار في المشهور عن أحمد أن الصلاة الكاملة المشتملة على قيام وركوع وسجود يسلم منها تسليمتان وأما الصلاة بركن واحد كصلاة الجنازة وسجود التلاوة وسجود الشكر فالمختار فيها تسليمة واحدة كما حاءت أكثر الآثار بذلك فالخروج من الأركان الفعلية المتعددة بالتسليم المتعدد ومن الركن الفعلي المفرد بالتسليم المفرد فإن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم كانت معتدلة فما طولها أعطى كل جزء منها حظه من الطول وما خففها أدخل التخفيف على عامة أجزائها
فصل
فأما صلاة الجماعة فاتبع أهل الحديث ما دل عليه الكتاب و السنة و أقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر و سقوطها بالعذر و تقديم الأئمة بما قدم به النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ففرق بين العلم بالكتاب و العلم بالسنة كما دل عليه الحديث و إنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع و فعلها على السنة وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه فإذا استويا في كمال الصلاة منهما و خلفهما قدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة و إلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامهم وما يحتاج إليه من العلم و الدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك و غيره
وقد يقول بعض العلماء هي سنة مؤكدة وقد يقول آخرون هي فرض على الكفاية ولهم في تقديم الأئمة خلاف
و يأمر بإقامة الصفوف فيها كما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم من سننها الخمس وهي تقويم الصفوف و رصها و تقاربها و سد الأول فالأول
(1/75)
فصل
وأما القراءة خلف الإمام
فالناس فيها طرفان ووسط منهم من يكره القراءة خلف الإمام حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم سواء في ذلك صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن اتبعهم كأصحاب أبي حنيفة ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولى الشافعي وقول طائفة معه ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر وفي حال سكتات الإمام في صلاته الجهرية وللبعيد الذي لا يسمع الإمام وأما للقريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه إقامة للاستماع مقام التلاوة وهذا قول الجمهور كمالك وأحمد وغيرهم من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث
وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في صلاة المأموم هل هي مبنية على صلاة الإمام أم كل واحد منهما يصلى لنفسه كما تقدم التنبيه عليه فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها ومبنية عليها مطلقا حتى إنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام
واصل الشافعي أن كل رجل يصلى لنفسه لا يقوم مقامة لا في فرض ولا سنة ولهذا أمر المأموم بالتسميع وأوجب عليه القراءة ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام إلا في مواضع مستثناة كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو وتحمل القراءة إذا كان المأموم مسبوقا وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي ونحو ذلك
وأما مالك وأحمد فإنها عندهما مبنية عليها من وجه دون وجه كما ذكرنا من الاستماع للقراءة في حال الجهر والمشاركة في حال المخافتة ولا يقول المأموم عندها سمع الله لمن حمده بل يحمد جوابا لتسميع الإمام كما دلت عليه
(1/85)
الصلاة ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف و المرض و نحوهما مع استدبار القبلة و العمل الكثير و مفارقة الإمام ومع ترك المريض القيام أولى من أن يصلوا وحدانا ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على إمامه عند الحاجة كحال الزحام و نحوه و إن كان لا يجوز لغير حاجة وقد روى في بعض صفات صلاة الخوف ولهذا سقط عنده و عند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من عدل الإمام و حل البقعة و نحو ذلك للحاجة فجوزوا بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة و العيدين و الخوف و المناسك و نحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضى ترك ذلك إلى ترك الجمعة و الجماعة أو إلى فتنة في الأمة و نحو ذلك كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه لا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبا فيسقط بالعذر كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر
ومن اهتدى لهذا الأصل وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر و كذلك الواجبات في الجماعات و نحوها فقد هدى لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا كما قد يبتلى به بعضهم وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه و إن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه كما قد يبتلى به آخرون فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين
وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة و العزم التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة
و كان أحمد في المنصوص عنه و طائفة من أصحابه يقولون بجواز اقتداء المفترض
(1/77)
قلت لعمر بن عبد العزيز ما منعك أن تتم التكبير و هذا عاملك عبد العزيز يتمه فقال تلك صلاة الأول و أبى أن يقبل مني
قلت و إنما خفي على عمر بن عبد العزيز و على هؤلاء الجهر بالتكبير كما خفي ذلك على طوائف من أهل زماننا و قبله ما ذكره أبي شيبة أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال أول من نقص التكبير زياد
قلت زياد كان أميرا في زمن عمر فيمكن أن يكون ذلك صحيحا و يكون زياد قد سن ذلك حين تركه غيره و روى عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري قال لقد ذكرنا علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إما نسيناها و إما تركناها عمدا و كان يكبر كلما رفع و كلما وضع و كلما سجد
و معلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد وهم أئمة ولم يبلغهم خلاف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأوا من شاهدوهم من أهل العلم و الدين لا يعرفون غير ذلك فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة و حصل بذلك نقصان في وقت الصلاة و فعلها فاعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها كما كان الأئمة يفعلون ذلك و كذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كان ابن مسعود يتأول في بعض الأمراء الذين كانوا على عهده أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا فكان يقول كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير إذا ترك فيها شيء قيل تركت السنة فقيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن فقال ذلك إذا ذهب علماؤكم و قلت فقهاؤكم و التمست الدنيا بعمل الآخرة و تفقه لغير الدين و كان عبد الله بن مسعود يقول أيضا أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم
(1/69)
به و لهذا كرهه أيضا إذا مرض الإمام الراتب مرضا مزمنا لأنه يتعين حينئذ انصرافه عن الإمامة و لم ير هذا منسوخا بكونه صلى الله عليه و سلم في مرضه صلى في أثناء الصلاة قاعدا وهم قيام لعدم المنافاة بين ما أمر به و بين ما فعله و لأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته مع شهودهم لفعله فيفرق بين القعود من أول الصلاة و القعود في أثنائها إذ يجوز الأمران جميعا إذ ليس في الفعل تحريم للمأمور به بحال مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه و إنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة التي دل عليها قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم و قوله صلى الله عليه و سلم إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم و أنه إذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما و سقط الآخر بالوجه الشرعي و التنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء
فصل
في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام
الناس فيه على ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا ارتباط بينهما و أن كل امرئ يصلي لنفسه و فائدة الائتمام في تكثير الثواب بالجماعة وهذا هو الغالب على أصل الشافعي لكن قد عورض بمنعه اقتداء القارئ بالأمي و الرجل بالمرأة و إبطال صلاة المؤتم بمن لا صلاة له كالكافر و المحدث و في هذه المسائل كلام ليس هذا موضعه
ومن الحجة فيه قول النبي صلى الله عليه و سلم في الأئمة إن أحسنوا فلكم ولهم و إن أساءوا فلكم و عليهم
و القول الثاني أنها منعقدة بصلاة الإمام فرع عليها مطلقا فكل خلل حصل في صلاة الإمام يسري إلى صلاة المأموم لقوله صلى الله عليه و سلم الإمام ضامن و على هذا فالمؤتمن بالمحدث الناسي لحدثه يعيد كما يعيد إمامه وهذا مذهب
(1/79)
أبي حنيفة و رواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب حتى اختار بعض هؤلاء كمحمد بن الحسن أن لا يأتم المتوضئ بالمتيمم لنقص طهارته عنه
و القول الثالث أنها منعقدة بصلاة الإمام بها لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما فأما مع العذر فلا يسري النقص فإذا كان الإمام يعتقد طهارته فهو معذور في الإمامة و المأموم معذور في الائتمام وهذا قول مالك و أحمد و غيرهما و عليه ينزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة و هو أوسط الأقوال كما ذكرنا في نفس صفة الإمام الناقص أن حكمه مع الحاجة يخالف حكمه مع عدم الحاجة فحكم صلاته كحكم نفسه
وعلى هذا أيضا ينبني اقتداء المؤتم بإمام قد ترك ما يعتقده المأموم من فرائض الصلاة إذا كان الإمام متأولا تأويلا يسوغ كأن لا يتوضأ من خروج النجاسات من غير السبيلين ولا من مس الذكر و نحو ذلك فإن اعتقاد الإمام هنا صحة صلاته كاعتقاده صحتها مع عدم العلم بالحدث وأولى فإنه هناك تجب عليه الإعادة و هذا أصل نافع أيضا
و يدل على صحة هذا القول ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يصلون لكم فإن أصابوا فلكم و لهم و إن أخطأوا فلكم و عليهم فهذا نص في أن الإمام إذا أخطأ كان درك خطأه عليه لا على المأمومين فمن صلى معتقدا لطهارته و كان محدثا أو جنبا أو كانت عليه نجاسة و قلنا عليه الإعادة للنجاسة كما يعيد من الحدث فهذا الإمام مخطئ في هذا الاعتقاد فيكون خطؤه عليه فيعيد صلاته و أما المأمومون فلهم هذه الصلاة و ليس عليهم من خطئه شيء كما صرح به رسول الله صلى الله عليه و سلم و هذا نص في إجزاء صلاتهم
و كذلك لو ترك الإمام بعض فرائض الصلاة بتأويل أخطأ فيه عند المأموم مثل أن يمس ذكره و يصلي أو يحتجم و يصلي أو يترك قراءة البسملة أو يصلي
(1/80)
و عليه نجاسة لا يعفي عنها عند المأموم و نحو ذلك فهذا الإمام أسوأ أحواله أن يكون مخطئا إن لم يكن مصيبا فتكون هذه الصلاة للمأموم و ليس عليه من خطأ إمامه شيء و كذلك روى أحمد و أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من أم الناس فأصاب الوقت و أتم الصلاة فله و لهم ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه و لا عليهم لكن لم يذكر أبو داود و أتم الصلاة فهذا الانتقاص يفسره الحديث الأول أنه الخطأ و مفهوم قوله و إن أخطأ فعليه و لا عليهم أنه إذا تعمد لم يكن كذلك و لاتفاق المسلمين على أن من يترك الأركان المتفق عليها لا ينبغي الصلاة خلفه
فصل
و أما القنوت فالناس فيه طرفان ووسط منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع و منهم من لا يراه إلا بعده
و أما فقهاء أهل الحديث كأحمد و غيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما و إن اختاروا القنوت بعد الركوع لأنه أكثر و أقيس فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد سمع الله لمن حمد فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بينت فاتحة الكتاب على ذلك أولها ثناء و آخرها دعاء
و أيضا فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال بعد اتفاقهم على أن النبي صلى الله عليه و سلم قنت في الفجر منهم من قال هو منسوخ فإنه قنت ثم ترك كما جاءت به الأحاديث الصحيحة ومن قال المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار فلم يبلغه ألفاظ الحديث أو بلغته فلم يتأملها فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت هل كان قبل الركوع أو بعد الركوع فقال قبل الركوع قال فإن فلانا أخبرني
(1/81)
أنك قلت بعد الركوع قال كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد الركوع أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد فقنت صلى الله عليه و سلم شهرا يدعو عليهم وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال ما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقنت حتى فارق الدنيا جاء لفظه مفسرا أنه ما زال يقنت قبل الركوع
والمراد هنا بالقنوت طول القيام لا الدعاء كذلك جاء مفسرا
ويبينه ما جاء في الصحيحين عن محمد بن سيرين قال قلت لأنس بن مالك رضى الله عنه قنت رسول الله صلى الله عليه و سلم في صلاة الصبح قال نعم بعد الركوع يسيرا فأخبر أن قنوته كان سرا وكان بعد الركوع فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة سمى كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتا كما قال تعالى أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ولهذا لما سئل ابن عمر رضى الله عن القنوت الراتب قال ما سمعنا ولا رأينا وهذا قول ومنهم من قال بل القنوت سنة راتبة حيث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قنت وروى عنه أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا وهذا قول الشافعي
(1/82)
ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات لما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة والظهر لكن لم يرو أحد انه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه النبي صلى الله عليه و سلم للحسن بن على وهو اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره
وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيرهم فقالوا قد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قنت للنوازل التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم ونحو ذلك فإنه قنت مستنصرا كما استسقى حين الجدب فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس كما قال تعالى الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وكما قال النبي صلى الله عليه و سلم وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم وكما قال في صفات الأبدال بهم ترزقون وبهم تنصرون وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك وبين أنهما بيده سبحانه وتعالى في قوله أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور ثم ترك القنوت جاء مفسرا أنه صلى الله عليه و سلم تركه لزوال ذلك
(1/83)
أعدل الأقوال كما ذكرنا مثله في الصلاة فإن الأدلة الموجبة للعين نصا وقياسا كسائر أدلة الوجوب ومعلوم أن مصلحة وجوب العين قد يعارضها أحيانا في القيمة من المصلحة الراجحة وفي العين من المشقة المنتفية شرعا
فصل
وأما الأفصل الثالث فالصيام
وقد اختلفوا في تبييت نيته على ثلاثة أقوال
فقالت طائفة منهم أبو حنيفة أنه يجزئ كل صوم فرضا كان أو نفلا بنية قبل الزوال كما دل عليه حديث عاشوراء وحديث النبي صلى الله عليه و سلم لما دخل على عائشة فلم يجد طعاما فقال إني إذا صائم
وبإزائها طائفة أخرى منهم مالك قالت لا يجزئ الصوم إلا مبيتا من الليل فرضا كان أو نفلا على ظاهر حديث حفصة وابن عمر الذي يروي مرفوعا وموقوفا لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل
وأما القول الثالث فالفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم والنية لا تنعطف على الماضي وأما النفل فيجزئ بنية من النهار كما دل عليه قوله إني إذا صائم كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده في طرق التطوع فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات وصومهم يوم عاشوراء إن كان واجبا فإنما وجب عليهم من النهار لأنهم لم يعلموا قبل ذلك وما رواه بعض الخلافيين المتأخرين أن ذلك كان في رمضان فباطل لا اصل له
وهذا أوسط الأقوال وهو قول الشافعي وأحمد واختلف قولهما هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال والأظهر صحته كما نقل عن الصحابة
(1/91)
إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة و السنن في حديث بروع بنت واشق و إجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق و تستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم و إذا مات عند فقهاء الحديث و أهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق وهو أحد قولي الشافعي وهو معلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه كما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره وعن بيع اللمس و النجس و إلقاء الحجر فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر و أن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر فدل على الفرق بينهما
و سببه أن المعقود عليه في النكاح وهو منافع البضع غير محدودة بل المرجع فيها إلى العرف فلذلك عوضه الآخر لأن المهر ليس هو المقصود و إنما هو نحلة تابعة فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه و لذلك لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه و سلم و خيرهم بين السبي و بين المال فاختاروا السبي قال لهم إني قائم فخاطب الناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين و نستشفع بالمسلمين على رسول الله و قام فخطب الناس فقال إني قد رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا فهذا معاوضة عن الإعتاق كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة إلى أجل متقارب غير محدود و قد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر أن النبي صلى الله عليه و سلم قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم و غلبهم على الأرض و الزرع و النخل فصالحوه على أن يجلو منها ولهم ما حملت ركابهم و لرسول الله صلى الله عليه و سلم الصفراء و البيضاء و الحلقة وهي السلاح و يخرجون منها و اشترط عليهم أن لا يكتبوا و لا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم
(1/136)
وفي الصحيحين عن أبي مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ قال أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن وراءه الكبير و الضعيف و ذا الحاجة وفي رواية فإن فيهم الضعيف و الكبير وفي رواية فليخفف فإن فيهم المريض و الضعيف و ذا الحاجة
وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إني لأقوم إلى الصلاة و أنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه
و أما مقدار بقية الأركان مع القيام فقد أخرجا في الصحيحين عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة و لا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه و سلم وفي رواية عن شريك عنه وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه
و أخرجا فيهما من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يوجز الصلاة و يكملها وفي لفظ يوجز الصلاة و يتم
و أخرجا أيضا عن أبي قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إني لأدخل في الصلاة و أنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز من صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة
وروى مسلم أيضا عن أنس رضي الله عنه قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانت صلاته متقاربة
(1/58)
النبي صلى الله عليه و سلم فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد منهم عائشة وابن عمر وغيرهما أنه صلى الله عليه و سلم تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت أيضا عنهم أنه أفرد الحج وعامة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج ثبت عنهم أنهم قالوا إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت عن أنس ابن مالك أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لبيك عمرة وحجا وعن عمر أنه اخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أتاني آت من ربي يعني بوادي العقيق وقال قل عمرة في حجة ولم يحك أحد لفظ النبي صلى الله عليه و سلم الذي أحرم به إلا عمر وأنس
فلهذا قال الإمام أحمد لا أشك أن النبي صلى الله عليه و سلم كان قارنا وأما ألفاظ الصحابة فإن التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه فهذا التمتع العام يدخل فيه القرآن ولذلك وجب عليه الهدى عند عامة الفقهاء إدخالا له في عموم قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى وإن كان اسم التمتع قد يختص بمن اعتمر ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته فمن قال منهم تمتع بالعمرة إلى الحج لم يرد أنه حل من إحرامه ولكن أراد أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج لكن لم يبين هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين أو أحرم بالحج بعد ذلك فإن كان قد أحرم قبل الطوافين فهو قارن بلا تردد وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت وبالجبلين وهو لم يكن حل من إحرامه فهذا يسمى متمتعا لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج ويسمى قارنا لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة ولهذا يسميه بعض أصحابنا متمتعا ويسميه بعضهم قارنا ويسميه بعضهم بالإسمين وهو الأصوب وهذا التمتع الخاص فأما التمتع العام فيشمله بلا تردد
(1/98)
ومع هذا فالصواب ما قطع به أحمد من أنه صلى الله عليه و سلم أحرم بالحج قبل الطواف لقوله لبيك عمرة وحجا ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه فصيام ثلاثة أيام في الحج لأن العمرة دخلت في الحج كما قاله النبي صلى الله عليه و سلم
وإذا كانت عمرة التمتع جزءا من حجه فالهدى المسوق لا ينحر حتى يقضي التفث كما قال تعالى ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذرهم وذلك إشارة إلى الهدي المسوق فإنه نذر ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره لأن نحره إنما يكوه عند بلوغه محله وإنما يبلغ محله إذا بلغ صاحبه محله لأنه تبع له وإنما يبلغ صاحبه محله يوم النحر إذ قبل ذلك لا يحل مطلقا لأنه يجب عليه أن يحج بخلاف من اعتمر عمرة مفردة فإنه حل حلا مطلقا
وأما ما تضمنته سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم من المقام بمنى يوم التروية والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة ثم المقام بعرنه التي بين المشعر الحرام وعرفة إلى الزوال والذهاب منها إلى عرفة والخطبة والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنه فهذا كالجمع عليه بين الفقهاء وإن كان كثير من المصنفين لا يميزه وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة
ومن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة بين الظهر والعصر وبمزدلفة بين المغرب والعشاء وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر وأن ينفردا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين فإن هذا مما يعلم بالاضطرار لمن تتبع الأحاديث أنه لم يكن وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وعليه يدل كلام أحمد
وإنما غفل قوم من أصحاب الشافعي وأحمد عن هذا فطردوا قياسهم في
(1/99)
الجمع واعتقدوا أنه إنما جمع لأجل السفر والجمع للسفر لا يكون إلا لمن سافر ستة عشر فرسخا وحاضروا مكة ليسوا عن عرنة بهذا البعد
وهذا ليس بحق فإنه لو كان جمعه لأجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده وقد أقام بمنى أيام التشريق ولم يجمع فيها لا سيما ولم ينقل عنه أنه جمع في السفر وهو نازل إلا مرة واحدة وإنما كان يجمع في السفر إذا جد به السير وإنما جمع لنحو الوقوف لأجل أن لا يفصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها كما قال أحمد أنه يجوز الجمع لأجل ذلك من الشغل المانع من تفرق الصلوات
ومن اشترط في هذا الجمع السفر من أصحاب أحمد فهو أبعد عن أصوله من أصحاب الشافعي فإن أحمد يجوز الجمع لأمور كثيرة غير السفر حتى قال القاضي أبو يعلى وغيره تفسيرا لقول أحمد إنه يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة فالجمع ليس من خصائص السفر وهذا بخلاف القصر فإنه لا يشرع إلا للمسافر
وبهذا قال أكثر الفقهاء كالشافعي وأحمد إن قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام التشريق لا يجوز إلا للمسافر الذي يباح له القصر عندهم طردا للقياس واعتقادا أن القصر لم يكن إلا للسفر بخلاف الجمع حتى أمر أحمد وغيره أن الموسم لا يقيمه أمير مكة لأجل قصر الصلاة
وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم منهم مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي الخطاب في عبادته الخمس إلا أنه يقصر المكيون وغيرهم وأن القصر هناك لأجل النسك
والحجة مع هؤلاء أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من صلى خلفه بعرنه ومزدلفة ومنى من المكيين أن يتموا الصلاة كما أمرهم أن يتموا لما كان يصلى بهم بمكة أيام فتح مكة حين قال لهم أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر
(1/100)
فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر فأتموها أربعا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها أربعا ثم لما صلوا خلفه عشاء الآخرة قاموا فأتموها أربعا ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه لما أهمل الصحابة نقل مثل هذا
ومما قد يغلط فيه الناس اعتقاد بعضهم أنه يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر حتى قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه أخذا فيه بالعمومات اللفظية أو القياسية وهذه غفلة عن السنة ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط وإنما صلاة العيد بمنى هي جمرة العقبة فرمى جمرة العقبة لأهل الموسم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم ولهذا استحب أحمد أن تكون صلاة أهل الأمصار وقت النحر بممنى ولهذا خطب النبي صلى الله عليه و سلم يوم النحر بعد الجمرة كان كما يخطب في غير مكة بعد صلاة العيد ورمى الجمرة تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد الحرام
ومثل هذا ما قاله طائفة منهم ابن عقيل أنه يستحب للمحرم إذا دخل المسجد الحرام أن يصلى تحية المسجد كسائر المساجد ثم يطوف طواف القدوم أو نحوه وأما الأئمة وجماهير الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم فعلى إنكار هذا أما أولا فلأنه خلاف السنة المتواترة من فعل النبي صلى الله عليه و سلم وخلفائه فإنهم لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا إلا بالطواف ثم الصلاة عقب الطواف
وأما ثانيا فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف كما أن تحية سائر المساجد هي الصلاة
وأشنع من هذا استحباب بعض أصحاب الشافعي لمن سعى بين الصفا و المروة أ ن يصلى ركعتين بعد السعي على المروة قياسا على الصلاة بعد الطواف وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح فأن السنة مضت بأن النبي صلى الله عليه و سلم وخلفاؤه طافوا
(1/101)
عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم و إن لم يتواطأ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدا للذريعة ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ ففيه روايتان عن أحمد وهو أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا و أما مع التواطؤ فربا محتال عليه
ولو كان مقصود المشتري الدرهم و ابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها و يأخذ ثمنها فهذا يسمى التورق ففي كراهته عن أحمد روايتان و الكراهة قول عمر بن عبد العزيز و مالك فيما أظن بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع أو القنية فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق
ففي الجملة أهل المدينة و فقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة و أصولها و قولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة و تدل عليه معاني الكتاب و السنة
و أما الغرر فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة و الشافعي أما الشافعي فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء مثل الحب و الثمر في قشره الذي ليس بصوان كالباقلاء و الجوز و اللوز في قشره الأخضر و كالحب في سنبله فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر فخرج ذلك له قولا و اختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الاصطخري و روى عنه أنه ذكر له أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد فدل على جواز بيعه اشتداده و إن كان في سنبله فقال إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا و كذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع
قال ابن المنذر جواز ذلك هو قول مالك و أهل المدينة و عبيد الله ابن الحسن و أهل البصرة و أصحاب الحديث و أصحاب الرأي و قال الشافعي مرة لا يجوز
(1/121)
ثم بلغه حديث ابن عمر فرجع عنه و قال به قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به
و ذكر بعض أصحابه له قولين وأن الجواز هو القديم حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة و غير صفة متأولا أن بيع الغائب غرر و إن وصف حتى اشترط فيما في الذمة كدين السلم من الصفات و ضبطها ما لم يشترط غيره و لهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين و الدين بمثل هذا القول و قاس على بيع الغرر جميع العقود من التبرعات و المعاوضات فاشترط في أجرة الأجير و فدية الخلع و الكتابة و صلح أهل الهدنة و جزية أهل الذمة ما اشترطه في البيع عينا و دينا ولم يجوز في ذلك جنسا و قدرا و صفة إلا ما يجوز مثله في البيع و إن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروط أخر
و أما أبو حنيفة فإنه يجوز بيع الباقلاء و نحوه في القشرين و يجوز إجارة الأجير بطعامه و كسوته و يجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة من المثل و يجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة مع الخيار لأنه يرى وقف العقود لكنه يحرم المساقاة و المزارعة و نحوهما من المعاملات مطلقا و الشافعي يجوز بيع بعض ذلك و يحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع و الإجارة و النكاح و غير ذلك مما يخالف مطلق العقد
و أبو حنيفة يجوز بعض ذلك و يجوز من الوكالات و الشركات مالا يجوزه الشافعي حتى جوز شركة المفاوضة و الوكالة بالمجهول المطلق وقال الشافعي إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا
فبينهما في هذا الباب عموم و خصوص لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك
و أما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا فيجوز بيع هذه الأشياء و جميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره بحيث يحتمل في العقود حتى يجوز بيع
(1/122)
بألف و مائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف و إنما يأخذ المال بمثله و زيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج بخلاف الميسر فإن المظلوم فيه غير معين ولا هو محتاج إلى العقد و قد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها و الربا فيه ظلم محقق لمحتاج ولهذا كان ضد الصدقة فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء فإن مصلحة الغني و الفقير في الدين و الدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه و ظلمه زيادة أخرى و الغريم محتاج إلى دينه فهذا من أشد أنواع الظلم و يعظمه لعن النبي صلى الله عليه و سلم آكله وهو الأخذ و موكله وهو المحتاج المعطي الزيادة و شاهديه و كاتبه لإعانتهم عليهم
ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق كما حرم قليل الخمر لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى إذا العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل كون الدرهم صحيحا و الدرهمين مكسورين أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق و نحو ذلك و لذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس و معاوية و غيرهما فلم يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر كعبادة بن الصامت و أبي سعيد و غيرهما بتحريم النبي صلى الله عليه و سلم لربا الفضل
و أما الغرر فإنه ثلاثة أنواع إما المعدوم كحبل الحبلة و بيع السنين و إما المعجوز عن تسليمه كالعبد الآبق و إما المجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه أو قدره كقوله بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتي أو بعتك عبيدي
فأما المعين المعلوم جنسه و قدره المجهول نوعه أو صفته كقوله بعتك الثوب الذي في كمي أو العبد الذي أملكه و نحو ذلك ففيه خلاف مشهور و تغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة و عن أحمد فيه ثلاث روايات إحداهن لا يصح
(1/117)
ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ذاك الظن بك يا أبا إسحاق وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه و سلم في الركعة الأولى مما يطيلها وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي وائل قال خطبنا عمار بن ياسر يوما فأوجز و أبلغ فقلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت و أوجزت فلو كنت تنفست فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن طول صلاة الرجل و قصر خطبته مئنة في فقهه فأطيلوا الصلاة و أقصروا الخطبة إن من البيان لسحرا
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم الصلوات فكانت صلاته قصدا أي وسطا
و فعله الذي سنه لأمته هو من التخفيف الذي أمر به الأئمة إذ التخفيف من الأمور الإضافية فالمرجع في مقداره إلى السنة و ذلك كما خرجاه في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم يرجع فيؤمنا وقال مرة ثم يرجع فيصلي بقومه فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم وقال مرة العشاء فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل نافقت فقال ما نافقت فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن معاذا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله إنما نحن أصحاب نواضح و نعمل بأيدينا و إنه جاء يؤمنا فقرأ سورة البقرة فقال أفتان أنت يا معاذ اقرأ بكذا اقرأ بكذا قال أبو الزبير سبح باسم ربك الأعلى و الليل إذا يغشى وفي رواية للبخاري عن جابر رضي الله عنه قال أقبل رجل بناضحين و قد جنح الليل فوافق معاذا يصلي و ذكره نحوه فقال في آخره فلولا صليت بسبح باسم ربك الأعلى و الشمس و ضحاها و الليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الضعيف و الكبير و ذو الحاجة
(1/57)
بطريق الوكالة كالإذن اللفظي فكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل والعلم برضي المستحق يقوم مقام إظهاره للرضا
وعلى هذا يخرج مبايعة النبي صلى الله عليه و سلم عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان وكان غائبا وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة ومنزل جابر بدون استئذانهما لعلمه أنهما راضيان بذلك ولما دعاه صلى الله عليه و سلم اللحام سادس ستة اتبعهم رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه قال ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا وكذلك معنى قول أبي جعفر إن الإخوان من يدخل أحدهم يده في جيب صاحبه فيأخذ منه ما شاء
ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم لمن استوهبه كبة شعر أما ما كان لي و لبني عبد المطلب فقد وهبته لك و كذلك إعطاؤه المؤلفة قلوبهم عند من يقول إنه أعطاهم من أربعة الأخماس
وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزم و عروة بن الجعد لما وكله النبي صلى الله عليه و سلم في شراء شاه بدينار فاشترى شاتين و باع إحداهما بدينار
فإن التصرف بغير استئذان خاص تارة بالمعاوضة و تارة بالتبرع و تارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفي عام أو خاص
فصل
القاعدة الثانية في المعاقد حلالها وحرامها
و الأصل في ذلك أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل و ذم الأحبار و الرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل و ذم اليهود على أخذهم الربا و قد نهوا عنه و أكلهم أموال الناس بالباطل و هذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات و التبرعات و ما يؤخذ بغير رضا المستحق و الاستحقاق
و أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما الله في كتابه هما الربا
(1/115)
فأخبر ابن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبر وقد تقدم معنى حديث رافع قال أبو عبيد الخير بكسر الخاء بمعنى المخابرة والمخابرة المزارعة بالنصف والثلث والربع وأقل وأكثر وكان أبو عبيد يقول لهذا سمى الأكار خيبرا لأنه يخابر على الأرض والمخابرة هي المؤاكرة
وقد قال بعضهم أصل هذا من خيبر لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقرها في أيديهم على النصف فقيل خابرهم أي عاملهم في خيبر وليس هذا بشيء فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته وإنما روى حديث المخابرة رافع بن خديج وجابر وقد فسرا ما كانوا يفعلونه والخبير هو الفلاح سمى بذلك لأنه يخبر الأرض
وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة فقالوا المخابرة هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل والمزارعة على أن يكون البذر من المالك قالوا والنبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المخابرة لا المزارعة
وهذا أيضا ضعيف فإنا قد ذكرنا عن النبي صلى الله عليه و سلم ما في الصحيح من أنه نهى عن المزارعة كما نهى عن المخابرة وكما نهى عن كراء الأرض وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه وإنما اختصت بما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظا وفعلا ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد وسؤال السائل وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة و الاشتقاق يدل على ذلك
فصل
والذين جوزوا المزارعة منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك وقالوا هذه في المزارعة فإما إن كان البذر من العامل لم يجز وهذا إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي حيث يجوزون المزارعة وحجة هؤلاء قياسها على المضاربة وبذلك احتج أحمد
(1/178)
الشريعة هذه الحال كان هذا دليلا على أن ما أفضى إلى هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله كما نبهنا عليه في ضمان الحدائق لمن يزرعها و يستثمرها و بيع الخضر و نحوها
و ذلك أن الحالف بالطلاق إذا حلف ليقطعن رحمه أو ليعقن أباه أو ليقتلن عدوه المسلم المعصوم أو ليأتين الفاحشة أو ليشربن الخمر أو ليفرقن بين المرء و زوجه و نحو ذلك من كبائر الإثم و الفواحش فهو بين ثلاثة أمور إما أن يفعل هذا المحلوف عليه فهذا لا يقوله مسلم لما فيه من ضرر الدنيا و الآخرة مع أن كثيرا من الناس بل من المفتين إذا رآه قد حلف بالطلاق كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه و إقامة عذره
و إما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة كما استخرجه قوم من المفتين ففي ذلك من الاستهزاء بآيات الله و مخادعته و المكر السيء بدينه و الكيد له و ضعف العقل و الدين و الاعتداء لحدود الله و الانتهاك لمحارمه و الإلحاد في آياته ما لا خفاء به و إن كان من إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك فقد دخل من الغلط في ذلك وإن كان مغفورا لصاحبه المجتهد المتقي لله ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين
و إما أن لا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه بل يطلق امرأته كما يفعله من يخشى الله إذا اعتقد وقوع الطلاق ففي ذلك من الفساد في الدين و الدنيا ما لا يأذن به الله ولا رسوله
أما فساد الدين فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوجين باتفاق العلماء حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم إن المختلعات و المنتزعات هن المنافقات و قال أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة
وقد اختلف العلماء هل هو محرم أو مكروه وفيه روايتان عن أحمد وقد استحسنوا جواب أحمد لما سئل عمن حلف بالطلاق ليطأن امرأته وهي حائض
(1/265)
كذلك فعلى الحج أو فمالي صدقة أو فعلى صيام يريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل أو أن يقول إن لم أفعل كذل فعلى الحج ونحوه فمذهب أهل العلم من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة أنه يجزيه كفارة يمين وهو قول فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم وهذا هو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه
ثم اختلف هؤلاء فأكثرهم قالوا هو مخير بين الوفاء بما نذره وبين كفارة يمين وهذا قول الشافعي والمشهور عن أحمد ومنهم من قال بل عليه الكفارة عينا كما يلزمه ذلك في اليمين بالله وهو الرواية الأخرى عن أحمد وقول بعض أصحاب الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة في الرواية الأخرى وطائفة بل يجب الوفاء بهذا النذر
وقد ذكروا أن الشافعي سئل عن هذه المسألة بمصر فأفتى فيها بالكفارة فقال له السائل يا أبا عبد الله هذا قولك فقال قول من هو خير منى عطاء ابن أبي رباح وذكروا أن عبد الرحمن بن القاسم حث ابنه في هذه اليمين فأفتاه بكفارة يمين بقول الليث بن سعد وقال إن عدت أفتيك بقول مالك وهو الوفاء به ولهذا يفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين على عمومات الوفاء بالنذر كقوله صلى الله عليه و سلم من نذر أن يطيع الله فليطعه لأنه حكم جائز معلق بشرط فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام والأول هو الصحيح والدليل عليه مع ما سنذكره إن شاء الله من دلالة الكتاب والسنة ما اعتمده الإمام أحمد وغيره
قال أبو بكر الأثرم في مسائله سألت أبا عبد الله عن رجل قال ماله في رتاج الكعبة قال كفارة يمين واحتج بحديث عائشة قال وسمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله أو الصدقة بالملك أو نحو هذه اليمين فقال إذا حنث فكفارة يمين إلا أنى لا أحمله على الحنث ما لم يحنث قال له لا يفعل قيل لأبي عبد الله فإذا حنث كفر قال نعم قيل له
(1/231)
بعد وضوحه له فهو قوله وما لا يرضاه فليس قوله و إن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات و الواقع منها و هذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها
فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله لكونه ملتزما لرسالته فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول و إن كان لازما له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه و اللازم الذي نفاه ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين
و سبب الفرق بين أهل العلم و أهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد و الاجتهاد وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله و إن لم يكن مطابقا لكن اعتقادا ليس بيقيني كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل و إن كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا و كما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر فيعتقد ما دل عليه ذلك و إن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد و إن كان قد يكون غير مطابق و إن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط
فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين مع قصده للحق و اتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا بخلاف أصحاب الأهواء فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس و يجزمون بما يقولونه بالظن و الهوى جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا و يقصدون ما لم يؤمروا بقصده و يجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به فلم يصدر عنهم من
(1/129)
الاجتهاد و القصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيها بالضالين
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه و أما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق و يعاند عنه
وثم قسم آخر وهم غالب الناس وهو أن يكون له هوى وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة فتجتمع الشهوة و الشبهة و لهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات و يحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
فالمجتهد المحض مغفور له أو مأجور و صاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب و أما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى فهو مسيء وهم في ذلك درجات بحسب ما يغلب و بحسب الحسنات الماحية
و أكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك
وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك و أصول أحمد و بعض أصول غيرهما هو أصح الأقوال و عليه يدل غالب معاملات السلف و لا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به و كل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة و إما أن يحتال و قد رأينا الناس و بلغتنا أخبارهم فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل ولا يمكنه ذلك و نحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها و إنما هي من جنس اللعب
و لقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل فلم تزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود و كما قال تعالى
(1/130)
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وهذا الذنب ذنب عملي و إما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد و إلا فمن اتقى الله و أخذ ما أحل له و أدى ما أوجب عليه فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج و إنما بعث نبينا صلى الله عليه و سلم بالحنيفية السمحة فالسبب الأول هو الظلم و السبب الثاني هو عدم العلم و الظلم و الجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله تعالى 33 : 72 و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
و أصل هذا أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان كالدم و الميتة و لحم الخنزير أو من التصرفات كالميسر و الربا و ما يدخل فيهما بنوع من الغرر و غيره لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها و رسوله بقوله سبحانه 5 : 91 إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة و البغضاء سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب فإن المغالبة بلا فائدة و أخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك و كذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يتبايعون الثمار فإذا أجدب الناس و حضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر الدمان أصابه مراض أصابه قشام عاهات يحتجون بها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك فأما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر كالمشورة لهم يشير بها لكثرة خصومتهم و اختلافهم و ذكر خارجة بن زيد أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر رواه البخاري تعليقا و أبو داود إلى قوله خصومتهم و روى أحمد في المسند عنه قال قدم رسول الله صلى الله عليه
(1/131)
المقاتي جملة و بيع المغيبات في الأرض كالجزر و الفجل و نحو ذلك
و أحمد قريب منه في ذلك فإنه يجوز هذه الأشياء و يجوز على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدا مطلقا أو عبدا من عبيده و نحو ذلك مما لا يزيد جهالة على مهر المثل و إن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق كأبي الخطاب و منهم من يوافق الشافعي فلا يجوز في المهر و فدية الخلع و نحوهما إلا ما يجوز في المبيع كأبي بكر عبد العزيز و يجوز على المنصوص عنه في فدية الخلع أكثر من ذلك حتى ما يجوز في الوصية و إن لم يجز في المهر كقول مالك مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه لكن المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر و نحوه إلا إذا قلع و قال هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه و المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع القثاء و الخيار و الباذنجان و نحوه إلا لقطة لقطة ولا يباع من المقاتي و المباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن و لا تباع الرطبة إلا جزة جزة كقول أبي حنيفة و الشافعي لأن ذلك غرر وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب كالجزر و الفجل و البصل و ما أشبه ذلك كقول مالك
وقال الشيخ أبو محمد إذا كان مما يقصد فروعه و أصوله كالبصل المبيع أخضر و الكراث و الفجل أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر و يدخل ما لم يظهر في البيع تبعا و إن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض لأن الحكم للأغلب و إن تساويا لم يجز أيضا لأن الأصل اعتياد الشرط و إنما سقط في الأقل التابع
و كلام أحمد يحتمل وجهين فإن أبا داود قال قلت لأحمد بيع الجزر في الأرض قال لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه فعلل بعدم الرؤية
(1/123)
فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر
وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب وذلك أن الله سبحانه و تعالى قال فانكحوا ما طاب لكم من النساء و قال و أنكحوا الأيامى منكم و قال و أحل الله البيع وقال فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقال إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقال فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وقال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها و أشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم و اتقوا الله و يعلمكم الله و الله بكل شيء عليم و إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة و قال من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا وقال مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل وقال يمحق الله الربا و يربي الصدقات وقال إن المصدقين و المصدقات و أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لهم و قال فتحرير رقبة وقال فطلقوهن لعدتهن وقال فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف إلى غير ذلك من الآيات المشروع فيها هذه العقود إما أمرا و إما إباحة و المنهي فيها عن بعضها كالربا فإن الدلالة فيها من وجوه
أحدها أنه اكتفى بالتراضي في البيع في قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم و بطيب نفس في التبرع في قوله فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه الآية في
(1/110)
فصل
و أما القدر المشروع للإمام فهي صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما في صحيح البخاري عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم و ليؤمكم أكبركم ثم صلوا كما رأيتموني أصلي
و أما القيام ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الفجر بق و القرآن المجيد و نحوها و كانت صلاته بعد إلى تخفيف أي يجعل صلاته بعد الفجر خفيفة كما في صحيح مسلم أيضا عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك و في الصبح أطول من ذلك وفي الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى لحين تدحض الشمس و يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة و الشمس حية قال الراوي و نسيت ما قال في المغرب و كان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة و كان يكره النوم قبلها و الحديث بعدها و كان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ فيها بالستين إلى المئة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الظهر و العصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأولتين من الظهر قدر ثلاثين أية قدر آلم السجدة و حزرنا قيامه في الأولتين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر و حزرنا قيامه في الآخرتين من العصر على النصف من ذلك رواه مسلم و أبو داود و النسائي و في الصحيحين و غيرهما عن جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد بن أبي وقاص لقد شكاك الناس في كل شيء حتى في الصلاة قال أما أنا فأمد في الأوليين و أحذف الأخريين و لا آلو
(1/56)
واختلف أصحابهما في الثواب هل هو ثواب يوم كامل أو من حين نواه والمنصوص عن أحمد أن الثواب من حين النية
وكذلك اختلفوا في التعيين وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
أحدها أنه لا بد من نية رمضان فلا تجزئ نية مطلقة ولا معينة لغير رمضان وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين اختارها كثير من الصحابة
والثاني انه يجزئ بنية مطلقة ومعنية لغيره كمذهب أبي حنيفة ورواية محكية عن أحمد
والثالث انه يجزئ بالنية المطلقة دون نية التطوع أو القضاء أو النذر وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه
فصل
واختلفوا في صوم يوم الغيم وهو ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان فقال قوم يجب صومه بنية من رمضان احتياطا وهذه الرواية عن أحمد وهى التي اختارها أكثر متأخرى أصحابه وحكوها عن أكثر متقدميهم بناء على ما تأولوه من الحديث وبناء على أن الغالب على شعبان هو النقص فيكون الأظهر طلوع الهلال كما هو الغالب فيجب بغالب الظن
وقالت طائفة لا يجوز صومه من رمضان وهذه رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه كابن عقيل والحلواني وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي استدلالا بما جاء من الأحاديث وبناء على أن الوجوب لا يثبت بالشك
وهناك قول ثالث وهو أنه يجوز صومه من رمضان ويجوز فطره والأفضل صومه من وقت الفجر ومعلوم أنه لو عرف وقت الفجر الذي يجوز طلوعه جاز له الإمساك والأكل وإن أمسك وقت الفجر فإنه لا معنى لاستحباب
(1/92)
وصلوا كما ذكر الله الطواف والصلاة ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات أو بالموقف بعرفات أو جعل الفجر أربعا قياسا على الظهر والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب سنة بخلاف ما كان تركه بعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن في المصحف وجمع الناس التراويح على إمام واحدا وتعلم العربية وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به وإنما تركه صلى الله عليه و سلم لفوات شرطه أو وجود مانع
فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعا لفعله أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة ويمتنع القياس بمثله وإنجاز القياس في النوع الأول وهو مثل قياس صلاة العيدين والإستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس في أن يجعل لها أذان وإقامة كما فعله بعض المروانية في العيدين وقياس حجرته ونحوها من مقابر الأنبياء على بيت الله في الإستلام والتقبيل ونحو ذلك من الأقيسة التي تشبه قياس الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا
و أخذ فقهاء الحديث كالشافعي و أحمد و غيرهما مع فقهاء الكوفة ما عليه جمهور الصحابة و السلف بتلبية رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه قد ثبت عنه أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة
و ذهب طائفة من السلف من الصحابة و التابعين و أهل المدينة كمالك إلى أن التلبية تنقطع بالوصول إلى الموقف بعرفة لأنها إجابة فتنقطع بالوصول إلى المقصد و سنة رسول الله عليه وسلم هي التي يجب إتباعها
و أما المعنى فإن الواصل إلى عرفة و إن كان قد وصل إلى هذا الموقف فإنه قد دعي بعده إلى موقف آخر وهو مزدلفة فإذا قضى الوقوف بمزدلفة
(1/102)
فقد دعي إلى الجمرة فإذا شرع في الرمي فقد انقضى دعاؤه ولم يبق مكان يدعى إليه محرما لأن الحلق و الذبح يفعله حيث أحب من الحرم وطواف الإفاضة يكون بعد التحلل الأول
ولهذا قالوا أيضا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم إنه يلبي بالعمرة إلى أن يستلم الحجر و إن كان ابن عمر ومن اتبعه من أهل المدينة كمالك قالوا يلبي إلى أن يصل إلى الحرم فإنه و إن وصل إليه فإنه مدعو إلى البيت
نعم يستفاد من هذا المعنى أنه إنما يلبي حال سيره لا حال الوقوف بعرفة و مزدلفة و حال المبيت بها و هذا مما اختلف فيه أهل الحديث
فأما التلبية حال السير من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى فاتفق من جمع الأحاديث الصحيحة عليه
و اختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد الذي صاده الحلال و ذكاه على ثلاثة أقوال
فقالت طائفة من السلف هو حرام إتباعا لما فهموه من قوله تعالى و حرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما و لما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم من أنه رد لحم الصيد لما أهدى إليه
و قال آخرون منهم أبو حنيفة بل هو مباح مطلقا عملا بحديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي و أهدى لحمه للنبي صلى الله عليه و سلم و أخبره بأنه لم يصده له كما جاء في الأحاديث الصحيحة
و قالت الطائفة الثالثة التي فيها فقهاء الحديث بل هو مباح للمحرم إذا لم يصده له المحرم و لا ذبحه من أجله توفيقا بين الأحاديث كما روى جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لحم صيد البر لكم حلال و أنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم قال الشافعي هذا أحسن حديث في هذا الباب و أقيس و هذا مذهب مالك و أحمد و الشافعي و غيرهم
(1/103)
و إنما اختلفوا إذا صيد لمحرم بعينه فهل يباح لغيره من المحرمين على قولين هما وجهان في مذهب أحمد رحمه الله تعالى
فصل
و أما العقود من المعاملات المالية و النكاحية و غيرهم
فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة فإن ذلك فيها أيسر منه في العبادات
فمن ذلك صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال
أحدها أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ و العبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب و القبول سواء في ذلك البيع و الإجارة و الهبة و النكاح و الوقف و العتق و غير ذلك وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع و الوقف و يكون تارة رواية مخرجة كالهبة و الإجارة
ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها كما في الأخرس و يقيمون الكناية أيضا مقام العبارة عند الحاجة و قد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها كما في الهدي إذا عطب دون محله فإنه ينحر ثم يصبغ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس ومن أخذه ملكه و كذلك الهدية و نحو ذلك لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا و المعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة و نحوها تحتمل وجوها كثيرة و لأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر و الدعاء في العبادات
و القول الثاني أنها تصح بالأفعال فما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات
(1/104)
المحقرات و كالوقف في مثل من بنى مسجدا و أذن للناس في الصلاة فيه أو سبل أرضا الدفن فيها أو بنى مطهرة و سبلها للناس و كبعض أنواع الإجارة كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة أو ركب سفينة ملاح و كالهدية و نحو ذلك فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أكثر أمور الناس و لأن الناس من لدن النبي صلى الله عليه و سلم و إلى يومنا هذا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود
وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد و وجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف
و القول الثالث أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل و بكل ما عده الناس بيعا أو إجارة فإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال وليس لذلك حد مستقر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تنوعت لغاتهم فإن ألفاظ البيع و الإجارة في لغة العرب ليست هي الألفاظ التي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة بل قد تختلف ألفاظ اللغة الواحدة
ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم و إن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك و ظاهر مذهب أحمد و لهذا يصحح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا و إن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر بأن يقول خذ هذا بدراهم فيأخذه أو يقول أعطني خبزا بدراهم فيعطيه ما يقبضه أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن و يقبض جزرة البقل أو الحلواء أو غير ذلك
(1/105)
و الميسر فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة و سور آل عمران و الروم و المدثر و ذم اليهود عليه في سورة النساء و ذكر تحريم الميسر في المائدة
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم فصل ما جمعه الله في كتابه فنهى صلى الله عليه و سلم عن بيع الغرر كما رواه مسلم و غيره عن أبي هريرة رضي الله عنه و الغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار و ذلك أن العبد إذا أبق أو الفرس أو البعير إذا شرد فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع قمرتني و أخذت مالي بثمن قليل و إن لم يحصل قال المشتري قمرتني و أخذت الثمن مني بلا عوض فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة و البغضاء مع ما فيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من الظلم ففي بيع الغرر ظلم و عداوة و بغضاء
و ما نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم من بيع حبل الحبلة و الملاقيح و المضامين و من بيع السنين و بيع الثمر قبل بدو صلاحه و بيع الملامسة و المنابذة و نحو ذلك كله من نوع الغرر و أما الربا فتحريمه في القرآن أشد و لهذا قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فائذنوا بحرب من الله و رسوله و ذكره النبي صلى الله عليه و سلم في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه و ذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم و صدهم عن سبيل الله و أخذهم الربا و أكلهم أموال الناس بالباطل و أخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات و كلاهما أمر مجرب عند الناس
و ذلك أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج و إلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة
(1/116)
جنس التبرعات ولم يشترط لفظا معينا ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم و أفعالهم أنهم يعلمون التراضي و طيب النفس بطرق متعددة من الأقوال و الأفعال
فنقول قد وجد التراضي و طيب النفس و العلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وهو ظاهر في بعضها و إذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن و بعض الناس قد يحمله اللد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها ولهذا قلنا إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب لأن الفطرة السليمة لا تتفق على الكذب فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب
الوجه الثاني أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية وكل اسم فلا بد له من حد فمنه ما يعلم حده باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والسماء والأرض ومنه ما يعلم بالشرع كالمؤمن والكافر والمنافق وكالصلاة والزكاة والصيام والحج وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله صلى الله عليه و سلم من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه
ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا نقل عن أحد من الصحابة و التابعين أنه عين للعقود صفة معينة الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة بل قد قيل إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم و أنه من البدع و ليس لذلك حد في لغة العرب بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا يسمون هذا بيعا حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر
(1/111)
الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر أو مدبرا كالتجار الذين في الحوانيت سواء كانت التجارة بزا من جديد أو لبس أو طعاما من قوت أو فاكهه أو أدم أو غير ذلك أو كانت آنية كالفخار ونحوه أو حيوانا من رقيق أو خيلا أو بغالا أو حميرا أو غنما معلوفة أو غير ذلك فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة كما أن الحيوانات الماشية هى أغلب الأموال الظاهرة
فصل
ولا بد في الزكاة من الملك
واختلفوا في اليد فلهم في زكاة ما ليس في اليد كالدين ثلاثة أقوال
أحدها أنها تجب في كل دين وكل عين وإن لم تكن تحت يد صاحبها كالمنصوب والضال والدين المجحود وعلى معسر أو مماطل وانه يجب تعجيل الإخراج مما يمكن قبضه كالدين على الموسر وهذا أحد قولى الشافعي وهو أقواهما
فصل
والناس في إخراج القيم في الزكاة ثلاثة أقوال
أحدها أنه يجزئ بكل حال كما قاله أبو حنيفة
والثاني لا يجزئ بحال كما قاله الشافعي
والثالث أنه لا يجزئ إلا عند الحاجة مثل من يجب عليه شاة في الإبل وليست عنده ومثل من يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس
وهذا هو المنصوص عن أحمد صريحا فإنه منع من إخراج القيم وجوزه في مواضع للحاجة لكن من أصحابه من نقل عنه جوازه فجعلوا عنه في إخراج القيمة روايتين واختاروا المنع لأنه المشهور عنه كقول الشافعي وهذا القول
(1/90)
فقد يقال إن لم يره كله لم يبع وقد يقال رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد
وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها كما هو العادة غلبا فقال قوم من المتأخرين يجوز ذلك لأن بيع أصول الخضراوات كبيع الشجر وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز فذلك هذا وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
وقال المتقدمون لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه وهو إنما نهى عما يعتاده الناس وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحرث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يحز وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه فإن كانت الأرض هى المقصود جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا وإن كان المقصود هو الثمر والزرع فاشترى الأرض لذلك لم يجز وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ إنما هو الخضراوات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر
وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين
أحدهما جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره ولا شك انه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا لا يصح بيع ما لم يره فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب
والثاني أنه يجوز بيعها مطلقا كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين
أحدهما أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها
(1/124)
ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه والمرجع في كل شئ إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأوكد
الثاني أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه وإن قلعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر
وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب أو البائع الى أكل الثمر فحاجة البائع هنا أو سحد بكثير وستقرر ذلك إن شاء الله
وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخله أو شجره أن يباع جميع ثمرها وإن كان فيها ما لم يصلح بعد
وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد لأن البسرة تصفر في يومها وهذا بعينه موجود في المقتاة
وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود وإنما يكون ذلك للمشتري لأنه موجود في ملكه
والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر لأنه يجب على البائع سقى الثمرة ويستحق إبقائها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد لا ما كان من موجبات الملك
(1/125)
وأيضا فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها على روايتين
أشهرهما عنه أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه وهى اختيار قدماء أصحابه كأبي بكر وابن شاقلا
والرواية الثانية يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي ومن تبعها
ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال إذا كان في بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير كأبي الخطاب وجماعات وهو قول مالك والشافعي والليث وزاد مالك فقال يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة وحكوا ذلك رواية عن أحمد
واختلف هؤلاء هل يكون صلاح النوع كالبرني من الرطب صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد
أحدهما المنع وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد
والثاني الجواز وهو قول أبي الخطاب
وزاد الليث على هؤلاء فقال صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار
ومأخذ من جوز شيئا من ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين ومن سوى بينهما فإنه قال المقصود الأمن من العاهة وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح
ومأخذ من منع ذلك أن قول النبي صلى الله عليه و سلم حتى يبدو صلاحها يقتضي بدو صلاح الجميع
(1/126)
بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا و الأصل بقاء اللغة و تقريرها لا نقلها و تغييرها فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس و عاداتهم فما سموه بيعا فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة
الوجه الثالث أن تصرفات العباد من الأقوال و الأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم و عادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع
و أما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه و الأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى و ذلك لأن الأمر و النهي هما شرع الله و العبادة لا بد أن يكون مأمور ا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور و لهذا كان أحمد و غيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله و إلا دخلنا في معنى قوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله
و العادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه و إلا دخلنا في معنى قوله أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا و لهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله و حرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى و جعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم و ليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم و ما يفترون وقالوا هذا أنعام و حرث حجر لا يطعمها إلا من
(1/112)
نشاء بزعمهم و أنعام حرمت ظهورها و أنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال قال الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين و حرمت عليهم ما أحللت لهم و أمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
وهذه قاعدة عظيمة نافعة و إذا كان كذلك فنقول
البيع و الهبة و الإجارة و غيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل و الشرب و اللباس فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد و أوجبت ما لا بد منه و كرهت ما لا ينبغي و استحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات و مقاديرها و صفاتها
و إذا كان كذلك فالناس يتبايعون و يستأجرون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة كما يأكلون و يشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة و إن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها وما لم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي
و أما السنة و الإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم و الصحابة من أنواع المبايعات و المؤاجرات و التبرعات علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين و الآثار في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها إذ الغرض التنبيه على القواعد و إلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا
فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بنى مسجده و المسلمون بنوا المساجد على عهده و بعد موته ولم يأمر أحدا أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ بل قال النبي صلى الله عليه و سلم من بنى لله مسجدا بنى الله
(1/113)
له بيتا في الجنة فعلق الحكم بنفس بنائه وفي الصحيحين أنه لما اشترى الجمل من عبد الله بن عمر بن الخطاب قال هو لك يا عبد الله ابن عمر و لم يصدر من ابن عمر قبول وكان يهدي ويهدي له فيكون قبض الهدية قبولها ولما نحر البدنات قال من شاء اقتطع مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا و كان الاقتطاع هو القبول وكان يسأل فيعطي أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطى و يكون الإعطاء هو الإيجاب و الأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ ولا يلتزم أن يتلفظ لهم بصيغة كما في إعطائه للمؤلفة قلوبهم و للعباس و غيرهم
وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات
وأيضا فإن التصرفات جنسان عقود وقبوض كما جمعها النبي صلى الله عليه و سلم في قوله رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى ويقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض وجوازه بمنزلة إيجاب الشارع ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات
والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد وتتعلق به أحكام شرعية كما تتعلق بالقبض فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحول والأوقات فكذلك العقود وإن حررت عبارته قلت أحد نوعى التصرفات فكان المرجوع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر
ومما يلتحق بهذا أن الإذن العرفي في الإباحة أو التمليك أو التصرف
(1/114)
كما يتعامل به غالب الناس أو يضع المتاع له ليوضع بدله فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه كما يحكيه التجار عن عادة بعض أهل المشرق فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع و كذلك في الهبة كل ما عده الناس هبة
ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية و كذلك الإجارات مثل ركوب سفينة الملاح المكاري و ركوب دابة الجمال أو الحمار أو البغال المكاري على الوجه الذي اعتقد أنه إجارة و مثل الدخول إلى الحمامات التي يدخلها الناس بالأجر و مثل دفع الثوب إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواء يطبخ أو يشوي بالأجر سواء شوي اللحم مشروحا أو غير مشروح حتى اختلف أصحابه في الخلع هل يقع بالمعاطاة مثل أن تقول اخلعني بهذه الألف أو بهذا الثوب فيقبض العوض على الوجه المعتاد من أن ذلك رضا منه بالمعاوضة
فذهب العكبريون كأبي حفص العكبري و أبي على بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح و ذكروا من كلام أحمد ومن قبله من السلف من الصحابة و التابعين ما يوافق قولهم و لعله هو الغالب على نصوصه بل لقد نص على أن الطلاق يقع بالقول و بالفعل و احتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي صلى الله عليه و سلم إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به قال و إذا كتب فقد عمل
و ذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت كأبي عبد الله بن حامد ومن اتبعهم كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام و ذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح و النكاح يفتقر إلى لفظ فكذلك فسخه
و أما النكاح فقال هؤلاء كابن حامد و القاضي و أصحابه مثل أبي الخطاب
(1/106)
بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل
و كذلك نهي عن الصلاة في أعطان الإبل و قال إنها جن خلقت من جن كما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة و الحمام وقد روي عنه أن الحمام بيت الشيطان وثبت عنه أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال إنه مكان حضرنا فيه الشيطان
فعلل صلى الله عليه و سلم الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة و بهذا يقول أحمد و غيره من فقهاء الحديث و مذهبه الظاهر عنه أن ما كان مأوى للشياطين كالمعاطن و الحمامات حرمت الصلاة فيه و ما عرض الشيطان فيه كالمكان الذي ناموا فيه عن الصلاة كرهت فيه الصلاة
و الفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم أو سمعوها و لم يعرفوا العلة فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه
و أما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل و أنهم لم يكونوا يتوضئون من لحوم الإبل فقد غلط عليهم و إنما توهم ذلك لما نقل عنهم أنهم لم يكونوا يتوضئون مما مست النار و إنما المراد أن أكل ما مس النار ليس هو سببا عندهم لوجوب الوضوء و الذي أمر به النبي صلى الله عليه و سلم من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار كما يقال كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر و إن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي
و من تمام هذا أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم في صحيح مسلم و غيره
(1/9)
فيه جميع سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستحسن أذان بلال وإقامته وأذان أبي محذورة وإقامته وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم علم أبا محذورة الأذان مرجعا وفي صحيح مسلم الإقامة مشفوعة وثبت في الصحيحين أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة وفي السنن أنه لم يكن يرجع
فرجح أحمد أذان بلال لأنه الذي كان يفعل بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم دائما قبل أذان أبي محذورة وبعده إلى أن مات واستحسن أذان أبي محذورة ولم يكرهه وهذا أصل مستمر له في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها يستحسن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير كراهة لشئ منه مع علمه بذلك واختياره للبعض أو تسويته بين الجميع كما جوز القراءة بكل قراءة ثابتة وإن كان قد اختار بعض القراءة مثل أنواع الأذان والإقامة وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم كتشهد ابن مسعود وأبي موسى وابن عباس وغيرهم وأحبها إليه تشهد ابن مسعود لأسباب متعددة
منها كونه أصحها وأشهرها
ومنها كونه محفوظ الألفاظ لم يختلف في حرف منه
ومنها كون غالبها يوافق ألفاظه فيقتضي أنه هو الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر به غالبا
وكذلك أنواع الاستفتاح والإستعاذة المأثورة وإن اختار بعضها
وكذلك مواضع رفع اليدين في الصلاة ومحل وضعهما بعد الرفع وصفات التحميد المشروع بعد التسميع
ومنها صفات الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم وإن اختار بعضها
ومنها أنواع صلاة الخوف يجوز كل ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم من غير كراهة
(1/19)
ومنها أنواع تكبيرات العيدين يجوز كل مأثور وإن استحب بعضه
ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع وإن اختار التربيع
وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك ويكرهون بعضه فمنهم من يكره الترجيع في الأذان كأبي حنيفة ومنهم من يكره تركه كالشافعي ومنهم من يكره شفع الإقامة كالشافعي ومنهم من يكره إفرادها حتى صار الأمر بأتباعهم إلى نوع جاهلية فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بلالا بإفراد الإقامة وأمر أبا محذورة بشفعها وإنما الضلالة حق الضلالة أن ينهي أحد عما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم
فصل
فأما صفة الصلاة فمن شعائرها مسألة البسملة
فإن الناس اضطربوا فيها نفيا وإثباتا في كونها آية من القرآن وفي قراءتها وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوع من جهل وظلم مع أن الخطب فيها يسير وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها فمن عائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفرقة بين الأمة وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدا لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة
فأما كونها آية من القرآن فقالت طائفة كمالك ليست من القرآن إلا في سورة النمل والتزموا أن الصحابة أودعت المصحف ما ليس من كلام الله على سبيل التبرك
وحكى طائفة من أصحاب أحمد هذا رواية عنه وربما اعتقد بعضهم أنه مذهبه
(1/20)
وقالت طائفة منهم الشافعي ما كتبوها في المصحف بقلم المصحف مع تجريدهم للمصحف عما ليس من القرآن إلا وهي من السورة مع أدلة أخرى
وتوسط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة فقالوا كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة بل تكون أية مفردة أنزلت في أول كل سورة كما كتبها الصحابة سطرا مفصولا كما قال ابن عباس كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم
فعند هؤلاء هي آية من كتاب الله في أول كل سورة كتبت في أولها وليست من السورة وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره وهو أوسط الأقوال وأعدلها
وكذلك الأمر في تلاوتها في الصلاة طائفة لا تقرؤها لا سرا ولا جهرا كمالك والأوزاعي وطائفة تقرؤها جهرا كأصحاب ابن جريج والشافعي والطائفة الثالثة المتوسطة جماهير فقهاء الحديث مع فقهاء أهل الرأي يقرءونها سرا كما نقل عن جماهير الصحابة مع أن أحمد يستعمل ما روى عن الصحابة في هذا الباب فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة حتى إنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها قال بعض أصحابه لأنهم كانوا ينكرون على من يجهر بها ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف هذه القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه و سلم تغيير بناء البيت لما رأى في إبقائه من تأليف القلوب وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال الخلاف شر
وهذا وإن كان وجها حسنا فمقصود أحمد أن أهل المدينة كانوا لا يقرءونها فيجهر بها ليبين أن قراءتها سنة كما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على
(1/21)
الجنازة وقال لتعلموا أنها سنة وكما جهر عمر بالاستفتاح غير مرة وكما كان النبي صلى الله عليه و سلم يجهر بالآية أحيانا في صلاة الظهر والعصر ولهذا نقل عن أكثر من روى عنه الجهر بها من الصحابة المخافتة فكأنهم جهروا لإظهار أنهم يقرءونها كما جهر بعضهم بالإستعاذة أيضا
والإعتدال في كل شئ استعمال الآثار على وجهها فإن كون النبي صلى الله عليه و سلم كان يجهر بها دائما وأكثر الصحابة لم ينقلوا ذلك ولم يفعلوه ممتنع قطعا وقد ثبت عن غير واحد منهم نفيه عن النبي صلى الله عليه و سلم ولم يعارض ذلك خبر ثابت إلا وهو محتمل وكون الجهر بها لا يشرع بحال مع أنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة نسبة للصحابة إلى فعل المكروه وإقراره مع أن الجهر في صلاة المخافتة يشرع لعارض كما تقدم وكراهة قراءتهم مع ما في قراءتها من الآثار الثابتة عن الصحابة المرفوع بعضها الى النبي صلى الله عليه و سلم وكون الصحابة كتبوها في المصحف وأنها كانت تنزل مع السورة فيه ما فيه مع أنها إذا قرئت في أول كتاب سليمان فقراءتها في أول كتاب الله في غاية المناسبة
فمتابعة الآثار فيها الإعتدال والائتلاف والتوسط الذي هو أفضل الأمور
ثم مقدار الصلاة يختار فيه فقهاء الحديث صلاة النبي صلى الله عليه و سلم التي كان يفعلها غالبا وهي الصلاة المعتدلة المتقاربة التي يخفف فيها القيام والقعود ويطيل فيها الركوع والسجود ويسوي بين الركوع والسجود وبين الإعتدال منهما كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم مع كون قراءته في الفجر بما بين الستين إلى المائة آية وفي الظهر بنحو الثلاثين آية وفي العصر والعشاء على النصف من ذلك مع أنه قد كان يخفف عن هذه الصلاة لعارض كما قال صلى الله عليه و سلم إني لأدخل في الصلاة وإني أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي
(1/22)
فأخفف لما أعلم من وجد أمه به كما أنه قد يطيلها عن ذلك لعارض كما قرأ صلى الله عليه و سلم في المغرب بطولى الطوليين وهى الأعراف
ويستحب إطالة الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية ويستحب أن يمد في الأوليين ويحذف في الأخريين كما رواه سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم وعامة فقهاء الحديث على هذا
ومن الفقهاء من لا يستحب أن يطيل الاعتدال من الركوع والسجود ومنهم من يراه ركنا خفيفا بناء على أنه يشرع تابعا لأجل الفصل لا أنه مقصود
ومنهم من يسوى بين الركعتين الأوليين
ومنهم من يستحب ألا يزيد الإمام في تسبيح الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات إلى أقوال أخر قالوها
فصل
في بيان ما أمر الله به ورسوله من إقامة الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها
قال الله تعالى في غير موضع من كتابه أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وقال تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين وقال تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم
(1/23)
أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون وقال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وقالت تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا وقال تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقال تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين وسيأتي ببيان الدلالة في هذه الآيات
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين وأخرج أصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأصحاب المسانيد كمسند احمد وغير ذلك من أصول الإسلام عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل المسجد فدخل رجل ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فرد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم سلم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وعليك السلام ثم قال ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وفي رواية للبخاري إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوى قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها
(1/24)
و أن المصلي الذي ليس بدائم مذموم و هذا يوجب ذم من لا يديم أفعاله المتصلة و المنفصلة و إذا وجب دوام أفعالها فذلك هو نفس الطمأنينة فإنه يدل على وجوب إدامة الركوع و السجود و غيرهما و لو كان المجزئ أقل مما ذكر من الخفض وهو نقر الغراب لم يكن ذلك دواما و لم يجب الدوام على الركوع و السجود وهما أصل أفعال الصلاة
فعلم أنه كما تجب الصلاة يجب الدوام عليها المتضمن للطمأنينة و السكينة في أفعالها
و أيضا فقد قال الله تعالى 2 : 45 و استعينوا بالصبر و الصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين
و هذا يقتضي ذم غير الخاشعين كقوله تعالى 20 : 143 و ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه و إن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله و قوله تعالى 13 : 42 كبر على المشركين ما تدعوهم إليه
فقد دل كتاب الله عز و جل على من كبر عليه ما يحبه الله و أنه مذموم بذلك في الدين مسخوط منه ذلك و الذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرم و إذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع
فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين لا بد أن يتضمن الخشوع في الصلاة فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى إذ لو قيل إن الصلاة لكبيرة إلا على من خشع خارجها و لم يخشع فيها كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها و تكبر على من خشع فيها و قد انتفى مدلول الآية فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة
و يدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى 11 - 1 : 23 قد أفلح
(1/42)
الصلاة فاطمئن و افترش فخذك اليسرى ثم تشهد ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك وفي رواية أخرى قال فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأتم ثم كبر فإن كان معك قرآن فاقرأ به و إلا فاحمد الله عز و جل و كبره و هلله و قال فيه و إن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك
فالنبي صلى الله عليه و سلم أمر ذلك المسيء في صلاته بأن يعيد الصلاة و أمر الله و رسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب و أمره إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع و السجود و أمره المطلق على الإيجاب
و أيضا قال له فإنك لم تصل فنفى أن يكون عمله الأول صلاة و العمل لا يكون منفيا إلا إذا انتفى شيء من واجباته فأما إذا فعل كما أوجبه الله عز و جل فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من المستحبات التي ليست بواجبة
و أما ما يقوله بعض الناس إن هذا نفي للكمال كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فيقال له نعم هو لنفي الكمال لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات
فأما الأول فحق و أما الثاني فباطل لا يوجد مثل ذلك في كلام الله عز و جل و لا في كلام رسوله قط و ليس بحق فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه
و أيضا فلو جاز لجاز نفي صلاة عامة الأولين و الآخرين لأن كمال المستحبات من أندر الأمور
و على هذا فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب و السنة فإنما هو لانتفاء
(1/26)
و صلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الصبح و عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان من أخف الناس صلاة في تمام
فقول أنس رضي الله عنه ما صليت وراء إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول الله يريد أنه صلى الله عليه و سلم كان أخف الأئمة صلاة و أتم الأئمة صلاة و هذا لاعتدال صلاته و تناسبها كما في اللفظ الآخر و كانت صلاته معتدلة و في اللفظ الآخر كانت صلاته متقاربة لتخفيف قيامها و قعودها و تكون أتم صلاة لإطالة ركوعها و سجودها و لو أراد أن يكون نفس الفعل الواحد كالقيام هو أخف وهو أتم لناقض ذلك و لهذا بين التخفيف الذي كان يفعله إذا بكى الصبي وهو قراءة سورة قصيرة و بين أن عمر بن الخطاب مد في صلاة الصبح و إنما مد في القراءة فإن عمر رضي الله عنه كان يقرأ في الفجر بسورة يونس و سورة هود و سورة يوسف
و الذي يبين ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه و سلم في تمام و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قال سمع الله لمن حمد قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر و يسجد و كان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم كما أخرجا في الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي و للبخاري من حديث شعبة عن ثابت قال قال أنس رضي الله عنه ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع حتى يقول القائل قد نسي
فهذه أحاديث أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم التي
(1/59)
قال هل تسمع النداء قال نعم قال ما أجد لك رخصة
لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه و يثاب على ما فعله من الصلاة أم يقال إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها
هذا فيه نزاع بين العلماء
و على هذا قوله صلى الله عليه و سلم إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك و ما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك
فقد بين أن الكمال الذي نفي هو هذا التمام الذي ذكره النبي صلى الله عليه و سلم فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها و كذلك قوله في الحديث الآخر فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته
و يؤيد هذا أنه أمره بأن يعيد الصلاة و لو كان المتروك مستحبا لم يأمره بالإعادة و لهذا يؤمر مثل هذا المسيء بالإعادة كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم هذا لكن لو لم يعد و فعلها ناقصة فهل يقال إن وجودها كعدمها بحيث يعاقب على تركها أو يقال إنه يثاب على ما فعله و يعاقب على ما تركه بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع هذا فيه نزاع و الثاني أظهر لما روى أبو داود و ابن ماجة عن أنس بن حكيم الضبي قال خاف رجل من زياد أو ابن زياد فأتى المدينة فلقي أبا هريرة رضي الله عنه قال فنسبني فانتسبت له فقال يا فتى ألا أحدثك حديثا قال قلت بلى يرحمك الله قال يونس فأحسبه ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال يقول ربنا عز و جل لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة و إن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموها من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم و في لفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله
(1/28)
صلى الله عليه و سلم إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح و أنجح و إن فسدت فقد خاب و خسر فإن انتقص من فريضته شيئا قال الرب انظروا هل لعبدي من تطوع فكمل به ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر أعماله على هذا رواه الترمذي و قال حديث حسن
و روى أيضا أبو داود و ابن ماجة عن تميم الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم بهذا المعنى قال ثم الزكاة مثل ذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك
و أيضا فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع و السجود رواه أهل السنن الأربعة و قال الترمذي حديث حسن صحيح
فهذا صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع و ينتصب من السجود فهذا يدل على إيجاب الاعتدال في الركوع و السجود
و هذه المسألة و إن لم تكن هي مسألة الطمأنينة فهي تناسبها و تلازمها
و ذلك أن هذا الحديث نص صريح في وجوب الاعتدال فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع و السجود فالطمأنينة فيهما أوجب
و ذلك أن قوله يقيم ظهره في الركوع و السجود أي عند رفعه رأسه منهما فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع و السجود لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحني إلى أن يعود فيعتدل و يكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل فالخفض و الرفع هما طرفا الركوع و السجود و تمامهما فلهذا قال يقيم صلبه في الركوع و السجود
و يبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع و السجود و هذا كقوله في الحديث المتقدم ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه حتى تطمئن
(1/29)
مفاصله و تسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته و يقيم صلبه فأخبر أن إقامة الصلب في الرفع من السجود لا في حال الخفض
و الحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ووجوب الطمأنينة لكن قال في الركوع و السجود و القعود حتى تطمئن راكعا و حتى تطمئن ساجدا و حتى تطمئن جالسا و قال في الرفع من الركوع حتى تعتدل قائما و حتى تستوي قائما لأن القائم يعتدل و يستوي و ذلك مستلزم الطمأنينة
و أما الراكع و الساجد فليسا منتصبين و ذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال و الاستواء فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك و إما إلى أمامه لأن أعضاءه التي يجلس عليها منحنية غير مستوية و معتدلة مع أنه قد روى ابن ماجة أنه صلى الله عليه و سلم قال في الرفع من الركوع حتى تطمئن قائما
و عن علي بن شيبان الحنفي قال خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فبايعناه و صلينا خلفه فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته يعني صلبه في الركوع و السجود فلما قضى النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة قال يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع و السجود رواه الإمام أحمد و ابن ماجة وفي رواية للإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه و سجوده
و هذا يبين أن إقامة الصلب هي الاعتدال في الركوع كما بيناه و إن كان طائفة من العلماء من أصحابنا و غيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة و احتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده لا على الاعتدالين و على ما ذكرناه فإنه يدل عليهما
و روى الإمام أحمد في المسند عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا
(1/30)
يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها و لا سجودها أو قال لا يقيم صلبه في الركوع و السجود وهذا التردد في اللفظ ظاهره أن المعنى المقصود من اللفظين واحد و إنما شك في اللفظ كما في نظائر ذلك
و أيضا فعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن نقرة الغراب و افتراش السبع و أن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير أخرجه أبو داود و النسائي و ابن ماجة
و إنما جمع بين الأفعال الثلاثة و إن كانت مختلفة الأجناس لأنه يجمعها مشابهة البهائم في الصلاة فنهى عن مشابهة فعل الغراب و عما يشبه فعل السبع و عما يشبه فعل البعير و إن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين لما فيه من أحاديث أخر و في الصحيحين عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اعتدلوا في الركوع و السجود ولا يبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب لا سيما وقد بين في حديث آخر أنه من صلاة المنافقين و الله تعالى أخبر في كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين
فروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال تلك صلاة المنافق يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة و يضيع فعلها و ينقرها فدل ذلك على ذم هذا و هذا و إن كان كلاهما تاركا للواجب
و ذلك حجة واضحة في أن نقر الصلاة غير جائز و أنه من فعل من فيه نفاق و النفاق كله حرام و هذا الحديث حجة مستقلة بنفسها وهو مفسر لحديث قبله و قال الله تعالى إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم و إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس و لا يذكرون الله إلا قليلا و هذا وعيد شديد لمن ينقر في صلاته فلا يتم ركوعه و سجوده بالاعتدال و الطمأنينة
(1/31)
و المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه و سلم من أحسن الأمثال فإن الصلاة قوت القلوب كما أن الغذاء قوت الجسد فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل فالقلب لا يقتات بالنقر في الصلاة بل لا بد من صلاة تامة تقيت القلوب
و أما ما يرويه طوائف من العامة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا ينقر في صلاته فنهاه عن ذلك فقال لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار فسكت عنه عمر فهذا لا أصل له و لم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغني لا في الصحيح و لا في الضعيف و الكذب ظاهر عليه فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك وهم في الدرك الأسفل من النار
و أيضا فعن أبي عبد الله الأشعري الشامي قال صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع و ينقر في سجوده و رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر إليه فقال ترون هذا لو مات مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرمة إنما مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه و ينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين لا تغنيان عنه شيئا فأسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار و أتموا الركوع و السجود قال أبو صالح فقلت لأبي عبد الله الأشعري من حدثك بهذا الحديث قال أمراء الأجناد خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و شرحبيل بن حسنة و يزيد بن أبي سفيان كل هؤلاء يقولون سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بكماله و روى ابن ماجة بعضه
و أيضا ففي صحيح البخاري عن أبي وائل عن زيد بن وهب أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه و لا سجوده فلما قضى صلاته دعاه و قال له حذيفة ما صليت و لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله
(1/32)
الإمساك لكن وأكثر نصوص أحمد تدل على هذا القول وأنه كان يستحب صومه ويفعله لا أنه يوجبه وإنما أخذ في ذلك بما نقله عن الصحابة في مسائل ابنه عبد الله والفضل بن زياد القطان وغيرهم أخذ بما نقله عن عبد الله بن عمر ونحوه والمنقول عنهم أنهم كانوا يصومون في حال الغيم لا يوجبون الصوم وكان غالب الناس لا يصومون ولم ينكروا عليهم الترك
وإنما لم يستحب الصوم في الصحو بل نهى عنه لأن الأصل والظاهر عدم الهلال فصومه تقديم لرمضان بيوم وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك
واختلف الرواية عنه هل يسمى يوم الغيم يوم شك على روايتين وكذلك اختلف أصحابه في ذلك
وأما يوم الصحو عنده فيوم شك أو يقين من شعبان ينهى عن صومه بلا توقف وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره فإن المشكوك في وجوبه كما لو شك في وجوب زكاة أو كفارة أو صلاة أو غير ذلك لا يجب فعله ولا يستحب تركه بل يستحب فعله احتياطا فلم تحرم أصول الشريعة الاحتياط ولم توجب بمجرد الشك
وأيضا فإن أول الشهر كأول النهار ولو شك في طلوع النهار لم يجب عليه الإمساك ولم يحرم عليه الإمساك بقصد الصوم ولأن الإغمام أول الشهر كالإغمام بالشك بل ينهى عن صوم يوم الشك لما يخاف من الزيادة في الفرض
وعلى هذا القول يجتمع غالب المأثور عن الصحابة في هذا الباب فإن الجماعات الذين صاموا منهم كعمر وعلى ومعاوية وغيرهم لم يصرحوا بالوجوب
(1/93)
بعض واجباته كقوله تعالى 4 : 65 فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما و قوله تعالى 24 : 47 و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك و ما أولئك بالمؤمنين و قوله تعالى 59 : 15 إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا الآية و قوله 24 : 62 إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله و إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه الآية و نظائر ذلك كثيرة
و من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم لا إيمان لمن لا أمانة له و لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب و لا صلاة إلا بوضوء
و أما قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فهذا اللفظ قد قيل إنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم و ذكر عبد الحق الإشبيلي أنه رواه بإسناد كلهم ثقات و بكل حال فهو مأثور عن علي رضي الله عنه و لكن نظيره في السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له
و لا ريب أن هذا يقتضي أن إجابة المؤذن المنادي و الصلاة في جماعة من الواجبات كما ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم قال يا رسول الله إني رجل شاسع الدار و لي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي
(1/27)
و في رواية له ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما و باقيه مثله و في رواية و إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك و ما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك
وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد فذكر الحديث و قال فيه فقال النبي صلى الله عليه و سلم إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر و يحمد الله عز و جل و يثني عليه و يقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن راكعا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قائما ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قاعد ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته و في رواية إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله عز و جل فيغسل وجهه و يديه إلى المرفقين و يمسح برأسه و رجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله و يحمده ثم يقرأ من القرآن ما أذن له و تيسر و ذكر نحو اللفظ الأول و قال ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه و ربما قال جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله و تسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته و يقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك رواه أهل السنن أبو داود و النسائي و ابن ماجه و الترمذي و قال حديث حسن و الروايتان لفظ أبي داود
و في رواية ثالثة له قال إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن و بما شاء الله أن تقرأ فإذا ركعت فضع راحتك على ركبتيك و امدد ظهرك و قال إذا سجدت فمكن لسجودك فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى وفي رواية أخرى قال إذا أنت قمت في صلاتك فكبر الله عز و جل ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن و قال فيه فإذا جلست في وسط
(1/25)
ثم كبر و سجد ووضع كفه على الأرض ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه ففعل ذلك أيضا ثم صلى أربع ركعات مثل هذا الركعة فصلى صلاته ثم قال هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي
وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين و إذا رأى بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه و نهاه و لا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك و هذا إجماع منهم على وجوب السكون و الطمأنينة في الصلاة قولا و فعلا ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب
و أيضا فإن الركوع و السجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه و حين وضع وجهه على الأرض فأما مجرد الخفض و الرفع عنه فلا يسمى ذلك ركوعا ولا سجودا و من سماه ركوعا و سجودا فقد غلط على اللغة فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعا وساجدا حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر و حتى يقال إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعا و سجودا وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب الله وفي لغة العرب و إذا حصل الشك هل هذا ساجد أو ليس بساجد لم يكن ممتثلا بالاتفاق لأن الوجوب معلوم و فعل الواجب ليس بمعلوم كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه و يشك في فعلها
وهذا أصل ينبغي معرفته فإنه يحسم مادة المنازع الذي يقول إن هذا يسمى ساجدا و راكعا في اللغة فإنه قال بلا علم و لا حجة و إذا طولب بالدليل انقطع و كانت الحجة لمن يقول ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود و الركوع المعروفين
(1/53)
المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون و الذين هم عن اللغو معرضون و الذين هم للزكاة فاعلون و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون و الذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون أخبر سبحانه و تعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة و ذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم و قد دل هذا على وجوب هذه الخصال إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات و لهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب و إذا كان الخشوع في الصلاة واجبا فالخشوع يتضمن السكينة و التواضع جميعا
و منه حديث عمر رضي الله عنه حيث رأى رجلا يعبث في صلاته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه أي لسكنت و خضعت و قال تعالى 39 : 49 ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز و الاهتزاز حركة و تربو و الربو الارتفاع
فعلم أن الخشوع فيه سكون و انخفاض و لهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في حال ركوعه اللهم لك ركعت و بك آمنت و لك أسلمت خشع لك سمعي و بصري و مخي و عقلي و عصبي رواه مسلم في صحيحه فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع لأن الراكع ساكن متواضع و بذلك فسرت الآية ففي التفسير المشهور الذي يقال له تفسير الوالبي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما و قد رواه المصنفون في التفسير كأبي بكر بن المنذر و محمد بن جرير الطبري و غيرهما من حديث أبي صالح عبد الله بن صالح عن معاوية بن أبي صالح عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى في صلاتهم خاشعون يقول خائفون ساكنون و رووا في التفاسير المسندة
(1/43)
قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما و قعودا و على جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة فأمرهم بعد الأمن بإقامة الصلاة و ذلك يتضمن الإتمام و ترك القصر منها الذي أباحه الخوف و السفر فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان
و أما قوله في صلاة الخوف فأقمت لهم الصلاة فتلك إقامة و إتمام في حال الخوف كما أن الركعتين في السفر إقامة و إتمام كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلاة السفر ركعتان و صلاة الجمعة ركعتان و صلاة الفطر ركعتان تمام من غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه و سلم و هذا يبين ما رواه مسلم و أهل السنن عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إقصار الناس الصلاة اليوم و إنما قال الله عز و جل إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا و قد ذهب ذلك اليوم فقال عجبت مما عجبت منه فذكرت لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقا مشروط بعدم الأمن فبينت السنة أن القصر نوعان كل نوع له شرط
و ثبتت السنة أن الصلاة مشروعة في السفر تامة لأنه بذلك أمر الناس ليست مقصورة في الأجر و الثواب و إن كانت مقصورة في الصفة و العمل إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة و يؤمر بالاقتصار تارة
و أيضا فإن الله تعالى قال 4 : 103 فإذ1 اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا و الموقوت قد فسره السلف بالمفروض و فسروه بما له وقت و المفروض هو المقدر المحدد فإن التوقيت و التقدير و التحديد و الفرض ألفاظ متقاربة و ذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة و ذلك في زمانها و أفعالها و كما أن زمانها محدود فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة وهو يتناول تقدير عددها بأن جعله خمسا و جعل
(1/35)
فيبيحون الطيور مطلقا وان كانت من ذات المخالب ويكرهون كل ذي ناب من السباع وفي تحريمها عن مالك روايتان وكذلك في الحشرات عنه هل هي محرمة أو مكروهة روايتان وكذلك البغال والحمير وروي عنه أنها مكروهة أشد من كراهة السباع وروى عنه أنها محرمة بالسنة دون تحريم الحمير والخيل أيضا يكرهها لكن دون كراهة السباع
وأهل الكوفة في باب الأشربة مخالفون لأهل المدينة ولسائر الناس ليست الخمر عندهم إلا من العنب ولا يحرمون القليل من المسكر إلا أن يكون خمرا من العنب أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب النيء أو يكون من مطبوخ عصير العنب إذا لم يذهب ثلثاه وهم في الأطعمة في غاية التحريم حتى حرموا الخيل والضباب وقيل إن أبا حنيفة يكره الضب والضباع ونحوها
فأخذ أهل الحديث في الأشربة بقول أهل المدينة وسائر أهل الأمصار موافقة للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه في التحريم وزادوا عليهم في متابعة السنة وصنف الإمام أحمد كتابا كبيرا في الأشربة ما علمت أحدا صنف أكبر منه وكتابا أصغر منه وهو أول من أظهر في العراق هذه السنة حتى إنه دخل بعضهم بغداد فقال هل فيها من يحرم النبيذ فقالوا لا إلا أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة وأخذ فيها بعامة السنة حتى إنه حرم العصير والنبيذ بعد ثلاث وان لم يظهر فيه شدة متابعة للسنة المأثورة في ذلك لان الثلاث مظنة ظهور الشدة غالبا والحكمة هنا مما تخفى فأقيمت المظنة مقام الحكمة حتى إنه كره الخليطين إما كراهة تنزيه أو تحريم على اختلاف الروايتين عنه وحتى اختلف قوله في الانتباذ في الأوعية هل هو مباح أو محرم أو مكروه لان أحاديث النهي كثيرة جدا وأحاديث النسخ قليلة فاختلف اجتهاده هل تنسخ تلك الأخبار المستفيضة بمثل هذه الأخبار التي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد ولم يخرج البخاري منها شيئا
(1/2)
وأخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم بتحريم كل ذي ناب من السباع و كل ذي مخلب من الطير و تحريم لحوم الحمر لأن النبي صلى الله عليه و سلم أنكر على من تمسك في هذا الباب بعدم وجود نص التحريم في القرآن حيث قال لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول بيننا و بينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال استحللناه و ما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا و إني أوتيت الكتاب و مثله معه وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم كما حرم الله تعالى و هذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه
و علموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما هو زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن لأن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة و الدم و لحم الخنزير
(1/3)
وعدم التحريم ليس تحليلا و إنما هو بقاء للأمر على ما كان و هذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء ليس كما ظنه أصحاب مالك و الشافعي أنها من آخر القرآن نزولا و إنما سورة المائدة هي المتأخرة و قد قال الله فيها أحل لكم الطيبات فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلا و إنما هو عفو فتحريم رسول الله رافع للعفو ليس نسخا للقرآن
لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرموه بل أحلوا الخيل لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم بتحليلها يوم خيبر و بأنهم ذبحوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرسا و أكلوا لحمه و أحلوا الضب لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم بأنه قال لا أحرمه و بأنه أكل على مائدته وهو ينظر ولم ينكر على من أكله و غير ذلك مما جاءت فيه الرخصة
(1/4)
كتفسير ابن المنذر و غيره من حديث سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد خاشعون قال السكون فيها قال و كذلك قال الزهري و من حديث هشام عن مغيرة عن إبراهيم النخعي قال الخشوع في القلب و قال ساكنون قال الضحاك الخشوع الرهبة لله و روى عن الحسن خائفون و روى ابن المنذر من حديث أبي عبد الرحمن المقبري حدثنا المسعودي حدثنا أبو سنان أنه قال في هذه الآية الذين هم في صلاتهم خاشعون قال الخشوع في القلب وأن يلين كنفه للمرء المسلم وأن لا تلفت في صلاتك وفي تفسير ابن المنذر أيضا ما في تفسير إسحاق بن راهويه عن روح حدثنا سعيد عن قتادة الذين هم في صلاتهم خاشعون قال الخشوع في القلب و الخوف و غض البصر في الصلاة و عن أبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مختار القرآن في صلاتهم خاشعون أي لا تطمح أبصارهم ولا يلتفتون وقد روى الإمام أحمد في كتاب الناسخ و المنسوخ من حديث ابن سيرين ورواه إسحاق بن راهويه في التفسير و ابن المنذر أيضا في التفسير الذي له رواه من حديث الثوري حدثني خالد عن ابن سيرين قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يرفع بصره إلى السماء فأمر بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده أي محل سجوده قال سفيان و حدثني غيره عن ابن سيرين أن هذه الآية نزلت في ذلك قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون قال هو سكون المرء في صلاته قال معمر و قال الحسن خائفون وقال قتادة الخشوع في القلب و منه خشوع البصر و خفضه و سكونه عند تقليبه في الجهات كقوله تعالى 8 - 6 : 54 فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر و قوله 44 - 43 : 70 يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي
(1/44)
من حديث أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما وجاء من حديث غيرهما أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار وفرق النبي صلى الله عليه و سلم بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض بأن الأسود شيطان وصح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الشيطان تفلت على البارحة ليقطع صلاتي فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية ن سواري المسجد الحديث فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته فهذا أيضا يقتضي أن مرور الشيطان يقطع الصلاة فلذلك اخذ أحمد بذلك في الكلب الأسود واختلف قوله في المرأة والحمار لأنه عارض هذا الحديث حديث عائشة لما كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلى وهي في قبلته وحديث ابن عباس رضى الله عنهما لما اجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف والنبي صلى الله عليه و سلم يصلى بأصحابه بمنى مع أن المتوجه أن الجميع يقطع وأنه يفرق بين المار واللابث كما فرق بينهما في الرجل في كراهة مروره دون لبثه في القبلة إذا استدبره المصلى ولم يكن متحدثا وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث
واختلف المتقدمون من أصحاب أحمد في الشيطان الجنى إذا علم بمروره هل يقطع الصلاة والأوجه أنه يقطعها بتعليل رسول الله صلى الله عليه و سلم وبظاهر قوله يقطع صلاتي لأن الأحكام التي جاءت بها السنة في الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب في الطهارة والصلاة في أمكنتهم وممرهم ونحو ذلك قوية في الدليل نصا وقياسا ولذلك اخذ بها فقهاء الحديث ولكن مدرك
(1/10)
ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهمه من اللغة التي اعتادها
نعم لو قيل تكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة لكان متوجها كما قد روي عن مالك و أحمد و الشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع
وقد ذكر أصحاب مالك و الشافعي و أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل و المتأخرين أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم فما اعتقدوه نكاحا بينهم جاز إقرارهم عليه إذا أسلموا و تحاكموا إلينا إذا لم يكن حينئذ مشتملا على مانع و إن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الإقرار عليه حتى قالوا لو قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته و اعتقداه نكاحا أقرا عليه و إلا فلا
و معلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر و إنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح بأن يميز عن السفاح كما قال تعالى محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان وقال محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فأمر بالولي الشهود و نحو ذلك مبالغة في تمييزه عن السفاح و صيانة للنساء عن التشبه بالبغايا حتى شرع فيه الضرب بالدف و الوليمة الموجبة لشهرته و لهذا جاء في الأثر المرأة لا تزوج نفسها فإن البغي هي التي تزوج نفسها و أمر فيه بالإشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا فإنه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات في مذهب أحمد ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح و بأنه يحفظ النسب عند التجاحد
فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب و السنة و الآثار حكمتها بينة
(1/109)
بالمتنقل للحاجة كما في صلاة الخوف وكما لو كان المفترض غير قارئ كما في حديث عمرو بن سلمة و معاذ و نحو ذلك و إن كان لا يجوزه لغير حاجة على إحدى الروايتين عنه فأما إذا جوزه مطلقا فلا كلام و إن كان من أصحابه من لا يجوزه بحال
فصارت الأقوال في مذهبه و غير مذهبه ثلاثة و المنع مطلقا هو المشهور عن أبي حنيفة و مالك كما أن الجواز مطلقا هو قول الشافعي
و يشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام فعنه ثلاث روايات أوسطها جواز ذلك للحاجة كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف وكما فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة لما شق عليه طول الصلاة و الرواية الثانية المنع مطلقا كقول أبي حنيفة و الرواية الثالثة الجواز مطلقا كقول الشافعي و لهذا جوز أحمد في المشهور عنه أن المرأة تؤم الرجل لحاجة مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح كما أذن النبي صلى الله عليه و سلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها و جعل لها مؤذنا و تتأخر خلفهم و إن كانوا مأمومين بها للحاجة وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة هذا مع ما روى عنه صلى الله عليه و سلم من قوله لا تؤمن امرأة رجلا و أن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء
و لهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبي صلى الله عليه و سلم من قوله في الإمام إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون و أنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض فسقط عن المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه و سلم من مخالفة الإمام و التشبه بالأعاجم في القيام له و كذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودا و الناس خلفهم قعود كأسيد بن الحضير
و لكن كره هذا لغير الإمام الراتب إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام
(1/78)
و توسيط الإمام حتى ينهى عما نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم من صلاة المنفرد خلف الصف و يأمره بالإعادة كما أمر بها النبي صلى الله عليه و سلم في حديثين ثابتين عنه أمر فيهما المنفرد خلف الصف بالإعادة كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة و كما أمر المسيء في وضوءه الذي ترك فيه موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة
فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة و الاصطفاف في الصلاة و الإتيان بأركانها
و الذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة و مالك و الشافعي منهم من لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده و الشافعي رآه معارضا بكون الإمام يصلي وحده و بكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم و بحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف
و أما أحمد فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين أنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يضرب أحدهما بالآخر فيقول في مثل هذه المرأة إذا كانت مع النساء صلت بينهن و أما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم و إن كانت وحدها لأنها منهية عن مصافة الرجال فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم كما أنها إذا صلت بالنساء صلت بينهن لأنه أستر لها كما يصلي إمام العراة بينهم و إن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أم أن يتقدم بين يدي الصف
و نقول إن الإمام لا يشبه المأموم فإن سنته التقدم لا المصافة و سنة المؤتمين الاصطفاف نعم يدل انفراد الإمام و المرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا انفرادا فهذا قياس قول أحمد و غيره ولأن واجبات الصلاة و غيرها تسقط بالأعذار فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها فسقط بالعجز في الجماعة كما يسقط غيره فيها وفي سنن
(1/76)
فأيما رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فالسمت الأول
ومن هذا الباب أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد بن عمه و عمر هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك صلى خلفه أنس بن مالك رضي الله عنه فقال ما رواه أبو داود و النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما صليت وراء أحد بعد رسول برسول الله صلى الله ع عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فخررنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وهذا كان في المدينة مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية الأمصار فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك و المدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أو نحو هذا و لكن كانوا قد غيروا أيضا ببعض السنة و من اعتقد أن هذا كان في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط فإن أنس بن مالك رضي الله عنه لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز بل مات قبل ذلك بسنتين
وهذا يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود و الترمذي و ابن ماجة عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم وذلك أدناه و إذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا و ذلك أدناه قال أبو داود هذا مرسل عون لم يدرك عبد الله بن مسعود و كذلك قال البخاري في تاريخه وقال الترمذي ليس إسناده بمتصل عون ابن عبد الله لم يدرك ابن مسعود عون هو من علماء الكوفة المشهورين وهو من أهل بيت عبد الله
(1/70)
علمها آثرا هو لأهل الحديث ومدركه قياسا هو في باطن الشريعة وظاهرها دون التفقه في ظاهرها فقط
ولو لم يكن في الأئمة من استعمل هذه السنن الصحيحة النافعة لكان وصمة على الأمة ترك مثل ذلك والأخذ بما ليس بمثله لا أثرا ولا رأيا
ولقد كان أحمد رحمه الله يعجب ممن يدع حديث الوضوء من لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها وعدم المعارض له ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل ولذلك أعرض عنها الشيخان البخاري ومسلم وإن كان أحمد على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء من مس الذكر لكن غرضه أن الوضوء من لحوم الإبل أقوى في الحجة من الوضوء من مس الذكر
وقد ذكرت ما يبين أنه أظهر في القياس منه فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ولهذا كان كل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الأكل نجسا
وكان أحمد يعجب أيضا ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك في الصلاة مع أنه أبعد عن القياس والأثر والأثر فيه مرسل قد ضعفه أكثر الناس وقد صح عن الصحابة ما يخالفه
والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا يقطع الصلاة شيء
(1/11)
أو بما روى في ذلك عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة خصوصا مذهب أحمد
فهذا أصل في الخبائث الجسمانية والروحانية
وأصل آخر وهو أن الكوفيين قد عرف تخفيفهم في العفو عن النجاسة فيعفون من المغلظة عن قدر الدرهم البغلى ومن المخففة عن ربع المحل المتنجس
والشافعي بإزائهم في ذلك فلا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الاستنجاء وونيم الذباب ونحوه ولا يعفو عن دم ولا عن غيره إلا عن دم البراغيث ونحوه مع أنه ينجس أرواث البهائم وأبوالها وغير ذلك فقوله في النجاسات نوعا وقدرا أشد أقوال الأئمة الأربعة
ومالك متوسط في نوع النجاسة وفي قدرها فإنه لا يقول بنجاسة الأرواث والأبوال مما يؤكل لحمه ويعفو عن يسير الدم وغيره
وأحمد كذلك فإنه متوسط في النجاسات فلا ينجس الأرواث والأبوال ويعفو عن اليسير من النجاسة التي يشق الإحتراز عنا حتى إنه في إحدى الروايتين عنه يعفو عن يسير روث البغل والحمار وبول الخفاش وغير ذلك مما يشق الإحتراز عنه بل يعفو في إحدى الروايتين عن اليسير من الروث والبول من كل حيوان طاهر كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في شرح المذهب وهو مع ذلك يوجب اجتناب النجاسة في الصلاة في الجملة من غير خلاف عنه لم يختلف قوله في ذلك كما اختلف أصحاب مالك ولو صلى بها جاهلا أو ناسيا لم يجب عليه الإعادة في أصح الروايتين كقول مالك كما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه و سلم لما خلع نعليه في أثناء الصلاة لأجل الأذى الذي فيهما ولم يستقبل الصلاة ولما صلى الفجر فوجد في ثوبه نجاسة أمر بغسلها ولم يعد الصلاة
(1/12)
والرواية الأخرى تجب الإعادة كقول أبي حنيفة والشافعي
و أصل آخر في إزالتها فمذهب أبي حنيفة تزال بكل مزيل من المائعات و الجامدات و الشافعي لا يرى إزالتها إلا بالماء حتى ما يصيب أسفل الخف و الحذاء و الذيل لا يجزئ فيه إلا الغسل بالماء و حتى نجاسة الأرض
و مذهب أحمد فيه متوسط فكل ما جاءت به السنة قال به يحوز في الصحيح عنه مسحها بالتراب و نحوه من النعل و نحوه كما جاءت به السنة كما يجوز مسحها من السبيلين فإن السبيلين بالنسبة إلى سائر الأعضاء كأسفل الخف بالنسبة إلى سائر الثياب في تكرر النجاسة على كل منها
و اختلف أصحابه في أسفل الذيل هل هو كأسفل الخف كما جاءت به السنة و استوائها للأثر في ذلك و القياس إزالتها عن الأرض بالشمس و الريح يجب التوسط فيه
فإن التشديد في النجاسات جنسا و قدرا هو دين اليهود و التساهل هو دين النصارى و دين الإسلام هو الوسط فكل قول يكون فيه شيء من هذا الباب يكون أقرب إلى دين الإسلام
و أصل آخر وهو اختلاط الحلال بالحرام كاختلاط المائع الطاهر بالنجس فقول الكوفيين فيه من الشدة مالا خفاء به
و سر قولهم إلحاق الماء بسائر المائعات و أن النجاسة إذا وقعت في مائع لم
(1/13)
فنقصوا عما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة كما زادوا على أهل المدينة في الأشربة لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة
و لأهل المدينة سلف من الصحابة و التابعين في استحلال ما أحلوه أكثر من سلف أهل الكوفة في استحلال المسكر و المفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة و لهذا سميت الخمر أم الخبائث كما سماها عثمان بن عفان رضي الله عنه و غيره و أمر النبي صلى الله عليه و سلم بجلد شاربها فإنه لم يحد فيها أحد من أهل العلم إلا ما بلغنا عن الحسن البصري بل قد أمر صلى الله عليه و سلم بقتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة و إن كان الجمهور على أنه منسوخ و نهى النبي
(1/5)
صلى الله عليه و سلم فيما صح عنه عن تخليل الخمر و أمر بشق ظروفها و كسر دنانها و إن كان قد اختلفت الرواية عن أحمد هل هذا باق أو منسوخ
ولما كان الله سبحانه و تعالى إنما حرم الخبائث لما فيها من الفساد إما في العقول أو الأخلاق أو غيرها ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة ممن النقص بقدر ما فيها من المفسدة و لولا التأويل لاستحقوا العقوبة
ثم إن الإمام أحمد و غيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات مثل لحوم الإبل فإنها حلال بالكتاب و السنة و الإجماع و لكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله إنها جن خلقت من جن و قد قال صلى الله عليه و سلم فيما رواه أبو داود الغضب من الشيطان و إن الشيطان من النار
(1/6)
وإنما تطفئ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ فأمر بالتوضؤ من الأمر العارض من الشيطان فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول لما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم من الوضوء من لحمها كما صح ذلك عنه من غير وجه من حديث جابر بن سمرة و البراء بن عازب و أسيد بن الحضير و ذي الغرة و غيرهم فقال مرة توضئوا من لحوم الإبل و لا توضئوا من لحوم الغنم و صلوا في مرابض الغنم و لا تصلوا في معاطن الإبل فمن توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمنين لأكلها من غير وضوء كالأعراب من الحقد و قسوة القلب التي أشار إليها النبي صلى الله عليه و سلم بقوله المخرج عنه في الصحيحين إن الغلظة و قسوة القلوب في الفدادين أصحاب الإبل و إن السكينة في أهل الغنم
و اختلف عن أحمد هل يتوضأ من سائر اللحوم المحرمة على روايتين بناء
(1/7)
على أن الحكم مختص بها أو أن المحرم أولى بالتوضؤ منه من المباح الذي فيه نوع مضرة
و سائر المصنفين من أصحاب الشافعي و غيره وافقوا أحمد على هذا الأصل و علموا أن من اعتقد أن هذا منسوخ بترك الوضوء مما مست النار فقد أبعد لأنه فرق في الحديث بين اللحمين ليتبين أن العلة هي الفارقة بينهما لا الجامع
و كذلك قالوا بما اقتضاه الحديث من أنه يتوضأ منه نيئا و مطبوخا و لأن هذا الحديث كان بعد النسخ و لهذا قال في لحم الغنم و إن شئت فلا تتوضأ و لأن النسخ لم يثبت إلا بالترك من لحم غنم فلا عموم له و هذا معنى قول جابر كان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار فإنه رآه يتوضأ ثم رآه أكل لحم غنم و لم يتوضأ و لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم صيغة عامة في ذلك و لو نقلها لكان فيه نسخ للخاص بالعام الذي لم يثبت شموله لذلك الخاص عينا و هو أصل لا يقول به أكثر المالكية و الشافعية و الحنبلية
هذا مع أن أحاديث الوضوء مما مست النار لم يثبت أنها منسوخة بل قد قيل إنها متأخرة و لكن أحد الوجهين في مذهب أحمد أن الوضوء منها مستحب ليس بواجب و الوجه الآخر لا يستحب
فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية و التطهر منها كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية و التطهر منها حتى قال صلى الله عليه و سلم إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خيشومه و قال إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده فعلل الأمر بالغسل
(1/8)
سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد أحق ما قال العبد و كلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت و لا ينفع ذا الجد منك الجد
و قوله أحق ما قال العبد هكذا هو في الحديث وهو خبر مبتدأ محذوف و أما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء و الصوفية من قوله حق ما قال العبد فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث و السنة ليس له أصل في الأثر و معناه أيضا فاسد فإن العبد يقول الحق و الباطل و أما الرب سبحانه و تعالى فهو يقول الحق و يهدي السبيل كما قال تعالى فالحق و الحق أقول
و أيضا فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على الله عز و جل
و روى مسلم و غيره عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما بينهما و ملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد أحق ما قال العبد و كلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
وروى مسلم و غيره عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد
وفي رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا أنه كان يقول اللهم طهرني من الذنوب و الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
فإن قيل فإذا كانت هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي اتفق الصحابة رضي الله عنهم على نقلها عنه و قد نقلها أهل الصحاح و السنن و المسانيد من هذه الوجوه وغيرها و الصلاة عمود الدين فكيف خفي ذلك على طائفة من
(1/61)
عليها محمدا صلى الله عليه و سلم و لفظ أبي وائل ما صليت و أحسبه قال لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه و سلم
و هذا الذي لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة أو ترك الاعتدال أو ترك كلاهما فإنه لا بد أن يكون قد ترك بعض ذلك إذ نقر الغراب و الفصل بين السجدتين بحد السيف و الهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإيتان بما قد يقال إنه ركوع أو سجود و هذا الرجل كان يأتي بما قد يقال له ركوع وسجود لكنه لم يتمه و مع هذا قال له حذيفة ما صليت فنفى عنه الصلاة ثم قال لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه و سلم و على غير السنة و كلاهما المراد به هنا الدين و الشريعة ليس المراد به فعل المستحبات فإن هذا لا يوجب هذا الذم و التهديد فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم من المستحبات و لأن لفظ الفطرة و السنة في كلامهم هو الدين و الشريعة و إن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ السنة يراد به ما ليس بفرض إذ قد يراد بها ذلك كما في قوله صلى الله عليه و سلم إن الله فرض عليكم صيام رمضان و سننت لكم قيامه فهي تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات كما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه و سلم سنن الهدى و إن هذه الصلوات في جماعة من سنن الهدى و إنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم و لقد رأينا و ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق و منه قوله صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ ولأن الله سبحانه و تعالى أمر في كتابه
(1/33)
ثم يقال لو وجد استعمال لفظ الركوع و السجود في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة لكان المعفر خده ساجدا و لكان الراغم أنفه وهو الذي لصق أنفه بالرغام وهو التراب ساجدا لا سيما عند المنازع الذي يقول يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة فيكون نقر الأرض بالأنف سجودا و معلوم أن هذا ليس من لغة القوم كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب و نحوها سجودا ولو كان كذلك لكان يقال للذي يضع وجهه على الأرض ليمص شيئا على الأرض أو يعضه أو ينقله و نحو ذلك ساجدا
و أيضا فإن الله أوجب المحافظة و الإدامة على الصلاة و ذم إضاعتها و السهو عنها فقال في أول سورة المؤمنين قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون و الذين هم عن اللغو معرضون و الذين هم للزكاة فاعلون و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون و الذين همم لأماناتهم و عهدهم راعون و الذين هم على صلواتهم يحافظون و قد سبق بيان أن هذه الخصال واجبة و كذلك في سورة سأل سائل قال إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون و الذين في أموالهم حق معلوم للسائل و المحروم و الذين يصدقون بيوم الدين و الذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزوجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون و الذين هم بشهاداتهم قائمون و الذين هم على صلاتهم يحافظون فذم الإنسان كله إلا ما استثناه فمن لم يكن متصفا بما استثناه كان مذموما كما في قوله تعالى
(1/54)
3 - 1 : 103 والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر و قال تعالى 19 : 69 فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا و قال تعالى 5 , 4 : 107 فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون و قال تعالى 2 : 238 حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و قوموا لله قانتين
و هذه الآيات تقتضي ذم من ترك شيئا من واجبات الصلاة و إن كان في الظاهر مصليا مثل أن يترك الوقت الواجب أو يترك تكميل الشرائط و الأركان من الأعمال الظاهرة و الباطنة و بذلك فسرها السلف ففي تفسير عبد بن حميد و ذكره عن ابن المنذر في تفسيره من حديث عبد حدثنا روح عن سعيد عن قتادة و الذين هم على صلواتهم يحافظون على وضوئها و مواقيتها و ركوعها و روى أبو بكر بن المنذر في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن عن عبد الله قال قيل لعبد الله إن الله أكثر ذكر الصلاة في القرآن الذين هم على صلاتهم دائمون و الذين هم في صلاتهم خاشعون و الذين هم على صلاتهم يحافظون فقال عبد الله ذلك على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر و روى سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق في قول الله و الذين هم على صلاتهم يحافظون قال على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر و روى من حديث سعيد بن أبي مريم و الذين هم عن صلاتهم ساهون بتضييع ميقاتها و روى عن أبي ثور عن ابن جريج في قوله و الذين هم على صلاتهم يحافظون المكتوبة و التي في سأل سائل التطوع و هذا قول ضعيف
(1/55)
كان يوجزها و يكملها و التي كانت أخف الصلاة و أتمها أنه صلى الله عليه و سلم كان يقوم فيها من الركوع حتى يقول القائل إنه قد نسي و يقعد بين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي و إذا كان في هذا يفعل ذلك فمن المعلوم اتفاق المسلمين و السنة المتواترة أن الركوع و السجود لا ينقصان عن هذين الاعتدالين بل كثير من العلماء يقول لا يشرع و لا يجوز أن يجعل هذين الاعتدالين بقدر الركوع و السجود بل ينقصان عن الركوع و السجود وفي الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن ابن الأشعث و سماه غندر في رواية مطر بن ناجية فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام و قدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى قال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم قيامه و ركوعه و إذا رفع رأسه من الركوع و سجوده و ما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن ابن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا و لفظ مطر عن شعبة كان ركوع النبي صلى الله عليه و سلم و سجوده و بين السجدتين و إذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام و القعود قريبا من السواء وهو في الصحيح و السنن من حديث هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه و سلم فوجدت قيامه فركوعه فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته ما بين التسليم و الانصراف قريبا من السواء
و يشهد لهذا ما رواه مسلم و أبو داود و النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع
(1/60)
الفريضة و النافلة و الناس يصلون على عهده و لم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع و السجود و بالطمأنينة و كذلك كانت صلاة أصحابه على عهده و هذا يقتضي وجوب السكون و الطمأنينة في هذه الأفعال كما يقتضي وجوب عددها وهو سجودان مع كل ركوع
و أيضا فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم مع كثرة الصلوات من أقوى الأدلة على وجوب ذلك إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة ليبين الجواز أو ليبين جواز تركه بقوله فلما لم يبين لا بقوله و لا بفعله جواز ترك ذلك مع مداومته عليه كان ذلك دليلا على وجوبه
و أيضا فقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في صحيح البخاري أنه قال لمالك بن الحويرث و صاحبه إذا حضرت الصلاة فأذنا و أقيما و ليؤمكما أكبركما و صلوا كما رأيتموني أصلي فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي
و ذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي لهم و لا معارض لذلك و لا مخصص فإن الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم و المنفرد
و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قام على المنبر و كبر و كبر الناس معه وراءه وهو على المنبر ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي و لتعلموا صلاتي وفي سنن أبي داود و النسائي عن سالم البراد قال أتينا عقبة بن عمرو الأنصاري أبا مسعود فقلنا له حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام بين أيدينا في المسجد فكبر فلما ركع وضع يديه على ركبتيه و جعل أصابعه أسفل من ذلك و جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم قال سمع الله لمن حمده فقام حتى استقر كل شيء منه
(1/52)
وإذا ثبت وجود هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى
ويقوى الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة فنزلت وقوموا لله قانتين قال فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة ودل الأمر للقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس لأن القنوت هو دوام الطاعة فالمشتغل لمخاطبة العباد تارك للاشتغال بالصلاة التي هي عبادة الله وطاعته فلا يكون مداوما على طاعته ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لما سلم عليه ولم يرد بعد أن كان يرد إن في الصلاة لشغلا فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلى عن مخاطبة الناس و هذا هو القنوت فيها وهو دوام الطاعة ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي لما هو مشروع فيها من القراءة و التسبيح لأن ذلك لا يشغله عنها ولا ينافي القنوت فيها
و أيضا فإنه سبحانه قال 15 : 32 إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا و سبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون فأخبر أنه لا يكون مؤمنا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات و سبح بحمد ربه
و معلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات و لذلك وجب السجود مع ذلك و قد أوجب خرورهم سجدا وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم و ذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة و لهذا
(1/39)
قال طائفة من العلماء من أصحاب أحمد و غيرهم إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم
و الثاني أن الخرور هو السقوط و الوقوع و هذا إنما يقال فيما يثبت و يسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض و لهذا قال الله 22 : 36 فإذا وجبت جنوبها و الوجوب في الأصل هو الثبوت و الاستقرار
و أيضا فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال لما نزلت 56 : 96 فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت 1 : 87 سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم رواه أبو داود و ابن ماجة
فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بجعل هذين التسبيحين في الركوع و السجود و أمره على الوجوب و ذلك يقتضي وجوب ركوع و سجود تبعا لهذا التسبيح و ذلك هو الطمأنينة
ثم إن من الفقهاء من قد يقول التسبيح ليس بواجب و هذا القول يخالف ظاهر الكتاب و السنة فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل و القول جميعا فإذا دل دليل على عدم وجوب القول لم يمنع وجوب الفعل
و أما من يقول بوجوب التسبيح فيستدل لذلك بقوله تعالى 39 : 50 و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل الغروب و هذا أمر بالصلاة كلها كما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و قبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل الغروب
و إذا كان الله عز و جل قد سمى الصلاة تسبيحا فقد دل ذلك على وجوب
(1/40)
التسبيح كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى 2 : 72 قم الليل إلا قليلا دل على وجوب القيام و كذلك لما سماها قرآنا في قوله تعالى 17 : 78 و قرآن الفجر دل على وجوب القرآن فيها و لما سماها ركوعا و سجودا في مواضع دل على وجوب الركوع و السجود فيها
و ذلك أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها فإذا وجدت الصلاة وجدت هذه الأفعال فتكون من الأبعاض اللازمة كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له فيسمونه رقبة و رأسا و وجها و نحو ذلك كما في قوله تعالى 3 : 58 فتحرير رقبة ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح أن يكون أمرا بالصلاة فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه ولأعلى ما يستلزم معناه
و أيضا فإن الله عز و جل ذم عموم الإنسان و استثنى إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون قال تعالى 23 - 19 : 70 إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا و إذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون و السلف من الصحابة و من بعدهم قد فسروا الدائم على الصلاة بالمحافظ على أوقاتها و بالدائم على أفعالها بالإقبال عليها و الآية تعم هذا و هذا فإنه قال على صلاتهم دائمون و الدائم على الفعل هو المديم له الذي يفعله دائما فإذا كان هذا فيما يفعل في الأوقات المتفرقة هو أن يفعله كل يوم بحيث لا يفعله تارة و يتركه أخرى و سمي ذلك دواما عليه فالدوام على الفعل الواحد المتصل أولى أن يكون دواما و أن تتناول الآية ذلك و ذلك يدل على وجوب إدامة أفعالها لأن الله عز و جل ذم عموم الإنسان و استثنى المداوم على هذه الصفة فتارك إدامة أفعالها يكون مذموما من الشارع و الشارع لا يذم إلا على ترك واجب أو فعل محرم
و أيضا فإنه سبحانه و تعالى قال إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون فدل ذلك على أن المصلي قد يكون دائما على صلاته و قد لا يكون دائما عليها
(1/41)
واجب بالإجماع لقوله تعالى 22 : 77 يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا و قوله تعالى 42 : 68 يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون وقوله تعالى 21 , 20 : 84 فما لهم لا يؤمنون و إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون وقوله تعالى 15 : 32 إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا و سبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون و قوله تعالى 19 : 96 واسجد و اقترب و قوله تعالى 18 : 22 ألم تر أن الله يسجد له من في السموات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب و كثير من الناس و كثير حق عليه العذاب
فدل على أن الذي لا يسجد لله من الناس قد حق عليه العذاب و قوله 26 : 76 ومن الليل فاسجد له و سبحه طويلا و قوله تعالى 15 : 98 فسبح بحمد ربك و كن من الساجدين و قوله تعالى 48 : 77 و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون و قوله تعالى 5 : 55 إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون
و إذا كان الله عز و جل قد فرض الركوع و السجود لله في كتابه كما فرض أصل الصلاة فالنبي صلى الله عليه و سلم هو المبين للناس ما نزل إليهم و سنته تفسر الكتاب و تبينه و تدل عليه و تعبر عنه و فعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرا لمجمل كان حكمه حكم ما امتثله و فسره و هذا كما أنه صلى الله عليه و سلم لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبا و كان هذا امتثالا منه لما أمر الله به من الركوع و السجود و تفسيرا لما أجمل ذكره في القرآن و كذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود و قد كان يصلي الفريضة و النافلة و الناس يصلون على عهده و لم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع و السجود و بالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها قد نقل ذلك كل من نقل صلاة
(1/51)
فقهاء العراق وغيره حتى لم يجعلوا الاعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من الأفعال المقارنة للركوع والسجود ولا استحبوا في ذلك ذكرا أكثر من التحميد يقول ربنا لك الحمد حتى إن بعض المتفقهة قال إذا طال ذلك طولا كثيرا بطلت صلاته
قيل سبب ذلك وغيره أن الذي مضت به السنة أن الصلاة يصليها المسلمين الأمراء وولاة الحرب فوالى الجهاد هو كان أمير الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه و سلم وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دولة بني العباس والخليفة هو الذي يصلى بالناس الصلوات الخمس والجمعة لا يعرف المسلمون غير ذلك وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بما سيكون بعده من تغير الأمراء حتى قال سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة فكان من هؤلاء من يؤخرها عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها أن بعضهم كان لا يتم التكبير أى لا يجهر بالتكبير في انتقالات الركوع وغيره ومنهم من لا يتم الاعتدالين وكان هذا يشيع في الناس فيربو في ذلك الصغير ويهرم فيه الكبير حتى إن كثيرا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك فإذا جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك كما رواه البخاري في صحيحه عن قتادة عن عكرمة قال صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس إنه لأحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه و سلم
وفي رواية أبي بشر عن عكرمة قال رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض و رفع و إذا قام و إذا وضع فأخبرت ابن عباس فقال أو ليس تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا أم لك وهذا يعني به أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير فكان الأئمة الذين يصلي خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك و ابن عباس لم يكن إماما حتى يعرف ذلك منه فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره ابن عباس و أما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره على أحد و هذا كما أن عامة
(1/62)
الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير بل يفعل ذلك المؤذن و نحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه ليست هي السنة بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم أن المؤذن و غيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير دائما كما أن بلالا لم يكن يجهر بذلك خلف النبي صلى الله عليه و سلم لكن إذا احتيج إلى ذلك لضعف صوت الإمام أو بعد المكان فهذا قد احتجوا لجوازه بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسمع الناس التكبير خلف النبي صلى الله عليه و سلم في مرضه حتى تنازع الفقهاء في جهر المأموم لغير حاجة هل يبطل صلاته أم لا
ومثل ذلك ما أخرجاه في الصحيحين و السنن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال صليت خلف علي بن أبي طالب أنا و عمران بن حصين فكان إذا سجد كبر و إذا رفع رأسه كبر و إذا نهض من الركعتين كبر فلما قضي الصلاة أخذ عمران بن حصين بيدي فقال قد ذكرني هذا بصلاة محمد صلى الله عليه و سلم أو قال لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه و سلم و لهذا لما جهر بالتكبير سمعه عمران و مطرف كما سمعه غيرهما
و مثل هذا ما في الصحيحين و السنن أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة و غيرها يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يقوم من الجلوس من الثنتين يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ثم يقول حين ينصرف و الذي نفسي بيده إني لأقربكم شبها بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا
وهذا كان يفعله أبو هريرة رضي الله عنه لما كان أميرا على المدينة فإن معاوية كان يعاقب بينه و بين مروان بن الحكم في إمارة المدينة فيولي هذا تارة و يولي هذا تارة و كان مروان يستخلف و كان أبو هريرة يصلي بهم بما هو أشبه
(1/63)
بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم من صلاة مروان و غيره من أمراء المدينة
و قوله في المكتوبة و غيرها يعني ما كان من النوافل مثل قيام رمضان كما أخرجه البخاري من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث و أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة و غيرها في رمضان و غيره فيكبر حين يقوم و يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول ربنا لك الحمد و ذكر نحوه
و كان الناس قد اعتادوا ما يفعله غيره فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع فقلت يا أبا هريرة ما هذا التكبير قال إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم
و هذا كله معناه جهر الإمام بالتكبير و لهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت و فعله في كل خفض و رفع
يبين ذلك أن البخاري ذكر في باب التكبير عند النهوض من الركعتين قال وكان ابن الزبير يكبر في نهضته ثم روى البخاري من حديث فليح ابن سليمان عن سعيد بن الحارث قال صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود و حين سجد و حين رفع و حين قام من الركعتين و قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أردفه البخاري بحديث مطرف قال صليت أنا و عمران بن حصين خلف على بن أبي طالب رضي الله عنه فكان إذا سجد كبر و إذا رفع كبر و إذا نهض من الركعتين كبر فلما سلم أخذ عمران بن حصين بيدي فقال لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه و سلم أو قال لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه و سلم
فهذا يبين أن الكلام إنما هو في الجهر بالتكبير و أما أصل التكبير فلم يكن مما يخفى على أحد و ليس هذا أيضا مما يجهل هل يفعله الإمام أم لا يفعله
(1/64)
بالأبصار فظنوا لذلك أن المأموم لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام لأنه يرى ركوعه و يرى سجوده بخلاف الرفع من الركوع و السجود فإن المأموم لا يرى الإمام فيحتاج أن يعلم رفعه بتكبيره
و يدل على صحة ما قاله أحمد من حديث ابن أبزي أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه و سلم فلم يتم التكبير و كان لا يكبر إذا خفض هكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن الحسن بن عمران عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه
و قد ظن أبو عمر بن عبد البر كما ظن غيره أن هؤلاء السلف ما كانوا يكبرون في الخفض و الرفع و جعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب لأنهم لا يقرون الأمة على ترك واجب حتى إنه قد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر إذا صلى وحده في الفرض و أما التطوع فلا قال أبو عمر لا يحكي أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده إن شاء الله
قال و أما رواية مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض و رفع فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إماما و غير إمام قلت ما روى مالك لا ريب فيه و الذي ذكره أحمد لا يخالف ذلك و لكن غلط ابن عبد البر فيما فهم من كلام أحمد فإن كلامه إنما كان في التكبير دبر الصلاة أيام العيد الأكبر لم يكن التكبير في الصلاة و لهذا فرق أحمد بين الفرض و النفل فقال أحب إلي أن يكبر في الفرض دون النفل ولم يكن أحمد ولا غيره يفرقون في تكبير الصلاة بين الفرض و النفل بل ظاهر مذهبه أن تكبير الصلاة واجب في النفل كما أنه واجب في الفرض و إن قيل هو سنة في الفرض قيل هو سنة في النفل فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره
وأما الذي ذكره عن ابن عمر في تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردا فهو
(1/66)
فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة كما لا يصح نفي القراءة في صلاة المخافتة و نفي التسبيح في الركوع و السجود و نفي القراءة في الركعتين الآخرتين و نحو ذلك و لهذا استدل بعض من كان لا يتم بالتكبير و لا يجهر به بما روي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان لا يتم التكبير رواه أبو داود و البخاري في التاريخ الكبير و قد حكى أبو داود الطيالسي أنه قال هذا عندنا باطل و هذا إن كان محفوظا فلعل ابن أبزي صلى خلف النبي صلى الله عليه و سلم في مؤخر المسجد و كان النبي صلى الله عليه و سلم صوته ضعيفا فلم يسمع تكبيره فاعتقد أنه لم يتم التكبير و إلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك فلو خالفها كان شاذا لا يلتفت إليه ومع هذا فإن كثيرا من الفقهاء المتأخرين يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرا و أن علي بن أبي طالب و أبا هريرة و غيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير في الانتقالات و لازم هذا أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر في خفضها و لا رفعها
و هذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال ولو كان المراد التكبير سرا لم يصح نفي ذلك ولا إثباته فإن المأموم لا يعرف ذلك من إمامه ولا يسمي ترك التكبير بالكلية تركا لأن الأئمة كانوا يكبرون عند الافتتاح دون الانتقالات و ليس كذلك السنة بل الأحاديث المروية تبين أن رفع الإمام و خفضه كان في جميعها التكبير وقد قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل ما الذي نقصوا من التكبير قال إذا انحط إلى السجود من الركوع و إذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة
فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة لم يكونوا يتمون التكبير بل نقصوا التكبير في الخفض من القيام ومن القعود وهو كذلك والله أعلم لأن الخفض يشاهد
(1/65)
يمكن استعماله إلا باستعمال الخبث فيحرم الجميع مع أن تنجيس المائع غير الماء الآثار فيه قليلة
و بإزائهم مالك و غيره من أهل المدينة فإنهم في المشهور لا ينجسون الماء إلا بالتغير و لا يمنعون من المستعمل ولا غيره مبالغة في طهورية الماء مع فرقهم بينه و بين غيره من المائعات
و لأحمد قول كمذهبهم لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله و كثيره كقول الشافعي
و اختلف قوله في المائعات غير الماء هل يلحق بالماء أولا يلحق به كقول مالك و الشافعي أو يفرق بين الماء و غير الماء كخل العنب على ثلاث روايات
و في هذه الأفوال من التوسط أثرا و نظرا ما لا خفاء به مع أن قول أحمد الموافق لقول مالك راجح في الدليل
و أصل آخر وهو أن للناس في أجزاء الميتة التي لا رطوبة فيها كالشعر و الظفر و الريش مذاهب هل هو طاهر أو نجس ثلاثة أقوال
أحدها نجاستها مطلقا كقول الشافعي و رواية عن أحمد بناء على أنها جزء من الميتة
و الثاني طهارتها مطلقا كقول أبي حنيفة و قول في مذهب أحمد بناء على أن الموجب للنجاسة هن الرطوبات و هي إنما تكون فيما يجري فيه الدم و لهذا حكم بطهارة مالا نفس له سائلة فما لا رطوبة فيه من الأجزاء بمنزلة مالا نفس له سائلة
و الثالث نجاسة ما كان فيه حس كالعظم إلحاقا له باللحم اليابس و عدم نجاسة ما لم يكن فيه إلا النماء كالشعر إلحاقا له بالنبات
و أصل آخر وهو طهارة الأحداث التي هي الوضوء و الغسل فإن مذهب فقهاء الحديث استعملوا فيها من السنن ما لا يوجد لغيرهم و يكفي المسح على
(1/14)
الخفين وغيرها من اللباس و الحوائل فقد صنف الإمام أحمد كتاب المسح على الخفين و ذكر فيه من النصوص عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه في المسح على الخفين و الجوربين و على العمامة بل على خمر النساء كما كانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم و غيرها تفعله و على القلانس كما كان أبو موسى و أنس يفعلانه ما إذا تأمله العالم علم فضل علم أهل الحديث على غيرهم مع أن القياس يقتضي ذلك اقتضاءا ظاهرا و إنما توقف عنه من توقف من الفقهاء لأنهم قالوا بما بلغهم من الأثر و جبنوا عن القياس ورعا
و لم يختلف قول أحمد فيما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم كأحاديث المسح على العمائم و الجوربين و التوقيت في المسح و إنما اختلف قوله فيما جاء عن الصحابة كخمر النساء و كالقلانس الدنيات
و معلوم أن في هذا الباب من الرخصة التي تشبه أصول الشريعة و توافق الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم
و اعلم أن كل من تأول في هذه الأخبار تأويلا مثل كون المسح على العمامة مع بعض الرأس هو المجزئ و نحو ذلك لم يقف على مجموع الأخبار و إلا فمن وقف على مجموعها أفادته علما يقينا بخلاف ذلك
و أصل آخر في التيمم فإن أصح حديث فيه حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه المصرح بأنه يجزئ ضربة واحدة للوجه والكفين وليس في الباب حديث يعارضه من جنسه وقد أخذ به فقهاء الحديث أحمد وغيره وهذا أصح من قول
(1/15)
من قال يجب ضربتان والى المرفقين كقول أبي حنيفة والشافعي في الجديد أو ضربتان إلى الكوعين
وأصل آخر في الحيض والاستحاضة فإن مسائل الاستحاضة من أشكل أبواب الطهارة وفي الباب عن النبي صلى الله عليه و سلم ثلاث سنن سنة في المعتادة أنها ترجع إلى عادتها وسنة في المميزة أنها تعمل بالتمييز وسنة في المتحيرة التي ليست لها عادة ولا تتميز بأنها تتحيض غالب عادات النساء ستا أو سبعا وأن تجمع بين الصلاتين إن شاءت
فأما السنتان الأولتان ففي الصحيح وأما الثالثة فحديث حمنة بنت جحش رواه أهل السنن وصححه الترمذي وكذلك قد روى أبو داود وغيره في سهلة بنت سهيل بعض معناه
وقد استعمل أحمد هذه السنن الثلاث في المعتاد المميزة والمتحيرة فإن اجتمعت العادة والتمييز قدم العادة في أصح الروايتين كما جاء في أكثر الأحاديث
فأما أبو حنيفة فيعتبر العادة إن كانت ولا يعتبر التمييز ولا الغالب بل إن لم تكن عادة إن كانت مبتدأة حيضها حيضة الأكثر وإلا حيضة الأقل
ومالك يعتبر التمييز ولا يعتبر العادة ولا الأغلب فإن لم يعتبر العادة ولا الأغلب فلا يحيضها بل تصلى أبدا إلا في الشهر الأول فهل تحيض أكثر الحيض أو عادتها وتستظهر ثلاثة أيام على روايتين
والشافعي يستعمل التمييز والعادة دون الأغلب فإن اجتمع قدم التمييز وإن عدم صلت أبدا واستعمل من الاحتياط في الإيجاب والتحريم والإباحة ما فيه مشقة عظيمة علما وعملا
فالسنن الثلاث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذه الحالات الفقهية استعملها فقهاء الحديث ووافقهم في كل منها طائفة من الفقهاء
(1/16)
بعضها أربعا في الحضر و اثنتين في السفر و بعضها ثلاثا و بعضها اثنتين في الحضر و السفر و تقدير عملها أيضا و لهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم و التأخير في الزمان كما يجوز أيضا القصر من عددها ومن صفتها بحسب ما جاءت به الشريعة و ذلك أيضا مقدر عند العذر كما هو مقدر عند غير العذر و لهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل أو صلاة الليل إلى النهار و صلاتي النهار الظهر و العصر و صلاتي الليل المغرب العشاء و كذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها و صفتها و هو موقوت محدود ولا بد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء فالقيام محدود بالانتصاب بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحنى الراكع باختياره لم يكن قد أتى بحد القيام
ومن المعلوم أن ذكر القيام الذي هو القراءة أفضل من ذكر الركوع و السجود و لكن نفس عمل الركوع و السجود أفضل من عمل القيام و لهذا كان عبادة بنفسه و لم يصح في شرعنا إلا لله بوجه من الوجوه و غير ذلك من الأدلة المذكورة في غير هذا الموضع
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها فالساجد عليه أن يصل إلى الأرض وهو غاية التمكن ليس له غاية دون ذلك إلا العذر وهو من حين انحنائه أخذ في السجود سواء سجد من قيام أو من قعود فينبغي أن يكون ابتداء السجود مقدرا بذلك بحيث يسجد من قيام أو قعود لا يبكون سجوده من انحناء فإن ذلك يمنع كونه مقدرا محدودا بحسب الإمكان ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال في الركوع وبين السجدتين
وأيضا ففي ذلك إتمام الركوع والسجود
وأيضا فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر وذلك هو الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا فإن قدر الشيء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده ولهذا يقال للشيء الدائم ليس له قدر
(1/36)
فإن القدر لا يكون لأدنى حركة بل لحركة ذات امتداد
وأيضا فإن الله عز و جل أمرنا بإقامتها والإقامة أن تجعل قائمة والشيء القائم هو المستقيم المعتدل فلا بد أن تكون افعال الصلاة مستقرة معتدلة وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها وهذا يتضمن الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يقم السجود ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر وكذلك الراكع
يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة وأخرجاه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتموا الصفوف فإني أراكم من خلف ظهري وفي لفظ أقيموا الصفوف وروى البخاري من حديث حميد عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهرى وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وبدنه ببدنه
فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا لم يكونوا مصطفين ولكانوا يؤمرون الإعادة وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده فأمر النبى صلى الله علية وسلم أن يعيد الصلاة فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
ويدل على ذلك وهو دليل مستقل في المسألة ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي وفي رواية من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم وفي رواية للبخاري عن همام عن قتادة عن أنس
(1/37)
رضى الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول أتموا الركوع والسجود فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي وابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضى الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال أتموا الركوع والسجود ولفظ ابن أبي عروبة أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم وذكره
فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامها كما في اللفظ الآخر وأيضا فأمر لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة بل الأمر بالإقامة يقتضي أيضا الإعتدال فيهما وإتمام طرفيهما وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الإنصراف قبله
وأيضا فقوله تعالى 2 : 238 حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين أمر بالقنوت للقيام لله والقنوت دوام الطاعة لله عز و جل سواء كان في حال الانتصاب أو في حال السجود كما قال تعالى 9 : 39 أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه وقال تعالى 4 : 34 فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله وقال 31 : 33 ومن يقنت منكن لله ورسوله 2 : 116 وقال وله من في السموات والأرض كل له قانتون
فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى وقوموا لله قانتين إما أن يكون أمرا لإقامة الصلاة مطلقا كما في قوله 4 : 135 كونوا قوامين بالقسط فيعم أفعالها ويقتضي الدوام في أفعالها وإما أن يكون المراد به قيام المخالف للقعود فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده ويقتضي الطول وهو القنوت المتضمن للدعاء كقنوت النوازل وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه
(1/38)
و عامة المتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح و التزويج كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكناية لأن الكناية تفتقر إلى نية و الشهادة شرط في صحة النكاح و الشهادة على النيه غير ممكنة و منعوا من انعقاد النكاح بلفظ الهبة أو العطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك
وقال أكثر هؤلاء كابن حامد و القاضي و المتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها ومن لم يقدر على تعلمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان و إن قدر على تعلمها ففيه وجهان بناء على أنه مختص بهذين اللفظين و أن فيه ثواب التعبد
وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله ولم ينص أحمد على ذلك ولا نقلوا عنه نصا في ذلك و إنما نقلوا قوله في رواية أبي الحرث إذا وهبت نفسها لرجل فليس بنكاح فإن الله تعالى قال خالصة لك من دون المؤمنين و هذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي صلى الله عليه و سلم وهو النكاح بغير مهر بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته أعتقتك و جعلت عتقك صداقك و بقوله جعلت عتقك صداقك أو صداقك عتقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته
فاختلف أصحابه فأما أبو عبد الله بن حامد فطرد قياسه و قال لا بد مع ذلك من أن يقول تزوجتها أو نكحتها لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين الصيغتين
و أما القاضي أبو يعلى و غيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد و أن ذلك من صور الاستحسان
و ذكر ابن عقيل قولا في المذهب أنه ينعقد بغير لفظ الإنكاح و التزويج لنص أحمد بهذا وهذا أشبه بنصوص أحمد و أصوله
و مذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه فأن أصحاب مالك اختلفوا هل
(1/107)
ينعقد بغير لفظ الإنكاح و التزويج على قولين و المنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي صلى الله عليه و سلم من هبة البضع بغير مهر قال ابن القاسم و إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك فهو عندي جائز و ما ذكره بعض أصحاب مالك و أحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما فإن الحكم مبني على مقدمتين
إحداهما أن ما سوي ذلك كناية وأن الكناية مفتقرة إلى النية و مذهبهما المشهور أن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة و تقوم مقام إظهار النية و لهذا جعلا الكنايات في الطلاق و القذف و نحوهما مع دلالة الحال كالصريح
و معلوم أن دلالات الأحوال في النكاح معروفة من اجتماع الناس لذلك و التحدث بما اجتمعوا له فإذا قال بعد ذلك ملكتكها لك بألف درهم علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الانكاح و قد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده إملاكا و ملاكا و لهذا روى الناس قول النبي صلى الله عليه و سلم لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد رووه تارة أنكحتكها بما معك من القرآن و تارة ملكتكها و إن كان النبي صلى الله عليه و سلم لم يثبت عنه أنه اقتصر على ملكتكها بل إما أنه قالهما جميعا أو قال أحدهما لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء رووا الحديث تارة هكذا و تارة هكذا
ثم تعيين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد و نصوصه و عن أصول الأدلة الشرعية إذ النكاح يصح من الكافر و المسلم و هو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق و الصدقة و معلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي و لا عجمي و كذلك الصدقة و الوقف و الهبة لا يتعين لها لفظ عربي بالإجماع
(1/108)
شاء الله أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه فإن هذا اليمين بالطلاق و العتاق وهما ليسا من الأيمان فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة و الحج و نحوهما و ذلك معلوم بالاضطرار عقلا و عرفا و شرعا و لهذا لو قال و الله لا أحلف على يمين أبدا ثم قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق حنث
وقد تقدم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سموه يمينا و كذلك عامة المسلمين يسمونه يمينا فمعنى اليمين موجود فيه فإنه إذا قال أحلف بالله لأفعلن إن شاء الله فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه و المعنى إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه فلا يكون ملتزما له و إلا فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد أني حالف إن شاء الله أن أكون حالفا كان معنى هذا معنى الاستثناء في الإنشاءات كالطلاق و العتاق و على مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك و كذلك قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله تعود المشيئة عند الإطلاق إلى الفعل فالمعنى لأفعلنه إن شاء الله فعله فمتى لم يفعله لم يكن الله قد شاءه فلا يكون ملتزما للطلاق بخلاف ما لو عنى الطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه فإن هذا بمنزلة قوله أنت طالق إن شاء الله
وقول أحمد إنما يكون الاستثناء فيما فيه الكفارة و الطلاق و العتاق لا يكفران كلام حسن بليغ لما تقدم أن النبي صلى الله عليه و سلم أخرج حكم الاستثناء و حكم الكفارة مخرجا واحدا بصيغة واحدة فلا يفرق بين ما جمعه النبي صلى الله عليه و سلم و لأن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل فإن الأحكام التي هي الطلاق و العتاق و نحوهما لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها فإنها واجبة بوجود أسبابها فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله و إنما تعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد و نحوها
(1/256)
بين خصال الكفارة و إن كان بين الفعل و الحكم كما في قوله إن فعلت كذا فعبدي حر أو امرأتي طالق أو دمي هدر أو مالي صدقة أو بدنتي هدي تعين الحكم بالقول ولم يتعين الفعل إلا بالفعل و الله سبحانه و تعالى أعلم
آخر ما تيسر بحمد الله و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم
(1/272)
المال بالباطل أو ما يذكر من هذا الجنس وهذه المعاني منتفية في الفرع فإذا لم يكن التحريم موجب إلا كذا وهو منتف فلا تحريم
و أما الأحاديث حديث رافع بن خديج و غيره فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي صلى الله عليه و سلم أنه لم يكن نهيا عما فعل هو و الصحابة في عهده و بعده بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه فعن رافع بن خديج قال كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا كنا نكرى الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض قال مما يصاب ذلك و تسلم الأرض ومما تصاب الأرض و يسلم ذلك فنهينا فأما الذهب و الورق فلم يكن يومئذ رواه البخاري وفي رواية له قال كنا أكثر أهل المدينة حقلا وكان أحدنا يكرى أرضه فيقول هذه القطعة لي وهذه لك فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه فنهاهم النبي صلى الله عليه و سلم وفي رواية فربما أخرجت هذه كذا ولم تخرج ذه فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق وفي صحيح مسلم عن رافع قال كنا أكثر أهل الأمصار حقلا قال كنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك و أما الورق فلم ينهنا وفي مسلم أيضا عن حنظلة بن قيس قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب و الورق فقال لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بما على الماذيانات و أقبال الجداول و أشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا و يهلك هذا و يسلم هذا فلم يكن الناس كراء إلا هذا فلذلك زجر الناس عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به
فهذا رافع بن خديج الذي عليه مدار الحديث يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل و هذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة و حرموا نظيره في المضاربة فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات
(1/171)
وعن ابن عباس قال صالح رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر و البقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين و عارية ثلاثين درعا و ثلاثين فرسا و ثلاثين بعيرا و ثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها و المسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غارة رواه أبو داود
فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس غير موصوفة بصفات المسلم و كذلك عارية خيل و إبل و أنواع من السلاح مطلقة موصوفة عند شرط قد يكون وقد لا يكون
فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال كالصداق و الكتابة و الفدية في الخلع و الصلح عن القصاص و الجزية و الصلح مع أهل الحرب ليس بواجب أن يعلم كما يعلم الثمن و الأجرة ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر لأن الأموال إما إنها لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون أيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر و الحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده
فصل
و مما تمس الحاجة إليه من فروع هذا القاعدة ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ما قد عمت به البلوى في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها لا سيما دمشق و ذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس و أرض تصلح للزرع و ربما اشتملت مع ذلك على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها و يزدرعها أو يسكنها مع ذلك فهذا إذا كان فيها أرض و وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال
(1/137)
كانوا يوعدون و في القراءة الأخرى خشعا أبصارهم وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصاره بخلاف آية الصلاة فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين بقوله تعالى الذين هم في صلاتهم خاشعون و قوله نعالى وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
وقال تعالى 43 - 42 : 68 يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة
و من ذلك خشوع الأصوات كقوله تعالى 20 : 108 و خشعت الأصوات للرحمن وهو انخفاضها و سكونها و قال تعالى 42 : 45 - 44 وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل و تراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال تعالى 5 - 2 : 88 وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية و هذا يكون يوم القيامة وهذا هو الصواب من القولين بلا ريب كما قال في القسم الآخر 10 - 8 : 88 وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية وقال تعالى 21 : 73 - 72 ووهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين
و إذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو متضمن للسكون و الخشوع فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده و كذلك من لم يرفع رأسه من الركوع و يستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن
(1/45)
و من لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا وهو الذي بيناه
و يدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي صلى الله عليه و سلم توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته و رفعه وهو ضد حال الخاشع فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك فقال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم وعن جابر بن سمرة قال دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد و فيه ناس يصلون رافعي أبصارهم إلى السماء فقال لينتهين رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم أبصارهم الأول في البخاري و الثاني في مسلم و كلاهما في سنن أبي داود و النسائي و ابن ماجة
و قال محمد ابن سيرين كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع بصره في الصلاة فلما نزلت هذه الآية قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون لم يكن يجاوز بصره موضع سجوده رواه الإمام أحمد في كتاب الناسخ و المنسوخ
فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع حرمه النبي صلى الله عليه و سلم و توعد عليه
وأما الالتفات لغير حاجة فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه فلهذا كان ينقص الصلاة كما روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضى الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن التفات الرجل في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
وروى أبو داود والنسائي عن أبي الأحوص عن أبى ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه وأما لحاجة فلا بأس به كما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح
(1/46)
فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب قال أبو داود وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس وهذا كحمله أمامة بنت أبى العاص بن الربيع من زينب بنت رسول الله وفتحه الباب لعائشة ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم وتأخره في صلاة الكسوف وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة وأمره برد المار بين يدي المصلى ومقاتلته وأمره النساء بالتصفيق وإشارته في الصلاة وغير ذلك من الأفعال التي تفعل لحاجة ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة
ويدل على ذلك أيضا حارواه تميم الطائي عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم والناس رافعوا أيديهم قال الراوي وهو زهير بن معاوية وأراه قال في الصلاة فقال مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة رواه مسلم وأبو داود والنسائي ورووا أيضا عن عبيد الله بن القبطية عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه ومن عن يساره فلما صلى قال ما بال أحدكم يومئ بيده كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفي أحدكم أو ألا يكفي أحدكم أن يقول هكذا وأشار بإصبعه يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله وفي رواية قال أما يكفي أحدكم أو أحدهم أن يضع يده على ففخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله ولفظ مسلم صلينا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا السلام عليكم فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يؤمى بيده
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسكون في الصلاة وهذا يقتضي
(1/47)
مشهور عنه وهي مسألة نزاع بين العلماء مشهورة وقد قال ابن عبد البر لما ذكر حديث أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض و رفع فلما انصرف قال و الله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ابن عبد البر إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك و يدل عيه مارواه ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعلهن و تركهن الناس كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا و كان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله و كان يكبر كلما رفع و خفض قلت هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة و الفقهاء ممن لا يرفع اليدين ولا يوجب التكبير ومن لا يستحب الاستفتاح و الاستعاذة ومن لا يجهر من الأئمة بتكبير الانتقال
قال و قد قال قوم من أهل العلم إن التكبير إنما هو إيذان بحركات الإمام و شعار للصلاة و ليس بسنة إلا في الجماعة أما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر و لهذا ذكر مالك هذا الحديث و حديث ابن شهاب عن علي بن حسين قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكبر في الصلاة كلما خفض و رفع فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله عز و جل و حديث ابن عمر و جابر رضي الله عنهم أنهما كانا يكبران كلما خفضا و رفعا في الصلاة فكان جابر يعلمهم ذلك قال فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة
قلت ما ذكره مالك فكما ذكره و أما ما ذكره ابن عبد البر من الخلاف فلم أجده ذكر لذلك أصلا إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين أن التكبير مشروع في الصلوات و إنما ذكر ذلك مالك و غيره و الله أعلم لأجل ما كره من فعل الأئمة الذين كانوا لا يتمون التكبير و قد قال ابن عبد البر روى
(1/67)
المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرا و نظرا وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه و اختيار طائفة من أصحابه
و القول الأول قول من اشترط أن يبذر رب الأرض وقول من فرق بين أن يكون إجارة أو مزارعة هو في الضعف نظير من سوى بين الإجارة الخاصة و المزارعة أو أضعف
أما بيان نص أحمد فهو أنه إنما جوز المؤاجرة ببعض الزرع استدلالا بقصة معاملة النبي صلى الله عليه و سلم لأهل خيبر و معاملته لهم إنما كانت مزارعة لم تكن بلفظ الإجارة فمن الممتنع أن أحمد لا يجوز ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم إلا بلفظ الإجارة و يمنع فعله باللفظ المشهور
و أيضا فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم كما تقدم ولم يدفع إليهم النبي صلى الله عليه و سلم بذرا فإذا كانت المعاملة التي فعلها النبي صلى الله عليه و سلم إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم فكيف يحتج بها أحمد على المزارعة ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل و النبي صلى الله عليه و سلم قد قال لليهود نقركم فيها ما أقركم الله لم يشترط مدة معلومة حتى يقال كانت إجارة لازمة لكن أحمد حيث قال في إحدى الروايتين إنه يشترط كون البذر من المالك فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياسا على المضاربة و إذا أفتى العالم بقول لحجة ولهما معارض راجح لم يستحضر حينئذ ذلك المعارض الراجح ثم لما أفتى بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالا بمزارعة خيبر فلا بد أن يكون في خيبر كان البذر عنده من العامل و إلا لم يصح الاستدلال فإن فرضنا أن أحمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج و بين المزارعة ببذر العامل كما فرق بينهما طائفة من أصحابه فمستند هذا الفرق ليس مأخذا شرعيا فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات
(1/180)
أصحهما أنه محرم ولهذا قال أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وغيره أنه إذا قال أيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا لزمه اليمين بالله والنذر والطلاق والعتاق والظهار ولم يذكر الحرام لأن يمين الحرام ظهار عند أحمد وأصحابه فلما كان موجبها واحد عندهم دخل الحرام في الظهار ولم يدخلوا النذر في اليمين بالله وإن جاز أن يكفر يمينه بالنذر لأن موجب الحلف بالنذر المسمى بنذر اللجاج والغضب عند الحنث هو التخيير بين التكفير وبين فعل المنذور وموجب اليمين بالله هو التكفير فقط فلما اختلف موجهما جعلوهما يمينين
نعم إذا قالوا بالرواية الأخرى عن أحمد وهو أن الحلف بالنذر موجبه الكفارة فقط دخلت اليمين بالنذر في اليمين بالله
و أما اختلافهم و اختلاف غيرهم من العلماء في أن مثل هذا الكلام هل ينعقد به اليمين أو لا ينعقد فسأذكره إن شاء الله تعالى و إنما غرضي هنا حصر الأيمان التي يحلف بها المسلمون
و أما أيمان البيعة فقالوا أول من أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي و كانت السنة أن الناس يبايعون الخلفاء كما بايع الصحابة النبي صلى الله عليه و سلم يعقدون البيعة كما يعقدون عقد البيع و النكاح و نحوهما إما أن يذكروا الشروط التي يبايعون عليها ثم يقولون بايعناك على ذلك كما بايعت الأنصار النبي صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة فلما أحدث الحجاج ما أحدث من الفسق كان من جملته أن حلف الناس على بيعتهم لعبد الملك بن مروان بالطلاق و العتاق و اليمين بالله صدقة المال فهذه الأيمان الأربعة هي كانت أيمان البيعة القديمة المبتدعة ثم أحدث المستخلفون عن الأمراء و الملوك و غيرهم أيمانا كثيرة أكثر من ذلك وقد تختلف فيها عاداتهم ومن أحدث ذلك فعليه إثم ما ترتب على هذه الأيمان من الشر
المقدمة الثانية أن تخرج اليمين عن هاتين الصيغتين فالأول كقوله
(1/223)
و الله لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا أو الحل علي حرام لا أفعل كذا أو علي الحج لا أفعل كذا و الثاني كقوله إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو فما لي صدقة و لهذا عقد الفقهاء لمسائل الأيمان بابين أحدهما باب تعليق الطلاق بالشروط فيذكرون فيه الحلف بصيغة الجزاء كإن و إذا و متى أشبه ذلك و إن دخل فيه صيغة القسم ضمنا و تبعا و الباب الثاني باب جامع الأيمان مما يشترك فيه اليمين بالله و الطلاق و العتاق و غير ذلك فيذكرون فيه الحلف بصيغة القسم و إن دخلت صيغة الجزاء ضمنا و تبعا
و مسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الباب الآخر لاتفاقهما في المعنى كثيرا أو غالبا و لذلك كان طائفة من الفقهاء كأبي الخطاب و غيره لما ذكروا في كتاب الطلاق باب تعليق الطلاق بالشروط أردفوه بباب جامع الأيمان و طائفة أخرى كالخرقى و القاضي أبي يعلى و غيرهما إنما ذكروا باب جامع الأيمان في كتاب الأيمان لأنه به أمس و نظير هذا الباب حد القذف منهم من يذكره عند باب اللعان لاتصال أحدهما بالآخر و منهم من يؤخره إلى كتاب الحدود لأنه به أخص
و إذا تبين أن لليمين صيغتين صيغة القسم و صيغة الجزاء فالمقدم صيغة القسم مؤخر في صيغة الجزاء و المؤخر في صيغة الجزاء مقدم في صيغة القسم و الشرط المنفي في صيغة الجزاء مثبت في صيغة القسم فإنه إذا قال الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فقد حلف بالطلاق أن لا يفعل فالطلاق مقدم و الفعل مؤخر منفي ولو حلف بصيغة الجزاء لقال إن فعلت كذا فامرأتي طالق فكان تقدم الفعل مثبتا و تأخر الطلاق منفيا كما أنه في القسم قدم الحكم
(1/224)
و أخر الفعل و بهذه القاعدة تنحل مسائل كثيرة من مسائل الأيمان
فأما صيغة الجزاء فهي جملة فعلية في الأصل فإن أدوات الشرط لا يتصل بها في الأصل إلا الفعل و أما صيغة القسم فتكون فعلية كقوله أحلف بالله أو تالله أو و الله و نحو ذلك و تكون اسمية كقوله لعمر الله لأفعلن و الحل علي حرام لأفعلن
ثم هذا التقسيم ليس من خصائص الأيمان التي بين العبد و بين الله بل غير ذلك من العقود التي تكون بين الآدميين تارة تكون بصيغة التعليق الذي هو الشرط و الجزاء كقوله في الجعالة من رد عبدي الآبق فله كذا وقوله في السبق من سبق فله كذا و تارة بصيغة الجزم و التحقيق إما صيغة خبر كقوله بعت و زوجت و إما صيغة طلب كقول بعني و اخلعني
المقدمة الثالثة و بها يظهر مسائل الأيمان و نحوها أن صيغة التعليق التي تسمى صيغة الشرط و صيغة المجازاة تنقسم إلى ستة أنواع لأن الحالف إما أن يكون مقصوده وجود الشرط فقط أو وجود الجزاء فقط أو وجودهما و إما أن لا يقصد وجود واحد منهما بل يكون مقصوده عدم الشرط فقط أو عدم الجزاء فقط أو عدمهما فالأول بمنزلة كثير من صور الخلع و الكتابة و نذر التبرر و الجعالة و نحوها فإن الرجل إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق أو فقد خلعتك أو قال لعبده إن أديت ألفا فأنت حر أو قال إن رددت عبدي الآبق فلك ألف درهم أو قال إن شفى الله مريضي أو سلم مالي الغائب فعلي عتق كذا أو الصدقة بكذا فالمعلق قد لا يكون مقصوده إلا أخذ المال و رد العبد و سلامة النفس و المال و إنما التزم الجزاء على سبيل العوض كالبائع الذي إنما مقصوده أخذ الثمن و التزم أداء المبيع على سبيل العوض
فهذا الضرب هو شبيه بالمعاوضة في البيع و الإجارة و كذلك إذا كان قد جعل الطلاق عقوبة لها مثل أن يقول إذا ضربت أمتي فأنت طالق أو إن
(1/225)
خرجت من الدار فأنت طالق فإنه في الخلع عوضها بالتطليق عن المال لأنها تريد الطلاق وهنا عوضها عن بعضيتها بالطلاق
و أما الثاني فمثل أن يقول لامرأته إذا طهرت فأنت طالق أو يقول لعبده إذا مت فأنت حر أو إذا جاء رأس الحول فأنت حر أو فمالي صدقة و نحو ذلك من التعليق الذي هو توقيت محض فهذا الضرب هو بمنزلة المنجز في أن كل واحد منهما قصد الطلاق و العتاق و إنما أخره إلى الوقت المعين بمنزلة تأجيل الدين و بمنزلة من يؤخر التطليق من وقت إلى وقت لغرض له في التأخير لا لعوض ولا لحلف على طلب أو خبر و لهذا قال الفقهاء من أصحابنا و غيرهم إذا حلف أنه لا يحلف بالطلاق مثل أن يقول والله لا أحلف بطلاقك أو إن حلفت بطلاقك فعبدي حر أو فأنت طالق وأنه إذا قال إن دخلت أو إن لم تدخلي و نحو ذلك مما فيه معنى الحض أو المنع فهو حالف ولو كان تعليقا محضا كقوله إذا طلعت الشمس فأنت طالق أو أنت طالق إن طلعت الشمس فاختلفوا فيه قال أصحاب الشافعي ليس بحالف وقال أصحاب أبي حنيفة و القاضي في الجامع هو حالف
و أما الثالث وهو أن يكون مقصوده وجودهما فمثل الذي قد آذته المرأة حتى أحب طلاقها و استرجاع الفدية منها فيقول إن أبرأتيني من صداقك أو من نفقتك فأنت طالق وهو يريد كلا منهما
و أما الرابع وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط لكنه إذا وجد لم يكره الجزاء بل يحبه أو لا يحبه ولا يكرهه فمثل أن يقول لامرأته إن زنيت فأنت طالق أو إن ضربت أمي فأنت طالق و نحو ذلك من التعليق الذي يقصد فيه عدم الشرط و يقصد وجود الجزاء عند وجوده بحيث إذا زنت أو إذا ضربت أمه يجب أن يفارقها لأنها لا تصلح له فهذا فيه معنى اليمين و فيه معنى التوقيت فإنه منعها من الفعل و قصد إيقاع الطلاق عنده كما قصد
(1/226)
إيقاعه عند أخذ العوض منها أو عند طهرها أو عند طلوع الهلال
و أما الخامس وهو أن يكون مقصوده عدم الجزاء و تعلقه بالشرط لئلا يوجد و ليس له غرض في عدم الشرط فهذا قليل كمن يقول إن أصبت مائة رمية أعطيتك كذا
و أما السادس وهو أن يكون مقصودهما عدم الشرط و الجزاء و إنما تعلق الجزاء بالشرط ليمتنع وجودهما فهو مثل نذر اللجاج و الغضب و مثل الحلف بالطلاق و العتاق على حض أو منع أو تصديق أو تكذيب مثل أن يقال له تصدق على فلان أو أصلح بين فلان و فلان أو حج في هذه السنة فيقول إن تصدقت عليه فعليه صيام كذا أو فامرأته طالق أو فعبيده أحرار أو يقول إن لم أفعل كذا و كذا فعلي نذر كذا أو امرأتي طالق أو عبدي حر أو يحلف على غيره ممن يقصد منعه كعبده و نسيبه و صديقه ممن يحضه على طاعته فيقول له إن فعلت أو إن لم تفعلي فعلي كذا أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار و نحو ذلك
فهذا نذر اللجاج و الغضب و ما أشبهه من الحلف بالطلاق و العتاق يخالف في المعنى نذر التبرر و التقرب و ما أشبهه من الخلع و الكتابة فإن الذي يقول إن سلمني الله أو سلم مالي من كذا أو إن أعطاني الله كذا فعلي أن أتصدق أو أصوم أو أحج قصده حصول الشرط الذي هو الغنيمة أو السلامة و قصد أن يشكر الله على ذلك بما نذره و كذلك المخالع و المكاتب قصده حصول العوض و بذل الطلاق و العتاق عوضا عن ذلك
و أما النذر في اللجاج و الغضب فكما إذا قيل له افعل كذا فامتنع من فعله ثم قال إن فعلته فعلي الحج أو الصيام فهنا مقصوده أن لا يكون الشرط ثم إنه لقوة امتناعه ألزم نفسه إن فعله بهذه الأمور الثقيلة عليه ليكون لزومها له إذا فعل مانعا له من الفعل و كذلك إذا قال إن فعلته فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار إنما مقصوده الامتناع و التزم بتقدير الفعل ما هو
(1/227)
شديد عليه من فراق أهله و ذهاب ماله ليس غرض هذا أن يتقرب إلى الله بعتق أو صدقة ولا أن يفارق امرأته و لهذا سمى العلماء هذا نذر اللجاج و الغضب مأخوذا من قول النبي صلى الله عليه و سلم فيما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة والله لا يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي الكفارة التي فرض الله عليه
فصورة هذا النذر صورة نذر التبرر في اللفظ و معناه شديد المباينة لمعناه ومن هذا نشأت الشبهة التي سنذكرها في هذا الباب إن شاء الله تعالى على طائفة من العلماء و بهذا يتبين فقه الصحابة الذين نظروا إلى معاني الألفاظ لا إلى صورها
إذا تبينت هذه الأنواع الداخلة في قسم التعليق فقد علمت أن بعضها معناه معنى اليمين بصيغة القسم و بعضها ليس معناه معنى اليمين بصيغة القسم فمتى كان الشرط المقصود حضا على فعل أو منعا منه أو تصديقا لخبر أو تكذيبا كان الشرط مقصود العدم هو و جزاؤه كنذر اللجاج والغضب و الحلف بالطلاق على وجه اللجاج و الغضب
القاعدة الأولى أن الحالف بالله سبحانه قد بين الله حكمه بالكتاب و السنة و الإجماع
أما الكتاب فقال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم و الله غفور رحيم و قال قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم و قال لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشره مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم و و احفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون
(1/228)
فإن هذا لا يشبه هذا ألا ترى أن عمر فرق بينهما العتق و الطلاق لا يكفران و أصحاب أبي حنيفة يقولون إذا قال الرجل مالي في المساكين إنه يتصدق به على المساكين و إذا قال مالي على فلان صدقة و فرقوا بين قوله إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فعلي الحج و بين قوله فامرأته طالق أو فعبدي حر بأنه هناك وجب القول وجوب الصدقة و الحج لا وجود الصدقة و الحج
فإذا اقتضى الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلا عن هذا الواجب كما تكون بدلا عن غيره من الواجبات كما كانت في أول الإسلام بدلا عن الصوم الواجب و الإطعام بدلا عن الصوم عن العاجز عنه و كما تكون بدلا عن الصوم الواجب في ذمة الميت فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بأدائه و أداء غيره
و أما العتق و الطلاق فإن موجب الكلام وجودهما فإذا وجد الشرط وجد العتق و الطلاق و إذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما لأنهما لا يقبلان الفسخ بخلاف ما لو قال إن فعلت كذا فلله علي أن أعتق فإنه هنا لم يعلق العتق و إنما علق وجوبه بالشرط فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذي أوجبه على نفسه و بين الكفارة التي هي بدلا عنه ولهذا لو قال إذا مت فعبدي حر عتق بموته من غير حاجة إلى الإعتاق ولم يكن له فسخ هذا التدبير عند الجمهور إلا قولا للشافعي و رواية أحمد وفي بيعه الخلاف المشهور ولو وصى بعتقه فقال إذا مت فأعتقوه كان له الرجوع في ذلك كسائر الوصايا وكان بيعه هنا و إن لم يجز كبيع المدبر
ذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة في تاريخه أن المهدي لما رأى ما أجمع عليه رأي أهل بيته من العهد عزم على خلع عيسى و دعاهم إلى البيعة لموسى فامتنع عيسى من الخلع و زعم أن عليه أيمانا تخرجه من أملاكه و تطلق نساءه فأحضر له المهدي ابن علاثة و مسلم ابن خالد الزنجي و جماعة من الفقهاء
(1/238)
تحلة أيمانكم و التحلة مصدر حللت الشيء تحليلا و تحلة كما يقال كرمته تكريما و تكرمة وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه الذي هو الكفارة فإن أريد المصدر فالمعنى فرض الله لكم تحليل اليمين وهو حلها الذي هو خلاف العقد أو الحل و لهذا استدل من استدل من أصحابنا و غيرهم كأبي بكر بن عبد العزيز بهذه الآية على التكفير قبل الحنث لأن التحلة لا تكون بعد الحنث فإنه بالحنث تنحل اليمين و إنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لتتحلل اليمين و إنما هي بعد الحنث كفارة لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله
فإذا تبين أن ما اقتضته اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الأخبار التي نبه عليها بقوله تعالى و يضع عنهم إصرهم فالأفعال ثلاثة إما طاعة و إما معصية و إما مباح فإذا حلف ليفعلنه مباحا أو ليتركنه فهنا الكفارة مشروعة بالإجماع و كذلك إذا كان المحلوف عليه فعل مكروه أو ترك مستحب وهو المذكور في قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا و تتقوا و تصلحوا بين الناس و الله سميع عليم
و أما إن كان المحلوف عليه ترك واجب أو فعل محرم فهنا لا يجوز الوفاء به بالاتفاق بل يجب التكفير عند عامة العلماء
و أما قبل أن تشرع الكفارة فكان الحالف على مثل هذا لا يحل له الوفاء بيمينه ولا كفارة له ترفع عنه مقتضى الحنث بل يكون عاصيا معصية لا كفارة فيها سواء وفى أم لم يف كما لو نذر معصية عند من لم يجعل في نذره كفارة و إن كان المحلوف عليه فعل طاعة غير واجبة
فصل
فأما الحالف بالنذر الذي هو نذر اللجاج و الغضب مثل أن يقول إذا فعلت
(1/230)
كفارة أيمانكم إذا حلفتم و احفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون
و فيها قواعد عظيمة لكن تحتاج إلى تقديم مقدمات نافعة جدا في هذا الباب و غيره
المقدمة الأولى أن اليمين تشتمل على جملتين جملة مقسم بها و جملة مقسم عليها و مسائل الأيمان إما في حكم المحلوف به و إما في حكم المحلوف عليه
فأما المحلوف به فالأيمان التي يحلف بها المسلمون مما قد يلزم بها حكم ستة أنواع ليس لها سابع
أحدها اليمين بالله و ما في معناها مما فيه التزام كفر على تقدير الحنث كقوله هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا على ما فيه من الخلاف بين الفقهاء
الثاني اليمين بالنذر الذي يسمى نذر اللجاج و الغضب كقوله علي الحج لا أفعل كذا أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو مالي صدقة إن فعلت كذا و نحو ذلك
الثالث اليمين بالطلاق
الرابع اليمين بالعتاق
الخامس اليمين بالحرام كقوله الحل علي حرام لا أفعل كذا
السادس الظهار كقوله أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا
فهذا مجموع ما يحلف به المسلمون مما فيه حكم
فأما الحلف بالمخلوقين كالحلف بالكعبة أو قبر الشيخ أو بنعمة السلطان أو بالسيف أو بحياة أحد من المخلوقات فما أعلم بين العلماء خلافا أن هذه اليمين مكروهة منهي عنها و أن الحلف بها لا يوجب حنثا ولا كفارة وهل الحلف بها محرم أو مكروه كراهة تنزيه فيه قولان في مذهب أحمد و غيره
(1/222)
أليس كفارة يمين قال نعم قال وسمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا كل مملوك لها حر فأفتيت بكفارة يمين فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جاريته وأيمان فقال أما الجارية فعتق قال الأثرم حدثنا الفضل بن دكين حدثنا حسن عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء عن عائشة قالت من قال مالي في رتاج الكعبة وكل مالي فهو هدى وكل مالي في المساكين فليكفر عن يمينه
وقال حدثنا عارم بن الفضل حدثنا معتمر بن سلميان قال قال أبي حدثنا بكر بن عبد الله أخبرني أبو رافع قال قالت مولاتى ليلى بنت العجماء كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى هى يهودية وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال فأتيتها فجاءت معي إليها فقالت في البيت هاروت وماروت قالت يا زينب جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وامرأته فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها فقالت يا أم المؤمنين جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك محرر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وبين امرأته قال فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معي إليها فقام على الباب فسلم فقالت بأبي أنت وبأبي أبوك فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت أم من أى شئ أنت أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما قالت يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداءك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقال يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلى بين الرجل وبين امرأته
(1/232)
قال الأثرم حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا عمران عن قتادة عن زرارة ابن أوفى أن امرأة سألت ابن عباس أن امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته فقال ابن عباس أفي غضب أم في رضى قالت في غضب قال إن الله تعالى لا يتقرب إليه بالغضب لتكفر عن يمينها وقال حدثني ابن الطباع حدثنا أبو بكر بن عياش عن العلاء بن المسيب عن يعلى بن نعمان عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن الرجل جعل ماله في المساكين فقال أمسك عليك مالك وأنفقه على عيالك واقض به دينك وكفر عن يمينك وروى الأثرم عن أحمد قال حدثنا عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج قال سئل عطاء عن رجل قال على ألف بدنه قال يمين وعن رجل قال على ألف حجة قال يمين وعن رجل قال مالي هدى قال يمين وعن رجل قال مالي في المساكين قال يمين وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن وجابر بن زيد في الرجل يقول إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة قالا ليس الإحرام إلا على من نوى الحج يمين يكفرها وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال يمين يكفرها وقال حرب الكرمانى حدثنا المسيب بن واضح حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح قال سألت ابن عباس عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله الحرام قال إنما المشي على من نواه فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين
وأيضا فإن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه وهذا الحالف ليس مقصوده قربة الله وإنما مقصوده الحض على فعل أو المنع منه وهذا معنى اليمين فإن الحالف يقصد الحض على فعل شئ أو المنع منه ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة فلأن تجزيه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب
(1/233)
حنثه أنه قد هتك أيمانه بالله حيث لم يف بعهده وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضي الحنث فساده في التوحيد ونحو ذلك وجبره فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى
وأيضا فإنا نقول إن موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق والنذر نوع من اليمين وكل نذر فهو يمين فقول الناذر لله على أن أفعل بمنزلة قوله أحلف بالله لأفعلن موجب هذين القولين التزام الفعل معلقا بالله
والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه و سلم النذر حلفة فقوله إن فعلت كذا فعلى الحج لله بمنزلة قوله إن فعلت كذا فوالله لأحجن
وطرد هذا انه اذا حلف ليفعلن برا ! لزمه فعله ولم يكن له ان يكفر فإن حلفه ليفعلنه نذر لفعله
وكذلك طرد هذا أنه إذا نذر ليفعلن معصية أو مباحا فقد حلف على فعلها بمنزلة ما لو قال والله لأفعلن كذا ولو حلف بالله ليفعلن معصية أو مباحا لزمته كفارة يمين وكذلك لو قال على لله أن أفعل كذا
ومن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يفرق بين البابين
فصل
فأما اليمين بالطلاق أو العتاق في اللجاج و الغضب فمثل أن يقصد بها حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا مثل قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا فعلت كذا أو إن فعلت كذا فعبيدي أحرار أو إن لم أفعله فعبيدي أحرار فمن
(1/234)
قال من الفقهاء المتقدمين إن نذر اللجاج و الغضب يجب فيه الوفاء فإنه يقول هنا يقع الطلاق و العتاق أيضا و أما الجمهور الذين قالوا في نذر اللجاج والغضب تجزيه الكفارة فاختلفوا هنا مع أنه لم يبلغني عن الصحابة في الحلف بالطلاق كلام و إنما بلغنا الكلام فيها عن التابعين ومن بعدهم لأن اليمين به محدثة لم تكن تعرف في عصرهم و لكن بلغنا عن الصحابة الكلام في الحلف بالعتق كما سنذكره إن شاء الله
فاختلف التابعون ومن بعدهم في اليمين بالطلاق و العتاق فمنهم من فرق بينه و بين اليمين بالنذر وقالوا إنه يقع الطلاق و العتاق بالحنث ولا تجزيه الكفارة بخلاف اليمين بالنذر هذا رواية عوف عن الحسن وهو قول الشافعي و أحمد في الصريح المنصوص عنه و إسحاق بن راهويه و أبي عبيد و غيرهم
فروى حرب الكرماني عن معتمر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال
(1/235)
كل يمين و إن عظمت ولو حلف بالحج و العمرة و إن جعل ماله في المساكين ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حلف أو عتق غلام في ملكه يوم حلف فإنما هي يمين وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه إن كلمتك فامرأتي طالق و عبدي حر فقال لا يقوم هذا مقام اليمين و يلزمه ذلك في الغضب و الرضا و قال سليمان بن داود يلزمه الحنث في الطلاق و العتاق وبه قال أبو خيثمة قال إسماعيل حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق عن معمر بن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن حاضر الحميري أن امرأة حلفت بمالها في سبيل الله أو في المساكين و جاريتها حرة إن لم تفعل كذا و كذا فسألت ابن عمر و ابن عباس فقالا أما الجارية فتعتق و أما قولها في المال فإنها تزكي المال قال أبو إسحاق إبراهيمم الجوزجاني الطلاق و العتق لا يحلان في هذا محل الأيمان ولو كان المجزئ فيها مجزئا في الأيمان لوقع على الحالف بها إذا حنث كفارة وهذا مما لا يختلف الناس فيه أن لا كفارة فيها
قلت أخبر أبو إسحاق بما بلغه من العلم في ذلك فإن أكثر مفتي الناس في ذلك الزمان من أهل المدينة و أهل العراق أصحاب أبي حنيفة و مالك كانوا لا يفتون في نذر اللجاج و الغضب إلا بوجوب الوفاء لا بالكفارة و إن كان أكثر التابعين مذهبهم فيها الكفارة حتى إن الشافعي لما أفتى بمصر بجواز الكفارة كان غريبا بين أصحابه المالكية وقال له السائل يا أبا عبد الله هذا قولك فقال قول من هو خير مني قول عطاء بن أبي رباح فلما أفتى فقهاء الحديث كالشافعي و أحمد و إسحاق و أبي عبيد و سليمان بن داود و ابن أبي شيبة و علي المديني و نحوهم في الحلف بالنذر بالكفارة و فرق من فرق بين ذلك و بين الطلاق و العتاق لما سنذكره صار الذي يعرف قول هؤلاء و قول أولئك لا يعلم خلافا في الطلاق و العتاق و إلا فسنذكر الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى عن الصحابة
(1/236)
على هذا الأصل بقوله تعالى 5 : 3 اليوم أكملت لكم دينكم وقوله 2 : 229 ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون
قالوا فالشروط و العقود التي لم تشرع تعد لحدود الله و زيادة في الدين
و ما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا ذلك منسوخ كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى الله عليه و سلم مع المشركين عام الحديبية أو قالوا هذا عام أو مطلق فيخص بالشرط الذي في كتاب الله
و احتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة و ابن أبي ليلى وشريك أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع و شرط وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث وقد أنكره أحمد و غيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف و أن الأحاديث الصحيحة تعارضه و أجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه عن غيرهم أن اشتراط صفة في المبيع و نحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح
القول الثاني أن الأصل في العقود و الشروط الجواز و الصحة ولا يحرم منها و يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه و إبطاله نصا أو قياسا عند من يقول به و أصول أحمد المنصوص عنه أكثرها يجري على هذا القول و مالك قريب منه لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه
وعامة ما يصححه أحمد من العقود و الشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أولم يرد به نص وكان قد بلغه في العقود و الشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه و سلم و الصحابة ما لا تجده عند
(1/188)
و سلم بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه و تأديبه فرسه و ملاعبته امرأته فإنهن من الحق صار هذا اللهو حقا
و معلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض أو أكل مال بالباطل لأن الغرر فيها يسير كما تقدم و الحاجة إليها ماسة و الحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر و الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية و لهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك قاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى و لهذا كان مذهب أهل المدينة و فقهاء الحديث أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة هلكت من ضمان البائع كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق وفي رواية لمسلم عنه أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بوضع الجوائح و الشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث و إنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة اضطرب فيه أخذ في ذلك بقول الكوفيين إنها تكون من ضمان المشتري لأنه مبيع قد تلف بعد القبض لأن المشتري لم يملك إبقاءه على الشجر وإنما موجب العقد عندهم القبض التخلية بين المشتري و بينه قبض و هذا على أصل الكوفيين أمشى لأن الناجز بكل حال وهو طرد لقياس سنذكر أصله و ضعفه مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك ومع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه و سلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع و ينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصريح يوافقه وهو ما نبه عليه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فإن المشتري
(1/133)
للثمرة إنما يتمكن من جذادها عند كمالها و نضجها لا عند العقد كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا فتلف الثمرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة في الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق فكذلك في البيع
و أبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة و أن المشتري لم يملك الإبقاء وهذا الفرق لا يقول به الشافعي و سنذكر أصله
فلما كان النبي صلى الله عليه و سلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وفي لفظ مسلم عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه و تذهب عنه الآفة و في لفظ لمسلم عنه نهى عن بيع النخل حتى تزهى و عن السنبل حتى يبيض و يأمن العاهة نهى البائع و المشتري و في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض
فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما فإنه بعد بدو صلاحه و أمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد و ليس المقصود الأمن من العاهات النادرة فإن هذا لا سبيل إليه إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين 68 : 17 إلى 18 أقسموا ليصرمنها مصبحين و لا يستثنون وما ذكره في سورة يونس في قوله 10 : 24 حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس و إنما المقصود ذهاب الآفة التي يتكرر وجودها وهذا إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب و قبل ظهور النضج في الثمر إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله ولأنه لو منع بيعه بعد هذه العاهة لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح و بيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر لأنه لا يكمل جملة واحدة و إيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر
(1/134)
و سلم المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها فسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم خصومة فقال ما هذا فقيل له إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون أصابنا الدمان و القشام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها
فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ما أفضت إليه من الخصام و هكذا بيوع الغرر و قد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين من حديث ابن عمر و ابن عباس و جابر و أنس وفي مسلم من حديث أبي هريرة و في حديث أنس تعليله ففي الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل و ما تزهى قال حتى تحمر أو تصفر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه و في رواية أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمر حتى يزهو فقلنا لأنس ما زهوها قال تحمر و تصفر أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك قال أبو مسعود الدمشقي جعل مالك و الداروردي قول أنس أرأيت إن منع الله الثمرة من حديث النبي صلى الله عليه و سلم أدرجاه فيه و يرون أنه غلط
فهذا التعليل سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه و سلم أو من كلام أنس فيه بيان أن في ذلك أكل للمال بالباطل حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون
و إذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة و البغضاء و أكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها كما أن السباق بالخيل و السهام و الإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعروض و إن لم يجز غيره بعوض و كما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل و إن كان فيه منفعة وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه
(1/132)
كتاب الله أحق وشرط الله أوثق أى كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى
وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه حتى يقال كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فيكون المعنى من اشترط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه بواسطة وبغير واسطة فهو باطل لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط وهو ثبوت الولاء لغير المعتق شرطا ليس في كتاب الله فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما فإن كان الله قد أباحه جاز اشتراطه ووجب وإن كان الله لم يبحه لم يجز اشتراطه فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله
فمضمون الحديث أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة أو يقال ليس في كتاب الله أى ليس في كتاب الله نفيه كما قال سيكون أقوام يحدثونكم بما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم أى بما تعرفون خلافه وإلا فما لا يعرف كثير
ثم نقول إذا لم يرد النبي صلى الله عليه و سلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة بمعنى أنه لا يلزم بها شئ لا إيجاب ولا تحريم فإن هذا خلاف الكتاب والسنة بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه وسماه منكرا من القول وزورا ثم إنه أوجب به على من عاد الكفارة ومن لم يعد جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد وكذا النذر فإن النبي صلى الله عليه
(1/207)
وسلم نهى عن النذر كما ثبت عنه من حديث أبي هريرة و ابن عمر فقال إنه لا يأتي بخير ثم أوجب الوفاء به إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه و سلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه
فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم نعم لا يكون سببا لإباحة كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر و عن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك لم يستفد المنهي عنه الاستباحة لأن المنهي عنه معصية و الأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله و رحمته و الإباحة من نعمة الله و رحمته و إن كانت قد تكون سببا للإملاء و لفتح أبواب الدنيا لكن ذلك قدر ليس بشرع بل قد يكون سببا لعقوبة الله و الإيجاب و التحريم قد يكون عقوبة كما قال الله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وإن كان قد يكون رحمة أيضا كما جاءت شريعتنا الحنيفية
و المخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر و نحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام و كل عقد حرام فوجوده كعدمه و كلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم
وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية إن كان النبي صلى الله عليه و سلم أراد الشروط التي لم يبحها وإن كان لم يحرمها باطلة فنقول
قد ذكرنا ما في الكتاب و السنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود و الشروط عموما و أن المقصود هو وجوب الوفاء بها وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة و إذا لم تكن باطلة كانت مباحة وذلك لأن قوله ليس في كتاب الله إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه وإنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله لأن قولنا هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم و على هذا معنى قوله تعالى و نزلنا
(1/208)
عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقوله ولكن تصديق الذي بين يديه وقوله ما فرطنا في الكتاب من شيء على قول من جعل الكتاب هو القرآن وأما على قول من جعل اللوح المحفوظ فلا يجيء ههنا
يدل على ذلك أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة و اتباع سبيل المؤمنين فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار لأن جامع الجامع جامع و دليل الدليل دليل بهذا الاعتبار
يبقى أن يقال على هذا الجواب فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل في العموم
فيقال العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفعه دليل خاص فإن الخاص يفسر العام وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه و سلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله و الملائكة و الناس أجمعين و دل الكتاب على ذلك بقوله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيائكم أبنائكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم في الدين و مواليكم فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده دون من تبناه و حرم التبني ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعي أخاه في الدين ومولاه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لزيد بن حارثة أنت أخونا و مولانا وقال صلى الله عليه و سلم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل و ليكسه مما يلبس
فجعل سبحانه الولاء نظير النسب و بين سبب الولاء في قوله و إذ تقول الذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد فإذا كان قد حرم الانتقال
(1/209)
عن المنعم بالإيلاد فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالأعتاق لأنه في معناه فمن اشترط على المشتري أن يعتق و يكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره
و إلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه و سلم في قوله إنما الولاء لمن أعتق
و إذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه و عمومه لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يرد إلا المعنى الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله و التقدير من اشترط شيئا لم يبحه الله فيكون المشروط قد حرمه لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه أو من اشترط ما ينافي كتاب الله بدليل قوله كتاب الله أحق و شرط الله أوثق فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود و الشروط جملة و صحتها أصلان الأدلة الشرعية العامة و الأدلة العقلية التي هي الاستصحاب و انتفاء المحرم فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل و أعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا
أما إذا كان المدرك الاستصحاب و نفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد و يفتي بموجب هذا الاستصحاب و النفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك فإن جميع ما أوجبه الله و رسوله وحرمه الله ورسوله مفسر لهذا الاستصحاب فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذاك و أما إذا كان المدرك هو النصوص العامة فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقي وهذا أيضا لا خلاف فيه و إنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة فيه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل
(1/210)
البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي و أحمد و غيرهما و ذكروا عن أحمد فيه روايتين و أكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه و نحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة و أقوال الصحابة و التابعين و غيرهم وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب و غيره فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذا الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا و غيرهم أو جعل المعارض باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر لكن القرينة مانعة لدلالته كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل و العلة من أصحابنا و غيرهم و إن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي أو إطلاق لفظي أو اصطلاح جدلي لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي
فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود و الشروط و المثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله و رسوله من العقود و الشروط فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع فهي بأصول الفقه التي هي الأدلة العامة أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة
نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة
فمن ذلك ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة كالبيع و الخلع أو تبرع كالوقف و العتق أن يستثني بعض منافعها مما لا يصلح فيه القربة كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوما لما روى البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي عن جابر قال بعته يعني بعيره من النبي صلى الله
(1/211)
كثيرة بما نقلوه عن أحمد من أن الشرط المتقدم على العقد في الصداق لا يؤثر و إنما يؤثر تسميته في العقد ومن أصحاب أحمد طائفة كالقاضي أبي يعلى يفرقون بين الشرط المتقدم الرافع لمقصود العقد و المقيد له فإن كان رافعا كالمواطأة على كون العقد تلجئة أو تحليلا أبطله و إن كان مقيدا له كاشتراط كون المهر أقل من المسمى لم يؤثر فيه لكن المشهور في نصوص أحمد و أصوله وما عليه قدماء أصحابه كقول أهل المدينة أن الشرط المتقدم كالشرط المقارن فإذا اتفقا على شيء و عقد العقد بعد ذلك فهو مصروف إلى المعروف بينهما مما اتفقا عليه كما ينصرف الدرهم و الدينار في العقود إلى المعروف بينهما وكما أن جميع العقود و إنما تنصرف إلى ما يتعارفه المتعاقدان
فصل
القاعدة الخامسة في الأيمان و النذور
قال الله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك و الله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم و الله مولاكم وهو العليم الحكيم وقال تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا و تتقوا و تصلحوا بين الناس و الله سميع عليم وقال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم و الله غفور رحيم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم و إن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم و قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين و كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك
(1/221)
فقد نازع من منع منه و استدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه و سلم ظهر البعير لجابر و بحديث بريرة و بأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما نهى عن شرطين في بيع مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع وهو نقص لموجب العقد المطلق و اشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق
فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك و استدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ولا استدل عليه بما يشمله و غيره
وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا و اشترط هو حر بعد موتي قال هذا مدبر فجوز اشتراط التدبير كالعتق و لأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف صحح الرافعي أنه لا يصح
و كذلك جوز اشتراط التسري فقال أبو طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها تكون نفيسة يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال لا بأس به فلو كان التسري للبائع و للجارية فيه مقصود صحيح جوزه
وكذلك جوز أن يشترط بائع الجارية و نحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع و أن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول كما رووه عن عمر و ابن مسعود و امرأته زينب
وجماع ذلك أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه و منافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق وهو جائز بالإجماع و يملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الثنيا إلا أن تعلم فدل على جوازها إذا
(1/213)
فقال النبي صلى الله عليه و سلم الولاء لمن أعتق و إن اشترطوا مائة شرط وفي لفظ شرط الله أحق و أوثق وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها نبيعكها على أن ولائها لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق
ولهم من هذا الحديث حجتان
إحداهما قوله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتاب الله بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة و الإجماع
ومن قال بالقياس وهم الجمهور قالوا إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله فهو في كتاب الله
و الحجة الثانية أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد و ذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادات وهذا نكتة القاعدة وهي أن العقود مشروعة على وجه فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع و لهذا كان أبو حنيفة و مالك و الشافعي في أحد القولين لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر متابعة لعبد الله بن عمر حيث كان ينكر الاشتراط في الحج و يقول أليس حسبكم سنة نبيكم وقد استدلوا
(1/187)
فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه لكون أهل الحرب تباح دماؤهم و أموالهم و كذلك ما ملكوه من الأبضاع
و كذلك فقهاء الحديث و أهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره كالنخل المؤبر فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح و كذلك 3بيع العين المؤجرة كالدار و العبد عامتهم يجوزه و يملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر
فقهاء الحديث كأحمد و غيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد كما في صور الوفاق و كاستثناء بعض أجزاءه معينا و مشاعا و كذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا إذا كانت العادة جارية بفصله كبيع الشاة و استثناء بعضها سواء قطعها من الرأس و الجلد و الأكارع و كذلك الإجارة فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا لتجارة فيه أو صناعة أو أجير لخياطة أو بناء و نحو ذلك فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص عنه فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء و متى شاء فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل و ملكها للاستمتاع في الجملة فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف و الفقهاء و المشاهير و لو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفئ بالكتاب و الإجماع و إن كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء و قسم الابتداء بل يكتفي بالباعث الطبيعي كمذهب أبي حنيفة و الشافعي و رواية عن أحمد فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء و القسم كما دل عليه الكتاب و السنة و آثار الصحابة و الاعتبار و قيل يتقدر الوطء الواجب بمرة كل أربعة أشهر اعتبارا بالإبلاء و يجب إن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف فيه خلاف في مذهب أحمد و غيره و الصحيح الذي يدل
(1/215)
عليه أكثر نصوص أحمد و عليه أكثر السلف أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة و الاستمتاع و المبيت للمرأة و كالاستمتاع للزوج ليس بمقدر بل المرجع في ذلك إلى العرف كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف و السنة في مثل قوله صلى الله عليه و سلم لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف و إذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق فهو كتقدير الشافعي النفقة إذ كلاهما تحتاجه المرأة و يوجبه العقد و تقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء بعيد عن معاني الكتاب و السنة و الاعتبار و الشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا لذلك وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل
وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجب و العنة عند عامة الفقهاء و كذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق و سلامتها من الجنون و الجذام و البرص و كذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه أو منها ونحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد و غيره دون الجمال و نحو ذلك و موجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك
ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة كالمال و الجمال و البكارة ونحو ذلك صح ذلك و ملك المشترط الفسخ عند فواته في أصح الرواية عند أحمد أو أصح وجهي أصحاب الشافعي و ظاهر مذهب مالك و الرواية الأخرى لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية و الدين وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد و غيرهم و ما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له
(1/216)
و كذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد و اختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع كما ذكرته لك فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح و أما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق
كذلك يجوز أكثر السلف أو كثير منهم و فقهاء الحديث و مالك في إحدى الروايتين أن ينقص ملك الزوج فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها و أن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه فلا يتزوج عليها ولا يتسرى وعند طائفة من السلف و أبي حنيفة و الشافعي و مالك في الرواية الأخرى لا يصح هذا الشرط لكنه له عند أبي حنيفة و الشافعي أثر في تسمية المهر
و القياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد و غيره من فقهاء الحديث أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد و اشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع فإذا كانت الزيادة في العين أو المنفعة المعقود عليها و النقص من ذلك ما ذكرت فالزيادة في الملك المستحق بالعقد و النقص منه كذلك فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد أو يقف العين على البائع أو غيره أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك فهو اشتراط تصرف مقصود و مثله التبرع المفروض و التطوع
و أما التفريق بين العتق و غيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع فضعيف فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه كما نص عليه أحمد فإن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه و سلم أعتقت
(1/217)
جارية لها فقال النبي صلى الله عليه سلم لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك و لهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق وما أعلم في هذا خلافا وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم فإن فيه عن أحمد روايتين إحداهما تجب كقول طائفة من السلف و الخلف و الثانية لا تجب كقول الفقهاء الثلاثة و غيرهم ولو وصى لغيرهم دونهم فهل تسري تلك الوصية على أقاربه دون الموصي له أو يعطى ثلثها للموصى له و ثلثاها لأقاربه كما تقسم التركة بين الورثة و الموصى له على روايتين عن أحمد و إن كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة
و أيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر أو دين لآدمي فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك فهذا أوكد من اشتراط العتق
و أما السرية فإنما كانت لتكميل الحرية وقد شرع مثل ذلك في الأموال وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري لما في الشركة من الضرار ونحن نقول شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة فإن أمكن قسمة العين و إلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك فتكميل العتق نوع من ذلك إذ الشركة تزول بالقسمة تارة و بالتكميل أخرى
و أصل ذلك أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على التصرف دون تصرف شرعا كما يثبت ذلك حسا و لهذا جاء الملك في الشرع أنواعا كما أن القدرة تتنوع أنواعا فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع و الهبة و يورث عنه و يملك التصرف في منافعه بالإعارة و الإجارة و الانتفاع و غير ذلك ثم قد يملك الأمة المجوسية
(1/218)
أو المحرمات عليه بالرضاع فلا يملك منهن الاستمتاع و يملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا و قد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين و يملك وطأها و استخدامها باتفاقهم و كذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج و الإجارة عند أكثرهم كأبي حنيفة و الشافعي و أحمد
و يملك المرهون و يجب عليه مؤونته ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع و لا هبة و في العتق خلاف مشهور
و العبد المنذور عتقه و الهدي و المال الذي قد نذر الصدقة بعينه و نحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا و غيرهم هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا و كلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق فمن قال لم يزل ملكه عنه كما قد يقوله أكثر أصحابنا فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة وهونظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم ومن قال زال ملكه عنه فإنه يقول هو الذي يملك عتقه و إهداءه و الصدقة به وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع و كذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين هل يصير الموقوف ملكا لله أو ينتقل إلى الموقوف عليه أو يكون باقيا على ملك الواقف على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد و غيره
وعلى كل تقدير فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة و كذلك ملك الموهوب له حيث يجوز للوهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث كالشافعي و أحمد نوع مخالف لغيره حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه و فسخ عقده
و نظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه كالمبيع بشرط
(1/219)
هذا إذا أكرى الأرض و الشجر أو الشجرة وحدها لأن يخدمها و يأخذ الثمرة بعوض معلوم فإن باعه الثمرة فقط و أكراه الأرض للسكنى فهنا لا يجيء إلا الأصل الأول المذكور عن ابن عقيل و بعضه عن مالك و أحمد في إحدى الروايتين إذا كان الأغلب هو السكنى وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما فيجوز في الجمع ما لا يجوز في التفريق كما تقدم من النظائر وهذا إذا كان كل واحد من السكنى و الثمرة مقصود كما يجري في حوائط دمشق فإن البستان يكتري في المدة الصيفية للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل على الثمرة أصلا بل العمل على المكري المضمن
وعلى ذلك الأصل فيجوز و إن كان الثمر لم يطلع بحال سواء كان جنسا واحدا أو أجناسا متفرقة كما يجوز مثل ذلك في القسم الأول فإنه إنما جاز لأجل الجمع بينه و بين المنفعة وهو في الحقيقة جمع بين بيع و إجارة بخلاف القسم الأول فإنه قد يقال هو إجارة لأن مؤنة توفية الثمر هنا على المضمن و بعمله يصير ثمرا بخلاف القسم الأول فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر و لهذا يسميه الناس ضمانا إذ ليس هو بيعا محضا و لا إجارة محضة فسمى باسم الالتزام العام في المعاوضات و غيرها وهوالضمان كما يسمي الفقهاء مثل ذلك في قوله ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه و كذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا لكن ذلك يسمى إجارة وهذا إذا سمي إجارة أو اكتراء فلأن بعضه إجارة أو اكتراء وفيه بيع أيضا
فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا و إنما جاءت لأجل جداد الثمرة مثل أن يشتري عنبا أو بلحا و يريد أن يقيم في الحديقة لقطافه فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر فلا يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى إجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر بخلاف القسم الذي قبله فإن المنفعة
(1/153)
فتبين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه و سلم وعلمها أمته
ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين و ضاق عليه عقله و دينه
و أيضا ففي صحيح مسلم عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا جملا خيارا رباعيا فقال النبي صلى الله عليه و سلم أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء
ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل و الموزون من الحيوان و نحوه كما عليه فقهاء الحجاز و الحديث خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك لأن القرض موجب لرد المثل و الحيوان ليس بمثلي و بناء على أن ما سوى المكيل و الموزون لا يثبت في الذمة عوضا عن مال
وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة كما هو المشهور من مذاهبهم خلافا للكوفيين ووجه في مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة
وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه هو التقريب و إلا فيعجز الإنسان عن وجود حيوان مثل ذلك الحيوان لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي و أنه مضمون في الغصب و الإتلاف بالقيمة
و أيضا فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد و الجداد وفيه روايتان عن أحمد أحدهما يجوز كقول مالك و حديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه
و أيضا فقد دل الكتاب في قوله تعالى 2 : 236 لا جناح عليكم
(1/135)
الحصر فإن إدخال الفصل بين المبتدأ و الخبر يشعر الحصر و من لم يكن من وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة إلا أن يعفو الله عنه و إذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته هي الوفاء به ولما جمع الله بين العهد و الأمانة جعل النبي صلى الله عليه و سلم ضد ذلك صفة المنافق في قوله إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر و عنه كان على خلق من نفاق فطبع المؤمن ليس الخيانة ولا الكذب وما زالوا يوصون بصدق الحديث و أداء الأمانة وهذا عام وقال تعالى وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل فذمهم على نقض عهد الله و قطع ما أمر الله بصلته لأن الواجب إما بالشرع و إما بالشرط الذي عقده المرء باختياره وقال أيضا الذين يوفون بعهد الله و لا ينقضون الميثاق و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية و يدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل و يفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار و قال أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون و قال ولكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك همم المتقون وقال تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك و منهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك
(1/195)
صوره وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه فلا يحصل شئ ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق بل هو مبطل للعقد عندنا
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده الملك والعتق قد يكون مقصودا للعقد فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما فلم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه بل الواجب حله لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه إذا لولا حاجتهم إليه لما فعلوه فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج
وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلوا إما أن يقال لا يحل ولا يصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور كما ذكرناه من القول الأول أو يقال لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعى وإن كان عاما أو يقال تصح ولا تحرم إلا يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام
والقول الأول باطل لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم فقال سبحانه في آية الربا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فأمرهم بترك ما بقى لهم من الربا في الذمم ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا بل مفهوم الآية الذي اتفق العمل عليه
(1/204)
و إذا قال أحمد أو غيره من العلماء إن الحلف بالطلاق و العتاق لا كفارة فيه لأنه لا استثناء فيه لزم من هذا القول أنه لا استثناء في الحلف بهما و أما من فرق من أصحاب أحمد فقال يصح في الحلف بهما الاستثناء ولا يصح فيه الكفارة فهذا الفرق ما أعلمه منصوصا عليه عن أحمد و لكنهم معذورون فيه من قوله حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين
لكن هذا القول لازم على إحدى الروايتين عنه التي ينصرونها ومن سوى الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها أولا يلتزمها بل يرجع عن الملزوم أو لا يرجع عنه و يعتقد أنها غير لوازم
و الفقهاء من أصحابنا و غيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله و قياسه فإما أن لا يكون نص على ذلك اللازم لا بنفي ولا إثبات أو نص على نفيه و إذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم و خرجوا عليه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء وعنه في الاستثناء روايتان فهذا مبني على تخريج مالم يتكلم بنفي ولا إثبات هل يسمى ذلك مذهبا له أو لا يسمى
و لأصحابنا فيه خلاف مشهور فالأثرم و الخرقي و غيرهما يجعلونه مذهبا له و الخلال و صاحبه و غيرهما لا يجعلونه مذهبا له
و التحقيق أنه قياس قوله فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه ولا هو أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين المنزلتين هذا حيث أمكن أن لا يلتزمه
و أيضا فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرا به و ملزما له إذا أوقعه صاحبه و كذلك العتق و كذلك النذر
(1/258)
و هذه العقود من النذر و الطلاق و العتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد أو تحريم أشياء عليه و الوجوب و التحريم إنما يلزم العبد إذ قصده أو قصد سببه فإنه لو جرى على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شئ بالاتفاق ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة لأن مقصوده إنما هو دفع المكروه عنه لم يقصد حكمها ولا قصد التكلم بها ابتداء فكذلك الحالف إذا قال إن لم أفعل كذا فعلى الحج أو الطلاق ليس قصده التزام حج ولا طلاق ولا تكلم بما يوجبه ابتداء وإنما قصده الحض على ذلك الفعل أو منع نفسه منه كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع إن فعلت كذا فهذا لى لازم أو هذا على حرام لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به فقصده منعهما جميعا لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه وإذا لم يكن قاصدا للحكم ولا لسببه وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم
وأيضا فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة لم يبلغني أنه كان يحلف به على عهد قدماء الصحابة ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج ابن يوسف وهي تشتمل على اليمين بالله و صدقة المال و الطلاق و العتاق و إني لم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق و إنما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق كما تقدم
ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة و انتشرت انتشارا عظيما ثم لما اعتقد من اعتقد أن الطلاق يقع بها لا محالة صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل و نشأ عن ذلك خمسة أنواع من المفاسد و الحيل في الأيمان حتى اتخذوا آيات الله هزوا
وذلك أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لا بد لهم من فعلها إما شرعا
(1/259)
و إما طبعا و غالب ما يحلفون بذلك في حال اللجاج و الغضب ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين و الدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود و قد قيل إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوج غيره لئلا يتسارع الناس إلى الطلاق لما فيه من المفسدة فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلى فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل فقد قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل أخذت عن الكوفيين و غيرهم
الحيلة الأولى في المحلوف عليه فيتؤول لهم خلاف ما قصدوه و خلاف ما يدل على الكلام في عرف الناس و عاداتهم وهذا هو الذي وضعه بعض المتكلمين في الفقه و سموه باب المعاياة و سموه باب الحيل في الأيمان و أكثره مما يعلم بالاضطرار من الدين أنه لا يسوغ في الدين و لا يجوز حمل كلام الحالف عليه و لهذا كان الأئمة كأحمد و غيره يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان
الحيلة الثانية إذا تعذر الاحتيال في الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه بأن يأمروه بمخالعة امرأته ليفعل المحلوف عليه في زمن البينونة و هذه الحيلة أحدث من التي قبلها و أظنها حدثت في حدود المائة الثالثة فإن عامة الحيل إنما نشأت عن بعض أهل الكوفة و حيلة الخلع لا تمشي على أصلهم لأنهم يقولون إذا فعل المحلوف عليه في العدة وقع عليه به الطلاق لأن المعتدة من فرقة ثانية يلحقها الطلاق عندهم فيحتاج المحتال بهذه الحيلة إلى أن يتربص حتى تنقضي العدة ثم يفعل المحلوف عليه و هذا فيه ضرر عليه من جهة طول المدة فصار يفتي بها بعض أصحاب الشافعي و ربما ركبوا معها أحد قوليه الموافق لأشهر الروايتين عن أحمد من أن الخلع فسخ و ليس بطلاق فيصيير الخالع كلما أراد الحنث خلع زوجته و فعل المحلوف عليه ثم تزوجها فإما أن يفتوه بنقص عدد الطلاق أو يفتوه بعدمه
و هذا الخلع الذي هو خلع الأيمان هو شبيه بنكاح المحلل سواء فإن ذلك
(1/260)
عقد عقدا لم يقصده و إنما قصد إزالته و هذا فسخ فسخا لم يقصده و إنما قصد إزالته وهذه حيلة محدثة باردة قد صنف أبو عبد الله بن بطة جزءا في إبطالها و ذكر عن السلف في ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه في غير هذا الموضع
الحيلة الثالثة إذا تعذر الاحتيال في المحلوف عليه احتالوا في المحلوف به فيبطلوه بالبحث عن شروطه فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح لعله اشتمل على أمر يكون به فاسدا ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع و مذهب الشافعي في أحد قوليه و أحمد في إحدى روايتيه أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه و الفسوق غالب على كثير من الناس فينفق سوق هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع يمين الطلاق حتى رأيت من صنف في هذه المسألة مصنفا مقصوده به الاحتيال لرفع يمين الطلاق ثم تجد هؤلاء الذين يحتالون بهذه الحيلة إنما ينظرون في صفة عقد النكاح و كون ولاية الفاسق لا تصح عند إيقاع الطلاق الذي قد ذهب كثير من أهل العلم أو أكثرهم إلى أنه يقع في الفاسد في الجملة و أما عند الوطء و الاستمتاع الذي أجمع المسلمون على أنه لا يباح بالنكاح الفاسد فلا ينظرون في ذلك و كذلك لا ينظرون في ذلك عند الميراث و غيره من أحكام النكاح الصحيح بل إنما ينظرون إليه فقط عند وقوع الطلاق خاصة وهو نوع من اتخاذ آيات الله هزوا و من المكر في آيات الله و إنما أوجبه الحلف بالطلاق و الضرورة إلى عدم وقوعه
الحيلة الرابعة السريجية في إفساد المحلوف به أيضا لكن لوجود مانع لا لفوات شرط فإن أبا العباس بن سريج و طائفة بعده اعتقدوا أنه إذ1 قال لامرأته إذا وقع عليك طلاقي أو طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا أنه لا يقع بعد ذلك عليها طلاق أبدا لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق فإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز فيفضي وقوعه إلى عدم وقوعه فلا يقع و أما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها
(1/261)
ليست من دين الإسلام حيث قد علم بالضرورة من دين محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح و أنه ما من نكاح إلا و يمكن فيه الطلاق
و سبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا إذا وقع المنجز وقع المعلق و هذا الكلام ليس بصحيح فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقه بثلاث ممتنع في الشريعة و الكلام المشتمل على ذلك باطل و إذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحا
ثم اختلفوا هل يقع من المعلق تمام الثلاث أن يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز على قولين في مذهب الشافعي و أحمد و غيرهما
و ما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على رفع الطلاق أم قالها طردا لقياس اعتقد صحته و احتال بها من بعده لكني رأيت مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة و مقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق و لهذا صاغوها بقولهم إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا لأنه لو قال إذا طلقتك فأنت طالق ثلاثا لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة و إن كان كلاهما في الدور سواء و ذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته إذا طلقتك فعبدي حر أو فأنت طالق لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد فإن كل واحد من المنجز و المعلق الذي وجد شرطه تطليق أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا لأن التطليق لا بد أن يصدر عن المطلق ووجود الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه فأما إذا قال إذا وقع عليك طلاقي فهذا يعم المنجز و المعلق بعد هذا بشرط و الواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه
(1/262)
و التابعين ومن بعدهم وقد اعتذر أحمد عما ذكرناه عن الصحابة في كفارة العتق بعذرين
أحدهما انفراد سليمان التيمي بذلك
و الثاني معارضته بما رواه عن ابن عمر و ابن عباس أن العتق يقع من غير تكفير وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد فقال المروزي قال أبو عبد الله إذا قال كل مملوك له حر فيعتق عليه إذا حنث لأن الطلاق و العتق ليس فيهما كفارة و قال ليس يقول كل مملوك لها حر في حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر و حفصة و زينب و ذكرت العتق فأمروها بالكفارة إلا التيمي و أما حميد و غيره فلم يذكروا العتق قال سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته و أنها سألت ابن عمر و حفصة فأمروها بكفارة يمين قلت فيها شيء قال نعم أذهب إلى أن فيه كفارة يمين قال أبو عبد الله ليس يقول فيه كل مملوك إلا التيمي قلت فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث قال يعتق كذا يروي عن ابن عمر و ابن عباس أنهما قالا الجارية تعتق ثم قال ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر قلت فإبش إسناده قال معمر عن إسماعيل عن عثمان بن حاضر عن ابن عمر و ابن عباس وقال إسماعيل ابن أمية و أيوب ابن موسى وهما مكيان و قد فرقا بين الحلف بالطلاق و العتق و الحلف بالنذر لأنهما لا يكفران و اتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر و حفصة و زينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة وقال صالح ابن أحمد قال أبي و إذا قال جاريتي حرة إن لم أصنع كذا و كذا قال قال ابن عمر و ابن عباس تعتق و إذا قال كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته
(1/237)
الناس بها و أوجب كثرة إنكار الفقهاء عليها و استخراجهم لها هو حلف الناس بالطلاق و اعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة حتى لقد فرع الكوفيون و غيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرا مبناه على هذا الأصل و كثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء و نحوهم كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي يقول مثالها مثال رجل بنى دارا حسنة على حجارة مغصوبة فإذا نوزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيره انهدم بناؤه فإن تلك الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة و إلا لم يكن لها منفعة
فإذا كان الحلف بالطلاق و اعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التي قد غيرت بعض أمور الإسلام عند من فعل ذلك وصار في هؤلاء شبه بأهل الكتاب كما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أفتى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بل ولا أحد منهم فيما أعلمه ولا اتفق عليه التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين ولا العلماء بعدهم ولا هو مناسب لأصول الشريعة ولا حجة لمن قاله أكثر من عادة مستمرة استندت على قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة وهم ولله الحمد فوق ما يظن بهم لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله و إلى رسوله وقد خالفهم فيه من ليس دونهم بل مثلهم أو فوقهم فإنا قد ذكرنا عن أعيان الصحابة كعبد الله بن عمر المجمع على إمامته و فقهه و دينه و أخته حفصة أم المؤمنين و زينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي من أمثل فقيهات الصحابة الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق و الطلاق ما هو أولى منه و ذكرنا عن طاوس وهو من أفاضل أفاضل علماء التابعين علما و فقها و دينا أنه لم يكن يرى اليمين بالطلاق موقعة له
فإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد و حاله في
(1/264)
يوجب أنه غير منهي عنه ولذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم ولم يأمرهم برد المقبوض وقال صلى الله عليه و سلم أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية ولم يستفصل هل عقد به في عدة أو غير عدة بولى أو بغير ولى بشهود أو بغير شهود ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن وكما أمر فيروزا الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق في الأخرى وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارقوا ذوات المحارم ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع
فإن قيل فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ثم أسلموا بعد زواله ولم يؤمروا باستئنافها لأن الإسلام يجب ما قبله فليس ما عقدوه بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع وكلاهما عندكم سواء
قلنا ليس كذلك بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ بخلاف ما عقدوه يغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده ولم أر الفقهاء من أصحابها وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة
(1/205)
فقال يطلقها ولا يطأها قد أباح الله الطلاق و حرم وطء الحائض
وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين أما على قوله إن الطلاق ليس بحرام و إنما يكون تحريمه دون تحريم الوطء و إلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلى حرام
و أما ضرر الدنيا فأبين من أن يوصف فإن لزوم الطلاق المحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة الإسلامية في مثل هذا قط أن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة وهي متاعه التي قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم الدنيا متاع و خير متاعها المرأة المؤمنة إن نظرت إليها أعجبتك و إن أمرتها أطاعتك و إن غبت عنها حفظتك في نفسها و مالك وهي التي أمر بها النبي صلى الله عليه و سلم في قوله لما سأله المهاجرون أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر و قلب شاكر و امرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان و بينهما من المودة و الرحمة ما امتن الله به في كتابه بقوله و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة فيكون ألم الفراق أشد عليهما من الموت أحيانا و أشد من ذهاب المال و أشد من فراق الأوطان خصوصا إن كان بقلب كل واحد منهما حب و علاقة من صاحبه أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق و يفسد حالهم ثم يفضي ذلك إلى القطيعة بين أقاربهما ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله بها في قوله فجعله نسبا و صهرا و معلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله تعالى و ما جعل عليكم في الدين من حرج و من العسر المنفي بقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
و أيضا فلو كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر و إحسان من صدقة و عتاقة و تعليم علم و صلة رحم و جهاد في سبيل الله و إصلاح بين الناس و نحو ذلك
(1/266)
من الأعمال الصالحة التي يحبها الله و يرضاها فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق لا يفعل ذلك بل و لا يؤمر به شرعا لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال وهي المفسدة التي أزالها الله بقوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم و أزالها النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله من أن يأتي الكفارة التي فرض الله
فإن قيل فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه المضرات الثلاث فما كان ينبغي له أن يحلف
قيل ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم فإن الله لم يحمل علينا إصرا كما حمله على الذين من قبلنا فهب أن هذا قد أتى كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق ثم تاب من تلك الكبيرة فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقى أثر ذلك الذنب عليه لا يجد منه خرجا وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد الطلاق إما لكراهته للمرأة أو غضبه عليها و نحو ذلك وقد جعل الله الطلاق ثلاثا فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره ووالى ثلاث مرات متفرقات كان وقوع الضرر في مثل هذا نادرا بخلاف الأول فإن مقصوده لم يكن الطلاق و إنما كان أن يفعل المحلوف عليه أولا يفعله ثم قد يأمره الشرع أو تضطره الحاجة إلى فعله أو تركه فيلزمه الطلاق بغير اختيار له ولا لسببه
و أيضا فإن الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم في باب الأيمان تخفيفها بالكفارة لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا و استمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت رضي الله عنه من امرأته
و أيضا فالاعتبار بنذر اللجاج و الغضب فإنه ليس بينهما من الفرق إلا
(1/267)
ما ذكرناه و سنبين إن شاء الله عدم تأثيره و القياس بالفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين
وذلك أن الرجل إذا قال إن أكلت أو شربت فعلي أن أعتق عبدي أو فعلي أن أطلق امرأتي أو فعلي الحج أو فأنا محرم بالحج أو فمالي صدقة أو فعلي صدقة فإنه تجزئة كفارة يمين عند الجمهور كما قدمناه بدلالة الكتاب و السنة و إجماع الصحابة فكذلك إذا قال إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلي الطلاق أو فالطلاق لي لازم أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار و إن قال علي الطلاق لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فهو بمنزلة قوله علي الحج لا أفعل كذا و الحج لي لازم لا أفعل كذا و كلاهما يمينان محدثتان ليستا مأثورتين عن العرب ولا معروفتين عند الصحابة و إنما المستأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا و ربطوا إحدى الجملتين بالأخرى كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها و كانت العرب تحلف بها لا فرق بين هذا و هذا إلا أن قوله إن فعلت كذا فمالي صدقة يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل وقوله مرأتي طالق يقتضي وجود الطلاق فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط و إن لم يحدث بعد هذا طلاقا ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة
و جواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء الفرقون من وجهين
أحدهما منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها وفي بعض صور الفروع المقيس عليها
و الثاني بيان عدم التأثير
أما الأول فإنه إذا قال إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فأنا محرم أو فبعيري هدي فالمعلق بالصفة وجود الصدقة و الإحرام و الهدي لا وجوبها كما أن المعلق في قوله فعبدي حر و امرأتي طالق وجود الطلاق و العتق لا وجوبهما ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا و غيرهم فيما إذا قال هذا
(1/268)
هدي وهذا صدقة لله هل يخرج عن ملكه أولا يخرج فمن قال يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجه و عبده عن ملكه أكثر ما في الباب أن الصدقة و الهدي يتملكهما الناس بخلاف الزوجة و العبد وهذا لا تأثير له و كذلك لو قال علي الطلاق لأفعلن كذا أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا فهو كقوله علي الحج لأفعلن كذا فهلا جعل المحلوف به هنا وجوب الطلاق لا وجوده كأنه قال إن فعلت كذا فعلي أن أطلق
فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود
و أما الجواب الثاني فنقول هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق و العتاق و المعلق هناك وجود الصدقة و الحج و الصيام و الإهداء أليس موجب الشرط ثبوت هذا وجوب و ذاك الوجود عند وجود الشرط
فإذا كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب بل يجزيه كفارة يمين فكذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود بل يجزيه كفارة يمين كما لو قال هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق بل يلزمه كفارة يمين ولا يلزمه شيء ولو قال ابتداء هو يهودي أو نصراني أو كافر للزمه الكفر بمنزلة قوله ابتداء عبدي حر و امرأتي طالق وهده البدنة هدي وعلي صوم يوم الخميس ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله إذا أهل الهلال فقد برئت من دين الإسلام لكان الواجب أن يحكم بكفره لكن لا يتأخر الكفر لأن توقيته دليل على فساد عقيدته
فإن قيل في الحلف بالنذر إنما عليه الكفارة فقط
قيل مثله في الحلف بالعتق و كذلك في الحلف بالطلاق كما لو قال فعلي أن أطلق امرأتي
و من قال إنه إذا قال فعلي أن أطلق امرأتي لا يلزمه شيء فقياس
(1/269)
قوله في الطلاق لا يلزمه شيء ولهذا توقف طاووس في كونه يمينا
و إن قيل إنه يخير بين الوفاء به و التكفير فكذلك هنا يخير بين الطلاق و العتق وبين التكفير فإن وطئ امرأته كان اختيارا منه للتكفير كما أنه في الظهار يكون مخيرا بين التكفير و بين تطليقها فإن وطئها لزمته الكفارة لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر لأن الظهار منكر من القول و زور حرمها عليه و أما هنا فقوله إن فعلت فهي طالق فهو بمنزلة قوله فعلي أن أطلقها أو قال و الله لأطلقنها فإن طلقها فلا شيء عليه و إن لم يطلقها فعليه كفارة يمين
يبقى أن يقال فهل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها حينئذ كما لو قال و الله لأطلقنها الساعة و لم يطلقها أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها أو لا يجب إلا إذا وجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل كالذي يخير بين فراقها و إمساكها لعيب و نحوه و كالمعتقة تحت عبد أو لا يجب بحال حتى يفوت الطلاق قبل الحكم في ذلك كما لو قال فثلث مالي صدقة أو هدي و نحو ذلك
و الأقيس في ذلك أنه مخير بينهما على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا بأحدهما كسائر أنواع الخيار
فصل
موجب نذر اللجاج و الغضب على المشهور عندنا أحد شيئين
إما التكفير و إما فعل المعلق ولا ريب أن موجب اللفظ في مثل قوله إن فعلت كذا فعلي صلاة ركعتين أو صدقة ألف أو فعلي الحج أو صوم شهر هو الوجوب عند الفعل فهو مخير بين هذا الوجوب و بين وجوب الكفارة فإذا لم يستلزم الوجوب المعلق ثبت وجوب الكفارة فاللازم له أحد الوجوبين كل منهما ثابت بتقدير عدم الآخر كما في الواجب المخير
و كذلك إذا قال إذا فعلت كذا فعلي عتق هذا العبد أو تطليق هذه
(1/270)
المرأة أو علي أن أتصدق أو أهدي فإن ذلك يوجب استحقاق العبد للإعتاق و المال للتصدق و البدنة للهدي
ولو أنه نجز ذلك فقال هذا المال صدقة و هذه البدنة هدي و علي عتق هذا العبد فهل يخرج عن ملكه بذلك أو يستحق الإخراج فيه خلاف وهو يشبه قوله هذا وقف
و أما إذا قال هذا العبد حر و هذه المرأة طالق فهو إسقاط بمنزلة قوله برئت ذمة فلان من كذا و من دم فلان أو من قذفي فإن إسقاط حق الدم و المال و العرض من باب إسقاط حق الملك بملك البضع و ملك اليمين
فإذا قال إن فعلت فعلي الطلاق أو فعلي العتق أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار و قلنا إن موجبه أحد الأمرين فإنه يكون مخيرا بين وقوع ذلك و بين وجوب الكفارة كما لو قال فهذا المال صدقة أو هذه البدنة هدي
و نظير ذلك ما لو قال إذا طلعت الشمس فعبيدي أحرار و نسائي طوالق و قلنا التخيير إليه فإنه إذا اختار أحدهما كان ذلك بمنزلة اختياره أحد الأمرين من الوقوع أو وجوب التكفير و أمثال ذلك
و أيضا إذا أسلم و تحته أكثر من أربع أو أختان فاختار إحداهما فهذه المواضع التي تكون فيها الفرقة أحد اللازمين إما فرقة معين أو نوع الفرقة لا يحتاج إلى إنشاء طلاق لكن لا يتعين الطلاق إلا بما يوجب تعيينه كما في النظائر المذكورة
ثم إذا اختار الطلاق فهل يقع من حين الاختيار أو من حين الحنث يخرج على نظير ذلك
فلو قال في جنس مسائل نذر اللجاج و الغضب اخترت التكفير أو اخترت فعل المنذور فهل يتعين بالقول أو لا يتعين إلا بالفعل
إن كان التخيير بين الوجوبين تعين بالقول كما في التخيير بين النساء و بين الطلاق و العتق و إن كان بين الفعلين لم يتعين إلا بالفعل كالتخيير
(1/271)
الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه و الفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الإجارة أو قالوا باب الإجارة أرادوا هذا بالمعنى
فيقال المساقاة و المزارعة و المضاربة و نحوهن من المشاركات على نماء يحصل من قال هي إجارة بالمعنى الأعم أو العام فقد صدق ومن قال هي إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ و إذا كانت إجارة بالمعنى العام التي هي الجعالة فهنالك إن كان العوض شيئا مضمونا من عين أو دين فلا بد أن يكون معلوما وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءا شائعا فيه كما لو قال الأمير في الغزو من دلنا على حصن كذا فله منه كذا فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه فالشركة أولى و أحرى ويسلك في هذا طريقة أخرى فيقال الذي دل عليه قياس الأصول أن الإجارة الخاصة يشترط فيها أن يكون العوض غررا قياسا على الثمن فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة لما تقدم فلا يجوز إلحاقها بها فتبقى على الأصل المبيح
فتحرير المسألة أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة فإن أراد الخاصة لم يصح و إن أراد العامة فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم فإن ذكر قياسا بين له الفرق الذي لا يخفى على غير فقيه فضلا عن الفقيه ولن تجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحال
و يسلك في هذا طريقة أخرى وهو قياس العكس وهو أن يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل فيقال المعنى الموجب لكون الأجرة يجب أن تكون معلومة منتف في باب المزارعة و نحوها لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر فيكون في معنى بيع الغرر المقتضي أكل
(1/170)
عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي و أحمد في أحد قوليهما وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث و أهل الحجاز وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين فهنا في المعاوضة و التبرع يملك العقد انتزاعه و ملك الأب لا يملك انتزاعه و جنس الملك يجمعهما و كذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معني الكتاب و صريح السنة
و طوائف من السلف يقولون هو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء و ملك الابن ثابت عليه بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا فإذا كان الملك يتنوع أنواعا وفيه من الإطلاق و التقييد ما وصفته و ما لم أصفه لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له و يمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه و الشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا
فصل
القاعدة الرابعة أن الشرط المتقدم على العقد بمنزلة المقارن له في ظاهر مذهب فقهاء الحديث أحمد و غيره و مذهب أهل المدينة مالك و غيره وهو قول في مذهب الشافعي نص عليه في صداق السر و العلانية و نقلوه إلى شرط التحليل المتقدم و غيره و إن كان المشهور من مذهبه و مذهب أبي حنيفة أن المتقدم لا يؤثر بل يكون كالوعد المطلق عندهم يستحب الوفاء به وهو قول في مذهب أحمد قد يختاره في بعض المواضع طائفة من أصحابه كاختيار بعضهم أن التحليل المشروط قبل العقد لا يؤثر إلا أن ينويه الزوج وقت العقد وقول طائفة
(1/220)
إذا كانت مقصودة احتاج إلى استئجارها و احتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا بأن يكون له ثمرة يأكلها فإن مقصوده الانتفاع بالسكنى في ذلك المكان والأكل من الثمر الذي فيه و لهذا إذا كان المقصود الأعظم هو السكنى و الشجر قليل مثل أن يكون في الدار نخلات أو غريس عنب و نحو ذلك فالجواز هنا مذهب مالك و قياس أكثر نصوص أحمد و غيره و إن كان المقصود مع السكنى التجارة في الثمر وهو أكثر من منفعة السكنى فالمنع هنا أوجه منه في التي قبلها كما فرق بينهما مالك و أحمد و إن كان المقصود السكنى و الأكل فهو شبيه بما لو قصد السكنى و الشرب من البئر وإن كان ثمن المأكول أكثر فهنا الجواز فيه أظهر من التي قبلها ودون الأولى على قول من يفرق و أما على قول ابن عقيل المأثور عن السلف فالجمع جائز كما قررناه لأجل الجمع فإن اشترط مع ذلك أن يحرث له المضمن مقتاة فهو كما لو استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر فقد استأجر أرضه و استأجر منه عملا في الذمة وهذا جائز كما لو استكرى منه جملا أو حمارا على أن يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه وهذه إجارة عين و إجارة على عمل في الذمة إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل فيكون قد استأجر عينين
ولو لم تكن السكنى المقصودة و إنما المقصود ابتياع ثمرة في بستان ذي أجناس و السقي على البائع فهذا عند الليث يجوز وهو قياس القول الثالث الذي ذكرناه عند أصحابنا و غيرهم و قررناه لأن الحاجة إلى الجمع بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة و المنفعة و ربما كان أشد فإنه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه فإنه في كثير من الأوقات لا يحصل ذلك وفي بعضها إنما يحصل بضرر كثير و قد رأيت من يواطئ المشتري على ذلك ثم كلما صلحت ثمرة يقسط عليها بعض الثمن وهذا من الحيل الباردة التي لا تخفى حالها كما تقدم وما يزال العلماء و المؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم
(1/154)
طوالق لأفعلن فهو بمنزلة قوله مالي صدقة لأفعلن و علي الحج لأفعلن
و الذي يوضح التسوية أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق على فدية الخلع فقال في البويطي وهو كتاب مصري من أجود كتبه و ذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقا بصفة و يسمون ذلك الشرط صفة و يقولون إذا وجدت الصفة في زمان البينونة و إذا لم توجد الصفة و نحو ذلك
وهذه التسمية لها وجهان
أحدهما أن هذا الطلاق موصوف بصفة ليس طلاقا مجردا عن صفة فإنه إذا قال أنت طالق في أول السنة أو إذا ظهرت فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص فإن الظرف صفة للمظروف و كذلك إذا قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فقد وصفه بعوضه
و الثاني أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر و نحوها حروف الصفات فلما كان هذا معلقا بالحروف التي قد تسمى حروف الصفات سمي طلاقا بصفة كما لو قال أنت طالق بألف
و الوجه الأول هو الأصل فإن هذا يعود إليه إذ النحاة إنما سموا حروف الجر حروف الصفات لأن الجار و المجرور يصير في المعنى صفة لما تعلق به
فإذا كان الشافعي و غيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف على طلاق الفدية المذكور في القرآن و قاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله و منهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين و معلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة وقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه و بين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين فكذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفة كالخلع حيث المقصود فيه العوض و الطلاق المحلوف به الذي يقصد عدمه
(1/241)
و عدم شرطه فإنه انما يقاس بما في الكتاب و السنة ما أشبهه و معلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة و بين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها كما فرق بينهما في النذر سواء و الدليل على هذا القول الكتاب و السنة و الأثر و الاعتبار
أما الكتاب فقوله سبحانه يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك و الله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم و الله مولاكم وهو العليم الحكيم
فوجه الدلالة أن الله قال قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لهم تحلتها وقد ذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي صلى الله عليه و سلم مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى فلو فرض يمين واحدة ليس له تحلة لكان مخالفة للآية كيف وهذا عام لا يحض منه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي فإن اليمين معقودة فوجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذا العقد مناسب لما فيه من التخفيف و التوسعة وهذا موجود في اليمين بالعتق و الطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج و الغضب فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس أو ليقطعن رحمه أو ليمنعن الواجب عليه من أداء الأمانة و نحوها فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر و يتقي و يصلح بين الناس أكثر مما يجعل الله عرضة ليمينه ثم إن وفى بيمينه كان عليه من ضرر الدنيا و الآخرة ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه و إن طلق امرأته ففي الطلاق أيضا من ضرر الدنيا و الدين ما لا خفاء به أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم فكيف إذا كانا في غاية الاتصال و بينهما من الأولاد و العشرة ما يجعل في طلاقهما في أمر الدين ضررا عظيما و كذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع بحيث لو خير أحدهما بين
(1/242)
أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه على الطلاق وقد قرن الله فراق الوطء بقتل النفس ولهذا قال أحمد في إحدى الروايتين متابعة لعطاء إنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق أنها لا تحج صارت محصرة وجاز لها التحلل لما عليها في ذلك من الضرر الزائد على ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه
وهذا ظاهر فيما إذا قال إن فعلت كذا فعلى أن أطلقك أو أعتق عبيدي فإن هذا في نذر اللجاج والغضب بالاتفاق كما لو قال والله لأطلقنك أو لا أعتقت عبيدي وإنما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذي اعتمده المفرقون وسنتكلم عليه إن شاء الله
وأيضا فإن الله تعالى قال يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم وهى تقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله إلا والله غفور لفاعله رحيم به وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم لأن قول لا شئ استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك والله غفور رحيم فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال وانتفاء موجب المغفرة والرحمة عن هذا الفاعل
وأيضا قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون والحجة فيها كالحجة في الأولى وأوفى فإنه قال لا تحرموا
(1/243)
طيبات ما أحل الله لكم وهذا عام يشمل تحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها ثم يبين وجه المخرج من ذلك بقوله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته أى فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان وهذا عام ثم قال ذلك كفارة أيمانكم إ ذا حلفتم وهذا عام كعموم قوله واحفظوا أيمانكم
ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم قوله صلى الله عليه و سلم من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما الحلف بالطلاق موافقة لابن عباس لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه إما بصيغة القسم وإما بصيغة الجزاء أو ما كان في معنى ذلك مما سنذكره إن شاء الله
وهذه الدلالة بينة على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهم في مسألة نذر اللجاج والغضب فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية وجعلوا قوله تعالى تحلة أيمانكم و كفارة أيمانكم عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما سواء
فإن قيل المراد بالآية اليمين بالله فقط فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام أو الإضافة في قوله عقدتم الأيمان و تحلة أيمانكم منصرفا إلى اليمين المعهود عندهم وهى اليمين بالله وحينئذ فلا يعم اللفظ إلا المعروف عندهم والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة اليمين بالمخلوقات فلا يدخل فيه الحلف بالطلاق ونحوه لأنه ليس من اليمين المشروعة لقوله صلى الله عليه و سلم من كان حالفا فليحلف بالله أو فليصمت
وهنا سؤال ممن يقول كل يمين غير مشروعة فلا كفارة لها ولا حنث
(1/244)
فيقال لفظ اليمين يشمل هذا كله بدليل استعمال النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله كقوله صلى الله عليه و سلم النذر حلفة وقول الصحابة لمن حلف بالهدى والعتق كفر يمينك وكذلك فهمته الصحابة من كلام النبي صلى الله عليه و سلم كما سنذكره ولإدخال العلماء لذلك في قوله صلى الله عليه و سلم من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك
ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال لم تحرم ما أحل الله لك ثم قال قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين كما استدل به ابن عباس وغيره وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية وعلى كل تقدير فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يمينا بالله ولهذا أفتى جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم وغيرهم أن تحريم الحلال يمين مكفرة إما كفارة كبرى كالظهار وإما كفارة صغرى كاليمين بالله وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا
وأيضا فإن قوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك إما أن يراد به لم تحرمه بلفظ الحرام وإما لم تحرمه باليمين بالله ونحوها وإما لم تحرمه مطلقا فإن أريد الأول أو الثالث فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله يمين فنعم وأن أريد به تحريمه بالحلف بالله فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال ومعلوم أن اليمين بالله لم توجب الحرمة الشرعية لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا فكل يمين توجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في عموم قوله لم تحرم ما أحل الله لك
وحينئذ فقوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم لا بد أن يعم كل يمين
(1/245)
فأفتوه بما يخرجه عن يمينه و اعتاض مما يلزمه في يمينه بما ذكره ولم يزل به إلى أن خلع نفسه و بويع للمهدي و لموسى الهادي بعده
و أما أبو ثور فقال في العتق المعلق على وجه اليمين يجزئه كفارة يمين كنذر اللجاج و الغضب لأجل ما تقدم من حديث ليلى بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر و حفصة أم المؤمنين و زينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم بكفارة يمين في قولها إن لم أفرق بينك و بين امرأتك فكل مملوك لي محرر وهذه القصة هي مما اعتمده الفقهاء المستدلون في مسألة نذر اللجاج والغضب لكن توقف أحمد و أبو عبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق و عارض أحمد ذلك و أما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه مع أن القياس عنده مساواته للعتق لكن خاف أن يكون مخالفا للإجماع
و الصواب أن الخلاف في الجميع في الطلاق و غيره كما سنذكره ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتى من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه على الحلف بالطلاق فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة فالحلف بالطلاق الذي ليس بقربة إما أن تجزئ فيه الكفارة ولا يجب فيه شيء على قول من يقول نذر غير الطاعة لا شيء فيه و يكون قوله إن فعلت كذا فأنت طالق بمنزلة قوله فعلي أن أطلقك كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم قوله فعبيدي أحرار بمنزلة قوله فعلي أن أعتقهم
على أني إلى الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق و ذاك و الله أعلم لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم و إنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم فأحد القولين أنه يقع به كما تقدم و القول الثاني أنه لا يلزمه الوقوع ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أنه كان يقول الحلف
(1/239)
عقد لله ولكن إذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد لله بل قصد الحلف به فإذا حنث ولم يف به فقد ترك ما عقده لله كما أنه إذا فعل المحلوف به فقد ترك ما عقده بالله
يوضح ذلك أنه إذا حلف بالله أو بغير الله مما يعظمه بالحلف فإنما حلف به ليعقد به المحلوف عليه ويربطه لأنه لعظمته في قلبه إذا ربط به شيئا لم يحله فإذا حل ما ربطه فقد انقضت عظمته في قلبه وقطع السبب الذي بينه وبينه كما قال بعضهم اليمين العقد على نفسه لحق من له حق ولهذا إذا كانت اليمين غموسا كانت من الكبائر الموجبة للنار كما قال سبحانه إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة وقال صلى الله عليه و سلم في عد الكبائر فيما روى الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقطع بها مالا يغير حق
وذلك لأنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدا به فقد نقض الصلة التي بينه وبين ربه بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه أو تبرأ من الله بخلاف ما إذا حلف على المستقبل فإنه عقد بالله فعلا قاصدا لعقده على وجه التعظيم لله لكن أباح الله له حل هذا العقد الذي عقده به كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة أو يزيل عنه وجوبها ولهذا قال أكثر أهل العلم إذا قال هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل كذا فهى يمين بمنزلة قوله والله لأفعلن لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله وهذا هو حقيقة الحلف بالله فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدنى حالا من ربطه بالله
(1/247)
غيره من الأئمة فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته و كذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب و السنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا فمالك يجوزه بقدر الحاجة و أحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا و يجوزه ابن حامد و غيره في الضمان و نحوه و يجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود و اشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط و النقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع كما سأذكره إن شاء الله
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع كخدمة العبد و سكنى الدار و نحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير اتباعا لحديث جابر لما باع النبي صلى الله عليه و سلم جمله و استثنى ظهره إلى المدينة
و يجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم مسلمة و اشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه و سلم ما عاش
و يجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته و يجعل عتقها صداقها كما في حديث صفية و كما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة كأنه أعتقها و استثنى منفعة البضع لكنه استثناها بالنكاح إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز بخلاف منفعة الخدمة
ويجوز أيضا للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته و غلته جميعها لنفسه مدة حياته كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك و روي فيه حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه و سلم وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه فيه عنه روايتان
(1/189)
فإذا عدم الفعل كان مقتضاه عدم إيمانه هذا لولا ما شرع الله من الكفارة كما أن مقتضى قوله إن فعلت كذا وجب على كذا أنه عند الحلف يجب ذلك الفعل لولا ما شرع من الكفارة
يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال أخرجاه في الصحيحين فجعل اليمين الغموس في قوله هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا كالغموس في قوله والله ما فعلت كذا إذ هو في كلا الأمرين قد قطع عهده من الله حيث علق الإيمان بأمر معدوم والكفر بأمر موجود بخلاف اليمين على المستقبل
وطرد هذا المعنى أن اليمين الغموس إذا كانت في النذر أو الطلاق أو العتاق وقع المعلق به ولم ترفعه الكفارة كما يقع الكفر بذلك في أحد تولى العلماء وبهذا يحصل الجواب على قولهم المراد به اليمين المشروعة
وأيضا فقوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس بأن يحلف الرجل أن لا يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعلن مكروها حراما او نحوه فإذا قيل له افعل ذلك أو لا تفعل هذا قال قد حلفت بالله فيجعل الله عرضة ليمينه
فإذا كان الله قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم بالحلف به من البر والتقوى فالحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف وجب أن لا يكون مانعا وإن لم يكن داخلا فهو أولى أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه إذا نهى عن أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى فغيره أولى أن نكون منتهين عن جعله عرضة لأيماننا وإذا ثبت أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى
(1/249)
ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به
فإذا حلف الرجل بالنذر أو بالطلاق أو بالعتاق أن لا يبر ولا يتقي ولا يصلح فهو بين أمرين إن وفى ذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقى ويصلح بين الناس وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور فقد يكون خروج أهله وماله عنه أبعد عن البر والتقوى من الأمر المحلوف عليه فإن أقام على يمينه ترك البر والتقوى وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوى فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقى فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة وهذا المعنى هو الذي دلت عليه السنة
ففي الصحيحين من حديث همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطى كفارته التي افترض الله عليه ورواه البخاري أيضا من حديث عكرمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من استلج في أهله فهو أعظم إنما فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم إثما من التكفير واللجاج هو التمادي في الخصومة ومنه قيل رجل لجوج إذا تمادى في المخاصمة ولهذا تسمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب فإنه يلج حتى يعقده ثم يلج في الإمتناع من الحنث فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن اللجاج باليمين أعظم إثما من الكفارة وهذا عام في جميع الأيمان
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعبد الرحمن بن سمرة إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك أخرجاه في الصحيحين وفي رواية في الصحيحين فكفر عن يمينك وائت هو الذي خير وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه
(1/250)
وليفعل الذي هو خير وفي رواية فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وهذا نكرة في سياق الشرط فيعم كل حلف على يمين كائنا ما كان الحلف فإذا رأى غير اليمين المحلوف عليها خيرا منها وهو أن يكون اليمين المحلوف عليها تركا لخير فيرى فعله خيرا من تركه أو يكون فعلا شر فيرى تركه خيرا من فعله فقد أمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه
وقوله هنا على يمين هو والله أعلم من باب تسمية المفعول باسم المصدر سمى الأمر المحلوف عليه يمينا كما سمى المخلوق خلقا والمضروب ضربا والمبيع بيعا ونحو ذلك
وكذلك أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى الأشعرى في قصته وقصة أصحابه لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم يستحملونه فقال والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه ثم قال إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها وفي رواية في الصحيحين إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير
وروى مسلم في صحيحه عن عدى بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير وفي رواية لمسلم أيضا من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير
وقد رويت هذه السنة عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير هذه الوجوه من حديث عبد الله بن عمر وعوف بن مالك الجشمي
فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه و سلم المتواترة أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق
(1/251)
بين الحلف بالله أو النذر ونحوه ورواه النسائي عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيته وهذا صريح في أنه قصد تعميم كل يمين في الأرض وكذلك أصحابه فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام
فروى أبو داود في سنته حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك
فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر عن يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك
ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك وإنما قال النبي صلى الله عليه و سلم لا يمين ولا نذر لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع والنذر ما قصد به التقرب وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة
وفي هذا الحديث دلالة أخرى وهى أن قول النبي صلى الله عليه و سلم لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدى أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق
(1/252)
و مقصود النبي صلى الله عليه و سلم إما أن يكون نهيه عن فعل المحلوف عليه من المعصية و القطيعة فقط أو يكون مقصوده مع ذلك أنه لا يلزمه ما في اليمين و النذر من الإيجاب و التحريم
وهذا الثاني هو الظاهر لاستدلال عمر بن الخطاب به فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب به على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة و لأن لفظ النبي صلى الله عليه و سلم يعم ذلك كله
و أيضا فمما يبين دخول الحلف بالنذر و الطلاق و العتاق في اليمين و الحلف في كلام الله و رسوله ما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حلف على يمين فقال أن شاء الله فلا حنث عليه رواه أحمد و النسائي و ابن ماجة و الترمذي و قال حديث حسن و لفظ أبي داود قال حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم قال من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى و رواه أيضا من طريق عبد الوارث عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حلف فاستثنى فإن شاء رجع و إن شاء ترك غير حنث
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث رواه أحمد و الترمذي و ابن ماجة و لفظه فله ثنياه و النسائي وقال فقد استثنى
ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر و بالطلاق و بالعتاق في هذا الحديث وقالوا ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه و إنما الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجزاء و إنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق و العتاق و الفرق بين إيقاعهما و الحلف بهما ظاهر و سنذكر إن شاء الله قاعدة الاستثناء
(1/253)
فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله صلى الله عليه و سلم من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه فكذلك يدخل في قوله من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير و ليكفر عن يمينه فإن كلا اللفظين سواء وهذا واضح لمن تأمله
فإن قوله صلى الله عليه و سلم من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه لفظ العموم فيه مثله في قوله من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير و ليكفر عن يمينه و إذا كان لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء كما نص عليه أحمد في غير موضع
ومن قال إن الرسول قصد بقوله من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه جميع الأيمان التي يحلف بها من اليمين بالله و بالنذر و بالطلاق و بالعتاق و أما قوله من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إلخ إنما قصد به اليمين بالله أو اليمين بالله و النذر فقوله ضعيف فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي صلى الله عليه و سلم مثل حضور موجب اللفظ الآخر إذ كلاهما لفظ واحد و الحكم فيهما من جنس واحد وهو رافع اليمين إما بالاستثناء و إما بالتكفير
وعند هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق و العتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام
فقوم قالوا يدخل في ذلك الطلاق و العتاق أنفسهما حتى لو قال أنت طالق إن شاء الله و أنت حر إن شاء الله دخل ذلك في عموم الحديث وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وغيرهما
وقوم قالوا لا يدخل في ذلك الطلاق و العتاق لا إيقاعهما ولا الحلف بهما
(1/254)
بالطلاق ليس شيئا قلت أكان يراه يمينا قال لا أدري
فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعا للطلاق و توقف في كونه يمينا يوجب الكفارة لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه وفي كون مثل هذا يمينا خلاف مشهور وهذا قول أهل الظاهر كداود و أبي محمد بن حزم لكن بناء على أنه لا يقع طلاق معلق ولا عتق معلق
و اختلفوا في المؤجل وهو بناء على ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما ورد نص أو إجماع على وجوبه أو جوازه وهو مبني على ثلاث مقدمات يخالفون فيها
إحداها كون الأصل تحريم العقود
الثانية أنه لا يباح إلا ما كان في معنى النصوص
الثالثة أن الطلاق المؤجل و المعلق لم يندرج في عموم النصوص
و أما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج و الغضب و فرقوا بين نذر التبرر و نذر الغضب فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط و بين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب و سنتكلم عليه
وقد ذكرنا أن هذا القول يخرج على أصول أحمد من مواضع ذكرناها و كذلك هو أيضا لازم لمن قال في نذر اللجاج و الغضب بكفارة كما هو ظاهر مذهب الشافعي و إحدى الروايتين عن أبي حنيفة التي اختارها أكثر متأخري أصحابه و إحدى الروايتين عن ابن القاسم التي اختارها كثير من متأخري المالكية فإن التسوية بين الحلف بالنذر و الحلف بالعتق هو المتوجه و لهذا كان هذا من أقوى حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر فإنهم قاسوه على الحلف بالطلاق و العتاق و اعتقده بعض المالكية مجمعا عليه
و أيضا فإذا حلف بصيغة القسم كقوله عبيدي أحرار لأفعلن أو نسائي
(1/240)
يوضح ذلك أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بإيمانه بالله وهو ما في قلبه من إجلال الله وإكرامه الذي هو حق الله ومثله الأعلى في السموات والأرض كما أنه إذا سبح الله وذكره فهو مسبح له وذاكر له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله كما في قوله سبح اسم ربك الأعلى كما أن الذكر يكون تارة لاسم الله كما في قوله واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا وكذلك الذكر مع التسبيح في قوله يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلى الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته علما وقصدا وإجلالا وإكراما وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلى ما كسبه قلبه من ذلك كما قال سبحانه لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وكما قال في موضع آخر ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان
فلو اعتبر الشارع ما في لفظ القسم من انعقاده بالإيمان وارتباطه به دون قصد الحلف لكان موجبه أنه إذا حنث يتغير إيمانه بزوال حقيقته كما في قوله صلى الله عليه و سلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن كما أنه إذا حلف على ذلك يمينا فاجرة كانت من الكبائر إذ قد اشترى بها ثمنا قليلا فلا خلاق له في الآخرة ولا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم
لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أو لا يفعل ليس غرضه الاستخفاف بحرمة اسم الله والتعلق به كغرض الحالف في اليمين الغموس فشرع له الكفارة لأنه حل هذه العقدة وأسقطها عن لغو اليمين لأنه لم يعقد قلبه شيئا من الخيانة على إيمانه فلا حاجة إلى الكفارة
وإذا ظهر أن موجب اليمين انعقاد الفعل بهذا الإيمان الذي هو إيمانه بالله
(1/248)
مثل هذا مع أن أصول الشريعة تنافي تحريمه لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية و القياسية التي اعتقدوا شمولها من قول العلماء الذين يدرجون هذا في العموم هو الذي أوجب ما أوجب وهو قياس ما قررناه من جواز بيع المقتاة جميعها بعد بدو صلاحها لأن تفريق بعضها متعسر أو متعذر كتعسر تفريق الأجناس في البستان الواحد و إن كانت المشقة في المقتاة أوكد و لهذا جوزها من منع الأجناس كمالك
فإن قيل هذه الصورة داخلة في عموم نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه فإنه كما قررتم ليس بداخل في العموم لأنه إجارة لمن يعمل لا بيع لمعين وأما هذا فبيع للثمرة فيدخل في النهى فكيف تخالفون النهى
قلنا الجواب عن هذا كالجواب عما يجوز بالسنة والإجماع من ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يبد صلاحه وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد حبه وما نصرناه من ابتياع المقاتي مع أن بعض خضرها لم يخلق وجواب ذلك بطريقين
أحدهما أن يقال إن النهى لم يشمل بلفظه هذه الصورة لأن نهيه صلى الله عليه و سلم عن بيع الثمر انصرف إلى البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله لأن لام التعريف تنصرف إلى ما يعرفه المخاطبون فإن كان هنالك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين في قوله تعالى 24 : 62 لا تجعلوا الرسول دعاء بينكم كدعاء بعضكم بعضا وفي قوله 73 : 16 فعصى فرعون الرسول وإلى النوع المخصوص نهيه عن بيع الثمر فإنه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب دون العنب وغيره وإن لم يكن المعهود شخصيا ولا نوعيا انصرف إلى
(1/155)
وتعريف المضاف إليه فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه دخل كدخول القرن الثاني والثالث فيما خاطب به الرسول أصحابه
ونظير هذا ما ذكره أحمد في نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بول الرجل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه فحمله على ما كان معهودا على عهده من المياه الدائمة كالأبيار والحياض التي بين مكة والمدينة فأما المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها التي أحدثت بعده فلم يدخله في العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم العموم اللفظي
يدل على عدم العموم في مسألتنا أن في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل و ما تزهى قال تحمر و تصفر وفي لفظ نهى عن بيع الثمر حتى يزهو ولفظ مسلم نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو ومعلوم أن ذلك هو ثمر النخل كما جاء مقيدا لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر و إلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض كالتوت و التفاح و العنب الأبيض و الإجاص الأبيض الذي يسميه أهل دمشق الخوخ و الخوخ الأبيض الذي يسمى الفرسك و يسميه الدمشقيون الدراق أو باللين ! بلا تغير لون كالتين و نحوه و لذلك جاء في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الثمرة حتى تشقح قيل و ما تشقح قال تحمار و تصفار و يؤكل منها وهذه الثمرة هي الرطب و كذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تبتاعوا التمر بالتمر و التمر الثاني هو الرطب بلا ريب فكذلك الأول لأن اللفظ واحد وفي صحيح مسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تبتاعوا التمر حتى يبدو صلاحه و تذهب عنه الآفة وقال بدو صلاحه حمرته و صفرته فهذه الأحاديث التي فيها لفظ التمر
(1/156)
و أما غيرها فصريح في النخل كحديث ابن عباس المتفق عليه نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل منه وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو و عن السنبل حتى يبيض و يأمن العاهة نهى البائع و المشتري و المراد بالنخل ثمره بالاتفاق لأنه صلى الله عليه و سلم قد جوز اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط المشتري لثمرته
فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا في كل ثمرة في الأرض و إنما هي عامة لفظا لكل ما عهده المخاطبون و عامة معنى لكل ما كان في معناه و ما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معناه فلم يتناوله دليل الحرمة فيبقى على الحل وهذا وحده دليل على عدم التحريم وبه يتم ما نبهنا عليه أولا من أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية و الاستصحابية تدل على ذلك لكن بشرط نفي الناقل المغير و قد بينا انتفاءه
الطريق الثاني أن نقول وإن سلمنا العموم اللفظي لكن ليست هي مراده بل هي مخصوصة بما ذكرناه من الأدلة التي تخص مثل هذا العموم فإن هذا العموم مخصوص بالسنة و الإجماع في الثمر التابع لشجره حيث قال النبي صلى الله عليه و سلم من ابتاع نخلا لم يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع أخرجاه من حديث ابن عمر فجعلها للمبتاع إذا اشترطها بعد التأبير و معلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها ولا يجوز بيعها مفردة و العموم المخصوص بالنص أو الإجماع يجوز أن يخص منه صورة في معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف و يجوز أيضا تخصيصه بالإجماع و بالقياس القوي وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعاني ما يخص مثل هذا لو كان عاما أو بالاشتداد بلا تغير لون كالجوز و اللوز فبدو الصلاح في الثمار متنوع تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس وتارة باليبس بعد الرطوبة و تارة بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض و تارة لا يتغير
(1/157)
و إذا كان قد نهى عن بيع الثمر حتى يحمر أو يصفر علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أصناف الثمار و إنما يشمل ما تأتي فيه الحمرة و الصفرة وقد جاء مقيدا أنه النخل
فتدبر ما ذكرناه في هذه المسألة فإنه عظيم المنفعة في هذه القصة التي عمت بها البلوى وفي نظائرها و انظر في عموم كلام الله و رسوله لفظا و معنى حتى تعطيه حقه و أحسن ما تستدل به على معناه آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة و جريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى 7 : 157 يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم
و أما نهيه صلى الله عليه و سلم عن المعاومة الذي جاء مفسرا في رواية أخرى بأنه بيع السنين فهو والله أعلم مثل نهيه عن بيع حبل الحبلة إنما نهى أن يبتاع المشتري الثمرة التي يستثمرها رب الشجرة و أما اكتراء الأرض و الشجرة حتى يستثمرها فلا يدخل هذا في البيع المطلق و إنما هو نوع من الإجارة
و نظير هذا ما تقدم من حديث جابر في الصحيح من أنه نهى عن كراء الأرض و أنه نهى عن المخابرة و أنه نهى عن المزارعة و أنه قال لا تكروا في الأرض فإن المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه كما جاء مفسرا وهي المخابرة و المزارعة التي كانوا يعتادونها فنهاهم عما كانوا يعتادونه من الكراء أو المعاومة الذي يرجع حاصله إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح و إلى المزارعة المشروط فيها جزء معين
وهذا نهى عما فيه مفسدة راجحة هذا نهى عن الغرر في جنس البيع وذاك نهى عن الغرر في جنس الكراء العام الذي يدخل فيه المساقاة و المزارعة و قد بين في كل منهما أن هذه المبايعة وهذه المكاراة كانت تفضي إلى الخصومة
(1/158)
والشنآن وهو ما ذكره الله في حكمة تحريم الميسر بقوله 5 : 91 إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر
فصل
و من القواعد التي أدخلها قوم من العلماء في الغرر المنهي عنه أنواع من الإجارات و المشاركات كالمساقاة و المزارعة و نحو ذلك
فذهب قوم من الفقهاء إلى أن المساقاة و المزارعة حرام باطل بناء على أنها نوع من الإجارة لأنها عمل بعوض و الإجارة لا بد أن يكون الأجر فيها معلوما لأنها كالثمن ولما روى أحمد عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن استئجار الأجير حتى يتبين له أجره و عن النجش و اللمس و إلقاء الحجر و أن العوض في المساقاة و المزارعة مجهول لأنه قد يخرج الزرع و الثمر قليلا و قد يخرج كثيرا وقد يخرج على صفات ناقصة وقد لا يخرج فإن منع الله الثمرة كان استيفاء عمل العامل باطلا وهذا قول أبي حنيفة وهو أشد الناس قولا بتحريم هذا
و أما مالك و الشافعي فالقياس عندهما ما قاله أبو حنيفة إدخالا لذلك في الغرر لكن جوزا منه ما تدعو إليه الحاجة
فجوز مالك و الشافعي في القديم المساقاة مطلقا لأن كراء الشجر لا يجوز لأنه بيع للثمر قبل بدو صلاحه و المالك قد يتعذر عليه سقي شجره و خدمته فيضطر إلى المساقاة بخلاف المزارعة فإنه يمكنه كراء الأرض بالأجر المسمى فيغنيه ذلك عن المزارعة عليه تبعا لكن جوزا من المزارعة ما يدخل في المساقاة تبعا فإذا كان بين الشجر بياض قليل جازت المزارعة عليه تبعا للمساقاة
و مذهب مالك أن زرع ذلك البياض للعامل بمطلق العقد فإن شرطاه بينهما جاز وهذا إذا لم يتجاوز الثلث
و الشافعي لا يجعله للعامل لكن يقول إذا لم يمكن سقي الشجر إلا بسقيه
(1/159)
جازت المزارعة عليه و لأصحابه في البياض إذا كان كثيرا أكثر من الشجر وجهان
وهذا إذا جمعهما في صفقة واحدة فإن فرق بينهما في صفقتين فوجهان
أحدهما لا يجوز بحال لأنه إنما جاز تبعا فلا يفرد بعقد
و الثاني يجوز إذا ساقى ثم زارع لأنه يحتاج إليه حينئذ وأما إذا قدم المزارعة لم يجز وجها واحدا وهذا إذا كان الجزء المشروط فيهما واحدا كالثلث و الربع فإن فاضل بينهما ففيه وجهان
وروى عن قوم من السلف منهم طاووس والحسن وبعض الخلف المنع من إجارتها بالأجرة المسماة وإن كانت دراهم أو دنانير
وروى حرب عن الأوزاعي أنه سئل هل يصلح اكتراء الأرض فقال اختلف فيه فجماعة من أهل العلم لا يرون باكترائها بالدينار والدرهم بأسا وكره ذلك آخرون منهم وذلك لأن ذلك في معنى بيع الغرر لأن المستأجر يلتزم الأجرة بناء على ما يحصل له من الزرع وقد لا ينبت الزرع فيكون بمنزلة اكتراء الشجرة لاستثمارها وقد كان طاووس يزارع ولأن المزارعة أبعد عن الغرر من المؤاجرة لأن المتعاملين في المزارعة إما أن يغنما جميعا أو يغرما جميعا فتذهب منفعة بدن هذا وبقره ومنفعة أرض هذا وذلك أقرب إلى العدل من أن يحصل أحدهما على شيء مضمون ويبقى الآخر تحت الخطر إذ المقصود بالعقد هو الزرع لا القدرة على حرث على الأرض وبذرها وسقيها
وعذر الفريقين مع هذا القياس ما بلغهم من الآثار عن النبي صلى الله عليه و سلم من نهيه عن المخابرة وعن كراء الأرض كحديث رافع بن خديج وحديث جابر فعن نافع أن ابن عمر كان يكرى مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن كراءالمزارع فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله
(1/160)
بعض الصلاة فأمره بالسكينة و أن يصلي ما فاته منفردا بعد سلام الإمام و جعل ذلك مقدما على الإسراع إليها و هذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها فكيف فيها
يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثمامة الحناط عن كعب بن عجرة قال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة فقد نهاه صلى الله عليه و سلم في مشيه إلى الصلاة عما نهاه عنه في الصلاة من الكلام و العمل له منفردا فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي و غير ذلك فإذا كان منهيا عن السرعة و العجلة في المشي مأمورا بالسكينة و إن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيا له فأولى أن يكون مأمورا بالسكينة فيها
و يدل على ذلك أن الله عز و جل أمر في كتابه بالسكينة و القصد في الحركة و المشي مطلقا فقال 9 : 31 و اقصد في مشيك و اغضض من صوتك و قال تعالى 25 : 63 و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال الحسن و غيره بسكينة و وقار فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء فإذا كان مأمورا بالسكينة و الوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة فكيف الأفعال العبادية ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون كالركوع و السجود فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال كالرفع و الخفض و النهوض و الانحطاط و أما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال كالركوع نفسه و السجود نفسه و القيام و القعود أنفسهما و هذه هي من نفسها سكون فمن لم يسكن فيها لم يأت بها و إنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود و لم يأت به كمن مد يده إلى الطعام ولم يأكل منه أو وضعه على فيه و لم يطعمه
و أيضا فإن الله تعالى أوجب الركوع و السجود في الكتاب و السنة وهو
(1/50)
كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسك أرضه أخرجاه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك فقال من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها وفي رواية الصحيح ولا يكريها وفي رواية في الصحيح نهى عن كراء الأرض
وقد ثبت أيضا في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية في الصحيحين عن زيد ابن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شئ والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زيد قلت لعطاء بن أبي رباح أسمعت جابرا يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال نعم
فهذه الأحاديث قد يستدل بها من ينهى عن المؤاجرة والمزارعة لأنه نهى عن كرائها والكراء يعمها لأنه قال فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسكها فلم يرخص إلا في أن يزرعها أو يمنحها لغيره ولم يرخص في المعارضة عنه لا بمؤاجرة ولا بمزارعة
ومن يرخص في المزارعة دون المؤاجرة يقول الكراء هو الإجارة أو المزارعة الفاسدة التي كانوا يفعلونها بخلاف المزارعة الصحيحة التي ستأتي أدلتها والتي كان النبي صلى الله عليه و سلم يعامل بها أهل خيبر وعمل بها الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة من بعده يؤيد ذلك أن ابن عمر الذي ترك كراء الأرض لما حدثه رافع كان يروي
(1/162)
فيبن هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة فإن السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم في المشى إليها وهى حركة إليها فكيف بالحركة فيها فقال إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا
وهذا أيضا دليل مستقل في المسألة فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه قال أبو داود وكذلك قال الترمذي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب ابن أبي حمزة عن الزهري وما فاتكم فأتموا وقال ابن عينية عن الزهري فاقضوا قال محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضى الله عنه وجعفر بن أبي ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة فأتموا وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم فأتموا وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ائتوا الصلاة وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم قال أبو داود وكذا قال ابن سيرين عن ابي هريرة رضى الله عنه وليقض وكذلك قال أبو رافع عن أبي هريرة وأبو ذر رضى الله عنه روى عنه فأتموا واقضوا اختلف عنه
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة ونهى عن السعي الذي هو إسراع في ذلك لكونه سببا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة وينهى فيها عن الاستعجال
فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأخرى لا سيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع وإن أفضى ذلك إلى فوات
(1/49)
افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أقركم فيها على ذلك ما شئنا وكان الثمر على السهمان من نصف خيبر فيأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الخمس وفي رواية مسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم وللرسول صلى الله عليه و سلم شطر ثمرها وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطى خيبر أهلها على النصف نخلها وأرضها رواه الإمام أحمد وابن ماجة وعن طاوس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع فهو يعمل به إلى يومك هذا رواه ابن ماجة وطاوس كان بالمين وأخذ عن أصحاب معاذ الذين باليمن من أعيان المخضرمين وقوله وعمر وعثمان أي كنا نفعل كذلك على عهد عمر وعثمان فحذف الفعل لدلالة الحال عليه لأن المخاطبين كانوا يعلمون أن معاذا خرج من اليمن في خلافة الصديق وقدم الشام في خلافة عمر ومات بها في خلافته قال البخاري في صحيحه وقال قيس ابن مسلم عن أبي جعفر يعني الباقر ما بالمدينة دار هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع قال وزارع علي وسعد ابن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وعامل عمر الناس على انه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وهذه الآثار التي ذكرها البخاري قد رواها غير واحد من المصنفين في الآثار
فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزرعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم زارعوا
(1/164)
على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعده إلى أن أجلا عمر اليهود إلى تيماء
وقد تأول من أبطل المزارعة و المساقاة ذلك بتأويلات مردودة مثل أن قال كان اليهود عبيدا للنبي صلى الله عليه و سلم و المسلمين فجعلوا ذلك مثل المخارجة بين العبد و سيده
و معلوم بالنقل المتواتر أن النبي صلى الله عليه و سلم صالحهم و لم يسترقهم حتى أجلاهم عمر و لم يبعهم ولا مكن أحدا من المسلمين من استرقاق أحد منهم
ومثل أن قال هذه معاملة مع الكفار فلا يلزم أن تجوز مع المسلمين وهذا مردود فإن خيبر كانت قد صارت دار إسلام وقد أجمع المسلمون أنه يحرم في دار الإسلام بين المسلمين و أهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة ثم إنا قد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه و سلم عامل بين المهاجرين و الأنصار و أن معاذ بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد إسلامهم على ذلك و أن الصحابة كانوا يعاملون بذلك و القياس الصحيح يقتضي جواز ذلك مع عمومات الكتاب و السنة المبيحة أو النافية للحرج ومع الاستصحاب و ذلك من وجوه
أحدها أن هذه المعاملة مشاركة ليست مثل المؤاجرة المطلقة فإن النماء الحادث يحصل من منفعة أصلين منفعة العين التي لهذا كبدنه وبقره و منفعة العين التي لهذا كأرضه و شجره كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين و خيلهم و كما يحصل مال الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم و نصرهم بخلاف الإجارة فإن المقصود فيها هو العمل أو المنفعة فمن استأجر لبناء أو خياطة أو شق الأرض أو بذرها أو حصاد فإذا وافاه ذلك العمل فقد استوفى المستأجر مقصوده بالعقد و استحق الأجير أجره و لذلك يشترط في الإجارة اللازمة أن يكون العمل مضبوطا كما يشترط مثل ذلك في المبيع وهنا منفعة بدن العامل و بدن بقره وحديده هو مثل منفعة أرض المالك و شجره ليس مقصود واحد منهما
(1/165)
استيفاء منفعة الآخر و إنما مقصودهما جميعا ما يتولد من اجتماع المنفعتين فإن حصل نماء اشتركا فيه و إن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته فيشتركان في المغنم و في المغرم كسائر المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التي لهم وهذا جنس من التصرفات يخالف في حقيقته و مقصوده و حكمه الإجارة المحضة وما فيه من شوب المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة
فإن التصرفات العدلية في الأرض جنسان معاوضات و مشاركات فالمعاوضات كالبيع و الإجارة و المشاركات شركة الأملاك و شركة العقد و يدخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال و اشتراك الناس في المباحات كمنافع المساجد و الأسواق المباحة و الطرقات وما يحيا من الموات أو يوجد من المباحات و اشتراك الورثة في الميراث و اشتراك الموصى لهم و الموقوف عليهم في الوصية و الوقف و اشتراك التجار و الصناع شركة عنان أو أبدان ونحو ذلك وهذان الجنسان هما منشأ الظلم كما قال تعالى عن داود عليه السلام 38 : 24 و إن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات وقليل ما هم
و التصرفات الأخرى هي الفضلية كالقرض و العارية و الهبة و الوصية وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة فمعلوم قطعا أن المساقاة و المزارعة و نحوهما من جنس المشاركة ليسا من جنس المعاوضة المحضة و الغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة لأنه أكل مال الباطل وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر لأنه لم ينبت الزرع فإن رب الأرض يأخذ منفعة الآخر إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد ولا هي مقصوده بل ذهبت منفعة بدنه كما ذهبت منفعة أرض هذا ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه و الآخر لم يأخذ شيئا وبخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر فإن أحد المتعاوضين بأخذ شيئا والآخر يبقى تحت الخطر فيفضي إلى ندم أحدهما و خصومتهما
(1/166)
وهذا المعنى نتف في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم البتة لا في غرر ولا في غير غرر
ومن تأمل هذا تبين له مأخذه هذه الأصول وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة و أعرف في العقول و أبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض بل ومن جواز كثير من البيوع و الإجارات المجمع عليها حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد و إنما وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول لما فيها من عمل بعوض و ليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرا كعمل الشريكين في المال المشترك و عمل الشريكين في شركة الأبدان و كاشتراك الغانمين في المغانم و نحو ذلك مما لا يعد ولا يحصى نعم لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله كان هذا إجارة
الوجه الثاني أن هذه من جنس المضاربة فإنها عين تنمو بالعمل عليها فجاز العمل عليها ببعض نمائها كالدراهم و الدنانير و المضاربة جوزها الفقهاء الفقهاء كلهم اتباعا لما جاء فيها عن الصحابة رضي الله عنهم مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبي صلى الله عليه و سلم ولقد كان أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة و المزارعة لأنها تبتت بالنص فتجعل أصلا يقاس عليه و إن خالف فيها من خالف و قياس كل منهما على الآخر صحيح فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويها
فإن قيل الربح في المضاربة ليس من عين الأصل بل الأصل يذهب و يجيء بدله فالمال المقسم حصل بنفس العمل بخلاف الثمر و الزرع فإنه من نفس الأصل
قيل هذا الفرق فرق في الصورة وليس له تأثير شرعي فإنا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل و منفعة رأس المال ولهذا
(1/167)
يرد إلى رب المال مثل رأس ماله و يقتسمان الربح كما أن العامل يبقى بنفسه التي هي نظير الدراهم و ليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من إضافته إلى منفعة مال هذا
ولهذا فالمضاربة التي تروونها عن عمر إنما حصلت بغير عقد لما أقرض أبو موسى الأشعري لابني عمر من مال بيت المال فتحملاه إلى أبيهما فطلب عمر جميع الربح لأنه رأى ذلك كالغصب حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من المسلمين و المال مشترك و أحد الشركاء إذا اتجر في المال المشترك بدون إذن الآخر فهو كالغاصب في نصيب الشريك و قال له ابنه عبد الله الضمان كان علينا فيكون الربح لنا فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة
وهذه الأقوال الثلاثة في مثل هذه المسألة موجودة بين الفقهاء وهي ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره هل يكون ربح من اتجر بمال غيره بغير إذنه لرب المال أو للعامل أولهما على ثلاثة أقوال و أحسنها و أقيسها أن يكون مشتركا بينهما كما قضى به عمر لأن النماء متولد عن الأصلين
و إذا كان أصل المضاربة الذي اعتمدوا قد عليه راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة فأخذ مثل الدراهم يجري مجرى عينها ولهذا سمى النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمون بعده القرض منيحة يقال منيحة ورق ويقول الناس أعرني دراهمك يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية و المقترض انتفع بها وردها و سموا المضاربة قراضا لأنها في المقابلات نظير القرض في التبرعات
ويقال أيضا لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثرا لكان اقتضاءه لتجويز المزارعة دون المضاربة أولى من العكس لأن النماء إذ حصل مع بقاء الأصلين كان أولى بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما و إن قيل الزرع نماء الأرض دون البدن فقد يقال و الربح نماء العامل دون الدراهم أو بالعكس وكل هذا
(1/168)
و أما السنة ففي الصحيحين عن عبد الرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها و إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها و إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير و كفر عن يمينك
فبين له النبي صلى الله عليه و سلم حكم الأمانة الذي هو الإمارة و حكم العهد الذي هو اليمين و كانوا في أول الإسلام لا مخرج لهم من اليمين قبل أن تشرع الكفارة و لهذا قالت عائشة كان أبو بكر لا يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين و ذلك لأن اليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به كما يجب في سائر العقود و أشد لأن قوله أحلف بالله و أقسم بالله و أولي الله و نحو ذلك في معنى قوله أعقد بالله لهذا عدي بحرف الإلصاق الذي يستعمل في الربط و العقد فينعقد المحلوف عليه بالله كما تنعقد إحدى اليدين بالأخرى في المعاقدة و لهذا سماه الله سبحانه عقدا في قوله و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فإذا كان قد عقدها بالله فإن الحنث فيها نقض لعهد الله و ميثاقه لولا ما فرضه الله من التحلة و لهذا سمي حلها حنثا و الحنث هو الإثم في الأصل فالحنث فيها سبب للإثم لولا الكفارة الماحية و إنما الكفارة منعته أن يوجب إثما
و نظير الرخصة في كفارة اليمين بعد عقدها الرخصة أيضا في كفارة الظهار بعد أن كان الظهار في الجاهلية و أول الإسلام طلاقا و كذلك الإيلاء كان عندهم طلاقا فإن هذا جار على قاعدة وجوب الوفاء بمقتضى اليمين فإن الإيلاء إذا أوجب الوفاء بمقتضاه من ترك الوطء صار الوطء محرما و تحريم الوطء تحريما مطلقا مستلزم لزوال الملك الذي هو الطلاق و كذلك الظهار إذا أوجب التحريم فالتحريم مستلزم لزوال الملك فإن الزوجة لا تكون محرمة على الإطلاق و لهذا قال سبحانه وتعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك و الله غفور رحيم قد فرض الله لكم
(1/229)
نخل بثمر فيكون المزابنة وهذا مثل اكتراء الأرض بجنس الخارج منها إذا كان مضمونا في الذمة مثل أن يكتريها ليزرع فيها حنطة بحنطة معلومة ففيه روايتان عن أحمد إحداهما أنه ربا كقول مالك وهذا مثل القبالة التي كرهها ابن عمر لأنه ضمن الأرض للحنطة بحنطة تكون أكثر أو أقل فيظهر الربا
فالقبالات التي ذكر ابن عمر أنها ربا هو أن يضمن الأرض التي فيها النخل و الفلاحون من جنس مغلها مثل أن يكون لرجل قرية فيها شجر و أرض وفيها فلاحون يعملون تغل له ما تغل من الحنطة و التمر بعد أجرة الفلاحين أو نصيبهم فيضمنها رجل منه بمقدار معلوم من الحنطة و التمر و نحو ذلك فهذا مظهر تسميته بالربا فأما ضمان الأرض بالدراهم و الدنانير فليس من باب الربا بسبيل ومن حرمه فهو عنده من باب الغرر
ثم إن أحمد لم يكره ذلك إذا كانت أرضا بيضاء لأن الإجارة عنده جائزة و إن كانت الأجرة من جنس الخارج على إحدى الروايتين لأن المستأجر يعمل في الأرض بمنفعته وماله فيكون المغل بكسبه بخلاف ما إذا كان فيها العلوج وهم الذين يعالجون العمل فإنه لا يعمل فيها شيئا لا بمنفعته ولا بماله بل العلوج يعملونها وهو يؤدي القبالة ويأخد بدلها فهو طلب الربح في مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة وهذا هو الربا ونظير هذا ما جاء به عن أنه ربا وهو اكتراء الحمام والطاحون والفنادق ونحو ذلك مما لا ينتفع المستأجر به فلا يتجر فيه ولا يصطنع فيه وإنما يكتريه ليكويه فقط فقد قيل هو ربا
والحاصل أنها لم تكن ربا لأجل النخل ولا لأجل الأرض إذا كانت
(1/146)
الأدلة الدالة على نفي التحريم شرعا و عقلا فإن دلالة هذه إنما تتم بعد الجواب عما استدل به أصحاب القول الأول
الوجه الأول ما ذكرناه من فعل عمر في قصة أسيد بن الحضير فإنه قبل الأرض و الشجر الذي فيها بالمال الذي كان للغرماء وهذا عين مسألتنا ولا يحمل ذلك على أن النخل و الشجر كان قليلا فإنه من المعلوم أن حيطان أهل المدينة كان الغالب عليها الشجر و أسيد بن الحضير كان من سادات الأنصار و مياسيرهم فبعيد أن يكون الغالب على حائطه الأرض البيضاء ثم هذه القصة لا بد أن تشتهر ولم يبلغنا أن أحدا أنكرها فيكون إجماعا و كذلك ما ضربه من الخراج على السواد فإن تسميته خراجا يدل على أنه عوض عما ينتفعون به من منفعة الأرض و الشجر كما يسمي الناس اليوم كراء الأرض لمن يغرسها خراجا إذا كان على كل شجرة شيء معلوم ومنه قوله 23 : 72 أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير ومنه خراج العبد فإنه عبارة عن ضريبة يخرجها لسيده من ماله فمن اعتقد أنه ثمن أو عوض مستقل بنفسه فمعلوم أنه لا يشبه غيره و إنما جوزه الصحابة ولا نظير له لأجل الحاجة الداعية إليه و الحاجة إلى ذلك موجودة في كل أرض فيها شجر كالأرض المفتتحة سواء
فإنه إن قيل يمكن المساقاة أو المزارعة قيل وقد كان يمكن عمر المساقاة و المزارعة كما فعل في أثناء الدولة العباسية إما في خلافة المنصور و إما بعده فإنهم نقلوا أرض السواد من الخراج إلى المقاسمة التي هي المساقاة و المزارعة
و إن قيل إنه يمكن جعل الكراء بإزاء الأرض و التبرع بمنفعة الشجر أو المحاباة فيها قيل قد كان يمكن عمر ذلك فالقدر المشترك بينهما ظاهر
و أيضا فإنا نعلم قطعا أن المسلمين ما زالت لهم أرضون فيها شجر بل هذا غالب على أموال أهل الأمصار و نعلم أن السلف لم يكونوا كلهم يعمرون أرضهم
(1/144)
عليه وسلم عن كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وشئ من التبن أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها نهي عن النبي صلى الله عليه و سلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد فكان إذا سئل عنها بعد قال زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عنها وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه عبد الله فقال يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في كراء الأرض قال رافع بن خديج لعبد الله سمعت عمى وكانا قد شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن كراء الأرض قال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الأرض تكري ثم خشى عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدث في ذلك شيئا لم يعلمه فترك كراء الأرض رواه مسلم وروى البخاري قول عبد الله الذي في آخره عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أمر كان بنا رافقا فقلت وما ذاك ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو حق قال دعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما تصنعون بمحاقلكم فقلت نؤاجرها يا رسول الله على الربيع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال فلا تفعلوا ازرعوها أو ازرعوها أو أمسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة أخرجاه في الصحيحين وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه أخرجاه وعن جابر بن عبد الله قال كانوا يزرعونها بالثلث أو الربع فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من
(1/161)
وفي الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية لهما وعن بيع السنين بدل المعاومة وفيهما أيضا عن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زبد قلت لعطاء أسمعت جابرا يذكر هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال نعم وفيهما عن أبي البحتري قال سألت ابن عباس عن بيع النخل فقال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل وحتى يوزن فقلت ما يوزن فقال رجل عنده حتى يحرز وفي مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تبتاعوا الثمر بالتمر
وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع ثمر النخل سنين لا يجوز قالوا فإذا أكره الأرض والشجر فقد باعه الثمر قبل أن يخلق وباعه سنة أو سنتين وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم ثم منع منه مطلقا طردا لعموم القياس ومن جوزه إذا كان قليلا قال الضرر اليسير يحتمل في العقود كما لو ابتاع النخل وعليه ثمر لم يؤبر أو أبر ولم يبد صلاحه فإنه يجوز وإن لم يجز إفراده بالعقد
وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث ولكن لا يتوجه على أصل أبي حنيفة لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء ويجوز ابتياعه قبل بدو صلاحه وموجب العقد القطع في الحال فإذا ابتاعه مع الأصل فإنما استحق إبقاءه لأن الأصل ملكه وسنتكلم إن شاء الله على هذا الأصل
(1/139)
و ذكر أبو عبيد أن المنع من إجارة الأرض التي فيها شجر كثير إجماع
و القول الثالث أنه يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر و دخول الشجر في الإجارة مطلقا وهذا قول ابن عقيل و إليه مال حرب الكرماني هذا القول كالإجماع من السلف و إن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه فقد روى سعيد بن منصور ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله قال حدثنا عباد بن عباد بن هشام بن عروة عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي و عليه ستة آلاف درهم فدعا عمر غرماءه فقبلهم أرضه سنين و فيها النخل و الشجر
و أيضا فإن عمر بن الخطاب ضرب الخراج على أرض السواد و غيرها فأقر الأرض التي فيها النخل و العنب في أيدي أهل الأرض و جعل على كل جريب من جرب الأرض السواد و البيضاء خراجا مقدرا و المشهور أنه جعل على جريب العنب عشرة دراهم و على جريب النخل ثمانية دراهم و على جريب الرطبة ستة دراهم و على جريب الزرع درهما و قفيزا من طعام
و المشهور عند مالك و الشافعي و أحمد أن هذه ا لمخارجة تجري مجرى المؤاجرة و إنما لم يؤقته لعموم المصلحة و أن الخراج أجرة الأرض فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر وهو مما أجمع عليه عمر و المسلمون في زمانه و بعده و لهذا تعجب أبو عبيد في كتاب الأموال من هذا فرأى أن هذه المفاصلة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء
و حجة ابن عقيل أن إجارة الأرض جائزة و الحاجة إليها داعية ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر و ما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز لأن المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر و قد لا يساقى عليها
وهذا كما أن مالكا و الشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة فإذا ساقى العامل على شجر فيها بياض جوزا المزارعة في ذلك البياض تبعا للمساقاة فيجوزه مالك إذا كان دون الثلث كما قال في بيع الشجر تبعا للأرض وكذلك
(1/140)
الشافعي يجوزه إذا كان البياض قليلا لا يمكن سقي النخل إلا بسقيه و إن كان كثيرا و النخل قليلا ففيه لأصحابه وجهان
هذا إذا جمع بينهما في عقد واحد و سوى بينهما في الجزء المشروط كالثلث و الربع فأما إن فاضل بين الجزءين ففيه وجهان لأصحابه وكذلك إن فرق بينهما في عقدين و قدم المساقاة فيه وجهان فأما إن قدم المزارعة لم تصح المزارعة وجها واحدا
فقد جوز المزارعة التي لا تجوز عندهما تبعا للمساقاة فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعا لإجارة الأرض
وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك و لأن المانعين من هذا هم بين محتال على جوازه و مرتكب لما يظن أنه حرام و صابر و متضرر فإن الكوفيين احتالوا على الجواز تارة بأن يؤجر الأرض فقط و يبيحه ثمر الشجر كما يقولون في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها يبيعه إياها مطلقا أو بشرط القطع بجميع الأجرة و يبيحه إبقاءها وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة و الثوري و غيرهما و تارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة و يساقيه على الشجر بالمحاباة مثل أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك
وهذه الحيلة إنما يجوزها من يجوز المساقاة كأبي يوسف و محمد و الشافعي في القديم فأما أبو حنيفة فلا يجوزها بحال و كذلك الشافعي إنما يجوزها في الجديد في النخل و العنب فقد اضطروا في هذه المعاملة إلى أن تسمى الأجرة في مقابلة منفعة الأرض و يتبرع له إما بإعراء الشجر و إما بالمحاباة في مساقاتها
و لفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف في إبطال الحيل من أصحاب الإمام أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل أعني حيلة المحاباة في المساقاة و المنصوص عن أحمد و أكثر أصحابه إبطال هذه الحيلة بعينها كمذهب مالك و غيره
(1/141)
و المنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعا لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يحل سلف و بيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك رواه الأئمة الخمسة أحمد و أبو داود و النسائي و الترمذي و ابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن صحيح فنهى صلى الله عليه و سلم عن أن يجمع بين سلف و بيع فإذا جمع بين سلف و إجارة فهو جمع بين سلف و بيع أو مثله وكل تبرع يجمعه إلى البيع و الإجارة مثل الهبة و العارية و العرية و المحاباة في المساقاة و المزارعة و المبايعة و غير ذلك هي مثل القرض
فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة و تبرع لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعا مطلقا فيصير جزءا من العوض فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين فإن من أقرض رجلا ألف درهم وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف لم يرض بالاقتراض إلا بالثمن الزائد للسلعة و المشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها فلا هذا باع بيعا بألف ولا هذا أقرض قرضا محضا بل الحقيقة أنه أعطاه الألف و السلعة بألفين فهي مسألة مد عجوة فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف حرم بلا تردد وإلا خرج على الخلاف المعروف و هكذا من أكرى الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر و رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها و إن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة فالثمرة هي المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلا ضربا من اللعب وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر
و الذين لا يحتالون أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة بين أمرين إما أن يفعلوا ذلك للحاجة و يعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم كما رأينا عليه أكثر الناس و إما أن يتركوا ذلك و يتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل
(1/142)
عليهم من الضرر و الإضرار ما لا يعلمه إلا الله و إن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال الذي لا تأتي به شريعة قط فضلا عن شريعة قال الله فيها 22 : 78 ما جعل عليكم في الدين من حرج وقال تعالى 2 : 185 يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال تعالى 4 : 38 يريد الله أن يخفف عنكم وفي الصحيحين إنما بعثتم ميسرين و يسروا ولا تعسروا ليعلم اليهود أن في ديننا سعة فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا
و الغرض من هذا أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط لما فيه من الفساد الذي لا يطاق فعلم أنه ليس بحرام بل هو أشد من الأغلال و الآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد صلى الله عليه و سلم ومن استقرأ الشريعة في مواردها و مصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى 2 : 173 فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ و لا عاد وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة و المنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون فإنه يؤمر بالتوبة و يباح له ما يزيل ضرورته فيباح له الميتة يقضي عنه دينه من الزكاة و إن لم يتب فهو الظالم لنفسه المحتال و حاله كحال الذين قال الله فيهم إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون و قوله 4 : 16 فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها
وهذا القول المأثور عن السلف الذي اختاره ابن عقيل هو قياس أصول أحمد و بعض أصول الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لوجوه متعددة بعد
(1/143)
السكون فيها كلها والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة فمن لم يطمئن لم يسكن فيها وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر الله تعالى به من الخشوع فيها وأحق الناس باتباع هذا هم أهل الحديث
ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهى عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه وحمله على ذلك فقد غلط فإن الحديث جاء مفسرا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال
ويبين ذلك قوله مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس والشمس جمع شموس وهو الذي تقول له العامة الشموص وهو الذي يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال وهى حركة لا سكون فيها
وأما رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عن الاستفتاح فذلك مشروع باتفاق المسلمين فكيف يكون الحديث نهيا عنه
وقوله اسكنوا في الصلاة يتضمن ذلك ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد الله بن المبارك فرفع ابن المبارك يديه فقال له أتريد أن تطير فقال إن كنت أطير في أول مرة فأنا أطير في الثانية وإلا فلا وهذا نقض لما ذكره من المعنى
وأيضا فقد تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه بهذا الرفع فلا يكون نهيا عنه ولا يكون ذلك الحديث معرضا بل لو قد تعارضنا فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها وهذا الرفع فيه سكون فقوله اسكنوا في الصلاة لا ينافي هذا الرفع كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة بل قوله اسكنوا يقتضي السكون في كل بعض من أبعاض الصلاة وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين
(1/48)
بأنفسهم ولا غالبهم و نعلم أن المساقاة و المزارعة لا تتيسر في كل وقت لأنها تفتقر إلى عامل أمين و ما كل أحد يرضى بالمساقاة ولا كل من أخذ الأرض يرضى بالمشاركة فلا بد أن يكونوا قد كانوا يكرون الأرض السوداء ذات الشجر و معلوم أن الاحتيال بالتبرع أمر بارد لم يكن السلف من الصحابة و التابعين يفعلونه فلم يبق إلا أنهم كانوا يفعلون كما فعل عمر بمال أسيد بن الحضير و كما يفعله غالب المسلمين من تلك الأزمنة وإلى اليوم
فإذا لم ينقل عن السلف أنهم حرموا هذا الإجارة ولا أنهم أمروا بحيلة التبرع مع قيام المقتضى لفعل هذه المعاملة علم قطعا أن المسلمين كانوا يفعلونها من غير نكير من الصحابة و التابعين فيكون فعلها كان إجماعا منهم
ولعل الذين اختلفوا في كراء الأرض البيضاء أو المزارعة لم يختلفوا في كراء الأرض السوداء ولا في المساقاة لأن منفعة الأرض ليس فيها طائل بالنسبة إلى منفعة الشجر
فإن قيل فقد قال حرب الكرماني سئل أحمد عن تفسير حديث ابن عمر القبالات ربا قال هو أن يتقبل القرية فيها النخل و العلوج قيل فإن لم يكن فيها نخل وهي أرض بيضاء قال لا بأس إنما هو الآن مستأجر قيل فإن فيها علوجا قال فهذا هو القبالة المكروهة قال حرب حدثنا عبيد الله ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا سعيد عن جبلة سمع ابن عمر يقول القبالات ربا قيل الربا فيما يجوز تأجيله إنما يكون في الجنس الواحد لأجل الفضل فإذا قيل في الأجرة أو الثمن أو نحوها إنه ربا مع جواز تأجيله فلأنه معاوضة بجنسه متفاضلا لأن الربا إما ربا النساء و ذلك لا يكون إلا فيما يجوز تأجيله و إما ربا الفضل و ذلك لا يكون إلا في الجنس الواحد فإذا انتفى ربا النساء الذي هو التأخير لم يبق إلا ربا الفضل الذي هو الزيادة في الجنس الواحد وهذا يكون إذا كان التقبل بجنس مغل الأرض مثل أن يقبل الأرض التي فيها
(1/145)
لا بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم وهذا أشهر القولين في مذهب مالك و إحدى الروايتين عن أحمد
والقول الثالث أن إيقاع الطلاق و العتاق لا يدخل في ذلك بل يدخل فيه الحلف بالطلاق و العتاق وهذا الرواية الثانية عن أحمد ومن أصحابه من قال إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث و نفعته المشيئة رواية واحدة وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان
وهذا القول الثالث هو الصواب المأثور معناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و جمهور التابعين فإن ابن عباس و أكثر التابعين كسعيد بن المسيب و الحسن لم يجعلوا في الطلاق استثناء ولم يجعلوه من الأيمان
ثم قد ذكرنا عن الصحابة و جمهور التابعين أنهم جعلوا الحلف بالصدقة و الهدى و العتاقة و نحو ذلك يمينا مكفرة وهذا معنى قول أحمد في غير موضع لا استثناء في الطلاق و العتاق ليسا من الأيمان
وقال أيضا الثنيا في الطلاق لا أقول بها و ذلك أن الطلاق و العتاق حرفان واقعان
وقال أيضا إنما يكون الاستثناء فيما تكون فيه كفارة و الطلاق و العتاق لا يكفران وهذا الذي قاله ظاهر
و ذلك أن إيقاع الطلاق و العتاق ليسا يمينا أصلا و إنما هو بمنزلة العفو عن القصاص و الإبراء من الدين و لهذا لو قال و الله لا أحلف على يمين ثم إنه أعتق عبيدا له أو طلق امرأته أو أبرأ غريمه من دم أو مال أو عرض فإنه لا يحنث ما علمت أحدا خالف في ذلك
فمن أدخل إيقاع الطلاق و العتاق في قول النبي صلى الله عليه و سلم من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث فقد حمل العام ما لا يحتمله كما أن من أخرج من هذا العام قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله إن
(1/255)
بغير جنس المغل وإنما كانت ربا لأجل العلوج وهذه الصورة لا حاجة إليها فإن العلوج يقومون بها فتقبيلها لآخر مراباة له ولهذا كرهها أحمد وإن كانت بيضاء إذا كان فيها العلوج
وقد استدل حرب الكرماني على المسألة بمعاملة النبي صلى الله عليه و سلم لأهل خيبر على أرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم وذلك أن هذا في المعنى إكراء للأرض منهم ببعض ما يخرج منها مع إكراء الشجر بنصف ثمره فقياس عليه إكراء الأرض والشجر بشئ مضمون لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه لكان إعطاء بعضه بمنزلة بيعه وذلك لا يجوز وهذه المسألة لها أصلان
الأصل الأول أنه متى كان بين الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كرائهما جميعا فيجوز لأجل الحاجة وإن كان في ذلك غرر يسير لا سيما إن كان البستان وقفا أو مال يتيم فإن تعطيل منفعته لا يجوز وإكراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع في العادة ولا يدخل أحد في إجارته على ذلك وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته ومالا يتم المباح إلا به فهو مباح فكل ما ثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه ومالا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام فهنا يتعارض الدليلان
وفي مسألتنا قد ثبت إباحة كراء بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين بخلاف دخول كراء الشجر فإن تحريمه مختلف فيه ولا نص فيه
و أيضا فمتى أكريت الأرض وحدها وبقي الشجر لم يكن المكترى مأمونا على الثمر فيفضي إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة كما إذا بدا الصلاح في نوع واحد يخرج على هذا القول مثل قول الليث بن سعد إذا بدا الصلاح في جنس وكان في بيعه متفرقا ضرر جاز بيع جميع الأجناس وبه فسر تفريق الصفقة ولأنه إذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يجد من يشتري الثمرة إذا
(1/147)
كانت الأرض و المساكن لغيره إلا بنقص كثير ولأنه إذا أكرى الأرض فإن شرط عليه سقي الشجر و السقي من جملة المعقود عليه صار المعوض عوضا و إن لم يشرط عليه السقي فإذا سقاها إن ساقاه عليها صارت الإجارة لا تصح إلا بمساقاة و إن لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر فيدور الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعى أو لا تصح الإجارة إلا بمساقاة أو بتفويت منفعة المستأجر ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها مع أن الأرض و المساكن لغيره نقص للقيمة في مواضع كثيرة
فيرجع الأمر إلى أن الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما في المعاوضة و إن لم يجز إفراد كل منهما لأن حكم الجمع يخالف حكم التفريق ولهذا وجب عند أحمد و أكثر الفقهاء على أحد الشريكين إذا تعذرت القسمة أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه إن كان المشترك منفعة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم و عتق عليه العبد و إلا فقد عتق عليه ما عتق أخرجاه في الصحيحين فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بتقويم العبد كله و بإعطاء الشريك حصته من القيمة و معلوم أن قيمة حصته مفردة دون حصته من قيمة الجميع فعلم أن حقه في نصف النصف و إذا استحق ذلك بالإعتاق فبسائر أنواع الإتلاف أولى و إنما يستحق بالإتلاف ما يستحق بالمعاوضة فعلم أنه يستحق بالمعاوضة نصف القيمة و إنما يمكن ذلك عند بيع الجميع فيجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها فإن كان فيها ضرر قسمت القيمة
فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما في التفريق من نقص قيمة شريكه فلأن يجوز بيع الأمرين جميعا إذا كان في تفريقهما ضرر أولى و لذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها و إن أمكن تفريقهما بالحلب و إن كان بيع اللبن وحده لا يجوز
(1/148)
وعلى هذا الأصل فيجوز متى كان مع الشجر منفعة مقصودة كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن و أما إن كان المقصود هو الثمر فقط و منفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود و إنما دخلت لمجرد الحيلة كما قد يفعل في مسائل مد عجوة لم يجئ هذا الأصل
الأصل الثاني أن يقال إكراء الشجر للاستثمار يجري مجرى إكراه الأرض للازدراع و استئجار الظئر للرضاع وذلك أن الفوائد التي تستحق مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع و إن كانت أعيانا وهي ثمر الشجر و لبن الآدميات و البهائم و الصوف و الماء العذب فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء و لهذا جرت في الوقف و العارية و المعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة فإن الوقف لا يكون إلا فيما ينتفع به مع بقاء أصله فإذا جاز وقف الأرض البيضاء أو الرباع لمنفعتها فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ووقف الماشية لدرها وصوفها ووقف الآبار و العيون لمائها بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام و نحوه فلا يوقف
و أما باب العارية فيسمون إباحة الظهر إفقارا يقال أفقره الظهر و ما أبيح لبنه منيحة وما أبيح ثمره عرية و غير ذلك عارية و شبهوا ذلك بالقرض الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم منيحة لبن أو منيحة ورق فاكتراء الشجر لأن يعمل عليها و يأخذ
(1/149)
ثمرها بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها و ليس في القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة الظئر في قوله سبحانه 65 : 6 فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن
ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ليست عينا ورأى جواز إجارة الظئر قال المعقود عليه هو وضع الطفل في حجرها و اللبن دخل ضمنا و تبعا كنقع البئر و هذا مكابرة للعقل و الحس فإنا نعلم بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله فإن أرضعن لكم و ضم الطفل إلى حجرها إن فعل فإنما هو وسيلة إلى ذلك و إنما العلة ما ذكرته من أن الفائدة التي تستخلف مع بقاء أصلها تجري مجرى المنفعة و ليس من البيع الخاص فإن الله لم يسم العوض إلا أجرا لم يسمه ثمنا وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن فإن لا يسمى المعاوضة عليه حينئذ إلا بيعا لأنه لم يستوف الفائدة من أصلها كما يستوفي المنفعة من أصلها
فلما كان للفوائد العينية التي يمكن فصلها عن أصلها حالان حال تشبه فيه المنافع المحضة وهي حال اتصالها و استيفاء المنفعة و حال تشبه في الأعيان المحضة وهي حال انفصالها و قبضها كقبض الأعيان فإذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها و يعمل عليها حتى تصلح الثمرة فإنما يبيع ثمرة محضة كما لو كان هو الذي يشق الأرض و يبذرها و يسقيها حتى يصلح الزرع فإنما يبيع زرعا محضا و أن كان المشتري هو الذي يجد و يحصد كما لو باعها على الأرض و كان المشتري هو الذي ينقل و يحول و لهذا جمع النبي صلى الله عليه و سلم بينهما في النهي عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه فإن هذا بيع محض للثمرة و الزرع و أما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلىالمكري حتى يسقيها و يلقحها و يدفع عنها الأذى فهو بمنزلة دفعه الأرض إلى من يشقها و يبذرها و يسقيها و لهذا سوى بينهما في المساقاة و المزارعة فكما أن كراء الأرض ليس
(1/150)
ببيع لزرعها فكذلك كراء الشجرة ليس ببيع لثمرها بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض كنسبة المساقاة إلى المزارعة هذا معاملة من النماء وهذا كراء بعوض معلوم فإذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع في الوقف لأصلها وفي التبرعات بها وفي المشاركة بجزء من نمائها وفي المعاوضة عليها بعد صلاحها فكذلك تساويها في المعاوضة على استفادتها و تحصيلها ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج بالعمل بخلاف الثمر فإنه يخرج بلا عمل كان هذا الفرق عديم التأثير بدليل المساقاة و المزارعة و ليس بصحيح فإن للعمل تأثيرا في الإثمار كماله تأثير في الإنبات و مع عدم العمل عليها قد يعدم الثمر و قد ينقص فإن من الشجر ما لو لم يسق لم يثمر ولو لم يكن للعمل عليه تأثير أصلا لم يجز دفعه إلى عامل بجزء من ثمره ولم يجز في مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه فإن بيع محض للثمرة لا إجارة للشجر و يكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده
فإن قيل المقصود بالعقد هنا غرر لأنه قد يثمر قليلا وقد يثمر كثيرا
يقال مثله في إكراء الأرض فإن المقصود بالعقد غرر أيضا على هذا التقدير فإنه قد ينبت قليلا وقد ينبت كثيرا
و إن قيل المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت
قيل المعقود عليه هنا التمكن من الاستثمار لا نفس الثمر الخارج و معلوم أن المقصود فيهما إنما هو الزرع و الثمر و إنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك كما أن المقصود باكتراء الدار إنما هو السكنى و إن وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك
فالمقصود في اكتراء الأرض للزرع إنما هو نفس الأعيان التي تحصد ليس كاكترائها للسكنى أو البناء فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجعل الأعيان فيها
وهذا بين عند التأمل لا يزيده البحث عنه إلا وضوحا
(1/151)
حرمت الحلال لأن هذا حكم ذلك الفعل فلا يد أن يطابق جميع صوره لأن تحريم الحلال هو سبب قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض مع قيام السبب المقتضى للتعميم وهكذا التقرير في قوله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم إلى قوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم
وأيضا فإن الصحابة فهمت العموم وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية على اليمين بالله وغيرها
وأيضا فنقول سلمنا أن اليمين المذكورة في الآية المراد بها اليمين بالله وأن ما سوى اليمين بالله لا يلزم بها حكم فمعلوم أن الحلف بصفات الله سبحانه كالحلف به كما لو قال وعزة الله أو لعمر الله أو والقرآن العظيم فإنه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها وإن كانت الأستعاذة لا تكون إلا بالله وصفاته في مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم أعوذ بوجهك و أعوذ بكلمات الله التامات و أعوذ برضاك من سخطك ونحو ذلك وهذا أمر مقرر عند العلماء
وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو الحلف بصفات الله فإنه إذا قال إن فعلت كذا فعلى الحج فقد حلف بإيجاب الحج عليه وإيجاب الحج حكم من أحكام الله وهو من صفاته وكذلك لو قال فعلى تحرير رقبة وإذا قال فامرأتي طالق وعبدي حر فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه والتحريم من صفات الله كما أن الإيجاب من صفات الله وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله ولا تتخذوا آيات الله هزوا فجعل حدوده في النكاح والطلاق والخلع من آياته لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله فإن قوله على الحج والصوم
(1/246)
أحدها أن ذلك لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين و الشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه
و القول الثاني يجوز إذا كان الشجر قليلا و كان بياض الثلثين أو أكثر و كذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة أو شجرات عنب و نحو ذلك وهذا قول مالك وعن أحمد كالقولين قال الكرماني قيل لأحمد الرجل يستأجر الأرض فيها نخلات قال أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر و كأنه لم يعجبه أظنه أراد الشجر لم أفهم عن أحمد أكثر من هذا
وقد تقدم عنه فيما إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكبر هو غير الجنس كشاة ذات صوف أو لبن بصوف روايتان و أكثر أصوله على الجواز كقول مالك فإنه يقول إذا ابتاع عبدا وله مال وكان مقصوده العبد جاز و إن كان المال مجهولا أو من جنس الثمن و لأنه يقول إذا ابتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر أو زرع لم يدرك يجوز إذا كان مقصوده الأرض و الشجر
و هذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة فإن ابتياع الأرض بمنزلة اشترائها و اشتراء النخل و دخول الثمرة التي لم تأمن العاهة في البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول ثمر النخلات و العنب في الإجارة تبعا
و حجة الفريقين في المنع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم من نهيه عن بيع السنين و بيع الثمر حتى يبدو صلاحه كما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع و المبتاع و فيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن تباع الثمرة حتى تشقح قيل و ما تشقح قال تحمار و تصفار و يؤكل منها وفي رواية لمسلم أن هذا التفسير من كلام سعيد ابن المثنى المحدث عن جابر
(1/138)
فصوروا المسألة بصورة قوله إذا وقع عليك طلاقي حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا قالوا له قل إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فيقول ذلك فيقولون له افعل الآن ما حلفت عليه فإنه لا يقع عليك طلاق
فهذا التسرج المنكر عند عامة أهل الإسلام المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه و سلم إنما نفقه في الغالب ما أحوج كثيرا من الناس إليه من الحلف بالطلاق و إلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد لأن العاقل لا يكاد يقصد سد باب الطلاق عليه إلا نادرا
الحيلة الخامسة إذا وقع الطلاق و لم يمكن الاحتيال لا في المحلوف عليه قولا ولا فعلا ولا في المحلوف به إبطالا ولا منعا احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلت عليه السنة و إجماع الصحابة مع دلالة القرآن و شواهد الأصول على تحريمه و فساده ثم قد تولد من نكاح المحلل من الفساد ما لا يعلمه إلا الله كما نبهنا على بعضه في كتاب بيان الدليل على إبطال التحليل و أغلب ما يحوج الناس إلى نكاح المحلل هو الحلف بالطلاق و إلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل في الغالب إلا إذا قصده و من قصده لم يترتب عليه عنده من الندم و الفساد ما يترتب على من اضطر إلى وقوعه لحاجته إلى الحنث
فهذه المفاسد الخمسة التي هي الاحتيال على نقض الأيمان و إخراجها عن مفهومها و مقصودها ثم الاحتيال بالخلع و إعادة النكاح ثم الاحتيال بالبحث عن فساد النكاح ثم الاحتيال بمنع وقوع الطلاق ثم الاحتيال بنكاح المحلل في هذه الأمور من المكر و الخداع و الاستهزاء بآيات الله و اللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الله و يوجب طعن الكفار فيه كما رأيته في بعض كتب النصارى و غيرهم و يتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام منزه عن هذه الخزعبلات التي تشبه حيل اليهود و مخاريق الرهبان و أن أكثر ما أوقع
(1/263)
علمت و كما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة
و قد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع مثل مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها و استثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها أو الثياب أو العبيد أو الماشية التي قد رأياها إلا شيئا منها قد عيناه
و اختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكنى الدار شهرا أو استخدام العبد شهرا أو ركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلد بعينه مع اتفاق الفقهاء المشهورين و أتباعهم و جمهور الصحابة على أن ذلك قد يقع كما إذا اشترى أمة مزوجة فأن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد كما اشترت عائشة بريرة و كانت مزوجة لكن هي اشترتها بشرط العتق فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق و العتق ينافي نكاحها فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو ممن روى حديث سريره يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قالوا فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج و احتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة
فلم يرض أحمد هذه الحجة لأن ابن عباس رواه و خالفه و ذلك و الله أعلم لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا
ثم الفقهاء قاطبة و جمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك وكان مالكها معصوم الملك لم يزل عنها ملك الزوج و ملكها المشتري و نحوه إلا منفعة البضع
ومن حجتهم أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من البائع و الزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه بخلاف المسبية
(1/214)
و يجوز أيضا على قياس قوله استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة و الصداق و فدية الخلع و الصلح عن القصاص و نحو ذلك من أنواع إخراج الملك سواء كان بإسقاط كالعتق أو بتمليك بعوض كالبيع أو بغير عوض كالهبة
و يجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ومن قال بهذا الحديث قال إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع و الإجارة وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق فتشترط أن لا تسافر معه و لا تنتقل من دارها و تزيد على ما يملكه بالإطلاق فتشترط أن تكون مخلية به فلا يتزوج عليها ولا يتسرى
و يجوز على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة كاليسار و الجمال ونحو ذلك و يملك الفسخ بفواته وهو من أشد الناس قولا بفسخ النكاح و انفساخه فيجوز فسخه بالعيب كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه أن لا يتزوج عليها و بالتدليس كما لو ظنها حرة فطهرت أمة و بالخلف بالصفة على الصحيح كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر و ينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت و اشتراط الطلاق وهل يبطل بفساد المهر كالخمر و الميتة و نحو ذلك فيه عنه روايتان إحداهما نعم كنكاح الشغار وهو رواية عن مالك و الثانية لا ينفسخ لأنه تابع وهو عقد مفرز كقول أبي حنيفة و الشافعي
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلا أو تركا في المبيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق وقد يروى ذلك عنه لكن الأول أكثر في كلامه ففي
(1/190)
جامع الخلال عن أبي طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية فشرط أن يتسرى بها تكون جارية نفيسه يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال لا بأس به و قال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل جارية فقال له إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني قال لا بأس به ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط لأن ابن مسعود قال لرجل لا تقربنها ولأحد فيها شرط وقال حنبل حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة أن ابن مسعود اشترى جارية من امرأته و شرط لها إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب فقال لا تنكحها وفيها شرط وقال حنبل قال عمي كل شرط في فرج فهو على هذا و الشرط الواحد في البيع جائز إلا أن عمر كره لابن مسعود أن يطأها لأنه شرط لامرأته الذي شرط فكره عمر أن يطأها وفيها شرط وقال الكرماني سألت أحمد عن رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيعها ولا يهبها فكأنه رخص فيه و لكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن فلا يقربها يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب حين قال لعبد الله بن مسعود
فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول كالمقابلة وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا ردها إلى الشرط وربما تأولوا قوله جائز إي العقد جائز و بقية نصوصه تصرح بأن مراده الشرط أيضا و اتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر و ابن مسعود و زينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة و كذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه ولا يهبه أو يتسراها و نحو ذلك مما فيه تعيين لمصرف واحد كما روى عمر بن شبه في أخبار عثمان أنه اشترى من صهيب دارا و شرط أن يقفها على صهيب و ذريته من بعده
(1/191)
و جماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع و جوز أحمد و غيره استثناء بعض منافعه جوز أيضا استثناء بعض التصرفات
وعلى هذا فمن قال هذا الشرط ينافي مقتضى العقد قيل له أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا فإن أراد الأول فكل شرط كذلك و إن أراد الثاني لم يسلم له و إنما المحذور أن ينافي مقصود العقد كاشتراط الطلاق في النكاح أو اشتراط الفسخ في العقد فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم ينافي مقصوده هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب و السنة و الإجماع و الاعتبار مع الاستصحاب و عدم الدليل المنافي
أما الكتاب فقال الله تعالى 5 : 1 يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود و العقود هي العهود وقال تعالى و إذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى و بعهد الله أوفوا و قال تعالى و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا وقال تعالى ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام و كذلك أمر بالوفاء بعهد الله و بالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر و البيع و إنما أمر بالوفاء به و لهذا قرنه بالصدق في قوله إذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى و بعهد الله أوفوا لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي و الحاضر و الوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل كما قال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به و تولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه و بما كانوا يكذبون وقال
(1/192)
سبحانه و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام قال المفسرون كالضحاك وغيره تساءلون به تتعاهدون وتتعاقدون وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع ونحو ذلك وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التي يدخل فيها الصهر وولاية مال اليتيم ونحو ذلك وقال سبحانه وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم والأيمان جمع يمين وكل عقد فإنه يمين قيل سمى بذلك لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين يدل على ذلك قوله إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فأذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتو الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فآجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسول إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة والإل هو القرابة والذمة العهد وهما المذكوران في قوله تساءلون به والأرحام إلى قوله لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فذمهم الله على قطيعة الرحم ونقض الذمة إلى قوله وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وهذه نزلت في كفار مكة لما صالحهم النبي صلى الله عليه و سلم عام الحديبية ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة وأما قوله سبحانه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فتلك عهود جائزة لا لازمة
(1/193)
فإنها كانت مطلقة وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها كالوكالة ونحوها ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إن الهدنة لا تصلح إلا مؤقتة فقوله مع أنه مخالف لأصول أحمد يرده القرآن وترده سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في أكثر المعاهدين فإنه لم يوقت معهم وقتا فأما من كان من عهده موقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا و لم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين وقال إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين وقال إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء فإنما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة لأن المحذور من جهتهم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون الآية و جاء أيضا في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري إن في القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت كبراءة يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة وقال تعالى و الذين هم لآماناتهم و عهدهم راعون في سورتي المؤمنون و المعارج وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا و إذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون و الذين في أموالهم حق معلوم للسائل و المحروم و الذين يصدقون بيوم الدين و الذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون هذا يقتضي وجوب ذلك لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب و كذلك في سورة المؤمنين قال في أولها أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين لأن ظاهر الآية
(1/194)
باطل بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب و الماء و الهواء و منفعة بدن العامل و البقر والحديد
ثم لو سلم أن بينها وبين المضاربة فرقا فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة لأن المؤاجرة المقصود فيها هو العمل و يشترط أن يكون معلوما و الأجرة مضمونة في الذمة أو عين معينة وهنا ليس المقصود إلا النماء ولا يشترط معرفة العمل و الأجرة ليست عينا ولا شيئا في الذمة و إنما هي بعض ما يحصل من النماء و لهذا متى عين فيها شيء معين فسد العقد كما تفسد المضاربة إذا شرطا لأحدهما ربحا معينا أو أجرة معلومة في الذمة وهذا بين في الغاية فإذا كانت بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة جدا والفرق الذي بينها وبين المضاربة ضعيف والذي بينهما وبين المؤاجرة فروق غير مؤثرة في الشرع و العقل و كان لا بد من إلحاقها بأحد الأصلين و إلحاقها بما هي به أشبه أولى وهذا أجلى من أن يحتاج فيه إلى إطناب
الوجه الثالث أن نقول لفظ الإجارة فيه عموم و خصوص فإنها على ثلاث مراتب
أحدها أن يقال لكل من بذل نفعا بعوض فيدخل في ذلك المهر كما في قوله تعالى 4 : 24 فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن وسواء كان العمل هنا معلوما أو مجهولا وكان الآخر معلوما أو مجهولا لازما أو غير لازم
المرتبة الثانية الإجارة التي هي جعالة وهو أن يكون النفع غير معلوم لكن العوض مضمونا فيكون عقدا جائزا غير لازم مثل أن يقول من رد علي عبدي فله كذا فقد يرده من كان بعيدا أو قريبا
الثالثة الإجارة الخاصة وهي أن يستأجر عينا أو يستأجره على عمل في الذمة بحيث تكون المنفعة معلومة فيكون الأجر معلوما و الإجارة لازمة وهذه
(1/169)
بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل و يقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده و اتقى فإن الله يحب المتقين وقال إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وقال تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم و احفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون
و الأحاديث في هذا كثيرة مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع من كن فيه كان منافقا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة وفي رواية وفي رواية لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله و فيمن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا و لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا و لا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم و كف عنهم الحديث فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول
وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه و سلم هل يغدر فقال لا يغدر و نحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة
(1/196)
ونحوها كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك بخلاف الأموال فإن المقصود بعقودها هو التقابض فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم لأنه لا يصححه إلا بتحليل
وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد فإنه آثم وإن كان قد صادف الحق
وأما إن قيل لا بد من دليل شرعي يدل على حلها سواء كان عاما أو خاصا فعنه جوابان
أحدهما المنع كما تقدم والثاني أن نقول قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشوط جملة إلا ما استثناه الشارع وما عرضوا به سنتكلم عنه إن شاء الله فلم يبقى إلا القول الثالث وهو المقصود
وأما قوله صلى الله عليه و سلم أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فالشرط يراد به المصدر تارة والمفعول أخرى وكذلك الوعد والخلف ومنه قولهم درهم ضرب الأمير والمراد به هنا والله أعلم المشروط لا نفس التكلم ولهذا قال وإن كان مائة شرط أى وإن كان قد شرط مائة شرط وليس المراد تعديد التكلم بالشرط وإنما المراد تعديد الشروط والدليل على ذلك قوله
(1/206)
و قد روى أبو داود و الدارقطني من حديث سليمان بن بلال حدثنا كثير ابن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا و المسلمون على شروطهم و كثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية هو ثقة و ضعفه في رواية أخرى
وقد روى الترمذي و البزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما قال الترمذي حديث حسن صحيح وروى ابن ماجة منه الفصل الأول لكن كثيرا ابن عمرو ضعفه الجماعة و ضرب أحمد على حديثه في المسند فلم يحدث به فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه وقد روي أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن أبن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس على شروطهم ما وافق الحق وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب و السنة وهو حقيقة المذهب فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله و كذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله و إنما المشترط له أن يكون يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجبا ولا حراما وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبا و يباح أيضل لكل منهما ما لم يكن مباحا ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا أو اشترطت
(1/198)
المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط قال لأنها إما تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض وليس كذلك بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه كالربا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز وكذلك الولاء فقد نهى النبي صلى لله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد وقال صلى الله عليه و سلم من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبنى الرجل ابن غيره وانتساب المعتق إلى غير مولاه فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما وأما ما كان مباحا بدون اشرط فالشرط يوجبه كالزيادة في المهر والثمن والرهن وتأخير الاستيفاء فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ونحو ذلك فإذا شرطه صار واجبا وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله وكذلك ما حرمه الله في حال
(1/199)
مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال عمر رضى الله عنه مقطع الحقوق عند الشروط
وأما الاعتبار فمن وجوه أحدها أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم وقوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم عام في الأعيان والأفعال وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة وكانت صحيحة
وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا كالأعيان التي لم تحرم وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء سمى ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع منه سببه تحريم الأعيان ومنه ما سببه تحريم الأفعال كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن احمسيا ويأمرونه بالتعري إلا أن يعيره احمسى ثوبه ويحرمون عليه الدخول تحت سقف كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت
(1/200)
مجنبة ويحرمون الطواف بالصفا والمروة وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم
فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة وإن لم يثبت حلها بشرع خاص كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه الله فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين مما لم يأذن به فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة
فإن قيل العقود تغير ما كان مشروعا لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال فقد غير ما كان مشروعا بخلاف الأعيان التي لم تحرم فإنه لا يعتبر في إباحتها
فيقال لا فرق بينهما وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها وهو من باب العقود وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه هو فعل من الأفعال مغير لحكمها بمنزلة العقود
وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة الأصل فيه الحل وإن غير
(1/201)
حكم العين فكذلك أفعالنا في الملاك في العقود ونحوها الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك
وسبب ذلك أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا لم يثبته ابتداء كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره لإثباته سبب ذلك وهو الملك الثابت بالبيع وما لم يحرم الشارع عليه ورفع ذلك فله أن يرفع ما أثبته على أى وجه احب ما لم يحرمه الشارع عليه كمن أعطى رجلا مالا فالأصل أن لايحرم عليه التصرف فيه وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطى ما لم يمنع مانع وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها وهو أن الأحكام الجزئية من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا وإنما شرعها شرعا كليا مثل قوله وأحل الله البيع وحرم الربا وقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم وقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهذا الحكم الكلي ثابت سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد فإذا وجد بيع معين أثبت ملكها معينا فهذا المعين سببه فعل العبد فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط لأن الشارع أثبته ابتداء
وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام وليس كذلك فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته وهو الشارع وأما هذا المعين فإنما ثبت لأن العبد ادخله في المطلق فإدخاله في المطلق إليه فكذلك إخراجه إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا مثل أن يقول هذا الثوب بعه أو لا تبعه أو هبه أو لا تهبه وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين على حكم المعين
(1/202)
فتدبر هذا وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا إلا ما خصه الدليل على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل والعقلاء جميعهم وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن ولإيجاب العقل أيضا
وأيضا فإن الأصل في العقود رضى المتعاقدين وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد لأن الله قال في كتابه العزيز إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقال فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه فدل على أنه سبب له وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات قياسا عليه بالعلة المنصوص التي دل عليها القرآن وكذلك قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك
وأيضا فإن العقد له حالان حال إطلاق وحال تقييد ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد فإن أريد به ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره وإن أريد ينافى مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع
(1/203)
حديث أهل خيبر رواية من يفتي به وأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومةوجميع ذلك من أنواع الغرر والمؤاجرة أظهر في الغرر من المزارعة كما تقدم
ومن يجوز المؤاجرة دون المزارعة يستدل بما رواه مسلم في صحيحه عن ثابت ابن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها فهذا صريح في النهى عن المزارعة والأمر بالمؤاجرة ولأنه سيأتي عن رافع بن خديج الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لم ينههم النبي صلى الله عليه و سلم عن كرائها بشيء معلوم مضمون وإنما نهاهم عما كانوا يفعلونه من المزارعة
وذهب جميع فقهاء الحديث الجامعون لطرقه كلهم كأحمد بن حنبل وأصحابه كله من المتقدمين والمتأخرين وإسحاق بن راهويه وأبي بكر بن أبي شيبة وسليمان بن دواد الهاشمي وأبي خيثمة زهير بن حرب وأكثر فقهاء الكوفيين كسفيان الثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة والبخاري صاحب الصحيح وأبي داود وجماهير فقهاء الحديث من المتأخرين كابن المنذر وابن خزيمة والخطابي وغيرهم وأهل الظاهر وأكثر أصحاب أبي حنيفة إلى جواز المزارعة والمؤاجرة ونحو ذلك اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنة خلفائه وأصحابه وما عليه السلف وعمل جمهور المسلمين وبينوا معاني الأحاديث التي يظن اختلافها في هذا الباب
فمن ذلك معاملة النبي صلى الله عليه و سلم لأهل خيبر وهو وخلفاؤه من بعده إلى أن أجلاهم عمر فعن ابن عمر قال عامل رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع أخرجاه وأخرجا أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطى أهل خيبر على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم لما
(1/163)
فظهر به أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم من بيع الثمرة قبل زهوها و بيع الحب قبل اشتداده ليس هو إن شاء الله إكراؤها لمن يحصل ثمرتها و زرعها بعمله و سقيه ولا هذا داخل في نهيه لفظا ولا معنى
يوضح ذلك أن البائع لثمرتها عليه تمام سقيها و العمل عليها حتى يتمكن المشتري من الحصاد فإن هذا من تمام التوفية و مؤنه التوفية على البائع كالكيل و الوزن و أما المكري لها لمن يخدمها حتى تثمر فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تنبت ليس على المكري عمل أصلا و إنما عليه التمكين من العمل يحصل به الثمر و الزرع
ولكن يقال طرد هذا أن يجوز إكراء البهائم لمن يفعلها و يسقيها و يحتلب لبنها
قيل إذا جوزنا على إحدى الروايتين أن تدفع الماشية إلى من يعلفها و يسقيها بجزء من درها و نسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها بشيء من مضمون
و إن قيل فهلا جاز إجارتها لاحتلاب لبنها كما جاز إجارة الظئر أن ترضع بعمل صاحبها للغنم لأن الظئر هي التي ترضع الطفل فإذا كانت هي التي توفي المنفعة فنظيره أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الإرضاع و حينئذ فالقياس جوازه ولو كان لرجل غنم فاستأجر غنم رجل ليرضعها لم يكن هذا ممتنعا و أما إن كان المستأجر هو الذي يحلب اللبن أو هو الذي يستوفيه فهذا مشتر اللبن ليس مستوفيا لمنفعة ولا مستوفيا للعين بعمل وهو شبيه باشتراء الثمرة و احتلابه كقطافها وهو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لا يباع لبن في ضرع بخلاف ما لو استأجرها لأن يقوم عليها و يحتلب لبنها فهذا نظير اكتراء الأرض و الشجر
(1/152)
و قال هرقل في جوابه سألتك هل يغدر فذكرت أنه لا يغدر و كذلك الرسل لا تغدر فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج فدل على استحقاق الشروط بالوفاء و أن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها
و روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر و رجل باع حرا ثم أكل ثمنه و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه و لم يعطه أجره فذم الغادر و كل من شرط شرطا ثم نقصه فقد غدر
فقد جاء الكتاب و السنة بالأمر بالوفاء بالعهود و الشروط و المواثيق و العقود و بأداء الأمانة و رعاية ذلك و النهي عن الغدر و نقض العهود و الخيانة و التشديد على من يفعل ذلك
و لما كان الأصل فيها الحظر و الفساد إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا و يذم من نقضها و غدر مطلقا كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن يؤمر بقتل النفس و يحمل على القدر المباح بخلاف ما كان جنسه واجبا كالصلاة و الزكاة فإنه يؤمر به مطلقا و إن كان لذلك شروط و موانع فينهى عن الصلاة بغير طهارة وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك و كذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض و يحج السكوت أو التعريض
و إذا كان جنس الوفاء و رعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود و الشروط إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره و حصل به مقصوده و مقصود العقد هو الوفاء به فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة و الإباحة
(1/197)
يحيى بن سعيد حدثنا سعيد بن عبيد سمعت سالم بن عبد الله و أتاه رجل فقال الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول أجيء ببذري و بقري و أعمل أرضك فما أخرج الله منه فلك منه كذا ولي منه كذا قال لا بأس به ونحن نصنعه و هكذا أخبر أقارب رافع ففي البخاري عن رافع قال حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهانا النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقيل لرافع فكيف بالدينار و الدرهم فقال ليس بأس بالدينار و الدرهم وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال و الحرام لم يجزه لما فيه من المخاطرة وعن أسيد بن ظهير قال كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع و النصف و يشترط ثلاث جداول و القصارة و ما سقى الربيع و كان العيش إذ ذاك شديدا و كان يعمل فيها بالحديد و ما شاء الله و يصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهاكم عن الحقل ويقول من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع رواه أحمد و ابن ماجة و روى أبو داود قول النبي صلى الله عليه و سلم زاد أحمد و ينهاكم عن المزابنة و المزابنة أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول أخذته بكذا و كذا و سقا من تمر و القصارة ما سقط من السنبل و هكذا أخبر سعد بن أبي وقاص و جابر فأخبر سعد أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع و ما سعد بالماء مما حول البئر فجاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكروا ذلك و قال اكروا بالذهب و الفضة رواه أحمد و أبو داود و النسائي فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة و أن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين و عن جابر رضي الله عنه قال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بنصيب
(1/173)
من القصري ومن كذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو فليدعها رواه مسلم
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها و العلة التي نهى من أجلها و إذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث أنه نهى عن كراء المزارع مطلقا فالتعريف للكراء المعهود بينهم و إذا قال لهم النبي صلى الله عليه و سلم لا تكروا المزارع فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه وهم أعلم بمقصوده و كما جاء مفسرا عنه أنه رخص في غير ذلك الكراء و كما يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة و نحوها و اللفظ و إن كان في نفسه مطلقا فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال أو عقب حكاية حال ونحو ذلك فإنه كثيرا ما يكون مقيدا بمثل حال المخاطب كما لو قال المريض للطبيب إن به حرارة فقال له لا تأكل الدسم فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال
و ذلك أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمى معهود أو حال يقتضيه انصرف إليه و إن كان نكرة كالمتبايعين إذا قال أحدهما بعتك بعشرة دراهم فإنها مطلقة في اللفظ ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ الكراء إلا كذلك الذي كانوا يفعلونه ثم خوطبوا به لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه وكان ذلك من باب التخصيص العرفي كلفظ الدابة إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس أو ذوات الحافر فقال لا تأتني بدابة لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك ونهى النبي صلى الله عليه و سلم لهم كان مقيدا بالعرف و بالسؤال وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج وعن ظهير بن رافع قال دعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما تصنعون بمحاقلكم قلت نؤاجرها بما على الربيع وعلى الأوسق من التمر
(1/174)
و الشعير قال لا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها
فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه وأما المزارعة المحضة فلم يتناولها النهي ولا ذكرها رافع و غيره فيما يجوز من الكراء لأنها والله أعلم عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد فإن الكراء اسم لما وجب فيه أجرة معلومة إما عين و إما دين فإن كان دينا في الذمة مضمونا فهو جائز و كذلك إن كان عينا من غير الزرع و أما إن كان عينا من الزرع لم يجز
فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق بل هو شركة محضة إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر و إن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا فإنما هو كراء بالمعنى العام الذي تقدم بيانه فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا و لهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز و بين النوع الآخر الذي نهوا عنه ولم يتعرض للشركة لأنها جنس آخر
بقي أن يقال فقول النبي صلى الله عليه و سلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه و إلا فليمسكها أمر إذا لم يفعل واحدا من الزرع و المنيحة أن يمسكها و ذلك يقتضي المنع من المؤاجرة و من المزارعة كما تقدم
فيقال الأمر بهذا أمر ندب و استحباب لا أمر أيجاب أو كان أمر أيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد وهذا كما أنه صلى الله عليه و سلم لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية قال في الآنية التي كانوا يطبخون فيها أهريقوا ما فيها و اكسروها وقال صلى الله عليه و سلم في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة الخشني إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها و إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما يقاربها من المباح كما قيل لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه و بين الحرام حاجزا من
(1/175)
الحلال كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج لا بتركها جملة
فهذا يقع تارة و هذا يقع تارة و لهذا يوجد في سنة النبي صلى الله عليه و سلم لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم و لمن وثق بإيمانه و صبره النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه و صبره من فعل المستحبات البدنية و المالية كالخروج عن جميع ماله مثل أبي بكر الصديق ما لا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته ثم قال يذهب أحدكم فيخرج ماله ثم يجلس كلا على الناس
يدل على ذلك ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة عن ثابت بن الضحاك أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المزارعة و أمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها وما ذكرناه من رواية سعد بن أبي وقاص أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين وقال كروا بالذهب و الفضة و كذلك فهمته الصحابة فإن رافع ابن خديج قد روى ذلك وأخبر أنه لا بأس بكرائها بالذهب و الفضة و كذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت و ابن عباس ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال قلت لطاووس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنها قال أي عمرو إني أعطيهم و أعينهم و إن أعلمهم أخبرني يعني ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينه عنه ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما وعن ابن عباس أيضا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يحرم المزارعة و لكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض رواه مسلم مجملا و الترمذي وقال
(1/176)
حديث حسن صحيح فقد أخبر طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما دعاهم إلى الأفضل وهو التبرع قال وأنا أعينهم و أعطيهم و أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا و الغرر ومنه مستحب كالعارية و القرض و لهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الإحسان كان المسلم أحق به فقال لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما وقال من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها فكان الأخ هو الممنوح ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي صلى الله عليه و سلم ولم يمنحهم لا سيما و التبرع إنما يكون عن فضل غني فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم حيث عاملوا عليها المهاجرين وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة كما نهاهم النبي صلى الله عليه و سلم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت ليطعموا الجياع لأن إطعامهم واجب فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض و أصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عينا كما نهاهم عن الادخار فإن من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله إذ لا يترك بطالا وقد ينهى النبي صلى الله عليه و سلم بل الأئمة عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم في بعض المغازي و أما ما رواه جابر من نهيه صلى الله عليه و سلم عن المخابرة فهذه هي المخابرة التي نهى عنها و اللام لتعريف العهد ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك
يبين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم رافع أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنه فتركناه من أجله
(1/177)
عليه وسلم و اشترطت حملانه إلى أهلي و إن لم يكن كذلك كالعتق و الوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده أو عاش فلان و يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف
ومن ذلك أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي و أحمد و غيرهما لحديث بريرة و إن كان عنهما قول بخلافه
ثم هل يصير العتق واجبا على المشتري كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع على وجهين في مذهبهما ثم الشافعي و طائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق و ذلك مخالف لمقتضى العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا
قالوا و إنما جوزته السنة لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره و لذلك أوجب فيه السراية مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره و إذا كان مبناه على التغليب و السراية و النفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره فلا يجوز اشتراط غيره
و أصول أحمد و نصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح و إن كان فيه منع من غيره قال ابن القاسم قيل لأحمد الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها فأجازه فقيل له فإن هؤلاء يعني أصحاب أبي حنيفة يقولون لا يجوز البيع على هذا الشرط قال لم لا يجوز قد اشترى النبي صلى الله عليه و سلم بعير جابر و اشترط ظهره إلى المدينة و اشترت عائشة بريرة على أن تعتقها فلم لا يجوز هذا قال و إنما هذا شرط واحد و النهي إنما هو عن شرطين قيل له فإن شرط شرطين أيجوز قال لا يجوز
(1/212)
أيضا قال الكرماني قيل لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل دفع أرضه إلى الأكار على الثلث و الربع قال لا بأس بذلك إذا كان البذر من رب الأرض و البقر و الحديد و العمل من الأكار يذهب فيه مذهب المضاربة
ووجه ذلك أن البذر هو أصل الزرع كما أن المال هو أصل الربح فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل ليكون من أحدهما العمل و من الآخر الأصل
و الرواية الثانية عنه لا يشترط ذلك بل يجوز أن يكون البذر من العامل وقد نقل عنه جماهير أصحابه أكثر من عشرين نفسا أنه يجوز أن يكرى أرضه بالثلث و الربع كما عامل النبي صلى الله عليه و سلم أهل خيبر
فقالت طائفة من أصحابه كالقاضي أبي يعلى إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك فإن كان على وجه الإجارة جاز و إن كان على وجه المزارعة لم يجز و جعلوا هذا التفريق تقريرا لنصوصه لأنهم رأوا في عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها و رأوا أن هذا هو ظاهر مذهبه عندهم من أنه لا يجوز في المزارعة أن يكون البذر من المالك كالمضاربة ففرقوا بين باب المزارعة و المضاربة وباب الإجارة
وقال آخرون منهم أبو الخطاب معنى قوله في رواية الجماعة يجوز كراء الأرض ببعض الخارج منها أراد به المزارعة و العمل من الأكار قال أبو الخطاب و متبعوه فعلى هذه الرواية إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها و إن كان من صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل بما شرط له قال فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط
وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاري ببعض الخارج هو المزارعة على أن يبذر الأكار هو الصحيح ولا يحتمل الفقه إلا هذا و أن يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولى وجواز هذه
(1/179)
و الكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة بالبر تارة و المخالفة بالحنث أخرى فوجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة و المخالفة كارتفاع اليمين بالمشيئة التي تحتمل التعليق و عدم التعليق فكل من حلف على شيء ليفعله فلم يفعله فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه و إن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة فالاستثناء و التكفير يتعاقبان اليمين إذا لم يحصل فيها الموافقة
فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص على ما أوجبه كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم يقال بعد ذلك قول أحمد و غيره الطلاق و العتاق لا يكفران كقوله وقول غيره لا استثناء فيهما وهذا في إيقاع الطلاق و العتاق أما الحلف بهما فليس تكفيرا لهما و إنما هو تكفير للحلف بهما كما أنه إذا حلف بالصلاة و الصيام و الصدقة و الحج و الهدي و نحو ذلك في نذر اللجاج و الغضب فإنه لم يكفر الصلاة و الصيام و الهدي و الحج و إنما كفر الحلف بهما و إلا فالصلاة لا كفارة فيها و كذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها و كما أنه إذا قال إن فعلت كذا فعلي أن أعتق فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد و موافقيه من القائلين بنذر اللجاج و الغضب و ليس ذلك تكفير للعتق و إنما هو تكفير للحلف به
فلازم قول أحمد هذا أنه إذا جعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة و هذا موجب سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قدمناه
و أما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كأحد القولين في مذهب مالك و إحدى الروايتين عن أحمد فهو قول مرجوح
و نحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه و سنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة
(1/257)
كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة و يمنعونها بلفظ المزارعة و كذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعا حالا بلفظ البيع و يمنعونه بلفظ السلم لأنه يصير سلما حالا و نصوص أحمد و أصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه في مسألة صيغ العقود فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا بما يحمل على الألفاظ كما شهد به أجوبته في الأيمان و النذور و الوصايا و غير ذلك من التصرفات و إن كان هو قد فرق بينهما كما فرق طائفة من أصحابه فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة كالرواية المانعة من الأمرين
و أما الدليل على جواز ذلك فالسنة و الإجماع و القياس
أما السنة فما تقدم من معاملة النبي صلى الله عليه و سلم لأهل خيبر على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع إليهم بذرا ولما عامل المهاجرون و الأنصار على أن البذر من عندهم قال حرب الكرماني حدثنا محمد بن نصر حدثنا حسان بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن حكيم أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران و أهل فدك و أهل خيبر و استعمل يعلى بن منية فأعطى العنب و النخل على أن لعمر الثلثين و لهم الثلث و أعطى البياض يعني بياض الأرض على إن كان البذر و البقر و الحديد من عند عمر فلعمر الثلثان و لهم الثلث وإن كان منهم فلعمر الشطر ولهم الشطر فهذا عمر رضي الله عنه و يعلى بن منية عامله صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عمل في خلافته بتجويز كلا الأمرين أن يكون البذر من رب الأرض وأن يكون من العامل وقال حرب حدثنا أبو معن حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن الحارث بن حصيرة الأزدي عن صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع بن محارب قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها و فعل فدعاه فقال ما هذه الأرض التي أخذت فقال أرض أخذتها أكرى أنهارها
(1/181)
و أعمرها و أزرعها فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف فقال لا بأس بهذا فظاهره أن البذر من عنده ولم ينهه علي عن ذلك ويكفي إطلاق سؤاله و إطلاق علي الجواب
و أما القياس فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة ليست من الإجارة الخاصة و إن جعلت إجارة فهي من الإجارة العامة التي تدخل فيها الجعالة و السبق والرمي وعلى التقديرين فيجوز أن يكون البذر منهما و ذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي ترجع إلى ربها كالثمن في المضاربة بل البذر يتلف كما تتلف المنافع و إنما ترجع الأرض أو بدن البقرة و العامل فلو كان البذر مثل رأس المال لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه ثم يقتسمان الفضل و ليس الأمر كذلك بل يشتركان في جميع الزرع فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها و هوائها و بدن العامل و البقر و اكتراء الحرث و البقر يذهب كما تذهب المنافع و كما تذهب أجزاء من الماء و الهواء والتراب فيستحيل زرعا و الله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب التراب و الماء و الهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب و الحب يستحيل فلا يبقى بل يفلقه الله و يحيله كما يحيل أجزاء الماء و الهواء و كما يحيل المني و سائر مخلوقاته من الحيوان و المعدن و النبات وقع ما وقع من رأي كثير من الفقهاء اعتقدوا أن الحب و النوى في الزرع و الشجر هو الأصل و الباقي تبع حتى قضوا في مواضع بأن يكون الزرع و الشجر لرب النوى و الحب مع قلة قيمته و لرب الأرض أجرة أرضه
و النبي صلى الله عليه و سلم إنما قضى بضد هذا حيث قال من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته فأخذ أحمد و غيره من
(1/182)
فقهاء الحديث بهذا الحديث و بعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس و أنه من صور الاستحسان وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم وهو أن الزرع تبع للبذر و الشجر تبع للنوى وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة فإن إلقاء الحب في الأرض بمنزلة إلقاء المني في الرحم سواء ولهذا تبع الولد الآدمي أمه في الحرية و الرق دون أبيه ويكون الجنين البهيم لمالك الأم دون مالك الفحل الذي نما عن عسبه و ذلك لأن الأجزاء التي استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب و إنما للأب حق الابتداء فقط ولا ريب أنه مخلوق منهما جميعا و كذلك الحب و النوى فإن الأجزاء التي خلق منها الشجر و الزرع أكثرها من التراب و الماء و الهواء وقد يؤثر ذلك في الأرض فيتضعف بالزرع فيها لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما فإن الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء و الهواء و بالتراب إما مستحيلا من غيره و إما بالموجود ولا يؤثر في الأرض نقص الأجزاء الترابية شيئا إما للخلف بالاستحالة و أما للكثرة لهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معنى المنافع بخلاف الحب و النوى الملقى فيها فإنه عين ذاهبة غير مستخلفة ولا يعوض عنها لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط فإن العامل هو و بقره لا بد له مدة العمل من قوت و علف يذهب أيضا ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض و لو جرى عندهم مجرى الأصول لرجع
فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء أصول باقية وهي الأرض بدن العامل و البقر و الحديد و منافع فانية و أجزاء فانية أيضا وهي البذر و بعض أجزاء الأرض و بعض أجزاء العامل وبقره فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء فتكون الخيرة إليهما فيمن يبذل هذه الأجزاء و يشتركان على أي وجه شاءا ما لم يفض إلى ما نهى عن النبي صلى الله عليه و سلم من
(1/183)
أنواع الغرر أو الربا و أكل المال بالباطل ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما
فصل
وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع 8اليسر في هذه الأبواب فإنك تجد كثيرا ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهى فرضى الله عن أحمد حيث يقول ينبغى للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين المجمل والقياس وقال أيضا أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس ثم هذا التمسك يفضى إلى مالا يمكن اتباعه ألبتة
ومن هذا الباب بيع الديون دين السلم وغيره وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك ولولا أن الغرض ذكر قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا
فصل
القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا
والذى يمكن ضبطه فيها قولان أحدهما أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك الحظر إلا ماورد الشرع باجازته فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تنبنى على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل أما أهل الظاهر فلم يصححوا
(1/184)
لا عقد ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذى قبله وطردوا ذلك طردا جاريا لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال ولهذا منع بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته وإنما جوز الإجارة المؤخرة لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به أو أن يشترط المشترى بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر وهو عنده موضع استحسان
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث ولا استثناء منفعة المبيع و نحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع حتى منع الإجارة المؤخرة لأن موجبها وهو القبض لا يلي العقد ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق لما فيه من السنة و المعنى لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه و كبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء و نحو ذلك و يجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى ويجوز اشتراط حريتها و إسلامها و كذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال و نحوه وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب و الإعسار و انفساخه بالشروط التي
(1/185)
تنافيه كاشتراط الأجل و الطلاق و نكاح الشغار بخلاف فساد المهر و نحوه
و طائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي كالخيار أكثر من ثلاث و كاستثناء البائع منفعة المبيع و اشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها و لا يزاحمها بغيرها ونحو ذلك من المصالح فيقولون كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل إلا إذا كان فيه مصلحة المتعاقدين
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي فقد يوافقونه في الأصل و يستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل و يستثني أكثر مما يستثني للمعارض
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر و يتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس و المعاني و آثار الصحابة و لما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر و عمدة هؤلاء قصة بريرة المشهورة وهو ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم و يكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه و سلم فقال خذيها و اشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل و إن كان مائة شرط قضاء الله أحق و شرط الله أوثق و إنما الولاء لمن أعتق وفي رواية للبخاري اشتريها فأعتقيها و ليشترطوا ما شاءوا فاشترتها فأعتقتها و اشترط أهلها ولاءها
(1/186)
و ذلك أن الأصل في هذه المعاوضات و المقابلات هو التعادل من الجانبين فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه و جعله محرما على عباده فإن كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن و بقي الآخر تحت الخطر لم يجز و لذلك حرم النبي صلى الله عليه و سلم بيع الثمر قبل بدو صلاحه فكذلك هذا إذا اشترطا لأحد الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب و دخله الخطر و معنى القمار كما ذكره رافع في قوله فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فيفوز أحدهما و يخيب الآخر وهذا معنى القمار و أخبر رافع أنه لم يكن لهم كراء على عهد النبي صلى الله عليه و سلم إلا هذا و أنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من المخاطرة و معنى القمار و أن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود لا إلى ما يكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة وسأشير إن شاء الله إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها و رافع أعلم بنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن أي شيء وقع وهذا والله أعلم هو الذي انتهى عنه عبد الله بن عمر فإنه قال لما حدثه رافع قد علمت أنا كنا نكرى مزارعنا على الأربعاء و بشيء من التبن فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين و كان ابن عمر يفعله لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم حتى بلغه النهي
يدل على ذلك أن ابن عمر كان يروي حديث معاملة خيبر دائما و يفتي به و يفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء و أهل بيته أيضا بعد حديث رافع فروى حرب الكرماني قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه حدثنا معتمر بن سليمان سمعت كليب بن وائل قال أتيت ابن عمر فقلت أتاني رجل له أرض و ماء وليس له بذر ولا بقر فأخذتها بالنصف فبذرت فيها بذري و عملت فيها ببقري فناصفته قال حسن وقال حدثنا ابن أخي حزم حدثنا
(1/172)