كتاب الرد على الأخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية
____________________
(1/1)
* بسم الله الرحمن الرحيم *
[ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه وأكمل له ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة وجعلهم خير أمة أخرجت للناس وان أعظم نعمة أنعم الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم كتاب الله الذي لا تفنى عجائبه ولا يحاط بمعجزاته وقد أوتي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب ومثله معه من السنة التي كان ينزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم كما كان ينزل بالقرآن فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن فالذي بلغه للناس صلى الله عليه وسلم من آيات ربه وما ثبت عنه في الصحيح من سنته الشريفة ] ليس عن هوى النفس كما أنه ليس من الظن كحال الذين هم له مخالفون بل هو { وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى } أيها الجاهلون والذين أوتوا العلم يرون أن ما أنزل إليه من ربه { هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } فهم له يتبعون فلهذا كان أفضل الخلق وأقربهم إلى الله من كات أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأضلهم واشقاهم من كان أبعد عن ذلك وهم الأخسرون وقد يتفق من يكون فيه معرفة لبعض ما جاء به لكن
____________________
(1/3)
لم يتبعه فيكون مشابها لليهود ومن كان يخالف ما جاء به جهلا وضلالا كان كالنصارى الذين هم في دينهم يغلون والله هو المسئول أن يجعلنا وإخواننا من عبادة الذيم هم بكتاب الله يهتدون وبرسول الله يؤمنون وبحبل اللع يعتصمون ولأولياء الله يوالون ولأعدائه يعادون وفي سبيله يجاهدون ولطريقي المغضوب عليهم والضالين يجتنبون وللسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان يتبعون
أما بعد ان الى علمائهم وعبادهم وملوكهم وسوقتهم فليس لأحد وإن عظم علمه وعبادته وملكه وسلطانه أن يعدل عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يخالفه في شيء من الأمور الدينية باطنها وظاهرها وشرائعها وحقائقها بل على جميع الخلق أن يتبعوه ويسلموا لحكمه قال الله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } الآية وقال تعالى { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } كما قال في سورة البقرة { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } الآية وفي صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك انك تهدي من
____________________
(1/4)
تشاء إلى صراط مستقيم وقد علق سبحانه بطاعته [ الفوز ] فقال في ذم المنافقين { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } إلى قوله { فأولئك هم الفائزون } إلى قوله { وما على الرسول إلا البلاغ المبين }
وهذا الاصل متفق عليه بين كل من آمن به الايمان الواجب الذي فرضه الله على الخلق وكل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع كما قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وهذا تبيين لقوله تعالى { اتقوا الله حق تقاته } قال ابن مسعود حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر لكن الأمر مشروط بالاستطاعة كما بينه في قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } فقد يخفى على الانسان بعض سنة الرسول وأمره مع اجتهاده في طاعته فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران واذا اجتهد فأخطأ وفله أجر أخرجاه في الصحيحين وقد يقول الرجل ويحكم بغير علم فيأثم على ذلك كما يأثم إذا قال بخلاف ما يعلمه من الحق وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناسس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار وقد ذم الله القول بغير علم ونهى عنه في غير موضع من كتابه قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي } الآية وقال تعالى عن الشيطان { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال فيما يخاطب به أهل الكتاب { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } الآية وقال { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه } وقال
____________________
(1/5)
{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } وجعل العامل بغير علم كاذبا والصادق هو الذي يتكلم بعلم فقال تعالى { آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } وقال تعالى { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } لا سيما أهل الشرك فانه وصفهم بالافك مع الشرك وقرن الكذب بالشرك كما قرن الصدق الاخلاص ولهذا يقرن بين المنافقين أهل الكذب وبين المشركين في مثل قوله { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } الى قوله { وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } وقال تعالى { واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء } وقال عن أهل الكهف { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين } الآية وقال عن الخليل { إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } وقال لأبيه وقومه { ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون } ومثل هذا مذكور في غير موضع من القرآن وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك جهلا وضلالا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع
والله سبحانه وتعالى قد أرسل جميع رسله وأنزل جميع كتبه بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له لا يعبد معه لا ملك ولا نبي ولا صالح ولا تماثيلهم ولا قبورهم ولا شمس ولا قمر ولا كوكب ولا ما صنع من التماثيل لأجلهم ولا شيء من الاشياء وبين أن كل ما يعبد من دونه فانه لا يضر ولا ينفع وإن كان ملكا أو نبيا وأن عبادته كفر فقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } الى قوله { محذورا } بين سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والجن والإنس لا يملكون كشف الضر ولا تحويله وأن هؤلاء المدعوين من الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه وكذلك كان قوم من الإنس
____________________
(1/6)
يعبدون رجالا من الجن فآمن الجن المعبودون وبقي عابدوهم يعبدونهم كما ذكر ذلك ابن مسعود وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة } الى قوله { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } بين سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والبشر وغيرهم ليس لهم مثقال ذرة في السموات والأرض ولا لهم نصيب فيهما وليس لله ظهير يعاونه من خلقه وهذه الأقسام الثلاثة هي التي تحصل مع المخلوقين إما أن يكون لغيره ملك دونه أو يكون شريكا له أو يكون معينا وظهيرا له والرب تعالى ليس له من خلقه مالك ولا شريك ولا ظهير لم يبق إلا الشفاعة وهو دعاء الشافع وسؤاله لله في المشفوع له فقال تعالى { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } ثم إنه خص بالذكر الملائكة والأنبياء في قوله { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة } الى قوله { بعد إذ أنتم مسلمون } بين أن اتخاذهم أربابا كفر وقال تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح } الى قوله { والله هو السميع العليم } فقد بين أن من دعا المسيح وغيره فقد دعا ما لا يملك ضرا ولا نفعا وقال لخاتم الرسل { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } وقال { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } وقال { قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله } وقال { إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } وقال { ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } وقال { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } وقال { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل }
( فصل ) قد أرسل إلى بعض أصحابنا جزءا أخبر أنه صنفه بعض القضاة قد تكلم
____________________
(1/7)
في المسألة التي انتشر الكلام فيها وهي السفر إلى غير المساجد الثلاثة كالسفر إلى زيارة القبور هل هو محرم أو مباح أو مستحب وهي المسألة التي أجبت فيها من مدة بضع عشرة سنة بالقاهرة فأظهرها بعض الناس في هذا الوقت ظنا أن الذي لا خلاف الإجماع وأن السفر لمجرد قبور الأنبياء والصالحين هو مثل السفر المستحب بلا نزاع وهو السفر إلى مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم المتضمن لما شرعه الله من السفر إلى مسجده والصلاة فيه والسلام عليه ومحبته وتعظيمه وغير ذلك من حقوقه صلى الله عليه وسلم في مسجده المؤسس على التقوى المجاور لقبره صلى الله عليه وسلم وظنوا أن السفر لزيارة قبور جميع الأنبياء والصالحين مستحب مجمع على استحبابه مثل هذا السفر المشروع بالنص وإجماع المسلمين إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سواء سافر مع حج البيت أو بدون حج البيت فان هذا السفر المشروع إلى مدينته بالنص والاجماع لا يختص بوقت الحج فان المسلمين على عهد خلفائه الراشدين كانوا يحجون ويرجعون إلى أوطانهم ثم ينشئ السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من ينشئه لأنه عبادة مستقلة بنفسها كالسفر إلى بيت المقدس والسفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من السفر إلى المسجد الأقصى بالنص والاجماع فظن من ظن أن السفر مشروع هو لمجرد القبر لا لأجل المسجد وأن المسجد يدخل ضمنا وتبعا في السفر وأن قبور سائر الأنبياء كذلك أو أن المسافرين لمجرد القبور سفرهم مشروع كالسفر إلى المساجد الثلاثة ومن الناس من ظن أنه أفضل من السفر إلى المساجد الثلاثة حتى صرحوا بأنه أفضل من الحج وأن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من الدعاء في المسجد الحرام ومسجد الرسول وعرفة ومزدلفة ومنى وغير ذلك من المساجد والمشاعر التي أمر الله ورسوله بالعبادة فيها والدعاء والذكر فيها وظن من ظن أن هذا مجمع عليه وأن من قال السفر لغير المساجد الثلاثة سواء كان لقبر نبي أو غير نبي منهي عنه أو أنه مبا ليس بمستحب فقد خالف الإجماع وليس معهم بما ظنوه نقل عن أحد أئمة الدين الذين لهم في الأمة لسان صدق ولا حجة من كتاب الله ولا سنة رسوله بل الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة المشهورون وغيرهم على خلاف ما ظنه فاجماع أهل العلم الذين تحزى أقوالهم في مسائل
____________________
(1/8)
الإجماع والنزاع هو على خلاف ما ظنه الغالطون إجماعا وجرت في ذلك فصول
لكن المقصود هنا أنه أرسل إلي ما كتبه هذا القاضي وأقسم بالله علي أن أكتب عليه شيئا ليظهر للناس جهل هؤلاء الذين يتكلمون في الدين بغير علم وذلك أنهم رأوا في كلامه من الجهل والكذب والضلال مالا يظن أن يقع فيه آحاد العلماء الذين يعرفون ما يقولون فكيف بمن سمى قاضي القضاة
ورأيت كلامه يدل على أن عنده نوعا من الدين كما عند كثير من الناس نوع من الدين لكن مع جهل وسوء فهم وقلة علم حتى قد يجهل دين الرسول الذي هو يؤمن به ويكفر من قال بقول الرسول وصدق خبره وأطاع أمره وقد يجهل أحدهم مذهبه الذي انتسب إليه كما قد يجهل مذهب مالك وغيره من أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم فان هذه المسألة التي فيها النزاع وهي التي أجبت فيها وإن كانت في كتب أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وقد ذكروا القولين وأبو حنيفة مذهبه في ذلك أبلغ من مذهب الشافعي وأحمد فهي في كلام مالك وأصحابه أكثر وهي موجودة في كتبهم الصغار والكبار ومالك نفسه نص على قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بخصوصه أنه داهل في هذا الحديث بخلاف كثير من الفقهاء فان كلامهم عام لكن احتجاجهم بالحديث وغيره يبين أنهم قصدوا العموم وكذلك بيانهم لمأخذ المسألة يقتضي العموم فهذا المعترض وأمثاله لا عرفوا ما قاله أئمتهم وأصحاب أئمتهم ولا ما قاله بقية علماء المسلمين ولا عرفوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين ولا ما كان يفعله الصحابة والتابعون لهم بإحسان
ونقل هذا المعارض عن الجواب ما ليس فيه بل المعروف المتواتر عن المجيب في جميع كتبه وكلامه بخلافه وليس في الجواب ما يدل عليه بل على نقيض ما قاله وهذا إما أن يكون عن تعمد للكذب أو عن سوء فهم مقرون بسوء الظن وما تهوى الأنفس وهذا أشبه الأمرين به فان من الناس من يكون عنده نوع من الدين مع جهل عظيم فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم فيخطئ ويخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرا غير مطابق ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام وأخطأ فانه كاذب آثم
____________________
(1/9)
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة فهذا الذي يجهل وأن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر فهذا جعل له أجرا مع خطأه لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوغ له الكلام فان هذا كما في الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وفي رواية بغير علم وفي حديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء فاذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وفي رواية للبخاري فأفتوا برأيهم وهذا بخلاف المجتهد الذي اتقى الله ما استطاع وابتغى طلب العلم بحسب الامكان وتكلم ابتغاء وجه الله وعلم رجحان دليل على دليل فقال بموجب الراجح فهذا مطيع لله مأجور أجرين إن أصاب وإن أخطأ أجرا واحدا ومن قال كل مجتهد نصيب بمعنى أنه مطيع للع فقد صدق ومن قال المصيب لا يكون إلا واحدا وان الحق لا يكون إلا واحدا ومن لم يعلمه فقد أخطأ بمعنى أنه لم يعلم الحق في نفس الأمر فقد صدق كما بسط هذا في مواضع
والمقصود أن من تكلم بلا علم يسوغ وقال غير الحق فانه يسمى كاذبا فكيف بمن ينقل عن كلام موجود خلاف ما هو فيه مما يعرف كل من تدبر الكلام أن هذا نقل باطل فان مثل هذا الكذب ظاهر والأول على صاحبه إثم الكذب ويطلق عليه الكذب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كذب أبو السنابل وكما قال لما قيل له
____________________
(1/10)
إنهم يقولون إن عامرا بطل عمله قتل نفسه فقال كذب من قال ذلك وكما قال عبادة كذب أبو محمد لما قال الوتر واجب وقال ابن عباس كذب نوف لما قال إن موسى صاحب بني اسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر ومثل هذا كثير فاذا كان هذا الخبر الذي ليس بمطابق يسمى كذبا فما هو كذب ظاهر أولى ومثل هذا إذا حكم بين الناس بالجهل فهو أحد القضاة الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار وإن قيل فيه قد يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له فحكمه الذي أخطأ فيه وخالف فيه النص والاجماع باطل باتفاق العلماء وكذلك حكم من شاركه في ذلك وكلام هذا وأمثاله يدل على أنهم بعيدون عن معرفة الصواب في هذا الباب كأنهم غرباء عن دين الاسلام في مثل هذه المسائل لم يتدبروا القرآن ولا عرفوا السنن ولا آثار الصحابة ولا التابعين ولا كلام أئمة المسلمين وفي مثل هؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فشريعة الاسلام في هذا الباب غريبة عند هؤلاء لا يعرفونها فان هذا وأمثاله لو كان عندهم علم بنوع من أنواع الأدلة الشرعية في هذا الباب لوزعهم ذلك عما عليه جميع أئمة الدين مع ما فيه من الافتراء على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى علماء المسلمين وعلى المجيب
والاستدلال على ما ذكروه بما لا يصلح أن يكون دليلا إما حديث صحيح لا يدل على المطلوب وإما خبر معتل مكذوب والمستدل بالحديث عليه أن يبين صحته ويبين دلالته على مطلوبه وهذا المعترض لم يجمع في حديث واحد بين هذا وهذا بل إن ذكر
____________________
(1/11)
صحيحا لم يكن دالا على محل النزاع وإن اشار إلى ما يدل لم يكن ثابتا عند أهل العلم بالحديث الذين يعتد بهم في الاجماع والنزاع فأما ما فيه من الافتراء والكذب على المجيب فليس المقصود الجواب عنه وله أسوة أمثاله من أهل الافك والزور وقد قال الله تعالى { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم } بل المقصود الانتصار لله ولكتابه ولرسوله ولدينه وبيان جهل الجاهل الذي يتكلم في الدين بالباطل وبغير علم فأذكر ما يتعلق بالمسألة وبالجواب وليس المقصود أيضا العدوان على أحد لا المعترض ولا غيره ولا بخس حقه ولا تخصيصه بما لا يختص به مما يشركه فيه غيره بل المقصود الكلام بموجب العلم والعدل والدين كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } وليس أيضا المقصود ذم شخص معين بل المقصود بيان ما يذم وينهى عنه ويحذر عنه من الخطأ والضلال في هذا الباب كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما بال رجال يقولون أو يفعلون كذا فيذم ذلك الفعل ويحذر عن ذلك النوع وليس مقصوده إياذاء شخص معين ولكن لما كان هذا صنف مصنفا وأظهره وشهره لم يكن بد من حكاية ألفاظه والرد عليه وعلى من هو مثله ممن ينتسب إلى علم ودين ويتكلم في هذه المسألة بما يناقض دين المسلمين حيث يجعل ما بعث الله به رسوله كفرا وهذا رأس هؤلاء المبدلين فالرد عليه رد عليهم & فصل &
قال المعترض أما بعد فان العبد لما وقف على الكلام المنسوب لابن تيمية المنقول عنه من نسخة فتياه ظهر لي من صريح ذلك القول وفحواه مقصده السيء ومغزاه وهو تحريم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر إليها ودعواه أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها
فيقال هذا الكلام مع قلته فيه من الكذب الباطل والافتراء ما يلحق صاحبه
____________________
(1/12)
بالكذابين المردودي الشهادة أو الجهال البالغين في نقص الفهم والبلادة وكان ينبغي له أن يحكي لفظ المجيب بعينه ويبين ما فيه من الفساد وأن يذكر معناه فيسلك طريق الهدي والسداد فأما أن يذكر عنه ما ليس فيه ولا يذكر ما فيه فهذا خروج عن الصدق والعدل إلى الكذب والظلم وذلك أن الجواب ليس فيه تحريم زيارة القبور البتة لا قبور الأنبياء والصالحين ولا غيره ولا كان السؤال عن هذا وانما فيه الجواب عن السفر الى القبور وذكر قولي العلماء في ذلك والمجيب قد عرفت كتبه وفتاويه مشحونة باستحباب زيارة القبور وفي جميع مناسكه يذكر استحباب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد ويذكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل مسجده والأدب في ذلك وما قاله العلماء وفي نفس الجواب قد ذكر ذلك ولم يذكر قط أن زيارة القبور معصية ولا حكاه على أحد بل كان يعتقد حين كتب هذا الجواب أن زيارة القبور مستحبة بالاجماع ثم رأى بعد ذلك فيها نزاعا وهو نزاع مرجوح والصحيح أنها مستحبة وهو في هذا الجواب إنما ذكر القولين في السفر إلى القبور وذكر أحد القولين أن ذلك معصية ولم يقل إن هذا معصية محرمة مجمع عليها لكن قال إذا كان السفر إليها ليس للعلماء فيه إلا قولان قول من يقول إنه معصية وقول من يقول إنه ليس بمحرم بل لا فضيلة فيه وليس بمستحب فاذن من اعتقد أن السفر لزيارة قبورهم أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أن ذلك طاعة كان ذلك محرما بالإجماع فهذا الإجماع حكاه لأن علماء المسلمين الذين رأينا أقوالهم اختلفوا في قوله لا تشد الرحال إلا الى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى هل هو تحريم لذلك أو نفي لفضيلته على قولين عامة المتقدمين على الأول مع اتفاقهم على أن هذا يتناول السفر إلى القبور فان الصحابة والتابعين والأئمة لم يعرف عنهم نزاع في أن السفر إلى القبور وآثار الأنبياء داخل هذا النهي كالسفر الى الطور الذي كلم الله عليه موسى وغيره وأن كان الله سماه الوادي المقدس وسماه البقعة المباركة ونحو ذلك فلم يعرف عن الصحابة نزاع أن هذا وأمثاله داخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة كما لم يعرف
____________________
(1/13)
عنهم نزاع أن ذلك منهي عنه وأن قوله لا تشد الرحال ني بصيغة الخبر كما قد جاء في الصحيح بصيغة النهي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الاقصى فالصحابة ومن تبعهم لم يعرف عنهم نزاع أن هذا نهي منه فان لفظه صلى الله عليه وسلم صريح في النهي ولم يعرف عنهم نزاع أن النهي متناول للسفر إلى البقاع المعظمة غير المساجد سواء كان النهي عنها بطريق فحوى الخطاب وأنه إذا نهى عن السفر إلى مسجد غير الثلاثة فالنهي عن السفر إلى ما ليس بمسجد اولى أو كان بطريق شمول اللفظ فالصحابة الذين رووا هذا الحديث بينوا عمومه لغير المساجد كما في الموطأ والمسند والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لابي هريرة من أين أقبلت قال من الطور فقال لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو قال بيت المقدس وقال أبو زيد عمر بن شبة النميري في كتاب أخبار المدينة النبوية حدثنا هشام بن عبد الملك حدثنا عبد الحميد بن بهرام حدثنا شهر بن حوشب سمعت أبا سعيد الخدري وذكر عنده الصلاة في الطور فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الاقصى ومسجدي هذا فهذا فيه أنه رواه بلفظ مسجد وبين أن النهي متناول للطور وان لم يكن مسجدا بطريق الأولى فان الذين يقصدون الطور ومثله لا يقصدونه لأنه مسجد بل ولم يكن هناك قرية يتخذ المسلمون فيها مسجدا وبناء المسجد حيث لا يصلى فيه بدعة وإنما يقصدونه لشرف البقعة فعلم أن النهي عن المساجد نهى عن غيرها بطريق الأولى وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أحب البقاع إلى الله المساجد فاذا كان قد حرم السفر إلى أحل البقاع الى الله غير الثلاثة فما دونها في الفضيلة أولى أن ينهى عنه كما قال الصحابة ومنهم أيضا ابن عمر قال أبو زيد حدثنا ابن أبي الوزير حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن
____________________
(1/14)
طلق عن قزعة قال أتيت ابن عمر فقلت إني أريد الطور فقال إنما تشد الرحال الى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى فدع عنك الطور فلا تأته
لكن طائفة من المتأخرين قالوا ليس هذا نهيا بل هو نفي لاستحباب السفر إلى غير الثلاثة ونفي لوجوب السفر بالنذر إلى غير الثلاثة وهؤلاء يقولون إن الحديث عام في السفر إلى قبور الأنبياء وآثارهم وغير ذلك
وقال ابن حزم الظاهري السفر الى مسجد غير المساجد الثلاثة حرام وأما السفر إلى آثار الأنبياء فذلك مستحب ولأنه ظاهري لا يقول بفحوى الخطاب وهو إحدى الروايتين عن داود الظاهري فلا يقول إن قوله { فلا تقل لهما أف } يدل على النهي عن الضرب والشتم ولا إن قوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } يدل على تحريم القتل مع الغنى واليسار وأمثال ذلك مما يخالفه فيه عامة علماء المسلمين ويقطعون بخطأ من قال مثل ذلك فينسبونه إلى عدم الفهم ونقص العقل ومع هذا فلم أجده ذكر ذلك إلا في آثار الأنبياء لا في القبور
وأما السفر إلى مجرد زيارة القبور فما رأيت أحدا من علماء المسلمين قال إنه مستحب وإنما تنازعوا هل هو منهي عنه أو مباح وهذا الإجماع والنزاع لم يتناول المعنى الذي أراده العلماء بقولهم يستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا إطلاق القول بأنه يستحب السفر لزيارة قبره كما هو موجود في كلام كثير منهم فانهم يذكرون الحج ويقولون يستحب للحاج أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا إنما يمكن مع السفر لم يريدوا بذلك زيارة القريب بل أرادوا زيارة البعيد فعلم أنهم قالوا يستحب السفر الى زيارة قبره لكن مرادهم بذلك هو السفر إلى كسجده إذ كان المصلون والزوار لا يصلون إلا إلى مسجده لا يصل أحد إلى قبره ولا يدخل إلى حجرته ولكن قد يقال هذا في الحقيقة ليس زيارة لقبره ولهذا من كره من العلماء أن يقال زرت قبره ومنهم من لم يكرهه والطائفتان متفقون على أنه لا يزار قبره كما تزار القبور بل إنما يدخل إلى مسجده وأيضا فالنية
____________________
(1/15)
في السفر إلى مسجده وزيارة قبره مختلفة فمن قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه فهذا مشروع بالنص والإجماع وإن كان لم يقصد إلا القبر فهذا مورد النزاع فمالك والأكثرون يحرمون هذا السفر وكثير من الذين يحرمونه لا يجوزون قصر الصلاة فيه وآخرون يجعلونه سفرا جائزا وإن كان غير مستحب ولا واجب بالنذر
وأما من كان قصده السفر إلى مسجده وقبره معا فهذا قد قصد مستحبا مشروعا بالإجماع وهذا لم يكن في الجواب تعرض لهذا والجواب في السؤال كان عمن سافر لا يقصد إلا زيارة القبور لا يقصد سفرا شرعيا كالسفر إلى مكة وإلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى ولم يكن السؤال ولا الجواب عمن سافر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وان قصد مع ذلك السفر إلى قبره فان هذا لم تجمع العلماء على أنه سفر غير مستحب بل أصحاب أحمد لهم في المسافر الى القبور هل يقصر الصلاة أربعة أوجه قيل يقصر مطلقا وقيل لا يقصر مطلقا وقيل لا يقصر إلا إلى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم وقيل إلى قبور الأنبياء مطلقا فهذان الوجهان من لم يعرفهما تخبط في هذه المسائل فيعرف العمل الممكن المشروع والقصد في ذلك ليظهر له الفرق بين الرسول وبين غيره من جهة الفعل والقصد فان السفر المسمى زيارة له إنما هو سفر إلى مسجده وقد ثبت بالنص والإجماع أن المسافر ينبغي له أن يقصد السفر إلى مسجده والصلاة فيه وعلى هذا فقد يقال نهيه عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد لا يتناول شدها إلى قبره فان ذلك غير ممكن لم يبق إلا شدها إلى مسجده وذلك مشروع بخلاف غيره فانه يمكن زيارته فيمكن شد الرحل اليه لكن يبقى قصد المسافر ونيته ومسمى الزيارة في لغته هل قصده مجرد القبر أو المسجد أو كلاهما كما قال مالك لمن سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء لا يعمل المطي إلا إلا ثلاثة مساجد فهذا السائل من عرفه أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم تتناول من أتى المسجد وكان قصدة القبر ومن أتاه وقصده المسجد وهذا عرف عامة الناس المتأخرين يسمون هذا كله زيارة لقبره ولم يكن
____________________
(1/16)
هذا لغة السلف من الصحابة والتابعين لهم باحسان بل تغير الاصطلاح في مسمى اللفظ والمقصود به وهو صلى الله عليه وسلم لا يشرع للقريب من زيارته ما نهى عنه المسافر الذي يشد الرحل بخلاف غيره فلا يقال إن زيارته بلا شد رحل مشروعة ومع شد الرحل منهي عنها كما يقال في سائر المشاهد وفي قبور الشهداء وغيرهم من أموات المسلمين إذ لم يشرع للمقيمين بالمدينة من زيارته ما ينهى عنها المسافرون بل جميع الأمة مشتركون فيما يؤمرون به من حقوقه حيث كانوا بل قد قيل إن الأمر بالعكس وأنه يستحب للمسافر من السلام عليه والوقوف على قبره مالا يستحب لأهل البلد وإذا كان لا يمكن إلا العبادة في مسجده فهذا مشروع لمن شد الرحل ومن لم يشده تبقى النية كما ذكر مالك وهذه النية التي يقصد صاحبها القبر دون المسجد قد نص مالك وغيره على أنها مكروهة لأهل المدينة قصدا وفعلا فيكره لهم كلما دخلوا المسجد أو خرجوا منه أن يأتوا القبر وقد ذكر مالك أن هذا بدعة لم يبلغه عن أحد من السلف ونهى عنها وقال لن يصلح آخر هذه الامة إلا ما أصلح أولها فالذي يقصد مجرد القبر ولا يقصد المسجد خالف الحديث والإجماع فانه قد ثبت عنه في الصحيح أن السفر الى مسجده مستحب وأن الصلاة فيه بألف صلاة واتفق المسلمون على ذلك وعلى أن مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام وقال بعضهم أنه أفضل من المسجد الحرام ومسجده يستحب السفر إليه والصلاة فيه مفضلة لخصوص كونه مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بناه هو وأصحابه وكان يصلي فيه هو وأصحابه فهذه الفضيلة ثابتة للمسجد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدفن في حجرة عائشة وكذلك هي ثابتة بعد موته ليست فضيلة المسجد لأجل مجاورة القبر كما أن المسجد الحرام مفضل لا لأجل قبر وكذلك المسجد الأقصى مفضل لا لأجل قبر فكيف لا يكون مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مفضلا لا لأجل قبر فمن ظن أن فضيلته لأجل القبر أو أنه إنما يستحب السفر إليه لأجل القبر فهو جاهل مفرط في الجهل مخالف لاجماع المسلمين ولما علم من سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهذا تنقص بالرسول وبقوله ودينه مكذب له فيما قاله مبطل لما شرعه وإن ظن أنه يعظمه كما أن النصارى يكذبون كثيرا
____________________
(1/17)
مما أخبر به المسيح عن ربه عز وجل ودينه ويظنون ذلك تعظيما له ولدينه وإنما تعظيم الرسل بتصديقهم فيما أخبروا به عن الله وطاعتهم فيما أمروا به ومتابعتهم ومحبتهم وموالاتهم لا التكذيب بما أرسلوا به والاشراك بهم والغلو فيهم بل هذا كفر بهم وطعن فيهم ومعاداة لهم
والمقصود أن كل من قصد السفر إلى المدينة فعليه أن يقصد السفر إلى المسجد والصلاة فيه كما إذا سافر إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى وإذا سافر إلى القبر دون المسجد وجعل المسجد لا يسافر إليه إلا لأجل القبر واعتقد أن السفر إليه تبعا للقبر كما يسافر إلى قبور سائر الصالحين ويصلى في المسجد هناك فمن جعل السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبره كالسفر إلى هؤلاء والمساجد التي عندهم فقد خالف إجماع المسلمين وخرج عن شريعة سيد المرسلين وما سنة لامته الغر الميامين بخلاف الذي قصد المسجد وإلا فمن جهة العمل لا يمكن أحدا أن يفعل عند قبره لا سنة ولا بدعة إنما يفعل ذلك في المسجد فمن فعل فيه سنة حمد عليها وأجر عليها ومن فعل فيه بدعة ذم ونهي عنها ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال المدينة حرم ما بين عير الى ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا والله سبحانه قد فرق بين قبر رسوله وقبر غيره فانهم دفنوه بالحجرة لم يبرزوا قبره كما كانوا يبرزون قبورهم خوفا أن يتخذ مسجدا ثم إنهم منعوا الناس من زيارته كما يزورون القبور فلم يكونوا يمكنون الناس من الدخول الى قبره لزيارته ثم إنهم سدوا باب الحجرة وبنوا عليها حائطا آخر فلم يبق أحد متمكنا من زيارته كما تزار القبور ولهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بهذا الاسم في حقه فقال تستحب زيارة قبره أو لا تستحب أو نحو ذلك ولا علق بهذا الاسم حكما شرعيا وقد ذكره من كره من العلماء التكلم به وذلك اسم لا مسمى له ولفظ لا حقيقة له وإنما تكلم به من تكلم من المتأخرين ومع هذا فلم يريدوا به ما هو المعروف من زيارة القبور فانه معلوم أن الذاهب إلى هناك إنما يصل الى مسجده ليس هناك زيارة تفعل في غير مسجده ولو
____________________
(1/18)
قدر أنه وقف في الطريق من جهة المشرف وفعل ما فعل لم يكن هناك سنة عند أحد من العلماء وإذا كان لا بد للزائر من المسجد فالمسجد نفسه يشرع إتيانه سواء كان القبر هناك أو لم يكن وكل ما يشرع فيه من العبادات فانه مشروع سواء كان القبر هناك أو لم يكن وسواء تعلق بالرسول كالصلاة والسلام عليه وسؤال الله له الوسيلة والثناء عليه والمحبة والتعظيم والتوقير وغير ذلك من حقوقه صلى الله عليه وسلم أو لم يتعلق بالرسول كالصلاة والاعتكاف مع أنه لا بد في ذلك من ذكر الرسول بالشهادة له والسلام عليه وكذلك الصلاة عليه وهذه العبادات وغيرها وحقوقه وغير حقوقه هي مشروعة في جميع المساجد وإن لم يكن هناك قبره بل في جميع البقاع إلا ما استثناه الشرع
وإذا كان السفر الذي يسمى زيارة لقبره إنما هو سفر إلى مسجده لا إلى غيره وكان ما شرع فيه مشروعا في ذلك المسجد وفي غيره وإن لم يكن القبر هناك لم يكن شيء من ذلك مشروعا لأجل القبر ولا مختصا به
وأما ما يفعله بعض الناس من البدع المختصة بالقبر فذلك ليس بمشروع بل هو منهي عنه
فتبين أنه ليس في الشريعة عمل يسمى زيارة لقبره وأن هذا الاسم لا مسمى له والذين أطلقوا هذا الاسم إن أرادوا به ما يشرع فالمعنى صحيح لكن عبروا عنه بلفظ لا يدل عليه ولهذا كره من كره أن يقال لمن سلم عليه هناك زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وان أرادوا مالا يشرع فذاك المعنى خطأ مفهوم ومع هذا فليس هو زيارة فلو قدر أن بعض الناس أشرك في مسجده واتخذه آلها وسجد للقبر وطاف به سبعا واستلمه وقبله لم يكن شيء من ذلك زيارة لقبره وإن كان محرما فهذا لفظ لا حقيقة له بل يقال لمن أطلقه { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } وهذا بخلاف قبر غيره فانه ليس على الناس من حقوقه في سائر البقاع ما عليهم من حق النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمروا أن يصلوا عليهم ويسلموا عليهم حيث كانوا كما أمروا بذلك في حق الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنهم حيث صلوا وسلموا عليه بلغه صلاتهم وسلامهم لا يختص بيته
____________________
(1/19)
بذلك كما جاءت الأحاديث وغيره يستحب أن يزار فيوصل الى قبره فيدعى له والصلاة على القبر مشروعة لمن لم يصل على الميت عند أكثر العلماء كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة وهم متنازعون الى كم يصلى على القبر وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد أن يصلى عليه أبدا واتفقوا على أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلى عليه كما لم يصلي عليه أحد من المسلمين بعد أن دفن فهذا لعلو قدره لا لخفضه عن غيره فانه قد شرع في حقه من الصلاة والسلام عليه في كل مكان ما هو أعظم من الصلاة عليه عند القبر والصلاة عليه عند القبر يخاف فيها أن يتخذ قبره وثنا وعيدا والرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون محبة المؤمن له وتعظيمه له وصلاتخ وسلامه عليه وسائر حقوقه موجودا معه في جميع البقاع لا يختص القبر بشيء من حقوقه فمن خص القبر بشيء من حقوقه قصر فيه عند غير القبر فهو مقصر في حق الرسول صلى الله عليه وسلم مريد لما نهى عنه من اتخاذ قبره عيدا وذلك يفضي الى أن يقصر الناس في حقوقه في سائر البقاع وكذلك ما يفعل عند قبر غيره من الزيارة هو عند قبره ليس بمأمور ولا مقدور لعلو قدره واختصاصه بما ميزه الله على غيره صلى الله عليه وسلم كما خص بأن دفن في الحجرة ولم برزوا قبره
فتبين أن ما في الجواب من قول المجيب السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء هل هو محرم أو مباح ونحو ذلك لا يتناول قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالنية فقط كما قال مالك وإلا فذلك أمر ليس بمقدور وما ليس بمقدور فهو بالضرورة ليس بمشروع ولا مأمور به وأما السفر المشروع الى هناك فهذا لا يدخل في هذا اللفظ قطعا فانه ليس سفرا لمجرد زيارة قبره لا من جهة الفعل ولا من جهة القصد ومما يبين هذا أن جميع من يسافر لزيارة قبره إنما يصل إلى مسجده ويصلي فيه لكن من الذين يسافرون إلى هناك من لا يعلم أن الدخول هو إلى مسجده ويصلي فيه لكم من الذين يسافرون إلى هناك من لا يعلم أن الدخول هو إلى المسجد وأن القبر محجوب ومنهم من قد عرف ذلك لكن قد يظن أن المسجد بني لأجل القبر كما يبنى على بعض القبور مساجد لأجلها فيأتي الزائر فيصلي فيها أولا تحية المسجد أو غيرها والمقصود هو القبر وهؤلاء منهم من لا يعرف أن مسجده محترم معظم يقصد لنفسه لا لأجل القبر ومنهم من لا يعرف أن الصلاة فيه
____________________
(1/20)
بألف صلاة ولا أن السفر مشروع اليه كما يشرع إلى المسجد الحرام والمسجد الاقصى بل يظن كثير منهم أن السفر إنما هو لأجل القبر ولا يعلم أن السفر إلى مسجده مشروع مستحب مرغب فيه وأنه أفضل المساجد بعد المسجد الحرام أو مطلقا وأن الصلاة فيه بألف صلاة سواء كان عنده القبر أو لم يكن كما كانت هذه الفضيلة ثابتة له في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بل كان الذين يصلون فيه إذ ذاك أفضل من غيرهم وكانت الهجرة واجبة له في حياة الرسول قبل فتح مكة على المسلمين أن يهاجرة إلى المدينة دار الهجرة ودار السنة ودار النصرة ومن كان بها كان عليه أن يصلي في المسجد النبوي ولو لم يكن إلا الجمعة فان الجمعة فرض على الأعيان باتفاق الأمة ولم يكن على عهده بالمدينة مسجد يصلى فيه الجمعة إلا مسجده وهو أول مسجد أسس على التقوى وأول مسجد أذن فيه وأقيم فيه الصلاة فمن علم فضيلته وفضيلة الصلاة فيه وفضيلة السفر إليه وهو يريد السفر إلى القبر ويعلم أنه إنما يصل إلى مسجده فهذا لا بد إن كان مؤمنا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقصد السفر إلى مسجده وإن قصد مع ذلك القبر لا يتصور من المؤمن به العالم بشريعته العالم أن المسافر إلى هناك يصل إلى مسجده لا يتصور مع هذا العلم والمعرفة والايمان أن لا يقصد السفر إلى مسجده بل لا يقصد إلا مجرد القبر بل الذي يسافر ولا يقصد إلا مجرد القبر إما أن يكون جاهلا بشريعته وفضيلة السفر إليه أو جاهلا بالحال لا يعلم أنه إنما يصل إلى مسجده أو لا يعلم أن مسجده مؤسس على التقوى مقصود معظم قبل حصول القبر فانه لم يبن لأجل القبر ولا حرمته وفضيلته وعظمته لأجله فلا يتصور أن يقصد مجرد القبر إلا من يكون جاهلا بهذا أو بهذا أو بهذا وإن كان عالما بذلك كله ومع هذا ليس قصده إلا السفر الى القبر كما يسافر إلى قبر من يعظمه من الصالحين وغيرهم والسفر إلى المسجد ليس له عنده حرمة ولا يعتقد فضيلته ولا يقصد السفر إليه مع علمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم رغب في ذلك وبين فضل مسجده فهذا لا يكون إلا كافرا بالرسول ومثل هذا يقع من المشركين الذين يرون قصد القبور المعظمة أولى من قصد المساجد والحج اليها أفضل من الحج إلى مكة ودعاء الخلق أفضل من دعاء
____________________
(1/21)
الخالق والدعاء عندها أفضل من الدعاء في المساجد والمشاعر ومنهم من يجعل استقبالها في الصلاة أولى من استقبال الكعبة ويقول هذه قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة ومعلوم أن هذا من الكفر بالرسول وبما جاء به الرسول ومن الشرك برب العالمين لا يفعل هذا من يعلم أن الرسل جاء بخلافه وأن الرسول جاء بالحق الذي لا يسوغ خلافه بل إنما يفعل هذا من كان جاهلا بسنة الرسول أو من يجعل له طريقا إلى الله غير متابعة الرسول مثل من يجعل الرسول مبعوثا إلى العامة وأنه أو شيخه من الخاصة الذين لا يحتاجون إلى متابعة الرسول أو أن لهم طريقا أفضل من طريقة الرسول ونحو ذلك وهؤلاء كلهم كفار وان عظموا قبر الرسول كما يعظمون قبور شيوخهم ومنهم من يجعل قبر شيخه أعظم من قبر الرسول ومنهم من يجعل قبر الرسول أعظم ولكن يعظم أصحاب القبور من جهة أنه يعبدهم ليقربوه إلى الله زلفى لا يعظم الرسول من جهة أنه رسول الله الذي أوجب على جميع الخلق اتباعه وطاعته وسلوك سبيله واتباع ما جاء به وهذا نعت المؤمن به والمؤمنون به لا يعرضون عن قصد السفر إلى مسجده مع علمهم أنهم يصلون إلى مسجده إلا بجهلهم بسنته فاذا عرفوها دعاهم الايمان به الى متابعته صلى الله عليه وسلم تسليما والمجيب إنما ذكر النزاع في السفر لمجرد زيارة القبور فلم يدخل في هذا السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المراد بالسفر لزيارة قبره فهل يمكن هذا المعترض أن يحكي عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال يستحب السفر لمجرد زيارة القبور أو أنه يستحب السفر الى زيارة قبره بدون الصلاة في مسجده أو بدون دخوله هل قال هذا احد أو أنه يستحب السفر إلى القبر دون قصد المسجد مع أنه إنما يصل الى المسجد والسفر اليه مستحب بالنص والاجماع والصلاة فيه مفضلة فهل قال مسلم إن هذا المستحب بالنص والاجماع مع فعل الانسان له إذا لم يقصده البتة وإنما قصد مجرد القبر يكون هذا السفر مستحبا بنص واجماع أو هل قال ذلك إمام من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين وإن لم يكن هنا نص ولا إجماع وهل يترك قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه مع كونه يعلم أنه إنما يصل إلى مسجده إلا من هو جاهل بدينه أو كافر بما جاء به فان هذا ليس عليه في النية كلفة أصلا
____________________
(1/22)
فانه إذا كان لا بد له من الوصول إلى المسجد ومن الصلاة فيه لم يبق إلا أنه يقصد ذلك في ابتداء السفر فاذا لم يقصده فانه يكون جاهلا بأن ذلك مستحب مشروع كما يوجد عليه كثير من الجهال يظنون أن المشروع إنما هو السفر الى القبر والسفر الى المسجد تبع للقبر فاذا عرف الجاهل بسنته المعلومة عند جميع علماء أمته ثم من بعد ذلك يشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين فان الله يوليه ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا فاذا لم يعرف أن إماما من أهل الاجتهاد قال إنه يستحب السفر إلى مجرد القبر دون المسجد وان كان المسافر يعلم أنه إنما يصل إلى المسجد وأن سفره مشروع ثم لا يقصد ذلك فيكون سفره مشروعا مستحبا هذا مما يقطع بانه لا يقوله عالم فاذا لم يثبت ذلك سلم الاجماع المذكور وإن قدر أن هذا قول ثالث كان ذلك قولا خفيا قاله بعض المتأخرين لم يبلغ المجيب والمجيب ذكر إجماع العلماء الذين عرفت أقوالهم في هذا الحديث وفي هذه المسألة وهذا مبسوط في مكان آخر
والمقصود هنا أن ما حكاه عن المجيب أنه يحرم زيارة قبور الأنبياء وزيارة القبور كذب بين على المجيب ليس في الجواب وإنما فيه السفر خاصة وكلام المجيب فيما لا يحصيه إلا الله يبين كذب النقل وأنه يستحب زيارة قبور المؤمنين عموما فضلا عن الصالحين والأنبياء بل نفس السفر الذي ذكر فيه القولين لم يذكر أنه يختار أحد القولين بل ذكر حجة هؤلاء وهؤلاء فكيف يجوز أن يحكى عنه أنه حرم زيارة قبور الانبياء والصالحين وسائر القبور وانه ادعى أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها ثم من المعلوم لكل من قرأ شيئا من العلم ما في كتب العلماء من إباحة زيارة القبور للرجال أو استحباب ذلك وذكر النزاع في زيارتها للنساء هذا موجود في الكتب الصغار والكبار وقد قرأه المجيب وقرئ عليه مرات لا يحصيها إلا الله وليس هذا مما يخفى على آحاد الطلبة الذين يحضرون عنده فكيف يحكي إجماع المسلمين على أن زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور معصية محرمة ولو كان لهذا القاضي نوع عقل وحكى له ذلك عن آحاد الطلبة لم يصدقه وقال هل في الاسلام من ينتسب إلى أدنى علم يقول إن زيارة القبور معصية محرمة
____________________
(1/23)
مجمع عليها وهل في الاسلام شخص يحكي الإجماع على تحريم زيارة القبور مطلقا وإذا كان هذا ما يعلم انتفاؤه عن جميع المسلمين كان انتفاؤه عن المجيب أولى فكان الواجب عليه أن يكذب ناقل ذلك فضلا عن أن يكون هو الناقل عن جواب قد رآه الناس وعلموا أنه ليس فيه ذلك وإنما ذكر الخلاف في السفر إليها والسفر إليها مسألة وزيارتها بلا سفر مسألة
وأما قبر النبي صلى الله عليه وسلم فالسفر إلى زيارته هو السفر إلى مسجده والسفر إلى مسجده مستحب بالاجماع ليس من مسائل النزاع وكل من علم أنه إنما يصل إلى مسجده وعلم أنه مسجده الذي كان يصلي فيه هو وأصحابه وأنه أفضل المساجد بعد المسجد الحرام أو مطلقا وأنه صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة فيه بألف صلاة وأنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ونحو ذلك وهو مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يقصد إذا سافر الى هناك السفر الى مسجده لا يمكن مع علمه بذلك وإيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يقصد السفر إلى مسجده فلا يقصد السفر الى القبر دون المسجد إلا جاهل أو كافر لكن كثير من الاس قد عرفوا فضيلة مسجده والسفر إليه فهم يقصدون ذلك ويقصدون السفر إلى القبر أيضا ثم منهم من يستوي عنده القصدان ومنهم من يكون قصد المسجد أقوى عنده ومنهم من يكون قصد القبر أقوى عنده وهؤلاء يظنون أن قصد السفر الى قبره من المحبة له والتعظيم وأن ذلك أعظم من قصد السفر إلى مسجده وهم غالطون في ذلك فان السفر إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم والتأسي بابراهيم فيما كان يفعله هناك من الحج أفضل من زيارة قبر إبراهيم بالكتاب والسنة والاجماع بل الحج كما حج إبراهيم قد فرضه الله على عباده والسفر الى غير المساجد الثلاثة قد نهى عنه وكذلك السفر الى بيت المقدس هو أفضل من السفر إلى قبر سليمان الذي بناه بعد ابراهيم وكذلك السفر الى مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم والتأسي به فيما كان يفعله فيه من العبادات وفعل ما رغب في فعله في المسجد هو الذي يصدر عن الايمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته وتعظيمه دون السفر إلى مجرد قبره ولو قدر أن شخصا سافر الى قبر إبراهيم ولم يسافر الى مسجده المسجد
____________________
(1/24)
الحرام وهو الحج واعتقد أنهما سواء أو أن السفر الى قبره أفضل كان كافرا وكذلك بيت المقدس من اعتقد أن السفر الى قبر سليمان أفضل من السفر إليه أو هما سواء كان كافرا كذلك السفر الى النبي صلى الله عليه وسلم من اعتقد أن السفر الى مجرد القبر أفضل من السفر الى المسجد أو مثله فهو إما جاهل بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم واما كافر به وهؤلاء نظير الذي يعتقد أن السفر الى قبور الأنبياء والصالحين مثل الحج أو أفضل من الحج وهذا لا يعتقده إلا جاهل مفرط في الجهل بدين الاسلام أو كافر مشاق للرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما تبين له الهدى متبع غير سبيل المؤمنين فمن لم يفرق بين السفر المشروع الى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره السفر الشرعي والزيارة الشرعية المجمع على استحبابها وبين السفر الى قبر غيره فهو إما جاهل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإما كافر بالرسول صلى الله عليه وسلم
فان قيل كيف يزور قبره مع كونه كافرا به قيل كثير من الناس يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتقدون أنه من أفضل الناس ولكن يقولون انهم ما يجب عليهم اتباعه وطاعته بل لهم طريق الى الله تغنيهم عنه وقد يقولون إن طريقهم أفضل من طريقه كما يعتقد كثير من اليهود والنصارى أنه كان مبعوثا الى الأميين لا اليهم فهم يعظمونه ظاهرا وباطنا لكن يقولون لا يجب علينا اتباعه وهؤلاء كفار باجماع المسلمين
وكذلك كثير من يظهر الاسلام يثبتون نبوته على رأي الفلاسفة وأنه كان صاحب قوة قدسية وقد يفضلونه على جميع الخلق ومع هذا لا يقرون بما جاء به ولا يوجبون على أنفسهم اتباعه ظاهرا وباطنا ويقولون هو رسول الى العامة أو الى الجميع في الشرائع الظاهرة دون الحقائق الباطنة والحقائق العقلية كما يقول مثل هذا كثير ممن يظهر الاسلام وهؤلاء من أشد الناس تعظيما للقبور والسفر اليها ودعاء أصحابها ولهم في ذلك كلام ذكرناه في غير هذا الموضع وهؤلاء وأمثالهم قد يقولون إن زيارة قبره وقبر من دونه أفضل من الحج الى البيت الحرام ومن صلاة الجمعة والجماعة في مسجده وغير مسجده
والمقصود أن هذا المعترض وأمثاله لم يفرقوا بين السفر الى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارته المجمع على استحبابها وبين السفر الى زيارة قبر غيره وان كان عنده مسجد فان
____________________
(1/25)
ذلك مجمع على عدم استحبابه بل سووا بين المستحب بالنص والاجماع وبين ما ليس بمستحب بالنص والاجماع وظنوا أن المجيب سوى بينهما في نفي الاستحباب فقابلوه بأن سووا بينهما في الاستحباب فوقعوا في أنواع الباطل المخالف للكتاب والسنة والاجماع ولو قال قائل ان إتيان المساجد لا يستحب ولا يشرع كان كافرا حلال الدم ولو قال لا يسافر الى مسجد إلا الى ثلاثة مساجد لكان قد قال ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وقاله علماء المسلمين فمن لم يفرق بين هذا وهذا كان أجهل الناس وكذلك لو قال لا يستحب السفر الى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارته المشروعة في المسجد كالصلاة والسلام كان مخالفا للاجماع لكن من العلماء من لا يسمي هذا زيارة لقبره ويكره هذه التسمية وهذا القول أشبه بالمعقول والمنقول ولو قال يستحب السفر إلى جميع القبور والصلاة في المساجد المبنية عليها لكان مخالفا للنص والاجماع وهب أن المعارض سوى بينهما في نظره وجوابه كيف يحل له أن يكذب على غيره ويحكي عنه التسوية بينهما في التحريم ويقول إنه حكم إجماع المسلمين على تحريم الزيارة مطلقا بسفر وغير سفر ونحن نحكى لفظ الجواب الذي اعترض عليه لينظر ما نقله عنه وأبطله منه هل هو صدق وعدل أم لا
ولفظ السؤال
ما تقول السادة العلماء في رجل نوى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة وهل هذه الزيارة شرعية أم لا وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حج ولم يزرني فقد جفاني ومن زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا
____________________
(1/26)
ولفظ الجواب ( الحمد لله أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين معروفين أحدهما وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية ويقولون إن هذا سفر معصية كأبي عبد الله بن بطة وأبي الوفا بن عقيلي وطوائف كثيريم من العلماء المتقدمين أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر لأنه سفر منهي عنه ومذهب الشافعي ومالك وأحمد أن السفر المنهي عنه لا تقصر فيه الصلاة
والقول الثاني أنه يقصر فيه الصلاة وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة ويقوله بعض المتأخرين من اصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالي وأبي محم المقدسي وأبي الحسن بن عبدوس الحراني وهؤلاء يقولون إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله فزوروا القبور وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كقوله من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي رواه الدارقطني وأما ما يذكره بعض الناس من قوله صلى الله عليه وسلم من حج ولم يزرني فقد جفاني فهذا لا يرويه أحد من العلماء وهذا مثل قوله من زارني وزار أبي في عام واححد ضمنت له على الله الجنة فان هذا أيضا باطل باتفاق العلماء لم يروه أحد ولم يحتج به أحد وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني
وقد زاد فيها المجيب حاشية بعد ذلك ولكن هذا وإن كان لم يروه أحد من العلماء في كتب الفقه والحديث لا محتجا به ولا معتضدا به ولكن ذكره أبو أحمد ابن عدي في كتاب الضعفاء ليبين به ضعف راويه فذكره من حديث النعمان بن شبل الباهلي المصري عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حج ولم يزرني فقد جفاني قال ابن عدي ولم يروه عن مالك غير هذا يعني وقد علم أنه ليس من حديث مالك فعلم أن الآفة من جهته قال موسى بن هارون كان النعمان هذا متهما وقال أبو حاتم بن حبان يأتي على الثقات بالطامات وقال الدارقطني الطعن في هذا
____________________
(1/27)
الحديث من محمد بن محمد لا من النعمان وأما الحديث الآخر من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة فهذا ليس في شيء من الكتب لا باسناد موضوع ولا غير موضوع وقد قيل إن هذا لم يسمع في الاسلام حتى فتح المسلمون بيت المقدس في زمن صلاح الدين فلهذا لم يذكر أحد من العلماء لا هذا ولا هذا لا على سبيل الاعتماد ولا على سبيل الاعتضاد بخلاف الحديث الذي تقدم فانه قد ذكره جماعة ورووه وهو معروف من حديث حفص بن سليمان الغاضري القارئ صاحب عاصم عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وقد اتفق أهل العلم بالحديث على الطعن في حديث حفص هذا دون قراءته قال البيهقي في شعب الايمان وقد روى حفص بن أبي داود وهو ضعيف عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي قال يحيى بن معين في حفص هذا ليس بثقة وهو أصح قراءة من أبي بكر بن عياش وأبو بكر أوثق منه وفي رواية عنه كان حفص اقرأ من أبي بكر وكان أبو بكر صدوقا وكان حفص كذابا وقال البخاري تركوه وقال مسلم بن الحجاج متروك وقال علي بن المديني ضعيف الحديث تركته على عمد وقال النسائي ليس بثقة ولا يكتب حديثه وقال مرة متروك وقال صالح بن محمد البغدادي لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها مناكير وقال أبو زرة ضعيف الحديث وقال أبو حاتم الرازي لا يكتب حديثه وهو ضعيف الحديث لا يصدق متروك الحديث وقال عبد الرحمن بن خراش هو كذاب متروك بضع الحديث وقال الحاكم أبو أحمد ذاهب الحديث وقال ابن عدي عامة أحاديثه عمن روي عنه غير محفوظة
وفي الباب حديث آخر رواه البزار والدارقطني وغيرهما من حديث موسى بن هلال حدثنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من زار قبري وجبت له شفاعتي قال البيهقي وقد روى هذا الحديث ثم قال وقد قيل
____________________
(1/28)
عن موسى عن عبيد الله قال وسواء قال عبد الله أو عبيد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر لم يأت به غيره وقال العقيلي في موسى بن هلال هذا لا يتابع على حديثه وقال أبو حاتم الرازي هو مجهول وقال أبو زكريا النووي في شرح المهذب لما ذكر قول أبي اسحاق ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من زار قبري وجبت له شفاعتي قال النووي أما حديث ابن عمر فرواه أبو بكر البزار والدارقطني والبيهقي باسنادين ضعيفين جدا هذا آخر الحاشية
قال المجيب في تمام الجواب وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور والمساجد بأنه كان يزور قباء ويزور القبور وأجاب عن حديث لا تشد الرحال بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب وأما الأولون فانهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به فلو نذر الرجل أن يصلي بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه ويسافر إليه غير المساجد الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة ولو نذر أن يسافر إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الاقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد ولم يجب عليه عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده النذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة لما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر اليها إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الحديث الصحيح من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة وهذا الحديث رواه أهل السنن كالنسائي
____________________
(1/29)
وابن ماجة والترمذي وحسنه وقالوا لأن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من ائمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة الصغرى من البدع المخالفة للسنة
وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد المقدسي لأن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشد رحل والسفر إليه لا يجب بالنذر
وقوله في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال محمول على نفس الاستحباب عنه جوابان أحدهما أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا هو من الحسنات فاذن من اعتقد السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من هذه الجهة ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك وأما إذا قدر أن الرجل سافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من هذا الباب الوجه الثاني أن هذا الحديث يقتضي النهي والنهي يقتضي التحريم
وما ذكره السائل من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يخرج أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه وكذلك مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف
____________________
(1/30)
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني وفي سنن سعيد بن منصور أن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب رأى رجلا يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة لولا ذلك لأبرز قبره لكن كره أن يتخذ مسجدا وهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجدا فيتخذ قبره وثنا
وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد ابن عبد الملك لا يدخل أحد إلى عنده لا لصلاة هناك ولا لتمسح بالقبر ولا دعاء هناك بل هذا جميعه إنما يفعلونه في المسجد وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة لم يستقبلوا القبر
وأما وقوف المسلم عليه فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة أيضا لا يستقبل القبر وقال أكثر الأئمة بل يستقبل القبر عند السلام عليه خاصة ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء أي الدعاء الذي يقصده لنفسه إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك ومذهبه بخلافها
واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبله وهذا كله محافظة على التوحيد فان من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قالوا كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم وقد ذكر بعض هذا المعنى البخاري في
____________________
(1/31)
صحيحه لما ذكر قول ابن عباس إن هذه الأوثان صارت إلى العرب وذكره ابن جرير الطبري وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف وذكره وثيمة وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق وقد بسطت الكلام على هذه المسائل في غير هذا الموضع وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور أهل البدع من الروافض ونحوهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانا فان الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد كما قال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند } { مع الله أحدا } وقال { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } وقال { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وقال تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك والله تعالى أعلم
فهذه ألفاظ المجيب فليتدبر الإنسان ما تضمنته وما عارض به هؤلاء المعارضون مما نقلوه عن الجواب وما دعوا أنه باطل هل هم صادقون مصيبون في هذا أو هذا أو هم بالعكس والمجيب أجاب بهذا من بضع عشرة سنة بحسب حال السائل واسترشاده ولم يبسط القول فيها ولا سمي كل من قال بهذا القول ومن قال بهذا القول بحسب ما تيسر في هذا الوقت وإلا فهذان القولان موجودان في كثير من الكتب المصنفة في مذهب مالك والشافعي وأحمد وفي شروح الحديث وغير ذلك والقول بتحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة وإن كان قبر نبينا صلى الله عليه وسلم هو قول مالك وجمهور أصحابه وكذلك أكثر أصحاب أحمد الحديث عندهم معناه تحريم السفر إلى غير الثلاثة لكن منهم من يقول قبر نبينا صلى الله عليه وسلم لم يدخل في العموم
____________________
(1/32)
ثم لهذا القول مأخذان أحدهما أن السفر إليه سفر إلى مسجده وهذا المأخوذ هو الصحيح وهو موافق لقول مالك وجمهور أصحابه والمأخذ الثاني أن نبينا لا يشبه بغيره من النبيين كما قال طائفة من أصحاب أحمد إنه يحلف به وإن كان الحلف بالمخلوقات منهينا عنه وهو رواية عن أحمد ومن أصحابه من قال في المسألتين حكم سائر الأنبياء كحكمه قاله بعضهم في الحلف بهم وقاله بعضهم في زيارة قبورهم وكذلك أبو محمد الجويني ومن وافقه من أصحاب الشافعي على أن الحديث يقتضي تحريم السفر إلى غير الثلاثة وآخرون من أصحاب الشافعي ومالك وأحمد قالوا المراد بالحديث نفي الفضيلة والاستحباب ونفي الوجوب بالنذر لا نفي الجواز وهذا قول الشيخ ابي حامد وأبي علي وأبي المعالي والغزالي وغيرهم وهو قول ابن عبد البر وأبي محمد المقدسي ومن وافقهما من أصحاب مالك وأحمد
فهذان القولان الموجودان في كتب المسلمين ذكرهما المجيب ولم يعرف أحدا معروفا من العلماء المسلمين في الكتب [ قال ] غنه يستحب السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين ولو علم أن في المسألة قولا ثالثا لحكاه لكنه لم يعرف ذلك وإلى الآن لم يعرف أن أحدا قال ذلك ولكن أطلق كثير منهم القول باستحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحكى بعضهم الإجماع على ذلك وهذا مما لم يذكر فيه المجيب نزاعا في الجواب فانه من المعلوم أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يستحب السفر اليه بالنص والاجماع فالمسافر إلى قبره لا بد إن كان عالما بالشريعة أن يقصد السفر إلى مسجده ولا يدخل ذلك في جواب المسألة فان الجواب إنما كان عمن سافر لمجرد زيارة قبورهم والعالم بالشريعة لا يقع في هذا فانه يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحب السفر إلى مسجده والصلاة فيه وهو يسافر إلى مسجده فكيف لا يقصد السفر إليه وكل من علم ما يفعله باختياره فلا بد أن يقصده وإنما ينتفي القصد مع الجهل إما مع الجهل بأن السفر إلى مسجده مستحب لكونه مسجده لا لأجل القبر وإما مع الجهل بأن المسافر إنما يصل إلى مسجده فأما مع العلم بالأمرين فلا بد أن يقصد السفر إلى مسجده ولهذا كان زيارة قبره حكم ليس لسائر القبور من وجوه متعددة كما قد بسط في مواضع
وأهل الجهل والضلال يجعلون السفر إلى زيارته كما هو معتاد لهم من السفر إلى زيارة
____________________
(1/33)
قبر من يعظمونه يسافرون إليه ليدعوه ويدعوا عنده ويدخلون إلى قبره ويقعدون عنده ويكون عليه أو عنده مسجد بني لأجل القبر فيصلون في ذلك المسجد تعظيما لصاحب القبر وهذا مما لعن النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب على فعله ونهى أمته عن فعله فقال في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وهو في الصحيحين من غير وجه وقال قبل أن يموت بخمس إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك رواه مسلم
فمن لم يفرق بين ما هو مشروع في زيارة القبور وما هو منهي عنه لم يعرف دين الاسلام في هذا الباب & فصل &
قال فعند ذلك شرح الله صدري للجواب عما نقل فيه من مقالته وسارعت لاطفاء بدعته وضلالته فأقول وبالله التوفيق وأن يوصلنا اليه من أسهل طريق لقد ضل صاحب هذه المقالة وأضل وركب طريق الجهالة واستقل وحاد في دعواه عن الحق وما جاد وجاهر بعداوة الانبياء وأظهر لهم العناد فحرم السفر لزيارة قبره وسائر القبور وخالف في ذلك الخبر الصحيح المأثور وهو ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال زوروا القبور وورد عنه انه قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا فرفع صلى الله عليه وسلم الحرج عن المكلف بعد ما كان حظر والمشهور أن الأمر بعد الحظر يقتضي الوجوب وأقل درجاته أن يلحق بالمباح أو المندوب
والجواب عن هذا من وجوه الأول أن في هذا الكلام من الجرأة على الله ورسوله وعلماء المسلمين أولهم وآخرهم ما يقتضي أن يعرف من قال هذه المقالة ما فيها من مخالفة دين الاسلام وتكذيب الله ورسوله ويستتاب منها فان تاب وإلا ضربت عنقه وذلك أنه ادعى أنه حرم السفر إلى غير المساجد الثلاثة أو حرم السفر لمجرد زيارة القبور فقد جاهر الأنبياء بالعداوة وأظهر لهم العناد فحرم السفر لزيارة قبره وسائر القبور ذكر ذلك
____________________
(1/34)
بحرف الفاء وليس في كلام المجيب إلا حكاية القولين في السفر لمجرد زيارة القبور
فاذا قيل إنه جاهر بالعداوة وأظهر العناد لأجل تحريم هذا السفر كان كل من حرمه مجاهرا للأنبياء بالعداوة مظهرا لهم العناد ومعلوم أن مجاهرة الأنبياء بالعداوة وإظهار العناد لهم غاية في الكفر فيكون كل من نهى عن هذا السفر لمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم مع أن النذر يوجب فعل الطاعة عنده فلم يجعله مع النذر مباحا بل جعله محرما منهيا عنه لما سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كان أراد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل الحديث الذي جاء لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ومذهبه المعروف في جميع كتب أصحابه الكبار والصغار كالمدونة لابن القاسم والتفريع لابن الجلاب أنه من نذر إتيان المدينة النبوية إن كان أراد الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفى بنذره وإن كان أراد غير ذلك لم يوف بنذره فالسفر إلى المدينة ليس عنده مستحبا إلا للصلاة في المسجد فأما من سافر إليها لغير ذلك كزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو زيارة قبور شهداء أحد أو أهل البقيع أو مسجد قباء فان هذا السفر عنده منهي عنه فلا يوف بنذره فهذا مذهبه في كل منذور من السفر إلى المدينة سوى الصلاة في مسجده ومسأله إتيان القبر بخصوصه داخلة في ذلك وقد ذكرها بخصوصها عنه القاضي اسماعيل بن اسحاق محتجا بذلك على ما ذكره فدل على ثبوت ذلك عنده عن مالك قال في كتابه المبسوط لما ذكر قول محمد بن مسلمة من نذر أن يأتي مسجد قباء فعليه أن يأتيه قال القاضي اسماعيل إنما هذا فيمن كان من أهل المدينة وقربها ممن لا يعمل المطي إلى مسجد قباء لأن إعمال المطي اسم للسفر ولا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في نذر ولا غيره وقد روى عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كان أراد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل الحديث الذي جاء لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد وهذا يوافق ما في المدونة
____________________
(1/35)
وغيرها من الكتب ففي المدونة وهي الأم في مذهب مالك ومن قال لله علي أن آتي المدينة أو بيت المقدس أو علي المشي إلى المدينة أو بيت المقدس فلا يأتهما حتى ينوي الصلاة في مسجديهما أو يسميهما فيقول إلى مسجد الرسول أو مسجد إيلياء وإن لم ينو الصلاة فيهما فليأتهما راكبا ولا هدي عليه وكأنه لما سماهما قال لله علي أن أصلي فيهما ولو نذر الصلاة في غيرهما من مساجد الأمصار صلى في موضعه ولم يأته
وهذه المسائل في الكتب الصغار والكبار وقد صرح فيها أن من نذر المشي أو الاتيان إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بيت المقدس فلا يأتهما إلا أن يريد الصلاة في المسجدين فتبي بهذا أن السفر إلى المدينة أو بيت المقدس في غير الصلاة في المسجدين ليس طاعة ولا مستحبا ولا قربة بل هو منهي عنه وإن نذره لقوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه رواه البخاري وغيره وهو من حديث مالك في الموطأ فمن سافر لبيت المقدس لغير العبادة المشروعة في المسجد مثل زيارة ما هنالك من مقابر الأنبياء والصالحين وآثارهم كان عاصيا عنده ولو نذر ذلك لم يجز له الوفاء بنذره وكذلك من سافر إلى قبر الخليل أو غيره وكذلك من سافر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لمجرد القبر لا للعبادة المشروعة في المسجد كان عاصيا وإن نذر ذلك لم يوف بنذره سواء سافر لأجل قبره أو لأجل ما هنالك من المقابر والآثار أو مسجد قباء أو غير ذلك
وقال القاضي عبد الوهاب في الفروق يلزم المشي إلى بيت الله الحرام ولا يلزم ذلك إلى المدينة ولا بيت المقدس والكل مواضع يتقرب باتيانها إلى الله والفرق بينهما أن المشي إلى بيت الله طاعة فيلزمه والمدينة وبيت المقدس الطاعة في الصلاة في مسجديهما فقط فلم يلزم نذر المشي لأنه لا طاعة فيه ألا ترى أن من نذر الصلاة في مسجديهما لزمه ذلك ولو نذر أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه فاذا كان إمامه ينهى عن السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم دون إتيان مسجده ونهى الناذر لذلك أن يوفي بنذره والمالكية بل
____________________
(1/36)
الأئمة الأربعة وغيرهم متفقون على أن ذلك لا يوفي بنذره بل مالك والجمهور نهوا عن الوفاء بنذره لكونه عندهم معصية فيلزم هذا المفتري أن يكون مالك وأصحابه مجاهرين بالعداوة للأنبياء مظهرين لهم العناد وكذلك سائر الأئمة والجمهور الذين حرموا السفر لغير المساجد الثلاثة وإن كان المسافر قصده الصلاة في مسجد آخر ومعلوم أن المساجد أحب البقاع إلى الله كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغضها إلى الله الأسواق والأئمة الأربعة متفقون على أن السفر إلى مسجد غير الثلاثة لا يلزم بالنذر ولا يسن وليس مستحبا ولا طاعة ولا برا ولا قربة وجمهورهم يقولون إنه حرام مع أن قصد المساجد للصلاة فيها والدعاء أفضل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق علماء أمته من قصد قبور الأنبياء والصالحين والدعاء عندها بل هذا محرم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن أهل الكتاب على فعله تحذيرا لأمته ففي الصحيح أنه قال قبل أن يموت بخمس ان من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك وفي الصحاح من غير وجه أنه قال في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا فمقابر الأنبياء والصالحين لا يجوز اتخاذها مساجد بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق أئمة المسلمين على ذلك من كره الصلاة في المقبرة ومن لم يكره فان الذين لم يكرهوها قالوا سبب الكراهة هو نجاسة التراب فاذا كان طاهرا لم يكره
وأما اتخاذ القبور مساجد فبسبب تعظيم صاحب القبر حتى يتخذ قبره وثنا وهذه علة أخرى علل بها طوائف من المسلمين من فقهاء المدينة والكوفة وفقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع بل صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم الذي حرم هذا السفر يلزم هذا المفتري الجاهل أن يكون مجاهرا للأنبياء بالعداوة والعناد بل المساجد غير الثلاثة نهى عن السفر إليها وأما إتيانها بلا سفر للصلاة والدعاء فمن أعظم العبادات والعبادات والقربات يكون واجبا تارة ومستحبا أخرى وأما قبور الأنبياء
____________________
(1/37)
والصالحين فلا يستحب إتيانها للصلاة عندها والدعاء عند أحمد من أئمة الدين بل ذلك منهي عنه في الأحاديث الصحيحه كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء ولكن يجوز أن تزار القبور للدعاء لها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وأما قبره خصوصا فحجب الناس عنه ومنعوا من الدخول إليه وقال صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري وفي رواية بيتي عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني وكذلك قال في السلام عليه والله أمر بالصلاة والسلام عليه مطلقا وذلك مأمور به في جميع البقاع لا يختص قبره باستحباب ذلك بل هو مستحب مشروع في جميع البقاع وتخصيص القبر بذلك منهي عنه فالذين نهوا عن هذا السفر إنما نهوا عن طاعة الله ورسوله فهم قاصدون بذلك طاعة الله واتباع رسوله ولو كانوا مخطئين لم يكن القاصد لطاعة الأنبياء معاديا لهم لا سرا ولا جهرا ولا معاندا لهم بل موجبا لطاعتهم والإيمان بهم ومواليا لهم ومسلما لحكمهم ولو كان مخطئا فان هذا كان قصده فكيف يجعل معاديا لهم لا سيما مع أنه مصيب موافق لهم باطنا وظاهرا
ولو قدر أن المجيب حرم زيارة القبور مطلقا سفرا وغير سفر فهذا قول طائفة من السلف مثل الشعبي والنخعي وابن سيرين كما ذكر ذلك عنهم غير واحد منهم ابن بطال في شرح البخاري وهؤلاء من أجل علماء المسلمين في زمن التابعين باتفاق المسلمين ويحكى قولا في مذهب مالك ومن قال ذلك لم يكن معاديا للأنبياء لا سرا ولا جهرا ولا معاندا لهم لا باطنا ولا ظاهرا ومن قال عن علماء المسلمين الذين اتفق المسلمون على أمانتهم إنهم كانوا معاندين للأنبياء فانه يستحق عقوبة مثله ولا خلاف بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى عن زيارة القبور أولا فكان ذلك محرما في أول الاسلام وقد اعترف هذا المعترض بذلك فهل يقال إن الرسول لما حرم زيارة القبور كان مجاهرا للأنبياء بالعداوة ومظهرا لهم العناد وكذلك سائر الشرع المنسوخ ليس فيه معاداة للأنبياء ولا معاندة لهم لا سرا ولا جهرا فان الله لم يشرع معاداة أنبيائه ولا معاندتهم قط بل الايمان بجميع الأنبياء كالتوحيد لا بد منه في كل شرعة ودين الأنبياء واحد كما في الصحيح عن النبي
____________________
(1/38)
صلى الله عليه وسلم أنه قال إنا معشر الانبياء ديننا واحد وقال تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } الآية إلى قوله { إن هذه أمتكم أمة واحدة } قال عامة المفسرين على ملة واحدة وعلى دين واحد وقد قال تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة } الى قوله { ولتنصرنه } فأمر متقدمهم أن يؤمن بمتأخرهم كما أمر متأخرهم أن يؤمن بمتقدمهم فكل ما شرع في وقت لا يكون مقصوده معاداة للأنبياء كما لا يكون مقصوده شركا فان الله لم يشرع الشرك قط ولا شرع معاداة الأنبياء قط لكن من تمسك بالمنسوخ مع علمه بأنه منسوخ يكون مكذبا ثم معاداة الانبياء ومعاندتهم هي كفر بهم وتكذيب لهم
فأين في كتاب الله وسنة رسوله أنه يستحب السفر لمجرد زيارة قبورهم أو قبور غيره حتى يكون مخالف ذلك مخالفا لذلك النص ولو قدر أنه خالف نصا لم يبلغه أو رجح غيره عليه لم يكن ذلك معاداة لهم ولا معاندة ولكن الجهال وأهل الضلال يظنون أن السفر إلى قبورهم من حقوقهم التي تجب على الخلق وأنها من الإيمان بهم أو يظنون أن زيارة قبورهم من باب التعظيم لهم وتعظيم أقدارهم وجاههم عند الله وأن الزائر إذا دعاهم وتضرع لهم وسألهم حصل مطلوبه إما بشفاعتهم له وإما لمجرد عظم قدرهم عند الله يعطي سؤاله إذا دعاهم وأما أن يقول يفيض على الداعي من جهتهم ما يطلب من غير علم منهم ولا قصد كشعاع الشمس الذي يظهر في الماء وبواسطة الماء يظهر في الحائط وإن كانت الشمس لا تدري بذلك فهذا قول طائفة من المتفلسفة المنتسبين إلى الملل وقد ذكره صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وغيره كما بسط الكلام على ذلك في موضع
____________________
(1/39)
آخر ومعلوم أن زيارة القبور بهذا القصد وعلى هذا الوجه ليست من شريعة الإسلام بل من دين المشركين والمعطلين والرسول لم يشرع مثل هذا لأمته ولا فعله أصحابه ولا التابعون لهم باحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين بل النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم تنهى عما قد يفضي إلى هذا فكيف إلى هذا فانه صلى الله عليه وسلم لعن الذين يتخذون قبور الأنبياء مساجد يحذر ما فعلوا وقال إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك وخص بيته بان قال لا تتخذوا قبري عيدا وفي رواية بيتي عيدا وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فاذا كان قد حرم أن تتخذ مسجدا يعبد الله فيها لئلا يفضي إلى دعائه فكيف إذا كان المقصود بالزيارة هو دعاء صاحب القبر وذلك هو المقصود بالسفر إلى قبره وقد قال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } والمشرك يقصد فيما يشرك به أن يشفع له أو يتقرب بعبادته إلى الله أو يكون قد أحبه كما يحب الله والمشركون بالقبور توجد فيهم الأنواع الثلاثة قال الله تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } الآية وقال تعالى { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وقال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } الى قوله { محذورا } وقوله تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير }
____________________
(1/40)
الى قوله { وهو العلي الكبير } حتى إن الملائكة إذا قضى الأمر صعقوا ولا يعلمون ما قضاه حتى يفزع عن قلوبهم أي يزول عنها الفزع حينئذ يعلمون ما قضاه وما قاله فكيف يشفعون عنده ابتداء قال تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } الآية وقال { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا } الآية وكذلك من ظن أن السفر إلى قبورهم من حقوقهم التي تجب على الخلق فهذا الظن ليس هو دين أحد من المسلمين ولم يقل أحد إن السفر إلى المسجد النبوي أو المسجد الأقصى واجب مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع السفر إليهما وقال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا فكيف بما دون ذلك من القبور والآثار لم يقل أحد من علماء المسلمين أن السفر إلى ذلك واجب بل ولا عرف عنهم القول بالاستحباب بل السلف والقدماء على احريم ذلك والمتأخرون متنازعون فأحد القولين أن ذلك جائز لا فضيلة فيه والآخر أنه ينهى عنه وعلى هذا القول دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة وسلف الأمة فانه قد ثبت عنه أنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وهذه صيغة خبر معناه النهى ولكن من قال ليست نهيا بل هي نفي للفضيلة فهذا الاحتمال وإن كان باطلا فانما يقدح في رواية أبي هريرة والحديث في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري ولفظ حديث أبي سعيد عن قزعة عن أبي سعيد قال سمعت منه حديثا فاعجبني فقلت له أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاقول عليه ما لم أسمع سمعته يقول لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى وسمعته يقول لا تسافر المرأة يوما من الدهار إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها ولفظ أبي سعيد هو الثابت في الصحاح صريح في النهي وهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السفر إلى غير الثلاثة وتبين بذلك أن من قال السفر إلى غيرها جائز أو غير مكروه فهو مخطئ والله أعلم
وإذا كان ذلك ليس بواجب ولا مستحب بل هو منهي عنه لم يكن من حقوقهم التي
____________________
(1/41)
أوجبها الله ولا دعا عباده اليها فأي معاداة وأي معاندة لمن نهى عن شيء ليس من حقوقهم ولا مما أوجبوه ولا دعوا إليه بل هو ناه عما نهوا عنه آمر بما أمروا به مطيع لهم متبع لهم قصده متابعتهم فكيف يكون مع متابعتهم قصدا وقولا وعملا معاديا ومعاندا ولو قدر أنه متأول مخطئ فكيف إذا كان قد ذكر قولي علماء المسلمين الذين نهوا والذين أباحوا وحجة كل قول والسلف على النهي وكلام علماء المسلمين مالك وغيره موجود في كتب كثيرة فكفى بقاض مالكي جهلا وضلالا أن يقول بكفر من قال بقول إمامه وأصحابه بل كفى بمن قال ذلك جهلا وضلالا سواء كان مالكيا أو غير مالكي مع عظم قدر مالك باجماع أهل الاسلام الخاص منهم والعام بل لم يكن في وقته مثله وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة قال غير واحد كانوا يرونه مالك بن أنس
فلو كان ما قاله هو وأصحابه مما خالفهم فيه بقية الأئمة لم يكن ذلك من مسائل التكفير ولا من معاداة الأنبياء ومعاندتهم فكيف والذي قاله مالك بن أنس هو قول سائر الأئمة كما يدل عليه كلامهم وأصحابهم ومسائلهم والذين خالفوه غايتهم أن قالوا إن السفر جائز ولو قدر أن بعضهم قالوا هو مستحب فليس فيهم من يجعل أصحاب ذلك القول ممن تنقص الأنبياء أو عاداهم أو عاندهم بل قائل هذا من أجهل الناس وهو في هذه المقالة بالنصارى أشيه منه بالمسلمين
وقد ذكر اسماعيل بن اسحاق وهو من أهل علماء المسلمين ومن أجل من قلد قضاء القضاة حتى كان المتولي لذلك وحده في جميع بلاد بني العباس في خلافة المعتضد ذكر في كتابه المبسوط ما تقدم ذكره في باب إتيان مسجد قباء والصلاة فيه لما ذكر محمد بن مسلمة أن من نذر أن يأتي مسجد قباء فعليه أن يأتيه قال إنما هذا فيمن كان من أهل المدينة وقربها ممن لا يعمل المطي إلى مسجد قباء لأن إعمال المطي اسم للسفر ولا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في نذر ولا غيره قال وقد روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كان أراد المسجد
____________________
(1/42)
فليأته وليصل فيه وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء لا تعمل المطي إلا إلا ثلاثة مساجد الحديث وذكر فيه عن مالك أنه قال فيمن نذر أن يمشي إلى مسجد من المساجد ليصلي فيه قال فإني أكره له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا وتقدم أن في المدونة وسائر الكتب ما يوافق ذلك قال في المدونة ومن قال لله علي أن آتي المدينة أو بيت المقدس أو المشي إلى المدينة أو بيت المقدس فلا يأتيهما أصلا إلا أن ينوي الصلاة فليأتهما راكبا ولا هدي عليه وكأنه لما سماهما قال لله علي أن أصلي فيهما ولو نذر الصلاة في غيرهما من مساجد الأمصار صلى في موضعه ولم يأته فقد تبين أنه إن نوى الصلاة في المسجدين وفى بنذره وكذلك ان سمى المسجدين فان المسجد إنما يؤتى للصلاة وأما اذا نذر إتيان نفس البلد فليس عليه أن يأتيه وهذا يتناول إتيانه لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الشهداء وأهل البقيع وإتيان مسجد قباء كما يتناول النهي عن السفر إلى بيت المقدس لزيارة القبور والآثار التي هناك من آثار الأنبياء وإتيان المسجد لغير الصلاة كالتمسح بالصخرة وتقبيلها أو إتيانه للوقوف عشية عرفة والطواف بالصخرة أو لغير ذلك مما يظنه بعض الناس عبادة وليس بعبادة ومما هو عبادة للقريب ولا يسافر لأجله كزيارة قبور المسلمين للدعاء لهم والاستغفار فان هذا مستحب لمن خرج إلى المقبرة ولمن اجتاز به ولا يشرع السفر لذلك فمالك وغيره نهوا عن السفر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة المشروعة في المسجدين سواء كان المسافر يسافر لأمر غير مشروع بحال أو لما هو مشروع للقريب ولا يشرع السفر لأجله وكذلك مذهب مالك أنه لا يسافر إلى المدينة لشيء من ذلك بل هذا السفر منهي عنه والسفر المنهي عنه عنده لا تقصر فيه الصلاة لكن بعض أصحابه وهو محمد بن مسلمة استثنى مسجد قباء وابن عبد البر جعل السفر مباحا إلى غير الثلاثة مساجد ولا يلزم بالنذر لأنه ليس بقربة كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد
____________________
(1/43)
وأما جمهور أصحاب مالك فعلى قوله في أن السفر لغير المساجد الثلاثة محرم لا يجوز أن يفعل ولو نذره فلا يستحب عند أحد منهم وقال القاضي عياض لا يباح السفر لغير المساجد الثلاثة لا لناذر ولا لمتطوع وقال أبو الوليد الباجي قبله في السفر إلى مسجد قباء إنه منهي عنه قال القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي في الفروق فرق بين مسألتين يلزم نذر المشي إلى البيت الحرام ولا يلزم ذلك إلى المدينة ولا بيت المقدس والكل مواضع يتقب باتيانها إلى الله قال والفرق بينهما أن المشي إلى بيت الله طاعة تلزمه والمدينة وبيت المقدس الصلاة في مسجديهما فقط فلم يلزم نذر المشي أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه أن يأتي فقد صرح بان المدينة وبيت المقدس لا طاعة في المشي اليهما إنما الطاعة الصلاة في مسجديهما فقط ولو نذر أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه ذلك بناء على أنه ليس بطاعة
فتبين أن من أتى مسجد الرسول لغير الصلاة أنه ليس بطاعة ولا يلزم بالنذر وتبين أن السفر اليه وإتيانه لأجل القبر ليس بطاعة كما ذكر ذلك مالك وسائر أصحابه ولا يرد على هذا الاعتكاف فان المعتكف عنده لا بد أن يصلي وكذلك من دخله لتعلم العلم أو تعليمه فانه يصلي فيه أولا
والمقصود أن هذه المسألة مذكورة في المختصرات ذكرها أبو القاسم بن الجلاب في التفريع قال ومن قال علي المشي إلى المدينة أو بيت المقدس فان أراد الصلاة في مسجديهما لزمه إتيانهما راكبا والصلاة فيهما وإ لم ينو ذلك فلا شيء عليه ولو قال لله علي المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس لزمه إتيانهما راكبا والصلاة فيهما وإن نذر السفر إلى مسجد سوى المسجد الحرام أو مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس فان كان قريبا لا يحتاج إلى راحلة مضى إليه وصلى فيه وإن كان بعيدا لا ينال إلا براحلة صلى في مكانه ولا شيء عليه وهذا الفرق الذي ذكره ابن الجلاب في سائر المساجد بين القريب والبعيد ذكره قبله محمد بن المواز في الموازية وغيره قال أما السفر إلى
____________________
(1/44)
المدينتين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس لغير الصلاة في المسجدين فانه لا يستحب عند أحد منهم بل جمهورهم نهوا عنه وحرموه موافقة لمالك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وقد ذكر ذلك ابن بشير في تنبيهه والقيرواني في تقريبه وغيرهما من أصحاب مالك
فهذا نص مالك الإمام وأصحابه على أن من نذر إتيان المدينة لغير الصلاة في مسجدها ولو أنه لزيارة أهل البقيع وشهداء أحد وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فانه لا يأتيها ولا يوف بنذره بل السفر لذلك منهي عنه لقول لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد بل السفر إلى ما يظن أنه زيارة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وليس بزيارة قبره أولى بالنهي عن السفر لزيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد ومسجد قباء وهذه الأماكن يستحب لأهل المدينة إتيانها وإن لم يقدموا من سفر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يخرج إلى القبور يدعو لهم وكان يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا
وأما ما يظن أنه زيارة لقبره مثل الوقوف خارج الحجرة للسلام والدعاء فهذا لا يستحب لأهل المدينة بل ينهون عنه لان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا يدخلون إلى مسجده للصلوات الخمس وغير ذلك والقبر عند جدار المسجد ولم يكونوا يذهبون اليه ولا يقفون عنده فاذا كان السفر لما شرع لأهل المدينة في غير المساجد منهيا عنه فالنهي عن السفر لما ليس بمشروع مما يسمى زيارة لقبره وليس زيارة أولى وأحرى وقد ذكر هذا مالك وغيره من العلماء ذكروا أنه لا يستحب بل يكره للمقيمين بالمدينة الوقوف عند القبر للسلام أو غيره لأن السلف من الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك إذا دخلوا المسجد للصلوات الخمس وغيرها على عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فانهم كانوا يصلون بالناس في المسجد أبو بكر وعمر فصليا بالناس إلى حين ماتا وعثمان إلى أن حصر وعلي صلى فيه مدة مقامه بالمدينة إلى أن خرج إلى العراق وكان الناس يقدمون من الأمصار يصلون معهم ومعلوم أنه لو كان مستحبا لم أن يقفوا حذاء القبر ويسلموا أو
____________________
(1/45)
يدعوا أن يفعلوا غير ذلك لفعلوا ذلك ولو فعلوه لكثر وظهر واشتهر لكن مالك وغيره خصوا سن ذلك عند السفر لما نقل عن ابن عمر قال القاضي عياض قال مالك في المبسوط وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف للقبر وإنما ذلك للغرباء وقال فيه أيضا ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر قيل له فان ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو المرتين أو أكثر من ذلك عند القبر يسلمون ويدعون ساعة فقال لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني إن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده وإنما اشتهر هذا عن ابن عمر أنه إذا قدم من سفر أتى القبر فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا كبر السلام عليك يا أبت وممن رواه القاضي إسماعيل بن اسحاق في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر كان إذا قدم من سفر أتى المسد ثم أتى القبر فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه
فان قيل مالك وغيره استحبوا للغرباء كلما دخلوا المسجد أن يأتوا القبر وهذا يناقض ما ذكر عنهم من النهي عن السفر لأجل القبر فانهم خصوا الغرباء المسافرين بقصد القبر فيكون لهم في المسألة روايتان قيل ليس الأمر كذلك بل هم استحبوا للغرباء الذين قدموا لأجل الصلاة في المسجد أن يقفوا بالقبر ويسلموا كما استحبوا لهم أن يأتوا مسجد قباء وأن يزوروا أهل البقيع وشهداء أحد وهم لو قصدوا السفر لأجل أهل البقيع والشهداء أو لموضع غير مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كان ذلك منهيا عنه عندهم لكن إذا سافروا لأجل المسجد والصلاة فيه أتوا القبر وزاروا قبور الشهداء وأهل البقيع ومسجد قباء ضمنا وتبعا كما أن الرجل ينهى أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة فلو سافر إلى بلد لتجارة أو طلب
____________________
(1/46)
علم أو نحو ذلك كان يأتي مسجده ويزور قبره وإن كان لم يسافر لأجل ذلك وإنما الرخصة في هذا للغرباء دون أهل المدينة فأهل المدينة يفعلون ذلك عند السفر فيحصل مقصودهم والغرباء إنما يقيمون بالمدينة أياما وصار هذا مثل صلاة التطوع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المسجد الحرام فانهم يستحبون للغرباء أن يتطوعوا فيه وأما أهل البلد فتطوعهم في البيوت أفضل قال مالك التنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت وحجتهم في ذلك أن الصلاة فيه بألف صلاة في غيره من المساجد وأهل البلد يصلون فيه دائما الفرض فيحصل مقصودهم بذلك وتطوعهم في البيوت أفضل لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيها الناس أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة وقال صلى الله عليه وسلم في النساء لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن وأما الغرباء فلا يمكنهم أن يصلوا الفرض فيه دائما لأن الفرائض لها أوقات محدودة فيستكثروا من التنفل فيه وكذلك المسجد الحرام ولهذا استحبوا في المسجد الحرام الطواف للغرباء وفضلوه على الصلاة قال ابن القاسم الطواف بالبيت للغرباء أحب إلي من الصلاة وذلك لأن الغرباء لا يمكنهم الطواف كل وقت بخلاف أهل البلد فانه يمكنهم ذلك في جميع الأوقات وإذا خرجوا من البلد ثم رجعوا اعتمروا ولهذا قال ابن عباس يا أهل مكة لا عمرة عليكم إنما عمرتكم الطواف بالبيت وقد نص أحمد على مثل ما قال ابن عباس مع قوله بوجوب العمرة على غيرهم في المشهور عنه ومن أصحابه من جعل الفرق رواية ثالثة ومنهم من تأولها ولكن المنصوص عنه الفرق كقول ابن عباس ولكن الأثر المنقول عن ابن عمر ليس فيه أنه كان يفعل ذلك إلا إذا قدم من سفر ليس فيه أنه كان يفعل ذلك عند إرادة السفر وقد يستحب للقادم من السفر ما لا يستحب لغيره فان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يودعه وكذلك طواف القدوم الذي يطوفه القادم إلى مكة يستحب فيه الرمل أولا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوا ذلك في عمرتهم وفي حجة الوداع ولا يستحب ذلك لأهل مكة لأنه لا قدوم عليهم وكذلك الاضطباع
____________________
(1/47)
يستحب فيه عند الجمهور أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقال مالك ليس بسنة فما نقل عن ابن عمر من تخصيصه الوقوف عند القبر والسلام بما إذا قدم من سفر هو والله أعلم لكون ذلك تحية مجيئه إذا قدم من السفر كما ذأن طواف القدوم يسمى طواف التحية وفيه الرمل والاضطباع وليس ذلك مشروعا لأهل مكة وكذلك طواف الوداع لا يشرع لأهل مكة إذ لا وداع في حقهم
فتفريقهم بين الغرباء وبين المقيمين له نظير في الشرع لكن أصل استحبابهم ما استحبوه من فعل ابن عمر وقد احتج أحمد وغيره مع ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام رواه أبو داود وغيره وهو على شرط مسلم وفي رواته أبو صخر حميد بن زياد وهو مختلف فيه ضعفه ابن معين ووافقه النسائي ومرة ثقه ووافقه أحمد
فمالك وأحمد وغيرهما احتجوا بفعل ابن عمر وقد احتج أحمد وأبو داود وابن حبيب وغيرهم بحديث أبي هريرة هذا وفي هذا نزاع مذكور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان قول مالك وغيره من أهل العلم وأنهم لم يتناقضوا حيث منعوا من السفر إلى غير المساجد الثلاثة وأنه لا يسافر إلى المدينة إلى غير المسجد لا للقبر وغيره وأن السفر إلى غير الثلاثة منهي عنه وإن كان قد نذره فان قوله لا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة إذا كان متناولا بالإجماع السفر إلى سائر المساجد مع أنها أحب البقاع إلى الله فالسفر إلى المقابر أولى بالنهي أو بعدم الفضيلة وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يأتي المدينة لزيارة قبور أهل البقيع أو الشهداء أو غيرهم لم يوف بنذره وقال مالك والأكثرون لا يجوز أن يوفى بنذره فانه معصية ولو نذر السفر إلى نفس المسجد للصلاة فيه لم يحرم عليه الوفاء بالاجماع بل يستحب الوفاء وقيل يجب على قولين للشافعي والوجوب مذهب مالك وأحمد ونفي الوجوب مذهب أبي حنيفة
فظهر أن أقوال أئمة المسلمين موافقة لما دلت عليه السنة من الفرق بين السفر إلى المدينة لأجل مسجد الرسول والصلاة فيه والسفر اليها لغير مسجده كالسفر لأجل مسجد
____________________
(1/48)
قباء أو لزيارة القبور التي فيها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقبور من فيها من السابقين الأولين وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين وظهر أنه إذا نهى عن السفر إلى ما يستحب لأهل المدينة إتيانه بلا سفر كزيارة مسجد قباء وشهداء أحد والبقيع فالنهي عما يكره لأهل المدينة إتيانه أولى وأحرى
والله سبحانه خص رسوله بما خصه به تفضيلا له وتكريما لما يجب من حقه على كل مسلم في كل موضع فان الله أوجب الإيمان به ومحبته وموالاته ونصره وطاعته واتباعه على كل أحد في كل مكان وأمر من الصلاة عليه والسلام عليه في كل مكان ومن سؤال الوسيلة له عند كل أذان ومن ذكر فضائله ومناقبه وما يعرف به قدر نعمة الله به على أهل الأرض وأن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم اليهم وأنه هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأنه لا يؤمن العبد حتى يكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين بل حتى يكون أحب اليه من نفسه إلى غير ذلك من حقوقه المبسوطة في غير هذا الموضع وكل هذه مشروعة في جميع البقاع ليس منها شيء يختص بالقبر ولا بما هو قريب من القبر ولا شرع للناس أن يكون قيامهم بهذه الحقوق عند القبر أفضل من قيامهم بها في بلادهم بل المشروع أن يقوموا بها في كل مكان ومن قام بها عند القبر وفتر عن القيام بها في بلده كما يوجد في بعض الناس يوجد من محبته وتعظيمه وثنائه ودعائه للرسول عند قبره أعظم مما يوجد في بلده وطريقه فهذه حالة منقوصة غير محمودة وصاحبها مبخوس الحظ ناقص النصيب وهو ناقص الدين والايمان إما بترك واجب يأثم بتركه وإما بترك مستحب تنقص درجته بتركه بخلاف من من الله عليه فجعل محبته وثناءه وتعظيمه ودعاءه للرسول في بلده مثل ما إذا كان بالمدينة عند قبره أو أعظم فهذه هي الحالة المحمودة المشروعة وهي حال الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يوم القيامة ولا يعرف عن أحد منهم أنه كان يزيد حبه وتعظيمه ودعاؤه وثناؤه عند القبر ولهذا لم يكونوا يأتونه لأن قيامهم بما يجب من حقوق الرسول في جميع الأمكنة سواء وقد نهى عن تخصيص القبر بذلك وأن يتخذوه عيدا ومسجدا لأنه مظنة أن يتخذ وثنا ويفضي إلى الشرك
____________________
(1/49)
ومظنة أن ينقص قيامهم بحقه في سائر البقاع إذا خصوا تلك البقعة بمزيد القيام كما أن المشاعر لما خصت بالعبادات فالمؤمن تجد إيمانه فيها أعظم من إيمانه في غيرها والرسول صلى الله عليه وسلم حقه في جميع البقاع سواء ولكن تتنوع حقوقه بحسب الأحوال ولهذا إذا اعتبرت أحوال الناس كان من يعظم الميت عند قبره مقصرا في حقوقه التي أمر بها في سائر البقاع بحسب ما زاد عند القبر وهذا أم ر مطرد معروف من جميع أحوال الناس
ولما كان السابقون الأولون أقوم بحقوقه في جميع المواضع كانوا أبعد الناس عن تخصيص القبر بشيء والخلفاء الراشدون ونحوهم لما كانوا أقوم بحقوقه من غيرهم لم يفعلوا ما فعله ابن عمر ونحوه فأبوه عمر كان أقوم بحقه صلى الله عليه وسلم منه وكان ينهى أن يقصد الصلاة في موضع صلى فيه خلاف ما فعله ابنه عبد الله مع فضله ودينه رضي الله عنهم أجمعين وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن قول القائل من حرم السفر إلى زيارة قبره وسائر القبور فقد جاءهم الأنبياء بالعداوة وأظهر لهم العناد يستلزم أن يكون كذلك إمامه مالك بل وإمام غيره من المسلمين فانه من أجل أئمة المسلمين وهو أحد أئمتنا الكبار فان جميع أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة أئمة لنا رضي الله عنهم أجمعين فانه قد صرح في هذا الباب بما يبطل قول هذا الجاهل أكثر من تصريح غيره
الوجه الثاني من الجواب أن قول القائل إن الناهي عن السفر لزيارة القبور قبور الأنبياء وغيرهم قد جاهر الأنبياء بالعداوة وأظعر لهم العناد إنما يتوجه إذا كانت زيارة القبور التي جاءت بها الشريعة هي من باب خضوع الزائر للمزور وذله له وتواضعه له واستسلامه وانقياده لعظمة قدر المزور وجاهه عند الله وقربه اليه
فاذا كان المقصود بالزيارة مثل هذا كان النهي عن ذلك تنقيصا لهم وغضا من أقدارهم كالذي يزور معظما في الدين أو الدنيا زيارة خاضع له متواضع له متبرك به فاذا قيل له هذا لا ينبغي زيارته أمكن أن يقال هذا تنقص لقدره وخفض من منزلته والزيارة التي
____________________
(1/50)
جاءت بها الشريعة ذكرها الأئمة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ليست من هذا النوع بل مقصودها الدعاء للميت كالصلاة على جنازته وقد يكون الزائر فيها أعظم قدرا من المزور كما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم قدرا من كل من زار قبره كأهل البقيع وشهداء أحد وأمه وقد يكون الزائر دون المزور كما في صحيح مسلم عن بريدة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم اذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية وفي حديث عائشة في الصحيح ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين وفي حديث آخر اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم فالدعاء الذي أمر به بعد السلام من جنس الدعاء في صلاة الجنازة وفي صلاة الجنازة قد يكون المصلي أفضل من الميت كما كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الذين صلى عليهم وكذلك السابقون من أصحابه أفضل ممن صلوا عليهم من غيرهم وقد يكون المصلى عليه أفضل كالنبي صلى الله عليه وسلم لما مات وصلى عليه المسلمون أفذاذا وهو أفضل من كل من صلى عليه وكذلك أبو بكر وعمر صلى عليهما المسلمون وهما أفضل ممن صلى عليهما
وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقبره أجل وأعظم من أن يزار كما تزار قبور سائر المؤمنين فان أولئك إذا حصل الزائر عند قبورهم وشاهد القبر فانه يحصل له من الرغبة في الدعاء للميت والترحم عليه والمحبة والمودة ما قد يكون أعظم مما لو كان غائبا ولهذا شرعت الصلاة على قبره واختلف العلماء هل تشرع على القبر مطلقا على قولين في مذهب الشافعي وأحمد مع اتفاقهم على أنه لا يصلى على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لعظم قدره وحقه لا لنقص ذلك فان الناس مأمورون أن يحبوه ويعظموه ويذكروه ويذكروا ما من الله به عليه وما من به عليهم بسببه ويصلوا عليه ويسلموا عليه في كل مكان وأن لا يفعلوا ذلك عند قبره أعظم مما يفعلونه في سائر البقاع فانه يفضي إلى نقص ذلك في سائر البقاع إذا خص قبره بما لا يوجد عند غيره ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون أحد عند قبره في كل وقت
____________________
(1/51)
لو كان مما يوصل اليه فكيف إذا كان محجوبا فتخصيص قبره بصلاة عليه أو سلام أو دعاء أو ثناء يقتضي هضم ذلك ونقصه في سائر البقاع فينقص إيمانم به وتوسلهم بالإيمان به ويفوتهم حظ عظيم من كرامة الله لهم بقيامهم بحقه مع أن ذلك ذريعة إلى الشرك فكان في تخصيص قبره بما يخص به قبر غيره مفسدة وفوات مصلحة ولهذا جاءت سنته بأن لا يزار قبره كما تزار القبور لعظم قدره وحقه كما بينا وأما من زار قبره أو قبر غيره ليشرك به ويدعوه من دون الله فهذا حرام كله وهو مع كونه شركا بالله فهو ترك لما يجب من حقه صلى الله عليه وسلم وطلب منه ما ليس إليه بل إلى الله وإين من يطيعه ويعينه على ما أمر الله به ويقوم بما يجب عليه من حقه ممن يقصر في حقه وطاعته وإعانته ويقصر في عبادة الله وتوحيده ودعائه ويكلف المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الخالق سبحانه وتعالى فيؤذيه بذلك ويؤذي الله بالشرك به وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له ندا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم وقد قال تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } فهذا حقه صلى الله عليه وسلم قال تعالى { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } الآية
وأهل البدع والجهل يفعلون ما هو من جنس الأذى لله ورسوله ويدعون ما أمر الله به من حقوقه وهم يظنون أنهم يعظمونه كما تفعل النصارى بالمسيح فيضلهم الشيطان كما أضل النصارى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا والذين يزورون قبور الأنبياء والصالحين ويحجون اليها ليدعوهم ويسألوهم أو ليعبدوهم ويدعوهم من دون الله هم مشركون وهم إذا قالوا نحن نحبهم فهم إن كانوا صادقين هم يحبونهم مع الله لا يحبونهم لله كمحبة أهل الشرك للأنداد قال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } والحب لله أن يكون الله هو المحبوب لذاته ويحب أنبياءه لأنه يحبهم وعلامة محبتهم متابعتهم كما قال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فمن اتبع الرسول فهو الذي يحبه الله وأما من
____________________
(1/52)
قال انه يحبه وإن غلا فيه وأشرك به إذا لم يتبعه فان الله لا يحبه بل إذا خالفه أبغضه بحسب ذلك { ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون } { وما ربك بظلام للعبيد } فالزيارة للقبور التي شرعها الرسول هي من جنس الصلاة على الجنائز سواء كان الداعي فاضلا أو مفضولا فليس المقصود بها الخضوع للميت والتواضع له كما يقصد بتصديق الأنبياء وطاعتهم ولا شرعت لكون المزور ذا جاه عند الله ومنزلة بل هي مشروعة في حق كل مؤمن وجائز أيضا زيارة قبر الكافر لتذكر الموت ولكن شاع لفظ الزيارة في المعنى الأول عند كثير من المتأخرين ولم يكن هذا معروفا في السلف وما صاروا يفهمون من إطلاق اللفظ بزيارة قبور الأنبياء والصالحين إلا أنها زيارة لقبورهم لعظم قدرهم وجاههم وعلو منزلتهم عند الله كما تزور النصارى قبور من يعظمونه وكما يتوجهون إلى صورته المصورة ويتشفعون به
ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فانهم ببركته يرزقون وينصرون وأنه يندفع عنهم الأعداء والبلاء بسببه ويقولون عمن يعظمونه إنه خفير البلد الفلاني كما يقولون السيدة نفيسة خفيرة مصر القاهرة وفلان وفلان خفراء دمشق أو غيرها وفلان خفير حران أو غيرها وفلان وفلان خفراء بغداد أو غيرها ويظنون أن البلاء يندفع عن هذه المدائن والقرى بمن عندهم من قبور الصالحين أو الأنبياء ثم قد يكون في البلد من قبور الصحابة والتابعين من هو أفضل من ذلك الذي جعلوه خفيرا كما أن فيهم من الصحابة والتابعين وغيرهم من هو أفضل من نفيسة بكثير وبدمشق من الصحابة والتابعين من هو أفضل من بعض من يجعلونه خفيرا أو يقصدون الدعاء عند قبره كاربعة في باب الصغير وكرسلان التركماني وغيرهم وقد نزل عدو كافر بالبلد فتمثل له الشيطان بصورة ذلك الخفير وأنه يضربه بعكازه أو غيره ويقول ارحل من عندي فيرحل ذلك الملك الكافر لما رآه فيظن أولئك أن نفس الشيخ الميت أو سره أتاه فدفع
____________________
(1/53)
عنه وفي المدفونين بالبلد من هو أفضل من ذلك بكثير وهذا مما لم يكن معروفا على عهد الصحابة والتابعين ولكن حدث بعدهم
ومن أقدم ما روي في ذلك ما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت عبد الله بن موسى الطلحي يقول سمعت أحمد بن العباس يقول خرجت من بغداد هاربا منها فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة فقال لي من أين خرجت فقلت من بغداد وهربت منها لما رأيت فيها من الفساد خفت أن يخسف بأهلها فقال ارجع ولا تخف فان فيها قبور أربعة من أولياء الله هم حصن لها من جميع البلايا قلت من هم قال الإمام أحمد بن حنبل ومعروف الكرخي وبشر بن الحارث الحافي ومنصور ابن عمار الواعظ فرجعت ولم أخرج وهذا الشخص الذي قال هذا هو مجهول لا يعرف وقد يكون جنيا وقد يكون إنسيا فان الجن كثيرا ما يتصورون في صورة الانس ويقول أحدهم لمن ينفرد به في البرية أنا النبي فلان أو الشيخ فلان أو الخضر ومثل هذا كثير معروف تطول حكاية آحاده فانها لا تحصى لكثرتها
وهؤلاء قد يظنون أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم مقبورا بينهم مثل وجوده في حياته والله تعالى يقول { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } وهذا غلط عظيم فقد روى الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن اسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عباد بن يوسغ عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله أمانين لأمتي { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } فاذا مضيت تركت فيكم الاستغفار فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الأمان بوجوده هو في حياته وأنه بعد موته لم يبق إلا الاستغفار ليس في وجود القبور أمان وكذلك في صحيح مسلم عن أبي موسى الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال النجوم أمنة للسماء فاذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأما أمنة
____________________
(1/54)
لأصحابي فاذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فاذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون
ومما يوضح الأمر في ذلك أنه من المعلوم أن بيت المقدس وما حوله من قبور الأنبياء ما هو أكثر من غيره فانه قد قيل إن بني غسرائيل بعث فيهم ألف نبي ومع هذا فقد قال الله تعالى { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين } الى قوله تعالى { عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا } فقد بين الله أنهم إذا غلوا وأفسدوا عاقبهم الله بذنوبهم وسلط عليهم العدو الذي جاس خلال الديار ودخل المسجد وقتل فيهم من لا يحصى عدده إلا الله ولم يخفرهم أحد من قبور الأنبياء التي كانت هناك وإنما الناس يجزون بأعمالهم والله تعالى هو الذي يرزقهم وينصرهم لا رازق غيره ولا ناصر إلا هو قال تعالى { أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن } الآيتين فليس للعباد من دون الله لا رازق ولا ناصر وقد قال الله تعالى { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } الآية فأخبر أنه لا بد لكل قرية من هلاك أو عذاب شديد يدون الهلاك وذلك بذنوبهم بعد إرسال الرسل لهم قال الله تعالى { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين } وكان أهل المدينة النبوية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أحسن أهل المدائن حالا ونعمة الله عليهم أعظم النعم لكونهم كانوا مطيعين لله ورسوله وكانت الخلفاء تسوسهم سياسة نبوية فلما تغيروا وقتل بينهم عثمان رضي الله عنه تغير الأمر وحصل لهم من الخوف والذل ثم اصابهم من السيف ما اصابهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون بالحجرة وهو قد بلغهم الرسالة وأدى الأمانة ولم يضمن لهم أنه لوجود قبره أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين يندفع البلاء وإنما يندفع البلاء بطاعة الرسل لا بقبورهم فمن أطاعهم كان سعيدا في الدنيا والآخرة ومن عصاهم استحق ما يستحقه أمثاله وإن كان عنده ما شاء الله من قبورهم وكانت
____________________
(1/55)
حفصة أم المؤمنين تتأول فيهم قوله { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان } الآية كما رواه ابن أبي حاتم وغيره من حديث ابن وهب حدثنا ابن شريح عن عبد الكريم بن الحارث سمعه يحدث عن مشرح ابن عاهان عن سليم بن عفير قال صحبت حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خارجة من مكة إلى المدينة فأخبرت أن عثمان قد قتل فرجعت حفصة فقالت ارجعوا بي عن المدينة فوالذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال الله { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة } الآية ولم ترد حفصة رضي الله عنها أن الآية خصت المدينة بالذكر بل هذا مثل ضربه الله لمن كان كذلك وكان أهل مكة لما كانوا كفارا كذلك فأصابهم ما أصابهم فلما قتل عثمان علمت حفصة أن سيصيب اهل المدينة من البلاء ما يناسب حالهم بعد ما كانوا فيه من الأمن والطمأنينة وإتيان رزقهم رغدا من كل مكان فذكرت ذلك على سبيل التمثيل بالمدينة لا على سبيل الحصر فيها وأهل بغداد أصابهم ما أصابهم من السيف العام وعندهم قبور ألوف من أولياء الله زيادة على قبور الأربعة فلم تغن عنهم من الله شيئا
وهؤلاء الذين يعتقدون أن القبور تنفعهم وتدفع البلاء عنهم قد اتخذوها أوثانا من دون الله وصاروا يظنون فيها ما يظنه أهل الأوثان في أوثانهم فانهم كانوا يرجونها ويخافونها ويظنون أنها تنفع وتضر ولهذا قالوا لهود عليه السلام { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } فقال هود { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا } الى قوله { إن ربي على صراط مستقيم } وقد قال الله تعالى في قصة الخليل { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان } الى قوله { مهتدون } وقال الله تعالى لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم يعد أن خاطب المشركين فقال { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } إلى قوله { لا ينظرون } وقال { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه } الى قوله { قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وأول ما ظهر الشرك بمكة من عمرو بن لحي سيد خزاعة وكان خزاعة ولاه البيت
____________________
(1/56)
بعد جرهم وقيل قريش فجاء إلى البلقاء فرآهم يعبدون الأصنام وزعموا أنهم تنفعهم فجلب أصناما إلى مكة ونصبها حول الكعبة قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن لحي وهو يجر قصبة في النار أي أمعاءه وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام وإذا كان كذلك فمعلوم أنه لو نهى عن زيارة القبور مطلقا كما نهى عن ذلك معاداة لأهل القبور ولا معاندة فكيف إذا كان النهي إنما هو عن السفر لزيارة القبور وهو نهي عام لا يختص به الأنبياء والصالحون بل كما نهى عن السفر إلى مسجد غير الثلاثة فهل يقول عاقل إن هذا من باب الاستهانة بالمساجد والاستخفاف بها كالذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه بل النهي عن السفر اليها مع أن إتيانها وعمارتها بالعبادات من أفضل الطاعات ليس في ذلك نقص لقدرها وكذلك إذا نهى عن السفر مع جواز زيارتها بلا سفر واستحباب ذلك فانه لا يكون تنقصا بأهل القبور بطريق الأولى إذ كان جنس النهي عن زيارتها ليس تنقصا بهم بخلاف النهي عن عمارة المساجد وإتيانها للصلاة والذكر والدعاء كان من أظلم الناس [ و ] كان كافرا كما قال تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } الآية ولو نهى عن السفر اليها كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم وأئمة المسلمين وقال من نذر السفر اليها لا يوف بنذره لم يكن تنقصا بالقبور التي لو نهى عن زيارتها لم يكن متنقصا بها فاذا نهى عن السفر اليها لم يكن متنقصا بها بطريق الأولى والأحرى وهذا بين لمن تدبر
( الوجه الثالث ) أن يقال لا ريب أن أهل البدع يحجون إلى قبور الأنبياء والصالحين ويزورونها غير الزيارة الشرعية لا يقصدون الدعاء لهم كالصلاة على جنائزهم بل الزيارة عندهم والسفر لذلك من باب تعظيمهم لعظم جاههم وقدرهم عند الله ومقصودهم دعاؤهم أو الدعاء بهم أو عندهم وطلب الحوائج منهم وغير ذلك مما يقصد بعبادة الله تعالى ولهذا يقولون إن من نهى عن ذلك فقد تنقص بهم فهذا القول مبني على ذلك الاعتقاد
____________________
(1/57)
والقصد والظن والنصارى يحجون إلى الكنائس لأجل ما فيها من التماثيل ولأجل من بنيت لأجله كما يحجون إلى موضع قبر المسيح عندهم الكنيسة التي يقال إنها بنيت على قبره موضع الصلب بزعمهم وهم يبنون الكنائس على من يعظمونه مثل جرجس وغيره فيتخذون المعابد على القبور وهم ممن لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك تحذيرا لأمته وقال لأمته إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك رواه مسلم والكنيسة التي بنيت موضع ولادته المسماة ببيت لحم وكنائس أخر التي يسمونها القمامة
وكان صاحب الفيل قد بنى كنيسة باليمن وأراد أن يصرف حج العرب عن الكعبة اليها فدخلها بعض العرب وأحدث فيها فغضب وجمع الجنود وسار بالفيل ليهدم الكعبة حتى فعل الله به ما فعل وكذلك كان بالطائف اللات وكانوا يحجون اليها وفي حديث أبي سفيان عن أمية بن أبي الصلت لما أخبر عن العالم الراهب أنه قد أظل زمان نبي يبعث من العرب وطمع أمية بن أبي الصلت أن يكون إياه وقال له ذلك العالم إنه من أهل بيته يحجه العرب فقال إنا معشر ثقيف فينا بيت يحجه العرب قال إنه ليس منكم إنه من إخوانكم من قريش وذلك البيت هو بيت اللات المذكور في قوله تعالى { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } والطائف ومكة هما القريتان اللتان قالوا فيهما { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وآخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من غزوات القتال هي غزوة الطائف ولم يفتحها ثم إن أهلها أسلموا وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمتعهم باللات حولا فامتنع من ذلك وهدمها وأمر ببناء المسجد موضعها واستعمل عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي وهذا معروف عند أهل العلم
والمقصود أنهم كانوا يسمون السفر إلى مثل ذلك حجا ويقولون إن بيت اللات يحج كما تحج الكعبة وكانوا يحجون إلى العزى وكانت عند عرفات ويحجون إلى مناة
____________________
(1/58)
الثالثة الأخرى وهي حذو قديد فكان لكل مدينة من مدائن الحجاز وثن يحجون إليه فاللات بالطائف والعزى عند مكة ومناة لأهل المدينة كانوا يهلون لها وهؤلاء الذين يحجون إلى القبور يقصدون ما يقصده المشركون الذين يقصدون بعبادة المخلوق ما يقصده العابدون لله منهم من قصده قضاء حاجته وإجابة سؤاله يقول هؤلاء أقرب إلى الله مني فأنا أتوسل بهم فهم يتوسطون لي في قضاء حاجتي كما يتوسط خواص الملك لمن يكون بعيدا عنه وقد ينذر لهم أو يأتي بقربان بلا نذر ويتقربون اليهم بما ينذرونه ويهدونه إلى قبورهم كما يتقرب المسلمون به إلى الله من الصدقات والضحايا وكما يهدون إلى مكة أنواع الهدي ومنهم من يجعل لصاحب القبر نصيبا من ماله أو بعض ماله أو يجعل ولده له كما كان المشركون يفعلون بآلهتهم ومنهم من يسيب لهم السوائب فلا يذبح ولا يركب وما يسيب لهم من بقر وغيرها كما كان المشركون يسيبون لطواغيتهم فهذا صنف وصنف ثان يحجون إلى قبورهم لما عندهم من المحبة للميت والشوق اليه أو التعظيم والخضوع له فيجعلون السفر إلى قبره أو إلى صورته الممثلة تقوم مقام السفر إلى نفسه لو كان حيا ويجدون بذلك أنسا في قلوبهم وطمأنينة وراحة كما يحصل لكثير من المحبين إذا رأى قبر محبوبه وكما يحصل للقريب والصديق إذا رأى قبر قريبه وصديقه لكن ذاك حب وتعظيم ديني فهو أعظم تأثيرا في النفوس ولهذا يجد كل قوم عند قبر من يحبونه ويعظمونه ما لا يجدونه عند قبر غيره وإن كان أفضل وكثير من أتباع المشايخ والأئمة يجد عند قبر شيخه وإمامه ما لا يجده عند قبور الأنبياء لا نبينا ولا غيره
وذلك لأن الوجد الذي يجدونه ليس سببه نفس فضيلة المزور بل سببه ما قام بنفوسهم من حبه وتعظيمه وإن كان هو لا يستحق ذلك بل قد يكون المزور كافرا مشركا أو كتابيا والمحبون له المعظمون يجدون مثل ذلك وهذا كما أن عباد الأوثان الذين جعلوهم أندادا لله يحبونهم كحب الله يجدون عند الأوثان مثل ذلك وكذلك عباد العجل قال الله تعالى { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } أي حب العجل هذا قول الأكثرين وموسى حرقه ثم نسفه فانه كان قد صار فحما وقيل بل أشربوا برادته
____________________
(1/59)
التي كانت في الماء وأن موسى برده لكونه كان ذهبا والأول عليه الجمهور وهو أصح
وقد سئل سفيان بن عيينة عن أهل البدع والأهواء أن ما عندهم حبا لذلك فأجاب السائل بأن ذلك كقوله { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقوله { وأشربوا في قلوبهم العجل } والله تعالى قد ذكر حب المشركين آلهتهم في كتابه وبين أن من الناس من يتخذ إلهه هواه أي يجعل ما يألهه ويعبده هو ما يهواه فالذي يهواه ويحبه هو الذي يعبده ولهذا ينتقل من إله إلى إله كالذي ينتقل من محبوب إلى محبوب إذ كان لم يحب بعلم وهدى ما يستحق أن يحب ولا عبد من يستحق أن يعبد بل عبد وأحب ما أحبه من غيره ولا هدى ولا كتاب منزل قال تعالى { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } إلى قوله { سبيلا } وقال { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس ذاك الكافراتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان وقال سعيد بن جبير كان أحدهم يعبد الحجر فاذا رأى ما هو أحسن منه رماه وعبد الآخر وقال الحسن البصري ذاك المنافق نصب هواه فما هوى من شيء ركبه وقال قتادة أي والله كلما هوى شيئا ركبه وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى رواهن ابن أبي حاتم وغيره وقد قال تعالى { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم } الآية وقال تعالى { فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين } إلى قوله { بغير هدى من الله } وقال تعالى عن المشركين { أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين } الى قوله تعالى { فهم عن ذكرهم معرضون } وقال تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } إلى قوله تعالى { يسألون } فالذين يحجون إلى القبور هم من جنس الذين يحجون إلى الأوثان والمشركون يدعون مع الله إلها آخر يدعونه كما يدعون الله وأهل التوحيد لا يدعون إلا الله لا يدعون مع الله إلها آخر لا دعاء سؤال وطلب ولا دعاء عبادة
____________________
(1/60)
وتأله والمشركون يقصدون هذا وهذا ومنهم من يصور مثال الميت ويجعل دعاءه ومحبته الأنس به قائما مقام صاحب الصورة سواء كان نبيا أو رجلا صالحا أو غير صالح وقد يصور المثال له أيضا كما يفعل النصارى وكثيرا ما يظنون في قبر أنه قبر نبي أو رجل صالح ولا يكون ذلك قبره بل قبر غيره أو لا يكون قبرا وربما كان قبر كافر وقد يحسنون الظن بمن يظنونه رجلا صالحا وليا ويكون كافرا أو فاجرا كما يوجد عند المشركين وأهل الكتاب وبعض الضلالة من أهل القبلة
وهذا الجنس من الزيارة ليس مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لا إباحة ولا ندبا ولا استحبه أحد من أئمة الدين بل هم متفقون على النهي عن هذا الجنس كله وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المستفيضة الصحيحة ما هو أقرب من هؤلاء وهم الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وأخبر أن من كان قبلنا كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد وقال ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك فاذا كان قد نهى ولعن من يتخذها مسجدا يعبد الله فيه ويدعو لأن ذلك ذريعة ومظنة إلى دعاء المخلوق صاحب القبر وعبادته فكيف بنفس الشرك الذي سد ذريعته ونهى عن اتخاذها مساجد لئلا يفضى ذلك اليه فمعلوم أن صاحبه أحق باللعنة والنهي وهذا كما أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وقال فانها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ونهى عن تحري الصلاة في هذا الوقت لما فيه من مشابعة الكفار في الصورة وإن كان المصلي يقصد السجود لله لا للشمس لكن نهى عن المشابهو في الصورة لئلا يفضي إلى المشاركة في القصد فاذا قصد الانسان السجود للشمس قت طلوع الشمس ووقت غروبها كان أحق بالنهي والذم والعقاب ولهذا يكون هذا كافرا كذلك من دعا غير الله وحج إلى غير الله هو أيضا مشرك والذي فعله كفر لكن قد لا يكون عالما بأن هذا شرك محرم كما أن كثيرا من الناس دخلوا في الاسلام من التتار وغيرهم وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره وهم يتقربون اليها
____________________
(1/61)
ويعظمونها ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الاسلام ويتقربون إلى النار أيضا ولا يعلمون أن ذلك محرم فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك فهذا ضال وعمله الذي أشرك فيه باطل لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة قال تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } وفي صحيح أبي حاتم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الشرك في هذه الأمة اخفى من دبيب النمل فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله كيف ننجو منه قال قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم واستغفرك لما لا أعلم وكذلك كثير من الداخلين في الاسلام يعتقدون أن الحج إلى قبر بعض الأئمة والشيوخ أفضل من الحج أو مثله ولا يعلمون أن ذلك محرم ولا بلغهم أحد أن هذا شرك محرم لا يجوز وقد بسطنا الكلام في هذا في مواضع
والمقصود هنا أن هؤلاء المشركين الذين يجعلون أصحاب القبور وسائط يشركون بهم كما يشرك أصحاب الأوثان بأوثانهم يدعونهم ويستشفعون بهم ويرجونهم ويخافونهم وقد جعلوهم أندادا يحبونهم كحب الله هم الذين يقولون لمن نهى عن هذا الشرك وأمر بعبادة الله وحده إنه تنقصهم وعاداهم وعاندهم كما يزعم النصارى أن من جعل المسيح عبدا لله ولا يملك ضرا ولا نفعا إنه قد ينقص المسيح وعاداه وسبه وعانده
وأما من عرف أن الأنبياء نهوا عن هذا الشرك فأطاعهم واتبع سبيلهم وعبد الله وحده فهذا يمتنع أن يقول هذا تنقص ومعاداة فهذا الفرقان هو الذي يفصل بين عباد الرحمن وعباد الشيطان والأنبياء تجب محبتهم وموالاتهم وتعزيرهم وتوقيرهم لا سيما خاتم الرسل صلوات الله عليهم أجمعين وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال والذي
____________________
(1/62)
نفسي بيده لا يؤمن أحدكم الحديث وفي البخاري عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمربن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من فسك فقال له عمر فانه الآن والله أنت أحب إلي من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلا من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله ومن كان يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار وفي بعض طرق البخاري لا يجد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله وذكر الحديث
وتصديق هذه الأحاديث في كتاب الله تعالى قال تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم } الآية ومحبة الرسول هي من محبة الله فهي حب لله وفي الله ليست محبة محبوب مع الله كالذين قال الله فيهم { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الايمان كما جاء في الحديث وحب ند مع الله شرك لا يغفره الله فأين هذا من هذا والمحبة التي أوجبها لرسوله وللمؤمنين لا تختص ببقعة ولا تختص بقبورهم ولا غيرها وكذلك سائر حقوقهم من الإيمان بهم وما يدخل في ذلك فان ذلك واجب في كل موضع وكذلك الصلاة والسلام على الرسول وغير ذلك فمن يجد قلبه عند قبر الرسول أكثر محبة له وتعظيما ولسانه أكثر صلاة عليه وتسليما مما يجده في سائر المواضع كان ذلك دليلا على أنه ناقص الحظ مبخوس النصيب من كمال المحبة والتعظيم وكان فيه من نقص الإيمان وانخفاض ادرجة بحسب هذا التفاوت بل المأمور به أن تكون محبته وتعظيمه وصلاته وتسليمه عند غير القبر أعظم فان القبر قد حيل بين الناس وبينه وقد نهى أن يتخذ عيدا ودعا الله أن لا يجعل قبره وثنا فان لم يجد إيمانه به ومحبته له
____________________
(1/63)
وتعظيمه له وصلاته عليه إذا كان في بلده أعظم مما يكون لو كان في نفس الحجرة من داخل لكان ناقص الحظ من الدين وكمال الإيمان واليقين فكيف إذا لم يكن من داخل بل من خارج فهذا هذا والله أعلم
( الوجه الرابع ) أن يقال عداوة الأنبياء وعنادهم هو بمخالفتهم لا بموافقتهم كمن نهى عما أمروا من عبادة الله وحده وأمر بما نهوا عنه من الشرك بالمخلوقات كلها بالملائكة والأنبياء والشمس والقمر والتماثيل المصورة لهؤلاء وغير ذلك ومن كذبهم فيما أخبروا به من إرسال الله لهم وما أخبروا به عن الله من أسمائه وصفاته وتوحيده وملائكته وعرشه وما أخبروا به من الجنة والنار والوعد والوعيد فلا ريب أن من كذب ما أخبروا به ونهى عما أمروا به فهذا بما نهوا عنه فقد عاداهم وعاندهم وأما من صدقهم فيما أخبروا به وأطاعهم فيما أمروا به فهذا هو المؤمن ولي الله الذي والاهم واتبعهم وإذا كان كذلك فننظر فيما جاء عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء وإن كانوا أمروا بالسفر إلى القبور كما يسافر المسافرون لزيارتها يدعونها ويستغيثون بها ويطلبون منها الحوائج ويتضرعون لها أي لأصحابها ويرون السفر اليها من جنس الحج أو فوقه أو قريبا منه فمن نهى عما أمر به الرسول ورغب فيه يكون مخالفا له وقد يكون بعد ظهور قوله له وإصراره على مخالفته معاديا ومعاندا كما قال تعالى { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى } وإن كان الرسول لم يأمر بشيء من ذلك ولكن شرع السفر الى المساجد الثلاثة وقال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ونهى عن اتخاذ القبور مساجد ولعن من قعل ذلك وهو اهون من الحج اليها ومن دعاء أصحابها من دون الله فان هذا هو الذي جاءت به الأنبياء دون ذاك فالمخالف للرسول الآمر بما نهى عنه من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة الآمر بالسفر إلى زيارة القبور قبور الأنبياء والصالحين وهذا السفر قد علم أنه من جنس الحج وعلم أن أصحابه يقصدون به الشرك أعظم مما يقصده الذين يتخذون القبور مساجد الذي لا ينهى عما نهى عنه الرسول من اتخاذ القبور مساجد واتخاذها عيدا وأوثانا
____________________
(1/64)
المعادي لمن وافق الرسول فأمر بما أمر ونهى عما نهى المكفر لمن وافق الرسول المستحل دمه هو أحق بأن يكون معاديا للرسول معاندا له جاهرا بعداوة أولياء الرسول وحزبه ومن كان كذلك كان هو المستحق لجهاده وعقوبته بعد إقامة الحجة عليه وبيان ما جاء به الرسول دون الموافق للرسول الناصر لسنته وشريعته وما بعثه الله به من الاسلام والقرآن ولكن هذا من جنس أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويعادون من خالفها ونسبونها إلى الرسول افتراء وجهلا كالرافضة الذين يقولون إن المهاجرين والأنصار عادوا الرسول وارتدوا عن دينه وأنهم هم أولياء الله والخوارج المارقين الذين يدعون أن عثمان وعليا ومن والاهما كفار بالقرآن الذي جاء به الرسول ويستحلون دماء المسلمين بهذا الضلال ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وأخبر بما سيكون منهم وقال فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فان في قتلهم أجرا عند الله وقال لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد والأحاديث فيهم كثيرة وعظم ذنبهم بتكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وإلا فلو لم يفعلوا ذلك لكان لهم أسوة بأمثالهم من أهل الخطأ والضلال ومعلوم أن الشرك بالله وعبادة ما سواه أعظم الذنوب والدعاء اليه والأمر به من أعظم الخطايا ومعاداة من ينهى عنه ويأمر بالتوحيد وطاعة الرسول أعظم من معاداة من هو دونه ولولا بعد عهد الناس بأول الاسلام وحال المهاجرين والأنصار ونقص العلم وظهور الجهل واشتباه الأمر على كثير من الناس لكان هؤلاء المشركون والآمرون بالشرك مما يظهر كفهم وضلالهم للخاصة والعامة أعظم مما يظهر ضلال الخوارج والرافضة فان أولئك تشبثوا بأشياء من الكتاب والسنة وخفي عليهم بعض السنة اللهم إلا من كان منافقا زنديقا في الباطن مثل بعض الرافضة ويقال إن أول من ابتدعه كان منافقا زنديقا فان هؤلاء من جنس أمثالهم من الزنادقة والمنافقين بخلاف الخوارج فانهم لم يكونوا زنادقة منافقين بل كان قصدهم اتباع القرآن لكن لم يكونوا يفهمونه كما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/65)
يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم فالمبتدع العابد الجاهل يشبههم من هذا الوجه وأما الحجاج إلى القبور والمتخذون لها أوثانا ومساجد وأعيادا فهؤلاء لم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم منهم طائفة تعرف ولا كان في الاسلام قبر ولا مشهد يحج اليه بل هذا إنما ظهر بعد القرون الثلاثة والبدعة كلما كانت أظهر مخالفة للرسول يتأخر ظهورها وإنما يحدث أولا ما كان أخفى مخالفة للكتاب والسنة كبدعة الخوارج ومع هذا فقد جاءت الأحاديث الصحيحه فيها بذمهم وعقابهم وأجمع الصحابة على ذلك قال الإمام أحمد صح فيهم الحديث من عشرة أوجه وقد رواها صاحبه مسلم كلها في صحيحه وروى البخاري قطعة منها وأما بدع أهل الشرك وعبادة القبور والحجاج اليها فهذا ما كان يظهر في القرون الثلاث لكل أحد مخالفته للرسول فلم يتجرأ أحد أن يظهر ذلك في القرون الثلاثة وبسط هذا له موضع آخر ولكن نبهنا لى ما به يعرف ما وقع فيه مثل هذا المعترض وأمثاله من الضلال والجهل ومعاداة سنة الرسول وتبعيها وموالاة أعداء الرسول وغير ذلك مما يبعدهم عن الله ورسوله
ثم من قامت عليه الحجة استحق العقوبة وإلا كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة لا ثواب فيها وكانت منقصة له خافضو له بحسب بعده عن السنة فان هذا حكم أهل الضلال وهو البعد عن الصراط المستقيم وما يستحقه أهله من الكرامة ثم من قامت عليه الحجة استحق العقوبة وإلا كان بعده ونقصه وانخفاض درجته وما يلحقه في الدنيا والآخرة من انخفاض منزلته وسقوط حرمته وانحطاط درجته هو جزاؤه والله حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة وهو عليك حكيم لطيف لما يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم واليه ترجعون
( الوجه الخامس ) أن الكلام في الأحكام الشرعية مثل كون الفعل واجبا أو مستحبا أو محرما أو مباحا لا يستدل عليه إلا الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والاجماع والاعتبار والأدلة الشرعية كلها مأخوذة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فالمتكلمون فيها سواء اتفقوا أو اختلفوا كلهم متفقون على الإيمان بالرسول وبما جاء به ووجوب اتباعه وأن الحلال
____________________
(1/66)
ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه فالكلام فيها يستلزم الإيمان بالأنبياء وموالاتهم ووجوب تصديقهم واتباعهم فيما أوجبوه وحرموه والقائل منهم عن فعل إنه حرام أو مباح أو واجب إنما يقول إن الرسول حرمه أو أباحه أو أوجبه ولو أضاف الإيجاب والتحريم والإباحة إلى غير الرسول لم يلتفت اليه ولم يكن من علماء المسلمين وأهل الإسلام متفقون على هذا الأصل سنيهم وبدعيهم كلهم متفقون على وجوب اتباع ما بلغه الرسول عن الله وعلى الاستدلال بالقرآن والسنة المعلومة المفسرة لمجمل القرآن وأما المخالفة لظاهر القرآن فمن الخوارج من نازع فيها وهو فاسد من وجوه كثيرة ومن رد نصا إنما يرده إما لكونه لم يثبت عنده عن الرسول أو لكونه غير دال عنده على محل النزاع أو لاعتقاده أنه منسوخ ونحو ذلك كما قد بسطت الكلام فيه على ما كتبته في رفع الملام عن الأئمة الأعلام وبينت أعذارهم في هذا الباب وإن كان الواجب هو اتباع ما علم من الصواب مطلقا والكلام في ذلك سواء تعلق بحقوق الرب أو حقوق رسوله أو غير ذلك لا يدخل شيء من ذلك في مسائل سب الأنبياء وتنقصهم ومعاداتهم وإن كان المتكلم من هؤلاء مخطئا فان مصيبهم ومخطئهم إنما مقصوده اتباع الرسول وتحريم ما حرمه وإيجاب ما أوجبه وتحليل ما حلله وهذا مستلزم لإيمانه بالرسول وموالاته وتعظيمه فكيف يتصور مع ذلك ان يكون قاصدا لمعاداته أو سبه أو التنقص به أو غير ذلك وهذا ممتنع ولهذا لم يكن في المسلمين من جعل أحدا من هؤلاء سبابا للأنبياء معاديا لهم وإن قدر أنهم أخطأوا وهذا أمر واضح يعرفه آحاد الطلبة
فاذا تكلم العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هل هي واجبة في الصلاة أو غير واجبة في الصلاة كقول الجمهور لم يقل أحد إن من لم يوجبها فقد تنقص الرسول أو سبه أو عاداه والذين لم يوجبوها في الصلاة منهم من أوجبها خارج الصلاة ومنهم من لم يوجبها بحال وجعل الأمر في الآية أمر ندب وحكى الاجماع على ذلك وقد بالغ القاضي عياض في تضعيف قول الشافعي بايجابها في الصلاة وقال حكى الإمام أبو جعفر الطبري والطحاوي وغيرهما إجماع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في
____________________
(1/67)
التشهد غير واجبة قال وشذ الشافعي في ذلك فقال من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير وقبل السلام فصلاته فاسدة وإن صلى عليه قبل ذلك لم يجزه قال ولا سلف له في هذا القول ولا سنة يتبعها قال وقد بالغ في إنكار هذه المسألة عليه بمخالفته فيها من تقدمه جماعة وشنعوا عليه بخلاف الحاصل فيها منهم الطبري والقشيري وغير واحد قال وقال أبو بكر بن المنذر يستحب أن لا يصلي أحد صلاة إلا صلى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم فان ترك تارك ذلك فصلاته مجزية في مذهب مالك وأهل المدينة والثوري وأهل الكوفة من أهل الرأي وغيرهم وهو قول جملة أهل العلم وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة وأن تاركها في التشهد مسيء قال وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان قلت وأحمد عنه في المسألة ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة اختار كل رواية طائفة من أصحابه وذكر محمد بن المواز قولا له كقول الشافعي قال وقال الخطابي ليست بواجبة في الصلاة وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي قال ولا أعلم له فيها قدوة وحكى الوجوب عن أبي جعفر الباقر وأنه قال لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته لرأيت أنها لم تتم وقال القاضي عياض اعلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على الجملة مرغب فيه غير محدود بوقت لأمر الله تعالى بالصلاة عليخ وحمل الأئمة والعلماء له على الوجوب وأجمعوا عليه قال وحكى أبو جعفر الطبري أن محمل الآية عنده على الندب وادعى فيه الاجماع
فهذا بعض كلام العلماء في مثل هذه وحكايات إجماعهم متناقضة ومع هذا فلم يقل أحد إن من لم يوجب الصلاة عليه فقد تنقصه أو سبه أو عاداه أو نحو ذلك فانهم كلهم قصدهم متابعته كل بحسب اجتهاده رضي الله عنهم أجمعين وكذلك تنازعوا هل تكره الصلاة عليه عند الذبح فكره مالك وأحمد وغيرهما قال القاضي عياض وكره ابن حبيب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح كره سحنون الصلاة عليه عند التعجب قال ولا يصلى عليه إلا على طريق الاستحباب وطلب الثواب وقال أصبغ عن أبن القاسم
____________________
(1/68)
موطنان لا يذكر فيهما إلا الله الذبح والعطاس فلا يقال فيها بعد ذكر الله محمد رسول الله ولو قال بعد ذكر الله محمد رسول الله لم يكره تسميته له مع الله وقال أشهب لا ينبغي أن تجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم استنانا قلت والشافعي لم يكره ذلك بل قال هو من الايمان وهو قول طائفة من أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وكذلك تكلموا في الحلف بالملائكة والأنبياء أما الملائكة فاتفق المسلمون على أنه لا يحلف بأحد منهم ولا تنعقد اليمين إذا حلف به وهذا أيضا قول الجمهور في الأنبياء كلهم نبينا وغيره وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وعنه أنها تنعقد بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة اختارها طائفة من أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وغيره وخصوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وابن عقيل عدى ذلك إلى سائر الأنبياء والصواب قول الجمهور وأنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا بنبي ولا غيره بل ينهى عن الحلف به فاذا قيل لا يحلف به أو لا يحلف بالأنبياء ولا بالملائكة لم يكن هذا معاداة لهم ولا سبا ولا تنقصا بهم عند أحد من المسلمين وكذلك سائر خصائص الرب إذا نفيت عنهم فقيل لا تعبد الملائكة ولا الأنبياء ولا يسجد لهم ولا يصلى لهم ولا يدعون من دون الله ونحو ذلك كان هذا توحيدا وإيمانا لم يكن هذا تنقيصا بهم ولا سبا لهم ولا معاداة كما قال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة } إلى قوله بعد { إذ أنتم مسلمون }
فاذا قيل لا يجوز لأحد أن يتخذ الملائكة والنبيين أربابا كما ذكر الله ذلك في القرآن ولم يقل مسلم هذا معاداة لهم ولا منقصة ولا سب وكذلك إذا قيل إنهم عباد الله وإن المسيح وغيره عباد الله كان هذا توحيدا وإيمانا لم يكن ذلك تنقصا ولا سبا ولا معاداة قال تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } إلى قوله { ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } وقد ذكر أهل التفسير أن أهل نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس بعار بعيسى أن يكون عبدا لله فنزل { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله } أي لن يأنف ويتعظم عن ذلك فمن جعل تحقيق التوحيد تنقصا بالأنبياء أو سبا
____________________
(1/69)
أو معاداة فهو من جنس هؤلاء النصارى والنهي عن اتخاذ قبورهم مساجد والسفر إليهم واتخاذها أوثانا وعيدا فهو من هذا الباب من باب تحقيق التوحيد
وفي مثل هذا المقام يقال إن كا ما يدعى من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم { لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } إلى قوله { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } فلا تنفه شفاعة ملك ولا نبي إلا بإذن الله كما قال { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } ولم يكن هذا القول ونحوه تنقصا بالملائكة ولا سبا لهم ولا معاداة لهم بل الملائكة والأنبياء يعادون من أشرك بهم ويوالون أهل التوحيد الذين ينزلونهم منازلهم وهم برآه ممن يغلو فيهم ويشرك بهم قال تعالى { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك } الآية وقال تعالى { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } إلى قوله { نذقه عذابا كبيرا } وقال تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } إلى قوله { والله هو السميع العليم } وهذا بيان أن المسيح وغيره من المخلوقين لا يملكون للناس ضرا ولا نفعا ولا يجوز أن يقال هذا معاداة له أو سب أو تنقص وقد أمر الله سبحانه خاتم الرسل بأن يقول ما ذكره عنه من قوله { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } الآية وقال تعالى { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } وقال تعالى { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } ومثل هذا في القآن كثير يعم ويخص فالأل كقول صاحب يس { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة } الآية وقوله { أليس الله بكاف عبده } إلى قوله قل
____________________
(1/70)
{ حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } إلى قوله { فلا كاشف له إلا هو } وهذا باب واسع
والمقصود أن أدنى من يعد من طلبة العلم يعلم أن أفعال العباد إذا تكلم فيها بالأمور والنهي والإيجاب والتحريم وهل هذا السفر جائز أو مستحب أو محرم أو مكروه سواء كان إلى مسجد او إلى قبر نبي أو غير ذلك لم يدخل شيء من هذا في مسائل تنقيص الأنبياء وسبهم بل أبلغ من هذا أنه إذا تكلم في سمائل العصمة وهل يجوز على الأنبياء الذنوب أو لايجوز واختار مختار أحد القولين لم يقل أحد من المسلمين إن هذا تنقص وسب ومعاداة وكذلك السؤال بالأنبياء في الدعاء مثل أن يقول الداعي أسالك بحق الأنبياء عليك نهى أبو حنيفة عنه وطائفة ترخص في هذا ولم يقل أحد إن كل من نهى عن ذلك قد تنقص الانبياء وعادهم والقاضي عياض رحمه الله مع أنه أبلغ الناس في مسائل العصمة وفي مسائل السب قد ذكر هذا لئلا يقع فيه هؤلاء الجهال الذين يجعلون الكلام العملي والسب والتنقص ولا ريب أن هذا الباب إن كان فيه معاداة وتنقص لهم فمن خالفهم وأمر بما نهوا عنه ونهى عما أمروا به وقال عنهم الكذب ونسب اليهم ما نزههم الله منه مثل هؤلاء الجهال المفترين كان هو أولى بالمعاداة والسب والتنقص كما قد بسط في مواضع أخر إذ المقصود هنا ما ذكره القاضي عياض رحمه الله لما ذكر قسم الكلام في مسائل السب وما يشتبه به ما ليس بسب قال الوجه السابع أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أو يختلف في جوازع عليه وما يطرأ من الأمور البشرية به ويمكن اضافتها اليه أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه وأذاهم له ومعرفة ابتداء حاله وسيرته وما لقيه من بؤس زمنه ومر عليه من معاناة عيشته كل هذا على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت منه العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم فذا فن خارج عن هذه الفنون الستة إذ ليس فيه غمص ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ قال لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء
____________________
(1/71)
طلبته الذين ممن مقاصده ويحققون فوائده ويجنب ذلك من عساه لا يفقه أو يخشى به فتنة فقد كره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف لما انطوت عليه من تلك القصص لضعف معرفتهن ونقص عقولهن وإدراكهن فقد قال صلى الله عليه وسلم مخبرا عن نفسه باستئجاره لرعاية الغنم في ابتداء حاله وقال صلى الله عليه وسلم ما من نبي إلا وقد رعى الغنم وأخبرنا الله بذلك عن موسى فهذا لا غضاضة فيه جملة واحدة لمن ذكره على وجهه بخلاف من قصد الغضاضة والتحقير بل كانت عادة جميع العرب نعم في ذلك الأنبياء حكمة بالغة وتدريج من الله تعالى لهم إلى كرامته وتدريب برعايتها لسياسة أممهم من خلقه بما سبق لهم من الكرامة في الأزل ومتقدم العلم بذلك وكذلك قد ذكر الله يتمه وعيلته على طريق المنة عليه والتعريف بكرامته له فذكر الذاكر لها على وجه تعريف حاله والخبر عن مبتدئه والتعجب من منح الله قبله وعظيم منن الله عنده ليس فيه غضاضة بل فيه دلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وصحة دعوته إذ أظهره الله تعالى بعد هذا على صناديد العرب ومن ناوأه من أشرافهم شيئا فشيئا ونمى أمره صلى الله عليه وسلم حتى قهرهم وتمكن من ملك مقاليدهم واستباحة ممالك كثيرة من الأمم غيرهم باظهار الله وتأييده بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم وإمداده بالملائكة المسومين ولو كان ابن ملك أو ذا أشياع متقدمين لحسن كثير من الجهال أن ذلك موجب ظهوره ومقتضى علوه ولهذا قال هرقل حين سأل أبا سفيان ابن حرب عنه صلى الله عليه وسلم هل من آبائه ملك فقال لا ثم قال ولو قلت كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه وإذ اليتم من صفته وإحدى علاماته في الكتب المتقدمة وأخبار الأمم السالفة وكذا وقع ذكره في كتاب إرميا وبهذا وصفه ابن ذي يزن لعبد المطلب وبحيرا لأبي طالب وكذلك إذ وصف صلى الله عليه وسلم بأنه أمي كما وصفه الله بذلك فهي مدحة له وفضيلة ثابتة فيه وقاعدة معجزته إذ معجزته العظيمة من القرآن العظيم إنما هي متعلقة بطريق المعارف والعلوم مع ما منح صلى الله عليه وسلم وفضل به من ذلك كما قدمناه في القسم الأول ووجود مثل ذلك من رجل لم يقرأ أو لم يكتب ولم يدارس ولا لقن مقتضى العجب ومنتهى العبر ومعجزة البشر وليس ذلك نقيصة إذ المطلوب من الكتابة
____________________
(1/72)
والقراءة والمعرفة وإنما هي آلة لها وواسطة موصلة إلى غير مرادها في نفسها فاذا حصلت الثمرة والمطلوب استغنى عن الواسطة والسبب والأمية في غيره نقيصة لأنها سبب الجهالة وعنوان الغباوة فسبحان من باين أمره من أمر غيره وجعل شرفه فيما فيه محطة سواه وحياته فيما فيه هلاك من عداه هذا شق قلبه وإخراج حشوته كان تمام حياته وغاية قوة نفسه وثبات روعه وهو فيمن سواه منتهى هلاكه وحتم موته وفنائه وهلم جرا إلى سائر ما روى من أخباره صلى الله عليه وسلم وسيره وتقلله من الدنيا ومن الملبس والمطعم والمركب وتواضعه ومهنته نفسه في أموره وخدمة بيته زهدا ورغبة عن الدنيا وتسوية بين حقيرها وخطيرها لسرعة فناء أمورها وتقلب أحوالها كل هذا من فضائله صلى الله عليه وسلم ومآثره وشرفه كما ذكرناه فمن أورد شيئا من ذلك موارده وقصد به مقصده كان حسنا ومن أورد ذلك على غير وجهه وعلم منه ذلك سوء قصده لحق بالفصول التي [ قدمناها ]
هذا كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى يفرق فيما يظن أن فيه غضاضة ونقصا وعيبا وليس هو في نفس الأمر كذلك وبين من يذكره على وجهه لبيان العلم والدين ومعرفة الفضائل والمناقب وهكذا وهكذا سائر ما فيه هذا
وحينئذ فأعظم أحوال الناس مع الأنبياء وأفضلها وأكملها هو حال الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا سيما أبو بكر وعمر وهو تصديقه في كل ما يخبر به من الغيب وطاعته وامتثال أمره في كل ما يوجبه ويأمر به وأن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وأهله وماله وأن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب اليه مما سواهما وأن يتحرى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيعبد الله بما شرعه وسنه من واجب ومستحب لا يعبده بعبادة نهى عنها وببدعة ما أنزل الله بها من سلطان وإن ظن أن في ذلك تعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيما لقدره كما ظنه النصارى في المسيح وكما ظنوه في اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وكما
____________________
(1/73)
ظن الذين اتخذوا الملائكة والنبيين أربابا فان الأمر بالعكس بل كل عبد صالح من الملائمة والأنبياء فانما يحب ما أحبه الله من عبادته وحده وإخلاص الدين له ويوالي من كان كذلك ويعادي من أشرك ولو كان المشرك معظما له غاليا فيه فان هذا يضره ولا ينفعه لا عند الله ولا عند الذي غلا فيه أشرك فيه واتخذه ندا لله يحبه كحب الله واتخذه شفيعا يظن أنه إذا استشفع به يشفع له بغير إذن أو اتخذه قربانا يظن أنه إذا عبده قربه إلى الله فهذه كلها ظنون المشركين قال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } وقال تعالى { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وقال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال تعالى { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } إلى قوله { يفترون } وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه { وأنذر عشيرتك الأقربين } فقال يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنكم من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا سليني من مالي ما شئت وفي الصحيحين أنه قال ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تبعر أو رقاع تخفق يقول يا رسول الله أغثني أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك وهذا باب واسع
( الوجه السادس ) أن هذا المعترض سوى بين السفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وسائر القبور وذكر أن المجيب حرم السفر لزيارة قبره وسائر القبور وهذا يقتضي أن المجيب حرم السفر إلى مسجده وهذا كذب على المجيب فان الذين قالوا من علماء المسلمين إنه يستحب زيارة قبره أو حكوا على ذلك الإجماع لو قدر أنهم صرحوا باستحباب السفر إليه فمرادهم السفر إلى مسجده فان هذا هو المقدور وهو المشروع فان كل مسافر وزائر
____________________
(1/74)
يذهب إلى هناك إنما يصل إلى مسجده ويشرع له الصلاة في مسجده بالاتفاق وكل من ذكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه يبدأ بالصلاة في مسجده ثم بعد ذلك يسلم عليه وهذا هو المنصوص عن الأئمة كمالك وأحمد وغيرهما ففي العتبية عن مالك قال يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قال وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث العمود المخلق قال وأما الفريضة فالتقدم إلى الصفوف والتنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت وقد روي عن مالك رواية أخرى أنه لم يحد للتنفل موضعا من المسجد بل سوى بين الجميع وكذلك قال أحمد وابن حبيب وسائر العلماء إنه يبدأ بالركوع في المسجد وهذا مذهب السلف والخلف أهل المذاهب الأربعة وغيرهم لكن منهم من يختار الصلاة في الروضة كما ذكر ذلك أحمد وابن حبيب وغيرهما وما علمت نزاعا في أنه يصلي في المسجد أولا إلا ما رأيته في مناسك لأبي القاسم ابن حباب السعدي في آداب الإحرام والمجاورة والزيارة قال فيه فاذا دخل الداخل المسجد فهل يبدأ بحقوق المسجد أو بحقوق المصطفى وهو التأدب بآداب الزيارة اختلف العلماء في ذلك فمن قائل يقول يبدأ بحقوق المسجد أولا لأنه أول البقعة يلاقيها قبل لقاء المصطفى فيقيم آداب المسجد بصلاة ركعتين قبل الزيارة قالوا ولا يزيد بزيارته ميتا على زيارته حيا وقد كانت صحابته إذا دخلوا للقائه في المسجد يبدأون بتحية المسجد قبل لقائه بأمر منه واقتدار منهم
وقال آخرون دخول المسجد إنما كان لزيارة المصطفى فالقصد زيارته والثاني حقوق المسجد فيبدأ بحقوقه قبل حقوق المسجد والصحيح الأول قلت هذا القول لم يقله عالم معروف يحكيى قوله إنما قاله بعض من لا يعرف شريعة الاسلام ولهذا علله بقوله دخول المسجد إنما كان لزيارة المصطفى فان هذا التعليل يدل على جهله بسنته صلى الله عليه وسلم المتواترة التي أجمع المسلمون عليها وهو أن المسجد شرع دخوله للصلاة فيه وإن لم يكن هناك قبره كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه والرحال تشد اليه كما قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا
____________________
(1/75)
وهذا متفق عليه بين المسلمين والسفر لقبره لو كان مشروعا لكان يسافر لهذا ولهذا فالذي يقول إن السفر للقبر دون المسجد هو المشروع فمن قال هذا فانه لا يعرف دين الاسلام فإن أصر على مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين تعين قتله فكيف إذا كان المشروع هو السفر إلى مسجده وقد نهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة كما قد ذكره السلف والأئمة وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن الزائر إنما يصل إلى مسجده ويشرع له الصلاة في مسجده بالاتفاق والصلاة والسلام عليه والثناء عليه والثناء وتعزيره وتوقيره وذكر ما من الله عليه به ومن على الناس به فأما الوصول إلى قبره أو الدخول إلى حجرته فهذا غير ممكن ولا مقدور ولا هو من المشروع المأمور بخلاف سائر القبور وإذا كان المراد بزيارة قبره والسفر إليه هو السفر إلى مسجده وفعل ما يشرع هناك فالمجيب قد ذكر أن هذا مستحب بالنص والإجماع وما حكاه عن المجيب يقتضي أنه حرم مثل هذا السفر ويقتضي أن السفر اليه والسفر إلى قبر غيره سواء وهذا غلط عظيم على شرع الرسول وعلى المجيب وغيره
( الوجه السابع ) أنه إذا كان المراد بالسفر إليه وزيارته هو السفر إلى مسجده فهذا سفر مستحب بالنص والاجماع وهذا المعترض قد سوى بينهما فقد خالف النص والاجماع
( الوجه الثامن ) أن يقال المراد بزيارته المستحبة وبالسفر اليها هو السفر إلى مسجده باتفاق المسلمين ثم جميع ما يشرع هناك من الصلاة والسلام عليه والدعاء له والثناء عليه هو مشروع في مسجده وسائر المساجد وسائر البقاع باتفاق المسلمين فلم يبق لنفس القبر اختصاص بعبادة من العبادات بخلاف قبر غيره فانه إذا استحب زيارة قبور أحد المؤمنين للدعاء له والاستغفار استحب أن يصل إلى قبره ويدعو له هناك كما يصلي على قبره فان قبره بارز يمكن الوصول اليه والرسول حجب قبره ولم يبرزوه فلا يشرع ولا يقدر أحد على زيارته كما يرع ويقدر على زيارة قبر غيره بل زيارته التي يشرع لها السفر إنما هي السفر إلى مسجده ولهذا كان أهل مدينته يكره لهم كلما دخلوا المسجد
____________________
(1/76)
وخرجوا منه أن يأتوا إلى قبره بخلاف مسجده فانه مشروع لهم إتيانه والصلاة فيه كما يشرع في سائر المساجد والصلاة فيه أفضل والغرباء يستحب لهم صلاة التطوع في مسجده بخلاف أهل البلد فانه قد ثبت عنه أنه قال لأهل المدينة أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة فعلم أن الذي ذكروه من استحباب زيارة قبره إنما هو السفر إلى مسجده ليس هو زيارة قبره كما تزار القبور فان ذلك غير مشروع ولا مقدور والمجيب قد ذكر هذا الفرق وذكر استحباب السفر إلى مسجده بالنص والاجماع وما استحبه العلماء من زيارة قبره وهذا المعترض سوى بينهما وذكر عن المجيب أنه حرم السفر لزيارة قبره وسائر القبور ولم يذكر عنه أنه استحب السفر إلى مسجده وزيارته الشرعية فتبين بطلان ما نقله عنه مع أن نفس زيارة القبور مختلف في جواها قال ابن بطال في شرح البخاري كره قوم زيارة القبور لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في النهي عنها وقال الشعبي لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابني قال ابراهيم النخعي كانوا يكرهون زيارة القبور وعن ابن سيرين مثله قال وفي المجموعة قال علي بن زياد سئل مالك عن زيارة القبور فقال كان قد نهي عنه علي السلام ثم اذن فيه فلو فعل إنسان ولم يقل إلا خيرا لم أر بذلك بأسا وليس من عمل الناس وروى عنه أنه كان يضعف زيارتها
فهذا قول طائفة من السلف ومالك في القول الذي رخص فيها يقول ليس من عمل الناس وفي الآخر ضعفها لم يستحبها لا في هذا ولا في هذا وهذا هو القول الذي حكاه المعترض عن المجيب من أنه حرم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور مطلقا والمجيب لم يذكره ولم يحكه ولكن حكاه وقاله غيره ممن هم من أكابر علماء المسلمين فهل يقول عاقل إن هؤلاء كانوا مجاهرين للأنبياء بالعداوة معاندين لهم
( فصل ) وأما ما يحتج به من الأحاديث الواردة في زيارة القبور فعنها أجوبة ( أحدها ) أن يقال ليس فيما ذكرته ما يدل على استحباب زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم ولا غيره من القبور وأما قوله فزوروا القبور فالأمر بمطلق الزيارة أو استحبابها أو إباحتها
____________________
(1/77)
لا يستلزم السفر إلى ذلك لا استحبابه ولا إباحته كما ان ذلك لا يتناول زيارتها لمن ينوح عندها ويقول الهجر ولا زيارتها لمن يشرك عندها ويدعوها ويفعل عندها من البدع ما نهي عنه كما أن قوله تعالى { فصيام ثلاثة أيام } لا يتناول أيام الحيض ولا يومي العيدين وقوله صلى الله عليه وسلم صلاة الرجل في مسجده تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة لا يقتضي أن يسافر إلى المسجد ليصلي بل يقتضي إتيانه من بيته ومكان قريب بلا سفر وقوله لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وقوله إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها لا يقتضي إنها تسافر من غير زوج ولا ذي محرم ولا على أن زوجها إن ياذن لها إذا أرادت السفر إلى أحد المساجد ولو كان مع زوج أو ذي محرم إنما عليه الاذن في الفرض وهو الحج مع قوله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنت أحجكم امرأته إلى المسجد فلا يقال إنه عام في السفر وغيره
فان قيل هذه المواضع قد عرف أنه أراد الإتيان إلى المسجد من البيت لم يرد السفر لأن هذا هو المعروف بينهم قيل وكذلك زيارة القبور لم يكونوا يعرفونها إلا من المدينة إلى مقابرها وإذا جازوا بها لم يعرف قط أن أحدا من الصحابة والتابعين وتابعيهم سافروا لزيارة قبر
( الجواب الثاني ) وهو أنه خاطبهم بما كانوا يعرفونه من الزيارة وهم لم يكونوا يعرفون زيارة القبور إلا كما يعرفون اتباع الجنائز يتبعون الجنازة من البيت إلى المقبرة وكذلك يخرج أحدهم لزيارة القبور من البيت إلى المقبرة أو يمر بالقبر مرورا فهذا هو الذي كانوا يعرفونه ويفهمونه من قوله قال أحمد بن القاسم سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن الرجل يزور قبر أخيه الصالح يتعمد إتيانه قال وما بأس بذلك قد زار الناس القبور قال وقد ذهبنا نحن إلى قبر عبد الله بن المبارك وقال حنبل سئل أبو عبد الله عن زيارة القبور فقال قد رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن فيها بعد فلا بأس أن يأتي الرجل قبر أبيه أو أمه أو ذي قرابته فيدعو له ويستغفر له فينصرف وقال علي بن سعيد
____________________
(1/78)
سألت أحمد قلت زيارة القبور تركها أفضل عندك أم زيارتها قال زيارتها
ولهذا إنما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه لما سافر لفتح مكة فزارها في الطريق لم يسافر لذلك ولا كان أحد على عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ولا عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم يسافر لزيارة قبر لا قبر نبي ولا صالح ولا غيرهما لا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم ولا ابراهيم عليه السلام ولا غيره بل هذا إنما حدث بعد ذلك ولا كان في الإسلام مشهد على قبر أو أثر نبي أو رجل صالح يسافر إليه بل ولا يزار للصلاة والدعاء عنده بل هذا كله محدث بل ولا كانوا يزورون القبور للتبرك بالميت ودعائه والدعاء به وإنما كانوا يزورونه إن كان مؤمنا للدعاء له والاستغفار كما يصلون على جنازته وإن كان غير مسلم زاروه رقة عليه كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي
ومن هنا يظهر ( الجواب الثالث ) وهو ان الزيارة التي أذن فيها الرسول أو ندب اليها أو فعلها مقصودها نفع الميت والاحسان اليه بالدعاء له والاستغفار ومقصودها تذكر الموت أو الرقة على الميت لم يكن مقصودها أن تعود بركة الميت المزور على الحي الزائر ولا أن يدعوه ويسأله ويستشفع به فان النبي صلى الله عليه وسلم لما زار قبور أهل البقيع وقبور الشهداء لم يكن هذا مقصوده ومن قال هذا فقد أعظم الفرية على الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله مستشفعا بأصحابه الموتى داعيا مستغيثا مستجيرا بهم وهذا لا يقوله مسلم بل جعله مستغيثا مستجيرا بأمه التي منه من الاستغفار لها بخلاف المؤمن فلم يكن في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم التي شرعها لأمته بقوله وفعله طلب حاجة من الميت ولا القصد بها تعظيمه وعبادته أو التوسل به أو دعاؤه بل المقصود بها نفعه كالصلاة على جنازته والصلاة على قبره حيث شرع ذلك وكذلك ما علمه لأصحابه أن يقولوه إذا زاروا القبور إنما فيه السلام عليهم والدعاء لهم والاستغفار كما في الصلاة على جنائزهم ففي صحيح مسلم وغيره عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم
____________________
(1/79)
السلام على أهل الديار ( وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار ) من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وفيه أيضا عن عائشة رضي الله عنها في حديث طويل قال إن جبريل أتاني فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت يا رسول الله كيف أقول قال قولي السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وفي سنن ابن ماجه في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت فقدته صلى الله عليه وسلم فاذا هو بالبقيع فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط ونحن بكم لاحقون اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم وفي المسند والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلف لنا ونحن بالأثر قال الترمذي حديث حسن غريب
فزيارة القبور المشروعة من جنس الصلاة على الميت إما الصلاة عليه إذا كان ظاهرا أو على قبره لكن الصلاة عليه ذات تحليل وتحريم واصطفاف وتكبيرات والزيارة المطلقة دعاء لهم وفي الصحيحين أنه صلى على شهداء أحد بعد ثماني سنين كصلاتخ على الميت قال أبو بكر بن المنذر ولا بأس بزيارة القبور ويستغفر للميت ويرق قلب الزائر ويذكر الآخرة فهذا الذي سنة الرسول لأمته بقوله وفعله في موتى المسلمين وأما هو نفسه فلقبره حكم آخر فان قبور المؤمنين ظاهرة بارزة وهو دفن في حجرته ومنع الناس الوصول إلى قبره وقال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني وكذلك قال في السلام وقال إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولهذا لم يصل
____________________
(1/80)
أحد على قبره ولا شرع الصلاة على قبره عند أحد من العلماء بل أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد أنه يصلي على قبور المؤمنين دائما وأما هو فلا يصلى على قبره بالاجماع لأن المقصود بالصلاة على القبر وزيارتها هو الدعاء والرسول قد أمرنا بالصلاة والسلام عليه وطلب الوسيلة له وغير ذلك في جميع المواضع وهذا أعظم مما يفعل عند قبر غيره وأمر الناس أن تكون محبته وتعظيمه وما يقوم بقلوبهم معهم أينما كانوا فلا ينقص ما يستحقه من المحبة والتعظيم والصلاة والتسليم إذا كانوا في سائر المواضع عما يفعل في نيته وعند قبره من ذلك ولهذا نهى عن اتخاذ بيته عيدا وفي لفظ قبره فلا يخصبيته وقبره بشيء من ذلك فيكون في سائر البقاع ناقصا عما يكون عند القبر فان ذلك يتضمن نقص حقه وبخسه إياه وهذا من تنقيص حقه المنهي عنه والجهال يظنون أن النهي عنه تنقيص لحقه ولا يعلمون أن هذا أعظم لقدره ولحقه من وجوه متعددة وأيضا فهذا فيه مفسدة اتخاذ قبره عيدا ووثنا ومسجدا فنهى صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من المفسدة وعدم المصلحة فهو صلى الله عليه وسلم له خاصة في علو قدره وحقه لا يشركه فيها غيره الزيارة التي شرعها لعموم المؤمنين وهو إنما خاف أن يتخذ قبره وثنا وعيدا بخلاف قبور عموم المؤمنين لكن ما عظم من القبور حتى صار وثنا وعيدا فانه ينهى عن ذلك ويزال ما حصل به حتى أنه يحرم أن يبنى عليه مسجد
والمقصود أن ما سنه لأمته نوع غير النوع الذي يقصده أهل البدع من السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين فانهم لا يسافرون لأجل ما شع من الدعاء لهم والاستغفار بل لأجل دعائهم والدعاء بهم والاستشفاع بهم فيتخذون قبورهم مساجد وأوثانا وعيدا يجتمعون فيه وهذا كله مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة فكيف يشبه ما نهى عنه وحرمه بما سنه وفعله وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله ليس الغلط فيه من خصائصه ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه كما أمر الله تعالى فانه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار فقال سبحانه وتعالى { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى }
____________________
(1/81)
فكيف باخواننا المسلمين والمسلمون إخوة والله يغفر له ويسدده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين
( الجواب الرابع ) أنه لو قدر أن هذا اللفظ عام فأحاديث النهي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة تخص هذا كما تخص إتيان المساجد ومعلوم أن إتيان المساجد أفضل من إتيان المقابر ونحوها والسفر إليها أفضل فاذا كان قد نهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة فالنهي عما يكون إتيانه والسفر اليه دون إتيان المساجد أولى ولهذا لم يقل أحد من المسلمين إنه يسافر إلى القبور دون المساجد بخلاف العكس فانه يحكى عن الليث بن سعد
( الجواب الخامس ) أن يقال ليس فيما ذكرته ما يقتضي أن السفر اليها مستحب بل ولا زيارتها من قوله صلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وفي لفظ ولا تقولوا هجرا وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادخروا ما بدا لكم رواه مسلم في صحيحه عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء فاشربوا في الأوعية كلها ولا تشربوا مسكرا وقد اتفق المسلمون على أن الانتباذ في الأوعية والادخار أاد به إباحة ذلك بعد حظره لم يرد به الندب إلى ذلك فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها قد يقال أراد به الإباحة بعد الحظر لم يرد به الندب ولا يلزم من إباحتها ولا من الندب إليها إباحة السفر كاتيان المساجد
وقوله أعني المعترض المشهور أن الأمر بعد الحظر يقتضي الوجوب يقال له الجواب من وجهين أحدهما أن المعروف عن السلف والائمة أن صيغة افعل بعد الحظر ترفع الحظر المتقدم وتعيد الفعل إلى ما كان عليه بهذا جاء الكتاب والسنة كقوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا } وقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } وقوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } وقوله تعالى { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم } إلى قوله { من الفجر }
____________________
(1/82)
فان هذا لما جاء بعد حظر الجماع والأكل بعد النوم ليلة الصيام أفاد الإباحة وهذا بخلاف قوله تعالى { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث } فان الانتشار هنا قبل ذلك لم يكن واجبا فانه أذن لهم في الدخول لم يوجبه عليهم وأما قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } فانه أيضا لرفع الحظر وإعادة الأمر إلى ما كان قبل الأشهر وهو أنه كان مأمورا به
وقد ورد الأمر المطلق لكن في زيارة قبر أمه كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزورها فأذن لي فزوروا القبور فانها تذكر الموت ومعلوم أن استئذانه ربه طلب إباحة الزيارة لا طلب استحبابها فلما أذن له كانت زيارته لأمه مباحة فقوله فزوروها ورد على هذا السبب فلا بد أن يتناوله فيدخل في ذلك زيارة القريب الكافر من غير دعاء له ولا استغفار ومعلوم أن هذه الزيارة ليست مثل ما كان يفعله بأهل البقيع وشهداء أحد ونحو ذلك من زيارة قبور المؤمنين التي تتضمن الدعاء لهم ولا يلزم إذا كانت تلك مستحبة لما فيها من نفع المؤمنين كالصلاة على جنائزهم أن تكون هذه مستحبة وقوله صلى الله عليه وسلم فانها تذكر الموت هو بيان لجهة المصلحة المعارضة للمفسدة التي أوجبت النهي فانها تذكر الموت وإن كات قد تورث جزعا ففيها من المصلحة ما عارض المفسدة وحينئذ فان كانت مباحة حصل المقصود واستحباب مثل هذه الزيارة يفتقر إلى دليل آخر فالفرق بين زيارة المؤمنين والكفار فرق معلوم فان الدعاء للمؤمنين حق لهم كعبادة مرضاهم وتشييع جنائزهم ونحن إن جوزنا أن يعاد المريض الذمي فليس ذلك حقا له كالمسلم وأما جنازته فان السنة أن يركب ويمشي أمامها فانه لا يكون تابعا لها ما نقل مقل ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودل عليه حديث المغيرة بن شعبة الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها ووراءها وعن يمينها ويسارها وقريبا منها رواه الترمذي وفي الحديث الآخر الذي في السنن عن
____________________
(1/83)
النبي صلى الله عليه وسلم ليس معها من تقدمها فاذا ركب وتقدمها لم يكن تابعا لها ولو قدر أن الأمر بعد الحظر يقتضي عند الإطلاق الوجوب ففي هذا الحديث قد اتفق المسلمون على أنه ليس للوجوب لا سيما وسببه زيارة قبر أمه ولا يجب على المسلمين زيارة أقاربهم الكفار باتفاق المسلمين
وأما النزاع بين المسلمين هل زيارة القبور مستحبة أو مباحة أو منهي عنها لم يقل أحد بوجوبها فتبين أن ما ذكره ليس فيه ما يدل على محل النزاع وهو استحباب السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين لدعائهم والرغبة إليهم إذ هذا مقصود المسافرين ليس مقصودهم الدعاء لهم والاستغفار لهم بل قد ينهون عن ذلك ويستعظمون أن مثل هؤلاء يحتاجون إلى دعاء الأحياء ومنهم من إذا قيل سلم على فلان ينهى عن ذلك ويقول السلام علينا من فلان فيتخذونهم أربابا فانه لا يجيب الدعوات ويفرج الكربات وينزل الرزق ويهدي القلوب ويغفر الذنوب إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى { ومن يغفر الذنوب إلا الله } وقال تعالى { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار } إلى قوله { فأنى تصرفون } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم } إلى قوله { محذورا } وهذه تتناول كل من يدعى من دون الله ممن هو مؤمن من الملائكة والإنس والجن وقد فسرها السلف بهذا كله وقال ابن مسعود كان أناس من الإنس يعبدون قوما من الجن فأسلم الجن وتمسك الآخرون بعبادتهم فنزلت هذه الآية وقال السدي أيضا عن أبي صالح عن ابن عباس هو عيسى وأمه وعزير وقال السدي أيضا ذكروا أنهم اتخذوا الآلهة وهو حين عبدوا الملائكة والمسيح عليه السلام وعزير فقال الله تعالى { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } وقد قال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }
____________________
(1/84)
فتبين أن من دعي في زعمهم من دون الله فانه لا يملك شيئا ولا له شرك مع الله ولا هو معين ولا ظهير ولم يبق إلا الشفاعة فقال { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } كما قال تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وله 1 ا كان أوجه الشفعاء وأول شافع وأول مشفع صلى الله عليه وسلم إذا جاء الخلق يوم القيامة إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم إلى موسى ثم عيسى ليشفعوا لهم فكل منهم يرده إلى الآخر ويعتذرون فاذا أتوا المسيح قال اذهبوا إلى محمد عبد غفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر قال صلى الله عليه وسلم فأذهب إلى ربي فاذا رأيته خررت له ساجدا فأحمده بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال أي محم ارفع رأسك قل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع قال فيحد لي حدا فادخلهم الجنة والحديث في الصحيحين بين أنه إذا رأى ربه لا يبتدئ بالشفاعة بل يسجد ويحمد حتى يؤذن له ثم يؤذن له في حد محدود طبقة بعد طبقة كما في الحديث وذلك مبسوط في مواضع
( فصل ) ثم قال المعترض وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى زيارة قتلى أحد وإلى بقيع الغرقد وهذا الأمر لا ينكره من أئمة النقل أحد وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم استأذن ربه في زيارة قبر أمه فاذن له وأجيب في ذلك لما سأله فعلام يحمل هذا القائل زيارته لقبر أمه ومشيه الذي منه صدر فان حمله على التحريم فقد ضل وكفر وإن حمله على الجواز والندب فقد لزمته الحجة والتقم الحجر
يقال هذا الكلام مبني على افترائه المتقدم وهو أن المجيب يحرم زيارة القبور مطلقا وقد تقدم أن هذا افتراء عليه بل هو يجوز زيارة قبور المؤمنين للدعاء لهم والاستغفار ويجوز زيارة قبر الكافر للرقة والاعتبار كزيارة النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه ثم يقال له أولا النبي صلى الله عليه وسلم لم يسافر لزيارتها بل ذلك في طريقه لفتح مكة
ويقال له من أين لك أنه مشى إلى قبر أمه وإن كان المشي جائزا فانه إنما زارها في طريق في السفر وكان راكبا وقبرها كان بارزا فعله لما نزل عنده وقبرها كان
____________________
(1/85)
بالأبواء بل نزل عنده لم يحتج إلى المشي إليه ولكن هذا لا خبرة له بالنصوص كيف قيلت ولا يتفضيل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال له هذه الزيارة ليست من جنس زيارة قبور الأنبياء والصالحين التي يقصد بها التبرك بهم ودعاؤهم والاستشفاع بهم فان هذا لا يجوز أن يقصده النبي صلى الله عليه وسلم بزيارة أهل البقيع وقتلى أحد فكيف بقبر أمه بل هذه الزيارة للرقة والاعتبار وهذه جائزة ما زال المجيب يجوز هذه وأمثالها وهذا مذكور في عامة كتبه وفتاويه معروف عنه عند كل من يعرف ما يقول في هذا الباب وليس في جواب الفتيا المتنازع فيها نهي عن هذا ولا حكاية النهي فيها عن أحد والحديث قد رواه مسلم في صحيحه من وجهين عن أبي هريرة قال في أحدهما استأذنت ربي في أن استغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي وقال في الآخر زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال صلى الله عليه وسلم استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم ياذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فانها تذكركم الموت وهذه الزيارة كانت عام الفتح في سفره
( فصل ) قال المعترض وورد في زيارة قبره أحاديث صحيحه وغيرها مما لم يبلغ درجة الصحيح لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح
( والجواب ) من وجوه ( أحدها ) أن يقال لو ورد من ذلك ما هو صحيح لكان إنما يدل على مطلق الزيارة وليس في جواب الاستفتاء نهي عن مطلق الزيارة ولا حكى نزاع في ذلك الجواب وإنما فيها ذكر النزاع فيمن لم يكن سفره إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين وحينئذ فلو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يتناول محل النزاع ولا فيه رد على ما ذكره المجيب من النزاع والإجماع
( الثاني ) أنه لو قدر أنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحه لكان المراد بها هو المراد بقول من قال من العلماء إنه يستحب زيارة قبره ومرادهم بذلك السفر إلى مسجده وفي مسجده يسلم عليه ويصلي عليه ويدعي له ويثني عليه ليس المراد أنه يدخل إلى قبره
____________________
(1/86)
ويوصل إليه وحينئذ فهذا المراد قد استحبه المجيب وذكر أنه مستحب بالنص والإجماع فمن حكى عن المجيب أنه لا يستحب ما استحبه علماء المسلمين من زيارة قبره على الوجه المشروع فقد استحق ما يستحقه الكاذب المفتري وإذا كان يستحب هذا وهو المراد بزيارة قبره فزيارة قبره بهذا المعنى من مواقع الإجماع لا من موارد النزاع
( الثالث ) أن نقول قول القائل إنه ورد في زيارد قبره أحاديث صيحة قول لم يذكر عليه دليلا فاذا قيل له لا نسلن أنه ورد في ذلك حديث صحيح احتاج إلى الجواب وهو لم يذكر شيئا من تلك الأحاديث كما ذكر قوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وكما ذكر زيارته لأهل البقيع وأحد فان هذا صحيح وهنا لم يذكر شيئا من الحديث الصحيح فبقي ما ذكره دعوى مجردة مقابل المنع
( الوجه الرابع ) أن نقول هذا قول باطل لم يقله أحد من علماء المسلمين العارفين بالصحيح وليس في الأحاديث التي رويت بلفظ زيارة قبره حديث صحيح عند أهل المعرفة ولم يخرج أرباب الصحيح شيئا من ذلك ولا أرباب السنن المعتمدة كسنن أبي داود والنسائي والترمذي ونحوهم ولا أهل المساند التي من هذا الجنس كمسند أحمد وغيره ولا في موطأ مالك ولا مسند الشافعي ونحو ذلك شيء من ذلك ولا احتج إمام من أئمة المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم بحديث فيه ذكر زيارة قبره فكيف تكون في ذلك أحاديث صحيحه ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث ومن أين لهذا وأمثاله أن تلك الأحاديث صحيحة وهو لا يعرف هذا الشأن
( الوجه الخامس ) قوله وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح فيقال له اصطلاح الترمذي ومن بعده أن الحديث ثلاثة أقسام صحيح وحسن وضعيف والضعيف قد يكون موضوعا يعلم أنه كذب وقد لا يكون كذلك فما ليس بصحيح وكان حسنا على هذا الاضطلاح احتج به وهو لم يذكر حديثا وبين أنه حسن يجوز الاستدلال به فنقول له لا نسلم أنه ورد من ذلك ما يجوز الاستدلال به وهو لم يذكر إلا دعوى مجردة فيقابل بالمنع
____________________
(1/87)
( الوجه السادس ) أن يقال ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به بل كلها ضعيفة بل موضوعة كما قد بسط في مواضع وذكرت هذه الأحاديث وذكرت كلام الأئمة عليها حديثا حديثا بل ولا أعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره ألبتة فلم يكن هذا اللفظ معروفا عندهم ولهذا كره مالك التكلم به بخلاف لفظ زيارة مطلقا فان هذا اللفظ معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وفي القرآن الكريم { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } لكن معناه عند الأكثرين الموت وعند طائفة هي زيارتها للتفاخر بالموتى والتكاثر وأما لفظ قبر النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص فلا يعرف لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وكل ما روي فيه فهو ضعيف بل هو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث كما قد بسط هذا في مواضع
( الوجه السابع ) أن يقال الذين أثبتوا استحباب السلام عليه عند الحجرة كمالك وابن حبيب وأحمد بن حنبل وأبي داود احتجوا إما بفعل ابن عمر كما احتج به مالك وأحمد وغيرهما وإما بالحديث الذي رواه أبو داود وغيره باسناد جيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام فهذا عمدة أحمد وأبي داود وابن حبيب وأمثالهم وليس في لفظ الحديث المعروف في السنن والمسند عند قبري لكن عرفوا أن هذا هو المراد وأنه لم يرد على كل مسلم عليه في كل صلاة في شرق الأرض وغربها مع أن هذا المعنى إن كان هو المراد بطل الاستدلال بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام وإن كان المراد هو السلام عند قبره كما فهمه عامة العلماء فهل يدخل فيه من سلم من خارج الحجرة فهذا من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فكان يرد عليهم فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يرد عليهم وهذا قد جاء عموما في حق المؤمنين ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام قالوا فأما من كان في المسجد
____________________
(1/88)
فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره بل سلامهم عليه كالسلام عليه في الصلاة وكالسلام عليه إذا دخل المسجد وخرج منه وهذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه بقوله { صلوا عليه وسلموا تسليما } وهذا السلام قد ورد أنه من سلم عليه مرة سلم الله عليه عشرا كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا فاما أثر من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا فهذا ثابت من وجوه بعضها في الصحيح كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا سمعتم المؤذن فقولون مثل ما يقول ثم صلوا علي فانه من صلى علي مرة صلى الله بها عليه عشرة ثم سلوا الله لي الوسيلة فانها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه كما في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا وأما السلام فقد جاء أيضا في أحاديث من أشهرها حديث عبد الله بن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن سليمان مولى الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقال إنه جاءني جبرائيل فقال أما يرضيك يا محمد أنه لا يصلي عليه أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا أو لا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا وقد روي في عدة أحاديث إن الله يصلي على كل من صلى عليه ويسلم على من يسلم عليه ولم يذكر عددا لكن الحسنة بعشر أمثالها فالمقيد يفسر المطلق
قال القاضي عياض من رواية عبد الرحمن بن عوف عنه عليه السلام قال لقيت جبريل فقال لي أبشرك إن الله يقول من سلم عليك سلمت عليه ومن صلى عليك صليت عليه قال ونحوه من رواية أبي هريرة ومالك بن أوس بن الحدثان وعبيد الله بن أبي طلحة قلت وبسط الكلام على هذه الأحاديث له موضع آخر
والمقصود هنا أن ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه هو كما أمر به صلى الله عليه وسلم من الدعاء
____________________
(1/89)
له بالوسيلة وهذا أمر اختص هو به فان الله أمر بذلك في حقه بعينه مخصوصا بذلك وإن كان السلام على جميع عباد الله الصالحين مشروعا على وجه العموم وقد قيل إن الصلاة تكره على غير الأنبياء وغلا بعضهم فقال تكره على غيره وكذلك قال بعض المتأخرين في السلام ولكن الصواب الذي عليه عامة العلماء أنه يسلم على غيره وأما الصلاة فقد جوزها أحمد وغيره والنزاع فيها معروف وفي تفسير شيبان عن قتادة قال حدث أنس بن مالك عن أبي طلحة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين فانما أنا رسول من المرسلين وقد قال الله في كتابه { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } وقال { وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } وقال لما ذكر نوحا وإبراهيم وموسى وهرون والياسين { وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين } { وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم } { وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون } { وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين }
والمقصود هنا أن هذا السلام المأمور به خصوصا هو المشروع في الصلاة وغيرها عموما على كل عبد صالح كقول المصلي السلام علينا وعلى عباد اللله الصالحين فان هذا ثابت في التشهدات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها مثل حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وحديث أبي موسى وابن عباس اللذين رواهما مسلم وحديث ابن عمر وعائشة وجابر وغيرهم التي في المساند والسنن وهذا السلام لا يقتضي ردا من المسلم عليه بل هو بمنزلة دعاء المؤمن للمؤمنين واستغفاره لهم فيه الأجر والثواب من الله وليس على المدعو لهم مثل ذلك الدعاء بخلاف سلام التحية فانه مشروع بالنص والإجماع في حق كل مسلم وعلى المسلم عليه أن يرد السلام ولو كان المسلم عليه كافرا فان هذا من العدل الواجب ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد على اليهود إذا سلموا عليه بقوله وعليكم وإذا سلم عليه معين تعين الرد وإذا سلم على الجماعة فهل ردهم فرض على الأعيان أو على الكفاية على قولين
____________________
(1/90)
مشهورين لأهل العلم والابتداء به عند اللقاء سنة مؤكدة وهل هي واجبة على قولين معروفين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره وسلام الزائر للقبر على الميت المؤمن هو من هذا الباب ولهذا روي أن الميت يرد السلام مطلقا فالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم في مسجده وسائر المساجد وسائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والاجماع وأما السلام عليه عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعا لما كان ممكنا بدخول من يدخل على عائشة وأما تخصيص هذا السلام أو الصلاة بالمكان القريب من الحجرة فهذا محل النزاع وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال منهم من ذكر استحباب السلام أو الصلاة والسلام عليه إذا دخل المسجد ثم بعد أن يصلي في المسجد استحب أيضا أن يأتي إلى الحجرة ويصلي ويسلم كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ومنهم من لم يذكر إلا الثاني فقط وكثير من السلف لم يذكروا إلا النوع الأول فقط فاما النوع الاول فهو المشروع لأهل البلد وللغرباء في هذا المسجد وغير هذا المسجد وأما النوع الثاني فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلد والغرباء سواء فعله مع الأول أو مجردا عنه كما ذكر ابن حبيب وغيره إذا دخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم قال بسم الله وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام علينا من ربنا وصلى الله وملائكته على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وجنتك وجنبني من الشيطان الرجيم ثم اقصد إلى الروضة وهي ما بين القبر والمنبر فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر تحمد الله فيهما وتسأل تمام ما خرجت اليه وتسأل العون عليه وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك وفي الروضة أفضل وقد قال صلى الله عليه وسلم ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على ترعة من ترع الجنة ثم تقف بالقبر متواضعا وتصلي عليه وتثني بما يحضر وتسلم على أبي بكر وعمر وتدعوا لهما وأكثر من الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء
قلت وهذا الذي ذكره من استحباب الصلاة في الروضة قول طائفة وهو المنقول عن الإمام أحمد في مناسك المروذي وأما مالك فنقل عنه أنه يستحب التطوع في موضع
____________________
(1/91)
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقيل لا يتعين لذلك موضع من المسجد وأما الفرض فيصليه في الصف الأول مع الإمام بلا ريب والذي ثبت في الصحيح عن سلمة بن الأكوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة وأما قصد تخصيصه بالصلاة فيه فالصلاة أفضل وأما مقامه فانما كان يقوم فيه إذا كان إماما يصلي بهم الفرض والسنة أن يقف الإمام وسط المسجد أمام القوم فلما زيد في المسجد صار موقف الإمام في الزيادة والمقصود معرفة ما ورد عن السلف من الصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد وعند القبر ففي مسند أبي يعلى حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أخبرنا زيد بن الحباب أخبرنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فنهاه فقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا فان تسليمكن يبلغني أينما كنتم وهذا الحديث مما أخرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد المختارة الزائدة على ما في الصحيحين وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما فان الغلط في هذا قليل ليس هو مثل تصحيح الحاكم فان فيه أحاديث كثيرة يظهر أنها كذب موضوعة فلهذا انحطت درجته عن درجة غيره
فهذا علي بن الحسين زين العابدين وهو من أجل التابعين علما ودينا حتى قال الزهري ما رأيت هاشميا مثله وهو يذكر هذا الحديث باسناده ولفظه لا تتخذوا بيتي عيدا فان تسليمكم يبلغني أينما كنتم وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته كما لا مزية للصلاة عليه عند بيته بل قد نهى عن تخصيص بيته بهذا وهذا وحديث الصلاة مشهور في سنن أبي داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم وهذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع فيه لين لا يمنع الاحتجاج به قال
____________________
(1/92)
يحيى بن معين هو ثقة وحسبك بابن معين موثقا وقال أبو زرعة لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ هو لين تعرف وتنكر قلت ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانا فاذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ وهذا له شواهد متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع كما رواه سعيد بن منصور في سننه حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد المهري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني وقال سعيد أيضا حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال ما لي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخلت المسجد فسلم عليه ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا عليه إن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ورواه القاضي اسماعيل بن اسحاق في كتاب ( فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ) ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء لأن مذهبه أن القادم من سفر والمريد للسفر سلامه هناك أفضل وأن الغرباء يسلمون إذا دخلوا وخرجوا ولهذه مزية على من بالأندلس والحسن بن الحسن وغيره لا يفرقون بين أهل المدينة والغرباء ولا بين المسافر وغيره فرواه القاضي إسماعيل عن إبراهيم بن حمزة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل بن أبي سهيل قال جئت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بن حسن يتعشى في بيت عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فجئته فقال ادن فتعش قال قلت لا أريده قال لي مالي رأيتك وقفت قلت وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخلت المسجد فسلم عليه ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلوا في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود والنصارة اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ولم يذكر قول الحسن فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد وهو السلام المشروع الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/93)
وجماعة من السلف كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد وهذا مشروع في كل مسجد وهذا الحسن بن الحسن هو الحسن المثنى وهو من التابعين وهو نظير علي بن الحسين هذا ابن الحسين وهذا ابن الحسين وقد ذكر القاضي عياض رحمه الله هذا عن الحسن بن علي نفسه رضي الله عنهم أجمعين فقال وعن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حيثما كنتم فصلوا علي فان صلاتكم تبلغني قال وعن الحسن بن علي قال إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم
قلت والصلاة واللام عليه عند دخول المسجد مأثور عنه صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من الصحابة والتابعين مثل الحديث الذي في المسند والترمذي وابن ماجه عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك هذا لفظ الترمذي وفي غيره أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وفي سنن أبي داود عن أبي أسيد أو أبي حميد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل وذكر الحديث قال القاضي عياض ومن مواطن الصلاة والسلام عليه دخول المسجد قال أبو اسحاق بن شعبان وينبغي لمن دخل المسجد أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويترحم عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويبارك عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويسلم عليه تسليما ويقول اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك قال وقال عمرو بن دينار في قوله { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } فقال إن لم يكن في البيت أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته قال وقال ابن عباس المراد بالبيوت هنا المساجد وقال النخعي
____________________
(1/94)
إذا لم يكن في المسجد أحد فقل السلام على رسول الله وإذا لم يكن في البيت أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قال وعن علقمة قال إذا دخلت المسجد أقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته صلى الله وملائكته على محمد صلى الله عليه وسلم قال ونحوه عن كعب إذا دخل وإذا خرج ولم يذكر الصلاة قال واحتج ابن شعبان لما ذكره بحديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذا دخل المسجد قال ومثله عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وذكر السلام والرحمة قال وروى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخلت المسجد فصل على النبي صلى الله عليه وسلم وقل اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وفي رواية أخرى فليسلم وليصل ويقول إذا خرج اللهم إني أسألك من فضلك وفي أخرى اللهم احفظني من الشيطان وعن محمد بن سيرين كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد صلى الله وملائكته على محمد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته بسم الله دخلنا وبسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا وكانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك
قلت هذا فيه حديث مرفوع في سنن أبي داود وغيره أنه يقال عند دخول المسجد اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا ولسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا قال القاضي عياض وعن أبي هريرة إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم افتح لي قلت وروى ابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري عن صفوان بن مرة عن مجاهد في هذه الآية { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة } قال إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا دخلت المسجد فقل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا دخلت على أهلك فقل السلام عليكم
قلت والى ثار مبسوطة في مواضع والمقصود هنا أن يعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه وبين سلام التحية الموجب للرد الذي يشترك فيه كل مؤمن حي وميت ويرد فيه على الكافر ولهذا كان الصحابة بالمدينة على
____________________
(1/95)
عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إذا دخلوا المسجد لصلاة أو اعتكاف أو تعليم أو تعلم أو ذكر لله ودعاء له ونحو ذلك مما شرع في المساجد لم يكونوا يذهبون إلى نايحة القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة كما لم يكونوا يدخلوا الحجرة أيضا لزيارة قبره فلم تكن الصحابة بالمدينة يزورون قبره صلى الله عليه وسلم لا من المسجد خارج الحجرة ولا داخل الحجرة ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بل هذا من البدع التي أنكرها الائمة والعلماء وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها كما ذكره مالك في المبسوط وقد ذكره أصحابه كأبي الوليد الباجي والقاضي عياض وغيرهما قيل لمالك إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك أي يقفون على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون عليه ويدعون له ولأبي بكر وعمر يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة أو المرتين أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة فقال لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسد ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون هذا عن أهل العلم بالمدينة ولا عن صدر هذه الأمة وأولها وهم الصحابة وأن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم بل هم في ذلك ليسوا بدون سائر الأمصار فاذا لم يكن لأولئك الامتناع عن زيارة القبور بل يستحب عند جمهور العلماء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فأهل المدينة أولى أن لا يكره بل يستحب لهم زيارة القبور كما يستحب لغيرهم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكن قبر النبي صلى الله عليه وسلم خص بالمنع شرعا وحسا كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر وقبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس كذلك فلا يستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن وهذا لعلو قدره وشرفه لا لكون أن غيره أفضل منه فان هذا لا يقوله أحد من المسلمين فضلا عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها
____________________
(1/96)
ومن هنا غلط طائفة من الناس يقولون إذا كانت زيارة قبر آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد الأولين والآخرين وهؤلاء ظنوا أن زيارة قبر الميت مطلقا هو من باب الإكرام والتعظيم له والرسول أحق بالاكرام والتعظيم من كل أحد وظنوا أن ترك الزيارة له فيخ تنقص لكرامته فغلطوا وخالفوا السنة والإجماع الأمة سلفها وخلفها فقولهم نظير قول من يقول إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور فان ذلك أبلع في الدعاء له وإن كان مقصوده دعاءه كما يقصده أهل البدع فهو أبلغ في دعائه فالرسول أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول لا يشرع الوصول إلى قبره لا للدعاء له ولا لدعائه ولا لغير ذلك بل غيره يصلى على قبره عند أكثر السلف كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة والصلاة على القبر كالصلاة على الجنازة تشرع مع القرب والمشاهدة وهو بالاجماع لا يصلى على قبره سواء كان للصلاة حد محدود أو كان يصلى على القبر مطلقا ولم يعرف أن أحدا من الصحابة الغائبين لما قدم صلى على قبره صلى الله عليه وسلم وزيارة القبور المشروعة هي مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته وهذه الزيارة غير مشروعة في حقه بالنص والاجماع ولا هي أيضا ممكنة فتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المؤمنين وهذا من باب القياس الفاسد ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من المقيس والمقيس به كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين كانوا يقيسون الميتة على المذكى ويقولون للمسلمين أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله فأنزل الله تعالى { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تعبد هي وعابدوها حصب جهنم قاس ابن الزبعري قبل أن يسلم هو وغيره من المشركين عيسى بها وقالوا فيجب أن يعذب عيسى قال تعالى { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } ثم قال { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } وبين تعالى الفرق بقوله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون }
____________________
(1/97)
بين أن من كان صالحا نبيا أو غير نبي لم يعذب لاجل من أشرك به وعبده وهو بريء من إشراكهم به وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصبا للنار وقد قيل إنها من الحجارة التي قال الله { وقودها الناس والحجارة } وقال تعالى { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن يعرف أن ما مضت به سنته وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله فهو أكمل وأفضل وأحين مما يفعل مع غيره وهو أيضا في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ أما كونه أتم في حق الله فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كما ثبت ذلك في الصحيحين عن معاد بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب فلا يتقي غيره ولا يخاف غيره ولا يتوكل على غيره ولا يدعى غيره ولا يصلي لغيره ولا يصام لغيره ولا يتصدق إلا له ولا يحج إلا إلى بيته قال الله تعالى { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فجعل الإيتاء لله والرسول كما قال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وجعل التوكل والرغبة إلى الله وحده وقال تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } وقال تعالى { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض } وقال تعالى { فلا تخشوا الناس واخشون } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } وقال تعالى { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات } الآية وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } إلى قوله { لمن أذن له } وهذا
____________________
(1/98)
باب واسع وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وفي الصحيحين عن النبي د الله وعبادته وحده لا شريك لا وإخلاص الدين لله وأما قبور البقيع ذلك من المؤمنين فلا يفعل ذلك عندها وإذا قدر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال
وأما كون ذلك أعظم لقدره وأعلى لدرجته فلأن المقصود المشروع بزيارة قبور المؤمنين كأهل البقيع وشهداء أحد هو الدعاء لهم كما كان هو يفعل ذلك إذا زارهم وكما سنه لأمته فلو سن للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحيانا وبين مالك أنه بدعة لم يبلغه عن صدر هذه الأة ولا عن أهل العلم بالمدينة وأنها مكروهة فانه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها لكان بعض الناس يزورونه ثم لتعظيمه في القلوب وعلم الخلق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاها وأه أوجه الشفعاء إلى ربه يدعو النفس إلى أن تطلب منه حاجاتها وأغراضها وتعرض عن حقه الذي هو له من الصلاة والسلام عليه والدعاء له فان الناس مع ربهم كذلك إلا من أنعم الله عليه بحقيقة اللايمان إنما يعظمون الله عند ضرورتهم إليه كما قال تعالى { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } الآية وقال تعالى { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه }
____________________
(1/99)
وقال تعالى { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه } الآية ونظائر هذا في القرآن متعددة فاذا كاوا إلا من شاء الله إنما يعظمون ربهم ويوحدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم ولا يعرفون حقه إذا خلصهم فلا يحبونه ويعبدونه ولا يشكرونه ولا يقومون بطاعته فكيف يكونون مع المخلوق فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم وذلك مقدم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين فاذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبي أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وجاهه وشفاعته أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم كما هو الموجود في عامة الذين يحجون إلى القبور المعظمة ويقصدونها لطلب الحوائج فلو أذن الرسول لهم في زيارة قبره ومكنهم من ذلك لأعرضوا عن حق الله الذي يستحقه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له بل ومن جعله واسطة بينهم وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره فكانوا يهضمون حق الله وحق الرسول كما فعلت النصارى فانهم بغلوهم في المسيح تركوا حق الله من عبادته وحده وتركوا حق المسيح فهم لا يدعون له بل هو عندهم رب يدعى ولا يقومون بحق رسالته فينظرون ما أمر به وما أخبر به بل اشتغلوا بالشرك به وبغيره وطلب حوائجهم ممن يستشفعون به من الملائكة والأنبياء وصالحيهم عما يجب من حقوقهم وأيضا فلو جعلت الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة كما قد يكون الدعاء للميت عند قبره أفضل لكانوا يخصون تلك البقعة بزيادة الدعاء له وغذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم له فان الانسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول كما يجتهد فيه في المكان الفاضل وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول في كل مكان وأن لا يكون البعيد عن قبره أنقص إيمانا وقياما بحقه من المجاور لقبره وقال لهم صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا عليه حيث كنتم فان صلاتكم تبلغني وقد شرع لهم أن يصلوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذن حيث كانوا وأن يسلموا عليه في كل صلاة ويصلوا عليه في الصلاة ويسلموا ليع إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا منه فهذا الذي أمروا به
____________________
(1/100)
عام في كل مكان وهو يوجب من القيام بحقه ورفع درجته وإعلاء منزلته ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل ولا إذا سوى بين قبره وقبر غيره بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه بفعل ما شرعه وسنه لأمته من واجب ومستحب وهو أن يقوموا بحق الله ثم بحق رسوله حيث كانوا من المحبة والموالاة والطاعة وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء وغير ذلك ولا يقصدون تخصيص القبر لما يفضي إليه من ترك حق الله وحق رسوله فهذا وغيره مما يبين أن ما نهى عنه الناس ومنعوا منه وكان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره وإن كانت زيارة قبره غير مستحبة فهو أعظم لقدره وأرفع لدرجته وأعلى في منزلته وأن ذلك أقوم بحق الله وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين له ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه بل ما نهى عنه وخالفوا الصحابة والتابعين لهم باحسان فاستحبوا ما كان أولئك يكرهونه ويمنعون منه هم مضاهئون للنصارى وأنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله وبرسوله والقيام بحق الله وحق رسوله بقدر ما دخلوا فيه من البدعة التي ضاهوا بها النصارى فهذا هذا والله أعلم
وأيضا فانه إذا أطيع أمره واتبعت سنته كان له من الأجر بقدر أجر من أطاعه واتبع سنته لقوله صلى الله عليه وسلم من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء وقوله من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وأما البدع التي لم يرعها بل نهى عنها وإن كانت متضمنة للغلو فيه والشرك به والإطراء له كما فعلت النصارى فانه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها فلا يكون للرسول فيها منفعة بل صاحبها إن عذر كان ضالا لا أجر له فيها وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
فان قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور إن الناس منعوا من
____________________
(1/101)
الوصول إليه تعظيما لقدره وجعل سلامهم وخطابهم له من الحجرة لأن ذلك أبلغ في الادب والتعظيم قيل فهذا يوجب الفرق فان الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له فكون ذلك قريبا من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع فالذي يدعو له داخل الحجرة أقرب وإن كان القرب مستحبا فكلما كان أقرب كان افضل كسائر القبور وإن كان مقصودها ما يقوله أهل الشرك والضلال من دعائه ودعاؤه من القرب أولى فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى ولما ثبت بالنص والاجماع أن هذا القرب من القبر ممنوع منه وهو أيضا غير مقدور عليه علم أن القرب من ذلك ليس بمستحب بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره فان القرب منه مستحب إذا لم يفض إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة فان أفضى إلى ذلك منع من ذلك
ومما يوضح هذا أن الشخص الذي يقصد أتباعه زيارة قبره يجعلون قبره بحيث يمكن زيارته فيكون له باب يدخل منه إلى القبر ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل بحيث يتمكن من القعود فيه بل يوسع المكان ليسع الزائرين ومن اتخذه مسجدا جعل عنده صورة محراب أو قريبا منه وإذا كان الباب مغلقا جعل له شباكا على الطريق ليراه الناس فيه فيدعونه وقبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا كله لم يجعل للزوار طريق إليه بوجه من الوجوه ولا قبر في مكان كبير يسع الزوار ولا جعل للمكان شباك يرى منه القبر بل منع الناس من الوصول اليه والمشاهدة له ومن أعظم ما من الله به على رسوله وعلى أمته واستجاب فيه دعاءه أن دفن في بيته بجانب مسجده فلا يقدر أحد أن يصل إلا إلى المسجد والعبادة المشروعة في المسجد معروفة بخلاف ما لو كان قبره منفردا عن المسجد والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد وإذا سمى هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له إنما هو إتيان إلى مسجده ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ ولا عند قبره قناديل معلقة ولا ستور مسبلة بل إنما تعلق القناديل في المسجد المؤسس على التقوى ولا يقدر أحد أن يخلق نفس قبره بزعفران أو غيره من الخلوق ولا ينذر له زيتا ولا شمعا ولا سترا ولا غير ذلك مما ينذر لغير قبره وإن كان فعل شيء من ذلك في ظاهر الحجرة أو كان
____________________
(1/102)
في بعض الأحوال قد ستر بعض الناس الحجرة أو خلقها بعضهم بزعفران فهذا إنما هو للحائط الذي يلي المسجد لا من باطن الحجرة والقبر كما يفعل بقبر غيره فعلم أن الله سبحانه استجاب دعاءه حيث قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وإن كان كثير من الناس يريدون أن يجعلوه وثنا ويعتقدون أن ذلك تعظيم له كما يريدون ذلك ويعتقدونه في قبر غيره فهم لا يتمكنون من ذلك بل هذا القصد والاعتقاد خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج بخلاف القبر الذي جعل وثنا وإن كان الميت وليا لله لا إثم عليه من فعل من اشرك به كما لا إثم على المسيح من فعل من اشرك به كما قال تعالى { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته } إلى قوله { وأنت على كل شيء شهيد } وقال تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } وقال تعالى { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } إلى قوله { نذقه عذابا كبيرا } فالمعبودون من دون الله سواء كانوا أولياء كالملائكة والأنبياء والصالحين أو كانوا أوثانا قد تبرأوا ممن عبدهم وبينوا أنه ليس لهم أن يوالوا من عبدهم ولا أن يواليهم من عبدهم فالمسيح وغيره كانوا برآء من المشرك بهم ومن إثمه لكن المقصود بيان ما فضل الله به محمدا وأمته وأنعم به عليهم من إقامته التوحيد لله والدعوة إلى عبادته وحده وإعلاء كلمته ودينه وإظهار ما بعثه الله به من الهدى ودين الحق وما صانه الله به وصان قبره من أن يتخذ مسجدا فان هذا من أقوى أسباب ضلال أهل الكتاب ولهذا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك تحذيرا لأمته وبين أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة ولما كان اصحابه أعلم الناس بدينه وأطوعهم له لم يظهر فيهم من البدع ما ظهر فيمن بعدهم لا في أمر القبور ولا غيرها فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان فيهم من له ذنوب
____________________
(1/103)
لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه من تعمد الكذب على نبيهم وكذلك البدع الظاهرة المشهورة مثل بدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة لم يعرف عن أحد من الصحابة شيء من ذلك بل النقول الثابتة عنهم تدل على موافقتهم للكتاب والسنة وكذلك اجتماع رجال الغيب بهم أو الخضر أو غيره وكذلك مجيء الأنبياء إليهم في اليقظة وحمل من يحمل منهم إلى عرفات ونحو ذلك مما وقع فيه كثير من العباد وظنوا أنه كرامة من الله وكان من اضلال الشياطين لهم لم تطمع الشياطين أن أتوقع الصحابة في مثل هذا فانهم كانوا يعلمون أن هذا كله من الشيطان ورجال الغيب هم الجن قال تعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } وكذلك الشرك بأهل القبور لم يطمع الشيطان أن يوقعهم فيه فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر يسافر إليه ولا يقصد للدعاء عنده أو لطلب بركة شفاعته غير ذلك بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وقبره عندهم محجوب لا يقصده أحد منهم لشيء من ذلك وكذلك التابعون لهم باحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول عند قبره منهم من نهى عن الوقوف لدعاء له دون السلام عليه ومنهم من رخص في هذا وهذا ومنهم من نهى عن هذا وهذا وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين الأربعة ولا غيرهم بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك أما مالك رضي الله عنه فقد قال القاضي عياض وقال مالك في المبسوط لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لكن يسلم ويمضي وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره إسماعيل بن اسحاق في المبسوط قال وقال مالك لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ولكن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم يمضي وقال مالك رضي الله عنه ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابا بكر السلام عليك يا ابت أو يا ابتاه ثم ينصرف ولا يقف يدعو فرأى مالك ذلك من البدع قال وقال مالك في رواية ابن وهب إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة
____________________
(1/104)
ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده فقوله في هذه الرواية إذا سلم ودعا قد يريد بالدعاء السلام فانه قال يدنوويسلم ولا يمس القبر بيده ويؤيد ذلك أنه قال في رواية ابن وهب يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وقد يريد أنه يدعو له بلفظ الصلاة كما ذكر في الموطأ من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر وفي رواية يحيى بن يحيى وقد غلطه ابن عبد البر وغيره وقالوا إنما لفظ الرواية ما ذكره ابن القاسك والقعنبي وغيرهما يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر قال أبو الوليد الباجي وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر لما في حديث ابن عمر من الخلاف قال القاضي عياض وقال في المبسوط لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر فان كان أراد بالدعاء السلام أو الصلاة فهو موافق لتلك الرواية وإن كان أراد دعاء زائدا فهي رواية أخرى وبكل حال فانما أراد الدعاء اليسير وأما ابن حبيب فقال ثم يقف بالقبر متواضعا موقرا فيصلي عليه ويثني بما يحضر ويسلم على أبي بكر وعمر فلم يذكر إلا الثناء عليه مع الصلاة والإمام أحمد ذكر الثناء عليه بلفظ الشهادة بذلك مع الدعاء له بغير الصلاة مع دعاء الداعي لنفسه أيضا ولم يذكر أن يطلب منه شيئا ولا يقرأ عند القبر قوله تعالى { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } ولم يذكر ذلك أحمد والمتقدمون من أصحابه ولا جمهورهم بل قال في منسك المروذي ثم أئت الروضة وهي بين القبر والمنبر فصل فيها وادع بما شئت ثم ائت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقل السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته السلام عليك يا محمد بن عبد الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله وأشهد أنك بلغت رسالة ربك ونصحت لأمتك وجاهدت
____________________
(1/105)
في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقينفجزاك الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته ورفع درجتك العليا وتقبل شفاعتك الكبرى وأعطاك سؤلك في الآخرة والأولى كما تقبل من ابراهيم اللهم احشرنا في زمرته وتوفنا على سنته وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشربا رويا لا نظمأ بعدها أبدا وما من دعاء أو شهادة وثناء يذكر عند القبر إلا قد وردت السنة بذلك أو ما هو أحق منه في سائر البقاع لا يمكن أحدا أن يأتي بذكر يشرع عند القبر دون غره وهذا تحقيق لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره أو بيته عيدا فلا يقصد تخصيصه بشيء من الدعاء للرسول فضلا عن الدعاء لغيره بل يدعى بذلك للرسول حيث كان الداعي فان ذلك يصل اليه صلى الله عليه وسلم تسليما وهذا بخلاف ما شرع عند قبر غيره لقوله السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين فان هذا لا يشرع إلا عند القبور لا يشرع عند غيرها وهذا مما يظهر الفرق بينه وبين غيره وإن ما شرعه وفعله أصحابه من المنع من زيارة قبره كما تزار القبور هو من فضائله وهو رحمة لامته ومن تمام نعمة الله عليها فالسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يأله شيئا ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته ويطلب منه يوم القيامة لا شفاعة ولا استغفارا ولا غير ذلك وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه عند الحجرة فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله صلى الله عليه وسلم ما من رجل يسلم عليه عند الحجرة فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله صلى الله عليه وسلم ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام واستحبه لذلك وبعضهم لم يستحبه إما لعدم دخوله وإما لأن السلام المأمور به في القرآن مع الصلاة وهو الصلاة والسلام الذي لا يوجب الرد أفضل من السلام الموجب للرد فان هذا مما يدل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه السلف فان السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن كلاهما لا يوجب الرد بل الله تعالى يصلي على من صلى عليه ويسلم على من سلم عليه ولأن السلام الذي يوجب الرد هو حق المسلم كما قال { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } ولهذا يرد السلام على من سلم وإن كان كافرا فكان اليهود إذا سلموا عليه يقول وعليكم أو عليكم
____________________
(1/106)
وأمر أمته بذلك وإنما قال صلى الله عليه وسلم عليكم لأنهم قد يقولون السام عليك والسام الموت فيقال عليكم قال صلى الله عليه وسلم يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا ولما قالت عائشة رضي الله عنها وعليكم السام واللعنة قال مهلا يا عائشة فان الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله أو لم تسمعي ما قلت لهم يعني رددت عليهم فقلت عليكم فاذا قالوا السام قال عليكم وأما إذا أنهم قالوا السلام فلا يخصون بالرد فيقال عليكم فيصير المعنى السلام عليكم لا علينا بل يقال وعليكم وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته لهم وعليكم فانما هو جزاء دعائهم وهو دعاء بالسلامة والسلام أمان فقد يكون المستجاب هو سلامتهم منا أي من ظلمنا وعدواننا وكذلك كل من رد السلام على غيره فانما دعا له بسلام وهذا مجمل ومن الممتنع أن يكون كل من رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام من الخلق دعا به بالسلامة من عذاب الدنيا والآخرة فقد كان المنافقون يسلمون عليه ويرد عليهم ويرد على المسلمين أصحاب الذنوب وغيرهم ولكن السلام فيه أمان
فلهذا لا يبتدأ الكافر الحربي بالسلام بل لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر قال فيه من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى كما قال موسى لفرعون والحديث في الصحيحين من رواية ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب في قصته المشهورة لما قرأ قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن أحواله وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ابتداء اليهود بالسلام فمن العلماء من حمل ذلك على العموم ومنهم من رخص إذا كانت للمسلم إليه حاجة أن يبتدئه بالسلام بخلاف اللقاء والكفار كاليهودي والنصراني يسلمون عليه وعلى امته سلام التحية الموجب للرد وأما السلام المطلق فهو كالصلاة عليه إنما يصلي عليه ويسلم عليه أمته فاليهود والنصارى لا يصلون ويسلمون عليه وكانوا إذا رأوه يسلمون عليه فذاك الذي يختص به المؤمنون ابتداء وجوابا أفضل من هذا الذي يفعله الكفار معه ومع أمته ابتداء وجوابا ولا يجوز أن يقال إن الكفار إذا سلموا عليه سلام التحية فان الله يسلم عليهم عشرا فانه يجيبهم على ذلك فيوفيهم كما لو كان له دين فقضاه وأما ما يختص بالمؤمنين فاذا صلوا عليه صلى الله على من صلى عليه عشرا وإذا سلم عليه سلم الله عليه عشرا
____________________
(1/107)
وهذه الصلاة والسلام هو المشروع في كل مكان بالكتاب والسنة والاجماع بل هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى لا فرق في هذا بين الغرباء وأهل المدينة عند القبر وأما السلام عند القبر فقد عرف أن الصحاة والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حيا لكانوا يفعلونه كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه فانه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلموا عليه بل السنة لمن جاء إلى قوم أن يسلم عليهم إذا قدم وإذا قام كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال ليست الأولى بأحق من الآخرة فهو حين كان حيا كان أحدهم إذا أتى يسلم وإذا قام يسلم ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة ولو كان سلام التحية خارج الحجرة مستحبا لكان مستحبا لكل أحد ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة ولا بين حال السفر وغيره فان استحباب هذا لهؤلاء وكرامته حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي ولا يمكن أحدا أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه ولم يشرع ذلك لأهل المدينة فمثل هذه الشريعة ليس منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه ولا هو معروف من عمل الصحابة وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة كما كان ابن عمر يتحرى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعبر في السفر وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك بل أبوه عمر كان ينهى عن مثل ذلك روى سعيد ابن منصور في سننه حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المعرور بن سويد عن عمر قال خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في صلاة الفجر { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } و { لإيلاف قريش } في الثانية فلما رجع من حجه رأى الناس ابتدروا المسجد فقال ما هذا فقالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا ملة أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له
____________________
(1/108)
فليمض وما اتفق عليه الصحابة ابن عمر وغيره من أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا بل يكره ذلك فتبين ضعف حجة من احتج بقوله ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام فان هذا لو دل على استحباب السلام عليه من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره فلما اتفقوا على ترك ذلك مع المنهي عنه كما دلت عليه سائر الأحاديث
وعلى هذا فالجواب عن الحديث إما بتضعيفه على قول من يضعفه وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول بالرد لا فضيلة المسلم بالرد عليه إذ كان هذا من باب المكافأة والجزاء حتى إنه يشرع للبر والفاجر وإما بأن يقا إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام فانما فيه مدح المسلم عليه والإخبار بسماعه السلام وأنه يرد السلام فيكافئ المسلم عليه لا يبقى للمسلم عليه فضل فانه بالرد تحصل المكافأة كما قال تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } ولهذا كان الرد من باب العدل المأمور به الواجب لكل مسلم إذا كان سلامه مشروعا وهذا كقوله من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا أحب إلينا هو إخبار باعطائه السائل ليس هذا أمرا بالسؤال وإن كان السلام ليس مثل السؤال لكن هذا اللفظ إنما يدل على مدح الراد
____________________
(1/109)
وأما المسلم فيقف الأمر فيه على الدليل وإذا كان المشروع لأهل مدينته أن لا يقفوا عند الحجرة ويسلموا عليه علم قطعا أن الحديث لم يرغب في ذلك ومما يبين ذلك أن مسجده كسائر المساجد لم يختص بجنس العبادات لا يشرع في غيره وكذلك المسجد الأقصى ولكن خصا بأن العبادة فيهما أفضل بخلاف المسجد الحرام فانه مخصوص بالطواف واستلام الركن وتقبيل الحجر وغير ذلك وأما المسجدان الآخران فما يشرع فيهما من صلاة وذكر واعتكاف وتعلم وتعليم وثناء على الرسول وصلاة عليه وتسليم عليه وغير ذلك من العبادات فهو مشروع في سائر المساجد والعمل الذي يسمى زيارة لقبره لا يكون إلا في مسجده لا خارجا عن المسجد فعلم أن المشروع من ذلك العمل مشروع في سائر المساجد لا اختصاص لقبره بجنس من أجناس العبادات ولكن العبادة في مسجده أفضل منها في غيره لأجل المسجد لا لأجل القبر
ومما يوضح هذا أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم باسم زيارة قبره لا ترغيبا في ذلك ولا غير ترغيب فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم ولهذا كره من كره من العلماء إطلاق هذا الاسم والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به إتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه إما قريبا من الحجرة وإما بعيدا عنها إما مستقبلا للقبلة وإما مستقبلا للحجرة وليس في ائمة المسلمين إلا الأربعة ولا غيرهم من احتج على ذلك بلفظ روى في زيارة قبره بل إنما يحتجون بفعل ابن عمر مثلا وهو أنه كان يسلم أو بما روى عنه من قوله صلى الله عليه وسلم ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وذلك احتجاج بلفظ السلام لا بلفظ الزيارة وليس في شيء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول ولا عن أصحابه في زيارة قبره أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك بل يذكروت المدينة وفضائلها وأنها حرم ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام ونذر ذلك ونحو ذلك من المسائل ولا يذكرون استحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره فليس في الصحيحين وأمثالهما
____________________
(1/110)
شيء من ذلكولا في عامة السنن مثل النسائي والترمذي وغيرهما ولا في مسند الشافعي وأحمد وإسحاق وأمثالهم من الأئمة وطائفة اخرى ذكروا ما يتعلق بالقبر لكن بغير لفظ زيارة قبره كما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر وكما قال أبو داود في سننه باب ما جاء في زيارة القبر وذكر قوله ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ولهذا أكثر كتب الفقه المختصرة التي تحفظ ليس فيها استحباب زيارة قبره مع ما يذكرونه من أحكام المدينة وإنما يذكر ذلك قليل منهم والذين يذكرون ذلك يفسرونه باتيان المسجد كما تقدم ومعلوم أنه لو كان هذا من سنته المعروفة عند أمته المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين لكان ذكر ذلك مشهورا عند علماء الإسلام في كل زمان كما اشتهر ذكر الصلاة عليه والسلام عليه وكما اشتهر عندهم ذكر مسجده وفضل الصلاة فيه فلا يكاد يعرف مصنف للمسلمين في الحديث والفقه إلا وفيه ذكر الصلاة والسلام عليه وذكر فضل مدينته والصلاة في مسجدها ولهذا لما احتاج المنازعون في هذه المسألة الى ذكر سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وسنة خلفائه وما كان عليه أصحابه لم يقدر أحد منهم على أن يستدل في ذلك بحديث منقول عنه إلا وهو حديث ضعيف بل موضوع مكذوب وليس معهم بذلك نقل عن الصحابة ولا عن أئمة المسلمين فلا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه قال يستحب السفر إلى مجرد زيارة القبور ولا السفر إلى مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ولا السفر لمجرد زيارة قبره بدون الصلاة في مسجده بل كثير من المصنفات ليس فيها إلا ذكر المسجد والصلاة فيه وهي الأمهات كالصحيحين ومساند الأئمة وغيرهما وفيها ما فيه ذكر السلام عند الحجرة كما جاء عن ابن عمر وكما فهموه من قوله ومنها ما يذكر فيه لفظ زيارة قبره والصلاة في مسجده وفيها ما يطلق فيه زيارة قبره ويفسر ذلك باتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه وأما التصريح باستحباب السفر لمجرد زيارة قبره دون مسجده فهذا لم أرد عن أحد من أئمة المسلمين ولا رأيت احدا من علمائهم صرح به وإنما غاية الذي يدعي ذلك أنه يأخذه من لفظ مجمل قاله بعض
____________________
(1/111)
المتأخرين مع أن صاحب ذلك اللفظ قد يكون صرح بأنه لا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة أو أن السفر إلى غيرها منهي عنه فاذا جمع كلامه علم أن الذي استحبه ليس هو السفر لمجرد القبر بل للمسجد
ولكن قد يقال إن كلام بعضهم ظاهر في استحباب السفر لمجرد الزيارة
فيقال هذا الظهور إنما كان لما فهم المستمع من زيارة قبره [ ما ] يفهم من زيارة سائر القبور فمن قال إنه يستحب زيارة سائر القبور وأطلق هذا كان ذلك متضمنا لاستحباب السفر لمجرد القبر فان الحجاج وغيرهم لا يمكنهم زيارة قبره إلا بالسفر إليه لكن قد علم أن الزيارة المعهودة من القبور ممتنعة في قبره فليست من العمل المقدور ولا المأمور [ به ] فامتنع أن يكون أحد من العلماء يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوا ولو سكلوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن تبعهم لم يعلموا هذا زيارة لقبره وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه ودعاء له وثناء عليه في مسجده سواء كان القبر هناك أو لم يكن ثم كثير من المتأخرين لما رويت أحاديث في زيارة قبره ظن أنها أو بعضها صحيح فتركب من إجمال اللفظ ورواية هذه الأحاديث الموضوعة غلط من غلط في استحباب السفر لمجرد زيارة القبر وإلا فليس هذا قولا منقولا عن إمام من أئمة المسلمين وإن قدر أنه قاله بعض العلماء كان هذا قولا ثالثا في هذه المسألة فان الناس في السفر لمجرد زيارة القبور لهم قولان النهي والإباحة فاذا كان قول من عالم مجتهد ممن يعتد به في الإجماع أن ذلك مستحب صارت الأقوال ثلاثة ثم ترجع إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
والمقصود أن هذا كله يبين ضعف حجة المفرق بين الصادر من المدينة والوارد عليها والوارد على مسجده من الغرباء والصادر عنه وذلك أنه يمتنع أن يقال إنه يرد على هؤلاء
____________________
(1/112)
ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين فيها فان أولئك هم أفضل منه وخواصها وهم الذين خاطبهم بهذا فيمتنع أن يكون المعنى من سلم منكم يا أهل المدينة لم ارد عليها ما دمتم مقيمين بها فان المقام بها هو غالب أوقاتهم وليس في الحديث تخصيص ولا [ روي ] عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك
يبين هذا أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلوا على عائشة لبعض الأمور ويسلمون عليه إنما كان يرد عليهم إذا سلموا إن قيل إنه لم يكن يرد عليهم فهذا تعطيل للحديث وإن قيل كان يرد عليهم من هناك ولا يرد إذا سلموا من خارج فقد ظهر الفرق وإن قيل بل هو يرد على الجميع فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو من سلم من خارج لزم أن يستحب لأهل المدينة السلام كلما دخلوا المسجد وخرجوا وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وخلاف قول المفرقين ومن أهل المدينة من قد لا يسافر منها أو لا يسافر إلا للحج والقادم قد يقيم بالمدينة العشر والشهر فهذا يرد عليه في اليوم والليلة عشر مرات أو أكثر كلما دخل وكلما خرج وذاك المدني المقيم لا يرد عليه قط أو لا يرد عليه في عمرة إلا مرة وأيضا فاستحباب هذا للوارد والصادر تشبيه له بالطواف الذي يشرع للحاج عند الورود إلى مكة وهو الذي يسمى طواف القدوم وطواف التحية وطواف الورود وعند الصدور وهو الذي يسمى طواف الوداع وهذا تشبيه لبيت المخلوق ببيت الخالق ولهذا لا يجوز الطواف بالحجرة بالإجماع بل ولا الصلاة اليها لما ثبت عنه في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أنه قال صلى الله عليه وسلم لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها وأيضا فالطواف بالبيت يشرع لأهل مكة وغيرهم كلما دخلوا المسجد والوقوف عند القبر كلما دخل المدني لا يشرع بالاتفاق فلم يبق الفرق بين المدني وغير المدني له أصل في السنة ولا نظير في الشريعة ولا هو مما سنه الخلفاء الراشدون وعمل به عامة الصحابة فلا يجوز أن يجعل هذا من شريعته وسنته وإذا فعله من الصحابة الواحد
____________________
(1/113)
والإثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم كان غايته أن يثبت به التسويغ بحيث يكون هذا مانعا من دعوى الإجماع على خلافه بل يكون كسائر المسائل التي ساغ فيها الاجتهاد لبعض العلماء أما أن يجعل من سنة الرسول وشريعته وحكمه ما لم تدل عليه سنته لكون بعض السلف فعل ذلك فهذا لا يجوز ونظير هذا مسحه للقبر قال أبو بكر الأثرم قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم يلمس ويتمسح به فقال ما أعرف هذا قلت له فالمنبر قال أما المنبر فنعم قد جاء فيه قال أبو عبد الله شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح على المنبر قال فيروونه عن سعيد بن الميسب في الرمانة قلت ويروى عن يحيى بن سعيد يعني الأنصاري شيخ مالك وغيره أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسن ذلك ثم قال لعله عند الضرورة والمشي قلت لأبي عبد الله انهم يلصقون بطونهم بجدار القبر وقلت له ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية فيسلمون فقال أبو عبد الله نعم وهكذا كان ابن عمر يفعل ثم قال أبو عبد الله بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكر أحمد بن حنبل أيضا في منسك المروذي نظير ما نقل عن ابن عمر وابن المسيب ويحيى بن سعيد وهذا كله إنما يدل على التسويغ وأن هذا مما فعله بعض الصحابة فلا يقال انعقد إجمعهم على تركه بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء ببعض السلف لم يبتدع هو شيئا من عنده وأما أن يقال إن الرسول ندب إلى ذلك ورغب فيه وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها فهذا يحتاج إلى دليل شرعي لا يكفي في ذلك فعل بعض السلف ولا يجوز أن يقال إن الله ورسوله يحب ذلك أو يكرهه وإنه سن ذلك وشرعه أو نهى عن ذلك وكرهه ونحو ذلك إلا بدليل يدل على ذلك لا سيما إذا عرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك فيقال لو كان هو ندبهم إلى ذلك وأحبه لهم لفعلوه فانهم كانوا أحرص الناس على الخير ونظائر هذا متعددة والله أعلم
____________________
(1/114)
والمؤمن قد يتحرى الصلاة أو الدعاء في مكان دون مكان لاجتماع قلبه فيه وحصول خشوعه فيه لا لأنه يرى أن الشارع فضل ذلك المكان كصلاة الذي يكون في بيته ونحو ذلك فمثل هذا إذا لم يكن منهيا عنه لا بأس به ويكون ذلك مستحبا في حق ذلك الشخص لكون عبادته فيه أفضل كما إذا صلى القوم خلف إمام يحبونه كانت صلاتهم أفضل من ان يصلوا خلف من هم له كارهون وقد يكون العمل المفضول في حق بعض الناس أفضل لكونه أنفع له وكونه أرغب فيه وهو أحب اليه من عمل أفضل منه لكونه يعجز عنه أو لم يتيسر له فهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص وهو غير ما ثبت فضل جنسه بالشرع كما ثبت أن الصلاة افضل ثم القراءة ثم الذكر بالأدلة الشرعية مع أن العمل المفضول في مكانه هو أفضل من الفاضل في غير مكانه كفضيلة الذكر والدعاء والقراءة بعد الفجر والعصر على الصلاة المنهي عنها في هذا الوقت وكفضيلة التسبيح في الركوع والسجود على القراءة لأنه نهى أن يقرأ القرآن راكعا أو ساجدا وكفضيلة الدعاء في آخر الصلاة على القراءة هناك لأنه موطن الدعاء ونظائره متعددة وبسط هذا له موضع آخر ولكن المقصود هنا أن يعلم أن ما قيل إنه مستحب للأمة قد ندبهم اليه الرسول ورغبهم فيه فلا بد له من دليل يدل على ذلك ولا يضاف إلى الرسول إلا ما صدر عنه والرسول هو الذي فرض الله على جميع الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه وإيجاب ما أوجبه وتحريم ما حرمه وشرع ما شرعه وبه فرق الله بين الهدى والضلال والرشاد والغي والحق والباطل والمعروف والمنكر وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم وأنه على صراط مستقيم وهو الذي جعل الرب وطاعته طاعة له في مثل قوله تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن الإيمان به واتباعه وطاعته وبه يمتحنون في القبور قال تعالى { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } وهو الذي أخذ الله له الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على أممهم الميثاق انه إذا جاءهم
____________________
(1/115)
أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه وهو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة ومن كذبه وعصاه كان من أهل النار قال تعالى { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله } الآية والوعد بسعادة الدنيا الآخرة والوعيد بشقاء الدنيا والآخرة معلق بطاعته فطاعته هي الصراط المستقيم وهي حبل الله المتين وهي العروة الوثقة وأصحابها هم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون والمخالفون له هم أعداء الله حزب ابليس اللعين قال تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } إلى قوله { خذولا } وقال تعالى { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } إلى قوله { لعنا كبيرا } وقال تعالى { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } وقال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال تعالى { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } وجميع الرسل أخبروا أن الله أمر بطاعتهم كما قال تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } يأمرون بعبادة الله وحده وخشيته وحده وتقواه وحده ويأمرون بطاعتهم كما قال تعالى { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وقال نوح عليه السلام { اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } وقال في سورة { فاتقوا الله وأطيعون } وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول وطاعته في كل مكان وزمان ليلا ونهارا سفرا وحضرا [ سرا ] وعلانية جماعة وفرادى وهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب بل من النفس فانهم
____________________
(1/116)
متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته كما قال تعالى { فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى } أي كذب به وتولى عن طاعته كما قال في موضع آخر { فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى } وقال تعالى { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا } وقال تعالى { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } وقال تعالى { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } والله تعالى قد سماه سراجا منيرا وسمى الشمس سراجا وهاجا والناس إلى هذا السراج المنير أحوج إلى السراج الوهاج فانهم محتاجون اليه سرا وعلانية ليلا ونهارا بخلاف الوهاج وهو أنفع لهم فانه منير ليس فيه أذى بخلاف الوهاج فانه ينفع تارة ويضر أخرى
ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول والإيمان به وطاعته ومحبته وموالاته وتعظيمه وتعزيره وتوقيره عامة في كل زمان ومكان كان ما يؤمر به من حقوقه عاما لا يختص بغيره فمن خص قبره بشيء من الحقوق كان جاهلا بقدر الرسول صلى الله عليه وسلم وقدر ما أمر الله به من حقوقه وكل من اشتغل بما أمر الله به من طاعته شغله ذلك عما نهى عنه من البدع المتعلقة بقبره وقبر غيره ومن اشتغل بالبدع المنهي عنها ترك ما أمر به الرسول من حقه فطاعته هي مناط السعادة والنجاة
والذين يحجون إلى القبور ويدعون الموتى من الأنبياء وغيرهم عصوا الرسول وأشركوا بالرب ففاتهم ما أمروا به من تحقيق التوحيد والايمان بالرسول وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وجمع الخلق يأتون يوم القيامة فيسألون عن هذين الأصلين ماذا كنتم تعبدون وبما أجبتم المرسلين كما بسط هذا في موضعه
والمقصود أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين يدخلون
____________________
(1/117)
المسجد ويصلون فيه الصلوات الخمس ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون عليه عند دخول المسجد ولم يكونوا يدهبون يقفون إلى جانب الحجرة ويسلمون هناك وكانت على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة وكان من آخرهم موتا جابر بن عبد الله وهو توفي في خلافة عبد الملك قبل خلافة الوليد فانه توفي سنة بضع وسبعين والوليد تولى سنة بضع وثمانين وتوفي سنة بضع وتسعين فكان بناء المسجد وادخال الحجرة فيه فيما بين ذلك وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري في كتاب أخبار المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياخه وعمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائبا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هجرية هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة المطابقة وقصد وعمله بالفسيفساء وبالمرمر وعمل سقفه بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه ونقل لبن المسجد ولبن الحجرات فبنى به داره في الحرة فهو فيها اليوم بياض على اللبن وقال حدثنا محمد بن يحيى عن إسحاق بن ابراهيم عن هارون بن كثير قال بنى عمر من حجارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مدماكين في أعلى مسجد بني حرام الذي في الشعب والمدماك الساف وقال أبو زيد حدثنا محمد بن يحيى حدثني عبد العزيز بن عمران عن جعفر بن وردان عن أبيه قال لما استعمل الوليد عمر بن عبد العزيز أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه فاشترى ما حواليه من الشرق والغرب
____________________
(1/118)
والشام فلما خلص إلى القبلة قال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لسنا نبيعه هو من حق حفصة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسكنها فقال عمر بن عبد العزيز ما أنا بتارككم أو دخلها في المسجد فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه وأعطيكم دار الرقيق مكان هذه الطريق وما بقي من الدار فهو لكم فقبلوا فأخرج بابهم من المسجد وهي الخوخة التي في المسجد تخرج من دار حفصة بنت عمر وأعطاهم دار الرقيق وقدم الجدار في موضعه اليوم وزاد من الشرق ما بين الاسطوانة المربعة إلى جدار المسجد اليوم وهو عشرة اساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام ومده من الغرب اسطوانتين وأدخل فيه حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي يقال لها القرائن قال فلما قدم الوليد حاجا جعل يطوف في المسجد وينظر اليه ويقول ها هنا ومعه أبان بن عثمان فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان بن عثمان فقال أين بناؤنا من بنائكم فقال أبان إنا بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس قال ومكث عمر في بنائه ثلاث سنين قال أبو زيد قال أبو غسان وسمعناه يحدث أن الوليد قال لعمر ما منعك أن تجعل جدار المسجد على بناء جدار القبلة وأن تجعل سقفه على عمد السقيفة التي على المنبر فقال وهل تدري كم أنفقت على جدار القبلة وهاتين السقيفتين قال كم أنفقت قال خمسة وأربعين ألف درهم وقال بعضهم أربعة آلاف دينار فقال والله لكأنك أنفقتها من مالك قال أبو غسان وقد جاءنا أن القبلة على بناء عثمان لم يزد فيها أحد وجاء هذا الحديث فالله أعلم أي ذلك الحق غير أن الأقوى عندنا أنها على بناء عثمان قال وقد سمعنا أن الذي كلم به عمر بن عبد العزيز آل عمر منزل حفصة من الحجرات وإنما أعطاهم عمر الخوخة لما أعطوه من ذلك المنزل وسمعنا من يقول إنما أعطوه مربدا
____________________
(1/119)
لحفصة فادخله في المسجد وأن ذلك المربد كان وراء منزلها من الحجرات في الزاوية التي عند القبر من ناحية المنارة فاعطوه ذلك المربد وفتح بهم الخوخة قلت قول من قال إن القبلة على بناء عثمان لم يزد فيها أحد صحيح وما ذكر من فعل عمر بن عبد العزيز صحيح أيضا فان عمر إنما بنى جدار القبلة على موضع جدار عثمان لكنه زاد من المشرق الزيادة التي قدام حجرة عائشة وهو منزل حفصة فكانت زيادته لما زاد من الشرق أيضا في الجدار القبلي بقدر تلك الزيادة والجدار القبلي بالغ في تزويقه أكثر من الجدر الثلاثة فقال له الوليد ألا جعلت الجدر كلها مثله وجعلت سقفه مثل السقيفة التي على القبر فذكر عمر أن ذلك كان يذهب فيه مال كثير قال أبو زيد حدثنا محمد بن يحيى عن محمد ابن إسمعيل عن محمد بن عمار عن جده قال لما صار عمر إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالي فقال تعالوا احضروا بنيان قبلتكم لا تقولوا عمر غير قبلتنا فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا فكانت زيادة الوليد من المشرق إلى المغرب ست أساطين وزاد إلى الشام من الاسطوانة المربعة التي في القبر أربع عشرة اسطوانة منها عشر في الحبة وأربع في السقائف الأولى التي كانت قبل وزاد من الاسطوانة التي دون المربعة إلى الشرق أربع أساطين فدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فهذا قد بين أن الجدار الذي بناه عمر هو موضع الجدار الذي بناه عثمان وهو الجدار اليوم وأن الزيادة من الشرق أربع أساطين فدخلت حجرة عائشة وما قدامها وهو حجرة حفصة وهناك زاد الجدار القبلي أيضا قال أبو زيد قال أبو غسان وحدثني عدة من مشايخ البلد أن عمر لما جاءه كتاب الوليد بهدم المسجد أرسل إلى عدة من آل عمر فقال إن أمير المؤمنين قد كتب إلي أن أبتاع بيت حفصة وكان على يمين الخوخة قريبا من منزل عائشة الذي فيه القبر وكانتا تتهاديان الكلام وهما في منزليهما من قرب ما بينهما فلما دعاهم إلى ذلك قالوا ما نبيعه شيئا قال اذن أدخله في المسجد قالوا أنت وذاك فاما طريقها فلا تقطعها فهدم البيت وأعطاهم الطريق ووسعها لهم حتى انتهى بها إلى الاسطوانة وكانت قبل ذلك ضيقة بقدر ما يمر الرجل منحرفا قال
____________________
(1/120)
أبو غسان ثم سام عمر بنى عبد الرحمن بن عوف بدارهم فابوا فهدمها عليهم وأدخلها في المسجد وقال عبد الرحمن بن حميد فذهب لنا متاع كثير من هدمهم قال وأدخل حجرات النبي صلى الله عليه وسلم مما يلي الشرق ومن الشام وقال أبو غسان أخبرني عبد العزيز ابن عمران عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري عن شيخ من مواليهم أدرك عثمان ابن حنيف قال لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر وزاد في مسجده البنية الثانية ضرب الحجرات ما بين القبلة إلى الشام ولم يضربها غربيه وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من الغرب وكانت لها أبواب في المسجد قال أبو زيد حدثنا القعنبي وأبو غسان عن مالك قال كان الناس يدخلون حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يصلون فيها يوم الجمعة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكان المسجد يضيق بأهله ولم تكن في المسجد وكانت أبوابها في المسجد قال أبو غسان أخبرني مخبر من آل عمران أن حجرة حفصة كانت ما بين الخوخة التي يقال لها اليوم خوجة آل عمر إلى بيت عائشة وهو القبر وأن موضع سرير النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يضطجع عليه في بيت حفصة ما بين الاسطوانة الثانية من الاسطوانات التي تلي الخوجة الشرقية إلى الإسطوانة التي تليها وأن سائر الحجرات كانت تواليه بعد بيت عائشة فأتموا بها إلى القبلة وآخرها قباله وكانت من جريد عليها شعر وكانت البيوت من مدر قال أبو غسان وأخبرني ابن أبي فديك سألت محمد بن هلال عن باب بيت عائشة أين كان قال مما يلي الشام قلت أكان مصراعين أم فردا قال كان فردا قلت مم كان قال كان من عرعر أو ساج قلت سائر الروايات فيها أن أبوابها مستورة بالمسوح قال أبو زيد حدثني هارون بن معروف حدثنا ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن سعيد بن المسيب قال وددت لو تركوا لنا مسجد نبينا على حاله وبيوت أزواجه رضي الله عنهم ومنبره ليقدم القادم فيعتبر قال ابن عطاء عن أبيه وكانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الرجل فيمس سقف البيت والحجرات سقف
____________________
(1/121)
عليها المسوح قال أبو زيد حدثنا محمد بن يحيى عن الواقدي عن عبد الله بن زيد الهذلي قال رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت باللبن ولها حجر من جريد مطرود بالطين عددت تسعة أبيات بحجراتها وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزل أسماء بنت الحسن اليوم ورأيت بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وحجرتها من لبن فسألت ابن ابنها فقال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة دومة الجندل بنت حجرتها بلبن فلما نظر إلى اللبن فدخل عيها أول نسائه فقال ما هذا البناء فقالت أردت أن أكف أبصار الناس فقال يا أم سلمة إن شر ما ذهبت فيه أموال الناس البناء قال الواقدي فحدثت بهذا الحديث معاذ بن محمد الانصاري فقال سمعت الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول وهو بين القبر والمنبر أدركت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود فحضرت كتاب الوليد يقرأ فأمر بادخالها في المسجد فما رأيت يوما كان أكثر من ذلك اليوم باكيا فسمعت سعيد بن المسيب يقول والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناس من المدينة ويقدم قادم من الأفق فيرى ما أكرم به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فيكون ذلط مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر قال فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس كان فيها أربعة أبيات بلبن له حجر من جريد وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها على أبواب مسوح الشعر ذرعت الستر فوجدته ثلاث أذرع في ذراع وعظم الذراع فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيتني وأنا في المسجد فيه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو أمامة ابن سهل بن حنيف وخارجة بن زيد وإنهم يبكون حتى أخضل الدمع لحاهم وقال يومئذ أبو أمامة ليتها تركت حتى يقصر الناس عن البناء ويرى الناس ما رضي الله لنبيه وخزائن الدنيا بيده قلت قوله في هذه الرواية إن فيهم نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان هذا محفوظا فمراده من كان صغيرا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي أمامة ابن سهل بن حنيف ومثل محمود بن الربيع ومثل السائب بن زيد وعبد الله بن أبي طلحة
____________________
(1/122)
فأما من كان مميزا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن بقي منهم أحد لكن في سهل بن سعد خلاف قيل توفي سنة ثمان وثمانين فيكون قد مات قبل ذلك أو سنة إحدى وتسعين ولفظ الحجرة في هذه الآثار لا يراد به جملة البيت كما في قوله تعالى { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } بل يراد ما يتخذ حجرة للبيت عند بابه مثل تحريم للبيت وكانت هذه من جيد النخل بخلاف الحجر التي هل المساكن فانها كانت من اللبن وأم سلمة جعلت حجرتها من لبن كما يروى أن بعضهن كانت له حجرة وبعضهن لم يكن له حجرة والأبواب مستورة بستور الشعر وكان بيت علي الذي يسكن فيه هو وفاطمة خلف حجرة عائشة رضي الله عنهم لم يزل حتى أدخله الوليد في المسجد
ومما يوضح مسمى الحجرة التي قدام البيت ما في سنن أبي داود وغيره عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها فبين أنه كلما كان المكان أستر لها فصلاتها فيه أفضل فالمخدع أستر من البيت الذي يقعد فيه والبيت أستر من الحجرة التي هي أقرب إلى الباب والطريق قال أبو زيد حدثنا محمد بن يحيى حدثني عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن أبي عائشة عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال زاد عثمان بن عفان في المسجد قبل أن يقتل بأربع سنين فزاد فيه من ناحية القبلة موضع جداره على جدار المقصورة اليوم وزاد فيه من المغرب أسطوانة بعد المربعة وزاد فيه من الشام خمسية ذراعا ولم يزد فيه من الشرق شيئا قال أبو غسان وأخبرني غير واحد من ثقات أهل البلد أن عثمان زاد في القبلة إلى موضع القبلة اليوم ثم لم يغير ذلك إلى اليوم قال أبو زيد حدثنا محمد بن يحيى عن عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه أن عثمان أدخل فيه دار العباس بن عبد المطلب مما يلي القبلة والشام والغرب وأدخل بعض بيوت حفصة بنت عمر مما يلي القبلة فأقام المسجد على تلك الحال حتى زاد فيه الوليد بن عبد الملك وحدثنا محمد ابن يحيى عن رجل عن ابن أبي الزناد عن خارجة قال قدم عثمان المسجد وزاد في قبليه ولم يزد في شرقيه وزاد في غربيه قدر اسطوانة وبناه بالحجارة المنقوشة
____________________
(1/123)
والقصة وبيضه بالقصة وقدر زيد بن ثابت أساطينه فجعلها على قدر النخل وجعل فيه طيقانا مما يلي الشرق والغرب وذلك قبل أن يقتل عثمان بأربع سنين فزاد فيه إلى الشام خمسين ذراعا
قلت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يبنيهن كلهن مع بناء المسجد أولا فانه لم يكن حينئذ مزوجا بتسع بل بنى بعائشة وكان قد تزوجها بمكة وكذلك سودة ثم بحفصة فلهذا كانت حجرهن لاصقة بالمسجد وآخر من تزوجها صفية بنت حيي لما فتح خيبر سنة تسع من الهجرة وحينئذ اتخذ لها بيتا وكان بيتها أبعد عن المسجد من غيره كما في الصحيحين عن علي بن الحسين عن صفية بنت حيي أم المؤمنين قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبنيوكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا أو شيئا ففي هذا الحديث أن مسكنها كان ف دار اسامة بن زيد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قام معها ليقلبها إلى مسكنها وأنه مر به رجلان من الأنصار ولو كان منزلها متصلا بالمسجد لم يحتج إلى شيء من ذلك فان المسجد لم يكن فيه ما يخافه ولكن خرج معها من المسجد ليوصلها إلى مسكنها والرجلان مرا به في الطريق لم يكن مرورهما في المسجد فان المسجد لم يكن طريقا بالليل ولو رأياه في المسجد لم يحتج أن يقول ما قال بل رأياه ومعه امرأة خارجا من المسجد فقال ما قال لئلا يقذف الشيطان في قلوبهما شيئا من الظن السيء فيهلكا بذلك
وأما ما ذكروه من أن عثمان زاد في المسجد من جهة الشام مع أنه لم يأخذ شيئا من جهة الحجر فعلم أن من الحجر ما لم يكن ملتصقا بالمسجد فان الناس بنوا دورهم متصلة بالمسجد قبل أن يتزوج جويرية وصفية وغيرهما ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليزاحم أحدا
____________________
(1/124)
في داره فكان يتخذ الحجرة شامي المسجد وإن لم تكن متصلة به ولهذا ذكروا أن عثمان زاد من جهة الشام خمسين ذراعا ولم يأخذ شيئا من الحجر بل الوليد زاد على ذلك بأخذ الحجر فكانت الحجر كما ذكروا من ناحية الشرق مع الاتصال وحجرة حفصة شرقية وقبلية فان حجرة عائشة هي التي كانت مسامتة لم تتقدم المسجد وأما حجرة حفصة فكانت فاضلة عن المسجد من مقدمه ولهذا زادوها مع الزيادة في المسجد وكذلك الحجر التي كانت في الشام كانت شرقية وشامية لكن الشامي لم يكن ملتصقا بالمسجد فلهذا قال من قال كانت الحجرة من قبليه وشرقية ولم يذكر الشام وذكر آخرون أن منها ما كان من الشام ولا منافاة بين القولين فان صاحب القول الأول أراد ما يتصل بالمسجد وما كان شام المسجد بقليل كان شرقيه أيضا فكانت هذه شرقيه شامية ومن قال شامية فمعناه أنها من جهة شام الشرق وإن لم تكن متصلة بالمسجد فكثير من الروايات من هذا الباب قد يظن بها تناقض فان كانت متناقضة فما ناقض الصحيح فهو باطل وإن كان المعنى متفقا فلا تناقض وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد تضعف فيه الصلاة بألف صلاة كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد فيجوز الطواف فيه والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجا منه ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك قال أبو زيد حدثني محمد بن يحيى حدثني من أثق به أن عمر زاد في المسجد من القبلة إلى موضع المقصورة التي هي به اليوم قال فأما الذي لا يشك فيه أهل بلدنا أن عثمان رضي الله عنه هو الذي وضع القبلة في موضعها اليوم ثم لم تغير بعد ذلك قال أبو زيد حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن عثمان عن مصعب بن ثابت عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما وهو في مصلاه لو زدنا في مسجدنا واشار بيده نحو القبلة فلما ولي عمر قال إن
____________________
(1/125)
النبي صلى الله عليه وسلم قال لو زدنا في مسجدنا واشار بيده نحو القبلة فأدخلوا رجلا مصلى النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسوه ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى إذا رأوانحو ما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده ثم مدوا مقاطا فوضعوا طرفه بيد الرجل ثم مدوا فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى إذا رأوا ذلك شبيها بما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزيادة فقدم عمر القبلة فكان موضع جدار عمر في موضع عيدان المقصورة وقال حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن إسماعيل عن ابن أبي ذئب قال قال عمر لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه حدثنا محمد بن يحيى عن سعد بن سعيد عن أخيه عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي فكان أبو هريرة يقول والله لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه حدثنا محمد حدثني عبد العزيز عن عمران عن فليح بن سليمان عن ابن أبي عمرة قال زاد عمر في المسجد في شامية ثم قال لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه الله بعامر
وهذا الذي جاءت به الآثار هو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم فانهم قالوا إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما فان كلاهما زاد من قبلي المسجد فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع وإذا كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده وما علمت لمن ذكر ذلك سلفا من العلماء وقد ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد فيه لما قدم من خيبر قال أبو غسان حدثني غير واحد ولا
____________________
(1/126)
اثنين ممن يوثق به من أهل العلم من أهل البلد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك المسجد من القبلة في تلك البنية على حده الأول فأخذت الأساطين من الشرق ألى الاسطوانة التي دون المربعة التي عند القبر التي لها نجاف طالع وأثبت من الشام لم يزد فيه شيء ومن الغرب الى الاسطوانة التي دون المربعة الغربية ومن بيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في موضع مجلس آل عبد الرحمن بن هشام وأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رأسه وهي في بيتها وهو معتكف في المسجد وهذه الأمور نبهنا عليها ها هنا فانه يحتاج إلى معرفتها وأكثر الناس لا يعرفون الأمر كيف كان ولا حكم الله ورسوله في كثير من ذلك وكان من المقصود أن المسجد لما زاد فيه الوليد وأدخلت فيه الحجرة كان قد مات عامة الصحابة ولم يبق إلا من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ سن التمييز الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع
ومن المعلوم بالتواتر أن ذلك كان في خلافة الوليد بن عبد الملك وكان بعد بضع وثمانين وقد ذكروا أن ذلك كان سنة إحدى وتسعين وأن عمر بن عبد العزيز مكث في بنائه ثلاث سنين وسنة ثلاث وتسعين مات فيها خلق كثير من التابعين مثل سعيد ابن المسيب وغيره من الفقهاء السبعة ويقال لها سنة الفقهاء وجابر بن عبد الله كان من السابقين الأولين ممن بايع بالعقبة وتحت الشجرة ولم يكن بقي من هؤلاء غيره لما مات وذلك قبل تغيير المسجد بسنين ولم يبق بعده ممن كان بالغا موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا سهل بن سعد الساعدي فانه توفي سنة ثمان وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين ولهذا قيل فيه إنه آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله أبو حاتم السبتي وغيره وأما من مات بعد ذلك فكانوا صغارا مثل السائب بن يزيد الكندي ابن أخت نمر فانه مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين وقيل إنه مات بعده عبد الله بن أبي طلحة الذي حنكه النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك محمود بن الربيع الذي عقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه من
____________________
(1/127)
بئر كانت في دارهم وله خمس سنين مات سنة تسع وتسعين وسنه ثلاث وتسعون وأبو أمامة بن سهل بن حنيف سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسعد باسم أسعد بن زرارة مات سنة مائة لكن هؤلاء لم يكن لهم في حياته صلى الله عليه وسلم من التمييز ما ينقلون عنه أقواله وافعاله التي ينقلها الصحابة مثل ما ينقله جابر وسهل بن سعد وغيرهما وأما ابن عمر فكان قد مات قبل ذلك عام قتل ابن الزبير بمكة [ سنة ] ثنتين وسبعين وابن عباس مات قبل ذلك بالطائف سنة بضع وستين فهؤلاء وأمثالهم من الصحابة لم يدرك أحد منهم تغيير المسجد وإدخال الحجر فيه وأنس بن مالك كان بالبصرة لم يكن بالمدينة وقد قيل إنه آخر من مات بها من الصحابة وكانت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم شرقي المسجد وقبليه وقيل وشاميه فاشتريت من ملاكها ورثة أزواجه صلى الله عليه وسلم وزيدت في المسجد فدخلت حجرة عائشة وكان الذي تولى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة فسد باب الحجرة وبنى حائطا آخر عليها غير الحائط القديم فصار المسلم عليه من وراء جدار أبعد من المسلم عليه لما كان جدارا واحدا
قال هؤلاء ولو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعا في المسجد كان له حد ذراع أو ذراعين أو ثلاثة فلا يعرف الفرق بين المكان الذي يستحب فيه هذا السلام والمكان الذي لا يستحب فان قيل من سلم عليه عند الحائط الغربي رد عليه قيل وكذلك من كان خارج المسجد وإلا فما الفرق وحينئذ فيلزم أن يرد على جميع أهل الأرض وعلى كل مصل في كل صلاة كما ظنه بعض الغالطين ومعلوم بطلان ذلك وإن قيل يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة قيل فما حد ذلك وهم لهم قولان منهم من يستحب القرب من الحجرة كما استحب ذلك مالك وغيره ولكن يقال فما حد ذلك القرب وإذا جعل له حد فهل يكون من خرج عن الحد فعل المستحب وآخرون من المتأخرين يستحبون التباعد عن الحجرة كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما فهل هو بذراع أو باع أو أكثر وقدره من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربع أذرع فانهم قالوا يكون حين يسلم عليه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة
____________________
(1/128)
عن يساره ولا يدنو أكثر من ذلك وهذا والله أعلم قاله المتقدمون لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن كالصلاة عليه ليس المقصود به سلام التحية الذي يرد جواب المسلم عليه فان هذا لا يشرع فيه هذا البعد ولا يستقبل به القبلة ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد وبالجملة فمن قال إنه يسلم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد له من أن حد مكان ذلك يقال إلى أين يسمع ويرد السلام فان حد في ذلك ذراعا أو ذراعين أو عشر أذرع أو قال إن ذلك في المسجد كله أو خارج المسجد فلا بد له من دليل والأحاديث الثابتة منه فيها أن الملائكة يبلغونه صلاة من يصلي عليه وسلام من يسلم عليه ليس في شيء منها أن يسمع بنفسه صلى الله عليه وسلم ذلك فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان فلا بد له من حد ومعلوم أنه ليس في ذلك حد شرعي ولا أحد يحد في ذلك حدا إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق
وأيضا فذلك يختلف بارتفاع الاصوات وانخفاضها والسنة في السلام عليه خفض الصوت ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك بخلاف المسلم من الحجرة فانه فرق ظاهر بينه وبين المسلم عليه من المسجد ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته فان المسلم عليه ان رفع الصوت أساء الأدب برفع الصوت في المسجد وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله الذي يسلم الله على صاحبه كما يصلي على من يصلى عليه فان هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر
وبالجملة فهذا الموضع فيه نزاع قديم بين العلماء وعلى كل تقدير فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به نعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم ولهذا لما تتبعت وجدت رزاتها إما كذاب وإما ضعيف سيء الحفظ ونحو ذلك كما قد بين في غير هذا الموضع وهذا الحديث الذي فيه ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام قد احتج به أحمد وغيره من العلماء وقيل هو على شرط مسلم ليس على شرط البخاري
____________________
(1/129)
وهو معروف من حديث حيوة بن شريح المصري الرجل الصالح الثقة عن أبي صخر عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة وقد أخرج مسلم حديثا بهذا الاسناد وأبو صخر هذا متوسط ولهذا اختلف فيه عن يحيى بن معين فمرة قال هو ضعيف ووافقه النسائي ومرة قال لا بأس به ووافقه أحمد فلو قدر أن هذا الحديث مخالف لما هو أصح منه ووجب تقديم ذاك عليه ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جار في غير هذا الحديث ولو أريد إثبات سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث لكان هذا مخالفا فيه فالنزاع في إسناده وفي دلالة متنه ومسلم روى بهذا الاسناد قوله الأجر كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما من غير هذا الطريق ومسلم قد يروي عن الرجل في المتابعات مالا يرويه فيما انفرد به وهذا معروف منه في عدة رجال يفرق بين من يروى عنه ما هو معروف من رواية غيره وبين من يعتمد عليه فيما ينفرد به ولهذا كان كثير من أهل العلم يمتنعون أن يقولوا في مثل ذلك هو على شرط مسلم أو البخاري كما بسط هذا في موضعه
( الوجه الثامن ) أنه لو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يخف على الصحابة والتابعين بالمدينة ولو كان ذلك معروفا عندهم لم يكره أهل العلم بالمدينة مالك غيره أن يقول القائل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلما كرهوا هذا القول دل على أنه ليس عندهم فيه أثر لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم
( الوجه التاسع ) أن الذين كرهوا هذا القول والذين لم يكرهوه من العلماء متفقون على أن السفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم إنما هو سفر إلى مسجده ولو لم يقصد إلا السفر للقبر لم يمكنه أن يسافر إلا إلى المسجد لكن قد يختلف الحكم بنيته كما تقدم وأما زيارة قبره كما هو معروف في زيارة القبور فهذا ممتنع غير مقدور ولا مشروع وبهذا يظهر أن قول الذين كرهوا أن يسمى هذا زيارة لقبره صلى الله عليه وسلم قولهم أولى بالصواب فان هذا ليس زيارة
____________________
(1/130)
لقبره ولا فيه ما يختص بالقبر بل كل ما يفعل فانما هو عبادة تفعل في المساجد كلها وفي غير المساجد أيضا ومعلوم أن الزيارة القبر لها اختصاص بالقبر ولما كانت زيارة قبره المشروعة إنما هي سفر إلى مسجده وعبادة في مسجده ليس فيها ما يختص بالقبر كان قول من كره أن يسمي هذا زيارة لقبره أولى بالشرع والعقل واللغة ولم يبق إلا السفر إلى مسجده وهذا مشروع بالنص والإجماع والذين قالوا تستحب زيارة قبره إنما أرادوا هذا فليس بين العلماء خلاف بالمعنى بل في التسمية والاطلاق والمجيب لم يحك نزاعا في استحباب هذه الزيارة الشرعية التي تكون في مسجده وبعضهم يسميها زيارة لقبره وبعضهم يكره أن تسمى زيارة لقبره وإذا كان المجيب يستحب ما يستحب بالنص والاجماع وقد ذكر ما فيه النزاع كان الحاكي عنه خلاف ذلك كاذبا مفتريا يستحق ما يستحقه أمثاله من المفترين
( فصل ) قال المعترض وتضافرت النقول عن الصحابة والتابعين وعن السادة العلماء المجتهدين بالحض على ذلك والندب اليه والغبطة لمن سارع لذلك ودوام عليه حتى نحا بعضهم في ذلك إلى الوجوب ورفعه عن درجة المباح والمندوب ولم يزل الناس مطبقين على ذلك قولا وعملا لا يشكون في ندبه ولا يبغون عنه حولا وفي مسند ابن أبي شيبة من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا سمعته هكذا في النسخة التي أحضرت إلي مكتوبة عن المعترض وقد صحح على قوله سمعته وهو غلط فان لفظ الحديث من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى عليه نائيا بلغته هكذا ذكره الناس وهكذا ذكره القاضي عياض عن ابن أبي شيبة وهذا المعترض عمدته في مثل هذا الكتاب القاضي عياض وهذا الحديث قد رواه البيهقي وغيره من حديث العلاء بن عمر الحنفي حدثنا أبو عبد الرحمن عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى عليه نئيا بلغته قال البيهقي أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر وقد مضى ما يؤكده قلت هو تبليغ صلاة أمته وسلامهم عليه كما في الأحاديث المعروفة مثل الحديث الذي في سنن أبي داود
____________________
(1/131)
وغيره عن حسين الجعفي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس الثقفي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فان صلاتكم معروضة علي قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يقولون بليت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء وهذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ورواه أبو حاتم قال البيهقي وله شواهد وروى حديثين عن ابن مسعود وأبي أمامة وله شواهد أجود مما ذكره البيهقي منها ما رواه ابن ماجه حدثنا عمرو بن سواد البصري حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي [ الكندي ] عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فانه مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لم يصل علي إلا عرضت علي صاته حتى يفرغ منها قال قلت وبعد الموت قال وبعد الموت إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ورواه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تهذيب الآثار من حديث سعيد بن أبي هلال كما تقدم ومنها ما رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تتخذوا قبري عيدا وصلوا عليه فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم وهذا له شواهد مراسيل من وجوه مختلفة يصدق بعضها بعضا منها ما رواه سعيد بن منصور في سننه حدثنا حبان بن علي حدثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني وقال سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إى العشاء فقلت لا أريده فقال مالي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخلت المسجد فسلم عليه
____________________
(1/132)
ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود [ والنصارى ] اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا عليه فان صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنتم ومن بالاندلس منه إلا سواء ورواه اسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه قال مالي رأيتك وقفت قلت وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخلت المسجد فسلم وذكر الحديث ولم يذكر قول الحسن وقال اسماعيل حدثنا ابراهيم بن الحجاج عن وهيب عن أيوب السختياني قال بلغني والله أعلم أن ملكا موكل بكل من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم حين يبلغه وأما السلام ففي النسائي وغيره من حديث سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام وفي الحديث الذي تقدم من رواية أبي يعلى الموصلي وقد تقدم إسناده عن علي بن الحين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فنهاه وقال ألا أحدثم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فنهاه وقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا فان تسليمكم يبلغني أينما كنتم فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان يصدق بعضها بعضا وهي متفقة على انه من صلى عليه وسلم عليه من أمته فان ذلك يبلغه ويعرض عليه وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي والمسلم بنفسه إنما فيها من ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم في مدينته ومسجده أو مكان آخر فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فانه يبلغه وأما من سلم عليه عند قبره فانه يرد عليه ذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشرا كما يصلي على من صلى عليه عشرا فان هذا هو الذي أمر الله به في القرآن وهو لا يختص بمكان دون مكان وقد تقدم حديث أبي هريرة أنه يرد السلام على من سلم عليه والمراد عند قبره لكن النزاع في معنى كونه عند القبر هل المراد به في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى إنما هو لمن كان عند قبورهم قريبا منها أو يراد به من كان في المسجد أيضا قريبا من الحجرة كما قاله طائفة من
____________________
(1/133)
السلف والخلف وهل يستحب ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أو لا يستحب بحال وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة فأما ذاك الحديث وإن كان معناه صحيحا فاسناده لا يحتج بع وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر فانه لا يعرف إلا من حديث محم بن مروان السدي الصغير عن الأعمش كما ظنه البيهقي وما ظنه في هذا هو متفق عليه عند أهل المعرفة بالحديث وهو عندهم موضوع على الأعمش قال عباس الدوري عن يحيى بن معين محمد بن مروان ليس بثقة وقال البخاري سكتوا عنه لا يكتب حديثه ألبتة وقال الجوزجاني ذاهب الحديث وقال النسائي متروك الحديث وقال صالح جزرة كان يضع الحديث [ و ] قال أبو حاتم الرازي الازدي متروك الحديث وقال الدارقطني ضعيف وقال ابن حبان لا يحل كتب حديثه لا اعتبارا ولا للاحتجاج به بحال وقال ابن عدي عامة ما يرونه غير محفوظ والضعف على روايته بين فهذا الكلام على ما ذكره من الحديث مع أنا قد بينا صحة معناه بأحاديث أخر وهو لو كان صحيحا فانما فيه أنه يبلغ صلاة من صلى عليه نائيا ليس فيه أنه يسمع ذلك كما وجدته منقولا عن هذا المعترض فان هذا لم يقله أحد من أهل العلم ولا يعرف في شيء من الحديث وإنما يقوله بعض المتأخرين الجهال يقولون إنه ليلة الجمعة ويوم الجمعة يسمع باذنيه صلاة من يصلي عليه فالقول إنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه وكذلك السلام تبلغه إياه الملائكة وقول القائل إنه يسمع الصلاة من البعيد ممتنع فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه فهذه مكابرة وإن أراد أنه هو يكون بحيث يسمع أصوات الخلائق من بعيد فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم قال تعالى { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } وقال { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم } الآية وليس أحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى الذين يقولون إن المسيح هو الله
____________________
(1/134)
وإنه يعلم ما يفعله العباد ويسمع أصواتهم ويجب دعائهم قال تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } إلى قوله { والله هو السميع العليم } فلا المسيح ولا غيره من البشر ولا أحد من الخلق يملك لأحد من الخلق لا ضرا ولا نفعا بل ولا لنفسه وإن كان أفضل الخلائق قال تعالى { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } وقال { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } وقال { قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله } وقال تعالى { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } الآية وقوله { إلا ما شاء الله } فيه قولان قيل هو استثناء متصل وإنه يملك من ذلك ما ملكه الله وقيل هو منقطع والمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا بحال فقوله { إلا ما شاء الله } استثناء منقطع أي لكن يكون من ذلك ما شاء الله كقول الخليل عليه السلام { ولا أخاف ما تشركون به } ثم قال { إلا أن يشاء ربي شيئا } أي لا أخاف أن تفعلوا شيئا لكن إن شاء ربي شيئا كان وإلا لم يكن وإلا فهم لا يفعلون شيئا وكذلك قوله { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق } فيه قولان أصحهما أنه استثناء منقطع أي لكن من شهد بالحق تنفعه الشفاعة وتنفع شفاعته كقوله { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال { قل لله الشفاعة جميعا } وبسط هذا له موضع آخر
( فصل ) وأما ما ذكره من تضافر النقول عن السلف بالحض على ذلك وإطباق الناس عليه قولا وعملا فيقال الذي اتفق عليه السلف والخلف وجاءت به الأحاديث الصحيحة هو السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه في مسجده وطلب الوسيلة له وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم هذا هو مراد العلماء الذين قالوا إنه يستحب السفر إلى زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم فان مرادهم بالسفر إلى زيارته هو السفر إلى مسجده وذكروا في مناسك الحج أنه يستحب زيارة قبره وهذا
____________________
(1/135)
هو مراد من ذكر الإجماع على ذلك كما ذكر القاضي عياض قال وزيارة قبره سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها فمرادهم الزيارة التي بينوها وشرحوها كما ذكر القاضي عياض في هذا الفصل فصل زيارة قبره وقال إسحاق بن ابراهيم الفقيه ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه وملامس يديه ومواطئ قدميه والعمود الذي كان يستند إليه وينزل جبريل بالوحي فيه عليه وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كله قلت وذلك أن لفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره فان قبر غيره يوصل اليه ويجلس عنده ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة وبدعة وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأد يصل إلى مسجده أن يدخل بيته ولا يصل إلى قبره بل دفنوه في بيته بخلاف غيره فانهم دفنوا في الصحراء كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا فدفن في بيته لئلا يتخذ قبره مسجدا ولا عيدا ولا وثنا فان في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح عن عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيرا لأمته من ذلك ونهاهم عن ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيدا دفن في حجرته
____________________
(1/136)
لئلا يتمكن أحد من ذلك وكانت عائشة ساكنة فيها فلم يكن في حياتها يدخل أحد لذلك إنما يدخلون إليها خي ولما توفيت لم يبق بها أحد ثم لما أدخلت في المسجد سدت وبني الجدار البراني عليها فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره كالزيارة المعروفة عند قبر غيره سواء كانت سنية أو بدعية بل إنما يصل الناس إلى مسجده ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره البتة ولم يتكلموا بذلك وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا من كلامهم فان هذا المعنى ممتنع عندهم فلا يعبر عن وجوده وهو قد نهى عن اتخاذ بيه وقبره عيدا وسأل الله أن لا يجعل قبره وثنا ونهى عن اتخاذ القبور مساجد فقال اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولهذا كره مالك وغيره أن يقال زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان السلف ينطلقوت بهذا لم يكرهه ماك وقد باشر التابعين بالمدينة وهو أعلم الناس بمثل ذلك ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفه هؤلاء ولم يكره مالك وأمثاله من علماء المدينة الإخبار بلفظ تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فكيف يكره النطف بلفظه ولكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره وهم لا يخالفون مالكا ومن معه في المعنى بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة له صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك في مسجده يستحبه هؤلاء ولكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره وأولئك كرهوا أن يسمى هذا زيارة لقبره وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الائمة الأربعة كسؤاله الاستغفار وزاد بعض الجال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه ومبدأ ذلك من الذين ظنوا أن هذا زيارة لقبره فظن هؤلاء أن الأنبياء والصالحين تزار قبورهم لدعائهم والطلب منهم واتخاذ قبورهم أوثانا حتى يفضلون تلك البقعة على المساجد وإن بنى عليه مسجد فضلوه على المساجد التبي بنيت لله وحتى قد يفضلون الحج إلى قبر من يعظمونه على الحج إلى البيت العتيق إلى غير ذلك مما هو كفر وردة عن الإسلام باتفاق المسلمين فالذي تضافرت به النقول عن السلف قاطبة وأطبقت عليه الأمة
____________________
(1/137)
قولا وعملا هو السفر إلى مسجده المجاور لقبره والقيام بما أمر الله به من حقوقه في مسجده كما يقام بذلك في غير مسجده لكن مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام عند الجمهور وقيل إنه أفضل مطلقا كما نقل عن مالك وغيره ولم يتطابق السلف والخلف على إطلاق زيارة قبره ولا ورد بذلك حديث صحيح ولا نقل معروف عن أحد من الصحابة ولا كان الصحابة المقيمون بالمدينة من المهاجرين والأنصار إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه يجيئون إلى القبر ويقفون عنده ويزورونه فهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة وقد ذكر مالك وغيره أن هذا من البدع التي لم تنقل عن السلف وأن هذا منهي عنه وهذا الذي قاله مالك مما يعرفه أهل العلم الذين لهم عناية بهذا الشأن يعرفون أن الصحابة لم يكونوا يزورون قبره لعلمهم بأنه ق نهي عن ذلك ولو كان قبره يزار كما تزار القبور قبور أهل البقيع والشهداء شهداء أحد لكان الصحابة يفعلون ذلك إما بالدخول إلى حجرته وإما بالوقوف عند قبره إذا دخلوا المسجد وهم لم يكونوا يفعلوا هذا ولا هذا بل هذا من البدع كما بين ذلك أئمة العلم وهذا مما ذكره القاضي عياض وهو الذي قال زيارة قبره سنة مجمع عليها وفضيلة مرغوب فيها وهو في هذا الفصل ذكر عن مالك أنه كره أن يقال زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه أيضا قال مالك في المبسوط وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر وإنما ذلك للغرباء وقال مالك في المبسوط يضا ولا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو له ولأبي بكر وعمر قيل له فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة أو المرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة فقال لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده فقد بين مالك إنه لم يبلغه عن السلف من الصحابة المقيمين بالمدينة أنهم كانوا يقفون بالقبر عند دخول المسجد إلا لمن قدم من سفر مع أن الذي يقصد السفر فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع
____________________
(1/138)
وقد ذكر القاضي عياض عن أبي الوليد الباجي أنه احتج لما كره مالك فقال أهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أهل القبر والتسليم وقال صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال لا تجعلوا قبري عيدا
قلت فهذا يبين أن وقوف أهل المدينة بالقبر وهو الذي يسمى زيارة لقبره من البدع التي لم يفعلها الصحابة وأن ذلك منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقوله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا وإذا كانت هذه الزيارة مما نهى عنها في الأحاديث فالصحابة أعلم بنهيه وأطوع له فلهذا لم يكن بالمدينة منهم من يزور قبره باتفاق العلماء وهذا الوقوف الذي يسميه غير مالك زيارة لقبره الذي بين مالك وغيره أنه بدعة لم يفعلها الصحابة هي زيارة مقصود صاحبها الصلاة والسلام كما بين ذلك في السؤال لمالك لكن لما قال صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني وروى مثل ذلك في السلام عليه علم انه كره تخصيص تلك البقعة بالصلاة والسلام بل يصلي عليه ويسلم في جميع المواضع وذلك واصل اليه فاذا كان مثل هذه الزيارة للقبر بدعة منهيا عنها فكيف من يقصد ما يقصده من قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم ويستغيث بهم ليس قصده الدعاء لهم ومعلوم أن هذا أعظم في كونه بدعة وضلالا فالسلف والخلف إنما تطابقوا على زيارة قبره بالمعنى المجمع عليه من قصد مسجده والصلاة فيه كما تقدم وهذا فرق بينه وبين سائر قبور الانبياء والصالحين فانه يشرع السفر إلى عند قبره لمسجده الذي أسس على التقوى فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين والصلاة مقصورة فيه باتفاق المسلمين ومن قال إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة فانه يستتاب فان تاب وإلا قتل وليس ذلك سفرا لمجرد القبر بل لا بد أن يقصد إتيان المسد والصلاة فيه وإن لم يقصد إلا القبر فهذا يندرج في كلام المجيب حيث قال أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين معروفين فهو ذكر القولين فيمن سافر لمجرد قصد
____________________
(1/139)
زيارة القبور وأما من سافر لقصد الصلاة في مسجده عند حجرته التي فيها قبره فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين وقد تقدم قول مالك للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن كان اراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد فالسائل سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ففصل مالك في الجواب بين أن يريد القبر أو المسجد مع أن اللفظ إنما هو نذر أن يأتي القبر فعلم أن لفظ إتيان القبر وزيارة القبر والسفر إلى القبر ونحو ذلك يتناول من يقصد المسجد وهذا مشروع بتناول من لم يقصد إلا القبر وهذا منهي عنه كما دلت عليه النصوص وبينه العلماء مالك وغيره فمن نقل عن السلف أنهم استحبوا السفر لمجرد القبر دون المسجد بحيث لا يقصد المسافر المسجد ولا الصلاة فيه بل إنما يقصد القبر كالصورة التي نهى عنها مالك فهذا لا يوجد في كلام أحد من علماء السلف استحباب ذلك فضلا عن إجماعهم عليه وهذا الموضع يجب على المسلمين عامة وعلمائهم تحقيقه ومعرفة ما هو المشروع والمأمور به الذي هو عبادة الله وحده وطاعة له ولرسوله وبر وتقوى وقيام بحق الرسول وما هو شرك وبدعة وضلالة منهي عنها لئلا يلتبس هذا بهذا فان السفر إلى مسجد المدينة مشروع باتفاق المسلمين لكن إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وقد تقدم عن مالك وغيره إنه إذا نذر إتيان المدينة إن كان قصده الصلاة في المسجد [ يوف بنذره ] وإلا لم يوف بنذره وأما إذا نذر إتيان المسجد لزمه لأنه إنما يقصد الصلاة فلم يجعل إلى المدينة سفرا مأمورا به إلا سفر من قصد الصلاة في المسجد وهو الذي يؤمر به الناذر بخلاف غيره لقوله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وجعل من سافر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة الشرعية في المسجدين سفرا منهيا عنه لا يجوز أن يفعله وأن نذره وهذا قول جمهور العلماء فمن سافر إلى مدينة الرسول إو بيت المقدس لقصد زيارة ما هناك من القبور أو من آثار الأنبياء والصالحين كان سفره محرما عند مالك والأكثرين وقيل إنه سفر مباح
____________________
(1/140)
ليس بقربة كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وهو قول ابن عبد البر وما علمنا أحدا من علماء المسلمين المجتهدين الذين تذكر أقوالهم في مسائل الاجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب فدعوى من ادعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع علماء المسلمين كذب ظاهر وكذلك إن ادعى أن هذا قول الأئمة الأربعة أو جمهور أصحابهم أو جمهور علماء المسلمين فهو كذب بلا ريب وكذلك إن ادعى أن هذا قول عالم معروف من الأئمة المجتهدين وإن قال إن هذا قول بعض المتأخرين أمكن أن يصدق في ذلك وهو بعد أن يعرف صحة نقله نقل قولا شاذا مخالفا لاجماع السلف مخالفا لنصوص الرسول فكفى بقول فسادا أن يكون قولا مبتدعا في الاسلام مخالفا للسنة والجماعة لما سنه الرسول ولما اجتمع عليه سلف الأمة وأئمتها والنقل عن علماء السلف يوافق ما قاله مالك فمن نقل عنهم ضد ذلك فقد كذب وأقل ما في الباب أنه يجعل ممن طولب بصحة نقله والألفاظ المجملة التي يقولها طائفة قد عرف مرادهم وعياض نفسه الذي ذكر أن زيارته سنة مجمع عليها قد بين الزيارة المشروعة في ذلك وقد ذكر عياض في قوله لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ما هو ظاهر مذهب مالك أن السفر إلى غيرها محرم وسائر أصحابه مع ما ذكره من استحباب الزيارة الشرعية ومع ما ذكره من كراهة مالك أن يقول القائل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم
( فصل ) قال المعارض المناقض وروى مسلم في صحيحه في الذي سافر لزيارة أخ له في الله ولفظ الحديث إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال أين تريد قال أريد أخا لي في تلك القرية قال هل لك عليه من نعمة تربها قال لا إلا أن أحببته في الله فقال إني رسول الله إليك فان الله أحبك كما أحببته فيه وفي موطأ مالك عن معاذ بن جبل في حديث ذكر فيه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أي عن الله وجبت محبتي لمتحابين في والمتجالسين
____________________
(1/141)
في والمتزاورين في والمتباذلين في قال فقد علمت أيها الأخ بهذا فضيلة زيارة الأخوان وما اعد الله بها للزائرين من الفضل والاحسان فكيف بزيارة من هو حي الدارين واما الثقلين الذي جعل الله حرمته في حال مماته كحرمته في حال حياته ومن شرفه الحق بما أعطاه من جميل صفاته ومن هدانا ببركته إلى الصراط المستقيم وعصمنا به من الشيطان الرجيم ومن هو آخذ بحجزنا أن نقتحم في نار الجحيم ومن هو بالمؤمنين رءوف رحيم
والجواب أما زيارة الأخ الحي في الله كما في الحديث فهذا نظير زيارته صلى الله عليه وسلم في حياته يكون الانسان بذلك من أصحابه وهم خير القرون وأما جعل زيارة القبر كزيارته حيا كما قاسه هذا المعترض فهذا قياس ما علمت أحد من علماء المسلمين قاسه ولا علمت أحدا منهم احتج في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بالقياس على زيارة الحي المحبوب في الله وهذا من أفسد القياس فانه من المعلوم أنه من زار الحي حصل له بمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك مالا يحصل لمن لم يشاهده ولم يسمع كلامه وليس رؤية قبره أو رؤية ظاهر الجدار الذي بني على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه ولو كان هذا مثل هذا كان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه ومعلوم أن هذا من أبطل الباطل وأيضا فالسفر اليه في حياته إما أن يكون لما كانت الهجرة اله واجبة كالسفر قبل الفتح فيكون المسافر اليه مسافرا للمقام عنده بالمدينة مهاجرا من المهاجرين اليه وهذا السفر انقطع بفتح مكة قال صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ولهذا لما جاء صفوان بن أمية مهاجرا أمره أن يرجع إلى مكة وكذلك سائر الطلقاء كانوا بمكة لم يهاجروا وإما أن يكون المسافر اليه وافدا إليه ليسلم عليه ويتعلم منه ما يبلغه قومه كالوفود الذين كانوا يفدون اليه لا سيما سنة عشر سنة الوفود وقد أوصى في مرضه [ قبل أن يموت ] بثلاث فقال اخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم ومن الوفود وفد عبد القيس
____________________
(1/142)
لما قدموا عليه ورجعوا إلى قومهم بالبحرين لكن هؤلاء أسلموا قديما قبل فتح مكة وقالوا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام لأن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وهم أهل نجد كأسد وغطفان وتميم وغيرهم فانهم لم يكونوا قد أسلموا بعد وكان السفر اليه في حياته لتعلم الاسلام والدين ولمشاهدته وسماع كلامه وكان خيرا محضا ولم يكن أحد من الانبياء والصالحين عبد في حياته بحضرته فانه كان ينهى من يفعل ما هو دون ذلك من المعاصي فكيف بالشرك كما نهى الذين سجدوا له والذين صلوا خلفه قياما وقال إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم فلا تفعلوا رواه مسلم وفي المسند باسناد صحيح عن أنس قال لم يكن شخص أحب اليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك وفي الصحيح أن جارية قالت عنده ** وفينا نبي يعلم ما في غد **
فقال دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين ومثل هذا كثير من نهيه عن المنكر بحضرته فكل من رآه في حياته لم يتمكن أن يفعل بحضرته منكرا يقر عليه وأما الذين يزورون القبور فيفعلون عندها من أنواع المنكرات مالا يضبط كما يفعل المشركون والنصارى وأهل البدع عند قبر من يعظمونه من أنواع الشرك والغلو وبحسبك أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى لأجل اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد فاذا اتخذ القبر مسجدا فقد لعن صاحبه ومعلوم أنه لو كان حيا في المسجد لكان قصده في المسجد من أفضل العبادات وقصد القبر الذي اتخذ مسجدا مما نهي عنه ولعن أهل الكتاب على فعله وأيضا فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدين وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعة في جميع البقاع فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظم للرسول التعظيم التام والمحبة التامة إلا عند قبره بل هو مأمور بهذا في كل مكان فكانت زيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها والسفر إلى القبر لمجرده بالعكس مفسدة راجحة لا مصلحة فيها بخلاف السفر إلى مسجده فانه مصلحة راجحة وهناك يفعل من حقوقه ما يشرع كما في سائر المساجد وهذا مما
____________________
(1/143)
يبين به كذب الحديث الذي فيه من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي وهذا الحديث معروف من رواية حفص بن سليمان الغاضري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وقد رواه عنه غير واحد وهو عندهم معروف من طريقه وهو عندهم ضعيف في الحديث الى الغاية حجة في القراءة قال يحيى بن معين حفص لس بثقة وقال الجوزجاني قد فرغ منه منذ دهر وقال البخاري تركوه وقال مسلم ابن الحجاج متروك وقال علي بن المديني ضعيف الحديث وتركته على عمد وقال النسائي ليس بثقة ولا يكتب حديثه وقال مرة متروك وقال صالح بن محمد لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها مناكير وقال زكريا الساجي يحدث عن سماك وغيره أحاديثه بواطيل وقال أبو زرعة ضعيف الحديث وقال أبو حاتم لا يكتب حديثه هو ضعيف لا يصدق متروك الحديث وقال الحاكم أبو أحمد ذاهب الحديث وقال الدارقطني ضعيف وقال ابن عدي وعامة أحاديثه عمن يروى عنه غير محفوظة وقد رواه الطبراني في المعجم من حديث الليث ابن بنت ليث بن أبي سليم عن زوجة جده عائشة عن ليث وهذا الليث وزوجة جده مجهولان لأن ليثا غير معروف بضبط ولا عدالة مع غرابتهما ونفس المتن باطل فان الأعمال التي فرضها الله ورسوله لا يكون الرجل بها مثل الواحد من الصحابة بل في الصحيحين عنه أنه قال لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فالجهاد والحج ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتفاق المسلمين ولا يكون الرجل بهما كمن سافر اليه في حياته ورآه كيف وذاك إما أن يكون مهاجرا إليه كما كانت الهجرة قبل الفتح أو من الوفود الذين كانوا يفدون اليه يتعلمون الإسلام ويبلغونه عنه إلى قومهم وهذا عمل لا يمكن أحدا بعدهم أن يفعله مثله ومن شبه من زار قبر شخص بمن كان يزوره في حياته فهو مصاب في عقله ودينه والزيارة الشرعية لقبر
____________________
(1/144)
الميت مقصودها الدعاء له والاستغفار كالصلاة على جنازته والدعاء المشروع المأمور به في حق نبينا كالصلاة عليه والسلام عليه وطلب الوسيلة له مشروع في جميع الأمكنة فعله هناك يمكن فعله في سائر البقاع لكن مسجده أفضل من غيره فللعبادة فيه فضيلة بكونها في مسجده كما قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام والعبادات المشروعى فيه بعد دفنه مشوعة فيه قبل أن يدفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته وقبل أن تدخل حجرته في المسجد ولم يتجدد بعد ذلك فيه غير العبادات التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وغير ما شرعه هو لأمته ورغبهم فيه ودعاهم اليه وما يشرع للزائر من صلاة وسلام ودعاء له وثناء عليه كل ذلك مشروع في مسجده في حياته وهي مشروعة في سائر المساجد بل وفي سائر البقاع التي تجوز فيها الصلاة وهو صلى الله عليه وسلم قد جعلت له ولأمته الأرض مسجدا وطهورا فحيثما أدركت أحدا الصلاة فليصل فانه مسجد كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم ومن ظن زيارة القبر تختص بجنس من العبادة لم تكن مشروعة في المسجد وإنما شرعت لأجل القبر فقد أخطأ لم يقل هذا أحد من الصحابة والتابعين وإنما غلط في بعض هذا بعض المتأخرين وغاية ما نقل عن بعض الصحابة كابن عمر أنه كان اذا قدم من سفر يقف عند القبر ويسلم وجنس السلام عليه مشروع في المسجد وغير المسجد قبل السفر وبعده وأما كونه عند القبر فهذا كان يفعله ابن عمر اذا قدم من سفر وكذلك الذين استحبوه من العلماء استحبوه للصادر والوارد من المدينة وإليها من اهلها أو الوارد والصادر من المسجد من الغرباء مع أن أكثر الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك ولا فرق أكثر السلف بين الصادر والوارد بل كلهم ينهون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال أبو الوليد الباجي إنما فرق بين أهل المدينة وغيرها لأن الغرباء قصدوا لذلك وأهل المدينة يقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم وقال قال صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال لا تجعلوا قبري عيدا
____________________
(1/145)
وهذا الذي ذكره من أوله سواء في النهي فان قوله لا تجعلوا أو لا تتخذوا بيتي عيدا نهي لكل أمته أهل المدينة والقامين اليها وكذلك نهيه عن اتخاذ القبور مساجد وخبره بأن غضب الله اشتد على من فعل ذلك هو متناول للجميع وكذلك دعاؤه بان لا يتخذ قبره وثنا عام وما ذكره من أن الغرباء قصدوا لذلك تعليق على العلة ضد مقتضاها فان القصد لذلك منهي عنه كما صرح به مالك وجمهور أصحابة وكما نهى عنه وليس بقربة واذا كان منهيا عنه لم يشرع الإعانة عليه وكذلك اذا لم يكن قربة وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يسافر الى المدينة لأجل القبر بل المدينة وطنه وكان يخرج عنها لبعض الأمور ثم يرجع الى وطنه فيأتي المسجد فيصلي فيه ويسلم فأما السفر لأجل القبور فلم يعرف عن أحد من الصحابة بل ابن عمر كان يقدم الى بيت المقدس فلا يزور قبر الخليل وكذلك أبوه عمر ومن معه من المهاجرين والانصار قدموا الى بيت المقدس ولم يذهبوا الى قبر الخليل وسائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس لم يعرف عن أحد منهم أنه يسافر الى قبر الخليل ولا غيره كما لم يكونوا يسافرون الى المدينة لاجل القبر كما تقدم وما كان قربة للغرباء فهو قربة لاهل المدينة كاتيان قبور الشهداء وأهل البقيع وما لم يكن لغيرهم كاتخاذ بيته عيدا واتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا وكالصلاة الى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها والطواف بها وغير ذلك مما يفعله جهال القادمين فان هذا باجماع المسلمين ينهى عنه الغرباء كما نهي عنه اهل المدينة ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين وبالجملة فجنس الصلاة والسلام عليه والثناء عليه ونحو ذلك مما استحبه بعض العلماء عند القبر للواردين أو الصادرين هو مشروع في مسجده وسائر المساجد وأما ما كان سؤالا له فهذا لم يستحبه أحد من السلف لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ثم بعض من يستحب هذا من المتأخرين يدعونه مع الغيب فلا يختص هذا عندهم بالقبر واما نفس داخل بيته عند قبره فلا يمكن أحدا الوصول الى هناك ولم يشرع هناك عمل يكون هناك افضل منه في غيره ولو شرع لفتح باب الحجرة للأمة بل قد قال لا تتخذوا بيتي عيدا وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيثما كنتم
____________________
(1/146)
وقد تقدم ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز الداروردي عن سهيل بن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فناداني فقال مالي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا عليه حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشام مثل معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وغيرهم لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام لا قبر الخليل ولا غيره كما لم يكونوا يسافون الى المدينة لأجل القبر وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد كما قد بسط في غير هذا الموضع وروى سعيد بن منصور في سننه أن رجلا كان ينتاب قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء
فان قيل الزائر في الحياة إنما أحبه الله لكونه يحبه في الله والمؤمنون يحبون الرسول أعظم وكذلك يحبون سائر الأنبياء والصالحين فاذا زاروهم أثيبوا على هذه المحبة قيل حب الرسول من أعظم واجبات الدين وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان من كان الله ورسوله أحب اليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره ان يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار وفي الحديث الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وفي البخاري عن عبد الله بن هشام قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر فقال يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب اليك من نفسك فقال له عمر
____________________
(1/147)
إنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي قال الآن يا عمر وتصديق هذا في القرآن في قوله { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } وفي قوله { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } الآية وقال { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } الى قوله { بروح منه } وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه وفي حديث آخر لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به لكن حبه وطاعته وتعزيره وتوقيره وسائر ما أمر الله به من حقوقه مأمور به في كل مكان لا يختص بمكان دون مكان وليس من كان في المسجد عند القبر بأولى بهذه الحقوق ووجوبها عليه ممن كان في موضع آخر ومعلوم أن زيارة قبره كالزيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأمة لفتح باب الحجرة ومكنوا من فعل تلك العبادة عند قبره وهم لم يمكنوا إلا من الدخول الى مسجده والذي يشرع في مسجده يشرع في سائر المساجد لكن مسجده أفضل من سائرها غير المسجد الحرام على نزاع في ذلك وما يجده المسلم في قلبه من محبته والشوق اليه والأنس بذكره وذكر أحواله فهو مشروع له في كل مكان وليس في مجرد زيارة ظاهر الحجرة ما يوجب عبادة لا تفعل بدون ذلك بل نهى عن أن يتخذ ذلك بل نهى عن أن يتخذ ذلك المكان عيدا ويصلي عليه حيث كان العبد ويسلم عليه فلا يخص بيته وقبره لا بصلاة عليه ولا بسلام عليه فكيف بما ليس كذلك واذا خص قبره بذلك صار ذلك في سائر الأمكنة دون ما هو عند قبره وينقص حبه وتعظيمه وتعزيره وموالاته والثناء عليه عند غير قبره كما يفعل عند قبره كما يجده الناس في قلوبهم اذا رأوا من يحبونه ويعظمونه يجدون في قلوبهم عند قبره مودة له ورحمة ومحبة أعظم مما يكونون بخلاف ذلك والرسول هو الواسطة بينهم وبين الله في كل مكان وزمان فلا
____________________
(1/148)
يؤمرون بما يوجب نقص محبتهم وإيمانهم في عامة البقاع والأزمنة مع أن ذلك لو شرع لهم لاشتغلوا بحقوقهم عن حقه واشتغلوا بطلب الحوائج منه كما هو الواقع فيدخلوا في الشرك بالخالق وفي ترك حق المخلوق فينقص تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأما ما شرعه لهم من الصلاة والسلام عليه في كل مكان وأن لا يتخذوا بيته عيدا ولا مسجدا ومنعهم من أن يدخلوا اليه ويزوروه كما تزار القبور فهذا يوجب كمال توحيدهم للرب وكمال ايمانهم بالرسول ومحبته وتعظيمه حيث كانوا واهتمامهم بما أمروا به من طاعته فان طاعته هي مدار السعادة وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه وأهل الجنة وأهل النار فأهل طاعته هم أولياء الله المتقون وجنده المفلحون وحزبه الغالبون وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك والذين يقصدون الحج الى قبره وقبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أندادا هم من أهل معصيته ومخالفته لا من أهل طاعته وموافقته فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه وإن ظنوا أن هذا من موالاته ومحبته كما يظن النصارى أن ما هم عليه من الغلو في المسيح والشرك به من جنس محبته وموالاته وكذلك دعاؤهم للانبياء والموتى كابراهيم وموسى وغيرهما ويظنون أن هذا من محبتهم وموالاتهم وإنما هو من جنس معاداتهم ولهذا يتبرأون منهم يوم القيامة وكذلك الرسول يتبرأ ممن عصاه وان كان قصده تعظيمه والغلو فيه قال تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرأوا من كل معبود غير الله ومن كل من عبده قال تعالى { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } وكذلك سائر الموتى ليس في مجرد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبة إلا لمن عرف أحوالهم بدون ذلك فيتذكر أحوالهم فيحبهم والرسول يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله وما من الله به عليه ومن به على أمته فبذلك يزداد حبهم له وتعظيمهم له لا بنفس رؤية القبر ولهذا تجد
____________________
(1/149)
العاكفين على قبور الأنبياء والصالحين من أبعد الناس عن سيرتهم ومتابعتهم وإنما قصد جمهور التأكل والترؤس بهم فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رياسة أو مأكلة لا ليزدادوا لهم حبا وخيرا وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من شراء الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد وما ذكره هذا من فضائله فبعض ما يتحقه صلى الله عليه وسلم والأمر فوق ما ذكره أضعافا مضاعفة لكن هذا يوجب إيماننا به وطاعتنا له واتباع سنته والتأسي به والاقتداء ومحبتنا له وتعظيمنا له وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ومتابعة سنته فان هذا هو طريق النجاة والسعادة وهو سبيل الخلق ووسيلتهم الى الله تعالى ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره والشرك بالله واتباع غير سبيل المؤمنين السابقين الأولين والتابعين لهم باحسان وهو قد قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وقال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وقال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني وقال خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة رواه مسلم وقال إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة رواه أهل السنن وقال الترمذي حديث حسن صحيح الى غير ذلك من الأدلة التبي تبين أن الحجاج الى قبورهم من المخالفين للرسول صلى الله عليه وسلم الخارجين عن شريعته وسنته لا من الموافقين له المطيعين له كما بسط في غير هذا الموضع
( فصل ) ثم قال المعترض وقد ذكر هذا القائل أن السفر الى زيارة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم معصية يحرم فيه القصر فارتكب بذلك أمرا عظيما وخالف فيه السادة العلماء وأئمة العصر فمقتضى ذلك أن يسوي بينه وبين السفر لقتل النفوس والحامل له على
____________________
(1/150)
ذلك سوء معتقده وذهنه المعكوس فهو كمن أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فقلبه لا يقبل الحق لما نازله من الظلمة والغشاوة
والجواب أن يقال
ما في هذا الكلام من السب والشتم هو علما يستحق الجواب عليه ويمكن الإنسان أن يقابله بأضعاف ذلك ويكون صادقا لا يكون كاذبا مثله ويتبين أنه من أجهل الناس وأسوئهم فهما وأقلهم علما وأنه الى التفهيم والتعليم أحوج منه الى أن يقفو ما ليس له به علم ويقول على الله ما لا يعلم وقد قال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } الآية وهؤلاء الذين يستحبون الحج إلى القبور ودعاء أهلها من دون الله يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا ويقولون على الله مالا يعلمون ويجعلون ذلك من جنس حج بيت الله ويقربونه به وهو لما ذكر الحج قال { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } ولما ذكر تعظيم حرماته وشعائره في الحج قال { ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } الى قوله { ومما رزقناهم ينفقون } فهو قد ذكر التوحيد هاهنا وأمر باجتناب الشرك واجتناب قول الزور فقرن بينهما ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عدلت شهادة الزور الإشراك بالله وهؤلاء الضلال لهم نصيب من الشرك بالله ونصيب من قول الزور { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير } وهذا المعترض لم يفهم ما قاله المجيب بل كذب عليه كذبا يعلم جميع الناس أنه كذب ولم يعرف ما قاله العلماء لا مالك ولا غيره ونفس الذي أنكره على المجيب صرح به مالك تصريحا لم يصرح مثله المجيب فان المجيب لم يذكر أن السفر الى مسجده وزيارته على الوجه المشروع معصية ولا ذكر أن ما يريده العلماء بالسفر الى قبره وهو السفر
____________________
(1/151)
الى مسجده معصية بل قد صرح بأنه سفر طاعة مستحب وكذلك ذكر ما ذكره العلماء من استحباب زيارته والدعاء وما يتعلق بذلك وذكر لفظا عاما فيمن سافر لمجرد قبور الانبياء والصالحين وحكى قولين معروفين عند أهل العلم وهما قولان معروفان عند أصحاب الشافعي وأحم ومالك وأصحابه رضي الله عنهم أظهر قولا بتحريم السفر الى زيارة القبور وقد صرح مالك بأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم هو مما نهي عن شد الرحال اليه وأن من نذر ذلك لا يجوز أن يوفي بنذره بل مذهبه المعروف عنه في عامة كتب أصحابه أولهم وآخرهم في الكتب الصغار والكبار أن السفر الى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم والى بيت المقدس لغير الصلاة في المسجدين منهي عنه وإن نذره ناذر لم يكن له أن يفعله لانه منهي عنه فلا يجوز عنده السفر الى هاتين المدينتين إلا لأجل الصلاة في المسجدين لا لأجل زيارة قبر ولا مسجد آخر ولا أثر من الآثار ولا غير ذلك مما يقصد به فضل مكان معين وأما من سافر لتجارة أو طلب علم أو غير ذلك فليس هذا من هذا الباب فان هذا ليس قصده متعلقا بعين المكان وأما السفر الى سائر الامصار لأجل مساجدها أو قبر فيها فلا يجوز عنده بحال ثم إن مذهبه أن السفر المحرم لا تقصر فيه الصلاة وأما المجيب فلم يجزم بأن الصلاة لا تقصر فيه كما ذكره هذا المفتري بل ذكر قول هؤلاء وقول هؤلاء ولم يرجح قول من منع القصر ولكن ذكر حجة من نهى عن السفر الى غير الثلاثة فلما ذكرها تبين أنها الراجحة وأنه ليس مع أولئك ما يعارضها
وأما قوله إنه خالف في ذلك السادة العلماء وأئمة العصر فيقال هذا باطل فانه لم يخالف في ذلك أحدا من علماء المسلمين وأئمة الدين المعروفين عند المسلمين بانهم ائمة الدين وأما من تكلم بلا علم أو تكلم بالهوى والجهل فهذا ليس من ائمة الدين ولا يذكر المسلمون قول مثل هذا في كتبهم على أن يتبع ويقتدى به بل قال تعالى للخليل لما قال { إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } فبين أن عهده بالإمامة لا ينال ظالما فلا يكون الظالم إماما للمتقين
____________________
(1/152)
بل قال تعالى { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فالأئمة الذين يهدون بأمره وإبراهيم إمام الحنفاء والداعي الى توحيد الله وعبادته وحده والتبرؤ من عبادة ما سوى الله ومن العابدين لغيره وقد أخبر الله أنه لا يرغب عن ملته إلا من كان سفيها جاهلا وقال تعالى { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين } والأمة هو القدوة الذي يؤتم به وكان ابن مسعود يقول إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا فيقولون إن إبراهيم فيقول إن معاذا فيعلمون أنه لم يرد التلاوة وإنما أارد أن يعرفهم أن معاذا كان إماما وكل من جعله الله إماما فانه يدعو الى عبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن دعاء ما سواه لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة ينهون عن دعاء الملائكة والأنبياء فضلا عمن سواهم وبهذا بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه قال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } الى قوله { مسلمون } والحج إلى قبورهم ودعاؤهم من دون الله من الشرك بهم واتخاذهم أربابا قال الله تعالى { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما } الى قوله { وأنا أول المسلمين } فمن أمر الناس أن يحجوا إلى قبر مخلوق أو يدعوه فقد أمرهم أن يجعلوا صلاتهم ونسكهم لغير الله وهذا من الائمة الذين لا يدعون إلى النار لا من أئمة الهدى والتقى فالقولان اللذان ذكرهما هما القولان المعروفان عن علماء المسلمين وأئمة الدين وما عرف لهم قول ثالث فمن قال قولا ثالثا فحسبه أن يحكى قوله ويبين خطؤه لا يجعل قوله مقدما على أقوال السلف الماضين وأئمة الدين وعلماء المسلمين ولم يخالفهم أحد بحجة
____________________
(1/153)
في الدين ولا نقل قوله عن أحد من أئمة المسلمين ولكن حججهم من جنس هذا وأمثاله وقد صنف من هو أفضل منه مصنفا أكبر من مصنفه وحججهم كلها يشبه بعضها بعضا ليست من حجج علماء المسلمين ولا ينقلونها ولا موجبها عن أحد من أئمة الدين بل هي من جنس حجج النصارى والمشركين إما نقل عن الأنبياء هو كذب عليهم كالأحاديث التي يحتجون بها في أنه رغب في زيارة قبره وكلها كذب كما يحتج النصارى وأهل البدع بما يفعلونه من الكذب على الأنبياء وإما ألفاظ متشابهة يحرفون فيها الكلم عن مواضعه ويضعونها على غير مواضعها ويدعون المحكم المنصوص كما تفعل النصارى وأهل البدع يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ويدعون المحكم المبين الذي هو أم الكتاب وإما احتجاج النصارى وأمثالهم وأهل الضلال المخالفين للأنبياء وأئمة الهدى كما قال تعالى { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } فلا نقل مصدق ولا بحث محقق بل هذيان مزوق يروج على هذا وأمثاله من الجهال الذين لا يعرفون دين المسلمين في هذه المسألة وأمثالها ولا يفرقون بين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان ولا بين الأنبياء والمرسلين أهل التوحيد والإيمان وبين أهل البدع المضاهين لعباد الصلبان
وأما قوله فمقتضى ذلك أن يسوى بينه وبين السفر لقتل النفوس الخ فعنه أجوبة أحدها أ هذا يلزم مثله فيمن سافر إلى المساجد للصلاة كمن سافر من مصر إلى الشام ليصلي في جامع دمشق أو سافر من الشام ليصلي في جامع مصر فهذا السفر منهي عنه أو غير مستحب عند الأئمة وهو سفر معصية عند مالك وجمهور أصحابه والأكثرين لا تقصر فيه الصلاة بمقتضى هذا الحديث فقد سوى بينه وبين السفر لقتل النفوس الثاني أن المحرمات إذا اشتركت في جنس التحريم كان الشرك محرما والنظرة محرمة ولم يلزم من
____________________
(1/154)
ذلك أن يسوى الكفر بالمعاصي ولا الكبائر بالصغائر الثالث أن يقال بل قد يكون الحج الى القبور أعظم من قتل النفوس وقد يكون شركا ينقل عن الملة فان كثيرا من هؤلاء يعتقد أن السفر إلى قبر الشيخ أو الإمام أو النبي أفضل من الحج ويسمونه الحج الأكبر وينادي مناديهم من أراد الحج الأاكبر أي السفر لزيارة بعض القبور المنسوبة إلى بعض أهل البيت ومنهم من يقول له صاحبه تبيعني زيارتك للشيخ بكذا وكذا حجة فلا يفعل ويصنف علماؤهم كتبا في مناسك حج المشاهد كما صنف المفيد بن النعمان ومن الناس من يحج إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع من هناك لا يحج إلى البيت العتيق ويقول هذا هو المقصود ومنهم من يحلف فيقول وحق النبي الذي تحج المطايا اليه ومنهم من يصلي إلى قبر شيخه ويستقبله في الصلاة ويقول هذه قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة وأنا أعرف من فعل هذا وهذا وهذا وهم قوم لهم عبادة وزهد ودين لكن فيهم جهل وضلال كما أن رهبان النصارى وغيرهم من أزهد الناس وأعظمهم اجتهادا في العبادة لكن بجهل وضلال والله تعالى أمرنا أن نقول في صلاتنا { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون قال الترمذي حديث حسن وهكذا قال السلف قال ابن أبي حاتم في تفسيره لا أعلم خلافا في هذا الحرف بين المفسرين
ومعلوم أن من اعتقد أن السفر إلى قبر شيخ أو إمام أو نبي أفضل من الحج فهو كافر ولو قتل نفسا مع اعتقاده أن ذلك محرم وأنه مذنب لكان ذنبه أخف من ذنب من جعل الحج إلى الأوثان افضل من الحج إلى بيت الرحمن وقول النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد دليل على أن القبور قد تجعل أوثانا وهو صلى الله عليه وسلم خاف من ذلك فدعا الله أن لا يفعله بقبره واستجاب الله دعاءه رغم أنف المشركين الضالني الذين يشبهون قبر غيره بقبره ويريدون أن يجعلوه وثنا يحج اليه ويدعى من دون الله والله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا فلا
____________________
(1/155)
يقدر أحد من البشر أن يصل إلا إلى مسجده الذي هو بيت الله تعالى الذي بني لعبادة الله وحده لا يصل إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم البتة ولو كان قصده بيت المخلوق دون بيت الخالق فالله تعالى لا يوصله إلا إلى بيت الخالق رحمه من الله بهذه الأمة وإجابة لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم تسليما فاذا فعل في بيت الله من الشرك والبدع ما لا يجوز فهذا يختص به كما كان المشركون يشركون عند البيت ليس هذا الضلال متعلقا بقبره ولا يمكن أن يفعل في نفس قبر الرسول وبيته ما يمكن أهل الشرك والضلال أن يفعلوه عند القبور والحمد لله رب العالمين ولكن عند قبر غيره قد يفعلون ما هو من جنس فعل النصارى بل حتى قد يفضل هذا الشرك على التوحيد فما كفاهم جعل الشرك كالتوحيد بل جعلوا الشرك أفضل من التوحيد وقد قال سفيان الثوري البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية قد يتاب منها والبدعة لا يتاب منها وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشرب الخمر يقال له عبد الله حمار فلعنه رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فانه يحب الله ورسوله رواه البخاري ولما أتى ذو الخويصرة وهو رجل ناتئ الجبين غائر العينين كث اللحية وقال يا محمد اعدل فانك لم تعدل فأراد بعض الصحابة قتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعه فانه يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وهذا الحديث في الصحيحين وغيرهما فهذا العابد الظاهر العبادة هو ومن اتبعه لما خالفوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحلوا دماء من لم يوافقهم على بدعتهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وذاك الشارب الخمر لما كان محبا للرسول صلى الله عليه وسلم ولسنته نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنته وقال لاتلعنه فانه يحب الله ورسوله
( فصل ) قال واعلم أن الزيارة لا يتصور أن تكون منفكة عن الحركة من مكان إلى مكان ولو حصل ذلك بطي الأرض أو الطيران فان حصولها بغير ذلك أمر
____________________
(1/156)
لا تقبله الأذهان واعتقاده ضرب من الهذيان لان الزائر لا يطلق عليه زائر إلا بعد حركته وانتقاله وخروجه عن محله وارتحاله وكيف تكون الرحلة الى القربة معصية محرمة والقصد المطلوب طاعة معظمة فالسفر إلى القبر من باب الوسائل إلى الطاعات كنقل الخطأ الى المساجد والجماعات فلو علم هذا القائل ما في كلامه من الخطأ والزلل وما اشتمل عليه قوله من المناقضة والخلل لما أبدى لهم عواره ولستر عنهم شناره يقال هذا المعترض كثير الألفاظ والأسجاع قليل الفائدة التي يحصل بها الانتفاع أسجاع كأسجاع الكهان ليس فيها برهان ولا بيان لا استدلال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع ولا نقل لقول أئمة الدين أهل الإجماع والنزاع بل يطول الكلام فيما يفهما الأغتام ويجعل عدته انتهاك أعراض أئمة الإسلام والطعن على شريعة خير الأنام بقلة علم وسوء فهم وإعراض عن التفقه والتعلم والتفهم والإعلام وهذه المسألة المتنازع فيها وفيما يناسبها عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة محكمة وفيها لأئمة الدين اقوال صريحة مفهمة لم يذكر شيئا من ذلك بل عمدته اتباع ما تشابه من القول يبتغي الفتنة ويبتغي تأويله وليس من الراسخين في العلم الذين يعرفون تأويله الذي هو تفسيره ومعناه وإن كان له تأويل آخر استأثر به الله وكلا القولين في الوقف والابتداء منقولان عن السلف الاتقياء وكل من القولين قاله طائفة من السلف العلماء وأهل الضلال كالنصارى وأهل البدع كالخوارج والرافضة والجهمية والقدرية يتبعون ما تشابه عليهم معناه ويدعون المحكم المنصوص الذي بينه الله ويقولون لمن اتبع المسيح وآمن بما قاله من أنه عبد الله ورسوله كما صرح به في غير موضع من إنجيله إنه قد شتم المسيح وتنقصه وعابه وعاداه وهم قد شتموا الله وأشركوا به وكذبوا المسيح وعصوه فكفروا بالله ورسوله وهكذا الغلاة في على يقولون لمن اتبع عليا فيما أخبر به عن نفسه واتبع الرسول فيما قال عن علي وغيره إنه شتم عليا وآذاه وهم الذين كذبوا عليا وخالفوه بل خالفوا الرسول الذي به آمن علي وعمدتهم التمسك بأحاديث بعضها ضعيف أو مكذوب وبعضها متشابه لا يدل على المطلوب كالنصارى تارة ينقلون عن المسيح وغيره من
____________________
(1/157)
الأنبياء اقوالا باطلة وتارة يتمسكون بألفاظ متشابهة لا تدل على ما ابتدعوه وهكذا أهل البدع الذين يدعون أهل القبور ويحجون اليها ويجعلون أصحابها أندادا لله حتى يقول بعضهم إن الحج اليها أفضل من الحج إلى بيت الله وأهل البدع في القبور أنواع متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع لكن عمدتهم إما أحاديث مكذوبة وإما الفاظ مجملة متشابهة كلفظ زيارة القبور ونحوه مما يراد به أنواع من الأمور وحصل فيها اشتباه ونزاع بين العلماء والجمهر ويدعون الصحيح المنصوص المحكم الثابت من الأحاديث عن خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه التي ليس في سندها ولا فيما يستدل به من معناها نزاع بين العلماء كما في الصحيحين عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ولفظ أبي سعيد الذي في صحيح مسلم وغيره لا تشدوا الرحال بصيغة النهي وهو أيضا مروي عنه من وجوه أخر كما رواه مالك وأهل السنن والمسانيد عن بصرة بن أبي بصرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه أنه قال لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد فان هذا الحديث قد اتفق علماء المسلمين على صحة غسناده واتفقوا على وجوب العمل بمعنا واتفقوا على تناوله لمحل النزاع وهو السفر إلى القبور ثم تنازعوا أهل مراده النهي أو مراده نفي الاستحباب والفضيلة وما اتفقوا عليه كاف في الاحتجاج في مسألة النزاع
وأما السلف من الصحابة والتابعين والأئمة فلم يعرف بينهم نزاع أنه نهى عن السفر إلى غير الثلاثة والحديث قد جاء في الصحيح قد جاء في الصحيح بصيغة النهي الصريح فقال لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وأبو سعيد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم هكذا في الصحيح أنه سمعه منه لم يسمعه من غيره بخلاف رواية أبي هريرة فإنها مطلقة وأبو هريرة كان يروي الحديث ثم يقول حدثني فلان كما في حديث صوم الجنب فقال حدثنيه الفضل ابن عباس ومثل ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا
____________________
(1/158)
وفي الصحيحين أيضا عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فاذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا فاذا كان قد لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد يحذر أمته أن يفعلوا ذلك مع أن المساجد إنما تكون لعبادة الله لكن إذا اتخذت [ القبور ] مساجد للعبادة صار ذلك ذريعة إلى قصد القبر ودعاء صاحبه واتخاذه وثنا فاذا كان قد لعن من يفعل الوسيلة إلى الشرك فكيف بمن أتى بالشرك الصريح وإذا كان هذا حال من دعا أهل القبور من غير حج إليهم فكيف بمن حج إليهم أو جعل الحج اليهم أفضل من الحج إلى بيت الله بل الحج إلى آثارهم مثل مكان نزلوا به ويلبي ويحرم إذا حج إلى آثارهم كما كان بعض الشيوخ بمصر يحرم إذا حج إلى مسجد يوسف وكما حج مرة إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع ولم يحج إلى مكة وقال حصل المقصود بهذا وهو صلى الله عليه وسلم في مرضه يكرر تحذير أمته فينهاهم علانية في المسجد ثم لعن من يفعل ذلك وهو منزول به في السياق حرصا على هذه الأمة وتحذيرا لأمته من مظان الشرك وأسبابه إذ كان جماع الدين هو عبادة الله وحده وأعظم الذنوب الشرك والقرآن مملوء من تعظيم التوحيد بالدعاء إليه والترغيب فيه وبيان سعادة أهله وتعظيم الشرك بالنهي عنه والتحذير منه وبيان شقاوة أهله ففي صحيح مسلم عن جندب ابن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فان الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك فهذا نهيه قبل أن يموت بخمس ولعنه في مرضه من يفعل ذلك كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
____________________
(1/159)
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة ذكرتا من حسنها وتصاوير فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ذمهم على هذا وهذا ولهذا نهى أمته عن هذا وهذا وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته فأمره بطمس التماثيل وتسوية القبور العالية المشرفة إذ كان الضالون أهل الكتاب اشركوا بهذا وبهذا بتماثيل الأنبياء والصالحين وبقبورهم وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها وبسط هذا له موضع آخر لكن نبهنا هنا على مثل هذا لأن هذا المعترض لم يأت في كلامه بعلم ولا حجة ولا دليل بل حجته من جنس ما ذكره هنا أن الزيارة لا بد فيها من الحركة والانتقال وهذا معلوم لكل أحد فقوله والزيارة نفسها قربة والوسيلة إلى القربة قربة هذا مضمون كلامه ونسب المجيب إلى التناقض حيث أباح الزيارة ومنع من الوسيلة إليها وهو السفر ولهذا قال فلو علم هذا القائل ما في كلامه من الخطأ والزلل وما اشتمل عليه كلامه من المناقضة والخلل لما أبدى لهم عواره ولستر عنهم شناره
وجواب هذا من وجوه أحدها أن يقال أنت المتناقض فيما حكيته عنه فانك في أول كلامك قلت إنه ظهر لك من صريح كلامه وفحواه مقصده السيء ومغزاه وهو تحريم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر اليها ودعوى أن ذلك معصية محرمة مجمع
____________________
(1/160)
عليها وقد علم كل من وقف على الجواب أنه لم يحرم الزيارة مطلقا ولا حكى ذلك عن أحد فضلا عن أن يحكيه إجماعا لكن هذا قول طائفة من السلف حرموا زيارة القبور مطلقا كما نقل عن الشعبي والنخعي وابن سيرين لكن المجيب لم يذكر هذا القول فانه قول مرجوح ولو قدر أنه حكاه لم يحك الإجماع على التحريم فإن بطلان هذا لا يخفى على آحاد طلبة العلم إذ كانت كتب العلماء مشحونة بذكر جواز زيارة القبور للرجال أو استحباب ذلك ثم هنا جعلت المجيب يجوز الزيارة وينهى عن الوسيلة إليها وهو السفر فجعلته متناقضا وكذلك قلت بعدها لأنه نقل الجواز عن الائمة المرجوع إليهم في علوم الدين والفتوى المشتهرين بالزهادة والتقوى الذين لا يعتد بخلاف من سواهم ولا يرجع في ذلك لمن عداهم ونقل عدم الجواز عن هؤلاء وهو جواز السفر للزيارة فكيف يحكى عنه أنه جعل كل زيارة القبور معصية محرمة مجمعا عليها هذا هو التناقض ثم نسبته إلى التناقض وأنت المتناقض فقلت ثم قال في آخر كلامه إن ما ادعاه مجمع على أنه حرام وهذه مناقضة لما تقدم منه في الكلام فليت شعري حين قال هذا أكان به جنة أم أدركته من الله محنة فيقال لك المستحق للطعن في عقله ودينه من جعل المستقيم أعوج وزاغ عن سواء المنهج وتناقض فيما يقول وجعل غيره هو المتناقض كما قيل في المثل السائر رمتني بدائها وانسلت ولكن أهل البدع المخالفين لما جاءت به الرسل يضاهئون أعداء الرسل الذين نسبوهم إلى الجنون قال تعالى { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } وقال تعالى عن قوم نوح { وقالوا مجنون وازدجر } وقال فرعون { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } وقال تعالى { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون }
فيقال لفظ الجواب أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين معروفين وقوله من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء
____________________
(1/161)
احترازا عن السفر المشروع كالسفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر السفر المشروع فسافر إلى مسجده وصلى فيه وصلى عليه وسلم ودعا وأثنى كما يحبه الله ورسوله فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين وليس فيه نزاع فان هذا لم يسافر لمجرد زيارة القبور بل الصلاة في المسجد فإن المسلمين متفقون على أن السفر الذي يسمى زيارة لا بد فيه من أن يقصد المسجد ويصلى فيه لقوله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ولقوله لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا والسؤال والجواب لم يكن المقصود فيه خصوص السفر إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا السفر على هذا الوجه مشروع متحب باتفاق المسلمين ولم يقل أحد من المسلمين إن السفر إلى زيارة قبره محرم مطلقا بل من سافر إلى مسجده وصلى فيه وفعل ما يؤمر به من حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم كان هذا مستحبا مشروعا باتفاق المسلمين لم يكن هذا مكروها عند أحد منهم لكن السلف لم يكونوا يسمون هذا زيارة لقبره وقد كره من كره من ائمة العلماء أن يقال زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وآخرون يسمون هذا زيارة لقبره صلى الله عليه وسلم لكنهم يعلمون ويقولون إنه إنما يصل إلى مسجده وعلى اصطلاح هؤلاء من سافر إلى مسجده وصلى فيه وزار قبره صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية لم يكن هذا محرما عند أحد من المسلمين بخلاف السفر إلى زيارة قبر غيره من الأنبياء والصالحين فإنه ليس عنده مسجد يسافر إليه فالسؤال والجواب كان من جنس السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين كما يفعل أهل البدع ويجعلون ذلك حجا أو افضل من الحج أو قريبا من الحج حتى يروي بعضهم حديثا ذكره بعض المصنفين في زماننا في فضل من زار الخليل قال فيه وقال وهب بن منبه إذا كان آخر الزمان حيل بين الناس وبين الحج فمن لم يحج ولحق ذلك ولحق بقبر ابراهيم فان زيارته تعدل حجة وهذا كذب على وهب بن منبه كما أن قوله من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا الحديث إنما افتراه الكاذبون لما فتح بيت المقدس واستنقذ من أيدي النصارى على يد
____________________
(1/162)
صلاح الدين سنة بضع وثمانين وخمسمائة فان النصارى نقبوا قبر الخليل وصار الناس يتمكنون من الدخول إلى الحظيرة وأما على عهد الصحابة والتابعين وهب بن منبه وغيره فلم يكن هذا ممكنا ولا عرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنه سافر إلى قبر الخليل عليه السلام بل ولا قبر غيره من الأنبياء ولا من أهل البيت ولا من المشايخ ولا غيرهم ووهب بن منبه كان باليمن لم يكن بالشام ولكن كان من المحدثين عن بني إسرائيل والأنبياء المتقدمين مثل كعب الأحبار ومحمد بن إسحاق ونحوهما وقد ذكر العلماء ما ذكره وهب في قصة الخليل وليس فيه شيء من هذا ولكن أهل الضلال افتروا آثارا مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه والتابعين توافق بدعهم وقد رووا عن أهل البيت وغيرهم من الأكاذيب ما لا يتسع هذا الموضع لذكره وغرض أولئك الحج إلى قبر علي أو الحسين رضي الله عنهما أو إلى قبور الأئمة كموسى والجواد وموسى بن جعفر وغيرهم من الائمة الأحد عش فان الثاني عشر دخل السرداب وهو عندهم حي إلى الآن ينتظر ليس له غرض في الحج إلى قبر الخليل وهؤلاء من جنس المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فلكل قوم هدى يخالف هدي الآخرين قال تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } إلى قوله { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وهؤلاء تارة يجعلون الحج إلى قبورهم أفضل من الحج وتارة نظير الحج وتارة بدلا عن الحج فالجواب كان عن مثل هؤلاء ولكن ذكر قبر نبينا صلى الله عليه وسلم لشمول الأدلة الشرعية فانه إذا احتج بقوله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد كان مقتضى هذا أنه لا يسافر إلا إلى المسجد لا إلى مجرد القبر كما قال مالك رضي الله عنه للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد وهذا كما لو نهى الناس أن يحلفوا بالمخلوقات وذكر لهم قول النبي صلى الله عليه وسلم من كان حالفا
____________________
(1/163)
فليحلف بالله أو ليصمت وقوله صلى الله عليه وسلم لا تحلفوا إلا بالله ونحو ذلك وقيل إنه لا يجوز الحلف بالملائكة ولا الكعبة ولا الأنبياء ولا غيرهم فاذا قيل ولا بالنبي صلى الله عليه وسلم لزم طرد الدليل فقيل ولا يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم كما قال جمهور العلماء وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين ومن الناس من يستثني نبينا كما استثناه طائفة من الخلف فجوزوا الحلف به وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وخصوه بذلك وبعضهم طرد ذلك في الأنبياء وهو قول ابن عقيل في كتابه المفردات لكن قول الجمهور أصح لأن النهي هو عن الحلف بالمخلوقات كائنا من كان كما وقع النهي عن عبادة المخلوق وعن تقواه وخشيته والتوكل عليه وجعله ندا لله وهذا متناول لكل مخلوق نبينا وسائر الأنبياء والملائكة وغيرهم فكذلك الحلف بهم والنذر لهم أعظم من الحلف بهم والحج إلى قبورهم أعظم من الحلف بهم والنذر لهم وكذلك السفر إلى زيارة القبور وقصر الصلاة فيه ولأصحاب أحمد فيه أربعة اقوال قيل يقصر الصلاة مطلقا في كل سفر لزيارة القبور وقيل لا يقصر مطلقا في شيء من ذلك وقيل يقصر في السفر لزيارة قبر نبينا خاصة وقيل بل لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبور سائر الأنبياء فالذين استثنوا نبينا قد يعللون ذلك بأن السفر هو إلى مسجده وذلك مشروع مستحب بالاتفاق فتقصر فيه الصلاة بخلاف السفر إلى قبر غيره فانه سفر لمجرد القبر وقد يستثنونه من العموم كما استثناه منهم في الحلف ثم ظن بعضهم أن العلة هي النبوة فطرد ذلك في الأنبياء والصواب أن السفر إلى قبره إنما يستثنى لأنه سفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم
ثم إن الناس أقسام منهم من يقصد السفر الشرعي إلى مسجده ثم إذا صار في مسجده فعل في مسجده المجاور لبيته الذي فيه قبره ما هو مشروع فهذا سفر مجمع على استحبابه وقصر الصلاة فيه ومنهم من لا يقصد إلا مجرد القبر ولا يقصد الصلاة في المسجد أو لا يصلي فيه فهذا لا ريب أنه ليس بمشروع ومنهم من يقصد هذا وهذا فهذا لم يذكر في الجواب إنما ذكر في الجواب من لم يسافر إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء
____________________
(1/164)
والصالحين ومن الناس من لا يقصد إلا القبر لكن إذا أتى المسجد صلى فيه فهذا أيضا يثاب على ما فعله من المشروع كالصلاة في المسجد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه ونحو ذلك من الدعاء والثناء عليه ومحبته وموالاته والشهادة له بالرسالة والبلاغ وسؤال الله الوسيلة له ونحو ذلك مما هو من حقوقه المشروعة في مسجده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ومن الناس من لا يتصور ما هو الممكن المشروع من الزيارة حتى يرى المسجد والحجرة بل يسمع لفظ زيارة قبره فيظن ذلك كما هو المعروف المعهود من زيارة القبور أنه يصل إلى القبر ويجلس عنده ويفعل ما يفعله من زيارة شرعية أو بدعية فإذا رأى المسجد والحجرة تبين له أنه لا سبيل لأحد أن يزور قبره كالزيارة المعهودة عند قبر غيره وإنما يمكن الوصول إلى مسجده والصلاة فيه وفعل ما يشرع للزائر في المسجد لا في الحجرة عند القبر بخلاق قبر غيره فاذا عرف معنى أول الجواب فالمجيب لما ذكر القولين وحجة كل منهما وذكر أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال على نفي الاستحباب وأن أصحاب القول الآخر يجيبون عنه بوجهين أحدهما أن هذا تسليم لكون هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات فإذا من اعتقد أن السفر لقبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أن ذلك طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة ومعلوم أن أحدا لا يسافر اليها إلا لذلك وأما اذا قدر أن الرجل يسافر اليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من ذاك الوجه الثاني أن النفي يقتضي النهي والنهي يقتضي التحريم فهذا الإجماع هنا هو فيمن اعتقد أن ذلك طاعة وقربة وسافر لاعتقاده أن ذلك طاعة فان الذين قالوا بالجواز قالوا إن قوله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال الخ يقتضي أن السفر اليها ليس بمستحب وليس هو واجب بالاتفاق فلا يكون قربة وطاعة فإن القربة والطاعة إما واجب وإما مستحب وما ليس بواجب ولا مستحب فليس قربة
____________________
(1/165)
ولا طاعة بالإجماع فمن اعتقد أن ذلك قربة وطاعة أو قال إنه قربة وطاعة أو فعله لأنه قربة وطاعة فقد خالف هذا الإجماع ولكن من علم أن الفعل ليس بطاعة ولا قربة امتنع أن يعتقده قربة وطاعة فان ذلك جمع بين اعتقادين متناقضين وامتنع من أن يفعله لذلك وإنما يعتقده قربة ويفعله على وجه التقرب من لا يعلم أنه ليس بقربة ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد وان كان خطؤه مغفورا له وهذا لا يعاقب على هذا الفعل لأنه لم يعلم تحريمه كسائر المتقربين بما ينهى عنه قبل العلم بالنهي كمن كان يصلي إلى بيت المقدس قبل العلم بالنهي وكمن صلى في أوقات النهي ولم يعلم بالنهي فان الله عز وجل يقول { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } لكن الأفعال التي ليست واجبة ولا مستحبة لا ثواب فيها فهؤلاء لا يثابون ولا يعاقبون وهذا الإجماع المذكور فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين لم يدخل فيه السفر لزيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم على الوجه المشروع فان هذا السفر مستحب بإجماع المسلمين فمن ظن أن هذا يقتضي أنه لا يستحب سفر أحد إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا مسجده ولا قبره فقد غلط فان هذا لم يقله أحد والقولان حكيا في جواز القصر لمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فانهما قولان معروفان في مذهب مالك والشافعي وأحمد ومالك وجمهور أصحابه يقولون إن السفر لغير المساجد الثلاثة قبور الأنبياء وغيرها محرم حتى قبر نبينا كما صرح به مالك نهى الناذر عن الوفاء به وابن عبد الب ومن وافقه جعلوا ذلك جائزا لا يجب بالنذر لكن لو فعله جاز واستدلوا بإتيان مسجد قباء وكذلك طائفة من أصحاب أحمد كأبي محمد المقدسي وطائفة من اصحاب الشافعي كأبي المعالي والغزالي والرافعي حملوا هذا الحديث على نفي الاستحباب والفضيلة وكذلك أبو حامد الاسفراييني وأبو علي بن أبي هريرة ومن اتبعهما قال أبو المعالي كان شيخي يعني أبا محمد الجويني يفتي بابمنع من شد الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة وربما كان يقول يحرم قال والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة وبه قال الشيخ أبو علي ومقصود الحديث تخصيص القربة بالمساجد الثلاثة وقال الشيخ أبو حامد في توجيه أحد قولي الشافعي
____________________
(1/166)
إنه لا يجب بالنذر قال يحتمل أن يريد به لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد واجبا ويحتمل أن يريد به لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مواضع مستحبا فيحمل الحديث على نفي الوجوب مع النذر أو نفي الاستحباب وأما القدماء أصحاب أحمد فقولهم كقول مالك وعليه يدل كلام أحمد وكذلك أبو محمد الجويني وغيره من اصحاب الشافعي وأبو محمد الجويني من أصحاب الوجوه والوجهان في مذهب الشافعي ذكرهما أبو المعالي والرافعي وغيرهما كما ذكر القولين أبو زكريا النووي في شرح مسلم فقال واختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو حرام وهو الذي اشار القاضي عياض إلى اختياره قال والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره قلت والقاضي عياض مع مالك وجمهور أصحابه يقولون إن السفر الى غير المساجد الثلاثة محرم كقبور الأنبياء فقال القاضي عياض إن زيارة قبره سنة مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها أراد به الزيارة الشرعية كما ذكره مالك وأصحابه من أنه يسافر إلى مسجده ثم يصلي عليه ويسلم عليه كما ذكروه في كتبهم وقد قال القاضي عياض في هذا الفصل فصل الزيارة قال بعضهم رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف قال وقال مالك في رواية ابن وهب إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف بوجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده وقال في المبسوط لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ولكن يسلم ويمضي فهذا مالك يم يستحب إلا السلام خاصة كما كان ابن عمر يفعل قال نافع رأيت ابن عمر يسلم على القبر رأيته مائة مرة وأكثر يجيء الى القبر فيقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابا بكر السلام عليك يا ابت ثم ينصرف قال مالك في رواية ابن وهب يقول السلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته قال القاضي عياض وعن ابن قسيط والقعنبي كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا المسجد مسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامينهم ثم استقبلوا القبلة يدعون فهذا
____________________
(1/167)
المنقول عن الصحابة أنهم كانوا يدعون في الروضة من ناحية المنبر لا من ناحية الحجرة ويمسكون بميامينهم رمانة المنبر وقد ذكرنا في مواضع اختلاف العلماء عند السلام عليه هل يستقبل الحجرة ويستدبر القبلة كما قال مالك أو يستقبل القبلة كما قال أبو حنيفة وفي مذهب أحمد نزاع والمشهور عند أصحابه كما قال مالك وفي منسك المروذي الذي نقله عن أحمد أنه قال في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تستقبل الحائط وخذ مما يلي صحن المسجد فسلم على أبي بكر وعمر وقال فإذا أردت الخروج فأئت المسجد وصل ركعتين وودع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل سلامك الأول وسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وحول وجهك إلى القبلة وسل الله حاجتك متوسلا اليه بنبيه صلى الله عليه وسلم تقض من الله عز وجل فقد نهاه عن استقبال حائط القبر وأمره إذا سلم على الشيخين أن يأخذ مما يلي صحن المسجد وهذا يقتضي أن يسلم عليهم مستقبل الحجرة بحيث يكون مستقبلا للمغرب مستدبرا للمشرق والقبلة عن يمينه ويسلم عليه عند رأسه فإذا أراد السلام على الشيخين أخذ مما يلي صحن المسجد لا يستقبل حائط المسجد من جهة القبلة هو الذي يفهم من سلام ابن عمر فانه كان يسلم قبل أن يدخل الحجرة في المسجد ولم يكن حينئذ يمكن أحدا أن يستقبل الحجرة ويستدبر القبلة فان قبلي الحجرة لم يكن من المسجد ولا كان منفصلا طريقا بل كان متصلا بحجرة حفصة وغيرها فعلم أن ابن عمر وغيره من الصحابة لم يكن يمكنهم السلام من جهة القبلة جهة الوجه بل كانوا يكونوا اما مستقبلا [ أحدهم ] للقبلة والحجرة النبوية عن يساره كما قال أبو حنيفة أو يستقبل الحجرة ويستدبر المغرب كما قال أحمد وهذا يوافق سلام ابن عمر وغيره من الصحابة فانهم لم يكونوا يسلمون عند وجهه وما ذكره القاضي عياض عن أنس بن مالك لا يدل على هذا القول بل يدل على قول أبي حنيفة فانه ذكر عن بعضهم قال رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فرفع
____________________
(1/168)
يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فقول الراوي إنه رفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة دليل على أنه كان مستقبل القبلة فإن المصلي لا بد أن يستقبلها ولو كان يستقبل الحائط من ناحية القبلة أو من الغرب لم يظن أنه يصلي فإن أحدا لا يصلي إلى الشمال أو إلى الشرق لكن روى القاضي إسماعيل بن إسحاق في المصنف الي له في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثني إسحاق بن محمد الفروي حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا نافع أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر صلى السجدتين في المسجد ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فيضع يده اليمنى على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسلم على أبي بكر وعمر فهذه الرواية فيها نظر فإن فيها خلاف ما قد جاء عن مالك وأحمد من فعل ابن عمر أنه كان يدنو إلى القبر ولا يمسه وحديث ابن عمر هذا رواه مالك عن نافع وعن عبد الله بن دينار ورواه عن نافع أيوب السختياني وغيره وعن أيوب حماد بن زيد ومعمر وقد ذكر ذلك مالك وغيره أنه لا يمس القبر وكذلك كان سائر علماء المدينة وكذلك قال أحمد إن ابن عمر فعل ذلك قال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم يمس ويتمسح به فقال ما أعرف هذا قلت له فالمنبر قال أما المنبر فنعم قد جاء فيه قال أبو عبد الله شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه كان يتمسح على المنبر وقال ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة قلت ويروونه عن يحيى بن سعيد أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسنه ثم قال لعله عند الضرورة والشيء قيل لأبي عبد الله إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر وقلت له أرأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يرونه ويقومون ناحية فيسلمون عليه فقال أبو عبد الله نعم وهكذا كان ابن عمر يفعل ثم قال أبو عبد الله بأبي وأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما وقد يقال هذه الرواية لا تخالف ما عليه الائمة من أنه لا يتمسح بالقبر فإن ابن عمر لم يكن يتمسح بالقبر بل كان يريد أن يسلم من جهة الوجه فلا يمكنه أن يستقبل الوجه فكان
____________________
(1/169)
يحاذي ما يكون مستقبل الوجه ليكون أقرب إلى الاستقبال ويضع يده على الحائط ليعتمد عليها ويكون أبلغ في القرب إلى القبر لكن هذه الرواية تخالف ما قيل إنه كان يقف ناحية إلا أن يقال كان يتقدم إلى القبر فيكون ناحية بهذا الاعتبار وبسط هذا له موضع آخر والصواب أن هذه الزيادة انفرد بها إسحاق بن محمد الفروي عن عبيد الله عن عبد الله بن عمر غلط فيها وخالف فيها من هو أوثق منه عن ابن عمر فان أيوبا رواه عن عبد الله بن عمر خلاف ما رواه إسحاق مع أن رواية أيوب عن نافع رواها حماد بن زيد ومعمر وغيرهما ورواية مالك عن نافع مشهورة وكذلك روايته عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ليس في شيء منها ما ذكره إسحاق بن محمد الفروي ولا يقال إنه ثقة انفرد بزيادة لوجهين أحدهما أنه خالف من هو أوثق منه كما رواه يحيى بن معين قال حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم وممن ذكر هذا الشيخ الصالح الزاهد شيخ العراق في زمنه عند العامة والخاصة أبو الحسن علي بن عمر القزويني في أماليه قال قرأت على عبيد الله الزهري حدثك أبوك قال حدثنا عبد الله ابن جعفر عن أبي داود الطيالسي عن يحيى بن معين فذكره وهذا أبو أسامة يروي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا موافق لما ذكره الأئمة أحمد وغيره عن ابن عمر كما دلت عليه سائر الروايات فلو لم يكن إلا معارضة هذه الرواية إسحاق الفروي وكلاهما عن عبيد الله لوجب التوقف فيها كيف وأبو أسامة أوثق من الفروي وقد روى ما وافقته العلماء عليه ولم يزد شيئا انفرد به كما في رواية الفروي الثاني أن الفروي وإن كان في نفسه صدوقا وكتبه صحيحه فإنه أضر في آخر عمره فكان ربما حدث من حفظه فيغلط وربما لقن فيلقن ولهذا كانوا ينكرون عليه روايته للحديث على خلاف ما يرويه الناس مثل ما روى حديث الإفك على خلاف ما رواه الناس وكذلك حديث ابن عمر هذا رواه على خلاف ما رواه الناس وقد روى عنه البخاري في صحيحه وقال أبو حاتم الرازي كان صدوقا وذهب بصره وربما لقن وكتبه صحيحه وقال مرة مضطرب وقال أبو عبيد الآجري سألت أبا داود عنه فوهاه جدا وقال النسائي ليس بثقة وذكره أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات
____________________
(1/170)
وقال الدارقطني لا يترك ومما أنكر عليه حديث الإفك فإنه رواه غير ما رواه الناس فهذا كلام الأئمة يبين ما ذكرناه فيه من التفصيل وبذلك يعرف ضعف ما ذكره من حديث ابن عمر يبين ذلك اتفاق العلماء على كراهة مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون ابن عمر ق مسه ولا يعرفون ذلك كما عرفوا مسه لمنبره وقد ثبت عن ابن عمر أنه كره مسه وقد روى أبو الحسن على بن عمر القزويني أيضا في أماليه قال قرأت على عبيد الله الزهري قلت له حدثك أبوك قال حدثني عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قال سمعت أبا زياد حماد بن دليل قال لسفيان يعني ابن عيينة قال كان أحد يتمسح بالقبر قال لا ولا يلتزم القبر ولكن يدنو قال أبي يعني الإعظام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماد ابن دليل هذا الذي سمعه أحمد يسأل ابن عيينة هو معروف من أهل العلم وروي عنه أبو داود وكان قاضي المدائن وروى أيضا أبو الحسن القزويني عن الزهري عن عن نوح بن يزيد قال أخبرنا أبو إسحاق يعني إبراهيم بن سعد قال ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكره اتيانه ونوح بن يزيد بن سيار المؤدب هذا الراوي عن إبراهيم ابن سعد هو ثقة معروف بصحبة إبراهيم وله اختصاص به روى عنه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما قال أبو بكر الأثرم ذكر لي أبو عبد الله نوح بن يزيد المؤدب فقال هذا شيخ كبير أخرج إلي كتاب إبراهيم بن سعد فرأيت فيه ألفاظا وقال محمد بن المثنى سألت أحمد بن حنبل عنه فقال اكتب عنه فإنه ثقة حج مع إبراهيم بن سعد وكان يؤدب ولده وذكره ابن حبان في الثقات وأما إبراهيم بن سعد فهو من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علما وأوثقهم وكان قد خرج إلى بغداد روى عنه الناس أحمد ابن حنبل وطبقته ومن سعة علمه روى عنه الليث بن سعد وهو أقدم وأجل منه وأما أبوه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الذي ذكر عنه ابنه ابراهيم أنه قال ما رأيت أبي قط أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكره إتيانه فهو من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين ومن أصلحهم وأعبدهم وكان قاضي المدينة في زمن التابعين في زمن القاسم
____________________
(1/171)
ابن محمد بن أبي بكر الصديق وأمثاله وهو أدرك بناء الوليد بن عبد الملك المسجد وإدخال الحجرة فيه وأدرك ما كان عليه السلف قبل ذلك من الصحابة والتابعين قال أبو حاتم الرازي وهو من جلة أهل المدينة وقدماء شيوخهم كان على القضاء وقد ذكروا أنه رأى عبد اله بن عمر وروى عن عبد الله بن جعفر وفي سماعه منه نظر ومات قديما بعد القاسم بن محمد بقليل فإن القاسم توفي سنة إحدى وعشرين ومائة وهذا توفي سنة ست وعشرين ومائة وقد خرج من المدينة غير مرة تارة إلى الحج وتارة كان قد استعمل على الصدقات ومرة خرج إلى العراق إلى واسط فروى عنه سفيان الثوري وشعبة والعراقيون وهو الذي روى حديث من أحدث في أمرنا هذا ما لس فيه فهو رد عن القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أدرك بالمدينة جابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدي وغيرهما من الصحابة ورأى أكابر التابعين مثل سعيد بن المسيب وسائر الفقهاء السبعة ومعلوم أن لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه بل قد يخالف ابن عمر فإن ما نقله عنه ابنه يقتضي أنه كان لا يأتيه لا عند السفر ولا غيره بل يكره إتيانه مطلقا كما كان جمهور الصحابة على ذلك لما فهموا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأنه أمر بالصلاة والسلام عليه في كل زمان ومكان وقال صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا وقال اللهم لا تجعل قري وثنا يعبد كما قد بين هذا في مواضع مع أن سعد بن إبراهيم هذا في دينه وعبادته وصيامه وتلاوته للقرآن بحيث كان يختم باليوم والليلة كثيرا وأبو الحسن علي بن عمر القزويني وغيره من أهل العلم والدين ذكروا هذه الآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ليبينوا للناس كيف كان السلف يفعلون في مثل ذلك وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود أن ما حكى القاضي عياض الإجماع فيه لم ينه عنه في الجواب بل السفر إلى مسجده وزيارته التي يسميها بعضهم زيارة وبعضهم يكره أن تسمى زيارة على
____________________
(1/172)
على الوجه المشروع سنة مجمع عليها كما ذكره القاضي عياض ولا يدخل في ذلك السفر إلى غير المساجد الثلاثة كالسفر إلى قبور الأنبياء والصالحين ولا من سافر لمجرد قبره فلم يزر زيارة شرعية بل بدعية فهذا لا يقول أحد إنه مجمع على أنه سنة ولكن هذا الموضع مما يشكل على كثير من الناس فينبعي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجمع عليه من المتنازع فيه فإن في الزيارة مسائل متعددة تنازعوا فيها لكن لم يتنازعوا في استحباب السفر إلى مسجده واستحباب الصلاة والسلام عليه ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده ولم يتنازع الأئمة الأربعة والجمهور في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب لا لقبور الأنبياء والصالحين ولا لغير ذلك فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال حديث متفق على صحته وعلى العمل به عند الأئمة المشهورين وعلى أن السفر إلى زيارة القبور داخل فيه فإما أن يكون نهيا وإما أن يكون نفيا للاستحباب وقد جاء في الصحيح بصيغة النهي صريحا فتعين أنه نهي فهذان طريقان لا أعلم فيهما نزاعا بين الائمة الأربعة والجمهور والائمة الأربعة وسائر العلماء لا يوجبون الوفاء بالنذر على من نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم أو غير قبورهم وما علمت أحدا أوجبه إلا ابن حزم فإنه أوجب الوفاء على من نذر مشيا أو ركوبا أو نهوضا إلى مكة أو إلى المدينة أو بيت المقدس قال وكذلك إلى أثر من آثار الأنبياء قال فإن نذر مشيا أو نهوضا أو ركوبا إلى مسجد من المساجد غير الثلاثة لم يلزمه وهذا عكس قول الليث بن سعد فإنه قال من نذر المشي إلى مسجد من المساجد مشى إلى ذلك المسجد وابن حزم فهم من قوله لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد أي لا تشد إلى مسجد وهو لا يقول بفحوى الخطاب وشبهه فلا يجعل هذا نهيا عما هو دون المساجد في الفضيلة بطريق الأولى بل يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه إنه لو بال ثم صب البول فيه لم يكن منهيا عن الاغتسال فيه وداود الظاهري عنه في فحوى الخطاب روايتان وهذه إحداهما وابن حزم ومن قال بإحدى روايتي داود يقولون إن
____________________
(1/173)
قوله { فلا تقل لهما أف } لا يدل على تحريم الشتم والضرب وهذا قول ضعيف جدا في غاية الفساد عند عامة العلماء فإنهم يقولون إذا كان البائل الذي يحتاج إلى البول قد نهى أن يبول فيه ثم يغتسل فيه فالذي بال في إناء ثم صبه فيه أولى بالنهي كما أنه لما نهي عن الاستجمار بطعام الجن وطعام دوابهم العظام والروق كان ذلك تنبيها على النهي عن الاستجمار بطعام الإنس بطريق الأولى وكل ما نهي عن الاستجمار به فتلطيخه بالعذرة أولى بالنهي فإنه لا حاجة إلى ذلك فلهذا فهم الصحابة من نهيه أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة أن السفر إلى طور سنياء داخل في النهي وإن لم يكن مسجدا كما جاء عن بصرة بن أبي بصرة وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم والصحابة الذين سمعوا هذا الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهم أدخلوا غير المساجد الثلاثة في النهي ونهوا أن تشد الرحال إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى مع أن الله لم يعظم في القرآن جبلا أعظم منه وسماه الوادي المقدس والبقعة المباركة فإذا كان مثل هذا الجبل لا تشد الرحال إليه فإن لا تشد الرحال إلى ما يعظم من الغيران والجبال مثل جبل لبنان وقاسيون ونحوهما بالشام وجبل الفتح ونحوه بصعيد مصر بطريق الأولى بل إذا كان الصحابة لم يكونوا يسافرون إلى الطور ونحوه بل ولا يزورون إذا قدموا مكة لا جبل حراء الذي نزل فيه الوحي ابتداء ولا غار ثور المذكور في القرآن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه والله ثالثهما وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم [ لأبي بكر ] { لا تحزن إن الله معنا } والنبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي عليه لم يقرب ذلك الغار ولا غيره مما بمكة إلا المسجد الحرام والمشاعر وكذلك لما حج إنما ذهب إلى المسجد الحرام والمشاعر وقد ثبت في الصحيح أنها أحب البقاع إلى الله تعالى فأغنى ذلك عن غيرها ولهذا لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد باتفاق الأئمة ولو نذره في غير مسجد لو يوف بنذره فإنه غير جائز وقد تقدم عن الصحابة أبي سعيد وابن عمر وبصرة بن أبي بصرة أنهم نهوا عن السفر إلى الطور لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ولفظ أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم وغيره
____________________
(1/174)
لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد بصيغة النهي الصريحة ورواه أحمد في المسند من حديث أبي هريرة من طريقين والأماكن التي ينهى عن الصلاة فيها كأعطان الإبل والحمام هي مأوى الشياطين
وكذلك ما يسافر إليه بعض الناس من المغارات ونحوها من الجبال قاصدين لتعظيم تلك البقعة بالشام ومصر والجزيرة وخراسان وغيرها وكل موضع تعظمه الناس غير المساجد ومشاعر الحج فإنه مأوى الشياطين ويتصورون بصورة بني آدم أحيانا حتى يظن كثير من الناس أنهم من الأنس وأنهم رجال الغيب ويقولون الأربعون الأبدال بجبل لبنان أو غيره من الجبال وهي مأوى الجن وهم رجال الغيب كما قال تعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } سماهم الله رجالا وسموا جنا لأنهم يجتنون عن الأبصار أي يستترون كما تسمى الإنس إنسا يؤنسون أي يبصرون كما قال موسى عليه السلام { إني آنست نارا } أي أبصرت نارا والحكايات عنهم في هذا الباب كثيرة معروفة لكن كثير من الناس يعتقد انهم من الإنس وأنهم صالحون يغيبون عن أبصار الخلائق ولا ريب أن بعض الإنس قد يحجبه الله أحيانا عن أبصار بعض الناس إما إكراما له أو منعا له من ظلمهم إن كان وليا وإما احتجاب إنسي طول عمره عن جميع الإنس فهذا لم يقع بل هذا نعت الجن الذين قال الله فيهم { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } والمسافرون إلى هذه الجبال إنما يسافرون إلى مأوى الشياطين وما يرونه من الخوارق هناك ما هو من إضلال الشياطين لهم كما تفعله الشياطين عند الأصنام فإنهم يضلون عابديها بأنواع حتى قد يظن أن الصنم كلمه وقد يظهرون للسدنة أحيانا كما كانوا في الجاهلية وكذلك يوجد عند النصارى من هذا كثير وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن الصحابة كأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وبصرة بن أبي بصرة فهموا من الحديث شموله لغير المساجد كالطور وحديث بصرة معروف في السنن والموطأ قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت
____________________
(1/175)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وأما ابن عمر فروى ابو زيد عمر بن شبة النميري في كتاب ( أخبار المدينة ) حدثنا ابن أبي الوزير حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طلق عن قزعة قال أتيت ابن عمر فقلت إني أريد الطور فقال لا إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى فدع عنك الطور فلا تأته رواه أحمد بن حنبل في مسنده وهذا النهي من بصرة وابن عمر ثم موافقة أبي هريرة يدل على أنهم فهموا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم النهي فلذلك نهوا عنه لم يحملوه على مجرد نفي الفضيلة وكذلك أبو سعيد الخدري وهو راويه أيضا وحديثه في الصحيحين فروى أبو زيد حدثنا هشام بن عبد الملك حدثنا عبد الحميد بن بهرام حدثنا شهر بن حوشب سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غري المسجد الحرام والمسجد الاقصى ومسجدي هذا فأبو سعيد جعل الطور مما نهي عن شد الرحال اليه مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي والطور إنما يسافر من يسافر اليه لفضيلة البقعة وأن الله سماه الوادي المقدس والبقعة المباركة وكلم الله موسى هناك وما علمت المسلمين بنوا هناك مسجدا فإنه ليس هناك قرية للمسلمين وإن [ كان ] هناك مسجد فاذا نهى الصحابة عن السفر إلى تلك البقعة وفيها مسجد فإذا لم يكن فيها مسجد كان النهي عنها أقوى وهذا ظاهر لا يخفى على أحد فالصحابة الذين سمعوا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فهموا منه النهي وفهموا منه تناوله لغير المساجد وهم أعلم بما سمعوه وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا ذكر ما تنازع فيه الائمة المشهورون أو غيرهم وما لم يتنازعوا فيه فإن بين الطرفين اللذين لم تتنازع فيهما الأئمة مسائل متعددة فيها نزاع ولكن طائفة من المتأخرين يستحبون السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين ويفعلون ذلك ويعظمونه لكن هل في هؤلاء أحد من المجتهدين الذين تحكى أقوالهم وتجعل خلافا على من قبلهم من
____________________
(1/176)
أئمة المسلمين هذا مما يجب النظر فيه وأيضا فالذين قالوا السفر اليها جائز ليس بمحرم ولا مكروه قد يفهم منه أنه مستحب لأن الذين يفعلون ذلك إنما يفعلونه لأنه قربة فاذا قيل في ذلك إنه جائز قد يقولون نحن قلنا هو جائز مباح لم نقل إنه مستحب ولا قلنا أن التقرب به جائز فمن جعله قربة فقد خالف قولنا الصريح فقد يفهم منه أن التقرب بذلك جائز لكن قولهم مع ذلك إنه ليس بمستحب ولا فضيلة فيه لأجل [ أن ] الحديث ينفي ذلك فلا بد لهم من اتباع الحديث فصار في قولهم تناقض وهذا مما احتج به عليهم أهل القول بالتحريم
فهذا الجواب على ما ادعاه من التناقض في نقل الخلاف والإجماع
( فصل ) وأما قوله إن الزيارة إذا كانت جائزة فالوسيلة اليها جائزة فيجوز السفر فيقال له هذا باطل فليس كل ما كان جائزا أو مستحبا أو واجبا جاز التوسل اليه بكل طريق بل العموم يدعي في النهي فما كان منهيا عنه كان التوسل اليه محرما ومن هذا سد الذرائع وأما ما كان مأمورا به فلا بد أن يكون له طريق لكن لا يجب أن يجوز التوسل اليه بكل طريق بل لو توسل الإنسان الى الطاعة بما حرمه الله مثل الفواحش والبغي والشرك به والقول عليه بغير علم لم يجز ذلك فلو أراد أن يفعل فاحشة وزعم أنها تقضي الى طاعة لم يكن له ذلك وكذلك لو أراد أن يشرك بالله بباطنه ويقول عليه ما لم يعلم نعم يجوز أن يقول بلسانه مالا يعتقده عند الإكراه وأن يستعمل المعاريض عند الحاجة
وإتيان المساجد للجمعة والجماعة من أفضل القربات وأعظم الطاعات وهو إما واجب أو سنة مؤكدة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة ولو أراد مع هذا أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة ليصلي هناك جمعة أو جماعة لم يكن هذا مشروعا بل كان محرما عند الأئمة والجمهور
____________________
(1/177)
ولو نذر ذلك لم يوف بنذره عند أحد من الأئمة الأربعة وعامة علماء المسلمين وليس فيه إلا ما حكي عن الليث بن سعد مع أن لفظه مجمل بل ولا يجوز أن يوفي بنذره عند الأكثرين كما قاله مالك وغيره لقوله لا تشد الرحال وقوله في الحديث الصحيح من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه وقد اتفق العلماء على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به وان كان صاحبه يعتقد أنه نذر طاعة كما لو نذر ذبح نفسه أو ولده لكن تنازعوا فيما إذا نذر ذبح ولده هل عليه ذبح كبش أو كفارة يمين أو لا شيء عليه على ثلاثة أقوال مشهورة وهي ثلاث روايات عن أحمد لكن ظاهر مذهبه كالأول وهو قول أبي حنيفة ومذهب الشافعي لا شيء عليه وكذلك سائر المعاصي قيل فيها كفارة يمين وهو ظاهر مذهب احمد وقيل لا شيء فيها وهو المنقول عن الشافعي ومالك وقيل إن قصد بها اليمين لزمته كفارة يمين وهو مذهب أبي حنيفة والخراسانيين من أصحاب الشافعي فالجمهور لما اعتقدوا أن قوله لا تشد الرحال مراده النهي قالوا هو سفر معصية فلا يجوز الوفاء به وان اعتقده الناذر قربة كما قاله مالك والأكثرون ولهذا قالوا لا يجوز السفر لمن قصد القبر سواء كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره وإن نذر ومن قال السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بمنهي عنه ولا هو طاعة ولا قربة قال لا يب الوفاء به لكنه جائز ومن هنا يعرف مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما فان قالوا ان من نذر السفر الى غير الثلاثة يجوز له السفر وإن لم يجب عليه كان قولهم بجاز السفر وأن الحديث لنفي الفضيلة كما قاله من قاله من المتأخرين وإن قالوا إن هذا النذر لا يوفى بحال لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر الى غير الثلاثة كما قاله مالك وغيره دل على تحريم السفر الى غير الثلاثة وهو لو نذر السفر للصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو المسجد الاقصى جاز له السفر باتفاقهم وإنما تنازعوا في الوجوب فمذهب مالك وأحمد أنه يجب ومذهب أبي حنيفة لا يجب وللشافعي قولان
وقوله كيف تكون الرحلة إلى القربة معصية محرمة يقال له هذا كثير في الشريعة كالرحلة للصلاة والاعتكاف والقراءة والذكر في غير المساجد الثلاثة فان
____________________
(1/178)
هذا معصية عند مالك والأكثرين وكما لو رحلت المرأة الى أمر غير واجب بدون إذن الزوج كحج التطوع فانها رحلة الى قربة وهي معصية محرمة بالاتفاق وكذلك العبد لو رحل الى الحج بدون إذن سيده كان رحيله الى قربه وكان معصية محرمة بالإجماع وكذلك المرأة إذا رحلت بغير زوج ولا ذي محرم لزيارة غير واجبة ومثل هذا كثير ولو كان الطريق يحصل فيه ضرر في دينه لم يكن له أن يسافر لا للحج ولا لإتيان المسجد وان كان ذلك قربة والمرأة بلا سفر لها أن تشهد العيد والجمعة بل والجماعة بلا سفر وليس لها أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم ومن طولب بقضاء دين لزمه قضاؤه لم يكن له أن يسافر بالمال الذي يجب صرفه في قضاء دينه وان كان قصده أن يتوسل بذلك السفر الى الحج وغيره
ففي مواضع كثيرة يكون العمل طاعة اذا أمكن بلا سفر ومع السفر لا يجوز وصاحب الشرع قد قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ومعلوم أن سائر المساجد يستحب إتيانها بلا سفر فهذا الفرق ثابت بنص الرسول صلى الله عليه وسلم
فان قيل ما رحل اليه هؤلاء المنهيون عن السرف ليس بقربة في حقهم قيل لهم ومن رحل لزيارة القبور لم يكن ما رحل اليه قربة في حقه فزيارة القبور بالرحلة كالصلاة في غير المساجد الثلاثة فالرحلة ليست بقربة ولا طاعة بل معصية محرمة عند الأئمة الذين صرحوا بذلك ومن وافهم وأما نقل الخطا الى المساجد فهو إتيان اليها بغير سفر وهذا مشروع فهو نظير نقل النبي صلى الله عليه وسلم خطاه الى زيارة أهل البقيع فان ذلك عمل صالح وكذلك الزيارة المستحبة من البلد نقل الخطا فيها عمل صالح
فقد تبين أنه لا مناقضة في ذلك ولو قدر أن هذا تناقض ممن قال ذلك مثل مالك وجمهور الصحابة ومثل من قاله من أصحاب الشافعي وأحمد فان المجيب ذكر القولين فان كان هنا عوار وشنار في القولين بالتحريم كان هذا لازما لمالك الإمام
____________________
(1/179)
ومن وافقه وحاشى لله أن يلزم مالكا ومن وافقه تناقض فيها في هذا وهم متبعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن هذا المعترض الجاهل تارة يجعل قول المتبعين للسنة كمالك وغيره متناقضا وتارة يجعله مجاهرة للأنبياء بالعداوة وإظهارا لعنادهم وهو يضيف ذلك الى المجيب والمجيب لم يقل إلا ما قاله هؤلاء بل حكى قولهم وقول غيرهم وذكر حجة القولين بخلاف مالك وأتباعه فانهم جزموا بالتحريم ولم يلتفتوا إلى قول من حمل الحديث على نفي الاستحباب لظهور فساد هذا القول وتناقضه وأيضا فهذا الذي ذكره إنما يتصور في زيارة غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم كأهل البقيع وشهداء أحد وسائر المؤمنين المدفونين في بلادهم ومع هذا ما علمنا أحدا قال يستحب السفر لمجرد هذه الزيارة بل إما أن يكون محرما وإما أن يكون مباحا وان كانت الزيارة من البلد مستحبة وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فله شأن آخر فضله الله على غيره فان الله أمرنا بالصلاة والسلام عليه مطلقا وأن نطلب له الوسيلة ومحبته وتعظيمه فرض على كل أحد بل فرض على كل أحد أن يكون الرسول أحب اليه من ولده ووالده وهو أولى بكل مؤمن من نفسه فحقوقه وشريعته إيجابا واستحبابا لا تختص ببقعة بل هي مشروعة في جميع البقاع لا فرق في ذلك بين أهل المدينة وغيرهم وقد نهى أن يتخذ قبره عيدا وقال صلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني وقال في السلام مثل ذلك وأخبر إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام وهو قد حيل بين قبره وبين الناس ومنعوا من الوصول اليه إذ لم يكن داخل الحجرة عبادة مستحبة هناك دون المسجد بل كل ما يفعل هناك ففعله في المسجد أفضل من صلاة وتسليم عليه وغير ذلك ولهذا لم يكن الصحابة والتابعون بالمدينة إذا دخلوا المسجد وخرجوا يقفون عند قبره لا لصلاة ولا دعاء ولا سلام ولا غير ذلك
وقد ذكر أهل العلم مالك وغيره أن هذا يكره ولم يكن السلف يفعلونه وأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما يصلح اولها ومعلوم أنه لو كان الإتيان إلى عند القبر مستحبا لأهل المدينة لكان الصحابة التابعون أعلم بذلك وأتبع له من غيرهم ومالك
____________________
(1/180)
وأمثاله ممن أدرك التابعين من أعلم الناس بمثل هذا وقد ذكر أنه لم يبلغه عن أحد من صدر هذه الأمة من أهل المدينة أنه كان يقف عند القبر لا لسلام ولا لغيره وذكر مالك أن ذلك يكره إلا عند السفر لما نقل عن ابن عمر وقد كره مالك وغيره أن يسمي هذا زيارة لقبره وحينئذ فيقال أهل المدينة يكره لهم ما تسميه أنت زيارة لقبره فلم يبق هذا مشروعا بلا سفر حتى يقال إن السفر اليه ويلة الى المستحب وانما استحبه مالك وأحمد وغيرهما لمن سافر لأجل المسجد فاذا صار في المسجد فيفعل ذلك بل المستحب لأهل المدينة لا يستحب السفر له بل إذا سافر اليها فعله فاذا صار بالمدينة زار أهل الالبقيع وشهداء أحد وزار مسجد قباء وإن كان لم يسافر لأجل ذلك فما لا يستحب لأهل المدينة أولى أن لا يستحب السفر اليه وابن عمر إنما كان يقف عند القبر ويسلم إذا قدم من سفر وقدومه لم يكن لأجل الزيارة بل كانت المدينة وطنه فيدخل المسجد فيصلي فيه ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم
( فصل ) وأما قول المعترض إنه نقل الجواز عن الأئمة المرجوع اليهم في علوم الدين والفتوى المشتهرين بالزهادة والتقوى الذين لا يعتد بخلاف من سواهم ولا يرجع في ذلك لمن عداهم ونقل عدم الجواز إن صح نقله عمن لا يعتمد عليه ولا يعتد بخلافه ولا يعرج عليه بل هو ملحق بصاحب هذه المقالة في الخطأ والطغيان والجراءة على مرتبة النبيين الموجبة للخسران
فيقال أولا قائل هذا هو إلى التعزير والتأديب والأمر بتعلم العلم وأن يقال له تعلم ثم تكلم أحوج منه إلى أن يناظر ويرد عليه فانه لا يعرف قدر العلماء ولا يعرف ما قاله مالك وهو إمام الأمة في زمنه ولا يعرف ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وكلامه يقتضي أن مالكا وأمثاله ممن لا يعتمد عليه ولا يعتد بخلافه وأنه من أهل الخطأ والطغيان وأهل الجرأة على النبيين الموجبة للخسران ومعلوم أن من قال هذا في علماء المسلمين كمالك ونحوه استحق العقوبة البليغة فان هذا قول يلزم منه أن مالكا وأمثاله من الائمة هم من الذين جاهروا بالعداوة للأنبياء وأظهروا لهم العناد وأن فيهم جراءة على مرتبة النبيين توجب
____________________
(1/181)
الخسران ومعلوم أن هذا من أعظم الافتراء عليهم والاجتراء ثم إنه قال فيما اتبعوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاعوا فيه أمره ونهيه ونهوا عما نهي وأمروا بما أمر فصار حقيقته أنه من أطاع الله ورسوله ونهى عما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم كالسفر إلى غير المساجد الثلاثة هو كافر معاند للأنبياء ومعلوم أن من قال مثل هذا فانه يستتاب فان تاب وإلا قتل وإذا لم يعرف أن قوله يتضمن هذا ويستلزمه عرف ذلك ويبين له فان أصر استحق العقوبة ولو عرف أن هذا يلزم قوله لكان كافرا مرتدا لكنه جاهل لم يعرف أن هذا يلزم قوله فانه لم يعرف مذهب مالك ولا غيره من الأئمة في مسألة النزاع ولا عرف ما فيها من الأدلة الشرعية ولا تدبر ما ذكره المجيب بل تكلم بظنه وهواه وأعرض عن سبيل الهدى الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى }
ثم يقال ثانيا هب أن الذين نقل عنهم الجواز أفضل أهل الأرض فالمجيب ذكر القولين وذكر حجة كل واحد من نصر الجواز سوغ له المجيب ذلك فانه قد قاله جماعة من العلماء لكن هؤلاء المعارضون خرقوا إجماع الطائفتين وقالوا انه يستحب السفر لمجرد زيارة القبور فقالوا انه يستحب السفر الى غير المساجد الثلاثة وعلى ذلك فيجب بالنذر على قول الجمهور الذين يوجبون الوفاء بنذر الطاعة كمن نذر السفر إلى المدينة وبيت المقدس وهو قول مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه فهؤلاء خرقوا إجماع الطائفتين وما كفاهم ذلك حتى ادعوا أن هذا الخرق للاجماع إجماع وحتى سعوا في عقوبة من قال بقول إحدى الطائفتين إما الجواز وإما التحريم بل استحلوا تكفيره والسعي في قتله فهؤلاء من أعظم أهل البدع والضلال كالخوارج والرافض وأمثالهم من الجهال الذين يخالفون السنة وإجماع السلف ويعادون من قال بالسنة وإجماع السلف لشبه باطلة كأحاديث مفتراة وألفاظ مجملة لم يفهموها
ويقال ثالثا المجيب سمى من المجوزين ثلاثة أبو حامد الغزالي من أصحاب الشافعي
____________________
(1/182)
وأبو الحسن بن عبدوس وأبو محمد المقدسي من أصحاب أحمد وسمى من المانعين أبا عبد الله ابن بطة وأبا الوفاء بن عقيل ولكن ليس هذا قولهما فقط بل هو قول مالك صرح بذلك في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره وهؤلاء وهؤلاء ذكروا ذلك على وجه التعميم قال أبو الوفاء ابن عقيل في كتابه المشهور المسمى بالفصول وبكفاية المفتي فصل فان سافر إلى زيارة المقابر كهذه المشاهد المحدثة كمشهد الكوفة وسامرا وطوس والمدائن وأوانا كقبر مصعب بن عمير وطلحة والزبير بالبصرة بينه وبينها مسافة القصر لم يستبح رخصة السفر لأن شد الرحال نحوها منهي عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا والنهي يمنع أن يكون هذا سفرا شرعيا والترخص بما نهي عنه لا يجوز ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد والميزة معتبرة بالشرع قال فان سافر أحد إلى أحد هذه المواضع في تجارة أو زيارة نظرت فان كان قصده التجارة والزيارة تابعة جاز القصر وان كان أكثر قصده الزيارة أو كان قصده لهما متساويا فلا يستبيح ذلك عموما لكن احتج بحجة مالك لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وكذلك أبو محمد الجويني وغيره من أصحاب الشافعي صرحوا بتحريم السفر إلى غير الثلاثة عموما لأجل الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فقولهم كقول مالك يوجب التحريم الى ما سوى الثلاثة من زيارة القبور وغيرها وأما ابن بطة فانه ذكر ذلك في الإبانة الصغرى التي يذكر فيها جل أقوال أهل السنة وما خالفها من البدع البناء على القبور وتجصيصها وشد الرحال الى زيارتها فذكر ذلك أيضا عموما وقوله وشد الرحال الى زيارتها يبين أن هذا الشد داخل عنده في قوله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد كما أن تجصيصها داخل في نهيه صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور وليس
____________________
(1/183)
هؤلاء القائلون بالتحريم بدون أولئك بل هم أجد قدرا وأحق بمنصب الاجتهاد من أولئك فان مالكا إمام عظيم ثم قوله هذا وقد وافقه عليه وأصحابه مع كثرتهم وكثره علمائهم وقوله الذي صرح فيه بالنهي عن الوفاء بالنذر لمن نذر إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم ذكره القاضي اسماعيل بن اسحاق مقررا له وهو أولى بمنصب الاجتهاد من أولئك وهو أعلم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين ممن خالفه من أصحاب الشافعي وأحمد فان المخالفين فيها مثل أبي المعالي والغزالي ونحوهما وهؤلاء ليس فيهم عند أصحاب الشافعي من له وجه في مذهب الشافعي فضلا عن أن يكون مجتهدا بخلاف أبي محمد الجويني والد أبي المعالي فانه صاحب وجه في مذهب الشافعي وكان يقال لو جاز أن يبعث الله نبيا في زمنه لبعثه في علمه ودينه وحسن طريقته وابنه أبو المعالي إنما تخرج به وهو معظم لوالده غاية التعظيم ولكن قول أبي المعالي مأثور عن الشيخ أبي حامد وأبي علي ابن أبي هريرة وهما من أصحاب الوجوه ولهذا كان في المسألة وجهان وقد وافق فيها ابن عبد البر وطائفة ولكن مالك وجمهور أصحابه مع من وافقهم من السلف والأئمة أجل قدرا من المخالفين لهم وقد تقدم أن مالكا وأصحابه ينهون عن الوفاء بنذره ذلك وأنه من نذر إتيان المدينة أو بيت المقدس لغير الصلاة في المسجد لم يجز له الوفاء بنذره لأن السفر لغير المسجد منهي عنه سواء سافر لزيارة ما هناك من قبور الصالحين أو غير ذلك وابن بطة العكبري من أعلم الناس بالسنة والآثار وأتبعهم لها ومن أزهد الناس وهو معروف بأن دعاءه مستجاب وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه الحسين بن علي الجوهري أخو أبي محمد الجوهري الحسن فقال يا رسول الله قد اشتبهت علينا المذاهب فقال عليك بهذا الشيخ يعني ابن بطة فانحذر إلى عكبرا فلما رآه أبو عبد الله تبسم وقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه بالسنة وزهده ودينه غاية وأبو الوفاء بن عقيل مبرز في زمانه تعظمه الطوائف كلها لبراعته وفطنته وفهمه وهو أعلم بالفقه والكلام والحديث ومعاني القرآن من أبي حامد وهو في الدين من أحسن الناس دينا ولكن أبو حامد دخل في اشياء من الفلسفة هي عند ابن عقيل زندقة وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات
____________________
(1/184)
الفلاسفة وابن عقيل يزن كلام الصوفية بالأدلة الشرعية أكثر مما يزنه أبو حامد ففي الجملة من عرف أقدار العلماء تبين له ان القائلين بالتحريم للسفر إلى غير المساجد الثلاثة القبور وغيرها هم أجل قدرا عند الأمة من القائلين بالجواز
والذين سماهم المجيب سمى من حضره قوله وقت الجواب من هؤلاء وهؤلاء ولم يتعرض لتفضيل أحد الصنفين بل ذكر حجة هؤلاء وهؤلاء على عادة العلماء فان الأحكام الشرعية تقوم عليها أدلة شرعية فيمكن معرفة الحق فيها بالعلم والعدل وأما تفضيل الأشخاص بعضهم على بعض ففي كثير من المواضع لا يسلم صاحبه عن قول بلا علم واتباع لهواه فللشيطان فيه مجال رحب والمجيب لم يتعرض لذلك ولو قدر أن المنازع واحد فالاعتبار في مواد النزاع بالحجة كما قال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }
وقول هذا المعترض إنه نقل الجواز عن الأئمة المرجوع اليهم في علوم الدين والفتوى المشتهرين بالزهادة والتقوى الذين لا يعتد بخلاف من سواهم ولا يرجع في ذلك لمن عداهم كلام باطل صدر عن متكلم بلا علم توغل في الجهل فليس في الأمة من هو بهذه الصفة بل هذا من خصائص الرسول فهو الذي لا يعتد بخلاف من سواه وكل من سوى الرسول يؤخذ من قوله ويترك كما نقل ذلك عن مالك قال كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر ولو قيل مثل هذا في الأئمة المجتهدين كالأربعة كان منكرا من القول وزورا فلو قال قائل الأئمة الأربعة لا يعتد بخلاف من سواهم فاذا خالفهم الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد ونحوهم أو خالفهم سعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح أو خالفهم ابن عمر أو ابن عباس أو أبو هريرة وعائشة ونحوهم لم يعتد بخلافهم لكان هذا منكرا من القول وزورا فكيف يقال في بعض المتأخرين من اصحاب الشافعي وأحمد وهم قد خالفوا شيوخهم إن هؤلاء لا يعتد بخلاف من سواهم ولا يرجع في ذلك لمن عداهم
____________________
(1/185)
( فصل ) قال المعترض ثم يلزم من دعواه أن ذلك مجمع على تحريمه أن تكون السادة الصحابة من التابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين للاجماع خارقين مصرين على تقرير الحرام مرتكبين بأنفسهم وفتاويهم مالا يجوز مجمعين على الضلالة سالكين طريق العمائة والجهالة فيقال هذا من نمط ما قبله وفيه من القول المنكر والزور مالا يحيط بتفصيله إلا رب العالمين وذلك أن الجواب ليس فيه إلا الإجماع على أن السفر الى غير المساجد الثلاثة كزيارة القبور ليس مستحبا ولا قربة ولا طاعة ولم ينقل خلاف هذا عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين أن السفر لمجرد زيارة القبور مستحب هذا لا يمكن لأحد أن ينقله عن أحد من السلف والأئمة الأربعة ولا غيرهم بل ولا كان على عهد الصحابة رضي الله عنهم في ديار الاسلام قبر ولا مشهد ولا أثر يسافر اليه ولم يكن أحد على عهد الصحابة والتابعين يسافر الى قبر الخليل ولا كان ظاهرا بل كان في المغارة التي بني عليها البناء الذي يمنعه وقيل إن سليمان عليه السلام بناه كما بنيت الحجرة على قبر نبينا صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة والتابعون يسافرون الى بيت المقدس ولم يكونوا يسافرون الى قبر الخليل وقبر يوسف نفسه إنما ظهر في خلافة المقتدر أظهره بعض العجائز المتصلة بدار الخلافة ولا كان لتلك البنية باب حتى استولى الكفار الفرنج على البلاد فهم نقبوا نقبا ودخلوا فيه وصار ذلك مثل الباب ثم لما فتح المسلمون البلاد لم يسد ذلك النقب فالسنة أن يسد ولا يدخل أحد الى هناك لا لصلاة ولا غيرها كما كان عليه الأمر على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصحابة والتابعين فمتى أقر الصحابة والتابعون أحدا على شد الرحال الى غير المساجد الثلاثة القبور أو غيرها وبصرة بما رأى أبا هريرة قادما من الطور الذي كلم الله عليه موسى قال لو أدركتك قبل أن تذهب اليه لم تذهب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ووافقه أبو هريرة على ذلك هكذا رواه أهل السنن والموطأ وفي الصحيحين أن أبا هريرة رضي الله عنه روى هذا الحديث فاما أن يكون أبو هريرة قد نسي الحديث أو يقال لم يكن سمعه وهو ضعيف أو يكون ما في الصحيحين هو الصواب
____________________
(1/186)
دون قصة بصرة بن أبي بصرة نعم الذي أقر عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين هو السفر الى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مستحب مشروع بالنص والاجماع والانسان إذا مسجده فصلى في مسجده ما يشرع له من الصاة والصلاة على الرسول والتسليم والثناء عليه ونشر فضائله ومناقبه وسننه وما يوجب محبته وتعظيمه والايمان به وطاعته فهذا كله مشروع مستحب في مسجده هذا هو المقصود من الزيارة الشرعية والسفر الى مسجده للصلاة فيه وما يتبع ذلك مستحب بالنص والاجماع ولكن كلام المعترض يشعر بأن المجيب ينهى عن السفر الى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارته الزيارة الشرعية وأنه حكى في ذلك قوليه وبهذا يشنع بعض الناس ممن له غرض فاسد أو جهل بما يقال أو جمع الأمرين وهذا باطل وكلام المجيب في أجوبته الكثيرة ومصنفاته كلها بين أن السفر الى مسجده وزيارته الزيارة الشرعية مستحب باتفاق المسلمين لم ينه عنه أحد وهذا الذي اتفق عليه المسلمون وإن تنازعوا في بعض تفصيل الزيارة الشرعية فثم أمور يستحبها بعضهم وينهى عنها بعضهم قد ذكرت في مواضع فمواضع النزاع لا يصح فيها دعوى الاجماع ومحل النزاع ولم يذكر في الجواب فيه نزاع فان كان هذا المعترض ظن أنه حكى الاجماع على تحريم السفر الى مسجده وزيارته الشرعية فهذا خطأ منه ليس في الجواب شيء من هذا بل فيه تقرير السفر الى مسجده والزيارة الشرعية فانه جعل عمدة المتنازعين قوله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الاقصى ومسجدي هذا وقد ذكر المجيب أن هذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحته والعمل به فلو نذر الرجل أن يصلي بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه ويسافر اليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة الأربعة ولو نذر أن يسافر ويأتي الى المسجد الحرام بحج أو عمرة وجب ذلك باتفاق العلماء ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا الندر عند مالك
____________________
(1/187)
والشافعي في أحد قوليه وأحمد ولم يجب عليه عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده الوفاء بالنذر إلا فيما كان من جنسه واجب بالشرع وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه والسفر الى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به وأما السفر إلى غير المساجد الثلاثة فلم يوجبه أحد من العلماء هكذا في الجواب والشافعي رحمه الله في القول الذي لا يوجب فيه السفر الى المسجدين يستحبه بخلاف ما سوى المساجد الثلاثة فإنه لا يوجبه ولا يستحبه وهذا معروف من كلامه وكلام أصحابه الذين شرحوا كلامه مثل تعليقه الشيخ أبي حامد وغيرها وقد نقل عن الليث كلام قد بسط الكلام عليه في مواضع أخرى فهذا في نفس الجواب أن السفر إلى المساجد الثلاثة باتفاق العلماء كما دل عليه الحديث الصحيح الذي اتفقوا على صحته ولكن تنازعوا في وجوب ذلك بالنذر مع أن الذين قالوا لا يجب السفر الى المسجدين قالوا إنه يستحب بخلاف ما سوى المساجد الثلاثة فلا يجب ولا يستحب عند أحد منهم بل صرح بالتحريم من صرح منهم كمالك وغيره وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد قال الشافعي ف مختصر المزني ولو قال الله علي أن أمشي لم يكن عليه شيء حتى يكون برا فأن لم يكن برا فلا شيء عليه لأنه ليس في المشي إلى غير مواضع التبرر بر وذلك مثل المسجد الحرام قال وأحب لو نذر الى مسجد المدينة أو إلى بيت المقدس أن يمشي قال الشيخ أبو حامد الاسفرائيني إذا نذر مشيا فلا يخلو إما أن يعين الموضع الذي يمشي إليه أو لا يعين فإن لم يعين الموضع فإن هذا النذر لا ينعقد لأن المشي في نفسه ليس بقربة وإنما يلزمه إذا نذر المشي إلى قربة كالحج والعمرة والجهاد وإن عين الموضع الذي يمشي اليه فلا يخلو إما أن يقول لله علي أن أمشي إلى بيت الله الحرام أو إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى المسجد الأقصى أو إلى أحد المساجد قال الشافعي كمسجد مصر أو إفريقية فإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام انعقد نذره وإن نذر المشي إلى
____________________
(1/188)
مسجد الرسول أو إلى المسجد الأقصى فالذي في الأم أنه لا يلزمه لأنه قال وأحب لو نذر المشي إلى مسجد المدينة وقال في البويطي يلزمه المشي إليه وهو قول مالك وعلل أبو حامد القولين وقال في توجيه منع اللزوم فيحمل على أنه أراد لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد واجبا ويحتمل لا تشد مستحبا لكنه وجوبا أو استحبابا فتبين أنه لا يستحب السفر إلى غير المواضع الثلاثة قال وأما إذا نذر أن يمشي إلى مسجد من المساجد سوى الثلاثة مثل مسجد مصر وإفريقية فإن هذا لا يلزمه وإن نذر أن يصلي في مسجد منها معين لزمه الصلاة ولا يتعين الموضع وله أن يصلي في أي مسجد شاء لأن المشي في نفسه ليس بقربة وإنما يلزمه إذا نذر المشي إلى ما هو قربة ومعلوم أنه ليس لغير هذه الثلاثة مزية بعضها على بعض في القربة فلم يتعين المشي إليه أو الصلاة فيه بالنذر فإذا كان هذا في الفتيا فكيف يجوز أن يظن أن فيها النهي عما فعله الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من السفر إلى مسجده وقد صرح فيها بأن ذلك طاعة مشروعة بالنص والإجماع وأما زيارته ففي نفس الجواب
وما ذكره السائل من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا اللفظ مشروعا عندهم أو معروفا أو مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك أي عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابا بكر السلام عليك يا ابت ثم ينصرف
____________________
(1/189)
فهذا قد ذكر في الجواب أن الأحاديث المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة لم تعتمد الأئمة على شيء منها بل مالك كره أن يقال زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أحمد وغيره كأبي داود وعبد الملك بن حبيب اعتمدوا في زيارة قبره على قوله صلى الله عليه وسلم ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ومالك وأحمد وغيرهما احتجوا بحديث ابن عمر أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكان عند الائمة كمالك وأحمد من المأثور في ذلك السلام عليه وهذا هو الذي يسمى زيارة قبره فاحمد وأبو داود وغيرهما يسمون السلام عليه زيارة لقبره صلى الله عليه وسلم وكذلك ترجم أبو داود عليه باب ما جاء في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأما مالك فإنه يستحب هذا السلام ولا يسميه زيارة لقبره ومالك قد تقدم كلامه وأنه في مواضع لم يستحب سوى السلام كما جاء عن ابن عمر وقد ذكر في الجواب
وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر وأما وقوف المسلم عليه فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة أيضا ولا يستقبل القبر وقال أكثر الأئمة بل يستقبل القبر عند السلام عليه خاصة ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء يعني لنفسه كما يفعله المستغيثون بالميت ولم يقل أحد من الائمة إنه يستقبل القبر في هذه الحال إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك ومذهبه بخلافها واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم بيده ولا يقبله
فقد ذكر ما ذكره العلماء في زيارته والسلام عليه وأين يسلم عليه وأين يدعو وهذا كله إنما يكون في المسجد وقد تقدم أن السفر إلى المسجد مستحب مشروع بالنص والإجماع فهذا الذي أجمع عليه المسلمون ذكر في الجواب أنه مستحب وهذا الذي يزعم أن في الجواب ما يقتضي إجماع الصحابة والأئمة على تقرير الحرام قول باطل ظاهر البطلان
____________________
(1/190)
بل في الجواب ذكر ما أجمع عليه وما نوزع فيه والمجمع عليه من الزيارة والسفر ذكره وذكر أنه ثابت بالنص والاجماع
( فصل ) قال المعترض لكن كم لصاحب هذه المقالة من مسائل خرق فيها الإجماع وفتاوى أباح فيها ما حرم الله من الأبضاع وتعرض لتنقيص الأنبياء وحط من مقادير الصحابة والأولياء فلقد تجرأ بما ادعاه وقاله على تنقيص الأنبياء لا محالة فتعين مجاهدته والقيام عيله والقصد بسيف الشريعة المحمدية اليه وإقامة ما يجب بسبب مقالته نصرة للأنبياء والمرسلين ليكون عبرة للمعتبرين وليرتدع به أمثاله من المتمردين والحمد لله رب العالمين آخر كلامه
والكلام على هذا من وجوه ( أحدها ) أن هذا ليس كلاما في المسألة العلمية التي وقع فيها النزاع ولا عينت مسألة أخرى حتى يتكلم فيها بما قاله العلماء ودل عليه الكتاب والسنة وإنما هي دعاوى مجردة على شخص معين ومعلوم أن مثل هذا غير مقبول بالإجماع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه
( الوجه الثاني ) أن يقال ثم من المعلوم أنه ما من أهل ضلالة إلا وهم يدعون على أهل الحق من جنس هذه الدعوى فاليهود يدعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته أباحوا ما حرمه الله كالعمل في السبت ومثل أكل كل ذي ظفر كالإبل والبط والاوز وكشحم الترائب والكليتين وغير ذلك والنصارى تقول إنهم تنقصوا المسيح والحواريين فإن الحواريين عندهم هم رسل الله وقد يفضلونهم على إبراهيم وموسى ويقولون هو ابن الله ومن قال إنه عبد الله فقد سبه وتنقصه عندهم والطائفتان يحرمون التسري والنصارى يحرمون الطلاق واليهود إذا تزوجت المطلقة حرمت على المطلق أبدا والنصارى قد يحرمون التزوج ببنات العم والعمة والخال والخالة ويحرمون أن يتزوج الرجل أكثر من واحدة فمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته عند الطائفتين قد اباحوا ما حرمه الله من الأبضاع على زعمهم فإذا كان مثل هذا الكلام قد يقوله أهل الباطل من الكفار لأهل الإيمان
____________________
(1/191)
كما قد يقوله أهل الحق بمجرد دعواه لا يقبل بل على المدعي أن يبين أن ما ادعاه مما يقوله أهل الحق في أهل الباطل دون العكس
( الوجه الثالث ) أن المتنازعين في الائمة قد يقول أهل البدع منهم والأهواء مثل هذا في أئمة السنة والجماعة كما يقول الرافضة إن الصحابة خالفوا نص الرسول صلى الله عليه وسلم بالخلافة على علي وبدلوه وكتموه وذلك أعظم من مخالفة الاجماع ويقولون إن جمهور المسلمين أباحوا نكاح الكتابيات وهو عندهم مما حرمه الله من الأبضاع ويقولون إن الصحابة وجمهور الأمة حطوا من مقادير أولياء الله علي وأئمة أهل بيته وهم الخلفاء الراشدون وهم عندهم معصومون وهم غلاة في عصمتهم وقالوا إنه لا يجوز عليهم السهو والغلط بحال وغلوا في عصمة الأنبياء ليكون ذلك تمهيدا لما يدعونه من عصمة الأئمة أولياء الله إذ هم عند طائفة منهم أفضل من الأنبياء وجمهورهم يقولون الناس أحوج اليهم منهم إلى الأنبياء وأنهم قد يستغنون عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستغنون عن الإمام المعصوم وذلك واجب عندهم في كل زمان وقالوا إنه من حين صغره يكون معصوما حتى قالوا لأجل ذلك إن الني يجب أيضا أن يكون قبل النبوة معصوما من الغلط والسهو في كل شيء وزعم بعضهم أنه لا بد أن يكون النبي والإمام عارفا بلغة كل من بعث اليهم على اختلاف لغاتهم وكثرتها ولا بد ايضا أن يكون عالما بالصنائع والمتاجر وسائر الحرف ليكون مستغنيا بعلمه عن الرجوع إلى أحد من رعيته في دين أو دنيا وذلك يوجب رجوع المعصوم إلى غير المعصوم وإلى من يجوز عليه الخطأ أو الغلط ولأن رجوعه اليهم يقتضي نقصه عندهم وحاجته وعندهم أن من نفى هذا عن الأئمة والأنبياء فقد تعرض لتنقيص الأنبياء وحط من مقادير الائمة والأولياء وعندهم أن من قال ذلك فقد تجرأ بما ادعاه وقاله على تنقيص الانبياء لا محالة فتعين عندهم مجاهدته والقيام عليه والقصد بسيف الشريعة المحمدية إليه وإقامة ما يجب بسبب مقالته نصرة للأنبياء والمرسلين ولاولياء الله أئمة الدين وبهذا ونحوه استحل أهل البدع تكفير جمهور المسلمين وقتالهم واستحلوا دماءهم وأموالهم وسبي
____________________
(1/192)
عيالهم واستعانوا بالكفار من النصارى والمشركين الترك والتتار حتى فعلوا بديار الإسلام ما فعلوه بالعراق وخراسان والجزيرة والشام وغير ذلك وكذلك فعلوا بمصر والمغرب في دولة العبيديين وإذا كان مثل هذا القول يقوله أهل البدع والضلال بل أهل الردة والنفاق كما يقوله الكفار في أهل الإيمان قد يقوله المحق فيمن يستحقه وأكثر من عرف أنه يقوله في أهل العلم هم أهل البدع والنفاق والكفار ولا ريب أن قول هذا المبتدع الجاهل هو بهم أشبه إذ هو من أهل البدع الجهال ليس هو ممن يعرف النظر والاستدلال
( الوجه الرابع ) أن يقال علماء المسلمين وأئمة الدين ما زالوا يتنازعون في بعض المسائل فيبيح هذا من الفروج ما يحرمه هذا كما يبيح كثير نكاح أم المزني بها وابنتها ولا يرون الزنا ينشر حرمة المصاهرة وهو قول الشافعي وغيره وآخرون يحرمون ذلك وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وتنازعوا في الخلية والبرية والبائن والبتة ونحو ذلك من كنايات الطلاق الظاهرة فقوم يقولون هي واحدة رجعية كما قاله عمر بن الخطاب وغيره وهو قول الشافعي وغيره وقوم يقولون هي ثلاث كما نقل عن علي وهو مذهب مالك وغيره وقوم يقولون واحدة بائنة كما نقل عن ابن مسعود وهو مذهب أحمد وأحمد كان يتوقف في ذلك وترجح عنده الثلاث ويكره أن يفتى به وإن نوى واحدة فهي رجعية عنده ولو نوى بائنة لم تكن إلا رجعية كقول الشافعي وروى عنه أنها تكون بائنة كقول أبي حنيفة وكما تنازعوا فيما إذا خلعها بعد طلقتين فأباحها ابن عباس وطاوس
____________________
(1/193)
وعكرمة وغيرهم وقالوا الخلع ليس بطلاق واستدلوا بالكتاب والسنة وهو أحد قولي الشافعي وظاهر مذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم من فقهاء الحديث وقيل بل هي طلقة واحدة كما نقل عن عثمان وغيره من الصحابة لكن ضعف أحمد وابن خزيمة وغيرهما كل ما نقل عن الصحابة إلا قول ابن عباس وهو قول كثير من التابعين وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي في القول الآخر وتنازعوا فيما سوى ذلك وهم كلهم مجتهدون مصيبون بمعنى أنهم مطيعون لله وأما بمعنى العلم بحكمه في نفس الأمر فالمصيب واحد وله أجران والآخر له أجر وخطأه مغفور له لا يطلق القول على أحدهم إنه أحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله بمعنى الاستحلال والتعمد وإذا أريد أن ذلك وقع على وجه التأويل فعامة العلماء وقعوا في مثل هذا والله يأجرهم ولا يؤاخذهم على خطأهم
( الوجه الخامس ) أن يقال قول القائل فيما يتكلم فيه العلماء بالأدلة الشرعية مثل ما إذا قيل إنه لا يجوز الحلف بالأنبياء ولا النذر لهم ولا السجود لقبورهم ولا الحج اليها ولا اتخاذ قبورهم مساجد ونحو ذلك أو قيل إنه لا تجب الصلاة على النبي في الصلاة كما قاله وأكثر العلماء أو قيل إنه يكره الصلاة عليه عند الذبح أو لا يستحب كما هو قول مالك وأحمد وقيل يستحب وهو قول الشافعي فاذا قال قائل في مثل هذه المسائل إن هذا تنقيص للأنبياء فان أراد بذلك أن قائل هذا القول قصد التنقيص لهم والعيب لهم والطعن عليهم والشتم فقد كذب وافترى كذبا ظاهرا وإن قال إنه نقصهم عما يستحقونه عند الله فهذا محل النزاع فصاحب القول الآخر يقول بل أخطأ فيما يستحقونه ولم يقل ما ينقص درجتهم التي يستحقونها وإن قدر أنه أخطأ في اجتهاده فلا إثم عليه في ذلك فكيف إذا كان هو المصيب للصواب المتبع للكتاب والسنة ولما كان عليه التابعون من الأصحاب
( الوجه السادس ) أنه إنما يقبل قول من يدعي أن غيره يخالف الإجماع إذا كان ممن
____________________
(1/194)
يعرف الإجماع والنزاع وهذا يحتاج إلى علم عظيم يظهر به ذلك لا يكون مثل هذا المعترض الذي لا يعرف نفس المذهب الذي انتسب اليه ولا ما قال أصحابه في مثل هذه المسألة االتي قد افتري فيها وصنف فيها فكيف يعرف مثل هذا أجماع علماء المسلمين مع قصوره وتقصيره في النقل والاستدلال
( الوجه السابع ) أن لفظ كم يقتضي التكثير وهذا يوجب كثرة المسائل التي خرق المجيب فيها الإجماع والذين هم أعلم من هذا المعترض وأكثر اطلاعا اجتهدوا في ذلك غاية الاجتهاد فلم يظفروا بمسألة واحدة خرق فيها الاجماع بل غايتهم أن يظنوا في المسألة أنه خرق فيها الإجماع كما ظنه بعضهم في مسألة الحلف بالطلاق وكان فيها من النزاع نقلا ومن الاستدلال فقها وحديثا ما لم يطلع عليه
( الوجه الثامن ) أن المجيب ولله الحمد لم يقل قط في مسالة إلا بقول سبقه اليه العلماء فان كان قد يخطر له ويتوجه له فلا يقوله وينصره إلا إذا عرف أنه قد قاله بعض العلماء كما قال الإمام أحمد إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام فمن كان يسلك هذا المسلك كيف يقول قولا يخرق به إجماع المسلمين وهو لا يقول إلا ما سبقه اليه علماء المسلمين فهل يتصور أن يكون الإجماع واقعا في موارد النزاع ولكن من لم يعرف اقوال العلماء قد يظن الإجماع من عدم علمه النزاع وهو مخطئ في هذا الظن لا مصيب ومن علم حجة على من لم يعلم والمثبت مقدم على النافي
( الوجه التاسع ) أن دعوى الإجماع من علم الخاصة الذي لا يمكن الجزم فيه بأقوال العلماء إنما معناها عدم العلم بالمنازع ليس معناه الجزم بنفي المنازع فان ذلك قول بلا علم ولهذا رد الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما على من ادعاها بهذا المعنى وبسط الشافعي في ذلك القول وأحمد كان يقول هذا كثيرا ويقول من ادعى الإجماع فقد كذب وما يدريه أن الناس لم يختلفوا ولكن يقول لا أعلم مخالفا وأبو ثور قال إن الذي يذكر من الإجماع معناه أنا لا نعلم منازعا ثم يعرف من ادعى الإجماع في هذه
____________________
(1/195)
الأمور إلا وقد وجد في بعض ما نذكره من الإجماعات نزاعا لم يطلع عليه كما قد بسط الكلام على هذا في مواضع فاذا كان هذا في ادعاء العلماء الأكابر فكيف بما يدعيه هذا المعترض من الإجماع وهو من جنس ادعائه الإجماع في هذه المسألة المتنازع فيها وهو السفر إلى غير المساجد الثلاثة فجعل السفر لمجرد زيارة القبور أمرا مجمعا عليه وأن من قال بخلاف ذلك فهو تنقص الأنبياء وجاهرهم بالعداوة والإجماع من علماء المسلمين إنما هو على خلاف ما ظنه هو وأمثاله ممن يتحكمون في الدين بلا علم فانهم مجمعون على أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد متناول لشد الرحال لزيارة القبور ثم تنازعوا هل موجب الحديث النهي والتحريم أو موجبه نفي الفضيلة والاستحباب فمن قال إنه يستحب شد الرحال إلى غير الثلاثة كزيارة القبور فهذا هو الذي خالف الإجماع بلا ريب مع مخالفته للرسول صلى الله عليه وسلم فهو ممن خالف الرسول والمؤمنين واتبع غير سبيلهم لكن إذا لم يكن قد تبين له الهدى وعرف ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لم يكفر فان الله إنما ألحق الوعيد بمن شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فقد توعده بأنه يوليه ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا ومن قال إن السفر إلى غير الثلاثة كزيارة القبور مستحب فقد خالف الرسول صلى الله عليه وسلم وخالف علماء أمته واما السفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم فهو سفر إلى أحد المساجد الثلاثة ليس مما نهى عنه وإذا فعل في مسجده ما شرع من الزيارة الشرعية وصلى عليه وسلم كما أمر الله وعلم فهو محسن في هذه الزيارة كما كان محسنا في شد الرحل إلى مسجده وهذا هو الذي أجمع عليه المسلمون أيضا كما أجمعوا أنه لا تشد الرحال لمجرد زيارة القبور فذاك الإجماع على شدها إلى مسجده وزيارته الشرعية حق وهذا الإجماع على أنه لا يستحب شد الرحال إلى غير الثلاثة حق وكلا الاجماعين معه نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم والعالم من اتبع هذا وهذا وليس هو من ترك النص والإجماع من أحد الجانبين وتمسك في الجانب الآخر بألفاظ مجملة يظن الإجماع على ما فهمه منها ولم تجمع الأمة على ما فهمه بل ما فهمه قد يكون مجمعا على تحريمه كمن يفهم من الزيارة الحج اليهم ودعاءهم من دون الله فهذا
____________________
(1/196)
مجمع على تحريمه فمن يفهم من الزيارة الحج اليهم ودعاءهم من دون الله فهذا مجمع على تحريمه والله أعلم
( الوجه العاشر ) أن النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة كزيارة القبور إنما يكون تنقصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لو كانت زيارة القبور المشروعة هي من باب تعظيم الزائر للمزور والخضوع له وأنه إنما شرع زيارة قبره لعظم قدره وجاهه عند الله وعلو مرتبته عنده فإن قيل إنه لا يزار قبره أو لا يسافر إلى زيارة قبره كان ذلك غضا ونقصا لمنزلته المذكورة وليس الأمر في دين الإسلام كذلك بل زيارة القبور التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنا فيها وفعلا لها أو ترغيبا فيها إنما المقصود بها نفع الزائر للمزور وإحسانه اليه بدعائه له واستغفاره له إن كان مؤمنا وان كان كافرا فالمقصود خضوع الزائر للمزور لعلو جاهه وقدره وبهذا يظهر الفرقان بين الزيارة الشرعية المباحة والمستحبة وبين الزيارة البدعية المكروهة والمنهي عنها وإذا كان كذلك فمعلوم أن الأنبياء والصالحين إذا كانت زيارة قبورهم إنما هي للدعاء لهم كما يصلى على جنائزهم كزيارة سائر قبور المؤمنين وليست خضوعا من الزائر لهم لعلو جاههم وعظم قدرهم لم يكن في ترك هذه الزيارة تنقص بهم ولا غض من قدرهم فترك الإنسان زيارته لكثير من قبور المسلمين لا يكون تنقصا لهم ولو كان ترك زيارتهم تنقصا لكان فعلها واجبا وكذلك إذا نهي عن السفر اليها كما نهى عن السفر لزيارة سائر القبور فلا يخطر ببال أحد أن ذلك تنقص بهم فأن لا يكون ذلك تنقصا بالأنبياء أولى وأحرى وإنما ظن النهي أو الترك تنقصا من ظن أن الزيارة خضوع لهم لجاههم وعظم قدرهم كالإيمان بهم وطاعتهم وتصديقهم فيما أخبروا به عن الله ولا ريب أن من قال لا يجب الإيمان بهم أو لا تجب طاعتهم وتصديقهم أو طعن في شيء مما أخبروا به عن الله أو أمروا به فقد تنقصهم وهو كافر مرتد إن ظهر ذلك ومنافق زنديق إن أبطنه وهذا الموضع منشأ الاشتباه على كثير من الناس فلفظ زيارة القبور في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وما فعله هو من الزيارة لم يكن شيء منها خضوعا للميت ولا تعظيما لجاهه
____________________
(1/197)
وقدره بل كان ذلك دعاء له كما يدعى له إذا صلي على جنازته وإذا كان الذي يصلي على جنازته ويزار قبره أعظم قدرا كان الدعاء له أعظم لكن فرق بين أن يقصد دعاء الله له ليرحمه ويزيده من فضله وبين أن يقصد دعاءه وسؤاله والاستشفاع به لجاهه وقدره عند الله فالزيارة المشروعة من الجنس الأول من جنس الصلاة على اجنازة لا من جنس الثاني كرغبة الخلق يوم القيامة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع لهم وكرغبة أصحابه اليه في حياته أن يدعو لهم ويستسقي لهم فهذا الطلب منه كان لعلو جاهه وعظم منزلته عند الله ولهذا يأتون يوم القيامة إلى أولي العزم فيردهم هذا الى هذا حتى يردهم المسيح اليه وفي حياته كانوا يطلبون منه الدعاء ويتوجهون الى الله ويتوسلون اليه بدعائه وشفاعته لجاهه عند الله ولما مات استسقوا بالعباس عمه وقال عمر اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل اليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون رواه البخاري في صحيحه ومعنى قول كنا نتوسل إليك بنبينا أي بدعائه وشفاعته ولهذا توسلوا بعد موته بدعاء العباس وشفاعته لما تعذر عليهم التوسل به بعد موته كما كانوا يتوسلون به في حياته ولم يرد عمر بقوله كنا نتوسل اليك بنبينا أن نسألك بحرمته أو نقسم عليك به من غير أن يكون هو داعيا شافعا لنا كما يفعله بعض الناس بعد موته فان هذا لم يكونوا في حياته إنما كانوا يتوسلون بدعائه ولو كانوا يفعلونه في حياته لكان ذلك ممكنا بعد موته كما كان في حياته ولم يكونوا يحتاجون أن يتوسلوا بالعباس وكثير من الناس يغلط في معنى قول عمر وإذا تدبره عرف الفرق ولو كان التوسل به بعد موته ممكنا كالتوسل به في حياته لما عدلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس وكذلك معاوية لما استسقى توسل بدعاء يزيد بن الاسود الجرشي وكذلك نقل عن الضحاك بن قيس فمن فهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور وفرق بين الشرعية والبدعية تبين له الحق من الباطل ونبينا صلى الله عليه وسلم أمر الله بالصلاة والسلام عليه وأمر عند سماع الأذان أن تطلب الوسيلة له فهذا حق له على الأمة وهو مشروع مأمور به في كل مكان لا يختص به في مكان عند قبره فلم يبق في زيارة قبره أمر يختص به ذلك المكان بخلاف غيره
____________________
(1/198)
وأيضا فنهى عن اتخاذ بيته عيدا وقال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني وكذلك السلام قال إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام فصلاة الأمة وسلامها يصل إليه من جميع الأمكنة وقد نهى عن اتخاذ بيته عيدا لئلا يتخذ قبره وثنا ومسجدا بخلاف قبور سائر المؤمنين فانه إذا دعى لأحدهم عند قبره لم يفض ذلك إلى أن يتخذ وثنا ومسجدا إلا إذا اتخذ مسجدا فلهذا نهي عن اتخذا القبور قبور الأنبياء والصالحين مساجد فتبين أن الذي يجعل ما أمر الله به ورسوله تنقيصا إنما هو لجهله وشركه وضلاله ونقص علمه وإيمانه بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المنقص للرسول الطاعن عليه الذام لما جاء به الآمر بما نهى عنه الناهي عما أمر به المبدل لشريعته وهو أحق بالكفر والقتل فانه إن كان المخطئ المخالف للرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة كافرا يجب قتله فلا ريب أنه المخالف فيكون كافرا مباح الدم وإن كان المخطئ معذورا لأنه لم يقصد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم انما خفيت عليه سنته واشتبه عليه الحق لم يكفر ولم يقتل واحد منهما لكن المخالف له أقرب الى الكفر وحل الدم فأما أن يكون الموافق له المتبع لسنته الآمر بما أمر به الناهي عما نهى عنه كافرا مباح الدم والمخالف له المبدل لدينه الطاعن في شريعته المعادي لسنته المعادي لأوليائه المبلغين لسنته معصوم الدم فهذا تبديل للدين وقلب لحقائق الايمان وهو فعل أهل الجهل والطغيان كالنصارى وعباد الأوثان
( الوجه الحادي عشر ) أن يقال الذين يأمرون بالحج الى القبور ودعاء الموتى والاستغاثة بهم والتضرع لهم ويجعلون السفر الى قبورهم كالسفر إلى المساجد الثلاثة أو أفضل منه هم مشركون من جنس عباد الأوثان قد جعلوا القبور أوثانا وهذا هو الذي دعا الرسول ربه فيه فقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فقبره لا يمكن أحدا أن يصل اليه حتى يتخذه وثنا وإنما يصل الى مسجده لكن يقصد المسافر اليه أن يتخذه وثنا كقبر غيره أو يظن ذلك ولكن لا يمكنه ذلك بخلاف قبور غيره فان فيها ما اتخذ أوثانا وقد ثبت بل استفاض
____________________
(1/199)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الذين يتخذون قبور الأنبياء مساجد ونهى أمته عن ذلك فاذا كان من اتخذها مسجدا يصلي فيه لله تعالى ويدعو الله ملعونا فالذي يقصدها ليدعو فيها غير الله ويتضرع فيها لغير الله ويخضع ويخضع فيها لغير الله أحق باللعنة وإنما لعن الأول لأن فعله ذريعة الى هذا الشرك الصريح ومعلوم أن المسافرين لقبور الأنبياء والصالحين يفعلون هذا وأمثاله ويسافرون لذلك فمن أمر بذلك واستحبه كان آمرا بالشرك بالله واتخاذ أنداد من دونه آمرا بما حرم الله ورسوله ولعن فاعله والشرك أعظم الذنوب كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني بحليلة جارك وأنزل الله تصديق ذلك { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } الآية وقال تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ومعلوم أن الأنبياء إنما وجب تعظيمهم لأنهم صفوة عباد الله ولأنهم أمروا بتوحيده وعبادته وبلغوا أمره ونهيه قال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } فالغلاة في المخلوقين كالنصارى وغيرهم من أهل البدع صاروا بغلوهم مشركين قال تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال تعالى { لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله } إلى قوله { فسيحشرهم إليه جميعا } ومعلوم أنه إذا فرض ذنبان أحدهما الشرك والغلو في المخلوق والثاني نقص رسول من بعض حقه كمن يعتقد في المسيح أنه صلب مع أنه رسول الله ومعلوم أن
____________________
(1/200)
نجاته ورفعه إلى السماء أعظم قدرا من أن يسلط العدو عليه حتى يصلب فلو نقصه رجل ذلك واعتقد أنه صلب ولم يعلم أن القرآن نفى صلبه كان هذا الخطأ دون خطأ من غلا فيه وأشرك به ولو قال قائل إنه لا تشرع زيارة القبور بحال لا بسفر ولا غير سفر وقال آخر بل يشرع السفر إليهم لدعائهم والتضرع لهم كما يفعله المشركون وأهل البدع لكان هذا الشرك أعظم خطأ وضلالا من ذلك النقص فالشرك عند الله أعظم إثما وصاحبه أعظم عقوبة وأبعد عن المغفرة من المتنقص لهم عن كمال رتبتهم فإنه إذا كان كلاهما كافرا فكفر المشركين أعظم وكل شرك بالله فهو تكذيب للرسل وتنقص بهم وليس كل من كذب بعض ما جاءوا به يكون مشركا كافرا مثل كثير من أهل الكتاب فالشرك أعظم الذنوب وهؤلاء الجهال المضاهون للنصارى غلوا في التخلص من النقص حتى وقعوا في الشرك والغلو وتكذيب الرسول الذي هو أعظم إثما كما أصاب النصارى فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار وكان ما فروا إليه من الشرك والغلو وتكذيب الرسل وتنقصهم أعظم إثما وعقابا مما فروا من مه مما ظنوه تنقصا ولو فروا مما هو نقص لبعض أقدارهم فوقعوا في الشرك كان ما فروا إليه شرا مما فروا منه والدين الحق دين الإسلام عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسله كما يدل عليه قولنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والله سبحانه يجمع بين هذين الاصلين في غير موضع كقوله تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا } الآية فبدأ بالتوحيد ثم قال { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } الآية وفي أول آل عمران قال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ثم قال { نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } فذكر التوحيد أولا ثم ذكر النبوات المتضمنة إنزال الكتاب وفي سورة القصص قال { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول } الى قوله { ماذا أجبتم المرسلين } فذكر مناداتهم لتحقيق التوحيد أولا ثم مناداتهم ماذا أجابوا المرسلين
____________________
(1/201)
وذكر تبري المعبودين من العابدين ثم قال { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } الى قوله { وما كانوا يفترون } فذكر هناك اعتراف المشركين بالتوحيد وهنا اعتراف المعبودين وذكر في سورة يونس نظير ما في البقرة فقرر التوحيد أولا ثم النبوة فقال بعد قوله { ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم } الى قوله { فأنى تصرفون } وذكر أنه ايس معهم إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ثم قال { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } الى قوله { إن كنتم صادقين } فقرر النبوة ثم تحداهم بالمعارضة ليبين عجزهم وعجز جميع الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله وأنه إنما أنزله الله وكذلك سورة هود افتتحها بقوله { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } الى قوله { ثم توبوا إليه } وافتتحها بذكر الكتاب فانه الداعي الى التوحيد فان هذه نزلت بمكة ولم يكونوا مقرين بالتوحيد بخلاف آل عمران فانها من أواخر ما نزل نزلت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر والخطاب مع النصارى وكانوا مقرين بالتوحيد لكن ابتدعوا شركا وغلوا واتبعوا المتشابه من جنس الذين يحجون الى القبور ويتخذونها أوثانا ولهذا لما ذكر آية التحدي في هؤلاء قال { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } الى قوله { مسلمون } وأظهر عجزهم وأن القرآن منزل من الله بالإيمان بالكتاب والرسول وبالتوحيد قال { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو } وقوله بعلمه أي نزل متضمنا لعلمه أخبر فيه بعلمه كما قال { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه } فتبين أن الذي تضمنه هو علم الله لا علم غيره ولو كان كلام غيره لكان مضمونه علم ذلك المتكلم ومن قال أنزله وهو يعلمه فقوله ضعيف فانه يعلم كل شيء وليس كلامه في إثبات علمه ومثل هذا في القرآن مذكور في مواضع وقد قال تعالى { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } قال أبو العالية وهو من قدماء التابعين خلتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين وقال تعالى { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط }
____________________
(1/202)
فجمع في هذه الآية بين الإيمان بما أنزله على أنبيائه وبين عبادته وحده لا شريك له وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر بهذه الآية وبآية في آل عمران قوله { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } الآية وهذه الآية هي التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ملك النصارى في كتابه إليه وآية البقرة قد قال قبلها { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم } الآية وهذا هو التوحيد ثم ذكر في هذه الآية الإيمان بما أنزل على أنبيائه ثم قال { قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم } الآية فأفصح في آخر الآيات الثلاث بإخلاص الدين كله لله مع أن الربوبية شاملة والأعمال مختصة لكل عامل عمله والإخلاص يتناول الإخلاص في عبادته والإخلاص في التوكل عليه وفي المأثور عن أبي الدرداء رواها أبو نعيم في الحلية وغيره أنه كان يقول ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر والإخلاص للتوكل والاستسلام للرب وهذان الأصلان توحيد الرب والإيمان برسله لا بد منهما ولهذا لا يدخل أحد في الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهذا يتضمن الإسلام والإيمان وهو الدين الذي بعث الله به جميع النبيين فكلهم كانوا مسلمين مؤمنين قائمين بهذين الأصلين وقد بسط الكلام على مسمى الإيمان والإسلام في مواضع مثل شرح النصوص الواردة في الإسلام والإيمان في الكتاب والسنة وغير ذلك
والمقصود هنا أن الله أمرنا أن نؤمن بالملائكة والأنبياء وأمر أن لا نتخذهم أربابا ولا نشرك بهم ولا نغلو فيهم ولا نعبد إلا الله وحده قال تعالى { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } الآية فأمرنا أن نؤمن بما أوتي جميع الأنبياء ولهذا كان الإيمان بجميع ما جاءوا به واجبا ومن كفر بنبي معلوم
____________________
(1/203)
النبوة فهو كافر مرتد ومن سب نبيا كان مرتدا مباح الدم باتفاق الأئمة وإنما تنازعوا في قبول توبته وقد بين كفر من يؤمن ببعض ويكفر ببعض فقال تعالى { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } الى قوله { أولئك هم الكافرون حقا } الآية وقال تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } الآية وقال تعالى { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وقال تعالى { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }
ودين الأنبياء واحد وملتهم واحدة وهي الأمة وإنما تنوعت شرائعهم ومناهجهم كما قال تعالى { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }
وقد افترق اليهود والنصارى فاليهود جفوا عنهم فكذبوهم وقتلوهم كما أخبر الله عنهم بقوله { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } والنصارى غلوا فيهم فأشركوا بهم حتى كفروا بالله قال تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } الى قوله { فسيحشرهم إليه جميعا } الآية فبالإيمان بهم وتصديقهم وطاعتهم يخرج المسلم عن مشابهة اليهود وبعبادة الله وحده والاعتراف بأنهم عباد الله لا يجوز اتخاذهم أربابا ولا الشرك بهم والغلو فيهم يخرج عن مشابهة النصارى فان اتخاذهم أربابا كفر قال الله تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } والنصارى يشركون بمن دون المسيح من الأحبار والرهبان قال تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } الآية فمن غلا فيهم واتخذهم أربابا فهو كافر ومن كذب شيئا مما جاءوا به أو سبهم أو عابهم أو عاداهم فهو كافر فلا بد من رعاية هذا الأصل وهذا المعترض وأمثاله التفتوا إلى جانب التعظيم لهم دون جانب التوحيد لله والنهي عن
____________________
(1/204)
الشرك فوقعوا في الغلو والشرك فبقوا مشابهين للنصارى وهذا مخالف لدين الإسلام كما أن من لم يؤمن بهم وبما جاءوا به ومن لم يجعل الطريق الى الله هو اتباعهم وموالاتهم ومعاداة من خالفهم فهو مخالف لدين الإسلام
( الوجه الثاني عشر ) أن يقال لا ريب أن الجهاد والقيام على من خالف الرسل والقصد بسيف الشرع اليهم وإقامة ما يجب بسبب أقوالهم نصرة للأنبياء والمرسلين وليكون عبرة للمعتبرين ليرتدع بذلك أمثاله من المتمردين من أفضل الأعمال التي أمرنا الله أن نتقرب بها إليه وذلك قد يكون فرضا على الكفاية وقد يتعين على من علم أن غيره لا يقوم به والكتاب والسنة مملوءان بالأمر بالجهاد وذكر فضيلته لكن يجب أن يعرف الجهاد الشرعي الذي أمر الله به ورسوله من الجهاد البدعي جهاد أهل الضلال الذين يجاهدون في طاعة الشيطان وهم يظنون أنهم يجاهدون في طاعة الرحمن كجهاد أهل البدع والأهواء كالخوارج ونحوهم الذين يجاهدون في أهل الإسلام وفيمن هو أولى بالله ورسوله منهم من السابقين الأولين والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين كما جاهدوا عليا ومن معه وهم لمعاوية ومن معه اشد جهادا ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد قال تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين الى الحق فقتلهم علي ومن معه إذ كانوا أولى بالحق من معاوية ومن معه وهم كانوا يدعون أنهم يجاهدون في سبيل الله لأعداء الله وكذلك من خرج من أهل الأهواء على أهل السنة واستعان بالكافر من أهل الكتاب والمشركين والتتر وغيرهم هم عند أنفسهم مجاهدون في سبيل الله بل وكذلك النصارى هم عند أنفسهم مجاهدون وإنما المجاهد في سبيل الله من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله كما في الصحيحين عن أبي موسى قال قيل يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله قال صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقد قال الله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } والجهاد باللسان هو مما يجاهد به الرسول كما
____________________
(1/205)
قال تعالى في السورة المكية { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين } الآية وإذا كان كذلك فالجهاد أصله ليكون الدين كله لله بحيث تكون عبادته وحده هو الدين الظاهر وتكون عبادة ما سواه مقهورا مكتوما أو باطلا معدوما كما قال في المنافقين وأهل الذمة إذ كان لا يمكن الجهاد حتى تصلح جميع القلوب فان هدى القلوب إنما هو بيد الله وإنما يمكن حين يكون الدين ظاهرا دين الله كما قال تعالى { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } ومعلوم أن أعظم الأضداد لدين الله هو الشرك فجهاد المشركين من أعظم الجهاد كما جهاد السابقين الأولين وقد قال صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وكلمة الله إما أن يراد بها كلمة معينة وهي التوحيد لا إله إلا الله فيكون هذا من نمط الآية وإما أن يراد بها الجنس أن يكون ما يقوله الله ورسوله فهو الأعلى على كل قول وذلك هو الكتاب ثم السنة فمن كان يقول بما قاله الرسول ويأمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه فهو القائم بكلمة الله ومن قال ما يخالف ذلك من الأقوال التي تخالف قول الرسول فهو الذي يستحق الجها وهذا المعترض وأمثاله قد خالفوا قول الله ورسوله وسائر أئمة المسلمين فانهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وإن شد الرحال لزيارة القبور داخل في ذلك إما بطريق العموم اللفظي كدخول المساجد وإما بطريق الفحوى وتنبيه الخطاب فانه إذا كان السفر إلى المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله غير مشروع فما دونها أولى أن لا يكون مشروعا ومعلوم أ الصلوات الخمس جماعة وفرادى وقراءة القرآن والاعتكاف والذكر والدعاء هو مشروع في المساجد وهو في المساجد أفضل منه في القبور فاذا كان لا يسافر لذلك الى المساجد فلا يسافر لذلك إلى القبور بطريق الأولى وإذا لم يسافر لهذه العبادات التي يحبها الله ورسوله وهي إما واجبة وإما مستحبة إذا لم يسافر لها لا إلى المساجد ولا إلى القبور فلا يسافر الى القبور لما لم يأمر الله به من الشرك والبدع بطريق الأولى فهذا أمر معلوم بالاضطرار من دين الرسول
____________________
(1/206)
لكن لمن عرف دينه المتفق عليه بين علماء أمته فمن جعل هذا السفر مستحبا أو مشروعا أو استحل عداوة من نهى عنه وعقوبته فهذا محاد لله ولرسوله وهو المستحق للجهاد دون الآمر بما أمر الله به الناهي عما نهى الله عنه فانه يجب نصره وموالاته كما يجب جهاد المخالف له ومعاداة ما أتاه من الباطل وما استحبه علماء المسلمين وأجمعوا عليه من السفر الى مسجد الرسول وزيارته على الوجه الشرعي فهذا مستحب بالإجماع لا ينازع فيه أحد فان كانوا يجاهدون من نهى عن هذا فهذا لا وجود له وإن جاهدوا أهل النزاع من المسلمين فمسائل النزاع إما أن لا يكون فيها جهاد بل جدال وبيان حجة وبرهان وهذا جهاد باللسان وإما أن يكون فيها جهاد فيكون لمن خالف السنة والرسول لا من اتبع الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وحينئذ فعلى كل تقدير قد تبين أ نالمعترض وأمثاله من أهل البدع والضلال والكذب والجهل وتبديل الدين وتغيير شريعة الرسل هم أولى بأن يجاهدوا باليد واللسان بحسب الإمكان وانهم فيما استحلوه من جهاد أهل العلم والسنة من جنس الخوارج المارقين بل هم شر من أولئك فإن أولئك لم يكونوا يدعون إلى الشرك ومعصية الرسول وظنهم أنهم ينصرونهم ظن باطل لا ينفعهم كظن النصارى أنهم ينصرون المسيح ورسل الله وقد { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما قال له ما عبدوهم قال إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما وصححه فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى أن رءوسهم لما أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم كانت تلك الطاعة عبادة لهم وشركا بالله وهذا يتناول ما إذا أحلوا وحرموا متعمدين للمخالفة أو متأولين مخطئين لا سيما وعلماء النصارى هم عند أنفسهم لم يفعلوا إلا ما يوغ لهم فعله كالرؤساء إذا قدر أنهم اجتهدوا وأخطأوا يغفر لهم فان من اتبعهم مع علمه بأنهم أخطأوا وخالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عبد غير الله واشرك
____________________
(1/207)
به ومثل هذا المعترض يريد ممن يبين له سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرعه وتحليله وتحريمه أن يدع ذلك ويتبع غيره وهذا حرام بإجماع المسلمين فقد أجمعوا على أن من تبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجز له أن يقلد أحدا في خلافه وأما العاجز عن الاجتهاد فيجوز له التقليد عند الأكثرين وقيل لا يجوز بحال وأما القادر على الاجتهاد فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه لا يجوز له التقليد وذهب طائفة إلى جوازه وقيل يجوز تقليد الأعلم ويروي هذا عن محمد بن الحسن وغيره فمن عاب من اتبع ما تبين له من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستحل أن يخالفه ويتبع غيره فهو مخطئ مذموم على عيبه له بإجماع المسلمين فكيف إذا كانوا يدعوا إلى ما يفضي إلى الشرك العظيم من دعاء غير الله واتخاذهم أوثانا والحج إلى غير بيت الله لا سيما مع تفضيل الحج اليها على حج بيت الله أو تسويته به أو جعله قريبا منه فهؤلاء المشركون والمفترون مثل هذا المعترض وأمثاله المستحقين للجهاد وبيان ما دعوا اليه من الضلال والفساد وما نهوا عنه من الهدى والرشاد ولتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ونختم الكلام بخاتمة في بيان الفرقان بين الحق والباطل يظهر بها طريق الهدى من الضلال وذلك أن الله سبحانه كما تقدم التنبيه عليه أمرنا أن نؤمن بالأنبياء وما جاءوا به وفرض علينا طاعة الرسول الذي بعث الينا ومحبته وتعزيره وتوقيره والتسليم لحكمه وأمرنا أيضا أن لا نعبد إلا الله وحده ولا نشرك به شيئا ولا نتخذ الملائكة والنبيين أربابا وفرق بين حقه الذي يختص به والذي لا يشركه فيه لا ملك ولا نبي وبين الحق الذي أوجبه علينا لملائكته وأنبيائه عموما ولمحمد خاتم الرسل وخير مرسل الذي جاءه بالوحي خصوصا فان الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فاصطفى من الملائكة جبريل لرسالته واصطفى من البشر محمدا صلى الله عليه وسلم وأخبر ان هذا القرآن الذي نزل به هذا الرسول إلى هذا الرسول مبلغا له عن الله قال تعالى { من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } وقال { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين }
____________________
(1/208)
كما قال في الآية الأخرى { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } وقوله { وإذا بدلنا آية مكان آية } الى قوله { قل نزله روح القدس من ربك } يبين أن روح القدس نزل بآيات القرآن من ربه وبعض الكفار لما زعم أنه يتعلم من بشر قال الله تعالى { لسان الذي يلحدون إليه } أي يضيفون اليه التعليم { أعجمي وهذا لسان عربي مبين } فدل على أن هذا اللسان العربي المبين تعلمه من الملائكة ولم يتعلمه من بشر ولا من تلقاء نفسه بل جاءه به روح القدس وروح القدس هو جبريل وهو الروح الأمين فانه أخبر أن جبريل نزل على قلبه وأخبر أن الروح الأمين نزل به عليه فعلم أن جبريل هو الروح الأمين وقال هاهنا انه { نزله روح القدس من ربك } فعلن أنه روح القدس وقال في سورة { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } ثم قال { وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين } كما ذكر ذلك في سورة النجم وقال في سورة { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين } فهذا محمد كما يدل عليه الكلام كله وهذا قول عامة العلماء وقد غلط بعض من شذ فزعم أن جبريل غلط كما غلط من هو أعظم غلطا منه فزعم أن التي في التكوير في محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه وتعالى إنما اضافه الى هذا تارة والى هذا تارة بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين أنه قول رسول بلغه عن مرسله لم يحدث منه شيئا من تلقاء نفسه ولا منافاة بين أن يكون ذلك الرسول بلغه إلى هذا وهذا بلغه إلى الإنس والجن فهو قول هذا وقول هذا وقد غلط بعض الناس فظن أنه إضافه الى الرسول لأنه أحدث
____________________
(1/209)
القرآن العربي وعبر به عن المعنى الذي فهمه وهذا باطل من وجوه إذ لو كان هذا حقا تناقض الخبران فإن كون هذا أحدث القرآن العربي يناقض كون الآخر أحدثه فإنه إذا أحدثه أحدهما امتنع كون الآخر هو الذي أحدثه بخلاف ما إذا بلغه فإنه يبلغه هذا إلى هذا وهذا إلى الناس والناس بلغونه بعضهم إلى بعض كما قال تعالى { لأنذركم به ومن بلغ } وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن الله أوجب علينا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا وبالملك الذي جاءه بالقرآن فإن سائر الأنبياء علينا أن نؤمن بهم مجملا وأما محمد صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نطيعه في كل ما أوجبه وأمر به وأن نصدقه في كل ما أخبر به وغيره من الأنبياء عليهم السلام علينا أن نؤمن بأن كل ما أخبروا به عن الله فهو حق وأن طاعتهم فرض على من أرسلوا إليهم ومحمد صلى الله عليه وسلم أمرنا بما أمرتنا به الرسل من الدين العام مثل عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان بالملائكة والنبيين وجمل الشرائع بعد ما ذكره في سورة الأنعام وسبحان بل وعامة السور المكية فإن ذلك مما اتفق عليه الرسل ولكن بعض الأمور التي يقع في مثلها النسخ مثل يوم السبت وحل بعض الأطعمة وحرمتها واتخاذ منسك هم ناسكوه هو مما تنوعت فيه الشرائع وخص الله محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل الشرائع والمناهج وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن الله تعالى أمرنا بالإيمان بالأنبياء كلهم وبجميع ما أوتوا كما قال تعالى { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى } الآية وقال تعالى { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وقال تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } الى قوله { وكان الله غفورا رحيما }
____________________
(1/210)
فالأنبياء وسائط بين الله عز وجل وبين عباده في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده وما أخبر به عن نفسه وملائكته وغير ذلك مما كان وسيكون وأما محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي أرسل إلينا وإلى جميع الخلق وقد ختم به الأنبياء وآتاه من الفضائل ما فضله به على غيره وجعله سيد ولد آدم وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة لا يسعها هذا الموضع وهو سبحانه مع هذا قد نهانا عن الشرك بهم والغلو فيهم وميز بين حقه تعالى وحقهم فقال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } الى قوله { مسلمون } فهذا بيان أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر مع وجوب الإيمان بهم ما لم يحصل بعبادة الأوثان فإن الأوثان تستحق الإهانة وان تكسر كما كسر إبراهيم الأصنام وكما حرق موسى العجل ونسفه وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكسر الأصنام ويهدم بيوتها وقد قال تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } فاهانتها من تمام التوحيد والإيمان والملائكة والأنبياء بل الصالحون يستحقون المحبة والموالاة والتكريم والثناء مع أنه يحرم الغلو والشرك بهم فلهذا صار بعض الناس يزيد في التعظيم على ما يستحقونه فيصير شركا وبعضهم يقصر عما يجب لهم من الحق فيصير فيه نوع من الكفر والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهو القيام بما أمر الله به ورسله في هذا وهذا والله تعالى يميز حقه من حق غيره ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قلت الله ورسوله أعلم قال أن يعبدون ولا يشركوا به شيئا أتدري يا معاذ ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال أن لا يعذبهم وقد قال تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا } الآية فالرسل كلهم نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم يبينون أن العبادة والتقوى حق لله وحده وحق الرسل وطاعتهم قال نوح عليه
____________________
(1/211)
السلام { يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال تعالى { كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون } وكذلك قال سائر الرسلو هود وصالح ولوط وشعيب كل يقول { فاتقوا الله وأطيعون } وكذلك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد } الى قوله { أفغير الله تتقون } فأنكر سبحانه أن يتقى غيره كما أمر ألا نرهب إلا إياه وقال تعالى { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم } الآية وقال تعالى { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } الآية فقد أمر الله تعالى في غير موضع أن يخشى ويخاف وألا يخشى ويخاف غيره وقال { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله } الآية ففي الإيتاء قال ما آتاهم الله ورسوله كما قال { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } لأن الحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله فما أعطاه الرسول للناس فهو حقهم بالقول والعمل كالفرائض التي قسمها الله وأعطى كل ذي حق حقه وكذلك من الفيء والصدقات ما أعطى فهو حقه وما أباحه له فهو المباح وما نهاه عنه فهو حرام عليه فلهذا قال تعالى { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله } ولم يقل هنا ورسوله لأن الله تعالى وحده حسب عبده أي كافيه لا يحتاج الرب في كفايته إلى أحد لا رسول ولا نبي ولهذا لا تجيء هذه الكلمة إلا لله وحده كقوله { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } الآية وقال تعالى { فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } وقال تعالى { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره }
____________________
(1/212)
إلى قوله { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين كما قاله جمهور أهل العلم ومن قال إن الله ومن اتبعك حسبك فقد غلط ولم يجعل وحده حسبه بل جعله وبعض المخلوقين حسبه وهذا مخالف لسائر آيات القرآن وقال { أليس الله بكاف عبده } فهو وحده كاف عبده وقال تعالى { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } فلهذا قال تعالى { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل ورسوله ثم قال { إنا إلى الله راغبون } ولم يقل ورسوله بل جعل الرغبة إليه وحده كما قال { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } فالرغبة تتضمن التوكل وقد أمر أن لا يتوكل إلا عليه كقوله { وعلى الله فتوكلوا } فالتوكل على الله وحده والرغبة إليه وحده والرهبة منه وحده ايس لمخلوق لا للملائكة ولا الأنبياء في هذا حق كما ليس لهم حق في العبادة ولا يجوز أن نعبد إلا الله وحده ولا نخشى ولا نتقي إلا الله وحده كما قال تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } فإذا قال القائل لا يجوز التوكل إلا على الله وحده ولا العبادة إلا لله وحده ولا يتقى ويخشى إلا الله وحده لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم كان هذا تحقيقا للتوحيد ولم يكن هذا سبا لهم ولا تنقصا بهم ولا عيبا لهم وإن كان فيه بيان نقص درجتهم عن درجة الربوبية فنقص المخلوق عن الخالق من لوازم كل مخلوق ويمتنع أن يكون المخلوق مثل الخالق والملائكة والأنبياء كلهم عباد لله يعبدونه كما قال تعالى { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } وقال تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } إلى قوله { وكذلك نجزي الظالمين } فإذا نفى عن مخلوق ملك أو نبي أو غيرهما ما كان من خصائص الربوبية وبين أنه عبد الله كان هذا حقا واجب القبول وكان إثباته إطارء للمخلوق فإن رفعه عن ذلك كان عاصيا بل مشركا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين عن ابن
____________________
(1/213)
[ عباس عن ] ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله والله تعالى قد وصفه بالعبودية حين أرسله وحين تحدى وحين أسري به فقال تعالى { وأنه لما قام عبد الله } وقال { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } وقال { سبحان الذي أسرى بعبده } وأهل الباطل يقولون لمن وصفهم بالعبودية إنه عابهم وسبهم ونحو ذلك كما ذكر طائفة من المفسرين أن وفد نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا وتقول إنه عبد الله فقال النبي عليه السلام ليس بعيب لعيسى أن يكون عبد ا لله فنزل { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } أي لن يأنف المسيح من ذلك ولن يتعظم من جعله عبدا لله فعند النصارى الغلاة أنه سبه وعابه ولهذا لما سأل النجاشي جعفر بن أبي طالب ما تقول في المسيح عيسى فقال هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه رفع النجاشي عودا وقال ما زاد المسيح على ما قلت هذا العود فنخرت بطارقته فقال وإن نخرتم فهم يجعلون قول الحق في المخلوق سبا له وهم يسبون الله ويصفونه بالنقائص والعيوب كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله اني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله إنه لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته رواه البخاري من حديث ابن عباس فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء يسبونه وقد كان معاذ بن جبل يقول عن النصارى لا ترحموهم فقد سبوا الله سبة ما سبه إياها أحد من البشر وهذا نظير ما ذكره الله تعالى عن المشركين بقوله { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا } وقال تعالى { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون } فكانوا ينكرون على محمد عليه السلام أن يذكر آلهتهم بما تستحقه وهم يكفرون بذكر الرحمن ولا ينكرون
____________________
(1/214)
ذلك كما قال تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } وهكذا من فيه شبه من اليهود والنصارى والمشركين تجده يغلو في بعض المخلوقين من المشايخ والائمة والأنبياء وغيرهم فإذا ذكروا بما يستحقونه أنكر ذلك ونفر منه وعادى من فعل ذلك وهو وأصحابه يستخفون بعبادة الله وحده وبحقه وبحرماته وشعائره ولا ينكر ذلك ويحلف أحدهم بالله ويكذب ويحلف بمن يعظمه ويصدق ولا يستجيز الكذب إذا حلف به وهؤلاء من جنس النصارى والمشركين وكذلك قد يعيبون من نهى عن شركهم كالحج إلى القبور التي يحجون اليها عادة وهم يستخفون بحرمة الحج الى بيت الله ويجعلون الحج الى القبور أفضل منه وقد ينهون عن الحج اعتياضا بالحج الى القبور ويقولون هذا الحج الأكبر وهؤلاء من جنس المشركين وعباد الأوثان وكذلك هذا المعترض وأمثاله يرون النهي عن الحج الى قبور الأنبياء والصالحين اخلالا بحقهم ومعاداة لهم ونحو ذلك وهم لا يرون الشرك بالله ودعاء غيره واتخاذ عباده من دونه أولياء اخلالا بحقه ومعاداة لهم ومعلوم أن المشركين من أعظم أعداء الله عز وجل قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } الى قوله { حتى تؤمنوا بالله وحده } فأمر بالتأسي بابراهيم ومن معه لما تبرأوا من المشركين وما يعبده المشركون وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده فالمشرك والآمر بالشرك والراضي به معاد لله ومن عادى الله فقد عادى أنبياءه وأولياءه وأما من أمر بما جاءت به الرسل فلم يعادهم ولم يعاندهم قال الله تعالى { قل يا أيها الكافرون } الى آخر السورة
وهنا موضع يشكل وذلك أنه قال عليه السلام في الحديث الصحيح أصدق كلمة قد قالها شاعر كلمة لبيد ** ألا كل شيء ما خلا الله باطل **
وذلك مثل قوله { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل }
____________________
(1/215)
فالمراد بالباطل مالا ينفع وكل ما سوى الله لا تنفع عبادته كما في الأثر أشهد أن كل معبود من لدن عرشك الى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم فإن هذا يدخل فيه كل ما عبد من دون الله من الملائكة والأنبياء وهؤلاء قد سبقت لهم من الله الحسنى فكيف يدخلون في الباطل وكذلك قوله { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال } فيقال إن المرادعبادتهم والعمل لهم باطل وقد يقال عن الشيء انه لا شيء وليس بشيء لانتفاء المقصود منه وكما قال عليه السلام عن الكهان لما سئل عنه فقال ليسوا بشيء فقال انهم يحدثون بالشيء فيكون حقا فذكر أن ذلك من الجن تخطف الكلمة من الحق ويزيدون فيها من الكذب مائة كذبة فهم ليسوا بشيء أي لا ينتفع بهم فيما يقصد منهم وهو الاستخبار عن الأمور الغائبة لأنهم يكذبون كثيرا فلا يدري ما قالوه أهو صدق أم كذب وهم مع ذلك موجودون يضلون ويضلون فقوله ليس بشيء مثل قوله ألا كل شيء ما خلا الله باطل وقوله { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } فهو من جهة كونه معبودا باطل لا ينتفع به ولا يحصل لعابده مقصود العبادة وإن كان من جهة أخرى هو شمس وقمر ينتفع بضيائه ونوره وهو يسجد لله ويسبحه وكذلك الملائكة والأنبياء اذا نفى عنهم كونهم آلهة معبودين تبين أن عبادتهم عمل باطل لا ينتفع به ولم ينف ذلك ما يستحفونه من الإجلال والإكرام والإيمان بهم وقولهم { إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } أي ومن عبادتهم ومن كونهم معبودين كما قال الخليل عليه السلام { يا قوم إني بريء مما تشركون } فهو بريء من كل شريك لله من جهة كونه جعل شريكا وندا لله ولم يبرأ منه من جهات أخرى فإبراهيم لم بيرأ من الشمس والقمر والكواكب من جهة كونها مسخرة لمنافع العباد وكونها تسجد لله وتسبحه وكونها من آياته العظيمة بل من جهة كونها شركاء لله وقوله { إني بريء مما تشركون } وان كان يقال ما مصدرية أي
____________________
(1/216)
من شرككم فقد صرح في قوله { إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } أي برآء من المعبودين من دون الله وكذلك قوله { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } أما الأوثان ونحوها فتعادي مطلقا والشمس والقرم والملائكة والكواكب تعادي عبادتها وكونها آلهة معبودة فتبغض من هذه الجهات وتعادى مع وجوب الإيمان بالملائكة وإذا قيل للنصارى نحن برآء من شرككم ومما تعبدون من دون الله وقد قال تعالى { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم } هذا بعد قوله تعالى { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } فقد عبد المسيح وغيره فالبراءة من كل معبود سوى الله كالبراءة من كل إله سوى الله وذلك براءة من الشرك ومن كون ما سوى الله معبودا وليس هو براءة من المسيح من جهة كونه رسولا كريما وجيها عند الله بل براءة مما قيل فيه من الباطل لا من الحق والمسيح والملائكة وغيرهم يتبرءون ممن عبدوهم ويعادونهم ولا يوالونهم قال الله تعالى { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } إلى قوله تعالى { أكثرهم بهم مؤمنون } وقال تعالى { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله } الآية وقال تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } الى ية وقال تعالى { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء } وقال تعالى { أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي } وقال تعالى { قل أغير الله أتخذ وليا } الآية وهو سبحانه لم ينه عن موالاتهم دونه فمن أحبهم ووالاهم لله فهو موحد ومن جعلهم أندادا وأحبهم كما يحب الله فهو مشرك فالحب لله توحيد وإيمان والحب كما يحب الله شرك وكفر وكذلك الشفاعة قال تالى { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } وقال تعالى { ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع } وقال عز وجل { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وقال تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }
____________________
(1/217)
وقال تعالى { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } فتبين انه لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء ولا غيرهم إلا لمن اذن له حتى إذا قضى الأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان وصعقوا فلا يعلمون ما قال { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } فحينئذ يعلمون ما قضى به فكيف يشفعون بدون إذنه قال الله تعالى { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وقال { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا } الآية
وأوجه الشفعاء وأول شافع يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أحاديث الشفاعة أن الناس يوم القيامة إذا ذهبوا إلى آدم ليشفع لهم يردهم إلى نوح ونوح إلى إبراهيم وإبراهيم إلى موسى وموسى إلى المسيح والمسيح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين فيقول اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال صلى الله عليه وسلم فيأتوني فاذهب إلى ربي فإذا رأيت ربي خررت ساجدا وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن وحينئذ فيقول تعالى أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع قال فأقول أي رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة وكذلك ذكر في الثانية والثالثة وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فقد بين أوجه الشفعاء أنه إذا أتى يبدأ بالسجود لله والحمد لله لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له فإذا اذن له فحينئذ يشفع فاذا شفع حد له حدا فيدخلهم الجنة وبين أن أولى الناس بشفاعته من كان أعظم اخلاصا وتوحيدا لا من كان سائلا وطالبا منه أو من غيره فالأمر كله لله وحده لا شريك له هو الذي ياذن في الشفاعة وهو الذي يقبل شفاعة الشفيع فيمن يختار فربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون
____________________
(1/218)
فالذين يخالفون شريعة الأنبياء ويغلون فيهم ويقولون أنهم يحبونهم ويوالونهم ويعظمونهم بذلك فالأنبياء يتبرءون منهم ومحمد صلى الله عليه وسلم بريء من عمل من يخالف أمره وسنته قال الله تعالى { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } ولا ينفع من عصى الرسول أن يقل قصدي تعظيمهم فإنه إنما أمر بطاعتهم ولم يؤمر أن يعبد الله بالظن وما تهوى الأنفس قال الله تعالى { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } فقد أخبر أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به أن يعبدوا الله وحده وكذلك سائر الأنبياء قال الله تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وهو سبحانه إنما يعبد بما شرع من الدين لا يعبد بما شرع من الدين بغير إذنه فإن ذلك شرك قال الله تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } والدين الذي شرعه إما واجب وإما مستحب فكل من عبد عبادة ليست واجبة في شرع الرسول ولا مستحبة كانت من الشرك والبدع والحج إلى القبور ليس من شرعه لا واجبا ولا مستحبا فإنه لا يقدر أحد أن ينقل عنه حديثا صحيحا في استحباب ذلك ولا عن أصحابه ولا علماء أمته وإنما ينقل في ذلك أحاديث مكذوبة فهي من الإفك والشرك وانما السفر الى المساجد الثلاثة لأنه سفر الى بيوت الله التي بنتها الأنبياء لعبادته وأحدها يجب الحج اليه والآخر ان يستحب السفر اليهما والحج الواجب كما يختص بذلك المكان فهو يختص بأعمال لا تشرع في غيره كالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى ورمي الجمار
____________________
(1/219)
وسوق الهدي الى هناك وغير ذلك وأما المسجدان الآخران فلا يشرع فيهما الا من جنس ما يشرع لسائر المساجد كالصلاة والذمر والدعاء والاعتكاف لكن للعبادة فيهما فضيلة على العبادة في سائر المساجد أوجبت تلك الفضيلة أن يشرع السفر اليهما وقبر النبي صلى الله عليه وسلم مجاور مسجده فإذا أتى مسجده فعل فيه ما يشرع له من حق الرسول من الصلاة والسلام وغير ذلك وكل ما يفعله فيه من ذلك في مسجده فهو مشروع في سائر المساجد والأمكنة لكن مسجده أفضل فالصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وهذا الفعل المشروع في حقه كالصلاة والسلام هل يسمى زيارة لقبره ويطلق ذلك عليه على قولين معروفين فإنه لا يوصل إلى قبره ويزار الزيارة المعروفة في حق غيره بل قد منع الناس من ذلك فما بقي المشروع هناك كالمشروع من زيارة لسائر القبور إذ كان الله قد خص نبيه بالأمر بالصلاة والسلام عليه في كل مكان وزمان وخص بالدفن في حجرته فلا يصل أحد إليه لئلا يتخذ قبره مسجدا ووثنا وعيدا وكلما تدبر الإنسان ما أمر به وشرعه تبين له أنه جمع في شرعه بين كمال توحيد الرب وإخلاص الدين له وبين كمال طاعة الرسل وتعزيرهم ومحبتهم وموالاتهم ومتابعتهم فأسعد الناس في الدنيا والآخرة أتبعهم للرسول باطنا وظاهرا صلى الله عليه وسلم تسليما والحمد لله وصلواته وسلامه على محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل
وجد في آخر الأصل ما نصه
آخر كتاب ( الرد على الأخنائي ) قاضي المالكية واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية لا البدعية لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
أنهاه بقلمه راجي عفو ربه وكرمه الفقير الى رحمة ربه الولي حسين بن حسن بن حسين بن علي غفر الله له ولوالديه ولكافة المسلمين جعله الله نافعا من قرأه ومن نظر فيه ومن سأل لوالدي المغفرة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
غرة جمادى الآخرة سنة 1303 ه
____________________
(1/220)