الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 9 ]
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى اله وصحبه وسلم قال شيخنا وسيدنا الامام العلامة القدوة الزاهد العابد الورع الكامل شيخ الاسلام مفتي الفرق ناصر السنة قامع البدعة سيد الفقهاء والحفاظ تقي الدين ابو العباس احمد بن شيخنا الامام العلامة مفتي المسلمين شهاب الدين ابي المحاسن عبد الحليم بن الامام العلامة شيخ الاسلام مجد الدين ابي البركات عبد السلام بن عبد الله بن ابي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني جزاه الله عن نصر دينه ونصر سنة نبيه عليه السلام خيرا الحمد لله الهادي النصير فنعم النصير ونعم الهاد الذي يهدي من يشاء الى صراط مستقيم ويبين له سبل الرشاد كما هدى الذين امنو لما اختلف فيه من الحق وجمع لهم الهدى والسداد والذي ينصر رسله والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد كما وعده في كتابه وهو الصادق الذي لايخلف الميعاد واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفة وتبرئه من الإلحاد واشهد ان محمدا عبده ورسوله افضل المرسلين واكرم العباد ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره اهل الشرك والعناد ورفع له ذكره فلا يذكره الا ذكر معه كما في الاذان والتشهد والخطب والمجامع والاعياد وكبت محاده واهلك مشاقه وكفاه المستهزئين به ذوي الاحقاد وبتر شانئه ولعن مؤذيه في الدنيا والاخرة وجعل هوانه بالمرصاد واختصه على اخوانه المرسلين بخصائص تفوق التعداد فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد الذي تحته كل حماد وعلى اله افضل الصلوات واعلاها واكملها وانماها كما يحب سبحانه ان يصلى عليه وكما امر وكما ينبغي ان يصلى على سيد البشر والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته افضل تحية واحسنها واولاها وابركها واطيبها وازكاها صلاة وسلاما دائمين الى يوم التناد باقيين بعد ذلك ابدا رزقا من الله ما له من نفاد اما بعد(1/1)
فان الله تعالى هدانا بنبيه محمد واخرجنا به من الظلمات الى النور واتانا ببركة رسالته ويمن سفارته خير الدنيا والاخرة وكان من ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والالسنة عن معرفتها ونعتها وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان الرجوع الى عيها وصمتها فاقتضاني لحادث حدث ادنى ماله من الحق علينا بله ما اوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق وايثاره بالنفس والمال في كل موطن وحفظه وحمايته من كل موذ وان كان الله قد اغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ليحق الجزاء على الاعمال كما سبق في ام الكتاب ان اذكر ما شرع من العقوبة لمن سب النبي من مسلم وكافر وتوابع ذلك ذكرا يتضمن الحكم والدليل ونقل ما حضرني في ذلك من الاقاويل وارداف القول بحظه من التعليل وبيان ما يجب ان يكون عليه التعويل فاما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل وانما المقصد هنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به المفتي ويقضي به القاضي ويجب على كل واحد من الائمة والامة القيام بما امكن منه والله هو الهادي الى سواء السبيل وقد رتبته على اربع مسائل المسالة الاولى في ان الساب يقتل سواء كان مسلما او كافرا المسالة الثانية انه يتعين قتله وان كان ذميا فلا يجوز المن عليه ولا مفاداته المسالة الثالثة في حكمه اذا تاب المسالة الرابعة في بيان السب وما ليس بسب والفرق بينه وبين الكفر المسألة الاولى ان من سب النبي من مسلم او كافر فانه يجب قتله
هذا مذهب عليه عامة أهل العلم قال ابن المنذر : [ أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي صلى الله عليه و سلم القتل ] و ممن قاله مالك و الليث و أحمد و إسحاق و هو مذهب الشافعي قال : و حكي عن النعمان لا يقتل يعني الذي هم عليه من الشرك : أعظم(1/2)
و قد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من سب النبي صلى الله عليه و سلم القتل كما أن حد من سب غيره الجلد و هذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة و التابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم يجب قتله إذا كان مسلما و كذلك قيده القاضي عياض فقال : أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين و سابه و كذلك حكي عن غير واحد الإجماع على قتله و تكفيره
و قال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام : [ أجمع المسلمون على أن من سب رسوله الله صلى الله عليه و سلم أو دفع شيئا مما أنزل الله عز و جل أو قتل نبيا من أنبياء الله عز و جل : أنه كافر بذلك و إن مقرا بكل ما أنزل الله
قال الخطابي : [ لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله ]
و قال محمد بن سحنون : [ أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه و سلم و المتنقص له كافر و الوعيد جار عليه بعذاب الله له و حكمه عند الأمة القتل و من شك في كفره و عذابه كفر ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 10 ]
و تحرير القول فيه : إن الساب إن كان مسلما فإنه يكفر و يقتل بغير خلاف و هو مذهب الأئمة الأربعة و غيرهم و قد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه و غيره و إن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك و أهل المدينة و سيأتي حكاية ألفاظهم و هو مذهب أحمد و فقهاء الحديث(1/3)
و قد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : [ كل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم أو تنقصه ـ مسلما كان أو كافراـ فعليه القتل و أرى أن يقتل و لا يستتاب ] قال : و سمعت أبا عبد الله يقول : [ كل من نقض العهد و أحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد و الذمة و كذلك قال أبو الصفراء : سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه و سلم ماذا عليه ؟ قال : إذا قامت البينة عليه يقتل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم مسلما كان أو كافرا ] رواهما الخلال
و قال في رواية عبد الله و أبي طالب و قد سئل عن شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال :
يقتل قيل له : فيه أحاديث ؟ قال : نعم أحاديث منها : حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال : سمعتها تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و حديث حصين أن ابن عمر قال : [ من شتم النبي صلى الله عليه و سلم قتل ] و كان عمر بن عبد العزيز يقول : يقتل و ذلك أنه من شتم النبي صلى الله عليه و سلم فهو مرتد عن الإسلام و لا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه و سلم زاد عبد الله : سألت أبي عمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم يستتاب ؟ قال : قد وجب عليه القتل و لا يستتاب لأن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يستتبه رواهما أبو بكر في [ الشافي ] و في رواية أبي طالب : سئل أحمد عمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقتل قد نقض العهد
و قال حرب : سألت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقتل إذا شتم النبي صلى الله عليه و سلم رواهما الخلال و قد نص على هذا في غير هذه الجوابات
فأقواله كلها نص في وجوب قتله و في أنه قد نقض العهد و ليس عنه في هذا اختلاف
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 11 ](1/4)
و كذلك ذكر عامة أصحابه متقدمهم و متأخرهم لم يختلفوا في ذلك إلا أن القاضي في المجرد ذكر الأشياء التي يجب على أهل الذمة تركها و فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في نفس أو مال و هي :
الإعانة على قتال المسلمين و قتل المسلم أو المسلمة و قطع الطريق عليهم و أن يؤوي للمشركين جاسوسا و أن يعين عليهم بدلالة مثل أن يكاتب المشركين بأخبار المسلمين و أن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح و أن يفتن مسلما عن دينه
قال : فعليه الكف عن هذا شرط أو لم يشرط فإن خالف انتقض عهده و ذكر نصوص أحمد في بعضها مثل نصه في الزنا بالمسلمة و في التجسس للمشركين و قتل المسلم و إن كان عبدا كما ذكره الخرقي ثم ذكر نصه في قذف المسلم على أنه لا ينتقض عهده بل يحد حد القذف قال : فتخرج المسألة على روايتين ثم قال : [ و في معنى هذه الأشياء ذكر الله و كتابه و دينه و رسوله بما لا ينبغي ] فهذه أربعة أشياء الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها ليس ذكرها شرطا في صحة العقد فإن أتوا واحدة منها نقضوا الأمان سواء كان مشروطا في العهد أو لم يكن و كذلك قال في [ الخلاف ] بعد ما ذكر أن المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال و الأقوال
قال : [ و فيه رواية أخرى لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بذل الجزية و جري أحكامنا عليهم ]
ثم ذكر نصه على أن الذمي إذا قذف المسلم يضرب قال : [ فلم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهتك عرضه ](1/5)
و تبع القاضي جماعة من أصحابه و من بعدهم ـ مثل الشريف أبي جعفر و آبن عقيل و أبي الخطاب و الحلواني ـ فذكروا أنه لا خلاف في أنهم إذا امتنعوا من أداء الجزية و التزام أحكام الملة انتقض عهدهم و ذكروا في جميع هذه الأفعال و الأقوال التي فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في نفس أو مال أو فيها غضاضة على المسلمين في دينهم مثل سب الرسول و ما مثله روايتين أحداهما : ينتقض العهد بذلك و الأخرى : لا ينتقض عهده و تقام في حدود ذلك مع أنهم كلهم متفقون على أن المذهب انتقاض العهد بذلك
ثم إن القاضي و الأكثرين لم يعدوا قذف المسلم من الأمور المضرة الناقضة مع أن الرواية المخرجة إنما خرجت من نصه في القذف
و أما أبو الخطاب و من تبعه فنقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف كما نقلوا حكم القذف إليها حتى حكوا في افتقاد العهد بالقذف روايتين :
ثم إن هؤلاء كلهم و سائر الأصحاب ذكروا مسألة سب النبي صلى الله عليه و سلم في موضع آخر و ذكروا أن سابه يقتل و إن كاب ذميا و أن عهده ينتقض و ذكروا نصوص أحمد من غير خلاف في المذهب إلا أن الحلواني قال : [ و يحتمل أن لا يقتل من سب الله و رسوله إذا كان ذميا ]
و سلك القاضي أبو الحسين في نواقص العهد طريقة ثانية توافق قولهم هذا فقال : [ أما الثمانية التي فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في مال أو نفس فإنها تنقض العهد في أصح الروايتين ] و أما ما فيه إدخال غضاضة و نقص على الإسلام ـ و هي ذكر الله و كتابه و دينه و رسوله بما لا ينبغي ـ فإنه ينقض العهد نص عليه و لم يخرج في هذه رواية أخرى كما ذكرها أولئك في أحد الموضعين و هذا أقرب من تلك الطريقة و على الرواية التي تقول [ لا ينقض العهد بذلك ] فإنما [ ذلك ] إذا لم يكن مشروطا عليه في العقد فأما إن كان مشروطا ففيه وجهان أحدهما : ينتقض قاله الخرقي
و قال أبو الحسن الأمدي : [ و هو الصحيح في كل ما شرط عليهم تركه ](1/6)
صحح قول الخرقي بانتقاض العهد إذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم و الثاني : لا ينتقض قاله القاضي و غيره صرح أبو الحسن بذلك هنا كما ذكره الجماعة فيما إذا أظهروا دينهم و خالفوا هيئتهم من غير إضرار كإظهار الأصوات بكتابهم و التشبه بالمسلمين مع أن هذه الأشياء كلها يجب عليهم تركها بخوصها
و هاتان الطريقتان ضعيفتان و الذي عليه عامة المتقدمين من أصحابنا و من تبعهم من المتأخرين إقرار نصوص أحمد على حالها فقد نص في مسائل سب الله و رسوله على انتقاض العهد في غير موضع و على أنه يقتل و كذلك فيمن جس على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاض عهده و قتله في غير موضع و كذلك نقله الخرقي فيمن قتل مسلما و قطع الطريق أولى و قد نص أحمد على أن قذف المسلم و سحره لا يكون نقضا لعهد في غير موضع هذا هو الواجب لأن تخريج حكم المسألتين إلى الأخرى و جعل المسألتين على روايتين ـ مع و جود الفرق بينهما نصا و استدلالا أو مع وجود معنى يجوز أن يكون مستندا للفرق ـ غير جائز و هذا كذلك
و كذلك قد وافقنا على انتقاض العهد بسب النبي صلى الله عليه و سلم جماعة لم يوافقوا على الإنتقاض ببعض هذه الأمور
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 13 ]
و أما الشافعي فالمنصوص عنه نفسه أن عهده ينتقض بسب النبي صلى الله عليه و سلم و أنه يقتل هكذا حكاه ابن المنذر و الخطابي و غيرهما(1/7)
و المنصوص عنه في [ الأم ] أنه قال : [ إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب و ذكر الشروط إلى أن قال : و على أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه و سلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين و جميع المسلمين و نقض ما أعطي عليه الأمان و حل لأمير المؤمنين ماله و دمه كما تحل أموال أهل الحرب و دماؤهم و على أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنا أو آسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورة المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده و أحل دمه و ماله و إن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم ] أ ه
ثم قال : [ فهذه الشروط اللازمة إن رضيها فبها و إن لم يرضها فلا عقد له و لا جزية ]
ثم قال : [ و أيهم فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذاك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد ]
و إن فعل مما و صفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم و لكنه قال : [ أتوب و أعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يقول فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول يعاقب عليه و لا يقتل ]
قال : [ فإن فعل أو قال ما وصفنا و شرط أنه يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول : [ أسلم أو أعطي جزية ] قتل و أخذ ماله فيئا ]
و نص في [ الأم ] أيضا أن العهد لا ينتقض بقطع الطريق و لا بقتل المسلم و لا بالزنا بالمسلمة و لا بالتجسس بل يحد فيما فيه الحد و يعاقب عقوبة منكلة فيما فيه العقوبة و لا يقتل إلا أن يجب عليه القتل
قال : [ و لا يكون النقض للعهد إلا بمنع الجزية أو الحكم بعد الإقرار و الامتناع بذلك ](1/8)
قال : و لو قال : [ أؤدي الجزية و لا أقر بحكم ] نبذ إليه و لم يقاتل على ذلك مكانه و قيل : قد تقدم لك أمان بأدائك للجزية و إقرارك بها و قد أجلناك في أن تخرج من بلاد الإسلام ثم إذا خرج فبلغ مأمنه قتل إن قدر عليه
فعلى كلامه المأثور عنه يفرق بين ما فيه غضاضة على الإسلام و بين الضرر بالفعل أو يقال : يقتل الذمي بسبه و إن لم ينقض عهده كما سيأتي إن شاء الله تعالى
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 15 ]
و أما أصحابه فذكروا ـ فيما إذا ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء ـ وجهين : أحدهما : ينقض عهده بذلك سواء شرط عليهم تركه أو لم يشرط بمنزلة ما إذا قاتلوا المسلمين و امتنعوا من التزام الحكم كطريقة أبي الحسين من أصحابنا و هذه طريقة أبي إسحاق المروزي
و منهم من خص سب رسول الله صلى الله عليه و سلم وحده أنه يوجب القتل
و الثاني : أن السب كالأفعال التي على المسلمين فيها ضرر من قتل المسلم و الزنا بالمسلمة و الجس و ما ذكر معه و ذكروا في تلك الأمور وجهين : أحدهما : أنه إن لم يشرط عليهم تركها بأعيانها ففي انتقاض العهد بفعلها وجهان و الثاني : لم ينتقض العهد بفعلها مطلقا
و منهم من حكى هذه الوجوه أقوالا و هي أقوال مشار إليها فيجوز أن تسمى أقوالا و وجوها هذه طريقة العراقيين وقد صرحوا بأن المراد شرط تركها لا شرط انتقاض العهد بفعلها كما ذكره أصحابنا
و أما الخراسانيون فقالوا : المراد بالاشتراط هنا شرط انتقاض العهد بفعلها لا شرط تركها قالوا : لأن الترك موجب لنفس العقد و لذلك ذكروا في تلك الخصال المضرة ثلاثة أوجه أحدها : ينتقض بفعلها و الثاني : لا ينتقض و الثالث : إن شرط في العقد انتقاض العهد بفعلها انتقض و إلا فلا(1/9)
و منهم من قال : إن شرط نقض وجها واحدا و إن لم يشرط فوجهان و حسبوا أن مراد العراقيين بالاشتراط هذا فقالوا حكاية عنهم : إن لم يجر شرط لم ينتقض العهد و إن جرى فوجهان و يلزم من هذا أن يكون العراقيون قائلين بأنه إن لم يجر شرط الانتقاض بهذه الأشياء لم ينتقض بها وجها واحدا و إن صرح بشرط تركها انتقض و هذا غلط عليهم و الذي نصروه في كتب الخلاف أن سب النبي صلى الله عليه و سلم ينقض العهد و يوجب القتل كما ذكرناه عن الشافعي نفسه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 16 ]
و أما أبو حنيفة و أصحابه فقالوا : لا ينتقض العهد بالسب و لا يقتل الذمي بذلك لكن يعزر على إظهار ذلك كما يعزر على إظهار المنكرات التي ليس لهم فعلها من إظهار أصواتهم بكتابهم و نحو ذلك و حكاه الطحاوي عن الثوري و من أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمثقل و الجماع في غير القبل إذا تكرر فللإمام أن يقتل فاعله و كذلك له أن يزيد على الحد المقدر إذا رأى المصلحة في ذلك و يحملون ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم على أنه رأى المصلحة في ذلك و يسمونه القتل سياسة و كان حاصله أن له أن يعزر بالقتل في الجرائم التي تغلظت بالتكرار و شرع القتل في جنسها و لهذا أفتى أكثرهم بقتل من أكثر من سب النبي صلى الله عليه و سلم من أهل الذمة و إن أسلم بعد أخذه و قالوا : يقتل سياسة و هذا متوجه على أصولهم
و الدلائل على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله و وجوب قتله و قتل المسلم إذا أتى ذلك : الكتاب و السنة و إجماع الصحابة و التابعين و الاعتبار
أما الكتاب فيستنبط ذلك منه من مواضع :
أحدها : قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } [ التوبة : 29 ](1/10)
فأمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية و هم صاغرون و لا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية و معلوم أن إعطاء الجزية من حين بذلها و التزامها إلى حين تسليمها و إقباضها فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء و وجب الكف عنهم إلى أن يقبضوناها فيتم الإعطاء فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولا و امتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لأن حقيقة الإعطاء لم توجد و إذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم أن من أظهر سب نبينا في وجوهنا و شتم ربنا على رؤوس الملأ منا و طعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لأن الصاغر الذليل الحقير و هذا فعل متعزز مراغم بل هذا غاية ما يكون من الإذلال لنا و الإهانة
قال أهل اللغة : الصغار الذل و الضيم يقال : صغر الرجل ـ بالكسر ـ يصغر ـ بالفتح ـ صغرا و صغرا و الصاغر : الراضي بالضيم و لا يخفى على المتأمل أن إظهار السب و الشتم لدين الأمة التي اكتسبت شرف الدنيا و الآخرة ليس فعل راض بالذل و الهوان و هذا ظاهر لا خفاء به
و إذا كان قتالهم واجبا علينا إلا أن يكونوا صاغرين و ليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به و كل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه
و أيضا فإنا لو كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها و لو عقد لهم عقدا فاسدا فيبقون على الإباحة
و لا يقال فيهم : فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان و شبهة الأمان كحقيقته فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا و إن لم يقصده المسلم
لأنا نقول : لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا و سب نبينا و هم يدرون أنا لا نعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا ـ مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة ـ دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها(1/11)
و أيضا فإن الذين عاهدوهم أول مرة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل عمر و قد علمنا أنه يمتنع أن يعاهدهم عهدا خلاف ما أمر الله به في كتابه
و أيضا فإنا سنذكر شروط عمر و أنها تضمنت أن من أظهر الطعن في ديننا حل دمه و ماله
الموضع الثاني : قوله تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ـ إلى قوله ـ و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [ التوبة : 12 ]
نفى سبحانه أن يكون لمشرك عهد ممن كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عاهدهم إلا قوما ذكرهم فإنه جعل لهم عهدا ما داموا مستقيمين لنا فعلم أن العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيما و معلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة و الوقيعة في ربنا و نبينا و كتابنا و ديننا يقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد بل ذلك أشد علينا إن كنا مؤمنين فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا و أموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا و لا يجهر في ديارنا بشيء من أذى الله و رسوله فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقدح في أهون الأمرين كيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما ؟
يوضح ذلك قوله تعالى : { كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا و لا ذمة } [ التوبة : 8 ] أي كيف يكون لهم عهد و لو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم و بينهم و لا العهد الذي بينكم و بينهم ؟ فعلم أن من كانت حاله أنه إذا ظهر لم يرقب ما بيننا و بينه من العهد لم يكن له عهد و من جاهرنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلا على أنه لو ظهر لم يرقب العهد الذي بيننا و بينه فإنه إذا كان مع وجود العهد و الذلة يفعل هذا فكيف يكون مع العزة و القدرة ؟ و هذا بخلاف من لم يظهره لنا مثل هذا الكلام فإنه يجوز أن يفي لنا بالعهد لو ظهر(1/12)
و هذه الآية و إن كانت في أهل الهدنة الذين يقيمون في دارهم فإن معناها ثابت في أهل الذمة المقيمين في دارنا بطريق الأولى
الموضع الثالث : قوله تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } [ التوبة : 12 ] و هذه الآية تدل من وجوه
أحدها : أن مجرد نكث الأيمان مقتض للمقاتلة و إنما ذكر الطعن في الدين و أفرده بالذكر تخصيصا له بالذكر و بيانا لأنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال و لهذا يغلظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يغلظ على غيره من الناقضين كما سنذكره إن شاء الله تعالى أو يكون ذكره على سبيل التوضيح و بيان سبب القتال فإن الطعن في الدين هو الذي يجب أن يكون داعيا إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا و أما مجرد نكث اليمين فقد يقاتل لأجله شجاعة و حمية و رياء أو يكون ذكر الطعن في الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } و بقوله تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة أتخشونهم ؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديهم } [ التوبة : 13 ـ 14 ]
فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلا مجرد نكث اليمين جاز أن يؤمن و يعاهد و أما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله و هذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله و رسوله و طعن في الدين و إن أمسك عن غيره و إذا كان نقض العهد وحده موجبا للقتال و إن تجرد عن الطعن علم أن الطعن في الدين إما سبب آخر أو سبب مستلزم لنقض العهد فإنه لابد أن يكون له تأثير في وجوب المقاتلة و إلا كان ذكره ضائعا
فإن قيل : هذا يفيد أن من نكث عهده و طعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحداهما(1/13)
فإن قيل : هذا يفيد أن من نكث عهده و طعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحداهما
قلنا : لا ريب أنه لا بد أن يكون لكل صفة تأثير في الحكم و إلا فالوصف العديم التأثير لا يجوز تعليق الحكم به كمن قال : [ من زنى و أكل جلد ] ثم قد يكون كل صفة مستقلة بالتأثير لو انفردت كما يقال : يقتل هذا لأنه مرتد زان و قد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع و لكل وصف تأثير في البعض كما قال : { و الذين لا يدعون مع الله ألها آخر } [ الفرقان : 68 ] الآية و قد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال أو الاشتراك فيذكر إيضاحا و بيانا للموجب كما يقال : كفروا بالله و برسوله و عصى الله و رسوله و قد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال : { إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق } [ آل عمران : 21 ] الآية و هذه الآية من أي الأقسام فرضت كان فيها دلالة لأن أقصى ما يقال إن نقض العهد هو المبيح للقتال و الطعن في الدين مؤكد له و موجب له
فنقول : إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا و بينه عهد و يوجبه فأن يوجب قتال من بيننا و بينه ذمة و هو ملتزم للصغار أولى و سيأتي تقرير ذلك على أن المعاهد له أن يظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا و الذمي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل و إن لم يؤذنا فحاله أشد و أهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فرض أن مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد لم يكن الذمي كذلك(1/14)
الوجه الثاني : أن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه و طعن في ديننا لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك و يؤدب عليه فعلم أنه لم يعاهد عليه لأنا لو عاهدناه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته و إذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم يطعن في ديننا فقد نكث في دينه من بعد عهده و طعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية و هذه دلالة قوية حسنة لأن المنازع يسلم لنا أنه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا و بينه
لكن نقول : ليس إظهار كل ما منع منه نقض عهده كإظهار الخمر و الخنزير و نحو ذلك فنقول : قد وجد منه شيئان : ما منعه منه العهد و طعن في الدين بخلاف أولئك فإنه لم يوجد منهم إلا فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط و القرآن يوجب قتل من نكث يمينه من بعد عهده و طعن في الدين و لا يمكن أن يقال [ لم ينكث ] لأن النكث هو مخالفة العهد فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث مأخوذ من نكث الحبل و هو نقض قواه و نكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى لكن قد بقي من قواه ما يستمسك الحبل به و قد يهن بالكلية
و هذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا و قد شعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما أن بعض الشروط في البيع و النكاح و نحوهما قد يبطل البيع بالكلية كما وصفه بأنه فرس فظهر بعيرا و قد يبيح الفسخ كالإخلال بالرهن و الضمين هذا عند من يفرق في المخالفة و أما من قال [ ينتقض العهد بجميع المخالفات ] فلأمر ظاهر على قوله و على التقديرين قد اقتضى العقد : أن لا يظهروا شيئا من عيب ديننا و أنهم متى أظهروه فقد نكثوا و طعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا و معنى و مثل هذا العموم يبلغ درجة النص
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 21 ](1/15)
الوجه الثالث : أنه سماهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين و أوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله { أئمة الكفر } إما أن يعني به الذين نكثوا أو أطعنوا أو بعضهم و الثاني لا يجوز لأن الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاء إذ العلة يجب طردها إلا لمانع و لا مانع و لأنه علل ذلك ثانيا بأنهم بلا أيمان لهم و ذلك يشمل جميع الناكثين الطاعنين و لأن النكث و الطعن وصف مشتق مناسب لوجوب القتال و قد رتب عليه بحرف الفاء ترتيب الجزاء على شرطه و ذلك نص في أن ذلك الفعل هو الموجب للثاني فثبت أنه عنى الجميع فليزم أن الجميع أئمة كفر و إمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه و إنما صار إماما في الكفر لأجل الطعن فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك و هو مناسب لأن الطعن في الدين [ لأن ] يعيبه و يذمه و يدعو إلى خلاف و هذا شأن الإمام فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر
فإذا طعن الذمي في الدين فهو إمام في الكفر فيجب قتاله لقوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } و لا يمين له لأنه عاهدنا على أن لا يظهر عيب الدين و خالف و اليمين هنا المراد بها العهود لا القسم بالله فيما ذكره المفسرون و هو كذلك فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يقاسمهم بالله عام الحديبية و إنما عاقدهم عقدا و نسخة الكتاب معروفة ليس فيها قسم و هذا لأن اليمين يقال : إنما سميت بذلك لأن المعاهدين يمد كل منها يمينه إلى الآخر ثم غلبت حتى صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا و يقال سميت يمينا لأن اليمين هي القوة و الشدة كما قال الله تعالى : { لأخذنا منه باليمين } [ الحاقة : 45 ] فلما كان الحلف معقودا مشددا سمي يمينا فاسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد و بين ربه و إن كان نذرا و منه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ النذر حلفة ] و قوله : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] و قول جماعة من الصحابة للذي نذر اللجاج و الغضب :(1/16)
كفر يمينك و للعهد الذي بين المخلوقين و منه قوله تعالى : { و لا تنفضوا الأيمان بعد توكيده } [ النحل : 91 ] و النهي عن نقض العهود و إن لم يكن فيها قسم و قال تعالى : { و من أوفى بما عاهد عليه الله } [ الفتح : 10 ] و إنما لفظ العهد [ بايعناك على أن لا نفر ] و ليس فيه قسم و قد سماهم معاهدين لله و قال تعالى : { و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام } [ النساء : 1 ] قالوا : معناه يتعاهدون و يتعاقدون لأن كل واحد من المعاهدين إنما عاهده بأمانة الله و كفالته و شهادته فثبت أن كل من طعن في ديننا بعد أن عاهدناه عهدا يقتضي أن لا يفعل ذلك فهو إمام في الكفر لا يمين له و فيجب قتله بنص الآية و بهذا يظهر الفرق بينه و بين الناكث الذي ليس بإمام و هو من خالف شيء مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدين
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 23 ]
الوجه الرابع : أنه قال تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بداوكم أول مرة } [ التوبة : 13 ] فجعل همهم بإخراج الرسول الله صلى الله عليه و سلم من المحضضات على قتالهم و ما ذاك إلا لما فيه من الأذى و سبه أغلظ من الهم بإخراجه بدليل أنه صلى الله عليه و سلم عفا عام الفتح عن الذين هموا بإخراجه و لم يعف عمن سبه فالذمي إذا أظهر سبه فقد نكث عهده و فعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول و بدأ بالأذى فيجب قتاله
الوجه الخامس : قوله تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم و يتوب الله على من يشاء و الله عليم حكيم } [ التوبة : 14 ـ 15 ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 24 ](1/17)
أمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين و ضمن لنا ـ إن فعلنا ذلك ـ أن يعذبهم بأيدينا و يخزيهم و ينصرنا عليهم و يشفي صدور المؤمنين الذين تأذوا من نقضهم و طعنهم و أن يذهب غيظ قلوبهم لأنه رتب ذلك على قتالنا ترتيب الجزاء على الشرط و التقدير : إن تقاتلوهم يكن هذا كله فدل على أن الناكث الطاعن مستحق هذا كله و إلا فالكفار يدالون علينا المرة و ندال عليهم الآخرى و إن كانت العاقبة للمتقين و هذا تصديق ما جاء في الحديث [ ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو ] و التعذيب بأيدينا هو القتل فيكون الناكث الطاعن مستحقا للقتل و الساب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ناكث طاعن كما تقدم فيستحق القتل و إنما ذكر سبحانه النصر عليهم و أنه يتوب من بعد ذلك على من يشاء لأن الكلام في قتال الطائفة الممتنعة فأما الواحد المستحق للقتل فلا ينقسم حتى فيه { يعذبه الله و يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } على أن قوله { من يشاء } يجوز أن يكون عائدا إلى من لم يطعن بنفسه و إنما أقر الطاعن فسميت الفئة طاعنة لذلك و عند التمييز فبعضهم دون بعضهم مباشر و لا يلزم من التوبة على الرده التوبة على المباشر ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم أهدر عام الفتح دم الذين باشروا الهجاء و لم يهدر دم الذين سمعوه و أهدر دم بني بكر و لم يهدر الذين أعاروهم السلاح
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 25 ]
الوجه السادس : أن قوله تعالى : { و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم } [ التوبة : 15 ] دليل على أن شفاء الصدور من ألم النكث و الطعن و ذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمر مقصود للشارع مطلوب الحصول و أن ذلك يحصل إذا جاهدوا كما جاء في الحديث المرفوع : [ عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الله يدفع الله به عن النفوس الهم و الغم ](1/18)
لا ريب أن من أظهر الرسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل الذمة و شتمه فإنه يغيظ المؤمنين و يؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم و أخذ أموالهم فإن هذا يثير الغضب لله و الحمية له و لرسوله و هذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظا أعظم منه بل المؤمن المسدد لا يغضب هذا الغضب إلا الله و الشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين و ذهاب غيظ قلوبهم و هذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه :
أحدها : أن تعزيزه و تأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحدا من المسلمين أو فعل نحو ذلك فلو أذهب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم و هذا باطل
الثاني : أن شتمه أعظم عندهم من أن يؤخذ بعض دمائهم ثم لو قتل واحدا منهم لم يشف صدورهم إلا قتله فإن لا تشفى صدورهم إلا بقتل الساب [ أولى و أحرى ]
الثالث : أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء و الأصل عدم سبب آخر يحصله فيجب أن يكون القتل و القتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا
الرابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما فتحت مكة و أراد أن يشفي صدور خزاعة ـ و هم القوم المؤمنون ـ من بني بكر الذين قاتلوهم مكنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانة لسائر الناس فلو كان الشفاء صدورهم و ذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا و طعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 26 ](1/19)
الموضع الرابع : قوله سبحانه : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم } [ التوبة : 62 ] فإنه يدل على أن أذى النبي صلى الله عليه و سلم محاددة لله و لرسوله لأنه قال هذه الآية عقب قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن } الآية [ التوبة : 61 ] ثم قال : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } فلو لم يكونوا بهذا الأذى محادين لم يحسن أن يوعدوا بأن للمحاد نار جهنم لأن يمكن حينئذ أن يقال : قد علموا أن للمحاد نار جهنم لكنهم لم يحادوا و إنما آذوا فلا يكون في الآية و عيد لهم فعلم أن هذا الفعل لا بد أن يندرج في عموم المحادة ليكون و عيد المحاد و عيدا له و يلتئم الكلام
و يدل على ذلك أيضا ما روى الحاكم في صحيحه بإسناد صحيح [ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في ظل حجرة من حجره و عنده نفر من المسلمين فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعين شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه فقال : علام تشتمني أنت و فلان و فلان فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله و اعتذروا إليه ] فأنزل الله تعالى : { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفوا له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } [ المجادلة : 18 ] ثم قال بعد ذلك : { إن الذين يحادون الله و رسوله } فعلم أن هذا داخل في المحادة
و في رواية أخرى صحيحة أنه نزل قوله { يحلفون لكم لترضوا عنهم } [ التوبة : 96 ]
و قد قال : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [ التوبة : 62 ] ثم قال عقبه : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } فثبت أن هؤلاء الشاتمين محادون و سيأتي ـ إن شاء الله ـ زيادة في ذلك(1/20)
و إذا كان الأذى محادة لله و رسوله فقد قال تعالى : { إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا و رسلي إن الله قوي عزيز } [ المجادلة : 21 ] و الأذل : أبلغ من الذليل و لا يكون أذل حتى يخاف على نفسه و ماله إن أظهر المحادة لأنه إن كان دمه و ماله معصما لا يستباح فليس بأذل يدل عليه قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] فبين سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة إلا مع العهد فعلم أن من له عهد و حبل لا ذلة عليه و إن كانت عليه المسكنة فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة و قد جعل المخادعين في الأذلين فلا يكون لهم عهد إذ العهد ينافي الذلة كما دلت عليه الآية و هذا ظاهر فإن الأذل هو الذي ليس له قوة يمتنع بها ممن أراده بسوء فإذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره و منعه بأذل فثبت أن المحاد لله و لرسوله لا يكون له عهد يعصمه و المؤذي للنبي صلى الله عليه و سلم محاد فالمؤذي للنبي ليس له عهد يعصم دمه و هو المقصود(1/21)
و أيضا فإنه قال تعالى : { إن الذين يحادون الله و رسوله كتبوا كما كتب الذين من قبلهم } [ المجادلة : 5 ] و الكبت : إذلال و الخزي و الصرع قال الخليل : الكبت هو الصرع على الوجه و قال النضر بن شميل و ابن قتيبة : هو الغيظ و الحزن و هو في الأشقاق الأكبر من كبده كأن الغيظ و الحزن أصاب كبده كما يقال : أحرق الحزن و العداوة كبده و قال أهل التفسير : كتبوا أهلكوا و أخزوا و حزنوا فثبت أن المحادة أن مكبوت مخزى ممتل غيظا و حزنا هالك و هذا إنما يتم إذا خاف إن أظهر المحاداة أن يقتل و إلا فمن أمكنه إظهار المحادة و هو آمن على دمه و ماله فليس بمكبوت بل مسرور جذلان و لأنه قال : { كتبوا كما كتب الذين من قبلهم } و الذين من قبلهم ممن حاد الرسل و حاد رسول الله إنما كتبه الله بأن أهلكه بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين و الكبت و إن كان يحصل منه نصيب لكل من لم ينل غرضه كما قال سبحانه : { ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم } [ آل عمران : 127 ] لكن قوله تعالى : { كما كبت الذين الذين من قبلهم } يعني محادي الرسل دليل على الهلاك أو كتم الأذى بيبين ذلك أن المنافقين هم من المحادين فهم مكبوتون بموتهم بغيظم لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قتلوا فيجب أن يكون كل محاد كذلك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 28 ]
و أيضا فقوله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا و رسلي } [ المجادلة 21 ] عقب قوله : { إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين } دليل على أن المحادة مغالبة و معاداة حتى يكون أحد المتحادين غالبا و الآخر مغلوبا و إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم فعلم أن المحاد ليس بمسالم و الغلبة للرسل بالحجة و القهر فمن أمر منهم بالحرب نصر على عدوه و من لم يؤمر بالحرب ملك عدوه و هذا أحسن من قول من قال : [ إن الغلبة للمحارب بالنصر و لغير المحارب بالحجة فعلم أن هؤلاء المحادين محاربون مغلوبون ](1/22)
و أيضا فإن المحادة من المشاقة لأن المحادة من الحد و الفصل و البينونة و كذلك المشاقة من الشق و هو لهذا المعنى فهما جميعا بمعنى المقاطعة و المفاصلة و لهذا يقال : إنما سميت بذلك لأن كل واحد من المحادين و المتشاقين في حد و شق من الآخر و ذلك يقتضي انقطاع الحبل الذي بين أهل العهد إذا حاد بعضهم بعضا فلا حبل لمحاد لله و لرسوله
و أيضا فإنها إذا كانت بمعنى المشاقة فإن الله سبحانه قال : { فاضربوا فوق الأعناق و اضربوا منهم كل بنان و ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله و رسوله فإن الله شديد العقاب } [ الأنفال : 13 ] فأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم و محادتهم فكل من حاد و شاق يجب أن يفعل به ذلك لوجود العلة
و أيضا فإنه تعالى قال : { و لولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النار و ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله } [ الحشر : 4 ] و التعذيب هنا ـ و الله أعلم القتل لأنهم قد عذبوا بما دون ذلك من الإجلاء و أخذ الأموال فيجب تعذيب من شاق الله تعالى و رسوله و من أظهر المحادة فقد شاق الله و رسوله بخلاف من كتمها فإنه ليس بمحاد و لا مشاق
و هذه الطريقة أقوى في الدلالة يقال : هو محاد و إن لم يكن مشاقا و لهذا جعل جزاء المحاد مطلقا أن يكون مكتوبا كما كبت من قبله و أن يكون في الأذلين و جعل جزاء المشاق القتل و التعذيب في الدنيا و لن يكونا مكبوتا كما كبت من قبله في الأذلين إلا لم يمكنه إظهار محادته فعلى هذا تكون المحادة أعم و لهذا ذكر أهل التفسير في قوله تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } الآية [ المجادلة : 22 ] إنها نزلت فيمن قتل [ من ] المسلمين أقاربه في الجهاد و فيمن أراد أن يقتل [ من ] تعرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالأذى من كافر أو منافق قريب له فعلم أن المحاد يعم المشاق و غيره(1/23)
و يدل على ذلك أنه قال سبحانه : { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم و لا منهم } الآيات إلى قوله { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } و إنما نزلت في المنافقين الذين تولوا اليهود المغضوب عليهم و كان أولئك اليهود أهل عهد من النبي صلى الله عليه و سلم ثم إن الله سبحانه بين أن المؤمنين لا يوادون من حاد الله و رسوله و لا بد أن يدخل في ذلك عدم المودة لليهود و إن كانوا أهل ذمة لأنه سبب النزول و ذلك يقتضي أن أهل الكتاب محادون لله و رسوله و إن كانوا معاهدين و يدل على ذلك أن الله قطع الموالاة بين المسلم و الكافر و إن كان له عهد و ذمة و على هذا التقدير يقال : عوهدوا على أن يظهروا المحادة و لا يعلنوا بها بالإجماع كما تقدم و كما سيأتي فإذا أظهروا صاروا محادين لا عهد لهم مظهرين للمحادة و هؤلاء مشاقون فيستحقون خزي الدنيا من القتل و نحوه و عذاب الآخرة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 30 ]
فإن قيل : إذا كان كل يهودي محادا لله و رسوله فمن المعلوم أن العهد يثبت لهم مع التهود و ذلك ينفض ما قدمتم من أن المحاد لا عهد له(1/24)
قيل : من سلك هذه الطريقة قال : المحاد لا عهد له مع إظهار المحادة فأما إذا لم يظهر لنا المحادة فقد أعطيناه العهد و قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] يقتضي أن الذلة تلزمه فلا تزول إلا بحبل من الله و حبل من الناس و حبل المسلمين معه على أن لا يظهر المحادة بالإتفاق فليس معه حبل مطلق بل حبل مقيد فهذا الحبل لا يمنعه أن يكون أذل فعل ما لم يعاهد عليه أو يقول صاحب هذا المسلك : الذلة لازمة لهم كل حال كما أطلقت في سورة البقرة و قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله } يجوز أن يكون تفسيرا للذلة أي ضربت عليهم أنهم أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا إلا بحبل من الناس فالحبل لا يرفع الذلة و إنما يرفع بعض موجباتها و هو القتل فإن من كان لا يعصم دمه إلا بعهد فهو ذليل و إن عصم دمه بالعهد لكن هذا التقدير تضعف الدلالة الأولى من المحدة و الطريقة الأولى أجود كما تقدم و في زيادة تقريرها طول
الموضع الخامس : قوله سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة } [ الأحزاب : 57 ] و هذه الآية توجب قتل من آذى الله و رسوله كما سيأتي إن شاء الله تعالى تقريره و العهد لا يعصم من ذلك لأنا لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله و رسوله
و يوضح ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من لكعب بن الأشراف فإنه قد آذى الله و رسوله ] فندب المسلمين إلى يهودي كان معاهدا لأجل أنه آذى الله و رسوله فدل ذلك على أنه لا يوصف كل ذمي بأنه يؤذي الله و رسوله و إلا لم يكن فرق بينه و بين غيره و لا غيره و لا يصح أن يقال : اليهود ملعونون في الدنيا و الآخرة مع إقرارهم على ما يوجب ذلك لأنا لم نقرهم على إظهار أذى الله و رسوله و إنما أقررناهم على أن يفعلوا بينهم كما هو من دينهم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 32 ](1/25)
و أما الآيات الدالات على كفر الشاتم و قتله أو على أحدهما إذا لم يكن معاهدا و إن كان مظهرا للإسلام ـ فكثيرة مع أن هذا مجمع عليه كما تقدم حكاية الإجماع عن غير واحد
منها قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل : أذن خير لكم } إلى قوله : { و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } [ التوبة : 61 ] إلى قوله : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله و لرسوله لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلا فيه و لولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفا إذ أمكن أن يقال : إنه ليس بمحاد و دل ذلك على أن الإيذاء و المحادة كفر لأنه أخبر أن له نار جهنم خالدا فيها و لم يقل [ هي جزاؤه ] و بين الكلامين فرق بل المحادة هي المعاداة و المشاقة و ذلك كفر و محاربة فهو أغلظ من مجرد الكفر فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه و سلم كافرا عدوا لله و رسوله محاربا لله و رسوله لأن المحادة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كل واحد منهما في حد كما قيل [ المشاقة : أن يصير كل منهما في شق و المعاداة : أن يصير كل منهما في عداوة ]
[ إذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه ](1/26)
و في الحديث أن رجلا كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ من يكفيني عدوي ] و هذا ظاهر قد تقدم تقريره و حينئذ فيكون كافرا حلال الدم لقوله تعالى : { إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين } [ المجادلة : 20 ] و لو كان مؤمنا معصوما لم يكن أذل لقوله تعالى : { و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] و قوله تعالى : { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } [ المجادلة : 5 ] و المؤمن لا يكبت كما كبت مكذبوا الرسل قط و لأنه قد قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } الآية [ المجادلة : 22 ] فإذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه ؟ و قد قيل : إن من سبب نزولها أن أبا قحافة شتم النبي صلى الله عليه و سلم فأراد الصديق قتله
أو أن ابن أبي تنقص النبي صلى الله عليه و سلم فستأذن ابنه النبي صلى الله عليه و سلم في قتله لذلك فثبت أن المحاد كافر حلال الدم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 33 ]
و أيضا فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين و بين المحادين لله و رسوله و المعادين لله و رسوله فقال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم } الآية [ المجادلة : 22 ] و قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } [ الممتحنة : 1 ] فعلم أنهم ليسوا من المؤمنين(1/27)
و أيضا فإنه قال سبحانه : { و لولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله فإن الله شديد العقاب } [ الحشر : 4 ] فجعل سبب استحقاقهم العذاب في الدنيا و لعذاب النار في الآخرة مشاقة الله و رسوله و المؤذي للنبي صلى الله عليه و سلم مشاق لله و رسوله كما تقدم و العذاب هنا هو الإهلاك بعذاب من عنده أو بأيدينا و إلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذهاب الأموال و فراق الأوطان
و قال سبحانه : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فأضربوا فوق الأعناق و آضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله } [ الأنفال : 12 ، 13 ] فجعل إلقاء الرعب في قلوبهم و الأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم لله و رسوله فكل من شاق الله و رسوله يستوجب ذلك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 34 ]
قال مجاهد : [ هو أذن ] يقولون : سنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا
و قال الوالبي عن ابن عباس : [ يعني أنه يسمع من كل أحد ]
قال بعض أهل التفسير : [ كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و يقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا فإنما محمد أذن سامعة ] فأنزل الله هذه الآية [ التوبة : 61 ]
و قال ابن اسحاق : كان نبتل بن الحارث الذي قال النبي صلى الله عليه و سلم فيه : [ من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث ] ينم حديث النبي إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل فقال : إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا عليه فأنزل الله هذه الآية [ التوبة : 61 ](1/28)
و قولهم [ أذن ] قالوا : ليتبينوا أن كلامهم مقبول عنده فأخبر الله أنه لا يصدق إلا المؤمنين و إنما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه أذن خير لا لأنه صدقهم
قال سفيان بن عيينة : [ أذن خير يقبل منكم ما أظهرتم من الخبر و من القول و لا يؤاخذكم بما في قلوبكم و يدع سرائركم إلى الله تعالى و ربما تضمنت هذه الكلمة نوع استهزاء و استخفاف ] فإن قيل : فقد روى نعيم بن حماد [ قال ] [ حدثنا محمد بن ثورعن يونس عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم لا تجعل لفاجر و لفاسق عندي يدا و لا نعمة فإني وجدت فيما أوحيته { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } ]
قال سفيان : يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان رواه أبو أحمد العسكري و ظاهر هذا أن كل فاسق لا يبغي مودته فهو محاد لله و رسوله مع أن هؤلاء ليسوا منافقين النفاق المبيح للدم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 35 ]
قيل : المؤمن الذي يحب الله و رسوله ليس على الإطلاق بكافر و لا منافق و إن كانت له ذنوب كثيرة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لنعمان و قد جلد في الخمر غير مرة [ إنه يحب الله و رسوله ] لأن مطلق المجادة يقتضي مطلق المقاطعة و المصارمة و المعاداة و المؤمن ليس كذلك لكن قد يقع اسم النفاق على من أتى بشعبة من شعبه و لهذا قالوا : [ كفر دون كفر ] و [ ظلم دون ظلم ] و [ فسق دون فسق ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم [ كفر بالله تبرؤ من نسب و إن دق ] و [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] و [ آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب و إذا وعد خلف و إذا آئتمن خان ]
قال ابن أبي ملكية : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كلهم يخاف النفاق على نفسه
فوجه هذا الحديث أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم عنى بالفاجر المنافق فلا ينقض الاستدلال(1/29)
أو يكون عنى كل فاجر لأن الفجور مظنة النفاق فما من فاجر إلا يخاف فجوره صادرا عن مرض في القلب أو موجبا له فإن المعاصي بريد الكفر فإذا أحب الفاسق فقد يكون محبا لمنافق فحقيقة الإيمان بالله و اليوم الآخر أن لا يواد من أظهر من الأفعال ما يخاف معها أن يكون محادا لله و رسوله فلا ينقض الاستدلال أيضا
أو أن تكون الكبائر من شعب المحادة لله و رسوله فيكون مرتكبها محادا من وجه و إن كان مواليا لله و رسوله من وجه آخر و يناله من الذلة و الكبت بقدر قسطه من المحادة كما قال الحسن : [ و إن طقطقت بهم البغال و هملجت بهم البراذين إن ذل المعصية لفي رقابهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه ] فالعاصي يناله من الذلة و الكبت بحسب معصيته و إن كان له من عزة الإيمان بحسب إيمانه كما يناله من الذم و العقوبة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 37 ]
و حقيقة الإيمان أن لا يواد المؤمن من حاد الله بوجه من وجوه المودة المطلقة و قد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها و بغض من أساء إليها فإذا اصطنع الفاجر إليه يدا أحبه المحبة التي جبلت القلوب عليها فيصير موادا له مع أن حقيقة الإيمان توجب عدم مودته من ذلك الوجه و إن كان معه من أصل الإيمان ما يستوجب به أصل المودة التي تستوجب أن يحض بها دون الكافر و المنافق و على هذا فلا ينتقض الاستدلال أيضا لأن من آذى النبي صلى الله عليه و سلم فإنه أظهر حقيقة المحادة و رأسها الذي يوجب جميع أنواع المحادة فاستوجب الجزاء المطلق و هو جزاء الكافرين كما أن من أظهر النفاق و رأسه استوجب ذلك و إن لم يستوجبه من أظهر شعبة من شعبه و الله سبحانه أعلم(1/30)
الدليل الثاني : قوله سبحانه : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل : استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون و لئن سألتهم ليقولن : إنما كنا نخوض و نلعب قل : أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم طائفة بأنهم كانوا مجرمين } [ التوبة : 64 ـ 66 ] و هذا نص في أن الاسهتزاء بالله و بآياته و برسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى و قد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه و سلم جادا أو هازلا فقد كفر
و قد روي عن رجال من العلم ـ منهم ابن عمر و محمد بن كعب و زيد بن أسلم و قتادة ـ دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا و لا أكذب ألسنا و لا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه القراء فقال له عوف بن مالك : كذبت و لكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد ارتحل و ركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نلعب و نتحدث حديث الركب نقطع به عنا [ ء ] الطريق قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن الحجارة لتنكب رجليه و هو يقول : إنما كنا نخوض و نلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم { أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون } ما يلتفت إليه و لا يزيده عليه و قال مجاهد : قال رجل من المنافقين : يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا و كذا و ما يدريه ما الغيب فأنزل الله عز و جل هذه الآية(1/31)
و قال معمر عن قتادة : بينا النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك و ركب من المنافقينيسيون بين يديه فقالوا : أيظن هذا أن يفتح قصور الروم و حصونها ؟ فأطلع الله نبيه صلى الله عليه و سلم على ما قالوا فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ علي بهؤلاء النفر ] فدعا بهم فقال : أقلتم كذا و كذا ؟ فحلفوا ما كنا إلا نخوض و نلعب و قال معمر : قال الكلبي : كان رجل منهم لم يماثلهم في الحديث يسير عائبا لهم فنزلت : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] فسمي طائفة و هو واحد
فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه و سلم حيث عابوه و العلماء من أصحابه و استهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك و إن قالوه استهزاء فكيف بما هو أغلظ من ذلك ؟ و إنما لم يقم الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أمر به إذ ذاك بل كان مأمورا بأن يدع أذاهم و لأنه كان له أن يعفو عمن تنقصه و آذاه
الدليل الثالث : قوله سبحانه : { و منهم من يلزمك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] و اللمز : العيب و الطعن قال مجاهد : يتهمك [ و ] يزريك و قال عطاء : يغتابك و قال تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي } الآية [ التوبة : 61 ] و ذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم لأن [ الذين ] و [ من ] اسمان موصولان و هما من صيغ العموم و الآية و إن كانت نزلت بسبب لمز قوم و إيذاء آخرين فحكمها عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب و ليس بين الناس خلاف نعلمه أنها تعم الشخص الذي نزلت بسببه و من كان حاله كحاله و لكن إذا كان اللفظ أعم من ذلك السبب فقد قيل : إنه يقتصر على سببه و الذي عليه جماهير الناس أنه يجب الأخذ بعموم القول ما لم يقم دليل بوجوب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه
و أيضا فإن كونه منهم حكم متعلق بلفظ مشتق من اللمز و الأذى و هو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده(1/32)
و أيضا فإن الله سبحانه و إن كان قد علم منهم النفاق قيل هذا القول لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه بل قال : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } [ التوبة : 101 ] ثم إنه ابتلى الناس بأمور تميز بين المؤمنين و المنافقين كما قال سبحانه : { و ليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن المنافقين } [ العنكبوت : 11 ] و قال تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } [ آل عمران : 179 ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 40 ]
و ذلك لأن الإيمان و النفاق أصله في القلب و إنما الذي يظهر من القول و الفعل فرع له دليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه فلما أخبر سبحانه أن الذين يلزمون النبي صلى الله عليه و سلم و الذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق و فرع له و معلوم أنه إذا حصل فرع الشيء و دليله حصل أصله المدلول عليه فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا سواء كان منافقا قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون هذا القول دليلا للنبي صلى الله عليه و سلم على نفاق أولئك الأشخاص الذين قالوه في حياته بأعيانهم و إن لم يكن دليلا من غيرهم ؟
قلنا : إذا كان دليلا للنبي صلى الله عليه و سلم الذي يمكن أن يغنيه الله بوحيه عن الاستدلال فأن يكون دليلا فأن يكون دليلا لمن لا يمكنه معرفة البواطن أولى و أحرى(1/33)
و أيضا لو لم تكن الدلالة مطردة في حق كل من صدر منه ذلك القول لم يكن في الآية زجر لغيرهم أن يقول مثل هذا القول و لا كان في الآية تعظيم لذلك القول بعينه فإن الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه و إن كانت أمرا مباحا كما لو قيل : من المنافقين صاحب الجمل الأحمر و صاحب الثوب الأسود و نحو ذلك فلما دل القرآن على ذم عين هذا القول و الوعيد لصاحبه علم أنه لم تقصد به الدلالة على المنافقين بأعيانهم فقط بل هو دليل على نوع من المنافقين
و أيضا فإن هذا القول مناسب للنفاق : فإن لمز النبي صلى الله عليه و سلم و أذاه لا يفعله من يعتقد أنه رسول الله حقا و أنه أولى به من نفسه و أنه لا يقول إلا الحق و لا يحكم إلا بالعدل و أن طاعته لله و أنه يجب على جميع الخلق تعزيره و توقيره و إذا كان دليلا على النفاق نفسه فحيثما حصل حصل النفاق
و أيضا فإن هذا القول لا ريب أنه محرم فإما أن يكون خطيئة دون الكفر أو يكون كفرا و الأول باطل لأن الله يسبحانه قد ذكر في القرآن أنواع العصاة من الزاني و القاذف و السارق و المطفف و الخائن و لم يجعل ذلك دليلا على نفاق معين و لا مطلق فلما جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين علم أن ذلك لكونها كفرا لا لمجرد كونها معصية لأن تخصيص بعض المعاصي يجعلها دليلا على النفاق دون بعض لا يكون حتى يختص دليل النفاق بما يوجب ذلك و إلا كان ترجيحا بلا مرجح فثبت أنه لابد أن يختص هذه الأقوال بوصف يوجب كونها دليلا على النفاق و كل ما كان كذلك فهو كفر
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 41 ](1/34)
و أيضا فإن الله كما ذكر بعض الأقوال التي جعلهم بها من المنافقين و هو قوله تعالى : { ائذن لي و لا تفتني } قال في عقب ذلك { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله و اليوم الآخر } إلى قوله : { إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر و ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } [ التوبة : 45 ] فجعل ذلك علامة مطردة على عدم الإيمان و على الريب مع أنه رغبة عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد استنفاره و إظهار من القاعد أنه معذور بالقعود و حاصله عدم إرادة الجهاد فلمزه و أذاه أولى أن يكون دليلا مطردا لأن الأول خذلان له و هذا محاربة له و هذا ظاهر
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 42 ]
و إذا ثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه و سلم أو آذاه منهم فالضمير عائد إلى المنافقين و الكافرين لأنه سبحانه لما قال : { انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } [ التوبة : 41 ] قال : { لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك و لكن بعدت عليهم الشقة و سيحلفون بالله } [ التوبة : 42 ] و هذا الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور و هم الذين حلفوا { لو استطعنا لخرجنا معكم } و هؤلاء هم المنافقون بلا ريب و لا خلاف ثم أعاد الضمير إليهم إلى قوله : { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله و برسوله } [ التوبة : 54 ] فثبت أن هؤلاء الذين أضمروا كفروا بالله و رسوله و قد جعل منهم من يلمز و منهم من يؤذي و كذلك قوله : { و ما هم منكم } إخراج لهم عن الإيمان(1/35)
و قد نطق القرآن بكفر المنافقين في غير موضع و جعلهم أسوأ حالا من الكافرين و أنهم في الدرك الأسفل من النار و أنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا : { انظرونا نقتبس من نوركم } الآية إلى قوله : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية و لا من الذين كفروا } [ الحديد : 15 ] و أمر نبيه في آخر الأمر بأن لا يصلي على أحد منهم و أخبر أنه لن يغفر لهم و أمره بجهادهم و الإغلاظ عليهم و أخبر أنه إن لم ينتهوا ليغرين الله نبيه بهم حتى يقتلوا في كل موضع(1/36)
الدليل الرابع على ذلك أيضا : قوله سبحانه و تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما } [ النساء : 65 ] أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه في الخصومات التي بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقا من حكمه بل يسلموا لحكمه ظاهرا و باطنا و قال ذلك : { الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله و إلى رسوله فصد عن رسوله كان منافقا و قال سبحانه : { و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك و ما أولئك بالمؤمنين و إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون و إن يكن لهم الحق ياتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله ؟ بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا } [ النور : 47 ـ 51 ] فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول و أعرض عن حكمه فهو من المنافقين و ليس بمؤمن و أن المؤمن هو الذي يقول : سمعنا و أطعنا فإذا كان النفاق يثبت و يزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول و إرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض و قد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالنقص و السب و نحوه ؟
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 43 ](1/37)
و يؤيد ذلك ما رواه أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم ابن دحيم في تفسيره حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى للمحق على المبطل فقال المقضي عليه : لا أرضى فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا إليه فقال الذي قضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى لي عليه فقال أبو بكر : فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه و سلم فأبى صاحبه أن يرضى و قال : نأتي عمر بن الخطاب فأتياه فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى ثم أتينا أبا بكر الصديق فقال : أنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه و سلم فأبى أن يرضى فسأله عمر فقال كذلك فدخل عمر منزله فخرج و السيف في يده قد سله فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله فأنزل الله تبارك و تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ـ الأية } [ النساء : 65 ]
و هذا المرسل له شاهد من وجه آخر يصلح للاعتبار(1/38)
قال ابن دحيم : [ حدثنا الجوزجاني حدثنا أبو الأسود حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلان فقضي لأحدهما فقال الذي قضي عليه : ردنا إلى عمر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم نعم انطلقوا إلى عمر ] فانطلقا فلما اتيا عمر قال الذي قضي له : يا ابن الخطاب إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى لي و إن هذا قال : ردنا إلى عمر : فردنا إليك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عمر : أكذلك ؟ للذي قضي عليه قال : نعم فقال عمر : مكانك حتى أخرج فأقضي بينكما فخرج مشتملا على سيفه فضرب الذي قال [ ردنا إلى عمر ] فقتله و أدبر الأخر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله قتل عمر صاحبي و لولا ما أعجزته لقتلني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما كنت أظن أن عمر يجتريء على قتل مؤمن ] فأنزل الله تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } فبرأالله عمر من قتله
و قد رويت هذه القصة من غير هذين الوجهين قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل : ما أكتب حديث ابن لهيعة إلا للاعتبار و الاستدلال و قد كتبت حديث هذا الرجل بهذاغ المعنى كأني أستدل به مع غيره يشده لا أنه حجة إذا انفرد
الدليل الخامس مما استدل به العلماء على ذلك : قوله سبحانه تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الأخرة و أعد لهم عذابا مهينا و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ] و دلالتها من وجوه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 45 ](1/39)
أحدها : أنه قرن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته فمن ىذاه فقد آذى الله تعالى و قد جاء ذلك منصوصا عنه و من آذى الله فهو كافر حلال الدم يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله و رسوله و إرضاء الله و رسوله و طاعة الله و رسوله شيئا واحدا فقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله و رسوله } الآية [ التوبة : 24 ] و قال تعالى : { و أطيعوا الله و الرسول } [ آل عمران : 132 ] في مواضع متعددة و قال تعالى : { و الله و رسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] فوحد الضمير و قال أيضا : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] و قال أيضا : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله و الرسول } [ الأنفال : ! ]
و جعل شقاق الله و رسوله و محادة الله و رسوله و أذى الله و رسوله و معصية الله و رسوله شيئا واحدا فقال : { ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاقق الله و رسوله } [ الأنفال : 13 ] و قال { إن الذين يحادون الله و رسوله } [ المجادلة : 20 ] و قال تعالى : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } [ التوبة : 63 ] و قال : { و من يعص الله و رسوله } الآية [ النساء : 14 ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 46 ]
و في هذا و غيره بيان لتلازم الحقين و أن جهة حرمة الله تعالى و رسوله جهة واحدة فمن آذى الرسول فقد آذى الله و من أطاعه فقد أطاع الله لأن الأمة لا يصلون ما بينهم و بين ربهم إلا بواسطة الرسول ليس لأحد منهم طريق غيره و لا سبب سواه و قد أقامه الله مقام نفسه في أمره و نهيه و إخباره و بيانه فلا يجوز أن يفرق بين الله و رسوله في شيء من هذه الأمور(1/40)
و ثانيها : أنه فرق بين أذى الله و رسوله و بين أذى المؤمنين و المؤمنات فجعل على هذا أنه احتمل { بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ] وجعل على ذلك اللعنة في الدينا و الآخرة و أعد له العذاب المهين و معلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم و فيه الجلد و ليس فوق ذلك إلا الكفر و القتل
الثالث : أنه ذكر لعنهم في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا و اللعن : الإبعاد عن الرحمة و من طرده عن رحمته في الدنيا و الآخرة لا يكون إلا كافرا فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات و لا يكون مباح الدم لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله فلا يثبت في حقه
و يؤيد ذلك قوله : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجارونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } [ الأحزاب : 61 ] فإن أخذهم و تقتيلهم و الله أعلم بيان صفة لعنهم و ذكر لحكمه فلا موضع له من الإعراب و ليس بحال ثانية لأنهم إذا جاوروه ملعونين و لم يظهر أثر لعنهم في الدنيا لم يكن في ذلك و عيد لهم بل تلك اللعنة ثابتة قبل هذا الوعيد و بعده فلا بد أن يكون هذا الأخذ و التقتيل من آثار اللعنة التي وعدوها فيثبت في حق من لعنة الله في الدنيا و الآخرة
ويؤيده قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لعن المؤمن كقتله ] متفق عليه فإذا كان الله قد لعن هذا في الدنيا و الآخرة فهو كقتله فعلم أن قتله مباح
قيل : و اللعن إنما يستوجبه من هو كافر لكن هذا جيدا على الإطلاق
و يؤيده قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] و لو كان معصوم الدم يجب على المسلمين نصره و لكان له نصير(1/41)
يوضح ذلك أنه قد نزل في شأن ابن الأشرف و كان من لعنته أن قتل لأنه كان يؤذي الله و رسوله
و اعلم أنه لا يرد على هذا أنه قد لعن من لا يجوز قتله لوجوه :
أحدها : أن هذا قيل فيه [ لعنة الله في الدنيا و الآخرة ] فبين أنه سبحانه أقصاه عن رحمته في الدارين و سائر الملعونين إنما قيل فيهم [ لعنة الله ] أو [ عليه لعنة الله ] و ذلك يحصل بإقصائه عن الرحمة في وقت من الأوقات و فرق بين من لعنه الله أو عليه لعنة مؤبدة عامة و من لعنه لعنا مطلقا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 47 ]
الثاني : أن سائرالذين لعنهم الله في كتابه ـ مثل الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب و مثل الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و مثل من يقتل مؤمنا متعمدا ـ إما كافر أو مباح الدم بخلاف بعض من لعن في السنة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 48 ]
الثالث : أن هذه الصيغة خبر عن لعنة الله و لهذا عطف عليه { و أعد لهم عذابا مهينا } و عامة الملعونين الذين لا يقتلون أو لا يكفرون إنما لعنوا بصيغة الدعاء مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله من غير منار الأرض ] و [ و لعن الله السارق ] و [ لعن الله آكل الربا و مأكله ] و نحو ذلك
لكن الذي يرد على هذا قوله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } [ النور : 23 ] فإن هذه الآية ذكر لعنتهم في الدنيا و الآخرة مع أن مجرد القذف ليس بكفر و لا يبيح الدم
و الجواب عن هذه الآية من طريقين مجمل و مفصل
أما المجمل فهو أن قذف المؤمن المجرد هو نوع من أذاه و إذا كان كذبا فهو بهتان عظيم كما قال سبحانه : { و لولا إذ سمعتموه قلتم : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا تسبحانك هذا بهتان عظيم } [ النور : 16 ](1/42)
و القرآن قد نص على الفرق بين أذى الله و رسوله و بين أذى المؤمنين فقال تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ] فلا يجوز أن يكون مجرد أذى المؤمنين بغير حق موجبا للعنة الله في الدنيا و الآخرة و للعذاب المهين إذ لو كان كذلك لم يفرق بين أذى الله و رسوله و بين أذى المؤمنين و لم يخصص مؤذي الله و رسوله باللعنة المذكورة و يجعل جراء مؤذي المؤمنين أنه احتمل بهتانا و إثما مبينا كما قال في موضع آخر : { و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا } [ النساء : 112 ] كيف و العليم الحكيم إذا توعد على الخطيئة زاجرا عنها فلا بد أن يذكر أقصى ما يخاف على صاحبها فإذا ذكر خطيئتين إحداهما أكبر من الأخرى متوعدا عليهما زاجرا عنهما ثم ذكر في إحداهما جزاء عنها و ذكر في الأخرى ما هو دون ذلك ثم ذكر هذه الخطيئة في موضع آخر متوعدا عليها بالعذاب الأدنى بعينه علم أن جزاء الكبرى لا يستوجب بتلك التي هي أدنى منها
فهذا دليل يبين لك أن لعنة الله في الدنيا و الآخرة و إعداده العذاب المهين لا يستوجبه مجرد القذف الذي ليس فيه أذى الله و رسوله و هذا كاف في اطراد الدلالة و سلامتها عن النقص
و أما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه :
أحدهما : أن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة في قول كثير من أهل العلم(1/43)
فروى هشيم عن العوام بن خوشب حدثنا شيخ من بني كاهل قال : فسر ابن عباس سورة النور فلما أتى على هذه الآية { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } إلى آخر الآية [ النور : 23 ] قال : هذه في شأن عائشة و أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة و هي مبهمة ليس فيها توبة و من قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ : { و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } إلى قوله : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و اصلحوا } [ النور : 5 ] فجعل لهؤلاء توبة و لم يجعل لأولئك توبة قال : فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر
و قال أبو سعيد الأشج : حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات } نزلت في عائشة رضي الله عنها خاصة و اللعنة في المنافقين عامة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 50 ]
فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة و أمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه و سلم و عيبته فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها لأنه نسبة له إلى الدياثة و إظهار لفساد فراشه فإن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيما و لهذا جوز له الشارع أمن يقذفها إذا زنت و درأ الحد عنه باللعان و لم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال و لعل ما يلحق بعض الناس و الخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف و لهذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين المنصوصتين عنه إلى أن من قذف امرأة غير محصنة كالأمة و الذمية و لها زوج أو ولد محصن حد لقذفها لما ألحقه من العار بولدها و زوجها المحصنين(1/44)
و الرواية الأخرى عنه ـ و هو قول الأكثرين ـ إنه لا حد عليه لأنه أذى لهما لا قذف لهما و الحد التام إنما يجب بالقذف و في جانب النبي صلى الله عليه و سلم أذاه كقذفه و من يقصد عيب النبي صلى الله عليه و سلم بعيب أزواجه فهو منافق و هذا معنى قول ابن عباس [ اللعنة في المنافقين عامة ]
و قد وافق ابن عباس على هذا جماعة فروى الإمام أحمد و الأشج عن خصيف قال : سألت سعيد بن خبير فقلت : الزنا أشد أو قذف المحصنة ؟ قال : لا بل الزنا قال : قلت : و إن الله تعالى يقول : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة } [ النور : 23 ] فقال : إنما كان هذا في عائشة خاصة
و روى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة } [ النور : 23 ] قال : هذه لأمهات المؤمنين خاصة
و روى الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية قال : هن نساء النبي صلى الله عليه و سلم
و قال معمر عن الكلبي : إنما عني بهذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فأما من رمى امرأة من المسلمين فهو فاسق كما قال تعالى أو يتوب و وجه هذا ما تقدم من أن لعنة الله في الدنيا و الآخرة لا تستوجب بمجرد القذف فتكون اللام في قوله : { المحصنات الغافلات المؤمنات } لتعريف المعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه و سلم لأن الكلام في قصة الإفك و وقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة أو تقصير اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك(1/45)
و يؤيد هذا القول أن الله سبحانه و تعالى رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات و قال في أول السورة : { و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } الآية [ النور : 4 ] فرتب الجلد و رد الشهادة و الفسق على مجرد قذف المحصنات فلا بد أن تكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات و ذلك ـ و الله أعلم ـ لأن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين و هن أزواج نبيه في الدنيا و الآخرة و عوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان و لأن الله سبحانه قال في قصة عائشة : { و الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } [ النور : 11 ] فتخصصه بتولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم و قال : { و لولا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا و الآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } [ النور : 14 ] فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف و إنما يمس متولي كبره فقط و قال هنا : { و لهم عذاب عظيم } فعلم أنه الذي رمى أمهات المؤمنين و يعيب بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم و تولى كبر الإفك و هذه صفة المنافق ابن أبي
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 52 ]
و اعلم أنه علي هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضا موافقة لتلك الآية لأنه لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه و سلم فلعن صاحبه في الدنيا و الآخرة و لهذا قال ابن عباس : [ ليس فيها توبة ] لأن مؤذي النبي صلى الله عليه و سلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاما جديدا و على هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه و سلم أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة فإنه ما لعنت امرأة نبي قط
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 53 ](1/46)
و مما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه و سلم ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن المسلول قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ و هو على المنبر : يل معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا و ما يدخل على أهلي إلا معي ] فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه و إن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة ـ و هو سيد الخزرج و كان قبل ذلك رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية ـ فقال لسعد بن معاذ : لعمر الله لا تقتله و لا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير ـ و هو ابن عم سعد بن معاذ ـ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين قالت : فثار الحيان الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا و سكت
و في رواية أخرى صحيحة قالت لما ذكر من شأني الذي ذكر و ما علمت به قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في خطيبا و ما علمت به فتشهد و حمد الله و أثنى عليه بما هو أهله أما بعد أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي و أيم الله ما علمت على أهلي سوءا قط و أبنوهم بمن و الله ما علمت عليه من سوء قط و لا دخل بيتي قط إلا و أنا حاضر و لا كنت في سفر إلا غاب معي فقام سعد ابن معاذ فقال : يا رسول الله مرني أن أضرب أعناقهم(1/47)
فقوله [ من يعذرني ] أي : من ينصفني و يقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي و الله لهم فثبت أنه صلى الله عليه و سلم قد تأذى بذلك تأذيا استعذر منه و قال المؤمنون الذين لم تأخذهم حمية : [ مرنا نضرب أعناقهم فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم ] و لم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم على سعد استئماره في ضرب أعناقهم و قوله : إنك معذور إذا فعلت ذلك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 54 ]
بقي أن يقال : فقد كان من أهل الإفك مسطح و حسان و حمنة و لم يرموا بنفاق و لم يقتل النبي صلى الله عليه و سلم أحدا بذلك السبب بل قد اختلف في جلدهم
و جوابه : أن هؤلاء لم يقصدوا أذى النبي صلى الله عليه و سلم و لم يظهر منهم دليل على أذاه بخلاف ابن أبي الذي إنما كان قصده أذاه لم يكن إذ ذاك قد ثبت عندهم أن أزواجه في الدنيا هن أزواج له في الآخرة و كان وقوع ذلك من أزواجه ممكنا في العقل و لذلك توقف النبي صلى الله عليه و سلم في القصة حتى استشار عليا و زيدا و حتى سأل بريرة فلم يحكم بنفاق من لم يقصد أذى النبي صلى الله عليه و سلم لإمكان أن يطلق المرأة المقذوفة فأما بعد أن ثبت أنهن أزواجه في الآخرة و أنهن أمهات المؤمنين فقذفهن أذى له بكل حال و لا يجوز ـ مع ذلك ـ أن تقع منهن فاحشة لأن في ذلك جواز أن يقيم الرسول مع امرأة بغي و أن تكون أم المؤمنين موسومة بذلك و هذا باطل و لهذا قال سبحانه : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين } [ النور : 17 ] و سنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب كلام الفقهاء فيمن قذف نساءه و أنه معدود من أذاه
الوجه الثاني : أن الآية عامة قال الضحاك : قوله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } [ النور : 23 ] يعني به أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة و يقول آخرون : يعني أزواج المؤمنين عامة(1/48)
و قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : قذف المحصنات من الموجبات ثم قرأ : { إن الذين يرمون المحصنات } الآية [ النور : 23 ] و عن عمرو بن قيس قال : قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة رواهما الأشج و هذا قول كثير من الناس و وجه ظاهر الخطاب فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه إذ لا موجب لخصوصه و ليس هو مختصا بنفس السبب بالاتفاق لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم داخل في العموم و ليس هو من السبب و لأنه لفظ جمع و السبب في واحدة و لأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك و علم أن شيئا منها لم يقصر على سببه و الفرق بين الآيتين أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد و رد الشهادة و التفسيق و هنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه و هي اللعنة في الدارين و العذاب العظيم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 55 ]
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه و عن أصحابه أن قذف المحصنات من الكبائر و في لفظ في الصحيح [ قذف المحصنات الغافلات المؤمنات ] و كان بعضهم يتأول على ذلك قوله : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات }
ثم اختلف هؤلاء :
فقال أبو حمزة الثمالي : بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم و بين رسول الله صلى الله صلى الله عليه و سلم عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة و قالوا : إنما خرجت تفجر فعلى هذا يكون فيمن قذف المؤمنات قذفا يصدهن به عن الإيمان و يقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام كما فعل كعب بن الأشرف و على هذا فمن فعل ذلك فهو كافر و هو بمنزلة من سب النبي صلى الله عليه و سلم(1/49)
و قوله : [ إنها نزلت زمن العهد ] يعني ـ و الله أعلم ـ أنه عنى بها مثل أولئك المشركين المعاهدين و إلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك و كان الإفك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق و الهدنة كانت بعد ذلك بسنتين
و منهم من أجراها على ظاهرها و عمومها لأن سبب نزولها قذف عائشة و كان فيمن قذفها مؤمن و منافق و سبب النزول لابد أن يندرج في العموم و لأنه لا موجب لتخصيصها
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 56 ]
و الجواب على هذا التقدير أنه سبحانه قال هنا : { لعنوا في الدنيا ة الآخرة } [ النور : 23 ] على بناء الفعل للمفعول و لم يسم اللاعن و قال هناك : { لعنهم الله في الدنيا و الآخرة } [ الأحزاب : 57 ] و إذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة و الناس و جاز أن يلعنهم الله في وقت و يلعنهم بعض خلقه و جاز أت يتولى الله لعنه بعضهم و هو من كان قذفه طعنا في الدين و يتولى خلقه لعنه الآخرين و إذا كان اللاعن مخلوقا فلعنته قد تكون بمعنى الدعاء عليهم و قد تكون بمعنى أنهم يبعدون عن رحمة الله
و يؤيد هذا أن الرجل إذا قذف امرأته تلاعنا و قال الزوج في الخامسة : [ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ] فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبا في القذف أن يلعنه الله كما أمر الله رسوله أن يباهل من حاجة في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين فهذا مما يلعن به القاذف و مما يلعن به أن يجلد و أن ترد شهادته و يفسق فإنه عقوبة له و إقصاء له عن مواطن الأمن و القبول و هي من رحمة الله و هذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا و الآخرة فإن الله توجب زوال النصر عنه من كل وجه و بعده عن أسباب الرحمة في الدارين ز
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 57 ](1/50)
و مما يؤيد الفرق أنه قال هنا : { و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ] و لم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار كقوله تعالى : { الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل و يكتمون ما آتاهم الله من فضله و اعتدنا للكافرين عذابا مهينا } [ النساء : 37 ] و قوله : { فباؤا بغضب على غضب و للكافرين عذاب مهين } [ البقرة : 90 ] و قوله : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين } [ آل عمران : 178 ] و قوله : { و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين } [ الحج : 57 ] و قوله : { و إذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } [ الجاثية : 9 ] و قوله : { اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين } [ المجادلة : 16 ] و أما قوله تعالى : { و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين } [ النساء : 14 ] فهي و الله أعلم فيمن جحد الفرائض و استخف بها على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له
و أما العذاب العظيم فقد جاء وعيدا للمؤمنين في قوله : { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } [ الأنفال : 68 ] و قوله : { و لولا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا الآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } [ النور : 14 ] و في المحارب : { ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم } [ المائدة : 33 ] و في القاتل : { و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما } [ النساء : 93 ] و قوله : { و لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتنزل قدم بعد ثبوتها و تذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله و لكم عذاب عظيم } [ النحل : 94 ] و قد قال سبحانه : { و من يهن الله فما له من مكرم } [ الحج : 18 ] و ذلك لأن الإهانة إذلال و تحقير و خزي و ذلك قدر زائد على ألم العذاب فقد يعذب الرجل الكريم و لا يهان
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 58 ](1/51)
فلما قال في هذه الأية : { و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ] علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار و المنافقين و لما قال هنالك : { و لهم عذاب عظيم } [ البقرة : 7 ] جاز أن تكون من جنس العذاب في قوله : { لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } [ النور : 14 ]
و مما يبين الفرق أيضا أنه سبحانه و تعالى قال هنا : { و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ] و العذاب إنما أعد للكافرين فإن جهنم لهم خلقت لأنهم لا بد أن يدخلوها و ما هم منها بمخرجين و أهل الكبائر من الؤمنين يجوز أن لا يدخلوها إذا غفر الله لهم و إذا دخلوها فغنهم يخرجون منها و لو بعد حين
قال سبحانه : { و اتقوا النار التي أعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] فأمر سبحانه المؤمنين أن لا يأكلوا الربا و أن يتقوا الله و أن يتقوا النار التي أعدت للكافرين فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا و فعلوا المعاصي مع أنها معدة للكفار لا لهم و كذلك جاء في الحديث [ أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها و لا يحيون ] [ و أما أقوام لهم ذنوب يصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها ] و هذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء و الضراء و إن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم و يدخلها قوم بالشفاعة و قوم بالرحمة و ينشىء الله فضل منها خلقا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها و ذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه و يستحقه و لمن هو أولى الناس به ثم قد يدخل معه غيره بطريق التتبع أو لسبب آخر
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 59 ]
الدليل السادس : قوله سبحانه : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون } [ الحجرات : 2 ] أي : حذر أن تحبط أعمالكم أو خشية أن تحبط أعمالكم أو كراهة أن تحبط أو منع أن تحبط هذا تقدير البصريين و تقدير الكوفيين لئلا تحبط(1/52)
فوجه الدلالة أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته و عن الجهر له كجهر بعضهم لبعض لأن هذا الرفع و الجهر قد يفضي إلى حبوط العمل و صاحبه لا يشعر فإنه علل نهيهم عن الجهر و تركهم له بطلب سلامة العمل عن الحبوط و بين أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل و انعقاد سبب ذلك و ما يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب و العمل يحبط بالكفر قال سبحانه : { و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فألئك حبطت أعمالهم } [ البقرة : 217 ] و قال تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } [ المائدة : 5 ] و قال : { و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] و قال : { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] و قال : { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } [ محمد : 9 ] و قال : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } [ محمد : 28 ] كما أن الكفر إذا قارنه عمل لم يقبل لقوله تعالى : { إنما يتقبل الله من المتقين } [ المائدة : 27 ] و قوله : { الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } [ محمد : 1 ] و قوله : { و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله و برسوله } [ التوبة : 54 ] و هذا ظاهر و لا يحبط الأعمال غير الكفر لأن من مات على الإيمان فإنه لا بد أن يدخل الجنة و يخرج من النار إن دخلها و لو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط و لأن الأعمال غنما يحبطها ما ينافيها و لا ينافي الأعمال مطلقا إلا الكفر و هذا معروف من أصول أهل السنة نعم قد يبطل بعض الأعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى } [ البقرة : 264 ] و لهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر(1/53)
فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي و الجهر له بالقول يخاف منه أن يكفر صاحبه و هو لا يشعر و يحبط عمله بذلك و أنه مظنة لذلك و سبب فيه فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزيز و التوقير و التشريف و التعظيم و الإكرام و الإجلال و لما رفع الصوت قد يشتمل على أذى له و استخفاف به و إن لم يقصد الرافع ذلك فإذا كان الأذى و الاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفرا فالأذى و الاستخفاف المقصود المتعمد كفر بطريق الأولى
الدليل السابع على ذلك : قوله سبحانه : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [ النور : 63 ] أمر من خالف أمره أن يحذر الفتنة و الفتنة : الردة و الكفر قال سبحانه : { و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ البقرة : 193 ] و قال : { و الفتنة أكبر من القتل } [ البقرة : 217 ] و قال : { و لو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها } [ الأحزاب : 14 ] و قال : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } [ النحل : 110 ]
قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد : نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه و سلم في ثلاثة و ثلاثين موضعا ثم جعل يتلو : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } الآية [ النور : 63 ] و جعل يكررها و يقول : و ما الفتنة ؟ الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه و جعل يتلو هذه الآية : { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ](1/54)
و قال أبو طالب المشكاني و قيل له : إن قوما يدعون الحديث و يذهبون إلى رأي سفيان ـ فقال : [ أعجب لقوم سمعوا الحديث و عرفوا الإسناد و صحته يدعونه و يذهبون إلى رأي سفيان و غيره ! قال الله : { فاليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [ النور : 63 ] و تدري ما الفتنة ؟ الكفر قال الله تعالى : { و الفتنة أكبر من القتل } [ البقرة : 217 ] فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و تغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ] فإذا كان المخالف عن أمره قد حذر من الكفر و الشرك أو من العذاب الأليم دل على أنه قد يكون مفضيا إلى الكفر أو العذاب الأليم و معلوم أن إقضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن [ به ] من استخفاف بحق الأمر كما فعل إبليس فكيف لما هو أغلظ من ذلك كالسب و الانتقاص و نحوه ؟
و هذا باب واسع مع أنه بحمد الله مجمع عليه لكن إذا تعددت الدلالات تعاضدت على غلظ كفر الساب و عظم عقوبته و ظهر أن ترك الاحترام للرسول و سوء الأدب معه مما يخاف الكفر المحبط كان ذلك أبلغ فيما قصدنا له
و مما ينبغي أن يتفطن له أن لفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره و ضعف أثره من الشر و المكروه ذكره الخطابي و غيره و هو كما قال و استقراء موارده يدل على ذلك مثل قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] و قوله : { و يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } [ البقرة : 222 ]
و فبما يؤثر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ القر بؤس و الحر أذى ] و قيل لبعض النسوة العربيات : القر أشد أم الحر ؟ فقالت : من يجعل البؤس كالأذى ؟ و البؤس خلاف النعيم و هو ما يشقي البدن و يضره بخلاف الأذى فإنه لا يبلغ ذلك و لهذا قال : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } [ الأحزاب : 57 ](1/55)
و قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله : [ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ] و قال : [ ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له ولدا و شريكا و هو يعافيهم و يرزقهم ]
و قد قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله : [ يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ] و قال سبحانه في كتابه : { و لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا } [ آل عمران : 176 ] فبين أن الخلق لا يضرونه سبحانه بكفرهم و لكن يؤذونه تبارك و تعالى إذا سبوا مقلب الأمور و جعلوا له سبحانه ولدا أو شريكا و آذوا رسله و عباده المؤمنين ثم إن الأذى لا يضر المؤذي إذا تعلق بحق الرسول فقد رأيت عظم موقعه و بيانه أن صاحبه من أعظم الناس كفرا و أشدهم عقوبة فتبين بذلك أن قليل ما يؤذيه يكفر به صاحبه و يحل دمه
و لا يرد على هذا قوله تعالى : { لا تدخلوا بيوت النبي ـ إلى قوله ـ إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم } [ الأحزاب : 53 ] فإن المؤذي له هنا إطالتهم الجلوس في المنزل و استئناسهم للحديث لا أنهم آذوا النبي صلى الله عليه و سلم
و الفعل إذا آذى النبي من غير أن يعلم صاحبه أنه يؤذيه و لم يقصد صاحبه أذاه فإنه ينهى عنه و يكون معصية كرفع الصوت فوق صوته فأما إذا قصد أذاه و كان مما يؤذيه و صاحبه يعلم أنه يؤذيه و أقدم عليه مع استحضار هذا العلم فهذا الذي يوجب الكفر و حبوط العمل و الله سبحانه أعلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 63 ](1/56)
الدليل الثامن على ذلك : أن الله سبحانه قال : { و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما } [ الأحزاب : 53 ] فحرم على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده لأن ذلك يؤذيه و جعله عظيما عند الله تعظيما لحرمته و قد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس : [ لو قد توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوجت عائشة ] ثم إن من نكح أزواجه أو سراريه فإن عقوبته القتل جزاء له بما انتهك من حرمته فالشاتم له أولى
و الدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه [ عن زهير عن عفان عن حماد عن ثابت عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد النبي صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي : [ اذهب فاضرب عنقه ] ] فأتاه علي فإذا هو ركي يتبرد فقال له علي : اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر
فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه و سلم بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته و لم يأمر بإقامة حد الزنا لأن إقامة حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة بل إن كان محصنا رجم و إن كان غير محصن جلد و لا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر فلما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن علم أن قتله لما انتهكه من حرمته و لعله قد شهد عنده شاهدان أنهما رأياه يباشر هذه المرأة أو شهدا بنحو ذلك فأمر بقتله فلما تبين أنه كان مجبوبا علم أن المفسدة مأمونة منه أو أنه بعث عليا ليرى القصة فإن كان ما بلغه عنه حقا قتله و لهذا قال في هذه القصة او غيرها :
[ أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ](1/57)
و يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج قيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الأشعث و مات قبل أن يدخل بها و قبل أن تقدم عليه و قيل : إنه خيرها بين أن يضرب عليها الحجاب و تحرم على المؤمنين و بين أن يطلقها فتنكح من شاءت فاختارت النكاح قالوا : فلما مات النبي صلى الله عليه و سلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت فبلغ أبا بكر فقال : لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما فقال عمر : ما هي من أمهات المؤمنين و لا دخل بها و لا ضرب عليها الحجاب و قيل : إنها ارتدت فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم بارتدادها
فوجه الدلالة أن الصديق رضي الله عنه عزم على تحريقها و تحريق من تزوجها لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه فكف عنها لذلك فعلم أنهم كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله صلى الله عليه و سلم
و لا يقال : إن ذلك حد الزنا لأنها كانت محرمة عليه و من تزوج ذات محرم حد الزنا أو قتل لوجهين :
أحدهما : أن حد الزنا الرجم
الثاني : أن ذلك الحد يفتقر إلى ثبوت الوطء ببينة أو إقرار فلما أراد تحريق البيت مع جواز ألا يكون غشيها علم أن ذلك عقوبة ما انتهكه من حرمة رسول الله صلى الله عليه و سلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 65 ]
و أما السنة فأحاديث :
الحديث الأول : ما رواه الشعبي عن علي أن اليهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و تقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأظل رسول الله صلى الله عليه و سلم دمها
هكذا رواه أبو داود في سننه و ابن بطة في سننه(1/58)
و هو من جملة ما استدل به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله و قال : ثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي قال : [ كان رجل من المسلمين ـ أعني أعمى ـ يأوي إلى امرأة يهودية فكانت تطعمه و تحسن إليه فكانت لا تزال تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و تؤذيه فلما كان ليلة من الليالي خنقها فماتت فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فنشد الناس في أمرها فقام الأعمى فذكر أمرها فأطل النبي صلى الله عليه و سلم دمها
و هذا الحديث جيد فإن الشعبي رأى عليا و روى عنه حديث شراحة الهمدانية و كان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة و هو كوفي فقد ثبت لقاؤه فيكون الحديث متصلا ثم إن كان فيه إرسال لأن الشعبي يبعد سماعه من علي فهو حجة وفاقا لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل لا يعرفون له مرسلا إلا صحيحا ثم هو من أعلم الناس بحديث علي و أعلمهم بثقات أصحابه
و له شاهد حديث ابن عباس الذي يأتي : فإن القصة إما أن تكون واحدة أو يكون المعنى واحدا و قد عمل به عوام أهل العلم و جاء ما يوافقه عن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و مثل هذا المرسل لم يتردد الفقهاء في الاحتجاج به
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 66 ]
و هذا الحديث نص في جواز قتلها لأجل شتم النبي صلى الله عليه و سلم و دليل على قتل الرجل الذمي و قتل المسلم و المسلمة إذا سبا بطريق الأولى لأن هذه المرأة كانت موادعة مهادنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعة مطلقة و لم يضرب عليهم جزية و هذا مشروع عند أهل العلم بمنزلة المتواتر بينهم حتى قال الشافعي : [ لم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل المدينة وادع اليهود كافة على غير جزية ] و هو كما قال الشافعي
و ذلك أن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود و هم بنو قينقاع و بنو النضير و بنو قريظة(1/59)
و كان بنو قينقاع و النضير حلفاء الخزرج و كانت قريظة حلفاء الأوس فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم هادنهم و وادعهم مع إقراره لهم و لمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم و عهدهم الذي كانوا عليه حتى إنه عاهد اليهود على إذا حارب ثم نقض العهد بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة
قال محمد بن إسحاق يعني في أول ما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة [ و كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا بين المهاجرين و الأنصار وادع فيه يهود و عاهدهم و أقرهم على دينهم و أموالهم و اشترط عليهم و شرط لهم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 67 ]
قال ابن إسحاق : حدثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس بن شريق قال أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقرونا بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال كتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمدالنبي بين المسلمين و المؤمنين من قريش و يثرب و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم أنهم أمة واحدة دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى يفدون عانيهم بالمعروف و القسط بين المؤمنين و بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى و كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين ثم ذكر لبطون الأنصار بني الحارث و بني ساعدة و بني جشم و بني عمرو بن عوف و بني الأوس و بني النبيت مثل هذا الشرط(1/60)
ثم قال : و إن المؤمنين لا يتركون مفرحا منهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل و لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه إلى أن قال : و إن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم فإن المؤمنين بعضهم مولى بعض دون الناس و إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر و الأسوة غير مظلومين و لا متناصر [ ين ] عليهم و إن سلم المؤمنين واحدة إلى أن قال : و إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين و إن ليهود بني عوف ذمة من المؤمنين لليهود دينهم و للمسلمين دينهم مواليهم و أنفسهم إلا من ظلم و أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه و أهل بيته و إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف و إن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم و أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه و أهل بيته و إن لحقه بطن من ثعلبة مثله و إن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف و إن موالي ثعلبة كأنفسهم و إن بطانة يهود كأنفسهم ثم يقول فيها : و إن الجار كالنفس غير مضار و لا آثم و إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخشى فساده فإن مرده إلى الله و إلى محمد صلى الله عليه و سلم و إن يهود الأوس و مواليهم و أنفسهم على مثل ما في هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة و فيها أشياء أخر و هذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم
روى مسلم في صحيحه عن جابر قال : [ كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم على كل بطن عقوله ثم كتب أنه لا يحل أن يتوالى رجل مسلم بغير إذنه ]
و قد بين فيها أن كل من تبع المسلمين من اليهود فإنه له النصر و معنى الاتباع مسالمته و ترك محاربته لا الاتباع في الدين كما بينه في أثناء الصحيفة فكل من أقام بالمدينة و مخالفيها غير محارب من يهود دخل في هذا(1/61)
ثم بين أن ليهود كل بطن من الأنصار ذمة من المؤمنين و لم يكن بالمدينة أحد من اليهود إلا و له حلف إما مع الأوس أو مع بعض بطون الخزرج و كان بنو قينقاع ـ و هم المجاورون بالمدينة و هم رهط عبد الله بن سلام ـ حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط ابن أبي رهم البطن الذين بدىء بهم في هذه الصحيفة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 69 ]
قال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و حاربوا فيما بين بدر واحد فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزلوا على حكمه فقام عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ حين أمكنه الله منهم فقال : يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أرسلني ] و غضب حتى إن لوجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ظلالا و قال : [ ويحك أرسلني ] فقال : و الله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر و ثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر و الأسود تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني و الله لامرؤ أخشى الدوائر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هم لك ]
و أما النضير و قريظة فكانوا خارجا من المدينة و عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أشهر من أن يخفى على عالم
و هذه المقتولة ـ و الله أعلم ـ كانت من قينقاع لأن ظاهر القصة أنها كانت بالمدينة و سواء كانت منهم أو من غيرهم فإنها كانت ذمية لأنه لم يكن بالمدينة من اليهود إلا ذمي فإن اليهود كانوا ثلاثة أصناف و كلهم مهاهد(1/62)
و قال الواقدي : حدثني عبد الله بن جعفر عن الحارث بن الفضيل عن محمد بن كعب القرظي قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وادعته يهود كلها فكتب بينه و بينها كتابا و ألحق رسول الله صلى الله عليه و سلم كل قوم بحلفائهم و جعل بينه و بينهم أمانا و شرط عليهم شروطا فكان فيما شرط أن لا يظاهروا عليه عدوا فلما أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحاب بدر و قدم المدينة بغت يهود و قطعت ما كان بينها و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم من العهد فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم فجمهعم ثم قال : [ يا معشر يهود أسلموا فو الله إنكم لتعلمون أني رسول الله قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش ] فقالوا : يا محمد لا يغرنك من لقيت إنك لقيت أقواما أغمارا وإنا و الله أصحاب الحرب و لئن قاتلتنا لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 70 ]
ثم ذكر حصارهم و إجلاءهم إلى أذرعات و هم بنو قينقاع الذين كانوا بالمدينة
فقد ذكر ابن كعب مثل ما في الصحيفة و بين أنه عاهد جميع اليهود و هذا مما لا نعلم فيه ترددا بين أهل العلم بسيرة النبي صلى الله عليه و سلم و من تأمل الأحاديث المأثورة و السيرة كيف كانت معهم علم ذلك ضرورة
و إنما ذكرنا هذا لأن بعض المصنفين في الخلاف قال : [ يحتمل أن هذه المرأة ما كانت ذمية ]
و قائل هذا ممن ليس له بالسنة كثير علم و إنما يعلم منها في الغالب ما يعلمه العامة ثم إنه أبطل هذا الاحتمال فقال : [ لو لم تكن ذمية لم يكن للإهدار معنى فإذا نقل السب و الإهدار تعلق الجم بالزنا و القطع بالسرقة ] و هذا صحيح و ذلك أن في نفس الحديث ما يبين أنها كانت ذمية من وجهين :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 71 ](1/63)
أحدهما أنه قال : إن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه و سلم فخنقها رجل فأبطل دمها فرتب علي رضي الله عنه إبطال الدم على الشتم بحرف الفاء فعلم أنه هو الموجب لإبطال دمها لأن تعليق الحكم بالوصف المناسب بحرف الفاء يدل على العلية و إن كان ذلك في اللفظ الصحابي كما لو قال : [ زنا ماعز فرجم ] و نحو ذلك إذ لا فرق فيما يرويه الصحابي عن النبي صلى الله عليه و سلم من أمر و نهي و حكم و تعليل في الاحتجاج به أن يحكي لفظ النبي صلى الله عليه و سلم أو يحكى بلفظه معنى [ كلام ] النبي صلى الله عليه و سلم فإذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا أو نهانا عن كذا أو حكم بكذا أو فعل كذا لأجل كذا كان حجة لأنه لا يقدم على ذلك إلا بعد أن يعلم الذي يجوز له معه أن ينقله و تطرق الخطأ إلى مثل ذلك لا يلتفت إليه كتطرق النسيان و السهو في الرواية و هذا يقرر في موضعه
و مما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكر له أنها قتلت نشذ الناس في أمرها فلما ذكر له ذنبها أبطل دمها و هو صلى الله عليه و سلم إذا حكم بأمر عقب حكاية حكيت له دل ذلك على أن ذلك المحكي هو الموجب لذلك الحكم لأنه حكم حادث فلا بد له من سبب حادث و لا سبب إلا ما حكي له و هو مناسب فتجب الإضافة إليه
الوجه الثاني : أن نشد النبي صلى الله عليه و سلم الناس في أمرها ثم إبطال دليل دمها على أنها كانت معصومة و أن دمها كان قد انعقد سبب ضمانه و كان مضمونا لو لم يبطله النبي صلى الله عليه و سلم لأنها لو كانت حربية لم ينشد الناس فيها و لم يحتج أن يبطل دمها و يهدره لأن الإبطال و الإهدار لا يكون إلا لدم قد انعقد له سبب الضمان ألا ترى أنه لما رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه أنكر قتلها و نهى عن قتل النساء و لم يهدره فإنه إذا كان في نفسه باطلا هدرا و المسلمون يعلمون أن دم الحربية غير مضمون بل هو هدر لم يكن لإبطاله و إهداره وجه و هذا و لله الحمد ظاهر(1/64)
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عاهد المعاهدين اليهود عهدا بغير ضرب جزية عليهم ثم إنه أهدر دم يهودية من اليهود الذين ضربت عليهم الجزية و الزموا أحكام العلة لأجل ذلك أولى و أحرى و لو لم يكن قتلها جائزا ليبين للرجل قبح ما فعل فإنه قد قال صلى الله عليه و سلم : [ من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة ] و لأوجب ضمانها أو الكفارة [ كفارة قتل المعصوم ] فلما أهدر دمها علم أنه كان مباحا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 72 ]
الحديث الثاني : ما روى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و تقع فيه فينهاها فلا تنتهي و يزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه و سلم و تشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها و اتكأ عليها فقتلها فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فجمع الناس فقال : [ أنشد رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام ] قال : فقام الأعمى يتخطى الناس و هو يتدلدل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك و تقع فيك فأنهاها فلا تنتهي و أزجرها فلا تنزجر و لي منها ابنان مثل اللؤلؤتين و كانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك و تقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها و اتكأت عليه حتى قتلها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا اشهدوا أن دمها هدر ] رواه أبو داود النسائي(1/65)
و المغول ـ بالغين المعجمة ـ قال الخطابي : شبيه المشمل نصلة دقيق ماض و كذلك قال غيره : هو سيف رقيق له قفا يكون غمده كالسوط و المشمل : السيف القصير سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل أي يغطيه بثوبه و اشتقاق المغول من غاله الشيء و اغتياله إذا أخذه من حيث لم يدر و هذا الحديث مما استدل به الإمام أحمد و في رواية عبد الله قال : حدثنا روح حدثنا عثمان الشحام حدثنا عكرمة مولى ابن عباس أن رجلا أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه و سلم فقتلها فسأله عنها فقال : يل رسول الله إنها كانت تشتمك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا إن دم فلانة هدر ]
فهذه القصة يمكن أن تكون هي الأولى و يدل عليه كلام الإمام أحمد لأنه قيل له في رواية عبد الله : في قتل الذمي إذا سب أحاديث ؟ قال : نعم منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال : سمعها تشتم النبي صلى الله عليه و سلم ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين و يكون قد خنقها و بعج بطنها بالمغول : أو يكون كيفية القتل غير محفوظ في إحدى الروايتين
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 73 ]
و يؤيد ذلك أن وقوع قصتين مثل هذه لأعميين كل منهما كانت المرأة تحسن إليه و تكرر الشتم و كلاهما قتلها وحدة و كلاهما نشد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها الناس بعيد في العادة و على هذا التقدير فالمقتولة يهودية كما جاء مفسرا في تلك الرواية و هذا قول القاضي أبي يعلى و غيره استدلوا بهذا الحديث على قتل الذمي و نقضه العهد و جعلوا الحديثين حكاية واقعة واحدة(1/66)
و يمكن أن تكون هذه القصة غير تلك قال الخطابي : [ فيه بيان أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم يقتل و ذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه و سلم ارتداد عن الدين و هذا دليل على أنه أعتقد أنها مسلمة و ليس في الحديث دليل على ذلك بل الظاهر أنها كافرة و كان العهد لها بملك المسلم إياها فإن رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حكم أهل الذمة و هم أشد في ذلك من المعاهدين أو بتزوج المسلم بها فإن أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهل الذمة في العصمة لأن مثل هذا السب الدائم لا يفعله مسلم الإ عن ردة و اختيار دين غير الإسلام و لو كانت مرتدة منتقلة إلى غير الإسلام لم يقرها سيدها على ذلك أياما طويلة و لم يكتف بمجرد نهيها عن السب بل يطلب منها تجديد الإسلام لا سيما إن كان يطوها فإن وطء المرتدة لا يجوز و الأصل عدم تغير حالها و أنها كانت باقية على دينها و مع ذلك إن الرجل لم يقل كفرت و لا ارتدت و إنما ذكر مجرد السب و الشتم فعلم أنه لم يصدر منها قدر زائد على السب و الشتم من انتقال من دين أو نحو ذلك
و هذه المرأة إما أن تكون زوجة لهذا الرجل أو مملوكة له و على التقديرين فلو لم يكن قتلها حائزا لبين النبي صلى الله عليه و سلم له أن قتلها كان محرما و أن دمها كان معصوما و لأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم و الدية إن لم تكن مملوكة له فلما قال : [ اشهدوا أن دمها هدر ] ـ و الهدر الذي لا يضمن بقود و لا دية و لا كفارة ـ علم أنه كان مباحا مع كونها ذمية فعلم أن السب أباح دمها لا سيما و النبي صلى الله عليه و سلم إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قتلت لأجل السب فعلم أنه الموجب لذلك و القصة ظاهرة الدلالة في ذلك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 74 ]
الحديث الثالث : ما احتج به الشافعي : على أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم قتل و برئت منه الذمة و هو قصة كعب بن الأشرف اليهودي(1/67)
قال الخطابي : قال الشافعي : [ يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و تبرأ منه الذمة ] و احتج في ذلك بخبر ابن الأشرف و قال الشافعي في الأم : [ لم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم و لا قربه أحد من مشركي أهل الكتاب إلا يهود أهل المدينة و كانوا حلفاء الأنصار و لم تكن الأنصار أجمعت أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم إسلاما فوادعت يهود رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يخرج إلى شيء من عداوته بقول يظهر و لا فعل حتى كانت وقعة بدر فتكلم بعضها بعداوته و التحريض عليه فقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم ](1/68)
و القصة مشهورة مسفيضة و قد رواها عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فقام محمد بن مسلمة فقال : أنا يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم قال : فإذن لي أن أقول شيئا قال : قل قال : فأتاه و ذكره ما بينهم قال : إن هذا الرجل قد أراد الصدفة و عنانا فلما سمعه قال : و أيضا و الله لتملنه قال : إنا قد تبعناه الآن و نكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال : و قد أردت أن تسلفني سلفا قال : فما ترهنوني ؟ نساءكم قال : أنت أجمل العرب ؟ أنرهنك نساءنا ؟ قال : ترهنوني أولادكم قال : يسب ابن أحدنا فيقال : رهنت في و سقين من تمر و لمن نرهنك اللأمة يعني السلاح قال : نعم و واعده أن يأتيه بالحرب و أتى أبا عبس بن جبر و عباد بن بشر فجاؤا فدعوه ليلا فنزل إليهم قال سفيان : قال غير عمرو : قالت له امرأته : إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال : إنما هذا محمد و رضيعه أبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب قال محمد : إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال : فلما نزل نزل و هو متوشح قالوا : نجد منك ريح الطيب قال : نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال : أفتأذن لي أن أشم منه ؟ قال : نعم فشم ثم قال : أتأذن لي أن أدعو ؟ قال : فاستمكن منه ثم قال : دونكم فقتلوه متفق عليه
و روى ابن أبي أويس عن إبراهيم بن جعفر بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن كعب بن الأشرف عاهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا يعين عليه و لا يقاتله ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلنا لمعادة النبي صلى الله عليه و سلم فكان أول ما خزع خزع عنه قوله :
( أذاهب أنت لم تحلل بمرفثة ... و تارك أنت أم الفضل بالحرم ؟ )(1/69)
في أبيات يهجوه بها فعند ذلك ندب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قتله و هذا محفوظ عن أبي أويس رواه الخطابي و غيره و قال : قوله [ خزع ] معناه قطع عهده و في رواية غير الخطابي [ فخزع منه هجاؤه له بقتله ] و الخزع : القطع يقال : خزع فلان عن أصحابه يخزع خزعا أي انقطع و تخلف و منه سميت خزاعة لأنهم انخزعوا عن أصحابهم و أقاموا بمكة فعلى اللفظ الأول يكون التقدير أن قوله خزعة عن النبي صلى الله عليه و سلم أي أول غضاضة عنه بنقض العهد و على الثاني قيل : معناه قطع هجاء للنبي صلى الله عليه و سلم منه بمعنى أنه نقض عهده و ذمته و قيل : معناه خزع من النبي صلى الله عليه و سلم هجاء : أي نال منه و شعث منه و وضع منه
و ذكر أهل المغازي و التفسير مثل محمد بن إسحاق أن كعب بن الأشرف كان موادعا للنبي صلى الله عليه و سلم في جملة من وادعه من يهود المدينة و كان عربيا من بني طي و كانت أمه من بني النضير قالوا : فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه و ذهب إلى مكة و رثاهم لقريش و فضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } [ النساء : 51 ]
ثم رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها رسول الله صلى الله عليه و سلم و شبب بنساء المسلمين حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله و رسوله ؟ ] و ذكر قصة مبسوطة(1/70)
و قال الواقدي : حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان و معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك و إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر و ذكر القصة إلى قتله قال : ففزعت يهود و من معها من المشركين فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم حين أصبحوا فقالوا : قد طرق صاحبنا الليلة و هو سيد من ساداتنا قتل غيلة بلا جرم و لا حدث علمناه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] و دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أن يكتب بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم تحت العذق في دار رملة بنت الحارث فحذرت يهود و خافت و ذلت من يوم قتل ابن الأشرف
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 77 ]
و الاستدلال بقتل كعب بن الأشرف من وجهين :
أحدهما : أنه كان معاهدا مهادنا و هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي و السير و هم عندهم من العلم العام الذي يستغنى فيه عن نقل الخاصة
و مما لا ريب فيه عند أهل العلم ما قدمناه من أن النبي صلى الله عليه و سلم عاهد لما قدم المدينة جميع أصناف اليهود : بني قينقاع و النضير و قريظة ثم نقضت بنو قينقاع عهده فحاربهم ثم نقض عهده كعب بن الأشرف من بني النضير و أمرهم ظاهر في أنهم كانوا مصالحين للنبي صلى الله عليه و سلم و إنما نقضوا العهد لما خرج إليهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري و كان ذلك بعد مقتل كعب ابن الأشرف و قد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهدا للنبي صلى الله عليه و سلم ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم جعله ناقضا للعهد بهجائه و أذاه بلسانه خاصة(1/71)
و الدليل على أنه إنما نقض العهد بذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب ابن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فعلل ندب الناس له بأذاه و الأذى المطلق هو باللسان كما قال تعالى : { و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا } [ آل عمران : 186 ] و قال تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] و قال : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن } [ التوبة : 61 ] و قال : { لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } الآية [ الأحزاب : 69 ] و قال : { و لا مستأذنين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي } إلى قوله : { و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } الآية [ الأحزاب : 53 ] ثم ذكر الصلاة عليه و التسليم خبرا و أمرا و ذلك من أعمال اللسان ثم قال : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } إلى قوله : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات } [ الأحزاب : 58 ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه تبارك و تعالى : [ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر و أنا الدهر ] و هذا كثير
و قد تقدم أن الآذى اسم لقليل الشر و خفيف المكروه بخلاف الضرر فلذلك أطلق على القول لأنه لا يضر المؤذي في الحقيقة
و أيضا فإنه جعل مطلق أذى الله تعالى و رسوله موجبا لقتل رجل معاهد و معلوم أن سب الله و سب رسوله أذى لله و لرسوله و إذا رتب الوصف على الحكم بحرف الفاء دل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم و لا سيما إذا كان مناسبا و ذلك يدل على أن الله و رسوله علة لندب المسلمين إلى قتل من يفعل ذلك من المعاهدين و هذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله و رسوله و السب من أذى الله و رسوله باتفاق المسلمين بل هو أخص أنواع الأذى(1/72)
و أيضا فقد قدمنا في حديث جابر أن أول ما نقض به العهد قصيدته التي أنشأها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ عندما هجاه بهذه القصيدة ـ ندب إلى قتله و هذا وحده دليل على أنه إنما نقض العهد بالهجاء لا بذهابه إلى مكة
و ما ذكره الواقدي عن أشياخه يوضح ذلك و يؤيده و إن كان الواقدي لا يحتج به إذا انفرد لكن لا ريب في علمه بالمغازي و استعلام كثير من تفاصيلها من جهته و لم نذكر عنه إلا ما أسندناه عن غيره
فقوله : [ لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] نص في أنه إنما انتقض عهد ابن الأشرف بالهجاء و نحوه و أن من فعل هذا من المعاهدين فقد استحق السيف و حديث لجابر المسند من الطريقين يوافق هذا و عليه العمدة في الاحتجاج و أيضا فإنه لما ذهب إلى مكة و رجع إلى المدينة لم يندب النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين إلى قتله فلما بلغه عنه الهجاء ندبهم إلى قتله و الحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث فعلم أن ذلك الهجاء و الأذى الذي كان بعد قفوله من مكة موجب لنقض عهده و لقتله و إذا كان هذا في المهادن الذي لا يؤدي جزية فما الظن الذي يعطي الجزية و يلتزم أحكام الملة ؟
فإن قيل : إن ابن الأشرف كان قد أتى بغير السب و الهجاء(1/73)
فروى الإمام أحمد قال : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما قدم كعب ابن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا و نحن أهل الحجيج و أهل السدانة و أهل السقاية قال : أنتم خير قال : فنزلت فيهم : { إن شانئك هو الأبتر } [ الكوثر : 3 ] قال : و أنزلت فيه : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } إلى قوله { نصيرا } [ النساء : 52 ]
و قال : حدثنا عبد الرزاق قال : قال معمر : أخبرني أيوب عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه و سلم و أمرهم أن يغزوه و قال لهم إنا معكم فقالوا : إنكم أهل كتاب و هو صاحب كتاب و لا نأمن أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين و آمن بهما ففعل ثم قالوا له : أنحن أهدى أم محمد ؟ نحن نصل الرحم و نقري الضيف و نطوف بالبيت و ننحر الكوماء و نسقي اللبن على الماء و محمد قطع رحمه و خرج من بلده قال بل أنتم خير و أهدى قال : فنزلت فيهم : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } [ النساء : 51 ]
و قال : حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال : إن أهل مكة قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم عليهم : ديننا خير أم دين محمد ؟ قال : اعرضوا علي دينكم قالوا : نعمر بيت ربنا و ننحر الكوماء و نسقي الحاج الماء و نصل الرحم و نقري الضيف قال : دينكم خير من دين محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية(1/74)
قال موسى بن عقبة عن الزهري كان كعب بن الأشرف اليهودي ـ و هو أحد بني النضير أو هو فيهم ـ قد آذى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهجاء و ركب إلى قريش فقدم عليهم فاستعان بهم على رسول الله فقال أبو سفيان أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد و أصحابه ؟ و أينا أهدى في رأيك و أقرب إلى الحق فإنا نطعم الجزور الكوماء و نسقي اللبن على الماء و نطعم ما هبت الشمال قال ابن الأشرف : أنتم أهدى منهم سبيلا ثم خرج مقبلا حتى أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه و سلم معلنا بعداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم و بهجائه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لنا من ابن الأشرف ؟ قد استعلن بعداوتنا و هجائنا و قد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا و قد أخبرني الله بذلك ثم قدم على أخبث ما ينتظر قريشا أن تقدم فيقاتلنا معهم ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين ما أنزل فيه و إن كان لذلك و الله أعلم قال الله عز و جل : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله { سبيلا } [ النساء : 51 ] و آيات معها فيه و في قريش
و ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت ] فقال له محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله أقتله و ذكر القصة في قتله إلى آخرها ثم قال : فقتل الله ابن الأشرف بعداوته لله و رسوله و هجائه إياه و تأليبه عليه قريشا و إعلانه بذلك
و قال محمد بن إسحاق : كان من حديث كعب بن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر و قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة و عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى و قتل من قتل من المشركين(1/75)
كما حدثني عبد الله ابن المغيث بن أبي بردة الظفري و عبد الله بن أبي بكر و عاصم بن عمر بن قتادة و صالح بن أبي أمامة بن سهل كل واحد قد حدثني بعض حديثه قالوا : كان كعب بن الأشرف من طيء ثم أحد بني نبهان و كانت أمه من بني النضير فقال حين بلغه : أحق هذا الذي يروون أن محمدا قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان ؟ ـ يعني زيدا و عبد الله بن رواحة ـ فهؤلاء أشراف العرب و ملوك الناس و الله لئن كان محمد أصحاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة و نزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي و عنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية فأنزلته و أكرمته و جعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينشد الأشعار و يبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر و ذكر شعرا و ما رد عليه حسان و غيره ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ كما [ حدثني عبد الله بن أبي المغيث ـ : من لي بابن الأشرف ؟ ] فقال محمد بن مسلمة : أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله و ذكر القصة(1/76)
و قال الواقدي : حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان و معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك و إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله فكل قد حدثني منه بطائفة فكان الذي اجتمعوا لنا عليه قالوا : ابن الأشرف كان شاعرا و كان يهجو النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يحرض عليهم كفار قريش في شعره و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة و أهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الخلقة و الحصون و منهم حلفاء للحيين جميعا الأوس و الخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم و موادعتهم و كان الرجل يكون مسلما و أبوه مشركا فكان المشركون و اليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه أذى شديدا فأمر الله نبيه و المسلمين بالصبر على ذلك و العفو عنهم و فيهم أنزل : { و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] و فيهم أنزل الله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } الآية [ البقرة : 109 ] فلما أبى ابن الأشرف أن يمسك عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و إيذاء المسلمين و قد بلغ منهم فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين و أسر من أسر منهم و رأى الأسرى مقرنين كبت و ذل ثم قال لقومه : ويلكم ! و الله لبطن الأرض خير لكم اليوم هؤلاء سراة قد قتلوا و أسروا فما عندكم ؟ قالوا : عداوته ما حيينا قال : و ما أنتم و قد وطئ قومه و أصابهم ؟ و لكني أخرج إلى قريش فأخصها و أبكي قتلاها لعلهم ينتدبون فأخرج معهم فخرج حتى قدم مكة و وضع رحله عند أبي وداعة بن أبي صبرة السهمي و تحته عاتكة بنت أسد بن أبي العيص فجعل يرثي قريشا و ذكر ما رثاهم به من الشعر و ما أجابه به حسان فأخبره بنزول كعب على من نزل فقال حسان فذكر شعرا هجا به أهل البيت الذين(1/77)
نزل فيهم قال : فلما بلغها هجاؤه نبذت رحله و قالت : ما لنا و لهذا اليهودي ؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان ؟ فتحول فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حسان فقال : ابن الأشرف نزل على فلان فلا يزال يهجوهم حتى نبذ رحله فلما لم يجد مأوى قدم المدينة فلما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم قدوم ابن الأشرف قال : [ اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في اعلانه الشر و قوله الأشعار ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لي من ابن الأشرف فقد آذاني ؟ ] فقال محمد بن مسلمة : أنا به يا رسول الله و أنا أقتله قال : فافعل و ذكر الحديث
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 84 ]
فقد جمع لابن الأشرف ذنوب : أنه رثى قتلى قريش و خصهم على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم و واطأهم على ذلك و أعانهم على محاربته بإخباره أن دينهم خير من دينه ز هجا النبي صلى الله عليه و سلم و المؤمنين
قلنا : الجواب من وجوه :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة و قال ما قال هناك و إنما ندب إلى قتله لما قدم و هجاه كما جاء ذلك مفسرا في حديث جابر المتقدم بقوله : [ ثم قدم المدينة معلنا لعداوة النبي صلى الله عليه و سلم ] ثم أن أول ما قطع به العهد تلك الأبيات التي قالها بعد الرجوع و أن النبي صلى الله عليه و سلم حينئذ ندب إلى قتله
و كذلك في حديث موسى بن عقبة [ من لنا من ابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا و هجائنا ؟ ]
و يؤيد ذلك شيئان :(1/78)
أحدهما : أن سفيان بن عتبة روى عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال : [ جاء حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا : أنتم أهل الكتاب و أهل العلم فأخبرونا عنا و عن محمد فقالوا : ما أنتم و ما محمد ؟ فقالوا : نحن نصل الأرحام و ننحر الكوماء و نسقي الماء على اللبن و نفك العناة و نسقي الحجيج و محمد صنبور قطع أرحامنا و اتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : بل أنتم خير و أهدى سبيلا فأنزل الله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } لإلى قوله : { أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ]
و كذلك قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف و حيي ابن أخطب رجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا في الموسم فقال لهما المشركون : نحن أهدى أم محمد و أصحابه ؟ فإنا أهل السدانة و أهل السقاية و أهل الحرم فقالا : أنتم أهدى من محمد و أصحابه و هما يعلمان أنهما كاذبان إنما حملهما على ذلك حسد محمد و أصحابه فأنزل الله تعالى فيهم : { أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] فلما رجعا إلى قومهما : إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا و كذا قالا : صدق و الله ما حملنا على ذلك إلا حسده و بغضه(1/79)
و هذان مرسلان من وجهين مختلفين فيهما أن كلا الرجلين ذهبا إلى مكة و قالا ما قالا ثم إنهما قدما فندب النبي صلى الله عليه و سلم إلى قتل ابن الأشرف و أمسك عن ابن أخطب حتى نقض بنو النضير العهد فأجلاهم النبي صلى الله عليه و سلم فلحق بخيبر ثم جمع عليه الأحزاب فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم فعلم أن الأمر الذي أتياه بمكة لم يكن هو الموجب للندب إلى قتل ابن الأشرف و إنما هو ما اختص به ابن الأشرف من الهجاء و نحوه و إن كان ما فعله بمكة مؤيدا عاضدا لكن مجرد الأذى لله و رسوله موجب للندب إلى قتله كما نص عليه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] و كما بينه جابر في حديثه
الوجه الثاني : أن ابن أبي أويس قال : حدثني إبراهيم بن جعفر الحارثي عن أبيه عن جابر قال : لما كان من أمر النبي صلى الله عليه و سلم و بني قريظة [ كذا فيه : و أحسبه بني قينقاع ] اعتزل كعب بن الأشرف و لحق بمكة و كان منها : و قال : و لا أعين عليه و لا أقاتله فقيل له بمكة أديننا خير أم دين محمد و أصحابه ؟ قال : دينكم خير و أقدم من دين محمد و دين محمد حديث فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربته(1/80)
الجواب الثاني : أن جميع ما أتاه ابن الأشرف إنما هو أذى باللسان فإن مرثيته لقتلى المشركين و تحضيضه و سبه و هجاءه و طعنه في دين الإسلام و تفضيل دين الكفار عليه كله قول باللسان و لم يعمل عملا فيه محاربة و من نازعنا في سب النبي صلى الله عليه و سلم و نحوه فهو في تفضيل دين الكفار و حضهم باللسان على قتل المسلمين أشد منازعة لأن الذمي إذا تجسس لأهل الحرب و أخبرهم بعورات المسلمين و دعا الكفار إلى قتالهم انتقض عهده أيضا عندما ينتقض عهد الساب و من قال إن الساب لا ينتقض عهده فإنه يقول : [ لا ينتقض العهد بالتجسس للكفار و مطالعتهم بأخبار المسلمين ] بطريق الأولى عندهم و هو مذهب أبي حنيفة و الثوري و الشافعي على خلاف بين أصحابه و ابن الأشرف لم يوجد منه إلا الأذى باللسان فقط فهو حجة على من نازع في هذه المسائل
و نحن نقول : إن ذلك كله نقض للعهد
الجواب الثالث : أن تفضيل دين الكفار على دين المسلمين هو دون سب النبي صلى الله عليه و سلم بلا ريب فإن كون الشيء مفصولا أحسن حالا من كونه مسبوبا مشتوما فإن كان ذلك ناقضا للعهد فالسب بطريق الأولى و أما مرثيته للقتلى و حضهم على أخذ ثأرهم فأكثر ما فيه تهييج قريش على المحاربة و قريش كانوا قد أجمعوا على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم عقب بدر و أرصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الأشرف نعم مرثيته و تفضيله مما زادهم غيظا و محاربة لكن سبه للنبي صلى الله عليه و سلم و هجاؤه له و لدينه أيضا مما يهيجهم على المحاربة و يغريهم به فعلم أن الهجاء فيه من الفساد ما في غيره من الكلام و أبلغ فإذا كان غيره من الكلام نقضا فهو أن يكون نقضا أولى و لهذا قتل النبي صلى الله عليه و سلم جماعة من النسوة اللواتي كن يشتمنه و يهجونه مع عفوه عمن كانت تعين عليه و تحض على قتاله(1/81)
الجواب الرابع : أن ما ذكره حجة لنا من وجوه أخر و ذلك أنه قد اشتهر عند أهل العلم من وجوه كثيرة أن قوله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } [ النساء : 51 ] نزلت في كعب بن الأشرف بما قاله لقريش و قد أخبر الله سبحانه أنه لعنه و أن من لعنه فلن تجد له نصيرا و ذلك دليل على أنه لا عهد له لأنه لو كان له عهد لكان يجب نصره على المسلمين فعلم أن مثل هذا الكلام يوجب أنتقاض عهده و عدم ناصره فكيف بما هو أغلظ منه من شتم و سب ؟ و إنما لم يجعله النبي صلى الله عليه و سلم و الله أعلم بمجرد ذلك ناقضا للعهد لأنه لم يعلن بهذا الكلام و لم يجهر به و إنما أعلم الله به رسوله وحيا كما تقدم في الأحاديث و لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليأخذ أحدا من المسلمين و المعاهدين إلا بذنب ظاهر فلما رجع إلى المدينة و أعلن الهجاء و العداوة استحق أن يقتل لظهور اذاه و ثبوته عند الناس نعم من خيف منه الخيانة فإنه ينبذ إليه العهد أما إجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى يظهر المحاربة و يثبت عليه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 88 ]
فإن قيل : كعب بن الأشرف سب النبي صلى الله عليه و سلم بالهجاء و الشعر كلام موزون يحفظ و يروى و ينشد بالأصوات و الألحان و يشتهر بين الناس و ذلك له من التأثير في الأذى و الصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور و لذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر حسان أن يهجوهم و يقول : [ لهو أنكى فيهم من النبل ] فيؤثر هجاؤه فيهم أثرا عظيما يمتنعون به من أشياء لا يمتنعون عنها لو سبوا بكلام منثور أضعاف الشعر(1/82)
و أيضا فإن كعب بن الأشرف و أم الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي صلى الله عليه و سلم و أذاه و كثر و الشيء إذا كثر و استمر صار له حال اخرى ليست له إذا انفرد و قد حكيتم أن الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثل هذه الجريمة و إن لم يجيزوا قتل من لم يتكررمنه فإذا ما دل عليه الحديث يمكن المخالف أن يقول به
قلنا أولا : إن هذا يفيدنا أن السب في الجملة من الذمي مهدر لدمه ناقض لعهده و يبقى الكلام في الناقض للعهد : هل هو نوع خاص من السب ـ و هو ما كثر أو غلظ ـ أو مطلق السب ؟ هذا نظر آخر فما كان مثل هذا السب وجب أن يقال إنه مهدر لدم الذمي حتى لا يسوغ لأحد أن يخالف نص السنة فلو زعم زاعم أن شيئا من الكلام الذمي و أذاه لا يبيح دمه كان مخالفا للسنة الصحيحة الصريحة خلافا لا عذر فيه لأحد(1/83)
و قلنا ثانيا : لا ريب أن الجنس الموجب للعقوبة قد يتغلظ بعض أنواعه صفة أو قدرا أوصفة و قدرا فإنه ليس قتل واحد من الناس مثل قتل والد أو ولد عالم صالح و لا ظلم بعض الناس مثل ظلم يتيم فقير بين أبوين صالحين و ليست الجناية في الأوقات و الأماكن و الأحوال المشرفة كالحرم و الإحرام و الشهر الحرام كالجناية في غير ذلك و كذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الديات إذا تغلظ القتل بأحد هذه الأسباب و قال النبي صلى الله عليه و سلم ـ و قد قيل له : أي الذنب أعظم ؟ ـ قال : [ أن تجعل لله ندا و هو خلقك ] قيل له : ثم أي ؟ قال : [ أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ] قيل له : ثم أي ؟ قال : [ ثم أن تزاني حليلة جارك ] و لا شك أن من قطع الطريق مرات متعددة و سفك دماء خلق من المسلمين و كثر منه أخذ الأموال كان جرمه أعظم من جرم من لم يقطعه إلا مرة واحدة و لا ريب أن من أكثر من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو نظم القصائد في سبه فإن جرمه أغلظ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة بحيث أن تكون إقامة الحد عليه أوكد و الانتصار لرسول الله صلى الله عليه و سلم أوجب و 'ن المقل لو كان أهلا أن يعفى عنه لم يكن هذا أهلا لذلك
لكن هذا الحديث كغيره من الأحاديث يدل على أن جنس الأذى لله و رسوله و مطلق السب الظاهر مهدر لدم الذمي ناقض لعهده و إن كان بعض الأشخاص أغلظ جرما من بعض لتغلظ سبه نوعا أو قدرا و ذلك من وجوه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 90 ](1/84)
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فجعل علة الندب إلى قتله أنه آذى الله و رسوله و أذى الله و رسوله اسم مطلق ليس مقيدا بنوع و لا بقدر فيجب أن يكون أذى الله و رسوله علة للانتداب إلى قتل من فعل ذلك من ذمي و غيره و قليل السب و كثيره و منظومه و منثوره أذى بلا ريب فيتعلق به الحكم و هو أمر الله و رسوله بقتله و لو لم يرد هذا المعنى لقال : من لكعب فإنه قد بالغ في أذى الله تعالى و رسوله أو قد أكثر من أذى الله و رسوله أو قد داوم على أذى الله و رسوله و هو صلى الله عليه و سلم الذي أوتي جوامع الكلم و هو الذي لا ينطق عن الهوى و لم يخرج من بين شفتيه صلى الله عليه و سلم إلا حق في غضبه و رضاه و كذلك قوله في الحديث الأخر : [ إنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لا يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] و لم يقيده بالكثرة
الثاني : أنه آذاه بهجائه المنظوم و اليهودية بكلام منثور و كلاهما أهدر دمه فعلم أن النظم ليس له تأثير في أصل الحكم إذ لم يخص ذلك الناظم و الوصف إذا ثبت الحكم بدونه كان عديم التأثير فلا يجعل جزءا من العلة و لا يجوز أن يكون هذا من باب تعليل الحكم بعلتين لأن ذاك إنما يكون إذا لم تكن إحداهما مندرجة في الأخرى كالقتل و الزنا أما إذا اندرجت إحداهما في الأخرى فالوصف الأعم هو العلة و الأخص عديم التأثير
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 91 ](1/85)
الوجه الثالث : أن الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله و كثيره و غليظه و خفيفه في كونه مبيحا للدم سواء كان قولا أو فعلا كالردة و الزنا و المحاربة و نحو ذلك و هذا هو قياس الأصول فمن زعم أن من الأقوال أو الأفعال ما يبيح الدم إذا كثر و لا يبيحه مع القلة فقد خرج عن قياس الأصول و ليس له ذلك إلا بنص يكون أصلا بنفسه و لا نص يدل على إباحة القتل في الكثير دون القليل و ما ذهب إليه المنازع من جواز قتل من كثر منه القتل بالمثقل و الفاحشة في الدبر دون القبل إنما هو حكاية مذهب و الكلام في الجميع واحد
ثم إنه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رضخ رأس يهودي بين حجرين لأنه فعل ذلك بجارية من الأنصار فقد قتل من قتل بالمثقل قودا مع أنه لم يتكرر منه و قال في الذي يعمل عمل قوم لوط [ اقتلوا الفاعل و المفعول به ] و لم يعتبر التكرر و كذلك أصحابه من بعده قتلوا فاعل ذلك إما رجما أو حرقا أو غير ذلك مع عدم التكرر
و إذا كانت الأصول المنصوصة أو المجمع عليها مستوية في إباحة الدم بين المرة الواحدة و المرات المتعددة كان الفرق بينهما في إباحة الدم إثبات حكم بلا أصل و لا نظير له بل على خلاف الأصول الكلية و ذلك غير جائز
يوضح ذلك : أن ما ينقص الإمان من الأقوال يستوي فيه واحده و كثيره و إن لم يصرح بالكفر كما لو كفر بآية واحدة أو بفريضة ظاهرة أو بسب الرسول مرة واحدة فإنه كما [ لو ] صرح بتكذيب الرسول
و كذلك ما ينقض الإمان من الأقوال لو صرح به و قال : [ قد نقضت العهد و برئت من ذمتك ] انتقض عهده بذلك ويكرره فكذلك ما يستلزم ذلك من السب و الطعن في الدين و نحو ذلك لا يحتاج إلى تكرير(1/86)
الوجه الرابع : أنه إذا أكثر من هذه الأقوال و الأفعال فإما أن يقتل لأن جنسها مبيح للدم أو لأن المبيح قدر مخصوص فإن كان الأول فهو المطلوب و إن كان الثاني فما حد ذلك المقدار المبيح للدم ؟ و ليس لأحد أن يحد في ذلك حدا إلا بنص أو إجماع أو قياس عند من يرى القياس في المقدرات و الثلاثة منفية في مثل هذا فإنه ليس في الأصول قول أو فعل يبيح الدم منه عدد مخصوص فلا يبيحه أقل منه و لا ينتقض هذا بالإقرار في الزنا فإنه لا يثبت إلا بأربع مرات عند من يقول به أو القتل بالقسامة فإنه لا يثبت إلا بعد خمسين يمينا عند من يرى القود بها أو رجم الملاعنة فإنه لا يثبت إلا بعد أن يشهد الزوج أربع مرات عند من يرى أنها ترجم بشهادة الزوج إذا نكلت لأن المبيح للدم ليس هو الإقرار و لا الأيمان و إنما المبيح فعل الزنا أو فعل القتل و إنما الإقرار و الأيمان حجة و دليل على ثبوت ذلك و نحن لم ننازع في أن الحجج الشرعية لها نصب محدودة و إنما قلنا : إن نفس القول أو العمل المبيح للدم لا نصاب له في الشرع و إنما الحكم معلق بجنسه
الوجه الخامس : أن القتل عند كثرة هذه الأشياء إما أن يكون حدا يجب فعله أو تعزيرا يرجع إلى رأي الإمام فإن كان الأول فلا بد من تحديد موجبه و لا حد له إلا تعليقه بالجنس إذ القول بما سوى ذلك تحكم و إن كان الثاني فليس في الأصول تعزير بالقتل فلا يجوز إثباته إلا بدليل يخصه و العمومات الواردة في ذلك مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ]
تدل على ذلك أيضا(1/87)
الوجه الثاني من الاستدلال به : أن النفر الخمسة الذين من المسلمين : محمد بن مسلمة و أبا نائلة و عباد بن بشر و الحارث بن أوس و أبا عبس بن جبر قد أذن لهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يغتالوه و يخدعوه بكلام يظهرون به أنهم قد آمنوا و وافقوه ثم يقتلوه و من المعلوم أن من أظهر لكافر أمانا لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه و كلمه على ذلك صار مستأمنا قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما رواه عنه عمرو بن الحمق [ من أمن رجلا على دمه و ماله ثم قتله فأنا منه بريء و إن كان المقتول كافرا ] رواه الإمام أحمد و ابن ماجه
و عن سليمان بن صرد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أمنك الرجل على دمه فلا تقتله ] رواه ابن ماجه
و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن ] رواه أبو داود و غيره
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 94 ](1/88)
و قد زعم الخطابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان و نقض العهد قبل هذا و زعم مثل هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات و الإغارة عليهم في أوقات الغرة لكن يقال : هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمنا و أدنى أحواله أن تكون له شبهة أمان و مثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر فإن الأمان يعصم الحربي و يصير مستأمنا بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه و إنما قتلوه لأجل هجائه و أذاه لله و رسوله و من حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان و لا عهد كما لو آمن المسلم من وجب قتله لأجل قطع الطريق و محاربة الله و رسوله و السعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل أو آمن من وجب زناه أو آمن من وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام و نحو ذلك و لا يجوز له أن يعقد له عقد عهد سواء كان عقد هدنة أو عقد ذمة لأن قتله حد من الحدود و ليس قتله لمجرد كونه كافرا كما سيأتي و أما الإغارة و البيات فليس هناك قول و لا فعل صاروا به آمنين و لا اعتقدوا أنهم قد أومنوا بخلاف قصة كعب بن الأشرف فثبت أن أذى الله و رسوله بالهجاء و نحوه لا يحقن معه الدم بالأمان فإن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة و الهدنة المؤقتة بطريق الأولى فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر و يعقده كل مسلم و لا يشرط على المستأمن شيء من الشروط و الذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه و لا تعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة : من التزام الصغار و نحوه و قد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الأشرف فظن أن دم مثل هذا يعصم بذمة متقدمة أو بظاهر أمان و ذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء حتى ظن أن العهد لا ينتقض بذلك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 95 ](1/89)
روى ابن وهب : أخبرني سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سفيان ابن سعيد الثوري إن أبيه عن عباية قال : ذكر قتل ابن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين : كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة : يا معاوية أيغدر عندك رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لا تنكر ؟ و الله لا يظلني و إياك سقف بيت أبدا و لا يخلو لي دم هذا إلا قتله
و قال الواقدي : حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال : قال مروان بن الحكم و هو على المدينة و عنده ابن يامين النضري : كيف كان قتل ابن الأشرف ؟ قال ابن يامين : كان غدرا و محمد بن مسلمة جالس شيخ كبير فقال : [ يا مروان أيغدر رسول الله صلى الله عليه و سلم عندك ؟ و الله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله لا يؤويني و إياك سقف بيت إلا المسجد ] و أما أنت يا ابن يامين فلله علي إن أفلت و قدرت عليك و في يدي سيف إلا ضربت به رأسك فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر و إلا لم ينزل فبينا محمد في جنازة و ابن يامين في البقيع فرأى محمدا نعشا عليه جرائد يظنه لا يراه فعاجله فقام إليه الناس فقالوا : يا أبا عبد الرحمن ما تصنع ؟ نحن نكفيك فقام إليه فلم يزل يضربه جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه و رأسه حتى لم يترك به مصحا ثم أرسله و لا طباخ به ثم قال : و الله لو قدرت على السيف لضربتك به
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 96 ](1/90)
فإن قيل : [ فإذا كان هو و بنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق قال : [ حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن أبيها محيصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من ظفرتم به من رجال يهود فأقتلوه ] فوثب محصية ابن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم و يبايعهم فقتله و كان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم و كان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه و يقول : أي عدو الله قتله ؟ أما و الله لرب شحم في بطنك من ماله فو الله إن كان لأول إسلام حويصة فقال محيصة : فقلت له : و الله لقد أمرني بقتله من أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال حويصة : و الله إن دينا بلغ منك هذا لمعجب
و قال الواقدي بالأسانيد المتقدمة قالوا : فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ] فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم و لم ينطلقوا و خافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف و ذكر قتل ابن سنينة إلى أن قال : و فزعت يهود و من معها من المشركين و ساق القصة كما تقدم عنه
فإن هذا يدل على أنهم لم يكونوا موادعين و إلا لما أمر بقتل من صودف منهم و يدل هذا على أن العهد الذي كتبه النبي صلى الله عليه و سلم بينه و بين اليهود كان بعد قتل ابن الأشرف و حينئذ فلا يكون الأشرف معاهدا ](1/91)
قلنا : إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل من ظفر منهم لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم و قد تقدم أنه قال : ما عندكم ؟ يعني في النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : عداوته ما حيينا و كانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله و كان مما يهيجهم على المحاربة و إظهار نقض العهد انتصارهم للمقتول و ذبهم عنه و اما من قر مقيم على عهده المتقدم لأنه لم يظهر العداوة و لهذا لم يحاصرهم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك و أما هذا الكتاب فهو شيء ذكره الواقدي وحده
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 97 ]
و قد ذكر هو أيضا أن قتل ابن الأشرف في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث و أن غزوة بني قينقاع كانت قبل ذلك في شوال سنة اثنتين بعد بدر بنحو شهر
و ذكر [ أن الكتاب الذي وادع فيه النبي صلى الله عليه و سلم اليهود كلها كان لما قدم المدينة قبل بدر و على هذا فيكون هذا كتابا ثانيا خاصا لبني النضير تجدد فيه العهد الذي بينه و بينهم غير الكتاب الأول الذي كتبه بينه و بين جميع اليهود لأجل ما كانوا قد أرادوا من إظهار العداوة
و قد تقدم أن ابن الأشرف كان معاهدا و تقدم أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب الكتاب لما قدم المدينة في أوائل الأمر و القصة تدل على ذلك و إلا لما جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم و شكوا إليه قتل صاحبهم و لو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله و كلهم ذكر أن قتل ابن الأشرف كان بعد بدر و أن معاهدة النبي صلى الله عليه و سلم كانت قبل بدر كما ذكره الواقدي
قال ابن إسحاق : [ و كان فيما بين ذلك من غزو النبي صلى الله عليه وسلم أمر بني قينقاع ]
يعني فيما بين بدر و غزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الأولى و قد ذكر أن بني قينقاع هم أول من حارب و نقض العهد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 98 ](1/92)
الحديث الرابع : ما روي [ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سب نبيا قتل و من سب أصحابه جلد ] رواه أبو محمد الخلال و أبو القاسم الأزرجي و رواه أبو ذر الهروي و لفظه [ من سب نبيا فاقتلوه و من سب أصحابي فاجلدوه ]
و هذا الحديث قد رواه عبد العزيز بن الحسن بن زبالة قال : حدثنا عبد الله ابن موسى عن جعفر عن غلي بن موسى عن أبيه عن جده عن محمد بن علي ابن الحسين عن أبيه عن الحسين بن علي عن أبيه و في القلب منه حزازة فإن هذا الإسناد الشريف قد ركب عليه متون بكرة و المحدث به عن أهل البيت ضعيف فإن كان محفوظا فهو دليل على وجوب قتل من سب نبيا من الأنبياء و ظاهره يدل على أنه يقتل من غير استتابة و أن القتل حد له
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 99 ]
الحديث الخامس : ما روى عبد الله بن قدامة عن أبي برزة قال : أغلظ رجل لأبي بكر الصديق فقلت : أقتله ؟ فانتهرني و قال : ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه النسائي من حديث شعبة عن توبة العنبري عنه و في رواية لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه عن أبي برزة [ أن رجلا شتم أبا بكر فقلت : يا خليفة رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال : ويحك ـ أو ويلك ـ ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ](1/93)
و رواه أبو داود في سنه بإسناد صحيح عن عبد الله بن مطرف عن أبي برزة قال : [ كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه فقلت : ائذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه قال : فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي فقال : ما الذي قلت انفا ؟ قلت : ائذن لي أضرب عنقه قال : أكنت فاعلا لو أمرتك ؟ قلت : نعم قال : لا و الله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ] قال أبو داود في مسائله : سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث أبي بكر [ ما كنت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ] فقال : لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلا إلا بإحدى ثلاث ـ و في رواية : بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ [ كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان و قتل نفس بغير نفس و النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يقتل ]
و قد استذل به على جواز قتل ساب النبي صلى الله عليه و سلم جماعة من العلماء منهم أبو داود و إسماعيل بن إسحاق القاضي و أبو بكر عبد العزيز و القاضي أبو يعلى و غيرهم من العلماء و ذلك لأن أبا برزة لما رأى الرجل قد شتم أبا بكر و أغلظ له حتى تغيظ أبو بكر استأذنه في أن يقتله بذلك و أخبره أنه لو أمره لقتله فقال أبو بكر : [ ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه و سلم ]
فعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يقتل من سبه و من أغلظ له و أن له أن يأمر بقتل من لا يعلم الناس منه سببا يبيح دمه و على الناس أن يطيعوه في ذلك لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به و لا يأمر بمعصية الله قط بل من أطاعه فقد أطاع الله
فقد تضمن الحديث خصيصتين لرسول الله صلى الله عليه و سلم :
إحداهما : أنه يطاع في كل من أمر بقتله
و الثانية : أن له أن يقتل من شتمه و أغلظ له(1/94)
و هذا المعنى الثاني الذي كان له باق في حقه بعد موته فكل من شتمه أو أغلظ في حقه كان قتله جائزا بل ذلك بعد موته أوكد و أوكد لأن حرمته بعد موته أكمل و التساهل في عرضه بعد موته غير ممكن
و هذا الحديث يفيد أن سبه في الجملة يبيح القتل و يستدل بعمومه على قتل الكافر و المسلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 101 ]
الحديث السادس : قصة العصماء بنت مروان ما روى عن ابن عباس قال : هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه و سلم فقال [ من لي بها ؟ ] فقال رجل من قومها : أنا يا رسول الله فنهض فقتلها فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لا ينتطح فيها عنزان ]
و قد ذكر بعض أصحاب المغازي و غيرهم قصتها مبسوطة
قال الواقدي : حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه أن عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد كانت تحت يزيد بن يزيد بن حصن الخطمي و كانت تؤذي النبي صلى الله عليه و سلم و تعيب الإسلام و تحرض على النبي صلى الله عليه و سلم و قالت :
( فباست بني مالك و النبيت ... و عوف و باست بني الخزرج )
( أطعتم أتاوي من غيركم ... فلا من مراد و لا مذحج )
( ترجونه بعد قتل الرؤوس ... كما ترتجى مرق المنضج )(1/95)
و قال عمير بن عدي الخطمي حين بلغه قولها و تحريضها : اللهم إن لك علي نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لأقتلنها و رسول الله صلى الله عليه و سلم ببدر فلما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر جاء عمير بن عدي في الليل حتى دخل عليها في بيتها و حولها نفر من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها فحسها بيده فوجد الصبي ترضعه فنجاه عنها ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها ثم خرج حتى صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما انصرف النبي صلى الله عليه و سلم نظر إلى عمير فقال : أقتلت بنت مروان ؟ قال : نعم بأبي أنت يا رسول الله و خشي عمير أن يكون أفتات على رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتلها فقال : هل علي في ذلك شيء يا رسول الله ؟ قال : [ لا ينتطح فيها عنزان ] فإن أول ما سمعت هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عمير : فالتفت النبي صلى الله عليه و سلم إلى من حوله فقال : [ إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله و رسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي ] فقال عمر بن الخطاب : انظروا إلى هذا الأعمى الذي تسرى في طاعة الله فقال : [ لا تقل الأعمى و لكنه البصير ] فلما رجع عمير من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وجد بنيها في جماعة يدفنونها فأقبلوا إليه حين رأوه مقبلا من المدينة فقالوا : يا عمير أنت قتلتها ؟ فقال : نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون و الذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة و كان منهم رجال يستخفون بالإسلام خوفا من قومهم فقال حسان بن ثابت يمدح عمير بن عدي قال الواقدي : أنشدنا عبد الله بن الحارث :
( بني وائل و بني واقف ... و خطمة دون بني الخزرج )
( متى ما ادعت أختكم ويحها ... بعولتها و المنايا تجي )
( فهزت فتى ماجدا عرقه ... كريم المداخل و المخرج )(1/96)
( فضرجها من نجيع الدما ... قبيل الصباح و لم تخرج )
( فأورده الله برد الجنا ... ن جدلان في نعمة المولج )
قال عبد الله بن الحارث عن أبيه و كان قتلها بخمس ليال بقين من رمضان مرجع النبي صلى الله عليه و سلم من بدر
و روى هذه القصة أخصر من هذا أبو أحمد العسكري ثم قال : [ كانت هذه المرأة تهجو النبي صلى الله عليه و سلم و تؤذيه ]
و إنما خص النبي صلى الله عليه و سلم العنز لأن العنز تشام العنز ثم تفارقها و ليس كنطاح الكباش و غيرها
و ذكر هذه القصة مختصرة محمد بن سعد في الطبقات
و قال أبو عبيد في الأموال : و كذلك كانت قصة عصماء اليهودية إنما قتلت لشتمها النبي صلى الله عليه و سلم
و هذه المرأة ليست هي التي قتلها سيدها الأعمى و لا اليهودية التي قتلت لأن هذه المرأة من بني أمية بن زيد أحد بطون الأنصار و لها زوج من بني خطمة و لهذا ـ و الله أعلم ـ نسبت في حديث ابن عباس إلى بني خطمة و القاتل لها غير زوجها و كان لها بنون كبار و صغار نعم كان القاتل من قبيلة زوجها كما في الحديث
و قال محمد بن إسحاق : أقام مصعب بن عمير عند أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا و فيها رجال و نساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد و خطمة و وائل و واقف و تلك أوس الله و هم من الأوس بن حارثة و ذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت كان شاعرهم يسمعون منه و يعظمونه
فهذا الذي ذكره ابن إسحاق يصدق ما رواه الواقدي من تأخر ظهور الإسلام ببني خطمة و الشعر المأثور عن حسان يوافق ذلك(1/97)
و إنما سقنا القصة من رواية أهل المغازي ـ مع ما في الواقدي من الضعف ـ لشهرة هذه القصة عندهم مع أنه لا يختلف اثنان أن الواقدي من أعلم الناس بتفاصيل أمور المغازي و أخبرهم بأحوالها و قد كان الشافعي و أحمد و غيرهما يستفيدون علم ذلك من كتبه نعم هذا الباب يدخله خلط الروايات بعضها ببعض حتى يظهر أنه سمع مجموع القصة من شيوخه و إنما سمع من كل واحد بعضها و لم يميزه و يدخله أخذ ذلك من الحديث المرسل و المقطوع و ربما حدس الراوي بعض الأمور لقرائن استفادها من عدة جهات و يكثر من ذلك إكثار ينسب لأجله إلى المجازفة في الرواية و عدم الضبط فلم يمكن الاحتجاج بما ينفرد به فأما الاستشهاد بحديثه و الاعتضاد به فمما لا يمكن المنازعة فيه لا سيما في قصة تامة يخبر فيها باسم القاتل و المقتول و صورة الحال فإن الرجل و أمثاله أفضل ممن ارتفعوا في مثل هذا في كذب و وضع على أنا لم نثبت قتل الساب بمجرد هذا الحديث و إنما ذكرناه للتقوية و التوكيد و هذا مما يحصل ممن هو دون الواقدي
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 104 ]
و وجه الدلالة أن هذه المرأة لم تقتل إلا لمجرد أذى النبي صلى الله عليه و سلم و هجوه و هذا بين في قول ابن عباس : [ هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه و سلم فقال : من لي بها ] فعلم أنما ندب إليها لأجل هجوها و كذلك في الحديث الآخر [ فقال عمير حين بلغه قولها و تحريضها : اللهم إن لك علي نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لأقتلنها ] و في الحديث لما قال له قومه : [ أنت قتلتها ؟ ] فقال : [ نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون فو الذي نفسي بيده لو قلتم جميعا ما قالت لضربتكم بسيفي حتى أموت أو أقتلكم ] فهذه مقدمة(1/98)
و مقدمة أخرى أن شعرها ليس فيه تحريض على قتال النبي صلى الله عليه و سلم حتى يقال : التحريض على القتال قتال و إنما فيه نحريض على ترك دينه و ذم له و لمن اتبعه و أقصى غاية ذلك أن لا يدخل في الإسلام من لم يكن دخل أو أن يخرج عنه من دخل فيه و هذا شأن كل ساب
يبين ذلك أنها هجته بالمدينة و قد أسلم أكثر قبائلها و صار المسلم بها أعز من الكافر و معلوم أن الساب في مثل هذه الحال لا يقصد أن يقاتل الرسول و أصحابه و إنما يقصد إغاظتهم و أن لا يتابعوا
و أيضا فإنها لم تكن تطمع في التحريض على القتال فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن جميع قبائل الأوس و الخزرج لم يكن فيهم من يقاتل النبي صلى الله عليه و سلم بيد و لا لسان و لا كان أحد بالمدينة يتمكن من إظهار ذلك و إنما غاية الكافر أو المنافق منهم أن يثبط الناس عن أتباعه أو أن يعين على رجوعه من المدينة إلى مكة و نحو ذلك مما فيه تخذيل عنه و حض على الكفر به لا على قتاله على أن الهجاء إن كان من نوع القتال فيجب انتقاض العهد به و يقتل به الذمي فإنه إذا قاتل انتقض عهده لأن العهد اقتضى الكف عن القتال فإذا قاتل بيد أو لسان فقد فعل ما يناقض العهد و ليس بعد القتال غاية في نكث العهد
إذا تبين ذلك فمن المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه و سلم الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة أنه صلى عليه و سلم لما قدم المدينة لم يحارب أحدا من أهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصا بطون الأوس و الخزرج فإنه كان يسالمهم و يتألفهم بكل وجه ن و كان الناس إذ قدمها على طبقات : منهم المؤمن و هم الأكثرون و منهم الباقي على دينه و هو متروك لا يحارب و لا يحارب و هو و المؤمنون من قبيلته و حلفائهم أهل سلم لا أهل حرب حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي صلى الله عليه و سلم على حلفهم(1/99)
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و ليس فيها دار من دور الأنصار إلا فيها رهط من المسلمين إلا بني خطمة و بني واقف و بني وائل كانوا آخر الأنصار إسلاما و حول المدينة حلفاء الأنصار كانوا يستظهرون بهم في حربهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخلوا حلف حلفائهم للحرب التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين من عادى الإسلام
و كذلك قال الواقدي فيما رواه عن يزيد بن رومان و ابن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله في قصة كعب بن الأشرف قال : فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا : [ إن ابن الأشرف كان شاعرا و كان يهجو النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يحرض عليهم كفار قريش في شعره ] و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة و أهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الحلقة و الحصون و منهم حلفاء للحيين جميعا الأوس و الخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ حين قدم المدينة ـ استصلاحهم كلهم و موادعتهم و كان الرجل يكون مسلما و أبوه مشركا و المعلوم أن قبائل الأوس كانوا حلفاء بعضهم لبعض(1/100)
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أقرهم كانت هذه المرأة من المعاهدين و كان فيهم المظهر للإسلام المبطن لخلافه يقول بلسانه ما ليس في قلبه و كان الإسلام و الإيمان يفشو في بطون الأنصار بطنا بعد بطن حتى لم يبق فيهم مظهر للكفر بل صاروا إما مؤمنا أو منافقا و كان من لم يسلم منهم بمنزلة اليهود موادعا مهادنا أو هو أحسن حالا من اليهود لما يرجى فيه من العصبية لقومه و أن يهوى هواهم و لا يرى أن يخرج عن جماعتهم و كان النبي صلى الله عليه و سلم يعاملهم ـ من الكف عنهم و احتمال أذاهم ـ بأكثر مما يعامل به اليهود لما كان يرجوه منهم و يخاف من تغير قلوب من أظهر الإسلام من قبائلهم لو أوقع بهم و هو في ذلك متبع قوله تعالى : { لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين اشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ](1/101)
ثم إنه مع هذا ندب الناس إلى قتل المرأة التي هجته و قال فيمن قتلها : [ إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله و رسوله بالغيب فانظروا إلى هذا ] فثبت بذلك أن هجاءه و ذمه موجب للقتل غير الكفر و ثبت أن الساب يجب قتله و إن كان من الحلفاء و المعاهدين و يقتل في الحال التي يحقن فيها دم من ساواه في غير السب و لا سيما و لو لم تكن معاهدة فقتل المرأة لا يجوز إلا أن تقاتل لأنه صلى الله عليه و سلم رأى امرأة في بعض مغازيه مقتولة فقال : [ ما كانت هذه لتقتاتل ] و نهى عن قتل النساء و الصبيان ثم إنه أمر يقتل هذه المرأة و لم تقاتل بيدها فلو لم يكن السب موجبا للقتل لم يجز قتلها لأن قتل المرأة لمجرد الكفر لا يجوز و لا نعلم قتل المرأة الكافرة الممسكة عن القتال أبيح في وقت من الأوقات بل القرآن و ترتيب نزوله على أنه لم يبح قط لأن أول آية نزلت في القتال : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم } الآية [ الحج : 40 ] فأباح للمؤمنين القتال دفعا عن نفوسهم و عقوبة لمن أخرجهم من ديارهم و منعهم من توحيد الله و عبادته و ليس للنساء في ذلك حظ
ثم إنه كتب عليهم القتال مطلقا و فسره بقوله : { و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } الآية [ البقرة : 190 ] فمن ليس من أهل القتال لم يؤذن في قتاله و النساء لسن من أهل القتال فإذا كان قد أمر بقتل هذه المرأة فإما أن يقال [ هجاؤها قتال ] فهذا يفيدنا أن هجاء الذمي قتال فينقض العهد و يبيح الدم أو يقال [ ليس بقتال ] و هو الأظهر لما قدمناه من أنه لم يكن فيه تحريض على القتال و لا كان لها رأي في الحرب فيكون السب جناية مضرة بالمسلمين غير القتال موجبة للقتل بمنزلة قطع الطريق عليهم و نحو ذلك يفيد أن السب موجب للقتل بوجوه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 108 ](1/102)
أحدها : أنه لو لم يكن موجبا للقتل لما جاز قتل المرأة و إن كانت حربية لأن الحربية إذا لم تقاتل بيد و لا لسان لم يجز قتلها إلا بجناية موجة للقتل و هذا ما أحسب فيه مخالفا لا سيما عند من يرى قتالها بمنزلة قتال الصائل
الثاني : أن هذه السابة كانت من المعاهدين ممن هو أحسن حالا من غير المعاهدين في ذلك الوقت فلو لم يكن السب موجبا لدمها لما قتلت و لما جاز قتلها و لهذا خاف الذي قتلها أن تتولد فتنة حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ينتطح فيها عنزان ] مع أن انتطاحهما إنما هو كالتشام فبين صلى الله عليه و سلم أنه لا يتحرك لذلك قليل من الفتن و لا كثير رحمة من الله بالمؤمنين و نصرا لرسوله و دينه فلو لم يكن هناك ما يحذر معه قتل هذه لولا الهجاء لما خيف هذا
الثالث : أن الحديث مصرح بأنها إنما قتلت لأجل ما ذكرته من الهجاء و أن سائر قومها تركوا إذ لم يهجوا و أنهم لو هجوا لفعل بهم كما فعل بها فظهر بذلك أن الهجاء موجب بنفسه للقتل سواء كان الهاجي حربيا أو مسلما أو معاهدا حتى يجوز أن يقتل لأجله من لا يقتله بدونه و إن كان الحربي المقاتل يجوز قتله من وجه آخر و ذلك في المسلم ظاهر و أما في المعاهد فلأن الهجاء إذا أباح دم المرأة فهو كقتال أو أسوأ حالا من القتال(1/103)
الرابع : أن المسلمين كانوا ممنوعين قبل الهجرة و في أوائل الهجرة من الابتداء بالقتال و كان قتل الكفار حينئذ محرما و هو من قتل النفس بغير حق كما قال تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } إلى قوله { فلما كتب عليهم القتال } [ البقرة : 246 ] و لهذا أول ما أنزل من القرآن فيه نزل بالإباحة لقوله : { أذن للذين يقاتلون } و هذا من العلم العام بين أهل المعرفة بسيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يخفى على أحد منهم أنه صلى الل عليه و سلم كان قبل الهجرة و بعيدها ممنوعا عن الابتداء بالقتل و القتال و لهذا قال للأنصار الذين بايعوه ليلة العقبة لما استأذنوه في أن يميلوا على أهل منى [ إنه لم يؤذن لي في القتال ] و ذلك حينئذ بمنزلة الأنبياء الذين لم يؤمروا بالقتال كنوح و هود و صالح و إبراهيم و عيسى بل كأكثر الأنبياء غير أنبياء بني إسرائيل
ثم إنه لم يقاتل أحدا من أهل المدينة و لم يأمر بقتل أحد من رؤوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر و لا من غيرهم و الآيات التي نزلت إذ ذاك إنما تأمر بقتال الذين أخرجوهم و قاتلوهم و نحو ذلك و ظاهر هذا أنه لم يؤذن لهم إذ ذاك في ابتداء قتل الكافرين من أهل المدينة فإن دوام إمساكه عنهم يدل على استحبابه أو وجوبه و هو في الوجوب أظهر لما ذكرنا لأن الإمساك كان واجبا و المغير لحاله لم يشمل أهل المدينة فيبقى على الوجوب المتقدم مع فعله صلى الله عليه و سلم
قال موسى بن عقبة عن الزهري : كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم في عدوه قبل أن تنزل براءة يقاتل من قاتله و من كف يده و عاهده كف عنه قال الله تعالى : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } [ النساء : 90 ](1/104)
و كان القرآن ينسخ بعضه بعضا فإذا نزلت آية نسخت التي قبلها و عمل بالتي أنزلت و بلغت الأولى منتهى العمل بها و كان ما قد عمل بها قبل ذلك طاعة لله حتى نزلت براءة و إذ أمر بقتل هذه المرأة التي هجت و لم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين على أن السب موجب للقتل و إن كان هناك ما يمنع القتال لولا السب كالعهد و الأنوثة و منع قتل الكافر الممسك أو عدم إباحته
و هذا وجه حسن دقيق فإن الأصل أن دم الآدمي معصوم لا يقتل إلا بالحق و ليس القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع و لا أوقات الشريعة الواحدة كالقتل قودا فإنه مما لا تختلف فيه الشرائع و لا العقول و كان دم الكافرين في أول الإسلام معصوما بالعصمة الأصلية و بمنع الله المؤمنين من قتله و دماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قتله موسى و كدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا أو أحسن حالا من ذلك و قد عد موسى ذلك ذنبا في الدنيا و الآخرة مع أن قتله كان خطأ شبه عمد أو خطأ محضا و لم يكن عمدا محضا
فظاهر سيرة نبينا و ظاهر ما أذن له فيه أن حال أهل المدينة إذ ذاك ممن لم يسلم كانت كهذه الحال فإذا قتل المرأة التي هجت من هؤلاء و ليسوا عنده محاربين بحيث يجوز قتالهم مطلقا كان قتل امرأة التي تهجوه من أهل الذمة بهذه المثابة و أولى لأن هذه قد عاهدناها على أن لا تسب و على أن تكون صاغرة و تلك لم نعاهدها على شيء
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 110 ](1/105)
الحديث السابع : قصة أبي عفك اليهودي ذكرها أهل المغازي و السير قال الواقدي : حدثنا سعيد بن محمد عن عمارة بن غزية و حدثناه أبو مصعب إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت عن أشياخه قالا : إن شيخا من بني عمرو بن عوف يقال له أبو عفك ـ و كان شيخا كبيرا قد بلغ عشرين و مائة سنة حين قدم النبي صلى الله عليه و سلم كان يحرض على عداوة النبي صلى الله عليه و سلم و لم يدخل في الإسلام فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر ظفره الله بما ظفره فحسده و بغى فقال و ذكر قصيدة تتضمن هجو النبي صلى الله عليه و سلم و ذم من اتبعه أعظم ما فيها قوله :
( فسلبهم أمرهم راكب ... حراما حلالا لشتى معا )
قال سالم بن عمير : علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه فأمهل فطلب له غرة حتى كانت ليلة صائفة فنام أبو عفك بالفناء في الصيف في بني عمرو بن عوف فأقبل سالم بن عمير فوضع السيف على كبده حتى خش في الفراش و صاح عدو الله فثاب إليه أناس ممن هم على قوله فأدخلوه منزله و قبروه و قالوا : من قتله ؟ و الله لو نعلم من قتله لقتلناه
و به ذكر [ محمدبن سعد ] أنه كان يهوديا و قد ذكرنا أن يهود المدينة كلهم كانوا قد عاهدوا ثم إنه لما هجا و أظهر الذم قتل
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 111 ]
قال الواقدي عن ابن رقش : [ قتل أبو عفك في شوال على رأس عشرين شهرا ] و هذا قديم قبل ابن الأشرف و هذا فيه دلالة واضحة على أن المعاهد إذا أظهر السب ينقض عهده و يقتل غيلة لكن هو من رواية أهل المغازي و هو يصلح أن يكون مؤيدا مؤكدا بلا تردد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 112 ]
الحديث الثامن : حديث أنس بن زنيم الديلي و هو مشهور عند أهل السيرة ذكره ابن إسحاق و الواقدي و غيرهما(1/106)
قال الواقدي : حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير عن محجن بن وهب قال : كان آخر ما كان بين خزاعة و بين كنانة أن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعه غلام من خزاعة فوقع به فشجه فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم و ما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها
قال الواقدي : حدثني حزام بن هشام بن خالد الكعبي عن أبيه قال : و خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة يستنصرون رسول الله صلى الله عليه و سلم و يخبرونه بالذي أصابهم و ذكر قصة فيها إنشاد القصيدة التي أولها :
( لا هم إني ناشد محمدا )
قال : فلما فرغ الركب قالوا : يا رسول الله إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك فهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه فبلغ ذلك أنس بن زنيم الديلي فقدم معتذرا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مما بلغه عنه فقال : و ذكر قصيدة فيها مدح لرسول الله صلى الله عليه و سلم أولها :
( أنت الذي تهدى معد بأمره ... بل الله يهديها و قال لك : اشهد )
( فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر و أوفى ذمة من محمد )
( تعلم رسول الله أنك مدركي ... و أن وعيدا منك كالأخذ باليد )
( تعلم رسول الله أنك قادر ... على كل سكن من تهام و منجد )
( و نبي رسول الله أني هجوته ... فلا رفعت سوطي إلي إذا يدي )
( سوى أنني قد قلت : يا ويح فتية ... أصيبوا بنحس يوم طلق و أسعد )
و يقول فيها :
( فإني لا عرضا خرقت و لا دما ... هرقت ففكر عالم الحق و اقصد )(1/107)
قال الواقدي : أنشدنيها حزام و بلغت رسول الله صلى الله عليه و سلم قصيدته هذه و اعتذاره و كلمة نوفل بن معاوية الديلي فقال : يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو و من منا لم يعادك و لم يؤذك ؟ و نحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ و ما ندع حتى هدانا الله بك و أنقذنا بك من المهلك و قد كذب عليه الركب و أكثروا عندك فقال : دع الركب عنك فإنا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم قريب و لا بعيد كان أبر من خزاعة فأسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد عفوت عنه قال نوفل : فداك أبي و أمي
و قال ابن إسحاق : و قال أنس بن زنيم يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم حين قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم يستنصره و يذكر أنهم قد نالوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنشد تلك القصيدة و فيها :
( و تعلم أن الركب ركب عويمر ... هم الكاذبون المخلفو كل موعد )
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 114 ]
فوجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان قد صالح قريشا و هادنهم عام الحديبية عشر سنين و دخلت خزاعة في عقده و كان أكثرهم مسلمين و كانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه و سلم مسلمهم و كافرهم و دخلت بنو بكر في عهد قريش فصار هؤلاء كلهم معاهدين و هذا مما تواتر به النقل و لم يختلف فيه أهل العلم
ثم إن هذا الرجل المعاهد هجا النبي صلى الله عليه و سلم على ما قيل عنه فشجه بعض خزاعة ثم أخبروا النبي صلى الله عليه و سلم أنه هجاه يقصدون بذلك إغراءه ببني بكر فندر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه أي أهدره و لم يندر دم غيره فلولا أنهم علموا أن هجاء النبي صلى الله عليه و سلم من المعاهد مما يوجب الانتقام منه لم يفعلوا ذلك
ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم نذر دمه لذلك مع أن هجاءه كان حال العهد و هذا نص في أن المعاهد الهاجي يباح دمه(1/108)
ثم إنه لما قدم أسلم في شعره و لهذا عدوه من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و قوله [ تعلم رسول الله ] [ و نبي رسول الله ] دليل على أنه أسلم قبل ذلك أو هذا وحده إسلام منه فإن الوثني إذا قال : [ محمد رسول الله ] حكم بإسلامه و مع هذا فقد أنكر أن يكون هجا النبي صلى الله عليه و سلم و رد شهادة أولئك بأنهم أعداء له لما بين القبيلتين من الدماء و الحرب فلو لم يكن ما فعله مبيحا لدمه لما احتاج إلى شيء من ذلك
ثم إنه ـ بعد إسلامه و اعتذاره و تكذيب المخبرين و مدحه لرسول الله صلى الله عليه و سلم ـ إنما طلب العفو من النبي صلى الله عليه و سلم عن إهدار دمه و العفو إنما يكون مع جواز العقوبة على الذنب فعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يعاقبه بعد مجيئه مسلما معتذرا و إنما عفا عنه حلما كرما
ثم إن في الحديث أن نوفل بن معاوية هو الذي شفع له إلى النبي صلى الله عليه و سلم و قد ذكر عامة أهل السير أن نوفلا هذا هو رأس البكريين الذين عدوا على خزاعة و قتلوهم و أعانتهم قريش على ذلك و بسبب ذلك انتقض عهد قريش و بني بكر ثم إنه أسلم قبل الفتح حتى صار يشفع في الذي هجا النبي صلى الله عليه و سلم فعلم أن الهجاء أغلظ من نقض العهد بالقتال بحيث إذا نقض قوم العهد بالقتال و آخر هجا ثم أسلما عصم دم الذي قاتل و جاز الانتقام من الهاجي و لهذا قرن هذا الرجل خرق العرض بسفك الدم فعلم أن كليهما موجب للقتل و أن خرق عرضه كان أعظم عندهم من سفك دماء المسلمين و المعاهدين(1/109)
و مما يوضح هذا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يهدر دم أحد من بني بكر الناقضين للعهد بعينه و إنما مكن منهم بني خزاعة يوم الفتح أكثر النهار و أهدر دم هذا بعينه حتى أسلم و اعتذر هذا مع أن العهد كان عهد هدنة و موادعة و لم يكن عهد جزية و ذمة و المهادن المقيم ببلده يظهر ببلده ما شاء من منكرات الأقوال و الأفعال المتعلقة بدينه و دنياه و لا ينتقض بذلك عهده حتى يحارب فعلم أن الهجاء من جنس الحرب و أغلظ منه و أن الهاجي لا ذمة له
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 115 ]
الحديث التاسع : قصة ابن أبي سرح و هي مما اتفق عليه أهل العلم و استفاضت عندهم استفاضة تستغني عن رواية الآحاد كذلك و ذلك أثبت و أقوى مما رواه الواحد العدل فنذكرها مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها :
عن مصعب بن سعد عن سعيد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال : [ أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك قال : إنه لا ينبغي لنبي له خائنة الأعين ] رواه أبو داود باسناد صحيح
و رواه النسائي كذلك أبسط من هذا عن سعد قال : لما كان يوم فتح مكة آمن رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلا أربعة نفر و قال : اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة : عكرمة بن أبي جهل و عبد الله بن خطل و مقيس بن صبابة و عبد الله بن سعد بن أبي سرح
فأما عبد الله بن خطل فأدرك و هو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد ابن حريث و عمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا و كان أشب الرجلين فقتله و أما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه(1/110)
و أما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا فقال عكرمة : و الله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجني في البر غيره اللهم لك علي عهد إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده و لأجدنه عفوا كريما فجاء و أسلم
و أما عبد الله بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه و سلم ثم ذكر الباقي كما رواه أبو داود
و عن عبد الله بن عباس قال : كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأذله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود
و روى محمد بن سعد في الطبقات عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقتل ابن أبي سرح يوم الفتح و فرتنى و ابن الزبعرى و ابن خطل فأتاه أبو برزة و هو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه و كان رجل من الأنصار قد نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله فجاء عثمان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ فشفع له إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد أخذ الأنصاري بقائم السيف ينتظر النبي صلى الله عليه و سلم متى يومئ إليه أن يقتله فشفع له عثمان حتى تركه ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للأنصاري [ هلا وفيت بنذرك فقال يا رسول الله وضعت يدي على قائم السيف أنتظر متى توميء فأقتله فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ليس لنبي أن يومئ ](1/111)
و قال محمد بن إسحاق في رواية ابن بكير عنه : قال أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر و عبد الله بن أبي بكر بن حزم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ حين دخل مكة و فرق جيوشه ـ أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ اقتلوهم و إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة ] عبد الله ابن خطل و عبد الله بن أبي سرح [ ] و إنما أمر بابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي فرجع مشركا و لحق بمكة فكان يقول : إني لأصرفه كيف شئت إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له : أو كذا أو كذا فيقول : نعم و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول [ عليم حليم ] فيقول له : أو أكتب [ عزيز حكيم ] فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلاهما سواء ]
قال ابن إسحاق : حدثني شرحبيل بن سعد أن فيه نزلت : { و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله } [ الأنعام : 93 ] فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة فر إلى عثمان بن عفان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة فأتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأمن له فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم طويلا و هو واقف عليه ثم قال : [ نعم ] فانصرف به فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما صمت إلا رجاء أن يقوم إليه بعضكم فيقتله ] فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ألا أو مأت إلي فاقتله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن النبي لا يقتل بالإشارة ](1/112)
و قال ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه : حدثني بعض علمائنا أن ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال : و الله لو أشاء لقلت كما يقول محمد و جئت بمثل ما يأتي به إنه ليقول الشيء و أصرفه إلى الشيء فيقول : أصبت ففيه أنزل الله تعالى : { و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء } [ الأنعام : 93 ] فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله
و قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح قال : كان رسول الله عهد إلى أمرائه من المسلمين ـ حين أمرهم أن يدخلوا مكة ـ ألا يقاتلوا إلا أحدا قاتلهم إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم و إن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله ابن سعد بن أبي سرح و إنما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله لأنه كان أسلم و كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي فارتد مشركا راجعا إلى قريش فقال : و الله إني لأصرفه حيث أريد إنه ليملي علي فأقول أو كذا أو كذا فيقول : نعم و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يملي عليه فيقول [ عزيز حكيم ] أو [ حكيم عليم ] فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول : [ كل صواب ](1/113)
و روينا في مغازي معمر عن الزهري في قصة الفتح قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر أصحابه بالكف و قال : [ كفوا السلاح ] إلا خزاعة من بكر ساعة ثم أمرهم فكفوا فامن الناس كلهم إلا أربعة : ابن أبي سرح و ابن خطل و مقيس الكناني و امراة أخرى ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني لم أحرم مكة و لكن الله حرمها و إنها لم تحل لأحد بعدي إلى يوم القيامة و إنما أحلها الله لي ساعة من نهار ] قال : ثم جاء عثمان بن عفان بابن أبي سرح فقال : بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه من ناحية أخرى فقال : بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه أيضا فقال : بايعه يا رسول الله فمد يده فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد أغرضت عنه و إني لأظن بعضكم سيقتله ] فقال رجل من الأنصار : فهلا أومضت إلي يا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن النبي لا يومض ] فكأنه رآه غدرا
و في مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : و أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم و أمرهم بقتل أربعة منهم عبد الله ابن سعد بن أبي سرح و الحويرث بن نقيد و ابن خطل و مقيس بن صبابة أحد بني ليث و أمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : و يقال أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتل النفر و أن يقتل عبد الله بن أبي سرح و كان ارتد بعد الهجرة كافرا فاختبأ حتى اطمأن الناس ثم أقبل يريد أن يبايع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعرض عنه ليقوم رجل من أصحابه فيقتله فلم يقم إليه أحد و لم يشعروا بالذي في نفس رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أحدهم : لو أشرت إلي يا رسول الله ضربت عنقه فقال : [ إن النبي لا يفعل ذلك ] و يقال : أجاره عثمان بن عفان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ و قتلت إحدى القينتين و كمنت الأخرى حتى استؤمن لها(1/114)
و ذكر محمد بن عائذ في مغازيه هذه القصة مثل ذلك
و ذكر الواقدي عن أشياخه قالوا : و كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سميع عليم ] فيكتب [ عليم حكيم ] فيقرأه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول : كذاك قال الله و يقرأه فافتتن و قال : ما يدري محمد ما يقوله إني لأكتب له ماشئت هذا الذي كتبت يوحى إلى كما يوحى إلى محمد و خرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فأهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ فقال : يا أخي إني و الله أستجير بك فاحبسني هاهنا و اذهب إلى محمد فكلمه في فإن محمدا إن رأني ضرب الذي فيه عيناي إن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا فقال عثمان : بل اذهب معي قال عبد الله : و الله لئن رآني ليضربن عنقي و لا ينظرني فقد أهدر دمي و أصحابه يطلبونني في كل موضع فقال عثمان : انطلق معي فلا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا عثمان آخذا بيد عبد الله بن سعد بن أبي سرح و اقفين بين يديه فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أمه كانت تحملني و تمشيه و ترضعني و تفطمه و كانت تلطفني و تتركه فهبه لي فأعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم و جعل عثمان كلما أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام و إنما أعرض النبي صلى الله عليه و سلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه فلما رأى أن لا يقوم أحد و عثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل رأسه و هو يقول : يا رسول الله بايعه فداك أبي و أمي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ نعم ثم التفت إلى أصحابه فقال : ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله ] أو قال الفاسق فقال عباد بن بشر : ألا أومأت إلي(1/115)
يا رسول الله فو الذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى فأضرب عنقه و يقال : قال هذا أبو السير و يقال : عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني لا أقتل بالإشارة ]
و قائل يقول : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال يومئذ : [ إن النبي لا تكون له خائنة الأعين ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 121 ]
فبايعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يفر من رسول الله صلى الله عليه و سلم كلما رآه فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه و سلم : بأبي و أمي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ ألم أبايعه و أومنه ؟ ] قال : بلى أي رسول الله يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره فكان يأتي فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم مع الناس
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 122 ]
فوجه الدلالة أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يتمم له الوحي و يكتب له ما يريد فيوافقه عليه و أنه يصرفه حيث شاء و يغير ما أمره به من الوحي فيقره على ذلك و زعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه و سلم و على كتابه و الافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به و الردة في الدين و هو من أنواع السب
كذلك ما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية قصمه الله و عاقبه عقوبة خارجة عن العادة لكل أحد افترى إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بأن يقول القائل : كاتبه أعلم الناس بباطنه و بحقيقته أمره و قد أخبر عنه بما أخبر فمن نصر الله لرسوله أن أظهر فيه آية تبين بها أنه مفتر(1/116)
روى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : كان رجل نصراني فأسلم و قرأ البقرة و آل عمران و كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم فعاد نصرانيا فكان يقول : لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح و قد لفظته الأرض فقالوا : هذا فعل محمد و أصحابه نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا في الأرض ما استطاعوا فأصبح قد لفظته فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه
و رواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال : كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة و آل عمران و كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب قال : فرفعوه و قالوا : هذا كان يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا
فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه و سلم انه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله و فضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارا و هذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله و أنه كان كاذبا إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا و أن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون و لا يصيبهم مثل هذا و أن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه و سبه و مظهر لدينه و لكذب الكاذب إذ لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 123 ](1/117)
و نظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه و الخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون و المدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا : كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر و هو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس إذ تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الوقيعة في عرضه فعجلنا فتحه و تيسر و لم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة و يكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا : حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا بما قالوه فيه
و هكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك و من سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده و تارة بأيدي عباده المؤمنين
و كذلك لما تمكن النبي صلى الله عليه و سلم من ابن أبي سرح أهدر دمه لما طعن في النبوة و افترى عليه الكذب نمع أنه قد آمن جميع أهل مكة الذين قاتلوه و حاربوه أشد المحاربة و مع أن السنة في المرتد أنه لا يقتل حتى يستتاب إما وجوبا أو استحبابا
و سنذكر ـ إن شاء الله تعالى ـ أن جماعة ارتدوا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ثم دعوا إلى التوبة و عرضت عليهم حتى تابوا فقبلت توبتهم
و في ذلك دليل على أن جرم الطاعن على الرسول الله صلى الله عليه و سلم الساب له أعظم من جرم المرتد
ثم إن إباحة النبي صلى الله عليه و سلم دمه بعد مجيئه تائبا مسلما و قوله : [ هلا قتلتموه ] ثم عفوه عنه بعد ذلك ـ دليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يقتله و أن يعفو عنه و يعصم دمه و هو دليل على أن له صلى الله عليه و سلم أن يقتل من سبه و إن تاب و عاد إلي الإسلام
يوضح ذلك أشياء :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 124 ](1/118)
منها : أنه قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة و كذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه و سلم بها و قد تقدم عنه أنه قال لعثمان قبل أن يقدم به على النبي صلى الله عليه و سلم : إن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا و توبة المرتد إسلامه
ثم إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم بعد الفتح و هدوء الناس و بعد ما تاب فأراد النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين أن يقتلوه حينئذ و تربص زمانا ينتظر فيه قتله و يظن أن بعضهم سيقتله و هذا دليل واضح على جواز قتله بعد إسلامه
و كذلك لما قال له عثمان : إنه يفر منك كلما رآك قال : [ ألم أبايعه و أومنه ] قال : بلى و لكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال : [ الإسلام يجب ما قبله ] فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن خوف القتل سقط بالبيعة و الأمان و أن الإثم زال بالإسلام فعلم أن الساب إذا عاد إلى الإسلام وجب الإسلام إثم السب و بقي قتله جائزا حتى يوجد إسقاط القتل ممن يملكه إن كان ممكنا
و سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ذكر هذا في موضعه فإن غرضنا هنا أن نبين أن مجرد الطعن على رسول الله صلى الله عليه و سلم و الوقيعة فيه يوجب القتل في الحال التي لا يقتل فيها لمجرد الردة و إذا كان موجبا للقتل استوى فيه المسلم و الذمي و لأن كل ما يوجب القتل ـ سوى الردة ـ يستوي فيه المسلم و الذمي
و في كتمان الصحابة لابن أبي سرح و لإحدى القينتين دليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يوجب قتلهم و إنما أباحه مع جواز عفوه عنهم و في ذلك دليل على إنه كان مخيرا بين القتل و العفو و هذا يؤيد أن القتل كان لحق النبي صلى الله عليه و سلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 125 ]
و أعلم أن افتراء ابن أبي سرح و الكاتب الآخر النصراني على رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر(1/119)
و كذلك قوله : [ إني لأصرفه كيف شئت إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له أو كذا أو كذا فيقول نعم ] فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يكتبه إلا ما أنزله الله و لا يأمره أن يكتب قرآنا إلا ما أوحاه الله إليه و لا ينصرف له كيف شاء بل ينصرف كما يشاء الله
و كذلك قوله : [ إني لأكتب ما شئت هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد و إن محمدا إذا كان يتعلم مني فإني سأنزل مثل ما أنزل الله ] فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يكتبه ما شاء و لا كان يوحى إليه شيء
و كذلك قول النصراني : [ ما يدري محمد إلا ما كتبت له ] من هذا القبيل و على هذا الافتراء حاق به العذاب و استوجب العقاب
ثم اختلف أهل العلم : هل كان النبي صلى الله عليه و سلم أقره على أن يكتب شيئا غير ما ابتدأه النبي صلى الله عليه و سلم بإكتابه ؟ و هل قال له شيئا ؟ على قولين :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 126 ]
أحدهما : أن النصراني و ابن أبي سرح افتريا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك كله و أنه لم يصدر منه قول فيه إقرار على كتابه غير ما قاله أصلا و إنما لما زين لهما الشيطان الردة افتريا عليه لينفرا عنه الناس و يكون قبول ذلك منهما متوجها لأنهما فارقاه بعد خبرة و ذلك أنه لم يخبر أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول له : هذا الذي قتله ـ أو كتبته ـ صواب و إنما هو حال الردة أخبر أنه قال له ذلك و هو إذ ذاك كافر عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك(1/120)
يبين ذلك أن الذي في الصحيح أن النصراني يقول : [ ما يدري محمد إلا ما كتبت له ] نعم ربما كان هو يكتب غير ما يقوله النبي صلى الله عليه و سلم و يغيره و يزيده و ينقصه فظن أن عمدة النبي صلى الله عليه و سلم على كتابه مع ما فيه من التبديل و لم يدر أن كتاب الله آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم و أنه لا يغسله الماء و أن الله حافظ له و أن الله يقرئ نبيه فلا ينسى إلا ما شاء الله مما يريد رفعه و نسخ تلاوته و أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه و سلم بالقرآن كل عام و أن النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه آية اقرأها لعدد من المسلمين يتواتر نقل الآية بهم و أكثر من نقل هذه القصة من المفسرين ذكر أنه كان يملي عليه [ سميعا عليما ] فيكتب هو [ عليما حكيما ] و إذا قال : [ عليما حكيما ] كتب [ غفورا رحيما ] و أشباه ذلك و لم يذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له شيئا
قالوا : و إذا كان الرجل قد علم أنه من أهل الفرية و الكذب حتى أظهر الله على كذبه آية بينة و الروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن إلا أنه قال عن النبي صلى الله عليه و سلم ما قال أو أنه كتب ما شاء فقد علم أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل له شيئا
قالوا : و ما روى في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فهو منقطع أو معلل و لعل قائله قاله بناء على أن الكاتب هو الذي قال ذلك و مثل هذا يلتبس الأمر فيه حتى اشتبه ما قاله النبي صلى الله عليه و سلم و ما قيل إنه قال رد على هذا القول فلا سؤال(1/121)
القول الثاني : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له شيئا فروى الإمام أحمد و غيره من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا أملى عليه [ سميعاعليما ] يقول : كتبت [ سميعا بصيرا ] قال : دعه و إذا أملى عليه [ عليما حكيما ] كتب [ عليما حكيما ] قال حماد نحو ذا قال : و كان قد قرأ البقرة و آل عمران و كان من قرأهما فقد قرأ قرأنا كثيرا فذهب فتنصر و قال : لقد كنت أكتب لمحمد ما شئت فيقول : [ دعه ] فمات فدفن فنبذنه الأرض مرتين أو ثلاثا قال أبو طلحة : فلقد رأيته فوق الأرض رواه الأمام أحمد
وحدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقد قرأ البقرة و لآل عمران و كان الرجل إذا قرأ البقرة و آل عمران جد فينا يعني عظم فكان النبي صلى الله عليه و سلم يملي عليه [ غفورا رحيما ] فيكتب [ عليما حكيما ] فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم
: أكتب كذا و كذا اكتب كيف شئت و يملي عليه [ عليما حكيما ] فيكتب [ سميعا بصيرا ] فيقول : اكتب كيف شئت فأرتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين و قال : أنا أعلمكم بمحمد إن كنت لأكتب كيف شئت فمات ذلك الرجل فقال رسول صلى الله عليه و سلم [ إن الأرض لم تقبله ] قال أنس : فحدثني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا قال أبو طلحة : ما شأن هذا الرجل ؟ قالوا : [ قد دفناه مرارا فلم تقبله الأرض ] فهذا إسناد صحيح
وقد قال من ذهب إلى القول الأول : أعل البزار حديث ثابت عن انس قال : رواه عنه و لم يتابع عليه و رواه حميد عن أنس و أظن حميدا إنما سمعه من ثابت قالوا : ثم أن أنسا لم يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم أو شهده يقول ذلك و لعله حكى ما سمع(1/122)
و في هذا الكلام تكلف ظاهر و الذي ذكرناه في حديث أبن إسحاق و الواقدي و غيرهما موافق لظاهر هذه الرواية و كذلك ذكر طائفة من أهل التفسير و قد جاءت آثار فيها بيان صفة الحال على هذا القول ففي حديث ابن إسحاق و ذلك أن الرسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ عليم حكيم ] فيقول : [ أو أكتب عزيز حكيم ] فيقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعم كلاهما سواء ] و في الرواية الأخرى : و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يملي عليه فيقول [ عزيز حكيم أو حكيم عليم ] فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول : [ كل صواب ]
ففي هذا بيان لأن كلا الحرفين كان قد نزل و أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأهما و يقول له : [ أكتب كيف شئت من هذين الحرفين فكل صواب ] و قد جاء مصرحا عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال : [ أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف إن قلت عزيز حكيم أو غفور رحيم فهو كذلك ما لم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة ] و في حرف جماعة من الصحابة { إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم } و الأحاديث في ذلك منتشرة تدل على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن يختم الآية الواحدة بعدة أسماء من أسماء الله على سبيل البدل يخير القاريء في القراءة بأنها شاء و كان النبي صلى الله عليه و سلم يخيره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف وربما قرأها النبي صلى الله عليه و سلم بحرف من الحروف فيقول له : [ أو أكتب كذا و كذا ] لكثرة ما سمع النبي صلى الله عليه و سلم(1/123)
يخير بين الحرفين فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : [ كلاهما سواء ] لأن الآية نزلت بالحرفين وربما كتب هو أحد الحرفين ثم قرأه على النبي صلى الله عليه و سلم فأقره عليه لأنه قد نزل كذلك أيضا و ختم الآي بمثل [ سميع عليم ] و [ عليم حليم ] و [ غفور رحيم ] أو بمثل [ سميع بصير ] أو [ عليم حليم ] أو [ حكيم حليم ] كثير في القرآن و كان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمرا معتادا ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل رمضان و كانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به اليوم وهو الذي جمع عثمان و الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عليه الناس و لهذا ذكر ابن عباس هذه القصة في الناسخ و المنسوخ و كذلك ذكرها الإمام أحمد في كتابه في [ الناسخ و المنسوخ ] لتضمنها نسخ بعض الحروف
وروى فيها وجه آخر رواه الإمام أحمد في [ الناسخ و المنسوخ ] : حدثنا مسكين بن بكير ثنا معان قال : و سمعت خلفا يقول : كان ابن أبي سرح كتب للنبي صلى الله عليه و سلم القرآن فكان ربما سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن خواتم الآي [ يعمون ] و [ يفعلون ] و نحو ذا فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : [ أكتب أي ذلك شئت ] قال : فيوقفه الله للصواب من ذلك فأتى أهل مكة مرتدا فقالوا : يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن ؟ قال : أكتبه كيف شئت قال : فأنزل الله في ذلك { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء } [ الأنعام : 93 ] الآية كلها
قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة : [ من أخذ ابن أبي سرح فليضرب عنقه حيثما و جده و إن كان متعلقا بأستار الكعبة ](1/124)
ففي هذا الأثر أنه كان يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن حرفين جائزين فيقول له : [ أكتب أي ذلك شئت ] فيوقفه الله للصواب فيكتب أحب الحرفين إلى الله و كان كلاها منزلا أو يكتب ما أنزله الله فقط إن لم يكن الآخر منزلا و كان هذا التخيير من النبي صلى الله علي و سلم إما توسعة إن كان الله قد أنزلهما أو ثقة بحفظ الله و علما منه بأنه لا يكتب إلا ما أنزل و ليس هذا ينكر في كتاب تولى الله حفظه و ضمن أنه لا يأته الباطل من بين يديه و لا من خلفه
و ذكر بعضهم وجها ثالثا وهو أنه ربما كان يسمع النبي صلى الله عليه و سلم بمكة الآية حتى لم يبق منها إلا كلمة أو كلمتان فيستدل بما قرأ منها على باقيها كما يفعله الفطن الذكي فيكتبه ثم يقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : [ كذلك أنزلت ] كما اتفق مثل ذلك لعمر في قوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ]
وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثل هذا في هذه القصة و إن كان هذا الإسناد ليس بثقة قال : عن ابن أبي سرح أنه كان تكلم بالإسلام و كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض الأحايين فإذا أملى عليه [ عزيز حكيم ] كتب [ غفور رحيم ] فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا أو ذاك سواء ] فلما نزلت : { و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله : { خلقا آخر } عجب عبد الله بن سعد فقال : تبارك الله أحسن الخالقين [ المؤمنون : 14 ] فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كذا أنزلت علي فاكتبها ] فشك حينئذ و قال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلى كما أوحى إليه و لئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فنزلت هذه الآية [ الأنعام : 93 ]
و مما ضعفت به هذه الرواية أن المشهور أن الذي تكلم بهذا عمر بن الخطاب(1/125)
و من الناس من قال قولا آخر قال الذي ثبت في رواية أنس أنه كان يعرض على النبي صلى الله عليه و سلم ما كتبه بعد ما كتبه فيملي عليه [ سميعا عليما ] فيقول : قد كتبت [ سميعا بصيرا ] فيقول : [ دعه ] أو [ أكتب كيف شئت ] و كذلك في حديث الواقدي أنه كان يقول : [ كذالك أنزل الله ] و يقره
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 131 ]
قالوا : و كان النبي صلى الله عليه و سلم به حاجة إلى من يكتب لقلة الكتاب في الصحابة و عدم حضور الكتاب منهم في وقت الحاجة إليهم فإن العرب كان الغالب عليهم الأمية حتى إن كان الحي العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد و كان أحدهم إذا أراد كتابة أو شقة وجد مشقة حتى يحصل له كاتب فإذا اتفق للنبي صلى الله عليه و سلم من يكتب له انتهز الفرصة في كتابته فإذا زاد الكاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يمليه و لا يأمره بتغيير ذلك خوفا من ضجره و أن يقطع الكتابة قبل إتمامها ثقة منه صلى الله عليه و سلم بأن تلك الكلمة أو الكلمتين تستدرك فيما بعد بالإلقاء إلى من يتلقنها منه أو بكتابها تعويلا على المحفوظ عنده و في قلبه كما قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر و ما يخفى } [ الأعلى : 7 ]
و الأشبه و الله أعلم هو الوجه الأول و أن هذا كان فيما أنزل القرآن فيه على حروف عدة فإن القول المرضي عند علماء السلف الذي يدل عليه عامة الآحاديث و القراءات الصحابة أن المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو أحد الحروف السبعة و هو العرضة الآخرة و أن الحروف السبعة خارجة عن هذا المصحف و أن الحروف السبعة كانت تختلف الكلمة مع أن المعنى غير مختلف و لا متضاد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 132 ](1/126)
الحديث العاشر : حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه و سلم و مولاة بني هاشم و ذلك مشهور مستفيض عند أهل السير و قد تقدم في حديث سعيد بن المسيب أنه صلى الله عليه و سلم [ أمر بقتل فرتنى ]
و قال موسى بن عقبة في مغازيه [ عن الزهري : و أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم و أمر بقتل أربعة نفر قال : أمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : و قتلت إحدى القينتين و كمنت الأخرى حتى استؤمن لها ]
و كذلك ذكر محمد بن عائذ القرشي في مغازيه و قال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد بن عمار ابن ياسر و عبد الله بن أبي بكر بن حزم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل مكة و فرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ اقتلوهم و إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة : عبد الله بن الخطل ] ثم قال : و إنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم مصدقا و بعث معه رجلا من الأنصار و كان معه مولى له يخدمه و كان مسلما فنزل منزلا و أمر المولى يذبح له تيسا و يصنع له طعاما فنام و استيقظ و لم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا و كانت له فينة صاحبتها قينة كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه و سلم فأمر بقتلهام معه قال : و مقيس بن صبابة الأنصاري الذي قتل أخاه و سارة مولاة لبي عبد المطلب و كانت ممن يؤذيه بمكة
و قال الأموي : حدثني أبي قال : و قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد إلى المسلمين في قتل نفر و نسوة و قال [ إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة فاقتلوهم ] و سماهم بأسمائهم ستة : ابن أبي سرح و ابن خطل و الحويرث بن نفيذ و مقيس بن صبابة و رجل من بني تيم بن غالب(1/127)
قال ابن إسحاق : و حدثني أبو عبيدة بن محمند بن عمار بن ياسر أنهم كانوا ستة فكتم اسم رجلين و أخبرني بأربعة قال : و النسوة قينتا ابن خطل و سارة مولاة لبني عبد المطلب ثم قال : و القينتان كانتا تغنيان بهجائه و سارة مولاة أبي لهب كانت تؤذيه بلسانها
و قال الواقدي عن أشياخه : و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القتال و أمر بقتل ستة نفر و أربع نسوة ثم عددهم و قال : ابن خطل و سارة مولاة عمرو بن هاشم و قينتين لابن خطل : فرتني و قريبة و يقال : فرتني و أرنب(1/128)
ثم قال : و كان جرم ابن خطل أنه أسلم و هاجر إلى المدينة و بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم ساعيا و بعث معه رجلا من خزاعة و كان يصنع طعامه و يخدمه فنزل في جمع فأمره أن يصنع له طعاما و نام نصف النهار فاستيقظ و الخزاعي نائم و لم يصنع له فاغتاظ عليه فضربه فلم يقلع عنه حتى قتله فلما قتله قال : و الله ليقتلني محمد به إن جئته فارتد عن الإسلام و ساق ما أخذ من الصدقة و هرب إلى مكة فقال له أهل مكة : ما ردك إلينا ؟ قال : لم أجد ديمنا خيرا من دينكم فأقام على شركه فكانت له قينتان و كانتا فاسقتين و كان يقول الشعر يهجو رسول الله صلى الله عليه و سلم و يأمرهما تغنيان به فيدخل عليه و على قنيتيه المشركون فيشربون الخمر و تغني القينتان بذلك الهجاء و كانت سارة مولاة عمرو بن هاشم نواحة بمكة فيلقي عليها هجاء النبي صلى الله عليه و سلم فتغنى به و كانت قد قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم تطلب أن يصلها و شكت الحاجة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما كان لك في غنائك و نياحتك ما يكفيك ؟ ] فقالت : يا محمد إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء فوصلها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش و هي على دينها فأمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح أن تقتل فقتلت يومئذ و أما القينتان فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتلهما فقتلت إحداهما أرنب أو قريبة و أما فرتنى فاستؤمن لها حتى آمنت و عاشت حتى كسر ضلع من أضلاعها زمن عثمان رضي الله عنه فماتت فقضى فيه عثمان رضي الله عنه ثمانية آلاف درهم ديتها و ألفين تغليظا للحرم
و حدثت القينتين مما اتفق عليه علماء السير و استفاض نقله استفاضة يستغنى بها عن رواية الواحد و حديث مولاة بني هاشم ذكره عامة أهل المغازي و من له مزيد خبره و اطلاع و بعضهم لم يذكره
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 134 ](1/129)
فوجه الدلالة أن تعمد قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع و قد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم :
ففي الصحيحين عن ابن عمر قال : و جدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء و الصبيان
و في حديث آخر أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه فأنكر قتلها و قال : [ ما كانت هذه لتقاتل ] ثم قال لأحدهم : [ الحق خالدا فقل له لا تقتل ذرية و لا عسيفا ] رواه أبو داود و غيره
و قد روى الإمام أحمد في المسند [ عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر و نهى عن قتل النساء و الصبيان و هذا مشهور عند أهل السير ]
و في الحديث من رواية الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك : ثم صعدوا إليه في علية فقرعوا عليه الباب فخرجت امرأته فقالت : من أنتم ؟ فقالوا : حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فقالت : ذاك الرجل عندكم في البيت فغلقنا علينا و عليها باب الحجرة و نوهت بنا فصاحت و قد نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بعثنا عن قتل النساء و الوالدان فجعل الرجل منا يحمل عليها السيف ثم يذكر نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء فيمسك يده فلولا ذلك فرغنا مناه بليل و ذكر الحديث و كذلك روى يونس بن بكيرعن عبد الله بن كعب بن مالك قال : حدثني عبد الله بن أنيس قال في الحديث : فقامت ففتحت فقلت لعبد الله بن عتيك : دونك فشهر عليها السيف فذهبت امرأته فشهرت عليها السيف و أذكر قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ناهنا عن قتل النساء و الصبيان فأكف
و كذلك رواه غير واحد عن ابن أنيس قال : فصاحت امرأته فهم بعضنا أن نخرج إليها ثم ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهانا عن قتل النساء
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 136 ](1/130)
و هذه القصة كانت قبل فتح مكة بل قبل فتح خيبر أيضا بلا خلاف بين أهل العهلم و ذكر الواقدي أنها كانت في ذي الحجة من السنة الرابعة من الهجرة قبل الخندق و ذكر ابن إسحاق أنها كانت عقب الخندق و هما جميعا يزعمان أن الخندق في شوال في سنة خمس و أما موسى بن عقبة فقال : [ في شوال سنة أربع ] و حديث ابن عمر يدل عليه و كان فتح مكة في رمضان سنة ثمان
و إنما ذكرنا هذا رفعا لو هم من قد يظن أن قتل النساء كان مباحا عام الفتح ثم حرم بعد ذلك و إلا فلا ريب عند أهل العلم أن قتل النساء لم يكن مباحا قط بأن آيات القتال و ترتيبب نزولها كلها دليل على أن قتل النساء لم يكن جائزا هذا مع أن أولئك النساء اللاتي كن في حصن ابن أبي الحقيق إذ ذاك لم يطمع هؤلاء النفر في استرقاقهن بل هن ممتنعات عند أهل خيبر قبل فتحها بمدة مع أن المرأة قد صاحت و خافوا الشر بصوتها ثم أمسكوا عن قتلها لرجائهم أن ينكف شرها بالتهويل عليها
نعم المحرم إنما هو قصد قتلهن فأما إذا قصدنا قصد الرجال بالإغارة أو نرمي بمنجنيق أو فتح شق
أو لقاء نار فتلف بذلك نساء أو صبيان لم نأثم بذلك لحديث الصعب بن جثلامة أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب الذرية فقال [ هم منهم ] متفق عليه و لأن النبي صلى الله عليه و سلم رمى أهل الطائف بالمنجنيق مع أنه قد يصيب المرأة و الصبي و بكل حال فالمرأة الحربية غير مضمونة يقود و لا دية و لا كفارة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر من قتل المرأة في مغازية بشيء من ذلك فهذا ما تفارق به المرأة الذمية و إذا قاتلت المرأة الحربية جاز قتلها بالاتفاق لأن النبي صلى الله عليه و سلم علل المنع من قتل المرأة بأنها لم تكن تقاتل فإذا قاتلت وجد المقتضي لقتلها و ارتفع المانع(1/131)
لكن عند الشافعي تقاتل كما يقاتل المسلم الصائل فلا يقصد قتلها بل دفعها فإذا قدر عليها لم يجز قتلها و عند غيره إذا قاتلت صارت بمنزلة الرجل المحارب
إذا تقرر هذا فنقول : هؤلاء النسوة كن معصومات بأنوثة ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتلهن لمجرد كونهن كن يهجينه و هن في دار حرب فعلم أن من هجاه و سبه جاز قتله بكل حال
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 137 ]
و مما يؤكد ذلك و جوه :
أحدهما : أن الهجاء و السب إما أن يكون من باب القتال باللسان فيكون كالقتال باليد و تكون المرأة الهاجية كالمرأة التي يستعان برأيها على حرب المسلمين كالملكة و نحوها مثل ما كانت هند بنت عتبة أو تكون بنفسها موجبة للقتل لما فيه من أذى الله و رسوله و المؤمنين و إن كان من جنس المحاربة أو لا يكون شيئا من ذلك فإن كان من القسم الأول و الثاني جاز قتل المرأة الذمية إذا سبت لأنها حينئذ تكون قد حاربت أو ارتكبت ما يوجب القتل فالذمية إذا فعلت ذلك انتقض عهدها و قتلت و لا يجوز أن تخرج عن هذين القسمين لأنه يلزم منه قتل المرأة من أهل الحرب من غير أن تقاتل بيد و لا لسان و لا أن ترتكب ما هو بنفسه موجب للقتل و قتل مثل هذه المرأة حرام بالسنة و الإجماع
الوجه الثاني : أن هؤلاء النسوة كن من أهل الحرب و قد آذين النبي صلى الله عليه و سلم في دار الحرب ثم قتلن بمجرد السب كما نطقت به الأحاديث فقتل المرأة الذمية بذلك أولى و أحرى المسلمة لأن الذمية بيننا و بينها من العهد ما يكفها عن إظهار السب و يوجب عليها التزام الذل و الصغار و لهذا تؤخذ بما تصيبه للمسلم من دم أو مال أو عرض و الحربية لا تؤخذ بشيء من ذلك
فإذا جاز قتل المرأة لأنها سبت الرسول و هي حربية تستبيح ذلك من غير مانع فقتل الذمية الممنوعة من ذلك بالعهد أولى
و لا يقال : عصمة الذمي أوكد لأنه مضمون و الحربي غير مضمون(1/132)
لأنا نقول : الذمي أيضا ضامن لدم المسلم و الحربي غير ضامن فهو ضامن مضمون لأن العهد الذي بيننا اقتضى ذلك و أما الحربية فلا عهد بيننا و بينها يقتضي ذلك فليس كون الذمي مضمونا يجب علينا حفظه بالذي يهون عليه ما ينتهكه من عرض الرسول بل ذلك أغلظ لجرمه و أولى بأن يؤاخذ بما يؤذينا به و لا نعلم شيئا تقتل به المرأة الحربية قصدا إلا و قتل الذمية به أولى
الوجه الثالث : أن هؤلاء النسوة لم يقاتلن عام الفتح بل كن متذللات مستسلمات و الهجاء إن كان من جنس القتال فقد كان موجودا قبل ذلك و المرأة الحربية لا يجوز قتلها في غزوة هي فيها مستسلمة لكونها قد قاتلت قبل ذلك فعلم أن السب بنفسه هو المبيح لدمائهن لا كونهن قاتلن
الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم آمن جميع أهل مكة إلا أن يقاتلوا مع كونهم قد حاربوه و قتلوا أصحابه و نقضوا العهد الذي بينهم و بينه ثم إنه أهدر دماء هؤلاء النسوة فيمن استثناه و إن لم يقاتلن لكونهن كن يؤذينه فثبت أن جرم المؤذي لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالسب و نحوه أغلظ من جرم القتال و غيره و أنه يقتل في الحال التي نهى فيها عن قتال من قتل و قاتل
الوجه الخامس : أن القينتين كانتا أمتين مأمورتين بالهجاء و قتل الأمة أبعد من قتل الحرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل العسيف و كونها مأمورة بالهجاء أخف لجرمها حيث لم تقصده ابتداء ثم مع هذا أمر بقتلهما فعلم أن السب أغلظ الموجبات للقتل(1/133)
الوجه السادس : أن هؤلاء النسوة إما أن يكن قتلن بالهجاء لأنهن فعلنه مع العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه و سلم و بين أهل مكة فيكون من جنس هجاء الذمي أو قتلن لمجرد الهجاء مع عدم العهد فإن كان الأول فهو المطلوب و إن كان الثاني فإذا جاز أن تقتل السابة التي لا عهد بيننا و بينها يمنعها فقتل الممنوعة بالعهد أولى لأن مجرد كفر المرأة و كونها من أهل الحرب لا يبيح دمها بالاتفاق على ما تقدم لا سيما و السب لم يكن بمنزلة القتال على ما تقدم
فإن قيل : ما وجه الترديد و أهل مكة قد نقضوا العهد و صاروا كلهم محاربين ؟
قيل لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستبيح أخذ الأموال و سبي الذرية و النساء بذلك النقض العام : إما لأنه عفا عن ذلك كما عن قتل من لم يقاتل أو لأن النقض الذي وجد من بعض الرجال بمعاونة بني بكر و من بعضهم بإقرارهم على ذلك لم يسر حكمه إلى الذرية
و مما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم آمن الناس إلا بني بكر من خزاعة و إلا النفر المسمين إما عشرة أو أقل من عشرة أو أكثر لأن بني بكر هم الذين باشروا نقض العهد و قتلوا خزاعة فعلم أنه فرق بين من نقض العهد و فعل ما يبيح الدم و بين من لم يفعل شيئا غير الموافقة على نقض العهد فبكل حال لم يقتل هؤلاء النسوة للحرب العام و النقض العام بل لخصوص جرمهن من السب الناقض لعهد فاعله سواء ضم إليه كونه من ذي عهد أو لم يضم و اعلم أن ما تقدم من قتل النسوة اللاتي سببن رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل اليهودية و أم الولد و عصماء لو لم يثبت أنهن كن معاهدات لكان الاستدلال به جائزا فإن كل ما جاز أن تقتل به المرأة التي ليست مسلمة و لا معاهدة من فعلها و قولها فأن تقتل به المرأة المعاهدة أولى و أحرى فإن موجبات القتل في حق الذمية أوسع من موجباته في حق التي ليست ذمية(1/134)
و مما يدل على مثل هذه الدلالة ما روى أن امرأة كانت تسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ من يكفيني عدوي ؟ ] فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 140 ]
لحديث الحادي عشر ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل و في الصحيحين من حديث الزهري [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة عام الفتح و على رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال : [ اقتلوه ] و هذا مما استفاض نقله بين أهل العلم و اتفقوا عليه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره و أنه قتل ]
و قد تقدم عن ابن المسيب أن أبا برزة أتاه و هو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه
و كذلك روى الواقدي عن أبي برزة قال : في نزلت هذه الآية { لا أقسم بهذا البلد و أنت حل بهذا البلد } [ البلد : 2 ] أخرجت عبد الله بن خطل و هو متعلق بأستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن و المقام
و ذكر الواقدي أن ابن خطل أقبل من أعلى مكة مدججا في الحديد ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة فرأى خيل المسلمين و رأى القتال و دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه و طرح سلاحه فأتى البيت فدخل بين أستاره
و قد تقدم عن أهل المغازي أن جرمه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعمله على الصدقة و أصحبه رجلا يخدمه فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاما أمره بصنعته فقتله ثم خاف أن يقتل فارتد و استاق إبل الصدقة و أنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه و سلم و يأمر جاريته أن تغنيا به فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم : قتل النفس و الردة و الهجاء(1/135)
فمن احتج بقصته يقول : لم يقتل لقتل النفس لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يقتل قودا و المقتول من خزاعة له أولياء فكان حكمه لو قتل قودا أن يسلم إلى أولياء المقتول فإما أن يقتلوا أو يعفوا يأخذوا الدية و لم يقتل لمجرد الردة لأن المرتد يستتاب و إذا استنظر أنظر و هذا ابن خطل قد فر إلى البيت عائذا به طالبا للأمان به تاركا للقتال ملقيا للسلاح حتى نظر في أمره و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بعد علمه بذلك كله أن يقتل و ليس هذا سنة من يقتل من مجرد الردة فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب و الهجاء و إن الساب و إن ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة و لا يؤخر قتله و ذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 141 ]
و قد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين يقتل و إن أسلم حدا
و اعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربيا فقتل لذلك و صوابه انه كان مرتدا بلا خلاف بين أهل العلم بالسير و حتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلما منقادا قد ألقى السلم كالأسير فعلم أن من ارتد و سب يقتل بلا استتابة بخلاف من ارتد فقط
يؤيده أن النبي صلى الله عليه و سلم آمن عام الفتح جميع المحاربين إلا ذوي جرائم مخصوصة و كان ممن أهدر دمه دون غيره فعلم أنه لم يقتل لمجرد الكفر و الحراب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 142 ](1/136)
السنة الثانية عشرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل جماعة لأجل سبه و قتل جماعة لأجل ذلك مع كفه و إمساكه عمن هو بمنزلتهم في كونه كافرا حربيا فمن ذلك ما قدمناه [ عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر يوم الفتح بقتل ابن الزبعرى ] و سعيد بن المسيب هو الغاية في جودة المراسيل و لا يضره أن لا يذكره بعض أهل المغازي فإنهم مختلفون في عدد من استثنى من الأمان و كل أخبر بما علم و من أثبت الشيء و ذكره حجة على من لم يثبته
و قد ذكر ابن إسحاق قال : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه و يؤذيه و أن من بقي من شعراء قريش عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه ففي هذا بيان أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من كان يهجوه و يؤذيه بمكة من الشعراء مثل ابن الزبعرى و غيره
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 143 ]
و مما لا خفاء فيه أن ابن الزبعرى إنما ذنبه أنه كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بلسانه فإنه كان من أشعر الناس و كان يهاجي شعراء الإسلام مثل حسان و كعب ابن مالك و ما سوى ذلك من الذنوب قد شركه فيه و أربى عليه عدد كثير من قريش
ثم إن ابن الزبعرى فر إلى نجران ثم قدم على النبي صلى الله عليه و سلم مسلما و له أشعار حسنة في التوبة و الاعتذار فأهدر دمه للسب مع أمانه لجميع أهل مكة إلا من كان له جرم مثل جرمه و نحو ذلك
و من ذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب : قصته في هجائه النبي صلى الله عليه و سلم و في إعراض النبي صلى الله عليه و سلم عنه لما جاءه مسلما مشهورة مستفيضة(1/137)
و قد ذكر الواقدي قال : حدثني سعيد بن مسلم بن قماذين عن عبد الرحمن ابن سابط و غيره قال : كان أبو سفيان بن الحارث أخا رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرضاعة أرضعته حليمة أياما و كان يألف رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان له تربا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عاداه عداوة لم يعادها أحدا قط و لم يكن دخل الشعب و هجا رسول الله صلى الله عليه و سلم و هجا أصحابه و ذكر الحديث إلى أن قال : ثم إن الله ألقى في قلبه الإسلام قال أبو سفيان : فقلت : من أصحب ؟ و مع من أكون ؟ قد ضرب الإسلام بجرانه فجئت زوجتي و ولدي فقلت : تهيئوا للخروج فقد أقبل قدوم محمد قالوا : قد آن لك أن تنصر محمدا إن العرب و العجم قد تبعت محمدا و أنت توضع في عداوته و كنت أولى الناس بنصرته فقلت لغلامي مذكور : عجل بأبعرتي و فرسي قال : ثم سرنا حتى نزلنا بالأبواء و قد نزلت مقدمته الأبواء فتنكرت و خفت أن أقتل و كان قد أهدر دمي فخرجت واحد ابني جعفر على قدمي نحوا من ميل في الغداة التي صبح رسول الله صلى الله عليه و سلم الأبواء فأقبل الناس رسلا رسلا ـ أي قطيعا قطيعا ـ فتنحيت فرقا من أصحابه فلما طلع في موكبه تصديت له تلقاء وجهه فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى فأعرض عني مرارا فأخذني ما قرب و ما بعد و قلت : أنا مقتول قبل أن أصل إليه و أتذكر به و رحمه و قرابتي فيمسك ذلك مني و قد كنت لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه سيفرحون بإسلامي فرحا شديدا لقرابتي برسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأى المسلمون إعراض رسول الله صلى الله عليه و سلم عني أعرضوا عني جميعا فلقيني ابن أبي قحافة معرضا عني و نظرت إلى عمر يغري بي رجلا من الأنصار فألز بي رجل يقول : يا عدو الله أنت الذي كنت تؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و تؤذي أصحابه ؟ قد بلغت مشارق الأرض و مغاربها في عداوته(1/138)
فرددت بعض الرد عن نفسي فاستطال علي و رفع صوته حتى جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل بي قال : فدخلت على عمي العباس فقلت : يا عباس قد كنت أرجو أن سيفرح رسول الله صلى الله عليه و سلم بإسلامي لقرابتي و شرفي و قد كان منه ما رأيت فكلمه ليرضى قال : لا و الله لا أكلمه كلمة فيك أبدا بعد الذي رأيت منه ما رأيت إلا أن أرى وجها إني أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أهابه فقلت ياعم إلى من تكلني ؟ قال : هو ذاك فلقيت عليا فكلمته فقال لي مثل ذلك و ذكر الحديث إلى أن قال : فخرجت فجلست على منزل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى راح إلى الجحفة و هو لا يكلمني و لا أحد من المسلمين و جعلت لا ينزل منزلا إلا أنا على بابه و معي ابني جعفر قائم فلا يراني إلا أعرض عني على هذا الحال حتى شهدت معه فتح مكة و أنا في خيله التي تلازمه حتى هبط من أذاخر حتى نزل الأبطح فنزل ألي نظرا هو الين من ذلك النظر قد رجوت أن يبتسم و دخل عليه نساء بني عبد المطلب و دخلت معهن زوجتي فرققته علي و خرج إلى المسجد و أنا بين يديه لا أفارقه على حال حتى خرج إلى هوازن فخرجت معه و ذكر قصته بهوازن و هي مشهورة
قال الواقدي : و قد سمعت في إسلام أبي سفيان بن الحارث بوجه آخر قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بنيق العقاب و ذكر الحديث نحوا مما ذكره ابن إسحاق(1/139)
قال ابن إسحاق : [ و كان أبو سفيان بن الحارث : و عبد الله بن أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه و سلم بثنية فيما بين مكة و المدينة فالتمسا الدخول عليه فكلمته أم سلمة فيهما فقالت : يا رسول الله ابن عمك و ابن عمتك و صهرك فقال : لا حاجة لي بهما أما ابن عمي فهتك عرضي و أما ابن عمتي و صهري فهو الذي قال بمكة ما قال ] [ قال ] فلما خرج الخبر إليهما بذلك ـ و مع أبي سفيان بن الحارث ابن له ـ فقال : و الله ليأذنن لي رسول الله صلى الله عليه و سلم أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا أو جوعا فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم رق لهما فدخلا عليه فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه و اعتذاره مما كان مضى منه فقال :
( لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد )
( لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى و أهتدي )
( هداني هاد نفسي و دلني ... على الله من طردت كل مطرد )
و ذكر باقي الأبيات(1/140)
و في رواية الواقدي قال : فطلبا الدخول على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأبى أن يدخلهما عليه فكلمته أم سلمة زوجته فقالت : يا رسول الله صهرك و ابن عمتك و ابن عمك و أخوك من الرضاعة و قد جاء الله بهما مسلمين لا يكونا أشقى الناس بك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا حاجة لي بهما أما أخوك فالقائل لي بمكة ما قال : لن يؤمن لي حتى أرقى في السماء فقالت يا رسول الله إنما هو من قومك و كل قريش قد تكلم و نزل القرآن فيه بعينه و قد عفوت عمن هو أعظم جرما منه و ابن عمك قرابتك به قريبة و أنت أحق الناس عفا عن جرمه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو الذي هتك عرضي فلا حاجة لي بهما ] فلما خرج إليهما الخبر قال أبو سفيان بن الحارث و معه ابنه : ليقبلن مني أو لآخذن بيد ابني فلأذهبن في الأرض حتى أهلك عطشا و جوعا و أنت أحلم الناس و أكرم الناس مع رحمي بك فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم مقالته فرق له و قال عبد الله ابن أبي أمية : إنما جئت لأصدقك ولي من القرابة مثل مالي من الصهر بك و جعلت أم سلمة تكلمه فيهما فرق رسول الله صلى الله عليه و سلم لهما فأذن لهما و دخلا فأسلما و كانا جميعا حسنى الإسلام قتل عبد الله بن أبي أمية بالطائف و مات أبو سفيان بن الحارث بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه لم يغمص عليه في شيء و لقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدر دمه قبل أن يلقاه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 147 ](1/141)
فوجه الدلالة : أنه أهدر دم أبي سفيان بن الحارث دون غيره من صناديد المشركين الذين كانوا أشد تأثيرا في الجهاد باليد و المال و هو قادم إلى مكة لا يريد أن يسفك دماء أهلها بل يستعطفهم على الإسلام و لم يكن لذلك سبب يختص بأبي سفيان إلا الهجاء ثم جاء مسلما و هو يعرض عنه هذا الإعراض و كان من شأنه أن يتألف الأباعد على الإسلام فكيف بعشيرته الأقربين ؟ كل ذلك بسبب هتكه عرضه كما هو مفسر في الحديث
و من ذلك أنه أمر يوم الفتح بقتل الحويرث بن نقيذ و هو معروف عند أهل السير قال موسى بن عقبة في مغازية عن الزهري ـ و هي من أصح المغازي كان مالك يقول : من أحب أن يكتب المغازي فعليه بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة ـ قال : و أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم و أمرهم بقتل أربعة نفر : منهم الحويرث بن نقيذ
و قال سعد بن يحيى الأموي في مغازية : حدثني أبي قال : و قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد إلى المسلمين في قتل نفر و نسوة و قال : إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة فاقتلوهم و سماهم بأسمائهم ستة و هم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح و عبد الله بن خطل و الحويرث بن نقيذ و مقيس بن صبابة و رجل من بني تيم بن غالب
قال ابن إسحاق : و حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر أنهم كانوا ستة فكتم اسم رجلين و أخبرني بأربعة و زعم أن عكرمة بن أبي جهل أحدهم
قال : و أما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب
و كذلك ذكر ابن إسحاق في رواية ابن بكير و غيره عنه من النفر الذين استثناهم النبي صلى الله عليه و سلم و قال [ اقتلوهم و إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة ] : الحويرث بن نقيذ و كان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم(1/142)
و قال الواقدي عن أشياخه : إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن القتال و أمر بقتل ستة نفر و أربع نسوة : عكرمة بن أبي جهل و هبار بن الأسود و ابن أبي سرح و مقيس بن صبابة و الحويرث بن نقيذ و ابن خطل
قال : و أما الحويرث بن نقيذ فإنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه و سلم فأهدر دمه فبينا هو في منزله يوم الفتح قد أغلق عليه و أقبل علي رضي الله عنه يسأل عنه فقيل هو في البادية فأخبر الحويرث أنه يطلب و تنحى علي عن بابه فخرج الحويرث يريد أن يهرب من بيت إلى بيت آخر فتلقاه علي و فضرب عنقه
و مثل هذا مما يشتهر عند هؤلاء مثل الزهري و ابن عقبة و ابن إسحاق و الواقدي و الأموي و غيرهم و أكثرهم ما فيه أنه مرسل و المرسل إذا روي من جهات مختلفة و لا سيما ممن له عناية بهذا الأمر و يتبع له و كان كالمسند بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي و يستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد و لا يوهنه أنه لم يذكر في الحديث المأثور عن سعد و عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لأن المثبت مقدم على النافي و من أخبر أنه أمر بقتله فمنعه زيادة علم و لعل النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بقتله ثم أمر بقتله و ذلك أنه يمكن أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أصحابه أن يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا نفر الأربعة ثم أمرهم أن يقتلوا هذا و غيره و مجرد نهيه عن القتال لا يوجب عصمة المكفوف عنهم لكنه بعد ذلك آمنهم الأمان العاصم للدم و هذا الرجل قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتله لمجرد أذاه له مع أنه قد آمن أهل البلد الذين قاتلوه و أصحابه و فعلوا بهم الأفاعيل
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 149 ]
و من ذلك أنه صلى الله عليه و سلم لما قفل من بدر راجعا إلى المدينة قتل النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط و لم يقتل من أسارى بدر غيرهما و قصتهما معروفة(1/143)
قال ابن إسحاق : و كان في الأساري عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث فلما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علي بن أبي طالب كما أخبرت ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كان [ بعرق الظبية ] قتل عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت
و قال موسى بن عقبة عن الزهري : و لم يقتل من الأساري صبرا غير عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت ابن أبي الأفلح و لما أبصره عقبة مقبلا إليه استغاث بقريش فقال يامعشر قريش علام أقتل من بين من هاهنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ على عداوتك لله و رسوله ] و كذلك ذكر محمد بن عائذ في مغازية
و هذا و الله أعلم لأن النضر قتل بالصفراء عند بدر فلم يعد من الأسرى عند هذا القائل لقتله قريبا من مصارع قريش و إلا فلا خلاف علمناه أن النضر و عقبة قتلا بعد الأسر
و قد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبي معيط نادى : يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ بكفرك و افترائك على رسول الله ]
و قال الواقدي : كان النضر بن الحارث أسره المقداد بن الأسود فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر فكان بالأثيل عرض عليه الأسرى فنظر إلى النضر ابن الحارث فأبده النظر فقال لرجل إلى جنبه : محمد و الله قاتلي لقد نظر إلي بعينين فيهما آثار الموت فقال الذي إلى جنبه [ و الله ما هذا منك إلا رعب ] فقال النضر لمصعب بن عمير : يا مصعب أنت أقرب من هاهنا بي رحما كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي هو و الله قاتلي إن لم تفعل قال مصعب : إنك كنت تقول في كتاب الله كذا و كذا و كنت تقول في نبيه كذا و كذا قال يا مصعب و يجعلني كأحد أصحابي : إن قتلوا قتلت و إن من عليهم من علي قال مصعب : إنك كنت تعذب أصحابه و ذكر الحديث إلى أن قال : فقتله علي بن أبي طالب صبرا بالسيف(1/144)
قال الواقدي : و أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأسرى حتى إذا كانوا [ بعرق الظبية ] أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح أن يضرب عنق عقبة ابن أبي معيط فجعل عقبة يقول : ياويلي علام أقتل يا قريش من بين من هاهنا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لعداوتك لله و رسوله ] قال محمد منك أفضل فاجعلني كرجل من قومي إن قتلهم قتلتني و إن مننت عليهم مننت علي و إن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم يا محمد من للصبية ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ النار قدمه يا عاصم فأضرب عنقه ] فقدمه عاصم فضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بئس الرجل كنت ـ و الله ـ ما علمت كافرا بالله و بكتابه و برسوله مؤذيا لنبيه فأحمد الله الذي هو قتلك و أقر عيني منك ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 151 ]
ففي هذا بيان أن السبب الذي أوجب قتل هذين الرجلين من بين سائر الأسرى أذاهم لله و رسوله بالقول و الفعل فإن الآيات التي نزلت في النضر معروفة و أذى ابن أبي معيط له مشهور بلسانه و يده حين خنقه ـ بأبي هو و أمي ـ بردائه خنقا شديدا يريد قتله حين ألقى السلى على ظهره و هو ساجد و غير ذلك
و من ذلك أنه أمر بقتل من كان يهجوه بعد فتح مكة من قريش و سائر العرب مثل كعب بن زهير و غيره
قال الأموي : حدثني أبي قال : قال ابن إسحاق و ذكره يونس بن بكير و البكائي و غيرهما عن ابن إسحاق قال : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة منصرفا من الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب في قتل رجال بمكة ممن كان يهجوه و يؤذيه(1/145)
و لفظ يونس و البكائي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قتل رجلا بمكة ممن كان يهجوه و يؤذيه و أن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى [ و هبيرة بن أبي وهب ] قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا و إن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض و كان كعب قد قال أبياتا نال فيها من رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رويت و عرفت و كان الذي قال :
( ألا أبلغا عني بحيرا رسالة ...
فهل لك فيما قلت و يحك هل لكا )
( لتخبرني إن كنت لست بفاعل
... على أي شيء غير ذلك دلكا )
( على خلق لم تلق يوما أبا له
... عليه و لم تعرف عليه أبا لكا )
( فإن أنت لم تفعل فلست بفاعل
... و لا قائل إما عثرت لعا لكا )
( سقاك بها المأمون كأسا روية
... فأنهلك المأمون منها و علكا )
و إنما قال كعب [ المأمون ] لقول قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم [ الأمين ] الذي كانت تقوله له
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض و أشفق على نفسه و أرجف به من كان حاضره من عدوه فقالوا : هو مقتول فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم و يذكر فيها خوفه و إرجاف الوشاة به ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه و بينه معرفة من جهينة كما ذكر لي فغدا به على رسول الله صلى الله عليه و سلم حين صلى الصبح فلما صلى مع الناس أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : هذا هو رسول الله فقم إليه فذكر لنا أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فوضع يده في يده و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعرفه فقال : يا رسول الله إن كعب بن زهير استأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نعم ] قال : أنا يا رسول الله كعب ابن زهير(1/146)
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر أنه وثب عليه من الأنصار فقال : يا رسول الله دعني و عدو الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعه عنك قد جاء تائبا نازعا ] قال : فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم و ذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير فقال قصيدته التي قال حين قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أنشد ابن إسحاق قصيدته المشهورة : [ بانت سعاد ] و فيها :
( أنبئت أن رسول الله أوعدني
... و العفو عند رسول الله مأمول )
( مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ ...
فرقان فيه مواعيظ و تفصيل )
( لا تأخذي بأقوال الوشاة و لم
... أذنب و لو كثرت في الأقاويل )
و في حديث آخر : و ذلك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ندر دمه بقول بلغه عنه فقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم مسلما و دخل مسجده و أنشد القصيدة فقد أخبر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب في قتل رجال بمكة لأجل هجائهم و أذاهم حتى فر من فر منهم إلى نجران ثم رجع ابن الزبعري تائبا مسلما و أقام هبيرة بنجرلان حتى مات مشركا ثم إنه أهدر دم كعب لما قاله مع أنه ليس من بليغ الهجاء لكونه طعن في دين الإسلام و عابه و عاب ما يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم إنه تاب قبل القدرة عليه و جاء مسلما و كان حربيا و مع هذا فهو يلتمس العفو و يقول :
( لا تأخذني بأقوال ... الوشاة و لم أذنب )
و من ذلك : ما نقل أنه كان يتوجه صلى الله عليه و سلم إلى قتل من يهجوه و يقول : [ من يكفيني عدوي ؟ ](1/147)
قال الأموي سعيد بن يحيى بن سعيد في مغازية : حدثنا أبي قال : أخبرني عبد الملك بن جريج عن عكرمة عن عبد الله بن عباس أن رجلا من المشركين شتم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من يكفيني عدوي ؟ ] فقام الزبير بن العوام فقال : أنا فبارزه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم سلبه و لا أحسبه إلا في خيبر حين قتل ياسر و رواه عبد الرزاق أيضا
و روى أن رجلا كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ من يكفيني عدوي ؟ ] فقال خالد : أنا فبعثه النبي صلى الله عليه و سلم إليه فقتله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 154 ]
و من ذلك : أن أصحابه كانوا إذا سمعوا من سبه و يؤذيه صلى الله عليه و سلم قتلوه و إن كان قريبا فيقرهم على ذلك و يرضاه و ربما سمى من يفعل ذلك ناصرا لله و رسوله
فروى أبو إسحاق الفزاري في كتابه المشهور في السير عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن سميع عن مالك بن عمير قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني لقيت أبي في المشركين فسمعت منه مقاله قبيحة لك فما صبرت أن طعنته بالرمح فقتلته فما شق ذلك عليه قال : و جاءه فقال : إني لقيت أبي في المشركين فصفحت عنه فما شق ذلك عليه
و قد رواه الأموي و غيره من هذا الطريق(1/148)
و روى أبو إسحاق الفزاري أيضا في كتابه عن الأوازعي عن حسان بن عطية قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم جيشا فيهم عبد الله بن رواحة و جابر فلما صافوا المشركين أقبل رجل منهم يسب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام رجل من المسلمين فقال : أنا فلان ابن فلان و أمي فلانة فسبني و سب أمي و كف عن سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يزده ذلك إلا إغراء فأعاد مثل ذلك و عاد الرجل مثل ذلك فقال في الثالثة : لئن عدت لأرحلنك بسيفي فعاد فحمل عليه الرجل فولى مدبرا فاتبعه الرجل حتى خرق صف المشركين فضربه بسيفه و أحاط به المشركون فقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعجبتم من رجل نصر الله و رسوله ؟ ] ثم إن الرجل برئ من جراحته فأسلم فكان يسمى الرحيل رواه الأموي في مغازية من هذا الوجه
و قد تقدم حديث عمير بن عدي لما قال حين بلغه أذى بنت مروان للنبي صلى الله عليه و سلم ـ : اللهم إن علي نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لأقتلنها فقتلها بدون إذن النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله و رسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي ]
و كذلك حديث اليهودية و أم الولد فأن النبي صلى الله عليه و سلم أهدر دمها لما قتلت لأجل سبه
و قد تقدم أيضا حديث الرجل الذي نذر أن يقتل ابن أبي سرح لما افتراه على النبي صلى الله عليه و سلم و أن النبي صلى الله عليه و سلم أمسك عن مبايعته ليقوم إليه ذلك الرجل فيقتله و يفي بنذره
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 156 ]
و قد ذكروا أن الجن الذين آمنوا به كانت تقصد من سبه من الجن الكفار فتقتله قبل الهجرة و قبل الأذان في القتال لها و للأنس فيقرها على ذلك و يشكر ذلك لها(1/149)
قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازية : حدثني محمد بن سعيد ـ يعني عمه ـ قال : قال محمد بن المنكدر : إنه ذكر له عن ابن عباس أنه قال : هتف هاتف من الجن على جبل أبي قبيس فقال :
( قبح الله رأيكم آل فهر
... ما أدق العقول و الأحلام )
( حين تغضى لمن يعيب عليها
... دين آبائها الحماة الكرام )
( حالف الجن جن بصرى عليكم
... و رجال النخيل و الآطام )
( يوشك الخيل أن تروها نهارا
... تقتل القوم في حرام تهام )
( هل كريم منكم له نفس حر
... ماجد الجدتين و الأعمام )
( ضاربا ضربة تكون نكالا
... و رواحا من كربة و اغتنام )
قال ابن عباس : فأصبح هذا الشعر حديثا لأهل مكة يتناشدونه بينهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له مسعر و الله مخزيه فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول :
( نحن قتلنا في ثلاث مسعرا
... إذ سفه الحق و سن المنكرا )
( قنعته سيفا حساما مبترا
... بشتمه نبينا المطهرا )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا عفريت من الجن اسمه سمحج آمن بي سميته عبد الله أخبرني أنه في طلبه منذ ثلاثة أيام ] فقال علي : جزاه الله خيرا يا رسول الله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 157 ]
و ممن ذكر أنه قتل لأجل أذى النبي صلى الله عليه و سلم أبو رافع بن أبي الحقيق اليهودي و قصته معروفة مستفيضة عند العلماء فنذكر منها موضع الدلالة(1/150)
عن البراء بن عازب قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار و أمر عليهم عبد الله بن عتيك و كان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و يعين عليه و كان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه ـ و قد غربت الشمس و راح الناس لسرحهم ـ قال عبد الله لأصحابه : أجلسوا مكانكم فإني منطلق و متلطف للبواب لعلي أن أدخل فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته و قد دخل الناس فهتف به البواب يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فآدخل فإني أريد أن أغلق الباب قال : فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد قال : فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب و كان أبو رافع يسمر عنده و كان في علية له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل قلت : إن القوم إن نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت قلت : أبا رافع قال من هذا ؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف و أنا دهش فما أغنيت شيئا و صاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم رجعت إليه فقلت : ما هذا الصوت يا أبا رافع ؟ فقال : لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف قال : فأضربه ضربة بالسيف أثخنته و لم أقتله ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي و أنا أرى أن قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت : لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتله فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال : أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء قد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فحدثته فقال : [ أبسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط ] رواه(1/151)
البخاري في صحيحه
و قال ابن إسحاق : حدثني الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال : مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه و سلم أن هذين الحيين من الأنصار الأوس و الخزرج كانا يتصاولان معه تصاول الفحلين لا يصنع أحدهما شيئا إلا صنع الآخر مثله يقولون : لا يعدون ذلك فضلا علينا في الإسلام و عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قتل الأوس كعب بن الأشراف تذكرت الخزرج رجلا هو في العدواة لرسول الله صلى الله عليه و سلم مثله فتذاكروا ابن أبي الحقيق بخيبر فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتله فأذن لهم و ذكر الحديث إلى أن قال : ثم صعدوا إليه في علية له فقرعوا عليه الباب فخرجت إليهم امرأته فقالت : من أنتم ؟ فقالوا : حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فألقت : ذا كم الرجل عندكم في البيت و ذكر تمام الحديث في قتله
فقد تبين في حديث الباء و ابن كعب إنما تسرى المسلمون لقتله بإذن النبي صلى الله عليه و سلم لأذاه النبي صلى الله عليه و سلم و معداته له و أنه كان نظير ابن الأشراف و لكن ابن الأشراف كان معاهدا فآذى الله و رسوله فندب المسلمين إلى قتله و هذا لم يكن معاهدا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 159 ]
فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم و يؤذيه من الكفار فإنه كان يقصد قتله و يحض عليه لأجل ذلك و كذلك أصحابه بأمره يفعلون ذلك [ مع كفه عن غيره ممن هو على مثل حاله في أنه كافرا غير معاهد بل مع أمانه لأولئك أو إحسانه إليهم من غير عهد بينه و بينهم ثم من هؤلاء من قتل و منهم من جاء مسلما تائبا فعصم دمه لثلاثة أسباب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 160 ]
أحدها : أنه جاء تائبا قبل القدرة عليه و المسلم الذي وجب عليه حد لو جاء تائبا قبل القدرة عليه لسقط عنه فالحربي أولى
الثاني : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان من خلفه أن يعفو عنهم(1/152)
الثالث : أن الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بشيء مما عمله في الجاهلية لا من حقوق الله و لا من حقوق العباد من غير خلاف نعلمه لقوله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] و لقوله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] رواه مسلم و لقوله صلى الله عليه و سلم : [ من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ] متفق عليه و لهذا أسلم خلق كثير و قد قتلوا رجالا يعرفون فلم يطلب أحد منهم بقود و لا دية و لا كفارة
أسلم وحشي قاتل حمزة و ابن العاص قاتل ابن قوقل و عقبة بن الحارث قاتل خبيب بن عدي و من لا يحصى ممن ثبت في الصحيح أنه أسلم و قد علم أنه قتل رجلا بعينه من المسلمين فلم يوجب النبي صلى الله عليه و سلم على أحد منهم قصاصا بل قال صلى الله عليه و سلم : [ يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما صاحبه كلاهما يدخل الجنة يقتل هذا في سبيل الله فيدخل الجنة ثم يتوب الله على القاتل فيسلم و يقتل في سبيل الله و يدخل الجنة ] متفق عليه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 161 ]
و كذلك أيضا لم يضمن النبي صلى الله عليه و سلم أحدا منهم مالا أتلفه للمسلمين و لا أقام على أحد حد زنا أو سرقة أو شرب أو قذف سواء كان قد أسلم بعد الأسر أو قبل الأسر و هذا مما لا نعلم بين المسلمين فيه خلافا لا في رواية و لا في الفتوى به(1/153)
بل لو أسلم الحربي و بيده مال مسلم قد أخذه من المسلمين بطريق الأغتنام و نحوه ـ مما لا يملك به مسلم من مسلم لكونه محرما في دين الإسلام ـ كان له ملكا و لم يرده إلى المسلم الذي كان عند جماهير العلماء من التابعين و من بعدهم و هو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين و هو مذهب أبي حنيفة و مالك و منصوص قول أحمد و قول جماهير من أصحابه بناء على أن الإسلام أو العهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له لأنه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله و وجب أجره على الله و آخذه هذا صار مستحلا له و قد غفر الله له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين و أموالهم فلم يضمنه بالرد إلى مالكه كما لم يضمن ما أتلفه من النفوس و الأموال و لا يقضي ما تركه من العبادات لأن كل ذلك كان تابعا للاعتقاد فلما رجع عن الاعتقاد غفر له ما تبعه من الذنوب فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه فيه فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها من ربا و غيره
و من العلماء من قال : يرده على مالكه المسلم و هو قول الشافعي و أبي الخطاب من الحنبلية بناء أن اغتنامهم فعل محرم فلا يملكون به مال المسلم كالغصب و لأنه لو أخذه المسلم منهم أخذا لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغتنمه أو يسرقه فإنه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النبي صلى الله عليه و سلم و هو ما اتفق الناس فيما نعلمه عليه و لو كانوا قد ملكوه لملكه الغانم منهم و لم يرده
و الأول أصح لأن المشركين كانوا يغتنمون من أموال المسلمين الشيء الكثير من الكراع و السلاح و غير ذلك و قد أسلم عامة أولئك المشركين فلم يسترجع النبي صلى الله عليه و سلم من أحد منهم مالا مع أن بعض تلك الأموال لابد أن يكون باقيا(1/154)
و يكفي في ذلك أن الله سبحانه قال : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا } [ الحشر : 8 ] و قال تعالى : { أذن للذين يقاتلون } إلى قوله : { و صد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام و إخراج أهله منه } [ البقرة : 217 ] و قال تعالى : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم } [ الممتحنة : 9 ]
فبين الله سبحانه أن المسلمين أخرجوا من ديارهم و أموالهم بغير حق حتى صاروا فقراء بعد أن كانوا أغنياء
ثم إن المشركين استولوا على تلك الديار و الأموال و كانت باقية إلى حين الفتح و قد أسلم من استولى عليها في الجاهلية ثم يرد النبي صلى الله عليه و سلم على أحد منهم أخرج من داره بعد الفتح و الإسلام دارا و لا مالا بل قيل للنبي صلى الله عليه و سلم يوم الفتح : ألا تنزل في دارك ؟ فقال : [ و هل ترك لنا عقيل من دار ؟ ]
و سأله المهاجرون أن يرد عليهم أموالهم التي استولى عليها أهل مكة فأبى ذلك صلى الله عليه و سلم و أقرها بيد من استولى عليها بعد إسلامه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 163 ]
و ذلك أن عقيل بن أبي طالب بعد الهجرة استولى على دار النبي صلى الله عليه و سلم و دور إخوته من الرجال و النساء مع ما ورثه من أبيه أبي طالب قال أبو رافع : قيل للنبي صلى الله عليه و سلم : ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ قال : [ فهل ترك لنا عقيل منزلا ؟ ] و كان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه و سلم و منزل إخوته من الرجال و النساء بمكة(1/155)
و قد ذكر أهل العلم بالسير ـ منهم أبو الوليد الأزرقي ـ أن رباع عبد المطلب بمكة صارت لبني عبد المطلب فمنها شعب ابن يوسف و بعض دار ابن يوسف لأبي طالب [ و الحق الذي يليه ] و بعض دار ابن يوسف دار المولد مولد النبي صلى الله عليه و سلم و ما حوله لأبي النبي صلى الله عليه و سلم عبد الله بن عبد المطلب و لا ريب أن النبي صلى الله عليه و سلم كانت له هذه الدار ورثها عن أبيه و بها ولد و كان له دار ورثها هو و ولده من خديجة ـ رضي الله تعالى عنها !
قال الأزرقي : فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن مسكنيه كليهما مسكنه الذي ولد فيه و مسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة بنت خويلد و ولد فيه ولده جميعا قال : و كان عقيل ابن أبي طالب أخذ مسكنه الذي ولد فيه و أما بيت خديجة فأخذه متعب بن أبي لهب و كان أقرب الناس إليه جوارا فباعه بعد من معاوية و قد شرح أهل السير ما ذكرنا في دور المهاجرين
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 164 ]
قال الأزرقي : دار جحش بن رئاب الأسدي هي الدار التي بالمعلاة لم تزل في يد ولد جحش فلما أذن الله لنبيه صلى الله عليه و سلم و أصحابه في الهجرة إلى المدينة خرج آل جحش جميعا الرجال و النساء إلى المدينة مهاجرين و تركوا دارهم خالية و هم حلفاء حرب بن أمية فعمد أبو سفيان إلى دارهم هذه فباعها بأربعمائة دينار من عمرو بن علقمة العامري فلما بلغ آل جحش أن أبا سفيان باع دارهم أنشأ أبو أحمد يهجو أبا سفيان و يعيره بيعها و ذكر أبياتا(1/156)
فلما كان يوم فتح مكة أتى أبو أحمد بن جحش و قد ذهب بصره إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه فيها فقال : يا رسول الله إن أبا سفيان عمد إلى دارنا فباعها فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فساره بشيء فما سمع ابو أحمد ذكرها بعد ذلك فقيل لأبي أحمد بعد ذلك : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : قال لي [ إن صبرت كان خيرا لك و كان لك بها دار في الجنة ] قال : قلت : فأنا أصبر فتركها أبو أحمد
قال : و كان لعتبة بن غزوان دار تسمى ذات الوجهين فلما هاجر أخذها يعلى بن منبه و كان استوصاه بها حين هاجر فلما كان عام الفتح و كلم بنو جحش رسول الله صلى الله عليه و سلم في دارهم فكره أن يرجعوا في شيء من أموالهم أخذ منهم في الله تعالى و هجروه لله أمسك عتبة بن غزوان عن كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم في داره هذه ذات الوجهين و سكت المهاجرون فلم يتكلم أحد منهم في دار هجرها لله و رسوله و سكت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن مسكنه الذي ولد فيه و مسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة و هذه القصة معروفة عند أهل العلم
قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم و الزبير بن عكاشة بن أبي أحمد قال : أبطأ رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح عليهم في دورهم فقالوا لأبي أحمد : يا أبا أحمد إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يكره لكم أن ترجعوا في شيء من أموالكم مما أصيب في الله(1/157)
وقال ابن إسحاق أيضا في رواية زياد بن عبد الله البكائي عنه : و تلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يبق أحد منهم بمكة إلا مفتون أو محبوس و لم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم و أموالهم إلى الله و إلى رسوله إلا أهل دور مسمون : بنو مظعون من بني جمح و بنو جحش بن رئاب حلفاء بني أمية و بنوا بكير من بني سعد بن ليث حلفاء بني عدي بن كعب فإن دورهم غلقت بمكة ليس فيها ساكن و لما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنة ؟ فقال : بلى فقال : ذلك لك ] : فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه النبي صلى الله عليه و سلم فقال الناس لأبي أحمد : يا أبا أحمد إن النبي صلى الله عليه و سلم يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب منكم في الله فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الواقدي عن أشياخه قالوا : و قام أبو أحمد بن جحش على باب المسجد على جمل له حين فرغ النبي صلى الله عليه و سلم من خطبته ـ يعني الخطبة التي خطبها وهو واقف بباب الكعبة حين دخل الكعبة فصلى فيها ثم خرج يوم الفتح - فقال أبو أحمد وهو يصيح : أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي أنشد بالله يا بني عبد مناف داري قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان فسار عثمان بشيء فذهب عثمان إلى أبي أحمد فساره فنزل أبو أحمد عن بعيره و جلس مع القوم فما سمع أبو أحمد ذكرها حتى لقي الله(1/158)
فهذا نص في أن المهاجر طلبوا استرجاع ديارهم فمنعهم النبي صلى الله عليه و سلم و أقرها بيد من استولى عليها و من اشتراها منه و جعل صلى الله عليه و سلم ما أخذه منهم الكفار بمنزلة ما أصيب من ديارهم و ما أنفقوه من أموالهم و تلك دماء و أموال اشتراها الله و سلمت إليه و وجب أجرها على الله فلا رجعة فيها و ذلك لأن المشركين يستحلون دماءنا و أموالنا و أصابوا ذلك كله استحلالا وهم آثمون في هذا الاستحلال فإذا أسلموا جب الإسلام ذلك الإثم و صاروا كأنهم ما أصابوا دما و لا مالا فما بأيديهم لا يجوز انتزاعه منهم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 166 ]
فإن قيل : ففي الصحيحين عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو ابن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله ألا تنزل في دارك بمكة ؟ قال : [ و هل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ] و كان عقيل ورث أبا طالب هو و طالب و لم يرث جعفر و لا عي شيئا لأنهما كانا مسلمين و كان عقيل و طالب كافرين
و في رواية للبخاري أنه قال : يا رسول الله أين تنزل غدا ؟ و ذلك زمن الفتح فقال : [ وهل ترك لنا عقيل من منزل ؟ ثم قال : لا يرث الكافر المؤمن و لا المؤمن الكافر ] قيل للزهري : و من ورث أبا طالب ؟ قال : ورثه عقيل و طالب
و في رواية معمر عن الزهري : أين منزلك غدا في حجتك ؟ رواه البخاري
و ظاهر هذا أن الدور انتقلت إلى عقيل بطريق الإرث لا بطريق الاستيلاء ثم باعها(1/159)
قلنا : أما دار النبي صلى الله عليه و سلم التي ورثها من أبيه و داره التي هي له و لولده من زوجته المؤمنة خديجة فلا حق لعقيل فيها فعلم أنه استولى عليها و أما دور أبي طالب فإن أبا طالب توفي قبل الهجرة بسنين و المواريث لم تفرض و لم يكن نزل بعد منع المسلم من ميرات الكافر بل كل من مات بمكة من المشركين أعطى أولاده المسلمون نصيبهم من الإرث كغيرهم بل كان المشركون ينكحون المسلمات الذي هو أعظم من الإرث و إنما قطع الله الموالاة بين المسلمين و الكافرين بمنع النكاح و الإرث و غير ذلك بالمدينة و شرع الجهاد القاطع للعصمة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 167 ]
قال ابن إسحاق : حدثني ابن أبي نجيح قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة نظر إلى تلك الرباع فما أدرك منها قد اقتسم على أمر الجاهلية تركه لم يحركه و ما وجده لم يقسم قسمه على قسمة الإسلام
و هذا الذي رواه ابن أبي نجيح يوافق الأحاديث المسندة في ذلك مثل حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم و كل قسم أدركه الإسلام فإنه على قسم الإسلام ] رواه أبو داود و ابن ماجة
و هذا أيضا يوافق ما دل عليه كتاب الله ولا نعلم فيه خلافا فإن الحربي لو عقد عقدا فاسدا من ربا أو بيع خمر أو خنزير أو نحو ذلك ثم أسلم بعد قبض العوض لم يحرم ما بيده و لم يجب عليه رده و لم يكن قبضه لم يجز له أن يقبض منه إلا ما يجوز للمسلم كما دل عليه قوله تعالى : { اتقوا الله و ذورا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } [ البقرة : 278 ] فأمرهم بترك ما بقي في ذمم الناس و لم يأمرهم برد ما قبضوه(1/160)
و كذلك وضع النبي صلى الله عليه و سلم لما خطب الناس كل دم أصيب في الجاهلية و كل ربا في الجاهلية حتى ربا العباس و لم يأمر برد ما كان قبض فكذلك الميراث : إذا مات الميت في الجاهلية و اقتسموا تركته أمضيت القسمة فإن أسلموا قبل الاقتسام أو تحاكموا إلينا قبل القسمة قسم على قسم الإسلام فلما مات أبو طالب كان الحكم بينهم أن يرثه جميع ولده فلم يقتسموا رباعه حتى هاجر جعفر و علي إلى المدينة فاستولى عقيل عليها و باعها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم يترك لنا عقيل منزلا إلا استولى عليه و باعه ] و كان معنى هذا الكلام أنه استولى على دور كنا نستحقها إذ ذاك و لولا ذلك لم تضف الدور إليه و إلى بني عمه إذا لم يكن لهم فيها حق ثم قال بعد ذلك : [ لا يرث المؤمن الكافر و لا الكافر المؤمن ] يريد و الله أعلم لو أن الرباع باقية بيده إلى الآن لم يقسم لكنا نعطي رباع أبي طالب كلها له دون إخوته لأنه ميراث لم يقسم فيقسم الآن على قسم الإسلام ومن قسم الإسلام أن لا يرث المسلم الكافر فكان نزول هذا الحكم بعد موت أبي طالب و قبل قسمة تركته بمنزلة نزوله قبل موته فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن عليا و جعفرا ليس لهما المطالبة بشيء من ميراث أبي طالب لو كان باقيا فكيف إذا أخذ منهم في سبيل الله ؟ فإذا كان المشرك الحربي لا يطالب بعد إسلامه بما كان أصابه من دماء المسلمين و أموالهم و حقوق الله و لا ينزع ما بيده من أموالهم التي غنمها منهم لم يؤاخذ أيضا بما أسلفه من سب و غيره فهذا وجه العفو عن هؤلاء
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 169 ](1/161)
و هذا الذي ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في تحتم قتل من كان يسبه من المشركين مع العفو عمن هو مثله في الكفر كان مستقرا في نفوس أصحابه على عهده و بعد عهده يقصدون قتل الساب و يحرضون عليه و أن أمسكوا عن غيره و يجعلون ذلك هو الموجب لقتله و يبذلون في ذلك نفوسهم كما تقدم من حديث الذي قال : سبني و سب أمي و كف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم حمل عليه حتى قتل و حديث الذي قتل أباه لما سمعه يسب النبي صلى الله عليه و سلم و حديث الأنصاري الذي نذر ان يقتل العصماء فقتلها و حديث الذي نذر أن يقتل ابن أبي سرح و كف النبي صلى الله عليه و سلم عن مبايعته ليوفي بنذره
و في الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : إني لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني و عن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال : أي عم هل تعرف أبا جهل ؟ قلت : نعم فما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟
قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم و الذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا قال : فتعجبت لذلك قال : و غمزني الأخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت لهما : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه قال : فابتداره بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبراه فقال : [ أيكما قتله ؟ ] فقال كل واحد منهما : أنا قتلته فقال : هل مسحتما سيفيكما ؟ ] قالا : لا فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى السيفين فقال : [ كلاكما قتله ] و قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح و الرجلان : معاذ بن عمرو بن الجموح و معاذ بن عفراء(1/162)
و القصة مشهورة في فرح النبي صلى الله عليه و سلم بقتله و سجوده شكرا و قوله : [ هذا فرعون هذه الأمة ] هذا مع نهيه عن قتل أبي البختري بن هشام مع كونه كافرا غير ذي عهد لكفه عنه و إحسانه بالسعي في نقض صحيفة الجور و مع قوله : [ لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى - يعني الأسرى ـ لأطلقتهم له ] يكافئ المطعم بإجارته له بمكة و المطعم غير معاهد فعلم أن مؤذي الرسول صلى الله عليه و سلم يتعين إهلاكه و الانتقام منه بخلاف الكاف عنه و إن اشتركا في الكفر كما كان يكافئ المحسن إليه بإحسانه و إن كان كافرا
يؤيد ذلك أن أبا لهب كان له من القرابة ما له فلما آذاه و تخلف عن بني هاشم في نصره نزل القرآن فيه بما نزل من اللعنة و الوعيد باسمه خزيا لم يفعل بغيره من الكافرين كما روى ابن عباس أنه قال : [ ما كان أبو لهب إلا من كفار قومه حتى خرج منا حين تحالفت قريش علينا فظاهرهم فسبه الله ]
و بنو المطلب مع مساواتهم لعبد شمس و نوفل في النسب لما أعانوه و نصروه وهم كفار شكر الله ذلك لهم فجعلهم بعد الإسلام مع بني هاشم في سهم ذوي القربى و أبو طالب لما أعانه و نصره وذب عنه خفف عنه العذاب فهو من أخف أهل النار عذابا
و قد روي أن أبا لهب يسقى في نقرة الإبهام لعتقه ثويبة إذ بشرته بولادته
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 171 ]
و من سنة الله أن من لم يكن المؤمنون أن يعذبوه من الذين يؤذون الله و رسوله فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله و يكفيه إياه كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكاتب المفتري و كما قال سبحانه : { فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين } [ الحجر : 95 ]
و القصة في إهلاك الله واحدا واحدا من هؤلاء المستهزئين معروفة قد ذكرها أهل السير و التفسير و هم على ما قيل نفر من رؤس قريش : منهم الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسودان ابن المطلب و ابن عبد يغوث و الحارث بن قيس(1/163)
و قد كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى كسرى و قيصر و كلاهما لم يسلم لكن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه و سلم و أكرم رسوله فثبت ملكه فيقال : إن الملك باق في ذريته إلى اليوم و كسرى مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و استهزأ برسول الله صلى الله عليه و سلم فقتله الله بعد قليل و مزق ملكه كل ممزق و لم يبق للأكاسرة ملك و هذا و الله أعلم تحقيق لقوله تعالى : { إن شانئك هو الأبتر } [ الكوثر : 3 ] فكل من شنأه و أبغضه و عاداه فإن الله يقطع دابره و يمحق عينه و أثره و قد قيل : إنها نزلت في العاص بن وائل أو في عقبة بن أبي معيط أو في كعب بن الأشرف و قد رأيت صنيع الله بهم
و من الكلام السائر [ لحوم العلماء مسمومة ] فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام ؟
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 172 ]
و في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ] فكيف بمن عادى الأنبياء ؟ و من حارب الله تعالى حرب و إذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أهلكوا حين آذوا الأنبياء و قابلوهم بقبيح القول أو العمل و هكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذلة و باءوا بغضب من الله و لم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق مضموما إلى كفرهم كما ذكر الله ذلك في كتابه و لعلك لا تجد أحدا آذى نبيا من الأنبياء ثم لم يتب إلا و لابد أن تصيبه قارعة و قد ذكرنا ما جربه المسلمون من تعجيل الأنتقام من الكفار إذا تعرضوا لسب رسول الله صلى الله عليه و سلم و بلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة و هذا باب واسع لا يحاط به و لم نقصد قصده هنا و إنما قصدنا بيان الحكم الشرعي
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 173 ](1/164)
و كان سبحانه يحميه و يصرف عنه أذى الناس و شتمهم بكل طريق حتى في اللفظ ففي الصحيحين [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش و لعنهم يشتمون مذمما و يلعنون مذمما و أنا محمد ] فنزه الله اسمه و نعته عن الأذى و صرف ذلك إلى من هو مذمم و إن كان المؤذي إنما قصد عينه
فإذا تقرر بما ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سيرة أصحابه و غير ذلك أن الساب للرسول يتعين قتله فنقول : إنما يكون تعين قتله لكونه كافرا حربيا أو للسب المضموم إلى ذلك و الأول باطل لأن الأحاديث نص في أنه لم يقتل لمجرد كونه كافرا حربيا بل عامتها قد نص فيه على أن موجب قتله إنما هو السب فنقول : إذا تعين قتل الحربي لأجل أنه سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فكذلك المسلم و الذمي أولى : لأن الموجب للقتل هو السب لا مجرد الكفر و المحاربة كما تبين فحيثما وجد هذا الموجب وجب القتل و ذلك لأن الكفر مبيح للدم لا موجب لقتل الكافر بكل حال فإنه يجوز أمانه و مهادنته و المن عليه و مفاداته لكن إذا صار للكافر عهد عصم العهد دمه الذي أباحه الكفر فهذا هو الفرق بين الحربي و الذمي فأما ما سوى ذلك من موجبات القتل فلم يدخل في حكم العهد
و قد ثبت بالسنة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأمر بقتل الساب لأجل السب فقط لا لمجرد الكفر الذي لا عهد معه فإذا وجد هذا السب و هو موجب للقتل و العهد لم يعصم من موجبه تعين القتل و لأن أكثر ما في ذلك أنه كان كافرا حربيا سابا و المسلم إذا سب يصير مرتدا سابا و قتل المرتد أوجب من قتل الكافر الأصلي و الذمي إذا سب فإنه يصير كافرا محاربا سابا بعد عهد متقدم و قتل مثل هذا أغلظ(1/165)
و أيضا فإن الذمي لم يعاهد على إظهار السب بالإجماع و لهذا إذا أظهره فإنه يعاقب عليه بإجماع المسلمين إما بالقتل أو بالتعزيز و هو لا يعاقب على فعل شيء ما عوهد عليه و إن كان كافرا غليظا و لا يجوز أن يعاقب على فعل شيء قد عوهد على فعله و إذا لم يكن العهد مسوغا لفعله ـ و قد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالقتل لأجله ـ فيكون قد فعل ما يقتل لأجله و هو غير مقر عليه بالعهد و مثل هذا يجب قتله بلا تردد
و هذا التوجيه يقتضي قتله سواء قدر أنه نقض العهد أو لم ينقضه لأن موجبات القتل التي لم نقره على فعلها يقتل بها و إن قيل لا ينتقض عهده كالزنا بذمية و كقطع الطريق على ذمي و كقتل ذمي و كما فعل هذه الأشياء مع المسلمين و قلنا إن عهده لا ينتقض فانه يقتل
و أيضا فإن المسلم قد امتنع من السب بما أظهره من الإيمان و الذمي قد امتنع منه بما أظهره من الذمة و التزام الصغار و لو لم يكن ممتنعا منه بالصغار لما جاز عقوبته بتعزيز و لا غيره إذا فعله فإذا قتل لأجل السب الكافر الذي يستحله ظاهرا و باطنا و لم يعاهدنا عهدا يقتضي تركه فلأن يقتل لأجله من التزم أن لا يظهره و عاهدنا على ذلك أولى و أحرى(1/166)
و أيضا فقد تبين بما ذكرناه من هذه الأحاديث أن الساب يجب قتله فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل الساب في مواضع و الأمر يقتضي الوجوب و لم يبلغه عن أحد السب إلا ندر دمه و كذلك أصحابه هذا مع ما قد كان يمكنه من العفو عنه فحيث لا يمكنه العفو عنه يجب أن يكون قتل الساب أوكد و الحرص عليه أشد و هذا الفعل منه هو نوع من الجهاد و الإغلاظ على الكافرين و المنافقين و إظهار دين الله و إعلاء كلمته و معلوم أن هبذا واجب فعلم أن قتل الساب واجب في الجملة و حيث جاز العفو له صلى الله عليه و سلم فإنما هو فيمن كان مقدورا عليه من مظهر الإسلام مطيع له أو ممن جاءه مستسلما أما الممتنعون فلم يعف عن أحد منهم و لا يرد على هذا أن بعض الصحابة آمن إحدى القينتين و بعضهم آمن ابن أبي سرح لأن هذين كانا مستسلمين مريدين الإسلام و التوبة و من كان كذلك فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم له أن يعفو عنه فلم يتعين قتله فإذا ثبت أن الساب كان قتله واجبا و الكافر الحربي الذي لم يسب لا يجب قتله بل يجوز قتله فمعلوم أن الذمة لا تعصم دم من يجب قتله و إنما تعصم دم من يجوز قتله ألا ترى أن المرتد لا ذمة له و أن القاطع و الزاني لما وجب قتلهما لم تمنع الذمة قتلهما ؟
و أيضا فلا مزية للذمي على الحربي إلا بالعهد و العهد لم يبح له إظهار السب بالإجماع فيكون الذمي قد شرك الحربي في إظهار السب الموجب للقتل و ما اختص به من العهد لم يبح له إظهار السب فيكون قد أتى بما يوجب القتل و هو لم يقر عليه فيجب قتله بالضرورة
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من كان يسبه مع أمانه لمن كان يحاربه بنفسه و ماله فعلم أن السب أشد من المحاربة أو مثلها و الذمي إذا حارب قتل فإذا سب قتل بطريق الأولى(1/167)
و أيضا فإن الذمي و إن كان معصوما بالعهد فهو ممنوع بهذا العهد من إظهار السب و الحربي ليس له عهد يعصمه و لا يمنعه فيكون الذمي من جهة كونه ممنوعا أسوأ حالا من الحربي و أشد عداوة و أعظم جرما و أولى بالنكال و العقوبة التي يعاقب بها الحربي على السب و العهد الذي عصمه لم يف بموجبه فلا ينفعه : لأنا إنما نستقيم له ما استقام لنا و هو لم يستقم بالاتفاق و كذلك يعاقب و العهد يعصم دمه و بشره إلا بحق فلما جازت عقوبته بالاتفاق علم أنه قد أتى ما يوجب العقوبة
و قد ثبت بالسنة أن عقوبة هذا الذنب القتل و سر الاستدلال بهذه الأحاديث انه لا يقتل الذمي لمجرد كون عهده قد انتقض فإن مجرد نقض العهد يجعله ككافر لا عهد له و قد ثبت بهذه السنن أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بقتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد و إنما قتله لأجل السب مع كون السب مستلزما للكفر و العداوة و المحاربة و هذا القدر موجب للقتل حيث كان و سيأتي الكلام إنشاء الله تعالى على تعين قتله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 176 ]
السنة الثالثة عشرة : ما رويناه من حديث أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي قال : ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ثنا على بن مسهر عن صالح ابن حيان عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم [ بلغه أن رجل قال لقوم : إن النبي صلى الله عليه و سلم ] [ أمرني ان أحكم فيكم برأيي و في أموالكم كذا و كذا ] و كان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ كذب عدو الله ] ثم أرسل رجلا فقال : إن وجدته حيا فاقتله و إن أنت وجدته ميتا فحرقه بالنار فانطلق فوجدوه قد لدغ فمات فحرقه بالنار فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ](1/168)
و رواه أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل قال : ثنا الحسن بن محمد ابن عنبر ثنا حجاج بن يوسف الشاعر ثنا زكريا بن عدي ثنا على بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه قال : كان حي من بني ليث من المدينة على ملين و كان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه فأتاهم و عليه حلة فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كساني هذه الحلة و أمرني أن أحكم في أموالكم و دمائكم ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبها فأرسل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ كذب عدو الله ] ثم أرسل رجلا فقال : [ إن وجدته حيا ـ و ما أراك تجده حيا ـ فاضرب عنقه و إن وجدته ميتا فاحرقه بالنار قال : فذلك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] هذا إسناد صحيح على شرط الصحيح لا نعلم له علة(1/169)
و له شاهد من وجه آخر رواه المعافى بن زكريا الجريري في كتاب الجليس قال : ثنا أبو حامد الحصري ثنا السري بن مرثد الخراساني ثنا أبو جعفر محمد بن علي الفزاري ثنا داود بن الزبرقان قال : أخبرني عطاء ابن السائب عن عبد الله بن الزبير [ أنه ] قال يوما لأصحابه : أتدرون ما تأويل هذا الحديث : [ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] ؟ قال : كان رجل عشق امرأة فأتى أهلها مساء فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثني إليكم أن أتضيف في أي بيوتكم شئت قال : و كان ينتظر بيتوتة المساء قال : فأتى رجل منهم النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن فلانا يزعم أنك أمرته أن يبيت في أي بيوتنا شاء فقال : [ كذب يا فلان انطلق معه فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه و آحرقه بالنار و لا أراك إلا قد كفيته ] فلما خرج الرسول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ادعوه قال : إني كنت أمرتك أن تضرب عنقه و أن تحرقه بالنار فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه و لا تحرقه بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار و لا أراك إلا قد كفيته ] فحانت السماء بصيب فخرج الرجل يتوضأ فلسعته أفعى فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ هو في النار ]
و قد روى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع [ عن أبي سلمة عن أسامة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ] و ذلك أنه بعث رجلا فكذب عليه فوجد ميتا قد انشق بطنه و لم تقبله الأرض
و روى أن رجلا كذب عليه فبعث عليا و الزبير إليه ليقتلاه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 178 ]
و للناس في هذا الحديث قولان :(1/170)
أحدهما : الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن هؤلاء من قال : يكفر بذلك قاله جماعة منهم أبو محمد الجويني حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي الفضل الهمداني : مبتدعة الإسلام و الكذابون و الواضعون للحديث أشد من الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج و هؤلاء قصدوا إفساده من داخل فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله و الملحدون كالمحاصرين من خارج فالدخلاء يفتحون الحصن فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له
و وجه هذا القول أن الكذب عليه كذب على الله و لهذا قال : [ إن كذبا علي ليس ككذب على أحدكم ] فإن ما أمر به الرسول فقد أمر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله و ما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به
و من كذبه في خبره أو امتنع من التزام أمره و معلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبرا كذب فيه كمسيلمة و العنسي و نحوها من المتنبئين فإنه كافر حلال الدم فكذلك من تعمد الكذب على رسوله
و يبين ذلك أن الكذب بمنزلة التكذيب له و لهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى { و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه } [ العنكبوت : 68 ] بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثما من المكذب له و لهذا بدأ الله به كما أن الصادق عليه أعظم درجة من المصدق بخبره فإذا كان الكاذب مثل المكذب أو أعظم و الكاذب على الله كالمكذب له فالكاذب على الرسول كالمكذب له
يوضح ذلك أن تكذبيه نوع من الكذب فإن مضمون تكذبيه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق و ذلك إبطال لدين الله و لا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار و إنما صار كافرا لما يتضمنه من إبطال رسالة الله و دينه
و الكاذب عليه يدخل في دينه ما ليس منه عمدا و يزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الخبر و امتثال هذا الأمر لأنه دين الله مع العلم بأنه ليس لله بدين(1/171)
و الزيادة في الدين كالنقص منه و لا فرق بين من يكذب بأية من القرآن أو يصنف كلاما و يزعم أنه سورة من القرآن عامدا لذلك
و أيضا فإن تعمد الكذب عليه استهزاء به و استخفاف لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به بل و قد لا يجوز الأمر بها و هذه نسبة له إلى السفه أو أنه يخبر بأشياء باطلة و هذه نسبة له إلى الكذب و هو كفر صريح
و أيضا فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان أو صلاة سادسة زائدة و نحو ذلك أو أنه حرم الخبز و اللحم عالما بكذب نفسه كفر بالاتفاق
فمن زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب شيئا لم يوجبه أو حرم شيئا لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول و زاد عليه بأن صرح بأن الرسول قال ذلك و أنه ـ أعنى القائل ـ لم يقله اجتهادا و استنباطا
و بالجملة فمن تعمد الكذب الصريح على الله فهو المتعمد لتكذيب الله و أسوأ حالا و ليس يخفى أن من كب على من يجب تعظيمه فإنه مستخف به مستهين بحقه
و أيضا فإن الكاذب عليه لابد أن يشينه بالمكذب عليه و ينقصه بذلك و معلوم أنه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سرح في قوله [ كان يتعلم مني ] أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة كفر بذلك فكذلك الكاذب عليه لأنه إما أن يأثر عنه أمرا أو خبرا أو فعلا فإن أثر عنه أمرا لم يأمر به فقد زاد في شريعته و ذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به لأنه لو كان كذلك لأمر به صلى الله عليه و سلم لقوله : [ ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا أمرتكم به و لا من شيء يبعدكم عن النار إلا نهيتكم عنه ] فإذا لم يأمر به فالأمر به غير جاز منه فمن روى عنه أنه أمر به فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له الأمر به و ذلك نسبة له إلى السفه(1/172)
و كذلك إن نقل عنه خبرا فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له الإخبار به لأخبر به لأن الله تعالى قد أكمل الدين فإذا لم يخبر به فليس هو مما ينبغي له أن يخبر به و كذلك الفعل الذي ينقله عنه بما لم يكن فذلك الذي أخبر عنه نقص بالنسبة إليه إذ لو كان كمالا لوجد منه و من انتقض الرسول فقد كفر
و اعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه لكن يتوجه أن يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهة و بين الذي يكذب عليه بواسطة مثل أن يقول : [ حدثني فلان بن فلان عنه بكذا فهذا إنما كذب على ذلك الرجل و نسب إليه ذلك الحديث فأما إن قال [ هذا الحديث صحيح ] أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالما بأنه كذب فهذا قد كذب عليه أما إذا افتراه و رواه رواية ساذجة ففيه نظر لا سيما و الصحابة عدول بتعديل الله لهم
فالكذب لو وقع من أحد ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين فأراد صلى الله عليه و سلم قتل من كذبى عليه و عجل عقوبته لكون ذلك عاصما من أن يدخل في العدول من ليس منهم من المنافقين و نحوهم
و أما من روى عني حديثا يعلم أنه كذب فهذا حرام كما صح عنه أنه قال : [ من روى عني حديثا يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين ] لكن لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر لأنه صادق في أن شيخه حدثه به لكن لعلمه بأن شيخه كذب فيه لم تكن تحل له الرواية فصار بمنزلة أن يشهد على إقرار أو شهادة أو عقد و هو يعلم أن ذلك باطل فان هذه الشهادة حرام لكنه ليس بشاهد زور
و على هذا القول فمن سبه فهو أولى بالقول ممن كذب عليه فإن الكاذب عليه قد زاد في الدين ما ليس منه و هذا قد طعن في الدين بالكلية و حينئذ فالنبي صلى الله عليه و سلم قد أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة فكذلك الساب له أولى
فإن قيل : الكذب عليه فيه مفسدة ـ و هو أن يصدق في خبره فيزاد في الدين ما ليس منه أو ينتقض منه ما هو منه ـ و الطاعن عليه قد علم بطلان كلامه بما أظهر الله من آيات النبوة(1/173)
قيل : و المحدث عنه لا يقبل خبره إن لم يكن عدلا ضابطا فليس كل من حدث عنه قبل خبره لكن قد يظن عدلا و ليس كذلك و الطاعن عليه قد يؤثر طعنه في نفوس كثيرة من الناس و يسقط حرمته من كثير من القلوب فهو أوكد على أن الحديث عنه له دلائل يميز بها بين الكذب و الصدق
القول الثاني : أن الكاذب عليه تغلظ عقوبته لكن لا يكفر و لا يجوز قتله لأن موجبات الكفر و القتل معلومة و ليس هذا منها فلا يجوز أن يثبت مالا أصل له و من قال هذا فلا بد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمنا لعيب ظاهر فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاما يدل على نقصه و عيبه دلالة ظاهرة مثل حديث عرق الخيل و نحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهرا و لا ريب أنه كافر حلال الدم
و قد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه و سلم علم أنه كان منافقا فقتله لذلك لا للكذب
و هذا الجواب ليس بشيء لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن من سنته أن يقتل أحدا من المنافقين الذين أخبر الثقة عنهم بالنفاق أو الذين نزل القرآن بنفاقهم فكيف يقتل رجلا بمجرد علمه بنفاقه ؟ ثم إنه سمى خلقا من المنافقين لحذيفة و غيره و لم يقتل منهم أحدا
و أيضا فالسبب المذكور في الحديث إنما هو كذبه على النبي صلى الله عليه و سلم كذبا له في غرض و عليه رتب القتل فلا تجوز إضافة القتل إلى سبب آخر
و أيضا فإن الرجل إنما قصد بالكذب نبل شهوته و مثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار
و أيضا فإما أن يكون نفاقه لهذه الكذبة أو لسبب ماض فإن كان لهذه فقد ثبت أن الكذب عليه نفاق و المنافق كافر و إذا كان النفاق متقدما و هو المقتضي للقتل لا غيره فعلام يؤخر الأمر بقتله إلى هذا الحين ؟ و علام لو يؤاخذه الله تعالى بذلك النفاق حتى فعل ما فعل ؟(1/174)
و أيضا فإن القوم أخبروا رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله فقال [ كذب عدو الله ] ثم أمر بقتله إن وجده حيا ثم قال : [ ما أراك تجده حيا ] لعلمه صلى الله عليه و سلم بأن ذنبه يوجب تعجيل العقوبة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 183 ]
و النبي صلى الله عليه و سلم إذا أمر بالقتل أو غيره من العقوبات و الكفارات عقب فعل وصف له صالح لترتب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضي لذلك الجزاء لا غيره كما أن الأعرابي لما وصف له الجماع في رمضان أمره بالكفارة و لما أقر عنده ماعز و الغامدية و غيرهما بالزنا أمر بالرجم و هذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه
نعم قد يختلفون في نفس الموجب هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها و هو نوع من تنقيح المناط فأما أن يجعل ذلك الفعل عديم التأثير و الموجب لتلك العقوبة غيره الذي لم يذكر و هذا فاسد بالضرورة لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا و هو أن هذا الرجل كذب على النبي صلى الله عليه و سلم كذبا يتضمن انتقاصه و عيبه لأنه زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم حكمه في دمائهم و أموالهم و أذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم و مقصودة بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها و لا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكما في الدماء و الأموال
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 184 ]
و معلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم لا يحلل الحرام و من زعم أنه أحل المحرمات من الدماء و الأموال و الفواحش فقد انتقصه و عابه و نسب إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه يأذن له أن يبيت عند امرأة أجنبية خاليا بها و أنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين و هذا طعن على النبي صلى الله عليه و سلم و عيب له و على هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه و طعن عليه من غير استتابة و هو المقصود في هذا المكان فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين(1/175)
و مما يؤيد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب و طعن لبادروا إلى الإنكار عليه و يمكن أن يقال : رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم لما تعارض وجوب طاعة الرسول و عظم ما أتاهم به هذا اللعين
و من نصر القول الأول قال : كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن و الإزراء و إنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه و هذا شأن كل من تعمد الكذب عليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به و الأغراض في الغالب إما مال أو شرف كما أن المسيء إنما يقصد ـ إذا لم يقصد مجرد الإضلال ـ إما الرياسة بنفاذ الأمر و حصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة و بالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك و إن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 185 ]
السنة الرابعة عشرة : حديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه و سلم لما أعطاه : ما أحسنت و لا أجملت فأراد المسلمون قتله ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار ] و سيأتي ذكره في ضمن الأحاديث المتضمنة لعفوه عمن آذاه فإن هذا الحديث يدل عل أن من آذاه إذا قتل دخل النار و ذلك دليل على كفره و جواز قتله و إلا كان يكون شهيدا و كان قاتله من أهل النار و إنما عفا النبي صلى الله عليه و سلم عنه ثم استرضاه بعد ذلك حتى رضي لأنه كان له أن يعفو عمن آذاه كما سيأتي إن شاء الله تعالى(1/176)
و من هذا الباب : أن الرجل الذي قال له لما قسم غنائم حنين : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله فقال عمر : دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق فقال [ معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ] ثم أخبر أنه يخرج من ضئضئه أقوام يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم و ذكر حديث الخوارج رواه مسلم فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يمنع عمر من قتله إلا لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه و لم يمنعه لكونه في نفسه معصوما كما قال في حديث حاطب ابن أبي بلتعة فإنه لما قال : [ ما فعلت ذلك كفرا و لا رغبة عن ديني و لا رضا بالكفر بعد الإسلام ] فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنه قد صدقكم ] فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال : [ إنه قد شهدا بدرا و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] فبين صلى الله عليه و سلم أنه باق على إيمانه و أنه صدر منه ما يغفر له به الذنوب فعلم أن دمه معصوم و هنا علل بمفسدة زالت
فعلم أن قتل مثل هذا القائل إذا أمنت هذه المفسدة جائز و كذلك لما أمنت هذه المفسدة أنزل الله تعالى قوله : { جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] بعد أن كان قد قال له : { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] قال زيد بن أسلم : قوله جاهد الكفار و المنافقين نسخت ما كان قبلها
و مما يشبه هذا أن عبد الله بن أبي لما قال : { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [ المنافقون : 8 ] : و قال : { لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } [ المنافقون : 7 ] أستأمر عمر في قتله فقال : إذن ترعد له أنوف كثيرة بالمدينة و قال : [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] و القصة مشهورة و هي في الصحيحين و ستأتي إن شاء الله تعالى(1/177)
فعلم أن من آذى النبي صلى الله عليه و سلم بمثل هذا الكلام جاز قتله كذلك مع القدرة و إنما ترك النبي صلى الله عليه و سلم قتله لما خيف في قتله من نفور الناس عن الإسلام لما كان ضعيفا
و من هذا الباب : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قال : [ من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ] قال له سعد بن معاذ : أنا أعذرك إن كان من الأوس ضربت عنقه و القصة مشهورة فلما لم ينكر ذلك عليه دل على أن من آذى النبي صلى الله عليه و سلم و تنقصه يجوز ضرب عنقه و الفرق بين ابن أبي و غيره ممن تكلم في شأن عائشة أنه كان يقصد بالكلام فيها عيب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الطعن عليه و إلحاق العار به و يتكلم بكلام ينتقصه به فلذلك قالوا نقتله بخلاف حسان و مسطح و حمنة فإنهم لم يقصدوا ذلك و لم يتكلموا بما يدل على ذلك و لهذا إنما استعذر النبي صلى الله عليه و سلم من ابن أبي دون غيره و لأجله خطب الناس حتى كاد الحيان يقتتلون
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 187 ]
الحديث الخامس عشر : قال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه حدثني أبي عن مجالد بن سعيد عن الشعبي قال : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة دعا بمال العزى فنثره بين يديه ثم دعا رجلا قد سماه فأعطاه منها ثم دعا رهطا من قريش فأعطاهم فجعل يعطي الرجل القطعة من الذهب فيها خمسون مثقالا و سبعون مثقالا و نحو ذلك فقام رجل فقال : إنك لبصير حيث تضع التبر ثم قام الثانية فقال مثل ذلك فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم ثم قام الثالثة فقال : إنك لتحكم و ما نرى عدلا قال : [ ويحك ؟ إذا لا يعدل أحد بعدي ] ثم دعا نبي الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر فقال [ اذهب فقتله ] فذهب فلم يجده فقال : [ لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم و آخرهم ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 124 ](1/178)
فهذا الحديث نص في قتل مثل هذا الطاعن على رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير استتابة و ليست هي قصة قسم غنائم حنين و لا قسم التبر الذي بعث به علي من اليمن بل هذه القصة قبل ذلك في قسم مال العزى و كان هدم العزى قبل الفتح في أواخر شهر رمضان سنة ثمان و غنائم حنين قسمت بعد ذلك [ بالجعرانة ] في ذي القعدة و حديث علي في سنة عشر
و هذا الحديث مرسل و مخرجه عن مجالد و فيه لين لكن له ما يؤيد معناه فإنه قد تقدم أن عمر قتل الرجل الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه و سلم و نزل القرآن بإقراره على ذلك و جرمه أسهل من جرم هذا
و أيضا فإن في الصحيحين عن ابن سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الذي لمزه في قسمة الذهب التي أرسل بها علي من اليمن و قال : [ يا رسول الله اتق الله ] أنه قال : [ إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام و يدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 188 ]
و في الصحيحين [ عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ](1/179)
و روى النسائي [ عن أبي برزة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بمال فقسمه فأعطى من عن يمينيه و من عن شماله و لم يعط من وراءه شيئا فقام رجل من ورائه فقال : يا محمد ما عدلت في القسمة رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم غضبا شديدا و قال : و الله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل مني ] ثم قال : [ يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم يقرؤن القرآن لا يجاوز يراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال فإذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق و الخليقة ]
فهذه الأحاديث كلها دليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل طائفة هذا الرجل العاتب عليه و أخبر أن في قتلهم أجرا لمن قتلهم أجرا لمن قتلهم و قال : [ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ] و ذكر أنهم شر الخلق و الخليقة(1/180)
و فيما روى الترمذي و غيره عن أبي أمانة أنه قال : [ هم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه و كر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول ذلك مرات متعددة و تلا فيهم قوله تعالى : { يوم تبيض وجوه و تسود وجوه فأما الذين اسودت و جوههم أكفرتم بعد إيمانكم } [ آل عمران : 106 ] و قال هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم و تلا فيهم قوله نعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } [ آل عمران : 7 ] و قال : زاغوا فزيغ بهم و لا يجوز أن يكون أمر بقتلهم بمجرد قتالهم الناس كما يقاتل الصائل من قاطع الطريق و نحوه و كما يقاتل البغاة لأن أولئك إنما يشرع قتالهم حتى تنكسر شوكتهم و يكفوا عن الفساد و يدخلوا في الطاعة و لا يؤمر بقتلهم و إنما يؤمر في آخر الأمر بقتالهم فعلم أن هؤلاء أوجب قتلهم مروقتهم من الدين لما غلوا فيه حتى مرقوا منه كما دل عليه قوله في حديث علي : [ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ] فرتب الأمر بالقتل على مروقهم فعلم أنه الموجب له و لهذا وصف النبي صلى الله عليه و سلم الطائفة الخارجة و قال : [ لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل و آية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض ] و قال : [ إنهم يخرجون على خير فرقة من الناس يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ] و هذا كله في الصحيح فثبت أن قتلهم لخصوص صفتهم لا لعموم كونهم بغاة أو محاربين و هذا القدر موجود في الواحد منهم كوجوده في العدد منهم و إنما لم يقتلهم علي رضي الله عنه أول ما ظهروا لأنه لم يتبين له أنهم الطائفة المنعوتة حتى سفكوا دم ابن خباب وأغاروا على سرح الناس فظهر فيهم قوله [ يقتلون أهل الإسلام و يدعون أهل الأوثان ] فعلم أنهم المارقون و لأنه لو قتلهم قبل المحاربة لربما غضبت لهم قبائلهم وتفرقوا على علي رضي الله عنه و قد(1/181)
كان حاجته إلى مدارة عسكره و استئلافهم كحال النبي صلى الله عليه و سلم في حاجنه في أول الأمنر استئلاف المنافقين
و أيضا فإن القوم لم يتعرضوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم بل كانوا يعظمونه و يعظمون أبا بكر و عمر و لكن غلوا في الدين غلوا جاروا به حده لنقص عقولهم فصاروا كما تأوله علي فيهم من قوله عز و جل : { قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا ؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسبون صنعا } [ الكهف : 104 ]
و أوجب ذلك لهم عقائد فاسدة ترتب عليها أفعال منكرة كفر بها كثير من الأمة و توقف فيها آخرون فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم الرجل الطاعن عليه في القسمة الناسب له إلى عدم العدل بجهله و غلوه و ظنه أن العدل هو ما يعتقده من التسوية بين جميع الناس دون النظر إلى ما في تخصيص بعض الناس و تفضيله من مصلحة التأليف و غيرها من المصالح علم أن هذا أول أولئك فإنه إذا طعن عليه في وجهه على سنته فهو يكون بعد موته و على خلفائه أشد طعنا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 191 ]
و قد حكى أرباب المقالات عن الخوارج أنهم يجوزون على الأنبياء الكبائر و لهذا لا يلتفون إلى السنة المخالفة في رأيهم لظاهر القرآن و إن كانت متواترة فلا يرجمون الزاني و يقطعون يد السارق فيما قل و كثر زعما منهم على ما قيل أن لا حجه إلا القرآن و أن السنة الصادرة على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس حجة بناء على ذلك الأصل الفاسد(1/182)
قال من حكى ذلك عنهم : إنهم لا يطعنون في النقل لتواتر ذلك إنما يثبتونه على هذا الأصل و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في صفتهم : [ إنهم يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم ] يتأولونه برأيهم من غير استدلال على معانيه بالسنة و هم لا يفهمونه بقلوبهم إنما يتلونه بألسنتهم و التحقيق أنهم أصناف مختلفة فهذا رأى طائفة منهم و طائفة قد يكذبون النقلة و طائفة لم يسمعوا ذلك و لم يطلبوا علمه و طائفه يزعمون أن ما ليس له ذكر في القرآن بصريحه ليس حجة على الخلق : إما لكونه منسوخا أو مخصوصا بالرسول أو غير ذلك و كذلك ما ذكر من تجويزهم الكبائر فأظنه ـ و الله أعلم ـ قول طائفة منهم
و على كل حال فمن كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه و سلم جائر في قمسه و هو يقول إنه يفعلها بأمر الله فهو مكذب له و من زعم أنه يجوز في حكم أو قسمة فقد زعم أنه جائر و أن اتباعه لا يجب و هو مناقص لما تضمنته الرسالة من أمانته و وجوب طاعته و زوال الحرج عن الجنس من ضائه بقوله و فعله فإنه قد بلغ عن الله أنه أوجب طاعته و النقياد لحكمه و أنه لا يحيف على أحد فمن طعن في هذا فقد طعن في تبليغه و ذلك طعن في الرسالة
و بهذا تبين صحة واية من روى الحديث [ و من يعدل إذا لم أعذل ؟ لقد خبت و خسرت إنم لم أكن أعدل ] لأن هذا الطاعن يقول : إنه رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنه يجب عليه تصديقه و طاعته فإذا قال لم يعدل فلقد لزم أنه صدق غير عدل و لا أمين و من اتبع مثل ذلك فهو خائب خاسر كما وصفهم الله بأنهم من الأخسرين أعمالا و إن حسبوا أنهم يحسنون صنعا و لأنه من لم يؤتمن على المال لم يؤتمن على ما هو أعظم منه و لهذا قال صلى الله عليه و سلم : [ ألا تأمنوني و أنا أمين من في السماء يأتيني خير السماء صباحا و مساء ](1/183)
و قال صلى الله عليه و سلم لما قال له اتق الله : [ أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ] و ذلك لأن الله تعالى قال فيما بلغه إليهم الرسول : { ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] بعد قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول } الآية [ الحشر : 7 ] فبين سبحانه أن ما نهى عنه من مال الفيء فعلينا أن ننتهى عنه فيجب أن يكون أحق أهل الأرض أن يتقي الله إذ لولا ذلك لكانت الطاعة له و لغيره إن تساويا أو لغيره دونه إن كان دونه و هذا كفر بما جاء به و هذا ظاهر
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ شر الخلق و الخليقة ] و قوله : [ شر قتلى تحت أديم السماء ] نص في أنهم من المنافقين لأن المنافقين أسوأ حالا من الكفار كما ذكر أن قوله تعالى : { و منهم من يلمزك في الصدقات } [ آل عمران : 106 ] نزلت فيهم
و كذلك في حديث أبي أمامة أن قوله تعالى : { أكفرتم بعد إيمانكم } [ آل عمران : 106 ] نزلت فيهم هذا مما لا خلاف فيه إذا صرحوا بالطعن في الرسول و العيب له كفعل أولئك اللامزين له
فإذا ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من كان من جنس ذلك الرجل الذي لمزه أينما لقوا و أخبر أنهم شر الخليقة و ثبت أنهم من المنافقين كان ذلك دليلا على صحة معنى حديث الشعبي في استحقاق أصلهم للقتل(1/184)
يبقى أن يقال : ففي الأحاديث الصحيحة أنه نهى قتل ذلك اللامز فنقول : حديث الشعبي هو أول ظهور هؤلاء كما تقدم فالأشبه ـ و الله أعلم ـ أن يكون قد أمر بقتله أولا طعما في انقطاع أمرهم و إن كان قد كان يعفو عن أكثر المنافقين لأنه خاف من هذا انتشار الفساد من بعده على الأمة و لهذا قال : [ لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم و آخرهم ] و كان ما يحصل لقتله من المصلحة العظيمة أعظم مما يخاف من نفوز بعض الناس لقتله فلما لم يوجد و تعذر قتله مع النبي صلى الله عليه و سلم بما أوحاه الله إليه من العلم ما فضله الله به فكأنه علم أنه لابد من خروجهم و أنه لا مطمع في استئصالهم كما أنه لما علم أن الدجال خارج لا محالة نهى عمر عن قتل ابن صياد و قال : [ إن يكنه فلن تسلط عليه و إن لا يكنه فلا خير لك في قتله فكان هذا مما أوجب نهيه بعد ذلك عن قتل ذي الخويصرة لما لمزة في غنائم حنين ] و كذلك لما قال عمر : ائذن لي فأضرب عنقه قال : [ دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] إلى قوله [ يخرجون على حين فرقة من الناس ] فأمر بتركه لأجل أن له أصحابا خارجين بعد ذلك فظهر أن علمه بأنهم لا بد أن يخرجوا منعه من أن يقتل منهم أحدا فيتحدث الناس بأن محمدا يقتل أحابه الذين يصلون معه و تنفر بذلك عن الإسلام قلوب كثيرة من غير مصلحة تعمر هذه المفسدة هذا مع أنه كان له أن يعفو عمن آذاه مطلقا بأبي هو و أمي صلى الله عليه و سلم
و بهذا تبين سبب كونه في بعض الحديث يعلل بأنه يصلي و في بعضه بأن لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه و في بعضه بأن له أصحابا سيخرجون و سيأتي إن شاء تعالى ذكر بعض هذه الأحاديث و إن كان هذا الموضع خليقا بها أيضا(1/185)
فثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه و سلم في حكمه أو قسمه فإنه يجب قتله كما أمر به صلى الله عليه و سلم في حياته و بعد موته و أنه إنما عفا عن ذلك اللامز في حياته كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين لما علم أنهم خارجون في الأمة لا محالة و أن ليس في ذلك الرجل كثير فائدة بل فيه من المفسدة ما في قتل سائر المنافقين و أشد
و مما يشهد لمعنى هذا الحديث قول أبي بكر في الحديث المشهور لما أراد أبو برزة أن يقتل الرجل الذي أغلظ لأبي بكر و تغيظ عليه أبو بكر و قال له أبو برزة : أقتله ؟ فقال أبو بكر [ ما كان لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقتل أحدا ]
فإن هذا كما تقدم دليل على أن الصديق علم أن النبي صلى الله عليه و سلم يطاع أمره في قتل من أمر بقتله ممن أغضب النبي صلى الله عليه و سلم
فلما كان في حديث الشعبي أنه أمر أبا بكر بقتل ذلك الذي لمزه حتى أغضبه كانت هذه القصة بمنزله العمدة لقول الصديق و كان قول الصديق رضي الله عنه دليلا على صحة معناها
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 195 ]
و مما يدل على أنهم كانوا يرون قتل من علموا أنه من أولئك الخوارج و إن كان منفردا حديث صبيغ بن عسل و هو مشهور قال أبو عثمان النهدي : سأل رجل من بني يربوع أو من بني تميم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذريات و المرسلات و النازعات أو عن بعضهن فقال عمر : ضع عن رأسك فإذا له وفرة فقال عمر : أما و الله لو رأيتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك ثم قال : ثم كتب إلى اهل البصرة ـ أو قال إلينا ـ أن لا تجالسوه قال : فلو جاء و نحن و مائة تفرقنا رواه الأموي و غيره بإسناد صحيح(1/186)
فهذا عمر يحلف بين المهاجرين و الأنصار أنه لو رأى العلامة التي وصف بها النبي صلى الله عليه و سلم الخوارج لضرب عنقه مع أنه هو الذي نهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن قتل ذي الحويصرة فعلم أنه فهم من قول النبي صلى الله عليه و سلم [ أينما لقيتموهم فاقتلوهم ] القتل المطلق و أن العفو عن ذلك كان حال الضغف و الاستئلاف
فإن قيل : فما الفرق بين قول هؤلاء اللامزين في كونه نفاقا موجبا للكفر و حل الدم حتى صار جنس هذا القائل شر الخلق و بين ما ذكر من موجدة قريش و الأنصار ؟ ففي حديث أبي سعيد الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قسم الذهبية بين أربعة عضب قريش و الأنصار ن و قالوا : تعطيه صناديد أهل نجد و تدعنا ؟ فقال : [ إنما أتألفهم ] فأقبل رجل غائر العينين و ذكر حديث اللامز
و في رواية لمسلم : فقال رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ألا تأمنوني و أنا أمين من في السماء ؟ يأتيني خبر السماء صباحا و مساء فقال رجل غائر العينين ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 196 ](1/187)
و ذكر موجدة الأنصار في غنائم حنين فعن أنس بن مالك أن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين ـ حين أفاء الله على رسوله من الأموال هوزان ما أفاء فطفق رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل ـ فقالوا : يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه و سلم ! يعطي قريشا و يتركنا و سيوفنا تقطر من دمائهم ! ؟ و في رواية : لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش فقالت الأنصار : إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دمائهم و إن غنائمنا ترد عليهم و في رواية : فقال الأنصار : إذا كانت الشدة فنحن ندعى و يعطي الغنائم غيرنا قال أنس : فحدثت رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك من قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم و لم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ما حديث بلغني عنكم ؟ ] فقال له فقهاء الأنصار : أما ذوور رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا و أما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا : يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه و سلم يعطي قريشا و يتركنا و سيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون أن تذهب الناس بالأموال و ترجعون إلى رحالكم برسول الله ؟ ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ] قالوا : بلى يا رسول الله قد رضيتنا قال : [ فإنكم ستجدون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقوا اللله و رسوله على الحوض ] قالوا : سنصبر
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 197 ]
قيل إن أحدا من المؤمنين من قريش و الأنصار و غيرهم لم يكن في شيء من كلامه تجوير لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لا تجويز ذلك عليه ولا اتهام له أنه حابى في القسمة لهوى النفس و طلب الملك و لا نسبة له إلى أنه لم يد بالقسمة وجه الله تعالى و نحو ذلك مما جاء مثله في كلام المنافقين(1/188)
و ذوو الرأي من القبيلتين ـ و هم الجمهور ـ لم يتكلموا بشيء أصلا بل قد رضوا ما آتاهم الله و رسوله و قالوا : حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله كما قالت فقهاء الأنصار [ أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا ] و أما الذين تكلموا من أحداث الأسنان و نحوهم فرأوا أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما يقسم المال لمصالح الإسلام و لا يضعه في محل إلا لأن وضعه فيه أولى من وضعه في غيره و هذا مما لا يشكون فيه
و كان العلم بجهة المصلحة قد تنال بالوحي و قد تنال بالاجتهاد و لم يكونوا علموا أن ذلك مما فعله النبي صلى الله عليه و سلم و قال : إنه بوحى من الله فإن من كره ذلك أو اعترض عليه بعد أن يقول ذلك فهو كافر مكذب
و جوزوا أن يكون قسمه اجتهادا و كانوا يراجعونه في الاجتهاد في الأمور الدينوية المتعلقة بمصالح الذين و هو باب يجوز العمل فيه باجتهاده باتفاق الأمة و ربما سألوه عن الأمر لا لمراجعته فيه لكن ليتثبتوا وجهه يتفقهوا في سننه و يعلموا علته
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 198 ]
و كانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو هذين الوجهين : و إما لتكميل نظره صلى الله عليه و سلم في ذلك إن كان من الأمور السياسية التي للاجتهاد فيها مساغ أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر و يزدادوا علما و إيمانا و ينفتح لهم طريق التفقه فيه
فالأول كمراجعة الحباب بن المنذر له لما نزل ببدر منزلا قال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتعداه أم هو الرأي و الحرب و المكيدة ؟ فقال : [ بل هو الرأي و الحرب و المكيدة ؟ فقال إن هذا ليس بمنزلة قتال فقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيه و تحول إلى غيره ](1/189)
و كذلك أيضا لما عزم على أن يصالح غطفان عام الخندق على نصف تمر المدينة ثم جاء سعد بن معاذ في طائفة من الأنصار فقال : يا رسول الله بأبي أنت و أمي ! هذا الذي تعطيهم أشيء من الله أمرك فسمع وطاعة لله و رسوله أم شيء من قبل رأيك ؟ قال : [ لا بل من قبل رأيي إني رأيت القوم اعطوا الأموال فجمعوا لكم ما رأيتم من القبائل و إنما أنتم قبيل واحد فأردت أن أدفع بعضهم و نعطيهم شيئاو ننصب لبعض أشتري بذلك ما قد نزل معشر الأنصار ] فقال سعد : و الله يا رسول الله لقد كنا في الشرك و ما يطمعون منا في أخذ نصف أو كما قال و في رواية : [ ما يأكلون من تمرة إلا شراء أو قرى فكيف اليوم و الله معنا و أنت بين أظهرنا لا نعطيهم و لا كرامة لهم ثم تناول الصحيفة فتفل فيها ثم رمى بها ]
و ما كان من قبيل الرأي و الظن في الدنيا فقد قال صلى الله عليه و سلم لما سئل عن التلقيح : [ ما أظن يغني ذلك شيئا إنما ظننت فلا تؤاخذني بالظن ن و لكن إذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به ن فإني لن أكذب على الله ] رواه مسلم
و في حديث آخر : [ أنتم أعلم بأمر دنياكم فما كان من أمر دينكم فإلي ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 199 ]
و من هذا الباب حديث سعد بن أبي وقاص قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم رهطا و أنا جالس فترك رجلا منهم هو أعجبهم إلي فقمت فقلت له : يا رسول الله أعطيت فلانا و فلانا و تركت فلانا و هو مؤمن فقال : أو مسلم ذكر ذلك سعد له ثلاثا و أجابه بمثل ذلك ثم قال : [ إني لأعطي الرجل و غيره أحب إلي منه خشيت ان يكب في النار على وجهه ] متفق عليه(1/190)
فإنما سأله سعد رضي الله عنه ليذكر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك الرجل عله يرى أنه ممن ينبغي إعطاؤه أو لتبين لسعد وجه تركه مع إعطاء من هو دونه فأجابه النبي صلى الله عليه و سلم عن المتقدمتين فقال : إن العطاء ليس لمجرد الإيمان بل أعطى و امنع و الذي أترك أحب إلي من الذي أعطيه لأن الذي أعطيه لو لم أعطه لكفر فأعطيه لأحفظ عليه إيمانه و لا أدخله في زمرة من يعبد الله على حرف و الذي أمنعه معه من اليقين و الإيمان ما يغنيه عن الدنيا و هو أحب إلي و عندي أفضل و هو يعتصم بحبل الله تعالى و رسوله و يعتاض بنصيبه من الدين عن نصيبه من الدنيا كما أعتاض به أبو بكر و غيره و كما اعتاضت الأنصار حين ذهب الطلقاء و أهل نجد بالشاة و البعير و انطلقوا هم برسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لو كان العطاء لمجرد الإيمان فمن أين لك أن هذا مؤمن ؟ بل يجوز أن يكون مسلما و إن لم يدخل الإيمان في قلبه فإن النبي صلى الله عليه و سلم أعلم من سعد بتمييز المؤمن من غيره حيث أمكن التمييز
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 200 ]
و من ذلك أيضا ما ذكره ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث أن قائلا قال : يا رسول الله أعطيت عيينية بن حصن و الأقرع بن حابس مائة مائة من الإبل و تركت جعيل بن سراقة الضمري فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة و الأقرع و لكني تألفتهما على إسلامها و وكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه ] و قد ذكر بعض أهل المغازي في حديث الأنصار : وددنا أن تعلم من أين هذا أن كان من قبل الله صبرنا و إن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم استعتبيناه
فبهذا تبين أن من وجد منهم جوز أن يكون القسم وقع باجتهاد في المصلحة فأحب أن يعلم الوجه الذي أعطي به غيره و منع هو مع فضله على غيره في الإيمان و الجهاد و غير ذلك(1/191)
و هذا في بادي الرأي هو الموجب للعطاء و أن النبي صلى الله عليه و سلم يعطيه كما أعطى غيره و هذا معنى قولهم استعتبناه أي طلبنا منه ان يعتبنا أي يزيل عتبنا : إما ببيان الوجه الذي أعطى غيرنا أو بإعطائنا و قد قال صلى الله عليه و سلم : [ ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسول مبشرين و منذرين ] فأحب النبي صلى الله عليه و سلم أن يعذره فيما فعل فبين لهم ذلك فلما تبين لهم الأمر بكوا حتى أخضلوا لحاهم و رضوا حق الرضاء و الكلام المحكي عنهم يدل على أنهم رأوا القسمة وقعت اجتهادا و أنهم أحق بالمال من غيرهم فتعجبوا من إعطاء غيرهم و أرادوا أن يعلموا هل هو وحي أو اجتهاد يتعين اتباعه لأنه المصلحة أو اجتهاد يمكن النبي صلى الله عليه و سلم ان يأخذ بغيره إذا رأى أنه أصلح و إن كان هذا القسم إنما يمكن فيما لم يستقر أمره و يقره عليه به و لهذا قالوا : يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا و يتركنا و سيوفنا تقطر من دمائهم ! ؟ و قالوا : إن هذا لهو العجب إن سيوفنا لتقطر من دمائهم و إن غنائمهم لترد عليهم و في رواية : [ كذا كانت الشدة فنحن ندعى ويعطى الغنائم غيرنا ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 201 ]
و اختلف الناس في العطايا : هل كانت من نفس الغنيمة أو من الخمس ؟ فروى عن سعد بن إبراهيم و يعقوب بن عتبة قالا : كانت العطايا فارغة من الغنائم و على هذا فالنبي صلى الله عليه و سلم إنما أخذ نصيبهم من المغنم لطيب أنفسهم(1/192)
و قد قيل : إنه أراد أن يقطعهم بدل ذلك قطائع من البحرين فقالوا : لا حتى يقطع إخواننا من المهاجرين مثله و لهذا لما جاء مال البحرين وافوه صلاة الفجر و قال لجابر : [ لو قد جاء مال البحرين أعطيتك كذا و كذا ] لكن لم يستأذنهم النبي صلى الله عليه و سلم قبل القسم لعلمه بأنهم يرضون بما يفعل و إذا علم الرجل من حال صديقه أن يطيب نفسه بما يأخذ من ماله فله أن يأخذ و إن لم يستأذنه نطقا و كان هذا معروفا بين كثير من الصحابة و التابعين كالرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه و سلم كبة من شعر فقال : [ أما ما كان لي و لبني هاشم فهو لك ] و على هذا فلا حرج عليهم إذا سألوا نصيبهم
و قال موسى ابن إبراهيم : كانت من الخمس
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 202 ]
قال الواقدي : و هو أثبت القولين و على هذا فالخمس إما أن يقسمه الإمام باجتهاد كما يقول مالك أو يقسمه خمسة أقسام كما يقول الشافعي و أحمد و إذا قسمه خمسة أقسام فإذا لم يوجد يتامى أو مساكين أو ابن سبيل أو استغنوا ردت أنصباؤهم في مصارف سهم الرسول
و قد كان اليتامى و المساكين و ابن السبيل إذ ذاك مع قلتهم مستغنين بنصيبهم من الزكاة لأنه لما فتحت خيبر و استغنى أكثر المسلمين رد رسول الله صلى الله عليه و سلم على الأنصار منائح النخل التي كانوا قد منحوها للمهاجرين فاجتمع للأنصار أموالهم التي كانت و الأموال التي غنموها بخيبر و غيرها فصاروا مياسير و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في خطبته : [ ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي ؟ ] فصرف النبي صلى الله عليه و سلم عامة الخمس في مصارف سهم الرسول فإن أولى المصالح تأليف أولئك القوم و من زعم أن مجرد خمس الخمس قام بجميع ما أعطى المؤلفة فإنه لم يدر كيف القصة و من له خبرة بالقصة يعلم أن المال لم يكن يحتمل هذا(1/193)
و قد قيل : إن الإبل كانت أربع و عشرين ألف بعير و الغنم أربعين ألفا أو أقل أو أكثر و الورق ألاف أوقية و الغنم كانت تعدل عشرة منها ببعير فهذا يكون قريبا من ثلاثين ألف بعير فخمس الخمس منه ألف و مائتا بعير و قد قسم في المؤلفة أضعاف ذلك على ما لا خلاف فيه بين أهل العلم
و أما قول بعض قريش و الأنصار في الذهيبة التي بعث بها علي من اليمن : أيعطي صناديد أهل نجد و يدعنا ؟ فمن هذا الباب أيضا إنما سألوه على هذا الوجه
و هاهنا جوابان آخران :
الجواب الأول : أن بعض أولئك القائلين قد كان منافقا يجوز قتله مثل الذي سمعه ابن مسعود يقول في غنائم حنين : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله و كان في ضمن قريش و الأنصار منافقون كثيرون فما ذكر من كلمة لا مخرج لها فإنما صدرت من منافق و الرجل الذي ذكر عنه أبو سعيد أنه قال : كنا أحق بهذا من هؤلاء لم يسمه منافقا و الله أعلم
الجواب الثاني : أن الاعتراض قد يكون ذنبا و معصية يخاف على صاحبه النفاق و إن لم يكن نفاقا مثل قوله تعالى : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } [ الأنفال : 6 ] و مثل مراجعتهم له في فسخ الحج إلى العمرة و إبطائهم عن الحل و كذلك كراهتهم للحل عام الحديبة و كراهتهم للصلح و مراجعة من راجع منهم فإن من فعل ذلك فقد أذنب ذنبا كان عليه أن يستغفر الله منه كما أن الذين رفعوا أصواتهم فوق صوته أذنبوا ذنبا تابوا منه و قد قال : { و اعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } [ الحجرات : 7 ]
قال سهل بن حنيف : اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل و لو أستطيع أن أرد لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لفعلت
فهذه أمور صدرت عن شهوة و عجلة و لا عن شك في الدين كما صدر عن حاطب التجسس لقريش مع أنها ذنوب و معاص يجب على صاحبها أن يتوب و هي بمنزلة عصيان أمر النبي صلى الله عليه و سلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 204 ](1/194)
و مما يدخل في هذا حديث [ أبي هريرة في فتح مكة قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من دخل دار أبو سفيان فهو آمن و من ألقى السلاح فهو آمن و من أغلق بابه فهو آمن ] فقالت الأنصار : أما الرجل فقد أدركته رغبة في قرابته و رأفة بعشيرته
قال أبو هريرة : و جاء الوحي و كان إذا جاء لا يخفى علينا فإذا جاء فليس أحد منها يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ينقضي الوحي
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا معشر الأنصار قالوا : لبيك يا رسول الله قال : قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قرابته و رأفة بعشيرته ؟ قالوا : قد كان ذلك قال : كلا إني عبد الله و رسوله هاجرت إلى الله و إليكم المحيا محياكم و الممات مماتكم فأقبلوا إليه يبكون و يقولون : و الله ما قلنا لا لضن بالله و رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله و رسوله يصدقانكم و يعذرانكم ] رواه مسلم
و ذلك أن الأنصار لما رأوا النبي صلى الله عليه و سلم قد آمن أهل مكة و أقرهم على أموالهم و دمائهم مع دخوله عليهم عنوة و قهرا و تمكنه من قتلهم و أخذ أموالهم لو شاء خافوا أن النبي صلى الله عليه و سلم يريد أن يستوطن مكة و يستبطن قريشا لأن البلد بلده و العشيرة عشيرته و أن يكون نزاع النفس إلى الوطن و الأهل يوجب انصرافه عنهم فقال من قال منهم ذلك و لم يقله من الفقهاء و أولو الألباب الذين يعلمون أنه لم يكن له سبيل إلى استيطان مكة فقالوا ذلك لا طعنا و لا عيبا و لكن ضنا بالله و رسوله و الله و رسوله قد صدقاهم أنما حملهم على ذلك الضن بالله و رسوله و عذراهم فيما قالوا لما رأوا و سمعوا و لأن مفارقة الرسول شديد على مثل أولئك المؤمنين الذين هم شعار و غيرهم دثار و الكلمة التي تخرج عن محبة و تعظيم و تشريف و تكريم تغفر لصاحبها بل يحمد عليها و إن كان مثلها لو صدر بدون ذلك استحق صاحبها النكال
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 205 ](1/195)
و كذلك الفعل ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قال لأبي بكر حين أراد أن يتأخر عن موقفه في الصلاة لما أحس بالنبي صلى الله عليه و سلم [ مكانك ] فتأخر أبو بكر فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما منعك أن تثبت مكانك و قد أمرتك ] فقال : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم
و كذلك أبو أيوب الأنصاري لما استأذن النبي صلى الله عليه و سلم في أن ينتقل إلى السفل و أن يصعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى العلو و شق عليه أن يسكن فوق رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمكث في مكانه و ذكر له أن سكناه أسفل أرفق به من أجل دخول الناس عليه فامتنع أبو أيوب من ذلك أدبا مع النبي صلى الله عليه و سلم و توقيرا له فكلمة الأنصار رضي الله عنهم من هذا الباب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 206 ]
و بالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام :
إحداهن : ما هو كفر مثل قوله : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله
الثاني : ما هو ذنب و معصية يخاف على صاحبه أن يحبط عمله مثل رفع الصوت فوق صوته و مثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح و مجادلة من جادله يوم بدر بعد ما تبين له الحق و هذا كله يدخل في المخالفة عن أمره(1/196)
الثالث : ما ليس من ذلك بل بحمد عليه صاحبه أو لا يحمد كقول عمر : ما بالنا نقصر الصلاة و قد أمنا ؟ و كقول عائشة : ألم يقل الله { فأما من أوتي كتابه بيمينه } [ الحاقة : 19 ] و كقول حفصة : ألم يقل الله { و إن منكم إلا واردها } [ مريم : 71 ] و كمراجعة الحباب في منزل بدر و مراجعة سعد في صلح غطفان على نصف تمر المدينة و مثل [ مراجعتهم له لما أمرهم بكسر الآنية التي فيها لحوم الحمر فقالوا : أو لا نغسلها فقال : اغسلوها ] و كذلك رد عمر لأبي هريرة لما خرج مبشرا و مراجعته النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك و كذلك مراجته له لما أذن لهم في نحر الظهر في بعض المغازي و طلبه منه أن يجمع الأزواد و يدعو الله ففعل ما أشار به عمر و نحو ذلك مما فيه سؤال عن إشكال ليتبين لهم أو عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول الله صلى الله عليه و سلم
فهذا ما اتفق ذكره في السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قتل من سبه من معاهد و غير معاهد و بعضها نص في المسألة و بعضها ظاهر و بعضها مستنبط مستخرج استنباطا قد يقوى في رأي من فهم و قد يتوقف عنه من لم يفهمه أو من لم يتوجه عنده أو رأى أن الدلالة منه ضعيفة و لن يخفى الحق على من توخاه و قصده و رزقه الله تعالى بصيرة و علما و الله سبحانه و تعالى أعلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 208 ]
و أما إجماع الصحابة فلان ذلك نقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها و يستفيض و لم ينكرها أحد منهم فصارت إجماعا
و اعلم أنه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسألة فرعية بأبلغ من هذا الطريق(1/197)
فمن ذلك ما ذكره سيف بن عمر التميمي في كتاب الردة و الفتوح عن شيوخه قال : و رفع إلى المهاجر ـ يعني المهاجر بن أبي أمية و كان أميرا على اليمامة و نواحيها ـ امرأتان مغنيتان غنت إحداهما بشتم النبي صلى الله عليه و سلم فقطع يدها و نزع ثنيتيها و غنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها و نزع ثنيتها فكتب إليه أبو بكر : بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت و زمزمت بشتم النبي صلى الله عليه و سلم فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقتلها لن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر و كتب إليه أبو بكر في التي تغنت بهجاء المسلمين : أما بعد فإنه بلغني أنك قطعت يد امرأة في أن تغنت بهجاء المسلمين و نزعت ثنيتيها فإن كانت ممن تدعي الإسلام فأدب و تقدمه دون المثلة و إن كانت ذمية فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم و لو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروهك فاقبل الدعة و إياك في المثلة في الناس فإنها مأثم و منفرة إلا في قصاص
و قد ذكر هذه القصة غير سيف و هذا يوافق ما تقدم عنه أن من شتم النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يقتله و ليس ذلك لأحد بعده و هو صريح في وجوب قتل من سب النبي صلى الله عليه و سلم من مسلم و معاهد و إن كان امرأة و أنه يقتل بدون استتابة بخلاف من سب الناس و أن قتله حد للأنبياء كما أن جلد من سب غيرهم حد له و إنما لم يأمر أبو بكر بقتل تلك المرأة لأن المهاجر سبق منه فيها حد باجتهاده فكره أبو بكر أن يجمع عليها حدين مع أنه لعلها أسلمت أو تابت فقبل المهاجر توبتها قبل كتاب أبي بكر و هو محل اجتهاد سبق منه فيه حكم فلم يغيره لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد و كلامه يدل على أنه إنما منعه من قتلها ما سبق من المهاجر
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 209 ](1/198)
و روى حرب في مسائله عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : أتي عمر برجل سب النبي صلى الله عليه و سلم فقتله ثم قال عمر : من سب الله أو سب أحد من الأنبياء فاقتلوه
قال ليث : و حدثني مجاهد عن ابن عباس قال : [ أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب فإن رجع و إلا قتل و أيما معاهد عاند فسب الله أو أحدا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه ]
و عن أبي مشجعة بن ربعي قال : لما قدم عمر بن الخطاب الشام قام قسطنطين بطريق الشام و ذكر معاهدة عمر له و شروطه عليهم قال : اكتب بذلك كتابا قال عمر : نعم فبينا هو يكتب الكتاب إذ ذكر عمر فقال : إني أستثني عليك معرة الجيش مرتين قال : لك ثنتان و قبح الله من أقالك فلما فرغ عمر من الكتاب قال له : ياأمير المؤمنين قم في الناس فأخبرهم الذي جعلت لي و فرضت علي ليتناهوا عن ظلمي قال عمر : نعم فقام في الناس فحمد الله و أثنى عليه فقال : الحمد لله أحمده و أستعينه من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له فقال النبطي : إن الله لا يضل أحدا قال عمر : ما تقول ؟ قال : لا شيء و عاد النبطي لمقالته فقال : أخبروني ما يقول قالوا : يزعم أن الله لا يضل أحدا قال عمر : إنا لم نعطك الذي أعطيناك لتدخل علينا في ديننا و الذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن الذي فيه عيناك و عاد عمر و لم يعد النبطي فلما فرغ عمر أخذ النبطي الكتاب رواه حرب
فهذا عمر رضي الله عنه بمحضر من المهاجرين و الأنصار يقول لمن عاهده : إنا لم نعطك العهد على أن تدخل علينا في ديننا و حلف لئن عاد ليضربن عنقه فعلم بذلك إجماع الصحابة على أن أهل العهد ليس لهم أن يظهروا الاعتراض علينا في ديننا و أن ذلك منهم مبيح لدمائهم
و إن من أعظم الاعتراضات سب نبينا صلى الله عليه و سلم و هذا ظاهر لا خفاء به لأن إظهار التكذيب بالقدر من إظهار شتم رسول الله صلى الله عليه و سلم(1/199)
و إنما لم يقتله عمر لأنه لم يكن قد تقرر عنده أن هذا الكلام طعن في ديننا لجواز أن يكون اعتقد أن عمر قال ذلك من عنده فلما تقدم إليه عمر و بين له أن هذا ديننا قال له : لئن عدت لأقتلنك
و من ذلك ما استدل به الإمام أحمد و رواه عن هشيم : ثنا حصين عمن حدثه عن ابن عمر قال : مر به راهب فقيل له : هذا يسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال ابن عمر : لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه و سلم
و رواه أيضا من حديث الثوري عن حصين عن شيخ أن ابن عمر أصلت على راهب سب النبي صلى الله عليه و سلم بالسيف و قال : إنا لم نصالحهم على سب النبي صلى الله عليه و سلم
و الجمع بين الرواتين أن يكون ابن عمر أصلت عليه السيف لعله يكون مقرا بذلك فلما أنكر كف عنه و قال : لو سمعته لقتلته و قد ذكر حديث ابن عمر غير واحد
و هذه الآثار كلها نص في الذمي و الذمية و بعضها عام في الكافر و المسلم أو نص فيهما
و قد تقدم حديث الرجل الذي قتله عمر من غير استتابة حين أبى أن يرضى بحكم النبي صلى الله عليه و سلم و حديث كشفه عن رأس صبيغ بن عسل و قوله : لو رأيتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك من غير استتابة و إنما ذنب طائفته الاعتراض على سنة الرسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد تقدم عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } الآية [ النور : 23 ] : هذه في شأن عائشة و أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة ليس فيها توبة و من قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة و قال : نزلت في عائشة خاصة و اللعنة للمنافقين عامة و معلوم أن ذاك إنما هو لأن قذفها أذى للنبي صلى الله عليه و سلم و نفاق و المنافق يجب قتله إذا لم تقبل توبته
و روى الإمام أحمد بإسناده عن سماك بن الفضل عن عروة بن محمد عن رجل من بلقين أن امرأة سبت النبي صلى الله عليه و سلم فقتلها خالد بن الوليد و هذه المرأة مبهمة(1/200)
و قد تقدم حديث محمد بن مسلمة في ابن يامين الذي زعم أن قتل كعب ابن الأشرف كان غدرا و حلف محمد بن مسلمة لئن وجده خاليا ليقتلنه لأنه نسب النبي صلى الله عليه و سلم إلى الغدر و لم ينكر المسلمون عليه ذلك
و لا يرد على ذلك إمساك الأمير ـ إما معاوية أو مروان ـ عن قتل هذا الرجل إن سكوته لا يدل على مذهب و هو لم يخالف محمد بن مسلمة و لعل سكوته لأنه لم ينظر في حكم هذا الرجل أو نظر فلم تتبين له حكمة أو لم تنبعث داعية لإقامة الحد عليه أو ظن أن الرجل قال ذلك معتقدا أنه قتل دون أمر النبي صلى الله عليه و سلم أو لأسباب أخر
و بالجملة فمجرد كفه لا يدل على أنه مخالف لمحمد بن مسلمة فيما قاله و ظاهر القصة أن محمد بن مسلمة رآه مخطئا بترك إقامة الحد على ذلك الرجل و لذلك هجره لكن هذا الرجل إنما كان مسلما فإن المدينة لم يكن بها يومئذ أحد من غير المسلمين
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 212 ]
و ذكر ابن المبارك : [ أخبرني حرملة بن عمران حدثني كعب بن علقمة أن غرفة بن الحارث الكندي ـ و كانت له صحبة من النبي صلى الله عليه و سلم ـ سمع نصرانيا شتم النبي صلى الله عليه و سلم فضربه فدق أنفه فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص فقال له : إنا قد أعطيناهم العهد فقال له غرفة : معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي صلى الله عليه و سلم و إنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم و بين كنائسهم يعملون فيها ما بدا لهم و أن لا نحملهم على ما لا يطيقون و إن أرادهم عدو قاتلنا دونهم و على أن نخلي بينهم و بين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم فيهم بحكم الله و حكم رسوله صلى الله عليه و سلم و إن غابوا عنا لم نتعرض لهم فقال عمرو : صدقت ](1/201)
فقد اتفق عمرو و غرفة بن الحارث على أن العهد الذي بيننا و بينهم لا يقتضي إقرارهم على إظهار شتم الرسول الله صلى الله عليه و سلم كما اقتضى إقرارهم على ما هم عليه من الكفر و التكذيب فمتى أظهروا شتمه فقد فعلوا ما يبيح الدم من غير عهد عليه فيجوز قتلهم و هذا كقول ابن عمر في الراهب الذي شتم النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو سمعته لقتلته فإنا لم نعطهم العهد على أن يشتموا نبينا صلى الله عليه و سلم ]
و إنما لم يقتل هذا الرجل ـ و الله أعلم ـ لأن البينة لم تقم عليه بذلك و إنما سمعه غرفة و لعل غرفة قصد قتله بتلك الضربة و لم يمكن من إتمام قتله لعدم البينة بذلك و لأن فيه افتئاتا على الإمام و الإمام لم يثبت عنده ذلك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 213 ]
و عن خليد أن رجلا سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر : إنه لا يقتل إلا من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم و لكن اجلده على رأسه أسواطأ و لولا أني أعلم أن ذلك خير له لم أفعل رواه حرب و ذكره الإمام أحمد و هذا مشهور عن عمر بن عبد العزيز و هو خليفة راشد عالم بالسنة متبع لها
فهذا قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و التابعين لهم بإحسان لا يعرف عن صاحب و لا تابع خلاف لذلك بل إقرار عليه و استحسان له
و أما الاعتبار فمن وجوه :
أحدها : أن عيب ديننا و شتم نبينا مجاهدة لنا و محاربة فكان نقضا للعهد كالمجاهدة و المحاربة بالأولى
يبين ذلك أن الله سبحانه قال في كتابه : { و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله } [ التوبة : 41 ] و الجهاد بالنفس يكون باللسان كما يكون باليد بل قد يكون أقوى منه قال النبي صلى الله عليه و سلم [ جاهدوا المشركين بأيديكم و ألسنتكم و أموالكم ] رواه النسائي و غيره(1/202)
و كان [ صلى الله عليه و سلم ] يقول لحسان بن ثابت : [ أهجهم و هاجهم ] [ و كان ينصب له منبر في المسجد ينافح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بشعره و هجائه للمشركين ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم أيده بروح القدس ] و قال : [ إن جبرئيل معك ما دمت تنافح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و قال : [ هي أنكى فيهم من النبل ]
و كان عدد من المشركين يكفون عن أشياء ممن يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان حتى إن كعب بن الأشرف [ لما ] ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل البيت هجاهم حسان بقصيدة فيخرجونه من عندهم حتى لم يبق له بمكة من يؤويه
و في الحديث : [ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ] و [ أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب و رجل تكلم بحق عند سلطان جائر فأمر به فقتل ]
و إذا كان شأن الجهاد باللسان هذا الشأن في شتم المشركين و هجائهم و إظهار دين الله و الدعاء إليه علم أن من شتم دين الله و رسوله و أظهر ذلك و ذكر كتاب الله بالسوء علانية فقد جاهد المسلمين و حاربهم و ذلك نفض للعهد
الوجه الثاني : أنا و إن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر و الشرك فهو كإقرارنا لهم على ما يضمرونه لنا من العداوة و إرادة السوء بنا و تمني الغوائل لنا فإننا نحن نعلم أنهم يعتقدون خلاف ديننا و يريدون سفك دمائنا و علو دينهم و يسعون في ذلك لو قدروا عليه فهذا القدر أقررناهم عليه فإذا عملوا بموجب هذه الإرادةـ بأن حاربونا و قاتلونا ـ نقضوا العهد كذلك إذا عملوا بموجب تلك العقيدة ـ من إظهار السب لله و لكتابه و لدينه و لرسوله ـ نقضوا العهد إذ لا فرق بين العمل بموجب الإدارة و موجب الاعتقاد(1/203)
الوجه الثالث : أن مطلق العهد الذي بيننا و بينهم يقتضي أن يكفوا و يمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا و شتم رسولنا كما يقتضي الإمساك عن دمائنا و محاربتنا لأن معنى العهد ان كل و احد من المتعاهدين يؤمن الآخر مما يحذره منه قبل العهد و من المعلوم أنا نحذر منهم إظهار كلمة الكفر و سب الرسول و شتمه كما نحذر إظهار المحاربة بل أولى لأنا نسفك الدماء و نبذل الأمول في تعزير الرسول و توقيره و رفع ذكره و إظهار شرفه و علو قدره و هم جميعا يعلمون هذا من ديننا فالمظهر منهم لسبه ناقض للعهد فاعل لما كنا نحذره و نقاتله عليه قبل العهد و هذا واضح
الوجه الرابع أن العهد المطلق لو لم يقتض ذلك فالعهد الذي عاهدهم عليه عمر ابن الخطاب و أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم معه قد تبين فيه ذلك و سائر أهل الذمة إنما جروا على مثل ذلك العهد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 216 ]
روى حرب بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن غنم قال : كتب لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى أهل الشام : هذا كتاب لعبد الله أمير المؤمنين من مدينة كذا و كذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا و ذرارينا و أموالنا على أن لا نحدث و ذكر الشروط إلى أن قال : و لا نظهر شركا و لا ندعو إليه أحدا و قال في آخره : شرطنا ذلك على أنفسنا و أهلينا و قبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا عن شيء شرطناه لكم و ضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل من أهل المعاندة و الشقاق
و قد تقدم قول عمر له في مجلس العقد : [ إنا لم نعطيك الذي أعطيناك لتدخل علينا في ديننا و الذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن عنقك ] و عمر صاحب الشروط عليهم
فعلم بذلك أن شروط المسلمين عليهم أن لا يظهروا كلمة الكفر و أنهم متى أظهروها صاروا محاربين و هذا الوجه يوجب أن يكون السب نقصا للعهد عند من يقول : لا ينتقص العهد به إلا إذا شرط عليهم تركه كما خرجه بعض أصحابنا و بعض الشافعية في المذهبين(1/204)
و كذلك يوجب أن يكون نقصا للعهد عند من يقول : إذا شرط عليهم انتقاض العهد بفعله انتقض كما ذكر بعض أصحاب الشافعي فإن أهل الذمة إنما هم جارون على شروط عمر لأنه لم يكن بعده إمام عقد عقدا يخالف عقده بل كل الأئمة جارون على حكم عقده و الذي سعى أن يضاف إلى من خالف في هذه المسألة أنه لا يخالف إذا شرط عليهم انتقاض العهد بإظهار السب فإن الخلاف حينئذ لا وجه له البتة مع إجماع الصحابة على صحة هذا الشرط و جريانه على وفق الأصول فإذا كان الأئمة قد شرطوا عليهم ذلك ـ و هو شرط صحيح لزم العمل به على كل قول
الوجه الخامس : أن العقد مع أهل الذمة على أن تكون الدار لنا تجري فيها أحكام الإسلام و على أنهم أهل صغار و ذلة على هذا وهدوا و صولحوا فإظهار شتم الرسول الله صلى الله عليه و سلم و الطعن في الدين ينافي كونهم أهل صغار و ذلة فإن من أظهر سب الدين و الطعن فيه لم يكن من الصغار في شيء فلا يكون عهده باقيا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 217 ]
الوجه السادس : أن الله فرض علينا تعزير رسوله و توقيره و تعزيره : نصره و منعه و توقيره : إجلاله و تعظيمه و ذلك يوجب صون عرضه بكل طريق بل ذلك أول درجات التعزير و التوقير فلا يجوز أن نصالح أهل الذمة أن يسمعونا شتم نبينا و يظهروا ذلك فإن تمكينهم من ذلك ترك للتعزير و التوقير و هم يعلمون أنا لا نصالحهم على ذلك بل الواجب علينا أن نكفهم عن ذلك و نزجرهم عنه بكل طريق و على ذلك عاهدناهم فإذا فعلوه فقد نقضوا الشرط الذي بيننا و بينهم(1/205)
الوجه السابع : إن نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض علينا لأنه من التعزير المفروض و لأنه من أعظم الجهاد في سبيل الله و لذلك قال سبحانه : { مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } إلى قوله { إلا تنصروه فقد نصره الله } [ التوبة : 40 ] و قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله } الآية [ الصف : 14 ] بل نصر آحاد المسلمين واجب بقوله صلى الله عليه و سلم : [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما ] و بقوله : [ المسلم أخو المسلم لا يسلمه و لا يظلمه ] فكيف لا ينصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟
و من أعظم النص حماية عرضه ممن يؤذيه إلا ترى إلى قوله صلى الله عليه و سلم : [ من حمى مؤمنا من منافق يؤذيه حمى اله جلده من نار جهنم يوم القيامة ] و لذلك سمى من قابل الشاتم بمثل شتمه منتصرا
و سب رجل أبا بكر عند النبي صلى الله عليه و سلم و هو ساكت فلما أخذ لينتصر قام فقال : يا رسول الله كان يسبني و أنت قاعد فلما أخذت لأنتصر قمت فقال : [ كان الملك يرد عليه فلما انتصرت ذهب الملك فلم أكن لأقعد و قد ذهب الملك ] أو كما قال صلى الله عليه و سلم
و هذا كثير معروف في كلامهم يقولون لمن كافى الساب و الشاتم [ منتصرا ] يقولون لمن كافى الضارب و القاتل [ منتصرا ]
و قد تقدم أنه صلى الله عليه و سلم قال للذي بنت مروان لما شتمه : [ إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله و رسول بالغيب فانظروا إلى هذا ] و قال للرجل الذي خرق صف المشركين حتى ضرب بالسيف ساب النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أعجبتم من رجل نصر الله و رسوله ؟ ]
و حماية عرضه صلى الله عليه و سلم في كونه نصرا أبلغ من ذلك في حق غيره لأن الوقعية في عرض قد لا تضر مقصوده بل يكتب له بها حسنات
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 219 ](1/206)
أما انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه مناف لدين الله بالكلية فإن العرض متى انتهك سقط الاحترام و التعظيم فسقط ما جاء به من الرسالة فبطل الدين فقيام المدحة و الثناء عليه و التعظيم و التوقير له قيام الدين كله و سقوط ذلك سقوط الدين كله و إذا كان كذلك وجب علينا أن تنتصر له ممن انتهك عرضه و الانتصار له بالقتل لأن انتهاك عرضه انتهاك لدين الله
و من المعلوم من سعى في دين الله بالإفساد استحق القتل بخلاف انتهاك عرض غيره معينا فإنه لا يبطل الدين و المعاهد لم نعاهده على ترك الانتصار لرسول الله صلى الله عليه و سلم [ منه ] و لا من غيره كما لم نعاهد على ترك استيفاء حقوق المسلمين و لا يجوز أن نعاهده على ذلك و هو يعلم أنا لم نعاهده على ذلك فإذا سبه فقد وجب علينا أن ننتصر له بالقتل و لا عهد معه على ترك ذلك فيجب قتله و هذا بين واضح لمن تأمله
الوجه الثامن : أن الكفار قد عوهدوا على أن لا يظهروا شيئا من المنكرات التي تختص بدينهم في بلاد الإسلام فمتى أظهروا استحقوا العقوبة على إظهارها و إن كان إظهارها دينا لهم فمتى أظهروا سب رسول الله صلى الله عليه و سلم استحقوا عقوبة ذلك القتل كما تقدم
الوجه التاسع : أنه لا خلاف بين المسلمين ـ علمناه ـ أنهم ممنوعون من إظهار السب و أنهم يعاقبون عليه إذا فعلوه بعد النهي ن فعلم أنهم لم يقروا عليه كما أقروا على ما هم [ عليه ] من الكفر و إذا فعلوا ما لم يقروا عليه من الجنايات استحقوا العقوبة بالاتفاق و عقوبة السب إما أن تكون جلدا حبسا أو قطعا او قتلا و الأول باطل فإن مجرد سب الواحد من المسلمين و سلطان المسلمين يوجب الجلد و الحبس فلو كان سب الرسول كذلك استوى من سب الرسول و [ من ] سب غيره من الأمة و هو باطل بالضرورة و القطع لا معنى له فتعين القتل
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 220 ](1/207)
الوجه العاشر : أن القياس الجلي يقتضي أنهم متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء فإن الدم مباح بدون العهد و العهد عقد من العقود و إذا لم يف أحد المتعاقدين بما عاقد عليه فإما أن يفسح العقد بذلك أو يتمكن العاقد الآخر من فسخه هذا أصل مقرر في عقد البيع و النكاح و الهبة و غيرها من العقود و الحكمة فيه ظاهرة فإنه إنما التزم ما التزمه بشرط أن يلتزم الآخر بما التزمه فإذا لم يلتزمه الآخر صار هذا غير ملتزم فإن الحكم المعلق بشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء و إنما اختلفوا في ثبوت مثله
إذا تبين هذا فإن كان المعقود عليه حقا للعاقد بحيث له أن يبذله بدون الشرط لم ينفسخ العقد بفوات الشرط بل له أن يفسخه كما إذا شرط رهنا أو كفيلا أو صفة في المبيع ـ و إن كان حقا له أو لغيره ممن يتصرف له بالولاية و نحوها ـ لم يجز له إمضاء العقد بل ينفسخ العقد بفوات الشرط و يجب عليه فسخه كما إذا شرط أن تكون الزوجة حرة فظهرت أمة و هو ممن لا يحل له نكاح الإماء أو شرط أن يكون الزوج مسلما فبان كافرا أو شرط أن تكون الزوجة مسلمة فبانت وثنية و عقد الذمة ليس حقا للإمام بل هو حق لله و لعامة المسلمين فإذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم فقد قيل : يجب على الإمام أن يفسخ العقد و فسخه : أن يلحقه بمأمنه و يخرجه من دار الإسلام ظنا أن العقد لا ينفسخ بمجرد المخالفة بل يجب فسخه و هذا ضعيف لأن المشروط إذا كان حقا لله ـ لا للعاقد ـ انفسخ العقد بفواته من غير فسخ(1/208)
و هنا الشروط على أهل الذمة حق لله لا يجوز للسلطان و لا لغيره أن يأخذ منهم الجزية و يعاهدهم على المقام بدار الإسلام إلا إذا التزموها و إلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن و لو فرضنا جواز إقرارهم بدون هذا الشرط فإنما ذاك فيما لا ضرر على المسلمين فيه فأما ما يضر المسلمين فلا يجوز إقرارهم عليه بحال و لو فرض إقرارهم على ما يضر المسلمين في أنفسهم و أموالهم فلا يجوز إقرارهم على افساد دين الله و الطعن على كتابه و رسوله
و بهذه المراتب قال كثير من الفقهاء : إن عهدهم ينتقض بما يضر المسلمين من المخالفة دون ما لا يضرهم و خص بعضهم ما يضرهم في دينهم دون ما يضرهم في دنياهم و الطعن على الرسول أعظم المضرات في دينهم
إذا تبين هذا فنقول : قد شرط عليهم أن لا يظهروا سب الرسول و هذا الشرط [ ثابت ] من وجهين :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 221 ](1/209)
أحدهما : أنه موجب عقد الذمة و مقتضاه كما أن سلامة المبيع من العيوب و حلول الثمن و سلامة المرأة و الزوج من موانع الوطء و إسلام الزوج و حريته إذا كانت الزوجة حرة مسلمة هو موجب العقد المطلق و مقتضاه فإن موجب العقد هو ما يظهر عرفا أن العاقد شرطه و إن لم يتلفظ به كسلامة المبيع و معلوم أن الإمساك عن الطعن في الدين و سب الرسول مما يعلم أن المسلمين يقصدونه بعقد الذمة و يطلبونه كما يطلبون الكف عن مقاتلتهم و أولى فإنه من أكبر المؤذيات و الكف عن الأذى العام موجب عقد الذمة و إذا كان ظاهر حال المشتري أنه دخل على أن السلعة سليمة من العيوب ـ حتى يثبت له الفسخ بظهور العيب و إن لم يشرطه ـ فظاهر حال المسلمين الذين عاقدوا أهل الذمة أنهم دخلوا على أن المشركين يكفون عن إفساد دينهم و الطعن فيه بيد أو لسان و أنهم لو علموا أنهم يظهرون الطعن في دينهم لم يعاهدوهم على ذلك و أهل الذمة يعلمون ذلك كعلم البائع أن المشتري إنما دخل معه على أن المبيع سالم بل هذا أظهر و أشهر و لا خفاء به(1/210)
الوجه الثاني في ثبوت هذا الشرط : أن الذين عاهدوهم أولا هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر و من كان معه و قد نقلنا العهد الذي بيننا و بينهم و ذكرنا أقوال الذين عاهدوهم و هو عهد متضمن أنه شرط عليهم الإمساك عن الطعن في دين المسلمين و أنهم إذا فعلوا ذلك حلت دماؤهم و أموالهم و لم يبق بيننا و بينهم عهد و إذا ثبت أن ذلك مشروط عليهم في العقد فزاوله يوجب انفساخ العقد لأن الانفساخ أيضا مشروط عليهم و لأن الشرط حق الله كاشتراط إسلام الزوج و الزوجة فإذا فات هذا الشرط بطل العقد كما يبطل إذا ظهر الزوج كافرا أو المرأة وثنية أو المبيع غصبا أو حرا أو تجدد بين الزوجين صهر أو رضاع يحرم أحدهما على الآخر أو تلف المبيع قبل القبض فإن هذه الأشياء ـ كما لم يجز الإقدام على العقد مع العلم بها ـ أبطل العقد مقارنتها له أو طروؤها عليه فكذلك و جود هذه الأقوال و الأفعال من الكافر لما لم يجز للامام أن يعاهده مع إقامته عليها كان وجودها موجبا لفسخ عقده من غير إنشاء فسخ على أنا لو قدرنا أن العقد لا ينفسخ إلا بفسخ الإمام فإنه يجب عليه فسخه بغير تردد لأنه عقده للمسلمين فإنه لو اشترى الولي سلعة لليتيم فبانت معيبة وجب عليه استدراك ما فات من مال اليتيم و فسخه يكون بقوله و بفعله و قتله له فسخ لعقده نعم لا يجوز له أن يفسخه بمجرد القول فإن فيه ضررا على المسلمين و ليس للسلطان فعل ما فيه ضرر على المسلمين مع القدرة على تركه و قولنا : [ إن الذمي انتقض عهده ] أي لم يبق له عهد يعصم دمه و الأول هو الوجه ن فإن بقاء العقد مع وجود ما ينافيه محال
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 222 ]
نعم هنا اختلف الفقهاء فيما ينافي العقد فقائل يقول : جميع المخالفات تنافيه بناء على أنه ليس للإمام أن يصالحهم بدون شيء من الشروط التي شرط عمر(1/211)
و قائل يقول : التي تنافيه هي المخالفات المضرة بالمسلمين بناء على جواز مصالحتهم على ما هو دون ذلك كما صالحهم النبي صلى الله عليه و سلم أولا حال ضعف الإسلام
و قائل يقول : التي تنافيه هي ما يوجب الضرر العام في الدين أو الدنيا كا لطعن على الرسول و نحوها
و بالجملة فكل ما لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع كونهم يفعلونه فهو مناف للعقد كما أن كل ما لا يجوز للمتبايعين و المتناكحين أن يتعاقدا مع وجوده فهو مناف للعقد
و إظهار الطعن في الدين لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم أعنى مع كونهم ممكنين من فعله إذا أرادوا و هذا مما أجمع المسلمون عليه و لهذا بعضهم يعاقبون على فعله بالتعزير و أكثرهم يعاقبون عليه بالقتل
و هو مما لا يشك فيه مسلم و من شك فيه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
و إذا كان العقد لا يجوز عليه كان منافيا للعقد و من خالف شرطا مخالفة تنافي ابتداء العقد فإن عقده ينفسخ بذلك بلا ريب كأحد الزوجين إذا أحدث دينا يمنع ابتداء العقد ـ مثل ارتداد المسلم أو إسلام المرأة تحت الكافر ـ فإن العقد ينفسخ بذلك : إما في الحال أو عقب انقضاء العدة أو بعد عرض القاضي كما هو مقرر في مواضعه
فإحداث أهل الذمة الطعن في الدين مخالفة لموجب العقد مخالفة تنافي ابتداءه فيجب انفساخ عقدهم بها و هذا بين لمن تأمله و هو يوجب انفساخ العقد بما ذكرناه عند جميع الفقهاء و تبين أن ذلك هو مقتضى قياس الأصول(1/212)
و اعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها من جهة المعنى في الذمي فأما المسلم إذا سب فلم يحتج أن يذكر فيه شيئا من جهة المعنى لظهور ذلك في حقه و لكون المحل محل وفاق و لكن سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ تحقيق الأمر فيه هل سبه ردة محضة كسائر الردد عن زيادة مغلظة أو هو نوع من الردة متغلظ عل كل حال ؟ و هل يقتل للسب مع الحكم بإسلامه أم لا ؟ و الله سبحانه أعلم فإن قيل : فقد قال تعالى : { لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فان ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] فأخبر أنا نسمع منهم الأذى الكثير و دعانا إلى الصبر على أذاهم و إنما يؤذينا أذى عاما الطعن في الله و دينه و رسوله و قوله تعالى : { لن يضركم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] من هذا الباب
قلنا أولا : ليس في الأية بيان أن ذلك مسموع من أهل الذمة و العهد و إنما هو مسموع في الجملة من الكفار
و ثانيا إن الأمر بالصبر على أذاهم و بتقوى الله لا يمنع قتالهم عند المكنة و إقامة حد الله عليهم عند القدرة فإنه لا خلاف بين المسلمين أنا إذا سمعنا مشركا أو كتابيا يؤذي الله و رسوله فلا عهد بيننا و بينه [ بل ] وجب علينا إن نقاتله و نجاهده إذا أمكن ذلك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 224 ]
و ثالثا : أن هذه الآية و ما شابهها منسوخ من بعض الوجوه و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة كان بها يهود كثير و مشركون و كان أهل الأرض إذ ذاك صنفين : مشركا أو صاحب كتاب فهادن رسول الله صلى الله عليه و سلم من بها من اليهود و غيرهم و أمرهم الله إذ ذاك بالعفو و الصفح كما في قوله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره } [ البقرة : 109 ](1/213)
فأمره الله بالعفو و الصفح عنهم إلى أن يظهر الله دينه و يعز جنده فكان أول العز وقعة بدر فإنها أذلت رقاب أكثر الكفار الذين بالمدينة و أرهبت سائر الكفار
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 225 ]
و قد أخرجا في الصحيحين عن عروة عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ركب حمارا على إكاف على قطيفة فدكية و أردف أسامة بن زيد يعود سعد ابن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر فسار حتى مر المجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول و ذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي و إذا في المجلس أخلاط من المسلمين و المشركين عبدة الأوثان و اليهود و في المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفه بردائه ثم قال : لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم و قف فنزل فدعاهم إلى الله و قرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي بن سلول : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحه : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون و المشركون و اليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا سعد الم تسمع ما قال أبو حباب ؟ يريد عبد الله ابن أبي قال كذا و كذا ] قال سعد بن عبادة : يا رسول الله اعف عنه و اصفح عنه فو الذي نزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك و لقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك فذلك الذي فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله(1/214)
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه يعفون عن المشركين و أهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى و يصبرون على الأذى قال الله تعالى : { و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين اشتركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] و قال الله عز و جل : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 109 ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 226 ]
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتأول في العفو ما أمره الله تعالى حتى أذن الله عز و جل فيهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم بدرا فقتل الله تعالى به من قتل من صناديد قريش و قفل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه منصورين غانمين مع أسارى من صناديد الكفار و سادة قريش فقال ابن أبي بن سلول و من معه من المشركين عبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه فبايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام فأسلموا اللفظ للبخاري
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى : { و أعرض عن المشركين } [ الأنعام : 106 ] { لست عليهم بمسيطر } [ الغاشية : 22 ] { فاعف عنهم و اصفح } [ المائدة : 13 ] { و إن تعفوا و تصفحوا } [ التغابن : 14 ] { فعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره } [ البقرة : 109 ] { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] و نحو هذا في القرآن مما أمر الله به المؤمنين بالعفو و الصفح عن المشركين فإنه نسخ ذلك كله قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث و جدتموهم } [ التوبة : 5 ] و قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر } إلى قوله { و هم صاغرون } [ التوبة : 29 ] فنسخ هذا عفوه عن المشركين(1/215)
كذا روى الإمام أحمد و غيره عن قتادة قال : أمر الله نبيه أن يعفو عنهم و يصفح حتى يأتي الله بأمره و قضائه ثم أنزل الله عز و جل براءة فأتى الله بأمره و قضائه فقال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله } الآية [ التوبة : 29 ] قال : فنسخت هذه الآية ما كان قبلها و أمر الله فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يقروا بالجزية صغارا و نقمة لهم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 227 ]
و كذلك ذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يقاتل من كف عن قتاله كقوله تعالى : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } [ النساء : 90 ] إلى أن نزلت براءة
و جملة ذلك أنه لما نزلت براءة أمر أن يبتدىء جميع الكفار بالقتال و ثنيهم و كتابيهم سواء كفوا عنه أو لم يكفوا و أن ينبذ إليهم تلك العهود المطلقة التي كانت بينه و بينهم و قيل له فيها : { جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] بعد أن كان قد قيل له : { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ]
و لهذا قال زيد بن أسلم : نسخت هذه الآية ما كان قبلها فأما قبل براءة و قبل بدر فقد كان مأمورا بالصبر على أذاهم و العفو عنهم و أما بعد بدر و قبل براءة فقد كان يقاتل من يؤذيه و يمسك عمن سالمه كما فعل بابن الأشرف و غيره ممن كان يؤذيه فبدر كانت أساس عز الدين و فتح مكة كانت كمال عز الدين فكانوا قبل بدر يسمعون الأذى الظاهر و يؤمرون بالصبر عليه و بعد بدر يؤذون في السر من جهة المنافقين و غيرهم فيؤمرون بالصبر عليه و في تبوك أمروا بالإغلاظ للكفار و المنافقين فلم يتمكن بعدها كافر و لا منافق من أذاهم في مجلس خاص و لا عام بل مات بغيظه لعلمه بأنه يقتل إذا تكلم و قد كان بعد بدر لليهود استطالة و أذى للمسلمين إلى أن قتل كعب بن الأشرف(1/216)
قال محمد بن إسحاق في حديثه عن محمد بن مسلمة قال : فأصبحنا و قد خافت يهود لوقعتنا بعد و الله فليس بها يهودي إلا و هو يخاف على نفسه(1/217)
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 228 ]
و روى بإسناده [ عن محيصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ] فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنية رجل من تجار يهود كان يلابسهم و يبايعهم فقتله و كان حويصة بن مسعود إذا ذاك لم يسلم و كان أسن من محيصة فلما قتله جعل يضربه و يقول : أي عدو الله قتلته أما و الله لرب شحم في بطنك من ماله فو الله إن كان لأول إسلام حويصة فقال محيصة : فقلت له : و الله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال : لو أمرك محمد بقتلي لقتلني ؟ فقال محيصة : نعم و الله فقال حويصة : و الله إن دينا بلغ هذا منك لعجب
و ذكر غير ابن إسحاق أن اليهود حذرت و ذلت و خافت من يوم قتل ابن الأشراف فلما أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين و عز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين و بقتال المشركين كافة أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون
فكان ذلك عاقبة الصبر و التقوى اللذين أمرهم بهما في أول الأمر و كان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة و لا غيرهم جزية و صارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله و رسوله بيده و لا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب و نحوه و صارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي على نصر الله و رسوله بيده أو لسانه و بهذه الآية و نحوها كان المسلمون يعلمون في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و على عهد خلفائه الراشدين و كذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله و رسوله النصر التام
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 229 ](2/1)
فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر و الصفح و العفو عمن يؤذي الله و رسوله من الذين أوتوا الكتاب و المشركين و أما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين و بآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون
فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ـ إلى قوله ـ و إذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله و يقولون في أنفسهم : لو لا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } [ المجادلة : 8 ] فأخبر أنهم يحيون الرسول تحية منكرة و أخبر أن العذاب في الأخرة يكفيهم عليها فعلم أن تعذيبهم في الدنيا ليس بواجب
و عن [ أنس بن مالك قال : مر يهودي برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : السام عليكم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و عليك فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : يقول السام عليك قالوا : يا رسول الله ألا نقتله قال : لا إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : و عليكم ] رواه البخاري
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 230 ]
و عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : السام عليك قالت عائشة : ففهمتها فقلت : عليكم السام و اللعنة قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله ] فقلت : يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا ؟ قال : [ قد قلت : و عليكم ] متفق عليه
و عن جابر قال : سلم ناس من اليهود على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم فقال : [ و عليكم ] فقالت عائشة و غضبت : ألم تسمع ما قالوا ؟ قال : [ بلى قد سمعت فرددت عليهم و إنا نجاب [ عليهم ] و لا يجابون علينا ] رواه مسلم(2/2)
و مثل هذا الدعاء أذى للنبي صلى الله عليه و سلم و سب له و لو قاله المسلم لصار به مرتدا لأنه دعاء على رسول الله صلى الله عليه و سلم في حياته بأنه يموت و هذا فعل كافر و مع هذا فلم يقتلهم بل نهى عن قتل اليهودي الذي قال ذلك لما استأمره أصحابه في قتله
قلنا : عن هذا أجوبة :
أحدها : أن هذا كان في حال ضعف الإسلام ألا ترى أنه قال لعائشة : [ مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله ] و هذا الجواب كما ذكرنا في الأذى الذي أمر الله بالصبر عليه إلى أن أتى الله بأمره
ذكر هذا الجواب طوائف من المالكية و الشافعية و الحنبلية : منهم القاضي أبو يعلى و أبو إسحاق الشيرازي و أبو الوفاء بن عقيل و غيرهم و من أجاب بهذا جعل الأمان كالإيمان في انتقاضه بالشتم و نحوه
و في هذا الجواب نظر لما روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن اليهود إذا سلم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا : و عليك ]
و عن [ أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا سلم عليكم أهل كتاب فقولوا : و عليكم ] متفق عليهما
فعلم أن هذا سنة قائمة في حق أهل الكتاب مع بقائهم على الذمة و أنه صلى الله عليه و سلم حال عز الإسلام لم يأمر بقتلهم لأجل هذا و قد ركب إلى بني النضير فقال : [ إذا سلموا عليكم فقولوا : و عليكم ] و كان ذلك بعد قتل ابن الأشرف فعلم أنه كان بعد قوة الإسلام
نعم قد قدمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسمع من الكفار و المنافقين في أول الإسلام أذى كثيرا و كان يصبر عليه امتثالا لقوله تعالى : { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] لأن إقامة الحدود عليهم كان يفضي إلى فتنة عظيمة و مفسدة أعظم من مفسدة الصبر على كلماتهم(2/3)
فلما فتح الله مكة و دخل الناس في دين الله أفواجا و أنزل الله البراءة قال فيها : { جاهد الكفار و المنافقين و آغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] و قال تعالى : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض } إلى قوله { أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } [ الأحزاب : 61 ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 231 ]
فلما رأى من بقي من المنافقين ما صار الأمر إليه من عز الإسلام و قيام الرسول بجهاد الكفار و المنافقين أضمروا النفاق فلم يكن يسمع من أحد من المنافقين بعد غزوة تبوك كلمة سوء و ماتوا بغيظهم حتى بقى منهم أناس بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم يعرفهم صاحب السر حذيفة فلم يكن يصلي عليهم هو و لا يصلي عليهم من عرفهم بسبب آخر مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فهذا يفيد أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحتمل من الكفار و المنافقين قبل براءة ما لم يكن يحتمل منهم بعد ذلك كما قد كان يحتمل من أذى الكفار و هو بمكة ما لم يكن يحتمل بدار الهجرة و النصرة لكن هذه الكلمة ليست من هذا الباب كما قد بيناه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 232 ]
الجواب الثاني : أن هذا ليس من السب الذي ينتقض به العهد لأنهم إنما أظهروا التحية الحسنة و السلام المعروف و لم يظهروا سبا و لا شتما و إنما حرفوا السلام تحريفا خفيا لا يظهر و لا يفطن له أكثر الناس و لهذا لما سلم اليهودي على النبي صلى الله عليه و سلم بلفظ السام لم يعلم به أصحابه حتى أعلمهم و قال : [ إن اليهود إذا سلم أحدهم فإنما يقول السام عليكم ] و عهدهم لا ينتقض بما يقولونه سرا من كفر أو تكذيب فإن هذا لا بد منه و كذلك لا ينتقض العهد بما يخفونه من السب و إنما ينتقض بما يظهرونه(2/4)
و قد ذكر غير واحد أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه و سلم فيقولون : السام عليكم فيرد عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم [ و عليكم ] و لا يدري ما يقولون فإذا خرجوا قالوا : لو كان نبيا لعذبنا و استجيب فينا و عرف قولنا فدخلوا عليه ذات يوم و قالوا السام عليك ففطنت عائشة إلى قولهم و قالت : و عليكم السام و الذام و الداء و اللعنة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مه يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله و لا يحب الفحش و لا التفحش ] فقالت : يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : و عليكم ]
فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يظهر له أنه سب و لذلك نهى عائشة عن التصريح بشتمهم و أمرها بالرفق بأن ترد عليهم تحيتهم فإن كانوا قد حيوا سيئة استجيب لنا فيهم و لم يستجب لهم فينا و لو كان ذلك من باب سبهم النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمين الذي هو السب لكان فيه العقوبة و لو بالتعزير و الكلام
فلما لم يشرع رسول الله صلى الله عليه و سلم في مثل هذه التحية تعزيرا و نهى من أغلظ عليهم لأجلها علم أن ذلك ليس من السب الظاهر لكونهم أخفوه كما يخفي المنافقون نفاقهم و يعرفون في لحن القول فلا يعاقبون بمثل ذلك و سيأتي تمام الكلام إن شاء الله تعالى في ذلك
الجواب الثالث : أن قول أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم له ألا نقتله لما أخبرهم أنه قال السام عليكم دليل على أنه كان مستقرا عندهم قتل الساب من اليهود لما رأوه من قتل ابن الأشرف و المرأة و غيرهما فنهاهم النبي صلى الله عليه و سلم عن قتله و أخبرهم أن مثل هذا الكلام حقه أن يقابل بمثله لأنه ليس إظهارا للسب و الشتم من جنس ما فعلت تلك اليهودية و ابن الأشرف و غيرهما و إنما هو إسرار به كإسرار المنافقين بالنفاق
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 233 ](2/5)
الجواب الرابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يعفو عمن شتمه و سبه في حياته و ليس للأمة أن يعفوا عن ذلك
يوضح ذلك أنه لا خلاف أن من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو عابه بعد موته من المسلمين كافرا حلال الدم و كذلك من سب نبيا من الأنبياء و مع هذا فقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } [ الأحزاب : 69 ] و قال تعالى : { و إذ قال موسى لقومه : يا قوم لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله إليكم } [ الصف : 5 ] فكان بنو إسرائيل يؤذون موسى في حياته بما لو قاله اليوم أحد من المسلمين وجب قتله و لم يقتلهم موسى عليه السلام و كان نبينا صلى الله عليه و سلم يقتدي به في ذلك فربما سمع آذاه أو بلغه فلا يعاقب المؤذي على ذلك قال الله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن } الآية [ التوبة : 61 ] و قال تعالى : { و منهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } [ التوبة : 58 ]
و عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال : بينا النبي صلى الله عليه و سلم يقسم إذ جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال : أعدل يا رسول الله قال : [ و يلك من يعدل إذا لم أعدل ؟ ] قال عمر بن الخطاب : دعني أضرب عنقه قال : [ دعه فإن له أصحابا يحقر صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] و ذكر الحديث و فيه نزلت { و منهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ]
[ رواية آخرى ](2/6)
هكذا رواه البخاري و غيره من حديث معمر عن الزهري و أخرجاه في الصحيحين من وجوه أخرى عن الزهري عن أبي سلمة و الضحاك الهمداني عن أبي سعيد قال : بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه و سلم و هو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة ـ و هو رجل من تميم ـ فقال : يا رسول الله أعدل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ويلك ! من يعدل إذا لم أعدل ؟ قد خبت و خسرت إن لم أعدل ] فقال عمر بن الخطاب : آئذن لي فيه فأضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم ] و ذكر حديث الخوارج المشهور و لم يذكر نزول الآية
و تسمية ذي الخويصرة هو المشهور في عامة الحديث كما رواه عامة أصحاب الزهري عنه و الأشبه أن ما انفرد به معمر و هم منه فإن له مثل ذلك و قد ذكروا أن اسمه حرقوص بن زهير
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 235 ]
و في الصحيحين أيضا من حديث عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد قال : بعث علي رضي الله عنه و هو باليمن إلى النبي صلى الله عليه و سلم بذهيبة في تربتها فقسمها بين أربعة نفر و فيه : فغضبت قريش و الأنصار و قالوا : يعطي صناديد أهل نجد و يدعنا فقال : إنما أتألفهم فأقبل رجل غائر العينين ناتىء الجبين كث اللحية مشرف الوجنتين محلوق الرأس فقال : يا محمد اتق الله قال : [ فمن يطع الله إذا عصيته ؟ أفيأمنني على أهل الأرض و لا تأمنوني ] فسأل رجل من القوم قتله أراه خالد بن الوليد فمنعه فلما ولى قال : [ إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم ] و ذكر الحديث في صفة الخوارج و في آخره [ يقتلون أهل الإسلام و يدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ](2/7)
و في رواية لمسلم : [ ألا تأمنوني و أن أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا و مساء ] و فيها فقال : يا رسول الله اتق الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ويلك ! أو ليست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟ ] قال : ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال : [ لا لعله أن يكون يصلي ] قال خالد [ بن الوليد ] : و كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس و لا أشق بطونهم ]
و في رواية في الصحيح : فقام إليه عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال : [ لا ] فقام إليه خالد سيف الله فقال : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال : [ لا ] فهذا الرجل الذي قد نص القرآن أنه من المنافقين بقوله : { و منهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] أي يعيبك و يطعن عليك و قوله للنبي صلى الله عليه و سلم : اعدل و اتق الله بعد ما خص بالمال أولئك الأربعة نسب النبي صلى الله عليه و سلم إلى أنه جار و لم يتق الله و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟ ألا تأمنني و أنا أمين من في السماء ؟ ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 236 ]
و مثل هذا الكلام لا ريب أنه يوجب القتل لو قاله اليوم أحد و إنما لم يقتله النبي صلى الله عليه و سلم لأنه كان يظهر الإسلام و هو الصلاة التي يقاتل الناس حتى يفعلوها و إنما كان نفاقه بما يخص النبي صلى الله عليه و سلم من الأذى و كان له أن يعفو عنه و كان يعفو عنهم تأليفا للقلوب لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه و قد جاء ذلك مفسرا في هذه القصة أو في مثلها(2/8)
فروى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : أتى رجل بالجعرانة منصرفة من حنين ـ و في ثوب بلال فضة و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبض منها و يعطي منها الناس ـ فقال : يا محمد اعدل فقال : [ ويحك ! و من يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد خبت و خسرت إن لم أكن أعدل ] فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق فقال صلى الله عليه و سلم : [ معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا و أصحابه يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية ] و روى البخاري مثله عن عمرو عن جابر رضي الله عنهما : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم غنيمة بالجعرانة إذا قال له رجل : اعدل فقال : [ لقد شقيت إن لم أعدل ]
و جاء من كلامه لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما هو أغلظ من هذا قال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه : حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث قال : خرجت أنا و تليد بن كلاب الليثي فلقينا عبد الله بن عمرو بن العاص يطوف بالكعبة معلقا نعليه في يديه فقلنا له : هل حضرت رسول الله صلى الله عليه و سلم و عنده ذو الخويصرة التميمي يكلمه ؟ قال : نعم ثم حدثنا فقال : أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يقسم المغانم بحنين فقال : يا محمد قد رأيت ما صنعت قال : [ فكيف رأيت ؟ ] فقال : لم أرك عدلت فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ ] فقال عمر : يا رسول الله ألا أقوم إليه فأضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية ] و ذكر تمام الحديث(2/9)
قال ابن إسحاق : حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال : أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يقسم المقاسم بحنين و ذكر مثل هذا سواء
و رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق نحو هذا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 238 ]
و قال الأموي عن ابن إسحاق و ذكر الحديث عن أبي عبيدة و عن محمد ابن علي و عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن رجلا تكلم عند النبي صلى الله عليه و سلم قال : و لم يسمه إلا محمد بن علي فإنه قال : هو ذو الخويصرة التميمي
و كذلك ذكر غيره أن ذا الخويصرة هو الذي اعترض على النبي صلى الله عليه و سلم في قسم الغنائم حنين و كذلك المنافق الذي سمعه ابن مسعود فإنه في غنائم حنين أيضا(2/10)
و أما الذي في حديث ابن أبي نعم عن أبي سعيد فإنه كان بعد هذه المرة لأن فيه أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه و سلم و هو باليمن بذهيبة فقسمها بين أربعة من أهل نجد و لا خلاف بين أهل العلم أن عليا كان في غزوة حنين مع النبي صلى الله عليه و سلم و لم يكن اليمن فتحت يومئذ ثم إنه استعمل عليا على اليمن سنة عشر بعد تبوك و بعد أن بعثه مع أبي بكر إلى الموسم بنبذ العهود و وافى النبي صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع منصرفه من اليمن و كان النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة لما بعث علي بالصدقة و مما يبين ذلك أن غنائم حنين نفل النبي صلى الله عليه و سلم منها خلقا كثيرا من قريش و أهل نجد و هذه الذهيبة إنما قسمها بين أربعة نجديين و إذا كان كذلك فإما أن يكون المعترض في هذه المرة غير ذي الخويصرة و يكون أبو سعيد قد شهد القصتين و على هذا فالذي في رواية معمر أن آية الصدقات نزلت في قصة ذي الخويصرة ليس بجيد بل هو مدرج في الحديث من كلام الزهري أو كلام معمر لأن ذا الخويصرة إنما أنكر عليه قسم الغنائم و ليست هي الصدقات التي جعلها الله لثمانية أصناف و لا التفات إلى ما ذكره بعض المفسرين من أن الآية نزلت في قسم غنائم حنين و إما أن يكون المعترض في ذهيبة علي رضي الله عنه هو ذو الخويصرة أيضا و على هذا فتكون أحاديث أبي سعيد كلها في هذه القصة لا في قسم الغنائم و تكون الآية قد نزلت في ذلك أو يكون قد شهد القصتين معا و الآية نزلت في إحداهما(2/11)
و قد روى عن أبي برزة الأسلمي قال : أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بمال فقسمه فأعطى من عن يمينه و من عن شماله و لم يعط من وراءه شيئا فقام رجل من ورائه فقال : يا محمد ما عدلت في القسمة رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم غضبا شديدا و قال : [ و الله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل مني ثم قال : يخرج في آخر الزمان قوم كان هذا منهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال فإذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق و الخليقة ] رواه النسائي
و من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي وائل عن عبد الله قال : لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه و سلم ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ن و أعطى عيينة بن حصن مثل ذلك و أعطى ناسا من أشراف العرب و آثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل : و الله إن هذه لقسمة ما عدل فيها و ما أريد بها وجه الله قال : فقلت و الله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه صلى الله عليه و سلم حتى كان كالصوف ثم قال : [ فمن يعدل إذا لم يعدل الله و رسوله ؟ ثم قال : يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ] قال : فقلت لا جرم لا أرفع بعدها حديثا
و في رواية البخاري قال رجل من الأنصار : ما أراد بها وجه الله و ذكر الواقدي أن المتكلم بهذا كان [ معتب بن قشير ] و هو معدود من المنافقين
فهذا الكلام مما يوجب القتل بالاتفاق لأنه جعل النبي صلى الله عليه و سلم ظالما مرائيا و قد صرح النبي صلى الله عليه و سلم بأن هذا من أذى المرسلين ثم اقتدى في العفو عن ذلك بموسى عليه السلام و لم يستتب لأن القول لم يثبت فإنه لم يراجع القائل و لا تكلم في ذلك بشيء(2/12)
و من ذلك ما رواه ابن أبي عاصم و أبو الشيخ في الدلائل بإسناد صحيح عن قتادة عن عقبة بن وساج عن ابن عمر قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بقليد من ذهب و فضة فقسمه بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال : يا محمد و الله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل فقال : [ ويحك ! من يعدل عليك بعدي ؟ فلما ولى قال : ردوه علي رويدا ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 240 ]
و من ذلك قول الأنصاري الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال له صلى الله عليه و سلم : [ اسق يا زبير ثم سرح إلى جارك ] فقال : أن كان ابن عمتك ؟
و حديث الرجل الذي قضى عليه فقال : لا أرضى ثم ذهب إلى أبي بكر ثم إلى عمر فقتله
و لهذا نظائر في الحديث إذا تتبعت مثل الحديث المعروف عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن أخاه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : جيراني على ماذا أخذوا فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن الناس يزعمون أنك تنهى عن الغي و تستخلي به فقال : [ لئن كنت أفعل ذلك إنه لعلي و ما هو عليهم خلوا له جيرانه ] رواه أبو داود بإسناد صحيح
فهذا و إن كان قد حكى هذا القذف عن غيره فإنما قصد به انتقاصه و إيذاءه بذلك و لم يحكه على وجه الرد على من قاله و هذا من أنواع السب
و مثل حديث ابن إسحاق عن هشام عن أبيه عن عائشة قال : ابتاع رسول الله صلى الله عليه و سلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة فجاء به إلى منزلة فالتمس التمر فلم يجده في البيت قال : فخرج إلى الأعرابي فقال : [ يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة و نحن نرى أنه عندنا فلم نجده ] فقال الأعرابي : و اعذراه و اعذراه فوكزه الناس و قالوا : لرسول الله صلى الله عليه و سلم تقول هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعوه ] رواه ابن أبي عاصم و ابن حبان في الدلائل(2/13)
فهذا الباب كله مما يوجب القتل و يكون به الرجل كافرا حلال الدم كان النبي صلى الله عليه و سلم و غيره من الأنبياء يعفون ويصفحون عمن قاله امتثالا لقوله تعالى : { خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] و كقوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن } [ المؤمنين : 96 ] و قوله تعالى : { و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم و ما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } [ فصلت : 35 ] و كقوله تعالى : { و لو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] و كقوله تعالى : { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ]
و ذلك لأن درجة الحلم و الصبر على الأذى و العفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا و الآخرة يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام و القيام قال تعالى : { و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين } [ آل عمران : 134 ] و قال تعالى : { و جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا و أصلح فأجره على الله } [ الشورى : 40 ] و قال تعالى : { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } [ النساء : 149 ] و قال تعالى : { و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين } [ النحل : 126 ](2/14)
و الأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة ثم إن الأنبياء أحق الناس بهذه الدرجة لفضلهم و أحوج الناس إليها لما ابتلوا به من دعوة الناس و معالجتهم و تغيير ما كانوا عليه من العادات و هو أمر لم يأت به أحد إلا عودي فالكلام الذي يؤذيهم يكفر به الرجل فيصير به محاربا إن كان ذا عهد و مرتدا أو منافقا إن كان ممن يظهر الإسلام و النوع و وسع عليهم ذلك لما فيه من حق الآدمي تغليبا لحق الآدمي على حق الله كما جعل لمستحق القود وحد القذف أن يعفو عن القاتل و القاذف و هم أولى لما في جواز عفو الأنبياء و نحوهم من المصالح العظيمة المتعلقة بالنبي و بالأمة و بالدين و هذا معنى قول عائشة رضي الله عنها : [ ما ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده خادما و لا امرأة و لا دابة و لا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله و لا انتقم لنفسه قط ] و في لفظ : [ ما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله ] متفق عليه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 243 ]
و معلوم أن النيل منه أعظم من انتهاك المحارم لكن لما دخل فيها حقه كان الأمر إليه في العفو أو الانتقام فكان يختار العفو و ربما أمر بالقتل إذا رأى المصلحة في ذلك بخلاف ما لا حق له فيه من زنا أو سرقة أو ظلم لغيره فإنه يجب عليه القيام به(2/15)
و قد كان أصحابه إذا رأوا من يؤذيه أرادوا قتله لعلمهم بأنه يستحق القتل فيعفو هو عنه صلى الله عليه و سلم و بين لهم أن عفوه أصلح مع إقراره لهم على جواز قتله و لو قتله قاتل قبل عفو النبي صلى الله عليه و سلم لم يعرض له النبي صلى الله عليه و سلم لعلمه بأنه قد انتصر لله و رسوله بل يحمده على ذلك و يثني عليه كما قتل عمر رضي الله عنه الرجل الذي لم يرض بحكمه و كما قتل رجل بنت مروان و آخر اليهودية السابة فإذا تعذر عفوه بموته صلى الله عليه و سلم بقي حقا محضا لله و لرسوله و للمؤمنين لم يعف عنه مستحقه فيجب إقامته
و يبين ذلك ما روى إبراهيم بن الحكم بن أبان : حدثني أبي عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم يستعينه في شيء فأعطاه شيئا ثم قال : أحسنت إليك ؟ قال الأعرابي : لا و لا أجملت قال : فغضب المسلمون و قاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا ثم قام فدخل منزله ثم أرسل إلى الأعرابي فدعاه إلى البيت يعني فأعطاه فرضي فقال : إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت و في أنفس المسلمين شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي يذهب من صدورهم ما فيها عليك قال : نعم فلما كان الغد أو العشي جاء قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن صاحبكم جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال و إنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه قد رضي أكذلك ؟ قال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل و عشيرة خيرا فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ ألا 'ن مثلي و مثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدها إلا نفورا فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني و بين ناقتي فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فجاءت فاستناخت فشد عليها رحلها و استوى عليها و إني لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار ](2/16)
و رواه أبو أحمد العسكري بهذا الإسناد قال : [ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد أعطني فإنك لا تعطيني من مالك و لا من مال أبيك فأغلظ للنبي صلى الله عليه و سلم فوثب إليه أصحابه فقالوا : يا عدو الله تقول هذا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ]
و ذكر بهذا يبين لك أن قتل ذلك الرجل لأجل قوله ما قال كان جائزا قبل الاستتابة و أنه صار كافرا بتلك الكلمة و لو لا ذلك لما كان يدخل النار إذا قتل على مجرد تلك الكلمة بل كان يدخل الجنة لأنه مظلوم شهيد و كان قاتله دخل النار لأنه قتل مؤمنا متعمدا و لكان النبي صلى الله عليه و سلم يبين أن قتله لم يحل لأن سفك الدم بغير حق من أكبر الكبائر و هذا الأعرابي كان مسلما و لهذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حقه لفظ [ صاحبكم ] و لهذا جاءه الأعرابي يستعينه و لو كان كافرا محاربا لما جاء يستعينه في شيء و لو كان النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه ليسلم لذكر في الحديث أنه أسلم فلما لم يجر للاسلام ذكر دل على أنه كان ممن دخل في الإسلام و فيه جفاء الأعراب و ممن دخل في قوله تعالى : { فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } [ التوبة : 58 ](2/17)
و مما يوضح ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعفو عن المنافقين الذين لا يشك في نفاقهم حتى قال [ لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت ] حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم و الاستغار لهم و أمره بالإغلاظ عليهم فكثير مما كان يحتمله من المنافقين من الكلام و ما يعاملهم من الصفح و العفو و الاستغفار كان قبل نزول براءة لما قيل له : { و لا تطع الكافرين و المنافقين ودع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] لا حتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم و خشية نفور العرب عنه إذا قتل أحدا منهم و قد صرح صلى الله عليه و سلم لما قال ابن أبي : { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [ المنافقين : 8 ] و لما قال ذو الخويصرة [ اعدل فإنك لم تعدل ] و عند غير هذه القصة : [ إنما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر فيرون واحدا من أصحابه قد قتل فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض أو حقد أو نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام و إذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله و تعلو كلمته فلأن يتألفهم بالعفو أولى و أحرى
فلما أنزل الله تعالى براءة و نهاه عن الصلاة على المنافقين و القيام على قبورهم و أمره أن يجاهد الكفار و المنافقين و يغلظ عليهم نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم و لم يبق إلا إقامة الحدود و إعلاء كلمة الله في حق كل إنسان
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 245 ]
فإن قيل : فقد فقال تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ـ إلى قوله ـ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون سمعنا و عصينا و اسمع غير مسمع و راعنا ليا بألسنتهم و طعنا في الدين } [ النساء : 44 ـ 46 ](2/18)
و قولهم : [ اسمع غير مسمع ] مثل قولهم : اسمع لا سمعت و اسمع غير مقبول منك لأن من لا يقصد إسماعه لا يقبل كلامه
و قولهم : [ راعنا ] قال قتادة و غيره : كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه و سلم : راعنا سمعك يستهزئون بذلك و كانت في اليهود قبيحة
و روى الإمام أحمد عن عطية قال : [ كان يأتي ناس من اليهود فيقولون : راعنا سمعك حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله له ما قالت اليهود
و قال عطاء الخراساني : [ كان الرجل يقول : أرعنا سمعك و يلوي بذلك لسانه و يطعن في الدين ]
و ذكر بعض أهل التفسير أن هذه اللفظة كانت سبا قبيحا بلغة اليهود
فهؤلاء قد سبوه [ صلى الله عليه و سلم ] بهذا الكلام و لووا ألسنتهم به و استهزءوا به و طعنوا في الدين و مع ذلك لم يقتلهم الني صلى الله عليه و سلم
قلنا : عن ذلك أجوبة :
أحدها : أن ذلك كان في حال ضعف الإسلام في الحال التي أخبر الله عن رسوله و المؤمنين أنهم يسمعون من الذين أوتوا الكتاب و المشركين أذى كثيرا و أمرهم بالصبر و التقوى ثم إن ذلك نسخ عند القوة بالأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون و الصاغر لا يفعل شيئا من الأذى في الوجه ن و من فعله ليس بصاغر
ثم إن من يسمي ذلك نسخا لتغيير الحكم و منهم من لا يسميه نسخا لأن الله أمرهم بالصفح و العفو إلى أن يأتي بأمره و قد أتى الله بأمره من عز الإسلام و إظهاره و الأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون
و هذا مثل قوله تعالى : { فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } [ النساء : 15 ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ قد جعل الله لهن سبيلا ] فبعض الناس يسمي ذلك نسخا و بعضهم لا يسميه نسخا و الخلاف لفظي
و من الناس من يقول : الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال بأن يكون في وقت أو مكان لا يتمكن منه و ذلك لا يكون منسوخا إذ المنسوخ ما ارتفع في جميع الأزمنة المستقبلة(2/19)
و بالجملة فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه و سلم كان مفروضا عليه لما قوي أن يترك ما كان يعامل به أهل الكتاب و المشركين و مظهري النفاق من العفو و الصفح إلى قتالهم و إقامة الحدود عليهم سمي نسخا أو لم يسم
و الجواب الثاني : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يعفو عمن سبه و ليس للأمة أن تعفو عمن سبه كما قد كان يعفو عمن سبه من المسلمين مع أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب قتل من سبه من المسلمين
الجواب الثالث : أن هذا ليس بإظهار للسب و إنما هو إخفاء له بمنزلة [ السام عليكم ] و بمنزلة ظهور النفاق في لحن القول لأنهم كانوا يظهرون أنهم يقصدون مسألته أن يسمع كلامهم و أن يراعيهم فينتظرهم حتى يقضوا كلامهم و حتى يفهموا كلامه و يأتونه على هذا الوجه ثم إنهم يلوون ألسنتهم بالكلام و ينوون به الاستهزاء و السب و الطعن في الدين كما يلوون ألسنتهم بالسام و ينوون به الدعاء عليه بالموت و اليهود أمة معروفة بالنفاق و الخبث و أن تظهر خلاف ما تبطن و لكن ذلك لا يوجب إقامة الحد عليهم
و لو كان هذا سبا ظاهرا لما كان المسلمون يخاطبون بمثل ذلك قاصدين به الخير حتى نهوا عن التكلم بكلام يحتمل الاستهزاء و يوهمه بحيث يصير سبا بالنية و دلالة الحال
و ذلك أن هذه اللفظة كانت العرب تتخاطب بها لا تقصد سبا قال عطاء : كانت لغة في الأنصار في الجاهلية و قال أبو العالية : إن مشركي العرب إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه : أرعني سمعك فنهوا عن ذلك و كذلك قال الضحاك و ذلك أن العرب تقول : أرعيته سمعي إرعاء إذا فرغته لكلامه لأنك جعلت السمع يرعى كلامه و يقول [ راعيته سمعي ] بهذا المعنى لكن كانت اليهود تعتقدها سبا بينها : إما لما فيها من الاشتراك فإنها كما تستعمل في استرعاء السمع تستعمل بمعنى المفاعلة كأنه قيل : راعني حتى أراعيك و هذا إنما يكون بين الأمثال و النظراء و مرتبة الرئيس أعلى من ذلك(2/20)
أو أن اليهود ينوون بها معنى الرعونة أو فيها طلب حفظ الكلام و الاهتمام به و هذا إنما يكون من الأعلى للأسفل لأن الرعاية هي الحفظ و الكلاءة و منه استرعاء الشاة
و قد غلبت في عرفهم و لغتهم على معنى رديء كما قيل : إنهم ينوون بها اسمع لا سمعت و بالجملة إنما يصير مثل هذا سبا بالنية و لي اللسان و نحوه فنهي المسلمون عنها حسما لمادة التشبيه باليهود و تشبه اليهود بهم و جعل ذلك ذريعة إلى الاستهزاء به و لما يحتمله لفظها من قلة الأدب في مخاطبة الرسول صلى الله عليه و سلم
الجواب الرابع : ما ذكره بعض أهل التفسير الذي ذكر أنها كانت سبا قبيحا بلغة اليهود قال : كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول الله و أرعنا سمعك يعنون من المراعاة و كانت هذه اللفظة سبا قبيحا بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها و قالوا فيما بينهم : كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا له الآن بالشتم و كانوا يأتونه و يقولون : راعنا يا محمد و يضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها و كان يعرف لغتهم فقال لليهود : عليكم لعنة الله و الذي نفسي بيده يا معشر اليهود لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه و سلم لأضربن عنقه فقالوا : أولستم تقولونها ؟ فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } [ البقرة : 104 ] لكيلا يتخذ اليهود ذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا القول دليل على أن اللفظة مشتركة في لغة العرب و لغة العبرانيين و أن المسلمين لم يكونوا يفهمون من اليهود إذا قالوها إلا معناها في لغتهم فلما فطنوا لمعناها في اللغة الأخرى نهوهم عن قولها و أعلموهم أن ذلك ناقض لعهدهم و مبيح لدمائهم و هذا أوضح دليل على أنهم إذا تكلموا بما يفهم منه السب حلت دماؤهم و إنما لم يستحلوا دماءهم لأن المسلمين لم يكونوا يفهمون السب و الكلام في السب الظاهر و هو ما يفهم منه السب(2/21)
فإن قيل : أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم و من دينهم استحلال سب النبي صلى الله عليه و سلم فإذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه و هذا نكتة المخالف
قلنا : و من دينهم استحلالا قتال المسلمين و أخذ أموالهم و محاربتهم بكل طريق و مع هذا فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد و متى فعلوه نقضوا العهد و ذلك لأنا و إن كنا نقرهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه و يخفوا ما يخفونه فلم نقرهم على أن يظهروا ذلك و يتكلموا به بين المسلمين و نحن لا نقول بنقض عهد الساب حتى نسمعه يقول ذلك أو يشهد به المسلمون و متى حصل ذلك كان قد أظهره و أعلنه
و تحرير الجواب أن كلتا المتقدمين باطلة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 249 ](2/22)
أما قوله : [ أقررناهم على دينهم ] فيقال : لو أقررناهم على كل ما يدينون به لكانوا بمنزلة أهل ملتهم المحاربين و لو أقررناهم على كل مايدينون به لم يعاقبوا على إظهار دينهم و إظهار الطعن في ديننا و لا خلاف أنهم يعاقبون على ذلك و لو أقررناهم على دينهم مطلقا لأقررناهم على هدم المساجد و إحراق المصاحف و قتل العلماء و الصالحين فإن ما يدينون به مما يؤذي المسلمين كثير و الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ثم لا خلاف أنهم لا يقرون على شيء من ذلك و إنما أقررناهم ـ كما قال غرفة بن الحارث ـ على أن نخليهم يفعلون بينهم ما شاءوا مما لا يؤذي المسلمين و لا يضرهم و لا نعترض عليهم في أمور لا تظهر فإن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها و لكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة و شرطنا عليهم أن لا يفعلوا شيئا يؤذينا و لا يضرنا سواء كانوا يستحلونه أو لا يستحلونه فمتى آذوا الله و رسوله فقد نقضوا العهد و شرطنا عليهم التزام حكم الإسلام و إن كانوا يرون أن ذلك لا يلزمهم في دينهم و شرطنا عليهم أداء الجزية و إن اعتقدوا أن أخذها منهم حرام و شرطنا عليهم إخفاء دينهم فلا يظهرون الأصوات بكتابهم و لا على جنائزهم و لا ضرب ناقوس و شرطنا عليهم أن لا يرتفعوا على المسلمين و أن يخالفوا بهيآتهم هيئة المسلمين على وجه يتميزون به و يكونون أذلاء في تمييزهم إلى غير ذلك من الشروط التي يعتقدون أنها لا تجب عليهم في دينهم
فعلم أنا شرطنا عليهم ترك كثير مما يعتقدونه دينا لهم إما مباحا أو واجبا و فعل كثير مما يعتقدونه ليس من دينهم فكيف يقال : أقررناهم على دينهم مطلقا ؟
و أما المقدمة الثانية فنقول : هب أنا أقررناهم على دينهم فقوله : [ استحلال السب من دينهم ] جوابه أن يقال : أهو من دينهم قبل العهد أو من دينهم وإن عاهدوا على تركه ؟(2/23)
الأول مسلم لكن لا ينفع لأن هؤلاء قد عاهدوا فإن لم يكن هذا من دينهم في هذه الحال لم يكن لهم أن يفعلوه لأنه من دينهم في حال أخرى و هذا كما أن المسلم من دينه استحلال دمائهم و أموالهم و أذاهم بالهجاء و السب إذا لم نعاهدهم و ليس من دينه استحلال ذلك إذا عاهدهم فليس لنا أن نؤذيهم و نقول : قد عاهدناكم على ديننا و من ديننا استحلال أذاكم فإن المعاهدة التي بين المتحاربين تحرم على كل واحد منهما في دينه ما كان يستحله من ضرر الآخر و أذاه قبل العهد
و أما الثاني : فممنوع فإنه ليس من دينهم استحلال نقض العهد و لا مخالفة من عاهده في شيء مما عاهده بل من دين جميع أهل الأرض الوفاء بالعهد و إن لم يكن معتقدهم فنحن إنما عاهدناهم على أن يدينوا بوجوب الوفاء بالعهد فإن لم يكن دينهم وجوب الوفاء به فلم نعاهدهم على دين يستحل صاحبه نقض العهد و لو عاهدناهم على هذا الدين لكنا قد عاهدناهم على أن يدينوا بنقض العهد فينقضوه و نحن موفون بالعهد و بطلان هذا واضح
و إذا لم يكن فعل ما عوهدوا على تركه من دينهم فنحن قد عاهدناهم على أن يكفوا على أذانا بألسنتهم و أيديهم و أن لا يظهروا شيئا من أذى الله و رسوله و أن يخفوا دينهم الذي هو باطل في حكم الله و رسوله و إذا عاهدوا على ترك هذا و إخفاء هذا كان فعله حراما عليهم في دينهم لأن ذلك غدر و خيانة و ترك للوفاء بالعهد و من دينهم أن ذلك حرام و لو أن مسلما عاهده قوم من الكفار طائعا غير مكره على أن يمسك عن ذكر صليبهم لوجب عليه في دينه أن يمسك ما دام العهد قائما(2/24)
فقول القائل : [ من دينهم استحلال سب نبينا ] باطل إذ ذلك مع العهد المقتضي لتركه حرام في دينهم كما يحرم عليهم في دينهم استحلال دمائنا و أموالنا لأجل العهد و هم يعتقدون عند أنفسهم أنهم آذوا الله و رسوله بألسنتهم أو ضروا المسلمين بعد العهد فقد فعلوا ما هو حرام في دينهم كما أن المسلمين يعلم أنه إذا آذاهم بعد العهد فقد فعل ما هو حرام في دينه و يعلمون أن ذلك مخالفة للعهد و إن ظنوا أن لا عهد بيننا و بينهم و إنما هم مغلوبون تحت يد الإسلام فذلك أبعد لهم عن العصمة و أولى بالانتقام فإنه لا عاصم لهم منا إلا العهد فإن لم يعتقدوا الوفاء بالعهد فلا عاصم أصلا و هذا كله بين لمن تأمله يتبين به بعض فقه المسألة
و من الفقهاء من أجاب عن هذا بأنا أقررناهم على ما يعتقدونه و نحن إنما نقول بنقض العهد إذا سبوه بما لا يعتقدونه من القذف و نحوه و هذا التفصيل ليس بمرضي و سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك
فإن قيل : فهب أنهم صولحوا على أن لا يظهروا ذلك لكن مجرد إظهار دينهم كيف ينقض العهد ؟ و هل ذلك إلا بمثابة ما لو أظهروا أصواتهم بكتابهم أو صليبهم أو أعيادهم ؟ فإن ذلك موجب لتنكيلهم و تعزيزهم دون نقض العهد
قلنا : و أي ناقص للعهد أعظم من أن يظهروا كلمة الكفر و يعلوها و يخرجوا عن حد الصغار و يطعنوا في ديننا و يؤذونا أذى هو أبلغ من قتل النفوس و أخذ الأموال ؟
و أما إظهار تلك الأشياء بعد شرط عمر المعروف ففيها وجهان عندنا : أحدهما : ينتقض العهد فلا يلزمنا و الآخر : لا ينتقض العهد
و الفرق بينهما من وجهين :(2/25)
أحدهما : أن ظهور تلك الأشياء ليس في ظهور كلمة الكفر و علوها و إنما فيه ظهور لدين المشركين و بين البابين فرق فإن المسلم لو تكلم بكلمة الكفر كفر و لو لم يفعل إلا مجرد مشاركة الكافر في هديه عوقب و لم يكفر و كان ذلك كإظهار المعاصي من المسلم يوجب عقوبته و لا يبطل إيمانه و المتكلم بكلمة الكفر يبطل إيمانه كذلك أهل العهد : إذا أظهروا الكفر و نحوه نقضوا أمانهم و إذا أظهروا زيهم عصوا و لم ينقضوا أمانهم
و هذا جواب من يقول من أصحابنا و غيرهم : إنهم لو أظهروا التثليث و نحوه مما هو دينهم نقضوا العهد
الجواب الثاني : أن ظهور تلك الأشياء ليس فيها ضرر عظيم على المسلمين و لا معرة في دينهم و لا طعن في ملتهم و إنما فيه أحد أمرين : إما اشتباه زيهم بزي المسلمين أو إظهار لمنكرات دينهم في دار الإسلام كإظهار الواحد من المسلمين لشرب الخمر و نحوه و أما سب الرسول و الطعن في الدين و نحو ذلك فهو مما يضر المسلمين ضررا يفوق قتل النفس و أخذ المال من بعض الوجوه فإنه لا أبلغ في إسفال كلمة الله و لا إذلال دين الله و إهانة كتاب الله من أن يظهر الكافر المعاهد السب و الشتم لمن جاء بالكتاب
و لأجل هذا الفرق فصل أصحابنا و أصحاب الشافعي الأمور المحرمة عليهم في العهد الذي بيننا و بينهم إلى ما يضر المسلمين في نفس أو مال أو دين و إلى ما لا يضر و جعلوا القسم الأول ينتقض العهد حيث لا ينقضه القسم الثاني لأن مجرد العهد و مطلقه يوجب الامتناع عما يضر المسلمين و يؤذيهم فحصولة تفويت لمقصود العقد فيفسخه كما لو فات مقصود البيع بتلف العوض قبل القبض أو ظهوره مستحقا و نحوه بخلاف غيره و لأن تلك المضرات يوجب جنسها عقوبة المسلم بالقتل فلأن يوجب عقوبة المعاهد بالقتل أولى و أحرى لأن كليهما ملتزم إما بإيمانه أو بأمانه أن لا يفعلها و لأن تلك المضرات من جنس المحاربة و القتال و ذلك لإبقاء العهد معه بخلاف المعاصي التي فيها مراغمة و مصارمة(2/26)
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 253 ]
فإن قيل : فقد أقروا على ما هم عليه من الشرك الذي هو أعظم من سب الرسول عليه الصلاة و السلام فيكون إقرارهم على سب الرسول أولى بل قد أقروا على سب الله تعالى و ذلك لأن النصارى يعتقدون التثليث و نحوه و هو شتم لله تعالى لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قال الله عز و جل : { كذبني أبن آدم و لم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا و أنا الأحد الصمد الذي لم ألد و لم أولد و لم يكن لي كفوا أحد }
و روى في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه
و كان معاذ بن جبل يقول إذا رأى النصارى : لا ترحموهم فلقد سبوا الله سبة ما سبه إياها أحد من البشر
و قد قال الله تعالى : { و قالوا : اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا } الآية [ مريم : 88 ـ 91 ]
و قد أقر اليهود على مقالتهم في عيسى عليه السلام و هي من أبلغ القذف
قلنا : الجواب من وجوه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 254 ](2/27)
أحدهما أن هذا السؤال فاسد الاعتبار فإن كون الشيء في نفسه أعظم إثما من غيره يظهر أثره في العقوبة عليه في الآخرة لا في الإقرار عليه في الدنيا ألا ترى أن أهل الذمة يقرون على الشرك و لا يقرون على الزنا و لا على السرقة و لا على قطع الطريق و لا قذف المسلم و لا على محاربة المسلمين و هذه الأشياء دون الشرك بل سنة الله في خلقه كذلك فإنه عجل لقوم لوط العقوبة و في الأرض مدائن مملوءة من الشرك لم يعالجهم بالعقوبة لا سيما و المحتج بهذا الكلام يرى أن قتل الكفار إنما هو لمجرد المحاربة سواء كان كفره أصليا أو طارئا حتى إنه لا يرى قتل المرتدة و يقول : ليست دار الجزاء على الكفر و إنما الجزاء على الكفر في الآخرة فإنما يقاتل من يقاتل فقط لدفع أذاه
ثم لا يجوز أن يقال : إذا أقررناهم على الكفر فلأن نقرهم على المحاربة التي هي دون الكفر بطريق الأولى و سبب ذلك أن ما كان من الذنوب يتعدى ضرره فاعله عجلت لصاحبه العقوبة في الدنيا تشريعا و تقديرا و لهذا قال صلى الله عليه و سلم : [ ما من ذنب أحرى أن تعجل لصاحبه العقوبة من البغي و قطيعة الرحم ] لأن تأخير عقوبته فساد لأهل الأرض بخلاف ما لا يتعدى ضرره فاعله فإنه قد تؤخر عقوبته و إن كان أعظم كالكفر و نحوه فإذا أقررناهم على الشرك أكثر ما فيه تأخير العقوبة عليه و ذلك لا يستلزم تأخير عقوبة ما يضر بالمسلمين لأنه دونه كما قدمناه
الوجه الثاني : أن يقال : لا خلاف أنهم إذا أقروا على ما هم عليه من الكفر غير مضارين للمسلمين لا يجوز أذاهم لا في دمائهم و لا في أبشارهم و لو أظهروا السب و نحوه عوقبوا على ذلك إما في الدماء أو في الأبشار
ثم إنه لا يقال : إذا لم يعاقبوا بالعزيز على الشرك لم يعاقبوا على السب الذي هو دونه و إذا كان هذا السؤال معترضا على الإجتماع لم يجب جوابه كيف و المنازع قد سلم أنهم يعاقبون على السب ؟ فعلم أنهم لم يقرهم عليه فلا يقبل منه السؤال(2/28)
و الجواب عن هذه الشبهة مشترك فلا يجب علينا الأنفراد به
الوجه الثالث : أن الساب ينضم السب إلى شركه الذي عوهد عليه بخلاف المشرك الذي لم يسب و لا يلزم من الإقرار على ذنب مفرد الإقرار عليه مع ذنب آخر و إن كان دونه فإن اجتماع الذنبين يوجب جرما مغلظا لا يحصل حال الانفراد
الوجه الرابع : قوله : [ ما هم عليه من الكفر أعظم من سب الرسول ] ليس بجيد على الإطلاق و ذلك لأن أهل الكتاب طائفتان
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 256 ]
أما اليهود فأصل كفرهم تكذيب الرسول و سبه أعظم من تكذيبه فليس لهم كفر أعظم من سب الرسول فإن جميع ما يكفرون به ـ من الكفر بدين الإسلام و بعيسى و بما أخبر الله به من أمور الآخرة و غير ذلك ـ متعلق بالرسول فسبه كفر بهذا كله لأنه ذلك إنما علم من جهته و ليس عند أهل الأرض في وقتنا هذا علم موروث عليه أنه من عند الله إلا العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه و سلم و ما سوى ذلك مما يؤثر عن غيره من الأنبياء فقد اشتبه و اختلط كثير منه أو أكثره و الواجب فيما لا يعلم حقيقته منه أن لا يصدق و لا يكذب
و أما النصارى فسبهم للرسول طعن فيما جاء به من التوحيد و أنباء الغيب و الشرائع و إنما ذنبه الأعظم عندهم أن قال : إن عيسى عبد الله و رسوله كما أن ذنبه الأعظم عند اليهود أن غير شريعة التوراة و إلا فالنصارى ليسوا محافظين على شريعة مورثة بل كل برهة من الدهر تبتدع لهم الأحبار شريعة من الدين لم يأذن الله بها ثم لا يرعونها حق رعايتها فسبهم له متضمن للطعن في التوحيد و للشرك و للتكذيب بالأنبياء و الدين و مجرد شركهم ليس متضمنا لتكذيب جميع الأنبياء و رد جميع الدين فلا يقال : ما هم عليه من الشرك أعظم من سب الرسول بل سب الرسول فيه ما هم عليه من الشرك و زيادة(2/29)
و بالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات المرسلين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له و لما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى و الصفات العلى و لا كانت له شريعة في الأرض و لا تحسبن أن العقول لو تركت و علومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته و أسمائه على وجه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل و استصغى بذلك و استأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر و قد اعترف عامة الرؤوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية و إنما ينال به الظن و الحسبان
و القدر الذي يمكن العقل إدراكه بنظره فإن المرسلين صلوات الله و سلامه عليهم نبهوا الناس عليهم و ذكروهم به و دعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا و آذانا صما و قلوبا غلفا
و القدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه و أنبأوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله و أسمائه و صفاته و كلامه و دينه و شرائعه و أنبيائه و ثوابه و عقابه و عامة الأسباب التي بينه و بين خلقه بل يقال : إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو أثر نبوة و إن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات و لا يستريبن العاقل في هذا الباب الذين درست النبوة فيهم مثل البراهمة و الصابئة و المجوس و نحوهم فلاسفتهم و عامتهم قد أعرضوا عن الله و توحيده و أقبلوا على عبادة الكواكب و النيران و الأصنام و غير ذلك من الأوثان و الطواغيت فلم يبق بأيديهم لا توحيد و لا غيره
و ليست أمة مستمسكة بالتوحيد إلا أتباع الرسل قال الله سبحانه : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ](2/30)
فأخبر أن دينه الذي يدعو إليه المرسلون كبر على المشركين فما الناس إلا تابع لهم أو مشرك و هذا حق لا ريب فيه فعلم أن سب الرسل و الطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر و جماع جميع الضلالات و كل كفر ففرع منه كما أن تصديق الرسل أصل جميع شعب الإيمان و جماع مجموع أسباب الهدى
الوجه الخامس : أن نقول : قد ثبت بالسنة ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأمر بقتل من سبه و كان المسلمون يحرصون على ذلك مع الإمساك عمن هو مثل هذا الساب في الشرك أو أسوأ منه من محارب و معاهد فلو كانت هذه الحجة مقبولة لتوجه أن يقال : إذا أمسكوا عن المشرك فالإمساك عن الساب أولى و إذا عوهد الذمي على كفره فمعاهدته على السب أولى و هذا لو قبل معارضة لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كل قياس عارض السنة فهو رد
الوجه السادس : أن يقال : ما هم عليه من الشرك و إن كان سبا لله فهم لا يعتقدونه سبا إنما يعتقدونه تمجيدا و تقديسا فليسوا قاصدين به قصد السب و الاستهانة بخلاف سب الرسول فلا يلزم من إقرارهم على شيء لا يقصدون به الاستخفاف إقرارهم على ما يقصدون به الاستخفاف و هذا جواب من يقتلهم إذا أظهروا سب الرسول و لا يقتلهم إذا أظهروا ما يعتقدونه من دينهم
الوجه السابع : أن إظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين و إضرار بهم و مجرد التكلم بدينهم ليس فيه إضرار بالمسلمين فصار إظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة يعاقبون عليها و إن كانت دون الشرك و هذا أيضا جواب القائل
الوجه الثامن : منع الحكم في الأصل المقيس عليه فإنا نقول : متى أظهروا كفرهم و أعلنوا به نقضوا العهد بخلاف مجرد رفع الصوت بكتابهم فإنه ليس كل ما فيه كفر و لسنا نفقه ما يقولون و إنما فيه إظهار شعار الكفر و فرق بين إظهار الكفر و بين إظهار شعار الكفر(2/31)
أو نقول : متى أظهروا الكفر الذي هو طعن في دين الله نقضوا به العهد بخلاف كفر لا يطعنون به في ديننا و هذا لأن العهد إنما اقتضى أن يقولوا و يفعلوا بينهم ما شاءوا مما لا يضر المسلمين فأما أن يظهروا كلمة الكفر أو أن يؤذوا المسلمين فلم يعاهدوا عليه البتة و سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذين القولين ة اللذين قبلهما
قال كثير من الفقهاء الحديث و أهل المدينة من أصحابنا و غيرهم : لم نقرهم على أن يظهروا شيئا من ذلك و متى أظهروا شيئا من ذلك نقضوا العهد
قال أبو عبد الله في رواية حنبل : [ كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك و تعالى فعليه القتل مسلما كان أم كافرا و هذا مذهب أهل المدينة
و قال جعفر بن محمد : سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن و هو يؤذن فقال له : كذبت فقال : يقتل لأنه شتم ]
و من الناس من فرق بين ما يعتقدونه و ما لا يعتقدونه و من الناس من فرق بين ما يعتقدونه و إظهاره يضر بنا لأنه قدح في ديننا و بين ما يعتقدونه و إظهاره ليس بطعن في نفس ديننا و سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك فإن فروع المسألة تظهر مأخذها
و قد قدمنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال بمحضر من المهاجرين و الأنصار للنصراني الذي قال إن الله لا يضل أحدا : إنا لم نعطك ما أعطيناك على أن تدخل علينا في ديننا فو الذي نفسي بيده لئن عدت لأخذن الذي فيه عيناك
و جميع ما ذكرناه من الآيات و الاعتبار يجيئ أيضا في ذلك فإن الجهاد واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا و حتى يكون الدين كله لله و حتى يظهر دين الله على الدين كله و حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون
و النهي عن إظهار المنكر واجب بحسب القدرة فإذا أظهروا كلمة الكفر و أعلنوها خرجوا عن العهد الذي عاهدونا عليه و الصغار الذي التزموه و وجب علينا أن نجاهد الذين أظهروا كلمة الكفر و جهادهم بالسيف لأنهم كفار لا عهد لهم و الله سبحانه أعلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 260 ](2/32)
أنه يتعين قتله و لا يجوز استرقاقه و لا المن عليه و لا فداؤه
أما إن كان مسلما فبالإجماع لأنه نوع من المرتد أو من الزنديق و المرتد يتعين قتله و كذلك الزنديق و سواء كان رجلا أو مرأة و حيث قتل يقتل مع الحكم بإسلامه فإن قتله حد بالاتفاق فتجب إقامته و فيما قدمناه دلالة واضحة على قتل السابة المسلمة من السنة و أقاويل الصحابة فإن في بعضها تصريحا بقتل السابة المسلمة و في بعضها تصريحا بقتل السابة الذمية و إذا قتلت الذمية للسب فقتل المسلمة أولى كما لا يخفى على الفقيه
و من قال من أهل الكوفة : [ إن المرتدة لا تقتل ] فقياس مذهبه أن لا تقتل السابة لأن الساب عنده مرتد و قد كان يحتمل مذهبه أن تقتل السابة حدا كقتل الساحرة عند بعضهم و قتل قاطعة الطريق و لكن أصوله تأبى ذلك
و الصحيح الذي عليه العامة قتل المرتدة فالسابة أولى و هو الصحيح لما تقدم و إن كان الساب معاهدا فإنه يتعين أيضا قتله سواء كان رجلا أو امرأة عند عامة الفقهاء من السلف و من تبعهم
و قد ذكرنا قول ابن المنذر فيما يجب على من سب النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ و أجمع أعوام العلم على أن سب النبي صلى الله عليه و سلم فحده القتل ] و ممن قاله مالك و الليث و أحمد و إسحاق و هو مذهب الشافعي
قال : و حكى عن النعمان : [ لا يقتل من سبه من أهل الذمة ]
و هذا اللفظ دليل على وجوب قتله عند العامة و هذا مذهب مالك و إسحاق و سائر فقهاء المدينة و كلام أصحابه يقتضي أن لقتله مأخذين :
أحدهما : انتقاض عهده
و الثاني : أنه حد من الحدود و هو قول فقهاء الحديث(2/33)
قال إسحاق بن راهويه : [ إن أظهروا سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمع منهم ذلك أو تحقق عليهم قتلوا ] و أخطأ هؤلاء الذين قالوا : [ ما هم فيه من الشرك أعظم من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ] قال إسحاق : [ يقتلون ] لأن ذلك نقض للعهد و كذلك فعل عمر بن عبد العزيز و لا شبهة في ذلك لأنه يصير بذلك ناقضا للصلح و هو كما قتل ابن عمر الراهب الذي سب النبي صلى الله عليه و سلم و قال : [ ما على هذا صالحناهم ]
و كذلك نص الإمام أحمد على وجوب قتله و انتقاض عهده و قد تقدم بعض نصوصه في ذلك و كذلك نص عامة أصحابه على وجوب قتل هذا الساب ذكروه بخصوصه في مواضع و هكذا ذكروه أيضا في جملة ناقضي العهد من أهل الذمة
ثم المتقدمون منهم و طوائف من المتأخرين قالوا : [ إن هذا و غيره من ناقضي العهد يتعين قتلهم كما دل عليه كلام أحمد ]
و ذكر طوائف منهم أن الإمام مخير فيمن نقض العهد من أهل الذمة كما يخير في الأسير بين الاسترقاق و القتل و المن و الفداء و يجب عليه فعل الأصلح للأمة من هذه الأربعة بعد أن ذكروه في الناقضين للعهد فدخل هذا الساب في عموم هذا الكلام و إطلاقه و إلا وجب أن يقال فيه بالتخيير إذا قيل به في غيره من ناقضي العهد و لكن قيد محققو أصحاب هذه الطريقة و رؤوسهم ـ مثل القاضي أبي يعلى في كتبه المتأخرة و غيره ـ و هذا الكلام و قالوا : [ التخيير في غير ساب الرسول و أما سابه فإنه يتعين قتله و إن كان غيره مخيرا فيه كالأسير ] و على هذا فإما أن لا يحكى في تعين قتله خلاف لكون الذين أطلقوا التخيير في موضع قد قالوا في موضع آخر بأن الساب يتعين قتله و صرح رأس أصحاب هذه الطريقة بأنه مستثنى من ذلك الإطلاق أو يحكى فيه وجه ضعيف لأن الذين قالوا به في موضع نصوا على خلافه في موضع آخر(2/34)
و اختلف أصحاب الشافعي أيضا فيه فمنهم من قال : [ يجب قتل الساب حتما و إن خير في غيره ] و منهم من قال : [ هو كغيره من الناقضين للعهد و فيه قولان : أضعفهما أنه يلحق بمأمنه و الصحيح منها جواز قتله قالوا : و يكون كالأسير يجب على الإمام أن يفعل فيه الأصلح للأمة من القتل و الاسترقاق و المن و الفداء ]
و كلام الشافعي في موضع يقتضى أن حكم الناقض للعهد حكم الحربي فلهذا قيل : إنه كالأسير و في موضع آخر أمر بقتله عينا من غير تخيير
و تحرير الكلام في ذلك يحتاج إلى تقديم فيما ينتقض به العهد و في حكم ناقض العهد عل سبيل العموم ثم يتكلم في خصوص مسألة السب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 262 ]
إن ناقض العهد قسمان : ممتنع لا يقدر عليه إلا بقتال و من هوى في أيدي المسلمين
أما الأول فأن يكون لهم شوكة و منعة فيمتنعوا بها على الإمام من أداء الجزية و التزام أحكام الملة الواجبة عليهم دون ما يظلمهم به الوشاة أو يلحقوا بدار الحرب مستوطنين بها فهؤلاء قد نقضوا العهد بالإجماع فإذا أسر الرجل منهم فحكمه عند الإمام أحمد في ظاهر مذهبه حكم أهل الحرب إذا أسروا يفعل بهم الإمام ما يراه أصلح
قال في رواية أبي الحارث ـ و قد سئل عن قوم من أهل العهد نقضوا العهد و خرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم ـ(2/35)
قال أحمد : [ إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام إذا أسروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى و أما الذرية فما ولد بعد نقضهم العهد فهو بمنزلة من نقض العهد و من كان ممن ولد قبل نقض العهد فليس عليه شيء ] و ذلك أن امرأة علقمة بن علاثة قالت : إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد و كذلك روى عن الحسن فيمن نقض العهد في حصن و معهم مسلمون فنقضوا العهد و المسلمون معهم بالحصن : ما السبيل فيهم ؟ ـ قال : [ ما ولد لهم بعد نقض العهد فالذرية بمنزلة من نقض العهد يسبون و من كان قبل ذلك لا يسبون ] فقد نص على أن ناقض العهد إذا أسر بعد المحاربة يخير الإمام فيه و على أن الذرية الذين ولدوا بعد ما نقضوا العهد بمنزلة من نقض العهد يجوز استرقاقه و هذا هو المشهور من مذهبه
و عنه : أنهم إذا قدروا عليهم فإنهم لا يسترقون بل يردون إلى الذمة في رواية أبي طالب ـ في رجل من أهل العهد لحق بالعدو هو و أهله و ولده و ولد له في دار العدو ـ قال : [ يسترق أولادهم الذين ولدوا في دار العدو و يردون هم و أولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام إلى الجزية قيل له : لا يسترق أولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام ؟ قال : لا قيل له : فإن كانوا أدخلوهم صغارا ثم صاروا رجالا قال : لا يسترقون أدخلوهم مأمنهم ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 264 ]
و كذلك قال في رواية ابن إبراهيم ـ و قد سأله عن رجل لحق بدار الحرب هو و أهله و ولد له في بلاد العدو و قد أخذه المسلمون ـ قال : [ ليس على ولده و أهله شيء و لكن ما ولد له و هو في أيديهم يسترقون و يردون هم إلى الجزية ](2/36)
فقد نص على أن الرجل الذي نقض العهد يرد إلى الجزية هو و ولده الذين كانوا موجودين و أنهم لا يسترقون و ذلك لأن ولده الذين حدثوا بعد المحاربة يسترقون و ذلك لأن صغار ولده سبى من أولاد أهل الحرب و هم يصيرون رقيقا بنفس السبي فلا يدخلون في عقد الذمة أولا و لا آخرا و أما أولاده الذين ولدوا قبل النقض فلهم حكم الذمة المتقدمة
فعلى الرواية الأولى المشهورة يخير الإمام في الرجال إذا أسروا فيفعل ما هو الأصلح للمسلمين من قتل و استرقاق و من فداء و إذا جاز أن يمن عليهم جاز أن يطلقهم على قبول الجزية منهم و عقد الذمة لهم ثانيا لكن لا يجب عليه ذلك كما يجب عليه في الأسير الحربي الأصلي إذا كان كتابيا و قد قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم أسرى بني قريظة و أسرى من أهل خيبر و لم يدعهم إلى إعطاء الجزية و لو دعاهم إليها لأجابوا
و على الرواية الثانية يجب دعاؤهم إلى العود إلى الذمة كما كانوا كما يجب دعاء المرتد إلى أن يعود إلى الإسلام أو يستحب كما يستحب دعاء المرتد و متى بذلوا العود إلى الذمة وجب قبول ذلك منهم كما يجب قبول الإسلام من المرتد و قبول الجزية من الحربي الأصلي إذا بدلها قبل الأسر و متى امتنعوا فقياس هذه الرواية وجوب قتلهم دون استرقاقهم جعلا لنقض الأمان كنقض الإيمان و لو تكرر النقض منهم فقد يقال فيهم ما يقال فيمن تكررت ردته
و بنحو من هذه الرواية قال أشهب صاحب مالك في مثل هؤلاء قال : [ لا يعود الحرقنا و لا يسترق أبدا بحال بل يردون إلى ذمتهم بكل حال ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 265 ]
و كذلك قال الشافعي في الأم ـ و قد ذكر نواقض العهد و غيرها ـ قال : [ و أيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذلك إذا ذلك فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا بنقض عهد(2/37)
و إن فعل مما وصفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم و لكنه قال [ أتوب و أعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يكون قد فعل فعلا يوجب القصاص و الحد ]
[ فإن فعل أو قال مما وصفنا و شرط أنه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول أسلم أو أعطي جزية قتل و أخذ ماله فيئا ]
فقد نص على وجوب قبول الجزية منه إذا بذلها و هو في أيدينا و أنه إذا امتنع منها و من الإسلام قتل و أخذ ماله و لم يخير فيه
و لأصحابه في وجوب قبول الجزية من الأسير الحربي الأصلي وجهان
و عن الإمام أحمد رواية ثالثة : أنهم يصيرون رقيقا إذا أسروا
و قال في رواية ابن إبراهيم : إذا أسر الروم من اليهود ثم ظهر المسلمون عليهم فإنهم لا يبيعونهم و قد وجبت لهم الحرمة إلا من ارتد منهم عن جزيته فهو بمنزلة المملوك
و هذا هو المشهور من مذهب مالك قال ابن القاسم و غيره من المالكية : [ إذا خرجوا ناقضين للعهد و منعوا الجزية و امتنعوا منا غير أن يظلموا و لحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم و إذا انتقض عهدهم ثم أسروا فهم فيء و لا يردون إلى ذمتنا ]
فأوجبوا استرقاقهم و منعوا أن نعقد لهم الذمة ثانيا كأنه جعل خروجهم من الذمة مثل ردة المرتد بمنع إقراره بالجزية و لكن هؤلاء لا يسترقون لكون كفرهم أصليا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 266 ]
و قال أصحاب أبي حنيفة : [ من نقض العهد فإنه يصير كالمرتد إلا أنه يجوز استرقاقه و المرتد لا يجوز استرقاقه ](2/38)
فأما إن لم يقدر عليهم حتى بذلوا الجزية و طلبوا العود إلى الذمة فإنه يجوز عقدها لهم لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عقدوا الذمة لأهل الكتاب من أهل الشام مرة ثانية و ثالثة بعد أن نقضوا العهد و القصة في ذلك مشهورة في فتوح الشام و ما أحسب في هذا خلافا فإن مالكا و أصحابه قالوا : إذا منعوا الجزية و قاتلوا المسلمين و الإمام عدل فإنهم يقاتلون حتى يردوا إليه مع أن المشهور عندهم أن الأسير منهم لا يرد إلى الذمة بل يكون فيئا فإذا كان مالك لا يخالف فيها لأنه هو الذي اشتهر عنه القول بمنع عود الأسير منهم إلى الذمة(2/39)
فإن بذل هؤلاء العود إلى الذمة فهل يجب قبول ذلك منهم كما يجب قبوله من الحربي الأصلي ؟ إن قلنا إنه يجب رد الأسير منهم إلى ذمته فهؤلاء أولى و إن لا يجب هناك فيتوجه أن لا يجب هنا أيضا لأن بني قينقاء لما نقضوا العهد الذي بينهم و بين النبي صلى الله عليه و سلم أراد قتلهم حتى ألح عليه عبد الله ابن أبي في الشفاعة فيهم فأجلاهم إلى [ أذرعات ] و لم يقرهم بالمدينة مع أن القوم كانوا حراصا على المقام بالمدينة بعهد يجددونه و كذلك بنو قريظة لما حاربت أرادوا الصلح و العود إلى الذمة فلما لم يجبهم النبي صلى الله عليه و سلم نزلوا على حكم سعد بن معاذ و كذلك بنو النضير لما نقضوا العهد فحاصرهم أنزلهم على الجلاء من المدينة مع أنهم كانوا أحرص شيء على المقام بدارهم بأن يعودوا إلى الذمة و هؤلاء الطوائف كانوا أهل ذمة عاهدوا النبي صلى الله عليه و سلم أن الدار دار الإسلام يجرى فيها حكم الله تعالى و رسوله و أنه مهما كان بين أهل العهد من المسلمين و بين هؤلاء المتعاهدين من حدث فأمره إلى النبي صلى الله عليه و سلم هكذا في كتاب الصلح فإذا كانوا نقضوا العهد فبعضا قتل و بعضا أجلى و لم يقبل منهم ذمة ثانية مع حرصهم على بذلها علم أن ذلك لا يجب ن و لا يجوز أن يكون ذلك لكون أرض الحجاز لا يقر فيها أهل دينين و لا يمكن الكفار من المقام بها لأن هذا الحكم لم يكن شرع بعد بل قد توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و درعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي بالمدينة و بالمدينة غيره من اليهود و بخيبر خلائق منهم و هي من الحجاز و لكن عهد النبي صلى الله عليه و سلم في مرضه أن يخرج اليهود و النصارى من جزيرة العرب و أن لا يبقى بها دينان فأنفذ عهده في خلافة عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 267 ](2/40)
و الفرق بين هؤلاء و بين المرتدين أن المرتد إذا عاد إلى الإسلام فقد أتى بالغاية التي يقاتل الناس حتى يصلوا إليها فلا يطلب منه غير ذلك و إن ظننا أن باطنه خلاف ظاهره فإنا لم نؤمر أن نشق عن قلوب الناس و أما هؤلاء فإن الكف عنهم إنما كان لأجل العهد و من خفنا منه الخيانة جاز لنا أن ننبذ إليه العهد و إن لم يجز نبذ العهد إلى من خفنا منه الردة فإذا نقضوا العهد فقد يكون ذلك أمارة على عدم الوفاء و أن إجابتهم إلى العهد إنما فعلوه خوفا و تقية و متى قدروا فيكون هذا الخوف مجوزا لترك معاهدتهم على أخذ الجزية كما كان يجوز نبذ العهد إلى أهل الهدنة بطريق الأولى
و في هذا دليل على أنه لا يجب رد الأسير الناقض للعهد إلى الذمة بطريق الأولى فإن النبي صلى الله عليه و سلم إذا لم يردهم إلى الذمة و قد طلبوها ممتنعين فأن لا يردهم إذا طلبوها موثقين أولى و قد أسر بني قريظة بعد نقض العهد فقتل مقاتلتهم و لم يردهم إلى العهد و لأن الله تعالى قال : { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } [ الفتح : 10 ] فلو كان الناكث كلما طلب العهد منا وجب أن نجيبه لم يكن للنكث عقوبة يخافها بل ينكث إذا أحب لكن يجوز أن نعيدهم إلى الذمة لأن النبي صلى الله عليه و سلم وهب الزبير بن باطا القرظي لثابت بن قيس بن شماس هو و أهله و ماله على أن يسكن أرض الحجاز و كان من أسرى بني قريظة الناكثين فعلم جواز إقرارهم في الدار بعد النكث و إجلاء بني قينقاع بعد القدرة عليهم إلى [ أذرعات ] فعلم جواز المن عليهم بعد النكث و إذا جاز المن على الأسير الناكث و إقراره في دار الإسلام فالمفاداة به أولى
و سيرة النبي صلى الله عليه و سلم في هؤلاء الناقضين تدل على جواز القتل و المن على أن يقيموا بدار الإسلام و أن يذهبوا إلى دار الحرب إذا كانت المصلحة في ذلك و في ذلك حجة على من أوجب إعادتهم إلى الذمة و على من أوجب استرقاقهم(2/41)
فإن قيل : إنما أوجبنا إعادتهم إلى الذمة لأن خروجهم عن الذمة و مفارقتهم لجماعة المسلمين كخروجهم عن الإسلام و مفارقة جماعة المسلمين أو نقض الأمان كنقض الإيمان فإذا كان المرتد عن الإسلام لا يقبل منه ما يقبل من الكافر الأصلي بل إما الإسلام أو السيف فكذلك المرتد عن العهد لا يقبل منه ما يقبل من الحربي الأصلي بل إما الإسلام أو العهد و إلا فالسيف و لأنه قد صارت لهم حرمة العهد المتقدم فمنعت استرقاقهم كما منع استرقاق المرتد حرمة إسلامه المتقدم
قلنا المرتد بخروجه عن الدين الحق بعد دخوله فيه تغلظ كفره فلم يقر عليه بوجه من الوجوه فتحتم قتله إن لم يسلم عصمة للدين كما تحتم غيره من الحدود حفظا للفروج و الأموال و غير ذلك و لم يجز استرقاقه لأن فيه قرارا له على الردة لتشرفه بدين قد بدله و ناقض العهد قد نقض عهده الذي كان يرعى به فزالت حرمته و صار بأيدي المسلمين من غير عقد و لا عهد فصار كحربي أسرناه و أسوأ حالا منه و مثل ذلك لا يجب المن عليه بجزية و لا بغيرها لأن الله تعالى إنما أمرنا أن نقاتلهم حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون فمن أخذناه قبل أن يعطي الجزية لم يدخل في الآية لأنه لا قتال معه بل قد خيرنا الله إذا شددنا الوثاق بين المن و الفداء و لم يوجب المن في حق ذمي و لا كتابي و لأن الأسير قد صار للمسلمين في حق بإمكان استعباده و المفاداة به فلا يجب عليهم بذل حقهم منه مجانا و جاز قتله لأنه كافر لا عهد له و إنما هو باذل للعهد في حال لا تجب معاهدته و ذلك لا يعصم دمه
فإن قال من منع من إعادته إلى الذمة وجعله فيئا : هذا من على الأسير مجانا و ذلك إضاعة لحق المسلمين فلم يجز إتلاف أموالهم
قلنا : هذا مبني على أنه لا يجوز المن على الأسير و المرضي جوازه كما دل عليه الكتاب و السنة و مدعى النسخ يفتقر إلى دليل(2/42)
فإن قيل : خروجه عن العهد موجب للتغليظ عليه فينبغي إما أن يقتل أو يسترق كما أن المرتد يغلظ حاله بتعين قتله فإذا جاز في هذا ما يجوز في الحربي الأصلي لم يبق بينهما فرق
قلنا : إذا جاز استرقاقه جاز إقراره بالجزية إذا لم يكن المانع حقا لأنه ليس في ذلك إلا فوات ملك رقبته و قد يرى الإمام أن في إقراره بالجزية أو في المن عليه و المفاداة به مصلحة أكبر من ذلك بخلاف المرتد فإنه لا سبيل إلى استبقائه و بخلاف الوثني إذا جوزنا استرقاقه فإن المانع من إقراره بالجزية حق الله و هو دينه و ناقض العهد دينه قبل النقض و بعده سواء و نقضه إنما يعود ضرره على من يحاربه من المسلمين فكان الرأي فيه إلى أميرهم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 269 ]
فإن قيل : فهلا حكيتم خلافا أنه يتعين قتل هذا الناقض للعهد كما يتعين قتل غيره من الناقضين كما سيأتي و قد قال أبو الخطاب : إذا حكمنا بنقض عهد الذمي فظاهر كلام الإمام أحمد أنه يقتل في الحال قال : و قال شيخنا :
يخير الإمام فيه بين أربعة أشياء فأطلق الكلام فيمن نقض العهد مطلقا و تبعه طائفه على الإطلاق و من قيده قيده بأن ينقضه بما فيه ضرر على المسلمين مثل قتالهم و نحوه فأما إن نقضه بمجرد اللحاق بدار الحرب فهو كالأسير و يؤيد هذا ما رواه عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي عن قوم نصارى نقضوا العهد و قاتلوا المسلمين قال : أرى أن لا يقتل الذرية و لا يسبون و لكن يقتل رجالهم قلت لأبي : فإن ولد لرجالهم أولاد في دار الحرب قال : أرى أن يسبوا أولئك و يقتلوا قلت لأبي : فإن هرب من الذرية إلى دار الحرب أحد فسباهم المسلمون ترى لهم أن يسترقوا ؟ قال : الذرية لا يسترقون و لا يقتلون لأنهم لم ينقضوا هم إنما نقض العهد رجالهم و ما ذنب هؤلاء ؟ فقد أمر رحمه الله بقتل المقاتلة من هؤلاء إما لمجرد النقض أو للنقض و القتال(2/43)
قلنا : قد ذكرنا فيما مضى نص أحمد على أن من نقض العهد و قاتل المسلمين فإنه يجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام و إذا أسر حكم فيه الإمام بما رأى
و نص رحمه الله فيمن لحق بدار الحرب على أنه يسترق في رواية و على أن يعاد إلى ذمته في رواية أخرى فلم يجز أن يقال : ظاهر كلامه في هذه الصورة يدل على وجوب قتله مع تصريحه بخلاف ذلك كيف و الذين قالوا ذلك إنما أخذوا من كلامه في مسائل شتى ليست هذه الصورة منها ؟ على أن أبا الخطاب و غيره لم يذكروا هذه الصورة و لم يدخل في كلامهم أعنى صورة اللحاق بدار الحرب و إنما ذكروا من نقض العهد بأن ترك ما يجب عليه في العهد أو فعل ما ينتقض به عهده و هو في قبضة المسلمين
و ذكروا أن ظاهر كلام أحمد يعين قتله و هو صحيح فمن فهم من كلامهم عموم الحكم في كل من انتقض عهده فمن فهمه أتي لا من كلامهم و من ذكر اللحاق بدار الحرب و قتال المسلمين و الامتناع من أداء الجزية و غير ذلك من النواقض فإنه احتاج أن يفرق بين اللحاق بدار الحرب و بين غيره كما ذكرناه من نصوص الإمام أحمد و غيره من الأئمة على الناقض الممتنع
و الفرق بينهما أنه من لم يوجد منه إلا اللحاق بدار الحرب فإنه لم يجن جناية فيها ضرر على المسلمين حتى يعاقب عليها بخصوصها و إنما ترك العهد الذي بيننا و بينه فصار ككافر له كما سيأتي إن شاء تعالى تقريره
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 271 ](2/44)
و يجب أن يعلم أن من لحق بدار الحرب صار حربيا فما وجد منه من الجنايات بعد ذلك فهي كجنايات الحربي لا يؤخذ بها إن أسلم أو عاد إلى الذمة و كذلك قال الخرقي : [ و من هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا ] و كذلك أيضا إذا امتنعوا بدار الإسلام من الجزية أو الحكم و لهم شوكة و منعة قاتلوا بها عن أنفسهم فإنهم قد قاتلوا بعد أن انتقض عهدهم و صار حكمهم حكم المحاربين فلا يتعين قتل من استرق منهم بل حكمه إلى الإمام و يجوز استرقاقه كما نص الإمام أحمد على هذه بعينها لأن المكان الذي تحيزوا فيه و امتنعوا بمنزلة دار الحرب و لم يجنوا على المسلمين جناية ابتدؤا بها للمسلمين و إنما قاتلوا عن أنفسهم بعد أن تحيزوا و امتنعوا و علم أنهم محاربون فمن قال من أصحابنا إن من قاتل المسلمين يتعين قتله و من لحق بدار الحرب خير الإمام فيه فإنما ذاك إذا قاتلهم ابتداء قبل أن يظهر نقض العهد و يظهر الامتناع بأن يعين أهل الحرب على قتال المسلمين و نحو ذلك فأما إذا قاتل بعد أن صار في شوكة و منعة يمتنع بها عن أداء الجزية فإنه يصير كالحربي سواء كما تقدم و لهذا قلنا على الصحيح : إن المرتدين إذا أتلفوا دما أو مالا بعد الامتناع لم يضمنوه و ما أتلفوه قبل الامتناع ضمنوه و سيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في الفرق
و أما ما ذكره الإمام أحمد في رواية عبد الله فإنما أراد به الفرق بين الرجال و الذرية لتبين أن الذرية لا يجوز قتلهم و أن الرجال يقتلون كما يقتل أهل الحرب و لهذا قال في الذرية الذين ولدوا بعد النقض [ يسبون و يقتلون ] و إنما أراد أنهم يسبون إذا كانوا صغارا و يقتلون إذا كانوا رجالا أي يجوز قتلهم كأهل الحرب الأصليين و لم يرد أن القتل يتعين لهم فإنهم على خلاف الإجماع و الله أعلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 272 ](2/45)
القسم الثاني : إذا لم يكن ممتنعا عن حكم الإمام فمذهب أبي حنيفة أن مثل هذا لا يكون ناقضا للعهد و لا ينقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة و منعة و يمتنعوا بذلك عن الإمام و لا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم أو تخلفوا بدار الحرب لأنهم إذا لم يكونوا ممتنعين أمكن الإمام أن يقيم عليهم الحدود و يستوفي منهم الحقوق فلا يخرجون بذلك عن العصمة الثابته كمن خرج عن طاعة الإمام من أهل البغي و لم تكن له شوكة
و قال الإمام مالك : [ لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ناقضين للعهد و منعا للجزية و امتنعوا منا من غير أن يظلموا أو يلحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم ] لكن يقتل عنده الساب و المستكره للمسلمة على الزنى و غيرهما
و أما مذهب الإمام الشافعي و الإمام أحمد فإنهم قسموا الأمور المتعلقة بذلك قسمين أحدهما : يجب عليهم فعله و الثاني : يجب عليهم تركه
فأما الأول فإنهم قالوا : إذا امتنع الذمي مما يجب عليه فعله ـ و هو أداء الجزية أو جريان أحكام الملة عليه إذا حكم بها حاكم المسليمين ـ انتقض العهد بلا تردد
قا ل الإمام أحمد في الذي يمنع الجزية : إن كان واحدا أكره عليها و أخذت منه و لم يعطيها ضربت عنقه و ذلك لأن تعالى أمر بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون و الإعطاء له مبتدأ و تمام فمبتدأه الألتزام و الضمان و منتهاه الأداء و الإعطاء و من الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم فمتى لم يتموا إعطاء الجزية أو أعطوها و ليسوا بصاغرين فقد زالت الغاية التي أمرنا بقتالهم إليها فيعود القتال و لأن حقن دمائهم إنما ثبت ببذل الجزية و التزام جريان أحكام الإسلام عليهم فمتى امتنعوا منه و أتوا بضده صاروا كالمسلم الذي ثبت حقن دمه بالإسلام إذا امتنع منه و اتى بكلمة الكفر(2/46)
و على ما ذكره الإمام أحمد فلابد أن يمتنع من ذلك على وجه لا يمكن استيفاؤه منه مثل أن يمتنع من حق بدني لا يمكن فعله و النيابة عنه دائما أو يمتنع من أداء الجزية و لعيب ماله كما قلنا في المسلم إذا امتنع من الصلاة أو الزكاة فأما إن قاتل الإمام على ذلك فذلك هو الغاية في انتقاض العهد كمن قاتل على ترك الصلاة أو الزكاة
أما القسم الثاني ـ و هو ما يجب عليهم تركه ـ فنوعان :
أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين و الثاني ما لا ضرر فيه عليهم و الأول قسمان أيضا :
أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم و أموالهم : مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يعين على قتال المسلمين أو يتجسس للعدو بمكاتبة أو كلام أو إيواء عين من عيونهم أو يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح
و القسم الثاني ما فيه أذى و غضاضة عليهم : مثل أن يذكر الله أو كتابه و رسوله أو دينه بالسوء
و النوع الثاني ما لا ضرر فيه عليهم : مثل إظهار أصواتهم بشعائر دينهم من الناقوس و الكتاب و نحو ذلك و مثل المسلمين في هيآتهم و نحو ذلك و قد تقدم القول في انتقاض العهد بكل واحد من هذه الأقسام
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 273 ]
فإذا نقض الذمي العهد ببعضها و هو في قبضة الإسلام ـ مثل أن يزني بمسلمة أو يتجسس للكفار ـ فالمنصوص عن الإمام أحمد أنه يقتل قال في رواية حنبل : [ كل من نقض العهد أو أحداث في الإسلام حدثا مثل هذا ـ يعني سب النبي صلى الله عليه و سلم ـ رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد و الذمة ]
فقد نص على أن من نقض العهد و أتى بمفسده مما ينقض العهد قتل عينا و قد تقدمت نصوصه أن من لم يوجد منه إلا نقض العهد بالامتناع فإنه كالحربي
و قال في مواضع متعددة في ذمي فجر بامرأة مسلمة : يقتل ليس على هذا صولحوا و المرأة إن كانت طاوعته أقيم عليها الحد و أن كان استكرهها فلا شيء عليها(2/47)
و قال في يهودي زنى بمسلمة : يقتل : لأن عمر رضي الله عنه أتى بيهودي نخس بمسلمة ثم غشيها فقتله فالزنى أشد من نقض العهد قيل : فعبد نصراني زنى بمسلمة قال : يقتل أيضا و إن كان عبدا
و قال في مجوسى فجر بمسلمة : يقتل هذا قد نقض العهد و كذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد فقيل له : ترى عليه الصلب مع القتل ؟ قال : إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه
و قال مهنا : سألت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بامرأة مسلمة : ما يصنع به ؟ قال : يقتل فأعدت عليه قال : يقتل قلت : إن الناس يقولون غير هذا قال : كيف يقولون ؟ فقلت : يقولون عليه الحد قال : لا و لكن يقتل فقلت له : في هذا شيء ؟ قال : نعم عن عمر أنه أمر بقتله
و قال في رواية جماعة من أصحابه في ذمي فجر بمسلمة : يقتل قيل : فإن أسلم قال : يقتل هذا قد وجب عليه
فقد نص رحمه الله على وجوب قتله بكل حال سواء كان محصنا أو غير محصن و أن القتل واجب عليه و إن أسلم و أنه لا يقام عليه حد الزنا الذي يفرق فيه بين المحصن و غير المحصن و اتبع في ذلك ما رواه خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك أن رجلا نخس بامرأة فتجللها فأمر به عمر فقتل و صلب و رواه المروزي عن مجالد عن الشعبي عن سويد بن غفلة أن رجلا من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام و هي على حمار فصرعها و ألقى نفسه عليها فرآه عوف بن مالك فضربه فشجه فانطلق إلى عمر يشكو عوفا فأتى عوف عمر فحدثه فأرسل إلى المرأة يسألها فصدقت عوفا فقال : قد شهدت أختنا فأمرنا به عمر فصلب قال : فكان أول مصلوب في الإسلام ثم قال عمر : أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه و سلم و لا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له
و روى سيف في الفتوح هذه القصة عن عوف بن مالك مبسوطة و ذكر فيها أن الحمار صرع المرأة و أن النبطي أرداها فامتنعت و استغاثت قال عوف :(2/48)
فأخذت عصاي فمشيت في أثره فأدركته فضربت رأسه ضربة ذا عجر و رجعت إلى منزلي و فيه : [ فقال للنبطي : اصدقني فأخبره ]
و قال الإمام أحمد أيضا في الجاسوس : إذا كان ذميا قد نقض العهد يقتل و قال في الراهب : لا يقتل و لا يؤذى و لا يسأل عن شيء إلا أن نعلم منه أنه يدل على عوارت المسلمين و يخبر عن أمرهم عدوهم فيستحل حينئذ دمه
و قد نص الإمام أحمد على أنه من نقض العهد بسب الله أو رسوله فإنه يقتل
ثم اختلف أصحابنا بعد ذلك فقال القاضي و أكثر أصحابه مثل أبيه أبي الحسين و الشريف أبي جعفر و أبي المواهب العبكري و ابن عقيل و غيره و طوائف بعدهم : [ إن من نقض العهد بهذه الأشياء و غيرها فحكمه حكم الأسير يخير الإمام فيه كما يخير في الأسير بين القتل و المن و الاسترقاق و الفداء و عليه أن يختار من الأربعة ما هو الأصلح للمسلمين ] قال القاضي في المجرد : [ إذا قلنا قد انتقض عهده فانا نستوفي منه الحقوق و القتل و الحد و التعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه و هذه أحكامنا فإذا استوفينا منه فالإمام مخير فيه بين القتل و الاسترقاق و لا يرد إلى مأمنه لأنه بفعل هذه الأشياء قد نقض العهد و إذا نقض عاد بمعناه الأول فكأنه وجد نصراني بدار الإسلام ]
ثم إن القاضي في الخلاف قال : [ حكم ناقض العهد حكم الأسير الحربي يتخير الإمام فيه بين أربعة أشياء : القتل و الاسترقاق و المن و الفداء لأن الإمام أحمد قد نص في الأسير على الخيار بين أربعة أشياء و حكم الأسير لأنه كافر حصل في أيدينا بغير أمان قال : و يحمل كلام الإمام أحمد إذا رآه الإمام صلاحا و استثنى في الخلاف و هو الذي صنفه آخرا ساب النبي صلى الله عليه و سلم خاصة قال : فإنه لا يقبل توبته و يتحتم قتله و لا يخير الإمام في قتله و تركه لأن قذف النبي صلى الله عليه و سلم حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف الآدمي(2/49)
و قد يستدل لهؤلاء من المذهب بعموم كلام الإمام أحمد و تعليله حيث قال في قوم من أهل العهد نقضوا العهد و خرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال : [ إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجرى على أهل الحرب من الأحكام إذا أسروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى ] و على هذا نقول : فللامام أن يعيدهم إلى الذمة إذا رأى المصلحة في ذلك كما له مثل ذلك في الأسير الحربي الأصلي
و هذا القول في الجملة هو الصحيح من قولي الإمام الشافعي و القول الآخر للشافعي أن من نقض العهد من هؤلاء يرد إلى مأمنه ثم من أصحابه من استثنى سب رسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة فجعله موجبا للقتل حتما دون غيره و منهم من عمم الحكم هذا هو الذي ذكره أصحابه و أما لفظه فإنه قال في الأم : [ إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب و ذكر الشروط إلى أن قال : و على أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه و سلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين و جميع المسلمين و نقض ما أعطي من الأمان و حل لأمير المؤمنين ماله و دمه كما يحل أموال أهل الحرب و دماؤهم و على أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنى أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده و أحل دمه و ماله و إن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم
ثم قال : [ فهذه الشروط اللازمة إن رضيها فإن لم يرضها فلا عقد له و لا جزية ](2/50)
ثم قال : [ و أيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد و إن فعل مما وصفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ] و لكنه قال [ أتوب و أعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول يعاقب عليه و لا يقتل ]
قال : فإن فعل أو قال ما وصفنا و شرط أن يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول [ أسلم أو أعطى جزية قتل و أخذ ماله فيئا ]
و هذا اللفظ يعطي وجوب قتله إذا امتنع من الإسلام و العود إلى الذمة
و سلك أبو الخطاب في : الهداية و الحلواني و كثير من متأخري أصحابنا مسلك المتقدمين في إقرار نصوص الإمام أحمد بحالها و هو الصواب فإن الإمام أحمد قد نص على القتل عينا فيمن زنى بمسلمة حتى بعد الإسلام و جعل هذا أشد من نقض العهد باللحاق و دار الحرب ثم إنه نص هناك على أن الأمر إلى الإمام كالأسير و نص هنا على أن الإمام يخير أن يقتل و لا يخفى لمن تأمل نصوصه أن القول بالتخيير مطلقا مخالف لها
و أما أبو حنيفة فلا تجيء هذه المسألة على أصله لأنه لا ينتقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة و منعة فيمتنعون بذلك على الإمام و لا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم(2/51)
و مذهب مالك لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ممتنعين منا ما نعين للجزية من غير ظلم أو يلحقوا بدار الحرب و لكن مالكا يوجب قتل ساب الرسول صلى الله عليه و سلم عينا و قال : إذا استكره الذمي مسلمة على الزنا قتل إن كانت حرة و إن كانت أمة عوقب العقوبة الشديدة فمذهبه إيجاب القتل عينا لبعض أهل الذمة الذين يفعلون ما فيه ضرر على المسلمين فمن قال [ إنه يرد إلى مأمنه ] قال : لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله حتى يرد إلى مأمنه كما لو دخلها بأمان صبي و هذا ضعيف جدا لأن الله قال في كتابه : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } الآية [ التوبة : 13 ]
فهذه الآية و إن كانت نزلت في أهل الهدنة فعمومها لفظا و معنى يتناول كل ذي عهد على ما لا يخفى و قد أمر سبحانه بالمقاتلة حيث وجدناهم فعم ذلك مأمنهم و غير مأمنهم و لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون فمتى لم يعطوا الجزية أو لم يكونوا صاغرين جاز قتالهم من غير شرط على معنى الآية و لأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من رأوه من رجال يهود صبيحة قتل ابن الأشرف و كانوا معه معاهدين و لم يأمر بردهم إلى مأمنهم
و كذلك لما نقضت بنو قينقاع العهد قاتلهم ولم يردهم إلى مأمنهم و لما نقضت بنو قريظة العهد قالتهم و أسرهم و لم يبلغهم مأمنهم و كذلك كعب بن الأشرف نفسه أمر بقتله غيلة و لم يشعره أنه يريد قتله فضلا عن أن يبلغه مأمنه و كذلك بنو النضير أجلاهم على أن لا ينقلوا إلا ما حملته الإبل إلا الحلقة و ليس هذا بإبلاغ للمأمن لأن من بلغ مأمنه يؤمن على نفسه و أهله و ماله حتى يبلغ مأمنه(2/52)
و كذلك سلام بن أبي الحقيق و غيره من يهود لما نقضوا العهد قتلهم نوبة خبير و لم يبلغهم مأمنهم و لأنه قد ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر و أبا عبيدة و معاذ بن جبل و عوف بن مالك قتلوا النصراني الذي أراد أن يفجر بالمسلمة و صلبوه و لم ينكره منكر فصار إجماعا و لم يردوه إلى مأمنه و لأن في شروط عمر التي شرطها على النصارى [ فإن نحن خالفنا عن شيء شرطناه لكم و ضمناه على أنفسنا فلا لنا و قد حل لكم منا ما حل لأهل المعاندة و الشقاق ] رواه حرب بإسناد صحيح
و قد تقدم عن عمر و غيره من الصحابة مثل أبي بكر و ابن عمر و ابن عباس و خالد بن الوليد و غيرهم رضوان الله تعالى عليهم أنهم قتلوا أو أمروا بقتل ناقض العهد و لم يبلغوه مأمنه و لأن دمه كان مباحا و إنما عصمته الذمة فمتى ارتفعت الذمة بقي على الإباحة و لأن الكافر لو دخل دار الإسلام بغير أمان و حصل في أيدينا جاز قتله في دارنا و أما من دخل بأمان صبي فإنما ذلك لأنه يعتقد أنه مستأمن فصارت له شبهة أمان و ذلك يمنع قتله كمن وطىء فرجا يعتقد أنه حلال لا حد عليه و كذلك ينسب في دخوله دار الإسلام إلى تفريط و أما فإنه ليس له أمان و لا شبهة أمان لأن مجرد حصوله في الدار ليس بشبهة أمان بالاتفاق بل هو مقدم على ما ينقض به العهد مفرط في ذلك عالم أنا لم نصالحه على ذلك فأي عذر له في حقن دمه حتى يلحقه بمأمنه ؟ نعم لو فعل من نواقض العهد مالم يعلم أنه يضرنا ـ مثل أن يذكر الله تعالى أو كتابه أو رسوله بشيء يحسبه جائزا عندنا ـ كان معذورا بذلك فلا ينقض العهد كما تقدم مالم يتقدم إليه كما فعل عمر بقسطنطين النصراني(2/53)
و أما من قال إنه كالأسير الحربي إذا حصل في أيدينا فقال : [ لأنه كافر حلال الدم حصل في أيدينا و كل من كان كذلك فإنه مأسور فلنا أن نقتله كما قتل النبي صلى الله عليه و سلم عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث و لنا أن نمن عليه كما من النبي صلى الله عليه و سلم على ثمامة بن أثال الحنفي و على أبي عزة الجمحي و لنا أن نفادي كما فادى النبي صلى الله عليه و سلم بعقيل و غيره و لنا أن نسترقه كما استرق المسلمون خلقا من الأسرى مثل أبي لؤلؤة قاتل عمر و مماليك العباس و غيرهم
أما قتل الأسير و استرقاقه فما أعلم فيه خلافا لكن قد اختلف العلماء في المن عليه و المفاداة هل هو باق أو منسوخ ؟ على ما هو معروف في مواضعه و هذا لأنه إذا نقض العهد عاد كما كان و الحربي الذي لا عهد له إذا قدر عليه جاز قتله و استرقاقه و لأنه ناقض للعهد فجاز قتله و استرقاقه كاللاحق بدار الحرب و المحارب في طائفة ممتنعة إذا أسر بل هذا أولى لأن نقض العهد بذلك متفق عليه فهذا أغلظ فإذا جاز أن يحكم فيه بحكم الأسير ففي هذا أولى نعم إذا انتقض العهد بفعل له عقوبة تخصه ـ مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق عليه و نحو ذلك ـ أقيمت عليه تلك العقوبة سواء كانت قتلا أو جلدا ثم إن بقي حيا بعد إقامة حد تللك الجريمة عليه صار كالكافر الحربي الذي لاحد عليه
و من فرق بين سب رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين سائر النواقض قال : لأن هذا حق لرسوله الله صلى الله عليه و سلم و لم يعف عنه فلا يجوز إسقاطه بالاسترقاق و لا بالتوبة كسب غير رسول الله عليه الصلاة و السلام و سيأتي إن شاء الله تعالى تحرير مأخذ السب(2/54)
و أما من قال إنه يتعين قتله إذا نقضه بما فيه مضرة على المسلمين دون ما إذا لم يوجد منه إلا مجرد اللحاق بدار الحرب و الامتناع عن المسلمين فلأن الله تعالى قال : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة } إلى قوله : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف قوم مؤمنين } [ التوبة : 12 ـ 14 ]
فأوجب سبحانه قتال الذين نكثوا العهد و طعنوا في الدين و معلوم أن مجرد نكث العهد موجب للقتال الذي كان واجبا قبل العهد و أوكد فلا بد أن يفيد هذا زيادة توكيد و ما ذاك إلا لأن الكافر الذي ليس بمعاهد يجوز الكف عن قتاله إذا اقتضت المصلحة ذلك إلى وقت فيجوز استرقاقه بخلاف هذا الذي نقض و طعن فإنه يجب قتاله من غير استتابة و كل طائفة وجب قتالها من غير استئناف لفعل يبيح دم آحدها فإنه يجب قتل الواحد منهم إذا فعله و هو في أيدينا كالردة و القتل في المحاربة و الزنا و نحو ذلك بخلاف البغي فإنه لا يبيح دم الطائفة إلا إذا كانت ممتنعة و بخلاف الكفر الذي لا عهد معه فإنه يجوز الاستيفاء بقتل أصحابه في الجملة
و قوله سبحانه : { يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم } دليل على أن الله تعالى يريد الانتقام منهم و ذلك لا يحصل من الواحد إلا إذا قتل و لا يحصل إن من عليه أو فودي به أو استرق نعم دلت الآية على أن الطائفة الناقضة الممتنعة يجوز أن يتوب الله على من يشاء منها بعد أن يعذبها و يخزيها بالغلبة لأن ما حاق بهم من العذاب و الخزي يكفي في ردعهم و ردع أمثالهم عما فعلوه من النقض و الطعن أما الواحد فلو لم يقتل بل من عليه لم يكن هناك رادع قوي عن فعله(2/55)
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما سبى بني قريظة قتل المقاتلة و استرق الذرية إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين فقتلها لذلك و حديثها مع عائشة رضي الله عنها معروف ففرق صلى الله عليه و سلم بين من اقتصر على نقض العهد و بين من آذى المسلمين مع ذلك و كان لا يبلغه عن أحد من المعاهدين أنه آذى المسلمين إلا ندب إلى قتله و قد أجلى كثيرا و من على كثير ممن نقض العهد فقط
و أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عاهدوا أهل الشام من الكفار ثم نقضوا العهد فقاتلوهم ثم عاهدوهم مرتين أو ثلاثا و كذلك مع أهل مصر و مع هذا فلم يظفروا بمعاهد آذى المسلمين بطعن في الدين أو زنا بمسلمة و نحو ذلك إلا قتلوه و أمروا بقتل هؤلاء الأجناس عينا من غير تخيير فعلم أنهم فرقوا بين النوعين(2/56)
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل مقيس بن صبابة و عبد الله بن خطل و نحوهما ممن ارتد و جمع إلى ردته قتل مسلم و نحوه من الضرر و مع هذا فقد ارتد في عهد أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير و قتلوه من المسلمين عددا بعد الامتناع مثل ما قتل طليحة الأسدي عكاشة بن محصن و غيره و لم يؤخذ أحد منهم بقصاص بعد ذلك فإذا كان المرتد يؤخذ بما أصابه قبل الامتناع من الجنايات و لا يؤخذ بما فعله بعد الامتناع فكذلك الناقض للعهد لأن كليهما خرج عما به دمه : هذا نقض إيمانه و هذا نقض أمانه و إن كان في هذا خلاف بين الفقهاء في المذهب و غيره فإنما قسنا على أصل ثبت بالسنة و إجماع الصحابة نعم المرتد إذا عاد إلى الإسلام عصم دمه إلا من يقتل بمثله المسلم و المعاهد يقتل على ما فعله من الجنايات المضرة بالمسلمين لأنه يصير مباحا بالنقض و لم يعد إلى شيء يعصم دمه فيصير كحربي يغلظ قتله يبين ذلك أن الحربي على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا آذى المسلمين و ضرهم قتله عقوبة له على ذلك و لم يمن عليه بعد القدرة عليه فهذا الذي نقض عهده بضرر المسلمين أولى بذلك
ألا ترى أنه لما من على أبي عزة الجمحي و عاهده أن لا يعين عليه فغدر به ثم قدر عليه بعد ذلك و طلب أن يمن عليه فقال : [ لا تمسح سبلاتك بمكة و تقول : سخرت بمحمد مرتين ] ثم قال : [ لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ] فلما نقض يمينه منعه ذلك من المن عليه لأنه ضره بعد أن كان عاهده على ترك ضراره فكذلك من عاهد من أهل الذمة أنه لا يؤذي المسلمين ثم آذاهم لو أطلقوه للدغوا من جحر واحد مرتين و لمسح المشرك سبلاته و قال : سخرت بهم مرتين(2/57)
و أيضا فلأنه إذا لحق بدار الحرب و امتنع لم يضر المسلمين و إنما أبطل العقد الذي بينهم و بينه فصار كحربي أصلي أما إذا فعل ما يضر بالمسلمين ـ من مقاتلة أو زنا بمسلمة أو قطع طريق أو حبس أو نحو ذلك ـ فإنه يتعين قتله لأنه لو لم يقتل لخلت هذه المفاسد عن العقوبة عليها و تعطلت حدود هذه الجرائم و مثل هذه الجرائم لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق المسلم فلان لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق الذمي أولى و أحرى و لا يجوز أن يقام عليه حدها منفردا كما يقام على من بقيت ذمته الحد لأن صاحبها حربيا و الحربي لا يقام عليه إلا القتل فتعين قتله و صار هذا كالأسير اقتضت المصلحة قتله لعمنا أنه متى أفلت كانت فيه ضرر على المسلمين أكثر من ضرر قتله لا يجوز المن عليه و لا المفاداة به اتفاقا و لأن الواجب في مثل هذا إما القتل أو المن أو الاسترقاق أو الفداء فأما الاسترقاق فإنه أبقى له على ذمته بنحو مما كان فإنه تحت ذمتنا نأخذ منه الجزية بمنزلة العبد و لهذا قال بعض الصحابة لعمر في مسلم قتل ذميا : [ أتقيد عبدك من أخيك ؟ ] بل ربما كان استعباده أنفع له من جعله ذميا و استعباد مثل هذا لا تؤمن عاقبته و سوء مغبته و أما المن عليه و المفاداة به فأبلغ في المفسدة و إعادته إلى الذمة ترك لعقوبته بالكلية فتعين قتله
يوضح ذلك أنا على هذا التقدير لا نعاقبه إذا عاد إلى الذمة إلا بما يعاقب فيه المسلم أو الباقي على ذمته و هذا في الحقيقة يؤول إلى قول من يقول : [ إن العهد لا ينقض بهذه الأشياء ] فلا معنى لجعل هذه الأشياء ناقضة للعهد و إيجاب إعادة أصحابها إلى العهد و أن لا يعاقبوا إذا عادوا إلا بما يعاقب به المسلم(2/58)
يؤيد ذلك أن هذه الجرائم إذا رفعت العهد و فسخته فلأن يمنع ابتداء بطريق الأولى لأن الدوام أقوى من الابتداء ألا ترى أن العدة و الردة تمنع ابتداء عقد النكاح دون دوامه فأما إن كان وجود هذه المضرات يمنع دوام العقد فمنعه ابتداءه أولى و أحرى و إذا يجز ابتداء عقد الذمة فلأن لا يجوز المن أولى و لأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين إلا أن المشدود و ثاقه من المحاربين جعل لنا أن نعامله بما نرى و الخارج عن العهد ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه كما أن الخارج عن الدين ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه فإن الذي لم يدخل فيه باق على حاله و الذي خرج من الإيمان و الأمان قد أحدث فسادا فلا يلزم من احتمال الفساد الباقي المستصحب احتمال الفساد المحدث المتجدد لأن الدوام أقوى من الابتداء
يبين ذلك أن كل أسير كان يؤذي المسلمين مع كفره فإن النبي صلى الله عليه و سلم قتله مثل : النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط و مثل أبي عزة الجمحي في المرة الثانية
و أيضا فإنه إذا امتنع بطائفة أو بدار الحرب كان ما يتوقى من ضرره متعلقا بعزه و منتعه كالحربي الأصلي فإذا زالت المنعة بأسره لم يبق منه ما يبقى إلا من جهة كونه كافرا فقط فلا فرق بينه بين غيره أما إذا أضر المسلمين و آذاهم بين ظهرانيهم أو تمرد عليهم بالامتناع مما أوجبته الذمة عليه كان ضرره بنفسه من غير طائفه تمنعه و تنصره فيجب إزهاق نفسه التي لا عصمة لها و هي منشأ للضرر و ينبوع لأذى المسلمين ألا ترى أن الممتنع ليس فيما فعله إغراء للآحاد غير ذوي المنعة بخلاف الواحد فإن فيما يفعله فتح باب الشر فإن لم يعاقب فعل ذلك غيره و غيره و لا عقوبة لمن لا عهد له من الكفار إلا السيف(2/59)
و أيضا فإن الممتنع منهم قد أمرنا بقتاله إلى أن يعطي الجزية عن يد و هو صاغر و أمرنا بقتاله حتى إذا أثخناه فشدوا الوثاق فكل آية فيها ذكر القتال دخل فيها فينتظمه حكم غيره من الكفار الممتنعين و يجوز إنشاء عقد ثان لهم و استرقاقهم و نحو ذلك أما من فعل جناية انتقض بها عهده و هو في أيدينا فلم يدخل في هذه العمومات لأنه لا يقاتل و إنما يقتل إذ القتال للممتنع و إذا كان أخذ الجزية و المن و الفداء إنما هو لمن قوتل و هذا لم يقاتل فيبقى داخلا في قوله : { فاقتلوا المشركين } غير داخل في آية الجزية و الفداء
و أيضا فإن الممتنع يصير بمنزلة الحربي و الحربي يندرج جميع شأنه تحت الحراب بحيث لو أسلم لم يؤاخذ بضمان شيء من ذلك بخلاف الذي في أيدينا و ذلك أنه ما دام تحت أيدينا في ذمتنا فإنه لا تأويل له في ضرر المسلمين و إيذائهم و أما اللحاق بدار الحرب فقد يكون له معه شبهة في دينه يرى أنه إذا تمكن من الهرب هرب لا سيما و بعض فقهائنا يبيح له ذلك فإذا فعل ذلك بتأويل كان بمنزلة ما يتلفه أهل البغي و العدل حال القتال لا ضمان فيه و ما أتلفوه في غير حال الحرب ضمنته كل طائفة للأخرى فليس حال من تأول فيما فعله من النقض كحال من لم يتأول
و أيضا فإن ما يفعله بالمسلمين من الضرر الذي ينتفض به عهده لابد له من عقوبة لأنه لا يجوز إخلاء الجرائم التي تدعو إليها الطباع من عقوبة زاجرة و شرع الزواجر شاهد لذلك ثم لا يخلو إما أن تكون عقوبنه من جنس عقوبة من يفعل ذلك من مسلم أو ذمي بامرأة ذمية أو دون ذلك أو فوق ذلك و الأول باطل لأنه يلزم أن يكون عقوبة المعصوم و المباح سواء و لأن الذي نقض العهد يستحق العقوبة على كفره و على ما فعله من الضرر الذي نقض به العهد و إنما أخرت عقوبة الكفر لأجل العهد فإذا ارتفع العهد استحق العقوبة على الأمرين و بهذا يظهر الفرق بينه و بين من فعل ذلك و هو معصوم و بين مباح دمه لم يفعل ذلك(2/60)
لأن هذه المعاصي إذا فعلها المسلم فإنها منجبرة بما يلتزمه من نصر المسلمين و منفعهتهم و موالاتهم فلم يتمحض مضرا للمسلمين لأن فيه منفعة و مضرة و خيرا و شرا بخلاف الذمي فإنه إذا اضر المسلمين تمحض ضررا لزوال العهد الذي هو مظنة منفعته و وجود هذه الأمور المضرة و إذا لم يجز أن يعاقب بمثل ما يعاقب به لمسلم فأن لا يعاقب بما هو دونه أولى و أحرى فوجب أن يعاقب بما هو فوق عقوبة المسلم ثم المسلم يتحتم قتله إذا فعل مثل هذه الأشياء فتحتم عقوبة ناقض العهد أولى لكن يختلفان في جنس العقوبة فهذا عقوبته القتل فيجب أن يتحتم و ذلك عقوبته تارة القتل و تارة القطع و تارة الرجم أو الجلد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 287 ]
إذا تلخصت هذه القاعدة فيمن نقض العهد على العموم فنقول : شاتم رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعين قتله كما قد نص عليه الأئمة
أما على قول من يقول : يتعين قتل كل من نقض العهد وهو في أيدينا أو يتعين قتل كل من نقض العهد بما فيه ضرر على المسلمين وأذى لهم كما قد ذكرناه في مذهب الإمام أحمد و كما قد دل عليه كلام الشافعي الذي نقلناه أو نقول : يتعين قتل من نقض العهد بسب الرسول الله صلى الله عليه و سلم وحده كما قد ذكره القاضي أبو يعلى و غيره من أصحابنا و كما ذكره طائفة من أصحاب الشافعي و كما نص عليه عامة الذين ذكروه في نواقض العهد و ذكروا أن الإمام يتخير فيمن نقض العهد على سبيل الإجمال فإنهم ذكروا في مواضع أخر انه يقتل من غير تخيير فظاهر(2/61)
و أما على قول من يقول : [ إن كل ناقض للعهد فإن الإمام يتخير فيه كالأسير ] فقد ذكرنا أنهم قالوا : إنه يستوفى منه الحقوق كالقتل و الحد و التعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه و هذه أحكامنا ثم إذا استوفينا منه ذلك فالإمام مخير فيه كالأسير و على هذا القول فيمكنهم أن يقولوا : إنه يقتل لأن سب رسول الله صلى الله عليه و سلم موجب للقتل حدا من الحدود كما لو نقض العهد بزنا أو قطع طريق فإنه يقام عليه حد ذلك فيقتل إن أوجب القتل بل قد يقتل الذمي حدا من الحدود و إن لم ينتقض عهده كما لو قتل ذميا آخر أو زنى بذمية فإنه يستوفى منه القود و حد الزنا و عهده باق و مذهب مالك يمكن أن يوجه على هذا المأخذ إن كان فيهم من يقول لم ينتقض عهده
و بالجملة فالقول بأن الإمام يخير في هذا إنما يدل عليه كلام بعض الفقهاء أو إطلاقه و كذلك القول بأنه يلحق بمأمنه و أخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم و ما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبييحة فإن تقرر في هذا خلاف فهو ضعيف نقلا لما قدمناه و توجيها لما سنذكره
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 288 ]
و الدليل على أنه يتعين قتله و لا يجوز استرقاته و لا المن عليه و لا المفادة به من طريقين
أحدهما : ما تقدم من الأدلة على وجوب قتل ناقض العهد إذا نقضه بما فيه ضرر على المسلمين مطلقا
الثاني : ما يخصه و هو من وجوه :
أحدها : من الآيات الدالة على وجوب قتل الطاعن في الدين(2/62)
الثاني : حديث الرجل الذي قتل المرأة اليهودية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمها و قد تقدم من حديث علي و ابن عباس فلو كان سب النبي صلى الله عليه و سلم يرفع العهد فقط و لا يوجب القتل لكانت هذه المرأة بمنزلة كافرة أسيرة و بمنزلة كافرة دخلت إلى دار اإسلام و لا عهد لها و معلوم أنه لا يجوز قتلها و أنها تصير رقيقة للمسلمين بالسبي و هذه المرأة المقتولة كانت رقيقة و المسلم إذا كان له أمة كافرة حربية لم يجز له و لا لغيره قتلها لمجرد كونها حربية بل تكون ملكا لسيدها ترد عليه إذا أخذها المسلمون و لا نعلم بين المسلمين خلافا في أن المرأة لا يجوز قتلها لمجرد الكفر إذا لم يكن معاهدة كما يقتل الرجل لذلك و لا نعلم خلافا في أن المرأة إذا ثبت في حقها حكم نقض العهد فقط مثل أن تكون من أهل الهدنة و قد نقضوا العهد فإنه لا يجوز قتل نسائهم و أولادهم بل يسترق النساء و الأولاد و كذلك الذمي إذا نقض العهد و لحق بدار الحرب فمن ولد له بعد نقض العهد لم يجز قتل النساء منهم و الأطفال بل يكونون رقيقا للمسلمين و كذلك أهل الذمة إذا امتنعوا بدار الحرب و نحوها
فمن الفقهاء من قال : [ العهد باق في ذريتهم و نسائهم ] كما هو المعروف عن الإمام أحمد و قال أكثرهم : [ ينتقض العهد في الذرية و النساء أيضا ] ثم لا يختلفون أن النساء لا يقتلن و أصل ذلك أن الله تبارك تعالى يقول في كتابه : { و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } [ البقرة : 190 ] فأمر بقتال الذين يقاتلون فعلم أن شرط القتال كون المقاتل مقاتلا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 289 ]
و في الصحيحين عن ابن عمر قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء و الصبيان(2/63)
و عن رباح بن ربيع أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة غزاها و على مقدمته خالد بن الوليد فمر رباح و أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها يعني و يتعجبون من قتلها حتى لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم على راحلته فانفرجوا عنها فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ ما كانت هذه لتقاتل ] فقال لأحدهم [ إلحق خالدا فقل له : لا تقتلوا ذرية و لا عسيفا ] رواه الإمام أحمد و أبو داود و ابن ماجة
و عن ابن كعب بن مالك عن عمه أن النبي صلى الله عليه و سلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر [ نهى عن قتل النساء و الصبيان ] رواه الإمام أحمد(2/64)
و في الباب أحاديث مشهورة على أن هذا من العلم العام الذي تناقلته الأمة خلفا عن سلف و ذلك لأن المقصود بالقتال أن تكون كلمة الله هي العليا و أن يكون الدين كله لله و أن لا تكون فتنة أي لا يكون أحد يفتن أحدا عن دين الله فإنما نقاتل من كان ممانعا عن ذلك و هم أهل القتال فأما من لا يقاتل عن ذلك فلا وجه لقتله كالمرأة و الشيخ و الراهب و نحو ذلك و لأن المرأة تصير رقيقة للمسلمين و مالا لهم ففي قتلها تفويت لذلك عليهم من غير حاجة و إضاعة للمال لغير حاجة نعم إذا قاتلت المرأة جاز أن تقتل بالاتفاق لوجود المعنى فيها الذي جعل الله و رسوله عدمه مانعا من قتلها بقوله صلى الله عليه و سلم [ ما كانت هذه لتقاتل ] لكن هل يجوز أن نقصد بالقتل كما يقصد الرجل أو يقصد كفها كما يقصد كف الصائل ؟ ففيه خلاف بين الفقهاء فإذا كان الحكم في المرأة مثل ذلك و قد أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دم امرأة ذمية لأجل سبها مع أن قتلها لو كان حراما لأنكره النبي صلى الله عليه و سلم كما أنكر قتل المرأة التي وجدها مقتولة في بعض مغازيه و إن لم تكن مضمونة بدية و لا كفارة فإنه صلى الله عليه و سلم لا يسكت عن إنكار المنكر بل إقراره دليل على الجواز و الإباحة و قد علم أن السابة ليست بمنزلة الأسيرة الكافرة لأن تلك لا يجوز قتلها و علم أن السب أوجب قتلها بنفسه كما يجب قتلها بالاجماع إذا قطعت الطريق و قتلت فيه و إذا زنت و كما يجب قتلها بالردة عند جماهير العلماء
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 290 ]
فإن قيل : يجوز أن يكون سبها للنبي صلى الله عليه و سلم بمنزلة قتالها و المرأة إذا قاتلت و كانت معاهدة انتقض عهدها كالرجل إذا فعل ذلك و يجوز أن تكون حينئذ بمنزلة المقاتلة إذا أسرت يتخير الإمام فيها بين أربعة أشياء كما يتخير في الرجل المقاتل إذا أسر
قلنا : الجواب من وجوه :(2/65)
أحدها : أن المرأة لم يصدر عنها إلا مجرد شتم النبي صلى الله عليه و سلم بحضرة سيدها المسلم و لم تحض أحدا من المشركين للقتال و لا أشارت على الكافر برأي تعين فيه على قتال المسلمين و معلوم أن من لم يقاتل بيده و لا أعان على القتال بلسانه لم يجز أن ينسب إليه القتال بوجه من الوجوه و نحن لا ننكر أن من لا يجوز قتله كالراهب و الأعمى و الشيخ الفاني و المقعد و نحوهم إذا كان لهم رأي في القتال و كلام يعنون به على قتال المسلمين كانوا بمنزلة المقاتلين لكن مجرد سب المرأة لرسول الله صلى الله عليه و سلم عند قوم مسلمين ليس من هذا القبيل و إنما هو أذى لله و لرسوله أبلغ من القتال من بعض الوجوه فلو لم يكن موجبا للقتل لكانت المرأة الكافرة قد قتلت لأنها مقاتلة و هي لم تقاتل و ذلك غير جائز فعلم أنه موجب للقتل و إن لم يكن قتالا و قد يكون قتالا إذا ذكر في معرض الحض على قتال المسلمين و إغراء الكافر بحربهم فأما في هذه الواقعة فلم يكن من القتال المعروف
الجواب الثاني : أنا مسلم أن سب النبي صلى الله عليه و سلم بمنزلة محاربة المسلمين و مقاتلتهم من بعض الوجوه كما كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ـ يعني سب الأنبياء ـ من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر بل هو من أبلغ أنواع الحرب كما تقدم تقريره لكن الجواب نوعان :
أحدهما : ما ينقطع مفسدته بالقتل تارة و بالاستراق أخرى و بالمن أو الفداء أخرى و هو حراب الكافر بالقتال يدا و لسانا فإن الحربي و الحربية المقاتلة إذا أسرا فاسترقا انقطع عن المسلمين ضررهما كما يزول بالقتل و كذلك لو من عليهما رجاء أن يسلما إذا بدت مخائل الإسلام أو رجاء أن يكفا عن الإسلام شر من خلفهما أو فودي بهما فهنا مفسدة المحاربة قد تزول بهذه الأمور(2/66)
الثاني : ما لا تزول مفسدته إلا بإقامة الحد فيه مثل حراب المسلم أو المعاهد في دار الإسلام بقطع الطريق و نحوه فإن ذلك يتحتم إقامة الحد فيه باتفاق الفقهاء
فهذه الأمة التي كانت تسب النبي صلى الله عليه و سلم قد حاربت في دار الإسلام فإن قيل [ تعاقب بالاستراقاق ] فهي رقيقة لا تغير حالها و إن قيل [ يمن عليها أو يفادى بها ] لم يجز لوجهتين : أحدهما : أنها ملك مسلم و لا يجوز إخراجها عم ملكه مع حياتها
الثاني : أن ذلك إحسان إليها و إزالة للرق عنها فلا يجوز أن يكون جزاء لسبها و حرابها فتعين قتلها
الجواب الثالث : أن مفسدة السلب لا تزول إلا بالقتل لأنها متى استبقيت طمعت هي و غيرها في السب الذي هو من أعظم الفساد في الأرض كقاطع الطريق سواء بخلاف المرأة المقاتلة إذا أسرت فإن مفسدة مقاتلتها قد زالت بأسرها و لا يمكنها مع استرقاتها أن تقاتل و يمكنها أن تظهر السب و الشتم فصار سبها من جنس الجنايات التي توجب العقوبات لا تزول مفسدتها إلا بإقامة الحد فيها و علم أن الذمية التي تسب ليست بمنزلة الحربية التي تقاتل إذا أسرت بل هي بمنزلة الذمية التي الطريق و تزني
الجواب الرابع : أن الحديث فيه حكم و هو القتل و سبب القتل هو السب فيجب إضافة الحكم إلى السبب و الأصل إيجاد الحكم فمن زعم أن السبب حكم آخر احتاج إلى دليل و قياسه على الأسيرة لا يصح لما سيأتي إن شاء الله تعالى
الجواب الخامس : أنها لو كانت بمنزلة الأسيرة لكان النظر فيها للإمام لا يجوز لآحاد الرعية تخير واحدة من الخصال الأربع فيها و من قتلها ضمنها بقيمتها للمسلمين إن كانت فيئا و للغانمين إن كانت مغنما فعلم أن القتل كان واجبا فيها عينا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 292 ]
يبقى أن يقال : الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه و جوابه من و جوه :(2/67)
أحدها : أن السيد له أن يقيم الحد على عبده بدليل قوله صلى الله عليه و سلم : [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] و قوله : [ إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ] و لا أعلم خلافا بين فقهاء الحديث أن له أن يقيم عليه الحد مثل حد الزنا و القذف و الشرب و لا خلاف بين المسلمين أن له أن يعززه و اختلفوا هل له أن يقيم عليه قتلا أو قطعا مثل قتله لردته أو لسبه النبي صلى الله عليه و سلم و قطعه للسرقة ؟ و فيه عن الإمام أحمد روايتان : إحداهما : يجوز و هو المنصوص عن الشافعي و الأخرى : لا يجوز كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي و هو قول مالك و قد صح عن ابن عمر أنه قطع يد عبد له سرق و صح عن حفصة أنها قتلت جارية لها اعترفت بالسحر و كان ذلك برأى ابن عمر فيكون الحديث حجة لمن يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده بعلمه مطلقا و على هذا القول فالسيد له أن يقيم الحد على عبده بعلمه في المنصوص عن الإمام أحمد و هو إحدى الروايتين عن مالك و النبي صلى الله عليه و سلم لم يطلب من سيد الأمة بينة على سبه بل صدقه في قوله [ كانت تسبك و تشتمك ] ففي الحديث حجة لهذا القول أيضا
الوجه الثاني : : أن ذلك أكثر ما فيه أنه افتئات على الإمام و الإمام له أن يعفو عمن أقام حدا واجبا دونه
الوجه الثالث : أن هذا و إن كان حدا فهو قتل حربي أيضا فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله و هذا يجوز قتله لكل أحد و على هذا يحمل قول ابن عمر في الراهب الذي قيل له أنه يسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لو سمعته لقتلته ](2/68)
الوجه الرابع : أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل المنافق الذي قتله عمر بدون إذن النبي صلى الله عليه و سلم لما لم يرض بحكمه فنزل القرآن بإقراره و مثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل حتى سماه النبي صلى الله عليه و سلم ناصرا لله و رسوله و ذلك أن من وجب قتله لمعنى يكيد به الدين و يفسده ليس بمنزلة من قتل لأجل معصيته من زنا و نحوه
الجواب السادس : أن الفقهاء قد اختلفوا في المرأة المقاتلة إذا أسرت هل يجوز قتلها ؟ و مذهب الشافعي أنها لا تقتل فلو كانت هذه إنما قتلت لكونها قد قاتلت لم يجز أن تقتل بعد الأسر عنده فلا يصح أن يورد هذا السؤال على أصله
الدليل الثالث : أن الساب لو صار بمنزلة الحربي فقط لكان دمه معصوما بأمان يعقد له أو ذمة أو هدنة و معلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم و النفر الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى كعب بن الأشرف جاؤا إليه على أن يستلفوا منه و حادثوه و ماشوه و قد آمنهم على دمه و ماله و كان بينه و بينهم قبل ذلك عهد و هو يعتقد بقاءه ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى و هذا كله يثبت الأمان فلو لم يكن في السب إلا مجرد كونه كافرا حربيا لم يجز قتله بعد أمانه إليهم و بعد أن أظهروا له أنهم يؤمنون له و استئذانهم في إمساك يديه فعلم بذلك أن إيذاء الله و رسوله موجب للقتل لا يعصم منه و لا عهد و ذلك لا يكون إلا فيما أوجب القتل عينا من الحدود كحد الزنا وحد قطع الطريق وحد المرتد و نحو ذلك فإن عقد الأمان لهؤلاء لا يصح و لا يصيرون مستأمنين بل يجوز اغتيالهم و الفتك بهم لتعين قتلهم فعلم أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم كذلك(2/69)
يؤيد هذا ما ذكره أهل المغازي من قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إنه لو قر كما قر غيره ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف ] فإن ذلك دليل على أن لا جزاء إلا القتل
الدليل الرابع : قوله صلى الله عليه و سلم إن كان ثابتا [ من سب نبيا قتل و من سب أصحابه جلد ] فأوجب القتل عينا على كل ساب و لم يخير بينه و بين غيره و هذا مما يعتمد في الدلالة إن كان محفوظا
الدليل الخامس : أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا الناس إلى قتل ابن الأشرف لأنه كان يؤذي الله و رسوله و كذلك كان يأمر بقتل من يسبه أو يهجوه إلا من عفا عنه بعد القدرة و أمره صلى الله عليه و سلم للايجاب فعلم وجوب قتل الساب و إن لم يجب قتل غيره من المحاربين و كذلك كانت سيرته لم يعلم أنه ترك قتل أحد من السابين بعد القدرة عليه إلا من تاب أو كان من المنافقين و هذا يصلح أن يكون امتثالا للأمر بالجهاد و إقامة الحدود فيكون على الإيجاب يؤيد أن في ترك قتله تركا لنصر الله و رسوله و ذلك غير جائز(2/70)
الدليل السادس : أقاويل الصحابة فإنها نصوص في تعين قتله مثل قول عمر رضي الله عنه [ من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه ] فأمر بقتله عينا و مثل قول ابن عباس رضي الله عنه [ أيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه ] فأمر بقتل المعاهد إذا سب عينا و مثل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما كتب به إلى المهاجر في المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه و سلم [ لولا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء لا يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد و معاهد فهو محارب غادر ] فبين أن الواجب كان قتلها عينا لولا فوات ذلك و لم يجعل فيه خيرة إلى الأمام و لا سيما و السابة امرأة و ذلك وحده دليل كما تقدم و مثل قول ابن عمر في الراهب الذي بلغه أنه يسب النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو سمعته لقتلته ] و لو كان كالأسير الذي يخير فيه الإمام لم يجز لابن عمر اختيار قتله و هذا الدليل واضح(2/71)
الدليل السابع : أن ناقض العهد بسب النبي صلى الله عليه و سلم و نحوه حاله أغلظ من حال الحربي الأصلي و خروجه عما عاهدنا عليه بالطعن في الدين و أذى الله و رسوله و مثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة تزجر أمثاله عن مثل حاله و الدليل عليه قوله سبحانه و تعالى : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون } [ الأنفال : 57 ] فأمر الله رسوله إذا صادف الناكثين للعهد في الحرب أن يشرد بهم غيرهم من الكفار بأن يفعل بهم ما يتفرق به أولئك و قال تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة } [ التوبة : 13 ] فحض على قتال من نكث اليمين و هم بإخراج الرسول و بدأ بنقض العهد و معلوم أن من سب الرسول صلى الله عليه و سلم فقد فعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول و بدأنا أول مرة ثم قال تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديهم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم } [ التوبة : 15 ] فعلم أن تعذيب هؤلاء و إخزاءهم و نصر المؤمنين عليهم و شفاء صدورهم بالإنتقام منم و ذهاب غيظ قلوبهم مما أذوهم به أمر مقصود للشارع مطلوب في الدين و معلوم أن هذا المقصود لا يحصل ممن سب النبي صلى الله عليه و سلم و آذى الله تعالى و رسوله و عباده المؤمنين إلا بقتله لا يحصل بمجرد استرقاقه و لا بالمن عليه و المفاداة به
و كذلك أيضا تنكيل غيره من الكفار الذين قد يريدون إظهار السب لا يحصل على سبيل التمام إلا بذلك و لا يعارض هذا من نقض العهد في طائفة ممتنعة إذا أسرنا واحدا منهم لأن قتال أولئك و الظهور عليهم يحصل هذا المقصود بخلاف من كان في أيدينا قبل السب و بعده فإن لم يحدث فيه قتلا لم يحصل هذا المقصود(2/72)
و جماع ذلك أن ناقض العهد لا بد له من قتال أو قتل إذ لا يحصل المقصود إلا بذلك و هذا الوجه و إن كان فيه عموم لكل من نقض العهد بالأذى لكن ذكرناه هنا لخصوص الدلالة أيضا فأنها تدل عموما و خصوصا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 297 ]
الدليل الثامن : أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم فقد صدر منه فعل تضمن أمرين أحدهما : انتقاض العهد الذي بيننا و بينه الثاني : جنايته على عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم و انتهاكه حرمته و إيذاء الله و رسوله و المؤمنين و طعنه في الدين و هذا معنى زائد على مجرد كونه كافرا قد نقض العهد
و نظير ذلك أن ينقضه بالزنا بمسلمة أو بقطع الطريق على المسلمين و قتلهم و أخذ أموالهم أو بقتل مسلم فإن فعله ـ مع كونه نقضا للعهد ـ قد تضمن جناية آخرى فإن الزنا و قطع الطريق و القتل من حيث هو هو جناية منفصلة عن نقض العهد له عقوبة تخصه في الدنيا و الآخرة زائدة على مجرد عقوبة التكذيب بنبوية و الدليل عليه قوله سبحانه و تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ] فعلق اللعنة في الدنيا و الآخرة و العذاب المهين بنفس أذى الله و رسوله فعلم أنه موجب ذلك و كذلك قوله تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [ التوبة : 12 ] و قد تقدم تقريره(2/73)
يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لما دخل مكة آمن الناس الذين كانوا يقاتلونه قبل ذلك و الذين نقضوا العهد الذي كان بينه و بينهم و خانوه إلا نفرا منهم القينتان اللتان كانتا تغنيان بهجائه و سارة مولاة بني عبد المطلب التي كانت تؤذيه بمكة فإذا كان قد أمر بقتل التي كانت تهجوه من النساء ـ مع أن قتل المرأة لا يجوز إلا إذا قاتلت و هو صلى الله عليه و سلم قد آمن جميع أهل مكة من كان قد قاتل و نقض العهد من الرجال و النساء ـ علم بذلك أن الهجاء جناية زائدة على مجرد القتال و الحراب لأن التفريق بين المتماثلين لا يقع من النبي صلى الله عليه و سلم كما أنه بقتل ابن خطل لأنه كان قد قتل مسلما و لأنه كان مرتدا و لأنه كان يأمر بهجائه و كل واحد من القتل و الردة و الأمر بهجائه جناية زائدة على مجرد الكفر و الحراب
و مما يبين ذلك أنه قد كان أمر بقتل من كان يؤذيه بعد فتح مكة ـ مثل ابن الزبعرى و كعب بن زهير و الحويرث بن نقيد و ابن خطل و غيرهم ـ مع أمانه لسائر أهل البلد و كذلك أهدر دم أبي سفيان بن الحارث و امتنع من إدخاله عليه و إدخال عبد الله بن أبي أمية لما كانا يقعان في عرضه ـ و قتل ابن أبي معيط و النضر بن الحارث دون غيرهما من الأسرى و سمى من يبذل نفسه في قتله ناصرا لله و رسوله و كان بندب إلى قتل من يؤذيه و يقول : [ من يكفني عدوي ]
و كذلك أصحابه يسارعون إلى قتل من آذاه بلسانه و إن كان أبا أو غيره و يندرون قتل من ظفروا به من هذا الضرب و قد تقدم من بيان ما فيه بلاغ(2/74)
و من المعلوم أن هؤلاء لو كانوا بمنزلة سائر الكفار لا عهد لهم لم يقتلهم و لم يأمر بقتلهم في مثل هذه الأوقات التي آمن فيها الناس و كف عمن هو مثلهم فعلم أن السب جناية زائدة على الكفر و قد تقدم تقرير ذلك في المسألة الأولى على وجه يقطع العاقل أن الرسول صلى الله عليه و سلم جناية لها موقع يزيد على سائر الجنايات بحيث يستحق صاحبها من العقوبة مالا يستحقه غيره و إن كان كافرا حربيا مبالغا في محاربة المسليمين و أن وجوب الانتصار ممن كان هذه حالة كان مؤكدا في الدين و السعي في إهدار دمه من أفضل الأعمال و أوجبها و أحقها بالمسارعة إليه و ابتغاء رضوان الله تعالى فيه و أبلغ الجهاد الذي كتبه الله على عباده و فرضه عليهم و من تأمل الذين أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دماؤهم يوم الفتح و اشتد غضبه عليهم حتى قتل بعضهم في نفس الحرم و أعرض عن بعضهم و انتظر قتل بعضهم وجد لهم جرائم زائدة على الكفر و الحراب من ردة و قتل و نحو ذلك و جرم أكثرهم إنما كان من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أذاه بألسنتهم فأي دليل أوضح من هذا على أن سبه و هجاءه جناية زائدة على الكفر و الحراب لا يدخل في ضمن الكفر كما يدخل سائر المعاصي في ضمن الكفر و على أن المعاهدين إذا نقضوا العهد و فيهم من سب النبي صلى الله عليه و سلم كان للسب عقوبة زائدة على عقوبة مجرد نقض العهد ؟
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 299 ]
و مما يدل على أن السب جناية زائدة على كونه كفرا و حرابا ـ و إن كان متضما لذلك ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه و قد كان له أن يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر و غيره و لو كان السب مجرد ردة لوجب قتله كالمزيد يجب قتله فعلم أنه قد تغلب في السب حق النبي صلى الله عليه و سلم بحيث يجوز له العفو عنه(2/75)
و مما يدل على أن السب جناية مفردة أن الذمي لو سب واحدا من المسليمين أو المعاهدين و نقض العهد لكان سب ذلك الرجل جناية عليه يستحق بها من العقوبة ما لا يستحقه بمجرد نقض العهد فيكون سب رسول الله صلى الله عليه و سلم دون سب واحد من البشر
و مما يدل على ذلك أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم و شاتمه يؤذيه شتمه و هجاؤه كما يؤذيه التعرض لدمه و ماله قال الله تعالى لما ذكر الغيبة : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } [ الحجرات : 12 ] فجعل الغيبة التي هي كلام صحيح بمنزلة أكل لحم المغتاب ميتا فكيف بهتانه ؟ و سب النبي صلى الله عليه و سلم لا يكون إلا بهتانا
و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لعن المؤمن كقتله ] و كما يؤذي ذلك غير من البشر
و أيضا فإن ذلك يؤذي جميع المؤمنين و يؤذي الله سبحانه و تعالى و مجرد الكفر و المحاربة لا يحصل بهما من أذاه بالويعة في العرض مع المحاربة فلو قيل [ إن الواقع في عرضه ممن انتقض عهده بمنزلة غيره ممن انتقض عهده ] لكانت الوقيعة في عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم و أذاه بذلك جرما لا جزاء له من حيث خصوص النبي صلى الله عليه و سلم و خصوص أذاه كما لو قتل رجل نبيا من الأنبياء فإن لقتله من العقوبة ما لا يستحق على مجرد الكفر والمحاربة و هذا كله ظاهر لا خفاء به فإن دماء الأنبياء و أعراضهم أجل من دماء المؤمنين و أعراضهم فإذا كان دماء غيرهم و أعراضهم لا تندرج عقوبتها في عقوبة مجرد نقض العهد فأن لا تندرج عقوبة دمائهم و أعراضهم في عقوبة نقض العهد الأولى
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 300 ](2/76)
و مما يوضح ذلك أن سب النبي صلى الله عليه و سلم تعلق به عدة حقوق : حق الله سبحانه من حيث كفر برسول و عادى أوليائه و بارزه بالمحاربة و من حيث طعن في كتابه و دينه فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة و من حيث طعن في ألوهيته فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل و تكذيبه لله تبارك و تعالى و إنكار لكلامه و أمره و خبره و كثير من صفاته و تعلق حق جميع المؤمنين من هذه الأمة و من غيها من الأمم فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنيانهم و دينهم و آخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا و الآخرة بوساطته و سفارته فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم و آبائهم و أبنائهم و سب جميعهم كما أنه أحب إليهم من أنفسهم و أولادهم و آبائهم و الناس أجمعين و تعلق به حق رسول الله صلى الله عليه و سلم من حيث خصوص نفسه فإن الإنسان تؤذي الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله أكثر مما يؤذيه الضرب بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح و نحوه خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه و علو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا و الآخرة فإن هتك عرضه قد يكون أعظم عنده من قتله لا يقدح عند الناس في نبوته و رسالته و علو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه و سوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم و يوجب لهم خسارة الدنيا و الآخرة فكيف يجوز أن يعتقد عاقل أن هذه الجناية بمنزلة ذمي كان في ديار المسلمين فلحق ببلاد الكفار مستوطنا لها مع أن ذلك اللحاق ليس في خصوصه حق لله و لا رسوله و لا لأحد من المسلمين ؟ أكثر ما فيه أن الرجل كان معتصما بحبلنا فخرق تلك العصمة فإنما أضر بنفسه لا بأحد من المؤمنين
فعلم بذلك أن السب فيه من الأذى لله و لرسوله و لعباده المؤمنين ما ليس في الكفر و المحاربة وهذا ظاهر إن شاء الله(2/77)
إذا ثبت فنقول : هذه الجناية السب موجبها القتل لما تقدم من قوله صلى الله عليه و سلم : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله فعلم أن من آذى الله و رسوله ] كان حقه أن يقتل و لما تقدم من إهدار النبي صلى الله عليه و سلم دم المرأة السابة مع أنها لا تقتل لمجرد نقض العهد و لما تقدم من أمره صلى الله عليه و سلم بقتل من كان يسبه مع إمساكه عمن هو بمنزلته في الدين و ندبه الناس في ذلك و الثناء على من سارع في ذلك و لما تقدم من الحديث المرفوع و من أقوال الصحابة رضي الله عنهم أن من سب نبيا قتل و من سب غير نبي جلد
و الذي يختص بهذا الموضع أن تقول : هذه الجناية إما أن يكون موجبها بخصوصها القتل أو الجلد أو لا عقوبة لها بل تدخل عقوبتها في ضمن عقوبة الكفر و الحراب
و قد أبطلنا القسم الثاني أيضا باطل لوجوه :
أحدها : أنه لو كان الأمر كذلك لكان الذمي إذا نقض العهد بسب النبي صلى الله عليه و سلم أن يجلد لسب النبي صلى الله عليه و سلم لأنه حق آدمي ثم يكون كالكافر الحربي يقتل للكفر و معلوم أن هذا خلاف ما دلت عليه السنة و إجماع الصحابة فإنهم اتفقوا على القتل فقط فعلم أن موجب كلا الجنايتين القتل و القتل لا يمكن تعدده و ذلك كان ينبغي أن يجلد المرتد لحق النبي صلى الله عليه و سلم ثم يقتل لردته كمرتد سب بعض المسليمين فإنه يستوفي منه حق الآدمي ثم يقتل ألا ترى أن السارق يقطع لسرقته التي هي حق الله و يرد المال المسروق إذا كان باقيا بالاتفاق و يغرم إن كان تالفا عند أكثر الفقهاء و لا يدخل حق الآدمي في حق الله مع اتحاد السبب ؟(2/78)
الثاني : أنه لم يكن موجبه القتل و إنما القتل موجب كونه ردة لم يجز للنبي صلى الله عليه و سلم العفو عنه لأن إقامة الحد على المرتد واجبة بالاتفاق لا يجوز العفو عنه فلما عفا عنه النبي صلى الله عليه و سلم في حياته دل على أن السب نفسه يوجب القتل حقا للنبي صلى الله عليه و سلم و يدخل فيه حق الله تعالى و يكون سابه و قاذفه بمنزل الساب غيره و قاذفه قد اجتمع في سبه حقان : حق لله و حق لآدمي فلو أن المسبوب و المقذوف عفا عن حقه لم يعزر القازف و الساب على حق الله بل دخل في العفو كذلك النبي عليه الصلاة و السلام إذا عفا عمن سبه دخل في عفوه عنه حق الله فلم يقتل لكفره كما يعزر ساب غيره لمعصيته مع أن المعصية المجردة عن حق آدمي توجب التعزير
يوضح ذلك أنه قد ثبت أنه كان له أن يقتل من سبه كما في حديث أبي بكر و حديث الذي أمر بقتله لما كذب عليه و حديث الشعبي في قتل الخارجي و كما دلت عليه أحاديث قد تقدم ذكرها و ثبت له أن يعفو عنه كما دل عليه حديث ابن مسعود و أبي سعيد و جابر و عندهم فعلم أن سبه يوجب القتل كما أن سب غيره يوجب الجلد و إن تضمن سبه الكفر بالله كما تضمن سب غيره المعصية لله و يكون الكفر و الحراب نوعين : أحدهما حق لله خالص و الثاني ما فيه حق لله و حق لآدمي كما أن قسمان : أحدهما حق خالص لله و الثاني حق لله و لآدمي فيكون هذا النوع من الكفر و الحراب بمنزلة غيره من الأنواع في استحقاق فاعله القتل و يفارقه في الاستيفاء فإنه إلى الآدمي كما أن المعصية بسب غير النبيين بمنزلة غيرها من المعاصي في استحقاق فاعلها الجلد و يفارق غيرها في أن الاستيفاء فيها إلى الآدمي(2/79)
يوضح هذا أن الحق على الإنسان قد يكون حقا محصنا لله و هو ما إذا كفر أو عصى على وجه لا يؤذي أحدا من الخلق فهذا إذا وجب فيه حد لم يجز العفو عنه بحال و قد يكون حقا محصنا لآدمي بمنزلة الديون التي تجب للانسان على غيره من ثمن مبيع أو بدل قرص و نحو ذلك من الديون التي تثبت بوجه مباح فهذا لا عقوبة فيه بوجه و إنما يعاقب على الدين إذا امتنع من وفائه و الامتناع معصية و قد يكون حقا لله و لآدمي ـ مثل حد القذف و القود و عقوبة السب نحو ذلك ـ فهذه الأمور فيها العقوبة من الحد و التعزير و الاستيفاء فيهما مفوض إلى اختيار الآدمي : إن أحب استوفى القود و حد القذف و إن شاء عفا فسب النبي صلى الله عليه و سلم لو كان من القسم الثاني لم يكن فيه عقوبة بحال فتعين أن يكون من القسم الثالث و ثبت أن عقوبته القتل فعلم أن السب النبي عليه الصلاة و السلام من حيث هو سب له و حق لآدمي عقوبته القتل كما أن سب غيره من حيث هو سب له و حق لآدمي عقوبته الجلد إما حدا أو تعزيزا و هذا معنى صحيح واضح
و سر ذلك أنه إذا اجتمع الحقان فلا بد من عقوبة لأن معصية الله توجب العقوبة إما في الدنيا أو في الآخرة فإذا كان الاستيفاء جعل الله ذلك إلى المستحق من الآدميين لأن الله أغنى الشركاه عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه فهو كله للذي أشرك كذلك من عمل عملا لغيره عقوبة جعل عقوبته كلها الغير و كانت عقوبته على معصية الله تمكين ذلك الإيمان من عقوبته
و تمام هذا المعنى أن يقال : بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم يتعين القتل لأن المستحق لا يمكن منه المطالبة و العفو كما أن من سب أو شتم أحدا من أموات المسليمين عزر على ذلك الفعل لكونه معصية لله و إن كان في حياته لا يؤذي حتى يطلب إذا علم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 304 ](2/80)
الوجه الثالث : أن سب النبي صلى الله عليه و سلم لا يجوز أن يكون ـ من حيث هو سب ـ بمنزلة سب غيره من المؤمنين و لأنه عليه الصلاة و السلام يباين المؤمنين من أمته في عامة الحقوق فرضا و حظرا و غيرهما مثل وجوب طاعته و و جوب محبته و تقديمه المحبة على جميع الناس و وجوب تعزيره و توقيره على وجه لا يساويه فيه أحد و وجوب الصلاة عليه و التسليم إلى غير ذلك من الخصائص التي لا تحصى ن و في سبه إيذاء لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من عباده و أقل ما في ذلك أن سبه كفر و محاربة و سب غيره ذنب و معصية و معلوم أن العقوبات على قدر الجرائم فلو سوي بين سبه و سب غيره لكان تسوية بين السبين المتناينين و ذلك لا يجوز فإذا كان سب غيره مع كونه معصية يوجب الجلد و جب أن يكون سبه مع كونه كفرا يوجب القتل و يصير ذلك نوعا من أنواع الكفر من وجه نوعا من أنواع السب من وجه فمن حيث هو من جنس الكفر أوجب القتل و من حيث هو من جنس كان حقا لآدمي
الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعاقب أحدا منهم إلا بالقتل و لو كان هو بانفراده لا يوجب القتل و إنما يوجب ما دونه و هو صلى الله عليه و سلم قد عفا عن عقوبته فيما دونه و آمن فعل ذلك صاحب ذلك لا ينبغي قتله لأن دينه الذي يختصه لا يقتضي القتل فإن قيل فقتله بمجموع الأمرين
قلنا : و هذا المقصود لأن السب حيث كان فإنه مستلزم لكفر عهد معه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 305 ]
الدليل التاسع : أن سب رسول الله عليه الصلاة و السلام ـ مع كونه من جنس الكفر و الحراب ـ أعظم من مجرد الردة عن الإسلام فإنه من المسلم ردة و زيادة كما تقدم تقريره فإذا كان كفر المرتد قد تغلظ لكونه قد خرج عن الدين بعد أن دخل فيه فأوجب القتل عينا فكفر الساب الذي آذى الله و رسوله و جميع المؤمنين من عباده أولى يتغلظ فيوجب القتل عينا لأن مفسدة السب في أنواع الكفر أعظم من مفسدة مجرد الردة(2/81)
و قد اختلف الناس في قتل المرتدة و إن كان المختار قتلها و نحن قد قدمنا نصوصا عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه في قتل السابة الذمية و غير الذمية و المرتد يستتاب من الردة و رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه قتلوا الساب و لم يستتيبوه فعلم أن كفره أغلظ فيكون تعيين قتله أولى
الدليل العاشر : أن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه و سلم واجب بحسب الإمكان لأنه من تمام ظهور دين الله و علو كلمة الله و كون الدين كله لله فبحيث ما ظهر سبه و لم ينتقم ممن ذلك فعل ذلك الدين ظاهرا و لا كلمة الله عالية و هذا كما يجب تطهيرها من الزناة و السراق و قطاع الطريق بحسب الإمكان بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب و جواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة ملتزمين جريان حكم الله و رسوله عليهم لا ينافي إظهار الدين و علو الكلمة و إنما يجوز مهادنة الكافر و أمانه عند العجز أو المصلحة المرجوة في ذلك و كل جناية وجب تطهير الأرض منها بحسب القدرة بيعين فاعلها العقوبة المحدودة في الشرع إذا لم يكن لها مستحق معين فوجب أن يتعين قتل هذا لأنه ليس لهذه الجناية مستحق معين لأنه تعين بها حق الله و رسوله و جميع المؤمنين و بهذا يظهر الفرق بين الساب و بين الكافر لجواز إقرار ذلك على كفره مستخفيا به ملتزما حكم الله و رسوله بخلاف المظهر للسب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 306 ](2/82)
الدليل الحادي عشر : أن قتل الساب النبي عليه الصلاة و السلام و إن كان قتل كافر فهو حد من الحدود ليس قتلا على مجرد الكفر و الحراب لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه جناية زائدة على مجرد الكفر و المحاربة و من أن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه أمروا فيه بالقتل عينا و ليس هذا موجب الكفر و المحاربة و لما تقدم من قول الصديق رضي الله عنه في التي سبت النبي عليه الصلاة و السلام [ إن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود ] و معلوم أن قتل الأسير الحربي و نحوه من الكفار و المحاربين لا يسمى حدا و لأن ظهور سبه في ديار المسلمين فساد عظيم أعظم من جرائم كثيرة فلا بد أن يشرع له حد يزجر عنه من يتعاطاه فإن الشارع لا يهمل مثل هذه المفاسدة و لا يخليها من الزواجر و قد ثبت أن حده القتل بالسنة و الإجماع و هو حد لغير معين حي لأن الحق فيه لله و لرسوله و هو ميت و لكل مؤن و كل حد يكون بهذه المثابة فإنه يتعين إقامته بالاتفاق
الدليل الثاني عشر : أن نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم و تعزيره و توقيره واجب و قتل سابه مشروع كما تقدم فلو جاز ترك قتله لم يكن نصرا و لا تعزيرا و لا توقيرا بل ذلك أقل نصره لأن الساب في أيدينا و نحن متمكنون منه فإن لم نقتله مع أن قتله جائز لكان غاية في الخذلان و ترك التعزير له و التوقير و هذا ظاهر(2/83)
و اعلم أن تقرير هذه المسألة له طرق متعددة غير ما ذكرناه و لم نطل الكلام هنا لأن عامة الدلائل المذكورة في المسألة الأولى تدل على وجوب قتله لمن تأملها فاكتفينا بما ذكرناه هناك و إن كان القصد في المسألة الأولى بيان جواز قتله مطلقا و هنا بيان وجوب قتله مطلقا و قد أجبنا هناك عمن ترك النبي صلى الله عليه و سلم قتله من أهل الكتاب و المشركين السابين و بينا أن ذلك إنما كان في أول الأمر حين كان مأمورا بالعفو و الصفح قبل أن يؤمر بقتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية و يجاهد الكافر و المنافقين و أنه كان له أن يعفو عمن سبه لأن هذه الجريمة غلب فيها حقه و بعد موته لا عافي عنها و الله أعلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 308 ]
قال الإمام أحمد في رواية حنبل : [ كل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم و تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل و أرى أن يقتل و لا يستتاب ]
و قال : [ كل من نقض العهد و أحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد و الذمة ]
و قال عبد الله : [ سألت أبي عمن شتم النبي عليه الصلاة و السلام يستتاب ؟
قال : قد وجب عليه القتل و لا يستتاب خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يستتبه ](2/84)
هذا مع نصه أنه مرتد إن كان مسلما و أنه قد نقض العهد إن كان ذميا و أطلق في سائر أجوبته أنه يقتل و لم يأمر فيه باستتابة هذا مع أنه لا يختلف نصه و مذهبه أن المرتد المجرد يستتاب ثلاثا إلا أن يكون ممن ولد على الفطرة فقد روى عنه استتابة جميع المرتدين و اتبع في استتابتة ما صح في ذلك عن عمر و عثمان و علي و ابن مسعود و أبي موسى و غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أمروا باستتابة المرتد في قضايا متفرقة و قدرها عمر رضي الله عنه ثلاثا و فسر الإمام أحمد قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من بدل دينه فاقتلوه ] بأنه المقيم على التبديل الثابت عليه فإذا تاب لم يكن مبدلا و هو راجع يقول : قد أسلمت
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 309 ]
و هل استتابة المرتد واجبة أو مستحبة ؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان و كذلك الخرقي أطلق القول بأن من قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم قتل مسلما كان أو كافرا و أطلق أبو بكر أنه يقتل من سب النبي صلى الله عليه و سلم و كذلك غيرهما مع أنهم في المرتد يذكرون أنه لا يقتل حتى يستتاب فإن تاب من السب بأن يسلم أو يعود إلى الذمة إن كان كافرا أو يعود إلى الإسلام إن كان مسلما و يقلع عن السب فقال القاضي في المجرد و غيره من أصحابنا : [ و الردة تحصل بجحد الشهادتين و بالتعريض بسب الله تبارك و تعالى و بسب النبي صلى الله عليه و سلم إلا أن الإمام أحمد قال : [ لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه و سلم أن المعرة تلحق النبي عليه الصلاة و السلام بذلك ] و كذلك قال ابن عقيل : [ قال أصحابنا في سب النبي عليه الصلاة و السلام : إنه لا تقبل توبته من ذلك لما تدخل من المعرة من السب على النبي عليه الصلاة و السلام و هو حق آدمي لم يعلم إسقاطه ]
و قال القاضي في خلافه و ابنه أبو الحسين : [ إذا سب النبي عليه الصلاة و السلام قتل و لم تقبل توبته مسلما كان أو كافرا و يجعله ناقضا للعهد نص عليه أحمد(2/85)
و ذكر القاضي النصوص التي قدمناها عن الإمام أحمد في أنه يقتل و لا يستتاب و قد وجب عليه القتل قال القاضي : [ لأن حق النبي صلى الله عليه و سلم يتعلق به حقان : حق لله و حق لآدمي و العقوبة إذا تعلق بها حق لله و حق لآدمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فإنه لو تاب قبل القدرة لم يسقط حق الآدمي من القصاص و سقط حق الله ]
و قال أبو المواهب العكبري : [ يجب لقذف النبي عليه الصلاة و السلام الحد المغلظ و هو القتل تاب أو لم يتب ذميا كان أو مسلما ]
و كذلك ذكر جماعات آخرون من أصحابنا أنه يقتل ساب النبي صلى الله عليه و سلم و لا تقبل توبته سواء كان مسلما أو كافرا و مرادهم بأنه لا تقبل توبته أن القتل لا يسقط عنه بالتوبة و التوبة اسم جامع للرجوع عن السب بالإسلام و بغيره فلذلك أتوا بها و أرادوا أنه لو رجع عن السب بالإسلام أو بالإقلاع عن السب و العود إلى الذمة إن كان ذميا لم يسقط عنه القتل لأن عامة هؤلاء لما ذكروا هذه المسألة قالوا : خلافا لأبي حنيفة و الشافعي في قولهما : إن كان مسلما يستتاب فإن تاب و إلا قتل كالمرتد و إن كان ذميا فقال أبو حنيفة : [ لا ينتقض عهده ] و اختلف أصحاب الشافعي فيه فعلم أنهم أرادوا بالتوبة توبة المرتد و هي الإسلام و لأنهم قد حكموا بأنه مرتد و قد صرحوا بأن توبة المرتد أن يرجع إلى الإسلام و هذا ظاهر فيه فإن كل من ارتد بقول فتوبته أن يرجع إلى الإسلام و يتوب من ذلك القول و أما الذمي فإن توبته لها صورتان :
إحداهما : أن يقلع عن السب و يقول : لا أعود إليه و أنا أعود إليه و أنا أعود إلى الذمة و ألتزم موجب العهد
و الثانية : أن يسلم فإن إسلامه توبة من السب(2/86)
و كلا الصورتين تدخل في كلام هؤلاء الذين قالوا : لا تقبل توبته مسلما كان أو كافرا و إن كانت الصورة الثانية أدخل في كلامهم من الأولى لكن إذا لم يسقط بتوبة هي العود إلى الذمة أولى و إنما كانت أدخل لأنه قد علم أن التوبة من المسلم إنما هي الإسلام فكذلك من الكافر لذكرهم توبة الاثنين بلفظ واحد و لأن تعليلهم بكونه حق آدمي و قياسه على المحارب دليل على أنه لا يسقط بالإسلام و لأنهم صرحوا في مواضع يأتي بعضها أن التوبة من الكافر هنا إسلامه
و قد صرح بذلك جماعة غيرهم فقال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في الإرشاد و هو ممن يعتمد نقله : [ و من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم النبي صلى الله عليه و سلم قتل و لم يستتب و من سبه صلى الله عليه و سلم من أهل الذمة قتل و إن أسلم ]
و قال أبو علي ابن البناء في الخصال و الأقسام له : [ و من سب النبي عليه الصلاة و السلام وجب قتله و لا تقبل توبته و إن كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب أنه يقتل أيضا و لا يستتاب ] قال : [ و مذهب مالك كمذهبنا ](2/87)
و عامة هؤلاء لم يذكروا خلافا في وجوب قتل المسلم و الكافر و أنه لا يسقط بالتوبة من الإسلام و غيره و هذه طريقة القاضي في كتبه المتأخرة من التعليق الجديد و طريقة من وافقه و كان القاضي في التعليق القديم و في الجامع الصغير يقول : [ إن المسلم يقتل و لا تقبل توبته و في الكافر إذا أسلم روايتان قال القاضي في الجامع الصغير الذي ضمنه مسائل التعليق القديم : [ و من سب أم النبي عليه الصلاة و السلام قتل و لم تقبل توبته فإن كان كافرا فأسلم ففيه روايتان إحداهما : يقتل أيضا و الثانية : لا يقتل و يستتاب قياسا على قوله في الساحر : إذا كان كافرا لم يقتل و إن كان مسلما قتل ] و كذلك ذكر من نقل من التعليق القديم مثل الشريف أبي جعفر قال : [ إذا سب أم النبي عليه الصلاة و السلام قتل و لم تقبل توبته و في الذمي إذا سب أم النبي عليه الصلاة و السلام قتل و لم تقبل توبته و في الذمي إذا سب أم النبي عليه الصلاة و السلام روايتان إحداهما : يقتل و الأخرى : لا يقتل ]
قال : [ و بهذا التفصيل قال : مالك و قال أكثرهم : تقبل توبته في الحالين ] و لنا أنه حد وجب كقذف أدمي فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي عليه الصلاة و السلام
و كذلك قال أبو الخطاب في رؤوس المسائل : [ إذا قذف أم النبي عليه الصلاة و السلام لا تقبل التوبة منه و في الكافر إذا سبها ثم أسلم روايتان و قال أبو حنيفة و الشافعي : تقبل توبته في الحالتين ]
و لنا أنه حد وجب كقذف آدمي فلا يسقط بالتوبة دليله قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم
و غنما ذكرت عبارة هؤلاء ليتبين أن مرادهم بالتوبة هنا من الكافر الإسلام و يظهر أن طريقتهم بعينها هي طريقة ابن البناء في أن المسلم إذا سب لم تقبل توبته و أن الذمي إذا سب ثم أسلم قتل أيضا في الصحيح من المذهب(2/88)
فإن قيل : فقد قال القاضي في [ خلافه ] [ فإن قيل : أليس قد قلتم لو نقض العهد بغير سب النبي صلى الله عليه و سلم ـ مثل أن نقضه بمنع الجزية أو قتال المسلمين أو أذيتهم ـ ثم تاب قبلتم توبته و كان الإمام فيه بالخيار بين أربعة أشياء كالحربي إذا حصل أسيرا في أيدينا هلا قلتم في سب النبي صلى الله عليه و سلم إذا تاب منه كذلك قيل : لأن سب النبي صلى الله عليه و سلم قذف لميت فلا يسقط بالتوبة كما لو قذف ميتا ] و هذا من كلامه يدل على أن التوبة غير الإسلام لأنه لو نقض العهد بغير السب ثم أسلم يتخير الإمام فيه
قلنا : لا فرق في التخيير بين الأربعة قبل التوبة التي هي الإقلاع و بعده عند من يقول به إنما أراد المخالف أن يقيس على صورة تشبه صور النزاع و هي الحكم فيه بعد التوبة إذا كان قبل التوبة قد ثبت جواز قتله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 312 ]
على أن توبة الذمي الناقض للعهد لها صورتان :
إحداهما : أن يسلم فإن إسلامه توبة من الكفر وتوابعه
والثانية : أن يرجع إلى الذمة تائبا من الذنب الذي أحدثه حتى انتقض عهده فهذه توبة من نقض العهد فإذا تاب هذه التوبة وهو مقدور عليه جاز للإمام أن يقبل توبته حيث يكون حكمه حكم الأسير كما أن الأسير إذا طلب أن تعقد له الذمة جاز أن يجاب إلى ذلك
فألزم المخالف [ القاضي ] على طريقته أن الناقض التائب من النقض يخير الإمام فيه فهلا خيرتموه في الساب إذا تاب توبة يمكن التخير بعدها بأن يقلع عن السب و يطلب عقد الذمة له ثانيا فلذلك قيل في هذه الصورة : هلا خير الإمام فيه بعد التوبة و إن كان في صورة أخرى لا يمكن التخيير بعد توبة هي الإسلام(2/89)
و قد تقدم ذكر ذلك و قد قدمنا أيضا أن الصحيح أنه لا يخير فيمن نقض العهد بما يضر المسلمين بحال و قد ظهر أن الرواية الأخرى التي حكموها في الفرق بين المسلم و الكافر مخرجة من نصه على الفرق بين الساحر و الكافر و الساحر المسلم و ذلك أنه قد قال في الساحر الذمي : لا يقتل ما هو عليه من الكفر أعظم و استدل بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتل لبيد بن أعصم لما سحره و الساحر المسلم يقتل عنده لما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم و عمر و عثمان و ابن عمر و حفصة رضي الله عنهم من الأحاديث و وجه الترجيح أن ما الكافر عليه من الشرك أعظم مما هو عليه من السب و السحر فنسبة السب و السحر إليه واحدة بخلاف المسلم فإذا قتل الساحر المسلم دون الذمي فكذلك الساب الذمي دون المسلم لكن السب ينقض العهد فيجوز قتله لأجل نقض العهد فإذا أسلم امتنع قتله لنقض العهد و هو لا يقتل لخصوص السب كما لا يقتل لخصوص السحر فيبقى دمه معصوما
و قد حكى هذه الرواية الخطابي عن الإمام أحمد نفسه فقال : قال مالك ابن أنس [ من شتم رسول الله صلى الله عليه و سلم من اليهود و النصارى قتل إلا أن يسلم ] و كذلك قال أحمد بن حنبل و حكى آخرون من أصحابنا رواية عن الإمام أحمد أن المسلم تقبل توبته من السب بأن يسلم و يرجع عن السب كذلك ذكر أبو الخطاب في الهداية و من احتذى حذوه من متأخرى أصحابنا في ساب الله و رسوله من المسلمين : هل تقبل توبته أم يقتل بكل حال ؟ روايتان
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 313 ]
فقد تلخص أن أصحابنا حكموا في الساب إذا تاب ثلاث روايات
إحداهن : يقتل بكل حال و هي التي نصروها كلهم و دل عليها كلام الإمام أحمد في نفس هذه المسألة و أكثر محققيهم لم يذكروا سواها
و الثانية : تقبل توبته مطلقا(2/90)
و الثالثة : تقبل توبة الكافر و لا تقبل توبة المسلم و توبة الذمي التي تقبل إذا قلنا أن يسلم فأما إذا أقلع و طلب عقد الذمة له ثانيا لم يعصم ذلك دمه رواية واحدة كما تقدم
و ذكر أبو عبد الله السامري أن من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المسلمين فهل تقبل توبته ؟ على روايتين قال : و من سبه من أهل الذمة قتل و إن أسلم ذكره ابن أبي موسى فعلى ظاهر كلامه يكون الخلاف في المسلم دون الذمي عكس الرواية التي حكاها جماعة من الأصحاب و ليس الأمر كذلك فإن ابن أبي موسى قال : [ و من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل و لم يستتب و من سبه من أهل الذمة قتل و إن أسلم فلم يذكر خلافا في شيء من ذلك كما دل عليه المأثور عن الإمام أحمد و كتاب أبي عبد الله السامري تضمن نقل أبي الخطاب و نقل ابن أبي موسى كما اقتضى شرطه ان يضمنه عدة كتب صغار فلما ذكر ما حكاه أبو الخطاب من الروايتين في المسلم و ما ذكره ابن أبي موسى في الذمي إذا أسلم ظهر نوع خلل و إلا فلا ريب أنا قبلنا توبة المسلم بإسلامه فتوبة الذمي بإسلامه أولى فإن كل ما يفرض في الكافر من غلظ السب فهو في المسلم و زيادة فإنهما يشتركان في أذى رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينفرد سب المسلم بأنه يدل على زندقته و أن سابه منافق ظهر نفاقه بخلاف الذمي فإنه سب مستندا إلى اعتقاد و ذلك الاعتقاد زال بلإسلام
نعم قد يوجه ما ذكره السامري بأن يقال : [ السب قد يكون غلطا من المسلم لا اعتقادا ] فإذا تاب منه قبلت توبته إذ هو عثرة لسان و سوء أدب أو قلة علم و الذمي سبه أذى محض لا ريب فيه فإذا وجب الحد عليه لم يسقط بإسلامه كسائر الحدود و قد ينزع هذا إلى قول من يقول : إن السب لا يكون كفرا في الباطن إلا أن يكون استحلالا و هو قول مرغوب عنه كما سيأتي إن شاء الله(2/91)
و اعلم أن أصحابنا ذكروا أنه لا تقبل توبته لأن الإمام أحمد قال : لا يستتاب و من أصله أن كل من قبلت توبته فإنه يستتاب كالمرتد و لهذا لما اختلفت الرواية عنه في الزنديق و الساحر و الكاهن و العراف و من ارتد و كان مسلم الأصل هل يستتابون أم لا ؟ على روايتين فإن قلنا : [ لا يستتابون ] قتلوا بكل حال و إن تابوا
و قد صرح في رواية عبد الله بأن من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد وجب عليه القتل و لا يستتاب فتبين أن القتل قد وجب و ما وجب من القتل لم يسقط بحال
يؤيد هذا أنه قد قال في ذمي فجر بمسلمة : يقتل قيل له : فإن أسلم ؟ قال : [ يقتل ] هذا قد وجب عليه فتبين أن الإسلام لا يسقط القتل الواجب و قد ذكر في الساب أنه قد وجب عليه القتل
و أيضا فإنه أوجب على الزاني بمسلمة بعد الإسلام القتل الذي وجب عقوبة على الزنا بمسلمة حتى إنه يقتله سواء كان حرا أو عبدا أو محصنا أو غير محصن كما قد نص عليه في مواضع و لم يسقط ذلك القتل بالإسلام و يوجب عليه مجرد حد الزنا لأنه أدخل على المسلمين من الضرر و المعرة ما أوجب قتله و نقض عهده فإذا أسلم لم تزل عقوبة ذلك الإضرار عنه كما لا تزول عنه عقوبة قطعة للطريق لو أسلم و لم يجز أن يقال : هو بعد الإسلام كمسلم فعل ذلك يفعل به ما يفعل بالمسلم لأن الإسلام يمنع ابتداء العقوبة و لا يمنع دوامها لأن الدوام أقوى كما لو قتل ذمي ذميا ثم أسلم قتل و لو قتله و هو مسلم لم يقتل
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 315 ](2/92)
و لهذا ينتقض عهد الذمي بأشياء : مثل الزنا بالمسلمة و إن لم يكن محصنا و قتل أي مسلم كان و التجسس للكفار و قتال المسلمين و اللحاق بدار الحرب و إن كان المسلم لا يقتل بهذه الأشياء على الإطلاق فإذا و جب قتل الذمي بها عينا ثم أسلم كان كما لو وجب قتله بذمي ثم أسلم إذ لا فرق بين أن يجب عليه حد لا يجب على المسلم فيسلم أو يجب عليه قصاص لا يجب على المسلم فيسلم فإن القصاص في اندرائه بالإسلام كالحدود و هو يسقط بالشبهة فكما يمنع الإسلام ابتداءه دون دوامه فكذلك العقوبات الواجبة على المعاهد و هذا ينبني على قولنا : يتعين قتل الذمي إذا فعل هذه الأشياء و أن لخصوص هذه الجنايات أثرا في قتله وراء كونه كافرا غير ذي عهد و يقتضي أن قتله حد من الحدود التي تجب على أهل دار الإسلام من مسلم و معاهد ليس بمنزلة رجل من أهل دار الحرب أخذ أسيرا إذ ذاك المقصود بقتله تطهير دار الإسلام من فساد هذه الجنايات و حسم مادة جناية المعاهدين و إذا كان قد نص على أن لا تزول عنه عقوبة ما أدخله على المسلمين من الضرر في زناه بالمسلمة فأن لا تزول عنه عقوبة إضراره بسب رسول الله عليه الصلاة و السلام أولى لأن ما يلحق المسلمين من المضرة في دينهم بسب رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر مما يلحق بالزنا بمسلمة إذا أقيم على الزاني الحد
و نصه هذا يدل على أن الذمي إذا قذف رسول الله صلى الله عليه و سلم أو سبه ثم أسلم قتل بذلك و لم يقم عليه مجرد حد قذف واحد من الناس و هو ثمانون أو سب واحد من الناس و هو تعزيز كما أنه لم يوجب على من زنى بمسلمة إذا أسلم حد الزنا و إنما أوجب القتل الذي كان واجبا و على الرواية الأخرى التي خرجها القاضي في كتبه القديمة و من اتبعه فإن الذمي يستتاب من السب فإن تاب و إلا قتل(2/93)
و كذلك يستتاب المسلم على الرواية التي ذكر أبو الخطاب و غيره كما يستتاب الزنديق و الساحر و لم أجد للاستتابة في كلام الإمام أحمد أصلا فأما استتابة المسلم فظاهرة كاستتابة من ارتد بكلام تكلم به و أما استتابة الذمي فأن يدعى إلى الإسلام فأما استتابته بالعود إلى الذمة فلا يكفي على المذهب لأن قتله متعين
فوما على الوجه المضطرب الذي يقال فيه [ إن الإمام يخير فيه ] فيشرع استتابته بالعود إلى الذمة لأن إقراره بها جائز بعد هذا لكن لا تجب هذه الاستتابة رواية واحدة و إن أوجبنا الاستتابة بالإسلام على إحدى الروايتين و أما على الرواية التي ذكرها الخطابي فإنه إذا أسلم الذمي سقط عنه القتل مع أنه لا يستتاب كالأسير الحربي و غيره من الكفار يقتلون قبل الاستتابة و لو أسلموا سقط عنهم القتل و هذا أوجه من قول من يقول بالاستتابة فإن الذمي إذا نقض العهد جاز قتله لكونه كافرا محاربا و هذا لا يجب استتابته بالاتفاق اللهم إلا أن يكون على قول من يوجب دعوة كل كافر قبل قتاله فإذا أسلم جاز أن يقال : عصم دمه كالحربي الأصلي بخلاف المسلم فإنه إذا قبلت توبته فإنه يستتاب و مع هذا فمن تقبل توبته فقد يجوز استتابته كما يجوز استتابة الأسير لأنه من جنس دعاء الكافر إلى الإسلام قبل قتله لكن لا يجب لكن المنصوص عن أصحاب هذا القول أنه لا يقال له : أسلم و لا لا تسلم لكن إذا أسلم سقط عنه القتل فتلخص من ذلك أنهما لا يستتابان في المنصوص المشهور فإن تابا لم تقبل توبتهما في المشهور أيضا
و حكى عنه في الذمي أنه إذا أسلم سقط عنه القتل و إن لم يستتب
و حكى عنه أن المسلم يستتاب و تقبل توبته و خرج عنه في الذمي أنه يستتاب وهو بعيد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 317 ]
واعلم أنه لا فرق بين سبه بالقذف و غيره كما نص عليه الإمام أحمد و عامة أصحابه و عامة العلماء(2/94)
و فرق الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله بين القذف و السب فذكر الروايتين في المسلم و في الكافر في القذف ثم قال : و كذلك سبه بغير القذف إلا أن سبه بغير القذف يسقط بالإسلام لأن سب الله تعالى يسقط بالإسلام فسب النبي صلى الله عليه و سلم أولى و سيأتي إن شاء الله تعالى تحرير ذلك إذا ذكر بأنواع السب فهذا مذهب الإمام أحمد
و أما مذهب مالك رضي الله عنه فقال مالك في رواية ابن القاسم و مطرف : [ من سب النبي صلى الله عليه و سلم قتل و لم يستتب ] قال ابن القاسم : [ من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق ] وقال أبو مصعب وابن أبي أويس : [ سمعنا مالكا يقول : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب ] وكذلك قال محمد ابن عبد الحكم : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره من النبيين مسلما كان أو كافرا قتل و لم يستتب قال : و روى لنا مالك إلا أن يسلم الكافر قال أشهب عنه : من سب النبي صلى الله عليه و سلم من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب فهذه نصوصه نحو من نصوص الإمام أحمد و المشهور من مذهبه أنه لا تقبل توبة المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و حكمه حكم الزنديق عندهم و يقتل عندهم حدا لا كفرا إذا أظهر التوبة من السب
و روى الولبيد بن مسلم عن مالك أنه جعل سب النبي صلى الله عليه و سلم ردة قال أصحابه : فعلى هذا يستتاب فإن تاب نكل و إن أبى قتل و يحكم له بحكم المرتد
و أما الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم ثم أسلم فهل يدرأ عنه الإسلام القتل ؟ على روايتين ذكرهما القاضي عبد الوهاب و غيره(2/95)
إحداهما : يسقط عنه قال مالك في رواية جماعة منهم ابن القاسم : [ من شتم نبينا من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء قتل إلا أن يسلم ] و في رواية : لا يقال له أسلم و لا لا تسلم و لكن إن أسلم فذلك له توبة و في رواية مطرف عنه : [ من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين أو أحدا من الأنبياء أو انتقصه قتل و كذلك من فعل ذلك من اليهود و النصارى قتل و لا يستتاب إلا أن يسلم قبل القتل ] قال ابن حبيب : و سمعت ابن الماجشون يقوله و قال لي ابن عبد الحكم : و قال لي أصبغ عن ابن القاسم فعلى هذه الرواية قال ابن القاسم : قال مالك : إن شتم النصراني النبي صلى الله عليه و سلم شتما يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم قاله مالك غير مرة و لم يقل : يستتاب قال ابن القاسم و محمد : قوله عندي إن أسلم طائعا و على هذا فإذا أسلم بعد أن يؤخذ و ثبت عليه السب و يعلم أنهم يريدون قتله إن لم يسقط عنه القتل لأنه مكره في هذه الحال
و الرواية الثانية : لا يدرأ عنه إسلامه القتل قال محمد بن سحنون : [ وحد القذف و شبهه من حقوق العباد لا يسقط عن الذمي بإسلامه و إنما تسقط عنه بإسلامه حدود الله فأما حد القذف فحد للعباد كان ذلك من نبي أو غيره
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 319 ]
و أما مذهب الشافعي رضي الله عنه فلهم في ساب النبي صلى الله عليه و سلم و جهان :
أحدهما : هو كالمرتد إذا تاب سقط عنه القتل و هذا قول جماعة منهم و هو الذي يحكيه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي(2/96)
و الثاني : أن حد من سبه القتل فكما لا يسقط حد القذف بالتوبة لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله عليه و سلم بالتوبة قالوا : ذكر ذلك أبو بكر الفارسي و ادعى فيه الإجماع و وافقه الشيخ أبو بكر القفال و قال الصيدلاني قولا ثالثا و هو أن الساب بالقذف مثلا يستوجب القتل للردة لا للسب فإن تاب زال القتل الذي هو موجب الردة و جلد ثمانين للقذف و على هذا الوجه لو كان السب غير قذب عزر بحسبه ثم منهم من ذكر هذا الخلاف في المسلم إذا سب ثم أسلم و لم يتعرض للكلام في الذمي إذا سب ثم أسلم و منهم من ذكر الخلاف في الذمي كالخلاف في المسلم إذا جدد اإسلام بعد السب و منهم من ذكر في الذمي إذا سب ثم أسلم أنه يسقط عنه القتل و هو الذي حكاه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي و عليه يدل عموم كلام الشافعي في موضع من الأم فإنه قال بعد أن ذكر نواقض العهد و ذكر فيها سب النبي صلى الله عليه و سلم : [ و أيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلم أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد و إن فعل مما وصفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ] و لكنه قال [ أتوب و أعطى الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو القود فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه و لا يقتل قال : [ فإن فعل أو قال مما وصفنا و شرط أنه يحلل دمه فظفرنا عليه فامتنع من أن يقول [ أسلم أو أعطى الجزية قتل و أخذ ماله فيئا ] فقد ذكر أن من نقض العهد فإنه تقبل توبته إما بأن يسلم أو بأن يعود إلى الذمة(2/97)
و ذكر الخطابي قال : [ قال مالك بن أنس : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من اليهود و النصارى قتل إلا أن يسلم ] و كذلك قال أحمد بن حنبل و قال الشافعي : [ يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و تبرأ منه الذمة ] و احتج في ذلك بخبر كعب ابن الأشرف و ظاهر هذا القتل و الاستدلال يقتضي أن لا يكف عنه إذا أظهر التوبة لأنه لم يحك عنه شيئا و لأن ابن الأشرف كان مظهرا للذمة مجيبا إلى إظهار التوبة لو قبلت منه
و الكلام في فصلين :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 320 ]
أحدهما : في استتابة المسلم و قبول توبة من سب النبي صلى الله عليه و سلم و قد ذكرنا أن المشهور عن مالك و أحمد أنه لا يستتاب و لا تسقط القتل عنه توبته و هو قول الليث بن سعد و ذكر القاضي عياض أنه المشهور من قول السلف و جمهور العلماء و هو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي و حكى مالك و أحمد أنه تقبل توبته و هو قول الإمام أبي حنيفة و أصحابه و هو المشهور من مذهب الإمام الشافعي بناء على قبول توبة المرتد فنتكلم أولا في قبول توبته و الذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة و التابعين أنه تقبل توبة المرتد في الجملة و روى عن الحسن البصري : أنه يقتل و إن أسلم جعله كالزاني و السارق و ذكر عن أهل الظاهر نحو ذلك أن توبته تنفعه عند الله و لكن لا يدرأ القتل عنه و روي عن أحمد أن من ولد في الإسلام قتل و من كان مشركا فأسلم استتيب و كذلك روي عن عطاء و هو قول إسحاق بن راهوية و المشهور عن عطاء و أحمد الاستتابة مطلقا و هو الصواب(2/98)
و وجه عدم قبول التوبة قوله صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] رواه البخاري و لم يستثن ما إذا تاب و قال صلى الله عليه و سلم [ لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني و النفس بالنفس و التارك لدينه المفارق للجماعة ] متفق عليه فإذا كان القاتل و الزاني لا يسقط عنهما القتل بالتوبة فكذلك التارك لدينه المفارق للجماعة و عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا يقبل الله توبة عبد كفر بعد إسلامه ] رواه الإمام أحمد و لأنه لا يقتل لمجرد الكف و المحاربة لأنه لو كان كذلك لما قتل المترهب و الشيخ الكبير و الأعمى و المقعد و المرأة و نحوهم فلما قتل هؤلاء علم أن الردة حد من الحدود و الحدود لا تسقط بالتوبة
و الصواب ما عليه الجماعة لأن الله سبحانه و تعالى قال في كتابه : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين } إلى قوله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم } [ آل عمران : 86 ـ 89 ] فأخبر أنه غفور رحيم لمن تاب بعد الردة و ذلك يقتضي مغفرته له في الدنيا و الآخرة و من هذا حاله لم يعاقب بالقتل
يبين ذلك ما رواه الإمام أحمد قال : حدثنا علي بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار ارتد عن الإسلام و لحق بالمشركين فأنزل الله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا } إلى آخر الآية [ آل عمران : 86 ] فبعث بها قومه إليه فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك منه و خلى عنه و رواه النسائي من حديث داود مثله(2/99)
و قال الإمام أحمد : ثنا على عن خالد عن عكرمة بمعناه و قال : و الله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله أصدق الثلاثة فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك منه و خلى عنه
و قال : ثنا حجاج عن ابن جريج حديثا عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق } [ آل عمران : 86 ] في أبي عامر بن النعمان و وحوح بن الأسلت و الحارث ابن سويد بن الصامت في أثنى عشر رجلا رجعوا عن الإسلام و لحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } [ آل عمران : 89 ] في الحارث بن سويد بن الصامت
و قال : ثنا عبد الرزاق أنا جعفر عن حميد عن مجاهد قال : جاء الحارث ابن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القرآن { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله غفور رحيم } [ آل عمران : 86 ] قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : و الله إنك ما علمت لصادق و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصدق منك و إن الله لأصدق الثلاثة قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه(2/100)
و كذلك ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في الحارث بن سويد و جماعة ارتدوا عن الإسلام و خرجوا من المدينة كهيئة البدء و لحقوا بمكة كفارا فأنزل الله فيهم هذه الآية فندم الحارث و أرسل إلى قومه : أن سلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل لي توبة ؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم } [ آل عمران : 89 ] فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : إنك و الله ما علمت لصدوق و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصدق منك و إن الله عز و جل لأصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة و أسلم و حسن إسلامه
فهذا رجل قد ارتد و لم يقتله النبي عليه الصلاة و السلام بعد عوده إلى الإسلام و لأن الله تعالى قال في إخباره عن المنافقين { أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] فدل على أن الكافر بعد إيمانه قد يعفى عنه و قد يعذب و إنما يعفى عنه إذا تاب فعلم أن توبته مقبولة
و ذكر أهل التفسير أنهم كانوا جماعة و أن الذي تاب منهم رجل واحد يقال له [ مخشى بن حمير ] و قال بعضهم : كان قد أنكر عليهم بعض ما سمع و لم يمالئهم عليه و جعل يسير مجانبا لهم فلما نزلت هذه الآيات برىء من نفاقه و قال : اللهم إني لا أزال أسمع آية تفر عيني تقشعر منها الجلود و تجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك و ذكروا القصة
و في الاستدلال بهذا نظر و لأنه قال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم ـ إلى قوله ـ يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة و ما لهم في الأرض من ولي و لا نصير } [ التوبة : 74 ](2/101)
و ذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلامه و أنهم لا يعذبون في الدنيا و لا في الآخرة عذابا أليما : بمفهوم الشرط و من جهة التعليل و لسياق الكلام و القتل عذاب أليم فعلم أن من تاب منهم لم يعذب بالقتل و لأن الله سبحانه قال : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة و أن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [ النحل 106 ـ 110 ] فبين أن الذين هاجروا إلى دار الإسلام بعد أن فتنوا عن دينهم بالكفر بعد الإسلام و جاهدوا و صبروا فإن الله يغفر لهم و يرحمهم و من غفر له ذنبه مطلقا لم يعاقبه في الدنيا و لا في الآخرة(2/102)
و قال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة : خرج ناس من المسلمين ـ يعني من المهاجرين ـ فأدركهم المشركون ففتنوهم فاعطوهم الفتنة فنزلت فيهم { و من الناس من يقول : آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } الآية [ العنكبوت : 10 ] و نزل فيهم { من كفر بالله من بعد إيمانه } الآية [ النحل : 106 ] ثم إنهم خرجوا مرة أخرى فانقلبوا حتى أتوا المدينة فأنزل الله فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } إلى آخر الآية [ النحل 110 ] و لأنه سبحانه قال : { و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة } [ البقرة : 217 ] فعلم أن من لم يمت و هو كافر من المرتدين لا يكون خالدا في النار و ذلك دليل على قبول التوبة و صحة الإسلام فلا يكون تاركا لدينه فلا يقتل و لعموم قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } إلى قوله : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] فإن هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك و تخلية سبيله إذا تاب من شركه و أقام الصلاة و آتى الزكاة سواء كان مشركا أصليا أو مشركا مرتدا
و أيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرج كان قد ارتد على عهد النبي صلى الله عليه و سلم و لحق بمكة و افترى على الله و رسوله ثم إنه بعد ذلك بايعه النبي صلى الله عليه و سلم و حقن دمه و كذلك الحارث بن سويد و كذلك جماعة من أهل مكة أسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فحقنت دماؤهم و قصص هؤلاء و غيرهم مشهورة عند أهل العلم بالحديث و السيرة(2/103)
و أيضا فالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما توفى ارتد أكثر العرب إلا أهل مكة و المدينة و الطائف و اتبع قوم من تنبأ لهم مثل مسيلمة و العنسي و طليحة الأسدي فقاتلهم الصديق و سائر الصحابة رضي الله عنهم حتى رجع أكثرهم إلى الإسلام فأقروهم على ذلك و لم يقتلوا واحدا ممن رجع إلى الإسلام و من رؤوس من كان قد ارتد و رجع طليحة الأسدي المتنبي و الأشعث بن قيس و خلق كثير لا يحصون و العلم بذلك ظاهر لا خفاء به على أحد و هذه الرواية عن الحسن فيها نظر فإن مثل هذا لا يخفى عليه و لعله أراد نوعا من الردة كظهور الزندقة و نحوها أو قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلما و نحو ذلك مما قد شاع فيه الخلاف
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] فنقول بموجبه فإنما يكون مبدلا إذا دام على ذلك و استمر عليه فأما إذا رجع إلى الدين الحق فليس بمبدل و كذلك إذا رجع إلى المسلمين فليس بتارك لدينه مفارق للجماعة بل هو متمسك بدينه ملازم للجماعة و هذا بخلاف القتل و الزنا فإنه فعل صدر عنه لا يمكن دوامه عليه بحيث إذا تركه يقال إنه ليس بزان و لا قاتل فمتى وجد منه ترتب حده عليه و إن عزم على أن لا يعود إليه لأن العزم على ترك العود لا يقطع مفسدة ما مضى من الفعل
على أن قوله : [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق كذلك رواه أبو داود في سننه مفسرا عن عائشة رضي الله عنها قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : : رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم و رجل خرج محاربا لله و رسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها ] فهذا المستثنى هو المذكور في قوله [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] و لهذا وصفه بفراق الجماعة و إنما يكون هذا بالمحاربة(2/104)
و يؤيد ذلك أن الحديثين تضمنا أنه لا يحل دم من يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و المرتد لم يدخل في هذا العموم فلا حاجة إلى استثنائه و على هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجب الدين و يفرق بين ترك الدين و تبديله أو يكون المراد به من ارتد و حارب كالعرنيين و مقيس ابن صبابة ممن ارتد و قتل و أخذ المال فإن هذا يقتل بكل حال إن تاب بعد القدرة عليه و لهذا و الله أعلم استثنى هؤلاء الثلاثة الذي يقتلون بكل حال و إن أظهروا التوبة بعد القدرة و لو كان أريد المرتد المجرد لما احتيج إلى قوله [ المفارق للجماعة ] فإن مجرد الخروج من الدين يوجب القتل و إن لم يفارق جماعة الناس فهذا وجه يحتمله الحديث و هو ـ و الله أعلم ـ مقصود هذا الحديث(2/105)
و أما قوله [ لا يقبل الله توبة عبد أشرك بعد إسلامه ] فقد رواه ابن ماجة من هذا الوجه و لفظه [ لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد إسلامه عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين ] و هذا دليل على قبول إسلامه إذا رجع إلى المسلمين و بيان أن معنى الحديث أن توبته لا تقبل ما دام مقيما بين ظهراني المشركين مكثرا لسوادهم كحال الذين قتلوا ببدر و معناه أن من أظهر الإسلام ثم فتن عن دينه حتى ارتد فإنه لا تقبل توبته و عمله حتى يهاجر إلى المسلمين و في مثل هؤلاء نزل قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية [ النساء : 97 ] و أيضا فإن ترك الدين و تبديله و فراق الجماعة يدوم و يستمر لأنه تابع للاعتقاد و الاعتقاد دائم فمتى قطعه و تركه عاد كما كان و لم يبق لما مضى حكم أصلا و لا فيه فساد و لا يجوز أن يطلق عليه القول بأنه مبدل للدين و لا أنه تارك لدينه كما يطلق على الزاني و القاتل بأن هذا زان و قاتل فإن الكافر بعد إسلامه لا يجوز أن يسمى كافرا عند الإطلاق و لأن تبديل الدين و تركه في كونه موجبا للقتل بمنزلة الكفر الأصلي و الحراب في كونهما كذلك فإذا كان زوال الكفر بالإسلام أو زوال المحاربة بالعهد يقطع حكم الكفر فكذلك زوال تبديل الدين و تركه بالعود إلى الدين و أخذه يقطع حكم ذلك التبديل و الترك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 328 ]
إذا تقرر ذلك فإن الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب و مذهب مالك و أحمد أنه يستتاب ويؤجل بعد الاستتابة ثلاثة أيام و هل ذلك واجب أو مستحب ؟ على روايتين عنهما أشهرهما عنهما : أن الاستتابة واجبة وهذا قول إسحاق بن راهويه و كذلك مذهب الشافعي هل الاستتابة واجبة أو مستحبة على قولين لكن عنده في أحد القولين يستتاب في الحال و إلا قتل و هو قول ابن المنذر و المزني و في القول الآخر يستتاب كمذهب مالك و أحمد
و قال الزهري و ابن القاسم في رواية [ يستتاب ثلاث مرات ](2/106)
و مذهب أبي حنيفة أنه يستتاب أيضا فإن لم يتب و إلا قتل و المشهور عندهم أن الاستتابة مستحبة و ذكر الطحاوي عنهم : [ لا يقتل المرتد حتى يستتاب ] و عندهم يعرض عليه الإسلام فإن أسلم و إلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإنه يؤجل ثلاثة أيام
و قال الثوري : [ يؤجل ما رجيت توبته ] و كذلك معنى قول النخعي
و ذهب عبيد بن عمير و طاوس إلى أنه يقتل و لا يستتاب لأنه صلى الله عليه و سلم أمر بقتل المبدل دينه و التارك لدينه المفارق للجماعة و لم يأمر باستتابته كما أمر الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع أنهم لو تابوا لكففنا عنهم
يؤيد ذلك أن المرتد أغلظ كفرا من الكافر الأصلي فإذا جاز قتل الأسير الحربي من غير استتابة فقتل المرتد أولى
و سر ذلك أنا لا نجيز قتل كافر حتى نستتيبه بأن يكون قد بلغته دعوة محمد صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام فإن قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز و المرتد قد بلغته الدعوة فجاز قتله كالكافر الأصلي الذي بلغته و هذا هو علة من رأى الاستتابة مستحبة فإن الكفار يستحب أن ندعوهم إلى الإسلام عند كل حرب و إن كانت الدعوة قد بلغتهم فكذلك المرتد و لا يجب ذلك فيهما
نعم لو فرض المرتد من يخفى عليه جواز الرجوع إلى الإسلام فإن الاستتابة هنا لابد منها
و يدل على ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم أهدر يوم فتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح و دم مقيس بن صبابة و دم عبد الله بن خطل و كانوا مرتدين و لم يستتبهم بل قتل ذانك الرجلان و توقف صلى الله عليه و سلم عن مبايعه ابن أبي سرح لعل بعض المسلمين يقتله فعلم أن قتل المرتد جائز ما لم يسلم و أنه لا يستتاب(2/107)
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم عاقب العرنييين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن الإسلام بما أوجب موتهم و لم يستتبهم و لأنه فعل شيئا من الأسباب المبيحة للدم فقتل قبل استتابته كالكافر الأصلي و كالزاني و كقاطع الطريق و نحوهم فإن كل هؤلاء ـ من قبلت توبته و من لم تقبل ـ يقتل قبل الاستتابة و لأن المرتد لو امتنع ـ بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ـ فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد فكذلك إذا كان في أيدينا
و حجة من رأى الاستتابة إما واجبة أو مستحبة قوله سبحانه و تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] أمر الله رسوله أن يخبر جميع الذين كفروا أنهم إن انتهوا غفر لهم ما سلف و هذا معنى الاستتابة و المرتد من الذين كفروا و الأمر للوجوب فعلم أن استتابة المرتد واجبة و لا يقال [ فقد بلغهم عموم الدعوة إلى الإسلام ] لأن هذا الكفر أخص من ذلك الكفر فإنه يوجب قتل كل من فعله و لا يجوز استبقاؤه و هو لم يستتب من هذا الكفر
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعث بالتوبة إلى الحارث بن سويد و من كان قد ارتد معه إلى مكة كما قدمناه بعد أن كانت قد نزلت فيهم آية التوبة فيكون استتابته مشروعة ثم إن هذا الفعل منه خرج امتثالا للأمر بالدعوة إلى الإسلام و الإبلاغ لدينه فيكون واجبا
و عن جابر رضي الله عنه أن امرأة يقال لها [ أم مروان ] ارتدت عن الإسلام فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت و إلا قتلت
و عن عائشة رضي الله عنها قالت : ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يستتاب فإن تابت و إلا قتلت رواهما الدار قطني(2/108)
و هذا ـ إن صح ـ أمر بالاستتابة و الأمر للوجوب و العمدة فيه إجماع الصحابة عن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال : قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال : هل من مغربة خبر ؟ قال : نعم رجل كفر بعد إسلامه قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه قال عمر : فهلا حبستموه ثلاثا و أطعمتوه كل يوم رغيفا و استتبتموه لعله يتوب و يرجع إلى أمر الله اللهم إني لم أحضر و لم آمر و لم أرض إذ بلغني رواه مالك و الشافعي و أحمد و قال : [ أذهب إلى حديث عمر ] و هذا يدل على أن الاستتابة واجبة و إلا لم يقل عمر : [ لم أرض إذ بلغني ] و عن أنس بن مالك قال : لما افتتحنا تستر بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال : ما فعل البكريون ؟ قال : فلما رأيته لا يقلع قلت : يا أمير المؤمنين ما فعلوا ؟ أنهم قتلوا و لحقوا بالمشركين ارتدوا عن الإسلام قاتلوا مع المشركين حتى قتلوا قال : فقال : لأن أكون أخذتهم سلما كان أحب إلي مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء و قال : فقلت : و ما كان سبيلهم لو أخذتم سلما ؟ قال : كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه فإن أبو استودعتهم الحبس
و عن عبد الله بن عتبة قال : أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق قال : فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فكتب إليه أن أعرض عليهم دين الحق و شهادة أن لا إله إلا الله فإن قبلوا فخل عنهم و إن لم يقبلوا فاقتلهم فقبلها بعضهم فتركه و لم يقبلها بعضهم فقتله رواهما الإمام أحمد بسند صحيح
و عن العلاء أبي محمد أن عليا رضي الله تعالى عنه أخذ رجلا من بني بكر ابن وائل قد تنصر فاستتابه شهرا فأبى فقدمه ليضرب عنقه فنادى : يا لبكر فقال علي : أما إنك واجده أمامك في النار رواه الخلال و صاحبه أبو بكر(2/109)
و عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أتى برجل قد ارتد عن الإسلام و دعاه عشرين ليلة أو قريبا منها فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه رواه أبو داود
و روي من وجه آخر أن أبا موسى استتابه شهرا و ذكره الإمام أحمد
و عن رجل عن ابن عمر قال : يستتاب المرتد ثلاثا رواه الإمام أحمد
و عن أبي وائل عن معيز السعدي قال : مررت في السحر بمسجد بني حنيفة و هم يقولون : إن مسيلمة رسول الله فأتيت عبد الله فأخبرته فبعث الشرط فجاؤا بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم و ضرب عنق عبد الله بن النواحة فقالوا : أحدث قوم في أمر فقتلت بعضهم و تركت بعضهم فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قدم إليه هذا و ابن أثال فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ فقالا : أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ آمنت بالله و رسله و لو كنت قتلا وفدا لقتلتكما ] قال فلذلك قتلته رواه عبد الله بن أحمد بإسناد صحيح
فهذه أقوال الصحابة في قضايا متعددة لم ينكرها منكر فصارت إجماعا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 333 ]
و الفرق بين هذا و بين الكافر الأصلي من وجوه :
أحدها : أن توبة هذا أقرب لأن المطلوب منه إعادة الإسلام و المطلوب من ذاك ابتداؤه و الإعادة أسهل من الابتداء فإذا أسقط عنا استتابة الكافر لصعوبتها لم يلزم سقوط استتابة المرتد
الثاني : أن هذا يجب قتله عينا و إن لم يكن من أهل القتال و ذاك لا يجوز أن يقتل إلا أن يكون من أهل القتال و يجوز استبقاؤه بالأمان و الهدنة و الذمة و الإرقاق و المن و الفداء فإذا كان حده أغلظ فلم يقدم عليه إلا بعد الإعذار إليه بالاستتابة بخلاف من يكون جزاؤه دون هذا
الثالث : أن الأصلي قد بلغته الدعوة و هي استتابة عامة من كل كفر و أما هذا فإنما نستتيبه من التبديل و ترك الدين الذي كان عليه و نحن لم نصرح له بالاستتابة من هذا و لا بالدعوة إلى الرجوع(2/110)
و أما ابن سرح و ابن خطل و مقيس بن صبابة فإنه كانت لهم جرائم زائدة على الردة و كذلك العرنيون فإن أكثر هؤلاء قتلوا مع الردة و أخذوا الأموال فصاروا قطاع الطريق محاربين لله و رسوله و فيهم من كان يؤذي بلسانه أذى صار به من جنس المحاربين فلذلك لم يسستتابوا على أن الممتنع لا يستتاب و إنما يستتاب المقدور عليه و لعل بعض هؤلاء قد استتيب فنكل
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 334 ]
ذكرنا حكم المرتد استطرادا لأن الكلام في الساب متعلق به تعلقا شديدا فمن قال : [ إن ساب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين يستتاب ] قال : إنه نوع من الكفر فإن من سب الرسول أو جحد نبوته أو كذب بآية من كتاب الله أو تهود أو تنصر و نحو ذلك كل هؤلاء قد بدلوا و فارقوا الجماعة فيستتابون و تقبل توبته كغيرهم
يؤيد ذلك أن في كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى المهاجر في المرأة السابة [ أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر ]
و عن ابن عباس رضي الله عنه : [ أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب منها فإن رجع و إلا قتل ]
و الأعمى الذي كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه و سلم كان ينهاها فلا تنتهي و يزجرها فلا تنزجر فقتلها بعد ذلك فإن كانت مسلمة فلم يقتلها حتى استتابها و إن كانت ذمية و قد استتابها فاستتابة المسلم أولى
و أيضا فإما أن يقتل الساب لكونه كفر بعد إسلامه أو لخصوص السب و الثاني لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس فيقتل بها ](2/111)
و قد صح ذلك عنه من وجوه متعددة و هذا الرجل لم يزن و لم يقتل فإن لم يكن قتله لأجل الكفر بعد الإسلام امتنع قتله فثبت أنه إنما يقتل لأنه كفر بعد إسلامه و كل من كفر بعد إسلامه فإن توبته تقبل لقوله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } الآية [ آل عمران : 89 ] و لما تقدم من الأدلة الدالة على قبول توبة المرتد
و أيضا فعموم قوله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] و قوله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله والإسلام يهدم ما كان قبله ] رواه مسلم يوجب أن من أسلم غفر له كل ما مضى
و أيضا فإن المنافقين الذين نزل فيهم قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم ـ إلى قوله ـ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 61 ـ 66 ] و قد قيل فيهم : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] مع أن هؤلاء قد آذوه بألسنتهم و بأيديهم أيضا ثم العفو مرجو لهم و إنما يرجى العفو مع التوبة فعلم أن توبتهم مقبولة و من عفي عنه لم يعذب في الدنيا و لا في الآخرة
و أيضا فقوله سبحانه و تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين ـ إلى قوله ـ فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما } الآية [ التوبة 73 ـ 74 ] فإنها تدل على أن المنافق إذا كفر بعد إسلامه ثم تاب لم يعذب عذابا أليما في الدنيا و لا في الآخرة و القتل عذاب أليم فعلم أنه لا يقتل(2/112)
و قد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في رجال من المنافقين اطلع أحدهم على النبي عليه الصلاة و السلام فقال : علام تشتمني أنت و أصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا شيئا فأنزل الله هذه الآية و عن الضحاك قال : خرج المنافقون مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و طعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلى النبي عليه الصلاة و السلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم ؟ ] فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله هذه الآية إكذابا لهم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 336 ]
و أيضا فلا ريب أن توبتهم فيما بينهم و بين الله و إن تضمنت التوبة من حقوق الأدميين لأوجه :
أحدها : أنه قد قيل كفارة الغيبة الاستغفار لمن استغيبه و قد ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى مثل ذلك فجاز أن يكون [ ما ] قد أتى به من الإيمان برسول الله صلى الله عليه و سلم الموجب لأنواع الثناء عليه و التعظيم له موجبا لما ناله من عرضه
الثاني : أن حق الأنبياء تابع لحق الله و إنما عظمت الوقيعة في أعراضهم لما يتضمن ذلك من الكفر و الوقيعة في دين الله و كتابه و رسالته فإذا تبعت حق الله في الوجوب تبعته في السقوط لئلا ليكون أعظم منه و معلوم أن الكافر تصح توبته من حقوق الله فكذلك من حقوق الأنبياء المتعلقة بنبوتهم بخلاف التوبة من الحقوق التي تجب للناس بعضهم على بعض(2/113)
الثالث : أن الرسول الله صلى الله عليه و سلم قد علم منه أنه يدعو للتأسي به و اتباعه و يخبرهم أن من فعل ذلك فقد غفر له كل ما أسلفه في كفره فيكون قد عفا لمن قد أسلم عما ناله من عرضه و بهذه الوجوه يظهر الفرق بين سب الرسول الله صلى الله عليه و سلم و بين سب واحد من الناس فإنه إذا سب واحدا من الناس لم يأت بعد سبه ما يناقض موجب السب و سبه حق آدمي مخص لم يعف عنه و المقتضى للسب هو موجود بعد التوبة و الإسلام كما كان موجدا قبلهما إن لم يزجر عنه بالحد و هنا كان الداعي إليه الكفر و قد زال بالإيمان و إذا ثبت أن توبته و إيمانه مقبول منه فيما بينه و بين الله فإذا أظهرها وجب أن يقبلها منه لما روى أبو سعيد في حديث ذي الخويصرة التميمي الذي اعترض على النبي صلى الله عليه و سلم في القسمة فقال خالد ابن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال : [ لا لعله أن يكون يصلي ] قال خالد : و كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس و لا أشق بطونهم ] رواه مسلم
و قال لأسامة في الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله [ كيف قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ] قال : إنما تعوذا قال : [ فهلا شققت عن قلبه ]
و كذلك في حديث المقداد نحو هذا و في ذلك نزل قوله تعالى : { و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا } [ النساء : 94 ] و لا خلاف بين المسلمين أن الحربي إذا أسلم عند رؤية السيف و هو مطلق أو مقيد يصح إسلامه و تقبل توبته من الكفر و إن كانت دلالة الحال تقتضي أن باطنه خلاف ظاهره(2/114)
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل من المنافقين علانيتهم و يكل سرائرهم إلى الله مع إخبار الله له أنهم اتخذوا أيمانهم جنة و أنهم { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا } [ التوبة : 74 ] فعلم أن من أظهر الإسلام و التوبة من الكفر قبل ذلك منه فهذا قول هؤلاء و سيأتي إن شاء الله تعالى الاستدلال على تعين قتله من غير استتابة و الجواب عن هذه الحجج
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 338 ]
و قد ذكرنا فيه ثلاثة أقوال :
أحدهما : يقتل بكل حال و هو المشهور من مذهب الإمام أحمد و مذهب الإمام مالك إذا تاب بعد أخذه و هو وجه لأصحاب الشافعي
الثان
ي : يقتل إلا أن يتوب بالإسلام و هو ظاهر الرواية الأخرى عن مالك و أحمد
و الثالث : يقتل إلا أن يتوب بالإسلام أو العود إلى الذمة كما كان و عليه يدل ظاهر عموم كلام الشافعي إلا أن يتأول و على هذا فإنه يعاقب إذا عاد إلى الذمة و لا يقتل
فمن قال : [ إن القتل يسقط عنه بالإسلام ] فإنه يستدل بمثل ما ذكرنا في المسلم فإنه كله يدل على أن الكافر أيضا إذا أسلم سقط عنه موجب السب و يدل على ذلك أيضا أن الصحابة ذكروا أنه إذا فعل ذلك فهو فهو غادر محارب و أنه ناقض للعهد و معلوم أن من حارب و نقض العهد إذا أسلم عصم دمه و ماله و قد كان كثير من المشركين مثل ابن الزبعري و كعب بن زهير و أبي سفيان ابن الحارث و غيرهم يهجون النبي صلى الله عليه و سلم بأنواع الهجاء ثم أسلموا فعصم الإسلام دماءهم و أموالهم و هؤلاء و إن كانوا محاربين لم يكونوا من أهل العهد فهو دليل على أن حقوق الآدميين التي يستحلها الكافر إذا فعلها ثم أسلم سقطت عنه كما تسقط حقوق الله(2/115)
و لهذا أجمع المسلمون إجماعا مستندة كتاب الله و سنة نبيه الظاهرة أن الكافر الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بما كان أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض و الذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه معتقد حل ذلك و عقد الذمة لم يوجب عليه تحريم ذلك فإذا أسلم لم يؤخذ به بخلاف ما يصيبه من دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم فإن عقد الذمة يوجب تحريم ذلك عليه منا كما يوجب تحريم ذلك علينا منه و إن كان يوجب علينا الكف عن سب دينهم و الطعن فيه فهذا أقرب ما يتوجه به الاستدلال بقصص هؤلاء و إن كان الاستدلال به خطأ
و أيضا فإن الذمي إما أن يقتل إذا سب لكفره أو حرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود كما يقتل لزناه بذمية و قطع الطريق على ذمي و الثاني باطل فتعين الأول و ذلك لأن السب من حيث هو سب ليس فيه أكثر من انتهاك العرض و هذا القدر لا يوجب إلا الجلد بل لا يوجب على الذمي شيئا لاعتقاده حل ذلك نعم إنما صولح على الكف و الإمساك فمتى أظهر السب زال العهد فصار حربيا و لأن كون السب موجبا للقتل حدا حكم شرعي فيفتقر إلى دليل على ذلك و لا دليل على ذلك إذ أكثر ما يذكر من الأدلة إنما يفيد أنه يقتل و ذلك متردد بين كون القتل لكفره و حرابه أو لخصوص السب و لا يجوز إثبات الأحكام بمجرد الاستحسان و الاستصلاح فإن ذلك شرع للدين بالرأي و ذلك حرام لقوله تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ]
و القياس في المسألة متعذر لوجهين(2/116)
أحدهما : أن كثيرا من النظار يمنع جريان القياس في الأسباب و الشروط و الموانع لأن ذلك يفتقر إلى معرفة نوع الحكمة و قدرها و ذلك متعذر لأن ذلك يخرج السب عن أن يكون سبا و شرط القياس بقاء حكم الأصل و لأنه ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يمكن إلحاق السب بها لاختلافهما نوعا و قدرا و اشتراكهما في عموم المفسدة لا يوجب الإلحاق بالاتفاق و كون هذه المفسدة مثل هذه المفسدة يفتقر إلى دليل و إلا شرعا بالرأي و وضعا للدين بالمعقول و ذلك انحلال عن معاقد الدين و انسلال عن روابط الشريعة و انخلاع من ربق الإسلام و سياسة للخلق بالآراء الملكية و الأنحاء العقلية و ذلك حرام بلا ريب فثبت أنه إنما يقتل لأجل كفره و حرابه و معلوم أن الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر و الحراب بالاتفاق
و أيضا فالذمي لو كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم فيما بينه و بين الله تعالى و يقول ما عسى أن يقول من القبائح ثم أسلم و اعتقد نبوته و رسالته لمحا ذلك عنه جميع تلك السيئات و لا يجوز أن يقال : [ إن النبي صلى الله عليه و سلم يطالبه بموجب سبه في الدنيا و لا في الآخرة ] و من قال ذلك علم أنه مبطل في مقالته للعلم بأن الكافرين يقولون في الرسول شر المقالات و أشنعها و قد أخبر الله تعالى عنهم في القرآن ببعضها مثل قولهم ساحر و كاهن و مجنون و مفتر و قول اليهود في مريم بهتانا عظيما و نسبتها إلى الفاحشة و أن المسيح لغير رشدة و هذا هو القذف الصريح ثم لو أسلم اليهودي و أقر بنبوة المسيح و أنه عبد الله و رسوله و أنه برئ مما رمته اليهود لم يبق للمسيح عليه تبعة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 340 ](2/117)
و نحن نعتقد أن من الكفار من يعتقد نبوة نبينا إلى الأميين و منهم من يعتقد نبوته مطلقا لكن إلف الدين و عادته و أغراض نبينا أخر تمنع الدخول في الإسلام و منهم المعرض عن ذلك الذي لا ينظر إليه و لا يتفكر فهؤلاء قد يسبونه و منهم من يعتقد فيه العقيدة الردية و يكف عن سبه و شتمه أو يسبه و يشتمه بما يعتقده فيه مما يكفر به و لا يظهر ذلك و منهم من يظهر ذلك عند المسلمين و منهم من يسبه بما لم يكفر به مما يكون سبا للنبي صلى الله عليه و سلم و غير النبي كالقذف و نحوه و إذا أسلم الكافر غفر له جميع ذلك و لم يجىء في كتاب و لا سنة أن الكافر إذا أسلم يبقى عليه تبعة من التبعات بل الكتاب و السنة دليلان على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا و إذا كان إثم السب مغفورا له لم يجز أن يعاقب عليه بعد الإسلام
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 341 ](2/118)
و أيضا فلو سب الله سبحانه ثم أسلم لم يؤخذ بموجب ذلك و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروى عن ربه تبارك و تعالى : [ شتمني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك و أما شتمه إياي فقوله : إني اتخذت ولدا و أنا الأحد الصمد ] ثم لو تاب النصراني و نحوه من شتم الله سبحانه لم يعاقب على ذلك في الدنيا و لا في الآخرة بالاتفاق قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة و ما من إله إلا إله واحد و إن لم ينتهوا ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه و الله غفور رحيم } [ المائدة : 74 ] فسب النبي صلى الله عليه و سلم لا يكون أعظم من سب الله فإنه إنما عظم و صار موجبا للقتل لكون حقه تابعا لحق الله فإذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى بهذا يظهر الفرق بين سب الأنبياء و سب غيرهم من المؤمنين فإن سب الواحد من الناس لا يختلف بين ما قبل الإسلام و ما بعده و الأذى و الغضاضة التي تحق المسبوب قبل إسلام الساب و بعده سواء بخلاف سب النبي صلى الله عليه و سلم فإنه قد زال موجبه بالإسلام و تبدل بالتعزير له و التوقير و الثناء عليه و المدحة له كما تبدل السب لله بالإيمان به و توحيد و تقديسه و تحميده و عبادته
يوضح ذلك أن الرسول له نعت البشرية و نعت الرسالة كما قال : { سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } [ الاسراء : 93 ] فمن حيث هو بشر له أحكام البشر و من حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه و فضله بما خصه به فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين و موجب العقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به لكن إنما أوجب القتل من حيث هو رسول فقط لأن السب المتعلق بالبشرية لا يوجب قتلا و سبه من حيث هو رسول حق الله فقط فإذا أسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب و يبقى حق بشريته من هذا السب و حق البشرية إنما موجب جلد ثمانين(2/119)
فمن قال : [ أنه يجلد لقذفه بعد إسلامه و يعزر لسبه لغير القذف ] قال : أن الإسلام يسقط حق الله و حق و حق الرسالة و يبقى حق خصوص الآدمية كغيره من الآدميين فيؤدب ساب جميع المؤمنين بعد إسلامه
و من قال : [ إنه لا يعاقب بشيء ] قال : هذا الحق اندرج في حق النبوة و انغمر في حق الرسالة فإن الجريمة الواحدة إذا أوجب القتل لم توجب معه عقوبة أخرى عند أكثر الفقهاء و لهذا اندرج حق المتعلق بالقتل و القذف في حق الآدمي فإذا عفي للجاني عن القصاص وحد القذف لم يعاقب على ما انتهكه من الحرمة كذلك اندرج هنا حق البشرية في حق الرسالة و في هذين الأصلين المقيس خلاف بين الفقهاء فإن مذهب مالك أن القاتل يعزره الإمام إذا عفا عنه ولي الدم
و عند أبي حنيفة إن حد القذف لا يسقط بالعفو و كذا تردد من قال : [ إن القتل يسقط بالإسلام ] هل يؤدي حدا أو تعزيرا القذف والسب ؟ و من قال هذا القول : قال : لا يستدل علينا بأن الصحابة قتلوا سابه أو أمروا بقتل سابه أو أرادوا قتل سابه من غير استتابة فإن الذمي إذ سبه لا يستتاب بلاد بلا تردد فإنه يقتل لكفره الأصلي كما يقتل الأسير الحربي و مثل ذلك لا يستتاب كاستتابة المرتد إجماعا لكن لو عصم دمه
كذلك يقول فيمن شتمه من أهل الذمة فإنه يقتل و لا يستتاب كأنه حربي آذى المسلمين و قد أسرنا فإنا نقتله فإن أسلم سقط عنه القتل
و كذلك أكثر نصوص مالك و أحمد نما هي أنه يقتل و لا يستتاب و هذا لا تردد فيه إذا سبه الذمي
و من قال : [ إن الذمي يستتاب ] فقد يقول : إنه قد لا يعلم أنه إذا أسلم سقط عنه القتل فيستتاب كما يستتاب المرتد و أولى فإن قتل الكفار قبل الإعذار إليهم و تبليغهم رسالات الله غير جائز(2/120)
و من لم يستتاب قال : هذا هو مقياس لما جاء في الكتب في قتل كل كافر أصلي أسير و قد ثبت ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه و سلم و خلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من الأسى من غير عرض الإسلام عليهم و إن كانوا ناقضين للعهد و ذلك في قصة قريظة و خيبر ظاهر لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم بالسيرة فإن النبي صلى الله عليه و سلم أخذهم أسرى بعد أن نقضوا العهد و ضرب رقابهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام و قد أمر بقتل ابن الأشرف من غير عرض الإسلام عليه و إنما قتله لأنه كان يؤذي الله و رسوله و قد نقض العهد
و من قال : [ إذا تاب بالعود إلى الذمة قبلت توبته أو خير الإمام فيه ] قال : أنه في هذه الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يد و هو صاغر فيجب الكف عنه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 343 ]
و اعلم أن هنا معنى لا بد من التنبيه عليه و هو أن الأسير الحربي الأصل لو أسلم فإن إسلامه لا يزيل عنه حكم الأسير بل إما يصير رقيقا للمسلمين بمنزلة النساء و الصبيان كأحد القولين في مذهب الشافعي و أحمد أو يخير الإمام فيه بين الثلاثة غير القتل على القول الآخر في المذهبين(2/121)
و الدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من بني عقيل و أصابوا معه العضباء فأتى عليه صلى الله عليه و سلم و هو في الوثاق فقال : يا محمد فأتاه فقال : ما شأنك ؟ فقال : بم أخذتني و أخذت سابقة الحاج ؟ يعني العضباء فقال : أخذتك جزية حلفائك [ من ] ثقيف ثم انصرف عنه فناداه : يا محمد يا محمد و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم رحيما رقيقا فرجع إليه فقال : ما شأنك ؟ قال : إني مسلم قال : لو قلتها و أنت تملك أمرك كل الفلاح ثم انصرف فناده : يا محمد يا محمد فأتاه فقال : ما شأنك ؟ فقال : إني جائع فاطعمني و ظمآن فاسقني قال : [ هذه حاجتك ففدي بالرجلين ]
فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه إذا أسلم بعد الأسر لم يفلح كل الفلاح كما إذا أسلم قبل الأسر و إن ذلك الإسلام لا يوجب إطلاقه
و كذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أظهر الإسلام بعد الأسر بل أخبر أنه قد أسلم قبل ذلك فلم يطلقه النبي صلى الله عليه و سلم حتى فدى نفسه و القياس يقتضي ذلك فإنه لو أسلم رقيق للمسلمين لم يمنع ذلك دوام رقه فكذلك إسلام الأسير لا يمنع دوام أسره لأنه نوع رق و مجوز للاسترقاق كما أن إسلامه لا يوجب أن يرد عليه ما أخذ من ماله قبل الإسلام فإذا كان هذا حال من أسلم بعد أن أسر ممن هو حربي الأصل فهذا الناقض للعهد حاله أشد بلا ريب فإذا أسلم بعد أن نقض العهد و هو في أيدينا لم يجز أن يقال : إنه يطلق بل بحيث قلنا قد عصم دمه فإما أن يصير رقيقا و للإمام أن يبيعه بعد ذلك و ثمنه لبيت المال أو أنه يتخير فيه و هذا قياس قول من يجوز استرقاق ناقض العهد و من لم يجوز استرقاقهم فإنه يجعل هذا بمنزلة المرتد و يقول : إذا عاد إلى الإسلام لم يسترق و لم يقتل(2/122)
و معنى قوله عليه الصلاة و السلام : [ لو أسلمت و أنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح ] دليل على أن من أسلم و لا يملك أمره لم يكن حاله كحال من أسلم و هو مالك أمره فلا تجوز التسوية بينهما بحال و في هذا أيضا دليل على أن إذا بذل لم يجب إطلاقه فإنه إذا لم يجب إطلاقه بالإسلام فببذل الجزية أولى لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 346 ]
و الدليل على أن المسلم يقتل من غير استتابة و إن أظهر التوبة بعد أخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ]
و قد تقدم أن هذا يقتضي قتله و يقتضي تحتم قتله و إن تاب بعد الأخذ لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله و رسوله و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات فإذا كانت عقوبة أولئك لا تسقط إذا تابوا بعد الأخذ فعقوبة هؤلاء أولى و أحرى لأن عقوبة كليهما على الأذى الذي قاله بلسانه لا على مجرد كفر هو باق عليه
و أيضا فإنه قال { لئن لم ينته المنافقون } إلى قوله { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } [ الأحزاب : 60 ] وهو يقتضي أن من لم ينته فإنه يؤخذ و يقتل فعلم أن الانتهاء العاصم ما كان قبل الأخذ
و أيضا فإنه جعل ذلك تفسيرا للعن فعلم أن الملعون متى أخذ قتل إذا لم يكن انتهى الأخذ و هذا ملعون فدخل في الآية(2/123)
يؤيد ذلك ما قدمناه عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } [ النور : 23 ] قال : هذه في شأن عائشة و أزواج النبي صلى الله عليه و سلم خاصة ليس فيها توبة ثم قرأ { و الذين يرمون المحصنات ثم يأتوا بأربعة شهداء } إلى قوله { إن الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } [ النور : 4 ، 5 ] فجعل لهؤلاء توبة لم يجعل لأولئك توبة قال : فهم رجل أن يقول فيقبل رأسه من حسن ما فسر فهذا ابن عباس قد بين أن من لعن هذه اللعنة لا توبة له و اللعنة الأخرى أبلغ منها
يقرره أن قازف أمهات المؤمنين إنما استحق هذه اللعنة على قوله لأجل النبي صلى الله عليه و سلم فعلم أن مؤذيه لا توبة له
و أيضا قوله سبحانه { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } الآية [ المائدة : 33 ]
و هذا الساب محارب لله و رسوله كما تقدم تقريره من أنه محاد لله و رسوله و أن المحاد لله و رسوله مشاق لله و رسوله محارب لله و رسوله و لأن المحارب ضد المسالم و المسالم الذي تسلم منه و يسلم منك و من آذاه لم يسلم منه فليس بمسالم فهو محارب و قد تقدم من غير وجه أن النبي عليه الصلاة و السلام سماه عدوا له و من عاداه فقد حاربه و هو من أعظم الساعين في الأرض بالفساد قال الله تعالى في صفة المنافقين : { و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون و ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون } [ البقرة : 12 ]
و كل ما في القرآن من ذكر الفساد ـ كقوله : { و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الاعراف : 56 ] و قوله : { و إذا تولى يسعى في الأرض ليفسد فيها ـ إلى قوله ـ و الله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] و غير ذلك ـ فإن السب داخل فيه فإنه أصل ـ كل فساد في الأرض إذا هو إفساد للنبوة التي هي عماد صلاح الدين و الدنيا و الآخرة(2/124)
و إذا كان هذا الساب محاربا لله و رسوله ساعيا في الأرض بفساد وجب أن يعاقب بإحدى العقوبات المذكورة في الآية إلا أن يتوب قبل القدرة عليه و قد قدمناه الأذلة على أن عقوبته متعينة بالقتل كعقوبة من قتل قطع الطريق فيجب أن يقام ذلك عليه إلا أن يتوب قبل القدرة و هذا الساب الذي قامت عليه البينة ثم تاب بعد ذلك إنما تاب بعد القدرة فلا تسقط العقوبة عنه و لهذا كان الكافر الحربي إذا أسلم بعد الأخذ لم تسقط عنه العقوبة مطلقا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم للعقيلي [ لو قلتها و أنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ] بل يعاقب بالاسترقاق أو يجوز الاسترقاق و غيره لكن هذا مرتد محارب فلم يكن استرقاقه كالعرنيين إذ المحاربة باللسان كالمحاربة باليد فتعين عقوبته بالقتال
و أيضا فسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم دلت من غير وجه على قتل الساب من غير استتابة فإنه أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة و قد ذكرنا أن ذلك يقتضي قتل الساب سواء أجرينا الحديث على ظاهره أو حملناه على من كذب عليه كذبا يشينه و كذلك في حديث الشعبي أنه أمر بقتل الذي طعن عليه في قسم مال العزى من غير استتابة
و في حديث أبي بكر لما استأذنه أبو بزرة أن يقتل الرجل الذي شتمه من غير استتابة قال : إنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلم أنه كان له قتل من شتمه من غير استتابة و عمر رضي الله عنه قتل الذي لم يرض بحكمه صلى الله عليه و سلم من غير استتابة أصلا فنزل القرآن بإقراره على ذلك و هو من أدنى أنواع الاستخفاف به فكيف بأعلاها ؟
و أيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه و افترى افتراء عابه به بعد أن أسلم أهدر دمه و امتنع عن مبايعته و قد تقدم تقرير الدلالة منه على أن الساب يقتل و إن أسلم و ذكرنا أنه كان قد جاءه مسلما تائبا قد أسلم قبل مجيء إليه كما رويناه عن غير واحد أو قد جاء يريد الإسلام و قد فيقتله(2/125)
و هذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله و إن جاء تائبا و إن تاب و قد قررنا هذا فيما مضى ـ و هنا ـ من وجوه أخرى أن الذي عصم دمه عفو رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه لا مجرد إسلامه و أن بالإسلام و التوبة انمحى الإثم و بعفو رسول الله صلى الله عليه و سلم احتقن الدم و العفو بطل بموته صلى الله عليه و سلم و ليس للأمة أن يعفوا عن حقه و امتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله نص في جواز قتله و إن جاء تائبا
و أما عصمة دمه بعد ذلك فليس دليلا على أن نعصم دم من سب و تاب بعد أن قدرنا عليه لأنا قد بينا من غير وجه أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الأمة في وجوب قتله ذلك و تعذر عفو النبي صلى الله عليه و سلم عنه و قد ذكرنا أيضا حديث عبد الله بن خطل يدل على قتل الساب لأنه كان مسلما فارتد و كان يهجوه فقتل من غير استتابة
و أيضا فما تقدم من حديث المرفوع و أثر أبي بكر في قتل من آذاه في أزواجه و سراريه من غير استتابة و ما ذاك إلا لأجل أنه نوع الأذى و لذلك حرمه الله معلوم أن السب أشد أذى منه بدليل أن السب يحرم منه و من غيره و نكاح الأزواج لا يحرم إلا منه صلى الله عليه و سلم و إنما ذلك في تحريم ما يؤذيه و وجوب قتل من يؤذيه أي أذى كان من غير استتابة
و أيضا فإنه أمر بقتل النسوة اللاتي كن يؤذينه بألسنتهن بالهجاء مع أمانه لعامة أهل البلد و مع أن قتل المرأة لا يجوز إلا أن تفعل ما توجب القتل و لم يستتب واحدة منهن حين قتل من قتل و الكافرة الحربية من النساء لا تقتل أن لم يقاتل و المرتدة لا تقتل حتى تستتاب و هو هؤلاء النسوة قتلن من غير أن يقاتلن و لم يستتبن فعلم أن قتل من فعل مثل فعلهن جائز بدون استتابة فإن صدور ذلك عن مسلمة أو معاهدة أعظم من صدوره عن حربية(2/126)
و قد بسطنا بعض هذه الدلالات فيما مضى بما أغنى عن إعادته هنا و ذكرنا أن السنة تدل على أن السب ذنب مقتطع عن عموم الكفر و هو من جنس المحاربة و التوبة التي تحقن دم المرتد إنما هي التربة عن الكفر فأما إن ارتد بمحاربة ـ مثل سفك الدم و أخذ المال كما فعل العرنيون و كما فعل مقيس ابن صبابة حيث قتل الأنصاري و استاق المال و رجع مرتدا ـ فهذا يتعين قتله كما قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم مقيس ابن صبابة و كما قيل له في مثل العرينيين إنما جزاؤهم أن يقتلوا الآية [ المائدة : 33 ] فلذلك من تكلم بكلام من جنس المحادة و المحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط
و أيضا ما اعتمده الإمام أحمد من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقوا بين المرتد المجرد فقتلوا الأول من غير استتابة و استتابوا الثاني و أمروا باستتابته و ذلك أنه قد ثبت أنهم قتلوا سابه و قد تقدم ذكر بعض ذلك مع أنه قد تقدم عنهم أنهم كانوا يستتبون المرتد و يأمرون باستتابته فثبت بذلك أنهم كانوا لا يقتلون توبة من يسبه من المسلمين لأن توبته لو قبلت لشرعت استتابته كالمرتد فإنه على هذا القول نوع من المرتدين و من خص المسلم بذلك قال : لا يدل ذلك على أن الكافر الساب لا يسقط عنه إسلامه القتل فإن الحربي يقتل من غير استتابة مع أن إسلامه يسقط عنه القتل إجماعا و لم يبلغنا عن أحد من الصحابة أنه باستتابة الساب إلا ما روي عن ابن عباس و في إسناد الحديث عنه مقال و لفظه : [ أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب فإن رجع و إلا قتل ](2/127)
و هذا ـ و الله أعلم ـ فيمن كذب بنبوة شخص من الأنباء و سبه بناء على أنه ليس بنبي ألا ترى إلى قوله [ فقد كذب برسول الله عليه الصلاة و السلام و لا ريب أن من كذب بنبوة بعض الأنبياء و سبه على ذلك ثم تاب قبلت توبته كمن كذب ببعض آيات القرآن فإن هذا أظهر أمره فهو كالمرتد أما من كان يظهر الإقرار بنبوة النبي ثم أظهر سبه فهذا هو مسألتنا
يؤيد هذا أنا قد روينا عنه أنه كان يقول : [ ليس لقاذف أزواج النبي عليه الصلاة و السلام توبة و قاذف غيرهن له توبة ] و معلوم أن ذلك رعاية لحق رسول الله عليه الصلاة و السلام فعلم أن مذهبه أن ساب النبي عليه الصلاة و السلام و قاذفه لا توبة له و أن وجه الرواية الأخرى عنه إن صحت ما ذكرناه أو نحوه
و أيضا فإن سبه أو شتمه ممن يظهر الإقرار بنبوته على فساد اعتقاده و كفره به بل هو دليل على الاستهانة به و الاستخفاف بحرمته فإن من وقر الإيمان به في قلبه موجب لإكرامه و إجلاله لم يتصور منه ذمه و سبه و التنقص به و قد كان من أقبح المنافقين نفاقا : من يستخف بشتم النبي عليه الصلاة و السلام كما روى عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله عليه الصلاة و السلام جالسا في ظل حجرة من حجر نسائه في نفر من المسلمين قد كان تقلص عنهم الظل فقال : سيأتيكم إنسانا ينظر بعين شيطان فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه النبي عليه الصلاة و السلام فقال : علام تشتمني أنت و فلان و فلان ؟ دعاهم بأسمائهم فانطلق فجاء بهم ن فحلفوا له و اعتذروا إليه ] فأنزل الله تبارك و تعالى : { يحلفون لكم لترضوا عنهم } الآية [ التوبة : 96 ](2/128)
رواه أبو مسعود ابن الفرات و رواه الحاكم في صحيحه و قال : فأنزل الله تعالى { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له } الآية [ المجادلة : 18 ] و إذا ثبت أنه كافر به فإظهار الإقرار برسالته بعد ذلك لا يدل على زوال ذلك الكفر و الاستهانة لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى الظاهر قد علم أن الباطن بخلافه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 352 ]
و لهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه و إن شهد عنده بذلك العدول و يجوز له أن يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها و ذلك أيضا لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه ـ مثل أن يقول لمن هو أكبر منه [ هذا ابني ] ـ لم يثبت نسبة و لا ميراثه باتفاق العلماء و كذلك الأدلة الشرعية ـ مثل خبر العدل الواحد مثل الأمر و النهي و العموم و القياس ـ يجب اتباعها إلا أن يقوم دليل أقوى منها يدل على أن باطنها مخالف لظاهرها و نظائر هذا كثيرة
فإذا علمت هذا فنقول : هذا الرجل قد قام الدليل على فساد عقيدته و تكذيبه به و استهانته له فإظهاره الإقرار برسالته الآن ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا و هذا القدر بطلت دلالته فلا يجوز الاعتماد عليه و هذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق وهو مذهب أهل المدينة و مالك و أصحابه و الليث بن سعد و هو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة و هو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه عنهما أنه يستتاب و هو المشهور عن الشافعي
و قال أبو يوسف آخرا : أقتله من غير استتابة لكن إن تاب قبل أن أقتله قبلت توبته و هذا أيضا الرواية الثالثة عن أحمد(2/129)
و على هذا المأخذ فإذا كان الساب قد تكرر منه السب و نحوه مما يدل على الكفر اعتضد السب بدلالات أخر من الاستخفاف بحرمات الله و الاستهانة بفرائض الله و نحو ذلك من دلالات النفاق و الزنديق كان ذلك أبلغ في ثبوت زندقته و كفره و في أن لا يقبل منه مجرد ما يظهر من الإسلام مع ثبوت هذه الأمور و ما ينبغي أن يتوقف في قتل مثل هذا و في أن لا يسقط عنه القتل بما يظهر من الإسلام إذ توبة هذا بعد أخذه لم تجدد له حالا لم تكن قبل ذلك فكيف تعطل الحدود بغير موجب ؟ نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال و الأعمال ما يدل على حسن الإسلام و كف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال و فيه خلاف بين أهل القول سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره
و على مثل هذا من هو أخف منه ممن لم يظهر نفاقه قط تحمل آيات التوبة من النفاق و على الأول تحمل آيات إقامة الحد
ثم من أسقط القتل عن الذمي إذا أسلم قال : بهذا يظهر الفرق بينه و بين الكافر إذا أسلم فإنه كان يظهر لدين يبيح سبه أو لا يمنعه من سبه فأظهر دين الإسلام الذي يوجب تعزيره و توقيره فكان ذلك دليلا على صحة انتقاله و لم يعارضه ما يخالف فوجب العمل به و هذه الطريقة مبنية على عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مع عدم ظهور دليل الإسلام و هو من القياس الجلي
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 353 ]
و يدل على جواز قتل الزنديق و المنافق من غير استتابة قوله تعالى : { و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني ـ إلى قوله ـ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } [ التوبة : 49 ـ 52 ](2/130)
قال أهل التفسير : أو بأيدينا بالقتل : إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم و هو كما قالوا لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم و لو كان المنافق يجب قبول ما يظهر من التوبة بعد ما ظهر نفاقه و زندقته لم يمكن أن يتربص بهم أن يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده أو بأيدينا لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة
و قال قتادة و غيره : قوله : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون ـ إلى قوله سنعذبهم مرتين } [ التوبة : 101 ] قالوا : في الدنيا القتل و في البرزخ عذاب القبر
و مما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] و قوله سبحانه : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم ـ إلى قوله ـ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } [ التوبة : 96 ] و كذلك قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] و قوله سبحانه : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون } [ المنافقون : 2 ] و قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم و لا منهم و يحلفون على الكذب و هم يعلمون ـ إلى قوله تعالى ـ اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ـ إلى قوله تعالى ـ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } [ المجادلة : 14 ـ 18 ]
دلت هذه الآيات كلها على أن المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالإيمان الكاذبة و ينكرون أنهم كفروا و يحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر(2/131)
و ذلك دليل على أنهم يقتلون إذا ثبت ذلك عليهم بالبينة لوجوه :
أحدها : أنهم لو كانوا إذا أظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا إلى الحلف و الإنكار و لكانوا يقولون : قلنا و قد تبنا فعلم أنهم كانوا يخافون إذا ظهر ذلك عليهم أنهم يعاقبون من غير استتابة
الثاني : أنه قال تعالى : { اتخذوا أيمانهم جنة } [ المنافقون : 2 ] و اليمين إنما تكون جنة إذا لم نأت ببينة عادلة تكذبها فإذا كذبتها بينة عادلة انخرقت الجنة فجاز قتلهم ولا يمكنه أن يجتن بعد ذلك إلا بجنة من جنس الأولى و تلك جنة مخروقة
الثالث : أن الآيات دليل على أن المنافقين إنما عصم دماءهم الكذب و الإنكار و معلوم أن ذلك إنما يعصم إذا لم تقم بينة بخلافه و لذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه و سلم و يدل على ذلك قوله سبحانه : { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم جهنم و بئس المصير يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر } الآية [ التوبة : 74 ] و قوله تعالى في موضع آخر : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التحريم : 3 ] قال الحسن و قتادة : بإقامة الحدود عليهم و قال ابن مسعود : [ بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ] و عن ابن عباس و ابن جريح : [ باللسان و تغليظ الكلام و ترك الرفق ](2/132)
و وجه الدليل أن الله أمر رسول الله عليه الصلاة و السلام بجهاد المنافقين كما أمره بجهاد الكافرين و أن جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة فإنه ما لم يظهر منه شيء البتة لم يكن لنا سبيل عليه فإذا ظهر منه كلمة الكفر فجهاده القتل و ذلك يقتضي أن لا يسقط عنه بتجديد الإسلام له ظاهرا لأنا لو أسقطنا عنهم القتل بما أظهره من الإسلام لكانوا بمنزلة الكفار و كان جهادهم من حيث هم كفار فقط لا من حيث هم منافقون و الآية جهادهم لأنهم صنف غير الكفار لا سيما قوله تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التوبة : 73 ] و يقتضي جهادهم من حيث هم منافقون لأن تعليق الحكم باسم مشتق مناسب يدل على أن موضع الاشتقاق هو العلة فيجب أن يجاهد لأجل النفاق كما يجاهد الكافر لأجل الكفر و معلوم أن الكافر إذا أظهر التوبة من الكفر كان تركا له في الظاهر و لا يعلم ما يخالفه
أما المنافق فإذا أظهر الإسلام لم يكن تركا للنفاق لأن ظهور هذه الحال منه لا ينافي النفاق و لأن المنافق إذا كان جهاده بإقامة الحد عليه كجهاد الذي في قلبه مرض و هو الزاني إذا زنى لم يسقط عنه حده إذا أظهر التوبة بعد أخذه لإقامة الحد عليه كما قد عرف و لأنه لو قبلت علانيتهم دائما مع ثبوت ضدها لم يكن إلى الجهاد على النفاق سبيل فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده
و يدل على ذلك قوله : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل } [ الأحزاب : 62 ](2/133)
دلت هذه الآية على المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم و أنهم لا يجاورنه بعد الإغراء بهم إلا قليلا و أن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا و أصيبوا أسروا و قتلوا و إنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوما لا يمكن قتلهم
و كذلك قال الحسن : [ أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه و أسروه ] و قال قتادة : [ ذكرنا لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموا ] و لو كان إظهار التوبة بعد اظهار النفاق مقبولا لم يكن أخذ المنافق و لا قتله لتمكنه من إظهار التوبة لا سيما إذا كان كلما شاء أظهر النفاق ثم أظهر التوبة و هي مقبولة منه
يؤيد ذلك أن الله تبارك و تعالى جعل جزائهم أن يقتلوا و لم يجعل جزاءهم أن يقاتلوا و لم يستثن حال التوبة كما استثناه من قتل المحاربين و قتل المشركين فإنه قال : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث و وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] و قال في المحاربين : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ـ إلى قوله تعالى ـ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 33 ] فعلم أنهم يقتلون من غير استتابة و أنه لا يقبل منهم ما يظهرونه من التوبة(2/134)
و يوضح ذلك انه جعل انتهائهم النافع قبل الإغراء بهم و قبل الأخذ و التقتيل و هناك جعل التوبة بعد ذكر الحصر و الأخذ و القتل فعلم أن الانتهاء بعد الإغراء بهم لا ينفعهم كما لا تنفع المحارب التوبة بعد القدرة عليه و إن نفعت المشرك من مرتد وأصلي التوبة بعد القدرة عليه و قد أخبر سبحانه أن سنته فيمن لم يتب عن النفاق حتى قدر عليه أن يؤخذ و يقتل و أن هذه السنة لا تبديل لها و الانتهاء في الآية إما أن يعني به الانتهاء عن النفاق بالتوبة الصحيحة أو الانتهاء عن إظهاره عند شياطينه و عند بعض المؤمنين
و المعنى الثاني أظهر فإن من المنافقين من لم ينته عن إسرار النفاق حتى مات النبي صلى الله عليه و سلم و انتهوا عن إظهاره حتى كان في آخر الأمر لا يكاد أحمد يجترئ على إظهار شيء من النفاق نعم الانتهاء يعم القسمين فمن انتهى عن إظهاره فقط أو عن إسراره و إعلانه خرج من وعيد هذه الآية و من أظهر لحقه وعيدها
و مما يشبه ذلك قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر ـ إلى قوله تعالى ـ فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما قي الدنيا و الآخرة } [ التوبة : 74 ] فإنه دليل على أن المنافق إذا لم يتب عذبه الله في الدنيا و الأخرة و كذلك قوله تعالى : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون ـ إلى قوله ـ سنعذبهم مرتين } [ التوبة : 101 ]
و أما قوله : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة } [ الأحزاب : 60 ] فقد قال أبو رزين : [ هذا شيء واحد هم المنافقون ] و كذلك قال مجاهد : [ كل هؤلاء منافقون ] فيكون من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى : { و جبريل و ميكال } [ البقرة : 98 ] و قال سلمة بن كهيل و عكرمة : [ الذين في قلوبهم مرض أصحاب الفواحش و الزناة ] و معلوم أن من أظهر الفاحشة لم يكن بد من إقامة الحد عليه فكذلك من أظهر النفاق(2/135)
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 358 ]
و يدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين عن علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنه قد شهد بدرا و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] فدل على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم على عمر استحلال ضرب عنق المنافق و لكن أجاب بأن هذا ليس بمنافق و لكنه من أهل بدر المغفور لهم فإذا أظهر النفاق الذي لا ريب أنه نفاق فهو مباح الدم
و عن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم من نومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام و هو على المنبر [ من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا و لقد ذكروا رجلا ما عملت عليه إلا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال : يا رسول الله أنا و الله أعذرك منه : إن كان من الأوس ضربنا عنقه و إن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كانت أم حسان بنت عمه من فخذه و كان رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله و لا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم على المنبر فلم يزل النبي صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا و سكت ] متفق عليه(2/136)
و في الصحيحين عن عمرو عن جابر بن عبد الله قال : غزونا مع رسول الله و قد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا و كان من المهاجرين رجل لعاب فكسع انصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا و قال الأنصاري : يا للأنصار و قال المهاجري : يا للمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما بال دعوى الجاهلية ؟ ثم قال : ما شأنهم ؟ فأخبرهم بكسعة المهاجري الأنصاري قال : فقال النبي عليه الصلاة و السلام : دعوها فإنها خبيثة و قال عبد الله بن أبي ابن سلول : أقد تداعوا علينا ؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليحرجن الأعز منها الأذل قال عمر : ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي عليه الصلاة و السلام [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ](2/137)
و ذكر أهل التفسير و أصحاب السير أن هذه القصة كانت في غزوة بني المصطلق : [ اختصم رجل من المهاجرين و رجل من الأنصار حتى غضب عبد الله ابن أبي و عنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حديث السن و قال عبد الله ابن أبي : أفعلوها ؟ قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا و الله ما مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله عليه الصلاة و السلام ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أمواكم أما و الله لئن أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم و لأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم و يلحقوا بعشائرهم و مواليهم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم : أنت و الله الذليل القليل المبغض في قومك و محمد في عز من الرحمن و مودة من المسلمين و الله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم بها إلى النبي عليه الصلاة و السلام و ذلك بعد فراغه من الغزوة و عنده عمر بن الخطاب فقال : دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال : [ إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب ] فقال عمر : فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن معاذ أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتلوه فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام [ فكيف يا عمر ؟ إذا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه لا و لكن أذن بالرحيل ] و ذلك في ساعة لم يكن رسول الله عليه الصلاة و السلام يرتحل فيها وأرسل النبي صلى الله عليه و سلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال : أنت صاحب هذا الكلام ؟ فقال عبد الله : و الذي أنزل عليك الكتاب بالحق ما قلت من هذا شيئا و إن زيدا لكاذب فقال من حضر من الأنصار : يا رسول الله شيخنا و كبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكونون هذا الغلام و هم في(2/138)
حديثه و لم يحفظ ما قال فغدره رسول الله صلى الله عليه و سلم و فشت الملامة في الأنصار لزيد و كذبوه قالوا : و بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي و كان من فضلاء الصحابة ـ ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني و إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال له النبي عليه الصلاة و السلام : [ بل نرفق به و نحسن صحبته ما بقي معنا ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه و لكن بر أباك و أحسن صحبته ] و ذكروا القصة قالوا : و في ذلك نزلت سورة المنافقين ]
و قد أخرجا في الصحيحين عن زيد بن أرقم قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله و قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبي عليه الصلاة و السلام بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا : كذب زيد يا رسول الله قال : فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله تصديقي { إذا جاءك المنافقون } [ سورة المنافقون ] قال : ثم دعاهم النبي صلى الله عليه و سلم ليستغفر لهم فلووا رؤسهم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 361 ](2/139)
ففي هذه القصة بيان أن قتل المنافق جائز من غير استتابة و إن أظهر إنكار ذلك القول و تبرأ منه و أظهر الإسلام و إنما مع النبي صلى الله عليه و سلم من قتله ما ذكره من تحدث الناس أنه يقتل أصحابه لأن النفاق لم يثبت عليه بالبينة و قد حلف أنه ما قال و لإنما علم بالوحي و خبر زيد بن أرقم و أيضا لما خافه من ظهور فتنة بقتله و غضب أقوام يخاف افتتانهم بقتله
و ذكر بعض أهل التفسير أن النبي صلى الله عليه و سلم عد المنافقين الذين و قفوا له على العقبة في غزوة تبوك ليكتفوا به فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال [ أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالدبيلة ]
و ذكر بعضهم أن رجلا من المنافقين خاصم رجلا من اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى النبي عليه الصلاة و السلام لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق و قال : انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب فأقبل إلى عمر فقال اليهودي : اختصمت أنا و هذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه و زعم أنه مخاصم إليك و تعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : نعم فقال لهما : رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت فأخذ السيف و اشتمل عليه ثم خرج به إليهما فضرب به المنافق حتى برد فقال : هكذا أقضى بين من لم يرض بقضاء الله و قضاء رسوله فنزل قوله : { ألم تر إلى الذين يزعمون } الآية [ النساء : 6 ] و قال جبريل : إن عمر فرق بين الحق و لباطل فسمى الفاروق و قد تقدمت هذه القصة من وجهين(2/140)
ففي هذه الأحاديث دلالة على أن قتل المنافق كان جائزا إذ لولا ذلك لأنكر النبي عليه الصلاة و السلام أن الدم معصوم بالإسلام و لم يعلل ذلك بكراهية غضب عشائر المنافقين لهم و أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه و أن يقول القائل : لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم لأن الدم إذا كان معصوما كان هذا الوصف عديم التأثير في عصمة دم المعصوم و لا يجوز تعليل الحكم بوصف لا أثر له ن و نزل تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم و كما أنه دليل على القتل من غير استتابة على ما لا يخفى
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 362 ]
فإن قيل : فلم لم يقتلهم النبي عليه الصلاة و السلام مع علمه بنفاق بعضهم و قبل علانيتهم ؟
قلنا : إنما ذاك لوجهين :
أحدهما : أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة بل كانوا يظهرون الإسلام و نفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيحلفون بالله أنهم ما قالوها أو لا يحلفون و تارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة و الجهاد و استثقالهم للزكاة و ظهور الكراهة منهم لكثير من أحكام الله و عامتهم يعرفون في لحن القول كما قال الله { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ؟ و لو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم و لتعرفنهم في لحن القول } [ محمد : 30 ](2/141)
فأخبر سبحانه أنه لو شاء لعرفهم رسوله بالسيماء في وجوههم ثم قال : { و لتعرفنهم في لحن القول } فأقسم أنه لابد أن يعرفهم في لحن القول و منهم من كان يقول القول أو يعمل العمل فينزل القرآن يخبر أن صاحب ذلك القول و العمل منهم كما في سورة براءة و بينهم من كان المسلمون أيضا يعلمون كثيرا منهم بالشواهد و الدلالات و القرائن و الأمارات و منهم من لم يكن يعرف كما قال تعالى : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } [ التوبة : 101 ] ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام و يحلفون أنهم مسلمون و قد اتخذوا أيمانهم جنة و إذا كانت هذه حالهم فالنبي عليه الصلاة و السلام لم يكن يقيم الحدود بعلمه و لا بخبر الواحد و لا بمجرد الوحي و لا بالدلائل و الشواهد حتى يثبت الموجب للحد ببينه أو لإقرار ألا ترى كيف أخبر عن المرأة الملاعنة أنها إن جاءت بالولد على نعت كذا و كذا فهو للذي رميت به و جاءت به على النعت المكروه فقال : [ لولا الأيمان لكان لي و لها شأن ] و كان بالمدينة امرأة تعلن الشر فقال : [ لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها ] و قال للذين اختصموا إليه : [ إنكم تختصمون إلي و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ] فكان ترك قتلهم ـ مع كونهم كفارا ـ لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية
و يدل على هذا أنه لم يستتبهم على التعيين و من المعلوم أن أحسن حال من ثبت نفاقه و زندقته أن يستتاب كالمرتد فإن تاب و إلا قتل و لم يبلغنا أنه استتاب واحدا بعينه منهم فعلم أن الكفر و الردة لم تثبت على واحد بعينه ثبوتا يوجب أن يقتل كالمرتد و لهذا تقبل علانيتهم و نكل سرائهم إلى الله(2/142)
فإذا كانت هذه حال من ظهر نفاقه بغير البينة الشرعية فكيف حال من لم يظهر نفاقه ؟ و لهذا قال عليه الصلاة و السلام : [ إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس و لا أشق بطونهم ] لما استؤذن في قتل ذي الخويصرة و لما استؤذن أيضا في قتل رجل من المنافقين قال : [ أليس يشهد أن لا إله إلا الله ؟ ] قيل : بلى قال [ أليس يصلي ؟ ] قيل : بلى قال : [ أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ]
فاخبر عليه الصلاة و السلام أنه نهي عن قتل من أظهر الإسلام من الشهادتين و الصلاة ـ و إن ذكر بالنفاق و رمي به و ظهرت عليه دلالته ـ إذا لم يثبت بحجة شرعية أنه أظهر الكفر
و كذلك قوله في الحديث الآخر : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ] معناه أني أمرت أن أقبل منهم ظاهر الإسلام و أكل بواطنهم إلى الله و الزنديق و المنافق إنما يقتل إذا تكلم بكلمة الكفر و قامت عليه بذلك بينة و هذا حكم بالظاهر لا بالباطن و بهذا الجواب يظهر فقه المسألة
الوجه الثاني : أنه عليه الصلاة و السلام كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم و قد بين ذلك حين قال : [ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] و قال : [ إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب ] فإنه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لأوشك أن يظن الظان أنه إنما قتلهم لأغراض و أحقاد و إنما قصده الاستعانة بهم على الملك كما قال : [ أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم ] و أن يخاف من يريد الدخول في الإسلام أن يقتل مع إظهاره الإسلام كما قتل غيره(2/143)
و قد كان أيضا يغضب لقتل بعضهم قبيلته و أناس آخرون فيكون ذلك سببا للفتنة و اعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرض سعد بن معاذ بقتله خاصم له أناس صالحون و أخذتهم الحمية حتى سكتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد بين ذلك رسول الله عليه الصلاة و السلام لما استأذنه عمر في قتل ابن أبي قال أصحابنا : و نحن الآن إذا خفنا مثل ذلك كففنا عن القتل
فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص و العام أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام و ارتداد آخرين عنه و إظهار قوم من الحرب و الفتنة ما يربي فساده على فساد ترك قتل منافق و هذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا إلا في شيء واحد و هو أنه صلى الله عليه و سلم ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتف اليوم
و الذي يبين حقيقة الجواب الثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كان بمكة مستضعفا هو و أصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكف أيديهم و الصبر على أذى المشركين فلما هاجروا إلى المدينة و صار له دار عزة و منعة أمرهم بالجهاد و بالكف عمن سالمهم و كف يده عنهم لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذا رأوا أن بعض من دخل فيه يقتل و في مثل هذه الحال نزل قوله تعالى { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم و توكل على الله و كفى بالله وكيلا } [ الأحزاب : 48 ](2/144)
و هذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى الكافرين و المنافقين له فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة و لم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة و دخلت العرب في دين الله قاطبة ثم أخذ النبي عليه الصلاة و السلام في غزوة الروم و أنزل الله تبارك و تعالى سورة براءة و كمل شرائع الدين من الجهاد و الحج و الأمر بالمعروف فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر و لما نزلت براءة أمره الله بنبذ العهود التي كانت للمشركين و قال فيها : { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] و هذه ناسخة لقوله تعالى : { و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] و ذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد و لم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأن محمدا يقتل أصحابه فأمره الله بجهادهم و الإغلاظ عليهم
و قد ذكر أهل العلم أن آية الأحزاب منسوخة بهذه الآية و نحوها و قال في الأحزاب : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا } الآية [ الآحزاب : 61 ] فعلم أنهم كانوا يفعلون أشياء إذ ذاك إن لم ينتهوا عنها أقبلوا عليها في المستقبل لما أعز الله دينه و نصر رسوله
فحيث ما كان للمنافق ظهور و تخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه علمنا بآية : { دع أذاهم } [ الأحزاب : 48 ] كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم و الصفح و حيث ما حصل القوة و العز خوطبنا بقوله : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التوبة : 73 ](2/145)
فهذا يبين أن الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسوله عليه الصلاة و السلام إذا لا نسخ بعده و لم ندع أن الحكم تغير بعده لتغير المصلحة من غير وحي نزل فإن هذا تصرف في الشريعة و تحويل لها بالرأي و دعوى أن الحكم المطلق كان لمعنى و قد زال و هو غير جائز كما قد نسبوا ذلك إلى من قال : [ إن حكم المؤلفة انقطع و لم يأت على انقطاعه بكتاب و لا سنة سوى ادعاء تغير المصلحة ]
و يدل على المسألة ما روى أبو إدريس قال : [ أتي علي رضي الله عنه بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا فقامت عليهم البينة العدول قال : فقتلهم و لم يستتبهم قال و أتي برجل كان نصرانيا و أسلم ثم رجع عن الإسلام قال : فسأله فأقر بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل له : كيف تستتيب هذا و لم تستتب أولئك ؟ قال : إن هذا أقر بما كان منه و إن أولئك لم يقروا و جحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم أستتبهم ] رواه الإمام أحمد
و روي عن أبي إدريس قال : أتي علي برجل قد تنصر فاستتابة فأبى أن يتوب فقتله و أتي برهط يصلون القبلة و هم زنادقة و قد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا و قالوا : ليس لنا دين إلا الإسلام فقتلهم و لم يستتبهم ثم قال : أتدرون لم استتبت هذا النصراني ؟ استتبته لأنه أظهر دينه و أما الزنادقة الذي قامت عليهم البينة و جحدوني فإنما قتلهم لأنهم جحدوا و قامت عليهم البينة
فهذا من أمير المؤمنين علي بيان أن كل زنديق كتم زندقته و جحدها حتى قامت عليه البينة قتل و لم يستتب و أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة(2/146)
و يدل على ذلك : قوله تعالى : { و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة ـ إلى قوله ـ و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا } [ التوبة : 102 ] فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين و لهذا الحديث قال الإمام أحمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد : [ ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحد فلا توبة له ] قال القاضي أبو يعلي و غيره : [ و إذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته ]
لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر و لا يظهره فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته و لهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا
و قد يستدل على المسألة بقوله تعالى : { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات } الآية [ النساء : 18 ] و روى الإمام أحمد بإسناده عن أبي العالية في قوله تعالى { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } [ النساء : 17 ] قال : هذه في أهل الإيمان { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن } [ النساء : 18 ]
قال : هذه في أهل النفاق : { و لا الذين يموتون و هم كفار } [ النساء : 18 ] قال : هذه في أهل الشرك هذا مع أنه الراوي عن أصحاب محمد عليه الصلاة و السلام فيما أظن أنهم قالوا : كل من أصاب ذنبا فهو جاهل بالله و كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب(2/147)
و يدل على ما قال أن المنافق إذا أخذ ليقتل و رأى السيف فقد حضره الموت بدليل دخول مثل هذا في عموم قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } [ البقرة : 180 ] و قوله تعالى : { بينكم إذا حضر أحدكم الموت } [ المائدة : 106 ] و قد قال حين حضره الموت : { إني تبت الآن } فليست له توبة كما ذكره الله سبحانه نعم إن تاب توبة صحيحة فيما بينه و بين الله لم يكن ممن قال : { إني تبت الآن } بل يكون ممن تاب عن قريب لأن الله سبحانه إنما نفى التوبة عمن حضره الموت و تاب بلسانه فقط و لهذا قال في الأول : { ثم يتوبون } و قال هنا : { إني تبت الآن } فمن قال : [ إني تبت ] قبل حضور الموت أو تاب توبة صحيحة بعد حضور أسباب الموت صحت توبته
و ربما استدل بعضهم بقوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } الآيتين [ غافر : 84 ، 85 ] و بقوله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق } الآية [ يونس : 90 ] و قوله سبحانه : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها } الآية [ يونس : 98 ] فوجه الدلالة أن عقوبة الأمم الخالية بمنزلة السيف للمنافقين ثم أولئك إذا تابوا بعد معانيه العذاب لم ينفعهم فكذلك المنافق و من قال هذا فرق بينه و بين الحربي بأنا لا نقاتله عقوبة له على كفره بل نقاتله ليسلم فإذا أسلم فقد أتى بالمقصود و المنافق إنما يقاتل عقوبة لا ليسلم فإنه لم يزل مسلما و العقوبات لا تسقط بالتوبة بعد مجيء البأس و هذا كعقوبات سائر العصاة فهذه طريقة من يقتل الساب لكونه منافقا
و فيه طريقة أخرى و هي أن سب النبي صلى الله عليه و سلم بنفسه موجب للقتل مع قطع النظر عن كونه مجرد ردة فإنا قد بينا أن موجب القتل و بينا أنه جناية غير الكفر إذا لو كان ردة محضة و تبديلا للدين و تركا له لما جاز للنبي عليه الصلاة و السلام العفو عمن كان يؤذيه كما لا يجوز العفو عن المرتد و لما قتل الذين سبوه و قد عفا عمن قاتل و حارب(2/148)
و قد سذكرنا أدلة أخرى على ذلك فيما تقدم و لأن التنقص و السب قد يصدر عن الرجل مع اعتقاد النبوة و الرسالة لكن لما وجب تعزير الرسول و توقيره بكل طريق غلظت عقوبة من انتهك عرضه بالقتل فصار قتله حدا من الحدود لأن سبه نوع من الفساد في الأرض كالمحاربة باليد لا لمجرد كونه بدل الدين و تركه و فارق الجماعة و إذا كان كذلك لم يسقط بالتوبة كسائر الحدود غير عقوبة الكفر و تبديل الدين قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفقوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ]
فثبت بهذه الآية أن من تاب بعد أن قدر عليه لم تسقط عنه العقوبة و كذلك قال سبحانه : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسب نكالا من الله و الله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } [ المائدة : 39 ]
فأمر بقطع أيديهم جزاء على ما مضى و نكالا عن السرقة في المستقبل منهم و من غيرهم و أخبر أن الله يتوب على من تاب و لم يدرأ القطع بذلك لأن القطع له حكمتان : الجزاء و النكال و التوبة تسقط الجزاء و لا تسقط النكال فإن الجاني متى علم أنه إذا تاب لم يعاقب لم يردع ذلك الفساق و لم يزجرهم عن ركوب العظائم فإن إظهار التوبة و الإصلاح لمقصود حفظ النفس و المال سهل(2/149)
و لهذا لم نعلم خلافا نعتمده أن السارق أو الزاني لو أظهر التوبة بعد ثبوت الحد عليه عند السلطان لم يسقط الحد عنه و قد رجم النبي عليه الصلاة و السلام ماعزا و الغامدية و أخبر بحسن توبتهما و حسن مصيرهما و كذلك لو قيل : [ إن سب النبي صلى الله عليه و سلم يسقط التوبة و تجديد الإسلام ] لم يردع ذلك الألسن عن انتهاك عرضه و لم يزجر النفوس عن استحلال حرمته بل يؤذيه الإنسان بما يريد و يصيب من عرضه ما شاء من أنواع السب و الأذى ثم يجدد إسلامه و يظهر إيمانه و قد ينال المرء من عرضه و يقع منه تنقض له و استهزاء ببعض أقواله أو أعماله و إن لم يكن منتقلا من دين إلى دين فلأنه [ لا ] يصعب على من هذه سبيله كلما نال من عرضه و استخف بحرمته أن يجدد إسلامه بخلاف الردة المجردة عن الدين فإن سقوط القتل فيها بالعود إلى الإسلام لا يوجب اجتراء الناس على الردة أو الانتقال عن الدين [ لأن الانتقال عن الدين ] لا يقع إلا عن شبهة قادحة في القلب أو شهود قامعة للعقل فلا يكون قبول التوبة من المرتد محرضا للنفوس على الردة و يكون ما يتوقعه من خوف القتل زاجرا له عن الكفر فإنه إذا أظهر ذلك لا يتم مقصوده لعلمه بأنه يجبر على العود إلى الإسلام و هنا من فيه استخفاف أو اجتراء أو سفاهة تمكن من انتقاص النبي صلى الله عليه و سلم و عيبه و الطعن عليه كلما شتم يجدد الإسلام و يظهر التوبة(2/150)
و بهذا يظهر أن السب و الشتم يظهر الفساد في الأرض الذي يوجب الحد اللازم من الزنا و قطع الطريق و السرقة و شرب الخمر فإن مريد هذه المعاصي إذا علم أنه تسقط عنه العقوبة إذا تاب فعلها كلما شاء كذلك من يدعوه ضعف عقله أو ضعف دينه إلى الانتقاص برسول الله صلى الله عليه و سلم إذا علم أن التوبة تقبل منه أتى ذلك متى شاء ثم تاب منه و قد حصل مقصوده بما قاله كما حصل مقصود أولئك بما فعلوه بخلاف مريد الردة فإن مقصوده لا يحصل إلا بالمقام عليها و ذلك لا يحصل له إذا قتل إن لم يرجع فيكون ذلك رادعا له و هذا الوجه لا يخرج السب عن أن يكون ردة و لكن حقيقته أنه نوع من الردة يغلظ بما فيه من انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قد تتغلظ ردة بعض الناس بأن ينضم إليها قتل و غيره فيتحتم القتل فيها دون الردة المجردة كما يتحتم القتل في قتل من قطع الطريق لغلظ الجرم و إن لم يتحتم قتل من قتل لغرض آخر فعوده إلى الإسلام يسقط موجب الردة المحضة و يبقى خصوص السب و لابد من إقامة حده كما أن توبة القاطع قبل القدرة عليه تسقط تحتم القتل و يبقى حق أولياء المقتول من القتل أو الدية أو العفو و هذه مناسبة ظاهرة و قد تقدم نص الشارع و تنبيهه على اعتبار هذا المعنى
فإن قيل : تلك المعاصي يدعو إلي الطيع مع صحة الاعتقاد فلو لم يشرع عنها زاجر لتسارعت النفوس إليها بخلاف سب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الطبع لا يدعو إليها إلا بخلل في الإعتقاد أكثر ما يوجب الردة فعلم أن مصدره أكثر ما يكون الكفر فيلزمه عقوبة الكافر و عقوبة الكافر مشروطة بعدم التوبة و إذا لم يكن إليه مجرد باعث طبعي لم يشرع ما يزجر عنه و إن كان حراما كالاستخفاف في الكتاب و الدين و نحو ذلك(2/151)
قلنا : بل قد يكون إليه باعث طبعي غير الخلل ففي الاعتقاد من الكبر الموجب للاستخفاف ببعض أحواله و أفعاله و الغضب الداعي إلى الوقيعة فيه إذا خالف الغرض بعض أحكامه و الشهوة الحاملة على ذم ما يخالف الغرض من أموره و غير ذلك
فهذه الأمور قد تدعو الإنسان إلى نوع من السب له و ضرب من الأذى و الانتقاص و إن لم يصدر إلا مع ضعف الإيمان به كما أن تلك المعاصي لا تصدر أيضا إلا مع ضعف الإيمان و إذا كان كذلك فقبول التوبة ممن هذه حاله يوجب اجتراء أمثاله على أمثال كلماته فلا يزال العرض منهوكا و الحرمة مخفورة بخلاف قبول التوبة ممن يريد انتقالا عن الدين إما إلى دين آخر أو إلى تعطيل فإنه إذا علم أنه يستتاب على ذلك فإن تاب و إلا قتل لم ينتقل بخلاف ما إذا صدر السب عن كافر به ثم آمن به فإن علمه بأنه إذا أظهر السب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف يردعه عن هذا السب إلا أن يكون مريدا للإسلام و متى أراد الإسلام فلإسلام يجب ما كان قبله فليس في سقوط القتل بإسلام الكافر من الطريق إلى الوقيعة في عرضه ما في سقوطه بتجديد إ سلام من يظهر الإسلام
و أيضا فإن سب النبي صلى الله عليه و سلم حق آدمي فلا يسقط بالتوبة كحد القذف و كسب غيره من البشر ثم من فرق بين المسلم و الذمي قال : المسلم قد التزم أن لا يسب و لا يعتقد سبه فإذا أتى ذلك أقيم عليه حده كما يقام عليه حد الخمر و كما يعزر على أكل لحم الميت و الخنزير و الكافر لم يلتزم تحريم ذلك و لا يعتقده فلا تجب عليه إقامة حده كما لا تجب عليه إقامة حد الخمر و لا يعزر على الميت و الخنزير
نعم إذا أظهره نقض العهد الذي بيننا و بينه فصار بمنزلة الحربي فنقتله لذلك فقط لا لكونه أتى حدا يعتقد بحرمته فإذا أسلم سقط عنه العقوبة على الكفر و لا عقوبة عليه لخصوص السب فلا يجوز قتله(2/152)
و حقيقة هذه الطريقة أن سب النبي عليه الصلاة و السلام لما فيه من الغضاضة عليه يوجب القتل تعظيما لحرمته و تعزيرا له و توفيرا و نكالا عن التعرض له و الحد إنما يقام على الكافر فيما يعتقد تحريمه خاصة لكنه إذا أظهر ما يعتقد حله من المحرمات عندنا زجر عن ذلك و عوقب عليه كما إذا أظهر الخمر و الخنزير فإظهار السب إما أن يكون كهذه الأشياء كما زعمه بعض الناس أو يكون نقضا للعهد كمقاتلة المسلمين و على التقديرين فلإسلام يسقط تلك العقوبة بخلاف ما يصيبه المسلم مما يوجب الحد عليه و أيضا فإن الردة على قسمين : ردة مغلظة شرع القتل على خصوصها و كل منهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها و الأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين بل إنما تدل على القسم الأول كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد فيبقى القسم الثاني و قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه و لم يأت نص و لا إجماع لسقوط القتل عنه و القياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الإلحاق
و الذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب و لا سنة و لا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه بل الكتاب و السنة و الإجماع قد فرق بين أنواع المرتدين كما سنذكره و إنما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحدا على تباين أنواعه و يقيس بعضها على بعض فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتد لم يبق إلا القياس و هو فاسد إذا فارق الفرع الأصل بوصف له تأثير في الحكم و قد دل على تأثيره نص الشارع و تنبيهه و المناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة
و تقرير هذا من ثلاثة أوجه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 373 ](2/153)
أحدها : أن دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ـ إلى قوله ـ إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } [ آل عمران : 86 ] و قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه } [ النحل : 106 ] و نحوها ليس فيها إلا توبة من كفر بعد الإيمان فقط دون من انضم إلى كفره مزيد أذى و إضرار و كذلك سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام إنما فيها قبول توبة من جرد الردة فقط و كذلك سنة الخلفاء الراشدين إنما تضمنت قبول توبة من جرد الردة و حارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الأصلي على كفره فمن زعم أن في الأصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة أو غلظها بأي شيء كان فقد أخطأ و حينئذ فقد قامت الأدلة على وجوب قتل الساب و أنه مرتد و لم تدل الأصول على أن مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض
الثاني : أن الله سبحانه قال : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم و أولئك هم الضالون } [ آل عمران : 90 ] فأخبر سبحانه أن من ازداد كفرا بعد إيمانه لن تقبل توبته و فرق بين الكفر المزيد كفرا و الكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القرآن
و هذه الآية إن كان قد قيل فيها إن ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت و إن التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة أو يوم القيامة فلآية أعم من ذلك(2/154)
و قد رأينا سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين ثم إنه أمر بقتل مقيس بن صبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم و أخذ المال و لم يتب قبل القدرة عليه و أمر بقتل العرنيين لما ضموا إلى ردتهم نحوا من ذلك و كذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب و قتل المسلم و أمر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه و الافتراء
و إذا كان الكتاب و السنة قد حكما في المرتدين بحكمين و رأينا أن من ضر و آذى بالردة أذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه و إن تاب مطلقا دون من بدل دينه فقط لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقا و كان الساب من القسم الذي لا يجب أن تقبل توبته كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبي سرح و لأن السب إيذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربة باليد كما تقدم تقريره فيجب أن يتحتم عقوبة فاعله و لأن المرتد المجرد إنما نقتله لمقامه على التبديل فإذا عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الأصلي بإسلامه و هذا الساب أتى من الأذى لله و رسوله ـ بعد المعاهدة على ترك ذلك ـ بما أتى به و هو لا يقتل لمقامه عليه فإن ذلك ممتنع فصار قتله كقتل المحارب باليد
و بالجملة فمن كانت ردته محاربة لله و رسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب أنه من كفر كفرا مزيدا لا تقبل توبته منه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 375 ](2/155)
الوجه الثالث : أن الردة قد تتجرد عن السب و الشتم فلا تتضمنه و لا تستلزمه كما تتجرد عن قتل المسلمين و أخذ أموالهم إذ السب و الشتم إفراط في العداوة و إبلاغ في المحادة مصدره شدة سفه الكافر و حرصه على فساد الدين و إضرار أهله و لربما صدر عمن يعتقد النبوة و الرسالة لكن لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من التوقير و الانقياد فصار بمنزلة إبليس حيث اعتقد ربوبية الله سبحانه بقوله قوله سبحانه [ رب ] و قد أيقن أن الله أمره بالسجود ثم لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من الاستلام و الانقياد بل استكبر و عاند معاندة معارض طاعن في حكمة الآمر
و لا فرق بين من يعتقد أن الله ربه و أن الله أمره بهذا الأمر ثم يقول : إنه لا يطيعه لأن أمره ليس بصواب و لا سداد و بين من يعتقد أن محمدا رسول الله و أنه صادق واجب الاتباع في خبره و أمره ثم يسبه أو يعيب آمره أو شيئا من أحواله أو تنقصه انتقاصا لا يجوز أن يستحقه الرسول و ذلك أن الإيمان قول و عمل فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه و تعالى و الرسالة لعبده و رسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبة من الإجلال و الإكرام ـ الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف و التسفيه و الازدراء بالقول أو بالفعل ـ كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه و كان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد و مزيلا لما فيه من المنفعة و الصلاح إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس و تصلحها فمتى لم توجب زكاة النفس و لا صلاحها فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب و لم تصر صفة و نعتا للنفس و لا صلاحا و إذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة له لم ينفعه فإنه يكون بمنزلة حديث النفس و خواطر القلب و النجاة لا تحصل إلا بيقين في القلب و لو أنه مثقال ذرة
هذا فيما بينه و بين الله و أما في الظاهر فيجري الأحكام على ما يظهره من القول و الفعل(2/156)
و الغرض بهذا التنبيه على أن الاستهزاء بالقلب و الانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده و الاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك
و الغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا و باطنا
هذا مذهب الفقهاء و غيرهم من أهل السنة و الجماعة خلاف ما يقوله بعض الجهمية و المرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة و القول بلا عمل من أعمال القلب مع أنه إنما ينافيه في الظاهر و قد يجامعه في الباطن و ربما يكون لنا إن شاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع
و الغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب كذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين و إرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية و إن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال : الكفر أن لا يقصد أن يكفر
و إذا كذلك فالشارع إذا أمر بقبول توبة من قصد تبديل دينه الحق و غير اعتقاده و قوله فإنما ذاك لأن المقتضي للقتل الاعتقاد الطارئ و إعدام الاعتقاد الأول فإذا عاد ذلك الاعتقاد الإيماني و زال هذا الطارئ كان بمنزلة الماء و العصير : يتنجس بتغيره ثم يزول لتغير فيعود حلالا لأن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها و هذا الرجل لم يظهر مجرد تغير الاعتقاد حتى يعود معصوما بعوده إليه و ليس هذا القول من لوازم تغير الاعتقاد حتى يكون حكمه كحكمه إذ قد يتغير الاعتقاد كثيرا و لا يكون به أذى لله و رسوله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 377 ]
و إضرار المسلمين يزيد على تغير الاعتقاد و يفعله من يظن سلامة الاعتقاد و هو كاذب عند الله و رسوله و المؤمنين في هذه الدعوى و الظن و معلوم أن المفسدة في هذا أعظم من المفسدة في مجرد تغير الاعتقاد من هذين الوجهين :(2/157)
من جهة كونه إضرارا زائدا و من جهة كونه قد يظن أو يقال إن الاعتقاد قد يكون سالما معه فيصدر عمن لا يريد الانتقال من دين إلى دين و يكون فساده أعظم من فساد الانتقال إذ الانتقال قد علم أنه كفر فنزع عنه ما نزع عن الكفر و هذا قد يظن أنه ليس بكفر إلا إذا صدر استحلالا بل هو معصية و هو من أعظم أنواع الكفر فإذا كان الداعي إليه غير الداعي إلى مجرد الردة و المفسدة فيه مخالفة لمفسدة الردة و هي أشد منها لم يجز أن يلحق التائب منه بالتاثب من الردة بالردة لأن من شرط القياس ـ قياس المعنى ـ استواء الفرع و الأصل في حكمة الحكم باستوائهما في دليل الحكمة إذا كانت خفية فإذا كان في الأصل معان مؤثرة يجوز أن تكون التوبة إنما قبلت لأجلها و هي معدومة في الفرع لم يجز إذ لا يلزم من قبول توبة من خففت مفسدة جنايته أو انتفت قبول توبة من تغلظت مفسدته أو بقيت
و حاصل هذا الوجه أن عصمة دم هذا بالتوبة قياسا على المرتد متعذر لوجود الفرق المؤثر فيكون المرتد المنتقل إلى دين آخر و من أتى من القول بما يضر المسلمين و يؤذي الله و رسوله و هو موجب للكفر على نوعين تحت جنس الكافر بعد إسلامه و قد شرعت التوبة في حق الأول فلا يلزم شرع التوبة في حق الثاني لوجود الفارق من حيث الإضرار و من حيث إن مفسدته لا تزول بقبول التوبة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 379 ]
قد تضمن هذه الدلالة على وجوب قتل الساب من المسلمين و إن تاب و أسلم و يوجبه قول من فرق بينه و بين الذمي إذا أسلم و قد تضمن الدلالة على أن الذمي إذا عاد إلى الذمة لم يسقط عنه القتل بطريق الأولى فإن عود المسلم إلى الإسلام أحقن لدمه من عود الذمي إلى ذمته و لهذا عامة العلماء الذين حقنوا دم هذا و أمثاله بالعود إلى الإسلام لم يقولوا مثل ذلك في الذمي إذا عاد إلى الذمة(2/158)
و من تأمل سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام في قتله لبني قريظة و بعض أهل خبير و بعض بني النضير و إجلائه لبني النضير و بني قينقاع بعد أن نقض هؤلاء الذمة و حرصوا على أن يجيبهم إلى عقد الذمة ثانيا فلم يفعل ثم سنة خلفائه و صحابته في مثل المؤذي و أمثاله مع العلم بأنه كان أحرص شيء على العود إلى الذمة لم يسترب في أن القول بوجوب إعادة مثل هذا إلى الذمة قول مخالف للسنة و لإجماع خير القرون و قد تقدم التنبيه على ذلك في حكم ناقض العهد مطلقا و لولا ظهوره لأشبعنا القول فيه و إنما أحلنا على سيرة رسول الله عليه الصلاة و السلام و سنته من له بها علم فإنهم لا يستريبون أنه لم يكن الذي بين النبي عليه الصلاة و السلام و هؤلاء اليهود هدنة مؤقتة و إنما كانت ذمة مؤبدة على أن الدار دار الإسلام و أنه يجري عليهم حكم الله و رسوله فيما يختلفون فيه إلا أنهم لم يضرب عليهم جزية و لم يلزموا بالصغار الذي ألزموه بعد نزول براءة لأن ذلك لم يكن شرع بعد وأما من قال [ إن الساب يقتل و إن تاب و أسلم و سواء كان كافرا أو مسلما ] فقد تقدم دليله على أن المسلم يقتل بعد التوبة و أن الذمي يقتل و إن طلب العود إلى الذمة
و أما قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بالسب و إن أسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق و هي دالة على تحتم قتل المسلم أيضا كما تدل على تحتم قتل الذمي :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 380 ]
الطريقة الأولى : قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم إلا من تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ](2/159)
فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله و رسوله الساعين في الأرض فسادا الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلما أو معاهدا و كل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن كل واحد قد قدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه و حده القتل فيجب قتله سواء تاب أو لم يتب
و الدليل مبني على مقدمتين : إحداهما : أنه داخل في هذه الآية
و الثانية : أن ذلك يوجب قتله إذا أخذ قبل التوبة
أما المقدمة الثانية فظاهرة فإنا لم نعلم مخالفا في أن المحاربين إذا أخذوا قبل التوبة وجب إقامة الحد عليهم و إن تابوا بعد الأخذ و ذلك بين في الآية فإن الله أخبر أن جزاءهم أحد هذه الحدود الأربعة إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك و غيره أحد هذه جزاؤه و جزاء أصحاب الحدود تجب إقامته على الآية لأن جزاء العقوبة إذا لم يكن حقا لآدمي حي ـ بل كان حدا من حدود الله ـ وجب استيفاؤه باتفاق المسلمين و قد قال تعالى في آية السرقة : { فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } [ المائدة : 38 ] فأمر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به إذ العلة المطلوبة يجب أن تكون أبلغ من الحكم و أقوى منه و الجزاء اسم للفعل و اسم لما يجازى به و لهذا قرىء قوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل } [ المائدة : 95 ] بالتنوين و بالإضافة و كذلك الثواب و العقاب و غيرهما و القطع قد يسمى جزاء و نكالا و قد يقال فعل هذه ليجزيه و للجزاء
و لهذا قال الأكثرون : إنه نصب على المفعول له و المعنى أن الله أمر بالقطع ليجزيهم و لينكل عن فعلهم
و قد قيل : إنه نصب على المصدر لأن معنى [ اقطعوا ] اجزوهم و نكلوا(2/160)
و قيل إنه على الحال أي فاقطعوهم مجزين منكلين هم و غيرهم أو جازين منكلين
و بكل حال فالجزاء مأمور به أو مأمور لأجله فثبت أنه واجب الحصول شرعا و قد أخبر أحد الحدود الأربعة فيجب تحصيلها إذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل و معنى المجزي به لأن القتل و القطع و الصلب هي أفعال و هي عين ما يجزي به و ليست أجساما بمنزلة المثل من النعم
يبين ذلك أن لفظ الآية خبر عن أحكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير فيه بين فعله و تركه إذ ليس لله أحكام في أهل الذنوب يخير الإمام بين فعلها و ترك جميعها
و أيضا فإنه قال : { ذلك لهم خزي في الدنيا } و الخزي لا يحصل إلا بإقامة الحدود لا بتعطيلها و أيضا لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له إقامته و تركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى : { و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين } [ النحل : 126 ] و قوله : { و الجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة } [ المائدة : 45 ] و قوله : { ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } [ النساء : 92 ]
و أيضا فالأدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة و الإجماع ظاهرة و لم نعلم مخالفا في وجوب إجراء المحاربين ببعض ما ذكره الله في كتابه و إنما اختلفوا في هذه الحدود : هل يخير الإمام بينها بحسب المصلحة أو لكل جرم جزاء محدود شرعا ؟ كما هو المشهور فلا حاجة إلى الإطناب في وجوب الجزاء لكن نقول : جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة و لا يخير الإمام فيه بين القطع و الإنفاء و إذا كان جزاؤه القتل من هذه الحدود ـ و قد أخذ قبل التوبة ـ وجب إقامة الحد عليه إذا كان من المحاربين بلا تردد
فلنبين المقدمة الأولى و هي أن هذا من المحاربين لله و رسوله الساعين في الأرض فسادا و ذلك من وجوه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 382 ](2/161)
أحدها : ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال : ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : و قوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ] قال : [ كان القوم من أهل الكتاب بينهم و بين النبي صلى الله عليه و سلم عهد و ميثاق فنقضوا العهد و أفسدوا في الأرض ] فخير الله رسوله صلى الله عليه و سلم : إن شاء أن يقتل و إن شاء أن يصلب و إن شاء أن يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف
و أما النفي فهو أن يهرب في الأرض و فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه و لم يؤخذ بما سلف منه
ثم قال في موضع آخر و ذكر هذه الآية : من شهر السلاح في قبة الإسلام و أخاف السبيل ثم ظفر به و قدر عليه فأقام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله و إن شاء صلبه و إن شاء قطع يده و رجله ثم قال : { أو ينفوا من الأرض } يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب { فإن تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ]
و كذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ] قال : [ كان ناس من أهل الكتاب بينهم و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد و ميثاق فقطعوا الكيثاق و أفسدوا في الأرض فخير الله و رسوله أن يقتل إن شاء أو يصلب أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف ] [ و أما النفي فهو أن يهرب في الأرض و لا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه و لم يؤاخذ بما عمل ]
و قال الضحاك : [ أيما رجل مسلم قتل أو أصاب حدا أو مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما أصاب قبل أن يهرب من دم أو غيره أقيم عليه أو أخذ منه ]
ففي هذين الأثرين أنها نزلت في قزم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا العهد و أفسدوا في الأرض(2/162)
و كذلك في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ـ و إن كان لا يعتمد عليه إذا انفرد ـ أنها نزلت في قوم موادعين و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وادع هلال بن عويمر ـ و هو أبو بردة الأسلمي ـ ألا يعينه و لا يعين عليه و من أتاه من المسلمين فهو آمن أن يهاج و من أتى المسلمين منهم فهو آمن أن يهاج و من مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو آمن أن يهاج
قال فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من [ أسلم ] من قوم هلال بن عويمر و لم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم و أخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ن فنزل عليه جبريل بالقصة فيهم فقد ذكر أنها نزلت في قوم نعاهدين ن و لكن من غير أهل الكتاب
و روى عكرمة عن ابن عباس ـ و هو قول الحسن ـ أنها نزلت في المشركين و لعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فإن الكافر الأصلي لا ينطبق عليه حكم الآية
و الذي يحقق أن ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الآية من الأثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى برجل من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين حتى وقعت فتجللها فأمر به عمر فقتل و صلب فكان أول مصلوب في الإسلام و قال : يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد عليه الصلاة و السلام و لا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له و قد رواه عنه عوف بن مالك الأشجعي و غيره كما تقدم و روى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الأشعري قال : مرت امرأة تسير على بغل فنخس علج فوقعت من البغل فبدا بعض عوراتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر : أن أصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون(2/163)
و قد قال أبو عبد الله بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة : [ يقتل هذا نقض العهد و كذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد قيل له : ترى عليه الصلب مع القتل ؟ قال : إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : عمر و أبو عبيدة و عوف بن مالك و من كان في عصرهم من السابقين الأولين قد استحلوا قتل هذا و صلبه و بين عمر أنا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد و أن العهد انتقض بذلك فعلم انهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا أنه من محاربة الله و رسوله و السعي في الأرض فسادا فاستحلوا لذلك قتله و صلبه و إلا فصلب مثله لا يجوز إلا لمن ذكره الله في كتابة
و قد قال آخرون ـ منهم ابن عمر و أنس بن مالك و مجاهد و سعيد بن جبير و عبد الرحمن بن و مكحول و قتادة و غيرهم رضي الله عنهم ـ إنها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام فقتلوا راعي النبي عليه الصلاة و السلام و استاقوا إبل رسول الله صلى الله عليه و سلم و حديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فإن سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله و كذلك كان عامة العلماء على أن الآية عامة في المسلم و المرتد و الناقض كما قال الوازعي في الآية : [ هذا حكم حكمه الله في هذه الأمة على من حارب مقيما على الإسلام أو مرتدا عنه و فيمن حارب من الذمة ]
و قد جاءت آثار صحيحة عن علي و أبي موسى و أبي هريرة و غيرهم رضي الله عنهم تقتضي أن حكم هذه الآية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق و نحوه مقيما على إسلامه و لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة و التابعين و من بعدهم على حد قطاع الطريق بهذه الآية(2/164)
و المقصود هنا أن هذا الاناقض للعهد و المرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة و التبعين و إن كان يدخل فيها بعض من هو مقيم على الإسلام و هذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين و مرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الآية
و مما يدل على أنه قد عني بها ناقضو العهد في الجملة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نفي بني قينقاع و النضير لما نقضوا العهد إلى أرض الحرب و قتل بني قريظة و بعض أهل خيبر لما نقضوا العهد و الصحابة قتلوا و صلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الأمور المضرة فحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم و خلفائه في أصناف ناقضي العهد كحكم الله في الآية ـ مع صلاحه لأن يكون امتثالا لأمر الله فيها دليل على أنهم مزادون منها
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 386 ]
الوجه الثاني : أن ناقض العهد و المرتد المؤذي لا ريب أنه محارب لله و رسوله فإن حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين و محاربة المسلمين محاربة لله و رسوله و هو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق و نحوه لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله و رسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربا لله و رسوله ثم لا يخلو أما أن لا يكون محاربا لله و رسوله حتى يقاتلهم و يمتنع عنهم أو يكون محاربا إذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد و إن لم يقاتلهم و الأول لا يصح لما قدمناه من أن هذا قد نقض العهد و صار من المحاربين و لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال [ أيما معاهد تعاطى سب الأنبياء فهو محارب غادر ]
و عمر و سائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد أن نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل و الصلب فعلم أنه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الأقوال و الأفعال المضرة فهو محارب داخل في هذه الآية(2/165)
فإن قيل : فيلزم من هذا أن يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل إذا أسلم بعد القدرة عليه
قيل : و كذلك نقول و عليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فإنها إذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد و قد قيل فيها : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] علم أن التائب بعد القدرة مبقي على حكم الآية
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 387 ]
الوجه الثالث : أن كل ناقض للعهد فقد حارب الله و رسوله لو لا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلو إما أن يقصر على ما نقض العهد ـ بأن يلحق بدار الحرب أو يضم إلى ذلك فسادا فإن كان الأول فقد حارب الله و رسوله فقط فهذا لم يدخل في الآية و إن كان الثاني فقد حارب و سعى في الأرض فسادا ـ مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يغضب مسلمة على نفسها أو يظهر الطعن في كتاب الله و رسوله و دينه أو يفتن مسلما عن دينه ـ فإن هذا قد حارب الله و رسوله بنقضه العهد ن و سعى في الأرض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين إما دينهم أو دنياهم ن و هذا قد دخل في الآية فيجب أن يقتل و يصلب أو ينفى من الأرض حتى يلحق بأرض الحرب إن لم يقدر عليه أو تقطع يده و رجله إن كان قد قطع الطريق و أخذ المال و لا يسقط عنه ذلك إلا أن يتوب من قبل أن يقدر عليه و هو المطلوب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 388 ]
الوجه الرابع : أن هذا الساب محارب لله و رسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية و ذلك لأنه عدو لله و لرسوله و من عادى الله و رسوله فقد حارب الله و رسوله و ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال للذي سبه [ من يكفني عدوي ] ؟ و قد تقدم ذكر من غير وجه و إذا كان عدوا له فهو محارب
و روى البخاري في صحيحه عن [ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تبارك و تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ](2/166)
و في الحديث عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله عليه الصلاة و السلام يقول : [ اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة ]
فإذا كان من عادى واحدا من الأولياء قد بارز الله بالمحاربة فكيف من عادى صفوة الله من أوليائه ؟ فإنه يكون أشد مبارزة له بالمحاربة و إذا كان محاربا لله لأجل عداوته للرسول فهو محارب للرسول بطريق الأولى فثبت أن الساب للرسول محارب لله و رسوله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 389 ]
فإن قيل : فلو سب واحدا من أولياء الله غير الأنبياء فقد بارز الله بالمحاربة فإنه إذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم و إذا عاداه فقد بارز الله بالمحاربة كما نصه الحديث الصحيح و مع هذا لا يدخل في المحاربة
المذكورة في الآية فقد انتقض الدليل و ذلك يوجب صرف المحاربة إلى المحاربة باليد
قيل : هذا باطل من وجوه : أحدها أن ليس كل من سب غير الأنبياء يكون قد عاداهم إذ لا دليل يدل على ذلك و قد قال سبحانه و تعالى : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ] بعد أن أطلق أنه من أذى الله و رسوله فقد لعنه الله في الدنيا و الآخرة فعلم أن المؤمن قد يؤذي بما اكتسب ويكون أذاه بحق كإقامة الحدود و الانتصار في الشتمة و نحو ذلك مع كونه وليا لله و كذا كان واجبا في بعض الأحيان أو جائزا لم يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا له لأن المؤمن يجب عليه أن يوالى المؤمن و لا يعاديه و إن عاقبه عقوبة شرعية كما قال تعالى : { إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا } [ المائدة : 55 ] و قال تعالى : { و من يتول الله و رسوله والذين آمنوا } [ المائدة : 56 ](2/167)
الثاني : أن من سب غير رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد يكون مع السب مواليه من وجه آخر فإن سب المسلم إذا لم يكن بحق كان فسوقا و الفاسق لا يعادي المؤمنين بل يواليهم و يعتقد مع السب للمؤمن أنه يجب موالاته من وجه آخر أما سب النبي صلى الله عليه و سلم فإنه ينافي اعتقاد نبوته و يستلزم البراءة منه و المعاداة له لأن اعتقاد عدم نبوته ـ وهو يقول [ إنه نبي ] يوجب أن يعامل معاملة النبيين ـ و ذلك يوجب أبلغ العدوات له
الثالث : لو فرض أن سب غير النبي عداوة له لكن ليس أحد بعينه يشهد له أنه ولي لله شهادة توجب أن ترتب عليها الأحكام المبيحة للدماء بخلاف الشهادة للنبي بالولاية فإنها بعينه نعم لما كان الصحابة قد يشهد لبعضهم بالولاية خرج في قتل سابهم خلاف مشهور ربما نبينه إن شاء الله تعالى عليه
الرابع : أنه لو فرض أنه عادى وليا علم أنه ولي فإنما يدل على أنه بارز الله بالمحاربة و ليس فيه ذكر محاربة الله و رسوله و الجزاء المذكور في الآية إنما هو لمن حارب الله و رسوله و من سب الرسول فقد عاداه و من عاداه فقد حاربه و قد حارب الله أيضا كما دل عليه الحديث فيكون محاربا لله و رسوله و محاربة الله و رسوله أخص من محاربة الله و الحكم المعلق بالأخص لا يدل على أنه معلق بالأعم و ذلك أن محاربة الرسول تقتضي مشاقته على ما جاء به من الرسالة و ليس في معاداة ولي بعينه مشاقة في الرسالة بخلاف الطعن في الرسول
الخامس : أن الجزاء في الآية لمن حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا و الطاعن في الرسول قد حارب الله و رسوله كما تقدم و قد سعى في الأرض فسادا كما سيأتي و هذا الساب للولي و إن كان قد حارب الله فلم يسع في الأرض فسادا لأن السعي في الأرض فسادا إنما يكون بافساد عام لدين الناس أو دنياهم و هذا إنما يتحقق في الطعن في النبي صلى الله عليه و سلم و لهذا لا يجب على الناس الإيمان بولاية الولي و يجب عليهم الإيمان بنبوة النبي(2/168)
السادس : أن ساب الولي فرض أنه محارب لله و رسوله فخروجه من اللفظ العام لدليل أوجبه لا يوجب أن يخرج هذا الساب للرسول لأن الفرق بين العداوتين ظاهر و القول العام إذا خصت منه صورة لم تخص منه صورة أخرى لا تساويها إلا بدليل آخر
السابع : أن حمله على المحاربة باليد متعذر أيضا في حق الولي لأن من عاداه بيده لم يوجب ذلك أن يدخل في حكم الآية على الإطلاق ـ مثل أن يضربه و نحو ذلك ـ فلا فرق إذا في حقه بين المعاداة باليد و اللسان بخلاف النبي عليه الصلاة و السلام فإنه لا فرق بين أن يعاديه بيد أو لسان فإنه يمكن دخوله في الآية و ذلك مقرر الاستدلال كما تقدم
و إذا ثبت أن هذا الساب محارب لله و رسوله فهو أيضا ساع في الأرض فسادا لأن الفساد نوعان : فساد الدنيا من الدماء و الأموال و الفروج و فساد الدين و الذي يسب رسول الله صلى الله عليه و سلم و يقع في عرضه يسعى ليفسد على الناس دينهم ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم سواء فرضنا أنه أفسد على أحد دينه أو لم يفسد لأنه سبحانه و تعالى إنما قال : { و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ] قيل : إنه نصب على المفعول له أي و يسعون في الأرض للفساد و كما قال : { و إذا تولى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] و السعي هو العمل و الفعل فمن سعى ليفسد أمر الدين فقد سعى في الأرض فسادا و إن خاب سعيه و قيل : إنه نصب على المصدر أو على الحال تقديره سعى في الأرض مفسدا كقوله :
{ و لا تعثوا في الأرض مفسدين } [ البقرة : 60 ] أو كما يقال : جلس قعودا و هذا يقال لكل من عمل عملا يوجب الفساد و إن لم يؤثر لعدم قبول الناس له و تمكينهم إياه بمنزلة قاطع الطريق إذا لم يقتل أحدا و لم يأخذ مالا على أن هذا العمل لا يخلو من فساد في النفوس قط إذا لم يقم عليه الحد(2/169)
و أيضا فإنه لا ريب أن الطعن في الدين و تقبيح حال الرسول في أعين الناس و تنقيرهم عنه من أعظم الفساد كما أن الدعاء إلى تعزيره و توقيره من أعظم الصلاح و الفساد ضد الصلاح كما أن كل قول أو عمل يحبه الله فهو من الصلاح و كل قول أو عمل يبغضه الله فهو من الفساد قال سبحانه و تعالى : { و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 56 ]
يعني الكفر و المعصية بعد الإيمان و الطاعة لكن الفساد نوعان : لازم و هو مصدر فسد يفسد فسادا و متعد و هو اسم مصدر أفسد يفسد إفسادا كما قال تعالى : { سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد }
و هذا هو المراد هنا لأنه قال : { و يسعون في الأرض فسادا } [ المائدة : 33 ]
و هذا إنما يقال لمن أفسد غيره لأنه لو كان الفساد في نفسه فقط لم يقل سعى في الأرض فسادا و هذا إنما يقال في الأرض لما انفصل عن الإنسان كما قال سبحانه و تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب } [ الحديد : 22 ] و قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم } [ فصلت : 53 ] و قال تعالى : { و في الأرض آيات للموقنين و في أنفسكم } [ الذاريات : 21 ]
و أيضا فإن الساب و نحوه انتهك حرمة الرسول و نقص قدره و آذى الله و رسوله و عباده المؤمنين و أجرأ النفوس الكافرة و المنافقة على اصطلام أمر الإسلام و طلب إذلال النفوس المؤمنة و إزالة عز الدين و إسفال كلمة الله و هذا من أبلغ السعي فسادا
و يؤيد ذلك أن عامة ما ذكر في القرآن من السعي في الأرض فسادا و الإفساد في الأرض فإنه قد عني به إفساد الدين فثبت أن هذا الساب محارب لله و رسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 392 ](2/170)
الوجه الخامس : أن المحاربة نوعان : محاربة باليد و محاربة باللسان و المحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد كما تقدم في تقريره في المسألة الأولى و لذلك كان النبي عليه الصلاة و السلام يقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد خصوصا محاربة الرسول الله عليه الصلاة و السلام بعد موته فإنها إنما تكون باللسان و كذلك الإفساد قد يكون باليد و قد يكون باللسان و ما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد فثبت أن محاربة الله و رسوله باللسان أشد و السعي في الأرض لفساد الدين باللسان أوكد فهذا الساب لله و لرسوله أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 393 ]
الوجه السادس : أن المحاربة خلاف المسالمة و المسالمة : أن يسلم كل من المتسالمين من أذى الآخر فمن لم تسلم من يده أو لسانه فليس بمسالم لك بل هو محارب
و معلوم أن محاربة الله و رسوله هي المغالبة على خلاف ما أمر الله به و رسوله إذ المحاربة لذات الله و رسوله محال فمن سب الله و رسوله لم يسالم الله و رسوله لأن الرسول لم يسلم منه بل طعنه في رسول الله مغالبة لله و رسوله على خلاف ما أمر الله به على لسان رسوله و قد أفسد في الأرض كما تقدم فيدخل في الآية و قد تقدم في المسألة الأولى أن هذا الساب محاد لله و رسوله مشاق لله تعالى و رسوله و كل من شاق الله و رسوله فقد حارب الله و رسوله لأن المحاربة و المشاقة سواء فإن الحرب هو الشق و منه سمي المحراب محرابا و أما كونه مفسدا في الأرض فظاهر(2/171)
و اعلم أن كل ما دل على أن السب نقض للعهد فقد دل على أنه محاربة لله و رسوله لأن حقيقة نقض العهد أن يعود الذمي محاربا فلو لم يكن بالسب يعود محاربا لما كان ناقضا للعهد و قد قدمنا في ذلك من الكلام ما لا يليق إعادته لما فيه من الإطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضع فبقي أنه سعى في الأرض فسادا و هذا أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن إظهار كلمة الكفر و الطعن في المرسلين و القدح في كتاب الله و دينه و رسوله و كل سب بينه و بين خلقه لا يكون [ شيء ] أشد منه فسادا و عامة الآي في كتاب الله التي تنهى عن الإفساد في الأرض فإن من أكثر المراد بها الطعن في الأنبياء كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله و الذين آمنوا : { و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } قال تعالى : { ألا إنهم هم المفسدون } [ البقرة : 12 ] و إنما كان إفسادهم نفاقهم و كفرهم و قوله : { لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 56 ] و قوله سبحانه : { و الله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] و قوله : { و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين } [ الأعراف : 142 ] و إذا كان هذا محاربا لله و رسوله ساعيا في الأرض فسادا تناولته الآية و شملته(2/172)
و مما يقرر الدلالة من الآية أن الناس فيها قسمان : منهم من يجعلها مخصوصة بالكفار من مرتد و ناقص عهد و نحوهما و منهم من يجعلها عامة في المسلم المقيم على إسلامه و في غيره و لا أعلم أحدا خصها بالمسلم المقيم على إسلامه فتخصيصها به خلاف الإجماع ثم الذين قالوا إنها عامة قال كثير منهم قتادة و غيره : قوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] هذه لأهل الشرك خاصة فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين و هو لهم حرب فأخذ مالا أو أصاب دما ثم مات من قبل أن يقدر عليه أهدر عنه ما مضى لكن المسلم المقيم على إسلامه محاربته إنما هي باليد لأن لسانه موافق مسالم للمسلمين غير محارب أما المرتد و الناقض للعهد فمحاربته تارة باليد و باللسان أخرى و من زعم أن اللسان لا تقع به محاربة فالأدلة المتقدمة في أول المسألة ـ مع ما ذكرناه هنا ـ تدل على أنه محاربة على أن الكلام في هذا المقام إنما هو بعد أن تقرر أن السب محاربة و نقض للعهد
و اعلم أن هذه الآية آية جامعة لأنواع من المفسدين و الدلالة منها هنا ظاهرة قوية لمن تأملها لا أعلم شيئا يدفعها
فإن قيل : مما يدل على أن المحاربة هنا باليد فقط أنه قال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] و إنما يكون هذا فيمن كان ممتنعا و الشاتم ليس ممتنعا
قيل : الجواب من وجوه :
أحدها : أن المستثنى إذا كان ممتنعا لم يلزم أن يكون المستبقى ممتنعا لجوز أن تكون الآية تعم كل محارب بيد أو لسان ثم استثنى منهم الممتنع إذا تاب قبل القدرة فيبقى المقدور عليه مطلقا و الممتنع إذا تاب بعد القدرة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 395 ]
الثاني : أن كل من جاء تائبا قبل أخذه فقد تاب قبل القدرة عليه(2/173)
سئل عطاء عن الرجل يجيىء بالسرقة تائبا قال : ليس عليه قطع و قرأ { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] و كل من لم يؤخذ فهو ممتنع و لا سيما إذا لم يوجد و لم تقم عليه حجة و ذلك لأن الرجل و إن كان مقيما فيمكنه الاستخفاء و الهرب كما يمكن المصحر فليس كل من فعل جرما كان مقدورا عليه بل قد يكون طلب المصحر أسهل من طلب المقيم إ ذا كان لا يواريه في الصحراء خمر و لا غابة بخلاف المقيم في المصر و قد يكون المقيم له من يمنعه من إقامة الحد عليه و كل من تاب قبل أن يؤخذ و يرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه
و أيضا فإذا تاب قبل أن يعلم به و ثبت الحد عليه فإن جاء بنفسه فقد تاب قبل القدرة عليه لأن قيام البينة ـ و هو في أيدينا ـ قدرة عليه فإذا تاب قبل هذين فقد تاب قبل القدرة عليه قطعا
الثالث : ان المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعا و قد يكون المحارب باليد مستضعفا بين قوم كثيرين و كما أن الذي يخاطر بنفسه بقتال قوم كثيرين قليل فكذلك الذي يظهر الشتم و نحوه من الضرر بين قوم كثيرين قليل و إن الغالب ان القاطع بسيفه لإنما يخرج على من يستضعفه فكذلك الذي يظهر الشتم و نحوه من الساب و نحوه إنما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا مع من لا يتمكن من أخذه و رفعه إلى السلطان و الشهادة عليه
و مما يقرر الاستدلال بالآية من وجهين آخرين :(2/174)
أحدهما : أنها قد نزلت في قوم ممن كفر و حارب بعد سلمة باتفاق الناس فيما علمناه و إن كانت نزلت أيضا فيمن حارب و هو مقيم على إسلامه فالذمي إذا حارب ـ إما بأن يقطع الطريق على المسلمين أو يستكره مسلمة على نفسها و نحو ذلك ـ يصير به محاربا و على هذا إذا تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه و إن كان هذا قد اختلف فيه فإن العمدة على الحجة فالساب للرسول أولى و لا يجوز أن يخص بمن قاتل لأخذ المال فإن الصحابة جعلوه محاربا بدون ذلك و كذلك سبب النزول الذي ذكرناه ليس فيه أنهم قتلوا أحدا لأخذ مال و لو كانوا قتلوا أحدا لم يسقط القود عن قاتله إذا تاب قبل القدرة و كان قد قتله و له عهد كما لو قتله و هو مسلم
و أيضا فقطع الطريق إما أن يكون نقضا للعهد أو يقام عليه ما يقام على المسلم مع بقاء العهد فإن كان الأول فلا فرق بين قطع الطريق و غيره من الأمور التي تضر المسلمين و حينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده ـ و هو القتل ـ إذا تاب بعد القدرة و إن كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي بقطع الطريق و قد تقدم الدليل على فساده ثم إن الكلام هنا إنما هو تفريع عليه فلا يصح المنع بعد التسليم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 396 ](2/175)
الثاني : أن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة و بعدها لأن الحدود إذا رفعت إلى السلطان وجبت و لم يكن العفو عنها و لا الشفاعة بخلاف ما قبل الرفع و لأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار و التوبة بعد القدرة توبة إكراه و اضطرار بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق و توبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس و توبة من حضره الموت فقال : إني تبت الآن فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب و لأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقط الحد لتعطلت الحدود و انبثق سد الفساد فإن كل مفسد يتمكن إذا أخذ أن يتوب بخلاف التوبة قبل القدرة فإنها تقطع دابر الشر من غير فساد فهذه معان مناسبة قد شهد لها الشارع باعتبار في غير هذا الأصل فتكون أوصافا مؤثرة أو ملائمة فيعلل الحكم بها و هي بعينها موجودة في الساب فيجب أن يسقط القتل عنه بالتوبة بعد الأخذ لأن إسلامه توبة منه و كذلك توبة كل كافر قال سبحانه و تعالى : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة } [ التوبة : 5 ، 11 ] في موضعين و الحد قد وجب بالرفع و هذه توبة إكراه أو اضطرار و في قبولها تعطيل للحد و لا ينقض هذا علينا بتوبة الحربي الأصلي فإنه لم يدخل في هذه الآية و لأنه إذا تاب بعد الأسر لم يخل سبيله بل يسترق و يستعبد و هو إحدى العقوبتين اللتين كان يعاقب بإحداهما قبل الإسلام و الساب لم يكن عليه إلا عقوبة واحدة فلم يسقط كقاطع الطريق و المرتد المجرد لم يسع في الأرض فسادا فلم يدخل في الآية و لا يرد نقضا من جهة المعنى لأنا إنما نعرضه للسيف ليعود إلى الإسلام و إنما نقتله لمقامه على تبديل الدين فإذا أظهر الإعادة إليه حصل المقصود الذي يمكننا تحصيله و زال المحذور الذي يمكننا إزالته و إنما تعطيل هذا الحد أن يترك على ردته غير مرفوع إلى الإمام و لم يقدح كونه مكرها بحق في غرضنا لأنا إنما طلبنا منه أن يعود إلى الإسلام طوعا أو كرها كما لو قاتلناه على الصلاة أو الزكاة فبذلها طوعا أو كرها حصل(2/176)
مقصودنا و الساب و نحوه المؤذين إنما نقتلهم لما فعلوه من الأذى و الضرر لا لمجرد كفرهم فإنا قد أعطيناهم العهد على كفرهم فإذا أسلم بعد الأخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده
و أما الأذى و الضرر فهو إفساد في الأرض قد مضى منه كالإفساد بقطع الطريق لم يزل إلا بتوبة اضطرار لم تطلب منه و لم يقتل ليفعل بل قوتل أولا ليبذل واحدا من الإسلام أو إعطاء الجزية طوعا أو كرها على أنه لا يضر المسلمين فضرهم فاستحق أن يقتل فإذا تاب بعد القدرة عليه و أسلم كانت توبة محارب مفسد مقدور عليه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 398 ]
الطريقة الثانية : قوله سبحانه : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } الآيات [ التوبة : 12 ]
و قد قرأ ابن عامر و الحسن و عطاء و الضحاك و الأصمعي و غيرهم عن أبي عمرو : لا إيمان لهم بكسر الهمزة و هي قراءة مشهورة
و هذه الآية تدل على أنه لا يعصم دم الطاعن إيمان و لا يمين ثانية
أما على قراءة الأكثرين فإن قوله : { لا أيمان لهم } أي لا وفاء بالأيمان و معلوم أنه إنما أراد لا وفاء في المستقبل بيمين أخرى إذ عدم اليمين في الماضي قد تحقق بقوله : { و إن نكثوا أيمانهم } فأفاد هذا أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يعقد له عقد ثان أبدا(2/177)
و أما على قراءة ابن عامر فقد علم أن الإمام في الكفر ليس له إيمان و لم يخرج هذا مخرج التعليل لقتالهم لأن قوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } أبلغ في انتفاء الإيمان عنهم من قوله تعالى : { لا إيمان لهم } و أدل على علة الحكم و لكن يشبه ـ و الله أعلم ـ أن يكون المقصود أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يوثق بما يظهره من الإيمان كما لم يوثق بما كان عقده من الأيمان لأن قوله تعالى : { لا إيمان } نكرة منفية بلا التي تنفي الجنس فتقتضي نفي الإيمان عنهم مطلقا فثبت أن الناكث الطاعن في الدين إمام في الكفر لا إيمان له من هؤلاء و أنه يجب قتله و إن ظهر الإيمان
يؤيد ذلك أن كل كافر فإنه لا إيمان له في حال الكفر فكيف بأئمة الكفر ؟ فتخصيص هؤلاء بسلب الإيمان عنهم لا بد أن يكون له موجب و لا موجب له إلا نفيه مطلقا عنهم
و المعنى أن هؤلاء لا يرتجى إيمانهم فلا يستبقون و أنهم لو لم أظهروا إيمانا لم يكن صحيحا و هذا كما قال النبي عليه الصلاة و السلام : [ اقتلوا شيوخ المشركين و استبقوا شرخهم ] لأن الشيخ قد عسا في الكفر و كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصية لأمراء الأجناد شرحبيل بن حسنة و يزيد ابن أبي سفيان و عمرو بن العاص : ستلقون أقواما مجوفة رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منها بالسيوف فلأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم و ذلك بأن الله تعالى قال : { قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون } و الله أصدق القائلين فإنه لا يكاد يعلم أحدا من الناقضين للعهود الطاعنين في الدين أئمة الكفر حسن إسلامه بخلاف من لم ينقض العهد أو نقضه و لم يطعن في الدين أو طعن و لم ينقض عهدا فإن هؤلاء قد يكون لهم إيمان(2/178)
يبين ذلك أنه قال : [ لعلهم ينتهون ] أي عن النقض و الطعن كما سنقرره و إنما يحصل الانتهاء إذا قوتلت الفئة الممتنعة حتى تغلب أو أخذ الواحد الذي ليس بممتنع فقتل لأنه متى استحيي بعد القدرة طمع أمثاله في الحياة فلا ينتهون
و مما يوضح ذلك أن ذلك أن هذه الآية قد قيل : إنها نزلت في اليهود الذين كانوا غدروا برسول الله صلى الله عليه و سلم و نكثوا ما كانوا أعطوا من العهود و الأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين و هموا بمعاونة الكفار و المنافقين على إخراج النبي عليه الصلاة و السلام من المدينة فأخبر أنهم بدأوا بالغدر و نكث العهد فأمر بقتالهم ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فعلى هذا يكون سبب نزول الآية مثلا مسألتنا سواء
و قد قيل : إنها نزلت في مشركي قريش ذكره جماعة
و قالت طائفة من العلماء : و براءة إنما بعد تبوك و بعد فتح مكة و لم يكن حينئذ بقي بمكة مشرك يقاتل فيكون المراد من أظهر الإسلام من الطلقاء و لم يبق قلة من الكفر إذا أظهروا النفاق
و يؤيد هذا قراءة مجاهد و الضحاك : [ نكثوا إيمانهم ] بكسر الهمزة فتكون دالة على أن من نكث عهده الذي عاهد عليه من الإسلام و طعن في الدين فإنه يقاتل و إنه يقاتل له قال : من نص هذه الآية قال : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ثم قال { و إن نكثوا إيمانهم } [ التوبة : 12 ] فعلم أن هذا نكث بعد هذه التوبة لأنه قد تقدم الإخبار عن نكثهم الأول بقوله تعالى : { لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة } [ اللتوبة : 10 ] و قوله تعالى : { كيف و إن يظهروا عليكم } الآية [ التوبة : 8 ] و قد تقدم أن الإيمان هي العهود فعلى هذا تعم الآية من نكث عهد الإيمان و من نكث عهد الأيمان أنه إذا طعن في الدين قوتل و انه لا إيمان له حينئذ فتكون دالة على أن الطاعن في الدين بسب الرسول و نحوه من المسلمين و أهل الذمة لا إيمان له و لا يمين له فلا يحقن دمه بشيء بعد ذلك :(2/179)
فإن قيل : قد قيل قوله تعالى : { لا إيمان لهم } أي لا أمان لهم مصدر آمنت الرجل أو منه إيمانا ضد أخفته كما قال تعالى : { و آمنهم من خوف } [ قريش : 4 ]
قيل : إن كان هذا القول صحيحا فهو حجة أيضا لأنه لم يقصد لا أمان لهم في الحال فقط للعلم بأنهم قد نقضوا العهد و إنما يقصد لا أمان لهم بحال في الزمان الحاضر و المستقبل و حينئذ فلا يجوز أن يؤمن هذا بحال بل يقتل بكل حال
فإن قيل : إنما أمر في الآية بالمقاتلة لا بالقتل و قد قال بعدها : { و يتوب الله على من يشاء } [ التوبة : 15 ] فعلم أن اللتوبة منه مقبولة قبل لما تقدم ذكر طائفة ممتنعة أمر بالمقاتلة و أخبر سبحانه أنه يعذبهم بأيدي المؤمنين و ينصر عليهم ثم من بعد ذلك يتوب الله على من يشاء لأن ناقضي العهد إذا كانوا مممتنعين فمن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود و لذلك قال : [ على من يشاء ] و إنما يكون هذا في عدد تتعلق المشيئة بتوبة بعضهم
يوضح ذلك أنه قال : { و يتوب الله } بالضم و هذا كلام مستأنف ليس داخلا في حيز جواب الأمر و ذلك يدل على أن التوبة ليست مقصودة من قتالهم و لا هي حاصلة بقتالهم و إنما المقصود بقتالهم انتهاؤهم عن النكث و الطعن و المضمون بقتالهم تعذيبهم و خزيهم و النصر عليهم و في ذلك ما يدل على أن الحد لا يسقط عن الطاعن الناكث بإظهار التوبة لأنه لم يقتل و يقاتل لأجلها
و يؤيد هذا أنه قال : { كيف يكون للمشركين عهد الله ـ إلى قوله ـ فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ـ ثم قال ـ { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } [ التوبة : 12 ] فذكر التوبة الموجبة للأخوة قبل أن يذكر نقض العهد و الطعن في الدين و جعل للمعاهد ثلاثة أحوال :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 401 ]
أحدها : أن يستقيم لنا فنستقيم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس أخا في الدين(2/180)
الحالة الثانية : أن يتوب من الكفر و يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة فيصير أخا في الدين و لهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الآية قبلها لأن الكلام هناك في توبة المحارب و توبته توجب تخليه سبيله و هنا الكلام في توبة المعاهد و قد كان سبيله مخلى و إنما توبته توجب أخوته في الدين قال سبحانه : { و نفصل الآيات لقوم يعلمون } [ التوبة : 11 ]
و ذلك أن المحارب إذا تاب وجب تخليه سبيله إذا حاجته إنما هي إلى ذلك و جاز أن يكون قد تاب خوف السيف فيكون مسلما لا مؤمنا فأخوته الإيمانية تتوقف على ظهور دلائل الإيمان كما قال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] و المعاهد إذا تاب فلا ملجأ له إلا التوبة ظاهرا فإنا لم نكرهه على التوبة و لا يجوز إكراهه فتوبته دليل على أنه تاب طائعا فيكون مسلما مؤمنا و المؤمنون إخوة فيكون أخا
الحالة الثالثة : أن ينكث يمينه بعد عهده و يطعن في ديننا فأمره بقتاله و بين أنه ليس له أيمان و لا إيمان و المقصود من قتاله أن ينهى عن النقض و الطعن لا عن الكفر فقط لأنه قد كان معاهدا مع الكفر و لم يكن قتاله جائزا فعلم أن الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله و إنما المقصود بقتاله انتهاؤه عن ما أضر به المسلمين من نقض العهد و الطعن في الدين و ذلك لا يحصل إلا بقتل الواحد الممكن و قتال الطائفة الممتنعة قتالا يعذبون به و يخذون و ينصر المؤمنين عليهم إذ تخصيص التوبة بحال دليل على انتافائها في الحال الأخرى(2/181)
و ذكره سبحانه التوبة بعد ذلك جملة مستقلة ـ بعد أن أمر بما يوجب تعذيبهم و خزيهم و شفاء الصدور منهم ـ دليل على أن توبة مثل هؤلاء لا بد معها من الانتقام منهم بما فعلوا بخلاف توبة الباقي على عهده فلو كان توبة المأخوذ بعد الأخذ تسقط القتل لكانت توبة خالية عن الانتقام و للزم أن مثل هؤلاء لا يعذبون و لا يخزون و لاتشفي الصدور منهم و هو خلاف ما أمر به في الآية و قد صار هؤلاء الذين نقضوا العهد و طعنوا في الدين كمن ارتد و سفك الدماء فإن كان واحدا فلا بد من قتله و إن عاد إلى الإسلام و إن كانوا ممتنعين قوتلوا فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل و الله سبحانه أعلم
الطريقة الثالثة : قوله سبحانه : { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن } [ النساء : 18 ] و قوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا : آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر : 85 ] و قوله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل و أنا من المسلمين آلآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين ؟ } [ يونس : 91 ] قوله تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس } [ يونس : 98 ]
و قد تقدم تقرير الدلالة من هذه الآيات في قتل المنافق و ذكرنا الفرق بين توبة الحربي و المرتد المجرد و توبة المانفق و المفسد من المعاهدين و نحوهما و فرقنا بين التوبة التي تدرأ العذاب و التوبة التي تنفع في المآب(2/182)
الطريقة الرابعة : قوله سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة } الآيات [ الأحزاب : 57 ] و قد قررنا فيما مضى أن هذه الآية تدل على قتل المؤذي من المسلمين مطلقا و هي تدل على قتل من أظهر الأذى من أهل الذمة لأن اللعنة المذكورة موجبة للقتل كما في تمام الكلام و قد تقدم تقرير هذا و قد ذكرنا ان قوله تعالى : { أولئك لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] نزلت في ابن الأشرف لما طعن في دين الإسلام و قد كان عاهد النبي صلى الله عليه و سلم فانتقض عهده بذلك و أخبر الله أنه ليس له نصير ليبين أن لا ذمة له إذ الذمي له نصر و النفاق له قسمان : نفاق المسلم استبطان الكفر و نفاق الذمي استبطان المحاربة و تكلم المسلم بالكفر كتكلم الذمي بالمحاربة فمن عاهدنا على أن لا يؤذي الله و رسوله ثم نافق بأذى الله و رسوله فهو من منافقي المعاهدين فمن لم ينته من هؤلاء المنافقين أغرى الله نبيه بهم فلا يجاورونه إلا قليلا { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } ففي الآية دلالتان
إحداهما : أن هذا ملعون و الملعون هو الذي يؤخذ أين وجد و يقتل فعلم أن قتله حتم لأنه لم يستثن حالا من الأحوال كما استثنى في سائر الصور و لأنه قال : { قتلوا } و هذا وعد من الله لنبيه يتضمن نصره و الله لا يخلف الميعاد فعلم أنه لا بد من تقتيلهم إذا أخذوا و لو سقط عنهم القتل بإظهار الإسلام لم يتحقق الوعد مطلقا
الثانية : أنه جعل انتهاءهم النافع قبل الأخذ و التقتيل كما جعل توبة المحاربين النافعة لهم قبل القدرة عليهم فعلم أنهم إن انتهوا عن إظهار النفاق من الأذى و نحوه النفاق في العهد و النفاق في العهد و النفاق في الدين و إلا أغراه الله بهم حتى لا يجارونه في البلد ملعونين يؤخذون و يقتلون و هذا الطاعن الساب لم ينته حتى أخذ فيجب قتله(2/183)
و فيها دلالة ثالثة و هو أن الذي يؤذي المؤمنين من مسلم أو معاهد إذا أخذ أقيم عليه حد ذلك الأذى و لم تدرأه عنه التوبة الآن فالذي يؤذي الله و رسوله بطريق الأولى لأن الآية تدل على أن حالة أقبح في الدنيا و الآخرة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 404 ]
الطريقة الخامسة : أن ساب النبي عليه الصلاة و السلام يقتل حدا من الحدود لا مجرد الكفر و كل قتل وجب حدا لا لمجرد الكفر فإنه لا يسقط بالإسلام
و هذا دليل مبني على مقدمتين :
إحداهما : أنه يقتل لخصوص سب رسول الله عليه الصلاة و السلام المستلزم للردة و نقض العهد و إن كان ذلك متضما للقتل لعموم ما تضمنه من مجرد الردة و مجرد نقض العهد في بعض المواضع و الدليل على ذلك أنه قد تقدم أن النبي عليه الصلاة و السلام أهدر دم المرأة الذمية التي كانت تسبه عليه الصلاة و السلام عند الأعمى الذي كان يأوي إليها و لا يجوز ان يكون قتلها لمجرد نقض العهد لأن المرأة الذمية إذا انتقض عهدها فإنها تسترق و لا يجوز قتلها و لا يجوز قتل المرأة للكفر الأصلي إلا أن تقاتل و هذه المرأة لم تكن تقاتل و لم تكن معينة على قتال كما تقدم ثم إنها لو كانت تقاتل ثم أسرت صارت رقيقة و لم تقتل عند كثير من الفقهاء منهم الشافعي لا سيما إذا كانت رقيقة فإن قتلها يمتنع لكونها امرأة و لكونها رقيقة لمسلم فثبت أن قتلها كان لخصوص السب للنبي عليه الصلاة و السلام و أنه جناية من الجنايات الموجبة للقتل كما لو زنت المرأة الذمية أو قطعت الطريق على المسلمين أو قتلت مسلما أو كما لو بدلت دين الحق عند أكثر الفقهاء الذين يقتلون المرأة بل هذا أبلغ أنه ليس في قتل المرتدة من السنة المأثورة الخاصة في كتب السنن المشهورة مثل الحديث الذي في قتل السابة الذمية(2/184)
يوضح ذلك أن بني قريظة نقضوا العهد و نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم و تسبى الذرية من النساء و الصبيان فقال النبي عليه الصلاة و السلام : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ]
ثم قتل النبي صلى الله عليه و سلم الرجال و استرق النساء و الذرية و لم يقتل من النساء إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين ففرق رسول الله عليه الصلاة و السلام بين الذرية التي لم يثبت في حقهم إلا مجرد انتقاض العهد و بين الذرية الذين نقضوا العهد بما يضر المسلمين
و هذه المرأة الذمية لم ينقض عهدها بأنها لحقت بدار الحرب و امتنعت عن المسلمين و إنما نقضت العهد بأن ضرت المسلمين و آذت الله و رسوله و سعت في الأرض فسادا بالصد عن سبيل الله و الطعن في دين الله كما فعلت المرأة الملقية للرحى فعلم أنها لم تقتل لمجرد انتقاض العهد و هي لم تكن مسلمة حتى يقال : إنها قتلت للردة و لا هي أيضا بمنزلة امرأة قاتلت ثم أسرت حتى يقال : تصير رقيقة بنفس السبى لا تقتل أو يقال : يجوز قتلها كما يجوز قتل الرجل فإذا أسلمت عصم الإسلام الدم و بقيت رقيقة لوجهين :
أحدهما : أن هذا السب الذي كانت تقوله لم تكن [ تقوله ] للمشركين و لا لعموم المسلمين حتى يقال : هو بمنزلة إعانة الكفار على القتال من كل وجه
الثاني : أنها لم تكن ممتنعة حين السب بل هي حين السب ممكنة مقدور عليها و حالها قبله و بعده سواء(2/185)
فالسب و إن كان حرابا لكنه لم يصدر من ممتنعه أسرت بعد ذلك بل من امرأة ملتزمة للحكم بيننا و بينها العهد على الذمة و معلوم أن السب من الأمور المضرة بالمسلمين و أنه من أبلغ الفساد في الأرض لما فيه من ذل الإيمان و عز الكفر و إذا ثبت أنها لم يقتل للكفر و لا لنقض العهد و لا لحراب أصلي متقدم على القدرة عليها ثبت ان قتلها حد من الحدود و القتل الواجب حدا لا لمجرد الكفر لا يسقط بالإسلام كحد الزاني و القاطع و القاتل و غيرهم من المفسدين
و مما يقرر الأمر ان السب إما أن يكون حرابا أو جناية مفسدة ليست حرابا فإن كان حرابا فهو حراب من ذمي أو من مسلم و سعي في الأرض فسادا و الذمي إذا حارب و سعى في الأرض فسادا وجب قتله و إن أسلم بعد القدرة عليه حيث يكون حرابا موجبا للقتل و حراب هذه المرأة موجب للقتل كما جاءت به السنة و إن كانت جناية مفسدة ليست حرابا ـ و هي موجبة للقتل ـ قتلت أيضا بعد الأخذ بطريق الأولى كسائر الجنايات الموجبة للقتل و هذا كلام مقرر و مداره على حرف واحد و هو أن السب و إن كان من أعمال اللسان فقد دلت السنة بأنه بمنزلة الفساد و المحاربة بعمل الجوارح و أشد و لذلك قتلت هذه المرأة
و تمام ذلك ان قياس مذهب من يقول : [ إن الساب إذا قتل إنما يقتل لأنه نقض العهد ] أن لا يجوز قتل هذه بل لو كانت قد قاتلت باليد و اللسان ثم أخذت لم تقتل عنده فإذا دلت السنة على فساد هذا القول علم صحة القول الآخر إذ لا ثالث بينهما و لا ريب عند أحد أن من قتل لحدث أخذ به أوجب نقض عهده و لم يقتل لمجرد أن انتقض عهده فقط فإن قتله لا يسقط بالإسلام لأن فساد ذلك الحديث لا يزول بالإسلام(2/186)
ألا ترى أن الجنايات الناقضة للعهد ـ مثل قطع الطريق و قتل المسلم و التجسس على المسلمين و الزنا بمسلمة و استكراهها على الفجور و نحو ذلك ـ إذا صدر من ذمي فمن قتله لنقض العهد قال : [ متى أسلم لم آخذه إلا بما يوجب القتل إذا فعله المسلم باقيا على إسلامه مثل أن يكون قد قتل في قطع الطريق فأقتله أو زنى فأحده أو قتل مسلما فأقيده لأنه بالإسلام صار بمنزلة المسلمين فلا يقتل كفرا ]
و من قال : [ أقتله لمحاربة الله و رسوله و سعيه في الأرض فسادا ] قال : أقتله و إن أسلم و تاب بعد أخذه كما أقتل المسلم إذا حارب ثم تاب بعد القدرة لأن الإسلام الطارئ لا يسقط الحدود الواجبة قبله لآدمي بحال و إن منع ابتداء وجوبها كما لو قتل ذمي ذميا أو قذفه ثم أسلم فإن حده لا يسقط و لو قتله أو قذفه ابتداء
لم يجب عليه قود و لا حد و لا يسقط ما كان منها لله إذا تاب بعد القدرة كما لو قتل في قطع الطريق فإنه لا يسقط عنه بالإسلام وفاقا فيما أعلم
و كذلك لو زنى ثم أسلم فإن حده القتل الذي كان يجب عليه قبل الإسلام عند أحمد و عند الشافعي حده حد المسلم فحد السب إن كان حقا لآدمي لم يسقط بالإسلام و إن كان حقا لله فليس هو حدا على الكفر الطارئ و المحاربة الأصلية كما دلت عليه السنة و لا على مجرد الكفر الأصلي بالاتفاق فيكون حد الله على محاربة موجبة كقتل المرأة و كل قتل وجب حدا على محاربة ذمية لم يسقط بالإسلام بعد القدرة بالاتفاق فإن الذمية إذا لم تقتل في المحاربة لم يقتلها من يقول : [ قتل الذمي المحارب إنما هو لنقض العهد ] و من قتلها كما دلت عليه السنة فلا فرق عنده في هذا الباب بين أن تسلم بعد القدرة أو لا تسلم(2/187)
و اعلم أن من قال : [ إن هذه الذمية تقتل فإذا أسلمت سقط عنها القتل ] لم يجد هذا في الأصول نظير أن الذمية تقتل و هي في أيدينا و يسقط عنها القتل بالإسلام بعد الأخذ و لا أصلا يدل على المسألة و الحكم إذا لم يثبت بأصل و لا نظير كان تحكما من قال [ إنها تقتل بكل حال ] فله نظير نقيس به و هو المحاربة باليد و الزانية و نحوهما
الطريقة السادسة : الاستدلال من قتل بنت مروان و هو كالاستدلال من هذه القصة لأنا قد قدمنا أنها كانت من المهادنين الموادعين و إنما قتلت للسب خاصة و التقرير كما تقدم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 408 ]
الطريقة السابعة : أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال : [ من لكعب بن الأشراف فإنه قد آذى الله و رسوله ] و قد كان معاهدا قبل ذلك ثم هجا رسول الله عليه الصلاة و السلام و قتله الصحابة غلية بأمر رسول الله عليه الصلاة و السلام مع كونه قد أمنهم على دمه و ماله باعتقاده بقاء العهد و لأنهم جاءوه مجيء من قد آمنه و لو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله إذا آمنهم كما تقدم لأن الحربي إذا قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أمانا و كذلك كل من يجوز أمانه فعلم أن هجاءه للنبي عليه الصلاة و السلام و أذاه لله تعالى و رسوله لا ينعقد معه أمان و لا عهد و ذلك دليل على أن قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق إذ ذلك يقتل و إن أمن كما يقتل الزاني و المرتد و إن أومن و كل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالإسلام وفاقا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 409 ]
الطريقة الثامنة : أنه قد دل هذا الحديث على أن أذى الله و رسوله علة للانتداب إلى قتل كل أحد فيكون ذلك علة أخرى غير مجرد الكفر و الردة فإن ذكر الوصف بعد الحكم بحرف الفاء دليل على أنه علة و الأذى لله و رسوله يوجب القتل و يوجب نقض العهد و يوجب الردة(2/188)
يوضح ذلك أن أذى الله و رسوله لو كان إنما أوجب قتله لكونه كافرا غير ذي عهد لوجب تعليل الحكم بالوصف الأعم إذا كان مستقلا بالحكم كان الأخص عديم التأثير فلما علل قتله بالوصف الأخص علم أنه مؤثر في الأمر بقتله لا سيما في كلام من أوتى جوامع الكلم و إذا كان المؤثر في قتله أذى الله و رسوله وجب قتله و إن تاب كما ذكرناه فيمن سب النبي عليه الصلاة و السلام من المسلمين فإن كليهما أوجب قتله أنه آذى الله و رسوله وهو مقر للمسلمين بأن لا يفعل ذلك فلو كان عقوبة هذا المؤذي تسقط بالتوبة سقطت عنهما و لأنه قال سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ]
و قال في خصوص هذا المؤذي : { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] و قد أسلفنا أن هذه اللعنة توجب القتل إذا أخذ و لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله و رسوله ثم قال : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ]
و لا خلاف علمناه أن الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات لا تسقط عقوبتهم بالتوبة فالذين يؤذون الله و رسوله أحق و أولى لأن القرآن قد بين أن هؤلاء أسوا حالا في الدنيا و الآخرة فلو اسقطنا عنهم العقوبة بالتوبة لكانوا أحسن حالا
و ليس للمنازع هنا إلا كلمة واحدة و هو أن يقول : [ هذا قد تغلظت عقوبته بالقتل لأنه نوع من المرتدين و ناقض العهد و الكافر تقبل توبته من الكفر و تسقط عنه العقوبة بخلاف المؤذي بالفسق ](2/189)
فيقال له : هذا لو كان الموجب لقتله إنما هو الكفر و قد دلت السنة على أن الموجب لقتله إنما هو أذى الله و رسوله و هذا أخص من عموم الكفر و كما أن الزنا و السرقة و الشرب و قطع الطريق أخص من عموم المعصية و الشارع رتب الأمر بالقتل على هذا الوصف الأخص الذي نسبته إلى سائر أنواع الكفر نسبه أذى المؤمنين إلى سائر أنواع المعاصي فإلحاق هذا النوع بسائر الأنواع جمع بين ما فرق الله و رسوله و هو من القياس الفاسد كقياس الذين قالوا : [ إنما البيع مثل الربا ] و إنما الواجب أن يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من الأسماء و الصفات المؤثرة الذي دل كلامه الحكيم على اعتبارها و تغليظ عقوبته ابتداء لا يوجب تخفيفها انتهاء بل يوجب تغلظ مطلقا إذا كان الجرم عظيما و سائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداء و الانتهاء مثل هذا فإنه يجوز إقرارهم بجزية و استرقاقهم في الجملة و يجوز الكف عنهم مع القدرة لمصلحة ترتقب و هذا بخلاف ذلك
و أيضا فإن الموجب لقتله إذا كان هو أذى الله و رسوله كان محاربا لله و رسوله و ساعيا في الأرض فسادا و قد أومأ النبي عليه الصلاة و السلام إلى ذلك في حديث ابن الأشرف كما تقدم و هذا الوصف قد رتب عليه من العقوبة مالم يرتب على غيره من أنواع الكفر و حتمت عقوبة صاحبه إلا أن يتوب قبل القدرة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 410 ](2/190)
الطريقة التاسعة : أنا قد قدمنا عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه أهدر عام الفتح دماء نسوة لأجل أنهن كن يؤذينه بألسنتهن منهن القينتان لابن خطل اللتان كانتا تغنيان بهجائه و مولاة لبني عبد المطلب كانت تؤذيه و بينا بيانا واضحا أنهن لم يقتلن لأجل حراب و لا قتال و إنما قتلن لمجرد السب و بينا أن سبهن لم يجري مجرى قتالهن بل كان أغلظ لأن النبي عليه الصلاة و السلام آمن عام الفتح المقاتلة كلهم إلا من له جرم خاص يوجب قتله و لأن سبهن كان متقدما على الفتح و لا يجوز قتل المرأة في بعض الغزوات لأجل قتال متقدم منها قد كفت عنه و أمسكت في هذه الغزوة و بينا بيانا و اضحا أن قتل هؤلاء النسوة أدل شيء على قتل المرأة السابة من مسلمة و معاهدة و هو دليل قوي على جواز قتل السابة و إن تابت من وجوه :
أحدها : ان هذه المرأة الكافرة لم تقتل لأجل أنها مرتدة و لا لأجل أنها مقاتلة كما تقدم فلم يبقى ما يوجب قتلها إلا أنها مفسدة في الأرض محاربة لله و رسوله و هذه يجوز قتلها بعد التوبة إذا كان قتلها جائزا قبلها بالكتاب و السنة و الاجماع
الثاني : أن سب أولئك النسوة إما أن يكون حرابا او جناية موجبة للقتل غير الحراب إذ قتلهن لمجرد الكفر غير جائز كما تقدم فإن كان حرابا فالذمي إذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا يجب قتله في كل حال كما دل عليه القرآن و إن كان جناية أخرى مبيحة للدم فهو أولى و أحرى و قد قدمنا فيما مضى ما يبين أن هؤلاء النسوة لم يقتلن لحراب كان موجودا منهن في غزوة الفتح و إنما قتلن جزاء على الجرم الماضي نكالا عن مثله و هذا يبين أن قتلهن بمنزلة قتل أصحاب الحدود من المسلمين و المعاهدين(2/191)
الثالث : أن اثنتين منهن قتلتا و الثالثة أخفيت حتى استئمن لها النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك فآمنها لأنه كان له أن يعفو عمن سبه كما تقدم و له أن يقتله و لم يعصم دم أحد ممن أهدر دمه عام الفتح إلا آمانه فعلم أن مجرد الإسلام لم يعصم دم هذه المرأة و إنما عصم دمها عفوه
و بالجملة فقصة قتله لأولئك النسوة من أقوى ما يدل على جواز قتل السابة بكل حال فإن المرأة الحربية لا يبيح قتلها إلا قتالها و إذا قاتلت ثم تركت القتال في غزوة أخرى و استسلمت و انقادت لم يجز قتلها في هذه المرة الثانية و مع هذا فالنبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتلهن
و للحديث و جهان :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان عاهد أهل مكة و الظاهر أن عهده انتظم الكف عن الأذى باللسان فإن في كثير من الحديث ما يدل على ذلك و حينئذ فهؤلاء اللواتي هجونه نقضن العهد نقضا خاصا بهجائهن فكان للنبي عليه الصلاة و السلام قتلهن بذلك و إن تبن و هذه ترجمة المسألة
الثاني : أنه كان له أن يقتل من هجاه إذا لم يتب حتى قدر عليه و إن كان حربيا لكن سقط هذا كما يسقط بموته العفو عن المسلم و الذمي الساب و يكون قد كان أمر الساب هو مخير فيه مطلقا لكونه أعلم بالمصلحة فإذا مات تحتم قتل من التزم أن لا يسب و كان الحربي الساب كغيره من الحربيين إذا تاب
و هذا الوجه ضعيف فإنه إثبات حكم باحتمال و الأول جار على القياس و من تأمل قصة الذين أهدرت دماؤهم عام الفتح علم أنهم كلهم كانوا محاربين لله و رسوله ساعين في الأرض فسادا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 412 ]
الطريقة العاشرة : أنه صلى الله عليه و سلم أمر في حال و احدة بقتل جماعة مما كان يؤذيه بالسب و الهجاء مع عفوه عمن كان أشد منهم في الكفر و المحاربة بالنفس و المال فقتل عقبة بن أبي معيط صبرا بالصفراء و كذلك النضر بن الحارث لما كانا يؤذيانه و يفتريان عليه و يطعنان فيه مع استبقائه عامة الأسرى(2/192)
و قد تقدم أنه قال : يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بكفرك و افترائك على رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و معلوم أن مجرد الكفر يبيح القتل فعلم أن الافتراء على النبي صلى الله عليه و سلم سبب أخر أخص من عموم الكفر موجب للقتل فحيث ما وجد وجد معه وجوب القتل و أهدر عام الفتح دم الحويرث ابن نقيذ و دم أبي سفيان بن الحارث و دم ابن الزبعري و أهدر بعد ذلك دم كعب بن زهير و غيرهم لأنهم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و دم من ارتد و حارب و آذى الله و رسوله مع أمانه لجميع الذين حاربوا و نقضوا عهده فعلم أن أذاه سبب منفرد بإباحة القتل وراء الكفر و الحراب بالأنفس و الأموال كقطع الطريق و قتل النفس(2/193)
و قد تقدم ما كان يأمر به و يقر عليه إذا بلغه و ما كان يحرض عليه المسلمين من قتل الساب دون غيره من الكافرين حتى إنه لا يحقن دم الساب إلا عفوه بعد ذلك فعلم أنه كان يلحق الساب بذوي الأفعال الموجبة للقتل من قطع الطريق و نحوه و هذا ظاهر لمن تأمله فيما مضى من الأحاديث و ما لم نذكره هذا يوجب قتل فاعله من مسلم و معاهد و إن تاب بعد القدرة و إذا ضم هذا الوجه إلى الذي قبله و علم أن الأذى وحده سبب يوجب القتل لا لكونه من جنس القتال لأن النبي عليه الصلاة و السلام قد آمن الذين قاتلوه بالأنفس و الأموال من الرجال فأمان المرأة االتي أتت بما يشبه القتال أولى لو كان جرمها من جنس القتال و لأن المرأة إذا قاتلت في غزوة من الغزوات ثم غزا المسلمون غزوة و علموا أنها لم تقاتل فيها بيد و لا لسان لم يجز قتلها عند أحد من المسلمين علمناه و هؤلاء النسوة كان أذاهن متقدما على فتح مكة ن و لم يكن لهن في غزوة الفتح مكعرة بيد و لا لسان بل كن مستسلمات منقادات لو علمن أن إظهار الإسلام يعصم دماءهن لبادرن إلى إظهاره فهل يعتقد أحد أن هذه المرأة تقتل لكونها محاربة خصوصا عند الشافعي فإن منصوصه أن قتل المرأة و الصبي إذا قاتلا بمنزلة قتل الصائل من المسلمين يقصد به دفعهما و إن أفضصى إلى قتلهما فإذا انكفا بدون القتل كأسر أو ترك للقتال و نحو ذلك لم يجز قتلهما كما لا يجوز قتل الصائل
و إذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر بقتل من كان يؤذيه و يهجوه من النساء و قد تركن ذلك و استسلمنا و ربما كن يوددن أن يظهرن الإسلام إن كان عاصما و قد آمن المقاتلين كلهم و علم أن السب سبب مستقل موجب يحل دم كل أحد و إن تركه ذلة و عجز
يؤيد ذلك أن النبي عليه الصلاة و السلام آمن أهل مكة إلا من قاتل إلا هؤلاء النفر فإنه أمر بقتلهم قاتلوا أو لم يقاتلوا فعلم أن هؤلاء النسوة قتلن لأجل السب لا لأجل أنهن يقاتلن(2/194)
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 414 ]
الطريقة الحادي عشرة : أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد و افترى على النبي صلى الله عليه و سلم أنه يلقنه الوحي و يكتب له ما يريد فأهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمه و نذر رجل من المسلمين ليقتلنه ثم حبسه عثمان أياما حتى اطمأن أهل مكة ثم جاء تائبا ليبايع عليه الصلاة و السلام و يؤمنه فصمت رسول الله عليه الصلاة و السلام طويلا رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله و يوفي بنذره
ففي هذا دلالة على أن المفتري على النبي عليه الصلاة و السلام الطاعن عليه قد كان له أن يقتله و أن دمه مباح و إن جاء تائبا من كفره و فريته لأن قتله لو كان حراما لم يقل النبي عليه الصلاة و السلام ما قال و لا قال للرجل : [ هلا وفيت نذرك بقتله ]
و لا خلاف بين المسلمين علمناه أن الكافر إذا جاء تائبا مريدا للاسلام مظهرا لذلك لم يجز قتله لذلك و لا فرق في ذلك بين الأصلي و المرتد إلا ما ذكرناه من الخلاف الشاذ في المرتد مع أن هذا الحديث يبطل ذلك الخلاف بل لو جاء الكافر طالبا لأن يعرض عليه الإسلام و يقرأعليه القرآن لوجب أمانه لذلك
قال الله تعالى : { و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } [ التوبة : 6 ]
و قال تعالى في المشركين : { فإن تابوا و أقاموا الصلاة و اتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ]
و عبد الله بن سعد إنما جاء تائبا ملتزما لإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة بل جاء بعد أن أسلم كما تقدم ذكر ذلك ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم بين أنه كان مريدا لقتله و قال للقوم : [ هلا قام بعضكم إليه ليقتله ] و [ و هلا وفيت بنذرك في قتله ] فعلم أنه قد كان جائزا له أن يقتل من يفتري عليه و يؤذيه من الكفار و إن جاء مظهرا للإسلام و التوبة بعد القدرة عليه و في ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه و أذاه يجوز له قتل فاعله و 'ن أظهر الإسلام و التوبة(2/195)
و مما يشبه هذا إعراضه عن أبي سفيان بن الحارث و ابن أبي أمية و قد جاءا مهاجرين يريدان الإسلام أو قد أسلما و علل ذلك بأنهما كانا يؤذيانه و يقعان في عرضه مع أنه لا خلاف علمناه أن الحربي إذا جاء يريد الإسلام و جبت المسرعة إلى قبوله منه و كان الاستئناء به حراما و قد عده بعض الناس كفرا
و قد كانت سيرته صلى الله عليه و سلم في المسرعة إلى قبول الإسلام من كل من أظهره و تأليف الناس عليه بالأموال و غيرها أشهر من أن يوصف فلما أبطأ عن هذين و أراد أن لا يلتفت إليهما البتة علم أنه كان له أن يعاقب من كان يؤذيه و يسبه و إن أسلم و هاجر و أن لا يقبل منه من الإسلام و التوبة ما يقبل من الكفر الذي لم يكن يؤذيه و في هذا دلالة على أن السب وحده موجب للعقوبة
يوضح ذلك ما ذكره أهل المغازي أن علي بن أبي طالب قال لأبي سفيان ابن الحارث : ائت رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف : { تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين } [ يوسف : 91 ] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين } [ يوسف : 92 ]
ففي هذا دلالة على أن ماله من عرضه كان له أن يعاقب عليه و أن يعفو في الجب و بيعه للسيارة و لكن لكرمه عفا صلى الله عليه و سلم و لو كان الإسلام يسقط حقه بالكلية كما يسقط حقوق الله لم يتوجه شيء من هذا
و قد تقدم تقرير هذا الوجه في أول الكتاب و بينا أنه نص في جواز قتل المرتد الساب بعده إسلامه فلذلك قتل الساب المعاهد لأن المأخذ واحد(2/196)
و مما يوضحه أن المسلمين قد كان استقر عندهم أن الكفر الحربي إذا أظهر الإسلام حرم عليهم قتله لا سيما عند السابقين الأولين مثل عثمان بن عفان و نحوه و قد علموا قوله تعالى : { و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } [ النساء : 94 ] و قصة أسامة بن زيد و حديث المقداد فلما كان ألئك الذين أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمائهم : منهم من قتل و منهم من أخفى حتى اطمأن أهل مكة و طلب من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبايعه دل على أن عثمان رضي الله عنه و غيره من المسلمين علموا أن إظهار عبد الله بن سعد بن أبي سرح و نحوه الإسلام لا يحقن دماءهم دون أن يؤمنهم النبي صلى الله عليه و سلم و إلا فقد كان يمكنهم أن يأمروهم بإظهار الإسلام و الخروج من أول يوم
و الظاهر ـ و الله أعلم ـ أنهم قد كانوا أسلموا و إنما تأخرت بيعتهم للنبي عليه الصلاة و السلام و ذلك دليل على أنه قد كان للنبي عليه الصلاة و السلام قتلهم لأجل سبه مع إظهار التوبة
و قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة و كذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي عليه الصلاة و السلام بمر الظهران
و هذا الذي ذكروه نص في المسألة و هو أشبه بالحق فإن النبي عليه الصلاة و السلام لما نزل بمر الظهران شعرت به قريش حينئذ و ابن أبي سرح قد علم ذنبه فيكون قد أسلم حينئذ و لما بلغه أن النبي عليه الصلاة و السلام قد أهدر دمه تغيب حتى استؤمن له و الحديث لمن تأمله دليل على أن النبي عليه الصلاة و السلام كان له أن يقتله و أن يؤمنه و أن الإسلام وحده لم يعصم دمه حتى عفا عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم(2/197)
فمن ذلك أن عثمان جاء ليشفع له إلى النبي صلى الله عليه و سلم فصمت عنه رسول الله عليه الصلاة و السلام طويلا و أعرض عنه مرة بعد مرة و كان عثمان يأتيه من كل وجهة و هو يعرض عنه رجاء أن يقوم بعضهم فيقتله و عثمان في ذلك يكب على النبي عليه الصلاة و السلام يقبل رأسه و يطلب منه أن يبايعه و يذكر أن لأمه عليه حقوقا حتى استحيى النبي عليه الصلاة و السلام من عثمان فقضى حاجته ببيعته مع أنه كان يود أن لا يفعل فعلم أن قتله كان حقا له أن يعفو عنه و يقبل فيه شفاعة شافع و له أن لا يفعل و لو كان ممن يعصم الإسلام دمه لم يحتج إلى شافع و لم يجز رد الشفاعة
و منها : أن عثمان لما قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إنه يفر منك قال : [ ألم أبايعه و أومنه ] قال : بلى و لكنه يتذكر عظيم جرمه فقال : [ الإسلام يجب ما قبله ] و في هذا بيان لأن خوفه من النبي عليه الصلاة و السلام أن يقتله إنما زال بأمانه و بيعته لا لمجرد الإسلام فعلم أن الإسلام يمحو إثم السب و أما سقوط القتل فلا يحصل بمجرد الإسلام لأن النبي عليه الصلاة و السلام أزال خوفه من القتل بالأمان و أزال خوفه من الذنب بالإسلام
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 418 ](2/198)
و مما يدل على أن الأنبياء لهم أن يعاقبوا من آذاهم بالهلاك و أن أظهر التوبة و الندم ما رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل أن قارون كان يؤذي موسى ـ و كان ابن عمه ـ فبلغ من أذاه إياه أن قال لامرأة بغي : إذا اجتمع الناس عندي غدا فتعالي و قولي : 'ن موسى راودني عن نفسي فلما كان الغد و اجتمع الناس جاءت فسارت قارون ثم قالت للناس : إن قارون قال لي كذا و كذا و إن موسى لم يقل لي شيئا من هذا فبلغ موسى عليه الصلاة و السلام و هو قائم يصلي في المحراب فخر ساجدا فقال : أي رب إن قارون قد آذاني و فعل و فعل و بلغ من أذاه إياي أن قال ما قال فأوحى الله إلى موسى : أن يا موسى إني قد أمرت الأرض أن تعطيك و كان لقارون غرفة قد ضرب عليها صفائح الذهب فأتاه موسى و معه جلساؤه فقال لقارون : قد بلغ من أذاك أن قلت كذا و كذا يا أرض خذيهم فأخذتهم الأرض إلى أكعبهم فهتفوا : يا موسى ادع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك و نتبعك و نطيعك فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أنصاف سوقهم فهتفوا و قالوا : يا موسى آدع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك و نتبعك و نطيعك فقال : يا أرض خذيهم [ فأخذتهم ] إلى ركبهم فلم يقول : يا أرض خذيهم حتى تطابقت عليهم و هم يهتفون فأوحى الله يا موسى ما أفظك !
أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخصلتهم
و رواه عبد الرزاق قال : ثنا جعفر بن سليمان ثنا علي بن زيد بن جدعان فذكره أبسط من هذا و فيه أن المرأة قالت : إن قارون بعث إلي فقال : هل لك إلى أن أمولك و أعطيك و أخطبك بنسائي على أن تأتيني و املأ من بني إسرائيل عندي تقولين : يا قارون ألا تنهى موسى عن أذاي(2/199)
و إني لم أحد اليوم توبة أفضل من أن أكذب عدو الله و أبرئ رسول الله قال : فنكس قارون رأسه و عرف أنه قد هلك و فشا الحديث في الناس حتى بلغ موسى صلى الله عليه و سلم و كان موسى صلى الله عليه و سلم شديد الغضب فلما بلغه ذلك توضأ فسجد و بكى و قال : يا رب عدوك قارون كان لي مؤذيا فذكر أشياء ثم لم يتناه حتى أراد فضيحتي يا رب فسلطني عليه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك قال : فجاء موسى يمشي إلى قارون فلما رآه قارون عرف الغضب في وجهه فقال : يا موسى ارحمني فقال موسى : يا أرض خذيهم فاضطربت داره و خسف به و بأصحابه إلى ركبهم و ساخت داره على قدر ذلك و جعل يقول : يا موسى ارحمني و يقول موسى : يا أرض خذيهم و ذكر القصة
فهذه القصة مع أن النبي عليه الصلاة و السلام قال لابن مسعود لما بلغه قول القائل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله : [ دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ]
فهذا ـ مع ما ذكرناه من أحوال النبي عليه الصلاة و السلام ـ دليل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم و سلامه لهم أن يعاقبوا من آذاهم و إن تاب و لهم أن يعفوا عنه كما ذلك لغيرهم من البشر لكن لهم أن يعاقبوا من يؤذيهم بالقتل و الإهلاك و ليس لغيرهم أن يعاقبه بمثل ذلك
و ذلك دليل على أن عقوبة مؤذيهم حد من الحدود لا لمجرد الكفر فإن عقوبة الكافر تسقط بالتوبة بلا ريب و قارون قد كان تاب في وقت تنفع فيه التوبة و لهذا في الحديث : [ أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخصلتهم ] و في لفظ [ لرحمتهم النبي عليه الصلاة و السلام و إنما كان يرحمهم سبحانه و الله أعلم بأن يستطيب نفس موسى من أذاهم كما يستوهب المظالم لمن رحمه من عباده ممن هي له و يعوضه منها(2/200)
الطريق الثانية عشرة : ما تقدم من حديث أنسبن زنيم الديلي الذي ذكر عنه أنه هجا النبي عليه الصلاة و السلام ثم جاءه و أنشده قصيدة تتضمن إسلامه و براءته مما قيل عنه و كان معاهدا فتوقف النبي عليه الصلاة و السلام فيه و جعل يسأل العفو عنه حتى عفا عنه فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد جائزة لما توقف النبي صلى الله عليه و سلم في حقن دمه و لا احتاج إلى العفو عنه و لولا أن للرسول الله صلى الله عليه و سلم حقا يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه كما لم يكن يعفو عمن أسلم و لا تبعة عليه و حديثه لمن تأمله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي صلى الله عليه و سلم من المعاهدين ثم أسلم
كما أن حديث ابن أبي سرح دليل واضح على جواز قتل من سبه مرتدا ثم أسلم و ذلك أنه لما بلغه أنه هجاه و قد كان مهادنا موادعا و كان العهد الذي بينهم يتضمن الكف عن إظهار أذاه و كان على ما قيل عنه قد هجاه قبل أن يقتل بنو بكر خزاعة قبل أن ينقضوا العهد فلذلك ندر النبي صلى الله عليه و سلم دمه ثم أنشد قصيدة يتضمن أنه مسلم يقول فيها : [ تعلم رسول الله ] و : [ هبني رسول الله ] و ينكر فيها أن يكون هجاه و يدعو على نفسه بذهاب اليد إن كان هجاه و ينسب الذين شهدوا عليه إلى الكذب وبلغت رسول الله صلى الله عليه و سلم قصيدته و اعتذاره قبل أن يجيء إليه و شفع له كبير قبيلته نوفل بن معاوية و كان نوفل هذا هو الذي نقض العهد و قال : يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو و من منا لم يعادك و يؤذك و نحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ و ما ندع حتى هدانا الله بك و أنقذنا بك عن الهلك و قد كذب عليه الركب و كثروا عندك فقال : [ دع الركب عنك فإنا لم تجد بتهامة أحدا من ذي رحم قريب و لا بعيد كان أبر من خزاعة ] فأسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قد عفوت عنه ] قال نوفل : فداك أبي و أمي(2/201)
فلو كان الإسلام المتقدم قد عصم دمه لم يحتج إلى العفو كما لم يحتج إليه من أسلم و لا حد عليه و لكان قال : الإسلام يجب ما قبله كما قاله لغيره من الحربيين كما يقول له من يقول : ألا نقتل هذا بعد إسلامه ؟ فيقول : [ الإسلام يجب ما قبله ] و صاحب الشريعة بين أن ما أسقط قتله عفوه و ذلك أن قوله [ عفوت عنه ] إما أن يكون أفاده سقوط ما كان أهدره من دمه أو لم يفده ذلك فإن لم يفده فلا معنى لقوله [ عفوت عنه ] و إن كان قد أفاده سقط ذلك الإهدار فقبل ذلك لو قتله بعض المسلمين بعد أن أسلم و قبل أن عفا عنه النبي صلى الله عليه و سلم لكان جائزا لأنه متبع لأمر رسول الله عليه الصلاة و السلام بقتله أمرا مطلقا إلى حين عفا عنه كما أن أمره بقتل ابن أبي سرح كان باقيا حكمه إلى أن عفا عنه و لذلك عتبهم إذ لم يقتلوه قبل عفوه و هذا بين من هذه الأحاديث بيانا واضحا و لو كان عند المسلمين أن من هجاه من معاهد ثم أسلم عصم دمه لكان نوفل و غيره من المسلمين علموا ذلك و قالوا له كما قالوا لكعب بن زهير و نحوه ممن هجاه و هو حربي : إنه لا يقتل من جاءه مسلما ألا ترى أنهم لم يظهروه لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى عفا عنه كما لم يظهروا ابن أبي سرح حتى عفا عنه بخلاف كعب بن زهير و ابن الزبعرى فإنهما جاءا بأنفسهما لثقتهما بأنه لا يمكن قتل الحربي إذا جاء مسلما و إمكان أن يقتل الذمي الساب و إن جاءا مسلمين و إن كانا قد أسلما ثم إنه في قصيدته قال :
( فإني لا عرضا خرقت و لا دما ... هرقت ففكر عالم الحق و اقصد )
فجمع بين خرق العرض و سفك الدم فعلم أنه مما يؤخذ به و إن أسلم و لولا أن قتله كان ممكنا بعد إسلامه لم يحتج إلى هذا الإنكار و الاعتذار(2/202)
و يؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يندر دم واحد بعينه من بني بكر الناقضي العهد إلا هذا مع أنهم فعلوا تلك الأفاعيل فعلم أن خرق عرضه كان أعظم من نقض العهد بالمقاتلة و المحاربة باليد و قد تقدم الحديث بدلالته و إنما نبهنا عليه هنا إحالة على ما مضى
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 422 ]
الطريقة الثالثة عشرة : أنه قد تقدم أنه كان له عليه الصلاة و السلام أن يقتل من اغلظ له و آذاه و كان له أن يعفو عنه فلو كان المؤذي له إنما يقتل للردة لم يجز العفو عنه قبل التوبة و إذا كان هذا حقا له فلا فرق فيه بين المسلم و الذمي فإنه قد أهدر دم من آذاه من أهل الذمة و قد تقدم أن ذلك لم يكن لمجرد نقض العهد فعلم أنه كان لأذاه و إذا كان له أن يقتل من آذاه و سبه من مسلم و معاهد و له أن يعفو عنه علم أنه بمنزلة القصاص وحد القذف و تعزير السب كغير الأنبياء من البشر و إذا كان كذلك لم يسقط عن مسلم و لا معاهد بالتوبة كما لا تسقط هذه الحدود بالتوبة و هذه طريقة قوية و ذلك أنه إذا كان صلى الله عليه و سلم قد أباح الله له أن يعفو عنه كان المغلب في هذا الحد حقه بمنزلة سب غيره من البشر إلا أن حد سابه القتل وحد ساب غيره الجلد و إذا كان المغلب حقه و كان الأمر في حياته مفوضا إلى اختياره لينال بالعفو علي الدرجات تارة و يقيم بالعقوبة من الحدود ما ينال به أيضا علي الدرجات فإنه صلى الله عليه و سلم نبي الرحمة و نبي الملحمة و هو الضحوك القتال و الذمي قد عاهده على أن لا يخرق عرضه و هو لو أصاب لواحد من المسلمين أو المعاهدين حقا من دم أو مال أو عرض ثم أسلم لم يسقط عنه فأولى أن لا يسقط عنه هذا(2/203)
و إذ قد قدمنا أن قتله لم يكن لمجرد نقض العهد و إنما كان لخصوص السب و إذا كان يجوز له أن يقتل هذا الساب بعد مجيئه مسلما و له أن يعفو عنه فبعد موته تعذر العفو عنه و تمحضت العقوبة حقا لله سبحانه فوجب استيفاؤها على ما لا يخفى : إذ القول بجواز عفو أحد عن هذا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم يفضي إلى أن يكون الإمام مخيرا بين قتل هذا و استبقائه و هو قول لم نعلم له قائلا ثم إنه خلاف قواعد الشريعة و أصولها و قد تقدم فيما مضى الفرق بين حال حياته و حال مماته
الطريقة الرابعة عشرة : أنه قد تقدم الحديث المرفوع إن كان ثابتا [ من سب نبيا قتل و من سب أصحابه جلد ] فأمر بالقتل مطلقا كما أمر بالجلد مطلقا فعلم أن السب للنبي عليه الصلاة و السلام موجب بنفسه للقتل كما أن سب غيره موجب للجلد و أن ذلك عقوبة شرعية على السب و كما لا يسقط هذا الجلد بالتوبة بعد القدرة فكذلك لا يسقط هذا القتل
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 423 ]
الطريقة الخامسة عشرة : أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أفعالهم
فمن ذلك : أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي ربيعة في المرأة التي غنت بهجاء النبي صلى الله عليه و سلم [ لو لا ما سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر ] فأخبره أبو بكر أنه لولا الفوت لأمره بقتلها من غير استتابة و لا استيناء حال توبة مع أن غالب من تقدم ليقتل على مثل هذا يبادر إلى التوبة أو الإسلام إذا علم أنه يدرأعنه القتل و لم يستفصله الصديق عن السابة : هل هي مسلمة أو ذمية ؟ بل ذكر أن القتل حد من سب الأنبياء و أن حدهم ليس كحد غيرهم مع أنه فصل في المرأة التي غنت بهجاء المسلمين بين أن تكون مسلمة أو ذمية(2/204)
و هذا ظاهر في أن عقوبة الساب حد للنبي واجب عليه له أن يعفو عنها في بعض الأحوال و أن يستوفيها في بعض الأحوال كما أن عقوبة ساب غيره حد له واجب على الساب
و قوله : [ فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد ] ليس فيه دلالة على قبول توبته لأن الردة جنس تحتها أنواع : منها ما تقبل فيه التوبة و منها ما لا تقبل كما تقدم التنبيه على هذا و لعله أن تكون لنا إليه عودة و إنما غرضه أن يبين الأصل الذي يبيح دم هذا و كذلك قوله : [ فهو محارب غادر ] فإن المحارب الغادر جنس يباح دمه ثم منهم من يقتل و إن أسلم كما لو حارب بقطع الطريق أو باستكراه مسلمة على الزنا و نحو ذلك
قال تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض كفسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } الأية [ المائدة : 33 ] ثم إنه لم يرفع العقوبة إلا إذا تابوا قبل القدرة عليهم و قد قدمنا أن هذا محارب مفسد فيدخل في هذه الآية
و عن مجاهد قال : أتي عمر برجل يسب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتله ثم قال عمر : [ من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه ]
هذا مع أن سيرته في المرتد أنه يستتاب ثلاثا و يطعم كل يوم رغيفا لعله يتوب فإذا أمر بقتل هذا من غير استتابة علم أن جرمه اغلظ عنده من جرم المرتد المجرد فيكون جرم سابه من أهل العهد أغلظ من جرم من اقتصر على نقض العهد لا سيما و قد أمر بقتله مطلقا من غير ثنيا
و كذلك المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه و سلم فقتلها خالد بن الوليد و لم يستتبها دليل على أنها ليست كالمرتدة المجردة
و كذلك حديث محمد بن مسلمة لما حلف ليقتلن ابن يامين لما ذكر أن قتل ابن الأشرف كان غدرا و طلبه لقتله بعد ذلك مدة طويلة و لم ينكر المسلمون ذلك عليه مع أنه لو قتله لمجرد الردة لكان قد عاد إلى الإسلام بما أتى به بعد ذلك من الشهادتين و الصلوات و لم يقتل حتى يستتاب(2/205)
و كذلك قول ابن عباس في الذمي يرمي أمهات المؤمنين [ إنه لا توبة له ] نص في هذا المعنى و هذه القضايا قد اشتهرت و لم يبلغنا أن أحدا أنكر شيئا من ذلك ـ كما أنكر عمر رضي الله عنه قتل المرتد الذي لم يستتب و كما أنكر ابن عباس رضي الله عنهما تحريق الزنادقة و أخبر أن حدهم القتل ـ فعلم أنه كان مستفيضا بينهم أن حد الساب أن يقتل إلا ما روي عن ابن عباس : [ من سب نبيا من الأنبياء فقد كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي ردة يستتاب فإن تاب و إلا قتل ]
و هذا في سب يتضمن جحد نبوة نبي من الأنبياء فإنه يتضمن تكذيب رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا ريب أن من قال عن بعض الأنبياء إنه ليس بنبي و سبه بناء على أنه ليس بنبي فهذه ردة محضة و يتعين حمل حديث ابن عباس على هذا أو نحوه إن كان محفوظا عنه لأنه أخبر أن قاذف أمهات المؤمنين لا توبة له فكيف تكون حرمتهن لأجل سب رسول الله صلى الله عليه و سلم أعظم من حرمة نبي معروف مذكور في القرآن ؟
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 425 ](2/206)
الطريقة السادسة عشرة : أن الله سبحانه و تعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه و سلم على القلب و اللسان و الجوارح حقوقا زائدة على مجرد التصديق بنبوته كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب و اللسان و الجوارح أمورا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه و حرم سبحانه لحرمة رسوله ـ مما يباح أن يفعل مع غيره ـ أمورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته فمن ذلك : أنه أمر بالصلاة عليه و التسليم بعد أن أخبر أن الله و ملائكته يصلون عليه و الصلاة تتضمن ثناء الله عليه و دعاء الخير له و قربته منه و رحمته له و السلام عليه يتضمن سلامته من كل آفة فقد جمعت الصلاة عليه و التسليم جميع الخيرات ثم إنه يصلي سبحانه عشرا على من يصلي عليه مرة واحدة حضا للناس على الصلاة عليه ليسعدوا بذلك و ليرحمهم الله بها و من ذلك : أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن حقه أن يحب أن يؤثره العطشان بالماء و الجائع بالطعام و أنه يحب أن يوقى بالأنفس و الأموال كما قال سبحانه و تعالى : { ما كان لأهل المدينة و من حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } [ التوبة : 120 ]
فعلم أن رغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المشقة معه حرام(2/207)
و قال تعالى مخاطبا للمؤمنين فيما أصابهم من مشقات الحصر و الجهاد : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيرا } [ الأحزاب : 21 ] و من حقه : أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه و ولده و جميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه : { قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم ـ إلى قوله ـ أحب إليكم من الله و رسوله } الآية [ التوبة : 24 ] مع الأحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فأنت و الله يا رسول الله أحب إلي من نفسي قال : الآن يا عمر و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده و والده و الناس أجمعين ] متفق عليه
و من ذلك : أن الله أمر بتعزيره فقال : { و تعزروه و توقروه } [ الفتح : 9 ] و التعزير : اسم جامع لنصره و تأييده و منعه من كل ما يؤذيه و التوقير : اسم جامع لكل ما فيه سكينة و طمأنينة من الإجلال و الإكرام و أن يعامل من التشريف و التكريم و التعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار(2/208)
و من ذلك : أنه خصه في المخاطبة بما يليق به فقال : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } [ النور : 63 ] فنهى أن يقولوا : يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم و لكن يقولوا : يل رسول الله يا نبي الله و كيف لا يخاطبونه بذلك و الله سبحانه و تعالى أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء فلم يدعه باسمه في القرآن قط بل يقول : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها } [ الأحزاب : 28 ] { يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين } [ الأحزاب : 59 ] { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } [ الأحزاب : 50 ] { يا أيها النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا } [ الأحزاب : 45 ] { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } [ التحريم : 1 ] { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] { يا أيها المزمل قم الليل } [ المزمل : 1 ] { يا أيها المدثر قم فأنذر } [ المدثر : 1 ] { يا أيها النبي حسبك الله } [ الأنفال : 64 ] مع أنه سبحانه قد قال : { و قلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك } الآية [ البقرة : 25 ] { يا آدم أنبئهم بأسمائهم } [ البقرة : 33 ] { يا نوح إنه ليس من أهلك } [ هود : 46 ] { يا إبراهيم أعرض عن هذا } [ هود : 76 ] { يا موسى إني اصطفيتك على الناس } [ الأعراف : 144 ] { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } [ ص : 26 ] { يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك و على والدتك } [ المائدة : 110 ](2/209)
و من ذلك : أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن و حرم رفع الصوت فوق صوته و أن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل و أخبر أن ذلك سبب حبوط العمل فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر لأن العمل لا يحبط إلا به و أخبر أن الذين يغضون أصواتهم عنده هم الذين امتحنت قلوبهم للتقوى و أن الله يغفر لهم و يرحمهم و أخبر أن الذين ينادونه و هو في منزله لا يعقلون لكونهم رفعوا أصواتهم عليه و لكونهم لم يصبروا حتى يخرج و لكن أزعجوه إلى الخروج
و من ذلك : أنه حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا تمييزا له مثل نكاح أزواجه من بعده فقال تعالى : { و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما } [ الأحزاب : 53 ]
و أوجب على الأمة لأجله احترام أزواجه و جعلهن أمهات في التحريم و الأحترام فقال سبحانه و تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ]
و أما ما أوجبه من طاعته و الانقياد لأمره و التأسي بفعله فهذا باب واسع لكن ذاك قد يقال : هو من لوازم الرسالة و إنما الغرض هنا أن ننبه على بعض ما أوجبه الله له من الحقوق الواجبة و المحرمة مما يزيد على لوازم الرسالة بحيث يجوز أن يبعث الله رسولا و لا يوجب له هذه الحقوق
و من كرامته المتعلقة بالقول : أنه فرق بين أذاه و أذى المؤمنين فقال تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ]
و قد تقدم أن في هذه الآية ما يدل على أن حد من سبه القتل كما أن حد من سب غيره الجلد(2/210)
و من ذلك : أن الله رفع له ذكره فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه و لا تصح للأمة خطبة و لا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده و رسوله و أوجب ذكره في كل خطبة و في الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام و في الأذان الذي هو شعار الإسلام و في الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع
هذا إلى خصائص له أخر يطول تعدادها
و إذا كان كذلك فمعلوم أن سابه و منتقصه قد ناقض الإيمان به و ناقض تعزيزه و توقيره و ناقض رفع ذكره و ناقض الصلاة عليه و التسليم و ناقض تشريفه في الدعاء و الخطاب بل قابل أفضل الخلق بما لا يقابل به أشر الخلق
و يوضح ذلك أن مجرد إعراضه عن الإيمان به يبيح الدم مع عدم العهد و إعراضه عن هذه الحقوق الواجبة يبيح العقوبة فهذا بمجرد سكوته عن تشريفه و تكريمه و تعظيمه فإذا أتى بضد ذلك من الذم و السب و الانتقاص و الاستخفاف فلابد أن يوجب ذلك زيادة على الدم و العقاب فإن مقادير العقوبات على مقادير الجرائم ألا ترى أن الرجل لو قتل رجلا اعتباطا لكان عقوبته القود و هو التسليم إلى و لي المقتول فإن انضم إلى ذلك قتله لأخذ المال مجاهرة صارت العقوبة تحتم القتل فإن انضم إلى ذلك أخذ المال عوقب مع ذلك بالصلب و عوقب عند بعض العلماء أيضا بقطع اليد و الرجل حتما مع أن أخذ المال سرقة لا يوجب إلا قطع اليد فقط و كذلك لو قذف عبدا أو ذميا أو فاجرا لم يجب عليه إلا التعزيز فلو قذف حرا مسلما عفيفا لوجب عليه الحد التام فلو قيل : [ إنه لا يجب عليه مع ذلك إلا ما يجب على من ترك الإيمان به أو ترك العهد الذي بيننا و بينه ] لسوى بين الساكت عن ذمه و سبه و المبالغ في ذلك و هذا غير جائز كما أنه غير جائز التسوية بين الساكت عن مدحه و الصلاة عليه و المبالغ في ذلك و لزم في ذلك أن لا يكون لخصوص سبه و ذمه و أذاه عقوبة مع أنه من أعظم الجرائم و هذا باطل قطعا(2/211)
و معلوم أن لا عقوبة فوق القتل ثم [ ليس ] سوى الزيادة على ذلك إلا تعين قتله و تحتمه تاب أو لم يتب كحد قاطع الطريق إذ لا يعلم أحد وجب أن يجلد لخصوص السب ثم يقتل للكفر إذا كانت العقوبة لخصوص السب كانت حدا من الحدود و هذه مناسبة ظاهرة قد دل على صحتها دلالات النصوص السالفة من كون السب موجبا للقتل و العلة إذا ثبتت بالنص أو بالإيماء لم يحتج إلى أصل يقاس عليه الفرع و بهذا يظهر أنا لم نجعل خصوص السب موجبا للقتل إلا بما دل عليه من الكتاب و السنة و الأثر لا بمجرد الاستحسان و الاستصلاح كما زعمه من لم يحظ بمآخذ الأحكام على أن الأصل الذي يقاس به هذا الفرع ثابت و هو :(2/212)
الطريقة السابعة عشرة : و ذلك أنا وجدنا الأصول التي دل عليها الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة حكمت في المرتد و ناقض العهد حكمين فمن لم يصدر منه إلا مجرد الردة أو مجرد نقض العهد ثم عاد إلى الإسلام عصم دمه كما دل عليه كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد تقدم ذكر بعض ما يدل على ذلك في المرتد و هو ناقض العهد أيضا موجود بقوله في بعض من نقض العهد { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } [ التوبة : 27 ] و بأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل إسلام من أسلم من بني بكر و كانوا قد نقضوا العهد و عدوا على خزاعة فقتلوهم و قبل إسلام قريش الذين أعانوهم على قتال المسلمين حتى انتقض عهدهم في حصره لقريظة و النضير مذكور أنهم لو أسلموا لكف عنهم و قد جاء نفر منهم مسلمين فعصموا دماءهم و أموالهم منهم ثعلبة بن سعية و أسد بن سعية و أسد بن عبيد أسلموا في الليلة التي نزل فيها بنو قريظة على حكم رسول الله عليه الصلاة و السلام و خبره مشهور و من تغلظت ردته أو نقضه بما يضر المسلمين إذا عاد إلى الإسلام لم تسقط عنه العقوبة مطلقا بل يقتل إذا كان جنس ما فعله موجبا للقتل أو يعاقب بما دونه إن لم يكن كذلك كما دل عليه قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } الآية [ المائدة : 33 ] و كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في قصة ابن أبي سرح و ابن زينم و في قصة ابن خطل و قصة مقيس بن صبابة و قصة العرنييين و غيرهم و كما دل عليه الأصول المقررة(2/213)
فإن الرجل إذا اقترن بردته قطع طريق أو قتل مسلم أو زنا أو غير ذلك ثم رجع إلى الإسلام أخذت منه الحدود و كذلك لو اقترن بنقض عهده الإضرار بالمسلمين من قطع الطريق أو قتل مسلم أو زنا بمسلمة فإن الحدود تستوفى منه بعد الإسلام : إما الحد الذي يجب على المسلم لو فعل ذلك أو الحد الذي كان واجبا قبل الإسلام و هذا الرجل الساب قد وجد منه قدر زائد على مجرد نقض العهد كما قدمناه في الإضرار بالمسلم الذي صار به أغلظ جرما من مجرد ناقض العهد أو فعل ما هو أعظم من أكثر الأمور المضرة كما تقدم فصار بمنزلة من قرن بنقض عهده أذى المسلمين في دم أو مال أو عرض و أشد إذا كان كذلك فإسلامه لا يزيل عنه عقوبة هذا الإضرار كما دلت عليه الأصول في مثله و عقوبة هذا الإضرار قد قد ثبت أنه القتل بالنص و الإسلام الطارئ لا يمنع ابتداء هذه العقوبة فإن المسلم لو ابتدأ بمثل هذا قتل قتلا يسقط بالتوبة كما تقدم
و إذا لم يمنع الإسلام ابتداءها فأن لا يمنع بقاءها و دوامها أولى و أحرى لأن الدوام و البقاء أقوى من الأبتداء و الحدوث في الحسيات و العقليات و الحكميات
ألا ترى أن العدة الإحرام و الردة تمنع ابتداء النكاح و لا تمنع دوامه و الإسلام يمنع ابتداء وجوب القود وحد القذف على المسلم إذا قتل أو قذف ذميا و لا يمنع دوامه عليه إذا أسلم بعد القتل و القذف
و لو فرض أن الإسلام يمنع ابتداء قتل هذا فلا يجب أن يسقط القتل بإسلامه لأن الدوام أقوى من الابتداء و جاز أن يكون بمنزلة القود و حد القذف فإن الإسلام يمنع ابتداءه دون دوامه لا سيما و السب فيه حق لآدمي ميت و فيه جناية متعلقة بعموم المسلمين فهو مثل القتل في المحاربة ليس حقا لمعين و إذا كان كذلك وجب استيفاؤه كغيره من المحاربين المفسدين(2/214)
يحقق ذلك أن الذمي إذا قطع الطريق و قتل مسلما فهو يعتقد في دينه جواز قتل المسلم و آخذ ماله و إنما حرمه عليه العهد الذي بيننا و بينه كما أنه يعتقد جواز السب في دينه و إنما حرمه عليه العهد و قطع الطريق قد يفعل استحلالا و قد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض كما أن سب الرسول قد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض فهو مثله من كل وجه إلا أن مفسدة ذلك في الدنيا و مفسدة هذا في الدين و هي أعظم من مفسدة الدنيا عند المؤمنين بالله العالمين به و بأمره فإذا أسلم قاطع الطريق فقد تجدد منه إظهار اعتقاد تحريم دم المسلم و ماله مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد و كذلك إذا أسلم الساب فقد تجدد إظهار اعتقاد تحريم عرض الرسول مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد فإذا كان هناك يجب قتله بعد إسلامه فكذلك يجب قتله هنا بعد إسلامه و يجب أن يقال : إذا كان ذلك لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة فكذلك هذا لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة
و من أمعن النظر لم يسترب في أن هذا محارب نفسد كما أن قاطع الطريق محارب مفسد(2/215)
و لا يرد على هذا سب الله تعالى : لأن أحدا من البشر لا يسبه اعتقادا إلا بما يراه تعظيما و إجلالا كزعم أهل التثليث أن له صاحبه و ولدا فإنهم يعتقدون أن هذا من تعظيمه و التقرب إليه و من سبه لا على هذا الوجه فالقول فيه كالقول فيمن سب الرسول على أحد القولين ـ و هو المختار كما سنقرره ـ و من فرق قال : إنه تعالى لا تلحقه غضاضة و لا انتقاص بذلك و لا يكاد أحد يفعل ذلك أصلا إلا أنم يكون وقت غضب و نحو ذلك بخلاف سب الرسول فإنه يسبه ـ انتقاصا له و استخفافا به ـ سبا يصدر عن اعتقاد و قصد إهانة و هو من جنس تلحقه الغضاضة و يقصد بذلك و قد يسب تشفيا و غيظا و ربما حل منه في النفوس خبائل و نفر عنه بذلك خلائق و لا تزول نفرتهم عنه بإظهار التوبة كما لا تزول مفسدة الزنا و قطع الطريق و نحو ذلك بإظهار التوبة و كما لا يزول العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة فكانت عقوبة الكفر يندرج فيها ما يتبعه من سب الله سبحانه بخلاف سب الرسول
فإن قيل : قد تكون زيادة العقوبة على مجرد الناقض للعهد تحتم قتله ما دام كافرا بخلاف غيره من الكافرين فإن عقد الأمان و الهدنة و الذمة و استرقاقهم و المن عليهم و المفاداة بهم جائز في الجملة فإذا أتى مع حل دمه لنقض العهد أو لعدمه بالسب تعين قتله كما قررتموه و هكذا الجواب عن المواضع التي قتل النبي عليه الصلاة و السلام فيها من سبه أو أمر بقتله أو أمر أصحابه بذلك فإنها تدل على أن الساب يقتل و إن لم يقتل من هو مثله من الكافرين
و كذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام ليهود في قصة ابن الأشرف : [ إنه لوقر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف ](2/216)
و إذا كان كذلك فيكون القتل وجب لأمرين : للكفر و لتغلظه بالسب كما يجب قتل المرتد للكفر و لتغلظه بترك الدين الحق و الخروج منه فمتى زال الكفر زال الموجب للذم فلم يستقل بقاء أثر السب بإحلال الدم و تبع الكفر في الزوال كما تبعه في الحصول فإنه فرع للكفر و نوع منه فإذا زال الأصل زالت جميع فروعه و أنواعه
و هذا السؤال قد يمكن تقريره في سب من يدعي الإسلام بناء على أن السب فرع للردة و نوع منها و قد لا يمكن : لأنه يتجدد من هذا بعد السب ما لم يكن موجودا حال السب بخلاف الكافر
قلنا : و هذا أيضا دليل علىأن قتل الساب حد من الحدود فإنه قد تقدم أنه يجب قتله إن كان معاهدا و لا يجوز استبقاؤه بعد السب بأمان و لا استرقاق و لو كان إنما يقتل لكونه كافرا محاربا لجاز أمانه و استرقاقه و المفاداة به فلما كان جزاؤه القتل علم أن قتله حد من الحدود و ليس بمنزلة قتل سائر الكفار
و من تأمل الأدلة الشرعية نصوصها و مقاييسها ـ مما ذكرناه و مما لم نذكره ـ ثم ظن بعد هذا أن قتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد كقتل الأسير فليس على بصيرة من أمره و لا ثقة من رأيه
و ليس هذا من المسالك المحتملة بل من مسالك القطع فإن من تأمل دلالات الكتاب و السنه و ما كان عليه سلف الأمة و ما توجبه الأصول الشرعية علم قطعا أن للسب تأثيرا في سفح الدم زائدا على تأثير مجرد الكفر الخالي عن عهد
نعم قد يقال : هو مقتول بمجموع الأمرين بناء على أن كفر الساب نوع مغلظ لا يحتمل الاستبقاء ككفر المرتد فيكون مقتولا لكفره و سبه و يكون القتل حدا بمعنى أنه يجب إقامته ثم يزول موجبه بالتوبة كقتل المرتد فهذا ليس بمساغ لكن فيما تقدم ما يضعف هذا الوجه و مع هذا فإنه لا يقدح في كون قتل الساب حدا من الحدود وجب لما في خصوص ظهور سب الرسول من المفسدة
و إنما يبقى أن يقال : هذا الحد هل يسقط بالإسلام أم لا ؟(2/217)
فنقول : جميع ما ذكرناه من الدلالات و إن دلت على وجوب قتله بعد إظهار التوبة فهي دالة على أن قتله حد من الحدود و ليس بمجرد الكفر و هي دالة على هذا بطريق القطع لما ذكرناه من تفريق الكتاب و السنة و الإجماع بين من اقتصر على الكفر الأصلي أو الطارئ أو نقض العهد و بين من سب الرسول من هؤلاء و إذا لم يكن القتل لمجرد الكفر لم يبق إلا أن يكون حدا و إذا ثبت أنه يقتل لخصوص السب لكونه حدا من الحدود ـ لا لعموم كونه كافرا غير ذي عهد أو لعموم كونه مرتدا ـ فيجب أن لا يسقط بالتوبة و الإسلام لأن الإسلام و التوبة لا يسقطان شيئا من الحدود الواجبة قبل ذلك إذا كانت التوبة بعد الثبوت و الرفع إلى الإمام بالاتفاق
و قد دل القرآن على أن حد قاطع الطريق و الزاني و السارق و القاذف لا يسقط بالتوبة بعد التمكن من إقامة الحد
و دلت السنة على مثل ذلك في الزاني و غيره و لم يختلف المسلمون فيما علمناه أن المسلم إذا زنى أو سرق أو قطع الطريق أو شرب الخمر فرفع إلى السلطان و ثبت عليه الحد ببينة ثم تاب من ذلك أنه تجب إقامة الحد عليه إلا أن يظن أحد في ذلك خلافا شاذا لا يعتد به فهذه حدود الله و كذلك لو وجب عليه قصاص أو حد أو قذف أو عقوبة سب لمسلم أو معاهد ثم تاب من ذلك لم تسقط عنه العقوبة و كذلك أيضا لم يختلفوا فيما علمناه أمن الذمي لو وجب عليه حد قطع الطريق أو حد السرقة أو قصاص أو حد قذف أو تعزير ثم أسلم و تاب من ذلك لم يسقط عنه ذلك و كذلك أيضا لو زنى فإنه إذا وجب عليه حد الزنا ثم أسلم لم يسقط عنه بل يقام عليه حد الزنا عند من يقول بوجوبه قبل الإسلام و يقتل حتما عند الإمام أحمد إن كان زنا نقض عهده(2/218)
هذا مع [ أن ] الاسلام يجب ما قبله و التوبة تجب ما قبلها فيغفر للتائب ذنبه مع إقامة الحد عليه تطهيرا له و تنكيلا للناس عن مثل تلك الجريمة فتحصل بإقامة الحد المصلحة العامة ـ و هي زجر الملتزمين للاسلام أو الصغار عن مثل ذلك الفساد ـ فإنه لو لم يقم الحد عند إظهار التوبة لم يتأت إقامة حد في الغالب فإنه لا يشاء المفسد في الأرض إذا أخذ أن يظهر التوبة إلا أظهرها و أوشك كل من هم بعظيمة من العظائم من الأقوال أو الأفعال أن يرتكبها ثم إذ أحيط به قال : إني تائب
و معلوم أن ذلك لو درأ الحد الواجب لتعطلت الحدود و ظهر الفساد في البر و البحر و لم يكن في شرع العقوبات و الحدود كثير مصلحة و هذا ظاهر لا خفاء به
ثم الجاني لو تاب توبة نصوحا فتلك نافعة فيما بينه و بين الله يغفر له ما سلف و يكون الحد تطهيرا و تكفيرا لسيئته و هو من تمام التوبة كما قال ماعز ابن مالك للنبي صلى الله عليه و سلم : [ طهرني ] و قد جاء تائبا و قال تعالى لما ذكر كفارة قتل الخطأ : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله و كان الله عليما حكيما } [ النساء : 92 ] و قال تعالى في كفارة الظهار : { ذلكم توعظون به } [ المجادلة : 3 ]
فيشتمل الحد مع التوبة على مصلحتين عظيمتين :
مصلحة زجر النفوس عن مثل تلك الجريمة و هي أهم المصلحتين فإن الدنيا في الحقيقة ليست دار كمال الجزاء و إنما كمال الجزاء في الآخرة و إنما الغالب في العقوبات الشرعية الزجر و النكال و إن كان فيها مقاصد آخر كما أن غالب مقصود العدة براءة الرحم و إن كان فيها مقاصد أخر و لهذا كانت هذه المصلحة مقصودة في كل عقوبة مشروعة
و المصلحة الثانية : تطهير الجاني و تكفير خطيئته إن كان له عند الله خير أو عقوبة و الانتقام منه إن لم يكن كذلك و قد يكون زيادة في ثوابه و رفعة في درجاته(2/219)
و نظير ذلك المصائب المقدرة في النفس و الأهل و المال فإنها تارة تكون كفارة و طهورا و تارة تكون زيادة في الثواب و علوا في الدرجات و تارة تكون عقابا و انتقاما
لكن إذا تاب الإنسان سرا فإن الله يقبل توبته سرا و يغفر له من غير إحواج له إلى أن يظهر ذنبه حتى يقام حده عليه أما إذا أعلن الفساد بحيث يراه الناس و يسمعونه حتى شهدوا به عند السلطان أو اعترف به هو عند السلطان فإنه لا يطهره ـ مع التوبة بعد القدرة ـ إلا إقامته منه عليه إلا أن في التوبة ـ إذا كان الحد لله و ثبت بإقراره ـ خلافا سنذكره إن شاء الله تعالى و لهذا قال عليه الصلاة و السلام : [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ] و قال النبي عليه الصلاة و السلام لما شفع إليه في السارقة : [ تطهر خيرا لها ] و قال : [ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ] و قال : [ من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبدو لنا صفحته نقم عليه كتاب الله ]
إذا تبين ذلك فنقول : هذا الذي أظهر سب رسول الله عليه الصلاة و السلام من مسلم و معاهد قد أتى بهذه المفسدة التي تضمنت ـ مع الكفر ونقض العهد ـ أذى الله و رسوله و انتهاك تلك الحرمة التي هي أفضل حرمة المخلوقين و الوقيعة في عرض لا يساوي غيره من الأعراض و الطعن في صفات الله و أفعاله و في دين الله و كتابه و جميع أنبيائه و المؤمنين من عباده فإن الطعن في واحد من الأنبياء طعن في جميع الأنبياء كما قال سبحانه و تعالى : { أولئك هم الكافرون حقا } [ النساء : 151 ] و طعن في من آمن بنبينا من الأنبياء و المؤمنين المتقدمين و المتأخرين و قد تقدم تقرير هذا
ثم هذه العظيمة صدرت ممن التزم بعقد إيمانه أو أمانه أنه لا يفعل ذلك فإذا وجبت عقوبته على تلك الجريمة لخصوصها كما تقدم ـ امتنع أن يسقط بما يظهره من التوبة كما تقدم أيضا
ثم هنا مسلكان :(2/220)
المسلك الأول ـ و هو مسلك طائفة من أصحابنا و غيرهم ـ أن يقتل حدا لله كما يقتل لقطع الطريق و للردة و للكفر لأن السب للرسول عليه الصلاة و السلام قد تعلق به حق الله و حق كل مؤمن فإن أذاه ليس مقصورا على رسول الله عليه الصلاة و السلام فقط كمن يسب واحدا من عرض الناس بل هو أذى لكل مؤمن كان و يكون بل هو عندهم من أبلغ أنواع الأذى و يود كل مؤمن منهم أن يفتدى هذا العرض بنفسه و أهله و عرضه و ماله كما تقدم ذكره عن الصحابة من أنهم كانوا يبذولون دماءهم في صون عرضه و كان رسول الله عليه الصلاة و السلام يمدح من فعل ذلك سواء قتل أو غلب و يسميه ناصرا لله و رسوله و لو لم يكن السب أعظم من قتل بعض المسلمين لما جاز بذل الدم في درئه كما لا يجوز بذل الدم في صون عرض واحد من الناس و قد قال حسان بن ثابت يخاطب أبا سفيان بن الحارث :
( هجوت محمدا فأجبت عنه ... و عند الله في ذاك الجزاء )
( فإن أبي و والدتي و عرضي ... لعرض محمد منكم وقاء )
و ذلك أنه انتهاك للحرمة التي نالوا بها سعادة الدنيا و الآخرة و بها ينالها كل واحد سواهم و بها يقام دين الله و يرضى الله عن عباده و يحصل ما يحبه و ينتفي ما يبغضه كما أن قاطع الطريق و إن قتل واحدا فإن مفسدة قطع الطريق تعم جميع الناس فلم يفوض الأمر فيه إلى ولي المقتول(2/221)
نعم كان الأمر في حياة النبي عليه الصلاة و السلام مفوضا إليه فيمن سبه : إن أحب عفا عنه و إن أحب عاقبه و إن كان في سبه حق الله و لجميع المؤمنين لأن الله سبحانه يجعل حقه في العقوبة تبعا لحق العبد كما ذكرناه في القصاص و حقوق الآدميين تابعة لحق الرسول فإنه أولى بهم من أنفسهم و لأن في ذلك تمكينه صلى الله عليه و سلم من أخذ العفو و الأمر بالعرف و الإعراض عن الجاهلين الذي أمره الله تعالى به في كتابه و تمكينه من العفو و الإصلاح الذي يستحق به أن يكون أجره على الله و تمكينه من أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة كما أمره الله و تمكينه من استعطاف النفوس و تأليف القلوب على الإيمان و إجتماع الخلق عليه و تمكينه من تركم التنفير عن الإيمان و ما يحصل بذلك من المصلحة يغمر ما يحصل باستبقاء الساب من المفسدة كما دل عليه قوله تعالى : { و لو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم و شاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ](2/222)
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 439 ]
و قد بين رسول الله صلى الله عليه و سلم نفس هذه الحكمة حيث قال : [ أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] و قال فيما عامل به ابن أبي من الكرامة : [ رجوت أن يؤمن بذلك ألف من قومه ] فحقق الله رجاءه و لو عاقب كل من آذاه بالقتل لخامر القلوب ـ عقدا أو وسوسة ـ أن ذلك لما في النفس من حب الشرف و أنه من باب غضب الملوك و قتلهم على ذلك و لو يبح له عقوبته لا تنهك العرض و استبيحت الحرمة و انحل رباط الدين و ضعفت العقيدة في حرمة النبوة فجعل الله له الأمرين
فلما انقلب إلى رضوان الله و كرامته و لم يبق واحد مخصوص من الخلق إليه استيفاء هذه العقوبة و العفو عنها و الحق فيها ثابت لله سبحانه و رسول الله عليه الصلاة و السلام و لعباده المؤمنين و علم كل ذي عقل أن المسلمين إنما يقتلونه لحفظ الدين و حفظ حمى الرسول و وقاية عرضه فقط ـ كما يقتلون قاطع الطريق لأمن الطرقات من المفسدين و كما يقطعون السارق لحفظ الأموال و كما يقتلون المرتد صونا للداخلين في الدين من الخروج عنه ـ و لم يبق هنا توهم مقصود جزوي كما قد كان في زمانه أن قتل الساب كذلك و تقرير ذلك بالساب له من المسلمين فإنه قد كان له أن يعفو عنه مع أنه لا يحل للأمة إلا إراقة دمه فحاصله أنه في حياته قد غلب في هذه الجناية حقه ليتمكن من الاستيفاء و العفو و بعد موته فهي جناية على الدين مطلقا ليس لها من يمكنه العفو عنها فوجب استيفاؤها و هذا مسلك خير لمن يدبر غوره
ثم هنا تقريران :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 440 ]
أحدهما : أن يقال : الساب من جنس المحارب المفسد و قد تقدم في ذلك زيادة بيان و مما يؤيده أنه سبحانه و تعالى قال : { من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } [ المائدة : 32 ] فعلم أن كل ما أوجب القتل حقا لله كان فسادا في الأرض و إلا لم يبح(3/1)
و هذا السب قد أباح الدم فهو فساد في الأرض و هو أيضا محاربة لله و رسوله على ما لا يخفى لأن المحاربة هنا ـ و الله أعلم ـ إنما عني بها المحاربة بعد المسالمة لأن المحاربة الأصلية لم يدخل حكمها في هذه الآية و سبب نزولها إنما كان فعل مرتد وناقض عهد فعلم أنهما جميعا دخلا فيها و هذا قد حارب بعد المسالمة و أفسد في الأرض فتعين إقامة الحد عليه
الثاني : أن يكون السب جناية من الجنايات الموجبة للقتل كالزنا و إن لم يكن حرابا كحراب قاطع الطريق فإن من الفساد ما يوجب القتل و إن لم يكن حرابا و هذا فساد قد أوجب القتل فلا يسقط بالتوبة كغيره من أنواع الفساد إذ لا يستثنى من ذلك إلا القتل للكفر الأصلي أو الطارىء و قد قدمنا أن هذا القتل ليس هو كقتل سائر الكفار
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 441 ](3/2)
فإن قيل : فإذا كان السب حدا لله فيجب أن يسقط بالإسلام كما يسقط حد المرتد بالإسلام و كما يسقط قتل الكافر بالإسلام و ذلك أن مجرد تسميته حدا لا يمنع سقوطه بالتوبة أو بالإسلام فإن قتل المرتد حد فإن الفقهاء يقولون : [ باب حد المرتد ] ثم إنه يسقط بالإسلام ثم إن هذا أمر لفظي لا تناط به الأحكام و إنما تناط بالمعاني و كل عقوبة لمجرم فهي حد من حيث تزجره و تمنعه من تلك الجريمة و إن لم تسم حدا لكن لا ريب أنه إنما يقتل للكفر و السب و السب لا يمكن تجريده عن الكفر و المحاربة حتى يفرض ساب قد وجب قتله و هو مؤمن أو معاهد باق على عهده كما يفرض مثل ذلك في الزاني و السارق و القاذف فإن أولئك وجبت عقوباتهم لتلك الجرائم و هي قبل الإسلام و بعده سواء و هذا إنما وجب عقوبته بجرم هو من فروع الكفر و أنواعه فإذا زال الأصل تبعته فروعه فيكون الموجب للقتل أنه كافر محارب و أنه مؤذ لله و لرسوله كما قال النبي عليه الصلاة و السلام لعقبة بن أبي معيط لما قال [ مالي أقتل من بينكم صبرا ] ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم [ بكفرك و افترائك على رسول الله ] و العلة إذا كانت ذات وصفين زال الحكم بزوال أحدهما
و نحن قد نسلم أنه يتحتم قتله إذا كان ذميا كما يتحتم قتل المرتد لتغلظ كفر بأذى الله و رسوله كتغلظ كفر المرتد بترك الدين لكن الإسلام يسقط كل حد تعلق بالكفر كما يسقط حد المرتد فلم ألحقتم هذا الحد بقاطع الطريق و الزاني و السارق و لم تلحقوه بالمرتد ؟ فهذا نكتة هذا الموضع(3/3)
فنقول : لا يسقط شيء من الحدود بالإسلام و لا فرق بين المرتد و غيره في المعنى بل كل عقوبة وجبت لسبب ماض أو حاضر فإنها تجب لوجوب سبيها و تعدم لعدمه و الكافر الأصلي و المرتد لم يقتل لأجل ما مضى من كفره فقط و إنما يقتل للكفر الذي هو الآن موجود إذ الأصل بقاؤه على ما كان عليه فإذا تاب زال الكفر فزال المبيح للدم لأن الدم لا يباح بالكفر إلا حال وجود الكفر إذ المقصود بقتله أن تكون كلمة الله هي العليا و أن يكون الدين كله لله فإذا انقاد لكلمة الله و دان بدين الله حصل مقصود القتال و مطلوب الجهاد و كذلك المرتد إنما يقتل لأنه تارك للدين مبدل له فإذا هو عاد لم يبق مبدلا و لا تاركا و بذلك يحصل حفظ الدين فإنه لا يترك مبدلا له
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 442 ]
أما الزاني و السارق و قاطع الطريق فإنه سواء كان مسلما أو معاهدا لم يقتل لدوامه على الزنا و السب و قطع الطريق فإن هذا غير ممكن و لم يقتل لمجرد اعتقاده حل ذلك أو إرادته له فإن الذمي لا يباح دمه بهذا الاعتقاد و لا يباح دم مسلم و لا ذمي بمجرد الإرادة فعلم أن ذلك وجب جزاء على ما مضى و زجرا عما يستقبل منه و من غيره فمن أظهر سب الرسول من أهل الذمة أو سبه من المسلمين ثم ترك بالسب و انتهى عنه فليس هو مستديما للسب كما يستديم الكافر المرتد و غيره على كفره بل أفسد في الأرض كما أفسد غيره من الزناة و قطاع الطريق و نحن نخاف أن يتكرر مثل هذا الفساد منه و من غيره كما نخاف مثل ذلك في الزاني و قاطع الطريق لأن الداعي له إلى ما فعله من السب ممكن منه و من غيره من الناس فوجب أن يعاقب جزاء بما كسب نكالا من الله له و لغيره و هذا فرق ظاهر بين قتل المرتد و الكافر الأصلي و بين قتل الساب و القاطع و الزاني و بيانه أن الساب من جنس الجريمة الماضية لا من جنس الجريمة الدائمة لكن مبناه على أن يوجب الحد لخصوصه لا لكونه كفرا و قد تقدم بيان كذلك(3/4)
يوضح ذلك أن قتل المرتد و الكافر الأصلي ـ إلا أن يتوب ـ يزيل مفسدة الكفر لأن الهام بالردة متى علم أنه لا يترك حتى يقتل أو يتوب لم يأتها لأنه ليس غرض في أن يرتد ثم يعود إلى الإسلام و إنما غرضه في بقائه على الكفر و استدامته فأما الساب من المسلمين و المعاهدين فإن غرضه من السب يحصل بإظهاره و ينكأ المسلمين بأذاه كما يحصل غرض القاطع من القتل و الزاني من الزنا و تسقط حرمة الدين و الرسول بذلك كما تسقط حرمة النفوس و الأموال في قطع الطريق و السرقة و يؤذي عموم المسلمين أذى يخشى ضرره كما يؤذيهم مثل ذلك من فعل القاطع و السارق و نحوهما
ثم إنه إذا أخذ فقد يظهر الإسلام و التوقير مع استبطانه العود إلى مثل ذلك عند القدرة كما يظهر القاطع و السارق و الزاني العود إلى مثل هذه الجرائم عند إمكان الفرصة بل ربما يتمكن من هذا السب بعد إظهار الإسلام عند شياطينه ما لم يتمكنه قبل ذلك و يتنوع في أنواع التنقص و الطعن غيظا على ما فعل به من القهر و الضغط حتى أظهر الإسلام بخلاف من لم يظهر شيئا من ذلك حتى أسلم فإنه لا مفسدة ظهرت لنا منه و بخلاف المحارب الأصلي إذا قتل و فعل الأفاعيل فإنه لم يكن قد التزم الأمان على أنه لا يفعل شيئا من ذلك(3/5)
و هذا قد كان التزم لنا بعقد الذمة أن لا يؤذينا بشيء من ذلك ثم لم يف بعهده فلا يؤمن إليه أن يلتزم بعقد الأيمان بذلك و لا يفي بعهده و ذلك لأنه واجب عليه في دينه أن يفي بالعهد فلا يظهر الطعن علينا في ديننا و هو عالم أن ذلك من التزام الأمور التي عاهدناه على أن لا يؤذينا بها و هو خلاف من سيف الإسلام إن خالف كما واجب عليه في دين الإسلام أن لا يتعرض للرسول بسوء و هو خائف من سيف الإسلام إن هو خالف فلم يتجدد له بإظهار الإسلام جنس العاصم الزاجر بخلاف الحربي في ذلك و إن كان في ضمن ذلك زجر لغيره من الناس عن الردة ألا ترى أنه لا يشرع الستر عليه و لا يستحب التعريض للشهود بترك الشهادة عليه و تجب إقامة الشهادة عليه عند الحاكم و لا يستحب العفو عنه قبل الرفع إلى الحاكم و إن كان قد ارتد سرا لأنه متى رفع إلى الحاكم استتابه فنجاه من النار و إن لم يتب قبله فقصر عليه مدة الكفر فكان رفعه مصلحة له محضة بخلاف من استسر لقاذورة من القاذورات فإنه لا ينبغي التعرض إليه لأنه إذا رفع يقتل حتما و قد يتوب إذا لم يرفع فلم يكن له مصلحة محضة و إنما المصلحة للناس فإذا لم تظهر الفاحشة لم تضرهم
و من سب الرسول فإنما يقتله لأذاه لله و لرسوله و للمؤمنين و لطعنه في دينهم فكان بمنزلة من أظهر قطع الطريق و الزنا و نحوه المغلب فيه جانب الردع و الزجر و إن تضمن مصلحة الجاني و كان قتله لأنه أظهر الفساد في الأرض و كذلك لو سب الذمي سرا لم يتعرض له و كذلك لا ينبغي الستر عليه لأن من أظهر الفساد لا يسنر عليه بحال
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 444 ](3/6)
و قوله [ السب مستلزم للكفر و الحراب بخلاف تلك الجرائم ] قلنا : ليس لنا سب خال عن الكفر حتى تجرد العقوبة له بل العقوبة على مجموع الأمرين و هذه الملازمة لا توهن أمر السب فإن كونه مستلزما للكفر يوجب تغلظ عقوبته فإذا انفصل الكفر عنه فيما بعد لم يلزم أن لا يكون موجبا للعقوبة إذا كان هو نفسه يتضمن من المفسدة ما يوجب العقوبة و الزجر كما دل عليه الكتاب و السنة و الأثر و القياس
ثم نقول : أقصى ما يقال أنه حد على كفر مغلظ فيه ضرر على المسلمين صدر عن مسلم أو معاهد فمن أين لهم أن مثل هذا تقبل منه التوبة بعد القدرة ؟ فإنا قد قدمنا أن التوبة إنما شرعت في حق من تجردت ردته أو تجرد نقضه للعهد فإما من تغلظت ردته أو نقضه بكونه مضرا بالمسلمين فلا بد من عقوبته بعد التوبة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 445 ]
ولهم [ إن السب من فروع الكفر و أنواعه ] فإن غنوا أن الكفر يوجب ذلك فليس بصحيح و إن عنوا أن الكفر يبيح ذلك فنقول : لكن عقد الذمة حرم عليه في دينه إظهار ذلك كما حرم قتل المسلمين و سرقة أموالهم و قطع طريقهم و افتراش نسائهم و كما حرم قتالهم و إن كان دينهم يبيح له ذلك كله فإذا هو آذى المسلمين بما يقتضيه الكفر المجرد عن عهد فإنه يعاقب على ذلك و إن زال الكفر الموجب لذلك فيقتل و يقطع و يعاقب كذلك هنا على ما آذى به الله و رسوله و المؤمنين مما يخالف عهده و إن كان دينه يبيحه
و قولهم [ إن الزاني و السارق و قاطع الإسلام و بعده سواء ] قلنا : هو مثل الساب لأنه قبل الإسلام يعتقد استحلال دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم لولا العهد الذي بينهم و بينه و بعد الإسلام إنما يعتقد تحريمها لأجل الدين و كذلك انتهاكه لعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتقد حله لولا العهد الذي بيننا و بينه و بعد الدين إنما يمنعه منه الدين و لا فرق بين أن يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم(3/7)
و أما قولهم [ إنما وجب قتله لأجل الأمرين فيسقط بزوال أحدهما ] فنقول : بل اجتمع فيه سببان كل منهما يوجب نوعا من القتل مخالفا للنوع الآخر و إن كان أحدهما يستلزم الآخر فالكفر يوجب القتل للكفر الأصلي أو للكفر الارتدادي و له أحكام معروفة و السب يوجب القتل لخصوصه حتى يندرج فيه قتل الكفر و قتل الردة و هذا القتل هو المغلب في حق مثل هذا حتى كان رسول الله صلى الله عليه و سلم له القتل و العفو و له القتل مع امتناع القتل بالكفر و الردة و له القتل بعد سقوط القتل بالكفر و الردة كما قدمنا من الدلائل على ذلك أثرا و نظرا و بينا أن في خصوص السب ما يقتضي القتل لو فرض تجرده عن الكفر و الردة فإذا انفصل عنه في أثناء الحال فسقط موجب الكفر و الردة لم يسقط موجب السب و قد قدمنا في المسألة الثانية دلائل على ذلك
ثم نقول : هب أنه وجب لأجل الأمرين فالقتل الواجب لكفر متغلظ بالإضرار إذا زال لا تسقط عقوبة فاعله فوجب أن لا تسقط عقوبة فاعل هذا و العقوبة التي استحقها هي القتل و أيضا فإن الإسلام الطارئ لا يمنع ما وجب من العقوبة و إن كان الإسلام يمنع وجوبها ابتداء كالقتل قودا و كحد القذف فإنه إنما يجب بشرط كون الفاعل ذميا و لا يسقط بإسلامه بعد ذلك إذا كان المقتول و المقذوف ذميا
و أيضا فإن الإسلام لا يمنع قتل الساب ابتداء فإنه لا يمنع قتله دواما بطريق الأولى فقوله : [ اجتمع سببان فزال أحدهما ] ممنوع بل الموجب لقتل هذا لم يزل
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 446 ]
المسلك الثاني : أن يقتل حدا للنبي صلى الله عليه و سلم كما يقتل قودا و كما يجلد القاذف و الساب لغيره من المؤمنين و قد تقدمت الدلالة على أن عقوبة شاتم النبي عليه الصلاة و السلام القتل كما أن عقوبة شاتم غيره الجلد و هذا مسلك من أصحابنا و غيرهم(3/8)
و من المعلوم الذي لا ريب فيه أن الرجل لو سب واحدا من المؤمنين أو سب واحدا من أعيان الأمة و هو ميت أو غائب لوجب على من حضره من المسلمين أن ينتصروا له و إذا بلغ الأمر إلى السلطان فإنه يعاقب هذا الجرئ بما يزعه عن أذى المؤمنين ثم إن كان حيا و علم فله أن يعفو عن سابه و أما إن تعذر علمه لموته أو غيبته لم يجز للمسلمين الإمساك عن عقوبة هذا و إذا رفع إلى السلطان عاقبه و إن أظهر التوبة لأن هذا من المعاصي و الذنوب المتعلقة بحق آدمي لا يمكن قيامه بطلب هذا الحد و كل ما كان كذلك لم تحتج العقوبة عليه إلى طلب أحد و لا تسقط بالتوبة إذا رفع إلى السلطان و لهذا قلنا : إن من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه يجب أن يعزر و يؤدب أو يقتل و إن لم يطالب بحقهم معين لأن نصر المسلمين واجب على كل مسلم بيده و لسانه فكيف على ولي الأمر ؟
و على هذا التقدير فنقول : إن سب النبي عليه الصلاة و السلام كان موجبا للقتل في حياته كما تقدم تقريره و كان إذا علم بذلك تولى هذا الحق فإن أحب استوفى و إن أحب عفا فإذا تعذر إعلامه لغيبته أو موته وجب على المسلمين القيام بطلب حقه و لم يجز العفو عنه من الخلق كما لا يجوز العفو عن من سب غيره من الأموات و الغياب
و قد قدمنا الدلائل على أن القتل لخصوص سبه و أن المغلب فيه حقه حتى كان له أن يقتل من سبه أو يعفو عنه كما للرجل أن يعاقب سابه و أن يعفو عنه
فإن قيل : هذا يبتني على مقدمتين :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 447 ](3/9)
إحداهما : أن قذف الميت موجب للحد و قد ذهب أبو بكر بن جعفر صاحب الخلال إلى أنه لا حد لقذف ميت لأن الحي وارثه لم يقذف و إنما قذف الميت و حد القذف لا يستوفي إلا بعد المطالبة و قد تعذرت منه و الحد لا يورث إلا بمطالبة الميت و هي منتفية و الأكثرون يثبتون الحد لقذف الميت لكن من الفقهاء من يقول : إنما يثبت إذا تضمن القدح في نسب الحي و هو قول الحنفية و بعض أصحابنا و قيل عن الحنفية : لا يأخذ به إلا الوالد و الولد و من الفقهاء من يقول : يثبت مطلقا ثم هل يرثه جميع الورثة أو من سوى الزوجين لبقاء سبب الإرث أو العصبة فقط لمشاركتهم له في عمود نسبه ؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب الشافعي و أحمد
الثانية : أن حد قذف الميت لا يستوفى إلا بطلب الورثة و ذلك أنهم لا يختلفون أنه لا يستوفي إلا بمطالبة الورثة أو بعضهم و متى عفوا سقط عند الأكثرين فعلى هذا ينبغي أن يسقط لقذف النبي عليه الصلاة و السلام لأنه لا يورث و يكون كقذف من لا وارث له و هذا ليس فيه حد قذف عند أكثر الفقهاء أو يقال : لا يستوفي حتى يطالب بعض الهاشمين و بعض القرشين
فنقول : الجواب من ثلاثة أوجه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 448 ]
أحدها : أنا لم نجعل سب النبي عليه الصلاة و السلام و قذفه من حد القذف الذي لا يستوفى حتى يطلبه المستحق فإن ذاك إنما هو إذا علم به و إنما هو من باب السب و الشتم الذي يعلم أنه حرام باطل و قد تعذر علم المسبوب به كما لو رمى رجل بعض أعيان الأمة بالكفر أو كذب أو شهادة الزور أو سبه سبا صريحا فإنا لا نعلم مخالفا في أن هذا الرجل يعاقب على ذلك كما يعاقب على ما ينتهكه من المحارم انتصارا لذلك الرجل الكريم في الأمة و زجرا عن معصية الله كمن يسب الصحابة أو العلماء أو الصالحين(3/10)
الوجه الثاني : أن سبه سب لجميع أمته و طعن في دينهم و هو سب تلحقهم به غضاضة و عار سب الجماعة الكثيرة بالزنا فإنه يعلم كذب فاعله و هذا يوقع في بعض النفوس ريبا و إذا كان آذى جميع المؤمنين أذى يوجب القتل وهو تجب عليهم المطالبة به من حيث وجب عليهم إقامة الدين فيكون شبيها بقذف الميت الذي فيه نسب الحي إذا طالب به و ذاك يعين إقامته
و بهذا يظهر الفرق بينه و بين غيره من الأموات على قول أبي بكر فإن ذلك الميت لا يتعدى ضرر قذفه في الأصل إلى غيره فإذا تعذرت مطالبته أمكن أن يقال : لا يستوفى حد قذفه و هنا ضرر السب في الحقيقة إنما يعود إلى الأمة بفساد دينها و ذل عصمتها و إهانة مستمسكها و إلا فالرسول صلوات الله عليه و سلامه في نفسه لا يتضرر بذلك
و بهذا يظهر الفرق بينه و بين غيره في أحد قذف الغير إنما ثبت لورثته أو لبعضهم و ذلك لأن العار هناك إنما يلحق الميت أو ورثته و هنا العار يلحق جميع الأمة لا فرق في ذلك بين الهاشميين و غيرهم ن بل أي الأمة كان أقوى حبا لله و رسوله و أشد اتباعا له و تعزيرا و توقيرا كان حظه من هذا الأذى و الضرر أعظم و هذا ظاهر لا خفاء به و إذا كان هذا ثابتا لجميع الأمة فإنه مما يجب عليهم القيام به و لا يجوز لهم العفو عنه بوجه من الوجوه لأنه وجب لحق دنياهم بخلاف حد قذف قريبهم فإنه وجب لحظ نفوسهم و دنياهم فلهم أن يتركوه و هذا يتعلق بدينهم فالعفو عنه عفو عن حدود الله و عن انتهاك حرماته فظهر الجواب عن المتقدمتين المذكورتين
الوجه الثالث : أن النبي صلى الله عليه و سلم لا يورث فلا يصح أن يقال : إن حق عرضه يختص به أهل بيته دون غيرهم كما أن ماله لا يختص به أهل بيته دون غيرهم بل أولى لأن تعلق حق الأمة بعرضه أعظم من تعلق حقهم بماله و حينئذ فيجب المطالبة باستيفاء حقه على كل مسلم لأن ذلك من تعزيره و نصره و ذلك فرض على كل مسلم(3/11)
و نظير ذلك أن يقتل مسلم أو معاهد نبيا من الأنبياء فإن قتل ذلك الرجل متعين على الأمة و لا يجوز أن يجعل حق دمه إلى من يكون وارثا له لو كان يورث : أن أحب قتل و إن أحب عفا على الدية أو مجانا و لا يجوز تقاعد الأمة عن قتل قاتله فإن ذلك أعظم من جميع أنواع الفساد و لا يجوز أن يسقط حق دمه بتوبة القاتل أو إسلامه فإن المسلم أو المعاهد لو ارتد أو نقض العهد و قتل مسلما لوجب عليه القود و لا يكون ما ضمنه إلى القتل من الردة و نقض العهد مخففا لعقوبته و ما أظن أحدا يخالف في مثل هذا مع أن مجرد قتل النبي ردة و نقض للعهد باتفاق العلماء و عرضه كدمه فإن عقوبته القتل كما أن عقوبة ممنوع من المسلم بإسلامه و من المعاهد بعهده فإذا انتهكا حرمته وجبت عليهما العقوبة لذلك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 450 ]
الطريقة الثامنة عشرة ـ و هي طريقة القاضي أبي يعلى ـ أن سب النبي عليه الصلاة و السلام يتعلق به حقان : حق الله و حق لآدمي
فأما حق الله فهو ظاهر وهو القدح في رسالته و كتابه و دينه
و أما حق الآدمي فظاهر أيضا فإنه أدخل المعرة على النبي عليه الصلاة و السلام بهذا السب و أنالة بذلك عضاضة و عارا
و العقوبة إذا تعلق فيها حق لآدمي لم يسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فإنه يتحتم قتله ثم لو تاب قبل القدرة عليه سقط حق الله من انحتام القتل و الصلب و لم يسقط حق الآدمي من القود كذلك هنا
فإن قيل : المغلب هنا حق الله و لهذا لو عفا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك لم يسقط بعفوه(3/12)
قلنا : قد قال القاضي أبو يعلى : في ذلك نظر على أنه إنما لم يسقط بعفوه لتعلق حق الله به فهو كالعدة إذا أسقط الزوج حقه منها لم يسقط لتعلق حق الله بها و لم هذا على أنه لا حق لآدمي فيها كذلك هنا فقد تردد القاضي أبو يعلى في جواز عفو النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الموضع و قطع في موضع آخر أنه كان له أن يسقط حق سبه لأنه حق له و ذكر في قوله الأنصاري للنبي عليه الصلاة و السلام [ أن كان ابن عمتك ] و قد عرض للنبي عليه الصلاة و السلام بما يستحق العقوبة و لم يعاقبه لأنه حمل قول النبي صلى الله عليه و سلم للزبير بأنه قضى له على الأنصاري للقرابة و في الرجل الذي أغلظ لأبي بكر و لم يعزره فقال القاضي : التعزير هنا وجب لحق آدمي و هو افتراؤه على النبي صلى الله عليه و سلم و على أبي بكر و له أن يعفو عنه و كذلك ذكر ابن عقيل عنه أن الحق كان النبي صلى الله عليه و سلم و له تركه و قال ابن عقيل : قد عرض هذا للنبي صلى الله عليه و سلم بما يقتضي العقوبة و التهجم على النبي صلى الله عليه و سلم فوجب التعزير لحق الشرع و دون أن يختصه في نفسه قال : و قد عزره النبي عليه الصلاة و السلام بحبس الماء عن زرعه و هو نوع ضرر و كسر لعرضه و تأخير لحقه و عندنا أن العقوبات بالمال باقية غير منسوجة و ليس يختص التعزير بالضرب في حق كل أحد
و قول ابن عقيل هذا تضمن ثلاثة أشياء : أحدها : أن القول إنما كان يوجب التعزير لا القتل
و الثاني : أن ذلك واجب لحق الشرع ليس له أن يعفو عنه
الثالث : أنه عزره بحبس الماء
و الثلاثة ضعيفة جدا و الصواب المقطوع به أنه كان له العفو كما دلت عليه الأحاديث السابقة لما ذكرناه من المعنى فيه و حينئذ فيكون ذلك مؤيدا لهذه الطريقة(3/13)
و قد دل على ذلك ما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه و سلم عاقب من سبه و آذاه في الموضع الذي سقطت فيه حقوق الله نعم صار سب النبي عليه الصلاة و السلام سبا لميت و ذلك لا يسقط بالتوبة البتة
و على هذه الطريقة فالفرق بين سب الله و سب رسوله ظاهر فإن هناك الحق لله خاصة كالزنا و السرقة و شرب الخمر و هنا الحق لهما فلا يسقط لهما فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 451 ]
الطريقة التاسعة عشرة : أنا قد ذكرنا النبي صلى الله عليه و سلم أراد من المسلمين قتل ابن أبي سرح و قد جاء مسلما تائبا و نذر دم أنس بن زنيم إلى أن عفا عنه بعد الشفاعة و أعرض عن أبي سفيان بن الحارث
و عبد الله بن أبي أمية و قد جاءا مسلمين مهاجرين و أراق دماء من سبه من النساء من غير قتال و هن منقادات مستسلمات و قد كان هؤلاء حربين لم يلتزموا ترك سبه و لا عاقدونا على ذلك فالذي عقد الأيمان أو الأمان على ترك سبه إذا جاء تائبا يريد الإسلام و يرغب فيه إما أن يجب قبول الإسلام منه و الكف عنه أو لا يجب فإن قيل [ يجب فهو خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن قيل [ لا يجب ] فهو دليل على أنه إذا جاء ليتوب و يسلم جاز قتله و كل من جاز قتله و قد جاء مسلما تائبا مع علمنا بأنه قد جاء كذلك ـ جاز قتله و إن أظهر الإسلام و التوبة و لا نعلم بينهما فرقا عند أحد من الفقهاء في جواز القتل فإن إظهار إدارة الإسلام هي أول الدخول فيه كما أن التكلم بالشهادتين هو أول الالتزام له و لا يعصم الإسلام إلا دم من يجب قبوله منه فإذا أظهر أنه يريده فقد بذل ما يجب قبوله فيجب قبوله كما لو آذاه
و هنا نكتة حسنة و هي أن ابن أبي أمية و أبا سفيان لم يزالا كافرين و ليس في القصة بيان أنه أراد قتلهما بعد مجيئهما و إنما فيها الإعراض عنهما و ذلك عقوبة من النبي صلى الله عليه و سلم(3/14)
و أما حديث ابن أبي سرح فهو نص في إباحة دمه مجيئه لطلب البيعة و ذلك لأن ابن أبي سرح كان مسلما فارتد و افترى على النبي عليه الصلاة و السلام و السلام و أنه كان يتمم له القرآن و يلقنه ما يكتبه من الوحي فهو ممن ارتد بسب النبي عليه الصلاة و السلام و من ارتد فقد كان له أن يقتله من غير استتابة و كان له أن يعفو عنه و بعد موته تعين قتله
و حديث ابن زنيم فإنه أسلم قبل أن يقدم على النبي عليه الصلاة و السلام مع بقاء دمه مندورا مباحا إلى أن عفا عنه النبي عليه الصلاة و السلام بعد أن روجع في ذلك
و كذلك النسوة اللاتي أمر بقتلهن إنما وجهه ـ و الله أعلم ـ و أنهن كن قد سببنه بعد المعاهدة فانتقض عهدهن فقتلت اثنتان و الثالثة لم يعصم دمها حتى استؤمن لها بعد أيام و لو كان دمها معصوما بالإسلام لم يحتج إلى الأمان و هذه الطريقة مبناها على أن من جاز قتله بعد أن أظهر انه جاء ليسلم جاز قتله بعد أن أسلم فإن من لم يعصم دمه إلا عفو و أمان لم يكن الإسلام هو العاصم لدمه و إن كان قد تقدم ذكر هذا لكن ذكرناه لخصوص هذا المأخذ
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 453 ](3/15)
الطريقة الموفية عشرين : أن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه مطلقة بقتل سابه لم يؤمر فيها بالاستتابة و لم يستثن فيها من أسلم كما هي مطلقة عنهم في قتل الزاني المحصن و لو كان يستثنى منها حال دون حال لوجب بيان ذلك فإن سب النبي عليه الصلاة و السلام قد وقع منه و هو الذي علق القتل عليه و لم يبلغنا حديث و لا أثر يعارض ذلك و هذا بخلاف قوله صلى الله عليه و سلم [ من بدل دينه فاقتلوه ] فإن المبدل للدين هو المستمر على التبديل دون من عاد و كذلك قوله [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] فإن من عاد فيه لم يجز أن يقال : هو تارك لدينه و لا مفارق للجماعة و هذا المسلم أو المعاهد إذا سب الرسول ثم تاب لم يمكن أن يقال : ليس بساب للرسول أو لم يسب الرسول فإن هذا الوصف عليه تاب أو لم يتب كما يقع على الزاني و السارق و القازف و غيرهم
الطريقة الحادية و العشرون : أنا قد قررنا أن المسلم إذا سب الرسول يقتل و إن تاب بما ذكرناه من النص و النظر و الذمي كذلك فإن أكثر ما يفرق به إما كون المسلم تبين بذلك أنه منافق أو أنه مرتد و قد وجب عليه حد من الحدود يستوفى منه و نحو ذلك و هذا المعنى موجود في الذمي فإن إظهاره للإسلام بمنزلة إظهاره للذمة فإذا لم يكن صادقا في عهده و أمانه لم يعلم أنه صادق في إسلامه و إيمانه و هو معاهد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفى منه كسائر الحدود
و قول من يقول [ قتل المسلم أولى ] يعارضه قول من يقول [ قتل الذمي أولى ] و ذلك أن الذمي دمه أخف حرمة و القتل إذا وجب عليه في حال الذمة لسبب لم يسقط عنه بالإسلام
يبين ذلك أنه لا يبيح دمه إلا إظهار السب و صريحه بخلاف المسلم فإن دمه محقون و قد يجوز أنه غلظ بالسب فإذا حقق الإسلام و التوبة من السب ثبت العاصم مع ضعف المبيح و الذمي محقق و العاصم لا يرفع ما وجب فيكون أقوى من هذا الوجه(3/16)
ألا ترى أن المسلم لو كان منافقا لم يقتصر على السب فقط بل لا بد أن تظهر منه كلمات مكفرة غير ذلك بخلاف الذمي فإنه لا يطلب على كفره دليل و إنما يطلب على محاربته و إفساده و السب من أظهر الأدلة على ذلك كما تقدم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 454 ]
الطريقة الثانية و العشرون : أنه سب لمخلوق لم يعلم عفوه فلا يسقط بالإسلام كسب سائر المؤمنين و أولى فإن الذمي لو سب مسلما أو معاهدا ثم أسلم لعوقب على ذلك بما كان يعاقب به قبل أن يسلم فكذلك إذا سب الرسول و أولى و كذلك يقال في المسلم إذا سبه
تحقيق ذلك أن القذف و الشاتم إذا قذف إنسانا فرفعه إلى السلطان فتاب كان له أن يستوفي منه الحد إنما وجب لما ألحق به من العار و الغضاضة فإن الزنا أمر يستخفى منه فقذف المرء به يوجب تصديق كثير من الناس به و هو من الكبائر التي لا يساويها غيرها في العار و المنقصة إذا تحقق و لا يشبهه غيره في لحوق العار إذا لم يتحقق فإنه إذا قذفه بقتل كان الحق لأولياء المقتول و لا يكاد يحلو غالبا من ظهور كذب الرامي به أو براءة المرمي به من الحق ـ بإبراء أهل الحق أو بالصلح أو بغير ذلك ـ على وجه لا يبقى عليه عار و كذلك الرمي بالكفر فإن ما يظهره من الإسلام يكذب هذا الرامي به فلا يضر إلا صاحبه و رمي الرسول صلى الله عليه و سلم بالعظائم يوجب إلحاق العار به العضاضة لأنه بأي شيء رماه من السب كان متضمنا للطعن في النبوة و هي وصف خفي فقد يؤثر كلامه أثرا في بعض النفوس فتوبته بعد أخذه قد يقال : إنما صدرت عن خوف و تقية فلا يرتفع العار و الغضاضة الذي لحقه كما لا يرتفع العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القازف التوبة و لذلك كانت توبته توجب زوال الفسق عنه وفاقا و توجب قبول شهادته عند أكثر الفقهاء و لا يسقط الحد الذي للمقذوف فكذلك شاتم الرسول(3/17)
فإن قيل : ما أظهره الله لنبيه من الآيات و البراهين المحققة لصدقه في نبوته تزيل عار هذا السب و تبين أنه مبرأ بخلاف المقذوف بالزنا
قيل : فيجب على هذا أن لو قذفه أحد بالزنا في حياته أن لا يجب عليه حد قذف و هذا ساقط و كان يجب على هذا أن لا يعبأ بمن يسبه و يهجوه بل يكون من يخرج عن الدين و العهد بهذا و بغيره على حد واحد و هو خلاف الكتاب و السنة و ما كان عليه السابقون و يجب إذا قذف رجل سفيه معروف بالسفه و الفرية من هو مشهور عند الخاصة و العامة بالعفة مشهود له بذلك أن لا يحد و هذا كله فاسد
و ذلك لأن مثل هذا السب و القذف لا يخاف من تأثيره في قلوب أولي الألباب و إنما يخاف من تأثيره في عقول ضعيفة و قلوب مريضة ثم سمع العلم بكذبه له من غير نكير يصغر الحرمة عنده و ربما طرق له شبهة و شك فإن القلوب سريعة التقلب
و كما أن حد القذف شرع صونا للعرض من التلطخ بهذه القاذورات و سترا للفاحشة و كتما لها فشرع ما يصون عرض الرسول من التلطخ بما قد ثبت أنه برئ منه أولى و ستر الكلمات التي أوذي بها في نيل منه فيها أولى لما في ذكرها من تسهيل الاجتراء عليه إلا أن حد هذا السب و القذف لا لقتل لعظم موقعه و قبح تأثيره فإنه لو لم يؤثر إلا تحقيرا لحرمته أو فساد قلب واحد أو إلقاء في قلب كان بعض ذلك يوجب القتل بخلاف عرض الواحد من الناس فإنه لا يخاف منه مثل هذا و سيجيء الجواب عما يتوهم فرقا بين سب النبي صلى الله عليه و سلم و سب غيره في سقوط حده بالتوبة دون حد غيره
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 456 ](3/18)
الطريقة الثالثة و العشرون : أن قتل الذمي إذا سب إما يكون جائزا غير واجب أو يكون واجبا و الأول باطل بما قدمناه من الدلائل في المسألة الثانية و بينا أنه قتل واجب و إذا كان واجبا فكل قتل يجب على الذمي بل كل عقوبة وجبت على الذمي بقدر زائد على الكفر فإنها لا يسقط بالإسلام أصلا جامعا و قياسا جليا فإنه يجب قتله بالزنا و القتل في قطع الطريق و بقتل المسلم أو الذمي و لا يسقط الإسلام قتلا واجبا و بهذا الفرق يظهر بين قتله و قتل الحربي الأصلي أو الناقض المحض فإن القتل هناك ليس واجبا عينا و به يظهر الفرق بين هذا و بين سقوط الجزية عنه بالإسلام عند أكثر الفقهاء غير الشافعي فإن الجزية عند بعضهم عقوبة للمقام على الكفر و عند بعضهم عوض عن حقن الدماء و قد يقال : أجره سكنى الدار ممن لا يملك السكنى فليست عقوبة وجبت بقدر زائد على الكفر
الطريقة الرابعة و العشرون : أنه قتل لسبب ماض فلم يسقط بالتوبة و الإسلام كالقتل للزنا و قطع الطريق و عكسه القتل لسبب حاضر و هو القتل لكفر قديم باق أو محدث جديد باق أعني الكفر الأصلي و الطارىء و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ] فأمر بقتله لأذى ماض و لم يقل : [ فإنه يؤذي الله و رسوله ](3/19)
و كذلك ما تقدم من الآثار فيها دلالة على أن السب أوجب القتل و السب كلام لا يدوم و يبقى بل هو كالأفعال المتصرمة من القتل و الزنا و ما كان هكذا فالحكم فيه عقوبة فاعله مطلقا بخلاف القتل للردة أو للكفر الأصلي فإنه إنما يقتل لأنه حاضر موجود حين القتل لأن الكفر اعتقاد و الاعتقاد يبقى في القلب و إنما يظهر أنه اعتقاد مما يظهر من قول و نحوه فإذا ظهر فالأصل بقاؤه فيكون هذا الاعتقاد حاصلا في القلب وقت القتل هذا وجه محقق و مبناه على أن قتل الساب ليس لمجرد الردة و نقض العهد فقط كغيره ممن جرد الردة و جرد نقض العهد بل بقدر زائد على ذلك و هو ما جاء به من الأذى و الإضرار و هذا أصل قد تمهد على وجه لا يستريب فيه لبيب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 457 ]
الطريقة الخامسة و العشرون : أن هذا قتل تعلق بالنبي صلى الله عليه و سلم فلم يسقط بإسلام الساب كما لو قتل نبيا و ذلك أن المسلم أو المعاهد إذا قتل نبيا ثم أسلم بعد ذلك لم يسقط عنه القتل فإنه لو قتل بعض الأمة لم يسقط عنه القتل بإسلامه فكيف يسقط عنه إذا قتل النبي ؟ و لا يجوز أن يتخير فيه خليفة بعد الإسلام بين القتل و العفو عن الدية أو أكثر منها كما يتخير في قتل قاتل من لا وارث له لأن قتل النبي أعظم أنواع المحاربة و السعي في الأرض فسادا فإن هذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا بلا ريب(3/20)
و إذا كان من قاتل على خلاف أمره محاربا له ساعيا في الأرض فسادا فمن قاتله أو قتله فهو أعظم محاربة و أشد سعيا في الأرض فسادا و هو من أكبر أنواع الكفر و نقض العهد و إن زعم أنه لم يقتله مستحلا كما ذكره إسحاق بن راهويه من أن هذا إجماع من المسلمين وهو ظاهر و إذا وجب قتله عينا و إن أسلم وجب قتل سابه أيضا و إن أسلم لأن كليهما أذى له يوجب القتل لا لمجرد كونه ردة أو نقض عهد و لا تمثيلا له بقتل غيره أو سبه فإن سب غيره لا يوجب القتل و قتل غيره إنما فيه القود الذي يتخير فيه الوارث أو السلطان بين القتل أو أخذ الدية و للوارث أن يعفو عنه مطلقا بل لكون هذا محاربة لله و رسوله و سعيا في الأرض فسادا و لا يعلم شيء أكثر منه فإن أعظم الذنوب الكفر و بعده قتل النفس و هذا أقبح الكفر و قتل أعظم النفوس قدرا
و من قال : [ إن حد سبه يسقط بالإسلام ] لزمه أن يقول : إن قاتله إذا أسلم يصير بمنزلة قاتل من لا وارث له من المسلمين لأن القتل بالردة و نقض العهد سقط و لم يبق إلا مجرد القود كما قال بعضهم : إن قاذفه إذا جلد ثمانين أو أن يقول : يسقط عنه القود بالكلية كما أسقط حد قذفه و سبه بالكلية و قال : انغمر حد السب في موجب الكفر لا سيما على رأيه إن كان السب من كافر ذمي يستحل قتله و عداوته ثم أسلم بعد ذلك و أقبح بهذا من قول ما أنكره و أبشعه ! و إنه ليقشعر منه الجلد أن يظل دماء الأنبياء في موضع تثأر [ فيه ] دماء غيرهم(3/21)
و قد جعل الله عامة ما أصاب بني إسرائيل من الذلة و المسكنة و الغضب حتى سفك منهم من الدماء ما شاء الله و نهبت الأموال و زال الملك عنهم و سبيت الذرية و صاروا تحت أيدي غيرهم إلى يوم القيامة إنما هو بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير الحق و كل من قتل نبيا فهذا حاله و إنما هذا بقوله : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم } [ التوبة : 12 ] عطف خاص على عام و إذا كان هذا باطلا فنظيره باطل مثله فإن أذى النبي إما أن يندرج في عموم الكفر و النقض أو يسوى بينه و بين أذى غيره فيما سوى ذلك أو يوجب القتل لخصوصه فإذا يطل القسمان الأولان تعين الثالث و متى أوجب لخصوصه فلا ريب أنه يوجبه مطلقا
و أعلم أن منشأ الشبهة في هذه المسألة القياس الفاسد وهو التسوية في الجنس بين المتباينين تباينا لا يكاد يجمعهما جامع و هو التسوية بين النبي و غيره في الدم أو في الغرض إذا فرض عود المنتهك إلى الإسلام هو مما يعلم بطلانه ضرورة و يقشعر الجلد من التفوه به فإن من قتله للردة أو للنقض فقط و لم يجعل لخصوص كونه أذى له أثرا و إنما المؤثر عنده عموم وصف الكفر إما أن يهدر خصوص الأذى أو يسوى فيه بينه و بين غيره زعما منه أن جعله كفرا و نقضا هو غاية التعظيم و هذا كلام من لم ير للرسول حقا يزيد على مجرد تصديقه في الرسالة و سوى بينه و بين سائر المؤمنين فيما سوى هذا الحق(3/22)
و هذا كلام خبيث يصدر عن قلة فقه ثم يجر إلى شعبة نفاق ثم يخاف أن يخرج إلى النفاق الأكبر و إنه لخليق به و من قال هذا القول من الفقهاء لا يرتضي أن يلزم مثل هذا المحذور و لا يفوه به فإن الرسول أعظم في صدورهم من أن يقولوا فيه مثل هذا لكن هذا لازم قولهم لزوما لا محيد عنه و كفى بقول فسادا أن يكون هذا حقيقة بعد تحريره و إلا فمن تصور أن له حقوقا كثيرة عظيمة مضافة إلى الإيمان به ـ و هي زيادة في الإيمان به ـ كيف يجوز أن يهدر أذاه إذا فرض عريا عن الكفر أو يسوى بينه و بين غيره ؟
أرأيت لو أن رجلا سب أباه و أذاه كانتا عقوبته المشروعة مثل عقوبة من سب غير أبيه أم يكون أشد لما قابل الحقوق بالعقوق ؟ و قد قال سبحانه و تعالى : { فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة } الآية [ الإسراء : 24 ]
و في مراسيل أبي داود عن [ ابن المسيب أن النبي عليه الصلاة و السلام قال : من ضرب أباه فاقتلوه ]
و بالجملة فلا يخفى على لبيب أن حقوق الوالدين لما كانت أعظم كان النكال أذاهما باللسان و غيره أشد مع أنه ليس كفرا فإذا كان قد أوجب له من الحقوق ما يزيد على التصديق و حرم من أنواع أذاه ما لا يستلزم التكذيب فلا بد لتلك الخصائص من عقوبات على الفعل و الترك و مما هو كالإجماع من المحققين امتناع أن يسوى بينه و بين غيره في العقوبة على خصوص أذاه و هو ظاهر لم يبق إلا أن يكون القتل جزاء ما قوبل به من حقوقه بالعقوق جزاء وفاقا و إنه لقليل له و لعذاب الآخرة أشد و قد لعن الله مؤذيه في الدنيا و الآخرة و أعد له عذابا مهينا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 460 ](3/23)
الطريقة السادسة و العشرون : أنا قد قدمنا من السنة و أقوال الصحابة ما دل على قتل من آذاه بالتزوج بنسائه و التعرض بهذا الباب لحرمته في حياته أو بعد موته و أن قتله لم يكن حد الزنا من وطء ذوات المحارم و غيرهن بل لما في ذلك من أذاه فإما أن يجعل هذا الفعل كفرا أو لا يجعل فإن لم يجعل كفرا فقد ثبت قتل من آذاه مع تجرده عن الكفر و هو المقصود فالأذى بالسب و نحوه أغلظ و إن جعل كفرا فلو فرض أنه تاب منه لم يجز أن يقال : يسقط القتل عنه لأنه يستلزم أن يكون من الأفعال ما يوجب القتل و يسقط بالتوبة بعد القدرة و ثبوته عند الإمام و هذا لا عهد لنا به في الشريعة و لا يجوز إثبات ما لا نظير له إلا بنص و هو لعمري سمج فإن إظهار التوبة باللسان من فعل تشتهيه النفوس سهل على ذي الغرض إذا أخذ فيسقط مثل هذا الحد بهذا و إذا لم يسقط القتل الذي أوجبه هذا أذى اللسان و أولى لأن القرآن قد غلظ هذا على ذاك و التقدير أن كليهما كفر فإذا لم يسقط قتل من أتى بالأدنى فأن لا يسقط قتل من أتى بالأعلى أولى
الطريقة السابعة و العشرون : أنه سبحانه و تعالى قال : { إن شانئك هو الأبتر } [ الكوثر : 3 ] فأخبر سبحانه أن شانئه هو الأبتر و البتر : القطع يقال : بتر يبتر بترا و سيف بتار إذا كان قاطعا ماضيا و منه في الاشتقاق الأكبر تبره تتبيرا إذا أهلكه و التبار : الهلاك و الخسران و بين سبحانه أنه هو الأبتر بصيغة الحصر و التوكيد لأنهم قالوا : إن محمدا ينقطع ذكره لأنه لا ولد له فبين الله أن الذي يشنأه هو الأبتر لا هو [ صلى الله عليه و سلم ] و الشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر و منه ما يظهر على اللسان و هو أعظم الشنآن و أشده و كل جرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه و نقيم عليه حد الله(3/24)
فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه و أبدى عداوته و إذا كان ذلك واجبا وجب قتله و إن أظهر التوبة بعد القدرة وإلا لما انبتر له شانىء بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانىء أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل ذلك فإن ذلك سهل على من يخاف السيف
تحقيق ذلك أنه سبحانه رتب الانبتار على شنآنه و الاسم المشتق المناسب إذا علق به حكم كان ذلك دليلا على أن المشتق منه علة لذلك الحكم فيجب أن يكون شنآنه هو الموجب لانبتاره و ذلك أخص مما تضمنه الشنآن من الكفر المحض أو نقض العهد و الانبتار يقتضي وجوب قتله بل يقتضي انقطاع العين و الأثر فلو جاز استحياؤه بعد إظهار الشنآن لكان في ذلك إبقاء لعينه و أثره و إذا اقتضى الشنآن قطع عينه و أثره كسائر الأسباب الموجبة لقتل الشخص
و ليس شيء يوجب قتل الذمي إلا و هو موجب لقتله بعد الإسلام إذ الكفر المحض مجوز للقتل لا موجب له على الإطلاق و هذا لأن الله سبحانه لما رفع ذكر محمد عليه الصلاة و السلام فلا يذكر إلا ذكر معه و رفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة حتى إنه يبقى ذكر من بلغ عنه و لو حديثا و إن كان غير فقيه أثر من شنأه من المنافقين و إخوانهم من أهل الكتاب و غيرهم فلا يبقى له ذكر حميد و إن بقيت أعيانهم وقتا لم يظهروا الشنآن فإذا أظهروه محقت أعيانهم و أثارهم تقديرا و تشريعا فلو استبقى من أظهر شنآنه بوجه ما لم يكن مبتورا إذ البتر يقتضي قطعه و محقه من جميع الجوانب و الجهات فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا يوضح ذلك أن العقوبات التي شرعها الله نكالا مثل قطع السارق و نحوه لا تسقط بإظهار التوبة إذ النكال لا يحصل بذلك فما شرع لقطع صاحبه و بتره و محقه كيف يسقط بعد الأخذ فإن هذا اللفظ يشعر بأن المقصود اصطلام صاحبه و استئصاله و اجتياحه و قطع شنآنه و ما كان بهذه المثابة كان عما يسقط عقوبته أبعد من كل أحد و هذا بين لمن تأمله و الله أعلم(3/25)
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 462 ]
و الجواب عن حججهم : أما قولهم [ هو مرتد فيستتاب كسائر المرتدين ] فالجواب أن هذا مرتد بمعنى أنه تكلم بكلمة صار بها كافرا حلال الدم مع جواز أن يكون مصدقا للرسول معترفا له بنبوته لكن موجب التصديق توقيره في الكلام فإذا انتقضه في كلامه ارتفع حكم التصديق و صار بمنزلة اعتراف إبليس لله بالربوبية فإنه موجب للخضوع له فلما استكبر عن أمره بطل حكم ذلك الاعتراف فالإيمان بالله و رسوله قول و عمل ـ أعني بالعمل ما ينبعث عن القول و الاعتقاد من التعظيم و الإجلال ـ فإذا عمل ضد ذلك من الاستكبار و الاستخفاف صار كافرا و كذلك كان قتل النبي باتفاق العلماء فالمرتد : كل من أتى بعد الإسلام من القول أو الفعل بما يناقض الإسلام بحيث لا يجتمع معه و إذا كان كذلك فليس كل من وقع عليه اسم المرتد يحقن دمه بالإسلام فإن ذلك لم يثبت بلفظ عام عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و إنما جاء عنه و عن أصحابه في ناس مخصوصين أنهم استتابوهم أو أمروا باستتابهم ثم إنهم أمروا بقتل الساب و قتلوه من غير استتابة
و قد ثبت عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قتل العرنيين من غير استتابة و أنه أهدر دم ابن خطل و مقيس بن صبابة و ابن أبي سرح من غير استتابة فقتل منهم اثنان و أراد من أصحابه أن يقتلوا الثالث بعد أن جاء تائبا(3/26)
فهذه سنة النبي عليه الصلاة و السلام و خلفائه الراشدين و سائر الصحابة تبين لك أن من المرتدين من يقتل و لا يستتاب و لا تقبل توبته و منهم من يستتاب و تقبل توبته فمن لم يوجد منه إلا مجرد تبديل الدين و تركه و هو مظهر لذلك فإذا تاب قبلت توبته كالحارث بن سويد و أصحابه و الذين ارتدوا في عهد الصديق رضي الله عنه و من كان مع ردته قد أصاب ما يبيح الدم ـ من قتل مسلم و قطع الطريق و سب الرسول و الافتراء عليه و نحو ذلك ـ و هو في دار الإسلام غير ممتنع بفئة فإنه إذا أسلم يؤخذ بذلك الموجب للدم فيقتل للسب و قطع الطريق مع قبول إسلامه
هذه طريقة من يقتله لخصوص السب و كونه حدا من الحدود أو حقا للرسول فإنه يقول : الردة نوعان : ردة مجردة و ردة مغلظة و التوبة إنما هي مشروعة في الردة المجردة فقط دون الردة المغلظة و هذه ردة مغلظة و قد تقدم تقرير ذلك في الأدلة ثم الكلمة الوجيزة في الجواب أن يقال : جعل الردة جنسا واحدا تقبل توبة أصحابه ممنوع فلا بد له من دليل و لا نص في المسألة و القياس متعذر لوجود الفرق
و من يقتله لدلالة السب على الزندقة فإنه يقول : هذا لم يثبت إذ لا دليل يدل على صحة التوبة كما تقدم(3/27)
و بهذا حصل الجواب عن احتجاجهم بقول الصديق و تقدم الجواب عن قول ابن عباس و أما استتابة الأعمى أم ولده فإنه لم يكن سلطانا و لم تكن إقامة الحدود واجبة عليه و إنما النظر في جواز إقامته للحد و مثل هذا لا ريب أنه يجوز له أن ينهى الساب و يستتيبه فإنه ليس عليه أن يقيم الحد و لا يمكنه أن يشهد به عند السلطان وحده فإنه لا ينفع و نظيره في ذلك من كان يسمع من المسلمين كلمات من المنافقين توجب الكفر فتارة ينقلها إلى النبي صلى الله عليه و سلم و تارة ينهى صاحبها و يخوفه و يستتيبه و هو بمثابة من ينهى من يعلم منه الزنا أو السرقة أو قطع الطريق عن فعله لعله يتوب قبل أن يرفع إلى السلطان و لو رفع قبل التوبة لم يسقط حده بالتوبة بعد ذلك
و أما الحجة الثانية فالجواب عنها من وجوه :
أحدها : أنه مقتول بالكفر بعد الإسلام و قولهم : [ كل من كفر بعد إسلامه فإن توبته تقبل ]
قلنا : هذا ممنوع و الآية إنما دلت على قبول توبة من كفر بعد إيمانه إذا لم يزدد كفرا أما من كفر و زاد على الكفر فلم تدل الآية على قبول توبته بل قوله : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا } [ آل عمران : 90 ] قد يتمسك بها من خالف ذلك على أنه إنما استثنى من تاب و أصلح و هذا لا يكون فيمن تاب بعد أخذه و إنما استفدنا سقوط القتل عن التائب بمجرد توبته من السنة و هي إنما دلت على من جرد الردة مثل الحارث بن سويد و دلت على أن من غلظها كابن أبي سرح يجوز قتله بعد التوبة و الإسلام
الوجه الثاني : أنه مقتول لكونه كفر بعد إسلامه و لخصوص السب كما تقدم تقريره فاندرج في عموم الحديث مع كون السب مغلظا لجرمه و مؤكدا لقتله(3/28)
الوجه الثالث : أنه عام و أنه قد خص منه تارك الصلاة و غيرها من الفرائض عند من يقتله و لا يكفره و خص منه قتل الباغي و قتل الصائل بالسنة و الإجماع فلو قيل [ إن السب موجب للقتل بالأدلة التي ذكرناها و هي أخص من هذا الحديث ] لكان كلاما صحيحا و أما من يحتج بهذا الحديث في الذمي إذا سب ثم أسلم فيقال له : هذا وجب قتله قبل الإسلام و النبي صلى الله عليه و سلم إنما يريد إباحة الدم بعد حقنة بالإسلام و لم يتعرض لمن وجب قتله ثم أسلم أي شيء حكمه و لا يجوز أن يحمل الحديث عليه فإنه إذا حمل على حل الدم بالأسباب الموجودة قبل الإسلام و بعده لزم من ذلك أن يكون الحربي إذا قتل أو زنى ثم شهد شهادتي الحق أن يقتل بذلك القتل و الزنا لشمول الحديث على هذا التقدير له و هو باطل قطعا لا يجوز أن يحمل على أن كل من أسلم لا يحل دمه إلا بإحدى الثلاث إن صدر عنه بعد ذلك لأنه يلزمه أن لا يقتل الذمي بقتل أو صدر منه قبل الإسلام
فعلم أن المراد أن المسلم الذي تكلم بالشهادتين يعصم دمه لا يبيحه بعد هذا إلا إحدى الثلاث ثم لو اندرج هذا في العموم لكان مخصوصا بما ذكرناه من أن قتله حد من الحدود و ذلك أن كل من أسلم فإن الإسلام يعصم دمه قلا يباح بعد ذلك إلا بإحدى الثلاث و يتخلف الحكم عن هذا المقتضي لمانع من ثبوت حد قصاص أو زنا أو نقض عهد فيه ضرر و غير ذلك و مثل هذا كثير في العمومات(3/29)
و أما الآية على الوجهين الأولين فنقول : إنما تدل على [ أن ] من كفر بعد إيمانه ثم تاب و أصلح فإن الله غفور رحيم و نحن نقول بموجب ذلك أما من ضم إلى الكفر انتهاك عرض الرسول و الأفتراء عليه أو قتله أو قتل واحدا من المسلمين أو انتهك عرضه فلا تدل الآية على سقوط العقوبة عن هذا على ذلك و الدليل على ذلك قوله سبحانه : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا } [ آل عمران : 89 ] فإن التوبة عائدة إلى الذنب المذكور و الذنب المذكور هو الكفر بعد الإيمان و هذا أتى بزيادة على الكفر توجب عقوبة بخصوصها كما تقدم و الآية لم تتعرض للتوبة من غير الكفر
و من قال : [ هو زنديق ] قال : أنا لا أعلم أن هذا تاب ثم إن الآية إنما استثنى فيها من تاب و أصلح و هذا الذي رفع إلي لم يصلح و أنا لا أؤخر العقوبة الواجبة عليه إلا أن يظهر صلاحه نعم الآية قد تعم من فعل ذلك ثم تاب و أصلح قبل أن يرفع إلى الإمام و هذا قد يقول كثير من الفقهاء بسقوط العقوبة على أن الآية التي بعدها قد تشعر بأن المرتد قسمان : قسم تقبل توبته و هو من كفر فقط و قسم لا تقبل توبته و هو من كفر ثم ازداد كفرا قال سبحانه و تعالى : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } [ آل عمران : 90 ](3/30)
و هذه الآية و إن كان قد تأولها أقوام على من ازداد كفرا إلى أن عاين الموت فقد يستدل بعمومها على هذه المسألة فقال : من كفر بعد إيمانه و ازداد كفرا بسب الرسول و نحوه لم تقبل توبته خصوصا من استمر به ازدياد الكفر إلى أن ثبت عليه الحد و أراد السلطان قتله فهذا قد يقال : إنه إزداد كفرا إلى أن رأى أسباب الموت و قد يقال فيه : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ـ إلى قوله ـ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر : 85 ] و أما قوله سبحانه و تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] فإنه يغفر لهم ما قد سلف من الآثام و أما من الحدود الواجبة على مسلم مرتد أو معاهد فإنه يجب استيفاؤها بلا تردد على أن سياق الكلام يدل أنها في الحربي
ثم نقول : الانتهاء إنما هو الترك قبل القدرة كما في قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ـ إلى قوله ـ أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا } [ الأحزاب : 61 ] فمن لم يتب حتى أخذ فلم ينته
و يقال أيضا : إنما تدل الآية على أنه يغفر لهم و هذا مسلم و ليس كل من غفر له سقطت العقوبة عنه في الدنيا فإن الزاني أو السارق لو تاب توبة نصوحا غفر الله له و لا بد من إقامة الحدود عليه
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] كقوله : [ التوبة تجب ما قبلها ] ومعلوم أن التوبة بعد القدرة لا تسقط الحد كما دل عليه القرآن و ذلك أن الحديث خرج جوابا لعمرو بن العاص لما قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي فقال : [ يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله و أن التوبة تهدم ما كان قبلها و أن الهجرة تهدم ما كان قبلها و أن الحج يهدم ما كان قبله ](3/31)
فعلم أنه عنى بذلك أنه يهدم الآثام و الذنوب التي سأل عمرو مغفرتها و لم يجر للحدود ذكر و هي لا تسقط بهذه الأشياء بالاتفاق و قد بين صلى الله عليه و سلم في حديث ابن أبي سرح أن ذنبه سقط بالإسلام و أن القتل إنما سقط عنه بعفو النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم و لو فرض أنه عام فلا خلاف أن الحدود لا تسقط عن الذمي بإسلامه و هذا منها كما تقدم
و أما قوله سبحانه و تعالى : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } [ التوبة : 66 ] فالجواب عنها من وجوه :
أحدها : أنه ليس في الآية دليل على أن هذه الآية نزلت فيمن سب النبي صلى الله عليه و سلم و شتمه و إنما فيها أنها نزلت في المنافقين و ليس كل منافق يسبه و يشتمه فإن الذي يشتمه من أعظم المنافقين و أقبحهم نفاقا و قد ينافق الرجل بأن لا يعتقد النبوة و هو لا يشتمه كحال كثير من الكفار و لو أن كل منافق بمنزلة من شتمه لكان كل مرتد شاتما و لاستحالت هذه المسألة و ليس الأمر كذلك فإن الشتم قدر زائد على النفاق و الكفر على ما لا يخفى و قد كان ممن هو كافر من يحبه صلى الله عليه و سلم و يوده و يصطنع إليه المعروف خلق كثير و كان ممن يكف عنه أذاه من الكفار خلق كثير أكثر من أولئك و كان ممن يحاربه و لا يشتمه خلق آخرون بالآية تدل على أنها نزلت في منافقين غير الذين يؤذونه فإنه سبحانه و تعالى قال : { و منهم الذين يؤذون النبي ـ إلى قوله ـ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب قل أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزؤن ؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } [ التوبة : 66 ] فليس في هذا ذكر سب و إنما فيه ذكر استهزاء بالدين ما لا يتضمن سبا و لا شتما للرسول(3/32)
و في هذا الوجه نظر كما تقدم في سبب نزولها إلا أن يقال : تلك الكلمات ليست من السب المختلف فيه و هذا ليس بجيد
الوجه الثاني : أنهم قد ذكروا أن المعفو عنه هو الذي استمع أذاهم و لم يتكلم و هو مخشي بن حمير هو الذي تيب عليه و أما الذين تكلموا بالأذى فلم يعف عن أحد منهم
يحقق هذا أن العفو المطلق إنما هو ترك المؤاخذة بالذنب و إن لم يتب صاحبه كقوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا و لقد عفا الله عنهم } [ آل عمران : 155 ]
و الكفر لا يعفى عنه : فعلم أن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية لا كافرة ـ إما بسماع الكفر دون إنكاره و الجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله أو بكلام هو ذنب و ليس هو كفرا أو غير ذلك ـ و على هذا فتكون الآية دالة على أنه لابد من تعذيب أولئك المستهزئين و هو دليل على أنه لا توبة لهم لأنهم من أخبر الله بأنه يعذب و هو معين امتنع أن يتوب توبة تمنع العذاب فيصلح أن يجعل هذا دليلا في المسألة
الوجه الثالث : أنه سبحانه و تعالى أخبر أنه لابد أن تعذب طائفة من هؤلاء إن عفا عن طائفة و هذا يدل عل أن العذاب واقع بهم لا محالة و ليس فيه ما يدل على وقوع العفو لأن العفو معلق بحرف الشرط فهو محتمل و أما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو معلق بحرف الشرط فهو محتمل و أما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو و هو بتقدير عدمه أوقع فعلم أنه لابد من التعذيب : إما عاما أو خاصا لهم و لو كانت توبتهم كلهم مرجوة صحيحة لم يكن كذلك لأنهم إذا تابوا لم يعذبوا(3/33)
و إذا ثبت أنهم لا بد أن يعذبهم الله لم يجز القول بجواز قبول التوبة منهم و إنه يحرم تعذيبهم إذا أظهروها و سواء أراد بالتعذيب بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين لأنه سبحانه و تعالى أمر نبيه فيما بعد بجهاد الكفار و المنافقين فكان من أظهره عذب بأيدي المؤمنين و من كتمه عذبه الله بعذاب من عنده و في الجملة فليس في الآية دليل على أن العفو واقع و هذا كاف هنا
الوجه الرابع : أنه إن كان في هذه الآية دليل على قبول توبتهم فهو حق و تكون هذه التوبة إذا تابوا قبل أن يثبت النفاق عند السلطان كما بين ذلك قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 61 ] الآيتين فإنها دليل على أن من لم ينته حتى أخذ فإنه يقتل و على هذا فلعله و الله أعلم عنى : { إن نعف عن طائفة منكم } [ التوبة : 66 ] و هم الذين أسروا النفاق حتى تابوا منه { نعذب طائفة } و هم الذين أظهروه حتى أخذوا : فتكون دالة على وجوب تعذيب من أظهره
الوجه الخامس : أن هذه الآية تضمنت أن العفو عن المنافق إذا أظهر النفاق و تاب أو لم يتب فذلك منسوخ بقوله تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين } [ التوبة : 73 ] كما أسلفناه و بيناه
و يؤيده أنه قال : { إن نعف } و لم يبت و سبب النزول يؤيد أن النفاق ثبت عليهم و لم يعاقبهم النبي صلى الله عليه و سلم و ذلك كان في غزوة تبوك قبل أن تنزل براءة و في عقبها نزلت سورة براءة فأمر فيها بنبذ العهود إلى المشركين و جهاد الكفار و المنافقين
فالجواب عما احتج به منها من وجوه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 469 ]
أحدها : أنه سبحانه و تعالى إنما ذكر أنهم قالوا كلمة الكفر و هموا بما لم ينالوا و ليس في هذا ذكر للسب و للكفر أعم من السب و لا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص لكن فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على أنها نزلت فيمن سب فيبطل هذا(3/34)
الوجه الثاني : أنه سبحانه و تعالى إنما عرض التوبة على الذين يحلفون بالله ما قالوا و هذا حال من أنكر أن يكون تكلم بكفر و حلف على إنكاره فأعلم الله نبيه أنه كاذب في يمينه و هذا كان شأن كثير ممن يبلغ النبي صلى الله عليه و سلم عنه الكلمة من النفاق و لا تقوم عليه به بينة هذا لا يقام عليه حد إذ لم يثبت عليه في الظاهر شيء و النبي صلى الله عليه و سلم إنما يحكم في الحدود و نحوها بالظاهر و الذي ذكروه في سبب نزولها من الوقائع كلها إنما فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر بما قالوه بخبر واحد إما حذيفة أو عامر بن قيس أو زيد بن أرقم أو غير هؤلاء أو أنه أوحى إليه وحي بحالهم(3/35)
و في بعض التفاسير أن المحكي عنه هذه الكلمة [ الجلاس بن سويد ] اعترف بأنه قالها و تاب من ذلك من غير بينة قامت عليه فقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك منه و هذا كله دلالة واضحة على أن التوبة من مثل هذا مقبولة و هو توبة من ثبت عليه نفاق و هذا لا خلاف فيه إذا تاب فيما بينه و بين الله سرا كما نافق سرا أنه تقبل توبته و لو جاء مظهرا لنفاقه المتقدم و لتوبته منه من غير أن تقوم عليه بينة بالنفاق قبلت توبته أيضا على القول المختار كما تقبل توبة من جاء مظهرا للتوبة من زنا أو سرقة عليه على الصحيح و أولى من ذلك و أما من ثبت نفاقه بالبينة فليس في الآية و لا فيما ذكر من سب نزولها ما يدل على قبول توبته بل و ليس في نفس الآية ما يدل على ظهور التوبة بل يجوز أن يحمل على توبته فيما بينه و بين الله فإن ذلك نافع وفاقا و إن أقيم عليه الحد كما قال تعالى : { و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم و من يغفر الذنوب إلا الله } [ آل عمران : 135 ] و قال تعالى : { و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } [ النساء : 110 ] و قال الله تعالى : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } [ الزمر : 53 ] و قال تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } [ التوبة : 104 ] و قال تعالى : { غافر الذنب و قابل التوب } [ غافر : 3 ] إلى غير ذلك من الآيات مع أن هذا لا يوجب أن يسقط الحد الواجب بالبينة عمن أتى بفاحشة موجبة للحد أو ظلم نفسه بشرب أو سرقة فلو قال من لم يسقط الحد عن المنافق سواء ثبت نفاقه ببينة أو إقرار : [ ليس في الآية ما يدل على سقوط الحد عنه ] لكان لقوله مساغ(3/36)
الوجه الثالث : أنه قال سبحانه و تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين و أغلظ عليهم ـ إلى قوله ـ يحلفون بالله ما قالوا } الآية [ التوبة : 73 ] و هذا تقرير لجهادهم و بيان لحكمته و إظهار لحاكم المقتضي لجهادهم فإن ذكر الوصف المناسب بعد الحكم يدل على أنه علة له و قوله : { يحلفون بالله ما قالوا } [ التوبة : 74 ] وصف لهم و هو مناسب لجهادهم فإن كونهم يكذبون في أيمانهم و يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر بموجب للإغلاظ عليهم بحيث لا يقبل منهم و لا يصدقون فيما يظهرونه من الإيمان بل ينتهرون و يرد ذلك عليهم
و هذا كله دليل على أنه لا يقبل ما يظهره من التوبة بعد أخذه إذا لا فرق بين كذبه فيما يخبر به عن الماضي أنه لم يكفر و فيما يخبره من الحاضر أنه ليس بكافر فإذا بين سبحانه و تعالى من حالهم ما يوجب أن لا يصدقوا وجب أن لا يصدق في إخباره أنه ليس بكافر بعد ثبوت كفره بل يجري عليه حكم قوله تعالى { و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقين : 1 ] لكن بشرط أن يظهر كذبه فيها بدون ذلك فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس و لا نشق بطونهم و على هذا فقوله تعالى : { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } [ التوبة : 74 ] أي قبل ظهور النفاق و قيام البينة به عند الحاكم حتى يكون للجهاد موضع و للتوبة [ موضع ] و إلا فقبول التوبة الظاهرة في كل وقت يمنع الجهاد لهم بالكلية الوجه الرابع : أنه سبحانه و تعالى قال بعد ذلك : { و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة } [ التوبة : 74 ] و فسر ذلك في قوله تعالى : { و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } [ التوبة : 52 ](3/37)
و هذا دليل على أن هذه التوبة قبل أن نتمكن من تعذيبهم بأيدينا لأن من تولى عن التوبة حتى أظهر النفاق و شهد عليه به و أخذ فقد تولى عن التوبة التي عرضها الله عليه فيجب أن يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا و القتل عذاب أليم فيصلح أن يعذب به لأن المتولي أبعد أحواله أن ترك التوبة إلى أن لا يتركه الناس لأنه لو كان المراد به تركها إلى الموت لم يعذب في الدنيا لأن عذاب الدنيا قد فات فلا بد أن يكون التولي ترك التوبة و بينه و بين الموت مهل يعذبه الله فيه كما ذكره سبحانه فمن تاب بعد الأخذ ليعذب فهو ممن لم يتب قبل ذلك بل تولى فيستحق أن يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة و من تأمل هذه الآية و التي قبلها و جدهما دالتين على أن التوبة بعد أخذه لا ترفع عذاب الله عنه
و أما كون هذه التوبة مقبولة فيما بينه و بين الله و إن تضمنت التوبة من عرض الرسول فنقول أولا ـ و إن كان حق هذا الجواب أن يؤخر إلى المقدمة الثانية ـ هذا القدر لا يمنع إقامة الحد عليه إذا رفع إلينا ثم أظهر التوبة بعد ذلك كما أن الزاني و الشارب و قاطع الطريق إذا تاب فيما بينه و بين الله قبل أن يرفع إلينا قبل الله توبته و إذا اطلعنا عليه ثم تاب قوله تعالى فلا بد من إقامة الحد عليه و يكون ذلك من تمام توبته و جميع الجرائم من هذا الباب
و قد يقال : إن المنتهك لأعراض الناس إذا استغفر لهم قبل أن يعلموا بذلك رجي أن يغفر الله له على ما في ذلك الخلاف المشهور و لو ثبت ذلك عند السلطان ثم أظهر التوبة لم يسقط عقوبته ذلك أن الله سبحانه لا بد أن يجعل للمذنب طريقا إلى التوبة فإذا كان عليه تبعات للخلق فعليه أن يخرج منها جهده و يعوضهم عنها ما يمكنه و رحمة الله من وراء ذلك ثم ذلك لا يمنع أن نقيم عليه الحد إذا ظهرنا عليه و نحن إنما نتكلم في التوبة المسقطة للحد و العقوبة لا في التوبة الماحية للذنب(3/38)
ثم نقول ثانيا : إن كان ما أتاه من السب قد صدر عن اعتقاد يوجبه فهو بمنزلة ما يصدر من سائر المرتدين و ناقضي العهد من سفك دماء المسلمين و أخذ أموالهم و انتهاك أعراضهم فإنهم يعتقدون في المسلمين اعتقادا يوجب إباحة ذلك ثم إذا تابوا توبة نصوحا من ذلك الاعتقاد غفر لهم موجبة المتعلق بحق الله و حق العباد كما يغفر للكافر الحربي موجب للكافر الحربي موجب اعتقاده إذا تاب منه مع أن المرتد أو الناقص متى فعل شيئا من ذلك قبل الإمتناع أقيم عليه حده و إن عاد إلى الإسلام سواء كان لله أو لآدمي فيحد على الزنا و الشرب و قطع الطريق و إن كان في زمن الردة و نقض العهد يعتقد حل ذلك الفرج لكونه وطئه بملك اليمين إذا قهر مسلمة على نفسها و يعتقد حل دماء المسلمين و أموالهم كما يؤخذ منه القود و حد القذف و إن كان يعتقد حلهما و يضمن ما أتلفه من الأموال و إن اعتقد حلها
و الحربي الأصل لا يؤخذ بشيء من ذلك بعد الإسلام فكان الفرق أن ذاك كان ملتزما بأيمانه و أمانه أن يفعل شيئا من ذلك فإذا فعله لم يعذر بفعله بخلاف الحربي الأصل و إن في إقامة هذه الحدود عليه زجرا له عن فعل هذه الموبقات كما فيها زجر للمسلم المقيم على إسلامه بخلاف الحربي الأصل فإن ذلك لا يزجره بل هو منفر له عن الإسلام و لأن الحربي الأصل ممتنع و هذان ممكنان(3/39)
و كذلك قد نص الإمام أحمد على أن الحربي إذا زنى بعد الأسر أقيم عليه الحد لأنه صار في أيدينا كما أن الصحيح عنه و عن أكثر أهل العلم أن المرتد إذا امتنع لم تقم عليه الحدود لأنه صار بمنزلة الحربي إذ الممتنع يفعل هذه الأشياء باعتقاده و قوة من غير زاجر له ففي إقامة الحدود عليهم بعد التوبة تنفير و إغلاق لباب التوبة عليهم و هو بمنزلة تضمين أهل الحرب سواء و ليس هذا موضع استقصاء هنا و إنما نبهنا عليه و إذا كان هذا هنا هكذا فالمرتد و الناقض إذا آذيا الله و رسوله ثم تابا من ذلك بعد القدرة توبة نصوحا كانا بمنزلتهما إذا حربا باليد في قطع الطريق أو زنيا و تابا بعد أخذهما و ثبوت الحد عليهما و لا فرق بينهما و ذلك لأن الناقض للعهد قد كان عهده يحرم عليه هذه الأمور في دينه و إن كان دينه المجرد عن عهد يبيحها له
و كذلك المرتد قد كان يعتقد أن هذه الأمور محرمة فاعتقاده إباحتها إذا لم يتصل به قوة و منعة ليس عذرا له في أن يفعلها لما كان ملتزما له من الدين الحق و لما هو به من الضعف و لما في سقوط الحد عنه من الفساد و إن كان السب صادرا عن غير اعتقاد بل سبه مع اعتقاد نبوته أو سبه بأكبر مما يوجبه اعتقاده أو بغير ما يوجبه اعتقاده فهذا من أعظم الناس كفرا بمنزلة إبليس و هو من نوع العناد أو السفه و هو بمنزلة من شتم بعض المسلمين أو قتلهم و هو يعتقد أن دماءهم و أعراضهم حرام
و قد اختلف الناس في سقوط حق المشتوم بتوبة الشاتم قبل العلم به سواء كان نبيا أو غيره فمن اعتقد أن التوبة لا تسقط حق الآدمي له أن يمنع هنا أن توبة الشاتم في الباطن صحيحة على الإطلاق و له أن يقول : إن للنبي صلى الله عليه و سلم أن يطالب هذا بشتمه مع علمه بأن حرام كسائر المؤمنين لهم أن يطالبوا شاتمهم و سابهم بل ذلك أولى و هذا القول قوي في القياس و كثير من الظواهر يدل عليه(3/40)
و من قال : [ هذا من باب السب و الغيبة و نحوهما مما يتعلق بأعراض الناس و قد فات الاستحلال فليأت للمشتوم من الدعاء و الاستغفار بما يزن حق عرضه ليكون ما يأخذه المظلوم من حسنات هذا بقدر ما دعا له و استغفر فيسلم له سائر عمله فكذلك من صدرت منه كلمة سب أو شتم فليكثر من الصلاة و التسليم و يقابلها بضدها ] فمن قال : [ إن ذلك يوجب قبول التوبة ظاهرا و باطنا ] أدخله في قوله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ] [ و أتبع السيئة الحسنة تمحها ]
و من قال لابد من القصاص قال : قد أعد له من الحسنات ما يقوم بالقصاص و ليس لنا غرض في تقرير واحد من القولين هنا و إنما الغرض أن الحد لا يسقط بالتوبة لأنه إن كان عن اعتقاد فالتوبة منه صحيحة مسقطة لحق الرسول في الآخرة و هي لا تسقط الحد عنه في الدنيا كما تقدم و إن كانت عن غير اعتقاد ففي سقوط حق الرسول بالتوبة خلاف
فإن قيل [ لا يسقط ] و إن قيل يسقط الحق و لم يسقط الحد كتوبة الأولي و أولى فحاصله أن الكلام في مقامين : أحدهما أن التوبة إذا كانت صحيحة نصوحا فيما بينه و بين الله هل يسقط معها حق المخلوق ؟ و فيه تفضيل و خلاف فإن قيل [ لم يسقط ] فلا كلام و إن قيل [ يسقط ] فسقوط حقه بالتوبة كسقوط حق الله بالتوبة فتكون كالتوبة من سائر أنواع الفساد و تلك التوبة إذا كانت بعد القدرة لم تسقط شيئا من الحدود و إن كانت تجب الإثم في الباطن
و حقيقة هذا الكلام أن قتل الساب ليس لمجرد الردة و مجرد عدم العهد حتى تقبل توبته كغيره بل لردة مغلظ بالضرر و مثله لا يسقط موجبه بالتوبة لأنه من محاربة الله و رسوله و السعي في الأرض فسادا و هو من جنس الزنا و السرقة أو هو من جنس القتل و القذف فهذه حقيقة الجواب و به يتبين الخلل فيما ذكر من الحجة(3/41)
ثم نبينه مفصلا فنقول : أما قولهم [ إن ما جاء به من الإيمان به ماح لما أتى به من هتك عرضه ] فنقول : إن كان السب مجرد موجب اعتقاد فالتوبة من الاعتقاد توبة من موجبه و أما من زاد على موجب الاعتقاد أو أتى بضده ـ و هم أكثر السابين ـ فقد لا يسلم أن ما يأتي به من التوبة ماح إلا بعد عفوه بل يقال : له المطالبة و إن سلم ذلك فهو كالقسم الأول و هذا القدر لا يسقط الحدود كما تقدم غير مرة
و أما قولهم [ حقوق الأنبياء من حيث النبوة تابعة لحق الله في الوجوب فتبعته في السقوط ] فنقول : هذا مسلم إن كان السب موجب اعتقاد و إلا ففيه الخلاف و أما حقوق الله فلا فرق في باب التوبة بين ما موجبه اعتقاد أو غير اعتقاد فإن التائب من اعتقاد الكفر و موجباته و التائب من الزنا سواء و من لم يسو بينهما قال : ليست أعظم من حق الله إذا لم يسقط في الباطن بسقوطه و لكن الأمر إلى مستحقها : إن شاء جزى و إن شاء عفا و لم يعلم بعد ما يختاره الله سبحانه و قد أعلمنا أنه يغفر لكل من تاب(3/42)
و أيضا فإن مستحقها من جنس تلحقهم المضرة و المعرة بهذا و يتألمون به فجعل الأمر إليهم و الله سبحانه و تعالى إنما حقه راجع إلى مصلحة المكلف خاصة فإنه لا ينتفع بالطاعة و لا يستضر بالمعصية فإذا عاود المكلف الخير فقد حصل ما أراده ربه منه فلما كان الأنبياء عليهم السلام فيهم نعت البشر و لهم نعت النبوة صار حقهم له نعت حق الله و نعت حق سائر العباد و إنما يكون حقهم مندرجا في حق الله إذا صدر عن اعتقاد فإنهم لما وجب الإيمان بنبوتهم صار كالإيمان بوحدانية الله فإذا لم يعتقد معتقد نبوتهم كان كافرا كما إذا لم يقر بوحدانية الله و صار الكفر بذلك كفرا برسالات الله و دينه و غير ذلك فإذا كان السب موجبا بذا الاعتقاد فقط مثل نفي الرسالة أو النبوة أو نحو ذلك و تاب منه توبة نصوحا قبلت توبته كتوبة المثلث و إذا زاد على ذلك ـ مثل قدح في نسب أو وصف بمساوئ أخلاق أو فاحشة أو غير ذلك مما يعلم هو أنه باطل أو لا يعتقد صحته أو كان مخالفا للاعتقاد مثل أن يحسد أو يتكبر أو يغضب لفوات غرض أو حصول مكروه مع اعتقاد النبوة فيسب ـ فهنا إذا تاب لم يتجدد له اعتقاد أزال موجب السب إنما غير نيته و قصده و هو قد آذاه فهذا السب لم يتألم به البشر و لم يكن معذورا بعدم اعتقاد النبوة فهو لحق الله من حيث جنى على النبوة التي هي السبب الذي بين الله و بين خلقه فوجب قتله و هو كحق البشر من حيث إنه آذى آدميا يعتقد أنه لا يحل أذاه فلذلك كان له أن يطالبه بحق أذاه و أن يأخذ من حسناته بقدر أذاه و ليست له حسنة تزن ذلك إلا ما يضاد السب من الصلاة و التسليم و نحوهما و بهذا يظهر أن التوبة من سب صدر من غير اعتقاد من الحقوق التي تجب للبشر ثم هو حق يتعلق بالنبوة لا محالة فهذا قول القائل و إن كنا لم نرجح واحدا من القولين(3/43)
ثم إذا كانت حقوقهم تابعة لحق الله فمن الذي يقول : إن حقوق الله تسقط عن المرتد و ناقض العهد بالتوبة ؟ فإنا قد بينا أن هؤلاء تقام عليهم حدود الله بعد التوبة و إنما تسقط بالتوبة عقوبة الردة المجردة و النقض المجرد و هذا ليس كذلك
و أما قوله : [ إن الرسول يدعو الناس إلى الإيمان به و يخبرهم أن الإيمان يمحو الكفر فيكون قد عفا لمن كفر عن حقه ] فنقول : هذا جيد إذا كان السب موجب الاعتقاد لأنه هو الذي اقتضاه و دعاه إلى الإيمان به فإنه من أزال اعتقاد الكفر به باعتقاد الإيمان به زال موجبه أما من زاد على ذلك و سبه بعد أن آمن به أو عاهده فلم يلتزم أن يعفو عنه و قد كان له أن يعفو و له أن لا يعفو(3/44)
و التقدير المذكور في السؤال إنما يدل على سب أوجبه الاعتقاد ثم زال باعتقاد الإيمان لأنه هو الذي كان يدعو إليه الكفر و قد زال بالإيمان و أما ما سوى ذلك فلا فرق بينه و بين سب الناس من هذه الجهة و ذلك أن الساب إن كان حربيا فلا فرق بين سبه للرسول أو لواحد من الناس من هذه الجهة و إن كان مسلما أو ذميا فإذا سب الرسول سبا لا يوجبه اعتقاده فهو كما لو سب غيره من الناس فإن تجدد الإسلام منه كتجدد التوبة منه يزعه عن هذا الفعل و ينهاه عنه و إن لم يرفع موجبه فإنه موجب هذا السب لم يكن الكفر به إذ كلامنا في سب لا يوجبه الكفر به مثل فرية عليه يعلم أنها فرية و نحو ذلك لكن إذا أسلم الساب فقد عظم في قلبه عظيمة تمنعه أن يفتري عليه كما أنه إذا تاب من سب المسلم عظم الذنب في قلبه عظمة تمنعه من مواقعته و جاز أن لا يكون هذا الإسلام وازعا لكون موجب السب كان شيئا غير الكفر و قد يضعف هذا الإسلام عن دفعه كما يضعف هذه التوبة عن موجب الأذى و فرق بين ارتفاع الأمر بارتفاع سببه أو بوجوده ضده فإن ما أوجبه الاعتقاد إذا زال الاعتقاد زال سببه فلم يخش عوده إلا بعود السبب و ما لم يوجبه الاعتقاد من الفرية و نحوها على النبي عليه الصلاة و السلام و غيره يرفعها الإسلام و التوبة رفع الضد للضد إذ قبح هذا الأمر و سوء عاقبته و العزم الجازم على فعل ضده و تركه ينافي وقوعه لكن لو ضعف هذا الدافع عن مقاومة السبب المقتضي عمل عمله فهذا يبين أنه لا فرق في الحقيقة بين أن يتوب من سب يوجبه مجرد الكفر بالإيمان به الموجب لعدم ذلك السب و بين أن يتوب من سب مسلم بالتوبة الموجبة لعدم ذلك السب(3/45)
و اعتبر هذا برجل له غرض في أمر فزجر عنه و قيل له : هذا قد حرمه النبي عليه الصلاة و السلام فلا سبيل إليه فحمله فرط الشهوة و قوة الغضب لفوات المطلوب على أن لعن و قبح فيما بينه و بين الله مع أنه لا يشك في النبوة ثم إنه جدد إسلامه و تاب و صلى على النبي صلى الله عليه و سلم و لم يزل باكيا من كلمته و رجل أراد أن يأخذ مال المسلم بغير حق فمنعه منه فلعن و قبح سرا ثم إنه تاب من هذا و استغفر لذلك الرجل و لم يزل خائفا من كلمته أليست توبة هذا من كلمته كتوبة هذا من كلمته ؟ و إن كانت توبة هذا يجب أن تكون أعظم لعظم كلمته لكن نسبة هذه إلى هذه كنسبة هذه إلى هذه بخلاف من إنما يلعن و يقبح من يعتقده كذابا ثم تبين له أنه كان ضالا في ذلك الاعتقاد و كان في مهواة التلف فتاب و رجع من ذلك الاعتقاد توبة مثله فإنه يندرج فبه جميع ما أوجبه
و مما يقرر هذا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا بلغه سب مرتد أو معاهد سئل أن يعفو عنه بعد الإسلام و دلت سيرته على جواز قتله بعد إسلامه و توبته و لو كان مجرد التوبة يغفر لهم بها ما في ضمنها مغفرة تسقط الحد لم يجز ذلك فعلم أنه كان يملك العقوبة على من سبه بعد التوبة كما يملكها غيره من المؤمنين
فهذا الكلام في كون توبة الساب فيما بينه و بين الله هل تسقط حق الرسول أم لا ؟ و بكل حال ـ سواء أسقطت أم لم تسقط ـ لا يقتضي ذلك أن إظهارها مسقط للحد إلا أن يقال : هو مقتول لمحض الردة أو محض نقض العهد فإن توبة المرتد مقبولة و إسلام من جرد نقض العهد مقبول مسقط للقتل
و قد قدمنا فيما مضى بالأدلة القاطعة أن هذا مقتول لردة مغلظة و نقض مغلظ بمنزلة من حارب و سعى في الأرض فسادا
ثم من قال : [ يقتل حقا لآدمي ] قال : العقوبة إذا تعلق بها حقان حق لله و حق لآدمي ثم تاب سقط حق الله و بقي حق الآدمي من القود و هذا التائب إذا تاب سقط حق الله و بقي حق الآدمي(3/46)
و من قال [ يقتل حدا لله ] قال : هو بمنزلة المحارب و قد يسوى بين من سب الله و بين من سب الرسول على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
و قولهم في المقدمة الثانية : [ إذا أظهر التوبة وجب أن نقبلها منه ] قلنا : هذا مبني على أن هذه التوبة مقبولة مطلقا و قد تقدم الكلام فيه
ثم الجواب هنا من وجهين : أحدهما : القول بموجب ذلك فإنا نقبل منه هذه التوبة و نحكم بصحة إسلامه كما نقبل توبة القاذف و نحكم بعدالته و نقبل توبة السارق و غيرهم لكن الكلام في سقوط القتل عنه و من تاب بعد القدرة لم يسقط عنه شيء من حقوق العباد إذا قبلنا توبته أن يطهر بإقامة الحد عليه كسائر هؤلاء و ذلك أنا نحن لا ننازع في صحة توبته و مغفرة الله له مطلقا فإن ذلك إلى الله و إنما الكلام في : هل هذه التوبة مسقطة للحد عنه و ليس في الحديث ما يدل على ذلك فإنا قد نقبل إسلامه و توبته و نقيم عليه الحد تطهيرا له و هذا جواب من يقتله حدا محضا مع الحكم بصحة إسلامه
الثاني : أن هذا الحديث في قبول الظاهر إذا لم يثبت خلافه بطريق شرعي و هنا قد ثبت خلافه و هذا جواب من يقتله لزندقته و قد يجيب به من يقتل الذمي أيضا بناء على أنه زنديق في حال العهد فلا يوثق بإسلامه
و أما إسلام الحربي و المرتد و نحوهما ـ عند معاينة القتل ـ فإنما جاز لأنا إنما نقاتلهم لآن يسلموا و لا طريق إلى الإسلام إلا ما يقولونه بألسنتهم فوجب قبول ذلك منهم و إن كانوا في الباطن كاذبين و إلا لوجب قتل كل كافر أسلم أو لم يسلم و لا تكون المقاتلة حتى يسلموا بل يكون القتال دائما و هذا باطل ثم إنه قد يسلم الآن كارها ثم إن الله يحبب إليه الإيمان و يزينه في قلبه كذلك أكثر من يسلم لرغبته في المال و نحوه أو لرهبته من السيف و نحوه و لا دليل يدل على فساد الإسلام إلا كونه مكرها عليه بحق و هذا لا يلتفت إليه(3/47)
أما هنا فإنما نقتله لما مضى من جرمه من السب كما نقتل الذمي لقتله النفس أو لزناه بمسلمة و كما نقتل المرتد لقتله مسلما و لقطعه الطريق كما تقدم تقريره فليس مقصودنا بإرادة قتله أن يسلم و لا تجب مقاتلته على أن يسلم بل نحن نقتله جزاء له على ما آذانا و نكالا لأمثاله عن مثل هذه الجريمة فإذا أسلم فإن صححنا إسلامه لم يمنع ذلك وجوب قتله كالمحارب المرتد أو الناقض إذا أسلم بعد القدرة و قد قتل فإنه يقتل وفاقا فيما علمناه و إن حكم بصحة إسلامه و إن لم يصحح إسلامه فالفرق بينه و بين الحربي و المرتد من وجهين :
أحدهما : أن الحربي و المرتد لم يتقدم منه ما دل على أن باطنه بخلاف ظاهره بل إظهاره للردة لما ارتد دليل على أن ما يظهره من الإسلام صحيح و هذا مازال مظهرا للإسلام و قد أظهر ما دل على فساد عقده فلم يوثق بما يظهره من الإسلام بعد ذلك و كذلك ناقض العهد قد عاهدنا على أن لا يسب و قد سب فثبتت جنايته و غدره فإذا أظهر الإسلام بعد أن أخذ ليقتل كان أولى أن يخوف و يغدر فإنه كان ممنوعا من إظهاره و إسراره ؟ و لم يكن له غدر فيما فعله من السب بل كان محرما عليه في دينه فإذا لم يف به صار من المنافقين في العهد
الثاني : أن الحربي أو المرتد نحن نطلب منه أن يسلم فإذا أعطانا ما أردناه بحسب قدرته وجب قبوله منه و الحكم بصحته و الساب لا نطلب منه إلا القتل عينا فإذا أسلم ظهر إنما أسلم ليدرأ عن نفسه القتل الواجب عليه كما إذا تاب المحارب بعد القدرة عليه أو سلم أو تاب سائر الحياة بعد أخذهم فلا يكون الظاهر صحة هذا الإسلام فلا يسقط ما وجب من الحد قبله(3/48)
و حقيقة الأمر أن الحربي أو المرتد يقتل لكفر حاضر و يقاتل ليسلم فلا يمكن أن يظهر و هو مقاتل أو مأخوذ الإسلام إلا مكرها فوجب قبوله منه إذ لا يمكن بذله إلا هكذا و هذا الساب و الناقض لم يقتل لمقامه على الكفر أو كونه بمنزلة سائر الكفار غير المعاهدين لما ذكرناه من الأدلة الدالة على أن السب مؤثر في قتله و يكون قد بذل التوبة التي لن تطلب منه في حال الأخذ للعقوبة فلا تقبل منه
و على هذين المأخذين ينبني الحكم بصحة إسلام هذا الساب في هذه الحال مع القول بوجوب قتله :
أحدهما : لا يحكم بصحة إسلامه و هو مقتضى قول ابن القاسم وغيره من المالكية
و الثاني : يحكم بصحة إسلامه و عليه يدل كلام الإمام أحمد و أصحابه في الذمي مع وجوب إقامة الحد و أما المسلم إذا سب ثم قتل بعد أن أسلم فمن قال [ يقتل عقوبة على السب لكونه حق آدمي أو حدا محضا لله ] قال بصحة هذا الإسلام و قبله و هذا قول كثير من أصحابنا و غيرهم و قول من قال يقتل من أصحاب الشافعي
و كذلك من قال : [ يقتل من سب الله ] و من قال [ يقتل لزندقته ] أجرى عليه ـ إذا قتل بعد إظهار الإسلام ـ أحكام الزنادقة و هو قول كثير من المالكية و عليه يدل كلام بعض أصحابنا و على ذلك ينبني الجواب عما احتج به من قبول النبي صلى الله عليه و سلم ظاهر الإسلام من المنافقين فإن الحجة إما أن تكون في قبول ظاهر الإسلام في الجملة فهذا لا حجة فيه من أربعة أوجه قد تقدم ذكرها
أحدها : أن الإسلام إنما قبل منهم حيث لم يثبت عنهم خلافه و كانوا ينكرون أنهم تكلموا بخلافه فأما أن البينة تقوم عند رسول الله عليه الصلاة و السلام على كفر رجل بعينه فيكف عنه فهذا لم يقع قط إلا أن يكون في بادئ الأمر
و الثاني : أنه كان في أول الأمر مأمورا في مبادئ الأمر أن يدع أذاهم و يصبر عليهم لمصلحة التأليف و خشية التنفير إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالى : { جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ](3/49)
الثالث : أنا نقول بموجبه فنقبل من هذا الإسلام و نقيم عليه حد السب كما لو أتى حدا غيره و هذا جواب من يصحح إسلامه و يقتله حدا لفساد السب
الرابع : أن النبي عليه الصلاة و السلام لم يستتب أحدا منهم و يعرضه على السيف ليتوب من مقالة صدرت منه مع أن هذا مجمع على وجوبه فإن الرجل منهم إذا شهد عليه الكفر و الزندقة فإما أن يقتل عينا أو يستتاب فإن لم يتب و إلا قتل
و أما الاكتفاء منه بمجرد الجحود فما أعلم به قائلا بل أقل ما قيل فيه أنه يكتفى منهم بالنطق بالشهادتين و التبري من تلك المقالة فإذا لم تكن السيرة في المنافقين كانت هكذا علم أن ترك هذا الحكم لفوات شرطه ـ و هو إما ثبوت النفاق أو العجز عن إقامة الحد أو مصلحة التأليف في حال الضعف ـ حتى قوي الدين فنسخ ذلك
و إن كان الاحتجاج بقبول ظاهر الإسلام ممن سب فعنه جواب خامس و هو أنه صلى الله عليه و سلم كان له أن يعفو عمن شتمه في حياته و ليس هذا العفو لأحد من الناس بعده
و أما تسمية الصحابة الساب غادرا محاربا فهو بيان لحل دمه و ليس كل من نقض العهد و حارب سقط القتل عنه بإسلامه بدليل ما لو قتل مسلما أو قطع الطريق عليه أو زنى بمسلمة بل تسميته محاربا ـ مع كون السب فسادا ـ يوجب دخوله في حكم الآية كما تقدم
و أما الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و سبوه ثم عفا عنهم فالجواب عن ذلك كله قد تقدم في المسألة الأولى لما ذكرنا قصصهم و بينا أن السب غلب فيه حق الرسول إذا علم فله أن يعفو و أن ينتقم [ و ليس في ] هؤلاء ما يدل على أن العقوبة إنما سقطت عنهم مع عفوه و صفحه لمن تأمل أحوالهم معه و التفريق بينهم و بين من لم يهجه و لم يسبه
و أيضا فهؤلاء كانوا محاربين و الحربي لا يؤخذ بما أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض و المسلم و المعاهد يؤخذ بذلك
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 483 ](3/50)
و قولهم : [ الذمي يعتقد حل السب كما يعتقده الحربي و إن لم يعتقد حل الدم و المال ] غلط فإن عقد الذمة منعهم من الطعن في ديننا و أوجب عليهم الكف عن أن يسبوا نبينا كما منعهم دماءنا و أموالنا و أبلغ فهو إن لم يعتقد تحريمه للدين فهو يعتقد تحريمه للعهد كاعتقادنا نحن في دمائهم و أموالهم و أعراضهم و نحن لم نعاهدهم على أن نكف عن سب دينهم الباطل و إظهار معائبهم بل عاهدناهم على أن يظهروا في دارنا ما شئنا و أن يلتزموا جريان أحكامنا عليهم و إلا فأين الصغار ؟
و أما قولهم : [ الذمي إذا سب فإما أن يقتل لكفره و حرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود ] قلنا : هذا تقسيم منتشر بل يقتل لكفره و حرابه بعد الذمة و ليس من حارب بعد الذمة بمنزلة الحربي الأصل فإن الذمي إذا قتل مسلما اجتمع عليه أنه نقض العهد و أنه وجب عليه القود فلو عفا ولي الدم قتل لنقض العهد بهذا الفساد و كذلك سائر الأمور المضرة بالمسلمين يقتل بها الذمي إذا فعلها و ليس حكمه فيها كحكم الحربي الأصل إجماعا و إذا قتل لحرابه و فساده بعد العهد فهو حد من الحدود فلا تنافي بين الوصفين حتى يجعل أحدهما للآخر و قد بينا بالأدلة الواضحة أن قتله ليس لمجرد كونه كافرا غير ذي عهد بل حد أو عقوبة على سب نبينا الذي أوجبت عليه الذمة تركه و الإمساك عنه مع أن السب مستلزم لنقض العهد العاصم لدمه و أنه يصير بالسب محاربا غادرا و ليس هو كحد الزنا و نحوه مما لا مضرة علينا فيه و إنما أشبه الحدود به حد المحاربة
و أما قولهم : [ ليس في السب أكثر من انتهاك العرض و هذا القدر لا يوجب إلا الجلد ] ففي الكلام عنه ثلاثة أجوبة :(3/51)
أحدها : أن هذا كلام في رأس المسألة فإنه إذا لم يوجب إلا الجلد و الأمور الموجبة للجلد لا تنقض العهد ـ لم ينتقض العهد به كسب بعض المسلمين و قد قدمنا الدلالات التي لا تحل مخالفتها على وجوب قتل الذمي إذا فعل ذلك و أنه لا عهد له يعصم دمه مع ذلك و بينا أن انتهاك عرض عموم المسلمين يوجب الجلد و أما انتهاك عرض الرسول فإنه يوجب القتل و قد صولح على إمساك على العرضين فمتى انتهك عرض الرسول فقد أتى بما يوجب القتل مع التزامه أن لا يفعله فوجب أن يقتل كما لو قطع الطريق أو زنى و التسوية بين عرض الرسول و عرض غيره في مقدار العقوبة من أفسد القياس
و الكلام في الفرق بينهما يعد تكلفا فإنه عرض قد أوجب الله على جميع الخلق أن يقابلوه من الصلاة و السلام و الثناء و المدحة و المحبة و التعظيم و التعزيز و التوقير و التواضع في الكلام و الطاعة للأمر و رعاية الحرمة في أهل البيت و الأصحاب بما لا خفاء به على أحد من علماء المؤمنين عرض به قام دين الله و كتابه و عبادة المؤمنين به وجبت الجنة لقوم و النار لآخرين به كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس عرض قرن الله ذكره بذكره و جمع بينه و بينه في كتابة واحدة و جعل بيعته بيعة له و طاعته طاعة له و أذاه أذى له إلى خصائص لا تحصى و لا يقدر قدرها أفيليق ـ لو لم يكن سبه كفرا ـ أن تجعل عقوبة منتهك هذا العرض كعقوبة منتهك عرض غيره ؟
و لو فرضنا أن لله نبيا بعثه إلى أمة و لم يوجب على أمة أخرى أن يؤمنوا به عموما و لا خصوصا فسبه رجل و لعنه عالما بنبوته إلى أولئك أفيجوز أن يقال : إن عقوبته و عقوبة من سب واحدا من المؤمنين سواء ؟ هذا أفسد من قياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا(3/52)
قولهم : [ الذمي يعتقد حل ذلك ] قلنا : لا نسلم فإن العهد الذي بيننا و بينه حرم عليه في دينه السب كما حرم عليه دماءنا و أموالنا و أعراضنا فهو إذا أظهر السب يدري أنه قد فعل عظيمة من العظائم التي لم نصالحه عليها ثم إن كان يعلم أن عقوبة ذلك عندنا القتل فبها و إلا فلا يجب لآن مرتكب الحدود يكفيه العلم بالتحريم كمن زنى أو سرق أو شرب أو قذف أو قطع الطريق فإنه إذا علم تحريم ذلك عوقب العقوبة المشروعة و إن كان يظن أن لا عقوبة على ذلك و أن عقوبته دون ما هو مشروع 0000 ]
و أيضا فإن دينهم لا يبيح لهم السب و اللعنة للنبي و إن كان دينا باطلا أكثر ما يعتقدون أنه ليس بنبي أو ليس عليهم اتباعه أما أن يعتقدوا أن لعنته و سبه جائزة فكثير منهم أو أكثرهم لا يعتقدون ذلك على أن السب نوعان أحدهما : ما كفروا به و اعتقدوه و الثاني : ما لم يكفروا به فهذا الثاني لا ريب أنهم لا يعتقدون حله
و أما قولهم : [ صولح على ترك ذلك فإنه فعله انتقض العهد ] فإنه إذا فعله انتقض عهده و عوقب على نفس تلك الجريمة و إلا كان يستوي حال من ترك العهد و لحق بدار الحرب من غير أذى لنا و حال من قتل و سرق و قطع الطريق و شتم الرسول مع نقض العهد و هذا لا يجوز(3/53)
و أما قولهم : [ كون القتل حدا حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي ] فصحيح و قد تقدمت الأدلة الشرعية من الكتاب و السنة و الأثر و النظر الدالة على أن نفس السب ـ من حيث خصوصيته ـ موجب للقتل و لم يثبت ذلك استحسانا صرفا و استصلاحا محضا بل أثبتاه بالنصوص و آثار الصحابة و ما دل عليه إيماء الشارع و تنبيهه و بما دل عليه الكتاب و السنة و إجماع الأمة من الخصوصية لهذا السب و الحرمة لهذا العرض التي يوجب أن لا يصونه إلا القتل لا سيما إذا قوي الداعي على انتهاكه و خفة حرمته بخفة عقابه و صغر في القلوب مقدار من هو أعظم العالمين قدرا إذا ساوى في قدر العرض زيدا و عمرا و تمضمض بذكره أعداء الدين من كافر غادر و منافق ماكر فهل يستريب من قلب الشريعة ظهرا لبطن أن محاسنها توجب حفظ هذه الحرمة التي هي أعظم حرمات المخلوقين و حرمتها متعلقة بحرمة رب العالمين بسفك دم واحد من الناس ؟ مع أعظم النظر عن الكفر و الارتداد فإنهما مفسدتان اتحادهما في معنى التعداد و لسنا الأن نتكلم في المصالح المرسلة فإنا لم نحتج إليها في هذه المسألة لما فيها من الأدلة الخاصة الشرعية و إنما ننبه على عظم المصلحة في ذلك بيانا لحكمة الشرع لأن القلوب إلى ما فهمت حكمته أسرع انقيادا و النفوس إلى ما تطلع على مصلحته أعطش أكبادا ثم لو لم يكن في المسألة نص و لا أثر لكان اجتهاد الرأي يقضي بأن يجعل القتل عقوبة هذا الجرم لخصوصه لا لعموم كونه كفرا أو ردة حتى لو فرض تجرده عن ذلك لكان موجبا للقتل أخذا له من قاعدة العقوبات في الشرع فإنه يجعل أعلى العقوبات في مقابلة أرفع الجنايات و أوسطها في مقابلة أوسطها و أدناها في مقابلة أدناها فهذه الجناية إذا انفردت تمتنع أن تجعل في مقابلة الأذى فتقابل بالجلد أو الحبس تسوية بينها و بين الجناية على عرض زيد و عمرو فإنه لا يخفى على من له أدنى نظر بأسباب الشرع أن هذا من أفسد أنواع الاجتهاد و مثله في الفساد خلوها عن(3/54)
العقوبة تخصها و أما جعله في الأوسط كما اعتقده المهاجر بن أبي أمية حتى قطع يد الجارية السابة و قلع ثنيتها فباطل أيضا كما أنكره عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الجناية جناية على أشرف الحرمات و لأنه لا مناسبة بينها و بين أوسط العقوبات من قطع عضو من الأعضاء فتعين أن تقابل بأعلى العقوبات و هو القتل
و لو نزلت بنا نازلة السب و ليس معنا فيها أثر يتبع ثم استراب مستريب في الواجب إلحاقها بأعلى الجنايات لما عد من بضراء الفقهاء و مثل هذه المصلحة ليست مرسلة بحيث أن لا يشهد لها الشرع بالاعتبار فإذا فرض أنه ليس لها أصل خاص تلحق به و لابد من الحكم فيها فيجب أن يحكم فيها بما هو أشبه بالأصول الكلية و إذا لم يعمل بالمصلحة لزم العمل بالمفسدة و الله لا يحب الفساد
و لا شك أن العلماء في الجملة ـ من أصحابنا و غيرهم ـ قد يختلفون في هذا الضرب من المصالح إذا لم يكن فيها أثر و لا قياس خاص و الإمام أحمد قد يتوقف في بعض أفرادها مثل قتل الجاسوس المسلم و نحوه إن جعلت من أفرادها و ربما عمل بها و ربما تركها إذا لم يكن معه فيها أثر أو قياس خاص و من تأمل تصاريف الفقهاء علم أنهم يضطرون إلى رعايتها إذا لم يخالف أصلا من الأصول و لم يحالف في اعتبارها الطوائف من أهل الجدل و الكلام من أصحابنا و غيرهم و لو أنهم مخاض الفقهاء لعلموا أنه لابد من اعتبارها و ذوق الفقه ممن لجج فيه شيء و الكلام على حواشيه من غير معرفة أعيان المسائل شيء آخر و أهل الكلام و الجدل إنما يتكلمون في القسم الثاني فيلتزمون غيرهم مالا يقدرون على التزامه و يتكلمون في الفقه كلام من لا يعرف إلا أمور كلية و عمومات إحاطية و للتفاصيل خصوص نظر و دلائل يدركها من عرف أعيان المسائل(3/55)
و أثبتناه أيضا بالقياس الخاص و هو القياس على كل من ارتد و نقض العهد على وجه يضر المسلمين مضرة فيها العقوبة بالقتل و بينا أن هذا أخص من مجرد الردة و مجرد نقض العهد و أن الأصول فرقت بينهما
و أثبتناه أيضا بالنافي لحقن دمه و بينا أن هذا حل دمه بما فعله و الأدلة العاصمة لمن أسلم من مرتد و ناقض لا تتناوله لفظا و لا معنى
و قولهم : [ القياس في الأسباب لا يصح ] خلاف ما عليه الفقهاء و هو قول باطل قطعا ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك
و قولهم : [ معرفة نوع الحكمة و قدرها متعذر ] قلنا لا نسلم هذا على الإطلاق بل قد يمكن و قد يتعذر بل ربما علم قطعا : لأن الفرع مشتمل على الحكمة الموجودة في الأصل و زيادة
قولهم : [ هو يخرج السبب عن أن يكون سببا ] ليس كذلك فإن سبب السبب لا يمنعه أن يكون سببا و الإضافة إلى السبب لا تقدح في الإضافة إلى سبب السبب و العلم بها ضروري(3/56)
وأما قولهم : [ ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يجوز إلحاق السب بها ] قلنا بل هو يلحق بالردة المقترنة بما يغلظها و النقض المقترن بما يغلظه و إن الفساد الحاصل في السب أبلغ من الفساد الحاصل بتلك الأمور المغلظة كما تقدم بيانه بشواهده من الأصول الشرعية على أن هذا الحكم مستغن عن أصل يقاس به بل هو أصل في نفسه كما تقدم ثم إن هذا الكلام مقابل بما هو أنور منه بيانا و أبهر منه برهانا و ذلك أن القول بوجوب الكف عن هذا الساب ـ بعد الاتفاق على حل دمه ـ قول لا دليل عليه إلا قياس له على بعض المرتدين و ناقضي العهد مع ظهور الفرق بينهما و من قاس الشيء على ما يخالفه و يفارقه كان قياسه فاسدا فإن جعل هذا سببا عاصما قياس لسبب على سبب مع تباينهما في نوع الحكمة و قدرها ثم إنه إخلاء للسب الذي هو أعظم الجناية على الأعراض من العقوبات و لا عهد لنا بهذا في الشرع فهو إثبات حكم خارج عن القياس و جعل لكونه موجبا للقتل موجبا لكونه أهون من أعراض الناس في باب السقوط و هذا تعليق على العلة ضد مقتضاها و خروج عن موجب الأصول فإن العقوبات لا يكون تغلظها في الوجوب سببا لتخفيفها في السقوط قط لكن إن كان جنسها مما يسقط سقطت خفيفة كانت أو غليظة كحقوق الله في بعض المواضع و لم تسقط خفيفة كانت أو غليظة كحقوق العباد
ثم إن القول باستتابة الساب قول يخالف كتاب الله و يخالف صريح سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سنة خلفائه و أصحابه و القول بأن لا حق للرسول على الساب إذا أسلم : الذمي أو المسلم و لا عقوبة له عليه قول يخالف المعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم و يخالف أصول الشريعة و يثبت حكما ليس له أصل و لا نظير إلا أن يلحق بما ليس مثلا له(3/57)
الجواب الثاني : أنا لم ندع أن مجرد السب موجب للقتل و إنما بينا أن كل سب فهو محاربة و نقض للعهد بما يضر المسلمين فيقتل بمجموع الأمرين السب و نقض العهد و لا يجوز أن يقال : خصوص السب عديم التأثير فإن فساد هذا معلوم قطعا بما ذكرناه من الأدلة القاطعة على تأثيره و إذا كان كذلك لم نثبته سببا خارجا عن الأسباب المعهودة و إنما هو مغلظ السبب المعروف و هو الكفر كما أن قتل النفوس موجب لحل دمه ثم إن كان قد قتله في المحاربة تغلظ بحتم القتل و إلا بقي الأمر فيه إلى الأولياء و معلوم أن المقتول من قطاع الطريق لا يقال فيه [ قتل قودا و لا قصاصا ] حتى يرتب عليه أحكام من يجب عليه القود و إنما يضاف القتل إلى خصوص جنايته و هو القتل في المحاربة كذلك هنا الموجب هو خصوص المحاربة
و قولهم : [ الأدلة مترددة بين كون القتل لمجرد المحاربة أو لخصوص السب ] قلنا : هي نصوص في أن السب مؤثر تأثير زائدا على مطلق تأثير الكفر الخالي عن عهد فلا يجوز إهمال خصوصه بعد اعتبار الشرع له و أن يقال : إنما المؤثر مجرد ما في ضمنه و طيه من زوال العهد و لذلك و جب قتل صاحبة عينا من غير تخيير كما قررنا دلالته فيما مضى و إذا كان كذلك فليس مع المخالف ما يدل على أن القتل المباح يسقط بالإسلام و إن كان هذا من فروع الكفر كما أن الذمي إذا استحل دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم فانتهكها لاعتقاده أنهم كفار و أن ذلك حلال لهم منهم ثم أسلم فإنه يعاقب على ذلك : إما بالقتل إن كان فيها ما يوجب القتل أو بغيره
و لذلك لو استحل ذلك ذمي من ذمي ـ مثل أن يقتل نصراني يهوديا أو يأخذ ماله لاعتقاده أن ذلك حلال له أو يقذفه أو يسبه ـ فإنه يعاقب على ذلك عقوبة مثله و إن أسلم(3/58)
و كذلك لو قطع الطريق على قافلة فيهم مسلمون و معاهدون فقتل بعض أولئك المسلمين أو المعاهدين قتل لأجل ذلك حتما و انتقض عهده و إن أسلم بعد ذلك و إن كان هذا من فروع الكفر فهذا رجل انتقض عهده بأمر يعتقد حله قبل العهد و لو فعله مسلم لم يقتل عند كثير من الفقهاء إذا كان المقتول ذميا و كل واحد من الكفر و من القتل مؤثر في قتله و إن كان عهده إنما زال بهذا القتل فهذا نظير السب ثم لو أسلم هذا لم يسقط عنه القتل بل يقتل إما حدا أو قصاصا سواء كان ذلك القتل مما يقتل به المسلم ـ بأن يكون المقتول مسلما ـ أو لا يقتل به بأن يكون المقتول ذميا و على التقديرين يقتل هذا الرجل بعد إسلامه لقطعه الطريق مثلا و قتله ذلك المعاهد من غير أهل دينه و إن كان إنما فعل هذا مستحلا له لكفره و هو قد تاب من ذلك الكفر فتكون التوبة منه توبة من فروعه و ذلك لأن هذا الفرع ليس من لوازم الكفر بل هو محرم عليه في دينه لأجل الذمة كما أن تلك الدماء و الأموال محرمة عليه لأجل الذمة و منشأ الغلط في هذه المسألة اعتقاد أن الذمي يستبيح هذا السب فإن هذا غلط إذ لا فرق ـ بالنسبة إليه ـ بين إظهار الطعن في المسلمين و بين سفك دمائهم و أخذ أموالهم إذ الجميع إنما حرمه عليهم العهد لا الدين المجرد فكيف لم يندرج أخذه لعرض بعض الأمة أو لعرض واحد من غير أهل دينه من أهل الذمة في ضمن التوبة من كفره مع أنه فرعه و اندرج أخذه لعرض نبينا عليه الصلاة و السلام في ضمن التوبة من كفره ؟(3/59)
الجواب الثالث : هب أنه إنما يقتل للكفر و الحراب فقوله : [ الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر و الحراب بالإتفاق ] غلط و ذلك أنا إنما اتفقنا على أنه يسقط القتل الثابت للكفر و الحراب الأصلي فإن ذلك إذا أسلم لم يؤخذ بما أصاب في الجاهلية من دم أو مال أو عرض للمسلمين أما الحراب الطارىء فمن الذي وافق على أن القتل الثابت بجميع أنواعه يسقط بالإسلام ؟ نعم نوافق على ما إذا نقض العهد بما لا ضرر على المسلمين فيه ثم أسلم أما إذا أسلم ثم حارب و أفسد بقطع طريق أو زنا بمسلمة أو قتل مسلم أو طعن في الدين فهذا يقتل بكل حال كما دل عليه الكتاب و السنة و هو يقتل في مواضع بالإجماع كما إذا قتل في المحاربة و حيث لم يكن مجمعا عليه فهو كمحل النزاع و القرآن يدل على أن يقتل لأنه إنما استثنى من تاب قبل القدرة في الجملة فهذه المقدمة ممنوعة و التميز بين أنواع الحراب يكشف اللبس
و أما ما ذكروه من أن الكافر و المسلم إذا سب فيما بينه و بين الله و قذف الأنبياء ثم تاب قبل الله توبته و لم يطالبه النبي بموجب قذفه في الدنيا و لا في الآخرة و أن الإسلام يجب قذف اليهود لمريم و ابنها و قولهم في الأنبياء و الرسل فهو كما قالوا و لا ينبغي أن يستراب في مثل هذا و قد صرح [ به ] بعض أصحابنا و غيرهم و قالوا : إنما الخلاف في سقوط القتل عنه أما توبته و إسلامه فيما بينه و بين الله فمقبولة فإن الله يقبل التوبة عن عباده من الذنوب كلها و عموم الحكم في توبة المسلم و الذمي
فأما توبة المسلم فقد تقدم القول فيها و أما توبة الذمي من ذلك فإن كان ذلك السب ليس ناقضا للعهد بأنة يقوله سرا فتوبته منه كتوبة الحربي من جميع ما يقوله و يفعله و توبة الذمي من جميع ما يقر عليه من الكفر فإن هذا لم يكن ممنوعا بعقد الذمة و ليس كلامنا فيه و به يخرج الجواب عما ذكروه(3/60)
فإن السب الذي قامت الأدلة على مغفرته بالإسلام ليس هو السب الذي ينتقض به عهد الذمي إذا فعله و إنما فرق بين الجهر بالسب و الإسرار به بخلاف المسلم لأن ما يسره من السب لا يمنعه منه إيمان و لا أمان ألا ترى أنه لو قذف واحدا من المسلمين سرا مستحلا لذلك ثم أسلم كان كما لو قذفه و هو حربي ثم أسلم و معلوم أن الكافر الذي لا عهد معه يمنعه من شيء متى أسلم سقط عنه جميع الذنوب تبعا للكفر نعم لو أتى من السب بما يعتقده حراما في دينه ثم أسلم ففي سقوط حق المسبوب هنا نظر و نظيره أن يسب الأنبياء بما يعتقده محرما في دينه و أما إن كان السب ناقضا للعهد فإظهاره له مستحلا له في الأصل و غير مستحل كقتله المسلم مستحلا أو غير مستحل فالتوبة هنا تسقط حق الله في الباطن و أما إسقاطها لحق الآدمي ففيه نظر
و الذي يقضيه القياس أنه كتوبة المسلم : إن كان قد بلغ المشتوم فلا بد من استحلاله و إن لم يبلغه ففيه خلاف مشهور و ذلك لأنه حق آدمي يعتقده محرما عليه و قد انتهكه فهو كما لو قتل المعاهد مسلما سرا ثم أسلم وتاب أو أخذ له مالا سرا ثم أسلم فإن إسلامه لا يسقط عنه حق الآدمي الذي كان يعتقده محرما لا عهد لا ظاهرا و لا باطنا و هذا معنى قول من قال من أصحابنا : [ إن توبته فيما بينه و بين الله مقبولة ] فإن الله يقبل التوبة من الذنوب كلها و إن الله يقبل التوبة من حقوقه مطلقا أما من حقوق العباد فإن التوبة لا تبطل حقوقهم بل إما أن يستوفيها صاحبها ممن ظلمه أو يعوضه الله عنها من فضله العظيم
و جماع هذا الأمر أن التوبة من كل شيء كان يستحله في كفره تسقط حقوق الله و حقوق العباد ظاهرا و باطنا لكن السب الذي نتكلم فيه هو السب الذي يظهره الذمي و ليس هذا مما كان يستحله كما لم يكن يستحل دماءنا و أموالنا و إن كان ذلك مما يستحله لولا العهد(3/61)
و قد تقدم ذكر هذا و بينا أن العهد يحرم عليه في دينه كثيرا مما كان يعتقده حلالا لولا العهد و نظير هذا التوبة المرتد من السب الذي يعتقد صحته و أما ما لم يكن يستحله و هو إظهار السب ففيه حقان : حق لله و حق الآدمي فتوبته تسقط فيما بينه و بين الله حقه لكن لا يلزم أن تسقط حق الآدمي في الباطن فهذا الكلام على قبول التوبة فيما بينه و بين الله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 493 ]
و حينئذ فالجواب من وجوه :
أحدهما : أن الموضع الذي ثبت فيه قبول توبته فيما بينه و بين الله من حق الله و حق عباده ليس هو الموضع الذي ينتقض فيه عهده و يقتل و إن تاب فإن ادعى أنه يسقط حق العباد في جميع الصور فهذا محل منع لما فيه من الخلاف فلابد من إقامة الدلالة على ذلك و الأدلة المذكورة لم تتناول السب الظاهر الذي ينتقض به العهد
الوجه الثاني : أن صحة التوبة فيما بينه و بين الله لا تسقط حقوق العباد من العقوبة المشروعة في الدنيا فإن من تاب من قتل أو قذف أو قطع طريق أو غير ذلك فيما بينه و بين الله فإن ذلك لا يسقط حقوق العباد من القود و حد القذف و ضمان المال و هذا السب فيه حق لآدمي فإن كانت التوبة يغفر له بها ذنبه المتعلق بحق الله و حق عباده فإن ذلك لا يوجب سقوط حقوق العباد من العقوبة
الوجه الثالث : أن من يقول بقبول التوبة من ذلك في الباطن بكل حال يقول : [ إن توبة العبد فيما بينه و بين الله ممكنة من جميع الذنوب حتى إنه لو سب سرا آحادا من الناس موتى ثم تاب و استغفر لهم بذل سبهم لرجي أن يغفر الله له و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فكذلك ساب الأنبياء و الرسل لو لم تقبل توبته و تغفر زلته لانسد باب التوبة و قطع طريق المغفرة و الرحمة و قد قال الله تعالى لما نهى عن الغيبة : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه و اتقوا الله إن الله تواب رحيم } [ الحجرات : 12 ](3/62)
فعلم أن المغتاب له سبيل إلى التوبة بكل حال و إن كان الذي اغتيب ميتا أو غائبا بل أصح الروايتين ليس عليه أن يستحله في الدنيا إذا لم يكن علم فإن فساد ذلك أكثر من صلاحه و في الأثر : [ كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ] و قد قال تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ]
أما إذا كان الرسول حيا و قد بلغه السب فقد يقول هنا : إن التوبة لا تصح حتى يستحل الرسول و يعفو عنه كما فعل أنس بن زنيم و أبو سفيان ابن الحارث و عبد الله بن أبي أمية و عبد الله بن سعد بن أبي سرح و ابن الزبعرى و إحدى القينتين و كعب بن زهير و غيرهم كما دلت عليه السيرة لمن تدبرها و قد قال كعب بن زهير :
( نبئت أن رسول الله أوعدني ... و العفو عند رسول الله مأمول )
و إنما بطلب العفو في شيء يجوز فيه العفو و الانتقام و إنما يقال [ أوعده ] إذا حكم الإيعاد باقيا بعد الإسلام و إلا فلو كان الإيعاد معلقا ببقائه على الكفر لم يبق إيعاد
إذا تقرر هذا فصحة التوبة فيما بينه و بين الله و سقوط حق الرسول بما أبدله من الإيمان به الموجب لحقوقه لا يمنع أن يقيم عليه حد الرسول إذا ثبت عند السلطان و إن أظهر التوبة بعد ذلك كالتوبة من جميع الكبائر الموجبة للعقوبات المشروعة سواء كانت حقا لله أو حقا لآدمي فإن توبة العبد فيما بينه و بين الله ـ بحسب الإمكان ـ صحيحة مع أنه إذا ظهر عليه أقيم عليه الحد و قد أسلفنا أن حق الرسول فيه حق لله و حق لآدمي و أنه من كلا الوجهين يجب استيفاؤه إذا رفع إلى السلطان و إن أظهر الجاني التوبة بعد الشهادة
و أما ما ذكروه من كون سب الرسول ليس بأعظم من سب الله و أن ما فيه من الشرف فلأجله ففي الجواب عنه طريقتان :(3/63)
أحدهما : أنه لا فرق بين البابين فإن ساب الله أيضا يقتل و لا تسقط التوبة القتل عنه إما لكونه دليلا على الزندقة في الإيمان و الأمان أو لكونه ليس مجرد ردة و نقض و إنما هو من باب الاستخفاف بالله و الاستهانة و مثل هذا لا يسقط القتل عنه إذا تاب بعد الشهادة عليه كما لا يسقط القتل عنه إذا انتهك محارمه فإن انتهاك حرمته أعظم من انتهاك محارمه و سيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك و من قاله من أصحابنا و غيرهم و من أجاب بهذا لم يورد عليه صحة إسلام النصراني و نحوه و قبول توبتهم لأنه لا خلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله و في قبول التوبة مطلقا إذا لم يظهروا السب و إنما الخلاف فيما إذا أظهر النصراني ما هو سب و طعن و دعاؤهم إلى التوبة لا يمنع إقامة الحدود عليهم إذا كانوا معاهدين كقوله سبحانه و تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ثم لم يتوبوا } [ البروج : 10 ] و كانت فتنتهم أنهم ألقوهم في النار حتى كفروا و لو فعل هذا معاهد بمسلم فإنه يقتل و إن أسلم بالاتفاق و إن كانت توبته فيما بينه و بين الله مقبولة
و أيضا فإن مقالات الكفار التي يعتقدونها ليست من السب المذكور فإنهم يعتقدون هذا تعظيما لله و دينا له و إنما الكلام في السب الذي هو سب عند الساب و غيره من الناس و فرق بين من يتكلم في حقه بكلام يعتقده تعظيما له و بين من يتكلم بكلام يعلم أنه استهزاء به و استخفاف به و لهذا فرق في القتل و الزنا و السرقة و الشرب و القذف و نحوهن بين المستحل لذلك المعذور و بين من يعلم التحريم
و كذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ]
و قوله فيما يروي عن ربه عز و جل : [ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر و أنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل و النهار ](3/64)
فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه و إنما قصد أن يسب من فعل به ذلك الفعل مضيفا له إلى الدهر فيقع السب على الله لأنه هو الفاعل في الحقيقة سواء قلنا إن الدهر اسم من أسماء الله تعالى كما قال [ نعيم بن حماد ] أو قلنا إنه ليس باسم و إنما قوله : [ أنا الدهر ] أي أنا الذي أفعل ما ينسبونه إلى الدهر و يوقعون السب عليه كما قال أبو عبيدة و الأكثرون
و لهذا يكفر من سب الدهر و لا يقتل لكن يؤدب و يعزر لسوء منطقه و السب المذكور في قوله تعالى : { و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } [ الأنعام : 108 ]
قد قيل : إن المسلمين كانوا إذا سبوا آلهة الكفار من يأمرهم بذلك و إلههم الذين يعبدونه معرضين عن كونه ربهم و إلههم فيقع سبهم على الله لأنه إلهنا و معبودنا فيكونوا سابين لمصوف و هو الله سبحانه و لهذا قال سبحانه : { عدوا بغير علم } و هو شبيه الدهر من بعض الوجوه
و قيل : كانوا يصرحون بسب الله عدوا و غلوا في الكفر قال قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار الله بغير علم فأنزل الله : { و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }
و قال أيضا : كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون عليهم فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله و ذلك أنه في اللجاجة أن يسب الجاهل من يعظمه مراغمة لعدوه إذا كان يعظمه أيضا كما قال بعض الحمقى :
( سبوا عليا كما سبوا عتيقكم ... كفرا بكفر و إيمانا بإيمان )
و كما يقول بعض الجهال : مقابلة الفاسد بمثله و كما قد تحمل بعض جهال المسلمين الحمية على أن يسب عيسى إذا جاهره المحاربون بسب رسول الله عليه الصلاة و السلام و هذا من الموجبات للقتل
الطريقة الثانية : طريقة من فرق بين سب الله و سب رسوله و ذلك من وجوه :(3/65)
أحدها : أن سب الله حق محض لله و ذلك يسقط بالتوبة كالزنا و السرقة و شرب الخمر و سب النبي عليه الصلاة و السلام فيه حقان : لله و للعبد و لا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة هذا فرق القاضي أبي يعلى في خلافه
الوجه الثاني : أن النبي عليه الصلاة و السلام تلحقه المعرة بالسب لأنه مخلوق و هو جنس الآدميين الذين تلحقهم المعرة و الغضاضة بالسب و الشتم و كذلك يثابون على سبهم و يعطيهم الله من حسنات الشاتم أو من عنده عوضا على ما أصابهم من المعصية بالشتم فمن سبه فقد انتقص حرمته و الخالق سبحانه لا تلحقه معرة و لا غضاضة بذلك فإنه منزه عن لحوق المنافع و المضار كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول الله عليه الصلاة و السلام : [ يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ]
و إذا كان سب النبي صلى الله عليه و سلم قد يؤثر انتقاصه في النفوس و تلحقه بذلك معرة و ضيم و ربما كان سببا للتنفير عنه و قلة هيبته و سقوط حرمته شرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبه بالتوبة كالعقوبة على جميع الجرائم و أما ساب الله سبحانه فإنه يضر نفسه بمنزلة الكافر و المرتد فمتى تاب زال ضرر نفسه فلا يقتل
و هذا الفرق ذكره طوائف من المالكية و الشافعية و الحنبلية منهم القاضي عبد الوهاب بن نصر و القاضي أبو يعلى في : المجرد و أبو علي ابن البناء و ابن عقيل و غيرهم و هو يتوجه مع قولنا : [ إن سب النبي عليه الصلاة و السلام حد الله كالزنا و السرقة ](3/66)
يؤيد ذلك أن القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنا ثم لم يشرع عليه حد مقدر كما شرع على الرمي بالزنا و ذلك لأن المقذوف بالكفر لا يلحق العار الذي يلحقه بالرمي بالزنا لأنه بما يظهر من الإيمان يعلم كذب القاذف و بما يظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرة بخلاف الزنا فإنه يستسر به و لا يمكنه إظهار البراءة منه و لا تزول معرته في عرف الناس عند إظهار التوبة فلذلك ساب الرسول يلحق بالذين و أهله من المعرة ما لا يلحقهم إذا سب الله لكون المنافي لسب الله ظاهرا معلوما لكل أحد يشترك فيه كل الناس
الوجه الثالث : إن النبي عليه الصلاة و السلام إنما يسب على وجه الاستخفاف به و الاستهانة و للنفوس الكافرة و المنافقة إلى ذلك داع : من جهة الحسد على ما آتاه الله من فضله و من جهة المخالفة في دينه و من جهة المراغمة لأمته و كل مفسدة يكون إليها داع فلا بد من شرع العقوبة عليها حدا و كل ما شرعت العقوبة عليه يسقط بالتوبة كسائر الجرائم و أما سب الله سبحانه فإنه لا يقع في الغالب استخفافا و استهانة و إنما يقع تدينا و اعتقادا و ليس للنفوس في الغالب داع إلى إلقاء السب إلا عن اعتقاد يرونه تعظيما و تمجيدا و إذا كان كذلك لم يحتج خصوص السب إلى شرع زاجر بل هو نوع من الكفر فيقتل الإنسان عليه كردته و كفره إلا أن يتوب
و هذا الوجه من نمط الذي قبله و الفرق بينهما أن ذلك بيان لن مفسدة السب لا تزول بإظهار التوبة بخلاف مفسدة سب الله تعالى و الثاني بيان لأن سب الرسول إليه داع طبعي فيشرع الزجر عليه لخصوصه كشرب الخمر و سب الله تعالى ليس إليه داع طبعي فلا يحتاج خصوصه إلى زجر آخر كشرب البول و أكل الميتة و الدم(3/67)
و الوجه الرابع : أن سب النبي عليه الصلاة و السلام حد وجب لسب آدمي ميت لم يعلم أنه عفا عنه و ذلك لا يسقط بالتوبة بخلاف سب الله تعالى فإنه قد علم أنه قد عفا عمن سبه إذا تاب و ذلك أن سب الرسول متردد في سقوط حده بالتوبة بين سب الله و سب سائر الآدميين فيجب إلحاقه بأشبه الأصليين به و معلوم أن سب الآدمي إنما لا يسقط عقوبته بالتوبة لأن حقوق الآدميين لا يسقط بالتوبة لأنهم ينتفعون باستيفاء حقوقهم و لا ينتفعون بتوبة التائب فإذا تاب من للآدمي عليه حق قصاص أو قذف فإن له أن يأخذه منه لينتفع به تشفيا و درك ثأر و صيانة عرض و حق الله قد علم سقوطه بالتوبة لأنه سبحانه إنما أوجب الحقوق لينتفع بها العباد فإذا رجعوا إلى ما ينفعهم حصل مقصود الإيجاب و حينئذ فلا ريب أن حرمة الرسول ألحقت بحرمة الله من جهة التغليظ لأن الطعن فيه طعن في دين الله و كتابه و هو من الخلق الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة لأنهم ينتفعون باستفاء الحقوق ممن هي عليه
و قد ذكرنا ما دل على ذلك من أن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان له أن يعاقب من آذاه و إن جاءه تائبا و هو عليه الصلاة و السلام كما أنه بلغ الرسالة لينتفع بها العباد فإذا تابوا و رجعوا إلى ما أمرهم به فقد حصل مقصودة فهو أيضا يتألم بأذاهم له فله أن يعاقب من آذاه تحصيلا لمصلحة نفسه كما أنه يأكل و يشرب فإن تمكين البشر من استيفاء حقه ممن بغى عليه من جملة مصالح الإنسان و لو لا ذلك لماتت النفوس غما ثم إليه الخيرة في العفو و الانتقام فقد تترجح عنده مصلحة الانتقام فيكون فاعلا لأمر مباح و حظ جائز كما له أن يتزوج النساء و قد يترجح العفو(3/68)
و الأنبياء عليهم السلام منهم من كان قد يترجح عنده أحيانا الانتقام و يشدد الله قلوبهم فيه حتى تكون أشد من الصخر كنوح و موسى و منهم من كان يترجح عنده العفو فيلين الله قلوبهم فيه حتى تكون ألين من اللين كإبراهيم و عيسى فإذا تعذر عفوه عن حقه تعين استفاؤه و إلا لزم إهدار حقه بالكلية
قولهم : [ إذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى ]
قلنا : هو تابع من حيث تغلظت عقوبته لا من حيث إن له حقا في الاستيفاء لا ينجبر بالتوبة
قولهم : [ ساب الواحد من الناس لا يختلف حاله بين ما قبل الإسلام و بعده و بخلاف ساب الرسول ]
عنه جوابان :
أحدهما المنع فإن سب الذمي للمسلم جائز عنده لأنه يعتقد كفره و ضلاله و إنما يحرمه عنده العهد الذي بيننا و بينه فلا فرق بينهما و إن فرض الكلام في سب خارج عن الدين مثل الرمي بالزنا و الافتراء عليه و نحو ذلك فلا فرق ذلك بين سب الرسول و سب الواحد من أهل الذمة و لا ريب أن الكافر إذا أسلم صار أخا للمسلم يؤذيه ما يؤذيهم و صار معتقدا لحرمة أعراضهم و زال المبيح لانتهاك أعراضهم و مع ذلك لا يسقط حق المشتوم بإسلامه و قد تقدم هذا الوجه غير مرة
الثاني : أن شاتم الواحد من الناس لو تاب و أظهر براءة المشتوم و أثنى عليه و دعا له بعد رفعه إلى السلطان كان له أن يستوفى حده مع ذلك فلا فرق بينه و بين شاتم الرسول إذا أظهر اعتقاد رسالته و علو منزلته و سبب ذلك أن إظهار مثل هذه التوبة لا يزيل ما لحق المشتوم من الغضاضة و المعرة بل قد يحمل ذلك على خوف العقوبة و تبقى آثار السب الأول جارحة فإن لم يمكن المشتوم من أخذ حقه بكل حال لم يندمل جرحه
قولهم : [ القتل حق الرسالة و أما البشرية فإنما لها حقوق البشرية و التوبة تقطع حق الرسالة ](3/69)
قلنا : لا نسلم ذلك بل هو من حيث هو بشر مفصل في بشريته على الآدميين تفضيلا يوجب قتل سابه و لو كان القتل إنما وجب لكونه قدحا في النبوة لكان مثل غيره من أنواع الكفر و لم يكن خصوص السب موجبا للقتل و قد قدمنا من الأدلة ما يدل على أن خصوص السب موجب للقتل و انه ليس بمنزلة سائر أنواع الكفر و من سوى بين الساب و بين المعرض عن تصديقه فقط في العقوبة فقد خالف الكتاب و السنة الظاهرة و الإجماع الماضي و خالف المعقول و سوى بين الشيئين المتباينين كون القاذف له لم يجب عليه مع القتل جلد ثمانين أوضح دليل على أن القتل عقوبة لخصوص السب و إلا كان قد اجتمع حقان : حق لله ـ و هو تكذيب رسوله فيوجب القتل ـ و حق لرسوله ـ و هو سبه فيوجب الجلد على هذا الرأي ـ فكان ينبغي قبل التوبة على هذا أن يجتمع عليه الحدان كما لو ارتد و قذف مسلما و بعد التوبة يستوفي منه حد القذف فكان إنما للنبي عليه الصلاة و السلام أن يعاقب من سبه و جاء تائبا بالجلد فقط كما أنه ليس لإمام أن يعاقب قاطع الطريق إذا جاء تائبا إلا بالقود و نحوه مما هو خالص حق الآدمي و لو سلمنا أن القتل حق الرسالة فقط فهو ردة مغلظة بما فيه ضرر أو نقض مغلظ بما فيه ضرر كما لو اقترن بالنقض حراب و فساد بالفعل من قطع طريق و زنا بمسلمة و غير ذلك فإن القتل هنا حق لله و مع هذا لم يسقط بالتوبة و الإسلام و هذا المأخذ متحقق سواء قلنا إن ساب الله يقتل بعد التوبة أو لا يقتل كما تقدم تقريره
قولهم : [ إذا أسلم سقط القتل المتعلق بالرسالة ](3/70)
قلنا : هذا ممنوع أما إذا سوينا بينه و بين سب الله فظاهر و إن فرقنا فإن هذا شبه من باب فعل المحارب لله و رسوله الساعي في الأرض فسادا و الحاجة داعية إلى ردع أمثاله كما تقدم و إن سلمنا سقوط الحق المتعلق بالكفر بالرسالة لكن لم يسقط الحق المتعلق بشتم الرسول و سبه فإن هذه جناية زائدة على نفس الرسول مع إلتزام تركها فإن الذمي يلتزم لنا أن لا يظهر السب و ليس ملتزما لنا أن لا يكفر به فكيف يجعل ما التزم تركه من جنس ما أقررناه عليه ؟ و جماع الأمر أن هذه الجناية على الرسالة له نقض يتضمن حرابا و فسادا أو ردة تضمنت فسادا و حرابا و سقوط القتل عن مثل هذا ممنوع كما تقدم
قولهم : [ حق البشرية انغمر في حق الرسالة و حق الأدمي انغمر في حق الله ]
قلنا : هذه دعوى محضة و لو كان كذلك لما جاز للنبي عليه الصلاة و السلام العفو عمن سبه و لا جاز عقوبته بعد مجيئه تائبا و لا احتيج خصوص السب أن يفرد بذكر العقوبة لعلم كل أحد أن سب الرسول أغلظ من الكفر به فلما جاءت الأحاديث و الآثار في خصوص سب الرسول بالقتل علم أن ذلك لخاصة في السب و إن اندرج في عموم الكفر(3/71)
و أيضا فحق العبد لا ينغمر في حق الله قط نعم العكس موجود كما تندرج عقوبة القاتل و القاذف على عصيانه في القود و حد القذف و أما أن يندرج حق العبد في حق الله فباطل فإن من جنى جناية واحدة تعلق بها حقان لله و لآدمي ثم سقط حق الله لم يسقط حق الآدمي سواء كان من جنس أو جنسين كما لو جنى جنايات متفرقة كمن قتل في قطع الطريق فإنه إذا سقط عنه تحتم القتل لم يسقط عنه القتل و لو سرق سرقة ثم سقط عنه القطع لم يسقط عنه الغرم بإجماع المسلمين حتى عند من قال : [ إن القطع و الغرم لا يجتمعان نعم إذا جنى جناية واحدة فيها حقان لله و لآدمي : فإن كان موجب الحقين من جنس واحد تداخلا و إن كانا من جنسين ففي التداخل خلاف معروف مثال الأول قتل المحارب فإنه يوجب القتل حقا لله و للآدمي و القتل لا يتعدد فمتى قتل لم يبق للآدمي حق في تركته من الدية و إن كان له أن يأخذ الدية إذا قتل عدة مقتولين فيقتل بعضهم عند الشافعي و أحمد و غيرهما
أما إن قلنا : [ إن موجب العمد القود عينا ] فظاهر و إن قلنا : [ إن موجبه أحد شيئين ] فإنما ذاك حيث يمكن العفو و هنا لا يمكن العفو و صار موجبه القود عينا و ولي استيفائه الإمام لأن ولايته أعم و مثال الثاني : أخذ المال سرقة و إتلافه فإنه موجب للقطع حدا لله و موجب للغرم حقا لآدمي و لهذا قال الكوفيون : [ إن حق الآدمي يدخل في القطع فلا يجب ] و قال الأكثرون : [ بل يغرم للآدمي ماله و إن قطعت يده ](3/72)
و إما إذا جنى جنايات متفرقة لكل جناية حد فإن كانت لله و هي من جنس واحد تداخلت بالاتفاق و إن كانت من أجناس و فيها القتل تداخلت عند الجمهور و لم تتداخل عند الشافعي و إن كانت لآدمي لم تتداخل عند الجمهور و عند مالك تتداخل في القتل إلا حد القذف فهنا هذا الشاتم الساب لا ريب أنه يتعلق بسبه حق لآدمي و نحن نقول : [ إن موجب كل منهما القتل ] و من ينازعنا إما أن يقول : [ اندرج حق الآدمي في حق الله أو موجبه الجلد ] فإذا قتل فلا كلام إلا عند من يقول : إن موجبه الجلد فإنه يجب أن يخرج على الخلاف و أما إذا أسقط حق الله بالتوبة فكيف يسقط حق العبد ؟ فإنا لا نحفظ لهذا نظيرا بل النظائر تخالفه كما ذكرناه و السنة تدل على خلافه و إثبات حكم بلا أصل و لا نظير غير جائز بل مخالفته للآصول دليل على بطلانه
و أيضا فهب أن هذا حد محض لله لكن لم يقال : [ أنه يسقط بالتوبة ] ؟ و قد قدمنا أن الردة و نقض العهد نوعان : مجرد و مغلظ فما تغلظ منه بما يضر المسلمين يجب قتل صاحبه بكل حال و إن تاب و بينا أن السب من هذا النوع
و أيضا فأقصى ما يقال أن يلحق هذا السب بسب الله و فيه من الخلاف ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى(3/73)
و أما ما ذكر من الفرق بين سب المسلم و سب الكافر فهو ـ و إن كان له توجه كما للتسوية بينهما في سقوط توجه أيضا ـ فإنه معارض بما يدل على أن الكافر أولى بالقتل بكل حال من المسلم و كذلك أن الكافر قد ثبت المبيح لدمه و هو الكفر و إنما عصمه العهد و إظهاره السب لا ريب أنه محاربة لله و رسوله و إفساد في الأرض و نكاية في المسلمين فقد تحقق الفساد من جهته و إظهاره التوبة بعد القدرة عليه لا يوثق بها كتوبة غيره من المحاربين لله و رسوله الساعين في الأرض فسادا بخلاف من علم منه الإسلام و صدرت منه الكلمة من السب مع إمكان أنها لم تصدر عن اعتقاد بل خرجت سفها أو غلظا فإذا عاد إلى الإسلام ـ مع أنه لم يزل يتدين به لم يعلم منه خلافه ـ كان أولى لقبول توبته لأن ذنبه أصغر و توبته أقرب إلى الصحة
ثم إنه يجاب عنه بأن إظهار المسلم تجديد الإسلام بمنزلة إظهار الذمي الإسلام لأن الذمي كان يزعه عن إظهار سبه ما أظهره من الأمان كما يزع المسلم ما أظهره من عقد الإيمان فإذا كان المسلم الآن إنما يظهر عقد إيمان قد ظهر ما يدل على فساده فكلك الذمي إنما يظهر عقد إيمان قد ظهر ما يدل على فساده فإن من يتهم في أمانه يتهم في إيمانه و يكون منافقا في الإيمان كما كان منافقا في الأمان بل ربما كان حال هذا الذي تاب بعد معاينة السيف أشد على المسلمين من حاله قبل التوبة فإنه كان في ذلة الكفر و الآن فإنه قد يشرك المسلمين في ظاهر العز مع ما ظهر من نفاقه و خبثه الذي لم يظهر ما يدل على زواله على أن في تعليل سبه بالزندقة نظرا فإن السب أمر ظاهر أظهره و لم يظهر منه ما يدل على استبطانه إياه قبل ذلك و من الجائز أن يكون قد حدث له ما أوجب الردة(3/74)
نعم إن كان ممن تكرر ذلك منه أو له دلالات على سوء العقيدة فهنا الزندقة ظاهرة لكن يقال نحن نقتله للأمرين لكونه زنديقا و لكونه سابا كما نقتل الذمي لكونه كافرا غير ذي عهد و لكونه سابا فإن الفرق بين المسلم و الذمي في الزندقة لا يمنع اجتماعهما في علة أخرى تقتضي كون السب موجبا للقتل و إن أحدث الساب اعتقادا صحيحا بعد ذلك بل قد يقال : إن السب إذا كان موجبا للقتل قتل صاحبه و إن كان صحيح الاعتقاد في الباطن في حال سبه كسبه لله تعالى و كالقذف في إيجايه للجلد و كسب جميع البشر
و أما الفرق الثاني الذي مبناه على أن السب يوجب قتل المسلم حدا لأن مفسدته لا تزول بسقوطه تجديد الإسلام بخلاف سب الكافر فمضمونه أنا ترخص لأهل الذمة في إظهار السب إذا أظهروا بعده الإسلام و نأذن لهم أنم يشتموا ثم بعد ذلك يسلمون و ما هذا إلا بمثابة أن يقال : علم الذمي بأنه إذا زنى بمسلمة أو قطع الطريق أخذ فقتل إلا أن يسلم يزعه عن هذه المفاسد إلا أن يكون ممن يريد الإسلام و إذا أسلم فالإسلام يجب ما كان قبله و معلوم أن معنى هذا أن الذمي يحتمل منه ما يقوله و يفعله من أنواع المحاربة و الفساد إذ قصد أن يسلم و معلوم من أن هذا غير جائز
فإن الكلمة الواحدة من سب النبي صلى الله عليه و سلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار و لأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن أحب إلى الله و رسوله أن يدخل فيه أقوام و هو منتهك مستهان(3/75)
و كثير ممن يسب الأنبياء من أهل الذمة قد يكون زنديقا لا يبالي إلى أي دين انتسب فلا يبالي أن ينال غرضه من السب ثم يظهر الإسلام كالمنافق سواء ثم هذا يوجب الطمع منهم في عرضه فإنه ما دام العدو يرجو أن يستبقى و لو بوجه لم يزعه ذلك عن إظهار مقصودة في وقت ما ثم إن ثبت ذلك عليه و رفع إلى السلطان و آمر بقتله أظهر الإسلام و إلا فقد حصل غرضه و كل فساد قصد إزالته بالكلية لم يجعل لفاعله سبيل إلى استبقائه بعد الأخذ كالزنا و السرقة و قطع الطريق فإن كان مقصود الشارع من تطهير الدار من ظهور كلمة الكفر و الطعن في الدين أبلغ من مقصوده من تطهيرها من وجوه هذه القبائح ابتغى أن يكون تحتم عقوبة من فعل ذلك أبلغ من تحتم عقوبة هؤلاء
و فقه هذا الجواب أن تعلم أن ظهور الطعن في الدين من سب الرسول و نحوه فساد عريض وراء مجرد الكفر فلا يكون حصول الإسلام ماحيا لذلك الفساد(3/76)
و اما الفرق الثالث قولهم : [ إن الكافر لم يلتزم تحريم السب ] فباطل فإنه لا فرق بين إظهار لسب النبي صلى الله عليه و سلم و بين إظهاره لسب آحاد من المسلمين و بين سفك دمائهم و أخذ أموالهم فإنه لولا العهد لم يكن فرق عنده بيننا و بين سائر من يخالفه في دينه من المحاربين و معلوم انه يستحل ذلك كله منهم ثم إنه بالعهد صار ذلك محرما عليه في دينه منا لأجل العهد فإذا فعل شيئا من ذلك أقيم عليه حده و إن أسلم سواء انتقض عهده بما يفعله أو لم ينتقض فتارة يجب عليه الحد مع بقاءه العهد كما لو سرق أو قذف مسلما و تارة ينتقض عهده و لا حد عليه فيصير بمنزلة المحاربين و تارة يجب عليه الحد و ينتقض عهده كما إذا سب الرسول أو زنى بمسلمة أو قطع الطريق على المسلمين فهذا يقتل و إن أسلم و عقوبة هذا النوع من الجنايات القتل حتما كعقوبة القاتل في المحاربة من المسلمين جزاء له على ما فعل من فساد الذي التزم بعقد الإيمان أن لا يفعله مع كونه مثل ذلك الفساد موجبا للقتل و نكالا لأمثاله عن فعل مثل هذا إذا علموا أنه لا يترك صاحبه حتى يقتل فهذا هو الجواب عما ذكر من الحجج للمخالف مع أن فيما تقدم من كلامنا ما يغني عن الجواب لمن تبينت له المآخذ و الله سبحانه و تعالى أعلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 507 ]
و ذلك مبني على التوبة من سائر الجرائم فنقول :
لا خلاف علمناه أن قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما كان حدا لله من تحتم القتل و الصلب و النفي و قطع الرجل و كذلك قطع اليد عند عامة العلماء إلا في وجه لأصحاب الشافعي و قد نص الله على ذلك بقوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [ المائدة : 34 ] و معنى القدرة عليهم إمكان الحد عليهم لثبوته بالنية او بالإقرار و كونهم في قبضة المسلمين فإذا تابوا قبل أن يؤخذوا سقط ذلك عنهم(3/77)
و أما من لم يوجد منه إلا مجرد الردة و قد أظهرها فذلك أيضا تقبل توبته عند العامة إلا ما يروى عن الحسن و من قيل إنه وافقه
و أما القاتل و القاذف فلا أعلم مخالفا أن توبتهم لا تسقط عنهم حق الآدمي بمعنى أنه إذا طلب بالقود وحد القذف فله ذلك و إن كانوا قد تابوا قبل ذلك
و أما الزاني و السارق و الشارب فقد أطلق بعض أصحابنا إذا تاب قبل أن يقام عليه الحد فهل يسقط عنه الحد ؟ على روايتين :
أصحهما : أنه يسقط عنه بمجرد التوبة و لا يعتبر مع ذلك إصلاح العمل
و الثانية لا يسقط و يكون من توبته تطهيره بالحد
و قيد بعضهم إذا تاب قبل ثبوت حده عند الإمام و ليس بين الكلامين خلاف في المعنى فإنه لا خلاف أنه لا يسقط حد المحارب بتوبته و إن اختلفت عباراتهم : هل ذلك لعدم الحكم بصحة التوبة أو لإقضاء سقوط الحد إلى المفسدة ؟
فقال القاضي أبو يعلى و غيره و هو ممن أطلق الروايتين : التوبة غير محكوم بصحتها بعد قدرة الإمام عليه لجواز أن يكون أظهرها تقية من الإمام و الخوف من عقوبته قال : و لهذا نقول في توبة الزاني و السارق و الشارب : لا يحكم بصحتها بعد علم الإمام بحدهم و ثبوته عنده و إنما يحكم بصحتها قبل ذلك قال : و قد ذكره أبو بكر في الشافي فقال : إذا تاب ـ يعني الزاني ـ بعد أن قدر عليه فمن توبته أن يطهر بالرجم أو الجلد و إذا تاب قبل أن يقدر عليه قبلت توبته(3/78)
فمأخذ القاضي أن نفس التوبة المحكوم بصحتها مسقط للحد في كل موضع فلم يحتج إلى التقييد هو و من سلك طريقته من أصحابه مثل الشريف أبي جعفر و أبي الخطاب و مأخذ أبي بكر و غيره الفرق بين ما قبل القدرة و بعدها في الجميع مع صحة التوبة بعد القدرة و يكون الحد من تمام التوبة فلهذا قيدوا فلا فرق في الحكم بين القولين و التقيد بذلك موجود في كلام الإمام أحمد نقل عنه أبو الحارث في سارق جاء تائبا و معه السرقة فردها قبل أن يقدر عليه قال : لم يقطع و قال : قال الشعبي : ليس على تائب قطع و كذلك نقل حنبل ـ و مهنا : في السارق إذا جاء إلى الإمام تائبا : [ يدرأ عنه القطع ] و نقل عنه الميموني في الرجل إذا اعترف بالزنا أربع مرات ثم تاب قبل أن يقام عليه الحد : إنه تقبل توبته فلا يقام عليه الحد و ذكر قصة ماعز إذ وجد مس الحجر فهرب قال النبي عليه الصلاة و السلام : [ فهلا تركتموه ]
قال الميموني : و ناظرته في مجلس آخر قال : إذا رجع عما أقر به لم يرجم قلت : فإن تاب قال : من توبته أن يطهر بالرجم قال : و دار بيني و بينه الكلام غير مرة أنه إذا رجع لم يقم عليه و إن تاب فمن توبته أن يطهر بالجلد قال القاضي : و المذهب الصحيح أنه يسقط بالتوبة كما نقل أبو الحارث و حنبل و مهنا
فتلخص من هذا أنه إذا أظهر التوبة بعد أن ثبت عليه الحد عند الإمام بالبينة لم يسقط عنه الحد و أما إن تاب قبل أن يقدر عليه ـ بأن يتوب قبل أخذه و بعد إقراره الذي له أن يرجع عنه ـ ففيه روايتان و قد صرح بذلك غير واحد من أئمة المذهب منهم الشيخ أبو عبد الله بن حامد قال : فأما الزنا فإنه لا خلاف أنه فيما بينه و بين الله تصح توبته منه(3/79)
فأما إذا تاب الزاني و قد رفع إلى الإمام فقول واحد : لا يسقط الحد فأما إن تاب بحضرة الإمام فإنه ينظر فإن كان بإقرار منه ففيه روايتان و إن كان ذلك بينة فقول واحد : لا يسقط لأنه إذا قامت البينة عليه بالزنا فقد وجب القضاء بالبينة و الإقرار بخلاف البينة لأنه إذا رجع عن إقراره قبل منه
و قال في السرقة : لا خلاف أن الحق الذي لله يسقط بالتوبة سواء تاب قبل القطع أو بعده و إنما الخلاف فيمن تاب قبل إقامة الحد فإن كان ذلك قبل أن يرفع إلى الإمام سقط الحد سواء رفع إلى الإمام أو لم يرفع و أما إذا تاب بعد أن رفع إلى الإمام فلا يسقط الحد عنه لأنه حق يتعلق بالإمام فلا يجوز تركه
قال : و كذلك المحارب إذا تاب من حق الله و قد قدمنا أنا إذا قلنا يسقط الحد عن غير قطاع الطريق بالتوبة فإنه يكفي مجرد التوبة و هذا هو المشهور من المذهب كما يكفي ذلك في قطاع الطريق
و فيه وجه ثان : لابد من إصلاح العمل مع التوبة و على هذا فقد قيل : يعتبر مضي مدة يعتبر بها صدق توبته و صلاح نيته و ليست مقدرة بمدة معلومة لأن التوقيت يفتقر إلى توقيف و يتحرج أن يعتبر مضي سنة كما نص عليه الإمام أحمد في توبة الداعي إلى البدعة أنه يتعين فيه مضي سنة اتباعا لما أمر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية صبيغ بن عسل فإنه تاب عنده ثم نفاه إلى البصرة و أمر المسلمين بهجره فلما حال الحول و لم يظهر منه إلا خير أمر المسلمين بكلامه و هذه قضية مشهورة بين الصحابة و هذه طريقة أكثر أصحابنا
و ظاهر طريقة أبي بكر أنه يفرق بين التوبة قبل أن يقر ـ بأن يجيء تائبا ـ و بين أن يقر ثم يتوب لأن أحمد رضي الله عنه إنما أسقط الحد عمن جاء تائبا فأما إذا أقر ثم تاب فقد رجع أحمد عن القول بسقوط الحد(3/80)
و للشافعي أيضا في سقوط سائر الحدود غير حد المحارب بالتوبة قولان أصحهما أنه يسقط لكن حد المحارب يسقط بإظهار التوبة قبل القدرة و حد غيره لا يسقط بالتوبة حتى يقترن بها الإصلاح في زمن يوثق بتوبته و قيل : مدة ذلك سنة
هكذا ذكر العراقيون من أصحابه و ذكر بعض الخراسانيين أن في توبة المحارب و غيره بعد الظفر قولين إذا اقترن بها الإصلاح و استشكلوا ذلك فيما إذا أنشأ التوبة حيث أخذ لإقامة الحد فإنه لا يؤخر حتى يصلح العمل
و مذهب أبي حنيفة و مالك أنه لا يسقط بالتوبة و ذكر بعضهم أن ذلك إجماع و إنما هو إجماع في التوبة بعد ثبوت الحد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 511 ]
إذا تلخص ذلك فمن سب الرسول صلى الله عليه و سلم و رفع إلى السلطان و ثبت ذلك عليه بالبينة ثم أظهر التوبة لم يسقط عنه الحد عند من يقول [ إنه يقتل حدا ] سواء تاب قبل أداء البينة أو بعد أداء البينة لأن هذه توبة بعد أخذه و القدرة عليه فهو كما لو تاب قاطع الطريق و الزاني و السارق في هذه الحال و كذلك لو تاب بعد أن أريد رفعه إلى السلطان و البينة بذلك ممكنة و هذا لا ريب فيه و الذمي في ذلك كالملي إذا قيل [ إنه يقتل حدا ] كما قررناه
و أما إن أقر بالسب ثم تاب أو جاء تائبا منع فمذهب المالكية أنه يقتل أيضا لأنه حد من الحدود لا يسقط عندهم بالتوبة قبل القدرة و لا بعدها و لهم في الزنديق إذا جاء تائبا قولان لكن قال القاضي عياض : [ مسألته أقوى لا يتصور فيها الخلاف لأنه حق يتعلق بالنبي صلى الله عليه و سلم و لأمته بسببه لا يسقط بالتوبة كسائر حقوق الآدميين ] و كذلك يقول من يرى أنه يقتله حدا كما يقوله الجمهور و يرى أن التوبة لا تسقط الحد بحال كأحد قولي الشافعي و إحدى الروايتين عن أحمد و أما على المشهور في المذهبين ـ من أن التوبة قبل القدرة تسقط الحد ـ فقد ذكرنا أنما ذاك في حدود الله فأما حدود الآدميين من القود و حد القذف فلا تسقط بالتوبة(3/81)
فعلى هذا لا يسقط القتل عنه و إن تاب قبل القدرة كما لا يسقط القتل قودا عن قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة لأنه حق آدمي ميت فأشبه القود و حد القذف و هذا قول القاضي أبي يعلى و غيره و هو مبني على أن قتله حق لآدمي و أنه لم يعف عنه و لا يسقط إلا بالعفو و هو قول من يفرق بين من سب الله و من سب رسوله
و أما من سوى بين من سب الله و من سب رسوله و قال : [ إن الحدود تسقط بالتوبة قبل القدرة ] فإنه يسقط القتل هنا لأنه حد من الحدود الواجبة لله تعالى تاب صاحبه قبل القدرة عليه و هذا موجب قول من قال : [ إن توبته تنفعه فيما بينه و بين الله و يسقط عنه حق الرسول في الآخرة ] و به صرح غير واحد من أصحابنا و غيرهم لأن التوبة المسقطة لحق الله و حق العبد وجدت قبل أخذه لإقامة الحد عليه و ذك أن هذا الحد ليس له عاف عنه فإن لم تكن التوبة مسقطة له لزم أن يكون من الحدود ما لا تسقطه توبة قبل القدرة و لا عفو و ليس لهذا نظير نعم لو كان الرسول صلى الله عليه و سلم حيا لتوجه أن يقال : لا يسقط الحد إلا عفوه بكل حال
و أما إن أخذ وثبت السب بإقراره ثم تاب أو جاء فأقر بالسب غير مظهر للتوبة ثم تاب فذلك مبني على جواز رجوعه عن هذا الإقرار : فإذا لم يقبل رجوعه أقيم عليه الحد بلا تردد و إن قبل رجوعه و أسقط الحد عمن جاء تائبا ففي سقوطه عن هذا الوجهان المتقدمان و إن أقيم الحد على من جاء تائبا فعلى هذا أولى و القول في الذمي إذا جاء مسلما معترفا أو أسلم بعد إقراره كذلك
فهذا ما يتعلق بالتوبة من السب ذكرنا ما حضرنا ذكره كما يسره الله سبحانه و تعالى
و قد حان أن نذكر المسألة الرابعة فنقول :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 513 ]
و قبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة و قد كان يليق أن تذكر في أول المسألة الأولى و ذكرها هنا مناسب أيضا لينكشف سر المسألة(3/82)
و ذلك أن نقول : إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا و باطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء و سائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول و عمل
و قد قام الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهوية ـ و هو أحد الأئمة يعدل بالشافعي و أحمد ـ : [ و قد أجمع المسلمون أن من سب نبيا من أنبياء الله أو سب رسول الله عليه الصلاة و السلام أو دفع شيئا مما أنزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله أنه كافرا بذلك و إن كان مقرا بما أنزل الله ]
و كذلك قال محمد بن سحنون ـ و هو أحد الأئمة من أصحاب مالك و زمنه قريب من هذه الطبقة ـ : [ أجمع العلماء أن شاتم النبي عليه الصلاة و السلام المنتقض له كافر و الوعيد جار عليه بعذاب الله و حكمه عند الأمة القتل و من شك في كفره و عذابه كفر ]
و قد نص على مثل هذا غير واحد من الأئمة قال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل يا ابن كذا و كذا ـ أعنى أنت و من خلقك ـ : هذا مرتد عن الإسلام نضرب عنقه و قال في رواية عبد الله و أبي طالب : [ من شتم النبي عليه الصلاة و السلام قتل و ذلك أنه إذا شتم فقد ارتد عن الإسلام و لا يشتم مسلم النبي عليه الصلاة و السلام ] فبين أن هذا مرتد و أن المسلم لا يتصور أن يشتم و هو مسلم
و كذلك نقل عن الشافعي أنه سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى أنه قال : هو كافر و استدل بقول الله تعالى : { قل : أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون ؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ]
و كذلك قال أصحابنا و غيرها : من سب الله كفر سواء كان مازحا أو جادا لهذه الآية و هذا هو الصواب المقطوع به(3/83)
و قال القاضي أبو يعلى في المعتمد : من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحله فإن قال : [ و لم أستحل ذلك ] لم يقبل منه ظاهر الحكم رواية واحدة و كان مرتدا لأن الظاهر خلاف ما أخبر لأنه لا غرض له في سب الله و سب رسوله إلا أنه غير معتقد لعبادته غير مصدق بما جاء به النبي عليه الصلاة و السلام و يفارق الشارب و القاتل و السارق إذا قال : [ أنا غير مستحل لذلك ] أنه يصدق في الحكم لأن له غرضا في فعل هذه الأشياء مع اعتقاده تحريمها و هو ما يتعجل من اللذة قال : و إذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في ظاهر من الحكم فأما في الباطن فإن كان صادقا فيما قال فهو مسلم قلنا في الزنديق : [ لا تقبل توبته في الظاهر الحكم ]
و ذكر القاضي عن الفقهاء أن ساب النبي عليه الصلاة و السلام إن كان مستحلا كفر و لم يكن مستحلا فسق و لم يكفر كساب الصحابة و هذا نظير ما يحكى أنه بعض الفقهاء من أهل العراق أفتى هارون أمير المؤمنين فيمن سب النبي عليه الصلاة و السلام أن يجلده حتى أنكر ذلك مالك ورد هذه الفتيا مالك و هو نظير ما حكاه أبو محمد بن حزم أن بعض الناس لم يكفر المستخف به(3/84)
و قد ذكر القاضي عياض بعد أن رد هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزم بما نقله من الإجماع عن غير واحد و حمل الحكاية على أن أولئك لم يكونوا ممن يوثق بفتواه لميل الهوى به أو أن الفتوى كانت في كلمة اختلف في كونها سبا أو كانت فيمن تاب و ذكر أن الساب إذا أقر بالسب و لم يتب منه قتل كفرا لأن قوله إما صريح كفر كالتكذيب و نحوه أو هو من كلمات الاستهزاء أو الذم فاعترافه بها و ترك توبته منها دليل على استحلاله لذلك و هو كفر أيضا قال : فهذا كافر بلا خلاف و قال في موضع آخر : [ إن من قتله بلا استتابة فهو لم يره ردة و إنما يوجب القتل فيه حدا و إنما نقول ذلك مع انكاره ما شهد عليه به أو إظهاره الإقلاع عنه و التوبة و نقتله حدا كالزنديق إذا تاب ] قال : [ و نحن و إن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد و إنكاره ما شهد به عليه أو زعمه أن ذلك كان منه ذهولا و معصية و أنه مقلع عن ذلك نادم عليه ] قال و أما من علم أنه سبه معتقدا لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك و كذلك إن كان سبه في نفسه كفرا كتكذيبه أو تكفيره و نحوه فهذا ما لا إشكال فيه و كذلك من لم يظهر التوبة و اعتراف بما شهد به و صمم عليه فهو كافر بقوله و استحلاله هتك حرمة الله أو حرمة نبيه و هذا أيضا تثبيت منه بأن السب يكفر به لأجل استحلاله له إذا لم يكن في نفسه تكذيبا صريحا(3/85)
و هذا موضع لابد من تحريره و يجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة و هفوة عظيمة و يرحم الله القاضي أبا يعلى قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا و إنما وقع من وقع في هذه المهواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين ـ و هم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب و إن لم يقترن به قول اللسان و لم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح ـ و صرح القاضي أبو يعلى هنا قال عقب أن ذكر ما حكيناه عنه : [ و على هذا لو قال الكافر : أنا معتقد بقلبي معرفة الله و توحيده لكني لا آتي بالشهادتين كما لا آتي غيرها من العبادات كسلا ] لم يحكم بإسلامه في الظاهر و يحكم به باطنا قال : و قول الإمام أحمد [ من قال إن المعرفة تنفع في القلب من غير أن يتلفظ بها فهو جهمي ] محمول على أحد وجهين أحدهما : أنه جهمي في ظاهر الحكم و الثاني : على أن يمتنع من الشهادتين عنادا لأنه احتج أحمد في ذلك بأن إبليس عرف ربه بقلبه و لم يكن مؤمنا
و معلوم أن إبليس اعتقد أن لا يلزم امتثال أمره تعالى [ بالسجود ] لآدم و قد ذكر القاضي في غير موضع أنه لا يكون مؤمنا حتى يصدق بلسانه مع القدرة و بقلبه و أن الإيمان قول و عمل كما هو مذهب الأئمة كلهم : مالك و سفيان و الأوزاعي و الليث و الشافعي و أحمد و إسحاق و من قبلهم و بعدهم من أعيان الأمة
و ليس الغرض هنا استيفاء الكلام في الأصل و إنما الغرض البينة على ما يختص هذه المسألة و ذلك من وجوه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 516 ](3/86)
أحدها : أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه كان مستحلا كفر و إلا فلا ليس لها أصل و إنما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوها عن الفقهاء هؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريا على أصولهم أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولا و قد حكينا نصوص أئمة الفقهاء و حكاية إجماعهم عمن هو من أعلم الناس بمذاهبهم فلا يظن ظان أن في المسألة خلافا يجعل المسألة من مسائل الخلاف و الاجتهاد و إنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل البتة
الوجه الثاني : أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السب حلال فإنه لما اعتقد أن ما حرمه الله تعالى حلال كفر و لا ريب أن من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها أنها حلال كفر لكن لا فرق في ذلك بين سب النبي و بين قذف المؤمنين و الكذب عليه و الغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي علم أن الله حرمها فإنه من فعل شيئا من ذلك مستحلا كفر مع أنه لا يجوز أن يقال : من قذف مسلما أو اغتابه كفر و يعني بذلك إذا استحله
الوجه الثالث : أن اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن فإذا لا أثر للسب في التكفير وجودا و عدما و إنما المؤثر هو الاعتقاد و هو خلاف ما أجمع عليه العلماء
الوجه الرابع : أنه إذا كان المكفر هو اعتقاد الحل فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل فيجب أن لا يكفر لا سيما إذا قال [ أنا أعتقد أن هذا حرام و إنما أقول غيظا و سفها أو عبثا أو لعبا ] كما قال المنافقون : { إنما كنا نخوض و نلعب } [ التوبة : 65 ](3/87)
و كما إذا قال : إنما قذفت هذا و كذبت عليه لعبا و عبثا فإن قيل لا يكونون كفارا فهو خلاف نص القرآن و إن قيل يكونون كفارا فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفرا و قول القائل : أنا لا أصدقه في هذا لا يستقيم فإن التكفير لا يكون بأمر محتمل فإذا كان قد قال : [ أنا أعتقد أن ذلك ذنب و معصية و أنا أفعله ] فكيف يكفر إن لم يكن ذلك كفرا ؟ و لهذا قال سبحانه و تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ] و لم يقل قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض و نلعب فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر لو كانوا صادقين بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض و اللعب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 517 ]
و إذا تبين أن مذهب سلف الأمة و من اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها أو لم يستحلها فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولى من الدليل على كفر الساب مثل قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي } [ التوبة : 61 ] و قوله تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } [ الأحزاب : 57 ] و قوله تعالى { لا تعتذروا قد كفرتهم بعد إيمانكم }
و ما ذكرناه من الأحاديث و الأثار فإنما هو أدلة بينة في أن نفس أذى الله و رسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودا و عدما : فلا حاجة إلى أن نعيد الكلام هنا بل في الحقيقة كل ما دل على أن الساب كافر و أنه حلال الدم لكفره فقد دل على هذه المسألة إذ لو كان الكفر المبيح هو اعتقاد أن السب حلال لم يجز تكفيره و قتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهورا تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 518 ](3/88)
و منشأ هذه الشبهة التي أوجبت هذا الوهم من المتكلمين و من حذا حذوهم من الفقهاء أنهم رأوا أن الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به و رأوا أن اعتقاد صدقه لا ينافي السب و الشتم بالذات كما أن اعتقاد إيجاب طاعته لا ينافي معصيته فإن الإنسان قد يهين من يعتقد وجوب إكرامه كما يترك ما يعتقد وجوب فعله و يفعل ما يعتقد وجوب تركه ثم رأوا أن الأمة قد كفرت الساب فقالوا : إنما كفر لأن سبه دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام و اعتقاد حله تكذيب للرسول فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة و إنما الإهانة دليل على التكذيب فإذا فرض أنه في نفس الأمر ليس بمكذب كان في نفس الأمر مؤمنا و إن كان حكم الظاهر إنما يجري عليه بما أظهره فهذا مأخذ المرجئة و معتضديهم و هم الذين يقولون : [ الإيمان هو الاعتقاد و القول ] و غلاتهم و هم الكرامية الذين يقولون : [ مجرد القول و إن عري عن الاعتقاد ] و أما الجهمية الذين يقولون : [ هو مجرد المعرفة و التصديق بالقلب فقط و إن لم يتكلم بلسانه ] فلهم مأخذ آخر و هو أنه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه فإذا كان في قلبه التعظيم و التوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن كما لا ينفع المنافق إظهار خلاف ما في قلبه في الباطن
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 519 ]
و جواب الشبهة الأولى من وجوه :(3/89)
أحدها : أن الإيمان و إن كان أصله تصديق القلب فذلك التصديق لابد أن يوجب حالا في القلب و عملا له و هو تعظيم الرسول و إجلاله و محبته و ذلك أمر لازم كالتألم و التنعم عند الإحساس بالمؤلم و المنعم و كالنفرة و الشهوة عند الشعور بالملائم و المنافي فإذا لم تحصل هذه الحال و العمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق و لم يغن شيئا و إنما يمتنع حصوله إذا عارضه معارض من حسد الرسول و التكبير عليه أو الإهمال له و إعراض القلب عنه و نحو ذلك كما أن إدراك الملائم و المنافي يوجب اللذة و الألم إلا أن يعارضهم عارض و متى حصل المعارض كان وجود ذلك التصديق كعدمه كما يكون وجود ذلك كعدمه بل يكون ذلك المعارض موجبا لعدم المعلول الذي هو حال في القلب و بتوسط عدمه يزول التصديق الذي هو العلة فينقلع الإيمان بالكلية من القلب و هذا هو الموجب لكفر من حسد الأنبياء أو تكبر عليهم أو كره فراق الإلف و العادة مع علمه بأنهم صادقون و كفرهم أغلظ من كفر الجهال
الثاني : أن الإيمان و إن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق و إنما هو الإقرار و الطمأنينة و ذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر و كلام الله خبر و أمر فالخبر يستوجب تصديق المخبر و الأمر يستوجب الانقياد و الاستسلام و هو عمل في القلب جماعه الخضوع و الانقياد للأمر و إن لم يفعل المأمور به فإذا قوبل الخبر بالتصديق و الأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب و هو الطمأنينة و الإقرار فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار و الطمأنينة و ذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق و الانقياد و إذا كان كذلك فالسب إهانة و استخفاف و الانقياد للأمر إكرام و إعزاز و محال أن يهين القلب من قد انقاد له و خضع و استسلم أو يستخف به(3/90)
فإذا حصل في القلب استخفاف و استهانة امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام فلا يكون فيه إيمان و هذا هو بعينه كفر إبليس فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولا و لكن لم ينقد للأمر و لم يخضع له و استكبر عن الطاعة فصار كافرا و هذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف : تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق ثم يرون مثل إبليس و فرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب و كفره من أغلظ الكفر فيتحيرون و لو أنهم هدوا لما هدي إليه السلف الصالح لعملوا أن الإيمان قول و عمل أعني في الأصل قولا في القلب و عملا في القلب
فإن الإيمان بحسب كلام الله و رسالته و كلام الله و رسالته يتضمن إخباره و أوامره فيصدق القلب إخباره تصديقا يوجب حالا في القلب بحسب المصدق به و التصديق هو من نوع العلم و القول و ينقاد لأمره و يستسلم و هذا الإنقياد و الاستسلام هو من نوع الإرادة و العمل و لا يكون مؤمنا إلا بمجموع الأمرين فمتى ترك الانقياد كان مستكبرا فصار من الكافرين و إن كان مصدقا للكفر أعم من التكذيب يكون تكذيبا و جهلا و يكون استكبارا و ظلما و لهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر و الاستكبار دون التكذيب و لهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود و نحوهم من جنس كفر إبليس و كان كفر من يجهل مثل النصارى و نحوهم ضلالا و هو الجهل
ألا ترى أن نفرا من اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم و سألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا : نشهد أنك نبي و لم يتبعوه و كذلك هرقل و غيره فلم ينفعهم هذا العلم و هذا التصديق ؟(3/91)
ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله و قد تضمنت خبرا و أمرا فإنه يحتاج إلى مقام ثان و هو تصديقه خبر الله و انقياده لأمر الله فإذا قال : [ أشهد أن لا إله إلا الله ] فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره و الانقياد لأمره [ و أشهد أن محمدا رسول الله ] تضمنت تصديق فيما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار
فلما كان التصديق لابد منه في كلتا الشهادتين ـ و هو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ـ ظن من ظن أن أصل لجميع الإيمان و غفل عن أن أصل الآخر لابد منه و هو الانقياد و إلا فقد يصدق الرسول ظاهرا و باطنا ثم يمتنع من الانقياد للأمر إذ غايته تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه و تعالى كإبليس و هذا مما بين لك أن الاستهزاء بالله أو برسوله ينافي الانقياد له لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره
فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه و كلاهما كفر صريح و من استخلف به و استهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادا لأمره فإن الانقياد إجلال و إكرام و الاستخفاف إهانة و إذلال و هذان ضدان فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر فعلم أن الاستخفاف و الاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد
الوجه الثالث : أن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه و اعتقاد انقياد لله فيما حرمه و أوجبه فهذا ليس بكافر فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم و أبى أن يذعن لله و ينقاد فهو إما جاحد أو معاند و لهذا قالوا : من عصى الله مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق و من عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة و الجماعة و إنما يكفره الخوارج فإن العاصي المستكبر و إن كان مصدقا بأن الله ربه فإن معاندته له و محادته تنافي هذا التصديق(3/92)
و بيان هذا أن من فعل المحارم مستحلا لها فهو كافر بالاتفاق فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه و كذلك لو استحلها من غير فعل و الاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها و تارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها هذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية و لخلل في الإيمان بالرسالة و يكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة و تارة يعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم و يعاند المحرم فهذا أشد كفرا ممن قبله و قد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبة الله و عذبه
ثم إن هذا الامتناع و الإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر و قدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته و قد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردا أو اتباعا لغرض النفس و حقيقة كفر هذا لأنه يعترف لله و رسوله بكل ما أخبر به و يصدق بكل ما يصدق به المؤمنون لكنه يكره ذلك و يبغضه و يسخطه لعدم موافقته لمراده و مشتهاه و يقول : أنا لا أقر بذلك و لا ألتزمه و أبغض هذا الحق و أنفر عنه فهذا نوع من غير النوع الأول و تكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام و القرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع بل عقوبته أشد و في مثله قيل : [ أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ] ـ و هو إبليس و من سلك سبيله ـ و بهذا يظهر الفرق بين العاصي فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه و يحب أنه يفعله لكن الشهوة و النفرة منعته من الموافقة فقد أتى من الإيمان بالتصديق و الخضوع و الانقياد و ذلك قول و قول لكن لم يكمل العمل(3/93)
و أما إهانة الرجل من يعتقد و وجوب كرامته كالوالدين و نحوهما فلأنه لم يهن من كان الانقياد له و الإكرام شرطا في إيمانه و إنما أهان من إكرامه شرط في بره و طاعته و تقواه و جانب الله و الرسول إنما كفر فيه لأنه لا يكون مؤمنا حتى يصدق تصديقا يقتضي الخضوع و الانقياد فحيث لم يقتضه لم يكن ذلك التصديق إيمانا بل كان وجوده شرا من عدمه فإن من خلق له حياة و إدراك و لم يرزق إلا بالعذاب كان فقد تلك الحياة و الإدراك أحب إليه من حياة ليس فيها إلا الألم و إذا كان التصديق ثمرته صلاح حاله و حصول النعم له و اللذة في الدنيا و الآخرة فلم يحصل معه إلا فساد حاله و البؤس و الألم في الدنيا و الآخرة كان أن لا يوجد أحب إليه من أن يوجد
و هنا كلام طويل في تفصيل هذه الأمور و من حكم الكتاب و السنة على نفسه قولا و فعلا و نور الله قلبه تبين له ضلال كثير من الناس ممن يتكلم برأيه فيه سعادة النفوس بعد الموت و شقاوتها جريا على منهاج الذين كذبوا بالكتاب و بما أرسل الله به و رسله و نبذوا الكتاب وراء ظهورهم و اتباعا لما تتلوه الشياطين
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 523 ]
و أما الشبهة الثانية فجوابها من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن من تكلم بالتكذيب و الجحد و سائر أنواع الكفر من غير إكراه على ذلك فإنه يجوز أن يكون مع ذلك في نفس الأمر مؤمنا و من جوز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
الثاني : أن الذي عليه الجماعة أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة و أن القول من القادر عليه شرط في صحة الإيمان حتى اختلفوا في تكفير من قال : [ إن المعرفة تنفع من غير عمل الجوارح ] و ليس هذا موضع تقرير هذا(3/94)
و ما ذكره القاضي رحمه الله من التأويل لكلام الإمام أحمد فقد ذكر هو و غيره خلاف ذلك في غير موضع وكذلك مادل عليه كلام القاضي عياض فإن مالكا وسائر الفقهاء من التابعين و من بعدهم ـ إلا من ينسب إلى بدعة ـ قالوا : الإ يمان قول وعمل وبسط هذا له مكان غير هذا
الثالث : أن من قال [ إن الإيمان مجرد معرفة القلب من غير احتياج إلى النطق باللسان ] يقول : لا يفتقر الإيمان في نفس الأمر إلى القول الذي يوافقه باللسان لا يقول إن القول الذي ينافي الإيمان لا يبطله فإن القول قولان : قول يوافق تلك المعرفة و قول يخالفها فهب أن القول الموافق لا يشترط لكن القول المخالف ينافيها فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدا لها عالما بأنها كلمة كفر [ فإنه يكفر بذلك ظاهرا و باطنا و لأنا لا نجوز أن يقال : إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا و من قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه : { من كفر بالله من بعد إيمانه ـ إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا ـ فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم } [ النحل : 106 ]
و معلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه و هو قد استثنى من أكره و لم يرد من قال و اعتقد لأنه استثنى المكره و هو لا يكره على العقد و القول و إنما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله و له عذاب عظيم و أنه كافر بذلك إلا من أكره و هو مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فإنه كافر أيضا فصار من تكلم بالكفر كافرا إلا من أمره فقال بلسانه كلمة الكفر و قلبه مطمئن بالإيمان و قال تعالى في حق المستهزئين : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ](3/95)
فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته و هذا باب واسع و الفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم و إرادة فعل فيه استهانة و استخفاف كما أنه يوجب المحبة و التعظيم و اقتضاؤه وجود هذا و عدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته كاقتضاء إدراك الموافق للذة و إدراك المخالف للألم فإذا عدم المعلول كان مستلزما لعدم العلة و إذا وجد الضد كان مستلزما لعدم الضد الآخر فالكلام و الفعل المتضمن للاستخلاف و الاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع و لعدم الانقياد و الاستسلام فلذلك كان كفرا
و اعلم أن الإيمان و إن قيل هو التصديق فالقلب يصدق يالحق و القول يصدق في القلب و العمل يصدق القول و التكذيب بالقول مستلزم للتكذيب بالقلب و رافع للتصديق الذي كان في القلب و التكذيب بالقول مستلزم للتكذيب بالقلب و رافع للتصديق الذي كان في القلب إذ أعمال الجوارح يؤثر في القلب كما أن أعمال القلب يؤثر في الجوارح فإنما قام به كفر تعدى حكمه إلى الآخر و الكلام في هذا واسع و إنما نبهنا على هذه المقدمة
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 526 ]
ثم نعود إلى مقصود المسألة فنقول :
قد ثبت أن كل سب و شتم يبيح الدم فهو كفر و إن لم يكن كل كفر سبا و نحن نذكر عبارات العلماء في هذه المسألة :
قال الإمام أحمد : [ كل من شتم النبي عليه الصلاة و السلام أو تنقصه ـ مسلما كان أو كافرا ـ فعليه القتل و رأى أن يقتل و لا يستتاب ]
و قال في موضع آخر : [ كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب سبحانه و تعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا و هذا مذهب أهل المدينة ](3/96)
و قال أصحابنا : التعريض بسب الله و سب رسوله صلى الله عليه و سلم ردة و هو موجب للقتل كالتصريح و لا يختلف أصحابنا أن قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم من جملة سبه الموجب للقتل و أغلظ لأن ذلك يقضي إلى القدح في نسبه و في عبارة بعضهم إطلاق القول بأن من سب أم النبي عليه الصلاة و السلام يقتل مسلما كان أو كافرا و ينبغي أن يكون مرادهم بالسب هنا القذف كما صرح به الجمهور لما فيه من سب النبي صلى الله عليه و سلم
و قال القاضي عياض : [ جميع من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به شبهة بشيء على طريق السب له و الإزراء عليه أو البغض منه و العيب له فهو سابله و الحكم فيه حكم الساب : يقتل و لا تستثن فضلا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد و لا تمتر فيه تصريحا كان أو تلويحا و كذلك من لعنه أو تمنى مضرة له أو دعا عليه أو نسب لإليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عيبه في جهته العزيزة بسخف من الكلام و هجر و منكر منن القول وزور أو عيره بشيء مما يجري من البلاء و المحنة عليه أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة و المعهود لديه ] قال : [ و هذا كله إجماع من العلماء و أئمة الفتوى من لدن أصحابه و هلم جرا ]
وقال ابن القاسم عن مالك : من سب النبي صلى الله عليه و سلم قتل و لم يستتب قال ابن القاسم : أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق و قد فرض الله توقيره
و كذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه : [ من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا و لا يستتاب ]
و روى ابن وهب عن مالك أنه قال [ من قال إن رداء النبي صلى الله عليه و سلم ـ و روي برده ـ [ وسخ ] و أراد عيبه قتل ]
و روى بعض المالكية [ إجماع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة ](3/97)
و ذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة أفتى في كل قضية بعضهم :
منها : رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه و سلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه و اللحية فقال : تريدون تعرفون صفته ؟ هذا المار في خلقه و لحيته ]
و منها : رجل قال : [ النبي صلى الله عليه و سلم أسود ]
و منها : رجل قيل له : [ لا و حق رسول الله ] فقال : فعل الله برسول الله كذا و كذا ثم قيل له : ما تقول يا عدو الله فقال أشد من كلامه الأول ثم قال : إنما أردت برسول الله العقرب قالوا : لأن ادعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل لأنه امتهان و هو غير معزر لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لا موقر له فوجبت إباحة دمه
و منها عشار قال : أدوا شك [ ؟ ] إلى النبي أو قال : إن سألت أوجهلت فقد سأل النبي و جهل
و منها : متفقة كان يستخف بالنبي صلى الله عليه و سلم و يسميه في أثناء مناظرته [ اليتيم و ختن حيدرة ] و يزعم أنه زهده لم يكن قصدا و لو قدر على الطيبات لأكلها و أشباه هذا
قال : فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا و تنقصا يجب قتل قائله و لم يختلف في ذلك متقدمهم و متأخرهم و إن اختلفوا في سبب حكم قتله
و كذلك قال أبو حنيفة و أصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه أو كذبه : [ إنه مرتد ] و كذلك قال أصحاب الشافعي : [ كل من تعرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح فإن الاستهانة بالنبي كفر و هل يتحتم قتله أو يسقط بالتوبة ؟ على الوجهين و قد نص الشافعي على هذا المعنى
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له كفر مبيح للدم و هم في استتابته على ما تقدم من الخلاف و لا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه لكن المقصود شيء آخر حصل السب تبعا له أو لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل و يمزح أو يفعل غير ذلك(3/98)
فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سبا فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق و المغرب و من قال ما هو سب و تنقص له فقد آذى الله و رسوله و هو مأخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذى و إن لم يقصد أذاهم ألم تسمع إلى الذين قالوا : إنما كنا نخوض و نلعب فقال الله تعالى : { أبا لله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون ؟ لا تتعذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ]
و هذا مثل من يغضب فيذكر له حديث عن النبي عليه الصلاة و السلام أو حكم من حكمه أو يدعى إلى سنته فيعلن و يقبح و نحو ذلك و قد قال تعالى : { فلا و ربك لا يؤمنون حتىيحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما } [ النساء : 65 ]
فأقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه ثم لا يجدوا في نفوسهم حرجا من حكمه فمن شاجر غيره في حكم و حرج لذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أفحش فيه منطقه فهو كافر بنص التنزيل و لا يعذر بأن مقصوده رد الخصم فإن الرجل لا يؤمن حتى يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و حتى يكون الرسول أحب إليه من ولده و والده و الناس أجمعين
و من هذا الباب قول القائل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله و قول الآخر : إعدل فإنك لم تعدل و قول ذلك الأنصاري : أن كان ابن عمتك فإن هذا كفر محض حيثزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما حكم للزبير لأنه ابن عمته و لذلك أنزل الله تعالى هذه الآية و أقسم أنهم لا يؤمنون حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه و إنما عفا عنه النبي عليه الصلاة و السلام كما عفا عن الذي قال : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله و عن الذي قال : إعدل فإنك لم تعدل و قد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه أنه قتل رجلا لم يرض بحكم النبي عليه الصلاة و السلام فنزل القرآن بموافقته فكيف بمن طعن في حكمه ؟(3/99)
و قد ذكر طائفة من الفقهاء ـ منهم ابن عقيل و بعض أصحاب الشافعي ـ أن هذا كان عقوبته التعزير ثم منهم من قال : لم يعزره النبي صلى الله عليه و سلم لأن التعزير [ غير ] واجب و منهم من قال : عفا عنه لأن الحق له و منهم من قال : عاقبه بأن أمر الزبير أن يسقى ثم يحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر و هذه أقوال ردية و لا يستريب من تأمل في أن هذا كان يستحق القتل بعد نص القرآن أن من هو بمثل حاله ليس بمؤمن
فإن قيل : ففي رواية صحيحة أنه كان من أهل بدر و في الصحيحين عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] و لو كان هذا القول كفرا للزم أن يغفر الكفر و الكفر لا يغفر و لا يقال عن بدري : إنه كفر
فيقال : هذه الزيادة ذكرها أبو اليمان عن شعيب و لم يذكرها أكثر الرواة فيمكن أنها و هم كما وقع في حديث كعب و هلال بن أمية أنهما لم يشهدا بدرا و كذلك لم يذكره ابن إسحاق في روايته عن الزهري و لكن الظاهر صحتها
فنقول : ليس في الحديث أن هذه القصة كانت بعد بدر فلعلها كانت قبل بدر و سمي الرجل بدريا لأن عبد الله بن الزبير حدث بالقصة بعد أن صار الرجل بدريا
فعن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه و سلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للزبير : [ اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ] فغضب الأنصاري ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال للزبير : [ اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار ] فقال الزبير : و الله لأني أحسب هذه الآية نزلت في ذلك { فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ] متفق عليه(3/100)
و في رواية البخاري من حديث عروة قال : فاستوعى رسول الله صلى الله عليه و سلم حينئذ حقه و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له و للأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه و سلم استوعى رسول الله عليه الصلاة و السلام للزبير حقه في صريح الحكم و هذا يقوي أن القصة نتقدمة قبل بدر لأن النبي عليه الصلاة و السلام قضي في سيل مهزور أن الأعلى يسقي ثم حتى يبلغ الماء إلى الكعبين فلو كانت قصة الزبير بعد هذا القضاء لكان قد علم وجه الحكم فيه و هذا القضاء ظاهر أنه متقدم من حين قدم النبي صلى الله عليه و سلم لأن الحاجة إلى الحكم فيه من حين قدم و لعل قصة الزبير أوجبت هذا القضاء
و أيضا فإن هؤلاء الآيات قد ذكر غير واحد أن أولها نزل لما أراد بعض المنافقين أن يحاكم يهوديا إلى ابن الأشرف و هذا إنما كان قبل بدر لأن ابن الأشرف ذهب عقب بدر إلى مكة فلما رجع قتل فلم يستقر بعد بدر بالمدينة استقرار يتحاكم إليه فيه و إن كانت القصة بعد بدر فإن القائل لهذه الكلمة يكون قد تاب و استقر و قد عفا له النبي صلى الله عليه و سلم عن حقه فغفر له و المضمون لأهل بدر إنما هو المغفرة : إما بأن يستغفروا إن كان الذنب مما لا يغفر إلا بالاستغفار أو لم يكن كذلك إما بدون أن يستغفروا
ألا ترى قدامة بن مظعون ـ و كان بدريا ـ تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا } [ المائدة : 93 ] الآية حتى أجمع رأى عمر و أهل الشورى أن يستتاب هو و أصحابه فإن أقروا بالتحريم جلدوا و إن لم يقروا به كفروا ثم إنه تاب و كاد ييأس لعظم ذنبه في نفسه حتى أرسل إليه عمر رضي الله عنه بأول سورة غافر فعلم أن المضمون للبدريين أن خاتمتهم حسنة و أنهم مغفور لهم و إن جاز أن يصدر عنهم قبل ذلك ما عسى أن يصدر فإن التوبة تجب ما قبلها(3/101)
و إذا ثبت أن كل سب ـ تصريحا أو تعريضا ـ موجب للقتل فالذي يجب أن يعتني به الفرق بين السب الذي لا يقبل منه التوبة و الكفر الذي تقبل منه التوبة فنقول :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 532 ]
هذا الحكم قد نيط في الكتاب و السنة باسم أذى الله و رسوله و في بعض الأحاديث ذكر الشتم و السب و كذلك جاء في ألفاظ الصحابة و الفقهاء ذكر السب و الشتم و الاسم إذا لم يكن له حد في اللغة كاسم الأرض و السماء و البحر و الشمس و القمر و لا في الشرع كاسم الصلاة و الزكاة و الحج و الإيمان و الكفر فإنه يرجع في حده إلى العرف كالقبض و الحرز و البيع و الرهن و الكري و نحوها فيجب أن يرجع الأذى و السب إلى العرف فما عده أهل العرف سبا و انتقاصا أو عيبا أو طعنا و نحو ذلك فهو من السب و ما لم يكن كذلك فهو كفر به فيكون ليس يسب حكم صاحبه حكم المرتد إن كان مظهرا له و إلا فهو زندقة و المعتبر أن يكون سبا و أذى للنبي عليه الصلاة و السلام و إن لم يكن سبا و أذى لغيره
فعلى هذا كل ما لو قيل لغير النبي عليه الصلاة و السلام أوجب تعزيرا أو حدا بوجه من الوجوه فإنه من باب النبي عليه الصلاة و السلام كالقذف و اللعن و غيرهما من الصور التي تقدم التنبيه عليها و أما ما يختض بالقدح في النبوة فإن لم يتضمن إلا بمجرد عدم التصديق بنبوته كفر محض و إن كان فيه استخفاف و استهانة مع عدم التصديق فهو من السب و هنا مسائل اجتهادية يتردد الفقهاء هل هي من السب أو من الردة المحضة ثم ما ثبت أنه ليس بسب فإن استسر به صاحبه فهو زنديق حكمه الزنديق و إلا فهو مرتد محض و استقصاء الأنواع بينها ليس هذا موضعه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 533 ]
أما الذمي فيجب التفريق بين مجرد كفره به و بين سبه فإن كفره به لا ينقض العهد و لا يبيح دم المعاهد بالاتفاق لأنا صالحناهم على هذا و أما سبه له فإنه ينقض العهد و يوجب القتل كما تقدم(3/102)
قال القاضي أبو يعلى : [ عقد الأمان يوجب إقرارهم على تكذيب النبي عليه الصلاة و السلام لا على شتمهم و سبهم له ]
و قد تقدم أن هذا الفرق أيضا معتبر في المسلم حيث قتلناه بخصوص السب و كونه موجبا للقتل حدا من الحدود بحيث لا يسقط بالتوبة و إن صحت و أما حيث قتلناه لدلالته على الزندقة أو لمجرد كونه مرتدا فلا فرق حينئذ بين مجرد الكفر و بين ما يضمنه من الأنواع فنقول : الآثار عن الصحابة و التابعين و الفقهاء ـ مثل مالك و احمد و سائر الفقهاء القائلين بذلك ـ كلها مطلقة في شتم النبي عليه الصلاة و السلام من مسلم أو معاهد فإنه يقتل و لم يفصلوا بين شتم و شتم ولا بين ان يكرر الشتم أو لا يكرره أو يظهره و أعنيس بقولي لا يظهره : أن لا يتكلم به في ملأ من المسلمين و إلا فالحد لا يقام عليه حتى يشهد مسلمان أنهما سمعاه يشتمه أو حتى يقر بالشتم و كونه يشتمه بحيث يسمعه المسلمون إظهار له اللهم إلا أن يفرض أنه شتمه في بيته خاليا فسمعه جيرانه المسلمون أو من استرق السمع منهم
قال مالك و أحمد : [ كل من شتم النبي عليه الصلاة و السلام أو تنقصه مسلما أو كافرا فإنه يقتل و لا يستتاب ] فنصا على أن الكافر يجب قتله بتنقصه له كما يقتل بشتمه و كما يقتل المسلم بذلك و كذلك أطلق سائر أصحابنا أن سب النبي عليه الصلاة و السلام من الذمي يوجب القتل
و ذكر القاضي و ابن عقيل و غيرهما أن ما أبطل الإيمان فإنه يبطل الأمان إذا أظهروه فإن كان من الكلام ما يبطل حقن الإسلام فأن يبطل حقن الذمة أولى مع الفرق بينهما من وجه آخر فإن المسلم إذا سب الرسول دل على سوء اعتقاده في رسول الله صلى الله عليه و سلم فلذلك كفر و الذمي قد علم أن اعتقاده و إنما أخذ عليه كتمه و أن لا يظهره فبقي تفاوت ما بين الإظهار و الإضمار
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 534 ](3/103)
قال ابن عقيل : فكما أخذ على المسلم أن لا يعتقد ذلك أخذ على الذمي أن لا يظهره فإظهار هذا كإضمار ذاك و إضماره لا ضرر على الإسلام و لا إزراء فيه و في إظهاره ضرر و إزراء على الإسلام و لهذا ما بطن من الجرائم لا يتبعها في حق المسلم و لو أظهرها أقمنا عليهم حد الله
و طرد القاضي و ابن عقيل هذا القياس في كل ما ينقص الإيمان من الكلام مثل التثنية و التثليث كقول النصارى : إن الله ثالث ثلاثة و نحوه ذلك : أن الذمي أظهر ما يعلمه من دينه من الشرك نقض العهد ن كما انه إن أظهر ما نعلمه بقوله في نبينا عليه الصلاة و السلام نقض العهد
قال القاضي : و قد نص أحمد على ذلك فقال في رواية حنبل : [ كل من ذكر شيئا يعرض به الرب فعليه القتل ـ مسلما كان او كافرا ـ و هذا مذهب اهل المدينة ]
و قال جعفر بن محمد : سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بؤذن و هو يؤذن فقال له : كذبت فقال : يقتل لأنه شتم فقد نص على قتل من كذب المؤذن في كلمات الأذان ن و هي قول [ الله أكبر ] أو [ أشهد أن لا إله إلا الله ] أو [ أشهد أن محمدا رسول الله ] و قد ذكرها الخلال و القاضي في سب الله بناء على أنه كذبه فيما يتعلق بذكر الرب سبحانه و الأشبه أنه عام في تكذيبه فيما يتعلق بذكر الرب و ذكر الرسول بل هو في هذا أولى لأن اليهودي لا يكذب من قال : [ لا إله إلا الله ] و لا من قال [ الله أكبر ] و إنما يكذب من قال إن محمدا رسول الله ن و هذا قول جمهور المالكيين قالوا : إنه يقتل بكل سب سواء كانوا يستحلونه لأنهم و إن استحلوه فإنا لم نعطيهم العهد على إظهاره مصعب و طائفه من المدنيين
قال أبو مصعب في نصراني قال [ و الذي اصطفى عيسى على محمد ] : اختلف العلماء فيه فضربته حتى قتلته أو عاش يوما و ليلة و أمرت من جر برجله و طرح على مزبلة فأكلته الكلاب ]
و قال أبو مصعب في نصراني قال : [ عيسى خلق محمدا ] قال : يقتل(3/104)
و أفتى سلف الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية و بنوه عيسى لله
و قال ابن القاسم فيمن سبه فقال : [ ليس بنبي أو لم يرسل أو لم ينزل عليه قرآن و إنما شيء يقوله و
نحو هذا : فقيل فإن قال [ إن محمدا لم يرسل إلينا و إنما أرسل إليكم و إنما نبينا موسى أو عيسى ] و نحو هذا : لا شيء عليهم لأن الله أقرهم على مثله
قال ابن القاسم : و إذا قال النصراني [ ديننا خير من دينكم و إنما دينكم دين الحمير ] و نحو هذا من القبيح أو سمع المؤذن يقول : [ أشهد أن محمدا رسول الله ] فقال : كذلك يعظكم الله ففي هذا الأدب الموجع و السجن الطويل و هذا قول محمد بن سحنون و ذكره عن أبيه و لهم قول آخر فيما إذا سبه بالوجه الذي به كفروا أنه لا يقتل
قال سحنون عن ابن القاسم : من شتم الأنبياء من اليهود و النصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه إلا أن يسلم و قال سحنون في اليهودي يقول للمؤذن إذا تشهد قوله سبحانه كذبت ] : يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل ]
و قد تقدم نص الإمام أحمد في مثل هذه الصورة على القتل لأنه شتم
و كذلك اختلف أصحاب الشافعي في سب الذي ينتقض به عهد الذمي و يقتل به إذا قلنا بذلك على الوجهين : أحدهما : ينتقض بمطلق السب لنبينا و القدح في ديننا إذا أظهروه و إن كانوا يعتقدون ذلك دينا و هذا قول أكثرهم و الثاني : أنهم إن ذكروه بما يعتقدونه فيه دينا من أنه ليس برسول و القرآن ليس بكلام الله فهو كإظهار قولهم في المسيح و معتقدهم في التثليث قالوا : و هذا لا ينقض العهد بلا تردد بل يعزرون على إظهار و أما ما ذكروه بما يعتقدونه ديناكالطعن في سبه فهو الذي قيل فيه : ينقض العهد و هذا اختيار الصيدلاني و أبي المعالي و غيرهما(3/105)
و حجة من فرق بين ما يعتقدونه دينا و ما لا يعتقدونه ـ كما اختاره بعض المالكية و بعض الشافعية ـ أنهم قد أقروا على دينهم الذي يعتقدونه لكن منعوا من إظهره كان كما لو أظهره سائر المناكير التي هي من دينهم كالخمر و الخنزير و الصليب و رفع الصوت بكتابهم و نحو ذلك و هذا إنما يستحقون عليه العقوبة و النكال بما دون القتل
يؤيد ذلك أن إظهار معتقدهم في الرسول ليس بأعظم من إظهار معتقدهم في الله و قد علم هؤلاء أن إظهار معتقدهم لا يوجب القتل و استبعدوا أن ينتقض عهدهم بإظهار معتقدهم إذا لم يكن مذكورا في الشرط ن و هذا بخلاف ما إذا سبوه بما يعتقدونه دينا فإنا لم نقرهم على ذلك ظاهرا و لا باطنا ن و ليس هو من دينهم فصار بمنزلة الزنا و السرقة و قطع الطريق و هذا القول مقارب لقول الطكوفيين و قد ظن من سلكه انه لخص بذلك من سؤالهم و ليس الأمر كما اعتقده فإن الأدلة التي ذكرناها من الكتاب و السنة و الإجماع و الاعتبار كلها تدل على السب بما يعتقده فيه دينا و ما لا يعتقده فيه دينا و أن مطلق السب موجب للقتل
و من تأمل كل دليل بانفراده لم يخف عليه أنها جميعا تدل على السب المعتقد دينا كما تدل على السب الذي لا يعتقد دينا و منها ما هو نص في السب الذي يعتقد دينا بل أكثرهم فإن الذين كانوا يهجونه من الكفار الذين أهدر دماءهم لم يكونوا يهجونه إلا بما يعتقدونه دينا مثل نسبته إلى الكذب و السحر و ذم دينه و من اتبعه و تنفير الناس عنه إلى غير ذلك من الأمور ن فأما الطعن في نسبه أو خلقه أو خلقه أو أمانه أو وفائه أو صدقه في غير دعوى الرسالة فلم يكن أحد يتعرض لذلك في غالب الأمور و لا يتمكن من ذلك و لا يصدقه أحد في ذلك لا مسلم و لا كافر لظهور كذبه و قد تقدم ذلك فلا حاجة إلى إعادته
ثم نقول : هذا الفرق منهافت من وجوه :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 537 ](3/106)
أحدها أن الذمي لو أظهر لعنة الرسول أو تقبيحه أو الدعاء عليه بالسخط و جهنم و العذاب أو نحو ذلك فإن قيل [ ليس من السب ينتقض به العهد ] كان هذا قولا مردودا سمجا فإنه من لعن شخصا و قبحه لم يبق من سبه غاية و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ لعن المؤمن كقتله ] و معلوم أن هذا أشد من الطعن في خلقه و أمانته أو وفائه و إن قيل [ هو سب له ] فقد علم أن من الكفار من يعتقد ذلك دينا و يرى أنه من قرباته كتقريب المسلم بلعن مسيلمة و الأسود العنسي
الوجه الثاني : أنه على القول بالفرق المذكور إذا سبه بما لا يعتقده دينا مثل الطعن في نسبه أو خلقه أو خلقه و نحو ذلك فمن أين ينتقض عهده و يحل دمه ؟ و معلوم أنه قد أقر على ما هو أعظم من ذلك من الطعن في دينه الذي هو أعظم من الطعن في نسبه و من الكفر بربه الذي هو أعظم الذنوب و من سب الله بقوله : إن له صاحبه و ولدا و إنه ثالث ثلاثة فإنه لا ضرر يلحق الأمة في دينها بإظهار ما لا يعتقد صحته من السب إلا و يلحقهم بإظهار ما كفر به أعظم من ذلك فإذا أقر على أعظم السبين ضررا فإقراره على أدناهما ضررا أولى نعم بينهما من الفراق أنه إذا طعن في نسبه أو خلقه فإنه يقر لنا بأنه كاذب أو أهل دينه يعتقدون أنه كاذب آثم بخلاف السب الذي يعتقده دينا فإنه و أهل دينه متفقون على أنه ليس بكاذب فيه و لا آثم فيعود الأمر إلى أنه قال كلمة أثم بها عندهم و عندنا لكن في حق من لا حرمة له عنده بل عنده بل مثاله عنده أن يقذف الرجل مسيلمة أو العنسي أو ينسبه إلى أنه كان أسود أو أنه كان دعيا أو كان يسرق أو كان قومه يستخفون به و نحو ذلك من الوقيعة في عرضه بغير حق معلوم أن هذا لا يوجب القتل و لا يوجب الجلد أيضا فإن العرض يتبع الدم فمن لم يعصم دمه لم يصن عرضه فلو لم يجب قتل الذمي إذا سب الرسول لكونه قد قدح في ديننا لم يوجب قتله بشيء من السب أيضا فإن خطب ذلك يسير(3/107)
يبين أن المسلم إنما قتل إذا سبه بالقذف و نحوه لأن القدح في نسبه قدح في نبوته فإذا كنا بإظهار القدح في النبوة لا نقتل الذمي فإن لا نقتله بإظهار القدح مما لا يقدح في النبوة أولى و إذ الوسائل أضعف من المقاصد
و هذا البحث إذا حقق اضطر المنازع إلى أحد الأمرين : إما مواقفه من قال من أهل الرأي إن العهد لا ينقض من السب و إما مواقفه الدهماء في أن العهد ينتقض بكل سب و أما الفرق بين سب و سب في انتقاض العهد و استحلال الدم فمتهافت
ثم إنه إذا فرق لم يمكنه إيجاب القتل و لا نقض العهد بذلك أصلا و من ادعى وجوب القتل بذلك وحده لم يمكنه أن يقيم عليه دليلا
الثالث : أنا إذا لم نقتلهم بإظهار ما يعتقدونه دينا لم يمكنا أن نقتلهم بإظهار شيء من السب فإنه ما من أحد منهم يظهر شيئا من ذلك إلا و يمكنه أن يقول : إني معتقد لذلك متدين به و إن طعنا في السب كما يتدينون بالقدح في عيسى و أمه عليهما السلام و يقولون على مريم بهتانا عظيما
ثم إنهم فيما بينهم قد يخلفون في أشياء من أنواع السب : هل هي صحيحة عندهم أو باطلة ؟ و هم قوم بهت ضالون فلا يشاءون أن يأتوا ببهتان و نوع من الضلال الذي لا راد القلوب منه ثم يقولون : [ هو معتقدنا ] إلا فعلوه فحينئذ لا يقتلون حتى يثبت أنهم لا يعتقدونه دنيا و هذا القدر هو محل اختلاف و بعضه لا يعلم إلا من جهتهم و قول بعضهم في بعض غير مقبول
و نحن إن كنا نعرف أكثر عقائدهم فما تخفي صدورهم أكبر و تجدد الكفر و البدع منهم غير مستنكر فهذا الفرق مفضاة إلى حتم القتل بسب الرسول و هو لعمري قول أهل الرأي و مستندهم ما أبداه هؤلاء و قد قدمنا الجواب عن ذلك و بينا أنا إنما أقررناهم على إخفاء دينهم و لا على إظهار باطل قولهم و المجاهرة بالطعن في ديننا و إن كانوا يستحلون ذلك(3/108)
فإن المعاهدة على تركه صيرته حراما في دينهم كالمعاهدة على الكف عن دمائنا و أموالنا و بينا أن المجاهرة بكلمة الكفر في دار الإسلام كالمجاهرة بضرب السيف بل أشد على أن الكفر أعم من السب فقد يكون الرجل كافرا و لا يسب و هذا هو سر المسألة فلا بد من بسطه فنقول :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 539 ]
التكلم في تمثيل سب رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذكر صفته ذلك مما يثقل على القلب و اللسان و نحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين لكن للاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقا من غير تعيين و الفقيه يأخذ حظه من ذلك فنقول : السب نوعان دعاء و خبر أما الدعاء فمثل أن يقول القائل لغيره : لعنه الله أو قبحه الله أو أخزاه الله أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره فهذا و أمثاله سب للأنبياء و لغيرهم و كذلك لو قال عن نبي : لا صلى الله عليه أو لا سلم أو لا رفع الله ذكره أو محا الله اسمه و نحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضرر عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة
فهذا كله إذا صدر من مسلم أو معاهد فهو سب فأما المسلم فيقتل به بكل حال و أما الذمي فيقتل بذلك إذا أظهره
فأما إن أظهر الدعاء للنبي و أبطن الدعاء عليه إبطانا يعرف من لحن القول يفهمه بعض الناس دون البعض ـ مثل قوله : السام عليكم ـ إذا أخرجه و مخرج التحية و أظهر أنه يقول السلام ففيه قولان :(3/109)
أحدهما : أنه من السب الذي يقتل به و إنما كان عفو النبي صلى الله عليه و سلم عن اليهود الذين حيوه بذلك حال ضعف الإسلام بالبقاء عليه لما كان مأمورا بالعفو عنهم و الصبر على أذاهم و هذا قول طائفة من المالكية و الشافعية و الحنبلة مثل القاضي عبد الوهاب و القاضي أبي يعلى و أبي إسحاق الشيرازي و أبي الوفاء ابن عقيل و غيرهم و ممن ذهب إلى أن هذا سب من قال : [ لم يعلم أن هؤلاء كانوا أهل عهد ] و هذا ساقط لأنا قد بينا فيما تقدم أن اليهود الذين بالمدينة كانوا معاهدين و قال آخرون : كان الحق له و له أن يعفو عنهم فأما بعده فلا عفو
و القول الثاني : أنه ليس من السب الذي ينتقض به العهد لأنهم لم يظهروا السب و لم يجهروا به إنما أظهروا التحية و السلام لفظا و حالا و حذفوا اللام حذفا خفيا يفطن له بعض السامعين و قد لا يفطن له الأكثرون و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن اليهود إذا سلموا فإنما يقول أحدهم : السام عليكم فقولوا : و عليكم فجعل هذا شرعا باقيا في حياته و بعد موته حتى صارت السنة أن يقال للذمي إذا سلم : و عليكم ] و كذلك لما سلم عليهم اليهودي قال : أتدرون ما قال ؟ إنما قال : السام عليكم و لو كان هذا من السب الذي هو سب لوجب أن يشرع عقوبة لليهودي إذا سمع منه ذلك و لو بالجلد فلما لم يشرع ذلك علم أنه لا يجوز مؤاخذتهم بذلك و قد أخبر الله عنهم بقوله تعالى { و إذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله و يقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } [ المجادلة : 8 ](3/110)
فجعل عذاب الآخرة حسبهم يدل على أنه لم يشرع على ذلك عذابا في الدنيا و هذا لو أنهم قد قرروا على ذلك لقالوا إنما قلنا السلام و إنما السمع يخطئ و أنتم تتقولون علينا فكانوا في هذا مثل المنافقين الذين يظهرون الإسلام و يعرفون في لحن القول و يعرفون بسيماهم فإنه لا يمكن عقوبتهم باللحن و السيماء فإن موجبات العقوبات لابد أن تكون ظاهرة الظهور الذي يشترك فيه الناس و هذا القدر من المسلم فإنما يكون نقضا للعهد إذا أظهره الذمي و إتيانه به على هذا الوجه غاية ما يكون من الكتمان و الإخفاء
و نحن لا نعاقبهم على ما يسرونه و يخفونه من السب و غيره و هذا قول جماعات من العلماء من المتقدمين و من أصحابنا و المالكيين و غيرهم و ممن أجاز هذا القول ممن زعم أن هذا دعاء بالسام و هو الموت على أصح القولين أو دعاء بالسامة و أما الذين قالوا إن الموت محتوم على الخليفة قالوا : و هذا تعريض بالأذى لا بالسب و هذا القول ضعيف فإن الدعاء على الرسول و المؤمنين بالموت و ترك الدين من أبلغ السب كما أن الدعاء بالحياة و العافية و الصحة و الثبات على الدين من أبلغ الكرامة(3/111)
النوع الثاني : الخبر فكل ما عده الناس شتما أو سبا أو نقضا فإنه يجب به القتل كما تقدم فإن الكفر ليس مستلزما للسب و قد يكون الرجل كافرا ليس يساب و الناس يعلمون علما عاما أن الرجل قد يبغض الرجل و يعتقد فيه العقيدة القبيحة و لا يسبه و قد يضم إلى ذلك مسبه و إن كانت المسبة مطابقة للمعتقد فليس كل ما يحتمل عقدا يحتمل قولا و لا ما يحتمل أن يقال سرا يحتمل أن يقال جهرا و الكلمة الواحدة تكون في سبا و في حال ليست بسب فعلم أن هذا يختلف باختلاف الأقوال و الأحوال و إذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة و لا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس فما كان في العرف سبا للنبي فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة و العلماء و ما لا فلا و نحن نذكر من ذلك أقساما فنقول : لا شك أن إظهار التنقص و الاستهانه عند المسلمين سب كالتسمية باسم الحمار أو الكلب أو وصفه بالمسكنة و الخزي و المهانة أو الإخبار بأنه في العذاب و أن عليه آثام الخلائق و نحو ذلك و كذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذب مثل وصفه بأنه ساحر خادع محتال و أنه يضر من اتبعه و أن ما جاء به كله زور و باطل و نحو ذلك فإن نظم ذلك شعرا كان أبلغ في الشتم فإن الشعر يحفظ و يروى و هو الهجاء و ربما يؤثر في نفوس كثيرة ـ مع العلم ببطلانه ـ أكثر من تأثير البراهين فإن غني به بين ملأ من الناس فهو الذي قد تفاقم أمره(3/112)
و أما من أخبر عن معتقده بغير طعن فيه ـ مثل أن يقول : أنا لست متبعه أو لست مصدقة أو لا أحبه أو لا أرضى دينه و نحو ذلك ـ فإنما أخبر عن اعتقاد أو إرادة لم يتضمن انتقاصا لأن عدم التصديق و المحبة قد يصدر عن الجهل و العناد و الحسد و الكبر و تقليد الأسلاف و إلف الدين أكثر مما يصدر عن العلم بصفات النبي خلاف ما إذا قال من كان و من هو رأي كذا و كذا و نحو ذلك و إذا قال : لم يكن رسولا و لا نبيا و لم ينزل شيء و نحو ذلك فهو تكذيب صريح و كل تكذيب فقد تضمن نسبته إلى الكذب و وصفه بأنه كذاب لكن بين قوله : [ ليس بنبي ] و قوله : [ هو كذاب ] فرق من حيث إن هذا إنما تضمن التكذيب بواسطة علمنا أنه كان يقول : إني رسول الله و ليس من نفى عن غيره بعض صفاته نفيا مجردا كمن نفاها ناسبا له الكذب في دعواها و المعنى الواحد قد يؤدي بعبارات بعضها يعد سبا و بعضها لا يعد سبا
و قد ذكرنا أن الإمام أحمد نص على أن من قال للمؤذن : [ كذبت ] فهو شاتم و ذلك لأن ابتداءه بذلك للمؤذن معلنا بذلك ـ بحيث يسمعه المسلمون طاعنا في دينهم مكذبا للأمة في تصديقها بالوحدانية و الرسالة ـ لا ريب أنه شتم
فإن قيل : ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الرسول عن الله تبارك و تعالى أنه قال : [ شتمني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك و كذبني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله : إني اتخذت ولدا و أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني فقد فرق بين التكذيب و الشتم ]
فيقال قوله : [ لن يعيدني كما بدأني ] يفارق قول اليهودي للمؤذن : [ كذبت ] من وجهين :(3/113)
أحدهما : أنه لم يصرح بنسبته إلى الكذب و نحن لم نقل : إن كل تكذيب شتم إذا لو قيل ذلك لكان كل كافر شاتما إذ لو قيل ذلك لكان كل كافر شاتما و إنما قيل : إن الإعلان بمقابلة داعي الحق بقوله [ كذبت ] سب للأمة و شتم لها في اعتقاد النبوة و هو سب للنبوة كما أن الذين هجوا من اتبع النبي عليه الصلاة و السلام على اتباعهم إياه كانوا سابين للنبي صلى الله عليه و سلم مثل شعر بنت مروان و شعر كعب بن زهير و غيرهما و أما قول الكافر [ لن يعيدني كما بدأني ] فإنه نفي لمضمون خبر الله بمنزلة سائر أنواع الكفر
الثاني : أن الكافر المكذب بالبعث لا يقول : إن الله أخبر أنه سيعيدني و لا يقول : إن هذا الكلام تكذيب لله و إن كان تكذيبا بخلاف القائل للرسول أو لمن صدق الرسول [ كذبت ] فإنه مقر بأن هذا طعن على المكذب و عيب له و انتقاض به و هذا ظاهر و كل كلام تقدم ذكره في المسألة الأولى من نظم و نحوه و عده النبي عليه الصلاة و السلام سبا حتى رتب على قائله حكم الساب فإنه سب أيضا و كذلك ما كان في معناه و قد تقدم ذكر ذلك و الكلام على أعيان الكلمات لا ينحصر و إن جماع ذلك أن ما يعرف الناس أنه سب فهو سب و قد يختلف ذلك باختلاف الأحوال و الاصطلاحات و العادات و كيفية الكلام و نحو ذلك و ما اشتبه فيه الأمر ألحق بنظيره و شبهه و الله سبحانه أعلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 544 ](3/114)
و كل ما كان من الذمي سبا ينتقض عهده و يوجب قتله فإن توبته منه لا تقبل على ما تقدم هذا هو الذي عليه عامة أهل العلم من أصحابنا و غيرهم و قد تقدم عن الشيخ أبي محمد المقدسي رضي الله عنه أنه قال : [ إن الذمي إذا سب النبي عليه الصلاة و السلام ثم أسلم سقط عنه القتل و إنه إذا قذفه ثم أسلم ففي سقوط القتل عنه روايتان و ينبغي أن يبنى كلامه على أنه إن سبه بما يعتقده فيه دينا سقط عنه القتل بإسلامه كاللعن و التقبيح و نحوه و إن سبه بما لا يعتقده فيه كالقذف لم يسقط عنه لأن ما يعتقده فيه كفر محض سقط حده بالإسلام باطنا فيجب أن يسقط ظاهرا أيضا لأن سقوط الأصل الذي هو الاعتقاد يستتبع سقوط فروعه و أما لا يعتقده فهو فرية يعلم هو أنها فرية فهي بمنزلة سائر حقوق الأدميين و إن حمل الكلام على ظاهره في أنه يستثنى القذف فقط من بين سائر أنواع السب فيمكن أن يوجه بأن القذف غيره لما تغلظ بأن جعل على صاحبه الحد الموقت و هو ثمانون بخلاف غيره من أنواع السب فإن عقوبته التعزيز المفوض إلى اجتهاد ذي السلطان كذلك يفرق في حقه بين القذف و غيره فيجعل على قاذفه الحد مطلقا و هو القتل و إن أسلم و يدرأ عن الساب الحد إذا تاب لكن هذا الفرق ليس بمرضي فإن قذفه إنما أوجب القتل و نقض العهد في نسبه و كان ذلك قدحا في نبوته و هذا معنى يستوي فيه السب بالقذف و بغيره من أنواع الأكاذيب بل قد توصف من الأفعال أو الأقوال المنكرة بما يلحق بالموصوف شينا و غضاضة أعظم من هذا و إنما فرق في حق غيره بين القذف و غيره لأنه لا يمكن تكذيب القاذف به كما يمكن تكذيب غيره فصار العار به أشد
و هنا كلمات السب القادحة في النبوة سواء في العلم ببطلانها ظهورا و خفاء فإن العلم بكذب القاذف كالعلم بكذب الناسب له إلى منكر من القول و زور لا فرق بينهما(3/115)
و بالجملة فالمنصوص عن الإمام أحمد و عامة أصحابه و سائر أهل العلم أنه لا فرق في هذا الباب بين السب بالقذف و غيره بل من قال : [ إنه ينتقض عهده و يحتم قتله ] لم يفرق بين القذف و غيره و من قال : [ سقط عنه القتل بإسلامه ] لم يفرق بين القذف و غيره
و من فرق من الفقهاء بين ما يعتقده و ما لا يعتقده فإنما فرق في انتقاض العهد لا في سقوط القتل عنه بالإسلام لكن هو يصلح أن يكون معاضدا لقول الشيخ أبي محمد لأنه فرق بين النوعين في الجملة
و أما الإمام أحمد وسائر المتقدمين فإنما خلافهم في السب مطلقا و ليس شيء من كلام الإمام أحمد رضي الله عنه تعرض للقذف لخصوصه و إنما ذكره أصحابه في القذف لأنهم تكلموا في أحكام القذف مطلقا فذكروا هذا النوع من القذف أنه موجب للقتل و أنه لا يسقط القتل بالتوبة لنص الإمام على أن السب الذي هو أعلم من القذف موجب للقتل لا يستتاب صاحبه
ثم منه من ذكر المسألة بلفظ السب كما هي في لفظ أحمد و غيره
و منهم من ذكرها بلفظ القذف لأن الباب القذف فكان ذكرها بالاسم الخاص أظهر تأثيرا في الفرق بين هذا القذف و غيره ثم علل الجميع و أدلتهم تعم أنواع السب بل هي في غير القذف أنص منها في القذف و إنما تدل على القذف بطريق عموم أو بطريق القياس و الدليل يوافق ما ذكره الجمهور من التسوية كما تقدم ذكره نفيا و إثباتا و لا حاجة إلى الإطناب هنا
فإن من سلم أن جميع أنواع السب من القذف و غيره ينتقض العهد و يوجب القتل ثم فرق بين بعضها و بعض في السقوط بالإسلام فقد أبعد جدا لأن السب لو كان بمنزلة الكفر عنده لم ينقض العهد و لوجب قتل الذمي و إذا لم يكن بمنزلة الكفر فإسلامه إما أن يسقط الكفر فقط أو يسقط الكفر و غيره من الجنابة على عرض الرسول فأما إسقاطه لبعض الجنايات دون بعض ـ مع استوائهما في مقدار العقوبة ـ فلا يتبين له وجه محقق(3/116)
و الاحتجاج بأن الإسلام يسقط عقوبة من سب الله فإسقاطه عقوبة من سب النبي أولى إن صح فإنما يدل على أن الإسلام يسقط عقوبة الساب مطلقا قذفا كان السب أو غير قذف
و نحن في هذا المقام لا نتكلم إلا في التسوية ين أنواع السب و لا في التسوية بين أنواع السب لا في صحة هذه الحجة و فسادها إذ تقدم التنبيه على ضعفها و ذلك لأن سب النبي إن جعل بمنزلة سب الله مطلقا و قيل بالسقوط في الأصل فيجب أن يقال بالسقوط في الفرع و إن جعل بمنزلة سب الخلق أو جعل موجبا للقتل حدا لله أو سوي بين السبين في عدم السقوط و نحو ذلك من المآخذ التي تقدم ذكرها فلا فرق في هذا الباب بين القذف و غيره في السقوط بالإسلام فإن الذمي لو قذف مسلما أو ذميا أو شتمه بغير القذف ثم أسلم لم يسقط عنه التعزير المستحق بالسب كما لا يسقط الحد المستحق بالقذف فعلم أنهما سواء في الثبوت و السقوط و إنما يختلفان في مقدار العقوبة بالنسبة إلى غير النبي أما بالنسبة إلى النبي فعقوبتهما سواء فلا فرق بينهما بالنسبة إليه البتة
و إذ قد ذكرنا حكم الساب للرسول عليه الصلاة و السلام فنردفه بما هو من جنسه مما قد تقدم في الأدل المذكورة بأصل حكمه فإن ذلك من تمام الكلام في هذه المسألة على ما يخفي و نفصله فصولا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 547 ]
فإن كان مسلما وجب قتله بالإجماع لأنه بذلك كافر مرتد و أسوأ من الكافر يعظم الرب و يعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل باستهزاء بالله و لا مسبة له(3/117)
ثم اختلف أصحابنا و غيرهم في قبول توبته بمعنى أنه أهل يستتاب كالمرتد و يسقط عنه القتل إذا أظهر التوبة من ذلك بعد رفعه إلى السلطان و ثبوت الحد عليه ؟ على قولين : أحدهما بمنزلة ساب الرسول و فيه الروايتان في ساب الرسول هذه طريقة أبي الخطاب و أكثر من احتذى حذوه من المتأخرين و هو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد حيث قال : [ كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك و تعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا و هذا مذهب أهل المدينة ] فأطلق وجوب القتل عليه و لم يذكر استتابة و ذكر أنه قول أهل المدينة و من وجب عليه القتل يسقط بالتوبة قول أهل المدينة المشهور أنه لا يسقط القتل بتوبته و لو لم يرد هذا لم يخصه بأهل المدينة فإن الناس مجمعون على أن من سب الله تعالى من المسلمين يقتل و إنما اختلفوا في توبته فلما أخذ يقول أهل المدينة في المسلم كما أخذ بقولهم في الذمي على أنه قصد محل الخلاف بإظهار التوبة بعد القدرة عليه كما ذكرناه في ساب الرسول
و أما الرواية الثانية فإن عبد الله قال : [ سئل أبي عن رجل قال يا ابن كذا و كذا أنت و من خلقك ] قال أبي : هذا مرتد عن الإسلام قلت لأبي : تضرب عنقه ؟ قال : نعم نضرب عنقه ] فجعله من المرتدين
و الرواية الأولى قول الليث بن سعد و قول مالك و روى ابن القاسم قال : [ من سب الله تعالى من المسلمين قتل و لم يستتب إلا أن يكون افترى على اللهب ارتداده إلى دين دان به و أظهره فيستتاب و إن لم يظهره لم يستتب ] و هذا قول ابن القاسم و مطرف و عبد الملك و جماهير المالكية(3/118)
و الثاني : أنه يستتاب و تقبل توبته بمنزلة المرتد المحض و هذا قول القاضي أبويعلى و الشريف أبي جعفر و أبي علي بن البناء و ابن عقيل مع قولهم : إن من سب الرسول لا يستتاب و هذا قول طائفة من المدنيين : منهم محمد بن مسلمة و المخزومي و ابن أبي حازم قالوا : لا يقتل المسلم بالسب حتى يستتاب و كذلك اليهودي و النصراني فإن تابوا قبل منهم و إن لم يتوبوا قتلوا و لا بد من الاستتابة و ذلك كله كالردة و هو الذي ذكره العراقيون من المالكية
و كذلك ذكر أصحاب الشافعي رضي الله عنه قالوا : سب الله ردة فإذا تاب قبل توبته و فرقوا بينه و بين سب الرسول على أحد الوجهين و هذا مذهب الإمام أبو حنيفة أيضا
و أما من استتاب الساب لله و لرسوله فمأخذه أن ذلك من أنواع الردة و من فرق بين سب الله و سب الرسول قالوا : سب الله كفر محض و هو حق لله و توبة من لم يصدر منه إلا مجرد الكفر الأصلي أو الطارىء مقبولة مسقطة للقتل بالإجماع و يدل على ذلك أن النصارى يسبون الله بقولهم : هو ثالث ثلاثة و بقولهم : إن له ولدا كما أخبر النبي عليه الصلاة و السلام عن الله عز و جل أنه قال شتمني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك و كذبني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله : إن لي ولدا و أنا الأحد الصمد و قال سبحانه : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ـ إلى قوله ـ أفلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه } [ المائدة : 74 ]
و هو سبحانه قد علم منه أنه يسقط حقه عن التائب فإن الرجل لو أتى من الكفر و المعاصي بملء الأرض ثم تاب الله عليه و هو سبحانه لا تلحقه بالسب غضاضة و لا معرة و إنما يعود ضرر السب على قائله و حرمته في قلوب العباد أعظم من أن يهتكها جرأة الساب(3/119)
و بهذا يظهر الفرق بينه و بين الرسول فإن السب هناك قد تعلق به حق آدمي و العقوبة الواجبة لآدمي لا تسقط بالتوبة و الرسول تلحقه المعرة و الغضاضة بالسب فلا تقوم حرمته و لا تثبت في القلوب مكانته إلا باططلام سابه لما أن هجوه و شتمه ينقص من حرمته عند كثير من الناس و يقدح في مكانه في قلوب كثيرة فإن لم يحفظ هذا الحمى بعقوبة المنتهك و إلا أقضى الأمر إلى الفساد
و هذا الفرق يتوجه بالنظر إلى أن حد سب الرسول حق لآدمي كما يذكره كثير من الأصحاب و بالنظر إلى أنه حق لله أيضا فإن ما انتهكه من حرمة الله لا ينجبر إلا بإقامة الحد فأشبه الزاني و السارق و الشارب إذا تابوا بعد القدرة عليهم
و أيضا فإن سب الله ليس له داع عقلي في الغالب و أكثر ما هو سب في نفس الأمر إنما يصدر عن اعتقاد و تدين يراد به التعظيم لا السب و لا يقصد الساب حقيقة الإهانة لعلمه أن ذلك لا يؤثر بخلاف سب الرسول فإنه في الغالب إنما يقصد به الإهانة و الاستخفاف و الدواعي إلى ذلك متوفرة من كل كافر و منافق فصار من جنس الجرائم التي تدعو إليها الطباع فإن حدودها لا تسقط بالتوبة بخلاف الجرائم التي لا داعي إليها
و نكتة هذا الفرق أن خصوص سب الله تعالى ليس إليه داع غالب الأوقات فيندرج في عموم الكفر بخلاف سب الرسول فإن لخصوصه دواعي متوفرة فناسب أن يشرع لخصوصه حد و الحد المشروع لا يسقط بالتوبة كسائر الحدود فلما اشتمل سب الرسول على خصائص ـ من جهة توفر الدواعي إليه و حرص أعداء الله عليه و أن الحرمة تنتهك به انتهاك الحرمات بانتهاكها و أن فيه حقا لمخلوق ـ تحتمت عقوبته لا لأنه أغلظ إثما من سب الله بل لأن مفسدته لا تنحسم إلا بتحتم القتل(3/120)
ألا ترى أنه لا ريب أن الكفر و الردة أعظم إثما من الزنا و السرقة و قطع الطريق و شرب الخمر ثم الكافر و المرتد إذا تابا بعد القدرة عليهما سقطت عقوبتهما و لو تاب أولئك الفساق بعد القدرة لم تسقط عقوبتهم مع أن الكفر أعظم من الفسق و لم يدل ذلك على أن الفاسق أعظم إثما من الكافر ؟ فمن أخذ تحتم العقوبة و سقوطها من كبر الذنب و صغره فقد نأى عن مسالك الفقه و الحكمة
و يوضح ذلك أنا نقر الكفار بالذمة على أعظم الذنوب و لا نقر واحدا منهم و لا من غيرهم على زنا و لا سرقة و لا كبير من المعاصي الموجبة للحدود و قد عاقب الله قوم لوط من العقوبة بما لم يعاقبه بشرا في زمنهم لأجل الفاحشة و الأرض مملوءة من المشركين و عم في عافية و قد دفن رجل قتل رجلا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم مرات و الأرض تلفظه في كل ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الأرض لتقبل شر منه و لكن الله أراكم هذا لتعتبروا ] و لهذا يعاقب الفاسق الملي من الهجر و الإعراض و الجلد و غير ذلك حالا عند الله و عندنا من الكافر(3/121)
فقد رأيت العقوبات المقدورة المشروعة تتحتم حيث تؤخر عقوبة ما هو أشد منها و سبب ذلك أن الدنيا في الأصل ليست دار الجداء و إنما الجزاء يوم الدين يجزي الله العباد بأعمالهم : إن خيرا فخير و إن شرا فشر لكن ينزل الله سبحانه من العقاب و يشرع من الحدود ما يزجر النفوس عما فيه فساد عام لا يحض فاعله أو ما يطهر الفاعل من خطيئته أو لتغلظ الجرم أو لما يشاء سبحانه فالخطيئة إذا خيف أن يتعدى ضررها فاعلها لم تنحسم مادتها إلا بعقوبة فاعلها فلما كان الكفر و الردة إذا قبلت التوبة من بعد القدرة لم تترب على ذلك مفسدة تتعدى التائب وجب قبول التوبة لأن أحدا لا يريد أن يكفر أو يرتد ثم إذا أخذ أظهر التوبة لعلمه أن ذلك لا يحصل مقصوده بخلاف أهل الفسوق فإنه إذا سقطت العقوبة عنهم بالتوبة كان ذلك فتحا لباب الفسوق فإن الرجل يعمل ما اشتهى ثم إذا أخذ قال : إني تائب و قد حصل مقصوده من الشهوة التي اقتضاها
فكذلك سب الله هو أعظم من سب الرسول لكن لا يخاف أن النفوس تتسرع إلى ذلك إذا استتيب فاعله و عرض على السيف فإنه لا يصدر غالبا إلا عن اعتقاد و ليس للخلق اعتقاد يبعثهم على إظهار السب لله تعالى و أكثر ما يكون ضجرا و برما و سفها و روعة السيف و الاستتابة تكف عن ذلك بخلاف إظهار سب الرسول فإن هناك دواعي متعددة تبعث عليه متى علم صاحبها أنه إذا أظهر التوبة كف عنه لم يزعه ذلك عن مقصوده(3/122)
و مما يدل على الفرق من جهة السنة أن المشركين كانوا يسبون الله بأنواع السب ثم لم يتوقف النبي صلى الله عليه و سلم في قبول إسلام أحد منهم و لا عهد بقتل واحد منهم بعينه و قد توقف في قبول توبة من سبه مثل أبي سفيان و ابن أبي أمية و عد بقتل من كان يسبه من الرجال و النساء ـ مثل الحويرث بن نقيذ و القينتين و جارية لبني عبد المطلب و مثل الجال و النساء الذين أمر بقتلهم بعد الهجرة ـ و قد تقدم الكلام على تحقيق الفرق عند من يقول به بما هو أبسط من هذا في المسألة الثالثة
و أما من قال : [ لا تقبل توبة من سب الله سبحانه و تعالى كما لا تقبل توبة من سب الرسول ] فوجهه ما تقدم عن عمر رضي الله تعالى عنه من التسوية بين سب الله و سب الأنبياء في إيجاب القتل و لم يأمر بالاستتابة مع شهرة مذهبه في استتابة المرتد لكن قد ذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه لا يستتاب لأنه كذب النبي عليه الصلاة و السلام فيحمل ذلك على السب الذي يتدين به
و أيضا فإن السب ذنب منفرد عن الكفر الذي يطابق الاعتقاد فإن الكافر يتدين بكفره و يقول : إنه حق و يدعو إليه و له عليه موافقون و ليس من الكفار من يتدين بما يعتقده استخفافا و استهزاء و سبا لله و إن كان في الحقيقة سبا كما أنهم يقولون : إنهم ضلال جهال معذبون أعداء الله و إن كانوا كذلك و أما الساب فإنه مظهر للتنقص و الاستخفاف و الاستهانة بالله منتهك لحرمته انتهاكا يعلم هو من نفسه أنه منتهك مستخف مستهزىء و يعلم من نفسه أنه قد قال عظيما و أن السموات و الأرض تكاد تنفطر من مقالته و تخر الجبال و أن ذلك أعظم من كل كفر و هو يعلم أن ذلك كذلك(3/123)
و لو قال بلسانه : إني كنت لا اعتقد وجود الصانع و لا عظمته و الآن قد رجعت عن ذلك علمنا أنه كاذب فإن فطرة الخلائق كلها مجبولة على الاعتراف بوجود الصانع و تعظيمه فلا شبهة تدعوه إلى هذا السب و لا شهوة له في ذلك بل هو مجرد سخرية و استهزاء و استهانة و تمرد على رب العالمين تنبعث عن نفس شيطانية ممتلئة من الغضب أو من سفيه لا وقار لله عنده كصدور قطع الطريق و الزنا عن الغضب و الشهوة و إذا كان كذلك وجب أن يكون للسب عقوبة تخصه حدا من الحدود و حينئذ فلا تسقط تلك العقوبة بإظهار التوبة كسائر الحدود
و مما بين أن السب قدر زائد على الكفر قوله تعالى : { و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } [ الأنعام : 108 ]
و من المعلوم أنهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله ثم نهي المسلمون أن يفعلوا ما يكون ذريعة إلى سبهم لله أعظم عنده من يشرك به و يكذب رسوله و يعادى فلا بد له من عقوبة تختصه لما انتهكه من حرمة الله كسائر الحرمات التي تنتهكها بالفعل و أولى فلا يجوز أن يعاقب على ذلك بدون القتل لأن ذلك أعظم الجرائم فلا يقابل إلا بأبلغ العقوبات
و يدل على ذلك قوله سبحانه و تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } [ الأحزاب : 57 ] إلى آخرها فإنها تدل على قتل من يؤذي الله كما تدل على قتل من يؤذي رسوله و الآذى المطلق إنما هو باللسان و قد تقدم تقرير هذا
و أيضا فإن إسقاط القتل عنه بإظهار التوبة لا يرفع مفسدة السب لله تعالى فإنه لا يشاء أن يفعل ذلك ثم إذا أخذ أظهر التوبة إلا فعل كما في سائر الجرائم الفعلية
و أيضا فإنه لم ينتقل إلى دين يريد المقام [ عليه ] حتى يكون الانتقال عنه تركا له و إنما فعل جريمة لا تستدام بل هي مثل الأفعال الموجبة للعقوبات فتكون العقوبة على نفس تلك الجريمة الماضية و مثل هذا لا يستتاب عند من عاقب على ذنب مستمر من كفر أو ردة(3/124)
و أيضا فإن استتابة هذا توجب أن لا يقام فإنا نعلم أن ليس أحد من الناس مصرا على السب لله الذي يرى أنه سب فإن ذلك لا يدعو إليه عقل و لا طبع و كل ما أفضى إلى تعطيل الحدود بالكلية كان باطلا و لما استتابة الفساق بالأفعال يفضي إ إلى تعطيل الحدود لم يشرع مع أن أحدهم قد لا يتوب من ذلك لما يدعوه إليه طبعه و كذلك المستتاب من سب الرسول قد لا يتوب لما يستحله من سبه فاستتابة السلب لله الذي يسارع إلى إظهار التوبة منه كل أحد أولى أن لا يشرع إذا تضمن تعطيل الحد و أوجب أن تمضمض الأفواه بهتك حرمة اسم الله و الاستهزاء به و هذا كلام فقيه لكن يعارضه أن ما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى تحقيق إقامة الحد و يكفي تعريض قائله للقتل حتى يتوب
و لمن ينصر الأول أن يقول : تحقيق إقامة الحد على الساب لله ليس لمجرد زجر الطباع عما تهواه بل تعظيما لله و إجلالا لذكره و إعلاء لكلمته و ضبطا للنفوس أن تتسرع إلى الاستهانة بجناية و تقيدا للألسن أن تتفوه بالانتقاص لحقه
و أيضا فإن حد سب المخلوق و قذفه لا يسقط بإظهار التوبة فحد سب الخالق أولى و أيضا حدثنا فحد الأفعال الموجبة للعقوبة لا تسقط بإظهار التوبة فكذلك حد الأقوال و تأثيرها أعظم
و جماع الأمر أن كل عقوبة وجبت جزاء و نكالا على فعل أو قول ماض فإنها لا تسقط إذا أظهرت التوبة بعد الرفع إلى السلطان فسب الله أولى بذلك و لا ينتقض هذا بتوبة الكافر و المرتد لأن العقوبة هنا إنما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال المستصحب من الماضي فلا يحصل نقضا لوجهين :
أحدهما : أن عقوبة الساب لله ليست كذنب استصحبه و استدامه فإنه بعد انقضاء السب لم يستصحبه و لم يستدمه و عقوبة الكافر و المرتد إنما هي الكفر الذي هو مصر عليه مقيم على اعتقاده(3/125)
الثاني : أن الكافر إنما يعاقب على اعتقاد هو الآن في قلبه و قوله و عمله دليل على الاعتقاد حتى لو فرض أنا علمنا أن كلمة الكفر التي قالها خرجت من غير اعتقاد لموجبها لم نكفره ـ بأن يكون جاهلا بمعناها أو مخطئا قد غلط و سبق لسانه إليها مع قصد خلافها و نحو ذلك ـ و الساب إنما يعاقب على انتهاكه لحرمة الله و استخفافه بحقه فيقتل و إنما علمنا أنه لا يستحسن السب لله و لا يعتقده دينا إذ ليس أحد من البشر يدين بذلك و لا ينتقض هذا أيضا بتارك الصلاة و الزكاة و نحوهما فإنهم إنما يعاقبون على دوام الترك لهذه الفرائض فإذا فعلوها زال الترك و إن شئت أن تقول : إن الكافر و المرتد ن و تاركي الفرائض يعاقبون على عدم الإيمان و الفرائض أعني على دوام هذا العدم و هؤلاء يعاقبون على وجود الأقوال و الأفعال الكثيرة لا على دوام وجودها فإذا وجدت مرة لم يرتفع ذلك بالترك بعد ذلك
و بالجملة فهذا القول له توجه و قوة و قد تقدم أن الردة نوعان : مجردة و مغلظة و بسطنا هذا القول فيما تقدم في المسألة الثالثة و لا خلاف في قبول التوبة فيما بينه و بين الله سبحانه وسقوط الإثم بالتوبة النصوح
و من الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكا آخر و هو أنه جعله من باب الزنديق كأحد المسلكين اللذين ذكرناهما في ساب الرسول لأن وجود السب منه ـ مع إظهاره للإسلام ـ دليل على خبث سريرته لكن هذا ضعيف فإن الكلام هنا إنما هو في سب لا يتدين به فأما السب الذي يتدين به ـ كالتثليث و دعوى الصاحبة و الولد ـ فحكمه حكم أنواع الكفر و كذلك المقالات المكفرة ـ مثل مقالة الجهمية و القدرية و غيرهم من صنوف البدع ـ و إذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فإنه يؤدب أدبا و جيعا حتى يردعه عن العود إلى مثل ذلك هكذا ذكره بعض أصحاب مالك في كل مرتد
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 309 ](3/126)
و إن كان الساب لله ذميا فهو كما لو سب الرسول و قد تقدم نص الإمام أحمد على أن من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب سبحانه فإنه يقتل سواء كان مسلما أو كافرا و كذلك أصحابنا قالوا : [ من ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء ] فجعلوا الحكم فيه واحدا و قالوا : [ الخلاف في ذكر الله و في ذكر النبي عليه الصلاة و السلام سواء ] و كذلك مذهب مالك و أصحابه و كذلك أصحاب الشافعي ذكروا لمن سب الله و رسوله أو كتابه من أهل الذمة حكما واحدا لكن هنا مسألتان : إحداهما : أن سب الله تعالى على قسمين أحدهما : أن يسبه بما لا يتدين به مما هو استهانة عند المتكلم و غيره مثل اللعن و التقبيح و نحوه فهذا هو السب الذي لا ريب فيه
و الثاني : أن يكون مما يتدين به و يعتقده تعظيما و لا يراه سبا و لا انتقاصا مثل قول النصراني : إن له و صاحبة و نحوه فهذا مما اختلف فيه إذا أظهره الذمي فقال القاضي و ابن عقيل من أصحابنا : [ ينتقض به العهد كما ينتقض إذا أظهروا اعتقادهم في النبي عليه الصلاة و السلام ] و هو مقتضى ما ذكره الشريف أبو جعفر و أبو الخطاب و غيرهما : فإنهم ذكروا أن ما ينتقض الإيمان ينقض الذمة و يحكى هذا عن طائفة من المالكية و وجه ذلك أنا عاهدناهم على أن لا يظهروا شيئا من الكفر و إن كانوا يعتقدونه فمتى أظهروا مثل ذلك فقد آذوا الله و رسوله و المؤمنين بذلك و خالفوا العهد فينتقض العهد بذلك كسب النبي صلى الله عليه و سلم و قد تقدم عن عمر رضي الله عنه أنه قال للنصراني الذي كذب بالقدر : لئن عدت إلى مثل ذلك لأضربن عنقك و قد تقدم ما تقرر ذلك(3/127)
والمنصوص عن مالك أن من شتم الله من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي كفروا به قتل و لم يستتب قال ابن القاسم : [ إلا أن يسلم تطوعا ] فلم يجعل ما يتدين به الذمي سبا و هذا قول عامة المالكية و هو مذهب الشافعي ذكره أصحابه و هو منصوصه قال في [ الأم ] في تحديد الإمام ما يخذه من أهل الذمة : [ و على أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بما هو أهله و لا يطعنوا في دين الإسلام و لا يعيبوا من حكمه شيئا فإن فعلوه فلا ذمة لهم و يأخذ عليهم أن لا يسمعوا المسلمين شركهم و قولهم في عزير و عيسى فإن وجدوهم فعلوا بعد التقدم في عزير و عيسى إليهم عاقبهم على ذلك عقوبة لا يبلغ بها حدا لأنهم قد أذن بإقرارهم على دينهم مع علم ما يقولون ]
و هذا ظاهر كلام الإمام أحمد لأنه سئل عن يهودي مر بؤذون فقال له : [ كذبت ] فقال : [ يقتل لأنه شتم ] فعلل قتله بأنه شتم فعلم أن ما يظهره من دينه الذي ليس بشتم ليس كذلك قال رضي الله عنه : [ من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا و هذا مذهب أهل المدينة ] و إنما مذهب أهل المدينة فيما هو سب عند القائل و ذلك أن هذا القسم ليس من باب السب و الشتم الذي يلحق بسب الله و سب النبي عليه الصلاة و السلام لأن الكافر لا يقول هذا طعنا و لا عيبا و إنما يعتقده تعظيما و إجلالا و ليس هو و لا أحد من الخلق يتدين بسب الله تعالى بخلاف ما يقال في حق النبي صلى الله عليه و سلم من السوء فإنه لا يقال إلا طعنا و عيبا و ذلك أن الكافر يتدين بكثير من تعظيم الله و ليس يتدين بشيء من تعظيم الرسول
ألا ترى أنه قال : [ محمد عليه الصلاة و السلام ساحر أو شاعر ] فهو يقول : إن هذا نقض و عيب و إذا قال : [ إن المسيح أو عزيرا ابن الله ] فليس يقول : إن هذا عيب و نقض و إن كان هذا عيبا و نقضا في الحقيقة(3/128)
و فرق بين قول يقصد به قائله العيب و النقض و قول لا يقصد به ذلك و لا يجوز أن يجعل قولهم في الله كقولهم في الرسول بحيث يجعل الجميع نقضا للعهد إذ يفرق في الجميع ما يعتقدونه و بين ما لا يعتقدونه لأن قولهم في الرسول كله طعن في الدين و غضاضة على الإسلام و إظهار لعداوة المسلمين يقصدون به عيب الرسول و نقضه و ليس مجرد قولهم الذي يعتقدونه في الله مما يقصدون به عيب و نقصه
ألا ترى ان قريشا كانت تقار النبي عليه الصلاة و السلام على ما كان يقوله من التوحيد و عبادة الله وحده و لا يقارونه على عيب آلهتهم و الطعن في دينهم و ذم آبائهم و قد نهى الله المسلمين أن يسبوا الأوثان لئلا يسب المشركون الله مع كونهم لم يزالوا على الشرك فعلم أن محذور سب الله أغلظ من محذور الكفر به فلا يجعل حكمها واحدا
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 559 ]
أما القاضي و جمهور أصحابه ـ مثل الشريف و ابن البناء و ابن عقيل و من تبعهم ـ فإنهم توبته و يسقطون عنه القتل بها و هذا ظاهر على أصلهم فإنهم يقبلون توبة المسلم إذا سب الله فتوبة الذمي أولى و هذا هو المعروف من مذهب الشافعي و عليه يدل عموم كلامه حيث قال في شروط أهل الذمة : [ و على أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه و سلم أو كتاب الله و دينه بما لا ينبغي فقد برئت منه ذمة الله ثم قال : و أيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان قولا ] إلا أنه لم يصرح بالسب لله فقد يكون عنى إذا ذكروا ما يعتقدونه و كذلك قال ابن القاسم و غيره من المالكية : [ إنه يقتل إلا أن يسلم ]
و قال ابن مسلمة و ابن أبي حازم و المخزومي : [ إنه لا يقتل حتى يستتاب فإن تاب و إلا قتل ] و المنصوص عن مالك أنه [ يقتل و لا يستتاب كما تقدم و هذا معنى قول أحمد رضي الله عنه في إحدى الروايتين(3/129)
قال في رواية حنبل : [ من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب فعليه القتل مسلما كان أو كافرا و هذا مذهب أهل المدينة ] و ظاهر هذه العبارة أن القتل لا يسقط عنه بالتوبة كما لا يسقط القتل عن المسلم بالتوبة فإنه قال مثل هذه العبارة في شتم النبي صلى الله عليه و سلم في رواية حنبل أيضا قال : [ كل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم مسلما كان أو كافرا فعليه القتل ] و كان حنبل يعرض عليه مسائل المدنيين و يسأله عنها
ثم إن أصحابنا فسروا قوله في شاتم النبي عليه الصلاة و السلام بأنه لا يسقط عنه القتل بالتوبة مطلقا و قد تقدم توجيه ذلك و هذا مثله و هذا ظاهر إذا قلنا إن المسلم الذي يسب الله لا يسقط عنه القتل بالتوبة لأن المأخذة عندنا ليس هو الزندقة فإنه لو أظهر كفرا غير السب استتبناه و إنما المأخذ أن يقتل عقوبة على ذلك وحدا عليه مع كونه كافرا يقتل لسائر الأفعال
و يظهر الحكم في المسألة بأن يرتب هذا السب ثلاث مراتب :
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 560 ]
المرتبة الأولى : أن من شأن الرب بما يتدين به ليس فيه سب لدين الإسلام إلا أنه سب عند الله تعالى مثل قول النصارى في عيسى و نحو ذلك فقد قال تعالى فيما يرويه عنه رسوله : [ شتمني ابن آدم و ما ينبغي له ذلك ] ثم قال : [ أو ما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا الأحد الصمد الذي لم ألد و لم أولد ] فهذا القسم حكمه حكم سائر أنواع الكفر سميت شتما أو لم تسم و قد ذكرنا الخلاف في انتقاض العهد مثل هذا و إذا قيل بانتقاض العهد به فسقوط القتل عنه بالإسلام متوجه و هو في الجملة قول الجمهور(3/130)
المرتبة الثانية : أن يذكر ما يتدين به و هو سب لدين المسلمين و طعن عليهم كقول اليهودي للمؤذن : [ كذبت ] و كرد النصراني على عمر رضي الله عنه و كما لو عاب شيئا من أحكام الله أو كتابه و نحو ذلك فهذا حكمه حكم سب الرسول في انتقاض العهد به و هذا القسم هو الذي عناه الفقهاء في نواقض العهد حيث قالوا : [ إذا ذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه بسوء ] و لذلك اقتصر كثير منهم على قوله : [ أو ذكر كتاب الله و دينه أو رسوله بسوء ] و أما سقوط القتل عنه بالإسلام فهو كسب الرسول فرق بينه و بين هذا و هي طريقة القاضي و أكثر أصحابه و من قتله لما في ذلك من الجناية على الإسلام و أنه محارب لله و رسوله فإنه يقتل بكل حال و هو مقتضي أكثر الأدلة التي تقدم ذكرها
المرتبة الثالثة : أن يسبه بما لا يتدين به بل هو محرم في دينه كما هو محرم في دين الله تعالى كاللعن و التقبيح و نحو ذلك فهذا النوع لا يظهر بينه و بين سب المسلم فرق بل ربما كان فيه أشد لأنه يعتقد تحريم مثل هذا الكلام في دينه كما يعتقد المسلمون تحريمه و قد عاهدنا على أن نقيم عليه الحد فيما يعتقد تحريمه فإسلامه لم يجدد له اعتقادا لتحريمه بل هو فيه كالذمي إذا زنى أو قتل أو سرق ثم أسلم سواء ثم هو مع ذلك مما يؤذي المسلمين كسب الرسول بل هو أشد
فإذا قلنا لا تقبل توبة المسلم سب الله فأن نقول لا تقبل توبة الذمي أولى بخلاف الرسول فإنه يتدين بتقبيح من يعتقد كذبه و لا يتدين بتقبيح خالقه الذي يقر أنه خالقه و قد يكون من هذا الوجه أولى بأن لا يسقط عنه القتل ممن سب الرسول(3/131)
و لهذا لم يذكر عن مالك نفسه و أحمد استثناء فيمن سب الله تعالى كما ذكر عنهما الاستثناء لمن سب الرسول و إن كان كثير من أصحابهما يرون الأمر بالعكس و إنما قصدا هذا الضرب مع السب و لهذا قرنا بين المسلم و الكافر فلابد أن يكون سبا منهما و أشبه شيء بهذا الضرب من الأفعال زناه بمسلمة فإنه محرم في دينه مضر بالمسلمين فإذا أسلم لم يسقط عن بل إما أن يقتل أو يحد حد الزنا كذلك سب الله تعالى حتى لو فرض أن هذا الكلام لا ينتقض العهد لوجب أن يقام عليه حده لأن كل أمر يعتقده محرما فإنا نقيم عليه فيه حد الله الذي شرعه في دين الإسلام و إن لم يعلم مأخذه في كتابه مع أن الأغلب على القلب أن أهل الملل كلهم يقتلون على مثل هذا الكلام كما أن حده في دين الله القتل
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أقام على الزاني منهم حد الزنا قال : [ اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ]
و معلوم أن ذلك الزاني منهم لم يكن يسقط عنه لو أسلم فإقامة الحد على من سب الرب تبارك و تعالى سبا هو سب في دين الله و دينهم عظيم عند الله و عندهم أولى أن يحيا فيه أمر الله و يقام عليه حده
و هذا القسم قد اختلفت الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الذمي يستتاب منه كما يستتاب المسلم منه هذا قول طائفة من المدينيين كما تقدم و كأن هؤلاء لم يروه نقضا للعهد لأن ناقض العهد يقتل كما يقتل المحار و لا معنى لاستتابة الكافر الأصلي المحارب و إنما رأوا حده القتل فجعلوه كالمسلم و هو يستتبون المسلم فكذلك يستتاب الذمي و على قول هؤلاء فالشبه أن استتابته من السب لاتحتاج إلى إسلامه بل تقبل توبته مع بقائه على دينه
القول الثاني : أنه لا يستتاب لكن إن أسلم لم يقتل و هذا قول ابن القاسم و غيره و هو قول الشافعي و
إحدى الروايتين عن أحمد و على طريقة القاضي لم يذكر فيه خلاف بناء على أنه قد نقض عهده فلا يحتاج قتله استتابة لكن إذا أسلم سقط عنه القتل كالحربي(3/132)
القول الثالث : أنه يقتل بكل حال و هو ظاهر كلام مالك و أحمد لأن قتله وجب على جرم محرم في دين الله و في دينه فلم يسقط عنه بموجبه بالإسلام كعقوبته على الزنا و السرقة و الشرب و هذا القول هو الذي يدل عليه أكثر الأدلة المتقدم ذكرها
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 563 ]
السب الذي ذكرنا حكمه من المسلم هو : الكلام الذي يقصد به الانتقاص و الاستخفاف و هو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كالعن و التقبيح و نحوه و هو الذي دل عليه قوله تعالى : { و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسيبوا الله عدوا بغير علم } [ الأنعام : 108 ]
فهذا أعظم ما تفوه به الألسنة فأما ما كان سبا في الحقيقة و الحكم لكن من الناس من يعتقده دينا و يراه صوابا و حقا و يظن أن ليس فيه انتقاص و لا تعييب فهذا نوع من الكفر حكم صاحبه إما حكم المرتد المظهر للردة أو المنافق المبطن للنفاق و الكلام في الكلام الذي يكفر به صاحبه أو لا يكفر و تفصيل الاعتقادات و ما يوجب منها الكفر أو البدعة فقط أو ما اختلفت فيه من ذلك ليس هذا موضعه و إنما الغرض أن لا يدخل هذا في قسم السب الذي تكلمنا في استتابة صاحبه نفيا و إثباتا و الله أعلم
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 564 ]
فإن سب موصوفا بوصف أو مسمى باسم و ذلك يقع على الله سبحانه أو بعض رسله خصوصا أو عموما لكن قد ظهر أنه لم يقصد ذلك : إما لاعتقاده أن الوصف أو الاسم لا يقع عليه أو لأنه و إن كان يعتقد وقوعه عليه لكن ظهر أنه لم يرده لكون الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره فهذا القول و شبهه حرام في الجملة يستتاب صاحبه منه إن لم يعلم أنه حرام و يعزر مع العلم تعزيزا بليغا لكن لا يكفر بذلك و لا يقتل إن كان يخاف عليه الكفر(3/133)
مثال الأول : أن يسب الدهر الذي فرق بينه و بين الأحبة أو الزمان الذي أحوجه إلى الناس أو الوقت الذي أبلاه بمعاشرة من ينكد عليه و نحو ذلك مما يكثر الناس قوله نظما و نثرا فإنه إنما يقصد أن يسب من يفعل ذلك به ثم إنه يعتقد أو يقول إن فاعل ذلك هو الدهر الذي هو الزمان فيسبه و فاعل ذلك إنما هو الله سبحانه فيقع السب عليه من حيث لم يعتمده المرء و إلى هذا أشار النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر بيده الأمر ]
و قوله فيما يروبه عن ربه تبارك و تعالى يقول : [ يا ابن آدم تسب الدهر و أنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل و النهار ] فقد نهى رسول الله عليه الصلاة و السلام عن هذا القول و حرمه و لم يذكر كفرا و لا قتلا و القول المحرم يقتضي التعزيز و التنكيل
و مثال الثاني : أن يسب مسمى بلاسم عام يندرج فيه الأنبياء و غيرهم لكن يظهر أنه لم يقصد الأنبياء من ذلك العام مثل ما نقل الكرماني قال : سألت أحمد قلت : رجل افترى على رجل فقال : يا ابن كذا و كذا إلى آدم و حواء فعظم ذلك جدا و قال : نسأل الله العافية لقد أتى هذا عظيما و سئل عن الحد فيه فقال : لم يبلغني في هذا شيء و ذهب إلى حد واحد و ذكر هذا أبو بكر عبد العزيز أيضا فلم يجعل أحمد رضي الله عنه بهذا القول كافرا مع أن هذا اللفظ يدخل فيه نوح و إدريس و شئت و غيرهم من النبيين لأن الرجل لم يدخل آدم و حواء في عمومه و إنما جعلها غاية و حدا لمن قذفه و إلا لو كان من المقذوفين تعين قتله بلا ريب و مثل هذا العموم في مثل هذا الحال لا يكاد يقصد به صاحبه من يدخل فيه من الأنبياء فعظم الإمام أحمد ذلك لأن أحسن أحواله أن يكون قد قذف خلقا من المؤمنين و لم يوجب إلا حدا و حدا لأن الحد هنا ثبت للحي ابتداء على أصله و هو واحد و هذا قول أكثر المالكية في مثل ذلك(3/134)
و قال سحنون و أصبغ و غيرهما في رجل قال له غريمة : صلى الله على النبي محمد فقال له الطالب : لا صلى الله على من صلى عليه قال سحنون : ليس هو كمن شتم رسول الله صلى الله عليه و سلم أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه إذا كان على ما وصف من الغضب لأنه إنما شتم الناس و قال أصبغ و غيره : لا يقتل إنما شتم الناس و كذلك قال ابن أبي زيد فيمن قال : [ لعن الله العرب و لعن الله بني إسرائيل و لعن الله بني آدم و ذكر أنه لم يرد الأنبياء و إنما أراد الظالمين منهم : إن عليه الأدب بقدر اجتهاد السلطان ]
و ذهب طائفة ـ منهم الحارث بن مسكين و غيره ـ إلى القتل في مسألة المصلى و نحوها و كذلك قال أبو موسى بن مياس فيمن قال : [ لعنه الله إلى آدم ] إنه يقتل و هذه مسألة الكرماني بعينها و هذا قياس أحد الوجهين لأصحابنا فيمن قال : [ عصيت الله في كل ما أمرني به ] فإن أكثر أصحابنا قالوا : ليس لك يمين لأنه إنما التزم المعصية فهو كما لو قال : محوت المصحف أو شربت الخمر إن فعلت كذا و لم يظهر قصد إرادة الكفر من هذا العموم لأنه لو أراد لذكره باسمه الخاص و لم يكتف بالاسم الذي يشركه فيه جميع المعاصي
و منهم من قال : هو يمين لأن مما أمره الله به الإيمان و معصيته فيه كفر و لو التزم الكفر بيمينه بأن قال : [ هو يهودي أو نصراني أو هو برئ من الله أو من الإسلام أو هو يستحل الخمر و الخنزير أو لا يراه الله في مكان كذا إن فعل كذا و نحوه كان يمينا في المشهور عنه ] و وجه هذا القول أن اللفظ عام فلا يقبل منه دعوى الخصوص و لعل من يختار هذا يحمل كلام الإمام أحمد على أن القائل كان جاهلا بأن في النسب أنبياء(3/135)
و وجه الأول أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي أمية في المرأة التي كانت تهجو المسلمين يلومه على قطع يدها و يذكر له أنه كان الواجب أن يعاقبها بالضرب مع أن الأنبياء يدخلون في عموم هذا اللفظ و لأن الألفاظ العامة قد كثرت و غلب إرادة الخصوص بها فإذا كان اللفظ لفظ سب و قذف الأنبياء و نحوهم من الخصائص و المزايا ما يوجب ذكرهم بأخص أسمائهم إذا أريد ذكرهم و الغضب يحمل الإنسان على التجوز في القول و التوسع فيه كان ذلك قرائن ـ عرفية و لفظية و حالية ـ في أنه لم يقصد دخولهم في العموم لا سيما إذا كان دخول ذلك الفرد في العموم لا يكاد يشعر به
و يؤيد هذا أن يهوديا قال في عهد النبي عليه الصلاة و السلام : [ و الذي اصطفى موسى على العالمين ] فلطمه المسلم حتى اشتكاه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن تفضيله على موسى لما فيه من انتقاض المفضول بعينه و الغض منه و لو أن اليهودي أظهر القول بأن موسى أفضل من محمد لوجب التعزير عليه إجماعا بالقتل أو بغيره كما تقدم التنبيه عليه
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 567 ]
و الحكم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا فمن سب نبينا مسمى باسمه من الأنبياء المعروفين المذكورين في القرآن أو موصوفا بالنبوة ـ مثل أن يذكر في حديث أن نبيا فعل كذا أو قال كذا فيسب ذلك القائل أو الفاعل مع العلم بأنه نبي و إن لم يعلم من هو أو يسب نوع الأنبياء على الإطلاق ـ فالحكم في هذا كما تقدم لأن الإيمان بهم واجب عموما و واجب الإيمان خصوصا بمن قصه الله علينا في كتابه و سبهم كفر وردة إن كان من مسلم و محاربة إن كان من ذمي(3/136)
و قد تقدم في الأدلة الماضية ما يدل على ذلك بعمومه لفظا أو معنى و ما أعلم أحدا فرق بينهما و إن كان أكثر كلام الفقهاء إنما فيه ذكر من سب نبينا فإنما ذلك لمسيس الحاجة إليه و أنه وجب التصديق له و الطاعة له جملة و تفصيلا و لا ريب أن جرم سابه أعظم من جرم ساب غيره كما أن حرمته أعظم من حرمة غيره و إن شاركه سائر إخوانه من النبيين و المرسلين في أن سابهم كافر حلال الدم
فأما إن سب نبينا غير معتقد لنبوته فإنه يستتاب من ذلك إذا كان ممن علمت نبوته بالكتاب و السنة لأن هذا جحد لنبوته إن كان ممن يجهل أنه نبي فإنه سب محض فلا يقبل قوله : [ إني لم أعلم أنه نبي ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 568 ]
فأما من سب أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فقال القاضي أبو يعلى : من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف و قد حكى الإجماع على هذا غير واحد و صرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم فروي عن مالك : من سب أبا بكر جلد و من سب عائشة قتل قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن لأن الله تعالى قال : { يعظمكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين } [ النور : 17 ]
و قال أبو بكر بن زياد النيسابوري : [ سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق : أتي المأمون [ بالرقة ] برجلين شتم أحدهما فاطمة و الآخر عائشة فأمر بقتل الذي شتم فاطمة و ترك الآخر فقال إسماعيل : ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن ] و على هذا مضت سيرة أهل الفقه و العلم من أهل البيت و غيرهم(3/137)
قال أبو السائب القاضي : كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي [ بطرستان ] و كان يلبس الصوف و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين ألف دينار إلى المدينة السلام يفرق على سائر ولد الصحابة و كان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة فقال : يا غلام اضرب عنقه فقال له العلويين : هذا رجل من شيعتنا فقال : معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى : { الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة و رزق كريم } [ النور : 26 ] فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه و سلم خبيث فهو كافر فاضربوا عنقه فضربوا عنقه و أنا حاضر رواه اللالكائي
و روي عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد انه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله فقيل له : هذا من شيعتنا و من بني الآباء فقال : هذا سمى جدي قرنان و من سمى جدي قرنان استحق القتل فقتله
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 569 ]
و أما من سب غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه و سلم ففيه قولان :
أحدهما : أنه كساب غيرهن من الصحابة على ما سيأتي
و الثاني : و هو الأصح أنه من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها و قد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس و ذلك لأن هذا فيه عار و غضاضة على رسول الله صلى الله عليه و سلم و أذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده و قد تقدم التنبيه على ذلك فيما مضى عند الكلام على قوله : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } [ الأحزاب : 57 ] الآية و الأمر فيه ظاهر
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 570 ]
فأما من سب أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ من أهل بيته و غيرهم ـ فقد أطلق الإمام أحمد أنه يضرب نكالا و توقفت عن قتله و كفره(3/138)
قال أبو طالب : سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : القتل أجبن عنه و لكن أضربه ضربا نكالا
و قال عبد الله : سألت أبي عمن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : أرى أن يضرب قلت له : حد فلم يقف على الحد إلا أنه قال : يضرب و قال : ما أراه على الإسلام
و قال : سألت أبي : من الرافضة ؟ فقال : الذين يشتمون ـ أو يسبون ـ أبا بكر و عمر رضي الله عنها
و قال في الرسالة التي رواها أبو العباس أحمد بن يعقوب الإصطخري و غيره : و خير الأمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم أبو بكر و عمر بعد أبي بكر و عثمان بعد عمر و علي بعد عثمان و وقف قوم و هم خلفاء راشدون مهديون ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم و لا يطعن على أحد منهم بعيب و لا نقض فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه و عقوبته و ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه و يستتيبه فإن تاب قبل منه و إن ثبت أعاد عليه العقوبة و خلده في الحبس حتى يموت أو يراجع
و حكى الإمام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم و حكاه الكرماني عنه و عن إسحاق و الحميدي و سعيد بن منصور و غيرهم
و قال الميموني : سمعت أحمد يقول : مالهم و لمعاوية ؟ نسأل الله العافية و قال لي : يا أبا الحسن إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوء فاتهمه على الإسلام
فقد نص رضي الله عنه على وجوب تعزيره و استتابته حتى يرجع بالجلد و إن لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع و قال : [ ما أراه على الإسلام ] و قال : [ واتهمه على الإسلام ] و قال : أجبن عن قتله
و قال إسحاق بن راهوية : [ من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يعاقب و يحبس ](3/139)
و هذا قول كثير من أصحابنا منهم ابن أبي موسى قال : [ و من سب السلف نمن الروافض فليس بكفؤ و لا يزوج و من رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين و لم ينعقد له نكاح على مسلمة إلا أن يتوب و يظهر توبته ] و هذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز و عاصم الأحول و غيرهما من التابعين
قال الحارث بن عتبة : إن عمر بن عبد العزيز أتي برجل سب عثمان فقال : ما حملك على أن سببته ؟ قال : أبغضه قال : و إن أبغضت رجلا سببته ؟ قال : فأمر به فجلد ثلاثين سوطا
و قال إبراهيم بن ميسرة : ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا رجلا شتم معاوية فضربه أسواطا رواهما اللالكلئي و قد تقدم عنه أنه كتب في رجل سبه : لا يقتل إلا من سب النبي صلى الله عليه و سلم و لكن أجلده فوق رأسه أسواطا و لول أني رجوت أن ذلك خير له لم أفعل
و روي الإمام أحمد : ثنا أبو معاوية ثنا عاصم الأحول قال : أتيت برجل قد سب عثمان قال : فضربته عشرة أسواط قال : ثم عاد لما قال فضربته عشرة أخرى قال : فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطا
و هو المشهور من مذهب مالك قال مالك : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم قتل و من سب أصحابه أدب
و قال عبد الملك بن حبيب : من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان و البراءة منه أدب أدبا شديدا و من زاد إلى بغض أبي بكر و عمر فالعقوبة عليه أشد و يكرر ضربه و يطال سجنه حتى يموت و لا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه و سلم
و قال ابن المنذر : [ لا أعلم أحدا يوجب قتل من سب من بعد النبي صلى الله عليه و سلم
و قال القاضي أبو يعلى : الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة : إن كان مستحلا لذلك لذلك كفر و إن لم يكن مستحلا فسق و لم يكفر سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم
و قد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة و غيرهم بقتل من سب الصحابة و كفر الرافضة(3/140)
قال محمد بن يوسف الفريابي و سئل عمن شتم أبا بكر قال : كافر قيل : فيصلى عليه ؟ قال : لا و سأله : كيف يصنع به و هو يقول لا إله إلا الله ؟
قال : لا تمسوه بأيديكم ادفعوه بالخشب حتى تراوه في حفرته
و قال أحمد بن يونس : [ لو أن يهوديا ذبح شاة و ذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي و لم آكل ذبيحة الرافضي لأنه مرتد عن الإسلام ]
و كذلك قال أبو بكر بن هاني : لا تؤكل ذبيحة الروافض و القدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد مع أنه تؤكل ذبيحة الكتابي لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد و أهل الذمة يقرون على دينهم و تؤخذ منهم الجزية
و كذلك قال عبد الله بن إدريس من أعيان أئمة الكوفة : ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم
و قال فضيل بن مرزوق : سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة : و الله إن قتلك لقربة إلى الله و ما أمتنع من ذلك إلا بالجواز و في رواية قال : رحمك الله قذفت إنما تقول هذا تمزح قال : لا و الله ما هو بالمزاح و لكنه الجد قال : و سمعته يقول : لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم و أرجلكم
و صرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي و عثمان و بكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة و فسقوهم و سبوهم
و قال أبو بكر عبد العزيز في المقنع : فأما الرافضي فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج
و لفظ بعضهم و هو الذي نصره القاضي أبو يعلى أنه إن سبهم سبا يقدح في دينهم و عدالتهم كفر بذلك و إن سبهم سبا لا يقدح ـ مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سبا يقصد به غيظه و نحو ذلك ـ لم يكفر
قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان : هذا زندقة و قال في رواية المروزي : [ من شتم أبا بكر و عمر و عائشة ما أراه على الإسلام ]
قال القاضي أبو يعلى : فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة و توقف في رواية عبد الله و أبي طالب عن قتله و كمال الحد و إيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره(3/141)
قال : فيحتمل أن يحمل قوله : [ ما أراه على الإسلام ] إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف و يحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي
قال : و يحتمل قوله : [ ما أراه على الإسلام ] على سب يطعن في عالتهم نحو قوله : ظلموا و فسقوا بعد النبي صلى الله عليه و سلم و أخذوا الأمر بغير حق و يحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله : كان فيهم قلة علم و قلة معرفة بالسياسة و الشجاعة و كان فيهم شح و محبة للدنيا و نحو ذلك قال : و يحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان : إحداهما يكفر و الثانية يفسق و على هذا استقر قول القاضي و غيره حكوا في تكفيرهم روايتن
قال القاضي : و من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها منه كفر بلا خلاف
و نحن نرتب الكلام في فصلين أحدهما : في سبهم مطلقا و الثاني : في تفصيل أحكام الساب
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 574 ]
أما الأول فسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حرام بالكتاب و السنة(3/142)
أما الأول فلأن الله سبحانه يقول { و لا يغتب بعضكم بعضا } [ الحجرات : 12 ] و أدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتابا و قال تعالى : { ويل لكل همزة لمزة } [ الهمزة : 1 ] و قال تعالى : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا } [ الأحزاب : 58 ] و هم صدور المؤمنين فإنهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 104 ] حيث ذكرت و لم يكتسبوا ما يوجب أذاهم لأن الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقا بقوله تعالى : { و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه } [ التوبة : 100 ] فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان و لم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان و قال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } [ الفتح : 18 ] و الرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى و من رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدا
و قوله تعالى : { إذ يبايعونك } سواء كان ظرفا محضا أو كانت ظرفا فيها معنى التعليل فإن ذلك لتعلق الرضى بهم فإنه يسمى رضى أيضا كما في تعلق العلم و المشيئة و القدرة و غير ذلك من صفات الله سبحانه و قيل : بل الظرف يتعلق بجنس الرضى و إنه يرضى عن المؤمن بعد أن يطيعه و يسخط عن الكافر بعد أن يعصيه و يحب من اتبع الرسول بعد اتباعه له و كذلك أمثال هذا و هذا قول جمهور السلف و أهل الحديث و كثيرا من أهل الكلام و هو الأظهر
و على هذا فقد بين في مواضع أخر أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى : { و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } [ التوبة : 100 ](3/143)
و قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ]
و أيضا فكل من أخبر الله عنه أنه رضي الله عنه فإنه من أهل الجنة و إن كان رضاه عنه بعد إيمانه و عمله الصالح فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه و المدح له فلو علم انه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك
و هذا كما في قوله تعالى : { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي } [ الفجر : 28 ] و لأنه سبحانه و تعالى قال : { لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم } [ التوبة : 117 ] و قال سبحانه و تعالى : { و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه } [ الكهف : 28 ]
و قال تعالى : { محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] الآية و قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] { و كذلك جعلناكم أمة و سطا } [ البقرة : 134 ] و هم أول من و وجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب و قال سبحانه و تعالى : { و الذين جاؤوا من بعدهم يقولون : ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } [ الحشر : 10 ](3/144)
فجعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين و الأنصار و الذين جاؤوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم فعلم أن الاستغفار لهم و طهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله و يرضاه و يثنى على فاعله كما أنه قد أمر بذلك رسوله في قوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات } [ محمد : 19 ] و قال تعالى : { فاعف عنهم و استغفر لهم } [ آل عمران : 159 ] و محبة الشيء كراهته لضده فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار و البغض لهم الذي هو ضد الطهارة و هذا معنى قول عائشة رضي الله عنها : [ أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم ] رواه مسلم
و عن مجاهد عن ابن عباس قال : [ لا تسبوا أصحاب محمد إن الله قد أمر بالاستغفار لهم و قد علم أنهم سيقتتلون ] رواه الإمام أحمد
و عن سعد بن أبي وقاص قال : [ الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان و بقيت واحدة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت قال : ثم قرأ : { للفقراء المهاجرين ـ إلى قوله ـ رضوانا } [ الحشر : 8 ] فهؤلاء المهاجرين و هذه منزلة قد مضيت : { و الذين تبوؤوا الدار و الإيمان من قبلهم ـ إلى قوله ـ و لو كان بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] قال : هؤلاء الأنصار و هذه منزلة قد مضيت ثم قرأ : { و الذين جاؤوا من بعدهم ـ إلى قوله ـ رحيم } [ الحشر : 10 ] قد مضيت هاتان و بقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت : أن تستغفروا لهم و لأن من جاز سبه بعينه أو بغيره لم يجز الاستغفار له
كما لا يجوز الاستغفار للمشركين لقوله تعالى : { ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } [ التوبة : 113 ](3/145)
و كما لا يجوز أن يستغفر لجنس العاصين مسمين باسم المعصية لأن ذلك لا سبيل إليه و لأنه شرع لنا أن نسأل الله أن لا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا و السب باللسان أعظم من الغل الذي لا سب معه و لو كان الغل عليهم و السب لهم جائزا لم يشرع لنا أن نسأله ترك ما لا يضر فعله و لأنه وصف مستحقي الفيء بهذه الصفة كما وصف السابقين بالهجرة و النصرة فعلم أن ذلك صفة للمؤثر فيهم و لو كان السب جائزا لم يشترط في استحقاق الفيء ترك أمر جائز كما لا يشترط ترك سائر المباحات بل لو لم يكن الاستغفار لهم واجبا لم يكن شرطا في استحقاق الفيء لا يشترط فيه ما ليس بواجب بل هذا دليل على أن الاستغفار لهم داخل في عقد الدين و أصله
و أما السنة ففي الصحيحين [ عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم و لا نصيفه ]
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 577 ]
و في رواية لمسلم و استشهد بها البخاري قال : كان بين خالد بن الوليد و بين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو اتفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدكم و لا نصيفه ]
و في رواية للبرقاني في صحيحه [ لا تسبوا أصحابي دعوا لي أصحابي فإن أحدكم لو اتفق كل يوم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم و لا نصيفه ](3/146)
و الأصحاب : جمع صاحب : و الصاحب اسم فاعل من صحبحه يصبحه و ذلك يقع على قليل الصحابة و كثيرها لأنه يقال : صحبته ساعة و صحبته شهرا و صحبته سنة قال الله تعالى : { و الصاحب بالجنب } [ النساء : 36 ] قد قيل : هو الرفيق في السفر و قيل : هو الزوجة و معلوم أن صحبه الرفيق و صحبة الزوجة قد تكون ساعة فما فوقها و قد أوصى الله به إحسانا ما دام صاحبا و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه و خير الجيران عند الله خيرهم لجاره ] و قد دخل في ذلك قليل الصحبة و كثيرها و قليل الجواز و كثيره
و كذلك قال الإمام أحمد و غيره : [ كل من صحب النبي صلى الله عليه و سلم سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك ]
فإن قيل : فلم نهى خالدا عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضا ؟ و قال : [ لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه ]
قلنا : لأن عبد الرحمن بن عوف و نظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد و أمثاله يعادونه فيه و أنفقوا أموالهم قبل الفتح و قاتلوا و هم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح و قاتلوا و كلا وعد الله الحسنى فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد و نظراؤه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية و قاتل فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله و من لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كنسبة خالد إلى السابقين و أبعد(3/147)
و قوله : [ لا تسبوا أصحابي ] خطاب لكل أحد أن يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة و السلام و هذا كقوله عليه الصلاة و السلام في حديث آخر : [ أيها الناس إني أتيتكم فقلت : إني رسول الله إليكم فقلتم : كذبت و قال أبو بكر : صدقت فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي ] أو كما قال بأبي هو و أمي صلى الله عليه و سلم قال ذلك لما عاير بعض الصحابة أبا بكر و ذاك الرجل من فضلا أصحابه و لكن امتاز أبو بكر عنه بصحته و انفرد بها عنه
و عن محمد بن طلحة المدني عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم ابن ساعدة عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله اختارني و اختار لي أصحابا جعل لي منهم و زراء و أنصارا و أصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا و لا عدلا ] و هذا محفوظ بهذا الإسناد
و قد روى ابن ماجة بهذا الإسناد حديثا و قال أبو حاتم في تحديثه : هذا محله الصدق يكتب حديثه و لا يحتج به على انفراده و معنى هذا الكلام أنه يصلح للاعتبار تحديثه و الاستشهاد به فإذا عضده آخر مثله جاز أن يحتج به و لا يحتج به على انفراده
و عن عبد الله بن مغفل قال : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي من أحبهم فقد أحبني و من أبغضهم فقد أبغضني و من آذاهم فقد آذاني و من آذاني فقد أذى الله و من آذى الله فيوشك أن يأخذه ] رواه الترمذي : و غيره من حديث عبيدة ابن أبي رائطة عن عبد الرحمن ابن زياد عنه و قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
و روى هذا المعنى من حديث أنس أيضا لفظه [ من سب أصحابي فقد سبني و من سبني فقد سب الله ] رواه ابن البناء(3/148)
و عن عطاء بن أبي رباح عن النبي عليه الصلاة و السلام قال : لعن الله من سب أصحابي رواه أبو أحمد الزبيري : حدثنا محمد بن خالد عنه و قد روى عن ابن عمر مرفوعا من وجه آخر و رواهما اللالكائي
و قال علي بن عاصم : أنبأ أبو قحذم حدثني أبو قلابة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا ذكر القدر فأمسكوا و إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ] رواه اللالكائي
و لما جاء فيه من الوعيد قال إبراهيم النخعي : كان يقال : شتم أبي بكر و عمر من الكبائر و كذلك قال أبو إسحاق السبيعي : شتم أبي بكر و عمر من الكبائر التي قال تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [ النساء : 31 ] و إذا كان شتمهم بهذه المثابة فأقل ما فيه التعزير لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد و لا كفارة و قد قال صلى الله عليه و سلم : [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما ] و هذا مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه و العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و التابعين لهم بإحسان و سائر أهل السنة و الجماعة فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم و الاستغفار لهم و الترحم عليهم و الترضي عنهم و اعتقاد محبتهم و موالاتهم و عقوبة من أساء فيهم القول
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 581 ](3/149)
ثم من قال : لا أقتل بشتم غير النبي صلى الله عليه و سلم فإنه يستدل بقصة أبي بكر المتقدمة و هو أن رجلا أغلظ له و في رواية شتمه فقال له أبو برزة : أقتله ؟ فانتهره و قال : ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه و سلم و بأنه كتب إلى المهاجر بن أبي أمية : إن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود كما تقدم و لأن الله تعالى ميز بين مؤذي الله و رسوله و مؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعونا في الدنيا و الآخرة و قال في الثاني : { فقد احتمل بهتانا و إنما مبينا } [ النساء : 114 ] و مطلق البهتان و الإثم ليس بموجب للقتل و إنما هو موجب للعقوبة في الجملة فيكون عليه عقوبة مطلقة و لا يلزم من العقوبة جواز القتل و لأن النبي عليه الصلاة و السلام قال : [ لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو رجل قتل نفسا فيقتل بها ]
و مطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر لأن بعض من كان على عهد النبي عليه الصلاة و السلام كان ربما سب بعضهم بعضا و لم يكفر أحد بذلك و لأن أشخاص الصحابة لا يجب الإيمان بهم بأعيانهم فسب الواحد لا يقدح في الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر
و أما من قال : [ يقتل الساب ] أو قال : [ يكفر ] فلهم دلالات احتجوا بها منها : قوله تعالى : { محمد رسول الله و الذين معه أشداد على الكفار رحماء بينهم ـ إلى قوله تعالى ـ : ليغلظ بهم الكفار } [ الفتح : 29 ] فلا بد أن يغيظ بهما لكفار و إذا كان الكفار يغاظون بهم فمن غيظ بهم فقد شارك الكفار فيما أذلهم الله به و أخزاهم و كتبهم على كفرهم و لا يشارك الكفار في غيظهم الذي كتبوا به جزاء لكفرهم إلا كافر لأن المؤمن لا يكتب جزاء للكفر(3/150)
يوضح ذلك أن قوله تعالى : { ليغيظ بهم الكفار } [ الفتح : 29 ] تعليق للحكم بوصف مشتق مناسب لأن الكفر مناسب لأن يغاظ صاحبه فإذا كان هو الموجب لأن يغيظ الله صاحبه بأصحاب محمد فمن غاظه الله بأصحاب محمد فقد وجد في حقه ذلك و هو الكفر
قال عبد الله بن إدريس الأودي الإمام : ما آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار ـ يعني الرافضة ـ لأن الله تعالى يقول : { ليغيظ بهم الكفار } و هذا معنى قول الإمام أحمد : ما أراه على الإسلام
و من ذلك : ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أبغضهم فقد أبغضني و من آذاهم فقد أذاني و من آذني فقد أذى الله ] و قال : [ فمن سبهم فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين و لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا ] و أذى الله و رسوله كفر موجب للقتل كما تقدم و بهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة و أذى سائر المسلمين و بين أذاهم بعد صحبتهم له فإنه على عهد قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقا و يمكن أن يكون مرتدا فأما إذا مات مقيما على الصحبة النبي صلى الله عليه و سلم و هو غير مزنون بنفاق فأذاه أذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود : اعتبروا الناس بأخدانهم و قالوا :
( عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي )(3/151)
و قال مالك رضي الله عنه : إنما هؤلاء أقوم أرادوا القدح في النبي عليه الصلاة و السلام فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال : رجل سوء و لو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين أو كما قال و ذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله و رسوله و يذب عن رسول الله بنفسه و ماله و يعينه على إظهار دين الله و إعلاء كلمة الله و تبليغ رسالات الله وقت الحاجة و هو حينئذ لم يستقر أمره و لم تنتشر دعوته و لم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه و معلوم أن رجلا لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه و عد ذلك أذى له و إلى هذا أشار ابن عمر قال نسير بن ذعلوق : سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول : [ لا تسبوا أصحاب محمد فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله ] رواه اللالكائي و كأنه أخذه من قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لو اتفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدكم أو نصيفه ] و هذا تفاوت عظيم جدا
و من ذلك : ما روي عن علي رضي الله عنه قال : [ و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق ] رواه مسلم
و من ذلك : ما خرجاه في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ آية الإيمان حب الأنصار و أية النفاق بغض الأنصار ] و في لفظه قال في الأنصار : [ لا يحبهم إلا مؤمن و لا يبغضهم إلا منافق ]
و في الصحيحين أيضا عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الأنصار [ لا يحبهم إلا مؤمن و لا يبغضهم إلا منا فق من أحبهم أحبه الله و من أبغضهم أبغضه الله ]
و لمسلم عن أبي هريرة النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله و اليوم الآخر ]
و روى مسلم في صحيحه أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله و اليوم الآخر ](3/152)
فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب أن يكون منافقا لا يؤمن بالله و لا باليوم الآخر و إنما خص الأنصار ـ و الله أعلم ـ لأنهم هم الذين تبوؤوا الدار و الإيمان من قبل المهاجرين و آووا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نصروه و منعوه و بذلوا في إقامة الدين النفوس و الأموال و عادوا الأحمر و الأسود من أجله و آووا المهاجرين و واسوهم في الأموال و كان المهاجرين إذ ذاك قليلا غرباء فقراء مستضعفين و من عرف السيرة و أيام رسول الله عليه الصلاة و السلام و ما قاموا به من الأمر ثم كان مؤمنا يحب الله و رسوله لم يملك أن لا يحبهم كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم و أراد بذلك ـ و الله أعلم ـ أن يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بأن الناس يكثرون و الأنصار يقلون و أن الأمر سيكون في المهاجرين فمن شارك الأنصار في نصر الله و رسوله بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } [ الصف : 14 ] فبغض من نصر الله و رسوله من أصحابه نفاق
و من هذا : ما رواه طلحة بن مصرف قال : [ كان يقال : بغض بني هاشم نفاق و بغض أبي بكر و عمر نفاق و الشاك في أبي بكر كالشاك في السنة ]
و من ذلك : ما رواه كثير النواء [ عن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : قال رسول الله عليه الصلاة و السلام : يظهر في أمتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام ] هكذا رواه عبد الرحمن بن أحمد في مسند أبيه
و في السنة من وجوه صحيحة عن يحيى بن عقيل : ثنا كثير و رواه أيضا من حديث أبي شهاب عبد ربه بن نافع الحناط عن كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده يرفعه قال : [ يجيء قوم قبل قيام الساعة يسمون الرافضة براء من الإسلام ] و كثير النواء [ و يضعفونه ](3/153)
و روى أبو يحيى الحماني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني ـ أو النخعي ـ عن عمه عن علي قال : قال النبي عليه الصلاة و السلام : [ يا علي أنت و شيعك في الجنة و إن قوما لهم نبز يقال لهم الرافضة إن أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون ] قال علي : ينتحلون حبنا أهل البيت و ليسوا كذلك و آية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر و عمر رضي الله عنهما
و رواه عبد الله بن أحمد : [ حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ثنا أبو يحيى و رواه أبو بكر الأثرم في سننه : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي جناب عن أبي سليمان الهمداني عن رجل من قومه قال : قال علي : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أدلك على عمل إن عملته كنت من أهل الجنة ؟ و أنك من أهل الجنة إنه سيكون بعدنا قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة فإن أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون ] قال : و قال علي رضي الله عنه : سيكون بعدنا قوم سيكون ينتحلون مودتنا يكذبون علينا مارقة آية ذلك أنهم يسبون أبا بكر و عمر رضي الله عنهما
و رواه أبو القاسم البغوي : حدثنا سويد بن سعيد حدثنا محمد بن حازم عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي رضي الله عنه قال : [ يخرج في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة يعرفون به و ينتحلون شيعتنا و ليسوا من شيعتنا و آية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر و عمر و أينما أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون ]
و قال سويد : حدثنا مروان بن معاوية عن حماد بن كيسان عن أبيه و كانت أخته سرية لعلي رضي الله عنه قال : سمعت عليا يقول : [ يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يسمون الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون ] فهذا الموقوف على علي رضي الله عنه شاهد في المعنى لذلك المرفوع
و روي هذا المعنى مرفوعا من حديث أم سلمة و في إسناده سوار بن مصعب و هو متروك(3/154)
و روى ابن بطة بإسناده عن أنس قال : رسول الله عليه الصلاة و السلام [ [ إن الله ] اختارني و اختار أصحابي فجعلهم أنصاري و جعلهم أصهاري و إنه سيجيء في آخر الزمان قوم يبغضوهم ألا فلا تواكلوهم و لا تشاربوهم ألا فلا تناكحوهم ألا فلا تصلوا معهم و لا تصلوا عليهم عليهم حلت اللعنة ] و في هذا الحديث نظر
و روى ما هو أغرب من هذا و أضعف رواه ابن البناء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و لا تسبوا أصحابي فإن كفارتهم القتل ]
و أيضا فإن هذا مأثور عن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فروى أبو الأحوص عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال : بلغ علي بن أبي طالب أن عبد الله بن سوداء يبغض أبا بكر و عمر فهم يقتله فقيل له : تقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت ؟ فقال : لا يساكنني في دار أبدا
و في رواية عن شباك قال : بلغ عليا أن ابن السوداء يبغض أبا بكر و عمر قال : فدعاه و دعا بالسيف أو قال : فهم بقتله فكلم فيه فقال : لا يساكنني ببلد أنا فيه فنفاه إلى المدائن و هذا محفوظ عن أبي الأحوص و قد رواه النجاد و ابن بطة و اللالكائي و غيرهم و مراسيل إبراهيم جياد و لا يظهر عن علي رضي الله عنه أنه يريد قتل رجل إلا و قتله حلال عنده و يشبه ـ و الله أعلم ـ أن يكون إنما تركه خوف الفتنة بقتله كما كان النبي عليه الصلاة و السلام يمسك عن قتل بعض المنافقين فإن الناس تشتتت قلوبهم عقب فتنة عثمان رضي الله عنه و صار في عسكره من أهل الفتنة أقوام لهم عشائر لو أراد الانتصار منهم لغضبت لهم عشائرهم و بسبب هذا و شبهه كانت فتنة الجمل(3/155)
و عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قال : قلت لأبي : يا أبت لو كنت سمعت رجلا يسب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالكفر أكنت تضرب عنقه ؟ قال : نعم رواه الإمام أحمد و غيره و رواه ابن عيينة عن خلف ابن خوشب عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال : قلت لأبي : لو أتيت برجل يسب أبا بكر ما كنت صانعا ؟ قال : أضرب عنقه قلت : فعمر ؟ قال : أضرب عنقه و عبد الرحمن بن أبزى من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أدركه و صلى خلفه و أقره عمر رضي الله عنه عاملآ على مكة و قال : هو ممن رفعه الله بالقرآن بعد أن قيل له : إنه عالم بالفرائض قارئ لكتاب الله و استعمله علي رضي الله عنه على خراسان
و روى قيس بن الربيع عن وائل عن البهي قال : وقع بين عبد الله بن عمر و بين المقداد كلام فشتم عبيد الله المقداد فقال عمر : [ علي بالحداد أقطع لسانه لا يجترئ أحد بعده يشتم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ] و في رواية : [ فهم عمر بقطع لسانه فكلمه فيه أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فقال : ذروني أقطع لسان ابني لا يجترئ أحد بعده يسب أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم رواه حنبل و ابن بطة و اللالكائي و غيرهم و لعل عمر إنما كف عنه لما شفع فيه أصحاب الحق و هم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و لعل المقداد كان فيهم ]
و عن عمر بن الخطاب أنه أتي بأعرابي يهجو الأنصار فقال : [ لولا أن له صحبة لكفيتكموه ] رواه أبو ذر الهروي(3/156)
و يؤيد ذلك ما روى الحكم بن حجل قال : [ سمعت عليا يقول لا يفضلني أحد على أبي بكر و عمر رضي الله عنهما إلا جلدته حد المفتري ] و عن علمقة بن قيس قال : خطبنا علي رضي الله عنه فقال : [ إنه بلغني أن قوما يفضلونني على أبي بكر عمر و لو كنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه و لكني أكره العقوبة قبل التقدم و من قال شيئا من ذلك فهو مفتر عليه ما على المفتري خير الناس كان بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ] رواهما عبد الله ابن أحمد و روى ذلك ابن بطة و اللالكائي من حديث سويد بن غفلة عن علي في خطبة طويلة خطبها
و روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن أبي ليلى قال : [ تداروا في أبي بكر و عمر فقال رجل من عطارد : عمر أفضل من أبي بكر فقال الجارود : بل أبو بكر أفضل منه قال : فبلغ ذلك عمر قال : فجعل يضربه ضربا بالدرة حتى شغر برجله ثم أقبل إلى الجارود فقال : إليك عنى ثم قال عمر : أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله عليه الصلاة و السلام في كذا و كذا ثم قال عمر : من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري ]
فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر و علي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضل عليا على أبي بكر و عمر أو من يفضل عمر على أبي بكر ـ مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب و لا عيب ـ علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير
الصارم المسلول [ جزء 1 - صفحة 590 ]
أما من اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو أنه كان هو النبي و إنما غلط جبرئيل في الرسالة فهذا لا شك في كفره بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره
و كذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات و كتمت أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة و نحو ذلك و هؤلاء يسمون القرامطة و الباطنية و منهم التناسخية و هؤلاء لا خلاف في كفرهم(3/157)
و أما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم و لا في دينهم ـ مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد و نحو ذلك ـ فهذا هو الذي يستحق التأديب و التعزير و لا نحكم بكفره بمجرد ذلك و على هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم
و أما من لعن و قبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ و لعن الاعتقاد
و أما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة و السلام إلا نفرا قليلا يبلغون بضعة عشر نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع : من الرضى عنهم و الثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب و السنة كفار أو فساق و أن هذه الآية التي هي { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] و خيرها هو القرآن الأول كان عامتهم كفارا أو فساقا ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم و أن سابقي هذه الأمة هم شرارهم و كفر هذا مما يعلم باضطرار من دين الإسلام
و لهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق و عامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم و قد ظهرت لله فيهم مثلات و تواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا و الممات و جمع العلماء ما بلغهم في ذلك ممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب و ما جاء فيه من الإثم و العقاب
و بالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره و منهم من لا يحكم بكفره و منهم من تردد فيه و ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك و إنما ذكرنا هذه المسائل لأنها من تمام الكلام في المسألة التي قصدنا لها
فهذا ما تيسر من الكلام في هذا الباب ذكرنا ما يسره الله و اقتضاه الوقت و الله سبحانه يجعله لوجهه خالصا و ينفع به و يستعملنا فيما يرضاه من القول و العمل(3/158)
و الحمد لله رب العالمين و صلى الله عل سيدنا و مولانا محمد و آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا كثيرا
* * *
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات و الصلاة و السلام على رسوله المؤيد بباهر المعجزات و على آله و صحبه ذوي المروءات و على علماء أمته الذين اهتدوا بهداه و وفقهم الله لما يحبه و يرضاه(3/159)