كتاب البيع
وكل ما عده الناس بيعًا أو هبة: من متعاقب، أو متراخ، من قول، أو فعل، انعقد به البيع والهبة (1) .
ومن استولى على ملك إنسان بلا حق ومنعه إياه حتى يبيعه إياه فهو كبيع المكره بلا عوض (2) .
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: بيع الحرير للكفار حديث عمر رضي الله عنه يقتضي جوازه؛ بخلاف بيع الخمر؛ فإن الحرير ليس حرامًا على الإطلاق، وعلى قياسه بيع آنية الذهب والفضة لهم؛ وإذا جاز بيعها لهم جاز صنعتها لبيعها منهم، وجاز عملها لهم بالأجرة. انتهى كلامه ذكره في أول باب ما يجوز بيعه من تعليقه على المحرر (3) .
قال شيخنا في الفتاوى المصرية: يجوز تصرفه فيما بيده بالوقف وغيره حتى تقوم حجة شرعية بأنه ليس ملكًا له؛ لكن لا يحكم بالوقف حتى يثبت الملك (4) .
وفي مجموع أبي حفص في الإجارة: نقل يحيى بن محمد
__________
(1) الاختيارات 121 ف 2/ 186.
(2) اختيارات ص122 والفروع ج4/50 ف2/ 186.
(3) الآداب 3/501 ف2/ 187.
(4) فروع ج 4/406 ف2/ 187.(4/5)
الكحال: سألت أحمد عن رجل له حمام تقيمه غلته يريد أن يبيعه قال: لا يبيعه على أنه حمام يبيعه على أنه عقار ويهدم الحمام: ذكره الشيخ تقي الدين. قال: وكذلك الأبنية المصورة كنائس ونحو ذلك مما هو مبني للمنفعة المحرمة وما هو مصور على صورة المنفعة المحرمة ويمكن تصويره على صورة مباحة: مثل الحرير المفصل للرجال، وخاتم الذهب للرجل، وآنية الذهب والفضة (1) .
قال ابن القيم رحمه الله:
فصل
وأما تحريم بيع الميتة فيدخل فيه كل ما يسمى ميتة سواء مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة لا تفيد حله، ويدخل فيه أبعاضها أيضًا، ولهذا استشكل الصحابة رضي الله عنهم تحريم بيع الشحم مع ما لهم فيه من المنفعة فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرام وإن كان فيه ما ذكروا من المنفعة. وهذا موضع اختلف فيه الناس لاختلافهم في فهم مراده - صلى الله عليه وسلم - وهو أن قوله: «لا هو حرام» هل هو عائد إلى البيع، أو عائد إلى الأفعال التي سألوا عنها
فقال شيخنا: هو راجع إلى البيع فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة قالوا: إن في شحومها من المنافع كذا وكذا يعنون فهل ذلك مسوغ لبيعها؟ فقال: «لا هو حرام» (2) .
ومكة المشرفة فتحت عنوة. ويجوز بيعها لا إجارتها. فإن استأجرها فالأجرة ساقطة يحرم بذلها (3) .
وجوز شيخنا بيع الصفة والسلم حالاً إن كان في ملكه. قال: وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» فلو لم يجز السلم حالاً لقال: لا تبع هذا. سواء كان عنده أولاً. وأما إذا لم يكن
__________
(1) الآداب 3/321 ف 2/ 187.
(2) زاد المعاد ج4/240 ف 2/187.
(3) اختيارات ص121 فيها زيادة ف2/188.(4/6)
عنده فإنما يفعله لقصد التجارة والربح فيبيعه بسعر ويشتريه بأرخص ويلزمه تسليمه في الحال وقد يقدر عليه وقد لا تحصل له تلك السلعة إلا بثمن أعلى مما تسلف فيندم. وإن حصلت بسعر أرخص من ذلك ندم المسلف إذ كان يمكنه أن يشتريه بذلك الثمن؛ فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة، كبيع العبد الآبق والبعير الشارد يباع بدون ثمنه فإن حصل ندم البائع وإن لم يحصل ندم المشتري.
وفي التلخيص وغيره: لا يصح بيع لحم في جلد أو معه اكتفاء برؤية الجلد فإنه بيع رءوس وسموط قال شيخنا في حيوان مذبوح: يجوز بيعه مع جلده جميعًا، كما قبل الذبح كقول جماهير العلماء، كما يعلمه إذا رآه حيًا. ومنعه بعض متأخري الفقهاء ظنًا أنه بيع غائب بدون رؤية ولا صفة. قال شيخنا: وكذلك يجوز بيع اللحم وحده والجلد وحده. وأبلغ من ذلك «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر في سفر الهجرة، اشتريا من رجل شاة، واشترطا له رأسها وجلدها وسواقطها وكذلك كان أصحابه عليه السلام يتبايعون (1) . ويجوز بيع الطير لقصد صوته إذا جاز حبسه. وفيه احتمالان لابن عقيل (2) .
واختار أبو العباس صحة البيع بغير صفة وهو بالخيار إذا رآه، وهو رواية عن أحمد ومذهب الحنفية. وضعفه في موضع آخر (3) .
وإن باعه لبنًا موصوفًا في الذمة واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة صح (4) .
فلا يصح برقم مجهول، ولا بما ينقطع سعره، أو كما يبيع الناس
__________
(1) الفروع ج 2/23، 94 ف2/ 189.
(2) الفروع ج 4/ 29 ف2/189.
(3) اختيارات 121 والفروع ج 4/9 ف2/ 189.
(4) اختيارات 121 ف 2/ 189.(4/7)
على الأصح فيهن. وصححه شيخنا بثمن المثل، كنكاح، وأنه مسألة السعر، وأخذه من مسألة التحالف (1) .
واحتج بما في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نهى أن يسلم في حائط بعينه» إلا أن يكون قد بدا صلاحه، وقال: أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز، كما يجوز أن يقول: ابتعت منك عشرة أوسق من هذه الصبرة، ولكن التمر يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه (2) .
ويجوز بيع الكلاء ونحوه الموجود في أرضه إذا قصد استنباته (3) .
ولو باع ولم يسم الثمن صح بثمن المثل كالنكاح (4) .
فصل
ولا يصح بيع ما قصد به الحرام كعصير يتخذه خمرًا إذا علم ذلك كمذهب أحمد وغيره، أو ظن وهو أحد القولين. ويؤيده أن الأصحاب قالوا: لو ظن المؤجر أن المستأجر يستأجر الدار لمعصية كبيع الخمر ونحوه لم يجز له أن يؤجره تلك الدار ولم تصح الإجارة. والبيع والإجارة سواء (5) .
وإن جمع البائع بين عقدين مختلفي الحكم بعوضين متميزين لم يكن للمشتري أن يقبل أحدهما بعوضه (6) .
ومن باع ربويًا بنسيئة حرم أخذه عن ثمن ما لا يباع به نسيئة ما لم
__________
(1) اختيارات ص 121 ف 2/189.
(2) الفروع ج 4/ 30 ف 2/190. فيه زيادة إيضاح.
(3) الفروع 4/25، 26 ق 2/189.
(4) اختيارات ص 121 فيه زيادة إيضاح ف 2/189.
(5) اختيارات ص 122 ف 2/ 190.
(6) اختيارات ص 122 ف 2/190 فروع ج 4/ 42 ف 2/ 190.(4/8)
تكن حاجة، وهو توسط بين الإمام أحمد في تحريمه والشيخ أبي مقدس في حله (1) .
وقال أحمد أيضًا: أكره للرجل ألا يكون له تجارة غير النسيئة فلا يبيع بنقد.
قال ابن عقيل: إنما كره ذلك لمضارعته الربا، فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبًا، وعلله شيخنا ابن تيمية رضي الله عنه بأنه يدخل في بيع المضطر؛ فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه؛ فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة، وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرًا من التجار (2) .
فصل
ويحرم الشراء على شراء أخيه، وإذا فعل ذلك كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة وأخذ السلعة أو عوضها (3) .
وتحرم مسألة التورق، وهو رواية عن أحمد (4) .
قوله: «كشرائه وبيعه زمن الخيار» قال ابن رجب: ومال الإمام أحمد إلى القول بأنه عام في الحالين يعني مدة الخيار وبعدها ولو لزم العقد ... وتبع في ذلك الشيخ تقي الدين فإنه سئل عن ذلك في المسائل البغدادية وأجاب بأن الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد وقدماء أصحابه أنه لا فرق بين زمن الخيار وعدمه، فما أطلقه أبو الخطاب ذكره أبو بكر، وكذلك ذكره القاضي وغيره. وإن كان هذا القيد ذكره جماعة
__________
(1) اختيارات ص 129 ف 2/190.
(2) اختيارات ص129 والفروع ج4/ 45، 46، 71 ف 2/191.
(3) تهذيب السنن ج 5/ 109 ف2/191.
(4) اختيارات ص 122 ف 2/191.(4/9)
منهم القاضي في بعض المواضع، وابن عقيل فيما أظن، وأبو حكيم وصاحبه السامري، وأسعد بن منجا وأبو محمد وأبو البركات وغيرهم وأطال في ذلك واختاره. وذكر المسألة أيضًا في إبطال التحليل (1) .
وسأله ابن الحكم عن رجل يقر بالعبودية حتى يباع قال: يؤخذ المقر والبائع بالثمن، فإن مات أحدهما أو غاب أخذ الآخر بالثمن واختاره شيخنا (2) .
وقال الشيخ تقي الدين: يكره للرجل أن يحب غلو أسعار المسلمين ويكره الرخص. ويكره المال المكسوب من ذلك، كما قال من قال من الأئمة: إن مالاً جمع من عموم المسلمين لمال سوء (3) .
قال أحمد: لا ينبغي أن يتمنى الغلاء (4) .
ومن ضمن مكانًا للبيع ويشتري فيه وحده كره الشراء منه بلا حاجة. ويحرم عليه أخذ زيادة بلا حق (5) .
ولا يربح على المسترسل أكثر من غيره. وله أن يأخذه منه بالقيمة المعروفة بغير اختياره. قال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك قال: إذا كان أجله إلى سنة أو أقل بقدر الربح فلا بأس به. وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل؛ لأنه شبه بيع المضطر. وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة (6) .
وإذا اتفق أهل السوق على ألا يزيدوا في سلعة لهم فيها غرض
__________
(1) اختيارات ص128 ف 2/191.
(2) الفروع وتصحيحه ج 4/45-47 باختصار ف 2/191.
(3) الفروع ج 4/51 ف 2/191 ص 126 ف 2/196 وانظر الزركشي 3/ 577.
(4) الآداب ج 3/ 294 ف 2/ 194.
(5) الاختيارات 192 ف 2/ 194 والفروع 4/ 54.
(6) الاختيارات 122، 123 فروع 4/ 54 فيه زيادة 2/ 196.(4/10)
ليشتريها أحدهم ويتقاسموها فهذا يضر بالمسلمين أكثر من تلقي الركبان، أما إذا اتفق اثنان وفي السوق من يزيد فلا يحرم ذلك؛ لأن باب المزايدة مفتوح. ولا يجوز أن يطلب بالسلعة ثمنًا كثيرًا ليغري المشتري بها فيدفع ما يزيد على قيمتها إذا كان جاهلاً بالقيمة (1) .
باب الشروط في البيع
وتصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود -فلو باع جارية وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن صح البيع والشرط، ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن أحمد نحو العشرين نصًا على صحة الشروط، وأنه يحرم الوطء لنقص الملك. سأل أبو طالب الإمام أحمد عمن اشترى أمة يشترط أن يتسرى بها لا للخدمة قال: لا بأس به، وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط على البائع فعلاً أو تركًا في البيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه صح البيع والشرط كاشتراط العتق، وكما اشترط عثمان لصهيب وقف داره عليه، ومثل هذا أن يبيعه بشرط أن يعلمه، أو شرط ألا يخرجه من ذلك البلد، أو شرط ألا يستعمله في العمل الفلاني، أو أن يزوجه، أو يساويه في المطعم، أو لا يبيعه، أو لا يهبه. فإذا امتنع المشتري من الوفاء فهل يجبر عليه أو يفسخ؟ على وجهين؛ وهو قياس قولنا: إذا شرط في النكاح ألا يسافر بها أو ألا يتزوج عليها؛ إذ لا فرق في الحقيقة بين الزوجة والمملوك (2) .
وإذا شرط البائع نفع المبيع لغيره مدة معلومة -فمقتضى كلام أصحابنا جوازه؛ فإنهم احتجوا بحديث أم سلمة: «أنها أعتقت سفينة
__________
(1) مختصر الفتاوى 323 ف 2/196.
(2) اختيارات 123 ف 2/196.(4/11)
وشرطت عليه أن يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش» . واستثناء خدمة غيره في العتق كاستثنائها في البيع (1) .
وشرط البراءة من كل عيب، باطل، وعلله جماعة من أصحابنا بأنه خيار يثبت بعد البيع فلا يسقط قبله كالشفعة. ومقتضى هذا التعليل صحة البراءة من العيوب بعد عقد البيع. وقال المخالف: في صحة البراءة إسقاط حق. وصح في المجهول كالطلاق والعتاق. قيل له: والجواب: أنا نقول بوجوبه، وأنه يصح في المجهول لكن بعد وجوبه.
والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب والذي تقضي به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري؛ لكن إذا ادعى أن البائع علم بذلك فأنكر البائع حلف أنه لم يعلم، فإن نكل قضي عليه (2) .
لو قال: بعتك إن جئتني بكذا، أو إن رضي زيد صح البيع والشرط، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (3) .
وإن علق عتق عبده ببيعه وكان قصده بالتعليق اليمين دون التبرر بعتقه أجزأه كفارة يمين. وإن قصد به التقرب كان عتقه مستحقًا كالنذر فلا يصح بيعه، ويكون العتق معلقًا على صورة البيع.
وطرد أبو العباس قوله هذا في تعليق الطلاق على الفسخ والخلع فجعله معلقًا على صورة الفسخ والخلع. قال: ولو قيل بانعقاد الفسخ والعقد المعلق عليه فلا يمتنع وقوع الطلاق معه على رأي ابن حامد حيث أوقعه مع البينونة بانقضاء العدة فكذلك بالفسخ (4) .
__________
(1) اختيارات ص 124 ف 2/196.
(2) اختيارات 124 ف 2/196.
(3) اختيارات 123 فروع 4/ 62 ف 2/196.
(4) اختيارات 125، 126 ف 2/196.(4/12)
باب الخيار
ويثبت خيار المجلس في البيع، ويثبت خيار الشرط في كل العقود ولو طالت المدة، فإن أطلقا الخيار ولم يوقتاه بمدة توجه أن يثبت ثلاثًا، لخبر حبان بن منقذ. وللبائع الفسخ في مدة الخيار إذا رد الثمن وإلا فلا. ونقل أبو طالب عن أحمد وكذلك التملكات القهرية لإزالة الضرر كالأخذ بالشفعة وأخذ الغراس والبناء من المستعير والمستأجر والزرع من الغاصب (1) .
ويثبت خيار مسترسل إلى البائع لم يماسكه. اختاره شيخنا (2) .
والنماء المتصل في الأعيان المملوكة العائد إلى من انتقل الملك عنه، لا يتبع الأعيان، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب حيث قال: إذا اشترى غنمًا فنمت ثم استحقت فالنماء له وهو يعم المتصل والمنفصل (3) .
ويحرم كتم العيب: ذكره الترمذي عن العلماء. وذكر أبو الخطاب: يكره. وفي التبصرة: وهو نص أحمد ويصح. وعنه لا. نقل حنبل بيعه مردود، اختاره أبو بكر. وكذا لو أعلمه به ولم يعلما قدر عيبه ذكره شيخنا (4) .
وإن اشترى شيئًا وظهر به عيب فله أرشه إن تعذر رده، وإلا فلا. وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة والشافعي، وكذا في نظائره كالصفقة إذا تفرقت. والمذهب يخير المشتري بين الرد وأخذ الثمن
__________
(1) الاختيارات ص125 ف 2/196.
(2) الفروع 4/97، توضيح ف2/196، وعبارة الاختيارات ص125: ويثبت خيار الغبن لمسترسل، لا لبائع لم يماسكه وهو مذهب أحمد.
(3) اختيارات 126 وانظر الزركشي ج3/577 ف 2/196.
(4) الفروع ج4/94 ف2/198.(4/13)
وإمساكه وأخذ الأرش. فعليه يجبر المشتري على الرد وأخذ الأرش لتضرر البائع بالتأخير (1) .
والجار السوء عيب (2) .
وإذا ظهر عسر المشتري أو مطله فللبائع الفسخ (3) .
فصل
في التصرف في المبيع قبل قبضه، وما يحصل به قبضه.
من اشترى شيئًا بكيل أو وزن نقله جماعة. وعنه: المطعوم منهما وظاهر المذهب، أو عدد، والمشهور أو ذرع (و) وذكره شيخنا (4) .
ولا يتصرف فيه ولا بإجارة قبل قبضه. وعنه يجوز من بائعه وفي رهنه وهبته بلا عوض بعد قبض ثمنه وجهان. ويصح عتقه قولاً واحدًا وذكره شيخنا. وجوز شيخنا التولية والشركة وجوز التصرف بغير بيع، وبيعه لبائعه (5) .
ويملك المشتري المبيع بالعقد، ويصح عتقه قبل القبض إجماعًا فيهما.
ومن اشترى شيئًا لم يبعه قبل قبضه سواء كان المكيل والموزون وغيرهما، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن عقيل ومذهب الشافعي، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وسواء كان المبيع من ضمان
__________
(1) الاختيارات ص126 ف2/198.
(2) الاختيارات ص126 ف2/ 198.
(3) الاختيارات ص126 ف2/ 198.
(4) فروع 6/134 ف 2/199.
(5) فروع ج 6/135 ف 2/199.(4/14)
المشتري أولى، وعلى ذلك تدل أصول أحمد، كتصرف المشتري في الثمرة قبل جدها في أصح الروايتين وهي مضمونة على البائع، وكصحة تصرف المستأجر في العين المؤجرة بالإجارة وهي مضمونة على المؤجر.
ويمنع التصرف في صبرة الطعام المشتراة جزافًا على إحدى الروايتين وهي اختيارات الخرقي مع أنها من ضمان المشتري، وهذه طريقة الأكثرين. وعلة النهي عن البيع قبل القبض ليست توالي الضمانين؛ بل عجز المشتري عن تسليمه؛ لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسلمه، لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح فيسعى في رد المبيع إما بجحد أو احتيال في الفسخ. وعلى هذه العلة تجوز التولية في المبيع قبل قبضه، وهو مخرج من جواز بيع الدين.
ويجوز التصرف فيه بغير البيع، ويجوز بيعه لبائعه، والشركة فيه.
وكل ما ملك بعقد سوى البيع فإنه يجوز التصرف فيه قبل قبضه بالبيع وغيره؛ لعدم قصد الربح.
وإذا تعين ملك إنسان في موروث أو وصية أو غنيمة لم يعتبر لصحة تصرفه قبضه بغير خلاف. وينقل الضمان إلى المشتري بتمكنه من القبض.
وظاهر مذهب أحمد الفرق بين تمكن قبضه وغيره، ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره (1) .
وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه كبيع. وجوز شيخنا البيع وغيره لعدم قصد الربح، وما لا ينفسخ بهلاكه - كنكاح وخلع وعتق وصلح عن دم عمد- قيل: كبيع لكن يجب بتلفه مثله أو قيمته ولا
__________
(1) اختيارات ص/ 127 هنا جزم باختياره وفيه زيادات ف2/199، 200.(4/15)
فسخ. واختار شيخنا لهما فسخ نكاح لفوات بعض المقصود كعيب مبيع (1) .
باب الربا والصرف
إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلاً بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلاً آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النسيئة بينهما - فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان. أحدهما: المنع وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق. والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا (2) .
الثاني: هل تختص الرخصة بعرية النخل ... أو لا تختص فتجوز في سائر الثمار وهو قول القاضي إلحاقًا لذلك بعرية النخل بجامع الحاجة، أو يلحق العنب فقط وهو احتمال لأبي محمد لقوة شبهه بالرطب في الاقتيات والتفكه؟ على ثلاثة أقوال. وخرج أبو العباس على ذلك بيع الخبز باليابس في برية الحجاز ونحوها، وكذلك بيع الفضة الخالصة بالمغشوشة نظرًا للحاجة (3) . وجوزها [العرايا] شيخنا في الزرع (4) .
ويحرم بيع حب بدقيقه، أو أحدهما بسويقه. وعنه يجوز وزنًا. وعلل أحمد المنع بأن أصله كيل. فيتوجه من الجواز بيع مكيل وزنًا
__________
(1) الفروع ج4/139 ف 2/202.
(2) تهذيب السنن ج5/ 118 ف 2/202.
(3) الزركشي ج 3/ 485 ف 2/ 202.
(4) الفروع ج 4/158 ف 2/202.(4/16)
وموزون كيلاً. اختاره شيخنا (1) . وما خرج عن القوت بالصنعة فليس بربوي ولا بجنس نفسه؛ فيباع خبز بهريسة وزيت بزيتون وسمسم بشيرج (2) .
ويجوز بيع الموزونات الربوية بالتحري، وقاله مالك (3) . وما لا يختلف فيه الكيل والوزن مثل الأدهان يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً ووزنًا، وعن أحمد ما يدل عليه (4) .
وظاهر مذهب أحمد جواز بيع السيف المحلى بجنس حليته، لأن الحلية ليست بمقصودة (5) .
ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل. ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة، سواء كان البيع حالاً أو مؤجلاً ما لم يقصد كونها ثمنًا (6) .
ويحرم بيع اللحم بحيوان من جنسه إذا كان المقصود اللحم (7) .
وما جاز فيه التفاضل كالثياب والحيوان يجوز النسأ فيه إن كان متساويًا وإلا فلا. وهو رواية عن أحمد (8) .
التحقيق في عقود الربا أنه إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد.
__________
(1) فروع ج4/157 ف 2/202.
(2) اختيارات ص127 ف 2/202.
(3) اختيارات ص 128 ف 2/ 202.
(4) اختيارات ص 128 ف 2/ 202.
(5) اختيارات ص 128 ف 2/ 202.
(6) اختيارات ص 127 وفروع 4/ 149 ف 2/ 203.
(7) اختيارات ص 128 ف 2/ 204.
(8) اختيارات ص 128 ف 2/ 204.(4/17)
وإن كان بعض الفقهاء يقول: بطل العقد فهو بطلان مالم يتم ببطلان ما تم (1) .
الصرف
.... وكذلك تبعه أبو العباس حتى إنه وهم جده في قوله: وعنه أنها تتعين فلا تبدل مع الغصب والعيب. (بكل حال) (2) .
ولا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقدين، وهو رواية عن أحمد نقله ابن منصور، واختارها ابن عقيل (3) .
وإذا اصطرفا دينًا في ذمتهما جاز. وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة ومالك خلافًا لما نص عليه أحمد (4) .
وفي الموجز رواية: لا يحرم (الربا) في دار حرب. وأقرها شيخنا على ظاهرها (5) .
باب بيع الأصول والثمار
ولا يجوز بيع مزارع لغير رب المال، وكذا له من غير شرط القطع. وسأله ابن منصور: يبيع الزرع قال: لا يجوز حتى يبدو صلاحه، وكذا نقل: لا يبيع عمله قبل ظهور زرع لم يجب له شيء.
وقال القاضي: قياس المذهب جوازه ويكون شريكًا بعمارته.
قال شيخنا: لو تقايلا الإجارة أو فسخاها بحق فله قيمة حرثه،
__________
(1) اختيارات ص 128 ف 2/ 204.
(2) الزركشي ج 3/ 464 ف 2/204.
(3) اختيارات ص 128 ف 2/ 204.
(4) اختيارات ص 128 ف 2/ 204.
(5) الفروع ج 4/ 174 ف 2/ 204.(4/18)
وإن أخر القطع مع شرطه حتى صلح الثمر وطالت الجزة واشتد الحب فسد العقد (1) .
واختار شيخنا ثبوتها في زرع مستأجر وحانوت نقص نفعه عن العادة، وأنه خلاف ما رواه عن أحمد، وحكم به أبو الفضل بن حمزة في حمام.
وقال شيخنا أيضًا: قياس نصوصه وأصوله: إذا عطل نفع الأرض بآفة انفسخت فيما بقي كانهدام الدار ونحوه، وأنه لا جائحة فيما تلف من زرعه، لأن المؤجر لم يبعه إياه، ولا ينازع في هذا من فهمه (2) .
باب السلم
ولو أسلم مقدارًا معلومًا إلى أجل معلوم في شيء، بحكم أنه إذا حل يأخذه بأنقص مما يساوي بقدر معلوم صح، كالبيع بالسعر. ويصح حالاً إن كان المسلم فيه موجودًا في ملكه، وإلا فلا (3) . ويصح تعليق البراءة على شرط وهو رواية عن أحمد.
وما قبضه أحد الشريكين من دين مشترك بعقد أو إرث أو إتلاف أو ضريبة وسبب استحقاقها واحد فلشريكه الأخذ من الغريم، ويحاصه فيما قبضه، وهو مذهب الإمام أحمد، وكذا لو تلف.
ولو تبارئآ ولأحدهما على الآخر دين مكتوب فادعى استثناءه بقلبه وأنه لم يبرئه منه قبل، ولخصمه تحليفه (4) .
يصح بيع الدين المستقر من الغريم لا من غيره. وفي رهنه عند
__________
(1) الفروع ج 4/ 74 ف 2/ 205.
(2) الفروع ج 4/ 79 ف 2/ 206.
(3) اختيارات 131 فروع 4/ 179 ف 2/ 207.
(4) اختيارات 131 وانظر الفروع ج 4/ 195-197 ف 2/ 207.(4/19)
مدين بحق له روايتان في الانتصار. وعنه: يصح منهما. قال شيخنا: نص عليه في مواضع. وعنه: لا. اختاره الخلال وذكره في عيون المسائل عن صاحبه، كدين السلم. وفي المبهج وغيره رواية: يصح فيه، اختاره شيخنا وأنه قول ابن عباس. لكن بقدر القيمة فقط، لئلا يربح فيما لم يضمن. قال: وكذا ذكره أحمد في بدل القرض وغيره، ولأنه مبيع، وجواز التصرف ليس ملازمًا للضمان في ظاهر مذهب أحمد، وكالثمن؛ لكن منعه أحمد في مكيل أو موزون، ولم يفرق ابن عباس، وأحمد تبعه، فيحمل كلامه على التنزيه (1) .
باب القرض
ويجوز قرض المنافع مثل أن يحصد معه يومًا ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها؛ لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب على المشهور في الأخرى القيمة. ويتوجه في المتقوم أنه يجوز رد المثل بتراضيهما. وإن ظهر المقترض مفلسًا ووجد المقرض عين ماله فله الرجوع بعين ماله بلا ريب، والدين الحالي يتأجل بتأجيله، سواء كان الدين قرضًا أو غيره، وهو قول مالك ووجه في مذهب أحمد، ويتخرج رواية عن أحمد من إحدى الروايتين في تأجيل العارية، وفي إحدى الروايتين في صحة إلحاق الأجل والخيار بعد لزوم العقد. ولو أقرض أكاره بذرًا أو أمره ببذره وأنه في ذمته كما يفعله الناس فهو فاسد، وله نصف المثل، ولو تلف لم يضمنه لأنه أمانة. ولو اقترض من رجل قروضًا متفرقة ووكل المقرض في ضبطها أو ابتاع منه شيئًا ووكل البائع في ضبط المبيع حفظًا أو كتابة فينبغي أن يكون قول هذا المؤتمن ههنا مقبولاً (2) .
__________
(1) الفروع ج4/185 ف 2/ 207.
(2) اختيارات ص 132 ف 2/ 208.(4/20)
باب الرهن
ويجوز رهن العبد المسلم من كافر بشرط كونه في يد مسلم، واختاره طائفة من أصحابنا. ويجوز للإنسان أن يرهن مال نفسه على دين غيره، كما يجوز أن يضمنه وأولى، وهو نظير ظاهر إعارته للرهن.
وإذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين فالقول قول المرتهن ما لم يدع أكثر من قيمة الرهن، وهو مذهب مالك.
وإذا لم يكن للمديون وفاء غير الرهن وجب على رب المال إمهاله حتى يبيعه، فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه من الحبس وكان في بيعه وهو في الحبس ضرر عليه وجب إخراجه. ويضمن عليه أو يمشي معه هو أو وكيله (1) .
لو أذن الراهن للمرتهن في البيع ثم رجع جاز؛ لكن لو ادعى أنه رجع قبل البيع ... لم يقبل؛ لأن الأصل عدمه، ولو تعلق به حق ثالث. ثم وجدت الشيخ تقي الدين اختار مثل ذلك ذكره المصنف عنه في الوكالة فقال: قال شيخنا: لو باع أو تصرف فادعى أنه عزله قبله لم يقبل. انتهى (2) .
باب الضمان
وقياس المذهب أنه يصح بكل لفظ يفهم منه الضمان عرفًا: مثل زوجه وأنا أؤدي الصداق، أو بعه وأنا أعطيك الثمن، واتركه لا تطالبه وأنا أعطيك الثمن (3) .
ويصح ضمان حارس ونحوه، وتجار حرب بما يذهب من البلد أو
__________
(1) اختيارات ص133، 134 ف 2/ 209.
(2) تصحيح الفروع ج 4/ 218 ف 2/ 209.
(3) اختيارات ص 132 ف 2/ 210.(4/21)
البحر، وغايته ضمان مجهول وما لم يجب، وهو جائز عند أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة وأحمد (1) .
واختار شيخنا صحة ضمان حارس ونحوه وتجار حرب ما يذهب من البلد أو البحر وأن غايته ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التجار للناس من الديون وهو جائز عند أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [72/12] ولأن الطائفة الواحدة الممتنعة من أهل الحرب التي ينصر بعضها بعضًا تجري مجرى الشخص الواحد في معاهدتهم؛ فإذا شورطوا على أن تجارهم يدخلون دار الإسلام بشرط ألا يأخذوا للمسلمين شيئًا وما أخذوه كانوا ضامنين له، والمضمون يؤخذ من أموال التجار جاز ذلك، كما يجوز نظائره؛ لهذا قال الأسير العقيلي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد علام أخذتني وسابقة الحاج - يعني ناقته؟ - قال: «بجريرة حلفائك من ثقيف» فأسر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا العقيلي وحبسه لينال بذلك من حلفائه مقصوده. قال: ويجب على ولي الأمر إذا أخذوا مالاً لتجار المسلمين أن يطالبهم بما ضمنوه ويحبسهم على ذلك كالحقوق الواجبة (2) .
الكفالة
ومن كفل إنسانًا فسلمه إلى مكفوله -ولا ضرر في تسليمه- برئ. ولو في حبس الشرع. ولا يلزمه إحضاره منه إليه عند أحد من الأئمة (3) .
__________
(1) اختيارات 132، 133 ف 2/ 210.
(2) الفروع ج 4/243 فيه زيادة عما في الاختيارات. وتقدم في الجهاد في عقد الذمة وهنا له مناسبة فلذلك ذكرته. ف 2/ 210.
(3) اختيارات 133 فيه زيادة ف 2/ 211.(4/22)
باب الحوالة
والحوالة على ماله في الديوان إذن في الاستيفاء فقط. وله اختيار الرجوع ومطالبته. وليس للابن أن يحيل على الأب. ولا يبيع دينه إذا جوزنا بيع ما على الغريم إلا برضاء الأب. وكره أحمد أن يتزوج الرجل أو يقترض أو يشتري إذا لم يعلم الآخر بعسرته. فلأن يكره أن يحيل على معسر ولم يعلم أولى؛ لأن ظاهر الحال أن الرجل إنما يعامل من كان قادرًا على الوفاء، فإذا كتم ذلك كان غارًا (1) .
باب الصلح
ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً، وهو رواية عن أحمد، وحكي قولاً للشافعي.
ويصح عن دية الخطأ وعن قيمة المتلف غير المثل بأكثر منها من جنسها، وهو قياس قول أحمد. والعين والمنفعة التي لا قيمة لها عادة كالاستظلال بجدار الغير والنظر في سراجه لا يصح أن يرد عليها عقد بيع أو إجارة اتفاقًا.
ولو اتفقا على بناء حائط بستان فبنى أحدهما فما تلف من الثمرة بسبب إهمال الآخر ضمن لشريكه نصيبه (2) .
وإذا احتاج الملك المشترك إلى عمارة لا بد منها فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه في أصح قولي العلماء (3) .
ويلزم الأعلى التستر بما يمنع مشارفته على الأسفل. وإن استويا
__________
(1) اختيارات ص 133 ف 2/ 211.
(2) اختيارات ص 134 فروع ج 4/ 283 ف 2/ 212.
(3) اختيارات ص 134 ف 2/ 212.(4/23)
وطلب أحدهما بناء السترة أجبر الآخر مع الحاجة إلى السترة وهو مذهب أحمد (1) .
وليس للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يؤذي جاره: من بناء حمام، وحانوت طباخ، ودقاق، وهو مذهب أحمد (2) .
ومن لم يسد بئره سدًا يمنع من التضرر بها ضمن ما تلف بها.
وله تعلية بنائه ولو أفضى إلى سد الهواء عن جاره، وليس له منعه خوفًا من نقص أجرة ملكه بلا نزاع (3) .
قال شيخنا: الضرار محرم بالكتاب، والسنة، ومعلوم أن المشاقة والمضارة مبناها على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر لا يحتاج إليه. فمتى قصد الإضرار ولو بالمباح أو فعل الإضرار من غير استحقاق فهو مضار. وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الإضرار فليس بمضار ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث النخلة التي كانت تضر صاحب الحديقة لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق فلم يفعل فقال: «إنما أنت مضار ثم أمر بقلعها» فدل على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه.
ومن كانت له ساحة تلقى فيها الأتربة والزبالة وفضلات الحيوانات ويتضرر الجيران بذلك فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران: إما بعمارتها أو إعطائها لمن يعمرها، أو يمنع أن يلقى فيها ما يضر بالجيران (4) .
__________
(1) اختيارات ص133 فيه عموم ف 2/ 212.
(2) اختيارات ص133 فيه زيادة ف 2/ 212.
(3) اختيارات ص 135 ف 2/ 212.
(4) اختيارات ص135، والفروع في أول الكلام على المضارة ج4/ 286 ف 2/ 212.(4/24)
وليس لأحد أن يبني فوق الوقف ما يضر به اتفاقًا. وكذا إن لم يضر به عند الجمهور (1) . ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح القولين في مذهب أحمد. وحكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2) .
فالساباط الذي يضر بالمارة: مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك وإن غفل عن رأسه رمى عمامته أو شج رأسه، ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال إلا كسر قتبه، والجمل المحمل لا يمر هناك؛ فمثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين؛ بل يجب على صاحبه إزالته، فإن لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر، حتى لو كان الطريق منخفضًا ثم ارتفع على طول الزمان وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر (3) .
باب الحجر
ومن ضاق ماله عن ديونه صار محجورًا عليه بغير حكم حاكم بالحجر، وهو رواية عن أحمد (4) . وإذا لزم الإنسان الدين بغير معاوضة كالضمان ونحوه ولم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه في الإعسار. وهو مذهب أحمد وغيره (5) .
ومن طولب بأداء دين عليه فطلب إمهالاً أمهل بقدر ذلك اتفاقًا. لكن إن خاف غريمه منه احتاط عليه بملازمته، أو بكفيل، أو بترسيم عليه (6) .
__________
(1) اختيارات ص 135 فيه توضيح ف 2/ 212.
(2) اختيارات ص 135، 136، ف 2/ 212.
(3) اختيارات ص 137 ف 2/ 213 فيه زيادة أمثلة.
(4) اختيارات ص 137 ف 2/ 213 فيه زيادة أمثلة.
(5) اختيارات ص 136 فيه زيادة.
(6) اختيارات ص 136 فيه زيادة ف 2/ 213.(4/25)
ومن كان قادرًا على وفاء دينه وامتنع أجبر على وفائه بالضرب والحبس نص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقال أبو العباس: ولا أعلم فيه نزاعًا؛ لكن لا يزاد كل يوم على أكثر من التعزير إن قيل يتقدر، وللحاكم أن يبيع عليه ماله، ويقضي دينه، ولا يلزمه إحضاره (1) .
وقال شيخنا: وله منع عاجز حتى يقيم كفيلاً ببدنه (2) .
ومن عرف بالقدرة وادعى إعسارًا وأمكن عادة قبل. وليس له إثبات إعساره عند غير من حبسه بلا إذنه. ويقضي دينه من مال له فيه شبهة، لأنه لا تبقى شبهة بترك واجب (3) .
ولو كان قادرًا على وفاء الدين وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح فله ذلك؛ إذ التعزير لا يختص بنوع معين وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله.
ومن عليه نفقة واجبة فلا يملك التبرع بما يخل بالنفقة الواجبة. وكلام أحمد يدل عليه (4) .
ولو ادعت امرأة على زوجها بحقها وحبسته لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس؛ بل يستحقها عليها بعد الحبس، كحبسه في دين غيرها؛ فله إلزامها بملازمة بيته، ولا يدخل عليها أحد إلا بإذنه. ولو خاف خروجها من منزله بلا إذنه أسكنها حيث شاء. ولا يجب حبسه بمكان معين، فيجوز حبسه في دار ولو في دار نفسه بحيث لا يمكن من
__________
(1) اختيارات ص 136 فيه زيادة ف 2/ 213.
(2) الفروع ج 4/ 288 ف 2/ 214.
(3) اختيارات ص 136 ف 2/ 74.
(4) اختيارات ص137 ف 2/ 214. وعبارة الفروع بعدما تقدم في الاختبارات وهذا أشبه إلخ.(4/26)
الخروج، ويجوز أن يحبس ويرسم عليه إذا حصل المقصود بذلك بحيث يمنعه من الخروج (1) .
وهذا أشبه بالسنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الغريم بملازمة غريمه وقال له: «ما فعل أسيرك» ؟ وإنما المرسم وكيل الغريم في الملازمة. فإن لم يكن للزوج من يحفظ امرأته غير نفسه وأمكن أن يحبسهما في بيت واحد فتمنعه هي من الخروج ويمنعها هو من الخروج فعل ذلك؛ فإن له عليها حبسها في منزله، ولها عليه حبسه في دينها، وحقه عليها أوكد، فإن حق نفسه في المبيت ثابت ظاهرًا وباطنًا، بخلاف حبسها له فإنه بتقدير إعساره لا يكون حبسه مستحقًا في نفس الأمر، إذ حبس العاجز لا يجوز، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [280/2] ولأن حبسها له عقوبة حتى يؤدي الواجب عليه وحبسه لها حق يثبت له بموجب العقد وليس بعقوبة، بل حقه عليها كحق المالك على المملوك؛ ولهذا كان النكاح بمنزلة الرق والأسر للمرأة، قال عمر رضي الله عنه: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله وقرأ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [25/12] ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» والعاني الأسير.
وإذا كان كذلك ظهر أن ما يستحقه عليها من الحبس أعظم مما تستحقه عليه؛ إذ غاية الغريم أن يكون كالأسير، ولأنه يملك من حبسها في منزله الاستمتاع بها متى شاء فحبسه لها دائمًا يستوفي في حبسها ما يستحقه عليها، وحبسها له عارض إلى أن يوفيها حقها،
والحبس الذي يصلح لتوفية الحق مثل المالك لأمته، بخلاف الحبس إلى أن يستوفى الحق فإنه من جنس حبس الحر للحر، ولهذا لا يملك الغريم منع المحبوس من تصرف يوفي به الحق، ولا يمنعه من حوائجه إذا احتاج
__________
(1) اختيارات 137 ف 2/ 214.(4/27)
الخروج من الحبس مع ملازمته له، وليس على المحبوس أن يقبل ما يبذله له الغريم مما عليه منة فيه. ويملك الرجل منع امرأته من الخروج مطلقًا إذا قام بما لها عليه، وليس لها أن تمتنع من قبول ذلك.
وبهذا وغيره يتبين أن له أن يلزمها ويمنعها من الخروج أكثر مما لها أن تلزمه وتمنعه من الخروج من حبسه، فإذا لم يكن له من يقوم مقامه في ذلك لم يجز أن يمنع من ملازمتها وهذا حرام بلا ريب. ولا ينازع أحد من أهل العلم أن حبس الرجل إذا توجه تتمكن معه امرأته من الخروج من منزله. وإسقاط حقه عليها حرام لا يحل لأحد من ولاة الأمور والحكام فعل ذلك حرة عفيفة كانت أو فاجرة، فإن ما يفضي إلى تمكينها من الخروج إسقاط لحقه، وذلك لا يجوز، لا سيما وذلك مظنة لمضارتها له أو فعلها للفواحش ... إلى أن قال: فرعاية مثل هذا من أعظم المصالح التي لا يجوز إهمالها. قال: وهي إنما تملك ملازمته، وملازمته تحصل بأن تكون هي وهو في مكان واحد، ولو طلب منها الاستمتاع في الحبس فعليها أن توفيه ذلك؛ لأنه حق عليها، وإنما المقصود بالحبس أو الملازمة أن الغريم يلازمه حتى يوفيه حقه، ولو لازمه في داره جاز.
فإن قيل: فهذا يفضي إلى أن يمطلها ولا يوفي.
فالجواب: أن تعويقه عن التصرف هو الحبس، وهو كاف في المقصود إذا لم يظهر امتناعه عن أداء الواجبات، فإن ظهر أنه قادر وامتنع ظلمًا عوقب بأعظم من الحبس بضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي، كما نص على ذلك أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مطل الغني ظلم» والظالم يستحق العقوبة، فإن العقوبة تستحق على ترك واجب أو فعل محرم، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» ومع هذا لا يسقط حقه على امرأته؛ بل يملك حبسها في منزله.(4/28)
وأما تمكين مثل هذا يعني الممتنع عن الوفاء ظلمًا من فضل الأكل والنكاح فهذا محل اجتهاد؛ فإنه من نوع التعزير؛ فإذا رأى الحاكم أن يعزره به كان له ذلك؛ إذ التعزير لا يختص بنوع معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد ولي الأمر في تنوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله ولكن المحبوسون على حقوق النساء ليسوا من هذا الضرب، فإن لم يحصل المقصود بحبسهما جميعًا إما لعجز أحدهما عن حفظ الآخر أو لشر يحدث بينهما ونحو ذلك وأمكن أن تسكن في موضع لا تخرج منه، وهو ينفق عليها، مثل أن يسكنها في رباط نساء أو بين نسوة مأمونات فعل ذلك.
ففي الجملة لا يجوز حبسها له وتذهب حيث شاءت باتفاق العلماء؛ بل لا بد من الجمع بين الحقين ورعاية المصلحتين؛ لا سيما إذا كان ذهابها مظنة للفاحشة؛ فإن ذلك يصير حقًا لله يجب على ولي الأمر رعايته وإن لم يطلبه الزوج (1) .
ولا يبطل إبراء الزوجة الزوج بدعواها السفه ولو مع بينة أنها سفيهة ليست تحت الحجر. ولو أبرأته وولدت عنده ومالها بيدها تتصرف فيه لم يصدق أبوها أنها كانت سفيهة يجب الحجر عليها بلا بينة. والله أعلم (2) .
فصل
وعنه يصح تصرف مميز ويقف على إجازة وليه، نقل حنبل: إن تزوج الصغير فبلغ أباه فأجازه جاز. قال جماعة: ولو أجازه هو بعد رشده. لم يجز. وقال شيخنا: رضاه بقسمه هو قسمة تراض وليس
__________
(1) الفروع ج 4/ 293-297. ويأتي بعضها في باب آداب القاضي أيضًا، وانظر الإنصاف ج 8/360. لكنها مختصرة ف 2/ 214.
(2) اختيارات 188 ف 2/ 214.(4/29)
إجازة بعقد فضولي. وقال: إن نفذ عتقه المتقدم أو دل على رضاه به عتق، كمن يعلم أنه يتصرف كالأحرار (1) .
وإن نوزع المحجور عليه لحظه في الرشد فشهد شاهدان برشده قبل؛ لأنه قد يعلم بالاستفاضة. ومع عدم البينة له اليمين على وليه أنه لا يعلم رشده.
والإسراف ما صرفه في الحرام، أو كان صرفه في المباح يضر بعياله، أو كان وحده ولم يثق بإيمانه، أو صرف في مباح قدرًا زائدًا على المصلحة (2) .
قال شيخنا: الإسراف في المباح هو مجاوزة الحد، وهو من العدوان المحرم، وترك فضولها من الزهد المباح، والامتناع عنه مطلقًا كمن يمتنع من اللحم أو الخبز أو الماء أو لبس الكتان والقطن أو النساء فهذا جهل وضلال، والله أمر بأكل الطيب والشكر له، والطيب ما ينفع ويعين على الخير، وحرم الخبيث وهو ما يضر في دينه (3) .
ولو وصى من فسقه ظاهر إلى عدل وجب إنفاذه كحاكم فاسق حكم بالعدل.
والولاية على الصبي والمجنون والسفيه تكون لسائر الأقارب.
ومع الاستقامة لا يحتاج إلى الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي.
وتكون الولاية لغير الأب والجد والحاكم على اليتيم وغيره وهو مذهب أبي حنيفة ومنصوص أحمد في الأم. وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم فضعيف جدًا. والحاكم العاجز كالعدم.
__________
(1) الفروع ج 4/ 6 ف2/ 215.
(2) اختيارات ص 138 ف 2/ 216.
(3) الفروع ج4/ 618 موجود مفرق ف 1/ 202 وله مناسبة هنا ف 2/216.(4/30)
ولو مات من يتجر لنفسه وليتيمه بماله وقد اشترى شيئًا لم يعرف لمن هو لم يقسم، لم يوقف الأمر حتى يصطلحا كما يقوله الشافعي، بل مذهب أحمد أنه يقرع، فمن قرع حلف وأخذ. ولو مات الوصي وجهل بقاء مال وليه كان دينًا في تركته.
ولا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًا، خبيرًا بما ولي عليه، أمينًا عليه. والواجب إذا لم يكن بهذه الصفة أن يستبدل به غيره (1) .
ولا يقبل من السيد دعوى عدم الإذن لعبده مع علمه بتصرفه، ولو قدر صدقه فتسليطه عليه عدوان. وتردد أبو العباس فيما إذا لم يكن للولي خلاص حق موليه إلا برفع من هو عليه إلى وال يظلمه (2) .
باب الوكالة
يجوز أن يوكل من يقبض له شيئًا من الزكاة ما تيسر وإن كان مجهولاً ولا محذور فيه (3) .
قال شيخنا: لو باع أو تصرف فادعى أنه عزله قبله لم يقبل. فلو أقام به بينة ببلد آخر وحكم به حاكم فإن لم ينعزل قبل العلم صح تصرفه وإلا كان حكمًا على الغائب. ولو حكم قبل هذا الحكم بالصحة حاكم لا يرى عزله قبل العلم فإن كان قد بلغه ذلك نفذ والحكم الناقض له مردود، وإلا وجوده كعدمه. والحاكم الثاني إذا لم يعلم بأن العزل قبل العلم أو علم ولم يره أو رآه ولم ير نقض الحكم المتقدم فحكمه كعدمه. وقبض الثمن من وكيله دليل بقاء وكالته، وأنه قول أكثر العلماء (4) .
__________
(1) اختيارات ص138 ف 2/ 216.
(2) اختيارات 137، 138 ف 2/ 217، 218.
(3) مختصر الفتاوى 275 ف 2/ 217.
(4) فروع 6/ 34 ف 2/ 216.(4/31)
قال القاضي في مسألة عزل الوكيل بموت الموكل: فأما إن أخرج الموكل عن ملكه مثل إعتاقه العبد وبيعه فإنه تنفسخ الوكالة بذلك. ففرق بين الموت وبين العتق والمبيع بأنه حكم الملك هنا قد زال وهناك السلعة بعد الموت باقية على حكم مالكها.
وما قاله القاضي فيه نظر؛ فإن الانتقال بالموت أقوى منه بالبيع والعتق، فإن هذا يمكن الاحتراز عنه فيكون بمنزلة عزله بالقول وذلك قد زال الملك فيه بفعل الله تعالى.
وإذا تصرف بلا إذن ولا ملك ثم تبين أنه كان وكيلاً أو مالكًا ففي صحة تصرفه وجهان، كما لو تصرف بعد العزل ولم يعلم، فلو تصرف بإذن ثم تبين أن الإذن كان من غير المالك أو المالك أذن له ولم يعلم أو أذن بناءً على جهة، ثم تبين أنه لم يكن يملك الإذن بها بل بغيرها أو بناءً على أنه ملك بشراء ثم تبين له أنه كان وارثًا.
فإن قلنا يصح التصرف في الأول فههنا أولى. وإن قلنا لا يصح هناك فقد يقال يصح هنا. لأنه كان مباحًا له في الظاهر والباطن؛ لكن الذي اعتقده ظاهرًا ليس هو الباطن. فنظيره إذا اعتقد أنه محدث فتطهر ثم تبين فساد طهارته وأنه كان متطهرًا قبل هذا (1) .
ولو وكل شخص شخصًا أن يوكل له فلانًا في بيع ونحوه - فقال الوكيل الأول للوكيل الثاني: بع هذا ولم يشعره أنه وكيل الموكل.
قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة فقلت: نسبة أنواع التوكيل والموكلين إلى الوكيل كنسبة أنواع التمليك والمملكين إلى الملك. ثم لو ملكه شيئًا لم يحتج أن يبين هل هو من جهته أو من جهة غيره؟ ولا هل هو هبة أو زكاة؟ كما نص عليه أحمد. فذلك لا يحتاج
__________
(1) اختيارات 138، 139 ف 2/ 217.(4/32)
أن يبين هل هو وكيله أو وكيل فلان؟ وإن كان الحكم فيهما مختلفًا بالنسبة إلى الموكل والمملك (1) .
نقل مهنا في رجل دفع إلى رجل ثوبًا يبيعه فباعه وأخذ الثمن فوهبه المشتري ثوبًا أو منديلاً فنص أنه يكون لصاحب الثوب، ولو نقص المشتري من الثمن درهمًا فإن الضمان على الذي باع الثوب. فقد نص أحمد على أن ما حصل للوكيل من زيادة فهي للبائع وما نقص فهو عليه ولم يفرق بين أن يكون النقص قبل لزوم العقد أو بعده. وينبغي أن يفصل إذالم يلزمه (2) .
والوكيل في الضبط والمعرفة مثل من وكل رجلاً في كتابة ما له وما عليه كأهل الديوان فقوله أولى بالقبول من وكيل التصرف، لأنه مؤتمن على نفس الإخبار بما له وما عليه. وهذه مسألة نافعة.
ونظيرها إقرار كتاب الأمراء وأهل ديوانهم بما عليهم من الحقوق بعد موتهم، وإقرار كتاب السلطان وبيت المال وسائر أهل الديوان بما على جهاتهم من الحقوق، ومن ناظر الوقف وعامل الصدقة بما على الخراج ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يخرجون عن ولاية أو وكالة.
وإن استعمل الأمير كاتبًا خائنًا أو عاجزًا أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه. ومن استأمنه أمير على ماله فخشي من حاشيته إن منعهم من عادتهم المتقدمة لزمه فعل ما يمكنه وهو أصلح للأمير من تولية غيره فيرتع معهم، لا سيما وللأخذ شبهة (3) .
__________
(1) اختيارات 139 ف 2/ 218.
(2) اختيارات 139 ف 2/ 218.
(3) اختيارات 140 فيه زيادات ف 2/ 218.(4/33)
قال في المحرر: وإذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل أو باع بدونه صح ولزمه النقص والزيادة ونص عليه.
قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك.
وقال: هذا ظاهر فيما إذا فرط. وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل. وأبين من هذا الناظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أجر أو زارع أو ضارب ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفًا ثم تبين الخطأ فيه: مثل أن يأمره بعمارة أو غرس ونحو ذلك ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه. وهذا باب واسع. وكذلك المضارب والشريك؛ فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة فلا لوم عليه فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر، وهو شبيه بما إذا قتل في دار الحرب من يظنه حربيًا فبان مسلمًا؛ فإن جماع هذا أنه مجتهد مأمور بعمل اجتهد فيه. وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان؟ هذا الضرب هو خطأ في الاعتقاد والقصد لا في العمل، وأصول المذهب تشهد له بروايتين:
قال أبو حفص في المجموع: وإذا سمي له ثمن فنقص منه - نص الإمام أحمد في رواية ابن منصور: إذا أمر رجلاً أن يبيع له شيئًا فباعه بأقل فالبيع جائز وهو ضامن لما نقص.
قال أبو العباس: لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن؛ لأنهما يدعيان فساد العقد وهو يدعي صحته، فكان القول قوله، ويضمن الوكيل النقص (1) .
__________
(1) اختيارات 141 ف 2/ 218.(4/34)
وإذا وكله أو أوصى إليه أن يتصدق بمال ذكره فإنه يصح، وتعيين المعطى إلى الوكيل أو الوصي. هذا هو الذي ذكره في الوصية، والوكالة مثلها. وكذلك لو وكله أو أوصى إليه بإخراج حجة عنه. وإن وكله أو أوصى إليه أن يقف عنه شيئًا ولم يعين مصرفًا فينبغي أن يكون كالصدقة؛ فإن المصرف للوقف كالمصرف للصدقة، ويبقى إلى الوكيل والوصي تعيين المصرف. وإن عين مصرفًا منقطعًا فينبغي أن يكون إلى الوصي تتميمه بذكر مصرف مؤبد. إلا أن يقال: الصدقة لها جهة معلومة بالشرع والعرف وهم الفقراء، وإنما النظر إلى الوصي في تعيين أفراد الجهة، بخلاف الوقف فإنه لا يتبين له جهة معينة شرعًا ولا عرفًا. فالكلام في هذا ينبغي أن يكون كما لو نذر أن يقف أو يتصدق به.
وحديث أبي طلحة يقتضي أن من نذر الصدقة بمال فإن الأفضل أن يصرفه في أقربيه وإن كان منهم غني، وهذا يقتضي أن الصدقة المطلقة في النذر ليست محمولة على الصدقة الواجبة في الشرع؛ لكن على جنس المستحبة شرعًا. ويتوجه في الوكالة والوصية مثل ذلك.
وشبيه هذا من أصلنا: لو نذر أن يصلي: هل يحمل على أدنى الواجب، أو أدنى التطوع؟ فإن الوكالة والأيمان متشابهات (1) .
والوكيل أمين لا ضمان عليه ولو عزل قبل علمه بالعزل وقلنا ينعزل لعدم تفريطه، وكذلك لا يضمن مشتر منه الأجرة إذا لم يعلم وهو أحد القولين (2) .
ومن وكل في بيع أو استئجار أو شراء فإن لم يسم الموكل في العقد فضامن، وإلا فروايتان. وظاهر المذهب تضمينه (3) .
__________
(1) اختيارات 141، 142 ف 2/ 217.
(2) اختيارات ص142 ف 2/ 217.
(3) اختيارات 142 ف 2/ 218.(4/35)
قال: ومثله الوكيل في الإقراض (1) .
قال القاضي: في المجرد وابن عقيل في الفصول: ولو جاء رجل إلى امرأة فقال: وكلني فلان أن أزوجك له، فرغبت في ذلك وأذنت لوليها في تزويجها. ثم إن ذلك الموكل أنكر أن يكون وكله في التزويج له. فالقول قوله، ولا يلزمه النكاح. ولا تلزم الوكيل؛ بل يحكم ببطلانه. ويتفرع على هذا أن الرجل إذا وكل وكيلاً في أن يتزوج له امرأة فتزوجها فلا بد أن يذكر حال العقد أنه تزوجها لفلان، فإن أطلق ولم يسم الموكل لم يلزمه النكاح في حقه ولا في حق الموكل؛ لأن الظاهر أنه عقد العقد لنفسه ونيته أن يعقد لغيره. وإذا لم يذكر اسم ذلك الغير فقد أخل بالمقصود.
ولو وكله أن يشتري له سلعة فاشتراها لم يشترط في صحة العقد ذكر فلان؛ بل إذا أطلق ونوى الشراء له صح؛ لأن القصد منه حصول الثمن وقد وجد.
وإذا بطل عقد النكاح في حقهما فهل يلزم الوكيل نصف الصداق؟ على روايتين.
قال أبو العباس: فقد جعلا فيما إذا لم يسم الوكيل الموكل في العقد روايتين. وهذا فيه نظر؛ بل إذا قال: زوجتك فلانة. فقال: قبلت، فقد انعقد النكاح في الظاهر للوكيل. فإذا قال: نويت أن النكاح لموكلي. فهو يدعي فساد العقد وأن الزوج غيره فلا يقبل قوله على المرأة إلا أن تصدقه، ولو صدقته لم يلزمه شيء قولاً واحدًا. إلا أن هذا الإنكار من الزوج بخلاف مسألة إنكار الوكالة.
__________
(1) فروع 4/ 353 ف 2/ 218.(4/36)
ولو قيل: إن النكاح هنا لا يحتمل إلا أن يكون له لكان له وجها (1) .
وقال الأصحاب: ومن ادعى الوكالة في استيفاء حق فصدقه الغريم لم يلزمه الدفع إليه إن صدقه، ولا اليمين إن كذبه.
والذي يجب أن يقال: إن الغريم متى غلب على ظنه أن الموكل لا ينكر وجب عليه التسليم فيما بينه وبين الله، كالذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وكيله وعلم له علامة فهل يقول أحد: إن ذلك الوكيل لم يكن يجب عليه الدفع؟ وأما في القضاء فإن كان الموكل عدلاً وجب الحكم، لأن العدل لا يجحد. والظاهر أنه لا يستثنى، فإن دفع من عنده الحق إلى الوكيل ذلك الحق ولم يصدقه بأنه وكيل وأنكر صاحب الحق الوكالة رجع عليه وفاقًا ومجرد التسليم ليس تصديقًا. وكذا إن صدقه في أحد قولي أصحابنا؛ بل نص إمامنا، وهو قول مالك؛ لأنه متى لم يتبين صدقه فقد غره.
وكل إقرار كذب فيه ليحصل بما يمكن انتفاؤه فهل يجعل إنشاء: مثل أن تقول: وكلت فلانًا ولم توكله؟ فهو نظير أن يجحد الوصية فهل يكون جحده رجوعًا؟ فيه وجهان (2) .
وإذا اشترى شيئًا من موكله أو موليه كان الملك للموكل والمولى عليه. ولو نوى شراءه لنفسه؛ لأن له ولاية الشراء وليس كالغصب؛ لكن لو نوى أن يقع الملك له وهذه نية محرمة فتقع باطلة، ويصير كأن العقد عري عنها إذا كان يريد النقد من مال المولى عليه والموكل.
قال أبو العباس في تعاليقه القديمة: حديث عروة بن الجعد في شراء الشاة يدل على أن الوكيل في شراء معلوم بثمن معلوم إذا اشترى به أكثر من المقدر جاز له بيع الفاضل. وكذا ينبغي أن يكون الحكم.
__________
(1) اختيارات ص143 ف 2/ 217.
(2) اختيارات ص143-144 ف 2/ 218.(4/37)
ويغلب على ظني أنه منقول كذا حسبه في كفالة الكافي.
قلت: ما قاله أبو العباس من النقل فصحيح. قال صاحب الكافي: ظاهر كلام أحمد صحة ذلك الحديث عن عروة، ولكن ذكره في وكالة الكافي. فسبق القلم من أبي العباس فكتب كفالة الكافي. والله أعلم (1) .
ومن قصد تعليق الحكم بالوصف رتبه عليه ولم يتعرض لجميع شروطه ومواثقه؛ لأنه عسر؛ إذ القصد بيان اقتضاء السبب للحكم؛ فلو قال: أعط هذا للفقراء أو نحوهم استأذنه في عدوه وفاسق. ولو قال: إلا أن يكون أحدهم كذا وكذا عد لُكْنة وعِيًّا. ولو قال: من سرق منهم فاقطعه حسن أن يراجعه فيمن سعى له في مصلحة عظيمة وإن لم يحسن التقييد منه. وكذا قول الطبيب: اشربه للإسهال فعرض ضعف شديد أو إسهال. ذكر ذلك شيخنا (2) .
باب الشركة
الاشتراك في مجرد الملك بالعقد: مثل أن يكون بينهما عقار فيشيعانه، أو يتعاقدان على أن المال الذي لهما المعروف بهما يكون بينهما نصفين، ونحو ذلك، مع تساوي ملكهما فيه، فجوازه متوجه؛ لكن هل يكون بيعًا؟ قياس ما ذكروه في الشركة أنه ليس بيعًا. كما أن القسمة ليست بيعًا (3) .
قال أحمد: ما أنفق على المال فعلى المال. وقاله شيخنا في البذل لمحارب ونحوه (4) .
__________
(1) اختيارات 144، 145، ف 2/ 218.
(2) الفروع ج 4/ 376 ف 2/218.
(3) اختيارات ص145 ف 2/218.
(4) فروع ج4 / 384 ف 2/ 220.(4/38)
ولا نفقة لمضارب إلا بشرط أو عادة؛ فإن شرطت مطلقًا فله نفقة مثله طعامًا وكسوة. وقد يخرج لنا أن للمضارب في السفر الزيادة على نفقة الحضر، كما قلنا في الولي إذا جحد الصبي؛ لأن الزيادة إنما احتاج إليها لأجل المال.
وقال أبو العباس أيضًا: يتوجه فيها ما قلناه في نفقة الصبي إذا جحد الولي هل يكون الزائد فيها من مال الصبي أو مال الولي؟ على القولين، كذلك هنا.
وقد ثبت من أصلنا صحة الاشتراك في العقود وأن تختلط الأعيان، كما تصح القسمة بالمحاسبة وإن لم تتميز الأعيان.
ولو دفع دابته أو نخله إلى من يقوم به وله جزء من ثمانية صح. وهو رواية عن أحمد (1) .
ويجوز قسمة الدين في ذمة أو ذمم، وهو رواية عن أحمد، فإن تكافأت الذمم فقياس المذهب في الحوالة على ولي اليتيم ونحوه وجوبها.
ولو كتب رب المال للجابي والسمسار ورقة ليسلمها إلى الصبي في المتسلم ماله، وأمره أن لا يسلمه حتى يقتص منه فخالف ضمن لتفريطه. ويصدق الصبي مع يمينه، والورقة شاهدة له؛ لأن العادة جارية بذلك (2) .
وتصح شركة الشهود، وللشاهد أن يقيم مقامه غيره إن كان الجعل
__________
(1) اختيارات 145، 146 ف 2/ 220.
(2) اختيارات ص 146، 147. فيها زيادات ف 2/ 222.(4/39)
على عمل في الذمة، وإن كان على شهادته بعينه فالأصح جوازه، وللحاكم أن يكرههم؛ لأن له النظر في العدالة وغيرها.
وإن اشتركوا على أن كل ما حصله كل واحد منهم بينهم بحيث إذا كتب أحدهم وشهد شاركه الآخر وإن لم يعمل. فهي شركة الأبدان. تجوز فيما تجوز فيه الوكالة. وأما حيث لا تجوز ففيه وجهان كشركة الدلالين، وقد نص أحمد على جوازها فقال في رواية أبي داود وقد سئل عن الرجل يأخذ الثوب ليبيعه فيدفعه إلى الآخر: يبيعه ويناصفه فيما يأخذ من الكراء. قال: الكراء للذي باعه؛ إلا أن يكونا شريكين فيما أصابا.
ووجه صحتها أن بيع الدلال وشراءه بمنزلة خياطة الخياط ونجارة النجار وسائر الأجراء المشتركين. ولكل منهم أن يستنيب وإن لم يكن للوكيل أن يوكل.
ومأخذ من منع من ذلك: أن الدلالة في باب الوكالة سائر الصناعات من باب الإجارة، وليس الأمر كذلك.
ومحل الخلاف هو في شركة الدلالين التي فيها عقد. فأما مجرد النداء والعرض وإحضار الديون فلا خلاف في جوازه.
وتسليم الأموال إلى الدلالين مع العلم باشتراكهم إذن لهم ببيعها.
ولو باع كل واحد ما أخذه ولم يعط غيره واشتركا في الكسب جاز في أظهر الوجهين. وموجب العقد المطلق التساوي في العمل والأجر. وإن عمل واحد أكثر ولم يشترط طالبهم إما بما زاده من العمل وإما بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمله.(4/40)
وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زيادة جاز. وليس لولي الأمر المنع بمقتضى مذهبه في شركة الأبدان والوجوه والمساقاة والمزارعة ونحوها مما يسوغ فيه الاجتهاد (1) .
والربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة فيه؟ فقيل: هو للمالك فقط، كنماء الأعيان. وقيل: للعامل فقط؛ لأن عليه الضمان. وقيل: يتصدقان به، لأنه ربح خبيث. وقيل: يكون بينهما على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة، وهو أصحهما، وبه حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إلا أن يتجر به في غير وجه العدوان مثل أن يعتقد أنه مال نفسه فيتبين أنه مال غيره فهنا يقتسمان الربح بلا ريب.
وذكر أبو العباس في موضع آخر: أنه إذا كان عالمًا بأنه مال الغير فهنا يتوجه قول من لا يعطيه شيئًا؛ لأنه حصل بفعل محرم فلا يكون سببًا للإباحة. فإذا تاب سقط حق الله بالتوبة وأبيح له حينئذ بالقسمة. فأما إذا لم يتب ففي حله نظر.
وكذلك المتوجه فيما إذا غصب شيئًا كفرس وكسب به مالاً كالصيد أن يجعل المكسوب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما؛ بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما.
وأما إذا كسب العبد فالواجب أن يعطى المالك أكثر الأمرين من كسبه أو قيمة نفعه.
ومن كانت بينهما أعيان مشتركة فيما يكال أو يوزن فأخذ أحدهما قدر حقه بإذن حاكم جاز قولاً واحدًا، وكذلك بدون إذنه على الصحيح (2) .
__________
(1) اختيارات ص146/ 147. فيها زيادات ف 2/222.
(2) اختيارات 147، 148 ف 2/222، 239.(4/41)
باب المساقاة والمزارعة
ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة، واختاره أبو حفص العكبري، والقاضي في تعليقه وهو ظاهر مذهب أحمد.
ولو كانت الأرض مغروسة فعامله بجزء من غراسها صح، وهو مقتضى ما ذكره أبو حفص. ولا فرق بين أن يكون الغارس ناظر وقف أو غيره. ولا يجوز لناظر بعده بيع نصيب الوقف من الشجر بدون حاجة. وللحاكم الحكم بلزومها في محل النزاع فقط، والحكم له من جهة عوض المثل ولو لم تقم به بينة؛ لأنه الأصل. ويجوز للإنسان أن يتصرف فيما في يده بوقف وغيره حتى تقوم حجة شرعية بأنه ليس ملكًا له؛ لكن لا يحكم بالوقف حتى يثبت الملك.
ومقتضى قول أبي حفص أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض، كما جاز النسج بجزء من غزل نفسه. فإن اشترطا في المغارسة أن يكون على الغارس الماء أو بعضه فالمتوجه أن الماء كالغرس والبذر، كما سيجيء مثله في المزارعات؛ لأن الماء أصل يفنى. ومتى كان من العامل أصل فإن فيه روايتين.
وإن غارسه على أن رب الأرض تكون له دراهم مسماة إلى حين إثمار الشجر فإذا أثمر كانا شريكين في الثمر -قال أبو العباس: فهذه لا أعرفها منقولة. وقد يقال: هذا لا يجوز، كما لو اشترط في المزارعة والمساقاة شيئًا مقدرًا؛ فإنه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط فيبقى الآخر لا شيء له؛ لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم.
والمناصب على أن عليه سقي الشجر والقيام عليها إذا باع نصيبه من ذلك لمن يقوم مقامه في العمل جاز وصح شرطه، كالمكاتب إذا بيع(4/42)
على كتابته. هذا قياس المذهب (1) .
وإذا ترك العامل العمل حتى فسد الثمر فينبغي أن يجب عليه نصيب المالك، وينظر كم يجيء لو عمل بطريق الاجتهاد، كما يضمن لو يبس الشجر. وهذا لأن تركه العمل من غير فسخ العقد حرام وغرر، وهو سبب في عدم هذا الثمر، فيكون كما لو تلفت الثمرة تحت اليد العادية، كالضمان بالتسبب في الإتلاف، لا سيما إذا انضم إليه اليد العادية.
واستيلاؤه على الشجر مع عدم الوفاء بما شرطه: هل هو يد عادية؟ فيه نظر؛ لكنه سبب في الإتلاف. وهذا في الفوائد نظير المنافع، فإن المنافع لم توجد، وإنما الغاصب منع من استيفائها.
وحاصله: أن الإتلاف نوعان: إعدام موجود، وتفويت لمعدوم انعقد سبب وجوده، وهذا تفويت.
وعلى هذا فالعامل في المزارعة إذا ترك العمل فقد استولى على الأرض وفوت نفعها فينبغي ألا يضمن ضمان إتلاف أو ضمان إتلاف ويد. لكن هل يضمن أجرة المثل أو يضمن ما جرت به العادة مثل تلك الأرض؟ مثل أن يكون الزرع في مثلها معروفًا فيقاس بمثلها.
وأما على ما ذكره أصحابنا فينبغي أن يضمن بأجرة المثل.
والأصوب والأقيس بالمذهب أن يضمن بمثل ما يثبت. وعلى هذا فلا يكون ضمان يد، وإنما هو ضمان تغرير (2) .
ولو كان من إنسان الأرض، ومن ثان العمل، ومن ثالث البذر، ومن رابع البقر. صح وهو رواية عن أحمد (3) .
__________
(1) اختيارات 148، 149 ف 2/222.
(2) اختيارات ص149، 150 فيه زيادة ف 2/ 223.
(3) اختيارات 150 ف 2/223.(4/43)
وإذا شرط صاحب البذر أن يأخذ مثل بذره ويقتسمان الباقي جاز، كالمضاربة وكاقتسامهما ما يبقى بعد الكلف (1) .
وجوز شيخنا أخذه أو بعضه بطريق القرض. قال: يلزم من اعتبر البذر من رب الأرض وإلا فقوله فاسد (2) .
وجوز شيخنا إجارة الشجر مطلقًا ويقوم عليها المستأجر كأرض الزرع [وأن ما استوفاه الموقوف عليه والمستعير بلا عوض يستوفيه المستأجر بالعوض] بخلاف بيع السنين؛ فإن تلفت الثمرة فلا أجرة، وإن نقصت عن العادة فالفسخ أو الأرش لعدم المنفعة المقصودة بالعقد، وهو كجائحة (واشتراط عمل الآخر حتى يثمر بعضه) قال شيخنا: والسياج على المالك، ويتبع في الكلف السلطانية العرف ما لم يكن شرط، قال: وما طلب من قرية من وظائف سلطانية ونحوها فعلى قدر الأموال، وإن وضعت على الزرع فعلى ربه ما لم يشرطه على مستأجر، وإن وضع مطلقًا فالعادة. ومتى فسد العقد فالثمرة والبذر لربه وعليه الأجرة، وكذا العشر. وإن صحت لزم المقطع عشر نصيبه. ومن قال: العشر كله على الفلاح فخلاف الإجماع. قاله شيخنا. وإن ألزموا الفلاح به فمسألة الظفر. وقال شيخنا: الحق ظاهر فيأخذه (3) .
وإذا صحت المزارعة فيلزم المقطع عشر نصيبه. ومن قال: العشر كله على الفلاح فقد خالف الإجماع.
وإذا ألزموا الفلاح به فمسألة الظفر، والحق ظاهر، فيجوز له قدر ما ظلم به. والسياج على المالك (4) .
__________
(1) اختيارات 150 هنا جزم بالحكم ف 2/223.
(2) الفروع ج 4/ 415 ف 2/ 223.
(3) الفروع ج 4/ 417 ف 2/ 224 وما بين المعقوفين ساقط من نسخة.
(4) عبارة الاختيارات ص150 ف 2/224.(4/44)
باب الإجارة
ويجوز البيع والإجارة في عقد واحد في أظهر قوليهم (1) .
قال أصحابنا: يستحب أن يعطي الظئر عند الفطام عبدًا أو أمة إذا أمكن؛ للخبر. ولعل هذا للمتبرعة بالرضاع. وأما في الإجارة فلا يفتقر إلى تقدير عوض ولا إلى صيغة؛ بل ما جرت العادة بأنه إجارة تستحق فيه أجرة المثل في أظهر قولي العلماء (2) .
قال ابن منصور: قلت لأحمد: الرجل يستأجر البيت إذا شاء أخرج المستأجر وإذا شاء خرج هو؟ قال: قد وجب فيهما إلى أجله؛ إلا أن يهدم البيت، أو يغرق الدار، أو يموت البعير فلا ينتفع المستأجر بما استأجر فيكون عليه من الأجرة بقدر ما سكن أو ركب، قال القاضي ظاهر هذا أن الشرط الفاسد لا يبطل الإجارة. وقال أبو العباس: هذا اشتراط للخيار، لكنه في جميع المدة مع الإذن في الانتفاع. فإذا ترك الأجير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه (3) .
وتصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها. وهو ظاهر المذهب وقول الجمهور (4) .
ونصوص الإمام أحمد كثيرة في المنع من إجارة المسلم داره من أهل الذمة وبيعها لهم،. واختلف الأصحاب في هذا المنع: هل هو كراهة تنزيه أو تحريم؟ فأطلق أبو علي بن أبي موسى والآمدي الكراهة. وأما الخلال وصاحبه فمقتضى كلامهما وكلام القاضي تحريم ذلك. وكلام أحمد يحتمل الأمرين. وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة إنما محله
__________
(1) اختيارات ص155 ف 2/228.
(2) اختيارات ص156 ف 2/228.
(3) اختيارات ص157 ف 2/228.
(4) اختيارات ص157 ف 2/228.(4/45)
إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة، فأما إذا أجره إياها لأجل بيع الخمر أو اتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولاً واحدًا (1) .
فصل
قال ابن القيم رحمه الله:
فإن قيل: فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها أم تتصدق به؟ إلى أن قال:
وقال توقف شيخنا في وجوب رد هذه المنفعة المحرمة على باذله والصدقة به في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم» وقال: الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم فاستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر. فإن تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعًا منه؛ بخلاف ما إذا كان العوض خمرًا أو ميتة فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية أتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها.
ثم أورد على نفسه سؤالاً فقال: فيقال على هذا فينبغي أن يقضوا بها إذا طالب بقبضها.
وأجاب عنه بأن قال: نحن لا نأمر بدفعها ولا ردها كعقود الكفار
__________
(1) اختيارات ص156 ف 2/229.(4/46)
المحرمة؛ فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة لأنه كان معتقدًا لتحريمها بخلاف الكافر؛ وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم فلا يقضى لك بالأجرة. فإذا قبضها وقال الدافع هنا المال اقضوا له برده فإني أقبضته إياه عوضًا عن منفعة محرمة. قلنا له: دفعته معاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت إذا كان له في بقائه معه منفعة. فهذا محتمل.
قال: وإن كان ظاهر القياس ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد. انتهى.
إلى أن قال ابن القيم رحمه الله: فأما إذا استأجره لحمل الخمر ليريقها أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذى بها فإن الإجارة تجوز حينئذ؛ لأنه عمل مباح؛ لكن إذا كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه. هذا قول شيخنا.
قال ابن القيم: وقد نص أحمد رحمه الله نفي رواية أبي النضر فيمن حمل خمرًا أو خنزيرًا لنصراني أكره أكل كرائه ولكن نقضي للحمال بالكراء، وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة، فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق.
أحدها: إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة، قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني، فإن فعل قضي له بالكراء. وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين:
إلى أن قال: قال شيخنا رضي الله عنه: والأشبه طريقة ابن أبي(4/47)
موسى - يعني أنه يقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيب له أكلها. قال: فإنها أقرب إلى مقصود أحمد رحمه الله وأقرب إلى القياس، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضًا، وهي ليست محرمة في نفسها وإنما حرمت بقصد المعتصر والمحتمل، فهو كما لو باع عنبًا وعصيرًا لمن يتخذه خمرًا، وفات العصير والخمر في يد المشتري فإن مال البائع لا يذهب مجانًا؛ بل يقضي له بعوضه، كذلك هنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانًا بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر؛ فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء، خشية التأذي بها جاز. ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنا أو للتلوط أو القتل أو السرقة؛ فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمرًا فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.
قال شيخنا: ومثل هذه الإجارة الجعالة - يعني الإجارة على حمل الخمر والميتة - لا توصف بالصحة مطلقًا؛ بل يقال: هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر بمعنى أنه يجب عليه العوض. وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة، ولهذا في الشريعة نظائر. قال: ولا ينافي هذا نص أحمد رحمه الله على كراهة نظارة كرم النصراني فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه ثم نقضي له بكرائه. قال: ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه فإذا لم يعطوه شيئًا ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم كان ذلك أعظم العون لهم، وليسوا أهلاً بأن يعانوا على ذلك، بخلاف من أسلم لهم عملاً لا قيمة(4/48)
له بحال - يعني كالزانية والمغني والنائحة- فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة. ولو قبضوا منهم المال فهل يلزمهم رده عليهم أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك، وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيب لهم أكله، والله الموفق للصواب (1) .
شروط الإجارة
ويجوز إجارة ماء قناة مدة وماء فائض بركة رأياه (2) ولو استأجر تفاحة للشم يحتمل الجواز (3) .
وشمع ليشعله، وجعله شيخنا مثل كل شهر بدرهم، فمثله في الأعيان نظير هذه المسألة في المنافع، ومثله كلما أعتقت عبدًا من عبيدك فعلي ثمنه فإنه يصح وإن لم يبين العدد والثمن، وهو إذن في الانتفاع بعوض، واختار جوازه، وأنه ليس بلازم بل جائز كالجعالة وكقوله: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فإنه جائز، أو: من لقي كذا فله كذا (4) . ويجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة، ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الأول. وغلط بعض الفقهاء فأفتى في نحو ذلك بفساد الإجارة الثانية ظنًا منه أن هذا كبيع المبيع وأنه تصرف فيما لا يملك، وليس كذلك، وهو تصرف فيما استحقه على المستأجر (5) .
ويجوز للمستأجر إجارة العين المؤجرة لمن يقوم مقامه بمثل الأجرة وزيادة، وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي. فإن شرط المؤجر
__________
(1) زاد المعاد ج4/252-254 ف 2/ 229.
(2) اختيارات ص151 والإنصاف ج6/ 30 فيه زيادة ف 2/ 229.
(3) اختيارات ص155 ف 2/ 230.
(4) فروع ج 4/ 228، 229 فيه زيادة ف 2/ 230.
(5) اختيارات 151، 152 ف 2/ 230.(4/49)
على المستأجر ألا يستوفي المنفعة إلا بنفسه أو ألا يؤجرها إلا لعدل أو لا يؤجرها من زيد قال أبو العباس: فقياس المذهب فيما أراه أنها شروط صحيحة؛ لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه لمرض أو تلف مال أو إرادة سفر ونحو ذلك فينبغي أن يثبت له الفسخ، كما لو تعذر تسليم المنفعة (1) .
وليس للوكيل أن يطلق في الإجارة مدة طويلة بل العرف كسنتين ونحوهما. وإذا شرط الواقف أن النظر للموقوف عليه أو أتى بلفظ يدل على ذلك فأفتى بعض أصحابنا أن إجارته كإجارة الظئر. وعلى ما ذكره ابن حمدان ليس كذلك وهو الأشبه (2) .
وقال: ابن رجب: أما إذا شرطه للموقوف عليه أو أتى بلفظ يدل على ذلك فأفتى بعض المتأخرين بإلحاقه بالحاكم ونحوه وأنه لا ينفسخ قولاً واحدًا، وأدخله ابن حمدان في الخلاف. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وهو الأشبه (3) .
وقال وتنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين (4) .
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إن كان قبضها المؤجر رجع بذلك في تركته، فإن لم تكن تركة فأفتى بعض أصحابنا بأنه إذا كان الموقوف عليه هو الناظر فمات فللبطن الثاني فسخ الإجارة والرجوع بالأجرة على من هو في يده، اهـ
__________
(1) اختيارات ص 152 فيه زيادة ف 2/230.
(2) اختيارات ص 154 ف 2/230.
(3) الإنصاف ج 6/ 37 ف 2/ 231.
(4) اختيارات ص154 والإنصاف 6/ 36 ف 2/ 231.(4/50)
وقال أيضًا: والذي يتوجه أولاً أنه لا يجوز سلف الأجرة للموقوف عليه، لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها فالتسليف لهم قبض ما لا يستحقونه، بخلاف المالك. وعلى هذا فللبطن الثاني أن يطالبوا بالأجرة المستأجر، لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر (1) .
والاستئجار على نفس تلاوة القرآن غير جائز، وإنما النزاع في التعليم ونحوه مما فيه مصلحة تصل إلى الغير. والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله وما وقع بالأجر من النقود ونحوها فلا ثواب فيه وإن قيل: يصح الاستئجار عليه.
فإذا أوصى الميت أن يعمل له ختمة فينبغي أن يتصدق بذلك على المحاويج من أهل القرآن أو غيره فذلك أفضل وأحسن (2) .
وإذا كان المعلم يقرئ فأعطي شيئًا جاز له أخذه عند أكثر العلماء (3) .
ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة الإذن في ذلك. وقد قال العلماء: إن القارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب له، فأي شيء يهدى للميت؟ وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح.
والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة؛ وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم.
ولا بأس بجواز أخذ الأجرة على الرقية نص عليه أحمد.
__________
(1) الإنصاف ج 6/ 37، 38 ف 2/ 231.
(2) مختصر الفتاوى 170 ف 2/ 231، 232.
(3) مختصر الفتاوى 64 ف 2/ 231، 96.(4/51)
والمستحب أن يأخذ الحاج عن غيره ليحج؛ لا أن يحج ليأخذ. فمن أحب إبراء ذمة الميت أو رؤية المشاعر يأخذ ليحج. ومثله كل رزق أخذ على عمل صالح. ففرق بين من يقصد الدين والدنيا وسيلة، وعكسه. فالأشبه أن عكسه ليس له في الآخرة من خلاق. والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يجوز إيقاعها على غير وجه القربة؟ فمن قال: لا يجوز ذلك لم يجز الإجارة عليها؛ لأنها بالعوض تقع غير قربة «إنما الأعمال بالنيات» والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه. ومن جوز الإجارة جوز إيقاعها على غير وجه القربة، وقال: تجوز الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر.
وأما ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا وأجرة؛ بل رزق للإعانة على الطاعة. فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذه فهو رزق للمعونة على الطاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به كذلك، والمنذور كذلك، ليس كالأجرة والجعل في الإجارة والجعالة الخاصة (1) .
قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الرجل يغسل الميت بكراء؟ قال: بكراء؟! واستعظم ذلك. قلت: يقول: أنا فقير. قال: هذا كسب سوء. ووجه هذا أن تغسيل الموتى من أعمال البر، والتكسب بذلك يورث تمني موت المسلمين فيشبه الاحتكار (2) .
واتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها هو مما نهي عنه عند إمكان الاستغناء عنه؛ فإنه يفضي إلى كثرة مباشرة النجاسات والاعتناء بها؛ لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه، وإلا فلا يجمع عليه استعماله في مباشرة النجاسة وحرمانه أجرته. ونهي عن أكله مع الاستغناء عنه مع أنه
__________
(1) اختيارات ص152، 153 ولها نظائر لا من كل وجه ف 2/30، 231.
(2) اختيارات ص 156 ف 2/ 232.(4/52)
ملكه. وإذا كانت عليه نفقة رقيق أو بهائم يحتاج إلى نفقتها أنفق عليها من ذلك لئلا يفسد ماله. وإذا كان الرجل محتاجًا على هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا مسألة الناس فهو خير له من مسألة الناس، كما قال بعض السلف: كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس (1) .
وإذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطبه كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله، وقد استأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مشركًا لما هاجر وكان هاديًا خريتًا ماهرًا بالهداية إلى الطريق من مكة إلى المدينة وائتمنه على نفسه وماله، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمهم وكافرهم. وقد روي أن الحارث بن كلدة - وكان كافرًا- أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستطبوه.
وإذا وجد طبيبًا مسلمًا فهو أولى، وأما إذا لم يجد إلا كافرًا فله ذلك. وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسنًا (2) .
وإن أكراه كل شهر بدرهم، وكلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة ... ظاهر قوله: ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي كل شهر، أن الفسخ يكون قبل دخول الشهر الثاني، وهو اختيار أبي الخطاب والشارح والشيخ تفي الدين رحمه الله (3) .
وإن أجره في أثناء شهر سنة استوفى شهرًا بالعدد، وسائرها بالأهلة. وعنه يستوفي الجميع بالعدد. وعند الشيخ تقي الدين رحمه الله إلى مثل تلك الساعة (4) .
قوله: استوفى شهرًا بالعدد يعني ثلاثين يومًا. وقال الشيخ تقي
__________
(1) إنصاف 6/ 21 ف 2/232.
(2) اختيارات ص158 ف 2/ 232.
(3) إنصاف 6/ 21 ف 2/232.
(4) إنصاف 6/ 44 ف 2/232.(4/53)
الدين رحمه الله: إنما يعتبر الشهر الأول بحسب تمامه ونقصانه، فإن كان تامًا كمل تامًا وإن كان ناقصًا كمل ناقصًا (1) .
قال القاضي في التعليق: إذا دفع إلى دلال ثوبًا أو دارًا وقال له: بع هذا فمضى وعرض ذلك على جماعة مشترين وعرف ذلك صاحب المبيع فامتنع من البيع وأخذ السلعة ثم باعها هو من ذلك المشتري أو من غيره لم تلزمه أجرة الدلال للمبيع؛ لأن الأجرة إنما جعلها في مقابلة العقد ولم يحصل ذلك. قال أبو العباس: الواجب أن يستحق من الأجرة بقدر ما عمل، وهذه من مسائل الجعالات (2) .
ولو اضطر ناس إلى السكن في بيت إنسان لا يجدون سواه أو النزول في خان مملوك أو رحى للطحن أو لغير ذلك من المنافع وجب بذله بأجرة المثل بلا نزاع، والأظهر أنه يجب بذله مجانًا، وهو ظاهر المذهب (3) .
وترك القابلة ونحوها الأجرة لحاجة المقبولة أفضل من أخذها منها والصدقة بها (4) .
وقال الشيخ تقي الدين فيمن احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا أو بناء وقفه عليه: متى فرغت المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائمًا فيها فعليه أجرة المثل كوقف علو دار أو دار مسجدًا؛ فإن وقف علو ذلك لا يسقط حق ملاك السفل، كذلك وقف البناء لا يسقط حق ملاك الأرض (5) .
__________
(1) إنصاف 6/ 44 ف 2/ 232.
(2) اختيارات ص 157 ف 2/ 232.
(3) اختيارات ص 152 فيه زيادة ف 2/ 233.
(4) اختيارات ص 156 ف 2/ 233.
(5) إنصاف 6/ 84 ف 2/ 233.(4/54)
وإن ركن المؤجر إلى شخص ليؤجره لم يجز لغيره الزيادة عليه. فكيف إذا كان المستأجر ساكنًا في الدار؟ فإنه لا يجوز الزيادة على ساكن الدار.
وإذا وقعت الإجارة صحيحة فهي لازمة من الطرفين ليس للمؤجر الفسخ لأجل زيادة حصلت باتفاق الأئمة. وما ذكره بعض متأخري الفقهاء من التفريق بين أن تكون الزيادة بقدر الثلث فتقبل الزيادة أو أقل فلا تقبل فهو قول مبتدع لا أصل له عن أحد من الأئمة لا في الوقف ولا في غيره. وإذا التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور لم تلزمه اتفاقًا.
ولو التزمها بطيب نفس منه ففي لزومها قولان. فعند الشافعي وأحمد لا تلزمه أيضًا؛ بناء على أن إلحاق الزيادة والشروط بالعقود اللازمة لا تلحق. وتلزمه إذا فعلها بطيب نفس منه متبرعًا بذلك في القول الآخر، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في القول الآخر، بناءً على أنه تلحقه الزيادة بالعقود اللازمة. لكن إذا كان قد علم أن العادة لم تجر بأن أحد هؤلاء يقبلها بطيب نفسه ولكن خوفًا من الإخراج فحينئذ لا تلزمهم بالاتفاق؛ بل لهم استرجاعها ممن قبضها منهم (1) .
وإن استأجر أرضًا فعند انعقاد الحب أمطرت السماء حجارة أهلكت زرعه قبل حصاده سقط العشر. وفي وجوب الأجرة نزاع.
والأظهر أنه إن لم يكن تمكن من استيفاء المنفعة المقصودة بالعقد فلا أجرة (2) .
وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ. قال الشيخ
__________
(1) اختيارات ص 154، 155 ف 2/ 233.
(2) مختصر الفتاوى ص 275 ف 2/ 233.(4/55)
تقي الدين رحمه الله: إن لم نقل بالأرش فورود ضعفه على أصل الإمام أحمد رحمه الله بين (1) .
وإن تعذر زرعها فله الخيار، وكذا لقلة ماء قبل زرعها أو بعده، أو عابت بغرق تعيب به بعض الزرع. واختار شيخنا أو برد أو فأر أو عذر، قال: فإن أمضى فله الأرض كعيب الأعيان، وإن فسخ فعليه القسط قبل القبض، ثم أجرة المثل إلى كماله، قال: وما لم يرو من الأرض فلا أجرة له اتفاقًا (2) .
وأجرة المثل ليست شيئًا محدودًا، وإنما هو ما يساوي الشيء في نفوس أهل الرغبة. ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة من ارتفاع الكراء أو انخفاضه (3) .
قال شيخنا: ولو أنزاه على فرسه فنقص ضمن نقصه (4) .
وإذا بيعت العين المؤجرة أو المرهونة ونحوهما مما تعلق به حق لغير البائع وهو عالم بالعيب فلم يتكلم فينبغي أن يقال: لا يملك المطالبة بفساد البيع بعد هذا؛ لأن إخباره بالعيب واجب عليه بالسنة بقوله: «ولا يحل لمن علم ذلك إلا أن يبينه» فكتمانه تغرير، والغار ضامن. وكذا ينبغي أن يقال فيما إذا رأى عبده يبيع فلم ينهه.
وفي جميع المواضع فإن المذهب أن السكوت لا يكون إذنًا. فلا يصح التصرف؛ لكن إذا لم يصح يكون تغريرًا فيكون ضامنًا بحيث أنه ليس له أن يطالب المشتري بالضمان؛ فإن ترك الواجب عندنا كفعل المحرم، كما يقال فيمن قدر على إنجاء إنسان من هلاكه؛ بل الضمان هنا أقوى.
__________
(1) إنصاف ج 6/ 66، 67 ف 2/ 234.
(2) فروع ج 4/ 448، فيه زيادة ف 2/ 235.
(3) اختيارات ص155 ف 2/ 235.
(4) فروع 4/ 428، ف 2/ 234.(4/56)
وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني: أن من باع العين المؤجرة ولم يتبين للمشتري أنها مستأجرة أنه لا يصح البيع. ووجهه أنه باع ملكه وملك غيره؛ فهي مسألة تفريق الصفقة (1) .
وإجارة المضاف يفسر بشيئين. أحدهما: أن يؤجره سنة أو سنتين. والثاني: أن يؤجره مدة لا يمكن الانتفاع بالمأجور لما استؤجر له في ثاني المدة. فمن الحكام من يرى أن الإجارة لا تجوز إلا إذا أمكن الانتفاع بالعين عقب العقد.
فإذا أراد أن يستأجر الأرض للإزدراع ونحوه كتب فيها: أنه استأجرها مقيلاً ومراحًا ومزدرعًا ونحو ذلك لتكون المنفعة ممكنة حال العقد (2) .
باب السبق
وظاهر كلام أبي العباس: لا يجوز اللعب المعروف بـ «الطاب والمنقلة» (3) وكل ما أفضى كثيره إلى حرمة إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة؛ لأنه يكون سببًا للشر والفساد. وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة وسائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به على حق شرعي فكله حرام.
وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم: «أن عائشة رضي الله عنها وجوارٍ كن يلعبن معها يلعبن بالبنات -وهن اللعب- والنبي - صلى الله عليه وسلم - يراهن» فيرخص فيه للصغار ما لا يرخص فيه للكبار.
__________
(1) اختيارات ص158 ف 2/ 235.
(2) اختيارات ص156 ف 2/ 235.
(3) وفي الإنصاف: والنقيلة انظر ج 6/90.(4/57)
والصراع والسبق بالأقدام ونحوهما طاعة إذا قصد به (1) نصر الإسلام وأخذ السبق عليه أخذ بالحق. فالمغالبة الجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما ينتفع به في الدين، كما في مراهنة أبي بكر رضي الله عنه، وهو أحد الوجهين في المذهب.
ويجوز المسابقة بلا محلل، ولو أخرجه المتسابقان. ويصح شرط السبق للإنشاد وشراء قوس وكراء حانوت وإطعام الجماعة لأنه مما يعين على الرمي (2) .
ويصح تناضلهما على أن السبق لأبعدهما رميًا على الصحيح من المذهب. زاد في الترغيب من غير تقدير. وقيل: يصح اختاره الشيخ تقي الدين. قاله في الفائق (3) .
ولعب «الكرة» (4) إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال بحيث يستعان بها على الكر والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد، وغرضه الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو حسن. وإن كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال فإنه ينهى عنه (5) .
ومسابقة الرمي بالحجارة إن كان فيها منفعة للجهاد وإلا فهي باطل (6) .
وأما الرهان على ما فيه ظهور الإسلام وأدلته وبراهينه كما راهن عليه الصديق فهو أحق الحق وأولى بالجواز من الرهان على النضال،
__________
(1) وفي الإنصاف إذا قصد بهما نصر الإسلام وأخذ العوض.
(2) اختيارات ص160 ف 2/ 236.
(3) الإنصاف: 6/ 93 ف 2/ 236.
(4) الكرة بالتشديد يوضحها السياق وهي «الكورة» المسماة بالطاب والمنقلة كما تقدم.
(5) مختصر الفتاوى ص521 ف 2/ 236.
(6) مختصر الفتاوى ص 600 ف 2/ 236.(4/58)
وسباق الخيل والإبل أولى من هذا في الدين وأقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان، وبالسيف. والقصد الأول إقامة الحجة، والسيف منفذ.
قالوا: وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة الذي به تفتح القلوب ويظهر الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى. وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية.
قال أرباب هذا القول: والقمار المحرم هو أكل المال بالباطل فكيف يلحق به أكله بالحق. قالوا: والصديق لم يقامر قط في جاهلية ولا إسلام، ولا أقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قمار، فضلاً عن أن يأذن فيه (1) .
قال ابن القيم رحمه الله: «المسألة الحادية عشرة» : المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة والإصابة في المسائل: هل تجوز بعوض؟ منعه أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا. إلى أن قال:
وفرقة جوزته بغير محلل، قال شيخ الإسلام: وهو مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح. قال: وما علمت في الصحابة من اشترط المحلل، وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب وعنه تلقاه عنه الناس؛ ولهذا قال مالك بن أنس: لا تأخذ بقول سعيد بن المسيب في المحلل، ولا يجب المحلل (2) .
__________
(1) الفروسية ص5، 6 ف 2/ 238.
(2) الفروسية ص64 ف 2/ 238.(4/59)
«ومن أدخل فرسًا بين فرسين» الحديث. وسمعت شيخ الإسلام يقول: رفع هذا الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب نفسه. وهكذا رواه الثقات الأثبات من أصحاب الزهري عنه، عن سعيد بن المسيب مثل الليث بن سعد وعقيل ويونس ومالك بن أنس، وذكره في الموطأ عن سعيد بن المسيب نفسه. ورفعه سفيان بن حسين الواسطي وهو ضعيف لا يحتج بمجرد روايته عن الزهري لغلطه في ذلك (1) .
فصل
الأعمال التي تكون بين اثنين فصاعدًا يطلب كل منهما أن يغلب الآخر - ثلاثة أصناف:
«صنف» أمر الله به ورسوله كالسباق بالخيل والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب، لأنه مما يعين على الجهاد في سبيل الله.
«والصنف الثاني» ما نهى الله ورسوله عنه بقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى آخر الآية [90/5] .
مسألة: فالميسر محرم بالنص والإجماع، ومنه اللعب بالنرد والشطرنج وما أشبهه مما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء، فإن كان بعوض حرم إجماعًا.
وإن لم يكن بعوض ففيه نزاع عند الصحابة وجمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد. ونص الشافعي على تحريم النرد وإن كان بلا عوض، وتوقف في الشطرنج. ومنهم من أباح النرد الخالي عن
__________
(1) الفروسية ص41 بعضه غير موجود في ج 18 وفي ج 28 والأصل هناك فيه بياض، ف 2/ 238.(4/60)
العوض، لما ظنوا أن الله حرم الميسر لأجل ما فيه من المخاطرة المتضمنة أكل المال بالباطل. فقالوا: إذا لم يكن فيه أكل مال بالباطل زال سبب التحريم.
وأما الجمهور فقالوا: إن تحريم الميسر مثل تحريم الخمر؛ لاشتماله على الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولإلقائه العداوة والبغضاء، ومنعه عن صلاح [ذات] البين الذي يحبه الله ورسوله، وإيقاعه اللاعبين في الفساد الذي يبغضه الله ورسوله، واللعب بذلك يلهي القلب ويشغله ويغيب اللاعب به عن مصالحه أكثر مما يفعله الخمر؛ ففيها ما في الخمر وزيادة، ويبقى صاحبها عاكفًا عكوف شارب الخمر عن خمره وأشد، وكلاهما مشبه بالعكوف على الأصنام، كما في المسند أنه قال: «شارب الخمر كعابد الوثن» وثبت عن أمير المؤمنين رضي الله عنه: أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) وقلب الرقعة.
وإذا كان ثم مال تضمن أيضًا أكل المال بالباطل، فيكون حرامًا من وجهين. والله حرم الربا لما فيه من أكل المال باطلاً.
وما نهي عنه من بيع الغرر كبيع حبل الحبلة وبيع الثمار قبل بدو الصلاح والملامسة والمنابذة إنما حرمه لما فيه من أكل المال بالباطل.
«النوع الثالث» من المغالبات: ما هو مباح لعدم المضرة الراجحة، وليس مأمورًا به على الإطلاق لعدم احتياج الدين إليه، ولكن قد يقع أحيانًا كالمصارعة والمسابقة على الأقدام ونحوه. فهذا مباح باتفاق المسلمين إذا خلا عن مفسدة راجحة. وقد صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركانة بن يزيد، وسابق عائشة، وكان أصحابه رضي الله عنهم يتسابقون على أقدامهم بحضرته. لكن أكثر العلماء لا يجوزون في هذا سبقًا وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا سبق إلا في
خف أو حافر أو نصل» ولأن السبق إنما أبيح إعانة على ما أوجبه الله(4/61)
ورسوله من الجهاد. وأبو حنيفة أباح السبق بالمحلل، كما يبيحه في سباق الخيل بناء على أن العمل بنفسه مباح، والسبق عنده من الجعالة، والجعالة تجوز على العمل المباح. والذي قاله هو القياس، ولو كان السبق من جنس الجعالة فإن الناس قد تنازعوا في جواز الجعالة، وأبطلها طائفة من الظاهرية. والصواب الذي عليه الجمهور جوازها، وليست عقدًا لازمًا؛ لأن العمل فيها معلوم. ولهذا يجوز أن يجعل للطبيب جعلاً على الشفاء، كما جعل سيد الحي اللديغ لأصحاب - النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رقاه أبو سعيد الخدري.
ولا يجوز أن يستأجر الطبيب على الشفاء، لأنه غير مقدور عليه.
ومن هنا يظهر فقه «باب السبق» فإن كثيرًا من العلماء اعتقدوا أن السبق إذا كان من الجانبين وليس بينهما محلل كان هذا من الميسر المحرم، وأنه قمار؛ لأن كلاً منهما متردد بين أن يغرم أو يغنم، وما كان كذلك فهو قمار. واعتقدوا أن القمار المحرم إنما حرم لما فيه من المخاطرة والتغرير، وظنوا أن الله حرم الميسر لذلك، وهذا موجود في المتسابقين إذا أخرج كل منهما السبق، فحرموا ذلك. وروي في ذلك حديث ظنه بعضهم صحيحًا؛ وهو قوله: «من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار» ومعلوم أن هذا الحديث ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من كلام سعيد بن المسيب، هكذا رواه الثقاة، ورفعه سفيان بن حسين الواسطي وهو ضعيف.
ثم الذين اعتقدوا أن هذه المسابقة بلا محلل قمار تنازعوا بعد ذلك فمنهم من لم يجوز العوض بحال. ومنهم من جوزه من أحدهما بشرط ألا يرجع إليه بل يعطيه الجماعة إن غلب. وروي ذلك عن مالك وغيره، وهو أصح.(4/62)
والقياس: لو كانت المسابقة من الطرفين قمارًا محرمًا فإنهم رأوا أن هذه ليست جعالة يقصد الجاعل فيها بدل الجعل في عمل ينتفع به؛ إنما قصد أن يغلب صاحبه فحرموها، وقالوا: دخول المحلل فيها يزيدها شرًا، وأن المقامرة حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل، والمحلل يزيدها شرًا؛ فإن المتسابقين إذا غلب أحدهما صاحبه فأخذ ماله كان هذا في مقابلة أن الآخر إذا غلبه أخذ ماله. فكان مبناها على العدل؛ بخلاف المحلل فإنه ظلم محض؛ فإنه بعرضة أن يغنم أو يسلم، والآخران قد يغرمان فلا يستوون في المغنم والمغرم والسلامة؛ بخلاف إذا لم يكن بينهما محلل فكلاهما قد يغنم وقد يغرم وقد يسلم فيما إذا تساويا وجاءا معًا. فهذا أقرب إلى العدل؛ فإذا حرم الأقرب إلى العدل فلأن يحرم الأبعد عنه بطريق الأولى.
وأيضًا فإذا قيل: هذا محرم لما فيه من المخاطرة وأكل المال بالباطل كان بالمحلل أشد تحريمًا؛ لأنها أشد مخاطرة وأشد أكلاً للمال بالباطل؛ لأنها عند عدمه إنما أن يغنم أو يغرم أحدهما، وهنا المخاطرة باقية كل منهما قد يغنم أو قد يغرم، وانضم إلى ذلك مخاطرة ثالثة وهي أنه هناك يغرم إذا غلبه صاحبه، وهنا يغرم إذا غلبه، وإذا غلبه المحلل فكان المحلل زيادة في المخاطرة.
وأيضًا: فإن كلا يحتمل أن يغلب ويغنم أو يغرم. وأما المحلل فلا يحتمل أن يغلب أو يغرم؛ بل هو يغنم لا محالة أو يسلم.
فمن تدبر هذه الأمور علم أن الشريعة منزهة عن مثل هذا أن تحرم الشر لمجرد مفسدة قليلة وتبيحها بالمفسدة عينها إذا كثرت، ولكن أصحاب الحيل كثيرًا ما يقعون في هذا فيحرمون على الرجل بعض أنواع الزيادة دفعًا لأكل المال بالباطل لئلا يتضرر، ويفتحون له حيلة يؤكل فيها ماله بالباطل أكثر، ويكون فيها ظلمه وضرره أعظم.(4/63)
ومن العلماء من أباح السبق بالمحلل، كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن مالك. وهذا مبني على أصلين.
أحدهما: أن هذه جعالة.
والثاني: أن القمار هو المخاطرة الدائرة بين أن يغنم باذل المال أو يغرم أو يسلم، وهذا المعنى ينتفي بالمحلل، فإنه حينئذ يدور على أمرين: أن يغنم، أو يغرم، أو يسلم. وقد تقدم التنبيه على بعض ما في كل من الأصلين.
والمقصود الأعظم بيان فساد ظن الظان أنه بدون المحلل قمار وبالمحلل يزول القمار.
فيقال: أولاً: إن الدليل الشرعي قد دل على أن القمار هو هذا دون هذا.
ويقال ثانيًا: المتسابقان كل منهما متردد بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم؛ فإنهما لو جاءا معًا لم يأخذ أحدهما سبق الآخر. فقولهم: إن القمار هو المتردد بين أن يغنم أو يغرم فقط ليس بمستقيم؛ بل عندهم وإن تردد بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم فهو أيضًا قمار وهذا موجود مع المحلل؛ فإن كلاً منهما يتردد بين أن يغنم إن غلب وبين أن يغرم إن غلب، وبين أن يسلم إن جاءا معًا، أو جاء هو ورفيقه معًا، فالمخاطرة فيها موجودة مع المحلل؛ وبدون المحلل، بل زادت بدخوله فتبين أن المعنى لم يزل بدخول المحلل. بل ازداد مفسدة؛ فإنه على بر السلامة ولا عدل فيه؛ بخلاف ما لو كانوا بلا محلل. فكان كل منهما مساويًا للآخر في الاحتمال، وهذا عدل، وهو على الميزان بينهما؛ بل الذي بذلك الجعل ليجعل الرغبة فيما يحبه لا ينظر في مصلحته، بل معرضًا للخسارة،
ويجعل الدخيل الذي جاء تابعًا للغرض لا يخسر شيئًا من ماله، والذي يتقرب إلى الله بما يحبه يخسر، والذي لم يقصد لم يعط(4/64)
شيئًا ولا يخسر؛ بل إما سالمًا وإما غانمًا، فهل يحسن هذا في شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وإن كان القائلون علماء فضلاء أئمة. فإنما وقعت الشبهة من حيث ظنوا أن الميسر المحرم الذي هو القمار حرم لما فيه من المخاطرة، ثم منهم من رأى المخاطرة كلها محرمة من المحلل وعدمه، وهذا أقرب إلى الأصل الذي ظنوا لو كان صحيحًا. ومنهم من رأى الحاجة إلى السبق، وقد جاء الشرع بها، فجمع بين ما أمر الله به وبين ما أبطله من القمار، فأباحه مع المحلل فقط. والمقصود هنا بالجعل أن يظهر أنه قوي؛ لأن صاحبه يغلبه ويأخذ ماله، بخلاف الجعالة فإن الغرض بها العمل من العامل الذي يأخذ الجعل، فليست هذه جعالة، والجاعل قصده وجود الشرط، والمسابق الذي أظهر المال قصده ألا يوجد الشرط الذي هو سبق صاحبه له؛ بل قصده عدمه. فأين هذا من هذا؟! هذا يكره أن يغلب، وذاك يجب أن يحصل قصده الذي هو رد آبقه أو بناء حائطه، كما يقول الحالف: إن فعلت كذا فمالي صدقة، أو علي الحج. ومقصده أنه لا يفعله؛ بخلاف الناذر الذي يقول: أن شفى الله مريضي فعلي أن أصوم شهرًا، وكالمخالع الذي يقول: إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق.
ومن تبين حقيقة هذه المسألة تبين له أن من رأى أنه حرام ولو مع المحلل فقوله أصح على ما ظنوه.
وأما إذا تقرر أن تحريم الميسر لما نص الله تعالى على أنه يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله عز وجل وعن الصلاة، وقد يشتد تحريمه لما فيه من أكل المال بالباطل. والمسابقة التي أمر الله بها ورسوله لا تشتمل لا على هذا الفساد ولا على هذا فليست من الميسر، وليس إخراج السبق فيها مما حرمه الله ورسوله، ولا من القمار الداخل في الميسر؛ فإن لفظ القمار المحرم ليس في القرآن، إنما فيه لفظ الميسر، والقمار داخل في هذا الاسم، والأحكام الشرعية يجب أن تتعلق(4/65)
بكلام الله ورسوله ومعناه -فلينظر في دلالة ألفاظ القرآن والحديث، وفي المعاني والعلل، والحكم والأسباب التي علق الشارع بها الأحكام، فيكون الاستدلال بما أنزل الله من الكتاب والميزان. والقياس الصحيح الذي يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين هو العدل وهو الميزان.
وذلك أن المسابقة والمناضلة عمل صالح يحبه الله ورسوله، وقد سابق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل، وكان أصحابه يتناضلون، ويقول لهم: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا» وكان قد صار مع أحد الحزبين ثم قال: «ارموا وأنا معكم كلكم» تعديلاً بين الطائفتين.
والرمي والركوب قد يكون واجبًا، وقد يكون فرضًا على الكفاية، وقد يكون مستحبًا، وقد نص أحمد وغيره على أن العمل بالرمح أفضل من صلاة الجنازة في الأمكنة التي يحتاج فيها إلى الجهاد كالثغور، فكيف برمي النشاب؟ وروي «أن الملائكة لم تحضر شيئًا من لهوكم إلا الرمي» وروي أن قومًا كانوا يتناضلون فحضرت الصلاة، فقالوا: يا رسول الله قد حضرت الصلاة، فقال: «هم في صلاة» وما كان كذلك فليس من الميسر الذي حرمه الله؛ بل هو من الحق، كما قال: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته لامرأته فإنهن من الحق» .
وحينئذ فأكل المال بهذه الأعمال أكل بالحق لا بالباطل، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الرقية: «لعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلتم برقية حق» فجعل كون العمل نافعًا لا ينهى عنه، بل إذا أكل به المال فقد أكل بحق، وهنا هذا العمل نافع للمسلمين مأمور به لم ينه عنه، فالمعنى الذي لأجله حرم الله الميسر أكل المال بالقمار، وهو أن يأكل بالباطل، وهذا أكل بالحق.
وأما المخاطرة فليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل(4/66)
مخاطرة؛ بل قد علم أن الله ورسوله لم يحرما كل مخاطرة، ولا كل ما كان مترددًا بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم، وليس في أدلة الشرع ما يوجب تحريم جميع هذه الأنواع لا نصًا ولا قياسًا؛ ولكن يحرم من هذه الأنواع ما يشتمل على أكل المال بالباطل، والموجب للتحريم عند الشارع أنه أكل مال بالباطل، كما يحرم أكل المال بالباطل وإن لم يكن مخاطرة؛ لا أن مجرد المخاطرة محرم، مثل المخاطرة على اللعب بالنرد والشطرنج لما فيه من أكل المال بالباطل، وهو ما لا نفع فيه له ولا للمسلمين؛ فلو جعل السلطان أو أجنبي مالاً لمن يغلب بذلك جاز وإن لم يكن هناك مخاطرة، وكذلك لو جعل أحدهما جعلاً، وكذلك لو أدخلا محللاً، فعلم أن ذلك لم يحرم لأجل المخاطرة؛ لا سيما وجمهور العلماء يحرمون هذا العمل، وإن خلا عن عوض.
وأما أخذ العوض في المسابقة والمصارعة فهذه الأعمال لم تجعل في الأصل لعبادة الله تعالى وطاعته وطاعة رسوله، فلهذا لم يحض الشارع عليها ولا رغب فيها, وإنما يقصد بها في الغالب راحة النفوس، أو الاستعانة على المباحات، فأباحها الشارع لعدم الضرر الراجح، ولم يأمر بها ولا رغب فيها لأنها ليست مما يحتاجه المسلمون، ولا يتوقف قيام الدين عليها، كالرمي والركوب، ولو خلي المسلمون عن مصارع ومسابق على الأقدام لم يضرهم لا في دينهم ولا في دنياهم، بخلاف ما لو خلوا عن الرمي والركوب لغلب الكفار على المسلمين؛ ولهذا لم يدخل فيها السبق.
ألا ترى أن للإمام أن يخرج جعلاً لمن يرمي، ولا يحل له أن يخرجه لمن يصارع؟
وإذا عرف هذا عرف أن مجرد المخاطرة ليس مقتضيًا لتحريم المسألة، وانكشفت، وظهرت، وعرف أن الصواب: أن يعرف مراد(4/67)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وحكمه وعلله التي علق بها الأحكام؛ فإن الغلط إنما ينشأ عن عدم المعرفة بمراده - صلى الله عليه وسلم -.
والمخاطرة مشتركة بين كل من المتسابقين؛ فإن كلا يرجو أن يغلب الآخر ويخاف أن يغلبه، فكان ذلك عدلاً وإنصافًا بينهما كما تقدم.
وكذلك كل من المتبايعين لسلعة، فإن كلا يرجو أن يربح فيها ويخاف أن يخسر. فمثل هذه المخاطرة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. والتاجر مخاطر وكذلك الأجير المجعول له جعل على رد آبق، وعلى بناء حائط؛ فإنه قد يحتاج إلى بذل مال فيكون مترددًا بين أن يغرم أو يغنم، ومع هذا فهو جائز.
والمخاطرة إذا كانت من الجانبين كانت أقرب إلى العدل والإنصاف، مثل المضاربة، والمساقاة، والمزارعة؛ فإن أحدهما مخاطر قد يحصل له ربح وقد لا يحصل.
وما علمت أحدًا من الصحابة شرط في السباق محللاً ولا حرمه إذا كان كل منهما يخرج، وإنما علمت المنع في ذلك عن بعض التابعين، وقد روينا عن أبي عبيدة بن الجراح: أنه راهن رجلان في سباق الخيل ولم يكن بينهما محلل.
وثبت في المسند والترمذي وغيرهما: «أنه لما اقتتلت فارس والروم فغلبت فارس الروم وبلغ ذلك أهل مكة وكان ذلك في أول الإسلام ففرح بذلك المشركون؛ لأن المجوس أقرب إليهم من أهل الكتاب، وساء ذلك المسلمين لأن أهل الكتاب أقرب إليهم من المجوس، فأخبر أبو بكر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} فخرج أبو بكر رضي الله عنه فراهن المشركين على أنه إن غلبت الروم في بضع سنين أخذ(4/68)
الرهان، وإن لم تغلب الروم أخذوا الرهان» وهذه المراهنة هي مثل المراهنة في سباق الخيل والرمي بالنشاب، وكانت جائزة لأنها مصلحة للإسلام؛ لأن فيها مصلحة بيان صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به من أن الروم سيغلبون بعد ذلك، وفيها ظهور أقرب الطائفتين إلى المسلمين على أبعدهما. وهذا فعله الصديق رضي الله عنه وأقره عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره عليه، ولا قال: هذا ميسر وقمار. والصديق أجل قدرًا من أن يقامر؛ فإنه لم يشرب الخمر في جاهلية ولا إسلام وهي أشهى إلى النفوس من القمار.
وقد ظن بعضهم أن هذا قمار لكن فعله هذا كان قبل تحريم القمار، وهذا إنما يقبل إذا ثبت أن مثل هذا ثابت فيما حرمه الله من الميسر، وليس عليه دليل شرعي أصلاً. بل هي مجرد أقوال لا دليل عليها وأقيسة فاسدة يظهر تناقضها لمن كان خبيرًا بالشرع، وحل ذلك ثابت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أقر صديقه على ذلك؛ فهذا العمل معدود من فضائل الصديق رضي الله عنه وكمال يقينه حيث أيقن بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحب ظهور أقرب الطائفتين إلى الحق، وراهن على ذلك رغبة في إعلاء كلمة الله ودينه بحسب الإمكان.
وبالجملة إذا ثبتت الإباحة فمدعي النسخ يحتاج إلى دليل.
والكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع، وإنما كتبت ذلك في جلسة واحدة.
و «السبق» بالفتح هو العوض. وبالسكون هو الفعل.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» مطلقًا لم يشترط محللاً لا هو ولا أصحابه، بل ثبت عنهم مثل ذلك بلا محلل.(4/69)
ومما يوضح الأمر في ذلك أن السبق في غير هذه الثلاثة لم يحرم لأنه قمار. فلو بذل أحدهما عوضًا في النرد والشطرنج حرم اتفاقًا مع أن العوض ليس من الجانبين. ولو كان بينهما محلل في النرد حرم اتفاقًا أيضًا. فالعوض في النرد والشطرنج حرام سواء كان منهما أو من أحدهما أو من غيرهما بمحلل أو غير محلل. فلم يحرم لأجل المخاطرة. فلو كان الميسر المجمع على تحريمه والنرد والشطرنج لأجل المخاطرة لأبيح مع عدمها. فلما ثبت أنه محرم على كل تقدير علم بطلان تعليل تحريمه بذلك. وأكثر العلماء يحرمون العوض من الجانبين في المصارعة وإن كان بينهما محلل يرفع المخاطرة عند من يقول بذلك، فعلم أن المؤثر هو أكل المال بالباطل، أو كون العمل يصد عن الصلاة وعن ذكر الله عز وجل ويوقع العداوة والبغضاء كما دل عليه القرآن، كما أن بذل المال لما فيه من إعلاء كلمة الله ودين الله هو من الجهاد الذي أمر الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - به، سواء كان فيه مخاطرة أو لم يكن؛ فإن المجاهدة في سبيل الله عز وجل فيها مخاطرة قد يغلب وقد يغلب، وكذلك سائر الأمور من الجعالة والمزارعة والمساقاة والتجارة والسفر وغيرهما كما تقدم بيانه. وفي هذا كفاية والله أعلم (1) .
وإذا كان السبق من أحد الحزبين أو من غيرهما لم يحتج إلى محلل. ويمكنهم مع هذا أن يكون الحزب الأول يخرج السبق أول مرة والآخر يخرجه في المرة الثانية والأول في المرة الثانية، ولم يحتج إلى محلل. وعليهم مع هذا أن يكرروا الرمي (2) .
__________
(1) مختصر الفتاوى ص525-535 هذه فتوى مطولة وفيها زيادات عما في المجموع وتسديد للبياض هناك، وتصحيح للموجود ف 2/ 238.
(2) مختصر الفتاوى ص520 ف 2/ 238.(4/70)
باب العارية
والعارية تجب مع غناء المالك، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وهي مضمونة وإن لم يشترط ضمانها، وهي رواية عن أحمد (1) .
وعنه يضمن إن شرطه وإلا فلا. اختاره الشيخ تقي الدين (2) .
ولو سلم شريك شريكه دابة فتلفت بلا تعد ولا تفريط (3) لم يضمن. وقياس المذهب إذا قال: أعرتك دابتي لتعلفها أن هذا يصح؛ لأن أكثر ما فيه أنه بمنزلة استئجار العبد بطعامه وكسوته، لكن دخول العوض فيه يلحقه بالإجابة إلا أن يكون ذلك يسيرًا لا يبلغ أجرة المثل بلا تعد فيكون حكم العارية باقيًا. وهذا في المنافع نظير الهبة المشروط فيها فيكون حكم العارية باقيًا. وهذا في المنافع نظير الهبة المشروط فيها الثواب في الأعيان. قال أبو العباس في قديم خطه: نفقة العين المعارة هل تجب على المالك، أو على المستعير؟ لا أعرف فيها نقلاً؛ إلا أن قياس المذهب على ما يظهر لي أنها تجب على المستعير؛ لأنهم قالوا: إنه يجب عليه مؤنة ردها وضمانها إذا تلفت وهذا دليل على أنه يجب عليه ردها إلى صاحبها كما أخذها منه سوى نقص المنافع المأذون له فيها. ثم إنه خطر لي أنها تخرج على الأوجه في نفقة الجارية الموصى بعتقها فقط.
أحدها: أنه يجب على المالك؛ لكن فيه نظر. وثانيها: على المالك للنفع. وثالثها: نفقتها في كسبها.
فإن قيل: هناك المنفعة مستحقة وليس ذلك هنا؛ فإن مالك الرقبة هو مالك المنفعة، غير أن المستعير ينتفع بها بطريق الإباحة وهذا يقوي وجوبها على المعير. والأصل الأول يقوي وجوبها على المستعير.
__________
(1) الاختيارات ص 158 ف 2/ 239.
(2) إنصاف 6/ 13 ف 2/ 239.
(3) في الإنصاف بأن ساقها فوق العادة ونحوه ج6/117 والفروع ج 4/ 239.(4/71)
ثم أقول: هذا لا تأثير له في مسألتنا؛ فإن المنفعة حاصلة في الأصل والفرع. ثم كونه يملك انتزاع المنفعة من يده غير مؤثر، بدليل ما لو كان واهب المنفعة أبا وكان المثيب ابنه وهذا في غير صورة الوصية (1) .
العارية المقبوضة مضمونة، نص عليه؛ لأن النفع غير مستحق؛ بخلاف عبد موصى بنفعه. وقاسها جماعة على المقبوض على وجه السوم، فدل على رواية مخرجة، وهو متجه. وذكر الحارثي خلافًا لا يضمن، وذكره شيخنا عن بعض أصحابنا، واختاره صاحب الهدي فيه. وعنه بلى إن شرطه اختاره أبو حفص وشيخنا (2) (3) .
باب الغصب
قال في المحرر: وهو الاستيلاء على مال الغير ظلمًا.
قوله: «على مال الغير» يدخل فيه مال المسلم والمعاهد، وهو المال المعصوم.
ويخرج منه استيلاء المسلمين على أموال أهل الحرب فإنه ليس بظلم. ويدخل فيه استيلاء (4) المحاربين على مال المسلمين. وليس بجيد؛ فإنه ليس من الغصب المذكور حكمه هنا (5) بإجماع المسلمين، إذ لا خلاف أنه لا يضمن بالإتلاف ولا بالتلف؛ وإنما الخلاف في وجوب
__________
(1) اختيارات ص158، 159 ف 2/ 239.
(2) فروع ج 4/ 474 فيه ذكر اختياره ف 2/ 239.
(3) وانظر حكم إعارة السلاح والخيل لمن يقرض فيها ... وإذا كان الغازي معذورًا أو معدمًا أو مظلومًا -في كتاب الجهاد- وتقدم.
(4) في الإنصاف أهل الحرب.
(5) في الإنصاف (هذا) .(4/72)
رد عينه (1) . وأما أموال أهل البغي وأهل العدل فقد لا يرد؛ لأن هناك لا يجوز الاستيلاء على عينها. ومتى أتلفت بعد الاستيلاء على عينها ضمنت. وإنما الخلاف في ضمانها بالإتلاف وقت الحرب.
ويدخل فيه ما أخذه الملوك والقطاع من أموال الناس بغير حق من المكوس وغيرها.
فأما استيلاء أهل الحرب بعضهم على بعض فيدخل فيه. وليس بجيد؛ لأنه ظلم، فيحرم عليهم قتل النفوس وأخذ الأموال إلا بأمر الله؛ لكن يقال: لما كان المأخوذ مباحًا بالنسبة إلينا لم يصر ظلمًا في حقنا، ولا في حق من أسلم منهم.
فأما ما أخذ من الأموال والنفوس أو أتلف منها في حال الجاهلية (2) أقر قراره؛ لأنه كان مباحًا؛ لكن لما كان الإسلام عفا عنه فهو عفو بشرط الإسلام، وكذلك شرط الأمان. فلو تحاكم إلينا مستأمنان حكمنا بالاستقرار (3) .
قال الشيخ تقي الدين: ويتوجه فيما إذا غصب فرسًا وكسب عليه مالاً إن جعل الكسب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما (4) .
ويضمن المغصوب بما نقص رقيقًا كان أو غيره، وهو رواية عن أحمد واختارها طائفة من أصحابه (5) .
إذا خلف مُوَرِّثٌ مالاً من إبل أو غنم أو غيرها فيه شيء حرام من
__________
(1) في الإنصاف زيادة (إذا قدرنا على أخذه) .
(2) في الإنصاف زيادة (فقد) .
(3) الاختيارات ص161 والإنصاف 6/ 122، ف 2/ 239.
(4) الإنصاف ج6/ 144 ف 2/ 240.
(5) اختيارات ص 163 ف 2/240.(4/73)
غصب أو غيره لا يعرفه الوارث عينًا، يعرف مالكه أو لا يعرفه، وقدر نصيب الحرام غير معروف فإنه ينصفه نصفين: نصف لهذه الجهة، ونصف لهذه الجهة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مشاطرة العمال أموالهم لما تبين له أن في مالهم شيئًا من بيت المال وما هو خالص لهم ولم يتبين القدر فجعل عمر أموالهم نصفين؛ ولأنه مال مشترك والشركة المطلقة تقتضي التسوية. ولا تجوز القرعة، ووقف الأمر إضاعة للحقوق. والقول في هذه المسألة بالقسمة تارة والقرعة تارة خير من حبسها بلا فائدة (1) .
ومن زرع بغير إذن شريكه والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم ولربها نصيب قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك. ولو طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه فأبى فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة (2) وقد اعتبر أبو العباس في موضع آخر إذن ولي الأمر (3) .
قال في المحرر: ومن قبض مغصوبًا من غاصبه ولم يعلم فهو بمنزلة في جواز تضمينه العين والمنفعة، لكنه يرجع إذا غرم على غاصبه بما لم يلزمه ضمانه خاصة.
قال أبو العباس: يتخرج ألا يضمن الغاصب ما لم يلتزمه على قولنا إنه لا يقلع غرسه وبناءه حتى يضمن بعضه ويرجع به على البائع.
وعلى ظاهر كلامه في المنع من تضمين مودع المودع إذا لم يعلم. وعلى إحدى الروايتين فإن المغرور لا يضمن الأولاد؛ بل يضمنهم الغار ابتداء.
__________
(1) مختصر الفتاوى ص271 ف 2/ 240.
(2) وفي الإنصاف زيادة (كدار بينهما فيها بيتان سكن أحدهما عند امتناعه عما يلزمه اهـ) .
(3) اختيارات ص 163 ف 2/ 241.(4/74)
وإذا مات الحيوان المغصوب فضمنه الغاصب فجلده -إذا قلنا يطهر بالدباغ- للمالك، وقياس المذهب ويتخرج أنه للغاصب (1) .
ولو حبس الغاصب المغصوب وقت حاجة مالكه إليه كمدة شبابه ثم رده في مشيبه فتفويت تلك المدة ظلم يفتقر إلى جزاء (2) .
وإن وقف الرجل وقفًا على أولاده -مثلاً- ثم باعه وهم يعلمون أنه قد وقفه فهل يكون سكوتهم عن الإعلام تغريرًا مع أنهم هم المستحقون؟ فهذا يستمد من السكوت: هل هو إذن؟ وهو ما إذا رأى عبده أو ولده يتصرف. فقال أصحابنا: لا يكون إذنًا؛ لكن هل يكون تغريرًا؟ فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في السلعة المبيعة: «لا يحل لمن يعلم ذلك إلا أن يبينه» يقتضي وجوب الضمان وتحريم السكوت، فيكون قد فعل محرمًا تلف به مال معصوم فهذا قوي جدًا.
لكن قد يقال: فطرده أن من علم بالعيب -غير البائع- فلم يبينه فقد غر المشتري فيضمن. فيقال: هذا يبنى على أن الغرور من الأجنبي (3) ولو لم يكن الأولاد أو غيرهم قد عرف فإذا وجب الرجوع على الواقف بما قبضه من الثمن وبما ضمنه المشتري من الأجرة ونقص قيمة البناء والغرس ونحو ذلك، ولو كان قد مات معسرًا أو هو كان معسرًا في حياته فهل يؤخذ من ريع الوقف الثمن الذي غرمه المشتري؟ لا شك أن هذا بعيد في الظاهر؛ لأن ريع الوقف للموقوف عليه، ولم يقر. فلا يؤخذ من ماله ما يقضي به دين غيره. لكن باعتبار هذا الدين على الواقف بسبب تغريره بالوقف فكأن الواقف هو الآكل لريع وقفه. وقد يتوجه ذلك إذا كان الواقف قد احتال بأن وقف ثم باع؛ فإن قصد
__________
(1) اختيارات ص163 ف 2/ 241.
(2) اختيارات ص 166 ف 2/ 241.
(3) بياض بالأصل مقدار سطر.(4/75)
الحيلة إذا كان متقدمًا على الوقف لم يكن الوقف لازمًا في المحتال عليه الذي هو أكل مال المشتري المظلوم.
ولو واطأ المالك رجلاً على أن يبيع داره ويظهر أنها للبائع لا أنه يبيعها بطريق الوكالة فهل تجعل هذه المواطأة وكالة وإن لم يأذن في بيعها لنفسه، أم يجعل غررًا؟ فإنه ما أذن في بيع فاسد؛ لكن قصد التغرير. فهل يعاقب بجعل البيع صحيحًا، أم بضمان التغرير؟ (1)
قال الشيخ في فتاويه: وإن أنفق على أطفال غاصب وصيه مع علمه لم يرجع، وإلا رجع؛ لأن الموصي غره (2) .
وإن غصب ثوبًا فقصره أو غزلاً فنسجه أو فضة ... رد ذلك بزيادته وأرش نقصه ولا شيء له. وعنه: يكون شريكًا بالزيادة، اختاره الشيخ تقي الدين، قاله في الفائق (3) .
وإن نقصت لتغير الأسعار لم يضمن. وعنه يضمن، اختاره ابن أبي موسى والشيخ تقي الدين، قاله في الفائق (4) .
وإن وطئ الجارية فعليه الحد والمهر وإن كانت مطاوعة وأرش البكارة. وعنه: لا يلزمه مهر للثيب، اختاره الشيخ تقي الدين، ولم يوجب عليه سوى أرش البكارة نقله عنه في الفائق (5) .
وإن تلفت فعليه قيمتها ولا يرجع بها إن كان مشتريًا، ويرجع بها المتهب ... وعلى المذهب يأخذ من الغاصب ثمنها ويأخذ أيضًا نفقته
__________
(1) بياض بالأصل اختيارات ص163 ف 2/241.
(2) فروع 4/ 511 ف 2/ 239.
(3) الإنصاف ج6/ 145، 146.
(4) الإنصاف 6/ 155 ف 2.
(5) الإنصاف ج 6/ 168 ف 2/ 241.(4/76)
وعمله من البائع الغار. قاله الشيخ تقي الدين (1) .
قال الشيخ تقي الدين: لا يسقط حق المظلوم الذي أخذ ماله وأعيد إلى ورثته؛ بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته (2) .
ولو بايع الرجل مبايعات يعتقد حلها ثم صار المال إلى وارث أو منتهب أو مشتر يعتقد تلك العقود محرمة. فالمثال الأصلي لهذا اقتداء المأموم بصلاة إمام أخل بما هو فرض عند المأموم دونه، والصحيح الصحة.
وما قبضه الإنسان بعقد مختلف فيه يعتقد صحته لم يجب عليه رده في أصح القولين.
ومن كسب مالاً حرامًا برضاء الدافع ثم تاب: كثمن خمر ومهر البغي وحلوان الكاهن فالذي يتلخص من كلام أبي العباس أن القابض إذا لم يعلم التحريم ثم علم جاز له أكله. وإن علم التحريم أولاً ثم تاب فإنه يتصدق به. كما نص عليه أحمد في حامل الخمر. وللفقير أكله، ولولي الأمر أن يعطيه أعوانه. وإن كان فقيرًا أخذ هو كفايته له.
وفيما عرف ربه: هل يلزمه رده إليه، أم لا؟ قولان.
وظاهر كلام أبي العباس أن نفس المصيبة لا يؤجر عليها.
وقال أبو عبيدة: بلى، إن صبر أثيب على صبره. قال: وكثيرًا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب فيكون فيها أجر بهذا الاعتبار (3) .
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان
__________
(1) الإنصاف 6/ 173 ف 2/ 241.
(2) الآداب ج1/ 96 ف 2/ 242.
(3) اختيارات ص 167 ف 2/ 241.(4/77)
التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق.
قال شيخنا: وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال: قد اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا فعلوا ذلك. نعم كان تخلفه عنهم مما يؤذيهم لتأذي أبيهم وللميثاق الذي أخذه عليهم، وقد استثنى في الميثاق بقوله: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} وقد أحيط بهم. ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا، وإن كان من ضمن ما فعل من تأذى أبيه أعظم من أذى إخوته فإنما ذلك أمر أمره الله به ليبلغ الكتاب أجله، ويتم البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء وعلو المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى -التي قدرها وقضاها- نهايتها.
ولو فرض أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل فليس هذا بموضع خلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف هل له أن يخونه كما خانه أو يسرقه كما سرقه؟ ولم تكن قضية يوسف عليه السلام من هذا النوع. نعم لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا شبهة له أيضًا على هذا التقدير فإن هذا لا يجوز في مثل شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم بذبح ابنه، وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه، ويكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه (1) .
__________
(1) إغاثة ج2/ 113 وتقدم في التفسير ف 2/ 242.(4/78)
وأما إذا كان الرجل غصب مال الرجل مجاهرة فغصب من ماله مجاهرة بقدر ماله فليس هذا من هذا الباب؛ فإن الأول يؤدي إلى التأويلات الفاسدة، وأن يحلل لنفسه ما لا يحل له أخذه. وهذا يعرف ما أخذه فلا يأخذ إلا قدر حقه أو أكثر، ويكون معلومًا لا يمكن إنكاره (1) .
ويضمن المغصوب بمثله مكيلاً أو موزونًا أو غيرهما حيث أمكن، وإلا فالقيمة. وهو المذهب عند ابن أبي موسى، وقاله طائفة من العلماء. وإذا تغير السعر وفقد المثل فينتقل إلى القيمة وقت الغصب وهو أرجح الأقوال (2) .
ومن كانت عنده غصوب وودائع وغيرها لا يعرف أربابها صرفت في المصالح. وقال العلماء ولو تصدق بها جاز. وله الأكل منها ولو كان عاصيًا إذا تاب وكان فقيرًا (3) .
ولا يجوز لوكيل بيت المال ولا غيره بيع شيء من طريق المسلمين النافذ. وليس للحاكم أن يحكم بصحته.
وما لبيت المال من المقاسمة أو الأرض الخراجية لا يباع لما فيه من إضاعة حقوق المسلمين (4) . ومن غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر فله تضمين الكذاب عليه بما غرمه (5) . وقدر المتلف إذا لم
يمكن تحديده عمل فيه بالاجتهاد، كما يفعل في قدر قيمته بالاجتهاد، إذ الخرص والتقويم واحد؛ فإن الخرص هو الاجتهاد في معرفة مقدار
__________
(1) مختصر الفتاوى ص 609 ف 2/ 242.
(2) اختيارات ص 165 فيه زيادة ف 2/ 243.
(3) اختيارات ص 165 والإنصاف 6/ 213 فيه زيادة ف 2/ 243.
(4) اختيارات ص 165 ف 2/ 243.
(5) اختيارات ص 165 ف 2/ 243.(4/79)
الشيء، والتقويم هو الاجتهاد في معرفة مقدار ثمنه؛ بل قد يكون الخرص أسهل. وكلاهما يجوز مع الحاجة (1) .
وعمل شيخنا بالاجتهاد في قيمة المتلف فخرص الصبرة واعتبر في مزارع أتلف مغل سنتين بالسنين المعتدلة، وفي ربح مضارب بشراء رفقته من نوع متاعه وبيعهم في مثل سفره (2) . ولو اشترى مغصوبًا من غاصبه ولا يعلم به رجع بنفقته وعمله على بائع غار له (3) .
وقال تقي الدين فيمن اشترى مال مسلم من التتار لما دخلوا الشام: إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح وأعطي مشتريه ما اشتراه به؛ لأنه لم يصر لها إلا بنفقته وإن لم يقصد ذلك، كما رجحه فيمن اتجر بمال غيره وربح (4) .
ومن تصرف بولاية شرعية ولم يضمن، كمن مات ولا ولي له ولا حاكم، وليس لصاحبه إذا علم رد المعاوضة لثبوت الولاية عليها شرعًا (5) .
وإذا كان المتلف مما لا يباع مثل الثمر والزرع قبل بدو صلاحه فههنا لا يجوز تقويمه بشرط القطع؛ لأنه مستحق للبقاء وإن لم يجز بيعه كذلك. وإما أن يقوم مع الأصل ثم يقوم الأصل بدونه، وأما أن ينظر إلى حالة كماله فيقوم بدون نفقة الإبقاء ففيه نظر لإمكان تلفه قبل ذلك.
وأما إذا جاز بيعه مستحق الإبقاء فيقوم مستحق الإبقاء، كما تقوم المنقولات مع جواز الآفات عليها جميعًا (6) .
__________
(1) اختيارات 166، 167 ف 2/ 243.
(2) الفروع ج 4/ 126 زيادة إيضاح ف 2/ 243.
(3) اختيارات ص 164 ف 2/ 243.
(4) إنصاف 6/ 215 ف 2/ 243.
(5) اختيارات ص 165 ف 2/ 242.
(6) اختيارات ص 161 ف 2/ 244.(4/80)
وإذا كان للناس على إنسان ديون أو مظالم بقدر ما له على الناس من الديون والمظالم كان يسوغ أن يقال: يحاسب بذلك فيه بقدر حقه من هذا أو يصرف إلى غريمه، كما يفعل في الدنيا بالمدين الذي له وعليه يستوفي ما له ويوفي ما عليه (1) .
وأما إذا مات الميت وله غرماء مديونون لم يستوف مما عليهم شيئًا فهل مطالبتهم للميت أو للورثة؟ اضطرب فيه الناس.
والصواب: إن كان الحق مظالم لم يتمكن هو ولا ورثته من استيفائها: من قود، أو قذف، أو غصب - فهو المطالب.
وإن كان دينًا ثبت باختياره وتمكن من استيفائه فلم يستوفه حتى مات فورثته تطالب به إلى يوم القيامة.
وإن كان دينًا عجز عن استيفائه هو وورثته، فالأشبه أنه هو الذي يطالب به. فإن العجز إذا كان ثابتًا فيه وفي الوارث ولم يتمكن أحدهما من الانتفاع بذلك في الدنيا لم يدخل في الميراث، فيكون المستحق أحق بحقه في الآخرة، كما في المظالم. والإرث مشروط بالتمكن من الاستيفاء، كما أنه مشروط بالعلم بالوارث.
فلو مات وله عصبة بعيدة لا يعرف نسبهم لم يرثوه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا عام في جميع الحقوق التي لله ولعباده هي مشروطة بالتمكن من العلم والقدرة. والمجهول والمعجوز عنه كالمعدوم.
ولهذا قال العلماء: إن ما يجهل مالكه من الأموال التي قبضت بغير حق كالمكوس أو قبضت بحق كالوديعة والعارية وجهل صاحبها بحيث تعذر ردها إليه فإنها تصرف في مصالح المسلمين، وتكون حلالاً
__________
(1) اختيارات ص 161، 162 ف 2/ 244.(4/81)
لمن أخذها بحق كأهل الحاجة والاستعانة بها على مصالح المسلمين دون من أخذها بباطل، كمن يأخذ فوق حقه.
ثم المظلوم إذا طالب بها يوم القيامة وعليه زكاة فلا تقوم هذه بالزكاة؛ بل عقوبة الزكاة أعظم من حسنة المظالم، والوعيد بترك الزكاة عظيم.
ولكن الذي ورد: أن الفرائض تجبر بالنوافل. فهذا إذا تصدق باختياره صدقة تطوع لا يكون شيئًا خرج بغير اختياره فإنه يرجى له أن يحاسب بما تركه من الزكاة إذا كان من أهلها العازمين على فعلها. «وأول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل انظروا إن كان لعبدي تطوع فيكمل بها فريضته، ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حساب ذلك» روى ذلك أحمد في المسند. وهذا لأن التطوع من جنس الفريضة فأمكن الجبران به عند التعذر، كما قال الصديق رضي الله عنه: إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة. فيكون من رحمة الله به أن يجعل النفل مثل الفرض، بمنزلة من أحرم بالحج تطوعًا وعليه فرضه فإنه يقع عن فرضه عند طائفة كالشافعي وأحمد في المشهور.
وكذلك في رمضان عند أبي حنيفة وقول في مذهب أحمد.
وكذلك من شك هل وجب عليه غسل أو وضوء بحدث، أم لا؟ فإنه لا يجب عليه غسل. وكذلك الوضوء عند جمهور العلماء؛ لكن يستحب له التطهر احتياطًا، وإذا فعل ذلك وكان واجبًا عليه في نفس الأمر أجزأ عنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [286/2] .
وكذلك الشارع جعل عمل الغير عنه يقوم مقام فعله فيما عجز عنه: مثل من وجب عليه الحج وهو معضوب، أو مات ولم يحج، أو نذر صومًا أو غيره ومات قبل فعله، فعله عنه وليه. فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «دين(4/82)
الله أحق بالقضاء» أي أحق أن يستوفى من وارث الغريم؛ لأنه أرحم من العباد، فهذا تشهد له الأصول.
أما أن يعتد له بالدين على الناس مع كونه لم يخرج الزكاة. فلا يصح.
نعم لو كان للناس عليه مظالم أو ديون بقدر ما له عند الناس كان يسوغ أن يقال: يحاسب بذلك فيؤخذ حقه من هذا ويصرف إلى هذا كما يفعل في الدنيا بالمدين الذي له وعليه. وكل هذا من حكم العدل بين العباد ولا يظلم ربك أحدًا (1) .
ومن ندم ورد الغصوب بعد موت المغصوب منه كان للمغصوب منه مطالبته في الآخرة لتفويته عليه الانتفاع به في حياته، كما لو مات الغاصب فرده وارثه (2) .
ومن مات معدمًا يرجى أن الله يقضي عنه ما عليه (3) .
وللمظلوم الاستعانة بمخلوق. فإذا خافه فالأولى له الدعاء على من ظلمه.
ويجوز الدعاء بقدر ما يوجبه ألم ظلمه، لا على من شتمه أو أخذ ماله: بالكفر.
ولو كذب عليه لم يفتر عليه، بل يدعو إليه بمن يفتري عليه نظيره. وكذا إن أفسد عليه دينه (4) .
ومن ترك دينه باختياره وقد تمكن من استيفائه فلم يستوفه حتى
__________
(1) مختصر الفتاوى 278-280 فيه زيادات كثيرة ف 2/ 244.
(2) اختيارات ص166 ف 2/ 244.
(3) اختيارات ص166 ف 2/ 244.
(4) اختيارات ص166 ف 2/ 244.(4/83)
مات. طلب به ورثته. وإن عجز هو وورثته فالمطالبة في الأشبه كما في المظالم للخبر (1) .
ومن أمر رجلاً بإمساك دابة ضارية فجنت عليه ضمنه إن لم يعلمه بها. ويضمن جناية ولد الدابة إن فرط نحو أن يعرفه شموسًا وإلا فلا (2) .
والدابة إذا أرسلها صاحبها بالليل كان مفرطًا، فهو كما إذا أرسلها قرب زرع. ولو كان معها راكب أو قائد أو سائق فما أفسدت بفمها أو يدها فهو عليه؛ لأنه تفريط، وهو مذهب أحمد (3) . لو ادعى صاحب الزرع أن غنم فلان نفشت ليلاً ووجد أثر في الزرع أثر غنم قضي بالضمان على صاحب الغنم. وجعل الشيخ تقي الدين هذا من القيافة في الأموال، وجعلها معتبرة كالقيافة في الأنساب (4) .
وقال الشيخ تقي الدين: ومن لم يسد بئره سدًا يمنع من الضرر ضمن ما تلف بها (5) .
ومن العقوبة الثانية: إتلاف الثوبين المعصفرين، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو، وإراقة عمر اللبن الذي شيب بالماء للبيع.
والصدقة بالمغشوش أولى من إتلافه (6) .
__________
(1) اختيارات ص 166 ف 2/ 244.
(2) اختيارات ص 165 وإنصاف 6/ 238 ف 2/ 244.
(3) اختيارات ص 166 ف 2/ 244.
(4) إنصاف ج 6/ 241 ف 2/ 244.
(5) إنصاف ج 6/ 236 ف 2/ 244.
(6) اختيارات ص 166 ف 2/ 245.(4/84)
باب الشفعة
وإنما تجب في عقار تجب قسمته. وعنه: أولاً- اختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي وشيخنا (1) . وتثبت شفعة الجوار مع الشركة في حق من حقوق الملك: من طريق أو ماء أو نحو ذلك نص عليه أحمد في رواية أبي طالب في الطريق (2) .
وإذا حابى البائع المشتري بالثمن محاباة خارجة عن العادة يتوجه ألا يكون للمشتري أخذه إلا بالقيمة، أو أن لا شفعة له. فإن المحاباة بمنزلة الهبة من بعض الوجوه (3) ولا شفعة في بيع الخيار ما لم ينقض. نص عليه أحمد في رواية حنبل. قال القاضي: لأن أخذ الشفيع بالشفعة يسقط حق البائع من الخيار فلم يجز له المطالبة بالشفعة. وهذا التعليل من القاضي يقتضي أن الخيار إذا كان للمشتري وحده فللشفيع الأخذ، كما يجوز للمشتري أن يتصرف فيه في هذا الموضع (4) .
وأولى الروايات في مذهب الإمام أحمد أنه لا شفعة لكافر على مسلم. وقد يفرق بين أن يكون الشقص لمسلم فلا تجب الشفعة، أو لذمي فتجب.
وحينئذ فهل العبرة بالبائع أو المشتري أو كليهما أو أحدهما؟ أربع احتمالات (5) . وذكر شيخنا وجهًا فيمن اكترى نصف حانوت جاره للمكتري الأول الشفعة من الثاني (6) .
ولو ترك الولي شفعة موليه فنصه لا يسقط، وقيل: بلى. وقيل مع عدم الحظ. قلت: قال في تصحيح الفروع بعد أن ذكر وجهين ...
__________
(1) فروع 4/ 529 ف 2/ 244.
(2) اختيارات ص 167 فيه زيادة ف 2/ 245.
(3) اختيارات ص168 ف 2/ 245.
(4) اختيارات ص168 ف 2/ 245.
(5) اختيارات ص168 ف 2/ 245.
(6) فروع 4/ 529 ف 2/ 245.(4/85)
والوجه الثالث: إن كان فيها حظ لم تسقط، وإلا سقطت، وعليه أكثر الأصحاب قال الزركشي: اختاره ابن حامد وتبعه القاضي وعامة أصحابه. قال الحارثي: هذا ما قاله الأصحاب انتهى. واختاره الشيخ تقي الدين (1) .
وإن أسقط الشفعة قبل البيع لم تسقط. ويحتمل أن تسقط وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها أبو بكر في الشافي، واختاره الشيخ تقي الدين (2) .
باب الوديعة
ولو أودع المودع بلا عذر ضمن. والمودع الثاني لا يضمن إن جهل، وهو رواية عن أحمد. وكذا المرتهن منه. وهو وجه في المذهب.
ولو قال المودع أودعتها الميت، وقال: هي لفلان وقال ورثته بل هي له وليست لفلان ولم يقم بينة أنها كانت للميت ولا على الإيداع؟
قال أبو العباس: أفتيت أن القول قول المودع مع يمينه لأنه قد ثبتت له اليد. وإذا تلفت الوديعة فللمودع قبض البدل؛ لأن من يملك قبض العين يملك قبض البدل، كالوكيل وأولى (3) . وإذا استعمل كاتبًا خائنًا أو عاجزًا أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه. ذكره شيخنا (4) .
ومن استأمنه أمين على ماله فخشي من حاشيته إن منعهم من
__________
(1) تصحيح الفروع ج 4/ 544 ف 2/ 245.
(2) إنصاف 6/ 271، 272 ف 2/ 245.
(3) اختيارات 168 ف 2/ 246.
(4) فروع 4/ 487 ف 2/ 246 وتقدم.(4/86)
عادتهم المتقدمة لزمه فعل ما يمكنه، وهو أصلح للأمير من تولية غيره فيرتع معهم، لا سيما وللأخذ شبهة ذكره شيخنا (1) .
وإن دفعها إلى أجنبي أو حاكم ضمن، وليس للمالك مطالبة الأجنبي. وقال القاضي: له ذلك. وقال في المذهب ومسبوك الذهب: ليس للمالك مطالبة الأجنبي على المنصوص ... واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله (2) .
وإن أودعها بلا عذر ضمنا وقراره عليه. فإن علم الثاني فعليه. وعنه: لا يضمن الثاني إن جهل اختاره شيخنا، كمرتهن في وجه واختاره شيخنا (3) .
باب إحياء الموات
وحريم البئر العادية -وهي التي أعيدت- خمسون ذراعًا (4) .
ولو ترك جمدًا في حر شديد حتى ذاب وتقاطر ماؤه فقصد إنسان إلى ذلك القطر وتلقاه في إناء وجمعه وشربه كان مضمونًا عليه، وإن كان لو تركه لضاع ذكره أبو طالب في الانتصار. وفيه نظر (5) .
باب الجعالة
ومن استنقذ مال غيره من الهلكة ورده استحق أجرة المثل ولو بغير شرط في أصح القولين، وهو منصوص أحمد وغيره (6) .
__________
(1) فروع 4/ 491 ف 2/ 246.
(2) فروع 4/ 487 وتقدم ف 2/ 246.
(3) الإنصاف 6/ 325، 326 ف 2/ 246.
(4) الإنصاف 6/ 326 ف 2/ 246.
(5) اختيارات ص 169 والفروع ج 4/ 555 ف 2/ 247.
(6) اختيارات ص 169 ف 2/ 247.(4/87)
باب اللقطة
ولا تملك لقطة الحرم بحال ويجب تعريفها أبدًا، وهو رواية عن أحمد، واختارها طائفة من العلماء. وتضمن اللقطة بالمثل، كبدل القرض. وإذا قلنا بالقيمة فالقيمة يوم ملكها الملتقط قطع به ابن أبي موسى وغيره. خلافًا للقاضي وأبي البركات (1) .
باع الملتقط اللقطة بعد الحول ثم جاء ربها فالأشبه أن المالك لا يملك انتزاعها من المشتري (2) .
ولو وجد لقطة في غير طريق مأتي فهي لقطة على الصحيح من المذهب قدمه في الفائق. واختار الشيخ تقي الدين أنها كالركاز (3) .
ومن استنقذ فرسًا من أيدي العرب ثم مرض الفرس ولم يقدر على المشي جاز له بيعه، بل يجب في هذه الحال أن يبيعه لذمة صاحبه وإن لم يكن وكيله نص عليه الأئمة ويحفظ الثمن (4) .
باب اللقيط
وذكر ابن أبي موسى في «الإرشاد» أن بعض شيوخه حكى رواية عن الإمام أحمد أن الملتقط يرثه (يرث اللقيط) واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله ونصره (5) .
__________
(1) اختيارات ص 169 ف 2/ 247.
(2) اختيارات ص 169 ف 2/ 248.
(3) اختيارات ص 169 مختصر الفتاوى 416 ف 2/ 248.
(4) إنصاف 6/ 429 ف 2/ 248.
(5) إنصاف 6/ 446 ف 2/ 248.(4/88)
كتاب الوقف
تعريفه:
قال شيخنا: وأقرب الحدود في الوقف أنه كل عين تجوز عاريتها (1) .
ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه عرفًا، كجعل أرضه مسجدًا، أو الإذن للناس بالصلاة فيه، أو أذن فيه وأقام (2) ونقله أبو طالب وجعفر وجماعة عن أحمد. أو جعل أرضه مقبرة وأذن للناس بالدفن فيها، ونص عليه أحمد أيضًا. ومن قال: قريتي التي بالثغر لموالي الذين بها أولادهم صح وقفًا. ونقله يعقوب بن إسحاق بن بختان عن أحمد.
وإذا قال واحد أو جماعة: جعلنا هذا المكان مسجدًا أو وقفًا صار مسجدًا ووقفًا بذلك وإن لم يكملوا عمارته. وإذا قال كل منهم: جعلت ملكي للمسجد أو في المسجد ونحو ذلك صار بذلك حقًا للمسجد. ولو قال الإنسان تصدقت بهذا الدهن على هذا المسجد ليوقد فيه جاز. وهو من باب الوقف وتسميته وقفًا بمعنى أنه وقف على تلك الجهة لا ينتفع به في غيرها لا تأباه اللغة، وهو جائز في الشرع (3) .
__________
(1) إنصاف 7/ 3 وفي الاختيارات الموقوف كما يأتي ف 2/ 249.
(2) هذه الجملة أو أذن فيه وأقام في الفروع وحدها.
(3) هذا في الإنصاف ج 7/ 12.(4/89)
ووقف الهازل ووقف التلجئة إن غلب على الوقف شبه التحرير من جهة أنه لا يقبل الفسخ فينبغي أن يصح كالعتق والإتلاف. وإن غلب عليه شبه التمليك فيشبه الهبة والتمليك. وذلك لا يصح من الهازل على الصحيح (1) .
ونقل جماعة عن الإمام أحمد فيمن وقف دارًا وإن لم يحدها. قال: يصح وإن لم يحدها إذا كانت معروفة اختاره الشيخ تقي الدين. وعند الشيخ تقي الدين: لا يصح وقف منافع أم الولد في حياته (2) .
قال في المحرر: ولا يصح وقف المجهول. قال أبو العباس: المجهول نوعان: مبهم، ومعين. مثل دار لم يرها. فمنع هذا بعيد. وكذلك هبته.
فأما الوقف على المبهم فهو شبيه بالوصية له. وفي الوصية روايتان منصوصتان مثل أن يوصي لأحد هذين أو لجاره محمد وله جاران بهذا الاسم.
وقف المبهم مفرع على هبته وبيعه وليس عن أحمد في هذا منع (3) .
وينبغي أن يشترط في الواقف أن يكون ممن يمكن من تلك القربة. فلو أراد الكافر أن يقف مسجدًا منع منه (4) .
__________
(1) اختيارات ص 171 ف 2/ 249.
(2) إنصاف 7/ 9 ف 2/ 249.
(3) اختيارات ص 172 ف 2/ 249.
(4) اختيارات ص 172 ف 2/ 249.(4/90)
شروطه:
1- المنفعة:
ولو قال الواقف: وقفت هذه الدراهم على قرض المحتاجين لم يكن جواز هذا بعيدًا. وإذا أطلق وقفًا لنقدين ونحوهما مما يمكن الانتفاع ببذله فإن منع صحة هذا الوقف فيه نظر، خصوصًا على أصلنا فإنه يجوز عندنا بيع الوقف إذا تعطلت منفعته.
وقد نص أحمد في الذي حبس فرسًا عليها حلية محرمة أن الحلية تباع وينفق منها عليها وهذا تصريح بجواز مثل هذا.
ولو وقف منفعة يملكها كالعبد الموصى بخدمته أو منفعة أمه في حياته أو منفعة العين المستأجرة فعلى ما ذكره أصحابنا لا يصح.
قال أبو العباس: وعندي ليس في هذا فقه؛ فإنه لا فرق بين وقف هذا ووقف البناء والغراس، ولا فرق بين وقف ثوب على الفقراء يلبسونه أو فرس يركبونه أو ريحان يشمه أهل المسجد (1) .
وطيب الكعبة حكمه حكم كسوتها، فعلم أن التطيب منفعة مقصودة؛ لكن قد يطول بقاء مدة الطيب وقد يقصر ولا أثر لذلك.
ويصح وقف الكلب المعلم والجوارح المعلمة وما لا يقدر على تسليمه.
وأقرب الحدود في الموقوف أنه كل عين تجوز إعارتها.
قال في الرعاية: وإن وقف نصف عبد صح وإن لم يسر إلى بقيته وإن كان لغيره.
__________
(1) الريحان وطيب الكعبة موجود في الإنصاف ج 7/ 12.(4/91)
وإن أعتق ما وقفه منه أو أعتقه الموقوف عليه لم يصح عتقه ولم يسر.
وإن أعتق الواقف باقيه أو أعتقه شريكه فقد صح عتق نفسه ولم يسر إلى الموقوف.
قال أبو العباس: هذا ضعيف (1) .
وما يأخذه الفقهاء من الوقف: هل هو إجارة، أو جعالة، أو كرزق من بيت المال؟ فيه أقوال: ثالثها المختار (2) .
وما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا أو أجرة؛ بل رزق للإعانة على الطاعة، وذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به والمنذور ليس كالإجارة والجعل. اهـ (3) .
قال ابن القيم رحمه الله: وقع لبعض من نصب نفسه للفتوى من أهل عصرنا: ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف وقفًا على أهل الذمة: هل يصح ويتقيد الاستحقاق بكونه منهم؟ فأجاب بصحة الوقف، وتقييده الاستحقاق بذلك الوصف. وقال: هكذا قال أصحابنا: ويصح الوقف على أهل الذمة.
فأنكر ذلك شيخنا غاية الإنكار، وقال: مقصود الفقهاء بذلك أن كونه من أهل الذمة ليس مانعًا من صحة الوقف عليه بالقرابة أو بالتعيين؛ وليس مقصودهم أن الكفر بالله ورسوله أو عبادة الصليب وقولهم إن المسيح ابن الله شرط لاستحقاق الوقف، حتى إن من آمن بالله ورسوله واتبع دين الإسلام لم يحل له أن يتناول بعد ذلك من الوقف، فيكون
__________
(1) الاختيارات ص 170-172 ف 2/ 249.
(2) اختيارات ص 177 وفيه زيادة ف 2 /249.
(3) إنصاف 7/ 68 فيه زيادة ف 2/ 249.(4/92)
حله مشروطًا بتكذيب الله ورسوله والكفر بدين الإسلام (1) .
وأما الوقف على قبور الأنبياء. فإن كان وقفًا على بناء المساجد عليها وإيقاد المصابيح فقد تقدم حكمه وأنه معصية لا يحل الوفاء به، وأنه من عمل المشركين. والذين يقولون: إن من العلماء من وقف على مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -. يريدون بذلك أنه وقف على قبر. فهو خطأ منهم في فهم العبارة؛ فإن هذا إنما هو وقف على من بالمدينة النبوية، وليس لذلك اختصاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ جميع ما يصرفه المسلمون من الأموال في أنواع الوقف وغيره إنما هو بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (2) [7/59] .
وقال الشيخ تقي الدين: لو وقف قنديل نقد للنبي - صلى الله عليه وسلم - صرف لجيرانه قيمته. وقال في موضع آخر: النذر للقبور هو للمصالح ما لم يعلم ربه (3) .
وأما هذه الأوقاف على الترب ففيها من المصلحة بقاء حفظ القرآن وتلاوته وكون هذه الأموال معونة على ذلك وحاضة عليه؛ إذ قد لا يدرس حفظ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاضة عليه.
وفيها مفاسد أخر من حصول القراءة لغير الله، ومن التأكل بالقرآن، وقرائته على غير الوجه المشروع، وإشغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة. فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك الفساد جاز.
فالواجب النهي عن ذلك والمنع منه وإبطاله.
__________
(1) إعلام ج4/ 184 موجود بعض معناه ف 2/ 249.
(2) مختصر الفتاوى ص 551 ف 2/ 249.
(3) إنصاف 6/ 11 ف 2/ 249.(4/93)
وإن ظن حصول مفسدة أكثر من ذلك لم يدفع أدنى المفسدتين باحتمال أعلاهما (1) .
ويصح الوقف على النفس، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختارها جماعة من أصحابه (2) .
قال شيخنا: ومن الحيل الجديدة التي لا أعلم بين فقهاء الطوائف خلافًا في تحريمها: أن يريد الرجل أن يقف على نفسه بعد موته على جهات متصلة، فيقول له أرباب الحيل: أقر أن هذا المكان الذي بيدك وقف عليك من غيرك، ويعلمونه الشروط التي يريد إنشاءها فيجعلها إقرارًا، فيعلمونه الكذب في الإقرار، ويشهدون على الكذب وهم يعلمون، ويحكمون بصحته. ولا يستريب مسلم أن هذا حرام؛ فإن الإقرار شهادة من الإنسان على نفسه، فكيف يلقن شهادة الزور ويشهد عليه بصحتها؟! ثم إذا كان وقف الإنسان على نفسه باطلاً في دين الله فقد علمتموه حقيقة الباطل؛ فإن الله تعالى قد علم أن هذا لم يكن وقفًا قبل الإقرار، ولا صار وقفًا بالإقرار الكاذب، فيصير المال حرامًا على من يتناوله إلى يوم القيامة. وإن كان وقف الإنسان على نفسه صحيحًا فقد أغنى الله تعالى عن تكلف الكذب (3) .
ويصح الوقف على أم ولده بعد موته، وإن وقف على غيرها على أن ينفق عليها مدة حياته أو يكون الريع لها مدة حياته صح؛ فإن استثناء الغلة لأم ولده كاستثنائها لنفسه.
وإن وقف عليها مطلقًا فينبغي في الحال أنا إذا صححنا وقف
__________
(1) اختيارات ص 92 ف 2/ 249.
(2) اختيارات 170/249.
(3) إعلام 3/ 302 ف 2/ 249.(4/94)
الإنسان على نفسه صح؛ لأن ملك أم ولده أكثر ما يكون بمنزلة ملكه. وإن لم نصححه فيتوجه أن يقال: هو كالوقف على العبد القن، ويتوجه الفرق بأن أم الولد لا تملك بحال. وفيها نظر.
وقد تخرج على ملك العبد بالتمليك، فإن هذا نوع تمليك لأم ولده؛ بخلاف العبد القن. فإنه قد يخرج عن ملكه فيكون ملكًا لعبد الغير.
وإذا مات السيد فقد تخرج هذه المسألة عن مسألة تفريق الصفقة؛ لأن الوقف على أم الولد يعم حال رقها وعتقها، فإذا لم يصح في أحد الحالين خرج في الحال الأخرى وجهان. وإذا قلنا: إن الوقف المنقطع الابتداء يصح فيجب أن يقال ذلك هنا. وإن قلنا لا يصح فهذا كذلك (1) .
وإذا اشترط القبول في الوقف على المعين فلا ينبغي أن يشترط المجلس؛ بل يلحق بالوصية والوكالة. فيصح معجلاً أو مؤجلاً بالقول والفعل (2) فأخذ ريعه قبول، وينبغي أنه لورده بعد قبوله كان له ذلك.
أن يقف ناجزًا، فإن علقه على شرط لم يصح. وقيل: يصح واختاره الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق والحارثي وقال: الصحة أظهر وأحرى (3) .
والصواب الذي عليه محققو الفقهاء في مسألة الوقف على المعين إذا لم يقبل أورده أن ذلك ليس كالوقف المنقطع الابتداء، بل الوقف هنا صحيح قولاً واحدًا. ثم إن قبل الموقوف عليه وإلا انتقل إلى من بعده،
__________
(1) اختيارات ص 172 ف 2/ 250.
(2) نسخة بدون (أو) .
(3) الإنصاف 7/ 23 ف 2/ 251.(4/95)
كما لو مات أو تعذر استحقاقه لفوات وصف فيه؛ إذ الطبقة الثانية تتلقى من الواقف لا من الموقوف عليه (1) .
شروط الواقف:
ولا يلزم الوفاء بشرط الواقف إلا إذا كان مستحبًا خاصة، وهو ظاهر المذهب، أخذًا من قول أحمد في اعتبار القربة في أصل الجهة الموقوف عليها (2) .
وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد صرف للجند (3) .
قال شيخنا: كل متصرف بولاية إذا قيل: يفعل ما يشاء فإنما هو لمصلحة شرعية، حتى لو صرح الواقف بفعل ما يهواه وما يراه مطلقًا فشرط باطل بمخالفته الشرع، وغايته أن يكون شرطًا مباحًا وهو باطل على الصحيح المشهور، حتى لو تساوى فعلان عمل بالقرعة، وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجه (4) .
إذا شرط الواقف لناظره أجرة فكلفته عليه حتى تبقى أجرة مثله. وقال المصنف ومن تبعه: كلفته من غلة الوقف. قيل للشيخ تقي الدين: فله العادة بلا شرط، فقال: ليس له إلا ما يقابل عمله (5) .
__________
(1) اختيارات ص 173 فروع 4/ 589 وانظر الإنصاف 7/ 26-28 هذا جزم فيه بالحكم ف 2/ 251.
(2) اختيارات 175، 176 ف 2/ 251.
(3) إنصاف 7/ 57 ف 2/ 251.
(4) فروع ج 4/ 602 ف 2/ 251.
(5) إنصاف 7/ 58 ف 2/ 251.(4/96)
ولو وقف على آل جعفر وآل علي فهل يسوى بين أفرادهم، أو يقسم بينهم نصفين؟
قال أبو العباس: أفتيت أنا وطائفة من الفقهاء أنه يقسم بين أعيان الطائفتين. وأفتى طائفة أنه يقسم نصفين فيأخذ آل جعفر النصف وإن كانوا واحدًا وهو مقتضى أحد قولي العلماء (1) .
لو وقف على ابني أخيه يوسف وأيوب. ثم ظهر أن أيوب اسمه صالح، فشك فيه. فإن لم يكن لأخيه ابنان سواهما فحق أيوب ثابت ولا يضر الغلط في اسمه. وإن كانوا ثلاثة بنين ووقع الشك في عين الثالث أخرج بالقرعة في رواية عن أحمد (2) .
وما حصل للأسير من ريع الوقف فإنه يتسلمه ويحفظه وكيله ومن يتنقل بعده جميعًا (3) .
وأفتى تقي الدين باستحقاق الحمل من الوقف أيضًا (4) .
الثمرة للموجود عند التأبير أو بدو الصلاح.
قال ابن عبد القوي: ولقائل أن يقول:.... ليس كذلك، لأن واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السنة كالجعل على اشتغال من هو في المدرسة عامًا فينبغي أن يستحق بقدر عمله من السنة من ريع الوقف لئلا يفضي إلى أن يحضر الإنسان شهرًا مثلاً فيأخذ مغل جميع الوقف ويحضر غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة (5) فلا يستحق شيئًا
وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها. قال الشيخ تقي الدين: يستحق
__________
(1) اختيارات ص 181 ف 2/ 251.
(2) اختيارات ص 181 ف 2/ 252.
(3) اختيارات ص 182 وإنصاف 7/ 340.
(4) الإنصاف 7/ 22 ف 2/ 252.
(5) في الإنصاف العشر.(4/97)
بحصته من مغله. وقال: من جعله كالولد فقد أخطأ (1) .
ولو أقر الموقوف عليه أنه لا يستحق في هذا الوقف إلا مقدارًا معلومًا ثم ظهر شرط الواقف أنه يستحق أكثر حكم له بمقتضى شرط الواقف، ولا يمنع من ذلك إقراره المتقدم (2) .
ومن زور ولاية لنفسه بإمامة وباشر فيتوجه إن كانت ولايته شرطًا لاستحقاقه لم يستحق، وإلا خرج على صحة إمامته. وقال شيخنا: له أجر مثله، وأطلق، كمن ولايته فاسدة بغير كذبه لا ما يستحقه عدل بولاية شرعية (3) .
ومن أكل المال بالباطل قوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم، وقوم لهم جهات معلومها كثير يأخذونه ويستنيبون بيسير (4) .
وإذا مات شخص من مستحقي الوقف وجهل شرط الواقف صرف إلى جميع المستحقين بالسوية (5) .
وقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة والمجتهد ليس منهم. فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له (6) .
واختار الشيخ تقي الدين فيما إذا وقف على أقرب قرابته استواء الأخ من الأب والأخ من الأبوين (7) .
__________
(1) إنصاف 7/ 84 ف 2/ 252.
(2) اختيارات ص 181 ف 2/ 252.
(3) الفروع ج 2/ 17 ف 2/ 252.
(4) اختيارات 178 ف 2/ 252.
(5) اختيارات ص 181 ف 2/ 252.
(6) إعلام ج 2/ 222، 223 ف 2/ 253.
(7) إنصاف 6/ 99 ف 2/ 253.(4/98)
قال: ومن شرط في القربات أن يقدم فيها الصنف المفضول فقد شرط خلاف شرط الله كشرطه في الإمامة تقديم غير الأعلم. والناظر منفذ لما شرطه الواقف (1) .
وإذا شرط في استحقاق ريع الوقف العزوبة فالمتأهل أحق من العزب إذا استويا في سائر الصفات (2) .
قال شيخنا: ليس له أن يستأجر الوقف زيادة على شرط الواقف ولا يغيره لمصلحة نفسه؛ بل إذا غيره لمصلحة نفسه ألزم بإعادته إلى مثل ما كان وبضمان ما فوته من غير منفعة، وعلى ولاة الأمور إلزامه بما يجب عليه، فإن أبي عوقب بحبس وضرب ونحوه؛ فإن المدين يعاقب بذلك فكيف بمن امتنع من فعل واجب مع تقدم ظلم؟ (3) .
ومن عمر وقفًا بالمعروف ليأخذ عوضه فله أخذه من غلته (4) .
وقال شيخنا فيمن نزل عن وظيفة الإمام: لا يتعين المنزول له، ويولي من له الولاية من يستحق التولية شرعًا (5) .
ومن وقف مدرسة على مدرس وفقهاء فلناظر ثم الحاكم تقدير أعطيتهم. فلو زاد النماء فهو لهم. والحكم بتقديم مدرس أو غيره باطل ولو نفذه حكام.
وإن قيل: إن المدرس لا يزيد ولا ينقص بزيادة النماء ونقصه كان باطلاً؛ لأنه لهم والقياس أن يسوى بينهم ولو تفاوتوا في المنفعة كالإمام
__________
(1) إنصاف 7/ 56 ف 253.
(2) اختيارات ص 176 فيه التصريح بأنه أحق زائد عما في المجموع.
(3) فروع 4/ 581، 583 ف 2/ 154.
(4) اختيارات 181 ف 2/ 254.
(5) فروع 4/ 588، ف 2/ 254. وإنصاف 6/ 376 ف 2/ 254.(4/99)
والجيش في المغنم؛ لكن دل العرف على التفضيل، وإنما قدم القيم لأن ما يأخذه أجرة؛ ولهذا يحرم أخذه فوق أجرة مثله بلا شرط (1) .
وفي الإنصاف بعد قوله باطل ولو نفذه حكام:
إذ لم نعلم أحدًا ممن يعتد به قال به ولا بما يشابهه.
وفيه أيضًا: وبطلانه لمخالفته مقتضى الشرط والعرف أيضًا. وليس تقدير الناظر أمرًا كتقدير الحاكم بحيث لا يجوز له ولا لغيره زيادته ونقصه للمصلحة (2) .
والإمام والمؤذن كالقيم؛ بخلاف المدرس والمتعبد والفقهاء فإنهم من جنس واحد (3) .
إذا جهل شرط الواقف وتعذر العثور عليه قسم على أربابه بالسوية. واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة وهو الصواب (4) .
ومن شرط لغيره النظر إن مات فعزل نفسه أو فسق فكموته؛ لأنه تخصيصه للغالب ذكره شيخنا (5) . ثم إن صار هو أو الوصي أهلاً عاد كما لو صرح به وكالموصوف ذكره شيخنا (6) .
ومن قدر له الواقف شيئًا أكثر منه أخذه إن استحقه بموجب الشرع. ولو عطل مغل وقف مسجد سنة تقسط الأجرة المستقبلة عليها
__________
(1) اختيارات ص 174 والإنصاف 7/ 65، 2/ 255.
(2) الإنصاف 7/ 65 ف 2/ 255.
(3) اختيارات ص 174 ف 2/ 255.
(4) إنصاف 7/ 87 ف 2/ 255.
(5) فروع 4/ 593 ف 2/ 255.
(6) فروع 4/ 595 ف 2/ 255.(4/100)
وعلى السنة الأخرى، لأنه خير من التعطيل ولا ينقص الإمام بسبب تعطيل الزرع العام (1) .
والناظر إن لم يشترط له شيء ليس له إلا ما يقابل عمله، لا العادة.
واعتبر أبو العباس في موضع جواز أخذ الناظر أجرة عمله مع فقره، كوصي اليتيم. ولا يقدم الناظر بمعلومه بلا شرط (2) . قال: ومتى فرط سقط مما له بقدر ما فوته من الواجب (الفروع ج 4/ 595 إنصاف ج 7/ 63) .
ولا يجوز أن يولي فاسقًا في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقًا؛ لأنه يجب الإنكار عليه وعقوبته فكيف يولى (3) .
وإن نزل مستحق تنزيلا شرعيًا لم يجز صرفه بلا موجب شرعي (4) .
وقال أيضًا: لا يجوز أن ينزل فاسق في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقًا؛ لأنه يجب الإنكار عليه وعقوبته فكيف ينزل (5) .
وقال شيخنا: قد تجوز الصلاة خلف من لا يجوز توليته. وليس للناس أن يولوا عليهم الفساق، وإن نفذ حكمه أو صحت الصلاة خلفه.
وقال أيضًا: اتفقت الأئمة على كراهة الصلاة خلفه، واختلفوا في صحتها، ولم يتنازعوا في أنه لا ينبغي توليته.
__________
(1) اختيارات ص 177 فيه زيادة.
(2) اختيارات ص 175 وفي الإنصاف ج 7/ 61 بعد قوله السنة الأخرى (لتقدم الوظيفة فيهما. وفيه أيضًا بسبب تعطل الزرع بعض العام ج7/ 65.
(3) اختيارات ص 175 ف 2/ 255.
(4) اختيارات ص 175 ف 2/ 255.
(5) فروع ج 4/ 601 ف 2/ 255.(4/101)
وما بناه أهل الشوارع والقبائل من المساجد فالإمامة لمن رضوه لا اعتراض للسلطان عليهم، وليس لهم صرفه ما لم يتغير حاله، وليس له أن يستنيب إن غاب، ولهم انتساخ كتاب الوقف والسؤال عن حاله. واحتج شيخنا بمحاسبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عامله على الصدقة مع أن له ولاية صرفها والمستحق غير معين فهنا أولى. ونصه: إذا كان متهمًا ولم يرضوا به. ونصب المستوفي الجامع للعمال المتفرقين هو بحسب الحاجة والمصلحة؛ فإن لم تتم مصلحة قبض المال وصرفه إلا به وجب. وقد يستغنى عنه لقلة العمال ومباشرة الإمام والمحاسبة بنفسه، كنصب الإمام للحاكم؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام في المدينة يباشر الحكم واستيفاء الحساب بنفسه، ويولي مع البعد. ذكره شيخنا.
وسجل كتاب الوقف من الوقف كالعادة. ذكره شيخنا (1) .
وقال أيضًا: من ثبت فسقه أو أقر متصرفًا بخلاف الشرط الصحيح عالمًا بتحريمه قدح فيه، فإما أن ينعزل أو يضم إليه أمين على الخلاف المشهور. ثم إن صار هو أو الوصي أهلاً عاد، كما لو صرح به وكالموصوف (2) .
وله الأجرة من وقت النظر فيه (3) .
ومن لم يقم بوظيفته عزله من له الولاية بمن يقوم بها إذا لم يتب الأول ويلتزم بالواجب (4) .
وإذا رحل وخلى وظيفته شاغرة فتولاها أحد ولاية شرعية ثم عاد الأول بعد مدة فليس له أن ينازعه. وإذا ذكر أن ولي الأمر أذن له أن
__________
(1) الفروع 4/ 599 فيه زيادات ف 2/ 255.
(2) إنصاف 7/ 63 وتقدم بعض هذه العبارة ف 2/ 255.
(3) إنصاف 7/ 64 ف 2/ 255.
(4) إنصاف 7/ 66 ف 2/ 255.(4/102)
يستنيب فإنه إن كان جائزًا فهو لم يفعله، وإن لم يكن جائزًا لم ينفعه. وإذا أصر على منازعته مع علمه بالتحريم قدح في عدالته (1) .
والذي يتوجه أنه لا يجوز للموقوف عليهم أن يتسلفوا الأجرة؛ لأنهم لم يملكوا المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها. وعلى هذا فلهم أن يطلبوا الأجرة من المستأجر لأنه فرط. ولهم أن يطالبوا الناظر (2) .
ومأخذ الوقف المنقطع: أن الوقف هل يصح توقيته بغاية مجهولة أو غير مجهولة؟
فعلى قول من قال: لا يزال وقفًا لا يصح توقيته. وعلى قول من قال: يعود ملكًا يصح توقيته، فإن غلب جانب التحريم فالتحريم لا يتوقت؛ لأنه ليس له شريك. وإن غلب جانب التمليك فتوقيت جميعه قريب من توقيته على بعض البطون، كما لو قال: هذا وقف على زيد سنة ثم على عمرو سنة ثم على بكر سنة.
وضابط الأقوال في الوقف المنقطع: إما على جميع الورثة، وإما على العصبة، وإما على المصالح، وإما على الفقراء والمساكين منهم.
وعلى الأقوال الأربعة؛ فإما وقف، وإما ملك. فهذه ثمانية. ومنها أربعة في الأقارب. وهل يختص به فقراؤهم؟ فيصير فيهم ثمانية. والثالث عشر تفصيل ابن موسى أنه إذا رجع إلى جميع الورثة يكون ملكًا بينهم على فرائض الله؛ بخلاف رجوعه إلى العصاة قال أبو العباس: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد (3) .
وتجب عمارته بحسب البطون ذكره شيخنا. وذكر غيره: لا تجب
__________
(1) مختصر الفتاوى 606 ف 2/ 256.
(2) اختيارات 178 ف 2/ 256 وتقدم.
(3) اختيارات ص 273 ف 2/ 256.(4/103)
كالطلق. وتقدم عمارته على أرباب الوظائف. وقال شيخنا الجمع بينهما بحسب الإمكان أولى؛ بل قد يجب (1) .
وذكر في القاعدة الثالثة والخمسين بعد المائة: أن الشيخ تقي الدين اختار فيما إذا وقف على ولده دخول ولد الولد في الوقف دون الوصية، وفرق بينهما (2) .
وإن وقف على عقبه أو ولد ولده أو ذريته دخل فيه ولد البنين. ونقل عنه لا يدخل فيه ولد البنات، قال في الفائق: اختاره الخرقي والقاضي وابن عقيل والشيخان يعني بهما المصنف والشيخ تقي الدين (3) .
وقال الشيخ تقي الدين: ذوو طبقته إخوته وبنو عمه ونحوهم، ومن هو أعلى منه عمومته ونحوهم، ومن هو أسفل منهم ولده وولد إخوته وطبقتهم (4) .
ولو قال: وقفت على أولادي ثم أولادهم الذكور والإناث ثم أولادهم الذكور وإن سفلوا فإن أحد الطبقة الأولى لو كانت بنتًا فماتت ولها أولاد فما استحقته قبل موتها فلهم.
ولو قال: ومن مات عن غير ولد فنصيبه لأخويه ثم نسلهم وعقبهم ممن لم يعقب ومن أعقب ثم انقطع عقبه.
وقول الواقف: «ومن مات من غير نسل» يعود ما كان جاريًا عليه على من هو في درجته وذي طبقته -يقدم الأقرب إلى المتوفى فالأقرب- وهو حرمان الطبقة السفلى فقط لا حرمان العليا (5) .
__________
(1) فروع 4/ 499 فيه زيادة ف 2/ 256.
(2) إنصاف 7/ 100/ 256.
(3) إنصاف 7/ 79 زيادة إيضاح.
(4) إنصاف 7/ 50 ف 2/ 256.
(5) اختيارات 180 ف 2/ 257.(4/104)
وعنه: أزواجه من أهله ومن أهل بيته، ذكرها شيخنا. وقال: في دخولهن في آله وأهل بيته روايتان، واختار الدخول، وأنه قول الشريف (1) .
وقال الشيخ تقي الدين: فيما إذا قال: بطنًا بعد بطن ولم يزد شيئًا. هذه المسألة فيها نزاع والأظهر أن نصيب كل واحد ينتقل إلى ولده ثم إلى ولد ولده ولا مشاركة اهـ (2) .
لو وجد في كتاب الوقف أن رجلاً وقف على فلان وعلى بني بنيه واشتبه: هل المراد بني بنيه جمع أو بني بنته واحدة البنات، فقال ابن عقيل في الفنون: يكون بينهما عندنا لتساويهما كما في تعارض البينات. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس هذا من تعارض البينتين؛ بل هو بمنزلة تردد البينة الواحدة. ولو كان من تعارض البينتين فالقسمة عند التعارض رواية مرجوحة وإلا فالصحيح إما التساقط، وإما القرعة. فيحتمل أن يقرع هنا. ويحتمل أن يرجح بنو البنين لأن العادة أن الإنسان إذا وقف على ولد بنته لا يخص منهما الذكور بل يعم أولادهما؛ بخلاف الوقف على ولد الذكور فإنه يخص ذكورهم كثيرًا كآبائهم، ولأنه لو أراد ولد البنت سماها باسمها أو أشرك بين ولدها وولد سائر بناته. قال: وهذا أقرب إلى الصواب (3) .
وأفتى أيضًا رحمه الله فيمن وقف على أحد أولاده وله عدة أولاد وجهل اسمه أنه يميز بالقرعة (4) .
__________
(1) فروع ج 4/ 615 ف 2/ 257.
(2) إنصاف 7/ 47 ف 2/ 257.
(3) إنصاف 7/ 52 ف 2/ 258.
(4) إنصاف 7/ 53 ف 2/ 258.(4/105)
وقال الشيخ تقي الدين: يعطي من ليس له أب يعرف ببلاد الإسلام.
قال: ولا يعطي كافرًا (1) .
وإذا زرع البطن الأول من أهل الوقف في الأرض الموقوفة ثم ماتوا وانتقل إلى البطن الثاني كان مبقي إلى أوان جذاذه بأجرة. وقال أبو العباس في موضع آخر: تجعل مزارعة بين الزارع ورب الأرض لنموه من بذر أحدهما وبذر الآخر. وكذا الحكم في أرض الإقطاع المزروعة إذا انتقل إلى مقطع آخر والزرع قائم فيها.
وشجر الجوز الموقوف إن أدرك وإن قطعه في حياة البطن الأول فهو له. فإن مات وبقي في الأرض مدة حتى زاد كانت الزيادة حادثة من منفعة الأرض التي للبطن الثاني والأصل الذي ورث الأول، فإما أن يقسم الزيادة على قدر القسمين، وإما أن يعطي الورثة أجرة الأرض للبطن الثاني.
وإن غرسه البطن الأول من مال الوقف ولم يدرك إلا بعد انتقاله إلى البطن الثاني فهو لهم. وليس لورثة الأول فيه شيء (2) .
ومن وقف وقفًا مستقلاً ثم ظهر عليه دين ولم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف وهو في مرض الموت بيع باتفاق العلماء. وإن كان الوقف في الصحة فهل يباع لوفاء الدين؟ فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره، ومنعه قوي.
قال: وليس هذا بأبلغ من التدبير وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع المدبر في الدين. والله أعلم.
__________
(1) إنصاف 7/ 94 ف 2/ 258.
(2) اختيارات 178 ف 2/ 258.(4/106)
وإذا وقف الواقف وعليه دين مستغرق وأثبت عند الحاكم ولم يتعرض لصحة الوقف ولم يعلم الموقوف عليهم ثم مات الواقف فرد الموقوف إلى الموقوف عليهم وطلب أرباب الديون ديونهم ورفعت القضية إلى حاكم يرى بطلان هذا الوقف من جهة شرط النظر لنفسه وكونه يستغرق الذمة بالدين وكونه لم يخرجه من يده فهل يجوز نقضه؟ فيقال حكم الحاكم بما قامت به البينة والقضاء بموجبه والإلزام بمقتضاه لا يمنع الحاكم الثاني الذي عنده أن الواقف كانت ذمته مشغولة بالديون حين الوقف أن يحكم بمذهبه في بطلان هذا الوقف، ويصرف المال إلى الغرماء المستحقين للوفاء. فإن الحاكم الأول في وجوه هؤلاء الخصوم ونوابهم لا يتضمن حكمه عمله بهذا الفصل المختلف فيه. وإذا صادف حكمه مختلفًا فيه لم يعلمه ولم يحكم فيه جاز نقضه (1) .
لو شرط في الوقف أن يبيعه بطلا. وقيل: يبطل الشرط. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: يصح في الكل نقله عنه في الفائق (2) .
قال الشيخ تقي الدين: يجب بيعه بمثله مع الحاجة، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة. ولا يجوز بمثله لفوات التعيين بلا حاجة (3) .
وجوز جمهور العلماء تغيير صورة الوقف للمصلحة كجعل الدور حوانيت والحكورة المشهورة.
ولا فرق بين بناء وبناء وعرصة بعرصة (4) .
__________
(1) اختيارات ص 179 فيه زيادة ف 2/ 258، 259.
(2) الإنصاف 7/ 25 واختيارات ص 182 ف 2/ 259.
(3) إنصاف 7/ 104 فيه زيادة ف 2/ 259، 260.
(4) اختيارات ص 181، 182 ف 2/ 262.(4/107)
وإن علم أن وقفه لا يبقى دائمًا وجب صرفه؛ لأن بقاءه فساد (1) .
ولو جمع كفن ميت فكفن وفضل من ثمنه شيء صرف في تكفين الموتى أو رد إلى المعطي، وكلام أحمد يقتضيه (2) . وما فضل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر؛ لأن الواقف له غرض في الجنس، والجنس واحد. وقد روى الإمام أحمد عن علي أنه حض الناس على إعطاء مكاتب في كتابته ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين.
وقال أبو العباس في موضع آخر: ويجوز صرفه في سائر المصالح وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه (3) .
ولو وقف مسجدًا وشرط إمامًا وستة قراء وقيمًا ومؤذنًا وعجز الوقف عن تكميل حق الجميع ولم يرض الإمام والمؤذن والقيم إلا بأخذ جامكية مثلهم صرف إلى الإمام والمؤذن والقيم جامكية مثلهم مقدمة على القراء؛ فإن هذا هو المقصود الأصلي (4) .
ولورثة إمام مسجد أجرة عمله في أرض المسجد كما لو كان الفلاح غيره، ولهم من مغله بقدر ما باشر مورثهم (5) .
باب الهبة والعطية
وإعطاء المرء المال ليمدح به ويثني عليه مذموم. وإعطاؤه لكف الظلم والشر عنه ولئلا ينسب إلى البخل مشروع؛ بل هو محمود مع النية الصالحة.
__________
(1) اختيارات ص 181 ف 2/ 262.
(2) اختيارات ص 191 ف 2/ 262.
(3) اختيارات ص 182 ف 2/ 262.
(4) اختيارات ص 181 ف 2/ 263.
(5) اختيارات ص 191 ف 2/ 263.(4/108)
والإخلاص في الصدقة ألا يسأل عوضها دعاء من المعطي، ولا يرجو بركته وخاطره ولا غير ذلك من الأقوال، قال الله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (1) .
وحكى أحمد في رواية مثنى عن وهب قال: ترك المكافأة من التطفيف، وقاله مقاتل، وكذا اختار شيخنا في رده على الرافضي أن من العدل الواجب مكافأة من له يد أو نعمة ليجزيه بها (2) .
وجوز الحارثي تجويزها على شرط واختاره الشيخ تقي الدين. ذكره عنه في الفائق (3) .
ولا توقيتها. وذكر الحارثي الجواز، واختاره الشيخ تقي الدين (4) .
وأن شرط رجوعها إلى المعمر بكسر الميم عند موته، أو قال هي لآخرنا موتًا صح الشرط. هذه إحدى الروايتين اختاره الشيخ تقي الدين (5) .
وإن شرط ثوابًا مجهولاً لم تصح. وعنه أنه إذا قال: يرضيه بشيء فيصح، وذكره الشيخ تقي الدين ظاهر المذهب (6) .
لا يصح الإبراء من الدين قبل وجوبه. وجزم جماعة بأنه تمليك، ومنع بعضهم أنه إسقاط وأنه لا يصح بلفظ الإسقاط، ومنع أيضًا أنه لا يعتبر قبوله، وقال: العفو عن دم العمد تمليك أيضًا. إن وجدت قضاء
__________
(1) اختيارات ص 183 فيه زيادة ف 2/ 264.
(2) فروع 4/ 638 ف 2/ 264.
(3) إنصاف 7/ 133 ف 2/ 264.
(4) الإنصاف 7/ 134 ف 2/ 264.
(5) إنصاف 7/ 133، 134، ف 2/ 264.
(6) إنصاف 7/ 117 ف 2/ 264.(4/109)
فاقض وإلا فأنت في حل. قال في الفروع: وهذا متجه واختاره شيخنا (1) .
واشتراط القدرة على التسليم هنا فيه نظر. بخلاف البيع.
وتصح هبة المجهول كقوله: ما أخذت من مالي فهو لك، أو من وجد شيئًا من مالي فهو له. وفي جميع هذه الصور يحصل الملك بالقبض ونحوه.
وللمبيح أن يرجع فيما قال قبل التمليك. وهذا نوع من الهبة يتأخر القبول فيه عن الإيجاب كثيرًا وليس بإباحة (2) .
قال أبو العباس: ويظهر لي صحة هبة الصوف على الظهر قولاً واحدًا. وقاسه أبو الخطاب على البيع (3) .
وإن حملوا الجهاز مع البنت إلى بيتها على الوجه المعروف فهو تمليك لها. فلا تقبل دعوى أمها أن الجهاز ملكها. وليس للأم الرجوع به، ولا للأب أيضًا بعد أن تعلقت رغبة الزوج وزوجت على ذلك (4) .
ومن وهب لابنه هبة ثم تصرف فيها فادعى أنه ملكه تضمن ذلك الرجوع؛ لأنه أقر إقرارًا لا يملك إنشاءه (5) .
ومن اشترى عبدًا فوهبه شيئًا حتى أثرى، ثم ظهر أنه كان حرًا فله أن يأخذ منه ما وهبه لما كان ظانًا أنه عبده (6) .
__________
(1) إنصاف 7/130 ف 2/264.
(2) اختيارات 183 ف 2/ 264.
(3) اختيارات ص 183 وإنصاف 7/131 ف 2/265.
(4) مختصر الفتاوى ص 609 فيه زيادة ف 2/265.
(5) مختصر الفتاوى 462 ف 2/265.
(6) مختصر الفتاوى 440 ف 2/265.(4/110)
لو تباريا وكان لأحدهما دين مكتوب فادعى استثناءه بقلبه ولم يبرئه منه قبل قوله. ولخصمه تحليفه. ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله (1) .
فصل
ويجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم، وهو مذهب أحمد، مسلمًا كان الولد أو ذميًا.
ولا يجب على المسلم التسوية بين أولاده من أهل الذمة، ولا يجب التسوية بين سائر الأقارب الذين لا يرثون كالأعمام والإخوة مع وجود الأب. ويتوجه في ولد البنين التسوية كآبائهم. فإن فَضَّل - حيث منعناه- فعليه التسوية أو الرد، وينبغي أن يكون على الفور. وإذا سوى بين أولاده في العطاء فليس له أن يرجع في عطية بعضهم.
والأحاديث والآثار تدل على وجوب التعديل بينهم في غير التمليك أيضًا، وهو في ماله، ومنفعته التي ملكهم، والذي أباحهم كالمسكن، والطعام.
ثم هنا نوعان: نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك. فتعديله بينهم فيه أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه. ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير.
ونوع يشتركون في حاجتهم إليه: من عطية أو نفقة أو تزويج فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه. وينشأ بينهما نوع ثالث، وهو أن ينفرد أحدهم بحاجة غير معتادة: مثل أن يقضي عن أحدهم دينًا وجب عليه
__________
(1) إنصاف 7/ 130 ف 2/ 265، 264 وتقدم.(4/111)
من أرش جناية، أو يعطي عنه المهر، أو يعطيه نفقة الزوجة ونحو ذلك ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر.
وتجهيز البنات بالنحل أشبه، وقد يلحق بهذا. والأشبه أن يقال في هذا: أنه يكون بالمعروف فإن زاد على المعروف فهو من باب النحل. ولو كان أحدهما محتاجًا دون الآخر أنفق عليه قدر كفايته. وأما الزيادة فمن النحل. فلو كان أحد الأولاد فاسقًا فقال والده لا أعطيك نظير إخوتك حتى تتوب فهذا حسن يتعين استتابته. وإذا امتنع من التوبة فهو الظالم لنفسه، فإن تاب وجب عليه أن يعطيه. وأما إن امتنع من زيادة الدين لم يجز منعه. فلو مات الوالد قبل التسوية الواجبة فللباقين الرجوع، وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن بطة وأبي حفص.
وأما الولد المفضل فينبغي له الرد بعد الموت قولاً واحدًا. وهل يطيب له الإمساك؟ إذا قلنا لا يجبر على الرد فكلام أحمد يقتضي روايتين، فقال في رواية ابن الحكم: وإذا مات الذي فُضِّل لم أطيبه له، ولم أجبره على رده. وظاهره التحريم، ونقل عنه أيضًا.
قلت: فترى على الذي فضل أن يرده؟ قال: إن فعل فهو أجود وإن لم يفعل ذلك لم أجيره. وظاهره الاستحباب.
وإذا قلنا برده بعد الموت فالوصي يفعل ذلك. فلو مات الثاني قبل الرد والمال بحاله رد أيضًا.
لكن لو قسمت تركة الثاني قبل الرد أو بيعت أو وهبت فههنا فيه نظر؛ لأن القسمة والقبض تقرر العقود الجاهلية، وهذا فيه تأويل، وكذلك لو تصرف المفضل في حياة أبيه ببيع أو هبة واتصل بهما القبض ففي الرد نظر، إلا أن هذا متصل بالقبض في العقود الفاسدة (1) .
__________
(1) اختيارات ص 184-186 فيها زيادات كثيرة. 2/ 266.(4/112)
وللأب الرجوع فيما وهبه لولده ما لم يتعلق به حق أو رغبة، فلا يرجع بقدر الدين وقدر الرغبة، ويرجع فيما زاد.
وعن الإمام أحمد فيما إذا تصدق على ولده: هل له أن يرجع؟ فيه روايتان؛ بناء على أن الصدقة نوع من الهبة، أو نوع مستقل.
وعلى ذلك ينبني ما لو حلف لا يهب فتصدق: هل يحنث؟ على وجهين (1) .
ويرجع الأب فيما أبرأ منه ابنه من الديون على قياس المذهب، كما للمرأة على إحدى الروايتين الرجوع على زوجها فيما أبرأته به من الصداق.
ويملك الأب إسقاط دين الابن عن نفسه (2) .
ولو قتل ابنه عمدًا لزمته الدية في ماله، نص عليه الإمام أحمد وكذا لو جنى على طرفه لزمته ديته (3) .
وإذا أخذ من مال ولده شيئًا ثم انفسخ سبب استحقاقه بحيث وجب رده إلى الذي كان مالكه مثل أن يأخذ صداقها فتطلق أو يأخذ الثمن ثم ترد السلعة بعيب أو يأخذ المبيع ثم يفلس الولد بالثمن ونحو ذلك فالأقوى في جميع الصور أن للمالك الأول الرجوع على الأب.
وللأب أن يتملك من مال ولده ما شاء ما لم يتعلق به حق كالرهن والفلس. وإن تعلق به رغبة كالمداينة والمناكحة وقلنا يجوز الرجوع في الهبة ففي التمليك نظر.
وليس للأب الكافر تملك مال ولده المسلم، لا سيما إذا كان الولد
__________
(1) اختيارات 186 فيه زيادة ف 2/ 266.
(2) اختيارات ص 187 ف 2/ 266.
(3) اختيارات ص 187 ف 2/ 266.(4/113)
كافرًا فأسلم، وليس له أن يرجع في عطيته إذا كان وهبه إياها في حال الكفر فأسلم الولد. فأما إذا وهبه في حال إسلام الولد ففيه نظر.
وقال أبو العباس في موضع آخر: فأما الأب والأم الكافران فهل لهما أن يتملكا من مال الولد المسلم أو يرجعا في الهبة؟ يتوجه أن يخرج فيه وجهان على الروايتين في وجوب النفقة مع اختلاف الدين؛ بل يقال: إن قلنا لا تجب النفقة مع اختلاف الدين فالتملك أبعد. وإن قلنا تجب النفقة فالأشبه ليس لهما التملك. والأشبه أنه ليس للأب المسلم أن يأخذ من مال ولده الكافر شيئًا؛ فإن أحمد علل الفرق بين الأب وغيره بأن الأب يجوز أخذه من مال ابنه، ومع اختلاف الدين لا يجوز (1) .
والأشبه في زكاة دين الابن على الأب أن يكون بمنزلة المال التاوي كالضال فيخرج فيه ما خرج في ذلك. وهل يمنع دين الأب وجوب الزكاة والحج وصدقة الفطر والكفارة المالية وشراؤه العبد ليعتقه؟ يتوجه ألا يمنع ذلك لقدرته على إسقاطه. ويتوجه أن يمنع لأن وفاءه قد يكون خيرًا له ولولده.
وعقوبة الأم والجد على مال الولد قياس قولهم أنه لا يعاقب على الدم والعرض ألا يكون عليهما حبس ولا ضرب للامتناع من الأداء. وقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك» يقتضي إباحة نفسه كإباحة ماله، وهو نظير قول موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [25/5] وهو يقتضي جواز استخدامه، وأنه يجب
على الولد خدمة أبيه. ويقويه منعه من الجهاد والسفر ونحو ذلك فيما
__________
(1) اختيارات ص 187، 188، والإنصاف ص 7/ 156 وفيه زيادة توضيح لما في الاختيارات ف 2/ 267.(4/114)
يفوت انتفاعه به؛ لكن هذا يشترك فيه الأبوان. فيحتمل أن يقال: خص الأب بالمال. وأما منفعة البدن فيشتركان فيها.
وقياس المذهب جواز أن يؤجر ولده لنفسه مع فائدة فيشتركان فيها.
وقياس المذهب جواز أن يؤجره لنفسه مع فائدة الولد مثل أن يتعلم صنعة أو حاجة للأب، وإلا فلا.
ويستثنى ما للأب أن يأخذه من سرية الابن إن لم تكن أم ولد (1) فإنها تلحق بالزوجة ونص عليه الإمام أحمد في أكثر الروايات. وعنه ألحقنا سرية العبد بزوجته في إحدى الروايتين في أن السيد لا ينتزعها (2) .
وسأله ابن منصور وغيره: يأكل من مال ابنه؟ قال: نعم، إلا أن يفسده فله القوت، ولا يصح تصرفه فيه قبل تملكه على الأصح. وقال شيخنا: ويقدح في أهليته لأجل الأذى سيما بالحبس (3) .
فصل
في تبرعات المريض
ليس معنى المرض المخوف الذي يغلب على القلب الموت منه، أو يتساوى في الظن جانب البقاء والموت؛ لأن أصحابنا جعلوا ضرب المخاض من الأمراض المخوفة. وليس الهلاك فيه غالبًا ولا مساويًا للسلامة. وإنما الغرض أن يكون سببًا صالحًا للموت فيضاف إليه ويجوز حدوثه عنده. وأقرب ما يقال: ما يكثر الموت منه، فلا عبرة بما يندر
__________
(1) وفي الإنصاف أن يأخذه من مال ولده سرية للابن وإن لم تكن أم ولد.
(2) اختيارات 188، 189 ف 2/ 267.
(3) فروع 4/ 652 وإنصاف 7/ 176 ف 2/ 267.(4/115)
الموت منه. ولا يجب أن يكون الموت منه أكثر من السلامة؛ لكن يبقى ما ليس مخوفًا عند أكثر الناس والمريض قد يخاف منه، أو هو مخوف والرجل لم يلتفت إلى ذلك فيخلط (1) ما هو مخوف للمتبرع وإن لم يكن مخوفًا عند جمهور الناس (2) .
ذكر القاضي: أن الموهوب له لا يقبض الهبة ويتصرف فيها مع كونها موقوفة على الإجازة. وهذا ضعيف. والذي ينبغي: أن تسليم الموهوب إلى الموهوب له لم يذهب لعلة حيث شاء.
وإرسال العبد المعتق أو إرسال المحابي لا يجوز؛ بل لا بد أن يوقف أمر التبرعات.
ويملك الورثة أن يحجروا على المريض إذا اتهموه بأنه تبرع بما زاد على الثلث: مثل أن يهب ويتصدق ويهب ويحابي ولا يحسب ذلك، أو يخافون أن يعطي بعض المال لإنسان تمتنع عطيته، ونحو ذلك. كذلك لو كان المال بيد وكيل أو شريك أو مضارب وأرادوا الاحتياط على ما بيده بأن يجعلوا معه يدًا أخرى لهم فالأظهر أنهم يملكون ذلك أيضًا.
وهكذا يقال في كل عين تعلق بها حق الغير كالعبد الجاني والتركة.
فأما المكاتب فللسيد أن يثبت يده على ماله. فيمكن الفرق بينه وبين هذا بأن العبد قد ائتمنه بدخوله معه في الكتابة؛ بخلاف المريض. وأما وكيله فإن الورثة لم يأتمنوه. ودعوى المريض فيما خرج عن العادة ينبغي أن تعتبر من الثلث. ومنافعه لا تحسب من الثلث.
__________
(1) في نسخة: فيخلص له.
(2) اختيارات 192 ف 2/ 267.(4/116)
وإسراف المريض في الملاذ والشهوات: ذكره القاضي وجوازه محل وفاق.
وقال أبو العباس: يحتمل وجهين، ولو قال لعبده يا سالم: إذا أعتقت غانمًا فأنت حر، وقال أنت حر في حال إعتاقي إياه، ثم أعتق غانمًا في مرضه ولم يحتملهما الثلث -قياس المذهب- وهو الأوجه أن يقرع بينهما فإذا خرجت القرعة لسالم عتق دون غانم. نعم لو قال: إذا أعتقت سالمًا فغانم حر، أو قال: إذا أعتقت سالمًا فغانم حر بعد حريته. فبهذا يعتق سالم وحده؛ لأن عتق غانم معلق بوجود عتقه لا بوجود إعتاقه (1) .
ولو أوصى لوارث أو لأجنبي بزائد على الثلث فأجاز الورثة الوصية بعد موت الموصي صحت الإجازة بلا نزاع. وكذلك قبله في مرض الموت. وخرجه طائفة من الأصحاب رواية من سقوط الشفعة بإسقاطها قبل البيع. وإن أجاز الوارث الوصية وقال: ظننت قيمته ألفًا فبانت أكثر قبل وكذا لو أجاز، وقال: أردت أصل الوصية (2) .
ولا تصح إجازتهم ولا ردهم إلا بعد موت الموصي. وعنه تصح إجازتهم قبل الموت في مرضه. قال في القاعدة الرابعة: الإمام أحمد شبهه بالعفو عن الشفعة فخرجه المجد في شرحه على روايتين، واختارها صاحب الرعاية والشيخ تقي الدين (3) .
قال الشيخ تقي الدين: قياس المذهب: أنه ليس للإنسان يتملك من مال ابنه في مرض موت الأب ما يخلف تركة؛ لأنه بمرضه قد
__________
(1) اختيارات 191، 192 ف 2/ 267.
(2) اختيارات 193 فيه زيادة ف 2/ 267.
(3) الإنصاف 7/ 201 فيه زيادة إيضاح ف 2/ 267.(4/117)
انقطع السبب القاطع لتملكه، فهو كما لو تملك في مرض موت الابن (1) .
ويصح معاوضة مريض بثمن مثله. وعنه مع وارث بإجازة اختاره في الانتصار؛ لفوات حقه من المعين. وقال الشيخ تقي الدين: فيمن أجر الموقوف لأجنبي كفضولي (2) .
__________
(1) إنصاف 7/ 156 ف 2/ 267.
(2) فروع 4/ 668 ف 2/ 268.(4/118)
كتاب الوصايا
فإن جرح جرحًا موصيًا صحت توبته، والمراد مع ثبات عقله لصحة وصية عمر وعلي ... وذكر الشيخ وغيره: أن حكم من ذبح أو أبينت حشوته وهي أمعاؤه لا خرقها وقطعها فقط فهو كميت (1) .
ولا يجوز لوارثه بثلثه ولا بأكثر منه لغيره نص عليه. وفي التبصرة: يكره. وعنه: في صحته من كل ماله. نقله حنبل. ويصح على الأصح بإجازة الورثة لهما بعد موت الموصي كالرد. وعنه وقبله في مرضه خرجها القاضي أبو حازم من إذن الشفيع في الشراء، ذكره في النوادر واختاره صاحب الرعاية وشيخنا (2) .
ومن أجازها بجزء مشاع وقال: ظننت قلة المال قبل ... قال شيخنا: وإن قال: ظننت قيمته ألفًا فبان أكثر قبل، وليس نقضًا للحكم ببينة أو إقرار. قال: وإن أجاز وقال: أردت أصل الوصية قبل (3) .
ونقل حرب فيمن وصى لأجنبي وله قرابة لا يرثه محتاج يرد إلى قرابته. وذكر شيخنا رواية: له ثلثاها وللموصى له ثلثها (4) .
__________
(1) الآداب 1/ 128 ف 2/ 268، 272.
(2) فروع 4/ 661 فيه زيادة ف 2/ 269.
(3) فروع 4/ 662 ف 2/ 269. وتقدم في وصية المريض بما زاد.
(4) فروع 4/ 621 ف 2/ 269.(4/119)
باب الموصى له
وتصح الوصية للحمل. وقياس المنصوص في الطلاق: أنها إذا وضعته لتسعة أشهر استحق الوصية إذا كانت ذات زوج أو سيد يطأ. ولأكثر من أربع سنين إن اعتزلها وهو الصواب (1) .
وإن وصف الموصى له أو الموقوف عليه بخلاف صفته مثل أن يقول: على أولادي السود وهم بيض أو العشرة وهم اثنا عشر. فههنا: الأوجه إذا علم ذلك أن يعتبر الموصوف دون الصفة. وقد يقال ببطلان الوقف والوصية كمسألة الإبهام، وقد يقال: يصح في مسألة القدر ويعطى العشرة إما بتعيين في الوصية بالقرعة في الوقف. والذي يقتضيه المذهب أن الغلط في الصفة لا يمنع الورثة صحة العقد (2) .
إذا أوصى لولده في دخول ولد بنيه حكم الوقف قاله في الفروع وغيره. وأشار الشيخ تقي الدين إلى دخولهم في الوقف دون الوصية؛ لأن الوقف يتأبد والوصية تمليك للموجودين فيختص بالطبقة العليا الموجودة (3) .
إذا أوصى أن يحج عنه بألف فقال رجل: أنا أحج بأربعمائة وجب إخراج جميع ما أوصى به إن خرج من ثلثه، وإن لم يخرج لم يجب على الورثة إخراج الزائد على الثلث؛ إلا أن يكون واجبًا بحيث لا يحصل حجة الإسلام إلا به (4) .
وإذا أوصى لأخته كل يوم بدرهم واتسع ماله كل يوم لدرهم أعطيت إن كان ثلث ماله يتسع أو أجازه الورثة. ولو لم يخلف إلا عقارًا
__________
(1) اختيارات ص 193 ف 2/ 269.
(2) اختيارات ص 193 ف 2/ 269.
(3) الإنصاف 7/ 176 ف 2/ 269 وتقدم.
(4) مختصر الفتاوى ص 417 ف 2/ 270.(4/120)
أعطيت من مغله أقل الأمرين من ثلث المغل أو من الدراهم الموصى بها (1) .
ولو وصى بفكاك الأسرى أو وقف مالاً على فكاكهم صرف من يد الموصي ووكيله، ولوليه أن يقترض عليه ثم يوفيه منه. وكذلك في سائر الجهات.
ومن افتك أسيرًا غير متبرع جاز صرف المال إليه. وكذا لو اقترض غير الوصي ما لا فك به أسيرًا جازت توفيته منه. وما احتاج إليه الوصي في افتكاكهم من أجرة صرف من المال.
ولو تبرع بعض أهل الثغور بفدائه واحتاج الأسير إلى نفقة الإياب صرف من مال الأسرى. وكذلك لو اشترى من المال الموقوف على افتكاكهم أنفق منه عليه إلى بلوغ محله (2) .
قال أبو بكر الخلال: لو قال الموصي: أعتق عبدًا نصرانيًا فأعتق مسلمًا أو ادفع ثلثي إلى نصراني فدفعه إلى مسلم ضمن. قال أبو العباس: وفيه نظر (3) .
والأخ من الأب والأخ من الأم سواء. والأخ من الأبوين أحق منهما. وقال في الفروع: ويتوجه رواية أنه كأخيه لأبيه لسقوط الأمومة كالنكاح. قلت: واختاره الشيخ تقي الدين (4) .
قال الشيخ تقي الدين: لو جعل الكفر أو الجهل شرطًا في الاستحقاق لم يصح؛ فلو وصى لأجهل الناس لم يصح (5) .
__________
(1) مختصر الفتاوى ص 418 ف 2/ 270.
(2) اختيارات ص 193 ف 2/ 270.
(3) اختيارات ص 194 ف 2/ 270.
(4) إنصاف 7/ 244، 245 ف 2/ 270.
(5) إنصاف 7/ 237 ف 2/ 270.(4/121)
باب الموصى به
قال أبو العباس في تعاليقه القديمة: ويظهر لي أنه لا تصح الوصية بالحمل، نظرًا إلى علة التفريق؛ إذ ليس النهي عن التفريق يختص بالبيع؛ بل هو عام في كل تفريق؛ إلا العتق وافتداء الأسرى (1) .
وتصح الوصية بالمنفعة أبدًا. ويكون تمليكًا للرقبة، ولا يستحق الورثة منه شيئًا. وإن قصد مع ذلك إبقاء الرقبة للورثة والإيصاء بها لآخر بطلت؛ لامتناع أن تكون المنافع كلها لشخص والرقبة لآخر ولا سبيل لترجيح أحد الأمرين فيبطلان.
أما إن وصى في وقت بالرقبة لشخص وفي وقت بالمنافع لغيره فهو كما لو وصى بعين لاثنين في وقتين (2) .
إذا نمى الموصى به بوقفه بعد الموت وقبل إيقافه فأفتى الشيخ تقي الدين بأن يصرف مصرف الوقف؛ لأن نماءه قبل الوقف كنمائه بعده (3) .
إذا نقص الموصى به في سعر أو صفات فقال في «المحرر» : إن قلنا بملكه بعد الموت اعتبرت قيمته من التركة بسعره يوم الموت على أدنى صفاته من يوم الموت إلى القبول. وإن قلنا بملكه من حين القبول اعتبرت قيمته يوم القبول سعرًا وصفة. اهـ قال في القواعد: والمنصوص عن الإمام أحمد في رواية ابن منصور وذكره الخرقي أنه تعتبر قيمته يوم الوصية ولم يحك في المغني فيه خلافًا، فظاهره أنه تعتبر قيمته بيوم الموت على الوجوه كلها. قال الشيخ تقي الدين: هذا قول الخرقي وقدماء الأصحاب. قال: وهذا أوجه من كلام المجد (4) .
__________
(1) اختيارات ص 194 ف 2/ 270.
(2) اختيارات ص 194 ف 2/ 270.
(3) إنصاف 7/ 208 ف 2/ 270.
(4) إنصاف 7/ 209 ف 2/ 270.(4/122)
وفي دخول المتجدد بعد الوصية وقبل موت الموصي روايتان. وذكر القاضي فيمن وصى لمواليه وله مدبرون وأمهات أولاد أنهم يدخلون، وعلل بأنهم أموال حال الموت، والوصية تعتبر بحال الموت وخرج الشيخ تقي الدين على الخلاف في المتجدد بين الوصية والموت قال: بل هنا متجدد بعد الموت فمنعه أولى (1) .
الموصى إليه
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله فيمن أوصى إليه بإخراج حجة أو ولاية إخراجها والتعيين للناظر الخاص إجماعًا. وأن للولي العام الاعتراض لعدم أهليته أو فعله محرمًا (2) .
ويجب على الوصي تقديم الواجب على المتبرع به، فلو وصى بتبرعات لمعين أو غير معين فمنع الورثة أو جحدوا الدين. قال أبو العباس: أفتيت بأن الوصي يخرج الدين مما قدر عليه مقدمًا على الوصية. وإن اعتقد الورثة أنه نصيب الوصية. وليس هذا مثل غصب المشاع.
وإذا قال: اصنع في مالي ما شئت أو هو بحكمك افعل فيه ما شئت ونحو ذلك من ألفاظ الإباحة لا الأمر. قال أبو العباس: له أن يخرج ثلثه وله ألا يخرجه فلا يكون الإخراج واجبًا ولا محرمًا، بل هو موقوف على اختيار الوصي.
ولو قال: يدفع هذا إلى يتامى فلان فإقرار بقرينة، وإلا فوصية.
ويجوز للوصي صرف الوصية فيما هو أصلح من الجهة التي عينها الموصي (3) .
__________
(1) إنصاف 7/ 231 ف 2/ 270.
(2) إنصاف 7/ 387 ف 2/ 271.
(3) اختيارات ص 193 ف 2/ 271.(4/123)
كتاب الفرائض
أركان الإرث، وأسبابه، وموانعه
وذكر الشيخ في فتاويه: إن خرجت حشوته ولم تبن ثم مات ولده ورثه.
وإن أبينت فالظاهر يرثه؛ لأن الموت زهوق النفس وخروج الروح ولم يوجد. ولأن الطفل يرث ويورث بمجرد استهلاله وإن كان لا يدل على حياة أثبت من حياة هذا.
وقد ذكر الشيخ في ميراث الحمل أن الحيوان يتحرك بعد ذبحه شديدًا وهو كميت (1) .
أسباب التوارث: رحم، ونكاح، وولاء عتق إجماعًا.
وقد ذكر عند عدم ذلك كله موالاته، ومعاقدته، وإسلامه على يديه، والتقاطه، وكونهما من أهل الديوان. وهو رواية عن أحمد (2) .
وقيل يرث عبد سيده عند عدم الورثة واختاره الشيخ تقي الدين (3) .
ولو قال السيد لعبده: أنت حر مع موت أبيك ورثه لسبق الحرية الإرث.
__________
(1) الآداب ج 1/ 128 ف 2/ 272.
(2) اختيارات 195 فروع ج 5/ 3 وقال: اختاره شيخنا ف 2/ 272.
(3) إنصاف 7/ 303 ف 2/ 272.(4/125)
وإن قال: أنت حر عقب موته أو إذا مات أبوك فأنت حر فهذا يتخرج على وجهين؛ بناء على أن الأهلية إذا حدثت مع الحكم هل يكفي ذلك، أم لا بد من تقدمها (1) ؟
وعنه: أنها عصبة ولد الزنا والمنفي بلعان: اختاره أبو بكر والشيخ تقي الدين وصاحب الفائق (2) .
والآمر بقتل مورثه لا يرثه ولو انتفى الضمان (3) .
وفي رد شيخنا على الرافضي: أن آية المواريث لم تشمله - صلى الله عليه وسلم -، واحتج بالسياق قبلها وبعدها. فقيل له: فلو مات أحد من أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورثه كما ماتت بناته الثلاث في حياته ومات ابنه إبراهيم؟ فقال: الخطاب في الآية للموروث دون الوارث فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم مورثين أن يدخلوا إذا كانوا وارثين.
فقيل له: ففي آية الزوجين قال: {وَلَكُمْ} {وَلَهُنَّ} فقال: لم تمت إلا خديجة بمكة قبل نزولها وزينب الهلالية بالمدينة، ومن أين يعلم أنها كانت نزلت وأنها خلفت مالاً. ثم لا يلزم من شمول أحد الكافين له شمول الأخرى (4) .
__________
(1) عبارة الإنصاف: ولو وجدت الحرية عقب موت الموروث أو معه كتعليق العتق على ذلك أو دين ابن عمه ثم مات لم يرث ذكره القاضي وصاحب المغني. وقال الشيخ تقي الدين: ينبغي أن يخرج على الوجهين فيما إذا حدثت الأهلية مع الحكم هل يكتفى بها أو يشترط تقدمها. (إنصاف 7/ 345 ف 272) .
(2) إنصاف 7/ 309 ف 2/ 272.
(3) اختيارات 196 فيه زيادة ف 2/ 272، 276.
(4) فروع 5/ 163، 164 ف 2/272.(4/126)
الجد والإخوة
والجد يسقط الإخوة من الأم إجماعًا، وكذا من الأبوين أو الأب، وهي رواية عن الإمام أحمد، واختارها بعض أصحابه، وهو مذهب الصديق وغيره من الصحابة رضي الله عنهم (1) .
أحوال الأم
والإخوة لا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس إلا إذا كانوا وارثين غير محجوبين بالأب، فللأم في مثل أبوين وأخوين الثلث (2) .
الجدات
ولا يرث غير ثلاث جدات: أم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب، وإن علون أمومة وأبوة. إلا المدلية بغير وارث كأم أبي الأم (3) .
التعصيب
ويرث مولى من أسفل عند عدم الورثة، وقاله بعض العلماء: فيتوجه من ذلك أنه ينفق على المنعم ومنقطع السبب عصبة عصبة أمه، وإن عدمته فعصبتها، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختيار أبي بكر، وقول ابن مسعود وغيره (4) .
باب الرد
ولو خلفت المرأة زوجًا وبنتًا وأمًا. فهذه الفريضة تقسم على أحد
__________
(1) الاختيارات 197 والإنصاف 7/ 305، 306 ف 2/ 272.
(2) الاختيارات ص 197 ف 2/ 273.
(3) الاختيارات ص 195 فيه زيادة إيضاح ومثال ف 2/ 273.
(4) الاختيارات ص 195 والإنصاف 7/ 303 ف 2/ 274.(4/127)
عشر للبنت ستة أسهم، وللزوج ثلاثة أسهم، وللأم سهمان. وهذا على قول من يقول بالرد كأبي حنيفة وأحمد.
وعلى قول من لا يقول بالرد كمالك والشافعي فيقسم عندهم على اثني عشر سهمًا: للبنت ستة أسهم، وللزوج ثلاثة، وللأم سهمان والباقي لبيت المال (1) .
ميراث ذوي الأرحام
يورث ذوي الأرحام جمهور السلف وأحمد في المشهور عنه وأبو حنيفة وطوائف من أصحاب الشافعي. وقول مالك إذا فسد بيت المال.
والقول الثاني: يرث بيت المال، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد في رواية (2) .
الغرقى ومن عمي موتهم
وخرج أبو بكر ومن بعده منع توارث بعضهم من بعض. وهذا التخريج من المصنف عن الإمام أحمد رحمه الله فيما إذا اختلف ورثة كل ميت في السابق منهما ولا بينة، واختاره المصنف والمجد وحفيده الشيخ تقي الدين (3) .
ميراث أهل الملل
قال ابن القيم رحمه الله: (فصل) وأما توريث المسلم من الكافر فاختلف فيه السلف، فذهب كثير منهم إلى أنه لا يرث، كما لا يرث الكافر المسلم، وهذا هو المعروف عن الأئمة الأربعة وأتباعهم. وقالت
__________
(1) اختيارات 197 ف 275 وهي موجودة في ج 31 ص 338 لكن لم تفهرس هناك.
(2) مختصر الفتاوى 421 وهذا اللفظ غير موجود فيه.
(3) الإنصاف 7/ 345 ف 2/ 275 فيه زيادة.(4/128)
طائفة منهم: بل يرث المسلم الكافر دون العكس. وهذا قول معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله بن مغفل، ويحيى بن يعمر، وإسحاق بن راهويه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قالوا: نرثهم ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نسائنا.
قال شيخنا: وقد ثبت بالسنة المتواترة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجري الزنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين فيرثون ويورثون (1) .
وأما أهل الذمة فمن قال بقول معاذ ومعاوية ومن وافقهما يقول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر» المراد به الحربي؛ لا المنافق ولا المرتد ولا الذمي، إلى أن قال:
قال شيخنا: ومما يؤيد القول بأن المسلم يرث الذمي ولا يرثه الذمي أن الاعتبار في الإرث بالمناصرة، والمانع هو المحاربة.
إلى أن قال: فلما دخل مكة في حجة الوداع قيل له: ألا تنزل في دارك؟ فقال: «وهل ترك عقيل لنا من دار» .
قال الشيخ: وهذا الحديث قد استدل به طوائف على مسائل فالشافعي احتج به على جواز بيع رباع مكة، وليس في الحديث أنه باعها.
إلى أن قال ابن القيم: وهذه المسائل الثلاث من محاسن الشريعة: وهي توريث من أسلم على ميراث قبل قسمته، وتوريث المعتق عبده بالولاء، وتوريث المسلم قريبه الذمي، وهي مسألة نزاع بين الصحابة
__________
(1) ويأتي في الاختيارات زيادة.(4/129)
والتابعين. وأما المسألتان الأخيرتان فلم يعلم عن الصحابة فيهما نزاع؛ بل المنقول عنهم التوريث.
قال شيخنا: والتوريث في هذه المسائل على وفق أصول الشرع؛ فإن المسلمين لهم إنعام وحق على أهل الذمة: بحقن دمائهم، والقتال عنهم، وحفظ دمائهم، وأموالهم، وفداء أسراهم (1) .
وقال الشيخ تقي الدين: يرث المسلم من قريبه الكافر الذمي؛ لئلا يمتنع قريبه من الإسلام، ولوجوب نصرتهم ولا ينصروننا (2) .
وعند شيخنا يرث (المنافق) ويورث؛ لأنه عليه السلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا ولا جعله فيئًا، فعلم أن الميراث مداره على النظرة الظاهرة. قال: واسم الإسلام يجري عليهم في الظاهر (ع) وعند شيخنا وغيره قد يسمى من فعل بعض المعاصي منافقًا (3) .
والمرتد إذ قتل في ردته أو مات عليها فماله لوارثه المسلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو المعروف عن الصحابة، ولأن ردته كمرض موته.
والزنديق منافق يرث ويورث، لأنه عليه السلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا ... (4) .
ميراث المطلقة
ومن طلق امرأته في مرض موته بقصد حرمانها من الميراث ورثته إذا كان الطلاق رجعيًا إجماعًا. وكذا إن كان بائنًا عند جمهور أئمة
__________
(1) أحكام أهل الذمة ص462، 463، 465، 467، 474 ف 2/ 275.
(2) الإنصاف 7/345، والاختيارات 196 ف 2/ 275.
(3) فروع 5/ 53 ف 2/ 275.
(4) الاختيارات 196 ف 2/ 275 والإنصاف 7 / 527.(4/130)
الإسلام، وقضى به عمر رضي الله عنه ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلافًا، وإنما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير. وعلى قول الجمهور فهل تعتد عدة طلاق أو وفاة أو أطولهما؟ فيها أقوال: أظهرها الثالث. وهل يكمل لها المهر، فيه قولان أظهرهما أنه يكمل (1) .
ولو تزوج في مرض موته مضارة لتنقيص إرث غيرها وأقر به ورثته، لأن له أن يوصي بالثلث (2) .
ولو وصى بوصايا أخر أو تزوجت المرأة بزوج ليأخذ النصف فهذا الموضع فيه نظر؛ فإن المفسدة هي في هذا (3) .
الإقرار بمشارك في الميراث
ولو أخبر واحد من الورثة بالفراش أو النسب والباقون لم يصدقوه ولم يكذبوه ثبت النسب، وهذا ظاهر قول الإمام أحمد، وظاهر الحديث؛ فإن الإمام أحمد قال: إذا أقر وحده ولم يكن أحد يدفع قوله.
وعلى هذا، فلو رد هذا النسب من له فيه حق قبل منه وارثًا كان أو غير وارث على ظاهر كلامه (4) .
ميراث القاتل والمبعض
والآمر بقتل مورثه لا يرثه ولو انتفى عنه الضمان (5) .
__________
(1) اختيارات 197 فيه زيادة ف 2/ 275.
(2) فروع 5/ 48، اختيارات 196 ف 2/ 275.
(3) اختيارات 196 والفروع 5/ 48 وعبارته: فإن المفسدة إنما هي في هذا ف 2/ 275.
(4) اختيارات ص 198 ف 2/ 276.
(5) اختيارات ص 196 فيه زيادة ف 2/ 276 وتقدم في الموانع.(4/131)
ظاهر كلام المصنف أن إرث المعتق له خاصة وهو صحيح، وهو المذهب وعليه جماهير الأصحاب قاله الشيخ تقي الدين (1) .
باب العتق
لو قال: أنت حر بمائة أو بعتك نفسك بمائة. فقبل: عتق ولزمته المائة وإلا فلا.
وإن لم يقبل لم يعتق عند الأصحاب وقطعوا به. وخرج الشيخ تقي الدين وجهًا أنه يعتق بغير شيء، كما لو قال لها: أنت طالق بألف (2) .
ولو وصى بعبده ثم دبره، ففيه وجهان: أشهرهما أنه رجوع عن الوصية. والثاني: ليس برجوع. فعلى هذا فائدة الوصية به أنه لو أبطل تدبيره بالقول لا يستحقه الموصى له. ذكره في «المغني» . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ينبني على أن التدبير هل هو عتق بصفة أو وصية. فإن قلنا هو عتق بصفة قدم على الموصى به وإن قلنا: هو وصية فقد ازدحمت وصيتان في هذا العبد فينبني على الوصايا المزدحمة إذا كان بعضها عتق هل تقدم أم يتحاص العتق وغيره على روايتين: فإن قلنا بالمحاصة فهو كما لو دبر نصفه ووصى بنصفه، ويصح ذلك على المنصوص. اهـ (3)
« ... فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة» ، قال شيخنا: وتزويجه بها، وعتقه من انعقد سبب حريتها أفضل، ويتوجه في الثانية عكسه (4) .
__________
(1) الإنصاف 7/ 437 ف 2/ 276.
(2) الإنصاف 7/ 437 ف 2/ 276.
(3) الإنصاف 7/ 437 ف 2/ 276.
(4) فروع ج 5/ 77 ف 2/ 276.(4/132)
وإذا أعتقت جاريتها ونيتها أن تعتقها إذا كانت مستقيمة فبانت زانية جاز لها بيعها، وإن أعتقتها مطلقًا لزمها (1) .
قال شيخنا فيمن عتق برحم: لا يملك بائعه استرجاعه لفلس مشتر (2) .
وإذا أعتق أحد الشريكين نصيبه وهو موسر عتق نصيبه، ويعتق نصيب شريكه بدفع القيمة، وهو قول طائفة من العلماء. وإن كان معسرًا عتق كله واستسعى العبد في باقي قيمته، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض أصحابه.
والمالك إذا استكره عبده على الفاحشة عتق عليه، وهو أحد القولين في المذهب.
وقال بعض السلف: يبنى على القول بالعتق بالمثلة (3) .
وإذا استكره أمة امرأته على الفاحشة عتقت وغرم مثلها لسيدتها، وقاله الإمام أحمد في رواية إسحاق؛ بخبر سلمة بن المحبق. وكذا أمة غير امرأته، وإلا أن يفرق بين أمة امرأته وغيرها بفرق شرعي، وإلا فموجب القياس التسوية. وإن لم يكرهها لم تعتق وضمنها لسيدتها.
ومن مثل بعبد غيره يتوجه أن يعتق عليه، ويضمن قيمته لسيده، كما دل عليه حديث المستكره لأمة امرأته؛ فإنه يدل على أن الاستكراه تمثيل، وأن التمثيل يوجب العتق ولو بعبد الغير. ويدل أيضًا على أن من تصرف بملك الغير على وجه يمنعه من الانتفاع به فإن له المطالبة بقيمته. قال أبو العباس: ما أعرف للحديث وجهًا إلا هذا (4) .
__________
(1) مختصر الفتاوى 552 ف 2/ 276.
(2) فروع 5/ 81 ف 2/ 277.
(3) قوله: والمالك إلى قوله بالمثلة. هذان السطران من الإنصاف ج7/ 407.
(4) اختيارات ص198، 199 فيه زيادة واختصار ف 2/ 276.(4/133)
قال شيخنا في مسلم بجيش ببلاد التتار أبى بيع عبده وعتقه ويأمره بترك المأمور وفعل المنهي فهروبه منه إلى بلاد الإسلام واجب؛ فإنه لا حرمة لهذا ولو كان في طاعة المسلمين، والعبد إذا هاجر من أرض الحرب فهو حر.
وقال: ولو لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده لزمه إخراجه من ملكه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فما لا يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله» (1) .
وأطلق الخرقي وكثير من الأصحاب أن الولاء للمعتق. قال أبو العباس: بناء على أنه يشترط دخول الكفارة ونحوها في ملك من ذلك عليه (2) .
والعبد الذي يعتق من مال الفيء والمصالح يحتمل أن يقال: لا ولاء عليه لأحد، بمنزلة عبد الكافر إذا أسلم وهاجر. ويحتمل أن يقال: الولاء عليه للمسلمين.
وعلى هذا فإذا اشترى السلطان رقيقًا ونقد ثمنه من بيت المال ثم أعتقه كان الملك فيه ثابتًا للمسلمين، ولا يكون لأحد عليه ولاية، مع عدم نسب لهم في بيت المال؛ لأن ولاءه إما لبيت المال استحقاقًا أو لكونه لا وارث له فيوضع ماله في بيت المال، وليس ميراثه لورثة السلطان؛ لأنه اشتراه بحكم الوكالة، لا بحكم المالك. ولو احتمل أن يكون اشتراه لنفسه وأن يكون اشتراه للمسلمين حمل تصرفه على الجائز وهو شراؤه للمسلمين دون الحرام وهو شراؤه لنفسه من بيت المال وهو ممتنع. ولو عرف أنه اشتراه لنفسه من بيت مال المسلمين حكم بأن
الملك للمسلمين، لا له؛ لأن له ولاية الشراء للمسلمين من بيت مالهم
__________
(1) فروع 5/ 704 ف 2/ 276.
(2) الزركشي ج 4/ 552 ف 2/ 276.(4/134)
فإذا اشترى بمالهم شيئًا كان لهم دونه، ونية الشراء لنفسه بمالهم محرمة فتلغى ويصير كأن العقد عري عنها (1) .
المكاتب
والأشبه بالمذهب صحة الخيار والكتابة. ولو قيل بصحة شرط الخيار في الكتابة لم يبعد. وأما شرط الخيار في التعليقات فلا.
ويجوز شرط وطء المكاتبة، ونص عليه الإمام أحمد.
ويتوجه على هذا جواز وطئها بلا شرط بإذنها. وعلى قياس هذا يجوز أن يشترط الراهن وطء المرتهنة (2) .
وذكر القاضي أن العبد المكاتب له الخيار على التأبيد، بخلاف سيده. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وفي هذا نظر (3) .
وقال في الفائق: ولو أدى ثلاثة أرباعه وعجز عن ربعه لم يعتق في أحد الوجهين، واختاره الشيخ تقي الدين (4) .
أم الولد
ولا تعتق أم الولد إلا بموت سيدها. ويجوز لسيدها بيعها، وهو رواية عن الإمام أحمد.
وهل للخلاف في جواز بيعها شبهة؟ فيه نزاع، والأقوى أن له شبهة. وينبني عليه ما لو وطئ الجارية معتقدًا تحريمه: هل يلحقه النسب، أو يرجم رجم المحصن؟ أما التعزير فواجب (5) .
__________
(1) اختيارات 199، 200 ف 2/ 276 وتقدم الحكم فيها إذا وصى بعبده ثم دبره.
(2) اختيارات ص 199 ف 2/ 277.
(3) الإنصاف 7/ 475 ف 2/ 277.
(4) الإنصاف 7/ 479 ف 2/ 277.
(5) اختيارات ص 200 والإنصاف ف 7/ 495 ف 2/ 277.(4/135)
نص الإمام أحمد فيمن اشترى جارية حاملاً من غيره فوطئها أن الولد لا يلحق بالواطئ ولكن يعتق عليه؛ لأن الماء يزيد في الولد، ونقل صالح وغيره يلزمه عتقه، قال الشيخ تقي الدين: يستحب ذلك، وفي وجوبه خلاف في مذهب أحمد وغيره.
وقال أيضًا: يعتق ويحكم بإسلامه، وأنه يسري كالعتق، ولا يثبت نسبه.
قلت: قال في «الفنون» : يجوز بيعها؛ لأنه قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة وإجماع التابعين لا يرفعه، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله. قال في الفائق: وهو الأظهر (1) .
وإذا اشترى أم ولد ثم وطئها فهل هذا البيع شبهة في الوطء؟ فيه نزاع والأقوى أنه شبهة فيلحقه الولد، وترد إلى سيدها، لأن عند الأئمة الأربعة لا يجوز بيعها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: الرجل يؤم القوم وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دبارًا، ورجل استعبد محررًا» فالرجل الأول يؤم القوم وهم يكرهونه لفسقه أو بدعته فليس له أن يؤمهم، ولو كان بين الإمام والمأمومين معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء والمذاهب لم يسغ له أن يؤمهم، لأن في ذلك منافاة لمقصود الصلاة جماعة. وأما الرجل الذي يأتي الصلاة دبارًا: فهو الذي يفوته الوقت. والذي استعبد محررًا: هو الذي يستعبد الحر مثل أن يعتق عبدًا ويجحده، أو يقهره على العبودية فلا تقبل صلاة هؤلاء؛ لأنهم أتوا بذنب يقاوم فعل الصلاة فصار عقاب هذا يقاوم ثواب هذا؛ لأن الأول أدخل عليهم في الصلاة ما يقاوم صلاته. والثاني أخرج الصلاة عن وقتها فعليه إثم التأخير فدخل في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [5/107] .
__________
(1) الإنصاف 7/ 494، والفروع فيه زيادة ف 2/ 277.(4/136)
والثالث: يمنع عبد لله أن يجعل نفسه عبد الله، وجعله عبدًا لنفسه، فأي ذنب مثل هذا؟ فلا يقبل لهم صلاة؛ إذ الصلاة المقبولة هي التي يقبلها الله من عبده ويثيب عليها.
ومن وطئ جارية امرأته وتعلق بالحديث الذي فيه عن الحسن، عن عوف، عن أبي الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: في رجل وقع على جارية امرأته؟ فقال: «إن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فهي جاريته وعليه مثلها» فهذا الحديث في «السنن» ، وليس من الأحاديث الواهية. وبعض الناس ضعفه لأن رواته غير مشهورين بالحديث، ولأنه يخالف الأصول من جهة عتق الموطوءة وجعلها للواطئ. وبعضهم رآه حديثًا حسنًا وحكي ذلك عن أحمد وإسحاق، وقالوا: إنه موافق للأصول؛ لأنه يجري مجرى إفسادها على سيدها؛ فإنها إذا طاوعته فقد عطل عليها بذلك نفعها واستخدامها، وإذا أتلف مال غيره ومنع مالكه من التصرف فيه عادة مثل أن يجوع مركوب الحاكم ونحوه مما لا يكون مركوبه عادة، فإنه في مذهب مالك ومن تبعه يصير له وعليه القيمة لمالكه، فوطء الأمة من هذا الباب.
وإذا استكرهها فهو مثل التمثيل بها، ومن مثل بعبده عتق عليه عند مالك وأحمد.
وكذا من جعل استكراه المملوك على التلوط به من هذا الباب؛ فإذا وطئها فقد أتلفها ولزمته القيمة وتصير له، ولأجل أن في استكراهها شبهة تمثيله بها عتقت عليه.
وقوله: «وعليه مثلها» في الموضعين فهو مبني على أن الحيوان هل يضمن بالمثل، أو بالقيمة؟ على قولين للفقهاء الشافعية والحنبلية. فهذا الحديث جار على هذه الأصول.
ولا يملك السيد نقل الملك في أم الولد لا في حياته ولا بعد(4/137)
موته، ولا يجوز وقفها ولا هبتها ولا غيره. ولا نزاع أنه يجوز له استخدامها ووطئها. وفي جواز إجارتها وتزويجها نزاع: يجوز عند أحمد وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. والآخر لا يجوز التزويج.
وله قول ثالث: يجوز برضاها، ومالك لا يجوز إجارتها ولا تزويجها.
وإذا سأل فقال: إذا وقفها فهل تكون الدية إذا قتلت وقفًا؟ فيه مغالطة للمفتي لأنه كان ينبغي أن يقال: فهل يصح وقفها، أم لا؟ وعلى التقديرين: ما يكون حكمها؟ فينبغي أن يعزر هذا المستفتي تعزيرًا يردعه فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أغلوطات المسائل. والله أعلم (1) .
__________
(1) مختصر الفتاوى 611، 612 فيها زيادات 611، 612، وآخرها في الفروع أيضًا ج6/ 429 ف 2/ 277.(4/138)
كتاب النكاح
قال الشيخ تقي الدين: معناه في اللغة الجمع والضم على أكمل الوجوه، فإن كان اجتماعًا بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين. وإن كان اجتماعًا بالعقود فهو الجمع بينهما على الدوام واللزوم؛ ولهذا يقال: استنكحه المذي إذا لازمه وداومه. اهـ (1) .
هل المعقود عليه الملك، أو الاستباحة، وهل هو ملك منفعة البضع، أو ملك الانتفاع بها؟ وقيل: بل هو الحل لا الملك؛ ولهذا يقع الاستمتاع من جهة الزوجة مع أنه لا ملك لها. وقيل: المعقود عليه الازدواج كالمشاركة؛ ولهذا فرق سبحانه بين الازدواج وملك اليمين، وإليه ميل الشيخ تقي الدين؛ فيكون من باب المشاركات لا المعاوضات (2) .
والنكاح في الآيات حقيقة في العقد والوطء، وفي النهي لكل منهما (3) .
وقال شيخنا: في الإثبات لهما، وفي النهي لكل منهما، بناء على أنه إذا نهي عن شيء نهي عن بعضه، والأمر به أمر بكله في الكتاب والسنة والكلام (4) .
__________
(1) الإنصاف 8/ 3، 4 ف 2/ 227.
(2) الإنصاف 8/ 4 ف 2/ 277.
(3) اختيارات 200 ف 2/ 277.
(4) فروع 5/ 145 ف 2/ 277.(4/139)
فإذا قيل مثلاً: انكح ابنة عمك كان المراد العقد والوطء، وإذا قيل: لا تنكحها تناول كل واحد منهما (1) .
والإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو دين الأنبياء قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [38/13] (2) .
قال أحمد في رواية أبي داود: إذا خاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا أمره والده أمرته أن يتزوج. وقال في رواية جعفر: والذي يحلف بالطلاق أنه لا يتزوج أبدًا؟ قال: إن أمره أبوه تزوج. قال الشيخ تقي الدين: كأنه أراد الطلاق المضاف إلى النكاح. أو أنه كان مزوجًا فحلف ألا يتزوج أبدًا سوى امرأته. وقال في رواية المروذي: إن كان الرجل يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهم ذلك (3) .
وإن احتاج الإنسان إلى النكاح وخشي العنت بتركه قدمه على الحج الواجب، وإن لم يخف قدم الحج، ونص الإمام أحمد عليه في رواية صالح وغيره، واختاره أبو بكر. وإن كانت العبادات فرض كفاية كالعلم والجهاد قدمت على النكاح إن لم يخش العنت (4) .
وإذا طلب العبد النكاح أجبر السيد في مذهب أحمد والشافعي في أحد قوليه على تزويجه؛ لأنه كالإنفاق عليه. وتزويج الأمة إذا طلبت النكاح من كفء واجب باتفاق العلماء، وصح قوله عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» واستطاعة النكاح هي القدرة على المؤونة ليس القدرة على الوطء؛ فإن الحديث
__________
(1) الإنصاف 8/ 655 ف 2/ 277.
(2) اختيارات 200 ف 2/ 277.
(3) الآداب ج504 ف 2/ 277.
(4) اختيارات 201 ف 2/ 277.(4/140)
إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء، ولهذا أمر من لم يستطع الباءة بالصوم فإنه له وجاء (1) .
القسم الثاني من لا شهوة له ... وحكي عنه: يجب. قال الشيخ تقي الدين: كلام صاحب المحرر يدل على أن رواية وجوب النكاح منفية في حق من لا شهوة له (2) .
قال الشيخ تقي الدين: وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز (3) .
ولا يجوز للمرأة أن تظهر على أجنبي ولا رقيق غير ملكها، ولو كان خصيًا -وهو الخادم- فليس له النظر إليها؛ لأنه يفعل مقدمات الجماع، ويذكر بالرجال وله شهوة وإن كان لا يحبل. وأما مملوكها ففيه قولان: أحدهما: أنها معه كالأجنبي وهو قول أبي حنيفة والمشهور عن أحمد. والثاني: أنه محرم وهو قول الشافعي وقول لأحمد (4) .
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ظاهر كلام الإمام أحمد والقاضي كراهة نظرها إلى وجهه ويديه وقدميه، واختار الكراهة (5) .
ويحرم النظر بشهوة إلى النساء والمردان، ومن استحله كفر إجماعًا.
ويحرم النظر مع خوف ثوران الشهوة وهو منصوص عن الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله.
ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وقال: لا أنظر بشهوة كذب في دعواه، وقاله ابن عقيل.
__________
(1) مختصر الفتاوى ص432 ف 2/ 277.
(2) الإنصاف 8/ 8 ف 2/ 277.
(3) الآداب ج 1/ 316 ف 2/ 278.
(4) مختصر الفتاوى 32 ف 2/ 278.
(5) الإنصاف 8/ 26 ف 2/ 278.(4/141)
وكل قسم متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب سواء كانت شهوة تمتع بنظر أو نظر لشهوة الوطء. واللمس كالنظر وأولى (1) .
فتصافح المرأة المرأة، والرجل الرجل، والعجوز والبرزة، غير الشابة فإنه تحرم مصافحتها للرجل ذكره في الفصول والرعاية. وقال ابن منصور لأبي عبد الله: تكره مصافحة النساء؟ قال: أكرهه. قال إسحاق بن راهويه كما قال. وقال محمد بن عبد الله بن مهران: إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يصافح المرأة؟ قال: لا، وشدد فيه جدًا قلت: فيصافحها بثوبه؟ قال: لا.
قال رجل: فإذا كان ذا محرم؟ قال: لا. قلت: ابنته؟ قال: إذا كانت ابنته فلا بأس.
فهاتان روايتان في تحريم المصافحة، وكراهتها للنساء، والتحريم اختيار الشيخ تقي الدين وعلل بأن الملامسة أبلغ من النظر (2) .
وتحرم الخلوة بغير محرم ولو بحيوان يشتهي المرأة أو تشتهيه كالقرد وذكره ابن عقيل وابن الجوزي (3) .
وتحرم الخلوة بأمرد حسن، ومضاجعته كالمرأة الأجنبية، ولو لمصلحة التعليم والتأديب، والمقر ليتيمه أو وليه عند من يعاشره لذلك فهو ملعون ديوث. ومن عرف بمحبتهم أو معاشرتهم منع من تعليمهم (4) .
ولا تترك المرأة تذهب حيث شاءت (5) .
__________
(1) اختيارات 200، 201 ف 2/ 278.
(2) الإنصاف 8/ 8 ف 278.
(3) الآداب ج 2/ 257، والفروع 5/ 157، ف 2/ 278.
(4) اختيارات 201 والإنصاف 8/ 31 ف 2/ 278.
(5) اختيارات 201 والإنصاف 8/ 31 ف 2/ 278.(4/142)
وقال الشيخ تقي الدين: وينبغي أن يكون النظر بعد العزم على نكاحها وقبل الخطبة (1) .
نقل يعقوب بن بختان عن أحمد أنه قال: لا ينبغي للخاطب إذا خطب لقوم أن يقبل لهم هدية.
قال أبو العباس: هذا خاطب الرجل؛ لأن المرأة لا تبذل وإنما الزوج هو الذي يبذل (2) .
واختار شيخنا التحريم، قال: وهو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر. قال: ورخص فيه بعض المتأخرين (3) .
ويباح التصريح والتعريض من صاحب العدة فيها إن كانت المعتدة ممن يحل له التزوج بها في العدة كالمختلعة، فأما إن كانت ممن لا يحل له إلا بعد انقضاء العدة كالمزني بها والموطوءة بشبهة فينبغي أن يكون كالأجنبي.
والمعتدة باستبراء كأم الولد أو التي مات سيدها أو أعتقها فينبغي أن تكون في حق الأجنبي كالمتوفى عنها زوجها. والمطلقة ثلاثًا والمنفسخ نكاحها برضاع أو لعان فيجوز التعريض بخطبتها دون التصريح.
والتعريض أنواع تارة: يذكر صفات نفسه، مثل ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة رضي الله عنها. وتارة: يذكر لها صفات نفسها. وتارة: يذكر لها طلبًا بعينه كقوله: رب راغب فيك وطالب لك. وتارة: يذكر أنه
__________
(1) انظر مختصر الفتاوى 607، 808 وتأتي في باب الدعاوى والبينات وتقدمت في باب الحجر.
(2) الاختيارات 194 ف 2/ 279، 267.
(3) الفروع 4/ 655 ف 2/ 279.(4/143)
طالب للنكاح ولا يعينها. وتارة: يطلب منها ما يحتمل النكاح وغيره كقوله: إذا قضى الله شيئًا كان (1) .
ولو خطبت المرأة أو خطب وليها لها الرجل ابتداء فأجابهما فينبغي ألا يحل لرجل آخر خطبتها، إلا أنه أضعف من أن يكون الرجل هو الخاطب. وكذا لو خطبته أو وليها بعد أن خطب هو امرأة. فالأول إيذاء للخاطب. والثاني: إيذاء للمخطوب، وهذا بمنزلة البيع على بيع أخيه قبل انعقاد البيع (2) .
ومن خطب تعريضًا في العدة أو بعدها فلا ينهى غيره عن الخطبة.
ولو أذنت المرأة لوليها أن يزوجها من رجل بعينه احتمل أن يحرم على غيره خطبتها، كما لو خطبت فأجابت. واحتمل ألا يحرم؛ لأنها لم يخطبها أحد،. كذا قال القاضي أبو يعلى، وهذا دليل منه على أن سكوت المرأة عند الخطبة ليس بإجابة إليها (3) بحال (4) .
ويحرم، وقيل: يكره خطبته على خطبة مسلم لا كافر، كما لا ينصحه نص عليهما إن أجيب صريحًا ... فإن رد أو أذن جاز. وأشد تحريمًا من فرض له ولي الأمر على الصدقات أو غيرها ما يستحقه فنحى من يزاحمه أو ينزعه منه. قاله شيخنا (5) .
فصل
أركانه
وينعقد النكاح بما عده الناس نكاحًا بأي لغة ولفظ وفعل كان.
__________
(1) اختيارات 202 ف 2/ 279.
(2) وفي الإنصاف زيادة: وذلك كله ينبغي أن يكون حرامًا.
(3) إليها زيادة في الإنصاف.
(4) اختيارات ص 279 والإنصاف 8/ 37 ف 2/ 279.
(5) فروع 5/ 195، 196 ف 2/ 279.(4/144)
ومثله كل عقد (1) .
وقال في «الفائق» : وقال شيخنا: قياس المذهب صحته بما تعارفاه نكاحًا من هبة وتمليك ونحوهما أخذًا من قول الإمام أحمد: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك (2) .
فالأسماء تعرف حدودها: تارة بالشرع، وتارة باللغة، وتارة بالعرف، وكذلك العقود (3) .
نص الإمام أحمد في رواية أبي طالب في رجل مشى إليه قومه، فقالوا: زوج فلانًا. فقال: زوجته على ألف. فرجعوا إلى الزوج فأخبروه. فقال: قد قبلت: هل يكون هذا نكاحًا؟ قال: نعم. فأشكل هذا على الأصحاب. فقال القاضي: هذا حكم بصحته بعد التفرق عن مجلس العقد. قال: وهو محمول على أنه قد كان وكل من قبل العقد عنه ثم أخبر بذلك فأمضاه. ورده ابن عقيل، وقال: رواية أبي طالب تعطي أن النكاح صحيح.
قال الشيخ تقي الدين: وقد أحسن ابن عقيل فيما قاله، وهي طريقة أبي بكر؛ فإن هذا ليس تراخيًا للقبول كما قاله القاضي، وإنما هو تراخ للإجازة.
ومسألة أبي طالب وكلام أبي بكر فيما إذا لم يكن الزوج حاضرًا في مجلس الإيجاب. وهذا أحسن. وأما إذا تفرقا من مجلس الإيجاب فليس في كلام أحمد وأبي بكر ما يدل على ذلك.
ويجوز أن يقال: إن العاقد الآخر إن كان حاضرًا اعتبر قبوله، وإن كان غائبًا جاز تراخي القبول عن الإيجاب كما قلنا في ولاية القضاء، مع
__________
(1) اختيارات 203، زيادة إيضاح ف 2/ 279.
(2) الإنصاف 8/ 46 ف 2/ 280.
(3) الإنصاف 8/ 45 ف 2/ 280.(4/145)
أن أصحابنا قالوا في الوكالة: إنه يجوز قبولها على الفور والتراخي، وإنما الولاية نوع من الوكالة.
وذكر القاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول في تتمة رواية أبي طالب: لو قال الزوج: قبلت. صح إذا حضر شاهدان.
قال أبو العباس: وهو يقتضي بأن إجازة العقد الموقوف إذا قلنا بانعقاده تفتقر إلى شاهدين، وهو مستقيم حسن (1) .
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: قوله في «المحرر» : «ولا يصح تعليقه بشرط مستقبل» أظن قصد بذلك الاحتراز عن تعليقه بمشيئة الله تعالى. ودخل في ذلك قوله: إذا قال زوجتك هذا المولود إن كان أنثى، أو زوجتك بنتي إذا انقضت عدتها، أو إن لم تكن تزوجت، ونحو ذلك من الشروط الحاضرة والماضية. وكذا ذكر الجد الأعلى: أنه لا يجوز تعليقه على شرط مستقبل ولم أرها لغيره. اهـ (2) .
وسئل الشيخ تقي الدين عن رجل لم يقدر أن يقول إلا قبلت (تجويزها) بتقديم الجيم فأجاب بالصحة بدليل قوله: جوزتي طالق. فإنها تطلق. اهـ (3)
وصرح الأصحاب بصحة نكاح الأخرس إذا فهمت إشارته. قال في «المجرد والفصول» : يجوز تزويج الأخرس لنفسه إذا كانت له إشارة تفهم.
ومفهوم هذا الكلام ألا يكون الأخرس وليًا ولا وكيلاً لغيره في النكاح، وهو مقتضى تعليل القاضي في الجامع؛ لأنه يستفاد من غيره. ويحتمل أن يكون وليًا لا وكيلاً وهو أقيس (4) .
__________
(1) اختيارات 203، 204 والإنصاف في البعض منهما زيادة إيضاح.
(2) الإنصاف 8/ 164 ف 2/ 280.
(3) إنصاف 8/ 46 ف 2/ 280.
(4) اختيارات 204 ف 2/ 280.(4/146)
شروطه
رضاهما
والشرط بين الناس ما عدوه شرطًا (1) .
واختار أبو بكر والشيخ تقي الدين عدم إجبار بنت تسع سنين بكرًا كانت أو ثيبًا.
قال في رواية عبد الله: إذا بلغت تسع سنين فلا يزوجها أبوها ولا غيره إلا بإذنهاٍ.
قال بعض المتأخرين من الأصحاب: وهو الأقوى.
وذكر أبو الخطاب وغيره رواية: لا إذن لها وصححه الناظم، وقال الشيخ تقي الدين: لا أعلم أحدًا ذكرها قبله، مع أنه لم يذكرها في رءوس المسائل (2) .
فإن كانت صغيرة أو مجنونة فلها الخيار إذا بلغت. وقيل: لها الخيار إذا بلغت تسعًا.
وقال ابن عقيل: إذا بلغت سبعًا. وقال الشيخ تقي الدين: اعتبار إذنها بالتسع أو السبع ضعيف؛ لأن هذا ولاية استقلال وولاية الاستقلال لا تثبت إلا بالبلوغ كالعفو عن القصاص والشفعة، وكالبيع؛ بخلاف ابتداء العقد فإنه يتولاه الوالي بإذنها فتجتمع الروايتان وبينهما فرق. اهـ (3)
وإذن الثيب الكلام. وإذن البكر الصمات. قال أبو العباس بعد
__________
(1) اختيارات ص 203 ف 2/ 280.
(2) الإنصاف 8/ 55، 57 ف 2/ 280.
(3) إنصاف 8/ 181 ف 2/ 281.(4/147)
ذكره لقول أبي حنيفة ومالك: تزوج المثابة بالزنا بالجبر كما تزوج البكر: هذا قول قوي (1) .
روي عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا تجبر الأمة الكبيرة، قال الشيخ تقي الدين: ظاهر هذا أنه لا يجبر الأمة الكبيرة بناء على أن منفعة البضع ليس بمال (2) .
حيث قلنا بإجبار المرأة ولها إذن أخذ بتعيينها كفوءًا على الصحيح من المذهب، قال الشيخ تقي الدين: هذا ظاهر المذهب (3) .
قال الشيخ تقي الدين: يعتبر في الاستئذان تسمية الزوج على وجه تقع المعرفة به، ولا يشترط تسمية المهر على الصحيح. نقله الزركشي (4) .
قال الشيخ تقي الدين: وفي المذهب خلاف شاذ يشترط الإشهاد على إذنها. اهـ (5) .
والجد كالأب في الإجبار، وهو رواية عن الإمام أحمد (6) .
الولي
ويتخرج لنا مثل قول أبي حنيفة: أن الولي كل وارث بفرض أو تعصيب. ولغير العصبة من الأقارب التزويج عند عدم العصبة.
ويتخرج على ذلك ما إذا قدمنا التوريث لذوي الأرحام على التوريث بالولاء.
__________
(1) اختيارات 205 ف 2/ 280.
(2) إنصاف 8/ 59 ف 2/ 280.
(3) إنصاف 8/ 59 ف 2/ 280.
(4) إنصاف 8/ 64 ف 2/ 280.
(5) إنصاف 8/ 64 ف 2/ 280.
(6) اختيارات 204 ف 2/ 280.(4/148)
وإذا كانت المرأة يهودية ووليها نصرانيًا أو بالعكس فينبغي أن يخرج على الروايتين في توارثهما وقبول شهادته عليها إذا قلنا تقبل من أهل الذمة بعضهم على بعض، وكذلك في ولاية المال والعقل.
ويضم إلى الولي الفاسق أمين كالوصي في رواية.
ولو قيل: إن الابن والأب سواء في ولاية النكاح، كما إذا أوصى لأقرب قرابته لكان متوجهًا.
ويتخرج لنا أن الابن أولى من الأب إذا قلنا الأخ أولى من الجد. وقد حكى ذلك ابن المنيَّ في تعاليقه، فقال: يقدم الابن على الأب على قول عندنا (1) .
وعنه: لها تزويج أمتها ومعتقتها واختاره الشيخ تقي الدين (2) .
قال أبو العباس: وفرق القاضي وعامة الأصحاب على هذه الرواية بين تزويج أمتها وتزويج نفسها وغيرها بأن التزويج على الملك لا يحتاج إلى أهلية الولاية بدليل تزويج الفاسق مملوكته، وتبعهم هو أيضًا وجعل التخريج غلطًا (3) .
وقيل يختص الجواز بما إذا زوج عبده أمته؛ لأنه يتصرف بحكم الملك، وجود أبو العباس هذا (4) .
قال الإمام أحمد في رواية محمد بن الحسن في الأخوين الصغير والكبير ينبغي أن ينظر إلى العقل والرأي وكذلك قال في رواية الأثرم في
__________
(1) اختيارات 205 ف 2/ 281.
(2) إنصاف 8/ 68 وفروع 5/ 176 ف 2/ 281.
(3) الزركشي 3/ 42 هذا أحسن مما في المجموع ف 2/ 281.
(4) الزركشي 3/ 44 ف 2/ 281.(4/149)
الأخوين الصغير والكبير كلاهما سواء، إلا أنه ينبغي أن ينظر في ذلك إلى العقل والرأي.
وظاهر كلام أحمد هذا يقتضي أنه لا أثر للسن هنا، وأصحابنا اعتبروه (1) .
قال الإمام أحمد في رواية حنبل: لا يعقد نصراني ولا يهودي عقدة نكاح لمسلم ولا مسلمة، ولا يكونان وليين لمسلم ولا مسلمة؛ بل لا يكون الولي إلا مسلمًا.
وهذا يقتضي أن الكافر لا يزوج مسلمة بولاية ولا وكالة. وظاهره يقتضي أن لا ولاية للكافر على بنته الكافرة في تزويجها لمسلم.
قال أبو العباس في موضع آخر: لا ينبغي أن يكون متوليًا لنكاح مسلم؛ ولكن لا يظهر بطلان العقد؛ فإنه ليس على بطلانه دليل شرعي (2) .
وإن تعذر من له ولاية النكاح انتقلت الولاية إلى أصلح من يوجد ممن له نوع ولاية في غير النكاح كرئيس القرية، وهو المراد بالدهقان، وأمير القافلة، ونحوه.
قال الإمام أحمد، في رواية المروذي: البلد يكون فيه الوالي وليس فيه قاض يزوج إذا احتاط للمرأة في المهر والكفء أرجو ألا يكون به بأس. وهذا من الإمام أحمد يقتضي أن الولي ينظر في المهر وأن أمره ليس مفوضًا إليها وحدها، كما أن أمر الكفؤ ليس مفوضًا لها وحدها.
وقال في رواية الأثرم وصالح وأبي الحارث عن المهر: لا نجد فيه
__________
(1) الإنصاف 8/ 87 والاختيارات 206 وعبارة الإنصاف أوضح ف 2/ 282.
(2) اختيارات ص 206 ف 2/ 282.(4/150)
حدًا هو ما تراضى عليه الأهلون. وهو في رواية المروذي: ما تراضى عليه الأهلون في النكاح جائز. وهو يقتضي أن للأهلين نظرًا في الصداق. ولو كان أمره إليها فقط لما كان لذكر الأهلين معنى.
وتزويج الأيامى فرض كفاية إجماعًا. فإن أباه حاكم إلا بظلم كطلبه جعلاً لا يستحقه صار وجوده كعدمه (1) .
قال الشيخ تقي الدين: ومن صور العضل إذا امتنع الخطاب من خطبتها لشدة الولي (2) .
ويزوج ولي المال الصغير (3) .
واشترط الجد في المحرر في الولي كونه رشيدًا. والرشد في الولي هنا هو المعرفة بالكفء ومصالح النكاح، ليس حفظ المال (4) .
وإن لم يعلم وجود الأقرب في الكل حتى زوج الأبعد فقد يقال بطرد القاعدة والقياس أنه لا يصح النكاح، كالجهل الشرعي، مثل أن يعتقد صحة النكاح بلا ولي، أو بالولي الأبعد، أو بلا شهود. وقد يقال: يصح النكاح، كما أن المعتبر في الشهود والولي هو العدالة الظاهرة على الصحيح. فلو ظهر فيما بعد أنهم كانوا فاسقين وقت العقد ففيه وجهان ثابتان. ويؤيد هذا أن الولي الأقرب إنما يشترط إذا أمكن. فأما مع تعذره فيسقط، كما لو عضل أو غاب. وبهذا قيد ابن أبي موسى
__________
(1) اختيارات 204، 205 فيه زيادات ف 2/ 282.
(2) إنصاف 8/ 75 ف 2/ 283.
(3) وفي الإنصاف ج 8/ 86 نقلاً عن صاحب الفروع: وظاهر كلام الكافي وصاحب المحرر: للوصي مطلقًا تزويجه يعني سواء كان وصيًا في التزويج أو في غيره وجزم به الشيخ تقي الدين رحمه الله وأنه قولهما أن وصي المال يزوج الصغير.
(4) اختيارات 205 والإنصاف 8/ 74 ف 2/ 283.(4/151)
وغيره. وهذا معنى قول الجماعة: إذا زوج الأبعد مع القدرة على الأقرب لم يصح.
ومن لم يعلم أنه نسيب فهو غير مقدور على استئذانه فيسقط بعدم العلم، كما يسقط بالبعد. وهذا إذا لم ينتسب في عدم العلم إلى تفريط.
ومن هذا لو زوجت بنت الملاعن ثم استلحقها الأب فلو قلنا بالأول لكان يتعين ألا يصح النكاح وهو بعيد؛ بل الصواب أنه يصح (1) .
وكذلك إذا علم أنه قريب ولكن لا يعلم مكانه، وهو حسن، مع أن كلام الخرقي لا يأباه.
قال الشيخ تقي الدين: وكذلك لو كان الولي مجهولاً لا يعلم أنه عصبة ثم عرف بعد (2) .
ولو زوج المراة وليان وجهل أسبق العقدين ففيه روايتان؛ إحداهما: يتميز الأسبق بالقرعة. والذي يجب أن يقال على هذه الرواية أن من خرجت له القرعة فهي زوجته بحيث يجب عليه نفقتها وسكناها. ولو مات ورثته؛ لكن لا يطؤها حتى يجدد العقد لحل الوطء فقط. هذا قياس المذهب. أو يقال: إنه لا يحكم بالزوجية إلا بالتجديد، ويكون التجديد واجبًا عليه وعليها. كما كان الطلاق واجبًا على الآخر.
والرواية الثانية: يفسخ النكاحان. ومن أصحابنا من ذكر أنهما يطلقانها. فعلى هذا هل يكون الطلاق واقعًا بحيث تنقضي العدة. ولو تزوجها ينبغي ألا يكون كذلك؛ لأنه لا ينبغي وقوع الطلاق به.
فإن ماتت المرأة قبل الفسخ والطلاق فذكر أبو محمد المقدسي
__________
(1) اختيارات 205، 206 ف 2/ 283.
(2) الإنصاف 8/ 77 ف 2/ 283.(4/152)
احتمالين أحدهما: لأحدهما نصف الميراث وربع النفقة حتى يصطلحا عليه. والثاني: يقرع بينهما، فمن قرع حلف أنه استحق وورث.
وقال أبو العباس: وكلا الوجهين لا يخرج على المذهب. أما الأول فلأنه لا تتفق (1) الخصومات: وأما الثاني: فكيف يحلف من قال: لا أعرف الحال؟ وإنما المذهب (2) أيهما قرع فله الميراث بلا يمين.
وأما على قولنا: لا يقرع فإذا قلنا أنها تأخذ من أحدهما نصف المهر بالقرعة فكذلك يرثها أحدهما بالقرعة. بطريق الأولى.
وإن قلنا: لا مهر. فهذا قد يقال بالقرعة أيضًا (3) .
وإن زوج اثنان ولم يعلم السابق قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور: ما أرى لواحد منهما نكاحًا. والرواية الثانية من أصل المسألة يقرع بينهما. وعنه هي للقارع من غير تجديد عقد واختاره الشيخ تقي الدين.
فعلى القول بأنه يجدد نكاحه قال المصنف ينبغي ألا تجبر المرأة على نكاح من خرجت له القرعة، بل لها أن تتزوج من شاءت منهما ومن غيرهما. قال الشيخ تقي الدين: وليس هذا بالجيد؛ فإن على هذا القول إذا أمرنا المقروع بالقرعة وقلنا لها ألا تتزوج القارع خلت منهما فلا يبقى بين الروايتين فرق، ولا يبقى للقرعة أثر أصلاً؛ بل تكون لغوًا، وهذا تخليط. وإنما على هذا القول يجب أن يقال هي زوجة القارع بحيث يجب عليه نفقتها وسكناها ولو مات ورثته؛ لكن لا يطؤها حتى يجدد العقد فيكون تجديد العقد لحل الوطء فقط. هذا قياس المذهب: أو يقال إنه لا يحكم بالزوجية إلا بالتجديد ويكون التجديد واجبًا عليه
__________
(1) عبارة الإنصاف لا نقف الخصومات فقط.
(2) في الإنصاف زيادة على رواية القرع.
(3) اختيارات ص 206، 207 وعبارة الإنصاف كما يأتي:(4/153)
وعليها كما كان الطلاق واجبًا على الآخر. وليس في كلام الإمام أحمد رحمه الله تعرض للطلاق ولا لتجديد الآخر النكاح. ثم القرعة جعلها الشارع حجة وبينة تفيد الحل ظاهرًا كالشهادة والنكول ونحوهما. اهـ (1) .
ولو قال السيد لأمته أعتقتك وجعلت عتقك صداقك صح. وعنه: لا يصح حتى يستأنف نكاحها بإذنها، فإن أبت ذلك فعليه قيمتها. وقال ابن أبي موسى: إحدى الروايتين أنه يستأنف العقد عليها بإذنه دون إذنها ورضاها؛ لأن العقد وقع على هذا الشرط فيوكل من يعقد له النكاح بأمره. قال الشيخ تقي الدين: وهذا حسن (2) .
وإن قال: قد جعلت عتق أمتي صداقها، أو قال: أعتقتها وجعلت عتقها صداقها صح بذلك العتق والنكاح، وهو مذهب الإمام أحمد.
ويتوجه ألا يصح العتق إذا قال قد جعلت عتقك صداقك فلم تقبل؛ لأن العتق لم يصر صداقًا وهو لم يوقع غير ذلك. ويتوجه ألا يصح وإن قبلت؛ لأن هذا القبول لا يصير به العتق صداقًا فلم يتحقق ما قال.
ويتوجه في الصورة الثانية (3) أنها إن قبلت صارت زوجة، وإلا عتقت مجانًا، أو لم تعتق بحال.
وإذا قلنا: إلحاق الشرط لا يغير الطلاق فإلحاق العتق في النكاح بطريق الأولى.
__________
(1) الإنصاف 8/ 90 ف 2/ 283.
(2) إنصاف 8/ 97، 98 ف 2/ 283.
(3) في الإنصاف: ويتوجه في قوله: قد أعتقتها وجعلت عتقها صداقها وعبارة الإنصاف ج8/ 76، 77: «وإن عتقت الأمة وزوجها حر فلا خيار لها ... وعنه لها الخيار، واختار الشيخ تقي الدين وغيره أن لها الخيار في الفسخ تحت حر إن كان زوج بريرة عبدًا، لأنها ملكت رقبتها فلا يملك عليها إلا باختيارها» .(4/154)
فعلى هذا إذا قال أعتقتك وجعلت عتقك صداقك فإنه يقع العتق ولا يلزمها النكاح ولا قيمة نفسها.
ويتخرج ثبوت الخيار أو اعتبار إذنها من عتقها بجنب حر، فإن الخيار يثبت لها في رواية. وكذلك إذا عتقا معًا. فإذا كان حدوث الحرية بعد العتق يثبت الفسخ فالمقارنة أولى أن تثبت الفسخ.
ولو أعتقها وزوجها من غيره وجعل عتقها صداقها فقياس المذهب صحته؛ لأنهم قالوا: الوقت الذي جعل فيه العتق صداقًا كان يملك إجبارها في حق الأجنبي فلم يبق إلا أنه جعل ملك بضعها وقت حريتها صداقًا، وهذا لا يؤثر، كما لو كان هو المتزوج.
ويدل على ذلك أن أصحابنا قالوا: إذا قال: زوجتك هذه على أنها حرة صح وإن لم يعلمه أنه أعتقها قبل ذلك، ويكون هو المصدق لها عن الزوج.
ويحتمل أن يقال: هو السيد خاصة؛ لأنه لا يمكنه أن يتزوجها وهي رقيقة. وعلى هذا فسواء قال: أعتقتها وزوجتها منك أو زوجتها منك وأعتقتها.
ولو قال: أعتقت أمتي وزوجتكها على ألف درهم. فقياس المذهب جوازه. فهو مثل أن يقول: أعتقتها وأكريتها منك سنة بألف درهم. وهذا بمنزلة استثناء الخدمة، مثل أن يقول أعتقتك على خدمة سنة.
ولو قال أعتقتك وتزوجتك على ألف درهم صح هذا النكاح بطريق الأولى؛ لأنه لم يجعل العتق صداقًا.
ولو قال: وهبتك هذه الجارية وزوجتها من فلان أو هبتكها وأكريتها من فلان، أو بعتكها وزوجتها أو أكريتها من فلان فقياس المذهب صحته؛ لأنه في معنى استثناء المنفعة.(4/155)
وحاصله: أنا نجوز (1) العتق والوقف والهبة والبيع مع استثناء منفعة الخدمة فقد جوزنا (2) أن الإعتاق والإنكاح في زمن واحد وجعلنا ذلك بمنزلة الإنكاح قبل الإعتاق؛ لأنها حين الإعتاق لم تخرج من ملكه (3) .
وإن قال: أعتق عبدك عني على أن أزوجك ابنتي أو أمتي ففعل عتق ولزمته قيمته؛ لأن الأموال لا يستحق العقد عليها بالشرط. قال القاضي أبو الخطاب: لأنه سلف في النكاح. وقال الشيخ تقي الدين: يتوجه صحة السلف في العقود كما يصح في غيره ويصير العقد مستحقًا على المستسلف إن فعل وإلا قام الحاكم مقامه، ولأن هذا بمنزلة الهبة المشروط فيها الثواب (4) .
وكذلك العبد إذا تزوج بغير إذن مواليه ثم أذنوا له بعد العتق فهو على النزاع، ويسمى نكاح الفضولي (5) .
الشهادة
وعنه: ينعقد بحضور فاسقين، ورجل وامرأتين، ومراهقين عاقلين. قال في الفروع: وأسقط رواية الفسق أكثرهم. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: هي ظاهر كلام الخرقي (6) .
الكفاءة
ولا يصح لأحد أن ينكح موليته رافضيًا ولا من يترك الصلاة.
__________
(1) نسخة كما جوزنا.
(2) بياض في الاختيارات.
(3) الاختيارات 207- 209 ف 2/ 213.
(4) إنصاف 8/ 100 ف 2/ 283.
(5) مختصر الفتاوى 425 ف 2/ 284.
(6) الإنصاف 8 ص 102 ف 2/ 283.(4/156)
ومتى زوجوه على أنه سني يصلي فبان أنه رافضي أو لا يصلي أو كان قد تاب ثم عاد إلى الرفض وترك الصلاة فإنهم يفسخون نكاحه إذا قيل إنه صحيح (1) .
والذي يقتضيه كلام أحمد أن الرجل إذا تبين له أنه ليس بكفء فرق بينهما، وأنه ليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء، ولا للزوج أن يتزوج ولا للمرأة أن تفعل ذلك. وأن الكفاءة ليست بمنزلة الأمور المالية مثل مهر المرأة إن أحبت المرأة والأولياء طلبوه وإلا تركوه، ولكنه أمر ينبغي لهم اعتباره وإن كانت منفعته تتعلق بغيرهما.
وفقد النسب والدين لا يقر معهما النكاح بغير خلاف عن أحمد.
وفقد الحرية غير مبطل بغير خلاف عنه؛ بل يثبت به الخيار لمن يختار الفسخ.
وفقد اليسار: هل يثبت به الخيار؟ روايتان:
وحيث ثبت الخيار بفقد الكفاءة فللمرأة أو لوليها الفسخ. وهذا على التراخي في ظاهر الرواية (2) . فعلى هذا يسقط خيارها بما يحصل منهما مما يدل على الرضا من قول أو فعل.
وأما خيار الأولياء فلا يسقط إلا بالقول. ويفتقر الفسخ به إلى حاكم في قياس المذهب كالفسخ بالعيوب للاختلاف فيه.
ولو كان الزوج ناقصًا من وجه آخر مثل أن كان دونها في النسب فرضوا به، ثم بان فاسقًا وهي عدل. فههنا ينبغي ثبوت الخيار، كما لو رضيت به لعلة مثل الجذام فظهر به عيب آخر كالجنون والعنة. فأما إن رضوا بفسقه من وجه فبان فاسقًا من آخر مثل أن ظنوه يشرب الخمر
__________
(1) مختصر الفتاوى 433. الموجودة هناك فيها نقص ف 2/ 284.
(2) وفي الإنصاف: وعلى التراضي في ظاهر المذهب؛ لأنه خيار لنقص في المعقود عليه.(4/157)
فظهر أنه يشرب الخمر ويلوط أو يشهد بالزور أو يقطع الطريق. وبيض لذلك أبو العباس.
وإن حدثت له الكفاءة مقارنة بأن يقول سيد العبد بعد إيجاب النكاح له قبلت له النكاح وأعتقته فقياس المذهب صحة ذلك. وتخرج رواية أخرى على مسألة ما إذا أعتقهما معًا، وعلى مسألة ما إذا قال: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك (1) (2) .
قال الشيخ تقي الدين: طريقة المجد في المحرر أن الصفات الخمس معتبرة في الكفاءة قولاً واحدًا. ثم هل يبطل النكاح فقدها، أو لا يبطله لكن يثبت الفسخ، أو يبطله فقد الدين والمنصب ويثبت الفسخ فقد الثلاثة على ثلاث روايات، وهي طريقته اهـ (3) .
وقال الشيخ تقي الدين: لم أجد نصًا عن الإمام أحمد رحمه الله ببطلان النكاح لفقر أو رق ولم أجد عنه أيضًا نصًا بإقرار النكاح مع عدم الدين والمنصب خلافًا. واختار أن النسب لا اعتبار به في الكفاءة، واستدل الشيخ تقي الدين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [13/49] . وعنه: لا تزوج قرشية بغير قرشي ولا هاشمية بغير هاشمي، ورد الشيخ تقي الدين رحمه الله هذه الرواية، وقال: ليس في كلام الإمام أحمد رضي الله عنه ما يدل عليها، وإنما المنصوص عنه في رواية الجماعة: أن قريشًا بعضهم لبعض أكفاء.
__________
(1) اختيارات 208-210 زيادة أحكام وإيضاح ف 2/ 284.
(2) وفي الإنصاف ج 8/ 110 بعد قوله فلو وجدت الكفاءة في النكاح حال العقد بأن يقول الخ. «فقال الشيخ تقي الدين قياس المذهب صحته قال: ويتخرج فيه وجه آخر بمنعها» .
(3) الإنصاف 8/ 107 ف 2/ 284.(4/158)
قال: وذكر ذلك ابن أبي موسى والقاضي في خلافه وروايتيه، وصححها فيه. قال الشيخ تقي الدين أيضًا: ومن قال إن الهاشمية لا تزوج بغير هاشمي بمعنى أنه لا يجوز ذلك فهذا مارق من دين الإسلام؛ إذ قصة تزويج الهاشميات من بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن بغير الهاشميين ثابت في السنة ثبوتًا لا يخفى، فلا يجوز أن يحكى هذا خلافًا في مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وليس في لفظه ما يدل عليه (1) .
باب المحرمات في النكاح
وتحرم بنته من الزنا قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: في الرجل يزني بامرأة فتلد منه ابنة فيتزوجها فاستعظم ذلك، وقال: يتزوج ابنته عليه القتل بمنزلة المرتد. وحمل القاضي قوله: «يقتل» على أنه لم يقع له الخلاف، فاعتقد أن المسألة إجماع، أو على أن هذا فيمن عقد عليها غير متأول ولا مقلد فيجب عليه الحد.
وقال أبو العباس: كلام أحمد يقتضي أنه أوجب عليه حد المرتد لاستحلال ذلك، لا حد الزاني، وذلك أنه استدل بحديث البراء، وهذا يدل على أن استحلال هذا كفر عنده، وقال القاضي في التعليق والشيخ أبو محمد المقدسي في المغني: يكفي في التحريم أنه يعلم أنها بنته. ظاهرًا وإن كان النسب لغيره.
وقال أبو العباس: وظاهر كلام الإمام أحمد أن الشبهة تكفي في ذلك؛ لأنه قال: أليس أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة أن تحتجب من ابن زمعة وقال: «الولد للفراش» وقال: إنما حجبها للشبه الذي رأى بينه وبين عتبة (2) .
__________
(1) إنصاف 8/ 109، 110 ف 2/ 284.
(2) اختيارات 210 فيه زيادات ف 2/ 285.(4/159)
وحرم [الشيخ] بنته من الزنا، وقال: إن وطء بنته غلطًا لا ينشر، لكونه لم يتخذها زوجة، ولم يعلن نكاحها (1) .
والمنصوص عن الإمام أحمد في مسألة التلوط إنما هو أن الفاعل لا يتزوج بنت المفعول به، وكذلك أمه، وهو قياس جيد. فأما تزوج المفعول به بأم الفاعل أو ابنته ففيه نظر، ولم ينص عليه، وذلك أن واحد منهما لم يتمتع بأصل الآخر وفرعه. والمنصوص والأصل أن يتمتع بالرجل أصل أو فرع أو يتمتع بالمرأة أصل أو فرع، وهذا المفعول به يتمتع في أحد الطرفين وهو يتمتع في الطرف الآخر، والوطء الحرام لا يؤثر تحريم المصاهرة.
واعتبر أبو العباس في موضع آخر التوبة، حتى في اللواط (2) .
وسحاق النساء قياس المذهب المنصوص أنه يخرج على الروايتين في مباشرة الرجل الرجل بشهوة (3) .
وتحريم المصاهرة لا يثبت بالرضاع، فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته وابنتها من الرضاع، ولا يحرم على المرأة نكاح أبي زوجها وأمه من الرضاع (4) .
ومن وطئت بشبهة حرم نكاحها على غير الواطئ في عدتها منه، لا عليه فيها إن لم تكن لزمته عدة من غيره، وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها المقدسي (5) .
__________
(1) الإنصاف 8/ 117 ف 2/ 285.
(2) اختيارات 211 وفي الإنصاف ص8 بدل المفعول به المفعول فيه. لا يؤثر تحريم المصاهرة في الإنصاف لا ينشر ف 2/ 285.
(3) الاختيارات 213 ف 2/ 285.
(4) اختيارات 213 والفروع ج 5/ 193 ف 2/ 285.
(5) الفروع 5/ 206، والاختيارات ج 213 والإنصاف 8/ 134 ف 2/ 286.(4/160)
وتحرم بنت الربيبة، لأنها ربيبة، وبنت الربيب أيضًا، نص عليهما الإمام أحمد في رواية صالح. قال أبو العباس: ولا أعلم في ذلك نزاعًا. ولا تحرم زوجة الربيب نص عليه أحمد في رواية ابن مشيش، وكذا في الربيب يتزوج امرأة رابه؛ لأنه ليس من الأبناء (1) .
وللأب تزويج ابنته في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه (2) .
ولو قتل رجلٌ رجلاً ليتزوج امرأته حرمت على القاتل مع حلها لغيره (3) .
ذكر الشيخ تقي الدين في كتابه التحليل أن الرجل إذا قتل رجلاً ليتزوج امرأته أنها لا تحل له أبدًا (4) .
المحرمات إلى أمد
وخالف الشيخ تقي الدين في الرضاع فلم يحرم الجمع مع الرضاع (5) .
ويحرم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين، كقول جمهور العلماء. قيل لأحمد في رواية ابن منصور: الجمع بين المملوكتين أتقول إنه حرام؟ قال: لا أقول إنه حرام، ولكن ينهى عنه. قال القاضي: ظاهر هذا أنه لا يحرم الجمع وإنما يكره. قال أبو العباس: الإمام أحمد لم يقل ليس حرامًا، وإنما قال: لا أقول هو حرام. وكانوا يكرهون فيما لم
__________
(1) اختيارات ص 211 فيه زيادة، وعبارة الإنصاف: يحرم عليه بنت ابن زوجته نقله صالح وغيره وذكر الشيخ تقي الدين إلخ.
(2) اختيارات 213 ف 2/ 286.
(3) اختيارات 215 ف 2/ 285.
(4) الإنصاف 8/ 122 ف 2/ 285.
(5) الإنصاف 8/ 122 ف 2/ 286.(4/161)
يرد فيه نص تحريم أن يقال: هو حرام، ويقولون: ينهى عنه ويكرهون أن يقولوا: هو فرض، ويقولون: يؤمر به. وهذا الأدب في الفتوى مأثور عن جماعة من السلف، وذلك إما لتوقف في التحريم، أو تهيب لهذه الكلمة، كما يهابون لفظ الفرض إلا فيما علم وجوبه.
فإذا كان المفتي يمتنع أن يقول هو فرض إما لتوقفه أو لكون الفرض ما ثبت وجوبه بالقاطع، أو لأنه لم يبين وجوبه في الكتاب فكذلك الحرام.
وأما أن يجعل عن أحمد أنه لا يحرم بل يكره فهذا غلط عليه، ومرجعه إلى الغفلة عن دلالة الألفاظ ومراتب الكلام (1) .
وقد ذكر هذا القاضي في العدة بعينه في مسألة الفرض: هل هو أعلى من الواجب؟ وذكر لفظ الإمام أحمد في هذه الرواية، ولفظه في المتعة، فعلم أنه لم يجعل في المسألة خلافًا. فلو وطئ إحدى الأختين المملوكتين لم تحل له الأخرى حتى يحرم على نفسه الأولى بإخراج عن ملكه أو تزويج.
قال ابن عقيل: ولا يكفي في إباحتها مجرد إزالة الملك حتى تمضي حيضة الاستبراءات وتنقضي فتكون الحيضة كالعدة.
وقال أبو العباس: وليس هذا القيد في كلام أحمد وجماعة الأصحاب، وليس هو في كلام علي وابن عمر، مع أن عليًا لا يجوز وطء الأخت في عدة أختها، ولو زال ملكه عن بعضها كفى، وهو قياس قول أصحابنا.
فإن حرم إحداهما بنقل الملك فيها على وجه لا يمكن استرجاعه
__________
(1) وعبارة الإنصاف 8/ 125، وعنه ليس بحرام ولكن ينهى عنه، أثبتها القاضي وجماعة ومنع الشيخ تقي الدين رحمه الله أن يكون في المسألة رواية بالكراهة إلخ.(4/162)
مثل أن يهبها لولده أو يبيعها بشرط فقد ذكر الجد الأعلى في البيع والرهن بشرط الخيار وجهين. فإن أخرج الملك لازمًا ثم عرض له المبيح للفسخ مثل أن يبيعها سلعة فتبين أنها كانت معيبة أو يفلس المشتري بالثمن أو يظهر في العوض تدليس أو يكون مغبونًا فالذي يجب أن يقال في هذه المواضع: إنه يباح وطء الأخت بكل حال على عموم كلام الصحابة والفقهاء أحمد وغيره.
والبيع والهبة يوجبان التفريق بين ذي الرحم المحرم وهو لا يجوز بين الصغار، وفي جوازه بين الكبار روايتان. وقد أطلق علي وابن عمر والفقهاء أحمد وغيره أن يبيعها أو يهبها، مع أن عليًا هو الذي روى النهي عن التفريق بين الأختين ولم يتعرضوا لهذا الأصل. فإن بني عليه لم يجز البيع والهبة رواية واحدة قبل البلوغ وإنما يجوز العتق أو التزويج، وفي جوازهما بعد البلوغ روايتان. أو يقال: يجوز له التفريق هنا لأجل الحاجة لأنه يحرم الجمع في نكاح ويحرم التفريق فلا بد من تقديم أحدهما وكلام الصحابة والفقهاء بعمومه يقتضي هذا.
ولو أزال ملكه عنها بغير العتق مثل أن يبيعها أو يهبها فينبغي له ألا يتزوج أختها في مدة الاستبراء، كما لا يحل له وطؤها على ما تقدم، إلا أن هذا لا ينبغي أن يزيد على تزوجه بأختها مع بقاء الملك، لإمكان أن يدعي المشتري والمتهب ولدها، بخلاف المعتقة. وشبهة الملك حقيقة لا كالنكاح فعلى هذا إذا وطئ أمة بشبهة ملك ففي تزوج أختها في مدة استبرائها ما في تزوج أختها المستبرأة بعد زوال ملكه عنها (1) .
قال أبو محمد المقدسي في «المغني» : إذا تزوج كافر أختين ودخل بهما ثم أسلم وأسلمتا معه فاختار إحداهما لم يطأها حتى تنقضي عدة
__________
(1) اختيارات 211-213 فيها زيادات كثيرة ف 2/ 286.(4/163)
أختها، لئلا يكون واطئًا لإحدى الأختين في عدة الأخرى، وكذلك إذا أسلم وتحته أكثر من أربع قد دخل بهن فأسلمن معه وكن ثمانيًا فاختار أربعًا منهم وفارق أربعًا لم يطأ واحدة من المختارات حتى تنقضي عدة المفارقات لئلا يكون واطئًا لأكثر من أربع، فإن كن خمسًا فارق إحداهن فله وطء ثلاث من المختارات. قال: وهذا قياس المذهب.
قال أبو العباس: وفي هذا نظر؛ فإن ظاهر السنة يخالف ذلك حيث لم يذكر فيها هذا الشرط، ويمكن الفرق بين هذه وغيرها. وتأملت كلام أحمد وعامة أصحابنا فوجدتهم قد ذكروا أنه يمسك منهن، أربعًا ولم يشترطوا في جواز وطئه انقضاء العدة لا في جمع العدد ولا في جمع الرحم ولو كان لهذا أصل عندهم لم يغفلوه؛ فإنهم دائمًا في مثل هذا ينبهون على اعتزال الزوجة كما ذكره الإمام أحمد فيما إذا وطئ أخت امرأته بنكاح فاسد أو زنى بها وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى؛ فإن العدة تابعة لنكاحها وقد عفا الله عن جميع نكاحها، فكذلك يعفو عن توابع ذلك النكاح.
لكن قياس هذا القول أنه لو أسلم وتحته سريتان أختان فحرم واحدة على نفسه بعد الإسلام جاز وطء الأخرى قبل استبراء تلك. فأما لو طلق زوجته في الشرك ثم أراد أن يتزوج أختها في الإسلام قبل انقضاء عدة المطلقة فهذا يريد أن يبتدأ.
وتحرير هذه المسائل: أن العدة إنما أن تكون من نكاح صحيح فلا يجوز تزوج أختها ولا وطؤها بملك اليمين. وإن كانت من ملك يمين لم يصح النكاح على المشهور، ولا توطأ بنكاح ولا بملك يمين حتى تنقضي العدة. ولا يجوز في عدة النكاح تزوج أربع سواها قولاً واحدًا، ولا يجوز ذلك في عدة ملك يمين. وإن كانت العدة من نكاح فاسد أو شبهة نكاح فهي كحقيقة النكاح في المشهور من المذهب. وإن كانت(4/164)
العدة من نكاح فاسد أو شبهة ملك فإنما الواجب الاستبراء وذلك لا يزيد على حقيقة الملك (1) .
ولو تزوج الأمة في عدة الحرة جاز عند أصحابنا إذا كانت العدة من طلاق بائن. وإن كان خائفًا للعنت عاد ما لطول حرة بناء على أن علة المنع ليست هي الجمع بينها وبين الحرة. ويخرج المنع إذا منعنا من الجمع بينهما، وكذلك خرج الجد في الشرح (2) .
ومن حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين، وجوزه شيخنا كأمة كتابية (3) .
قال أبو العباس بعد أن حكى عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين رجل وامرأته وقد زنى بها قبل أن يدخل بها: وعن جابر بن عبد الله والحسن والنخعي أنه يفرق بينهما. ويؤيد هذا من أصلنا أن له أن يعضل الزانية حتى تختلع منه، وأن الكفاءة إذا زالت في أثناء العقد فإن لها الفسخ في أحد الوجهين (4) .
ويمنع الزاني من تزوج العفيفة حتى يتوب (5) .
ذكر أصحابنا: أن الزوج إذا اشترى زوجته انفسخ النكاح، وقال الحسن: إذا اشترى زوجته للعتق فأعتقها حين ملكها فهما على نكاحهما. وهذا قوي فيما إذا قال: إذا ملكتك فأنت حرة، وصححنا الصفة؛ لأنه إذا ملكها فالملك الذي يوجب بطلان النكاح يوجب الحرية. وإذا اجتمعا معًا لم يبطل النكاح؛ لأن الحرية لا تنافيه، وإنما
__________
(1) اختيارات 214، 215 ف 2/ 286.
(2) اختيارات 216 ف 2/ 286.
(3) فروع 5/ 210 ف 2/ 286.
(4) اختيارات 215 ف 2/ 287.
(5) اختيارات 215 ف 2/ 288.(4/165)
المنافي أن تكون مملوكته زوجته، فإذا زال الملك عقب ثبوته لم يجامع النكاح فلا يبطله؛ لأنه حين زوال الملك كان ينبغي زوال النكاح، والملك في حال زواله لا ثبوت له، وهذا الذي لحظه الحسن؛ فإنه إذا اشتراها ليعتقها فأعتقها لم يكن للملك قوة تفسخ النكاح.
ويؤيد هذا القول: أن حدوث الملك بمنزلة اختلاف الدين، وإذا لم يدم اختلاف الدين فهما على نكاحهما، فكذلك هنا؛ إذ النكاح يقع سابقًا، وهذا إنما يكون إذا كان العتق حصل بعد الملك، فههنا لم يتقدم الانفساخ على العتق (1) .
ولو خبب امرأة على زوجها حتى طلقها ثم تزوجها وجب أن يعاقب هذا عقوبة بليغة، وهذا النكاح باطل في أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، ويجب التفريق بين هذا الظالم المعتدي وبين هذه المراة الظالمة (2) .
ويكره نكاح الحرائر الكتابيات مع وجود الحرائر المسلمات قاله القاضي وأكثر العلماء، كما يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين مع كثرة ذباحين مسلمين؛ ولكن لا يحرم (3) .
فإن كان أحد أبويها غير كتابي فهل تحل على روايتين. وحكى ابن رزين رواية ثالثة: إن كان أبوها كتابيًا أبيحت، وإلا فلا. قال الشيخ تقي الدين: وهو خطأ (4) .
ولو كان أبويها غير كتابيين واختارت هي دين أهل الكتاب فظاهر كلام المصنف التحريم رواية واحدة، وهي المذهب قدمه في الفروع.
__________
(1) اختيارات 217 ف 2/ 288.
(2) اختيارات 217 ف 2/ 288.
(3) اختيارات 217 والفروع 5/ 207 ف 2/ 288.
(4) إنصاف 8/ 136، 137 ف 2/ 289.(4/166)
وقيل عنه: لا تحرم وجزم به في «المغني» والشرح على الرواية الثانية، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله اعتبارًا بنفسه، وقال: هو المنصوص عن الإمام أحمد في عامة أجوبته (1) .
وقال القاضي في «الجامع» : فإن كان الحر كتابيًا لم يجز له أن يتزوج الأمة الكتابية. وقال أبو العباس: مفهوم كلام الجد أنه يباح للكافر نكاح الأمة الكافرة.
ولو خشي القادر على الطول على نفسه الزنا بأمة غيره لمحبته لها ولم يبذلها سيدها له بملك أبيح له نكاحها، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره من السلف.
وبكل حال تباح الأمة لواجد الطول غير خائف العنت إذا شرط على السيد عتق كل من يولد منها، وهو مذهب الليث؛ لامتناع مفسدة إرقاق ولده.
وكذا لو تزوج أمة كتابية شرط على سيدها عتق ولدها منه. والآية إنما دلت على تحريم غير المؤمنات بالمفهوم، ولا عموم له؛ بل يصدق بصورة (2) .
وكلام الإمام أحمد عام يقتضي تحريم التزويج بالحربيات. وله فيما إذا خاف على نفسه العنت روايتان.
والمنع من النكاح في أرض الحرب عام في المسلمة والكافرة (3) .
وقيل: يحرم نكاح الحربية [من أهل الكتاب] مطلقًا. وقيل: يكره
__________
(1) إنصاف 8/ 137 فيه زيادة توضيح وذكر الأبوين ف 289.
(2) اختيارات 216 ف 2/ 289.
(3) اختيارات 215 ف 2/ 288.(4/167)
واختاره القاضي والشيخ تقي الدين، وقال هو قول أكثر العلماء كذبائحهم بلا حاجة (1) .
واختار الشيخ تقي الدين جواز وطء إماء غير أهل الكتاب، وذكره ابن أبي شيبة في كتابه عن سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار. فلا يصح ادعاء الإجماع مع مخالفة هؤلاء (2) .
وإذا أحب امرأة في الدنيا ولم يتزوجها وتصدق بمهرها وطلب من الله تعالى أن تكون له زوجة في الآخرة رجي له ذلك من الله تعالى.
ولا يحرم في الآخرة ما يحرم في الدنيا من التزوج بأكثر من أربع، والجمع بين الأختين، ولا يمنع من أن يجمع المرأة وبينها هناك (3) .
وقال الشيخ تقي الدين: تحرر لأصحابنا في تزويج الأمة على الحرة ثلاثة طرق. أحدها: المنع رواية واحدة، ذكرها ابن أبي موسى والقاضي وابن عقيل وغيرهم. قال القاضي: هذا إذا كان يمكنه وطء الحرة، فإن لم يمكنه جاز. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: هذه الطريقة هي عندي مذهب الإمام أحمد رحمه الله وعليها يدل كلامه. الطريق الثاني: إذا لم تعفه فيه روايتان، وهي طريقة أبي الخطاب ومن حذا حذوه. الطريق الثالث: في الجمع روايتان كما ذكره الجد. اهـ (4) .
قال الشيخ تقي الدين: تلخص لأصحابنا في تزوج الإماء ثلاثة طرق. أحدها طريق القاضي في الجامع والخلاف وهو أنه لا يتزوج أكثر من واحدة إلا إذا خشي العنت بأن لا يمكنه وطء التي تحته، ومتى أمكنه وطؤها لم يجز. الطريق الثاني إذا كان فيه الشرطان فله أن يتزوج
__________
(1) إنصاف 8/ 135 ف 2/ 288.
(2) الإنصاف 8/ 252 ف 2/ 289.
(3) اختيارات 217 ف 2/ 289.
(4) إنصاف 8/ 144 ف 2/ 289.(4/168)
أربعًا وإن كان متمكنًا من وطء الأولى، وهذا معنى خوف العنت وهي طريقة أبي محمد ولم يذكر الخرقي إلا ذلك. وكلام الإمام أحمد يقتضي الحل وإن كان قادرًا على الوطء. الطريق الثالث المسألة في مثل هذا على روايتين، وهي طريقة ابن أبي موسى (1) .
ومن وطئ أمة بينه وبين آخر أدب. قال شيخنا: ويقدح في عدالته، ويلزمه نصف مهرها لشريكه (2) .
باب الشروط والعيوب في النكاح
ولو شرطت أنه يطؤها في وقت دون وقت -ذكر القاضي ذلك في الجامع- أنه من الشروط الفاسدة. ونص الإمام أحمد في الأمة: يجوز أن يشترط أهلها أن تخدمهم نهارًا ويرسلوها ليلاً يتوجه منه صحة هذا الشرط إن كان فيه غرض صحيح مثل أن يكون لها بالنهار عمل فتشترط ألا يستمتع بها إلا ليلاً ونحو ذلك.
وشرط عدم النفقة فاسد. ويتوجه صحته، لا سيما إذا قلنا إنه إذا أعسر الزوج ورضيت الزوجة به لم تملك المطالبة بالنفقة بعد.
وإذا اشترطت ألا تسلم نفسها إلا في وقت بعينه فهو نظير تأخير التسليم في البيع والإجارة، وقياس المذهب صحته. وذكر أصحابنا أنه لا يصح.
ولو شرطت زيادة في النفقة فقياس المذهب وجوب الزيادة، وكذلك إذا اشترطت زيادة في المنفعة التي يستحقها بمطلق العقد مثل أن تشترط ألا يترك الوطء إلا شهرًا، أو ألا يسافر عنها أكثر من شهر. فإن أصحابنا القاضي وغيره قالوا في تعليل المسألة: لأنها شرطت عليه
__________
(1) إنصاف 8/ 144 ف 2/ 289.
(2) الفروع 5/ 123 ف 2/ 289.(4/169)
شرطًا لا يمنع المقصود بعقد النكاح ولها فيه منفعة فيلزم الزوج الوفاء به، كما لو شرطت من غير نقد البلد. وهذا التعليل يقتضي صحة كل شرط لها فيه منفعة ولا يمنع مقصود النكاح (1) .
وفي مفردات ابن عقيل: ذكر أبو بكر فيما إذا شرط ألا يطأ ولا ينفق أو إن فارق رجع بما أنفق روايتين. يعني في صحة العقد، قال الشيخ تقي الدين: ويحتمل صحة شرط عدم النفقة ... واختار فيما إذا شرط أن لا مهر - فساد العقد، وأنه قول أكثر السلف. واختار أيضًا الصحة فيما إذا شرط عدم الوطء كشرط ترك ما تستحقه. ونقل الأثرم توقفه في الشرط.
قال شيخنا: فيخرج على وجهين، واختار صحته، كشرطه ترك ما يستحقه. وفرق القاضي بأن له مخلصًا لملكه طلاقها. وأجاب شيخنا: بأن عليه المهر، وأن ابن عقيل سوى بينهما، فإن صح وطلبته فارقها وأخذ المهر وهو في معنى الخلع، فإن وجبت الفرقة ثم وجب هنا، وأن على الأول للفائت غرضه الجاهل بفساده الفسخ بلا أرش كالبيع وأولى (2) .
وولد المغرور بأمه حر يفديه والده. وإن كان عبدًا تعلق برقبته وجهًا واحدًا؛ لأنه ضمان جناية محضة، ولو لم يكن ضمان جناية لم يلزمه الضمان بحال؛ لانتفاء كونه ضمان عقد أو ضمان يد. فيعتبر أن يكون ضمان إتلاف أو منع لما كان ينعقد ملكًا للسيد كضمان الجنين. وفارق ما لو استدان العبد فإنه حينئذٍ قبض المال بإذن صاحبه، وهنا قبض إليه الأولاد بدون إذن السيد فهي جناية محضة. ولو أذن له السيد
__________
(1) اختيارات 219، 220 ف 2/ 289.
(2) فروع 5/ 217 والإنصاف 8/ 165 ف 2/ 289.(4/170)
في نكاح حرة فالضمان عليه؛ لأنه إذن له في الإتلاف أو الاستدانة على رواية (1) .
إذا شرط الزوج للزوجة في العقد أو اتفقا قبله ألا يخرجها من دارها أو بلدها أو لا يتزوج أو لا يتسرى عليها أو إن تزوج عليها فلها تطليقها (2) صح الشرط، وهو مذهب الإمام أحمد.
ولو خدعها فسافر بها ثم كرهته (3) لم يكرهها. وإذا أراد أن يتزوج عليها أو يتسرى وقد شرط لها عدم ذلك فقد يفهم من إطلاق أصحابنا جوازه بدون إذنها، لكونهم إنما ذكروا أن لها الفسخ ولم يتعرضوا للمنع.
قال أبو العباس: وما أظنهم قصدوا ذلك. وظاهر الأثر والقياس يقتضي منعه كسائر الشروط الصحيحة.
وإذا فعل ذلك ثم قبل أن تفسخ طلق أو باع فقياس المذهب أنها لا تملك الفسخ. وأما إذا شرط إن كان له زوجة أو سرية فصداقها ألفان ثم طلق الزوجة أو أعتق السرية بعد العقد قبل أن تطالبه ففي إعطائها ذلك نظر (4) .
وقال أيضًا: لو شرط ألا يخرجها من منزل أبويها فمات الأب فالظاهر أن الشرط باطل. ويحتمل ألا يخرجها من منزل أمها إلا أن تتزوج الأم، ولو تعذر سكن المنزل لخراب أو غيره فهل يسقط حقها من الفسخ بنقلها عنه؟ أفتيت بأنه إن نقلها إلى منزل ترتضيه هي فلا فسخ.
__________
(1) اختيارات 220، 221 ف 2/ 289.
(2) وفي الإنصاف: فلها أن تطلق نفسها.
(3) وفي الإنصاف ثم كرهته لم يكن له أن يكرهها بعد ذلك.
(4) الفروع ج 5/ 211 واختيارات 218 ف 2/ 289.(4/171)
وإن نقلها إلى منزل لا ترتضيه فلها الفسخ، ولم أقف فيه على نقل (1) .
وقال الشيخ تقي الدين: فيمن شرط لها أن يسكنها في منزل أبيه فسكنت ثم طلبت سكنى منفردة وهو عاجز لا يلزمه ما عجز عنه؛ بل لو كان قادرًا ليس لها على قول في مذهب الإمام أحمد غير ما شرط لها (2) .
حيث قلنا بصحة شرط سكنى الدار والبلد ونحو ذلك لم يجب الوفاء به على الزوج صرح به الأصحاب؛ لكن يستحب الوفاء به، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. ومال الشيخ تقي الدين رحمه الله إلى وجوب الوفاء بهذه الشروط، ويجبره الحاكم على ذلك (3) قال: والظاهر أن مرادهم صحة الشرط في الجملة بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه؛ لا أنه يلزمها؛ لأنه شرط لحقها لمصلحتها لا لحقه لمصلحته حتى يلزم في حقها. ولهذا لو سلمت نفسها من شرطت دارها فيها أو في داره لزم. اهـ (4)
فأما إن أراد نقلها وطلب منها ذلك فقال القاضي في «الجامع» : لها الفسخ بالعزم على الإخراج. وضعفه الشيخ تقي الدين، وقال: العزم المجرد لا يوجب الفسخ، إذ لا ضرر فيه (5) .
وعليه بطلان نكاح الشغار من اشتراط عدم المهر. فإن سموا مهرًا صح. وقياس المذهب أنه شرط لازم؛ لأنه شرط استحل به الفرج، ولولا لزومه لم يكن قول المجيب والقابل مصححًا لنكاح الأول (6) .
__________
(1) إنصاف 8/ 156 ف 2/ 290 هذا الجواب يتفق مع السؤال بخلاف ما في المجموع ج 31/ 168 ف 2/ 290.
(2) إنصاف 8/ 156 ف 2/ 290 هذا الجواب يتفق مع السؤال بخلاف ما في المجموع ج 31/ 168 ف 2/ 290.
(3) إنصاف 8/ 157، 158 ف 2/ 190.
(4) إنصاف 8/ 156 ف 2/ 290.
(5) الإنصاف 8/ 157، 158 ف 2/ 290.
(6) اختيارات 218 زيادة إيضاح ف 2/ 290.(4/172)
نكاح المحلل حرام بإجماع الصحابة عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم، حتى قال عمر رضي الله عنه: والله لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وقال عثمان: لا نكاح إلا نكاح رغبة؛ لا نكاح دلسة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما قال له رجل: أرأيت إن تزوجتها ومطلقها لا يعلم أحلها له ثم أطلقها؟ فقال: من يخادع الله يخدعه لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها.
وقد «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له» قال الترمذي: حديث صحيح.
وقد اتفق أئمة الفتوى على أنه إذا شرط التحليل في العقد كان باطلاً، وبعضهم لم يجعل للشرط المتقدم ولا للعرف المطرد تأثيرًا.
وأما الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون وأئمة الفتوى فلا فرق عندهم بين الشرط المتقدم والعرف، وهذا قول أهل المدينة وأهل الحديث.
والنصارى تعيب المسلمين بنكاح المحلل، يقولون: المسلمون قال لهم نبيهم: إذا طلق أحدكم زوجته لم تحل له حتى تزني. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بريء من ذلك هو وأصحابه والتابعون لهم وجمهور أئمة المسلمين رضي الله عنهم (1) .
ولا يصح نكاح المحلل، ونية ذلك كشرطه (2) .
وإذا ادعى الزوج الثاني أنه نوى التحليل أو الاستمتاع فينبغي ألا يقبل منه في بطلان نكاح المرأة إلا أن تصدقه أو تقوم بينة إقرار على
__________
(1) مختصر الفتاوى 425 وهو موجز في حكم نكاح المحلل ولأني لم أجد أثر عثمان وابن عباس وغيرهما فلذلك استحسنت استدراكها. ف 2/ 290.
(2) اختيارات ص 219 والإنصاف 8/ 161 ف 2/ 290.(4/173)
التواطؤ قبل العقد. ولا ينبغي أن يقبل على الزوج الأول، فتحل في الظاهر بهذا النكاح إلا أن يصدق على إفساده. فأما إن كان الزوج الثاني ممن يعرف بالتحليل فينبغي أن يكون ذلك تقدم اشتراطه إلا أن يصرح قبل العقد بأنه نكاح رغبة. وأما الزوج الأول فإن غلب على ظنه صدق الزوج الثاني حرمت عليه فيما بينه وبين الله تعالى.
ولو تقدم شرط عرفي أو لفظي بنكاح التحليل وادعى أنه قصد نكاح الرغبة قبل في حق المرأة إن صححنا هذا العقد، وإلا فلا. وإن ادعاه بعد المفارقة ففيه نظر. وينبغي ألا يقبل قوله؛ لأن الظاهر خلافه. ولو صدقت الزوجة أن النكاح الثاني كان فاسدًا فلا تحل للأول، لاعترافها بالتحريم عليه (1) .
التحليل محرم لا يحلها، لكن من قلد فيه المجوز له أو فعله باجتهاد ثم يتبين له تحريم ذلك فتاب إلى الله فالأقوى أنه لا يجب فراقها؛ بل يمتنع عن ذلك في المستقبل، وقد عفا الله عما مضى (2) .
وأما «نية الاستمتاع» وهو أن يتزوجها ومن نيته أن يطلقها في وقت أو عند سفره فلم يذكرها القاضي في المجرد ولا الجامع ولا ذكرها أبو الخطاب. وذكرها أبو محمد المقدسي، وقال: النكاح صحيح لا بأس به في قول عامة العلماء إلا الأوزاعي.
قال أبو العباس: ولم أر أحدًا من أصحابنا ذكر أنه لا بأس به تصريحًا إلا أبا محمد. وأما القاضي في التعليق فسوى بين نيته على طلاقها في وقت بعينه وبين نية التحليل، وكذلك الجد وأصحاب الخلاف (3) .
__________
(1) اختيارات 220 ف 2/ 290.
(2) مختصر الفتاوى 433 هذا أوضح مما في المجموع ج 32/ 152 ف 2/ 292.
(3) اختيارات 220 فيه زيادات ف 2/ 291 وانظر الإنصاف ج 8/ 163.(4/174)
وإن شرط الزوجان أو أحدهما فيه خيارًا صح العقد والشرط (1) .
ولو شرط عليها أن تحافظ على الصلوات الخمس وتلزم الصدق والأمانة فيما بعد العقد فتركته فيما بعد ملك الفسخ، كما لو شرطت عليه ترك التسري فتسرى، فيكون فوات الصفة إما مقارنًا وإما حادثًا، كما أن عيب العنة إما مقارن أو حادث.
وقد يتخرج في فوات الصفة في المستقبل قولان، كما في فوات الكفاءة في المستقبل وحدوث العنة؛ لكن المشروط هنا فعل يحدثه أو تركه فعلاً ليس هو صفة ثابتة لها (2) .
وإن شرطها بكرًا أو جميلة فهل له الخيار؟ على وجهين: أحدهما: له الخيار واختاره الشيخ تقي الدين (3) .
وفي الفنون في شرط بكر يحتمل فساد العقد؛ لأن لنا قولاً إذا تزوجها على صفة فبانت بخلافها بطل العقد. قال شيخنا: ويرجع على الغار، وإن غرته وقبضته وإلا سقط في ظاهر المذهب، ولا يلزمه أقل مهر (م) (4) .
وإذا أعتقت الأمة تحت عبد ثبت الخيار لها اتفاقًا، وكذلك تحت حر، وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة. وإن كان زوج بريرة عبدًا لملكها رقبتها وبضعها. ولو شرط عليها سيدها دوام النكاح تحت حر أو عبد فرضيت لزمها ذلك، ومذهب الإمام أحمد يقتضيه؛ فإنه يجوز العتق بشرط (5) .
__________
(1) الإنصاف 8/ 166 اختيارات 218 زيادة إيضاح ف 2/ 291.
(2) اختيارات 219 ف 2/ 292.
(3) الإنصاف 8/ 168 ف 2/ 292.
(4) فروع 5/ 220 ف 2/ 292.
(5) وانظر الإنصاف 8/ 180.(4/175)
ذكر أبو محمد المقدسي: إذا أسلمت الأمة أو ارتدت أو أرضعت من يفسخ نكاحها إرضاعه قبل الدخول سقط المهر. وجعله أصلاً وقاس عليه ما إذا أعتقت قبل الدخول واختارت الفراق معه أن المهر يسقط على رواية لنا. قال أبو العباس: والتنصيف في مسألة الإسلام ونظائرها أولى؛ فإنها إنما فسخت لإعتاقه لها، فالإعتاق سبب الفسخ. ومن أتلف حقه متسببًا سقط وإن كان المباشر غيره، بخلاف ما إذا كان السبب والمباشرة من الغير.
فإن قيل: مسألة العتق بالتنصيف ففي الردة والإسلام والرضاع أولى بلا شك (1) .
وإن تزوجت رجلاً على أنه حر أو تظنه حرًا فبان عبدًا، فلها الخيار. وفي «الجامع الكبير» وغيره: شرط حرية ونسب، واختاره الشيخ تقي الدين، كشروطه وأولى لملكه طلاقها (2) .
العيوب في النكاح
قال المجد: لا يثبت خيار العنة إلا بالقول فلا يسقط بالتمكين من الاستمتاع ونحوه.
وقال الشيخ تقي الدين: لم نجد هذه التفرقة لغير المجد (3) .
واستثنى من ذلك أبو البركات خيار العنة لا يسقط إلا بالقول لا يسقط بالتمكين. وقال أبو العباس أنه لم يجد هذه التفرقة لغيره، وجعل أنها متى أمكنته في حال لها الفسخ سقط خيارها، وحيث لم يثبت لها
__________
(1) الفروع ج 5/ 225 والاختيارات 223 ف 2/ 292.
(2) الإنصاف 8/ 281 ف 2/ 292.
(3) الإنصاف 8/ 200 ف 2/ 292.(4/176)
الفسخ. وإن ثبت العيب لا عبرة بتمكينها، ولا فرق في ذلك بين العنة وغيرها (1) .
وخرج الشيخ تقي الدين جواز الفسخ بلا حكم في الرضا بعاجز عن الوطء كعاجز عن النفقة، قال في القاعدة الثالثة والستين: ورجح الشيخ تقي الدين أن جميع الفسوخ لا تتوقف على حكم حاكم (2) .
فإذا كان الزوج صغيرًا أو به جنون أو جذام أو برص فالمسألة التي في الرضاع تقتضي أن لها الفسخ في الحال، ولا ينتظر وقت إمكان الوطء.
وعلى قياسه الزوجة إذا كانت صغيرة أو مجنونة أو عفلاء أو قرناء.
ويتوجه أن لا فسخ إلا عند عدم إمكان الوطء في الحال (3) .
وإن لم يقر بالعنة ولم ينكر، أو قال: لست أدري أعنين أنا، أم لا؟ فينبغي أن يكون كما لو أنكر العنة ونكل عن اليمين؛ فإن النكول عن الجواب كالنكول عن اليمين. فإن قلنا يحبس الناكل عن الجواب فالتأجيل أيسر من الحبس. ولو نكل عن اليمين فيما إذا ادعى الوطء وقبل التأجيل فينبغي أن يؤجل هنا، كما لو نكل عن اليمين في العنة.
والسنة المعتبرة في التأجيل هي الهلالية، وهذا هو المفهوم من كلام العلماء؛ لكن تعليلهم بالفصول يوهم خلاف ذلك؛ لكن ما بينهما متقارب.
__________
(1) هذه عبارة الزركشي في نقله عن الشيخ تقي الدين ج 5/ 266 ف 2/ 292.
(2) الإنصاف 211 فيه زيادة ف 2/ 292.
(3) اختيارات 221 ف 2/ 292.(4/177)
ويتخرج إذا علمت بعنته أو اختارت المقام معه على عسرته هل لها الفسخ؟ على روايتين.
ولو خرج هذا في جميع العيوب لتوجه.
وترد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع.
ولو بان الزوج عقيمًا فقياس قولنا بثبوت الخيار للمرأة أن لها حقًا في الولد؛ ولهذا قلنا: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، وعن الإمام أحمد ما يقتضيه، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا.
وتعليل أصحابنا توقف الفسخ على الحاكم باختلاف العلماء صحيح، فإنه إن أريد كل خيار مختلف في وقوعه، وهما لا يتوقفان على الحاكم. ثم خيار امرأة المجبوب متفق عليه. وهو من جملة العيوب التي قالوا لا تتوقف على الحاكم، ولا يعني الاعتذار. فإن أصل خيار العنة والشرط مختلف فيه، بخلاف أصل خيار العنة؛ لأن أصل خيار العيب متفق عليه وهو المجبوب. وأي فرق بين الاختلاف في جنس الخيار والاختلاف في الصورة المعيبة.
ثم خيارات البيع لا تتوقف على الحاكم مع الاختلاف. والواجب أولاً التفريق بين النكاح والبيع، ثم لو علل بخفاء الفسخ وظهوره فإن العيوب وفوات الشرط قد تخفى، وقد يتنازع فيها؛ بخلاف إعتاق السيد لكان أولى من تعليله بالاختلاف.
ولو قيل: إن الفسخ يثبت بتراضيهما تارة، وبحكم الحاكم أخرى، أو بمجرد فسخ المستحق، ثم الآخر إن أمضاه وإلا أمضاه الحاكم لتوجه، وهو الأقوى.
ومتى أذن الحاكم أو حكم لأحد باستحقاق عقد أو فسخ مأذون له لم يحتج بعد ذلك إلى حكم بصحته بلا نزاع؛ لكن لو عقد الحاكم أو فسخ فهو فعله والأصح أنه حكم.(4/178)
وإذا اعتبر تفريق الحاكم ولم يكن في الموضع حاكم يفرق فالأشبه أن لها الامتناع، وكذلك تملك الانتقال من منزله فإن من ملك الفسخ للعقد ملك الامتناع من التسليم، وينبغي أن تملك النفقة في هذه المدة لأن المانع منه (1) .
وإذا دخل النقص على الزوج لعيب المرأة وفوات صفة أو شرط صحيح أو باطل فإنه ينقص من المسمى بنسبة ما نقص. وهذا النقص من مهر المثل.
وإذا كان الذي نقص هو المرأة بأن يكون الزوج هو المعيب لا تكون قد اشترطت فيه صفة أو شرطًا صحيحًا أو فاسدًا فالواجب هنا أن ينسب ما نقص هذا الفائت من مهر المثل لا لوجوده فيزاد على المسمى بنسبته. فيقال: كم مهر المثل لو لم يسلم لها ما شرطته أو كان الزوج معيبًا؟ فيقال ألف درهم وإذا سلم لها ذلك أو كان الزوج سليمًا فيقال ثمانمائة درهم، فيكون فوات الصفة والعيب قد نقصها من مهر المثل الخمس، فينقصها من المسمى بحسب ذلك. فيكون بقيمته مال ذهب منه خمسه، فيزاد عليه مثل ربعه، فإذا كان ألفين استحق ألفين وخمسمائة، وهذا هو المهر الذي رضيت به لو كان الزوج معيبًا أو لم يشترط صفة، وهذا هو العدل، ويرجع الزوج المغرور بالصداق على من غره من المرأة أو الولي في أصح قولي العلماء (2) .
وقيل في فسخ الزوج بعيب قديم وشرط: ينسب قدر نقص مهر المثل لأجل ذلك إلى مهر المثل كاملاً، فيسقط من المسمى بنسبته فسخ أو أمضى، وقاسه القاضي في الخلاف على المبيع المعيب، وحكاه ابن شاقلا في بعض تعاليقه عن أبي بكر، واختاره ابن عقيل، ويحتمله كلام الشيرازي، ورجحه الشيخ تقي الدين. وقال الشيخ تقي الدين أيضًا:
__________
(1) اختيارات 221-223 ف 2/ 292 وانظر الفروع ج 5/ 238.
(2) اختيارات 223، 224 ف 2/ 292 وعبارة الإنصاف ج 1/ 201 كما يلي.(4/179)
وكذلك إذا ظهر الزوج معيبًا فللزوجة الرجوع عليه بنقص مهر المثل، وكذا في فوات شرطها (1) .
قال شيخنا: وإن جهل فساد النكاح لتغرير غار كأخته من رضاع فالمهر على الغار (2) .
باب نكاح الكفار
والصواب أن أنكتحهم المحرمة في دين الإسلام حرام مطلقًا، إذا لم يسلموا عوقبوا عليها.
وإن أسلموا عفي لهم عن ذلك لعدم اعتقادهم تحريمه (3) .
واختلف في الصحة والفساد. والصواب أنها صحيحة من وجهين:
فإن أريد بالصحة إباحة التصرف فإنما يباح لهم بشرط الإسلام.
وإن أريد نفوذه وترتيب أحكام الزوجية عليه: من حصول الحل به للمطلق ثلاثًا، ووقع الطلاق فيه، وثبوت الإحصان به فصحيح.
وهذا مما يقوي طريقة من فرق بين أن يكون التحريم لغير المرأة أو لوصف؛ لأن ترتيب هذه الأحكام على نكاح المحارم بعيد جدًا.
وقد أطلق أبو بكر وابن أبي موسى وغيرهما صحة أنكحتهم مع تصريحهم بأنه لا يحصل الإحصان بنكاح ذوات المحارم.
ولو قيل: إن من لم يعلم التحريم فهو في ملك المحرمات بمنزلة
أهل الجاهلية، كما قلنا في إحدى الروايتين إن من لم يعلم الواجبات
__________
(1) الإنصاف 8/ 201 ف 2/ 292.
(2) فروع 5/ 224 ف 2/ 292.
(3) اختيارات 224 والإنصاف 8/ 207 ف 2/ 293.(4/180)
فهو فيها كأهل الجاهلية فلا يجب عليهم القضاء، كذلك أولئك تكون عقودهم وأفعالهم بمنزلة عقود أهل الجاهلية، فإذا اعتقدوا أن النكاح بلا ولي ولا شهود وفي العدة صحيح كان بمنزلة نكاح أهل الجاهلية.
ويحتمل ما نقل عن الصحابة على أن المعاقد لم يعذر لترك تعلمه العلم مع تقصيره، بخلاف أهل البوادي والحديثي العهد بالإسلام ومن قلد فقيهًا فيتوارثون بهذه الأنكحة.
ولو تقاسموا ميراثًا جهلاً فهذا شبيه بقسم ميراث المفقود إذا ظهر حيًا لا يضمنون ما أتلفوا، لأنهم معذورون. وأما الباقي فيفرق بين المسلم والكافر، كما فرقنا في أموال القتال بينهما، فإن الكافر لا يرد باقيًا، ولا يضمن تالفًا والمسلم يرد الباقي، ويضمن التالف. وعلى قياسه كل متلف معذور في إتلافه بتأويل أو جهل (1) .
وإذا أسلم الكافر وتحته معتدة فإن كان لم يدخل بها منع من وطئها حتى تنقضي العدة.
وإن كان دخل بها لم يمنع من الوطء إلا أن تكون قبل وطئه (2) وعلى التقديرين فلا ينفسخ النكاح.
ويحتمل أن يقال في أنكحة الكفار التي نقضي بفسادها: إن كان حصل بها دخول استقرت، وإن لم يكن حصل دخول فرق بينهما.
وإن أسلم الكافر أو ترافعوا إلينا والمهر فاسد وقبضته الزوجة ودخل بها الزوج استقر.
وإن لم يكن دخل وقبضته فرض لها مهر المثل، ونص عليه الإمام
__________
(1) اختيارات 224، 225 زيادات وإيضاح ف 2/ 293.
(2) كذا بالأصل المطبوع.(4/181)
أحمد في رواية ابن منصور؛ لأنا إنما نقر تقابض الكفار في المشهور إذا كان من الطرفين. فإذا قبضت الخمر أو الخنزير قبل الدخول لم يحصل التقابض من الطرفين، فأشبه ما لو باع خمرًا بثمن وقبضها ثم أسلم فإنا لم نحكم له بالثمن. فكذا هنا، وإن لم تقبضه فرض لها مهر المثل؛ فإن كان من مثلها محرمًا مثل أن كان عادتهم التزويج على خمر أو خنزير يحتمل وجهين. أحدهما: أن يجعل وجود ذلك كعدمه، ويكون كمن لا أقارب لها فينظر في عادة أهل البلد، وإلا فأقرب البلاد. الثاني: أن تعتبر قيمة ذلك عندهم. وفرق أصحابنا في غير هذا الموضع بين الخمر والخنزير، فكذا ههنا، فيخرج أن لها في الخنزير مهر المثل، وفي الخمر القيمة.
وحيث وجبت القيمة فإن اتفقا عليها فلا كلام. وإن اختلفا فإن قامت بنية للمسلمين بالقيمة عندهم بأن يكون ذلك المسلم يعرف سعر ذلك عندهم قضي به، وإلا فالقول قول الزوج مع يمينه. وإن لم يكن سمى لها صداقًا فرض لها مهر المثل. ويتوجه أن الإسلام والترافع إن كانا قبل الدخول فلها ذلك، كما لو كان على محرم وأولى. وإن كان بعد الدخول فإيجاب مهرها فيه نظر؛ فإن الذين أسلموا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض أنكحتهم شغار ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا منهم بإعطاء زوجه مهرًا.
وإن أسلمت الزوجة والزوج كافر ثم أسلم قبل الدخول أو بعد الدخول فالنكاح باق ما لم تنكح غيره. والأمر إليها، ولا حكم له عليها، ولا حق لها عليه؛ لأن الشارع لم يفصل، وهو مصلحة محضة، وكذا إن أسلم قبلها، وليس له حبسها، فمتى أسلمت ولو قبل الدخول أو بعده فهي امرأته إن اختار (1) .
__________
(1) والفروع 5/ 247، والإنصاف 8/ 213.(4/182)
ونقل عنه ابن منصور في نصراني تزوج نصرانية على قلة تمر ثم أسلما: فإن دخل بها فهو جائز، وإن لم يدخل بها فلها صداق مثلها. وظاهر هذا أنه قبل الدخول يجب مهر المثل بكل حال وإن قبضت المحرم. قال أبو العباس: وهو قوي؛ إذ تقابض الكفار إنما يمضي على المشهور إذا وجد عن الطرفين، وهنا البضع لم يقبض (1) .
وكذا إن ارتد الزوجان أو أحدهما ثم أسلما أو أحدهما.
وإن ادعا الزوجان سبق أحدهما بالإسلام ولم يعلم عينه فللزوجة نصف المهر، قاله أبو الخطاب تفريعًا على رواية أن لها نصف المهر إن كان هو المسلم.
وقال القاضي: إن لم تكن قبضته لم يجز أن تطالبه بشيء. وإن كانت قبضته لم يرجع عليها فيما فوق النصف. وقياس المذهب هنا القرعة.
قال أبو العباس: وقياس المذهب فيما أراه أن الزوجة إذا أسلمت قبل الزوج فلا نفقة لها؛ لأن الإسلام سبب يوجب البينونة. والأصل عدم إسلامه في العدة فإذا لم يسلم حتى انقضت العدة تبينا وقوع البينونة بالإسلام، ولا نفقة عندنا للبائن، وإن أسلم قبل انقضائها فههنا يخرج وجهًا له.
وإن أسلم الكافر وله ولد صغير تبعه في الإسلام.
فإن كان تحت الصغير أكثر من أربع نسوة، فقال القاضي: ليس لوليه الاختيار منهن؛ لأنه راجع إلى الشهوة والإرادة. ثم قال في «الجامع» : يوقف الأمر حتى يبلغ فيختار. وقال في المجرد: حتى يبلغ عشر سنين. وقال ابن عقيل: حتى يراهق ويبلغ أربع عشرة سنة.
__________
(1) الزركشي 5/ 227 ف 2/ 293.(4/183)
وقال أبو العباس: الوقف هنا ضعيف؛ لأن الفسخ واجب فيقوم الولي مقامه في التعيين كما يقوم مقامه في تعيين الواجب عليه من المال في الزكاة وغيرها (1) .
ولو أسلم وتحته أربع نسوة فأسلمن معه اختار منهن أربعًا وفارق سائرهن، وليس طلاق إحداهن اختيارًا لها في الأصح (2) .
لو أسلم على أكثر من أربع أو على أختين فاختار أربعًا أو إحدى الأختين فقال المصنف والشارح: يعتزل المختارات ولا يطأ الرابعة حتى تنقضي عدة المفارقة فلو كن خمسًا ففارق إحداهن فله وطء ثلاث من المختارات ولا يطأ الرابعة حتى تنقضي عدة المفارقة وعلى ذلك فقس، وكذلك الأخت. قال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: وفي هذا نظر؛ فإن ظاهر السنة يخالف ذلك. قال: وقد تأملت كلام عامة أصحابنا فوجدتهم قد ذكروا أنه يمسك أربعًا ولم يشترطوا في وطئه انقضاء العدة، لا في جمع العدد، ولا في جمع الرحم، ولو كان هذا أصل عندهم لم يغفلوه؛ فإنهم دائمًا ينبهون في مثل هذا على اعتزال الزوجة؛ كما ذكره الإمام أحمد فيما إذا وطئ أخت امرأته بنكاح فاسد أو زنا بها. وقال هذا هو الصواب فإن هذه العدة تابعة لنكاحها وقد عفا الله عن جميع نكاحها، فكذلك يعفو عن توابع ذلك النكاح. وهذا بعد الإسلام لم يجمع عقدًا ولا وطئًا. انتهى (3) .
وإن طلق الجميع ثلاثًا أقرع بينهن فأخرج بالقرعة أربعًا منهن وله نكاح البواقي ... واختار الشيخ تقي الدين أن الطلاق هنا فسخ ولا يحتسب به من الطلاق الثلاث وليس باختيار (4) .
__________
(1) وإنصاف 8/ 217.
(2) اختيارات 225-227 من قوله ويحتمل أن يقال ف 2/ 293.
(3) إنصاف 8/ 218 ف 2/ 293.
(4) إنصاف 8/ 221 ف 2/ 293.(4/184)
وإن ظاهر أو آلى من إحداهن فهل يكون اختيارًا لها؟ على وجهين. أحدهما: لا يكون اختيارًا وهو المذهب. قال الشيخ تقي الدين: وهو الذي ذكره القاضي في «الجامع» و «المجرد» وابن عقيل (1) .
ولو تزوج المرتد كافرة مرتدة كانت أو غيرها، أو تزوج المرتدة كافر ثم أسلما فالذي ينبغي أن يقال هنا: إنا نقرهم على نكاحهم أو مناكحهم، كالحربي إذا نكح نكاحًا فاسدًا ثم أسلما فإن المعنى واحد. وهذا جيد في القياس إذا قلنا: إن المرتد لا يؤمر بقضاء ما تركه في الردة من العبادات؛ لكن طرده: أنه لا يحد على ما ارتكبه في الردة من المحرمات، وفيه خلاف في المذهب. وإن كان المنصوص أنه يحد.
فأما إذا قلنا أنه يؤمر بقضاء ما تركه من الواجبات ويضمن ما أتلفه ويعاقب على ما فعله من المحرمات ففيه نظر.
ومما يدخل في هذا كل عقود المرتدين إذا أسلموا قبل التقابض أو بعده. وهذا باب واسع يدخل فيه جميع أحكام أهل الشرك في النكاح وتوابعه والأموال وتوابعها لو استولوا على مال مسلم أو تقاسموا ميراثًا ثم أسلموا بعد ذلك والدماء وتوابعها (2) .
قوله: وإن أسلم الزوجان معًا فهما على نكاحهما. قال الشيخ تقي الدين: يدخل في المعية لو شرع الثاني قبل أن يفرغ الأول (3) .
وإن كانت الردة بعد الدخول فهل تتعجل الفرقة أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين. واختار الشيخ تقي الدين هنا مثل اختياره فيما إذا أسلم أحدهما بعد الدخول كما تقدم (4) .
__________
(1) إنصاف 8/ 222 ف 2/ 293.
(2) اختيارات 215، 216 ف 2/ 293.
(3) إنصاف 8/ 110 ف 2/ 293.
(4) إنصاف 8/ 216 ف 2/ 293.(4/185)
باب الصداق
ولا يجوز كتابة الصداق على الحرير وقاله ابن عقيل (1) .
ولا يبطل المهر بذلك، واختاره الشيخ تقي الدين وابن عقيل (2) .
وكلام الإمام أحمد في رواية حنبل يقتضي أنه يستحب أن يكون الصداق أربعمائة درهم، وهذا هو الصواب مع القدرة واليسار. فيستحب بلوغه ولا يزاد عليه. وكلام القاضي وغيره يقتضي أنه لا يستحب؛ بل يكون بلوغًا مباحًا (3) .
ولو قيل: إنه يكره جعل الصداق دينًا سواء كان مؤخر الوفاء وهو حال أو كان مؤجلاً لكان متوجهًا، لحديث الواهبة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
والصداق المقدم إذا كثر وهو قادر على ذلك لم يكره، إلا أن يقترن بذلك ما يوجب الكراهة من معنى المباهاة ونحو ذلك. فأما إن كان عاجزًا عن ذلك فيكره؛ بل يحرم إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة. فأما إن كثر وهو مؤخر في ذمته فينبغي أن يكره هذا كله؛ لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة (4) .
ولو تزوجها على مائة مقدمة ومائة مؤجلة صح. ولا تستحق المطالبة بالمؤجلة إلا بموت أو فرقة (5) نص عليه الإمام أحمد في رواية جماعة، واختاره شيوخ المذهب كالقاضي وغيره. جاء عن ابن سيرين عن شريح «أن رجلاً تزوج امرأة على عاجل وآجل إلى الميسرة فقدمته إلى شريح فقال لنا على ميسرة فآخذه لك» .
__________
(1) اختيارات 227 ف 2/ 293 وتقدم.
(2) إنصاف 1/ 480 ف 2/ 293.
(3) والإنصاف 8/ 229.
(4) اختيارات 227 ف 2/ 293 فيه زيادة.
(5) وفي الإنصاف 8/ 244 وقال الشيخ تقي الدين: الأظهر أنهم أرادوا بالفرقة البينونة.(4/186)
وقياس المذهب أن هذا الشرط صحيح؛ لأن الجهالة فيه أقل من جهالة الفرقة، وكان هذا الشرط في الحقيقة مقتضى العقد. ولو قيل بصحته في جميع الآجال لكان متوجهًا. صرح الإمام أحمد والقاضي وأبو محمد وغيرهم بأنه إذا أطلق الصداق كان حالاً.
قال أبو العباس: إن كان العرف جاريًا بين أهل تلك الأرض أن المعلق يكون مؤجلاً فينبغي أن يحمل كلامهم على ما يعرفونه. ولو كانوا يفرقون بين لفظ المهر والصداق فالمهر عندهم ما يعجل والصداق ما يؤجل كان حكمهم على مقتضى عرفهم، أو تزوج امرأة اتفق معها على صداق عشرة دنانير وأنه يظهر عشرين دينارًا وأشهد عليها بقبض عشرة فلا يحل لها أن تغدر به؛ بل يجب عليها الوفاء بالشرط، ولا يجوز تحليف الرجل على وجود القبض في مثل هذه الصورة؛ لأن الإشهاد في مثل هذا يتضمن الإبراء (1) .
ولو تزوجها على أن يعطيها في كل سنة تبقى معه مائة درهم. فقد يؤخذ من كلام كثير من أصحابنا أن هذه تسمية فاسدة لجهالة المسمى، وتتوجه صحته، بل هو الأشبه بأصولنا، كما لو باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، أو أكراه الدار كل شهر بدرهم، ولأن تقدير المهر بمدة النكاح بمنزلة تأجيله بمدة النكاح، إذ لا فرق بين جهالة القدر وجهالة الأجل. وعلى هذا لو تزوجها على أن يخيط لها كل شهر ثوبًا صح أيضًا؛ إذ لا فرق بين الأعيان والمنافع (2) .
وإن تزوجها على منفعة داره أو عبده ما دامت زوجته. فهنا قد تبطل المنفعة قبل زوال النكاح، فإن شرط لها مثل ذلك إذا تلفت فهنا ينبغي أن يصح. وإن لم يشترط ففيه نظر (3) .
__________
(1) اختيارات 230، 231 هذه فتوى مطولة الموجود هناك ثلاثة أسطر.
(2) اختيارات 231 ف 2/ 294.
(3) اختيارات 231 ف 2/ 294.(4/187)
وإن تزوجها على أن يعلمها أو يعلم غلامها صنعة صح ذكره القاضي، والأشبه جوازه أيضًا.
ولو كان المعلم أخاها أو ابنها أو أجنبيًا (1) .
ولو علم السورة أو القصيدة غير الزوج ينوي بالتعليم أنه عن الزوج من غير أن يعلم الزوجة فهل يقع عن الزوج؟
فيتوجه أن يقال: إذا قلنا لا يجبر الغريم على استيفاء الدين من غير المدين لم يلتفت إلى نيته إذ لم يظهرها؛ لأن هذا الاستيفاء شرط بالرضا، والغريم المستحق لم يرض أن يستوفي دينه من غير المدين. وإن قلنا يجبر المستحق على الاستيفاء من غير الغريم فيتوجه أن يؤثر مجرد دينه الموفى. ويقبل قوله فيما بعد (2) .
قال في «المحرر» : كل ما صح عوضًا في بيع أو إجارة صح مهرًا إلا منافع الزوج الحر المقدرة بالزمان فإنها على روايتين. وأما القاضي في التعليق فأطلق الخلاف في منافع الحر من غير تقييد بزوج، وكذلك ابن عقيل. وأما أبو الخطاب والشيخ أبو محمد في «المقنع» فلفظهما: إذا تزوجها على منافعه مدة معلومة فعلى روايتين. فاعتبر صاحب «المحرر» القيدين الزوجية والحرية. ولعل مأخذ المنع أنها ليست بمال كقول أبي حنيفة. وسلمه القاضي ولم يمنعه في غير موضع. وقال أبو محمد: هذا ممنوع؛ بل هي مال وتجوز المعاوضة عليها. قال أبو العباس: والذي يظهر في تعليل رواية المنع أنه لما فيه من كون كل من الزوجين يصير ملكًا للآخر؛ فكأنه يفضي إلى تنافي الأحكام، كما لو تزوجت عبدها.
وعلى هذا التعليل إذا كانت المنفعة لغيرها أن تصح. وعلى
__________
(1) اختيارات 228 ف 2/ 294.
(2) اختيارات 230 ف 2/ 294.(4/188)
هذا تخرج قصة موسى مع شعيب. موجب هذا التعليل: أن المرأة لا تستأجر إجارة معينة مقدرة بالزمان، وإن كل واحد من الزوجين لا يستأجر الآخر. ويجوز أن يكون المنع مختصًا بمنفعة الخدمة خاصة لما فيه من المهنة والمنافاة وإذا لم تصح المنافع (1) صداقًا فقياس المذهب أنه تجب قيمة المنفعة المشروطة إلا إذا علما أن هذه المنفعة لا تكون صداقًا فيشبه ما لو أصدقها مالاً مغصوبًا في أن الواجب مهر المثل في أحد الوجهين (2) .
ولو تزوجها على عبد فبان نصفه مستحقًا خيرت بين أخذه وقيمة التالف وبين قيمة الكل. وتقدم اختيار الشيخ تقي الدين أنه لا يلزمه شيء (3) .
ذكر الزركشي عن الشيخ تقي الدين في بعض قواعده جواز فسخ المرأة النكاح إذا ظهر المعقود عليه حرًا أو مغصوبًا أو معيبًا (4) .
والأوجه أنه إذا تزوج بنية أن يعطيها صداقًا محرمًا، أو لا يوفيها الصداق أن الفرج لا يحل له، فإن هذا لم يستحل الفرج بماله. فلو تاب من هذه النية ينبغي أن يقال: حكمه حكم ما لو تزوجها بعين محرمة والمرأة لا تعلم تحريمها (5) .
لو شرط [الأب] جميع المهر له صح كشعيب عليه السلام، وشرط عدم الإجحاف القاضي في المجرد ... قال الشيخ تقي الدين: وهذا ضعيف ولا يتصور الإجحاف لعدم ملكها له (6) .
__________
(1) وفي الإنصاف الخدمة.
(2) الإنصاف 8/ 229، 230 والاختيارات 228 ف 2/ 294.
(3) إنصاف 8/ 247 ف 2/ 294.
(4) إنصاف 8/ 248 ف 2/ 294.
(5) اختيارات 227 ف 2/ 294.
(6) إنصاف 8/ 249 ف 2/ 294.(4/189)
وإن لم يحصل للمرأة ما أصدقها لم يكن النكاح لازمًا ولو أعطيت بدله كالبيع، وإنما يلزم ما ألزم به الشارع أو التزمه المكلف، وما خالف هذا القول فضعيف مخالف للأصول. فإذا لم نقل بامتناع العقد بتعذر تسليم المعقود عليه فلا أقل من أن يملك المرأة الفسخ.
فإن أصدقها شيئًا معينًا وتلف قبل قبضه ثبت للزوجة فسخ النكاح، وإن كان الشرط باطلاً ولم يعلم المشترط ببطلانه لم يكن العقد لازمًا؛ بل إن رضي بدون الشرط وإلا فله الفسخ.
وإن تزوجها على أن يشتري عبد زيد فامتنع زيد من بيعه فأعطاها قيمته ثم باعه زيد العبد فهل تملك رد البدل وأخذ العبد؟ تردد فيه أبو العباس.
ولو أصدقها عبدًا بشرط أن تعتقه فقياس المشهور من المذهب أنه يصح كالبيع (1) . والذي ينبغي في سائر أصناف المال كالعبد والشاة والبقرة والثياب ونحوها أنه إذا أصدقها شيئًا من ذلك أن يرجع فيه إلى مسمى ذلك اللفظ في عرفها، كما نقول في الدراهم والدنانير المطلقة في العقد. وإن كان بعض ذلك غالبًا أخذته كالبيع، أو كانت عادتها اقتناؤه أو لبسه (2) فهو كالملفوظ به.
ونص الإمام أحمد في رواية جعفر النسائي: أنه إذا أصدقها عبدًا غير معين من عبيده أنه يصح، ولها الوسط على قدر ما يخدم مثلها (3) . ونقلها دليل على أنه لم يعتبر الخادم مطلقًا وإنما اعتبر ما يناسبها.
قال أبو العباس في الخلع: ولو خالعها على عبد مطلق لو قيل
__________
(1) اختيارات 228، 229 ف 2/ 294.
(2) الإنصاف «أو كان من عادتها» .
(3) عبارة الإنصاف: «وهذا تقييد للوسط مما يخدم مثلها» .(4/190)
يجب ما يجزئ عتقه في الكفارة وما يجب في النذر المطلق لكان أقرب إلى القياس، إلا أنه لا يعتبر فيه الإيمان.
أطلق القاضي أنه إذا تزوجها على بيت أنه لا يصح، واستدل بمسألة مثنى في الحضرية ومفهومها أن البدوية ليست كذلك، وهذا أشبه؛ لأن بيوت البادية من جنس واحد كالخادم؛ بخلاف الحضر فإن بيوتهم تختلف جنسًا وقدرًا وصفة اختلافًا متفاوتًا (1) .
ولو أراد أن يغير المهر مثل تبديل نقد بنقد أو تأجيل الحال أو إحلال المؤجل ونحو ذلك فموجب تعليل أصحابنا في الفرق بين النكاح والبيع والإجارة أن هذا لا يصح؛ لأن هذا ليس تبديل فرض بفرض وإنما هو تغيير لذلك الفرض (2) .
وإذا أعتق أمته على أن تزوجه نفسها ويكون عتقها صداقها؟ قال القاضي: هي بالخيار إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تتزوجه، وتابعه أبو محمد وأبو الخطاب وغيرهما؛ لأنه سلف في النكاح فلا يلزم الوفاء به. ويتوجه صحة السلف في العقود كلها كما يصح في العتق، ويصير العتق مستحقًا على المسلف إن فعله وإلا قام الحاكم مقامه في توفية العقد المستحق، كما يقوم مقامه في توفية الأعيان والمنافع؛ لأن العقد منفعة من المنافع فجاز السلم فيه كالصناعات، وهذا بمنزلة الهبة المشروط فيها الثواب.
والمنصوص عن الإمام أحمد في اشتراط التزويج على الأمة إذا أعتقها لزم هذا الشرط قبلت أم لم تقبل، كاشتراط الخدمة. قال أحمد بن القاسم: سئل أحمد عن الرجل يعتق الجارية على أن يتزوجها
يقول: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، أو يقول أعتقتك على أن
__________
(1) اختيارات 229، 230 ف 2/ 294.
(2) اختيارات 232 ف 2/ 294.(4/191)
أتزوجك؟ قال: هو جائز، وهو سواء: أعتقتك وتزوجتك وعلى أن أتزوجك إذا كان كلامًا واحدًا إذا تكلم به فهو جائز.
وهذا نص من الإمام أحمد على أن قوله «على أن أتزوجك» بمنزلة قوله: «وتزوجتك» وكلامه يقتضي أنها تصير زوجة بنفس هذا الكلام. وعلى قول الأولين إذا لم يتزوجها ذكروا أنه يلزمها قيمة نفسها، سواء كان الامتناع منه أو منها. وهذا فيه نظر إذا كان الامتناع منه.
ويتخرج على قولهم أنها تعتق مجانًا. ويتخرج إلى أنه يرجع إلى بدل العوض لا إلى بدل العتق، وهو قياس المذهب وأقرب إلى العدل؛ إذ الرجل طابت نفسه بالعتق إذا أخذ هو العوض، وأخذ بدله قائم مقامه (1) .
ومن أعتقت عبدها على أن يتزوج بها أو بسواها أو بدونه عتق ولم يلزمه شيء ذكره أصحابنا. وعلله ابن عقيل بأنها اشترطت عليه تمليك البضع وهو لا قيمة له، وعلله القاضي بأنه سلف في النكاح، والحظ في النكاح للزوج. وهذا الكلام فيه نظر؛ فإن الحظ في النكاح للمرأة؛ ولهذا ملك الأولياء أن يجبروها عليه دون الرجل.
وملك الولي في الجملة أن يطلق على الصغير والمجنون ولم يملك ذلك من الصغيرة ولو أراد أن يفسخ نكاحها. ومعلوم أنها اشترطت نفقة ومهرًا أو استمتاعًا وهذا مقصود، كما أنه إذا أعتقها على أن يتزوجها شرط عليه استمتاعًا تجب عليه بإزائه النفقة.
وأما إذا خير بين الزواج وعدمه فيتوجه أن عليه قيمة نفسه.
وإذا قبل التزويج فليس عليه إلا مهر المثل، فإنه مقتضى النكاح المطلق. وإنما أوجبنا عليه بالمفارقة قيمة نفسه لأن العوض المشروط في
__________
(1) اختيارات 233، 234 ف 2/ 294.(4/192)
العقد هو تزوجه بها ولا قيمة له في الشرع فيكون كما لو أعتقته على عوض لم يسلم لها.
ويتوجه أنه إذا لم يتزوجها يعطيها مهر المثل أو نصفه؛ لأنه هو الذي تستحقه عليه إذا تزوجها؛ فإنه يملك الطلاق بعد ذلك، وإنما يجب لها بالعقد مهر المثل.
وهذا البحث يجري فيما إذا أعتق عبده على أن يزوجه أخته أو يعتقها. وإذا لم نصحح الطلاق مهرًا فذكر القاضي في الجامع وأبو الخطاب وغيرهما أنها تستحق مهر المثل لفساده.
والمحكي في المجرد عن أبي بكر أنها تستحق مهرًا بضده. وقاله ابن عقيل وهو أجود. فإن الصداق وإن كان له بدل عند تعذره فله بدل عند فساد تسميته. هذا قياس المذهب.
ولو قيل ببطلان النكاح هنا لم يبعد؛ لأن المسمى فاسد لا بدل له، فهو كالخمر، وكنكاح السفاح (1) وإذا صححنا إصداق الطلاق فماتت الضرة قبل الطلاق فقد يقال: حصل مقصودها من الفرقة فأبلغ الطرق فيكون كما لو أوفى عنه المهر أجنبي. وفيه نظر.
والذي ينبغي في الطلاق أنه إذا كان السائل له ليخلص المرأة جاز له بذل عوضه سواء كان نكاحًا أو مالاً كإن كانت له امرأة يضربها ويؤذيها فقال: طلق امرأتك على أن أزوجك بنتي فهذا سلف في النكاح. أو قال: زوجتك بنتي على طلاق امرأتك. فهذه مسألة إصداق الطلاق.
والأشبه أن يقال في مثل هذا: إن الطلاق يصير مستحقًا عليه، كما لو قال خذ هذا الألف على أن تطلق امرأتك، وهذا سلف في الطلاق وليس يمتنع كما تقدم.
__________
(1) في الإنصاف كنكاح الشغار.(4/193)
وأما إن كان باذل العوض لغرض ضرر المرأة فههنا لا يجوز، للحديث فعلى هذا لو خالعت الضرة عن ضرتها بمال أو خالع أبوها فهنا ينبغي ألا يجوز هذا، كما لا يجوز أن يخالع الرجل لو كان مقصوده التزوج بالمرأة. فلو كان مقصوده تزويج المرأة بالأجنبي ينظر في مسألة الطلاق إن كانت محرمة فله حكم، وإن كانت مباحة أو مستحقة فله حكم. وإذا كان الأجنبي قد حرم عليه أن يسأل الطلاق فهل يحل للزوج أن يجيبه ويأخذ العوض وهذا نظير بيعه إياه على بيع أخيه (1) .
ولو ادعى الزوج أن الصداق تكرر في عقد واحد، وقالت: بل هما عقدان بينهما فرقة. فالقول قولهما، ولهما المهران. هذا قول أبي الخطاب والجد. وينبغي أن يكون القول قوله؛ لأن الأصل عدم الفرقة بينهما. والأصل براءة ذمته مما زاد على المهر الثاني، ولا تستحق إلا نصفه؛ لأن الأصل عدم الدخول، ولم يثبت ببينة ولا إقرار قاله القاضي. وقال أبو محمد: إن أنكر الدخول فالقول قوله، وإن لم ينكره ولم يعترف به فالقول قولها في وجود الدخول. قال أبو العباس: وهكذا يجيء في كل صورة ادعت عليه صداقًا في نكاح فأنكر الزوج وقامت البينة ووقع منه الطلاق هل يحكم عليه بجميع المسمى، أو بنصفه، أو يفرق بين ادعائه المسقط وعدمه؟ على الأوجه.
ومأخذ المسألة أن الصداق إذا ثبت بالعقد وحصلت الفرقة فهل يحكم عليه ما لم يدع عدم الدخول (2) .
والزيادة في المهر هل يفتقر لزومها إلى قبول الزوجة؟ ينبغي أن يكون كابتداء الفرض بعد الفرض. فلو فرض لها أكثر من مهر المثل
__________
(1) اختيارات 233-235 ف 2/ 294.
(2) اختيارات 232، 233 ف 2/ 294.(4/194)
فهل يلزم بمجرد فرضه؟ كلام أحمد «زادها في فرضها» مطلق لم يفصل بين أن تكون قبلتها أم لا (1) .
ولو زوج موليته بدون مهر مثلها ولم يكن أبا لزم الزوج المسمى والتمام على الولي، وهو رواية عن الإمام أحمد كالوكيل في البيع.
ويتحرر لأصحابنا فيما إذا زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أزيد روايات:
إحداهن: أنه على الابن مطلقًا، إلا أن يضمنه الأب فيكون عليهما.
الثانية: انه يضمنه فيكون عليه وحده.
الثالثة: أنه على الأب ضمانًا.
الرابعة: أنه عليه أصالة.
الخامسة: أنه إذا كان الابن مقرًا فهو على الأب أصالة.
السادسة: الفرق بين رضا الابن وعدم رضاه. وضمان الأب المهر والنفقة على الابن قد يكون بلفظ الضمان، وقد يكون بلفظ آخر: مثل أن يقول: الذي لي لابني، أو أنا وابني شيء واحد، وهل يترك والد ولده؟ ونحو ذلك من الألفاظ التي تغريهم حتى يزوجوا ابنه.
وقد يكون بدلالة الكلام، وقد يذكر الأب ما يقتضي أنه قد ملك ابنه مالاً، أو يخبرهم بذلك فيزوجوه على ذلك، مثل أن يقول: أنا أعطيته عشرة آلاف درهم، أو له عشرة آلاف درهم، ونحو ذلك؛ فهنا ينبغي أن يتعلق حقهم بهذا القدر من مال الأب.
__________
(1) اختيارات 232 ف 2/ 294.(4/195)
ونفقة الزوجة قبل بلوغ الزوج أو قبل رضاه ينبغي أن تكون كالمهر.
قال القاضي في «الجامع» : إذا مات الأب الذي عليه مهر ابنه فأخذ من تركته فإنه يرجع به على الابن نص عليه في رواية ابن منصور والبرزالي.
قال القاضي: يحتمل أن يكون أثبت له ذلك بناء على الرواية التي تقول: إن من ضمن عن غيره بغير إذنه يرجع. ويحتمل أن يحمل على الرواية الأخرى، وأنه تطوع بذلك؛ لكن على أن يحصل القبض منه. وعلى هذا حمله أبو حفص.
قال أبو العباس: ولا يتم الجواب إلا بالمأخذين جميعًا. وذلك أن الأب قائم مقام ابنه، فلو ضمنه أجنبي بإذنه صح، فإذا ضمنه هو فأولى أن يكون ضمانًا لازمًا للابن. وإذا كان له أن يثبت المال في ذمته بدون ضمانه فضمانه وقضاؤه أولى.
قال القاضي في «الجامع» : إذا ضمنه الأب لزمه كما لو ضمنه أجنبي.
وإذا أقبضه إياه فهل يملك الرجوع به على الأب؟ على روايتين. أصلهما ضمان الأجنبي عن غيره بغير إذنه.
قال أبو العباس: بل يرجع قولاً واحدًا؛ لأنه قائم مقام ابنه في الإذن لنفسه، كما لو ضمن أجنبي بإذن نفسه.
ولو وفى الإنسان عن غيره دينًا من صداق أو غيره كان للمستوفي أخذه له وفاء عن دينه وبدلاً عنه. وأما الموفى عنه إذا لم يرجع به عليه فهو متبرع عليه.
ثم هل ملكه الموفى عنه ثم انتقل إلى الموفي بحيث يقال: لو انفسخ يثبت الاستحقاق أو بعضه كالطلاق قبل الدخول وفسخ البيع كان(4/196)
للموفى عنه، أو لم يملك فيعود إلى الموفي؟ الراجح أنه لا يجب انتقاله (1) .
ولو قيل في كل موضع تبرعت المرأة بالصداق ثم وقع الطلاق وهو باق بعينه أنه يرجع بالنصف على من هو في يده، وكذلك في جميع الفسوخ لم يبعد، بخلاف ما لو خرج بمعاوضة (2) .
وللمرأة منع نفسها حتى تقبض مهرها. قال الشيخ تقي الدين: الأشبه عندي أن الصغيرة تستحق المطالبة لها بنصف الصداق؛ لأن النصف يستحق بإزاء الحبس وهو حاصل بالعقد، والنصف الآخر بإزاء الدخول فلا يستحق إلا بالتمكين (3) .
والنقد المتقدم محسوب من الصداق وإن لم يكتب في الصداق إذا تواطئوا عليه، ويطالب بنصفه عند الفرقة قبل الدخول لأن الشرط المتقدم كالمقارن إلا أن يفتوا بخلاف ذلك (4) .
مسألة:
وإذا أبرأت المرأة زوجها من صداقها ثم طلقها فهل لها الرجوع إذا كان يمكنها، لكون مثل هذا الإبراء لا يصدر في العادة إلا على أن يمسكها أو خوفًا من أن يطلقها أو يتزوج عليها أو نحو ذلك؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد.
وأما إذا كانت نفسها قد طابت بالإبراء مطلقًا وهو أن يكون ابتداء منها لا بسبب منه ولا عوض فهنا لا ترجع بلا ريب. والله أعلم (5) .
__________
(1) اختيارات ص 236، 237 ف 2/ 294.
(2) اختيارات 231 ف 2/ 295.
(3) إنصاف 8/ 301 ف 2/ 294.
(4) اختيارات 233 ف 2/ 294.
(5) مختصر الفتاوى 462 ف 2/ 294.(4/197)
وإذا ادعى الابن على أبيه بصداق أمه وكسوتها الماضية قبل موتها فعلى الأب أن يوفيه ما يستحقه من ذلك (1) .
ومن أعطى قومًا شيئًا واتفقوا على أن يزوجوه بنتهم فماتت البنت لم يكن له أن يرجع عليهم بشيء مما أعطاهم، وإن كانوا لم يفوا له بما طلبه منهم فله الرجوع (2) .
وقال ابن العباس: وقد كتبت عن الإمام أحمد فيما إذا أهدى لها هدية بعد العقد فإنها ترد ذلك إليه إذا زال العقد الفاسد. فهذا يقتضي أن ما وهبه لها بسبب النكاح فإنه يبطل إذا زال النكاح، وهو خلاف ما ذكره أبو محمد وغيره. وهذا المنصوص جار على أصول المذهب الموافق لأصول الشريعة، وهو أن كل من أهدي له شيء أو وهب له شيء بسبب يثبت بثبوته ويزول بزواله، ويحرم بحرمته ويحل بحله حيث جاز في تولي الهدية مثل من أهدي له للقرض فإنه يثبت له فيه حكم بدل القرض، وكذلك من أهدي له لولاية مشتركة بينه وبين غيره كالإمام وأمير الجيش وساعي الصدقات فإنه يثبت في الهدية حكم ذلك الاشتراك. ولو كانت الهدية قبل العقد وقد وعدوه بالنكاح فزوجوا غيره رجع بها (3) .
وقال الشيخ تقي الدين: ما قبض بسبب النكاح فكمهر.
وقال أيضًا: ما كتب فيه المهر لا يخرج بطلاقها (4) .
وإذا اختلف الزوجان في قدر الصداق فالقول قول الزوج مع يمينه. وقال الشيخ تقي الدين: يتخرج لنا قول كقول مالك إن كان
__________
(1) مختصر الفتاوى 455 ف 2/ 294.
(2) مختصر الفتاوى 433 ف 2/ 294.
(3) اختيارات 232 ف 2/ 294.
(4) إنصاف 8/ 289 ف 2/ 294.(4/198)
الاختلاف قبل الدخول تحالفًا. وإن كان بعده فالقول قول الزوج (1) .
تنبيه: إذا قلنا يتعلق المهر بذمة السيد ضمانًا فقضاه عن عبده فهل يرجع إليه إذا عتق؟ قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ينبغي أن يخرج هنا على الخلاف في مهر زوجته إذا كانت أمة للسيد فحيث رجع هناك رجع هنا (2) .
... ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله إنما صار إلى الواجب خمسا المسمى توقيفًا؛ لأنه نقل عن عثمان. ووجهها الشيخ تقي الدين فقال: المهر في نكاح العبد ويجب بخمسة أشياء: النكاح، وعقد الصداق، وإذن السيد في النكاح، وإذنه في الصداق، والدخول. فإذا نكح بلا إذنه فالنكاح باطل ولم يوجد إلا التسمية من العبد والدخول فيجب الخمسان (3) .
ولو صالحت عن صداقها المسمى بأقل جاز؛ لأنه إسقاط لبعض حقها. ولو صالحته على أكثر من ذلك بطل الفضل؛ لأن في ذلك ربا؛ لأنه زيادة على حقها. وقياس المذهب جوازه لأنه زيادة على المهر بعد العقد وذلك جائز، وصححنا أنه يصح أن يصطلحا على مهر المثل بأقل منه وأكثر مع أنه واجب بالعقد (4) .
ويتقرر المهر بالخلوة وإن منعته الوطء، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب. وقيل له: فإن أخذها وعندها نسوة وقبض عليها ونحو ذلك من غير أن يخلو بها؟ قال: إذا نال منها شيئًا لا يحل لغيره فعليه المهر.
وإن قلنا لا مهر بالخلوة في النكاح الفاسد على قولنا بوجوب
__________
(1) إنصاف 8/ 289 ف 2/ 294.
(2) إنصاف 8/ 255 ف 2/ 294.
(3) إنصاف 8/ 258 ف 2/ 294.
(4) اختيارات 232 ف 2/ 296.(4/199)
العدة فيه والفسخ لاعتبار الزوج بالمهر أو النفقة نظير الفسخ لعنة بالزوج، فيتخرج منه التنصيف على الرواية المنصوصة عنه فيه، فإن لها نصف المهر، لكونها معذورة في الفسخ. ويتخرج ويلزم على قول من قال: إن خروج البضع من ملك الزوج يتقوم (1) .
ولا تقبل دعوى عدم علمه بها، والمنصوص ولو أنه أعمى؛ لأن العادة أنه لا يخفى عليه ذلك، فقد قدم أصحابنا هنا العادة على الأصل، فكذا دعوى إنفاقه؛ فإن العادة هناك أقوى قاله شيخنا (2) .
ولا بد من اعتبار العصر في مهر المثل؛ فإن الزمان إن كان زمان رخص رخص وإن زادت المهور. وإن كان زمن غلاء وخوف نقص. وقد تعتبر عادة البلد والقبيلة في زيادة المهر ونقصه.
وينبغي أيضًا اعتبار الصفات المعتبرة في الكفاءة. فإن كان أبوها موسرًا ثم افتقر أو ذا صنعة جيدة ثم تحول إلى دونها، أو كانت له رئاسة وملك ثم زالت عنه تلك الرئاسة والملك فيجب اعتبار مثل هذا. وكذلك لو كان أهلها لهم عز في أوطانهم ورئاسة فانقلبوا إلى بلد ليس لهم فيه عز ولا رئاسة، فإن المهر يختلف بذلك في العادة.
وإن كانت عادتهم يسمون مهرًا ولكن لا يستوفونه قط مثل عادة أهل الجفاء مثل الأكراد وغيرهم فوجوده كعدمه.
والشرط المتقدم كالمقارن. والإطراد العرفي كالمقتضي.
قال أبو العباس: وقد سئلت عن مسألة من هذا وقيل لي: ما مهر مثل هذه؟ فقلت: ما جرت العادة بأنه يؤخذ من الزوج. فقالوا: إنما يؤخذ المعجل قبل الدخول. فقلت: هو مهر مثلها (3) .
__________
(1) اختيارات 237 ف 2/ 295.
(2) فروع 5/ 272 وإنصاف 8/ 284 ف 2/ 295.
(3) اختيارات 238 ف 2/ 295.(4/200)
وإن اختلفا في قبض المهر فالمتوجه إن كانت العادة الغالبة جارية بحصول القبض في هذه الديون أو الأعيان فالقول قول من يوافق العادة، وهو جار على أصولنا وأصول مالك في تعارض الأصل والعادة، والظاهر أنه يرجح.
وفرق بين دلالة الحال المطلقة العامة وبين دلالة الحال المقيدة المخصوصة.
فأما إن كانت الزوجة وقت العقد فقيرة ثم وجد معها ألف درهم فقال هذا هو الصداق، وقالت أخذته من غيره ولم تعين ولم يحدث لها قبض مثله فهو نظير تعليم السورة المشروطة وفيها وجهان.
ونظيره الإنفاق عليها والكسوة.
وفي هذه المواضع كلها إذا أظهرت جهة القبض الممكن منها كالممكن من الزوج فينبغي أن يكون القول قولها. وإلا فلا (1) .
ومن عرفت أنها زوجة فلان وأنه تزوجها ولم يسم لها صداقًا. فمات. فلها المطالبة بمهر المثل ولو لم يكن لها بينة بمقدار الصداق. وعليها اليمين أنها لم تبرؤه ولم تقبض صداقها (2) .
والأب هو الذي بيده عقدة النكاح، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقاله طائفة من العلماء. وليس في كلام الإمام أحمد أن عفوه صحيح لأن بيده عقدة النكاح، بل لأن له أن يأخذ من مالها ما شاء. وتعليل الإمام أحمد بالأخذ من مالها ما شاء يقتضي جواز العفو بعد الدخول على الصداق كله. وكذلك سائر الديون.
والأشبه في مسألة الزوجة الصغيرة أنه يستحق وليها المطالبة لها
__________
(1) اختيارات 239، 240 ف 2/ 295.
(2) مختصر الفتاوى 606 ف 2/ 295.(4/201)
بنصف الصداق والنصف الآخر لا يطالب به إلا إذا مكنت من نفسها؛ لأن النصف مستحق بإزاء الحبس وهو حاصل بالعقد، والنصف الآخر بإزاء الدخول فلا تستحقه إلا ببذل نفسها (1) .
إذا دخل بها وكان قد سمى لها صداقًا ثم طلقها فلا متعة لها. وعنه لها المتعة، وعنه تجب لكل مطلقة. وعنه تجب للكل إلا لمن دخل بها وسمى لها مهرًا. قال الشيخ تقي الدين عن هذه الرواية الثالثة صوابه إلا من سمي مهرها ولم يدخل بها. قال: وإنما هذا زيغ حصل من قلم صاحب «المحرر» (2) .
وتجب المتعة لكل مطلقة وهو رواية عن الإمام أحمد نقلها حنبل، وهو ظاهر دلالة القرآن. واختار أبو العباس في الاعتصام بالكتاب والسنة أن لكل مطلقة متعة إلا التي لم يدخل بها وقد فرض لها وهو رواية عن الإمام أحمد وقاله عمر.
وإذا أوجبنا المتعة للمدخول بها وكان الطلاق بائنًا أو رجعيًا فينبغي أن تجب لها أيضًا مع نفقة العدة حيث أوجبناها، وتكون نفقته الرجعية مغنية عن متاع آخر بحيث لا يجب لها كسوتان (3) .
وإن مات أحدهما ورثه صاحبه، ولها مهر نسائها. وقيل عنه: لا مهر لها. قال الشيخ تقي الدين: في القلب حزازة من هذه الرواية، والمنصوص عنه في رواية الجماعة أن لها مهر المثل على حديث بروع بنت واشق نص عليه في رواية علي بن سعيد وصالح ومحمد بن الحكم والميموني وابن منصور وحمدان بن علي وحنبل. قال: ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله رواية تخالف السنة وإجماع الصحابة بل الأمة؛ فإن
__________
(1) اختيارات 238 فيه زيادة ف 2/ 295.
(2) إنصاف 8/ 302، 303 ف 2/ 295.
(3) اختيارات 237، 238 ف 2/ 295.(4/202)
القائل قائلان: قائل بوجوب مهر المثل وقائل بسقوطه، فعلمنا أن ناقل ذلك غالط عليه.
والغلط إما في النقل (1) وإما ممن دونه: في السمع، أو في الحفظ، أو في الكتاب؛ إذ من أصل الإمام أحمد الذي لا خلاف عنه فيه أنه لا يجوز الخروج عن أقوال الصحابة ولا يجوز ترك الحديث الصحيح من غير معارض له من جنسه، وكان رحمه الله شديد الإنكار على من يخالف ذلك فكيف يفعله هو -مع أمانته- من غير موافقة لأحد؟ ومع أن هذا القول لا حظ له في الآية، ولا له نظير. هذا مما يعلم قطعًا أنه باطل (2) .
قال أصحابنا وغيرهم: يجب مهر المثل للموطوءة بشبهة.
وينبغي أنه إذا أمكن أن يكون في وطء الشبهة مسمى فيكون هو الواجب؛ فإن الشبهة ثلاثة أقسام: شبهة عقد، وشبهة اعتقاد، وشبهة ملك.
فأما عقد النكاح فلا ريب فيه.
وأما عقد البيع فإنه إذا وطئ الجارية المشتراة شراء فاسدًا فالأشبه ألا مهر ولا أجرة لمنافعها.
وأما شبهة الاعتقاد فإن كان الاشتباه عليه فقط فينبغي ألا يجب لها مهر. وإن كان عليها فقط فإن اعتقدت أنه زوجها فلا يبعد أن يجب لها المهر المسمى.
وأما شبهة الملك: مثل مكاتبته وأمة مكاتبته والأمة المشتركة فإن كان قد اتفق مع مستحق المهر على شيء فينبغي أن لا يجب سواه.
__________
(1) لعله الناقل.
(2) إنصاف 8/ 298 ف 2/ 295.(4/203)
وهذا قياس ضمان الأعيان والمنافع فإنها تضمن بالقيمة، إلا أن يكون المالك قد اتفق مع المتلف على غير ذلك، سواء كان الإتلاف حلالاً أو حرامًا.
وإذا تكرر الوطء في نكاح الشبهة فلا ريب أن الواجب مهر واحد، كما تجب عدة واحدة (1) .
وقوله: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة. وظاهر كلام الشيخ تقي الدين. أنه لا يجب لها مهر، لأنه قال: البضع إنما يتقوم على زوج أو شبهه فيملكه (2) .
«والمكرهة على الزنا» وعنه: يجب للبكر خاصة، وعنه لا يجب مطلقًا، ذكرها واختارها الشيخ تقي الدين، وقال: هو خبيث (3) .
ولا يجب المهر للمكرهة على الزنا. وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة واختيار أبي البركات.
وذكر أبو العباس في موضع آخر عن أبي بكر التفرقة فأوجبه للبكر دون الثيب، ورواه ابن منصور عن الإمام أحمد. لكن الأمة البكر إذا وطئت مكرهة أو بشبهة أو مطاوعة فلا ينبغي أن يختلف في وجوب أرش البكارة، وهو ما نقص من قيمتها بالثيوبة. وقد يكون بعض القيمة أضعاف مهر مثل الأمة.
ومتى خرجت منه زوجته بغير اختياره بإفسادها أو بإفساد غيرها أو بيمينه لا تفعلي شيئًا ففعلته: فله مهرها. وهو رواية عن الإمام أحمد كالمفقود؛ بناء على الصحيح أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم، وهو رواية عن الإمام أحمد.
__________
(1) اختيارات 239، 240 ف 2/ 296.
(2) إنصاف 8/ 306 ف 2/ 296.
(3) إنصاف 8/ 304 ف 2/ 296.(4/204)
والفرقة إن كانت من جهتها فهي كإتلاف البائع. فيخير على المشهور بين مطالبتها بمهر المثل وضمان المسمى لها وبين إسقاط المسمى (1) .
باب وليمة العرس
الوليمة تختص بطعام العرس في مقتضى كلام أحمد في رواية المروذي. وقيل: تطلق على كل طعام لسرور حادث، وقاله القاضي في «الجامع» .
وقيل: تطلق على ذلك إلا أنه في العرس أظهر (2) .
تستحب الوليمة بالعقد ... وقال الشيخ تقي الدين: تستحب بالدخول (3) .
ووقت الوليمة في حديث زينب وصفته تدل على أنه عقب الدخول (4) .
والإجابة إليها واجبة. وقيل: مستحبة، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله (5) .
قال في الترغيب والبلغة: إن علم حضور الأرذال ومَنْ مجالستهم تزري بمثله لم تجب إجابته. قال الشيخ تقي الدين على هذا القول: لم أره لغيره من أصحابنا. قال: وقد أطلق الإمام أحمد رحمه الله الوجوب واشتراط الحل وعدم المنكر. فأما هذا الشرط فلا أصل له، كما أن
__________
(1) اختيارات 240 ف 2/ 296.
(2) اختيارات 240، 241 ف 2/ 296.
(3) إنصاف 8/ 317 ف 2/ 296.
(4) اختيارات 240 ف 2/ 296.
(5) إنصاف 8/ 318 ف 2/ 296.(4/205)
مخالطة هؤلاء في صفوف الصلاة لا تسقط الجماعة، وفي الجنازة لا تسقط حق الحضور، فكذلك ههنا. وهذه شبهة الحجاج بن أرطاة، وهو نوع من التكبر فلا يلتفت إليه. نعم إن كانوا يتكلمون بكلام محرم فقد اشتملت الدعوة على محرم، وإن كان مكروهًا فقد اشتملت على مكروه، وأما إن كانوا فساقًا لكن لا يأتون بمحرم ولا مكروه لهيبته في المجلس فيتوجه أن يحضر إذا لم يكونوا ممن يهجرون مثل المستترين. أما إن كان في المجلس من يهجر ففيه نظر. والأشبه جواز الإجابة لا وجوبها. اهـ (1) .
وقال أبو داود: قيل لأحمد تجيب دعوة الذمي؟ قال: نعم. قال الشيخ تقي الدين: قد يحمل كلامه على الوجوب (2) .
والدعاء إلى الوليمة إذن في الأكل والدخول، قاله في المغني. وقال في المحرر: لا يباح الأكل إلا بصريح إذن أو عرف، وكلام الشيخ عبد القادر يوافقه، وما قالاه مخالف لما عليه عامة الأصحاب (3) .
وأعدل الأقوال إنه إذا حضر الوليمة، وهو صائم إن كان ينكسر قلب الداعي بترك الأكل فالأكل أفضل. وإن لم ينكسر قلبه فإتمام الصوم أفضل.
ولا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في تناول الطعام للمدعو إذا امتنع، فإن كلا الأمرين جائز. ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع، فإن فطره جائز. فإن كان ترك الجائز مستلزما لأمور محذورة ينبغي أن يفعل ذلك الجائز، وربما يصير واجبا (4)
__________
(1) الإنصاف 8/319 ف 2/296.
(2) إنصاف 8/320 ف 2/296.
(3) اختيارات 242 ف 2/296.
(4) اختيارات 240 ف 2/296.(4/206)
والأشبه جواز الأجابة لا وجوبها إذا كان في مجلس الوليمة من يهجره (1) .
والحضور مع الإنكار المزيل على قول عبد القادر هو حرام، وعلى قول القاضي والشيخ أبي محمد هو واجب. والأقيس بكلام الإمام أحمد في التخيير عند المنكر المعلوم غير المحسوس أن يخير بينهما أيضا، وإن كان الترك أشبه بكلامه لزوال المفسدة بالحضور والإنكار؛ لكن لا يجب لما فيه من تكليف الإنكار. ولأن الداعي أسقط حرمته باتخاذه المنكر.
ونظر هذا إذا مر بمتلبس بمعصية هل يسلم عليه، أو يترك التسليم؟
وإن خافا أن يأتوا بالمحرم ولم يغلب على ظنهم أحد الطرفين فقد تعارض الواجب وهو الدعوة والمبيح وهو خوف شهود الخطيئة فينبغي ألا يجب؛ لأن الموجب لم يسلم من المعارض المساوي، ولا يحرم؛ لأن المحرم كذلك؛ فينتفي الوجوب والتحريم وينبغي الجواز.
ونصوص الإمام أحمد كلها تدل على المنع من اللبث في المكان المضر. وقاله القاضي، وهو لازم للشيخ أبي محمد حيث جزم بمنع اللبث في مكان فيه الخمر وآنية الذهب والفضة، ولذلك مأخذان.
أحدهما: أن إقرار ذلك في المنزل منكر فلا يدخل إلى مكان فيه ذلك. وعلى هذا فيجوز الدخول إلى دور أهل الذمة وكنائسهم وإن كانت فيها صور؛ لأنهم يقرون على ذلك فإنهم لا ينهون عن ذلك كما ينهون عن إظهار الخمر. وبهذا يخرج الجواب عما احتج به أبو محمد. ويكون منع الملائكة سببًا لمنع كونها في المنزل.
__________
(1) اختيارات 241 ف 2/297.(4/207)
وعلى هذا فلو كان في الدعوة كلب لا يجوز اقتناؤه لم تدخل الملائكة أيضا بخلاف الجنب، فإن الجنب لا يطول بقاؤه جنبا فإنما تمتنع الملائكة من الدخول إذا كان الجنب هناك زمنا يسيرا.
والثاني أن يكون نفس اللبث محرما أو مكروها. ويستثنى من ذلك أوقات الحاجة، كما في حديث عمر وغيره، تكون العلة ما يكتسبه المنزل من الصورة المحرمة حتى إنه لا يدخل منازل أهل الذمة.
ورجح أبو العباس في موضع آخر عدم الدخول في بيعة فيها صور، وأنها كالمسجد على القبر (1) .
وله دخول بيعة وكنيسة والصلاة فيهما. وعنه يكره. وعنه مع صورة. وظاهر كلام جماعة تحريم دخوله معهما، وقاله شيخنا، وأنه كالمسجد على القبر. وقال: وليست ملكًا لأحد، وليس لهم منع من يعبد الله، لأنا صالحناهم عليه، والعابد بينهم وبين الغافلين أعظم أجرًا.
ويحرم شهود عيد ليهود أو نصارى لقوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} نقله مهنا، وقاله الآمدي، وترجمه الخلال بالكراهة، وفيه تنيبه على المنع أن يفعل كفعلهم قاله شيخنا؛ لا البيع لهم فيها نقله مهنا، وحرمه شيخنا، وخرجه على ما ذكره من روايتين منصوصتين في حمل التجارة إلى دار حرب، وأن مثلها مهاداتهم لعيدهم، وجزم غيره بكراهة التجارة والسفر إلى أرض كفر ونحوه. وقال شيخنا أيضا: لا يمنع منه إذا لم يلزموه بفعل محرم أو ترك واجب وينكر ما يشاهده من المنكر بحسبه قال: ويحرم بيع ما يعملونه كنيسة أو تمثالاً ونحوه. قال: ولك ما فهي تخصيص لعيدهم وتمييز له فلا أعلم خلافا أنه من التشبه والتشبه بالكفار منهي عنه. (ع) قال: ولا ينبغي إجابة هذه
الوليمة. قال: ولما صارت العمامة الصفراء والزرقاء من شعارهم لم يجز
__________
(1) اختيارات 242 ف 2/297.(4/208)
لبسها فكيف بمن يشاركهم في عباداتهم وشرائع دينهم؟ بل ليس لمسلم أن يحضر مواسمهم بشيء مما يخصونها به، وليس لمسلم أن يجيب دعوة مسلم في ذلك، ويحرم الأكل والذبح ولو أنه فعله ولأنه اعتاده وليفرح أهله، ويعزر إن عاد (1) .
وقد نص الإمام أحمد على أن الرجل إذا شهد الجنازة فرأى فيها منكرًا يقدر على إزالته أنه لا يرجع، ونص على أنه إذا دعي إلى وليمة عرس فرأى فيها منكرًا لا يقدر على إزالته أنه يرجع.
فسألت شيخنا عن الفرق، فقال: لأن الحق في الجنازة للميت، فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر. والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة (2) .
قال المروذي: سألت أبا عبد الله عن الجوز ينثر؟ فكرهه. وقال: يعطون أو يقسم عليهم. وقال في رواية إسحاق بن هانئ: لا يعجبني انتهاب الجوز وأن يؤكل منه والسكر كذلك.
قال القاضي: يكره الأكل مما التقطه من النِّثار سواء أخذه هو أو أخذه ممن أخذه. وقول الإمام أحمد: هذه نهبة، يقتضي التحريم، وهو قوي. وأما الرخصة المحضة فتبعد جدًا (3) .
وكسب المغني خبيث باتفاق الأئمة. والمغني خارج عن العدالة (4) .
وذكر الشيخ تقي الدين في الكلام على حديث ابن عمر: «أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع زمارة راع وسد أذنيه» قال: لم يعلم أن الرقيق كان
__________
(1) فروع 5/ 308 فيه زيادات حتى عما في الاختيارات ف 2/ 297.
(2) أعلام الموقعين 4/ 209 ف 2/ 297.
(3) اختيارات 244 ف 2/ 297.
(4) مختصر الفتاوى 606 ف2/ 297.(4/209)
بالغًا فلعله كان صغيرًا دون البلوغ، والصبيان رخص لهم في اللعب ما لم يرخص فيه للبالغ. انتهى كلامه.
وذكر الأصحاب وغيرهم أن سماع المحرم بدون استماعه -وهو قصد السماع- لا يحرم وذكر الشيخ تقي الدين أيضًا وزاد باتفاق المسلمين. قال: وإنما سد النبي - صلى الله عليه وسلم - أذنيه مبالغة في التحفظ، فبين بذلك الامتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع (1) .
آداب الأكل والشرب
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنَ الْخَلاَءِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ. فَقَالُوا: أَلاَ نَأْتِيْكَ بوضُوْء؟ قالَ: إنَّما أمُرْتُ بِالوُضُوْءِ إِذَا قُمْتُ إلى الصَّلاةِ» رواه جماعة منهم الترمذي وحسنه والبيهقي وصححه. وذكر الشيخ تقي الدين أن هذا ينفي وجوب الوضوء عند كل حدث، وأن قوله - صلى الله عليه وسلم - «مَا دَخَلْتُ الجنَّةَ إلاَّ سَمِعْتُ خَشْخَشَتَهُ أَمَامِيْ» الحديث يقتضي استحباب الوضوء عند كل حدث. وقال البيهقي: الحديث في غسل اليدين بعد الطعام حسن، ولم يثبت في غسل اليدين قبل الطعام حديث. قال جماعة من العلماء: المراد بالوضوء في هذه الأحاديث غسل اليدين لا الوضوء الشرعي. وقال الشيخ تقي الدين: ولم نعلم أحدًا استحب الوضوء للأكل إلا إذا كان الرجل جنبًا. انتهى كلامه (2) .
وأكل النساء الأجانب مع الرجل لا يفعل إلا لحاجة: من ضيق المكان، أو قلة الطعام، ومع ذلك فلا تكشف وجهها للأجانب،
ولا يلقمها الأجنبي، ولا تلقمه. ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحمو؟ قال:
__________
(1) الآداب 1/ 206 فيه زيادة ف 2/ 298.
(2) الآداب 3/ 222 ف 2/ 298.(4/210)
«الْحَمُو المَوْتُ» والحمو أخو الزوج ونحوه، دون أبيه فإنه محرم. وفي الحديث: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ دَيُّوْثٌ» ، وهو الذي لا غيرة له، بل إذا رأى في أهله شيئًا لم ينكره (1) .
ويقول عند الأكل: باسم الله. فإن زاد «الرحمن الرحيم» كان حسنًا؛ فإنه أكمل؛ بخلاف الذبح فإنه قد قيل إن ذلك لا يناسب (2) .
وقال ابن أبي موسى: وإذا أكلت أو شربت فواجب عليك أن تقول: باسم الله، وتتناول بيمينك.
قال الشيخ تقي الدين: كلام ابن أبي موسى فيه وجوب التسمية، والتناول باليمين. فينبغي أن يقول: يجب الاستنجاء باليسرى ومس الفرج بها دون اليمنى. ربما لين النهي في كليهما (3) .
قال الشيخ عبد القادر وغيره: يكره الأكل على الطريق. قال: ويستحب أن يبدأ بالملح، ويختم به. قال الشيخ تقي الدين فقد زاد الملح (4) .
هل يستحب تقبيل الخبز كما يفعله بعض الناس؟
كلام الإمام أحمد رحمه الله في مسألة تقبيل المصحف يدل على عدم التقبيل، وهو ظاهر كلام الشيخ تقي الدين؛ فإنه ذكر أنه لا يشرع تقبيل الجمادات إلا ما استثناه الشرع (5) .
ويكره القران في التمر. وقيل: مع الشركاء فيه لا وحده ولا مع أهله ولا مع من أطعمهم ذلك.
__________
(1) مختصر الفتاوى 32 ف 2/ 298.
(2) فروع 5/ 300 واختيارات 245 ف 2/ 298.
(3) الآداب 3/ 168 وتقدم بعضه في الاستنجاء ف 2/ 298.
(4) الآداب 3/ 210 والإنصاف 8/ 332 ف 2/ 299.
(5) الآداب 3/ 231 ف 2/ 299.(4/211)
قال الشيخ تقي الدين: وعلى قياسه قران كل ما العادة جارية بتناوله أفرادًا (1) .
قال ابن الجوزي: ولا يكثر النظر إلى المكان الذي يخرج منه الطعام؛ فإنه دليل منه على الشره. وهذا منه يدل على أنه لا ينبغي فعل ما يدل على الشره، ومنه الأكل الكثير الذي يخرج به عن العادة في ذلك الوقت. ولهذا كان الشيخ تقي الدين رحمه الله إذا دعي أكل ما يكسر نهمته قبل ذهابه (2) .
ويسن أن يصغر اللقم، ويجيد المضغ. قال الشيخ تقي الدين: إلا أن يكون هناك ما هو أهم من إطالة الأكل. وقال أيضًا: هو نظير ما ذكره الإمام أحمد من استحباب تصغير الأرغفة (3) .
وكره شيخنا أكله حتى يتخم، وحرمه أيضًا، وحرم أيضًا الإسراف، وهو مجاوزة الحد (4) .
واختلف كلام أبي العباس في أكل الإنسان حتى يتخم: هل يكره، أو يحرم؟ وجزم أبو العباس في موضع آخر بتحريم الإسراف وفسره بمجاوزة الحد (5) .
وعن سمرة بن جندب أنه قيل له: إن ابنك بات البارحة بشمًا. قال: أما لو مات لم أصل عليه. قال الشيخ تقي الدين: يعني أنه أعان على قتل نفسه، فيكون كقاتل نفسه. وقال في موضع آخر: يكره أن يأكل حتى يتخم ثم ذكره ما سبق عن سمرة (6) .
__________
(1) الآداب 3/ 172 واختيارات 245 والإنصاف 8/ 326 ف 2/ 298.
(2) الآداب 3/ 208 والإنصاف 8/ 333 ف 2/ 298.
(3) الآداب 3/ 176 ف 2/ 298.
(4) فروع 5/ 302 والإنصاف 8/ 330 ف 2/ 298.
(5) اختيارات 243 ف 2/ 298.
(6) إنصاف 8/ 340 ف 2/ 298.(4/212)
ويأكل الإنسان من بيت صديقه وقريبه بغير إذنه إذا لم يحرزه عنه (1) .
قال الشيخ عبد القادر: والشيخ تقي الدين أيضًا: يأكل الضيف على ملك صاحب الطعام على وجه الإباحة، وليس ذلك بتمليك (2) .
وقال غير واحد: يكره غسل اليد بشيء من المطعوم، ولا بأس بالنخالة. قال في المغني: واستدل الخطابي على ذلك بحديث «الملح والملح طعام» ففي معناه ما أشبهه. قال الشيخ تقي الدين: وهذا من أبي محمد يقتضي جواز غسلهما بالمطعوم. وهذا خلاف المشهور (3) .
قال الشيخ تقي الدين: يستدل على كراهة الاغتسال بالأقوات بأن ذلك يفضي إلى خلطها بالأدناس والأنجاس فنهي عنه كما ينهى عن إزالة النجاسة بها، والملح ليست قوتًا وإنما يصلح به القوت. نعم ينهى في الاستنجاء عن قوت الآدميين والبهائم للإنس والجن. هذا لا يستنجي بالنخالة وإن غسل يده بها، فأما إن دعت الحاجة إلى استعمال القوت مثل الدبغ بدقيق الشعير أو التطبب للجرب باللبن والدقيق ونحو ذلك فينبغي أن يرخص فيه، كما رخص في قتل دود القز بالتشميس لأجل الحاجة؛ إذ لا يكون حرمة القوت أعظم من حرمة الحيوان، وبهذا قد يجاب عن الملح أنها استعملت لأجل الحاجة. وعلى هذا فيستدل بهذا الأصل الشرعي على المنع من إهانتها بوضع الإدام فوقها كما ذكره الشيخ عبد القادر. ودليل آخر وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلعق الأصابع والصحفة وأخذ اللقمة الساقطة وإماطة الأذى عنها كل ذلك يضيع شيء من القوت. والتدلك به إضاعة له لقيام غيره مقامه، وهو من أنواع التبذير الذي هو من فعل الشيطان.
__________
(1) إنصاف 8/ 388 واختيارات 245 ف 2/ 298.
(2) إنصاف 8/ 340 ف 2/ 298.
(3) الآداب 3/ 196 ف 2/ 298.(4/213)
وسئلت عن مثل هذه: وهو غسل الأيدي بالمسك؟ فقلت: إنه إسراف؛ بخلاف تتبع الدم بالقرصة الممسكة فإنه يسير لحاجة، وهذا كثير لغير حاجة. فاستعمال الطيب في غير التطيب وغير حاجة كاستعمال القوت في غير التقوت وغير حاجة. وحديث البقرة أنها لم تخلق لهذا يستأنس به في مثل هذا.
ويستدل على ما فعله أحمد من مسح اليد عند كل لقمة بأن وضع اليد في الطعام يخلط أجزاء من الريق في الطعام فهو في معنى ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التنفس في الإناء؛ لكن يسوغ فيه لمشقة المسح عند كل لقمة، فمن يحشم المسح فذلك حسن منه. انتهى كلامه (1) .
قال في «اقتضاء الصراط المستقيم» قال أصحاب أحمد وغيرهم منهم أبو الحسن الآمدي وأظنه نقله أيضًا عن عبد الله بن حامد: ولا يكره غسل اليدين في الإناء الذي أكل فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. وقد نص احمد على ذلك قال: ولم يزل العلماء يفعلون ذلك ونحن نفعله وإنما ينكره العامة. وغسل اليدين بعد الطعام مسنون رواية واحدة. وإذا قدم ما يغسل فيه اليد فلا يرفع حتى يغسل الجماعة أيديهم، لأن الرفع من زي الأعاجم (2) .
وعن أنس رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلاَئِكَةُ» . وكلامه في الترغيب يقتضي أنه جعل هذا الكلام دعاء واستحب الدعاء به لكل من أكل طعامه. وعلى قول الشيخ عبد القادر إنما يقال هذا إذا أفطر عنده فيكون خبرًا. قال الشيخ تقي الدين: وهو الأظهر. انتهى كلامه (3) .
__________
(1) الآداب 3/ 211، ف 2/ 299.
(2) الآداب 3/ 223، ف 2/ 299.
(3) الآداب 3/ 223، ف 2/ 299.(4/214)
باب العشرة
وكلام القاضي في التعليق يقتضي أن التمكين من القبلة ليس بواجب على الزوجة.
قال أبو العباس: وما أراه صحيحًا؛ بل تجبر على تمكينه من جميع أنواع الاستمتاع المباحة (1) .
قال ابن القيم رحمه الله: وقد اختلف الفقهاء: هل يجب على الزوج مجامعة امرأته؟
فقالت طائفة: لا يجب عليه ذلك. إلى أن قال:
وقال طائفة: يجب عليه وطؤها في العمر مرة واحدة ليستقر لها بذلك الصداق.
وقال طائفة ثالثة: بل يجب عليه أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها ويكسوها ويعاشرها بالمعروف؛ بل هذا عمدة المعاشرة ومقصودها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرها بالمعروف، فالوطء داخل في هذه المعاشرة ولا بد.
قالوا: وعليه أن يشبعها وطأ إذا أمكنه ذلك، كما عليه أن يشبعها قوتًا.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرجح هذا القول ويختاره (2) .
ويجب على الزوج وطء امرأته بقدر كفايتها ما لم ينهك بدنه أو يشغله عن معيشته من غير مقدر (3) بأربعة أشهر كالأمة. فإن تنازعا فينبغي أن يفرضه الحاكم كالنفقة، وكوطئه إذا زاد (4) .
__________
(1) إنصاف 8/ 362 ف 2/ 299.
(2) روضة المحبين ص 215 هذا أبسط مما في المجموع ف 2/ 299.
(3) وفي الإنصاف من غير تقدير بمدة.
(4) اختيارات 246 فيه زيادة ف 2/ 299، 300.(4/215)
وإذا احتاجت أمته إلى النكاح فإما أن يطأها أو يزوجها (1) .
ويتخرج من نص الإمام احمد أنه يجوز أن يتزوج الأمة لحاجته إلى الخدمة؛ لا إلى الاستمتاع (2) .
ولو شرط الزوج أن يتسلم الزوجة وهي صغيرة ليحصنها فقياس المذهب على إحدى الروايتين اللتين خرجهما أبو بكر أنها إذا استثنت بعض منفعتها المستحقة عليها بمطلق العقد أو اشترطت عليه زيادة على ما تستحقه بمطلق العقد أنه يصح هذا الشرط، كما لو اشترط في الأمة أن تكون نهارًا عند السيد وقلنا إن ذلك موجب العقد المطلق أو لم نقل فأحد الوجهين أن هذا الشرط للسيد لا عليه، كاشتراط دارها، وهو شرط له وعليه، ولو خرج هذا على اشتراط دارها وهو انه إذا اشترطت دارها لم يكن عليه أجرة تلك الدار لكان متوجهًا.
وإذا كان موجب العقد من التقابض مرده إلى العرف فليس العرف أن المرأة تسلم إليه صغيرة، ولا يستحق ذلك لعدم التمكن من الانتفاع، ولا تجب عليه النفقة، فإنه إذا لم يكن عليه حق في بدنها لعدم تمكنه فلا نفقة لها، إذ النفقة تتبع الحق البدني (3) .
ويحرم وطء الحائض. وإذا تكرر من الزوج الوطء في الفرج لم ينزجر فرق بينهما كما قلنا إذا وطئها في الدبر ولم ينزجر (4) .
ولو تطاوع الزوجان على الوطء في الدبر فرق بينهما. وقاله أصحابنا. وعلى قياسه المطاوعة على الوطء في الحيض (5) .
__________
(1) مختصر الفتاوى 427 ف 2/ 299.
(2) اختيارات ص 246 ف 299.
(3) اختيارات 245 ف 2/ 299.
(4) اختيارات ص27 ف 2/ 299.
(5) اختيارات 246 فيه زيادة ف 2/ 300.(4/216)
فصل
المبيت، والقسم
قال أصحابنا: لا يجوز أن تأخذ الزوجة عوضًا عن حقها من المبيت. وكذا الوطء. ووقع في كلام القاضي ما يقتضي جوازه.
قال أبو العباس: وقياس المذهب عندي جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره؛ لأنه إذا جاز للزوج أن يأخذ العوض عن حقه منها جاز لها أن تأخذ العوض عن حقها منه؛ لأن كلاً منهما منفعة بدنية. وقد نص الإمام أحمد في غير موضع أنه يجوز أن تبذل المرأة العوض ليصير أمرها بيدها. ولأنها تستحق حبس الزوج كما يستحق الزوج حبسها، وهو نوع من الرق فيجوز أخذ العوض عنه.
وقد تشبه هذه المسألة الصلح عن الشفعة وحد القذف (1) .
ويتوجه أن لا يتقدر قسم الابتداء الواجب، كما لا يتقدر الوطء؛ بل يكون بحسب الحاجة. فإنه قد يقال: جواز التزوج بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة يكون لها حال الانفراد ما لها حال الاجتماع. وعلى هذا فتحمل قصة كعب بن سوار على أنه تقدير شخص لا يراعي، كما لو فرض النفقة.
وقول أصحابنا: يجب على الرجل المبيت عند امرأته ليلة من أربع. فهذا المبيت يتضمن شيئين. أحدهما: المجامعة في المنزل. والثانية في المضجع وقوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} [34/4] مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تهجر إلا في المضجع» دليل على وجوب المبيت
في المضجع، ودليل على أنه لا يهجر المنزل. ونص أحمد في الذي يصوم النهار ويقوم الليل يدل على وجوب المبيت في المضجع، وكذا ما
__________
(1) اختيارات 246 ف 2/ 300.(4/217)
ذكروه في النشوز إذا نشزت هجرها في المضجع. دليل على أنه لا يفعله بدون ذلك.
وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتضي للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد ولو مع قدرته وعجزه كالنفقة وأولى. للفسخ بتعذره في الإيلاء إجماعًا.
وعلى هذا فالقول في امرأة الأسير والمحبوس ونحوهما ممن تعذر انتفاع امرأته به إذا طلبت فرقته كالقول في امرأة المفقود بالإجماع كما قاله أبو محمد المقدسي.
قال أصحابنا: ويجب على الزوج أن يبيت عند زوجته الحرة ليلة من أربع وعند الأمة ليلة من سبع أو ثمان على اختلاف الوجهين.
ويتوجه على قولهم: إنه يجب للأمة ليلة من أربع؛ لأن التنصيف إنما هو في قسم الابتداء، فلا يملك الزوج بأكثر من أربع. وذلك أنه إذا تزوج بأربع إماء فهن في غاية عدده. فتكون الأمة كالحرة في قسم الابتداء. وأما في قسم التسوية فيختلفان إذا جوزنا للحر أن يجمع بين ثلاث حرائر وأمة في رواية.
وأما على الرواية الأخرى فلا يتصور ذلك.
وأما العبد فقياس قولهم أنه يقسم للحرة ليلة من ليلتين، وللأمة ليلة من ثلاث أو أربع، ولا يتصور أن يجمع عنده أربعًا على قولنا وقول الجمهور. وعلى قول مالك يتصور.
قال أصحابنا: ويجب وطء المعيبة كالبرصاء والجذماء إذا لم يجز الفسخ، وكذلك يجب عليها تمكين الأبرس والأجذم. والقياس وجوب ذلك. وفيه نظر؛ إذ من الممكن أن يقال عليها وعليه في ذلك ضرر؛ لكن إذا لم تمكنه فلا نفقة لها. وإذا لم يستمتع بها فلها الفسخ، ويكون المثبت للفسخ هنا عدم وطئه، فهذا يعود إلى وجوبه.(4/218)
وينفق على المجنون المأمون وليه. والأشبه أنه من يملك الولاية على بدنه؛ لأنه يملك الحضانة. فالذي يملك تعليمه وتأديبه الأب ثم الوصي.
قال أصحابنا: ويأثم إن طلق إحدى زوجتيه وقت قسمها. وتعليلهم يقتضي أنه إذا طلقها قبل مجيء نوبتها كان له ذلك. ويتوجه أن له الطلاق مطلقًا؛ لأن القسم إنما يجب ما دامت زوجة كالنفقة. وليس هو شيء مستقر في الذمة قبل مضي وقته حتى يقال هو دين. نعم: لو لم يقسم لها حتى خرجت الليلة التي لها وجب عليها القضاء، فلو طلقها قبله كان عاصيًا. ولو أراد أن يقضيها عن ليلة من ليالي الشتاء ليلة من ليالي الصيف كان لها الامتناع لأجل تفاوت ما بين الزمانين (1) .
وقال شيخنا: خرج ابن عقيل قولاً: لها الفسخ بالغيبة المضرة بها ولو لم يكن مفقودًا، كما لو كوتب فلم يحضر بلا عذر. وفي المغني: في امرأة من علم خبره كأسير ومحبوس لها الفسخ بتعذر النفقة من ماله وإلا فلا إجماعًا. قال شيخنا: لا إجماع. وإن تعذر الوطء لعجز كالنفقة وأولى. للفسخ بتعذره (ع) في الإيلاء، وقاله أبو يعلى الصغير. وقال أيضًا: حكمه كعنين (2) .
وللزوج منع الزوجة من الخروج من منزله. فإذا نهاها لم تخرج لعيادة مريض محرم لها أو شهود جنازته. فأما عند الإطلاق فهل لها أن تخرج لذلك إذا لم يأذن ولم يمنع كعمل الصناعة. أو لا تفعل إلا بإذن كالصيام؟ تردد فيه أبو العباس (3) .
__________
(1) اختيارات 247، 248 ف 2/ 300، 301.
(2) فروع 5/ 322 فيه زيادة عما في الاختيارات ف 2/ 300، 301.
(3) اختيارات 246 ف 2/ 300.(4/219)
وكلام الإمام أحمد يدل على أنه ينهى عن الإذن للذمية بالخروج إلى الكنيسة والبيعة؛ بخلاف الإذن للمسلمة إلى المسجد، فإنه مأمور بذلك. وكذا قال في المغني: إن كانت زوجته ذمية فله منعها من الخروج إلى الكنيسة وإن كانت مسلمة فقال القاضي: له منعها من الخروج إلى المسجد، وظاهر الحديث يمنعه من منعها (1) .
قال شيخنا فيمن حبسته بحقها: إن خاف خروجها بلا إذنه أسكنها حيث لا يمكنها، فإن لم يكن له ما يحفظها غير نفسه حبست معه. فإن عجز عن حفظها أو خيف حدوث شر أسكنت في رباط ونحوه. ومتى كان خروجها مظنة للفاحشة صار حقًا لله تعالى يجب على ولي الأمر رعايته (2) .
ولو سافر بإحداهن بغير قرعة. قال أصحابنا: يأثم ويقضي. والأقوى: أنه لا يقضي، وهو قول الحنفية والمالكية (3) .
وعليه أن يسوي بين نسائه في القسم. وقال الشيخ تقي الدين: يجب عليه التسوية فيهما أيضًا (النفقة والكسوة) وقال: كما علل القاضي عدم الوجوب بقوله: لأن حقهن في النفقة والكسوة والقسم وقد سوى بينهما وما زاد على ذلك فهو تطوع فله أن يفعله إلى من شاء. قال: موجب هذه العلة أن له أن يقسم للواحدة ليلة من أربع لأنه الواجب ويبيت الباقي عند الأخرى. اهـ (4) .
وذكر القاضي أنه إذا وفى الثانية من حقها ونصفها من حق الأخرى فيثبت للجديدة في مقابلة ذلك نصف ليلة بإزاء ما حصل لكل واحدة من
__________
(1) اختيارات 246 ف 2/ 300.
(2) فروع 5/ 328 وتقدم ف 2/ 300.
(3) اختيارات 249 وبعضه في الإنصاف 8/ 371 ف 2/ 301.
(4) الإنصاف 8/ 364 ف 2/ 301.(4/220)
ضرتيها ... قال في الفروع بعد أن قدم قول القاضي: واختار الشيخ تقي الدين لا يبيت نصفها بل ليلة كاملة لأنه حرج (1) .
وقال الشيخ تقي الدين: يجب عليها المعروف من مثلها لمثله، وخرج الشيخ تقي الدين الوجوب من نصه على نكاح الأمة للخدمة (2) .
فصل: النشوز
وقال ثعلب: العرب تقول: صبرك على أذى من تعرفه خير لك من استحداث من لا تعرفه. وكان شيخنا يقول هذا المعنى (3) .
وتهجر المرأة زوجها في المضجع لحق الله، بدليل قصة الذين خلفوا في غزوة تبوك. وينبغي أن تملك النفقة في هذه الحال؛ لأن المنع منه، كما لو امتنع من أداء الصداق (4) .
وإذا ادعت الزوجة أو وليها أن الزوج يظلمها، وكان الحاكم وليها، وخاف ذلك نصب الحاكم مشرفًا. وقال القاضي: متى ظهر للحاكم أنه يظلمها نصب مشرفًا. وفيه نظر.
ومسألة نصب المشرف لم يذكرها الخرقي والقدماء. ومقتضى كلامه إذا وقعت العداوة وخيف الشقاق بعث الحكمان من غير احتياج إلى مشرف.
قال أصحابنا: ويجوز أن يكون الحكمان أجنبيين، ويستحب أن يكونا من أهلهما. ووجوب كونهما من أهلهما هو مقتضى قول الخرقي،
__________
(1) إنصاف 8/ 364 ف 2/ 300.
(2) الإنصاف 8/ 362 ف 2/ 301.
(3) فروع 5/ 329 ف 2/ 301.
(4) اختيارات 246 ف 2/ 302.(4/221)
فإنه اشترطه كما اشترط الأمانة. وهذا أصح؛ فإنه نص القرآن، ولأن الأقارب أخبر بالعلل الباطنة وأقرب إلى الأمانة والنظر في المصلحة.
وأيضًا فإنه نظر في الجمع والتفريق، وهو أولى من ولاية عقد النكاح، لا سيما إن جعلناهما حاكمين كما هو الصواب، ونص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما، وهو مذهب مالك.
وهل للحكمين -إذا قلنا هما حكمان لا وكيلان- أن يطلقا ثلاثًا، أو يفسخا كما في المولي؟ أقوال هناك. لما قام الوكيل مقام الزوج في الطلاق ملك ما يملكه من واحدة وثلاث فيتوجه هنا كذلك إذا قلنا هما حاكمان. وإن قلنا وكيلان لم يملكا إلا ما وكلا فيه. وأما الفسخ هنا فلا يتوجه؛ لأن الحكم ليس حاكمًا أصليًا (1) .
باب الخلع
والتحقيق أنه يصح ممن يصح طلاقه بالملك أو الوكالة أو الولاية كالحاكم في الشقاق. وكذا لو فعله الحاكم في الإيلاء أو العنة أو الإعسار أو غيرها من المواضع التي يملك الحاكم فيها الفرقة. ولأن العبد والسفيه يصح طلاقهما بلا عوض فبالعوض أولى.
لكن قد يقال في قبولهما للوصية والهبة بلا إذن الولي وجهان. فإن لم يكن بينهما فرق صحيح فلا يخرج الخلاف (2) .
والذي يقتضيه القياس أنهما إذا أطلقا الخلع صح بالصداق، كما لو أطلقا النكاح ثبت صداق المثل، فكذا الخلع وأولى.
وقال أبو العباس في موضع آخر: هل للزوج إبانة امرأته بلا
__________
(1) اختيارات 249، 250 ف 2/ 302.
(2) اختيارات 302 ف 2/ 302.(4/222)
عوض؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ليس له أن يبينها إلا بعوض، وإن كان طلاق وقع بعد الدخول بلا عوض فرجعي. وهذا مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد.
والقول الثاني: له إبانتها بغير عوض مطلقًا باختيارها وغير اختيارها. وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد.
والقول الثالث: له إبانتها بغير عوض في بعض المواضع دون بعض؛ فإذا اختارت الإبانة بغير عوض فله أن يبينها.
ويصح الخلع بغير عوض، وتقع به البينونة إما طلاقًا وإما فسخًا على إحدى القولين.
وهذا مذهب مالك المشهور عنه في رواية ابن القاسم، وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، اختارها الخرقي.
وهذا القول له مأخذان. أحدهما: أن الرجعة حق للزوجين، فإذا تراضيا على إسقاطها سقطت. والثاني: أن ذلك فرقة بعوض؛ لأنها رضيت بترك النفقة والسكن ورضي هو بترك استرجاعها. وكما أن له أن يجعل العوض إسقاط ما كان ثابتًا لها من الحقوق كالدين فله أن يجعله إسقاط ما ثبت لها بالطلاق، كما لو خالفها على نفقة الولد. وهذا قول قوي وهو داخل في النفقة من غيره (1) .
ولا يصح الخلع إلا بعوض في إحدى الروايتين، والأخرى يصح بغير عوض، وجعله الشيخ تقي الدين كعقد البيع حتى في الإقالة، وأنه لا يجوز إن كان فسخًا بلا عوض إجماعًا (2) .
وإن خالعها بمحرم كالخمر.. فهو كالخلع بغير عوض. وعند
__________
(1) اختيارات 252، 253 ف 2/ 302.
(2) إنصاف 8/ 395 ف 2/ 302.(4/223)
الشيخ تقي الدين يرجع إلى المهر كالنكاح (1) .
واختلف كلام الشيخ تقي الدين في وجوب الإجابة إليه. وألزم به بعض حكام الشام المقادسة الفضلاء (2) .
اختلف كلام أبي العباس في وجوب الخلع لسوء العشرة بين الزوجين. وإن كانت مبغضة له لخلقه أو لغير ذلك من صفاته وهو يحبها فكراهة الخلع في حقه تتوجه (3) .
قال الشيخ تقي الدين: عبارة الخرقي ومن تابعه أجود من عبارة صاحب المحرر ومن تابعه فإن صاحب المحرر وغيره قال: الخلع لسوء العشرة بين الزوجين جائز. فإن قولهم: لسوء العشرة بين الزوجين فيه نظر؛ فإن النشوز قد يكون من الرجل فتحتاج هي أن تقابله. اهـ (4) .
ولو عضلها لتفتدي نفسها منه ولم تكن تزني حرمت عليه. قال ابن عقيل: العوض مردود والمرأة بائن.
قال أبو العباس: وله وجه حسن، ووجه قوي إذا قلنا الخلع يصح بلا عوض؛ فإنه بمنزلة من خالع على مال مغصوب أو خنزير ونحوه. وتخريج الروايتين هنا قوي جدًا (5) .
واعتبر الشيخ تقي الدين خوف قادر على القيام بالواجب أن لا يقيما حدود الله فلا يجوز انفرادها به.
للمختلعة مع زوجها أحد عشر حالاً.
__________
(1) إنصاف 8/ 398 ف 2/ 302.
(2) إنصاف 8/ 381 ف 2/ 302.
(3) اختيارات 250 ف 2/ 302.
(4) إنصاف 8/ 382 ف 2/ 302.
(5) اختيارات 250 فيه زيادة.(4/224)
الأول: أن تكون كارهة له مبغضة لخلقه وخلقه أو لغير ذلك من صفاته وتخشى ألا تقوم حدود الله في حقوقه الواجبة عليها، فالخلع في هذه الحال مباح أو مستحب.
الثالثة: كالأولى ولكن للرجل ميل إليها ومحبة، فهذه أدخلها القاضي في المباح كما تقدم، وقال الشيخ تقي الدين: وكراهة الخلع في حق هذه متوجهة.
السادس: أن يظلمها أو يعضلها لتفتدي فتفدي فأكثر الأصحاب على صحة الخلع. وقال الشيخ تقي الدين: لا يحل له ولا يجوز. التاسع: أن يضربها ويؤذيها لتركها فرضًا أو لنشوز فتخالعه كذلك. فقال في الكافي: يجوز. قال الشيخ تقي الدين: تعليل القاضي وأبي محمد -يعني المصنف- يقتضي أنها لو نشزت عليه جاز له أن يضربها لتفتدي نفسها منه. وهذا صحيح (1) .
فصل
وخلع الحبلى لا يصح على الأصح، كما لا يصح نكاح المحلل؛ لأنه ليس المقصود به الفرقة وإنما يقصد به بقاء المرأة تبع زوجها، كما يقصد بنكاح المحلل أن يطلقها لتعود إلى الأول، والعقد لا يقصد به نقض مقصوده، وإذا لم تبن به الزوجة (2) .
قال القاضي في الخلع: ولو طلقها فشرعت في العدة ثم بذلت له مالاً ليزيل عنها الرجعة لم تزل. ذكره القاضي بما يقتضي أنه محل وفاق. وفيه نظر.
__________
(1) الإنصاف 8/ 383 ف 2/ 302.
(2) اختيارات 251 ف 2/ 302.(4/225)
وإذا خالعته على ما يعتقدان وجوبه باجتهاد أو تقليد مثل أن يخالعها على قيمة كلب أتلفته معتقدين وجوب القيمة فينبغي أن يصح.
ولو تزوجها على قيمة كلب له في ذمتها فينبغي أن تصح التسمية؛ لأن وجوب هذا نوع غرر، والخلع يصح على الغرر، بخلاف الصداق.
نقل مهنا عن الإمام أحمد في رجل خلع امرأته على ألف درهم لها على أبيه أنه جائز، فإن لم يعطه أبوه شيئًا رجع على المرأة، وترجع المراة على الأب. وكلام الإمام أحمد صحيح على ظاهره، وهو خلع على الدين، والدين من الغرر، فهو بمنزلة الخلع على البيع قبل القبض، فلما لم يحصل العوض بعينه رجع في بدله، كما قلنا فيمن اشترى مغصوبًا يقدر على تخليصه فلم يقدر.
ولو خالعته على مال في ذمتها ثم أحالته به على أبيه لكان تأويل القاضي متوجهًا. وهو أن القاضي تأول المسألة على أنها حوالة، وأن الزوج لما قبل الحوالة لم يحصل من الأب اعتراف بالدين فلهذا ملك الرجوع عليها بمال الخلع، وكان لها مخاصمة الأب فيما تدعيه. فأما إن كان قد حصل من جهته اعتراف بالدين ثم جحد بعد ذلك لم يكن للزوج الرجوع عليها؛ لأن الحق قد انتقل، وجحوده لا يثبت له الرجوع (1) .
نقل الجراحي في حاشيته على الفروع أن ابن أبي المجد يوسف نقل عن الشيخ تقي الدين أنه قال: تصح الإقالة في الخلع، وفي عوضه كالبيع وثمنه؛ لانهماكهما في غالب أحكامهما من عدم تعليقهما واشتراط العوض والمجلس ونحو ذلك (2) .
__________
(1) اختيارات 253، 254 ف 2/ 302.
(2) إنصاف 8/ 395 ف 2، وانظر حاشية الفروع جـ 4/ 124.(4/226)
فصل
ومن قال: إن أبرأتيني طلقتك. فقالت: أبرأتك، فلم يطلقها لم يصح الإبراء؛ فإن هذا إيجاب وقبول لما تقدم من الشروط، ودلالة الحال تدل على أن التقدير أبرأتك إن طلقتني، فالشرط المتقدم على العقد كالمقارن (1) .
وإذا قال لزوجته: إن أبرأتيني من نفقة الأولاد وأخذت الأولاد بالكفالة ونحو ذلك من العبارات فأنت طالق، فالتزمت بما قال من الإنفاق فإنه يقع به الطلاق. فإن امتنعت ألزمت بذلك، كما تلزم بغيره من الحقوق (2) .
إذا قال: إن أعطيتيني أو إذا ... كان على التراضي أي وقت أعطته طلقت. وقال الشيخ تقي الدين: ليس لازمًا من جهته كالكتابة عنده. ووافق على شرط محض كقوله: إن قدم زيد فأنت طالق. وقال في التعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء إن كان معاوضة فهو معاوضة، ثم إن كانت لازمة فلازم وإلا فلا. فلا يلزم الخلع قبل القبول ولا الكتابة. وقال: قول من قال: التعليق لازم دعوى مجردة. اهـ (3) .
وفي الترغيب وجهان في: إن أقبضتيني فأحضرته ولم يقبضه. فلو قبضه فهل يملكه فيقع الطلاق بائنًا أم لا يملكه فيقع رجعيًا؟ فيه احتمالات. وقيل: يكفي عدد متفق برأسه بلا وزن فلا يكون وازنة ناقصة عددًا ... واختيار الشيخ تقي الدين في الزكاة يقويه (4) .
قال الشيخ تقي الدين: وقولها إن طلقتني فلك كذا وأنت برئ
__________
(1) مختصر الفتاوى 442 ف 2/ 394.
(2) مختصر الفتاوى 549، فيه زيادة ف 2/ 304.
(3) إنصاف 8/ 410 ف 2/ 305.
(4) إنصاف 8/ 410 ف 2/ 305.(4/227)
منه كإن طلقتني فلك علي ألف وأولى. وليس فيه النزاع في تعليق البراءة بشرط. أما لو التزمت دينًا لا على وجه المعاوضة كإن تزوجت فلك في ذمتي ألف أو جعلت لك في ذمتي ألفًا لم يلزمه عند الجمهور (1) .
وقول المصنف وابن منجا عن القاضي: أنه قال: لا تطلق في قوله عليَّ ألف حتى تختار. قال الشيخ تقي الدين مع أن «عليّ» للشرط اتفاقًا (2) .
وهل للأب خلع زوجة ابنه الصغيرة؟ على روايتين: إحداهما: ليس له ذلك.. والثانية: له ذلك وذكر الشيخ تقي الدين أنها ظاهر المذهب (3) .
وإن علق طلاقها بصفة ثم خالعها أو أبانها بالثلاث فوجدت الصفة ثم عاد فتزوجها فوجدت الصفة طلقت. ويتخرج ألا تطلق على الرواية في العتق.. وجزم في الروضة بالتسوية بين العتق والطلاق. وقال أبو الخطاب وتبعه في الترغيب: الطلاق أولى من العتق، وحكاه ابن الجوزي رواية والشيخ تقي الدين، وحكاه أيضًا قولاً.
وإن لم توجد الصفة حال البينونة عادت رواية. هكذا قال الجمهور. وذكر الشيخ تقي الدين رواية أن الصفة لا تعود مطلقًا، يعني سواء وجدت حال البينونة أو لا (4) .
__________
(1) إنصاف 8/ 412 ف 2/ 305.
(2) إنصاف 8/ 419 ف 2/ 305.
(3) إنصاف 8/ 387 فيه زيادة ف 2/ 305.
(4) إنصاف 8/ 423، 424 ف 2/ 305.(4/228)
المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
قدَّسَ الله رُوحَه
المجلد الخامس
الطلاق- علوم
جمعه ورتبه
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم(5/4)
كتاب الطلاق
ويصح الطلاق من الزوج، وعن الإمام أحمد رواية: ومن والد الصبي والمجنون وسيدهما، والذي يجب أن يسوى في هذا الباب بين العقد والفسخ.. فكل من ملك العقد عليه ملك الفسخ عليه؛ فإن هذا قياس هذه الرواية، وهو موجب شهادة الأصول، ويندرج في هذا الوصي المزوج والأولياء إذا زوجوا المجنون، فإذا جوزنا للولي في إحدى الروايتين استيفاء القصاص وجوزنا له الكتابة والعتق لمصلحة وجوزنا له المقايلة في البيع وفسخه لمصلحة فقد أقمناه مقام نفسه، وكذلك الحاكم الذي له التزويج.. وهذا فيمن يملك جنس النكاح (1) .
ويجب على الزوج أمر زوجته بالصلاة، فإن لم تصل وجب عليه فراقها في الصحيح.
وقال أبو العباس في موضع آخر: إذا دعيت إلى الصلاة وامتنعت انفسخ نكاحها في أحد قولي العلماء، ولا ينفسخ في الآخر، إذ ليس كل من وجب عليه فراقها ينفسخ نكاحها بلا فعله، فإن كان عاجزا عن طلاقها لثقل مهرها كان مسيئا بتزوجه بمن لا تصلي، وعلى هذا الوجه فيتوب إلى الله تعالى من ذلك، وينوي أنه إذا قدر على أكثر من ذلك فعله (2) .
__________
(1) اختيارات (254) فيها زيادات ف (2/ 603) .
(2) اختيارات (254، 255) فيها زيادة، ف (2/ 306) .(5/5)
وقال له رجل: لي جارية وأمي تسألني أن أبيعها قال: تتخوف أن تتبعها نفسك قال: نعم، قال لا تبعها، قال: إنها تقول: لا أرضى عنك أو تبيعها قال: إن خفت على نفسك فليس لها ذلك، قال الشيخ تقي الدين: لأنه إذا خاف على نفسه يبقى إمساكها واجبًا، أو لأن عليه في ذلك ضررًا، وقال أيضًا: قيده أمره ببيع السرية إذا خاف على نفسه، لأن بيع السرية ليس بمكروه ولا ضرر عليه فيه فإنه يأخذ الثمن، بخلاف الطلاق فإنه مضر في الدين والدنيا، وأيضا فإنها متهمة في الطلاق ما لا تتهم في بيع السرية (1) .
«لا طلاق ولا عتاق ولا إغلاق» ، قال شيخنا: وحقيقة الإغلاق أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته.
قال: والغضب على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
الثاني: ما يكون في مبادئه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه بلا نزاع.
الثالث: أن يستحكم ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر (2) .
وفي إعلام الموقعين: وقسم يشتد بصاحبه ولا يبلغ به زوال عقله؛ بل يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله، فهذا محل اجتهاد (3) .
__________
(1) الآداب (1/ 504) ، ف (2/ 306) .
(2) زاد المعاد (4/ 42) ، ف (2/ 306) .
(3) إعلام الموقعين (4/ 50) نقلا عن شيخه، ف (2/ 306) .(5/6)
ويدخل في كلامهم من غضب حتى أغمي عليه أو غشي عليه، قال شيخنا، بلا ريب ذكر أنه طلق أولا (1) .
وقال الشيخ تقي الدين أيضًا: إن غيره الغضب ولم يزل عقله لم يقع الطلاق، لأنه ألجأه وحمله عليه فأوقعه وهو يكرهه ليستريح منه فلم يبق له قصد صحيح فهو كالمكره، ولهذا لا يجاب دعاؤه على نفسه وماله ولا يلزمه نذر الطاعة فيه (2) .
ولا يقع طلاق السكران ولو بسكر محرم، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو بكر.
ونقل الميموني عن أحمد: الرجوع عما سواها، فقال: كنت أقول يقع طلاق السكران حتى تبينت فغلب عليَّ أنه لا يقع (3) .
وقصد إزالة العقل بلا سبب شرعي محرم (4) .
ولو ادعى الزوج أنه كان حين الطلاق زائل العقل لمرض أو غشي، قال أبو العباس: أفتيت أنه إذا كان هناك سبب يمكن معه صدقه فالقول قوله مع يمينه (5) .
ومن شرب ما يزيل عقله لغير حاجة ففي صحة طلاقه روايتان واختار الشيخ تقي الدين أنه كالسكران (6) .
وقال الشيخ تقي الدين: وزعم طائفة من أصحاب مالك والشافعي
__________
(1) الفروع (5/ 364) ، ف (2/ 306) .
(2) إنصاف (8/ 482) ، ف (2/ 307) .
(3) اختيارات فيه زيادة ف (2/ 306) .
(4) اختيارات (254) ، ف (2/ 307) .
(5) اختيارات (254) ، ف (2/ 307) .
(6) إنصاف (8/ 337) ، ف (2/ 307) .(5/7)
وأحمد أن النزاع في وقوع طلاقه إنما هو في النشوان، فأما الذي تم سكره بحيث لا يفهم ما يقول فإنه لا يقع به قولا واحدا، قال: والأئمة الكبار جعلوا النزاع في الجميع (1) .
ومما يلحق بالبنج الحشيشة الخبيثة، وأبو العباس يرى أن حكمها حكم الشراب المسكر حتى في إيجاب الحد، وفرق أبو العباس بينها وبين البنج بأنها تشتهى فهي كالخمر بخلاف البنج (2) .
وقال الشيخ تقي الدين: إن طلاق الفضولي كبيعه (3) .
ولا يقع طلاق المكره، والإكراه يحصل: إما بالتهديد، وإما أن يغلب ظنه أنه يضره في نفسه أو ماله بلا تهديد.
وقال أبو العباس في موضع آخر: كونه يغلب على ظنه تحقق تهديده ليس بجيد؛ بل الصواب أنه لو استوى الطرفان لكان إكراها، وأما إن خاف وقوع التهديد وغلب على ظنه عدمه فهو محتمل في كلام أحمد وغيره.
ولو أراد المكره إيقاع الطلاق وتكلم به وقع، وهو رواية حكاها أبو الخطاب في الانتصار، وإن سحره ليطلق فإكراه.
قال أبو العباس: تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد، ولا يكون الكلام إكراها.
وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها أو مسكنها فلها أن ترجع، بناء على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء
__________
(1) إنصاف (8/ 433) ، ف (2/ 307) .
(2) إنصاف (8/ 433) ، ف (2/ 307) .
(3) إنصاف (8/ 444) ، ف (2/ 307) .(5/8)
عشرتها، فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراها في الهبة، ولفظه في موضع آخر، لأنه أكرهها ومثل هذا لا يكون إكراها على الكفر، فإن الأسير إذا خشي من الكفار أن لا يزوجوه وأن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر.
ومثل هذا لو كان له عند رجل حق من دين أو وديعة فقال: لا أعطيك حتى تبيعني أو تهبني، فقال مالك: هو إكراه، وهو قياس قول أحمد ومنصوصه في مسألة ما إذا منعها حقها لتختلع منه، وقال القاضي تبعا للحنفية والشافعية ليس إكراها (1) .
قال شيخنا: أو ظن أنه يضره بلا تهديد في نفسه أو أهله أو ماله لم يقع (2) .
ومن سحر فبلغ به السحر ألا يعلم ما يقول فلا طلاق له (3) .
وإذا أكره على اليمين بغير حق مثل أن يكون باعه إلى أجل ثم بعد لزوم العقد قال له: إن لم تحلف لي أنك تعطيني حقي يوم كذا وإلا لزمك الطلاق، فإن لم تحلف أخذت السلعة منك، وذلك بعد أن أدى المشتري الكلفة السلطانية، فإن هذه اليمين لا تنعقد، ولا طلاق عليه إذا لم يعط، ولو قال: كنت استثنيت فقلت: إن شاء الله تعالى، فقال: لم تقل شيئا، فالقول قول الحالف في هذه الحال أنه استثنى لأنه مظلوم، والمظلوم له الاستثناء، وله التعريض والقول قوله في ذلك (4) .
وعلى المذهب ليس له أن يطلق ثانية وثالثة قبل الرجعة على الصحيح من المذهب.
__________
(1) اختيارات (255، 256) ، ف (2/ 307) .
(2) فروع (5/ 368) ، ف (2/ 307) .
(3) مختصر الفتاوى (544) ، ف (2/ 307) .
(4) مختصر الفتاوى (543) ، ف (2/ 307) .(5/9)
قال الشيخ تقي الدين: اختارها أكثر الأصحاب كأبي بكر والقاضي وأصحابه قال: وهو أصح (1) .
وإن أطلق ثلاثا مجموعة قبل رجعة واحدة طلقت ثلاثا وإن لم ينوها على الصحيح من المذهب، نص عليه مرارا، وعليه الأصحاب، بل الأئمة الأربعة رحمهم الله وأصحابهم في الجملة، وأوقع الشيخ تقي الدين من ثلاث مجموعة أو متفرقة قبل رجعة طلقة واحدة، وقال: لا نعلم أحدا فرق بين الصورتين (2) .
وإن طلقها ثلاثا متفرقة بعد أن راجعها طلقت ثلاثا بلا نزاع في المذهب وعليه الأصحاب منهم الشيخ تقي الدين (3) .
صريح الطلاق وكنايته
وعنه: أنت مطلقة، ليست صريحة، وطلقتك قال الشيخ تقي الدين، هذه الصيغ إنشاء من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها تم، وهي إخبار لدلالتها على المعنى الذي في النفس (4) .
أنت طالق لا رجعة لي عليك، قال الشيخ تقي الدين، هذه صريحة في الإيقاع كناية في العدد، فهي مركبة من صريح وكناية (5) .
ولو قال رجل: امرأة فلان طالق، فقال: ثلاثا، فهذه تشبه
ما لو قال: لي عليك ألف، فقال: صحاح فيه وجهان: وهذا أصله في
__________
(1) إنصاف (8/ 452) ، ف (2/ 308) .
(2) إنصاف (8/ 453) ، ف (2/ 309) .
(3) إنصاف (8/ 453) ، ف (2/ 309) .
(4) إنصاف (8/ 263) ، ف (2/ 312) .
(5) إنصاف (8/ 477) ، ف (2/ 313) .(5/10)
الكلام من اثنين، فإذا أتى الثاني بالصفة ونحوها هل يكون متمما للأول؟ (1) .
وعقد النية في الطلاق على مذهب الإمام أحمد: أنها إن أسقطت شيئا من الطلاق لم تقبل، مثل قوله: أنت طالق ثلاثا، وقال: نويت إلا واحدة، فإنه لا يقبل رواية واحدة، وإن لم تسقط من الطلاق وإنما عدل به من حال إلى حال مثل أن ينوي من وثاق وعقال ودخول الدار إلى سنة ونحو ذلك، فهذا على الروايتين.
إحداهما: يقبل، كما لو قال: أنت طالق، أنت طالق، وقال: نويت بالثانية التأكيد، فإنه يقبل منه رواية واحدة.
وأنت طالق ومطلقة وما شاكل ذلك من الصيغ هي إنشاء من حيث إنها هي إثبات للحكم وشهادتهم، وهي إخبار لدلالتها على المعنى الذي في النفس (2) .
ومن أشهد عليه بطلاق ثلاث، ثم أفتي بأنه لا شيء عليه لمن يؤاخذ بإقراره ويقبل يمينه لمعرفة أن مستنده في إقراره ذلك مما يجهله (3) .
وإذا صرف الزوج لفظه إلى ممكن يتخرج أن يقبل قوله إذا كان عدلا، كما قاله أحمد فيمن أخبرت أنها نكحت من أصابها، وفي المخبر بالثمن إذا ادعى الغلط على رواية، ولو قيل بمثل هذه في المخبرة بحيضها إذا علق الطلاق به يتوجه، وذلك لأن المخبر إذا خالف خبره الأصل اعتبر فيه العدالة (4) .
__________
(1) اختيارات (256) ، ف (2/ 311) .
(2) اختيارات (256، 257) ، ف (2/ 312) .
(3) اختيارات (257) وعبارة الإنصاف: ممن يجهله مثله، ف (2/ 312) .
(4) اختيارات (257) ، ف (312) .(5/11)
ولا يقع الطلاق بالكناية إلا بنية وإلا مع قرينة إرادة الطلاق.
فإذا قرنت الكنايات بلفظ يدل على أحكام الطلاق، مثل أن يقول: فسخت النكاح، وقطعت الزوجية، ورفعت العلاقة بيني وبين زوجتي.
وقال الغزالي في المستصفى في ضمن مسألة القياس: لا يقع الطلاق بالكناية حتى ينويه.
قال أبو العباس: هذا عندي ضعيف على المذاهب كلها، فإنهم مهدوا في كتاب الوقف أنه إذا قرن بالكناية بعض أحكامه صار كالصريح.
ويجب أن يفرق بين قول الزوج: لست لي بامرأة وما أنت لي بامرأة وبين قوله: ليس لي امرأة وبين قوله إذا قيل له: لك امرأة فقال: لا، فإن الفرق ثابت بينهما وصفا وعددا، إذ الأول نفي لنكاحها، ونفي نكاحها كإثبات طلاقها يكون إنشاء ويكون إخبارا، بخلاف نفي المنكوحات عموما فإنه لا يستعمل إلا إخبارا.
وقطع في المغني والكافي وغيرهما: أنه لو باع زوجته، لا يقع به طلاق، وقال ابن عقيل: وعندي أنه كناية: قال أبو العباس: وهذا متوجه إذا قصد الخلع، لا بيع الرقبة (1) .
قال القاضي: إن قال لها: اختاري نفسك، فذكرت أنها اختارت نفسها فأنكر الزوج فالقول قوله: لأن الاختيار مما يمكنها إقامة البينة عليه فلا يقبل قولها في اختيارها، قال أبو العباس: يتوجه أن يقبل قولها، كالوكيل على ما ذكره، أصحابنا في أن الوكيل يقبل قوله في كل تصرف وكل فيه.
__________
(1) اختيارات (257، 258) ، ف (2/313) .(5/12)
ولو ادعى الزوج أنه رجع قبل إيقاع الوكيل الطلاق لم يقبل قوله إلا ببينة، نص عليه الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، ذكره القاضي في المجرد (1) .
فصل
ومن حلف بالحرام ألا يخرج فلانة من بيته فخرجت فمذهب أحمد أنه لا طلاق عليه وإن نوى الطلاق؛ بل تجزئه كفارة يمين في قوله، وكفارة ظهار في آخر، وكفارة اليمين أظهر (2) .
باب ما يختلف به عدد الطلاق
وإذا قال الزوج: يلزمني الطلاق وله أكثر من زوجة، فإن كان هناك نية أو سبب يقتضي التعميم أو التخصيص عمل به، ومع فقد النية والسبب فالتحقيق أن هذه المسألة مبنية على الروايتين في وقوع الثلاث بلفظ واحد على الزوجة الواحدة، لأن الاستغراق في الطلاق يكون تارة في نفسه، وتارة في محله، وقد فرق بينهما بأن عموم المصدر لأفراده أقوى من عمومه لمفعولاته، لأنه يدل على أفراد مسماه عقلا ولفظا، وإنما يدل على مفعولاته بواسطة فلفظ الأكل والشرب مثلا يعم الأنواع منه، والأعداد أبلغ من عموم المأكول والمشروب إذا كان عاما فلا يلزم من عمومه لأفراده وأنواعه عمومه لمفعولاته.
وقوى أبو العباس في موضع آخر وقوع الطلاق لجميع الزوجات دون وقوع الثلاث بالزوجة الواحدة، وفرق بأن وقوع الثلاث بالواحدة محرم؛ بخلاف وقوع الطلاق بالزوجات المتعددات، وإذا قلنا بالعموم
__________
(1) اختيارات (258) وفي الإنصاف قال: وكذا دعوى عتقه ورهنه ف (2/ 313) .
(2) مختصر الفتاوى ص (546) ، ف (2/ 313) .(5/13)
فلا كلام، وإن لم نقل به فهل تتعين واحدة بالقرعة، أو تخرج بتعيينه؟ على روايتني (1) .
الاستثناء في الطلاق
والفصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام الغير والسكوت لا يكون فصلاً مانعًا من صحة الاستثناء، والاستثناء والشرط إذا كان سؤال ساير أثر (2) وكل هذا يؤيد الرواية الأخرى: وهو أنهما ما دام في ذلك الكلام فله أن يلحق به ما يغيره، فيكون اتصال الكلام الواحد كاتصال القبول والإيجاب، ولا يشترط في الاستثناء والشرط والعطف المغير والاستثناء بالمشيئة حيث يؤثر في ذلك، فلا بد أن يسمع نفسه إذا لفظ به (3) .
باب الطلاق في الماضي والمستقبل
ولو قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غد وأنا من أهل الطلاق، قال أبو العباس: فإنه يقع الطلاق على ما رأيته، لأنه ما جعل هذا شرطًا يعلق وقوع الطلاق به، فهو كما لو قال: أنت طالق قبل موتي بشهر، فإنه لم يجعل موته شرطا يقع به الطلاق عليها قبل شهر، وإنما رتبه فوقع على ما رتب (4) .
قال أبو العباس: سئلت عمن قال: الطلاق يلزمني مادام فلان في هذا البلد.
فأجبت أنه إذا قصد به الطلاق إلى حين خروجه فقد وقع ولغى
__________
(1) اختيارات (258، 259) ، ف (2/ 314)
(2) كذا بالأصل ولعله سؤال سائل أثر، ويدل عليه آخر الكلام.
(3) اختيارات (259) ، ف (2/ 314) .
(4) اختيارات (263) ، ف (314) .(5/14)
التوقيت، وهذا هو الوضع اللغوي، وإن قصد: أنت طالق إن دام فلان، فإن خرج قبل اليمين لم يحنث وإلا حنث، وهذا نظير أنت طالق إلى شهر (1) .
قال أبو العباس: سئلت عمن قال لامرأته، أنت طالق ثلاثًا غير اليوم.
قال: فقلت: ظاهره وقوع الطلاق في الغد؛ لكن كثيرا ما يعني به سوى هذا الزمان، وهو الذي عناه الحالف فإنه كما لو قال: أنت طالق في وقت آخر، وعلى غير هذه الحال، أو في سوى هذه المدة ونوى التأخير، فإن عين وقتًا بعينه، مثل وقت مرض أو فقر أو غلاء أو رخص أو نحو ذلك تقيد به، وإن لم ينو شيئًا فهو كما لو قال: أنت طالق في زمان متراخ عن هذا الوقت فيشبه الحين، إلا أن المغايرة قد يراد بها المغايرة الزمانية، وقد يراد بها المغايرة الحالية، والذي عناه الحالف فهو كما لو قال: أنت طالق، ليس معينا فهو مطلق، فمتى تغيرت الحال تغيرًا يناسب الطلاق وقع.
وإن قال: أنت طالق في أول شهر كذا طلقت بدخوله، وقاله أصحابنا وكذا في غرته ورأسه واستقباله.
وإذا قال: أنت طالق مع موتي أو مع موتك، فليس هذا بشيء، نقله مهنا عن الإمام أحمد، وجزم به الأصحاب.
ولكن يتوجه على قول ابن حامد؛ أن تطلق لأن صفة الطلاق والبينونة إذا وجدت في زمن واحد وقع الطلاق.
ولعل ابن حامد يفرق بأن وقوع الطلاق مع البينونة له فائدة وهو التحريم أو نقص العدد؛ بخلاف البينونة بالموت (2) .
__________
(1) اختيارات (264 ف (2/ 314) .
(2) اختيارات (265) ، ف (2/ 314) .(5/15)
باب تعليق الطلاق بالشروط
قال أبو الحسن التميمي: سئلت عن رجل له أربع نسوة قال لواحدة منهن وهو مواجه لها: متى بدأت بطلاق منكن فعبدي حر، وقال للثانية: إن طلقتك فعبداي حران، وقال للثالثة: إن طلقتك فثلاث من عبيدي أحرار، وقال: إن طلقت الرابعة فأربعة من عبيدي أحرار، ثم طلقهن كم يعتق عليه؟ قال: فأجبت على ما حضر من الحساب أنه يعتق بطلاقهن عشرة أعبد.
قال أبو العباس: هذه المسألة لم تجتمع الصفات في عين واحدة، ولكن طلاق كل واحدة صفة على انفرادها، وهذا اللفظ إن كان طلقهن متفرقات فالمتوجه أن يعتق عشرة أعبد، كما قال الحسن، وإن طلقهن بكلمة واحدة توجه أن يعتق ثلاثة عشر عبدا.
وأصح الطرق في الاكتفاء ببعض الصفة إن كانت حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا فهي كاليمين، وإلا فهي علة محضة فلا بد من وجودها بكمالها (1) .
ولو علق الطلاق على صفات ثلاث فاجتمعن في عين واحدة، لا تطلق إلا طلقة واحدة، لأنه الأظهر في مراد الحالف، والعرف يقتضيه، إلا أن ينوي خلافه (2) .
يصح تعليق الطلاق مع تقدم الشرط، وكذا إن تأخر، وعنه يتنجز إن تأخر الشرط.
قال الشيخ تقي الدين: وتأخر القسم كأنت طالق لأفعلن كالشرط وأولى بأن لا يلحق.
__________
(1) اختيارات (264، 265) ، ف (2/ 315) .
(2) اختيارات (365) ، ف (2/ 314) .(5/16)
وعنه: يتنجز إن تأخر الشرط. وعنه صحة قوله لزوجته، من تزوجت عليك فهي طالق.
وعنه: تطلق مع تيقن وجود الشرط قبل وجوده، وخص الشيخ تقي الدين هذه الرواية بالثلاث، لأنه الذي يضره كمتعة (1) .
وإن قال: عجلت ما علقته لم يتعجل، هذا المذهب لأنه علقه فلم يملك تغييره، وعليه الأصحاب، وجزم به في الوجيز وغيره، وقيل: يتعجل إذا عجله وهو ظاهر بحث الشيخ تقي الدين فإنه قال: فيما قاله الجمهور نظر (2) .
ومن قال: فلانة كلما تزوجتها على مذهب مالك فهي طالق، فهذا التزام مذهب بعينه فلا يلزمه، بل له أن يقلد مذهبًا غيره (3) .
وبالواو: كأن قمت وقعدت، أو لا قمت وقعدت تطلق بوجودهما.
وعنه: أو أحدهما: كأن قمت، وإن قعدت، وكالأصح في لا قمت ولا قعدت، وذكره شيخنا في هذه اتفاقًا (4) .
ولو قال: كلما أكلت رمانة فأنت طالق، أو كلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة طلقت ثلاثا بلا نزاع، ولو جعل مكان كلما إن أكلت لم تطلق إلا اثنتين وهو المذهب وعليه الأصحاب، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: لا تطلق إلا واحدة (5) .
__________
(1) إنصاف (9/ 59) وانظر الفروع (5/ 424) ، ف (2/ 314) .
(2) إنصاف (9/ 60) ، ف (2/ 314) .
(3) فروع (5/ 432) ، ف (2/ 314) .
(4) مختصر الفتاوى (436) ، ف (2/، 315) .
(5) الإنصاف (9/ 64) ، ف (2/ 314) .(5/17)
إذا علق الطلاق على شرط لزم وليس له إبطاله، وفي الانتصار والواضح، رواية بجواز فسخ العتق المعلق على شرط، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، لو قال إن أعطيتني أو إذا أعطيتني أو متى أعطيتني ألفًا فأنت طالق، أن الشرط ليس بلازم من جهته كالكتابة عنده، قال في الفروع ووافق الشيخ تقي الدين على شرط محض كإن قدم زيد فأنت طالق، قال الشيخ تقي الدين: التعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء إن كان معاوضة فهو معاوضة، ثم إن كانت لازمة فلازم، وإلا فلا يلزم الخلع قبل القبول ولا الكتابة، وقال: قول من قال: التعليق لازم دعوى مجردة (1) .
الحلف بالطلاق
قال ابن القيم رحمه الله:
قال شيخ الإسلام: والقول بأنه يمين مكفرة هو مقتضى المنقول عن الصحابة في الحلف بالعتق بل بطريق الأولى؛ فإنهم إذا أفتوا من قال: إن لم أفعل كذا فكل مملوك لي حر بأنه يمين تكفر فالحالف بالطلاق أولى.
قال: وقد علق القول به أبو ثور، فقال: إن لم تجمع الأمة على لزومه فهو يمين تكفر.
وقد بين أن الأمة لم تجمع على لزومه، وحكاه شيخ الإسلام عن جماعة من العلماء الذين سمت هممهم وشرفت نفوسهم فارتفعت عن حضيض التقليد المحض إلى أوج النظر والاستدلال، ولم يكن مع خصومه ما يردون به عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له
__________
(1) الإنصاف (9/ 60، 61) ، ف (2/ 315) .(5/18)
برد هذه الحجة قبل، وأما ما سواها فقد بين فساد جميع حججهم ونقضها أبلغ نقض، وصنف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة، وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصة وغيره من الأئمة زهاء أربعين دليلا، وصار إلى ربه وهو مقيم عليها، داع إليها، مباهل لمنازعيه، باذل نفسه وعرضه وأوقاته لمستفتيه فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا، فتعطلت لفتاواه مصانع التحليل، وهدمت صوامعه وبيعه، وكسدت سوقه، وتقشعت سحائب اللعنة عن المحللين والمحلل لهم من المطلقين، وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وخرج من حبس تقليد المذهب المعين به من كُرمت عليه نفسه من المستبصرين، فقامت قيامة أعدائه وحساده ومن لا يتجاوز ذكر أكثرهم باب داره أو محلته، وهجنوا ما ذهب إليه بحسب المستجيبين لهم غاية التهجين، فمن استخفوه من الطعام وأشباه الأنعام قالوا: هذا رفع الطلاق بين المسلمين، وكثر أولاد الزنا في العالمين، ومن صادفوا عنده مسكة عقل ولب قالوا: هذا قد أبطل الطلاق المعلق بالشرط.
وقالوا لمن تعلقوا به من الملوك والولاة: هذا قد حل بيعة السلطان من أعناق الحالفين، ونسوا أنهم هم الذين حلوها بخلع اليمين؛ وأما هو فصرح في كتبه أن أيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين، فلا يحل لمسلم حل بيعة السلطان بفتوى أحد من المفتين، ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين، ولعمر الله لقد مني من هذا بما مني به سلف من الأئمة المرضيين، فما أشبه الليلة بالبارحة للناظرين.
ولا يختلف عالمان متحليان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب، بل وشيخهما أبي(5/19)
يعلي -فإذا كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتي بها في الإسلام، ويحكم بها الحكام، فالاختيارات شيخ الإسلام أسوة بها، إن لم ترجح، عليها والله المستعان وعليه التكلان (1) .
وقوله: وهو يهودي إن فعلت كذا، والطلاق يلزمني ونحوه، يمين باتفاق العقلاء والفقهاء والأمم (2) (3) .
وقال الشيخ تقي الدين فيمن قال: الطلاق يلزمه لأفعل كذا وكرره لم يقع أكثر من طلقة إذ لم ينو (4) .
تعليقه بالولادة
إذا قال: إن ولدت ذكرًا فأنت طالق واحدة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق اثنتين، فولدت ذكرًا ثم أنثى طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به.
ونقل ابن منصور، هذا على نية الرجل إذا أراد بذلك تطليقه وإنما أراد ولادة واحدة، وأنكر قول سفيان أنه يقع عليها بالأول ما علق به وتبين بالثاني ولا تطلق به كما قاله الأصحاب، قال ابن رجب في القواعد: ورواية ابن منصور أصح، وهو المنصوص، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله، لأن الحالف إنما حلف على حمل واحد وولادة
واحدة، والغالب أن لا يكن إلا ولدًا واحدًا، لكنه لما كان ذكرًا مرة وأخرى أنثى نوع التعليق عليه، فإذا ولدت هذا الحمل ذكرًا وأنثى لم
__________
(1) إعلام الموقعين (114-117) ، ف (2/ 315) .
(2) إنصاف (9/ 22، 27) ، ف (2/ 315) ,.
(3) اختيارات (264) ، ف (2/ 317) .
(4) قلت: أما تعليقه بالحمل، فيأتي في جملة مسائل برقم الفهرس العام (2/ 320، 321) .(5/20)
يقع به المعلق بالذكر والأنثى جميعًا، بل المعلق بأحدهما فقط؛ لأنه لم يقصد إلا إيقاع أحد الطلاقين، وإنما ردده لتردد المولود ذكرًا أو أنثى، وينبغي أن يقع أكثر الطلاقين إذا كان القصد تطليقها بهذا الوضع سواء كان ذكرًا أو أنثى لكنه أوقع بولادة أحدهما أكثر من الآخر فيقع به أكثر المعلقين اهـ (1) .
فولدت ذكرًا ثم أنثى، احترازًا مما إذا ولدتهما معا فإنها تطلق ثلاثًا والحالة هذه بلا نزاع أعلمه، غير الشيخ تقي الدين رحمه الله ومن تبعه (2) .
تعليقه بالطلاق
قال في المحرر: إذا قال: إذا طلقتك فأنت طالق أو فعبدي حر لم يحنث في يمينه إلا بتطليق ينجزه أو يعلقه بعدهما بشرط فيؤاخذ.
وقال أبو العباس: يتوجه إذا كان الطلاق المعلق قبل عقد هذه الصفة أو معها معلقًا بفعله ففعله باختياره أن يكون فعله له تعليقًا، وأن التطليق يفتقر إلى أن تكون الصفة من فعله أيضًا، فإذا علقه بفعل غيره ولم يأمره بالفعل لم يكن تطليقًا.
وإن حلف لا يطلق فجعل أمرها بيدها أو خيرها فطلقت نفسها، فالمتوجه أن تخرج على الروايتين في تنصيف الصداق.
وإن قلنا يتنصف جعلناه تطليقًا، وإن قلنا: يسقط لم نجعله تطليقا، وإنما هو تمكين من التطليق (3) .
__________
(1) إنصاف (9/ 78، 79) ، ف (2/ 318)
(2) إنصاف (9/ 80) ، ف (2/ 318) .
(3) اختيارات (268) ، ف (2/319) .(5/21)
تعليقه بالحلف
قال جماعة: اليمين المطلقة إنما تنصرف إلى الحلف بالله، قال أبو يعلى الصغير: ولهذا لو حلف فعلق طلاقًا بشرط أو صفة لم يحنث، وقال شيخنا: إن قصد اليمين حنث بلا نزاع أعلمه، قال: وكذا ما علق لقصد اليمين (1) .
إذا حلف بطلاقها ثم أعاده أو علقه بشرط وفي ذلك الشرط حث أو منع والأصح أو تصديق خبر أو تكذيبه سوى تعليقه بمشيئتها أو حيض أو طهر تطلق في الحال طلقة في مرة، ومن الأصحاب من لم يستثن غير هذه الثلاثة ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله، واختار العمل بعرف المتكلم وقصده في مسمى اليمين، وأنه موجب نصوص الإمام أحمد رحمه الله وأصوله (2) .
تعليقه بالكلام
وإن حلف على غيره ليكلمن فلانًا، ينبغي أن لا يبر إلا بالكلام الطيب، كالكلام بالمعروف ونحوه، دون السب ونحوه، فإن اليمين في جانب النفي أعم من اللفظ اللغوي، وفي جانب الإثبات أخص، كما قلنا فيمن حلف ليتزوجن ونظائره فإنه لا يبر إلا بكمال المسمى.
ولو علق الطلاق على كلام زيد فهل كتابته أو رسالته الحاضرة كالإشارة فيجيء فيها الوجهان، أو يحنث بكل حال؟
تردد فيه أبو العباس، قال: وأصل ذلك الوجهان في انعقاد النكاح بكتابة القادر على النطق.
__________
(1) فروع (5/ 452) ، ف (2/ 319) وانظر في الحلف برقم الفهرس العام (2/ 406، 404، 315، 321) .
(2) إنصاف (9/ 80) ، ف (2/ 319) .(5/22)
وإذا قال: إن عصيت أمري فأنت طالق ثم أمرها بشيء أمرًا مطلقًا فخالفت حنث، وإن تركته ناسية أو جاهلة أو عاجزة ينبغي ألا يحنث، لأن الترك ليس عصيانا.
وإذا أمرها أمرا بين أنه ندب بأن يقول: آمرك بالخروج وأبيح لك القعود، فلا حنث عليه، لحمل اليمين في الأمر المطلق على مطلق الأمر والمندوب ليس مأمورًا به أمرًا مطلقًا، وإنما هو مأمور به أمرًا مفيدًا (1) .
تعليقه بالإذن
ولو قال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فهو على كل مرة، لأن خرجت فعل والفعل نكرة وهي في سياق الشرط تعم نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [8/99] وكذا إذا قال: إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق، يقتضي تعليق المسمى على تحقق الشرط فهو على كل مرة تعطيه ألفًا وهذا المسمى موجود في جميع أفراده فيقع الطلاق به إذا وجد فلو أعطته ما ينقص عن ألف ثم أعطته الألف وقع الطلاق، لكن العموم تارة يكون على سبيل البدل، وهو العموم المطلق وهو الذي يقال فيه تعليق الطلاق، لا يقتضي التكرار، وتارة يكون على سبيل الجمع، وهو العموم على سبيل الاستغراق، وهو يقتضي التكرار في تعليق الطلاق، هذا الجواب هو الصواب.
وقيل: إنه إذا أذن لها في الخروج انحلت يمينه بناء على القول بأن النكرة في سياق النفي لا تعم إلا إذا أكدت بـ من تحقيقًا أو تقديرًا نحو قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ} [62/3] محتجًا بقول سيبويه
أنه يجوز أن يقول: ما رأيت رجلاً بل رجلين، وهذا إنما هو فرق بين
__________
(1) اختيارات (268) ، ف (2/ 319) .(5/23)
الصيغتين في الجواز فقط، فإن قوله: ما رأيت من رجل، إنما هو نص في الجنس، لأن حرف من للجنس وأما نحو: ما رأيت رجلا فهو ظاهر في الجنس يقتضي العموم، ويجوز أن يراد به مع القرينة نفي الجنس الواحد، فيجوز للمتكلم أن يريد بكلامه ذلك، كما يريد به سائر الاحتمالات المرجوحة.
فإذا قال: إن خرجت إلا بإذني، ونوي خروجا واحدا نفعه ذلك، وحملت يمينه عليه، ولو كان السبب يتقضي ذلك مثل أن تطلب منه الخروج إلى لقاء الحجاج فيقول: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق فهو كما لو حلف لا يتغدى إذا دعي إلى غداء، ففيه قولان: هما وجهان في مذهب أحمد، الصواب أنه يقتصر على ذلك الغداء؛ لأن المفهوم من كلام الناس عرفًا، والفرق بينه وبين ألفاظ الشارع أن العبرة في كلام الشارع بعموم لفظه لا بخصوص سببه، ذلك لأن هناك تعارض قصد التخصيص وقصد التأسيس بالحكم فيرجح التأسيس، لأن كلام الشارع منصوب له وهو موجب اللفظ، وهنا لم يعرف أن غرض الحالف تأسيس المنع من الفعل، فسلمت دلالة التخصيص من معارض، فظهر أن قوله: إن خرجت بغير إذني، مثل قوله: إن خرجت إلا أن آذن لك، هذا خروج مقيد، وهذا خروج مطلق، كقوله: لا أتغدى أو لا أخرج، ومع ذلك فإن تطلق نكرة، وهذه الأفعال كلها للعموم عند الإطلاق، لأنها نكرة في سياق غير موجب فيحمل عليه إذا نواه، وكان مع السبب للخصوص على أصح القولين، وهذا ظاهر في قلوب الناس (1) .
وإن علق الطلاق على خروجها بغير إذن ثم أذن لها مرة فخرجت مرة أخرى بغير إذن طلقت، وهو مذهب أحمد؛ لأن خرجت فعل، والفعل نكرة، وهي في سياق الشرط تقتضي العموم.
__________
(1) مختصر الفتاوى (543) ، ف (2/ 319) .(5/24)
وإن أذن لها فقالت: لا أخرج، ثم خرجت الخروج المأذون لها فيه، قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة؟ ويتوجه فيه ألا يحنث، لأن امتناعها من الخروج لا يخرج الإذن عن أن يكون إذنًا؛ لكن هو إذا قالت: لا أخرج فلما اطمأن إلى أنها لا تخرج ولم تشعره بالخروج فقد خرجت بلا علم، والإذن علم وإباحة.
ويقال أيضًا: إنها إذا ردت الإذن عليه فهو بمنزلة قوله: أمرك بيدك إذا أردت ذلك، وأصل هذا أن هذا الباب نوعان: توكيل وإباحة، فإذا قال له: بع هذا، فقال: لا أبيع، أن النفي يرد القبول في الوصية، والموصي إليه لم يملكه بعد، وإذا أباحه شيئا فقال: لا أقبل، فهل له أخذه بعد ذلك؟ فيه نظر.
ويتوجه أن الإنشاء كالخبر في التكرار.
وظاهر كلام أبي العباس: إذا حلف ليقضينه حقه في وقت عينه فأبرأه قبله لا يحنث، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقول في مذهب أحمد وغيره (1) .
تعليقه بالمشيئة
قال أصحابنا: إذا قال: أنت طالق وعبدي حر إن شاء زيد لم يقع إلا بمشيئة زيد لهما إذا لم ينو غيره.
ويتوجه أن تعود المشيئة إليهما إما جميعًا وإما مطلقًا بحيث لو شاء أحدهما وقع ما شاء، وكذلك نظيرها في الخلع أنهما طلقتان.
ونظيره أن يقول: والله لا تؤمن (2) ولا آكل إن شاء الله تعالى فتبقى
__________
(1) اختيارات (269، 270) ، ف (2/ 319) .
(2) كذا في الأصل ولعله: لا أقومن.(5/25)
على قياس قولهم أن يحنث بفعل الواحد، لأن التقدير إن شاء الله في الجميع المحلوف عليه فيحنث.
قال القاضي في الجامع: فإن قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، فقد علق الطلاق بصفة هي عدم المشيئة فمتى لم يشأ وقع الطلاق لوجود شرطه وهو عدم المشيئة من جهته.
قال أبو العباس: والقياس أنها لا تطلق حتى تفوت المشيئة، إلا أن تكون نية أو قرينة تقتضي الفورية.
وإذا قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله أنه لا يقع به الطلاق عند أكثر العلماء، وإن قصد أنه يقع به الطلاق وقال: إن شاء الله تثبيتا لذلك وتأكيدا لإيقاعه وقع عند أكثر العلماء، ومن العلماء من قال: لا يقع مطلقا، ومنهم من قال: يقع مطلقا، وهذا التفصيل الذي ذكرناه هو الصواب.
وتعليق الطلاق إن كان تعليقا محضا ليس فيه تحقيق خبر، ولا حض على فعل كقوله: إن طلعت الشمس، فهذا يفيد فيه الاستثناء. ويتوجه أن تخرج على قول أصحابنا، هل هذا يمين أم لا؟
ومن هذا الباب توقيته بحادث يتعلق بالطلاق معه غرض كقوله: إن مات أبوك فأنت طالق، أو: إن مات أبي هذا فأنت طالق ونحو هذا.
وقياس المذهب أن الاستثناء لا يؤثر في مثل هذا؛ فإنه لا يحلف عليه بالله، والطلاق فرع اليمين بالله.
وإن كان المحلوف عليه أو الشرط خبرا عن مستقبل لا طلبا كقوله ليقدمن الحاج أو السلطان فهو كاليمين ينفع فيه الاستثناء.
وإن كان الشرط أمرا عدميا كقوله: إن لم أفعل كذا فأنت طالق إن شاء الله تعالى فينبغي أن يكون كالثبوت كما في اليمين بالله.(5/26)
ويفيد الاستثناء في النذر كما في قوله: لا تصدقن إن شاء الله، لأنه يمين.
ويفيد الاستثناء في الحرام والظهار، وهو المنصوص عن أحمد فيهما.
وللعلماء في الاستثناء النافع قولان:
أحدهما: لا ينفعه حتى ينوية قبل فراغه من المستثنى منه، وهو قول الشافعي والقاضي أبي يعلى ومن تبعه.
والثاني: ينفعه وإن لم يرده إلا بعد الفراغ حتى لو قال له بعض الحاضرين، قل إن شاء الله، فقال: إن شاء الله، نفعه، وهذا هو مذهب أحمد الذي يدل عليه كلامه، وعليه متقدمو أصحابه، واختيار أبي محمد وغيره، وهو مذهب مالك، وهو الصواب.
ولا يعتبر مقارنة قصد الاستثناء، فلو سبق على لسانه عادة أو أتى به تبركا رفع حكم اليمين.
وكذلك قوله: إذا أراد الله، وقصد بالإرادة مشيئة الله، لا محبته وأمره.
ومن شك في الاستثناء وكان من عادته الاستثناء فهو كما لو علم أنه استثنى كالمستحاضة تعمل بالعادة والتمييز ولا تجلس أقل الحيض، والأصل وجوب العبادة في ذمتها (1) .
ومن حلف بالطلاق فقيل له: استثن فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه، بخلاف الذي أوقع الطلاق، وقال: إن شاء الله، فإن ذلك لا
يرفعه سواء كان نوى الاستثناء قبل فراغه من اليمين أو بعده، هذا هو
__________
(1) اختيارات (266-268) فيه زيادات كثيرة ف (2/319) .(5/27)
الصحيح الذي دل عليه كلام الإمام أحمد وكثير من السلف وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلفه - صلى الله عليه وسلم - وقوله: (لأغرون قريشا) ولم يغزها، وحلف سليمان عليه السلام أن يطوف على نسائه، وقوله للعباس: (إلا الإذخر) واستثناء سهيل بن بيضاء وغيره تدل على أن اليمين تنحل بالاستثناء المقارن لليمين (1) .
حكي عن أبي بكر رحمه الله أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق، وقال الشيخ تقي الدين: قول أبي بكر رواية منصوصة عن الإمام أحمد رحمه الله ولكن أكثر أجوبته كقول الجمهور (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: إذا استحلف على شيء فأحب أن يحلف ولا يحنث فالحيلة أن يحرك لسانه بقول: إن شاء الله، وهل يشترط أن يسمعها نفسه؟ فقيل: لا بد أن يسمع نفسه.
وقال شيخنا: هذا لا دليل عليه، بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلما وإن لم يسمع نفسه وهكذا حكم الأقوال الواجبة (3) .
وإذا حلف على يمين وكان من عادته أن لا يحلف إلا ويستثنى فحلف يمينا وشك بعد مدة هل جري على عادته في الاستثناء أم لا؟ فالأظهر من قول العلماء إجراؤه على عادته وإلحاق الفرد بالأعم الأغلب (4) .
وإذا حلف فقال له رجل قال: إن شاء الله، فقال: حلفت ومضى، فقال مرة ثانية: قل إن شاء الله، فقالها، ففيه نزاع مشهور في مذهب أحمد وغيره، في الصحيح، مثل هذا الاستثناء كما ثبت في حديث
__________
(1) مختصر الفتاوى (547) ف (2/320) .
(2) إنصاف (9/ 28) ، ف (2/ 320) .
(3) إعلام الموقعين (3/ 382) ، ف (2/ 320) .
(4) مختصر الفتاوى (542) ، ف (2/ 320) .(5/28)
سليمان عليه السلام أنه قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل، فلو قالها لقاتلوا جميعًا في سبيل الله فرسانا أجمعين، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة: "لا يختلي خلاها" فقال له العباس: إلا الإذخر، فقال: "إلا الإذخر" وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينقلبن أحد إلا بضرب عنق" فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خفت أن الحجارة تنزل علي من السماء ثم قال: "إلا سهيل بن بيضاء" وقال - صلى الله عليه وسلم - "
والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا" ثم سكت ثم قال: "إن شاء الله ثم لم يغزهم".
وفي القرآن جمل قد بين فصل أبعاضها بكلام آخر كقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [72-73/3] ففصل بين الكلام المحكي عن أهل الكتاب، وله نظائر، والله أعلم (1) .
يعتبر للاستثناء والشرط ونحوهما اتصال معتاد لفظا وحكما كانقطاعه بتنفس ونحوه، ويعتبر أيضًا نيته قبل تكميل ما ألحقه به، وقيل: يصح بعد تكميل ما ألحقه به واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: دل عليه كلام الإمام أحمد، وعليه متقدمو أصحابه، وقال: لا يضر فصل يسير بالنية وبالاستثناء اهـ (2) .
__________
(1) مختصر الفتاوى (542) ، ف (2/ 320) .
(2) إنصاف (9/ 34، 35) زيادة إيضاح ف (2/ 320) .(5/29)
وإذا حلف بالطلاق الثلاث لا يكسن هذه الدار، وقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه إذا سكن فيها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور من مذهبه، وقول في مذهب مالك إذا قال: إن شاء الله على الوجه المعتبر (1) .
فصل
قال أبو العباس: تأملت نصوص كلام الإمام أحمد فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته في كل يمين حلف الرجل عليها بالطلاق وهو لا يدري أبار فيها أم حانث حتى يستيقن أنه بار، فإن لم يعلم أنه بار في وقت وشك في وقت اعتزالها وقت الشك، نص على فروع هذا الأصل في مواضع.
إذا قال لامرأته، إن كنت حاملا فأنت طالق، فإنه نص على أنه يعتزلها حتى يتبين أنها ليست بحامل، ولم يذكر القاضي خلافا في أنه يمنع من وطئها قبل الاستبراء إن كان قد وطئها قبل اليمين.
وتلخص من كلام القاضي: أنها إذا لم تحض ولم يظهر بها حمل فهل يحكم ببراءة الرحم بحيث يجوز وطئها، ويتبين أن الطلاق لم يقع بمضي تسعة أشهر أو ثلاثة أشهر؟ على وجهين، وهذا إنما هو في حق من تحيض أو تحمل، وأما الآيسة والصغيرة فإن الواجب أن تستبرأ بمثل الحيضة، وهو ثلاثة أشهر، أو شهر واحد على ما فيه من الخلاف.
أو يقال يجوز وطء هذه قبل الاستبراء إلا أن تكون حاملا، هذا هو الصواب.
وكل موضع يكون الشرط فيه أمرا عدميا يتبين فيما بعد مثل أن
__________
(1) مختصر الفتاوى (542) ، ف (2/ 320) .(5/30)
يقول: إن لم يقدم زيد أو إن لم يقدم في هذا الشهر ونحو ذلك فلا يجوز الوطء حتى يتبين.
ومنها: إذا وكل وكيلا في طلاق زوجته فإنه يعتزلها حتى يدري ما فعل، وحمله القاضي على الاستحباب، والوجوب متوجه.
ومنها: إذا قال: أنت طالق ليلة القدر، فإنه يعتزلها إذا دخل العشر الأواخر، لإمكان أن تكون ليلة القدر أول ليلة، وحمله القاضي على المنع.
ومنها: إذا قال: أنت طالق قبل موتي بشهر، فإنه يعتزلها أبدا، وحمله القاضي على الاستحباب.
ومنها: مسألة إن كان هذا الطائر غرابا فامرأتي طالق ثلاثا، وقال آخر: إن لم يكن غرابا فامرأتي طالق ثلاثا، وطار ولم يعلم ما هو، فإنهما يعتزلان نساءهما حتى يتيقنا، وحمله القاضي على الاستحباب.
وما كان من هذه الشروط مما يئسا من استبانته ففيه مع العلم بوقوعه.
ذكر القاضي في مسألة الطائر أن ظاهر كلام أحمد الحنث، وتعليل القاضي في مسألة إن شاء الله صريح في ذلك، فإنه جعل الشرط الذي لا يعلم بمنزلة عدم الاشتراط، وهذا ظاهر في قول أحمد: أنت طالق إن شاء فلان فلو لم يشأ تطلق، لأن مشيئة العباد ومشيئة الله لا تدرك، هي مغيبة عنه، فإن هذا يقتضي أن كل شرط مغيب لا يدرك يقع الطلاق المعلق به.
وعلى هذا من حلف ليدخلن الجنة يحنث، لأنه مغيب لا يدرك.
لكن كلام الإمام أحمد في أكثر المواضع إنما فيه الأمر بالاعتزال فقط، وهذا فقه حسن، فإن الحلف بالطلاق محمول على الحلف بالله.(5/31)
ولو حلف بالله على أمر وهو لا يعلم أنه صادق في يمينه كان آثما بذلك وإن لم يتيقن أنه كاذب فكذلك يمين الطلاق وأشد.
وقد نص على أنه إذا شك هل تطلق، أم لا؟ أنه لا يقع به الطلاق، ولم يتعرض للاعتزال، فينظر هل يؤمر بالاعتزال هنا، أم يفرق بأن هذا لم يحلف يمينا فهو بمنزلة من شك هل حلف أم لا؟.
قال في المحرر: وتمام التورع في الشك قطعه برجعة، أو عقد إن أمكن وإلا ففرقة متيقنة بأن يقول: إن لم تكن طلقت فهي طالق.
وقال القاضي: أما في الورع فإن كان يعلم من نفسه أنه متى طلق فإنما يطلق واحدة لاعتقاده أن الزيادة عليها بدعة: ألزم نفسه طلقة ثم راجعها فإن كان الطلاق قد وجد فقد راجع، وإن لم يكن قد وجد فما ضره، وإن كان يعلم من نفسه أنه متى طلق فإنما يطلق ثلاثا: ألزم نفسه ثلاثا، ومعناه أن يوقع عدد الطلقات الثلاث فتحل لغيره من الأزواج ظاهرًا وباطنًا.
قال أبو العباس: ومما يدل على أنه متى وقع الشك في وقوع الطلاق فالأولى استبقاء النكاح؛ بل يكره أو يحرم إيقاعه لأجل الشك، أن الطلاق بغيض إلى الرحمن، حبيب إلى الشيطان ويدل عليه قصة هاروت وماروت.
وأيضا: فإن النكاح دوامه آكد من ابتدائه كالصلاة، وإذا شك في الصلاة أحدث، أم لا؟ لم يستحب له أن ينصرف منها بالشك بنص الحديث، لما فيه من إبطال الصلاة بالشك، فكذلك إبطال النكاح بالشك؛ بل الصلاة إذا أبطلها أمكن ابتداؤها بخلاف النكاح (1) .
واختار شيخنا العمل بعرف المتكلم وقصده في مسمى اليمين وأنه
__________
(1) اختيارات (259-261) ، ف (2/ 321) إلى (323) .(5/32)
موجب أصول أحمد ونصوصه، وأن مثله والله لا أحلف يمينا، طلقت في الحال طلقة في مرة، وإن قصد بإعادته إفهامها لم يقع، ذكره أصحابنا (1) .
باب التأويل في الحلف
وإن حلف بالطلاق كاذبا يعلم كذب نفسه لا تطلق زوجته، ولا يلزمه كفارة يمين (2) .
ولو قيل: زنت امرأتك، أو خرجت من الدار فغضب، وقال: فهي طالق، لم تطلق وأتفى به ابن عقيل، وهو قول عطاء بن أبي
رباح.
وقريب منه ما ذكره ابن أبي موسى وخالف فيه القاضي: إذا قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار -بفتح الهمزة- أنها لا تطلق إذا لم تكن دخلت؛ لأنه إنما طلقها لعله فلا يثبت الطلاق بدونها.
ومن هذا الباب ما يسأل عنه كثير مثل أن يعتقد أن غيره أخذ ماله فيحلف ليردنه أو يقول: إن لم ترده فامرأتي طالق، ثم تبين أنه لم يأخذه أو يقول: ليحضرن زيد، ثم يتبين موته، أو لتعطيني من الدراهم الذي معك ولا دراهم معه.
ثم هذا قسمان: الأول: منه ما يتبين حصول غرضه بدون الفعل المحلوف عليه مثل ما إذا ظن أنها سرقت له مالا فيحلف ليردنه فوجدها لم تسرقه.
والثاني: فإنه وإن لم يحصل فيه غرضه لكن لا غرض له مع
__________
(1) فروع (5/ 442) ، ف (2/ 321) .
(2) اختيارات (256) ، ف (2/ 321) .(5/33)
وجود المحلوف عليه فيصير كأنه لم يحلف عليه، وفي الأول يحصل غرضه منه فيصير كأنه بر بالفعل (1) .
واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله: فيمن حلف على غيره ليفعلنه فخالفه، لم يحنث إن قصد إكرامه لا إلزامه، لأنه كالأمر، ولا يجب؛ لأمره - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر بوقوفه في الصف ولم يقف، ولأن أبا بكر أقسم ليخبرنه بالصواب والخطأ لما فسر الرؤيا فقال: لا تقسم، لأنه علم أنه لم يقصد الإقسام عليه مع المصلحة المقتضية للكتم.
وقال أيضا: إن لم يعلم المحلوف عليه بيمينه فكالناسي (2) .
وإذا حلف بالطلاق ليعطينه كذا فعجز عنه فلا حنث عليه إذا كانت نيته أن يعطيه مع القدرة (3) .
ومن كانت عنده وديعة فتصرفت فيها زوجته، فطلب صاحب الوديعة وديعته، فقال لزوجته: أعطيه الوديعة، فقالت: تصرفت فيها، فحلف أنه لا بد أن يعطيه الوديعة وإلا كانت طالقا، ولا يروح إلا بوديعته وكان قد رأى الوديعة في البيت، فعجزت الزوجة عن إحضارها، وراح الرجل ولم يأخذ الوديعة، فإذا كانت الوديعة معدومة فلا حنث عليه، لأن المحلوف عليه ممتنع ولا يحنث في أصح القولين، ولأنه اعتقد وجودها فتبين ضده فلا يحنث في مثل ذلك على الصحيح.
ومن رأى معجنة طين فقال: علي الطلاق ما تكفي، فكفت، فلا يعود إلى مثل هذا اليمين فإن فيها خلافا؛ لكن الأظهر أنه لا يحنث.
__________
(1) اختيارات (263) فيه زيادات وجزم بالحكم ف (2/ 321) .
(2) إنصاف (6/ 116) ، ف (2/ 321) .
(3) مختصر الفتاوى (548) ، ف (2/ 320) .(5/34)
وإن حلف على زوجته لا تفعل شيئا ولم تعلم أنه حلف أو علمت فنسيت ففعلته، فلا حنث عليه، وله أن يصدقها إن كانت صادقة عنده (1) .
فصل
ومن حلف على زوجته بالطلاق الثلاث لا تفعل كذا ففعلت وزعمت أنها حين فعلته اعتقدت أنه غير المحلوف عليه فالصحيح في مثل ذلك أنه لا يقع طلاقه، بناء على أنه إذا فعل المحلوف عليه ناسيا ليمينه أو جاهلا لم يقع به طلاق في أحد قولي الشافعي وأحمد.
وعنه في جنس ذلك ثلاث روايات، لأن البر والإيمان بمنزلة الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، لأن الحالف يقصد بيمينه الحض لنفسه أو لغيره ممن يحلف عليه أو المنع لنفسه أو لغيره ممن يحلف عليه، فهو في الحقيقة طلب مؤكد بالقسم، فكما أن الكلام نوعان: خبر وإنشاء.
والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة، والقسم أيضا، نوعان: خبر مؤكد، وإنشاء مؤكد بالقسم؛ ولهذا كان القسم جملتان: جملة يقسم عليها، وجملة يقسم بها، فإذا قال: والله لقد كان كذا، أو ما كان كذا، أو لأفعلن كذا، أو لا تفعل كذا، كان هذا قسما على الخبر، وإذا قال: والله لا أفعل كذا، أو لا تفعل كذا، كان هذا إنشاء مؤكدا بالقسم، لكنه طلب يتضمن الأمر والنهي، ثم لما صاروا يحلفون بالطلاق كان له صيغتان: صيغة القسم، وصيغة الشرط، فصيغة القسم قول الحالف: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، أو لا أفعله، أو لتفعلن كذا، وصيغة القسم موجب في صيغة الجزاء، والمثبت في هذه منفي في هذه.
__________
(1) مختصر الفتاوى (545) ، ف (2/ 320) .(5/35)
وصيغة الشرط إذا تضمنت معنى الحض والمنع كانت حلفا بالطلاق، وأما إن كان تعليقا محضا كقوله: إذا ظهرت أو طلعت الشمس ونحو ذلك، ففيه نزاع بين العلماء، والصحيح أنه ليس بحلف، بل هو إيقاع موجب بوقت معلوم أو مجهول أو معلق بشرط، وينبني على ذلك مسائل.
منها: لو حلف لا يحلف بالطلاق، أو قال: إذا حلفت به فعبدي حر، أو لم يعرف لغته، فأما إن عرفت لغته فإن يمينه تنزل عليها.
ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف فقال: إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك".
وقد تنازع العلماء في الاستثناء على ثلاث درجات.
أحدها: الإيقاع المجرد، فعند أحمد ومالك أنه تقع الثانية.
وإذا علق الطلاق بشرط يقصد به الحض أو المنع، ففيه قولان: وهما روايتان عن أحمد.
إحداهما: الإيقاع، فإنه كالإيقاع، والثاني: وهو الصحيح أنه كالحض.
والدرجة الثالثة: إذا حلف بصيغة القسم، كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، فهذا ظاهر المذهب عن أحمد أنه لا يحنث، ثم من أصحابه من يجعله قولاً واحدًا ومنهم من يجعل فيه روايتين، فالصواب وقوع الاستثناء في هاتين الصورتين، وإن قيل: لا يقع في الإيقاع.
والمقصود هنا: أن الحالف على نفسه أو غيره ليفعلن أو لا يفعل، وهو طالب طلبا مؤكدا بالقسم بمنزلة الأمر والنهي، وإذا كان كذلك فقد علم أن المنهي إذا فعل ما نهى عنه ناسيًا أو مخطئًا، وقد فعل شيئا يعتقد أنه غير المنهي عنه كان المنهي عنه كأنه لم يكن، ولم يكن(5/36)
المنهي مخالفا للناهي عاصيا له، فكذلك من فعل المحلوف عليه ناسيا أو مخطئا في اعتقاده لم يكن مخالفا للحالف، فلم يحنث الحالف، وهذا بين لمن تأمله، والله تعالى لم يؤاخذ بالنسيان والخطأ.
وأما إذا فعلت الزوجة المحلوف عليها، عالمة بالمخالفة، فهذا فيه نزاع آخر غير النزاع المعروف.
فأصل الحلف بالطلاق هل يقع به الطلاق، أو لا يقع؟ فإن النزاع في ذلك بين السلف والخلف.
والمقصود: أن الزوج إذا حلف على زوجته فخالفته عمدا، فمذهب أشهب صاحب مالك أنه لا يقع به طلاق في هذه الصورة، وخالفه غيره من المالكية، ولعل مأخذه إما وجوب طاعته عليها وجعلها عاصية بذلك، أو لئلا يكون الطلاق بيدها من غير رضاه، فإنه لم يقصد جعله بيدها إنما قصد منعها، وظن أنها لا تعصيه، كمن حلف على معنى يظنه، كصفة، فتبين بخلافها.
ثم إذا وقع به الطلاق بفعلها، أو حصلت فرقة بفعلها بعد الدخول فهل يرجع عليها بالمهر؟ فهو مبني على أن إخراج البضع من ملك الزوج هل هو متقوم؟ فلو شهد شهود بالطلاق ثم رجعوا، هل يضمنون الصداق؟ فيه قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد، والصحيح أنه متقوم ومنهم من فرق بين المرأة والأجنبي فيقول: متقوم على الأجنبي دون المرأة فيقولون: إن أفسدت النكاح هي لم تضمنه، بخلاف الأجنبي.
ثم مالك يقول: هو مضمون بالمسمى وهو منصوص عن أحمد، والشافعي يقول: هو مضمون بمهر المثل وهو وجه لأحمد، وكذلك لو أفسد رجل نكاح امرأة قبل الدخول بها وبعده فللمرأة قبل الدخول نصف الصداق، ولها جميعه بعده، ويرجع الزوج به على المفسد في الصورتين.(5/37)
عند من يقول خروج البضع متقوم، وهو المنصوص عن أحمد، وهو مقدار ما يرجع به على القولين، ومن يقول: لا يتقوم يقول: لا يرجع، وهذا القول الآخر في مذهب أحمد.
والدليل على أنه متقوم جواز الخلع عليه، وأيضا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في الممتحنة حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إلى قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [10/60] نزلت باتفاق المسلمين في قضية الصلح الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أهل مكة صلح الحديبية لما شرط عليهم أن يرد المسلمون من جاءهم مسلما، وأن لا يرد أهل مكة من ذهب إليهم مرتدا، فهاجر نسوة كأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فنسخ الله تعالى الرد في النساء، وأمر برد المهر عوضا عن رد المرأة، فذلك قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} فأمر أن يؤتي الأزواج الكفار ما أنفقوا على المرأة الممتحنة التي لا ترد، والذي أنفقوا هو المسمى {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} فشرع للمؤمنين أن يسألوا الكفار ما أنفقوا على النسوة اللاتي ارتددن إليهم، وأن يسأل الكفار ما أنفقوا على النساء المهاجرات، فلما حكم الله سبحانه وتعالى بذلك دل على أن خروج البضع متقوم، وأنه بالمهر المسمى، ودلت الآية على أن المرأة إذا أفسدت نكاحها رجع عليها زوجها بالمهر.
فإذا حلف عليها فخالفته وفعلت المحلوف عليه كانت عاصية ظالمة متلفة للبضع عليه، فيجب عليها ضمانه: إما بالمسمى على أصح قولي العلماء، وإما بمهر المثل.
يوضع ذلك ما كان من امرأة قيس بن شماس حين أبغضته.(5/38)
وقالت: إني أكره الكفر بعد الإيمان فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ترد عليه حديقته لأن الفرقة جاءت من جهتها فتبين أنه يجوز أن يأخذ صداقها إذا كان سبب الفرقة من جهتها، إلا إذا كانت من جهته، وهذا كله يقرر أنه يجوز أن يرجع إليه الصداق، إذا فعل ما يوجب الضمان مثل: ما إذا أفسدته عليه بالهجرة، أو الردة (1) .
ومن حلف على رجل، لا بد أن يعطي فلانا كذا يعتقد أن ذلك الشيء عنده موجود بحيث لو علم أنه قد عدم لما حلف، ثم تبين أن ذلك الشيء قد عدم فلا حنث عليه لأنه حلف على مستحيل نحو: لأطيرن، أوة لأشربن ماء هذا الكوز ولا ماء فيه، وهذا لا يحنث عند جماهير العلماء.
وله مأخذ آخر وهو: أنه حلف يعتقد شيئًا فتبين بخلافه (2) .
وإذا حلف بالطلاق الثلاث: أن أحدا من أرحام المرأة لا يطلع إلى بيته، فطلع في غيبته، فإن كان يعتقد أنه إذا حلف عليهم امتنعوا من الصعود فحلف ظنا أنهم ممن يطيعونه فتبين الأمر بخلاف ذلك، ففي حنثه نزاع بين العلماء، الأظهر أنه لا يحنث، كمن رأى امرأة يظنها أجنبية فقال: أنت طالق ثم تبين أنها امرأته ونحو ذلك من المسائل التي يتعارض فيها تعيين الظاهر والقصد؛ فإن الصحيح اعتبار القصد (3) .
وإذا حلف على زوجته بالطلاق أنها لا تخرج إلا إلى الحمام فخرجت إلى بيت أهل الزوج وقالت لم أظن أنك أردت منعي من أهلك، فعرف صدقها في ذلك لم يقع به طلاق، وإن عرف كذبها لم
__________
(1) مختصر الفتاوى (538-541) ، ف (2/ 321) .
(2) مختصر الفتاوى (549) ، ف (2/ 321) .
(3) مختصر الفتاوى (541) ، ف (2/ 321) .(5/39)
يقبل قولها، وإن شك في صدقها وكذبها لم يحكم بوقوع الطلاق فإن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بالشك (1) .
وإذا حلف على أخت زوجته لا تدخل بيته إلا بإذنه فدخلت بغير إذنه ولم تكن علمت باليمين ثم علمت فاعتقدت أن اليمين انحلت بالحنث وأنه لم يبق عليها يمين فاستمرت على الدخول فلا حنث على الحالف لأن الدخول الأول لم تكن عالمة باليمين، وبعد ذلك اعتقدت أنها انحلت وأنه لم يبق عليه يمين (2) .
إذا علل الطلاق بعلة ثم تبين انتفاؤها، فمذهب أحمد أنه لا يقع بها الطلاق، وعند شيخنا لا يشترط ذكر التعليل بلفظه، ولا فرق عنده بين أن يطلقها لعلة مذكورة في اللفظ أو غير مذكورة، فإذا تبين انتفاؤها لم يقع الطلاق، وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره، ولا تقتضي قواعد الأئمة غيره (3) .
وإذا حلف: لا يسكن بيت أبيه فزارهم وجلس عندهم أياما لم يحنث، لأن الزيارة ليست سكنا باتفاق الأئمة (4) .
ومن حلف على ابن أخت زوجته أن لا يعمل عند إنسان لكونه يظلمه، ثم بلغ وخرج عن أمره واستقل بنفسه وأجر نفسه لذلك الرجل لم يحنث ذلك الحالف (5) .
وإذا حلف لا يفعل شيئًا لسبب فزال السبب أو أكره على فعل المحلوف عليه لم يحنث، وإن كان السبب باقيًا وأراد فعل المحلوف.
__________
(1) مختصر الفتاوى (537) ، ف (2/ 321) .
(2) مختصر الفتاوى (537) ، ف (2/ 321) .
(3) إعلام الموقعين (4/ 90، 91) ، ف (2/ 321) .
(4) مختصر الفتاوى (547) ، ف (2/ 321) .
(5) مختصر الفتاوى (537) ، ف (2/ 323) .(5/40)
فخالع زوجته خلعا صحيحا ثم فعله بعد أن بانت بالخلع لم يحنث، وإن كان الخلع لأجل اليمين ففيه نزاع مشهور.
والصحيح أن خلع اليمين لا يصح، كالمحلل، لأنه ليس المقصود به الفرقة، وهل يقع بخلع اليمين طلقة رجعية أم لا يقع به شيء؟ فيه نزاع مشهور، والصحيح أنه لا يقع به شيء بحال، لكن إذا أفتاه مفت به وفعله معتقدا أن النكاح قد زال وأنه لا حنث عليه لأنه لم يقصد مخالفة يمينه فلا حنث عليه، وأكثر العلماء يقولون إن يمينه باقية منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور والشافعي في أحد قوليه.
وفي القول الآخر: أن اليمين تنحل إذا حصل بينه وبين زوجته بينونة، ويجوز للمستفتي أن يستفتي في مثل هذه المسائل من يفتيه بأن لا حنث عليه، ولا يجب على أحد أن يطيع أحدا في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا أفتاه من يجوز استفتاؤه جاز أن يعمل بفتواه ولو كان ذلك القول لا يوافق المذهب الذي ينتسب هو إليه، وليس بالازم أن يلتزم قول إمام بعينه في جميع أيمانه (1) .
قال شيخنا: والاحتياط أحسن ما لم يفض بصاحبه إلا مخالفة السنة، فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط (2) .
ومن اتهمته زوجته بوطء جاريته فعرض وحلف أنه ما وطئها فله ذلك كما جرى لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه إذ حلف لزوجته وأقام لها الدليل على ذلك أنه ليس جنبا فأنشد لها شعرا يوهمها أنه قرآن وهو:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرين
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمين
__________
(1) مختصر الفتاوى (549) ، ف (2/ 323) .
(2) مختصر الفتاوى (545) ، ف (2/ 323) .(5/41)
وذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك وقال: "إن امرأتك لفقيهة" فهذا قد أظهر لها أنه يقرأ القرآن، ومثل هذا لو فعله الرجل لغير عذر كان حراما بالاتفاق (1) .
باب الشك في الطلاق
لو قال: إن كان غرابا فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فامرأتي طالق، ولم يعلماه لم تطلقا، ويحرم عليهما الوطء إلا مع اعتقاد أحدهما خطأ الآخر.
واختار أبو الفرج في الإيضاح والشيخ تقي الدين وقوع الطلاق، وقال: هو ظاهر كلام أحمد رحمه الله (2) .
باب الرجعة
قال شيخنا: لا يمكن من الرجعة إلا من أراد إصلاحا وأمسك بمعروف فلو طلق إذا ففي تحريمه الروايات: وقال: القرآن يدل على أنه لا يملكه وأنه لو أوقعه لم يقع كما لو طلق البائن، ومن قال: إن الشارع ملك الإنسان ما حرمه عليه فقد تناقض (3) .
وألزم شيخنا بإعلان الرجعة والتسريح أو الإشهاد كالنكاح والخلع عنده، لا على ابتداء الفرقة لقوله: {وَأَشْهِدُوا} ولئلا يكتم طلاقها (4) .
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 163) ، ف (2/ 323) . قلت: وتقدم.
(2) إنصاف (9/ 145) ، ف (2/ 323) . قلت: وتقدم في الفصل السابق قول أبي العباس تأملت نصوص أحمد فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته في كل يمين حلف الرجل عليها بالطلاق وهو لا يدري أبار فيها أم حانث إلخ، وهي في الاختيارات (259-261) .
(3) فروع (5/ 464) وإنصاف (9/ 150) ، ف (2/ 323) .
(4) فروع (5/ 416) ، ف (2/ 324) .(5/42)
قال أبو العباس: أبو حنيفة يجعل الوطء رجعة، وهو إحدى الروايات عن أحمد، والشافعي لا يجعله رجعة، وهو رواية عن أحمد، ومالك يجعله رجعة مع النية، وهو رواية أيضا عن أحمد، فيبيح وطء الرجعية إذا قصد به الرجعة وهذا أعدل الأقوال وأشبهها بالأصول، وكلام ابن أبي موسى في الإرشاد يقتضيه.
ولا تصلح الرجعة مع الكتمان بحال، وذكره أبو بكر في الشافعي، وروي عن أبي طالب قال: سألت أحمد عن رجل طلق امرأته وراجعها واستكتم الشهود حتى انقضت العدة؟ قال: يفرق بينهما ولا رجعة له عليها (1) .
فصل
قال أصحابنا: ومن غابت مطلقته المحرمة ثم ذكرت أنها تزوجت من أصابها وانقضت عدتها منه وأمكن ذلك فله نكاحها إذا غلب على ظنه صدقها وإلا فلا.
وقد تضمنت هذه المسألة، أن المرأة إذا ذكرت أنه كان لها زوج فطلقها وانقضت عدتها فإنه يجوز تزوجها وتزويجها، وإن لم يثبت أنه طلقها.
ولا يقال: إن ثبوت إقرارها بالنكاح يوجب تعلق حق الزوج بها فلا يجوز نكاحها حتى يثبت زواله.
ونص الإمام أحمد في الطلاق، إذا كتب إليها أنه طلقها لم تتزوج حتى يثبت الطلاق، وكذلك لو كان للمرأة زوج فادعت أنه طلقها لم تتزوج بمجرد ذلك باتفاق المسلمين؛ لأنا نقول، المسألة هنا فيما إذا
__________
(1) اختيارات (273، 274) فيه زيادات والمبدع (7/ 393) ، ف (2/ 334) .(5/43)
ادعت أنه تزوجها من أصابها وطلقها ولم تعينه، فإن النكاح لم يثبت لمعين بل لمجهول، فهو كما لو قال: عندي مال لشخص وسلمته إليه فإنه لا يكون إقرارا بالاتفاق، فكذلك قولها، كان لي زوج وطلقني أو سيدي اعتقني ولو قالت: تزوجني فلان وطلقني فهو كالإقرار بالمال، وادعاء الوفاء، والمذهب لا يكون إقراره (1) .
فصل
قال أحمد في رواية ابن منصور: فإن طلقها ثلاث ثم جحد تفتدي نفسها منه بما تقدر عليه، فإن أجبرت على ذلك فلا تتزين له ولا تقربه وتهرب إن قدرت.
وقال في رواية أبي طالب: تهرب ولا تتزوج حتى يظهر طلاقها ويعلم ذلك.
فإن لم يقر بطلاقها ومات لا ترث، لأنها تأخذ ما ليس لها، وتفر منه، ولا تخرج من البلد ولكن تختفي في بلدها
قيل له: قال بعض الناس، تقتله بمنزلة من يدفع عن نفسه، فلم يعجبه ذلك.
فإن قال: استحللت، وتزوجتها، قال: يقبل منه.
قال القاضي: ألا تقتله، معناه: لا تقصد قتله، وإن قصدت دفعه فأدى ذلك إلى قتله فلا ضمان.
قال أبو العباس: كلام أحمد يدل على أنه لا يجوز لها دفعه
__________
(1) اختيارات (275) ، ف (2/ 334) .(5/44)
بالقتل وهو الذي لم يعجبه لأن هذا ليس معتديا في الظاهر، والدفع بالقتل إنما يجوز لمن ظهر اعتداؤه (1) .
وقطع جمهور أصحابنا بحل المطلقة ثلاثا بوطء المراهق، والذمي إن كانت ذمية.
قال أبو العباس: النكاح الذي يبيحها له هو النكاح الذي ينبغي أن يقران عليه بعد الإسلام، والمجيء به إلينا للحكم صحيح.
فعلى هذا يحلها النكاح بلا ولي ولا شهود، وكذلك لو تزوجها على أخت ثم ماتت الأخت قبل مفارقتها.
فأما لو تزوجها في عدة أو على أخت ثم طلقها مع قيام المفسد فهنا موضع نظر، فإن هذا النكاح لا يثبت به التوارث ولا نحكم نحن فيه بشيء من أحكام النكاح، فينبغي أن لا تحل له (2) .
يلزمها (3) ترك حناء وزينة نهاها عنه الزوج، ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله (4) .
__________
(1) اختيارات (274) ، ف (2/ 324) .
(2) اختيارات (274) ، ف (2/ 334) .
(3) الرجعية.
(4) إنصاف (9/ 357) ، ف (2/ 334) .(5/45)
كتاب الإيلاء
وإذا حلف الرجل على ترك الوطء وغي بغاية لا يغلب على الظن خلو المدة منها فخلت منها فعلى روايتين:
إحداهما: هل يشترط العلم بالغاية وقت اليمين، أو يكفي ثبوتها في نفس الأمر؟
وإذا لم يفئ وطلق بعد المدة أو طلق الحاكم عليه لم يقع إلا طلقة رجعية وهو الذي يدل عليه القرآن، ورواية عن أحمد، فإذا راجع فعليه أن يطأ عقب هذه الرجعة إذا طلبت ذلك منه، ولا يمكن من الرجعة إلا بهذا الشرط، ولأن الله إنما جعل الرجعة إذا أراد إصلاحا بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [228/2] (1) .
وقال ابن رجب في كتاب تزويج أمهات الأولاد: يؤخذ من كلامه أن حصول الضرر بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال، وسواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، وسواء كان مع عجزه أو قدرته، وكذا ذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله في العاجز، وألحقه بمن طرأ عليه جب أو عنة (2) .
__________
(1) اختيارات (276) ، ف (2/ 324) .
(2) إنصاف (9/ 154) ، ف (2/ 325) وتقدم.(5/46)
كتاب الظهار
ولا ظهار من أمته، ولا أم ولده، وعليه كفارة، نقله الجماعة، ونقل أبو طالب، عليه كفارة ظهار.
ويتوجه على هذا أنها تحرم عليه حتى يكفر، كأحد الوجهين فيما لو قال: أنت علي حرام وأولى (1) .
وإن قال لأجنبية: أنت علي كظهر أمي لم يطأها حتى يكفر..
وقيل: لا يصح كالطلاق، وذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله رواية (2) .
ولو عزم على الوطء فأصح القولين لا تستقر الكفارة إلا بالوطء (3) .
قال في المحرر: ولو وطء في حال جنونه لزمته الكفارة، نص عليه مع أنه ذكر في الطلاق ما يقتضي أنه لا حنث عليه في ظاهر المذهب، فإن توجه فرق وإلا كان المنصوص الحنث في الجنون مطلقا، وفيه نظر (4) .
عتق ولد الزنا في الكفارة: قوله: وولد الزنا: يعني أنه يجزئ
__________
(1) اختيارات (276) ، ف (2/ 325) .
(2) إنصاف (9/ 202) ، ف (2/ 326) .
(3) اختيارات (276) ، ف (2/ 326) .
(4) اختيارات (276) ، ف (2/ 326) .(5/47)
وهو المذهب، ولا أعلم فيه خلافا، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ويحصل له أجره كاملا، خلافا لمالك رحمه الله؛ فإنه يشفع مع صغره لأمه لا لأبيه (1) .
وما يخرج في الكفارة المطلقة غير مقيد بالشرع، بل بالعرف قدرًا أو نوعا من غير تقدير ولا تمليك، وهو قياس المذهب في الزوجة والأقارب والمملوك والضيف، والأجير المستأجربطعامه، والإدام يجب إن كان يطعم أهله بإدام، وإلا فلا.
وعادة الناس تختلف في ذلك في الرخص والغلاء، واليسار والإعسار وتختلف بالشتاء والصيف.
والواجبات المقدرات في الشرع على ثلاثة أنواع:
تارة: تقدر الصدقة الواجبة ولا يقدر من يعطاها كالزكاة.
وتارة يقدر المعطى، ولا يقدر المال كالكفارات، وتارة: يقدر هذا وهذا كفدية الأذى، وذلك لأن سبب وجوب الزكاة هو المال فقدر فيها المال الواجب.
وأما الكفارات فسببها فعل بدنه كالجماع واليمين والظهار فقدر فيها المعطى كما قدر العتق والصيام، وما يتعلق بالحج ففيه بدن، ومال، فعبادته بدنية ومالية فلهذا قدر فيه هذا وهذا (2) .
وإن أخرج القيمة أو غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه، وعنه: يجزئه إذا كان قدر الواجب.
واختار الشيخ تقي الدين الأجزاء ولم يعتبر القدر الواجب، وهو
__________
(1) إنصاف (9/ 220) ، ف (2/ 326) .
(2) اختيارات (276، 277) ، ف (2/ 326) .(5/48)
ظاهر نقل أبي داود وغيره، فإنه قال: أشبعهم قال: ما أطعمهم؟ قال: خبزا ولحما إن قدرت، أو من أوسط طعامكم (1) .
اللعان
ولو لم يقل الزوج في أيمانه: فيما رميتها به، فقياس المذهب صحته، كما إذا اقتصر الزوج في النكاح على قوله: قبلت.
وإذا جوزنا إبدال لفظ الشهادة، والسخط، و"اللعن" فلأن نجوزه بغير العربية أولى (2) .
فصل
فيما يلحق من النسب
وإذا اعترف السيد بوطء الأمة وقبل خروجها من ملكة جاءت بولد لمدة الإمكان لحقه نسبه، وثبت في صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في امرأة مجح على باب فسطاط والمجح هي الحامل المقرب، فقال: لعل صاحبها ألم بها؟ قالوا: نعم، قال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، كيف يستعبده وهو لا يحل له، فنصب على أنه لا يجوز استعباده، ولا أن يجعله ميراثا عنه إذا كان قد سقاه ماءه وزاده في سمعه وبصره فصار فيه ما هو بعض له، فهي أم ولده من هذا الوجه، وقد نص على ذلك غير واحد من العلماء منهم أحمد وغيره، حتى قال تصير أم ولده، والإسلام يسري كالعتق فإذا وطئها وهي حامل عتق الولد وحكم بإسلامه، وليس له بيعة، ولا يثبت نسبه بمجرد ذلك.
__________
(1) اختيارات (277) ، ف (2/ 326) .
(2) الإنصاف (9/ 233) ، ف (2/ 326) .(5/49)
ومن زنت أمته وأتت بولد فأعتقه فله أجر عتق عبد كامل عند جمهور العلماء، وذهب طائفة كأبي حنيفة ومالك إلى أن عتقه ناقص (1) .
وإذا ادعت جارية أن فلانا زوج سيدتها وطئها فالقول قوله: وهل يحلف؟ فيه نزاع، ولا يحل أن يجحد أنه وطئها إن كانت صادقة، والولد رقيق تبعا لأمه إن لم يقر بوطئها (2) .
ولا تصير الزوجة فراشا إلا بالدخول، وهو مأخوذ من كلام الإمام أحمد في رواية حرب (3) .
ونقل حرب فيمن طلق قبل الدخول وأتت بولد فأنكره ينتفي بلا لعان، فأخذ الشيخ تقي الدين رحمه الله من هذه الرواية أن الزوجة لا تكون فراشًا إلا بالدخول، واختاره هو وغيره من المتأخرين منهم والد الشيخ تقي الدين، قاله ابن نصر الله في حواشيه (4) .
وتتبعض الأحكام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "احتجبي يا سودة" وعليه نصوص أحمد (5) .
ومنها: أنه لا أثر لشبه مع فراش، ذكره جماعة من الأصحاب، وقدمه في الفروع، واختار الشيخ تقي الدين تبعض الأحكام بقوله - صلى الله عليه وسلم - "احتجبي يا سودة" (6) .
ومن أقر بوطء أمته في الفرج فولدت لمدة إمكانه لزمه ولحقه، فلا ينتفي بلعان ولا غيره إلا أن يدعي الاستبراء، وفي يمينه وجهان ...
__________
(1) مختصر الفتاوى (610) ، ف (2/ 327) .
(2) مختصر الفتاوى (606) ، ف (2/ 327) .
(3) اختيارات (278) ، ف (2/ 327) .
(4) الإنصاف (9/ 258) ، ف (2/ 327) .
(5) اختيارات (278) ، ف (2/ 327) .
(6) إنصاف (9/ 268، 269) .(5/50)
أحدهما: يحلف، وهو الصحيح.. والوجه الثاني: لا يحلف، قال: الشيخ تقي الدين، المشهور أنه يحلف (1) .
وقال شيخنا: فيما إذا ادعى البائع أنه ما باع حتى استبرأ وحلف المشتري أنه ما وطئها، فقال: إن أتت به بعد الاستبراء لأكثر من ستة أشهر فقيل: لا يقبل قوله ويلحقه النسب قاله القاضي في تعليقه، وهو ظاهر كلام أحمد، وقيل: ينتفي النسب، اختاره القاضي في المجرد وابن عقيل وأبو الخطاب وغيرهم وهو مذهب (م ش) فعلى هذا هل يحتاج إلى اليمين على الاستبراء؟ فيه وجهان في مذهب مالك وأحمد، والاستحلاف قول (ش) والمشهور لا يحلف (2) .
ولو أقر بنسب أو شهدت به بينة فشهدت بينة أخرى أن هذا ليس من نوع هذا؛ بل هذا رومي وهذا فارسي فهذا من وجه يشبه تعارض القافة أو البينة، ومن وجه كبر السن، فهذا المعارض المنافي للنسب هل يقدح في المقتضي له؟ قال أبو العباس: هذه المسألة حدثت وسئلت عنها وكان الجواب: أن التغاير بينهما إن أوجب القطع بعدم النسب فهو كالسن مثل، أن يكون أحدهما حبشيا والآخر روميا ونحو ذلك، فهنا ينتفي النسب، وإن كان أمرا محتملا لم ينفه لكن إن كان المقتضي للنسب الفراش لم يلتفت إلى المعارضة، إن كان المثبت له مجرد الإقرار أو البينة فاختلاف الجنس معارض ظاهر، فإن كان النسب بنوة فثبوتها أرجح من غيرها، إذ لا بد للابن من أب غالبا وظاهرا.
قال في الكافي: ولو أنكر المجنون بعد البلوغ لم يلتفت إلى
إنكاره، قال أبو العباس: ويتوجه أن يقبل؛ لأنه إيجاب حق عليه بمجرد
__________
(1) تصحيح الفروع (5/ 521) ، ف (2/ 327) .
(2) فروع (5/ 524) وإنصاف (9/ 267) ، ف (2/ 327) .(5/51)
قول غيره مع منازعته، كما حكمنا للقيط بالحرية، فإذا بلغ فأقر بالرق قبلنا إقراره (1) .
ولو أدخلت المرأة لزوجها أمتها؟ إن ظن جوازه لحقه الولد، وإلا فروايتان ويكون حراما على الصحيح إن ظن حلها بذلك (2) .
ومن وطئ أمة امرأته وقد أحلتها له عزر بمائة جلدة، وعنه: إلا سوطا، وعنه: بعشرة ولا يلحقه الولد في رواية نقله الجماعة، قال أبو بكر: عليه العمل، قال أحمد: لما لزمه من الجلد أو الرجم، وعنه: بلى، وقال شيخنا: إن ظن جوازه لحقه وإلا فروايتان فيه وفي حده (3) .
وإن وطئ المرتهن الأمة المرهونة بإذن الراهن وظن جواز ذلك لحقه الولد وانعقد حرا (4) .
يلحقه الولد بوطء الشبهة كعقد نص عليه، وذكره الشيخ تقي الدين إجماعا (5) .
واختار شيخنا: أنه إن استلحق ولده من زنا ولا فراش لحقه (6) .
وإن تداعيا بهيمة أو فصيلا فشهد القائف أن دابة هذا تنتجها؟ ينبغي أن يقضي بهذه الشهادة، وتقدم على اليد الحسية.
ويتوجه أن يحكم بالقافة في الأموال كلها كما حكمنا بذلك في الرف المقلوع إذا كان له موضع في الجدار، وكما حكمنا في الاشتراك
__________
(1) اختيارات (278، 279) ، ف (2/ 327) .
(2) اختيارات (279) ، ف (2/ 328) .
(3) فروع (6/ 75) ، ف (2/ 328) .
(4) اختيارات (279) ، ف (2/ 328) .
(5) إنصاف (9/ 269) ، ف (2/ 328) هذا أصرح مما في المجموع.
(6) فروع (5/ 526) وإنصاف (9/ 269) هنا جزم وتوضيح، ف (2/ 328) .(5/52)
في اليد الحسية بما يظهر من اليد العرفية فأعطينا كل واحد من الزوجين ما يناسبه في العادة، وكل واحد من الصانعين ما يناسبه، وكما حكمنا بالوصف في اللقطة إذا تداعاها اثنان، وهذا نوع قافة أو شبيه به، وكذلك لو تنازعا غراسًا أو ثمرًا في أيديهما فشهد أهل الخبرة أنه من هذا البستان، ويرجع إلى أهل الخبرة حيث يستوي المتداعيان، كما رجع إلى أهل الخبرة بالنسب، وكذلك لو تنازع اثنان لباسا أو نعلا من لباس أحدهما دون الآخر، أو تنازعا دابة تذهب من بعيد إلى اصطبل، أحدهما دون الآخر، أو تنازعًا زوج خف أو مصراع باب مع الآخر شكله، أو كان عليه علامة لأحدهما كالزبول الذي للجند، وسواء كان المدعي في أيديهما أو في يد ثالث.
وأما إن كانت اليد لأحدهما دون الآخر فالقافة المعارضة لهذا كالقافة المعارضة للفراش، فإن قلنا بتقديم القافة في صرة الرجحان فقد نقول ههنا كذلك، ومثل أن يدعي أنه ذهب من ماله شيء ويثبت ذلك فيقص القائف أثر الوطء من مكان آخر، فشهادة القائف أن المال دخل إلى هذا الموضع توجب أحد الأمرين: إما الحكم به، وإما أن يكون لوثا فيحكم به مع اليمين للمدعي وهو الأقرب، فإن هذه الأمارة ترجح جانب المدعي، واليمين مشروعة في أقوى الجانبين.
ولو مات الطفل قبل أن تراه القافة قال المزي: يوقف ماله، وما قاله ضعيف، وإنما قياس المذهب القرعة، ويحتمل الشركة، ويحتمل أن يرث واحد منهما (1) .
__________
(1) اختيارات (279) ، ف (2/ 328) .(5/53)
كتاب العدد
قال شيخنا: والصواب أن يقال: إن عدة الوفاة هي حرم لانقضاء النكاح، ورعاية لحق الزوج، ولهذا تحد المتوفى عنها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج فجعلت العدة حريما لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن فيحصل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني ولا يتصل النكاحان.
ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عظم حقه حرم نساؤه بعده، وبهذا اختص الرسول لأن أزواجه في الدنيا هن أزواجه في الآخرة، بخلاف غيره فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغير زوجها تضررت المتوفى عنها، وربما كان الثاني خيرا لها من الأول، ولكن لو تأيمت على أولاد الأول لكانت محمودة على ذلك مستحبا لها في الحديث "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة، وأومأ بالوسطى والسبابة امرأة أيمت من زوجها ذات منصب وجمال وحبست نفسها على يتامى لها حتى بانوا أو ماتوا" وإذا كان المقتضى لتحريمها قائمًا فلا أقل من مدة تتربصها، وقد كانت في الجاهلية تتربص سنة فخففها الله سبحانه بأربعة أشهر وعشر، وقيل لسعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيها ينفخ الروح فيحصل في هذه المدة براءة الرحم حيث يحتاج إليه، وقضاء حق الزوج إذا لم يحتج إلى ذلك (1) .
__________
(1) زاد المعاد (4/ 209) ، ف (2/ 329) لم يبين ابن القيم رحمه الله متى انتهى كلام شيخه. ويحتمل أنه انتهى قبل قوله: ولهذا إلخ.(5/54)
لو قتل المرتد في عدة امرأته فإنها تستأنف عدة الوفاة، نص عليه في رواية ابن منصور.
لو أسلمت امرأة كافر ثم مات قبل انقضاء العدة فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة في قياس التي قبلها ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله (1) .
وذكر الشيخ تقي الدين: أنها إن شربت ما تحيض به فلها ذلك كمن لها غرض في قصر عدتها لارتفاع الحيض بعارض (2) .
ويتوجه في المعتق بعضها إذا كان الحر ثلثها فما دون أن لا تجب الثلاثة الأقراء فإن تكميل القرءين من الأمة إنما كان لضرورة، فيؤخذ للمعتق بعضها بحاسب الأصل ويكمل (3) .
والمطلقة البائن وإن لم تلزمه نفقتها إن شاء أسكنها في مسكنه أو غيره إن صلح لها ولا محذور تحصينا لمائه وأنفق عليها فله ذلك، وكذلك الحامل من وطء الشبهة أو النكاح الفاسد لا يجب على الواطئ نفقتها إن قلنا بالنفقة لها، إلا أن يسكنها في منزل يليق بها تحصينا لمائه فيلزمها ذلك، وتجب لها النفقة والله أعلم (4) .
ومن طلق ثلاثا وألزمها بوفاء العدة في مكانها فخرجت منه قبل أن توفي عدتها فلا نفقة لها وليس لها أن تطالب بنفقة الماضي في مثل هذه العدة في مذهب الأربعة (5) .
وعنه: عدة مختلعة حيضة، واختاره شيخنا في بقية الفسوخ (6) .
__________
(1) الإنصاف: (9/ 276) ، ف (2/ 329) .
(2) الآداب (3/ 75) ، ف (2/ 330) .
(3) اختيارات (280) ، ف (2/ 330) .
(4) اختيارات (283) والإنصاف (9/ 354) .
(5) مختصر الفتاوى (449) ، ف (2/ 330) .
(6) الفروع (5/ 242) ، ف (2/ 330) .(5/55)
ومن ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه إن علمت عدم عوده فتعتد بالأشهر وإلا اعتدت بسنة (1) .
قال ابن القيم رحمه الله: والصواب الذي دل عليه القرآن وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبايا، والقياس: أن النكاح ينفسخ بسباء المرأة مطلقا، فإنها قد صارت ملكا للسابي، وزالت العصمة عن ملك الزوج لها، كما زالت عن ملكه لرقبتها ومنافعها، وهذا اختيار أبي الخطاب وشيخنا وهو مذهب الشافعي (2) .
وقال في ميت عن امرأة شهد قوما بطلاقها ثلاثا مع علمهم عادة بخلوته بها، لا يقبل؛ لأن إقرارهم يقدح فيهم (3) .
والصواب في امرأة المفقود: مذهب عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة وهو أنها تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني ظاهرًا وباطنًا (4) ، ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها خير بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده، وهو ظاهر مذهب أحمد.
وعلى الأصح لا يعتبر الحاكم فلو مضت المدة والعدة تزوجت بلا حكم، قال أبو العباس، وكنت أقول: إن هذه شبه اللقطة من بعض الوجوه ثم رأيت ابن عقيل قد ذكر ذلك ومثل بذلك، وهذا لأن المجهول في الشرع كالمعدوم، وإذا علم بعد ذلك كان التصرف في أهله وماله موقوفا على إذنه.
__________
(1) إنصاف (9/ 287) واختيارات (283) ، ف (2/ 331)
(2) أحكام أهل الذمة (370) ، ف (2/ 331) .
(3) إنصاف (9/ 314) ، ف (2/ 332) وتقدم.
(4) قال في الإنصاف قال الشيخ تقي الدين: وترث الثاني ذكره أصحابنا (9/ 292) .(5/56)
ووقف التصرف في حق الغير على إذنه يجوز عند الحاجة عندنا بلا نزاع، وأما مع عدم الحاجة ففيه روايتان، كما يجوز التصرف في اللقطة بعدم العلم لصاحبها فإذا جاء المالك كان تصرف الملتقط موقوفا على إجازته، وكان تربصها أربع سنين كالحول في اللقطة.
وبالجملة: فكل صورة فرق فيها بين الرجل وامرأته بسبب يوجب الفرقة ثم تبين انتفاء ذلك السبب فهو شبيه بالمفقود، والتخيير فيه بين المرأة والمهر هو أعدل الأقوال.
ولو ظنت المرأة أن زوجها طلقها فتزوجت فهو كما لو ظنت موته، ولو قدر أنها كتمت الزوج فتزوجت غيره ولم يعلم الأول حتى دخل بها الثاني فهنا الزوجان مشهوران بخلاف المرأة، لكن إن اعتقدت جواز ذلك بأن تعتقد أنه عاجز عن حقها أو مفرط فيه وأنه يجوز لها الفسخ والتزوج بغيره فتشبه امرأة المفقود.
وأما إذا علمت التحريم فهي زانية، لكن المتزوج بها كالمتزوج بامرأة المفقود وكأنها طلقت نفسها فأجازه (1) .
والواجب أن الشبهة إن كانت شبهة نكاح فتعتد الموطوءة عدة المزوجة حرة كانت أو أمة، وإن كانت شبهة ملك فعدة الأمة المشتراه، وأما الزنا فالعبرة بالمحل.
وقال أبو العباس في موضع آخر: الموطوءة بشبهة ملك تستبرأ بحيضة، وهو وجه في المذهب، وتعتد المزني بها بحيضة، وهو رواية عن أحمد، والمختلفة يكفيها الاعتداد بحيضة واحدة، وهو رواية عن أحمد ومذهب عثمان بن عفان وغيره، والمفسوخ نكاحها كذلك، وأومأ
__________
(1) اختيارات (281، 282) فيه زيادات ف (2/ 332) .(5/57)
إليه أحمد في رواية صالح، والمطلقة ثلاث تطليقات عدتها حيضة واحدة (1) .
قال الشيخ تقي الدين: ويحرم سفره بأخت زوجته ولو معها (2) .
باب الاستبراء
وعنه: لا يلزم في مسبيه ذكره الحلواني، وفي الترغيب وجه: لا يلزم في إرث، وفي صغيرة لا يوطأ مثلها روايتان: وخالف شيخنا في بكر كبيرة وآيسة وخبر صادق لم يطأ أواستبرأ (3) .
واختار الشيخ تقي الدين جواز وطء البكر ولو كانت كبيرة والآيسة وإذا أخبره صادق أنه لم يطأها أو أنه استبرأ.
وعنه: لا يلزمه الاستبراء إن ملكها من طفل أو امرأة، قلت: وهو مقتضى قواعد الشيخ تقي الدين (4) .
__________
(1) اختيارات (282) فيه زيادة ف (2/ 332) .
(2) إنصاف (9/ 314) ، ف (2/ 334) وتقدم.
(3) فروع (5/ 561) ، ف (2/ 334) .
(4) الإنصاف (9/ 316) ، ف (2/ 334) .(5/58)
الرضاع
والرضاع المحرم في الحولين فقط مطلقا، وقال شيخنا: قبل الفطام، وقال: أو كبير لحاجة نحو جعله محرما خمس رضعات (1) .
وإن اشترك اثنان في وطء امرأة فحكم المرتضع من لبنها حكم ولدها، من هذين الرجلين وأولادهما فإن لم يلحق بأحدهما فالواجب أنه يحرم على أولادهما لأنه أخ لأحد الصنفين وقد اشتبه، أو يقال كما قيل في الطلاق، يحل لكل منهما، فإن الاشتباه في حق اثنين لا واحد (2) .
__________
(1) فروع (5/ 570) ، ف (2/ 335) .
(2) اختيارات (283) ، ف (2/ 337) .(5/59)
كتاب النفقات
نفقة الزوجة
قال في المحرر: ولو أنفقت من ماله وهو غائب فتبين موته فهل يرجع ورثته عليها بما أنفقت بعد موته؟ على روايتين. قال أبو العباس: وعلى قياسه كل من أبيح له شيء وزالت الإباحة بفعل الله أو بفعل المبيح: كالمعير إذا مات أو رجع، والمانح، وأصل الموقوف عليه، لكن لم يذكر الجد ههنا إذا طلق، فلعله يفرق بين الموت والطلاق، فإن التفريط في الطلاق منه (1) .
ولو أنفق الزوج على الزوجة وكساها مدة ثم ادعى الولي عدم إذنه وأنها تحت حجره لم يسمع قوله إذا كان الزوج قد تسلمها التسليم الشرعي، وقد نص على ذلك أئمة العلماء، وخالف فيه شذاذ من الناس.
وإقرار الولي لها عنده مع حاجتها إلى النفقة والكسوة إذن عرفي (2) .
ذكر أصحابنا من الصور المسقطة لنفقة الزوجة صور النذر الذي في
__________
(1) اختيارات (285) ، ف (2/ 339) .
(2) اختيارات (285) ، ف (2/ 339) .(5/60)
الذمة والصوم للكفارة، وقضاء رمضان قبل ضيق وقته إذا لم يكن ذلك في إذنه.
قال أبو العباس: قضاء الله والكفارة عندنا على الفور، فهو كالمتعين، وصوم القضاء يشبه الصلاة في أول الوقت.
ثم ينبغي في جميع صور الصوم أن تسقط نفقة النهار فقط، فإن هذا مثل أن تنشز يوما وتجيء يومًا، فإنه لا يمكن أن يقال في هذا كما قيل في الإجارة أن منع تسليم بعض المنفعة يسقط الجميع، إذ ما مضى من النفقة لا يسقط، ولو أطاعت في المستقبل استحقت (1) .
والزوجة المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها ولا سكنى، إلا إذا كانت حاملا فروايتان، وإذا لم تجب النفقة في التركة فإنه ينبغي أن تجب لها النفقة في مال الحمل أو في مال من تجب عليه النفقة إذا قلنا تجب للحمل كما تجب أجرة الرضاع.
وقال أبو العباس في موضع آخر: النفقة والسكن تجب للمتوفى عنها في عدتها ويشترط فيها مقامها في بيت الزوج، فإن خرجت فلا جناح إذا كان أصلح لها.
والمطلقة البائن الحامل تجب لها النفقة من أجل الحمل وللحمل، وهو مذهب مالك وأحد القولين في مذهب أحمد والشافعي.
وإذا تزوجت المرأة ولها ولد فغضب الولد فذهبت به إلى بلد آخر فليس لها أن تطالب الأب بنفقة الولد (2) .
وإن انقضت السنة والكسوة صحيحة قال أصحابنا عليه كسوة السنة الأخرى، وذكروا احتمالا أنه لا يلزمه شيء، وهذا الاحتمال قياس
__________
(1) اختيارات (285) ، ف (2/ 339) .
(2) اختيارات (286) فيه زيادة ف (2/ 339) .(5/61)
المذهب لأن النفقة والكسوة غير مقدرة عندنا، فإذا كفتها الكسوة عدة سنين لم يجب غير ذلك، وإنما يتوجه ذلك على قول من يجعلها مقدرة.
وكذلك على قياس هذا لو استبقت من نفقة أمس لليوم، وذلك أنها وإن وجبت معاوضة فالعوض الآخر لا يشترط الاستبقاء فيه ولا التمليك بل التمكين من الانتفاع، فكذلك عوضه، ونظير هذا الأجير بطعامه وكسوته.
ويتوجه على ما قلنا أن قياس المذهب أن الزوجة، إذا اقتضت النفقة ثم تلفت أو سرقت أنه يلزم الزوج عوضها، وهو قياس قولنا في الحج عن الغير، إذا تلف ما أخذه نفقة فإنه يتلف من ضمان مالكه (1) .
وإن اختلفا في نشوزها أو تسليم النفقة لها فالقول قولها مع يمينها، واختار الشيخ تقي الدين في النفقة أن القول قول من يشهد له العرف (2) .
نفقة الأقارب
ويجب على القريب افتكاك قريبه من الأسر، وإن لم يجب عليه استنفاذه من الرق وهو أولى من حمل العقل.
وتجب النفقة لكل وارث ولو كان مقاطعا من ذوي الأرحام وغيرهم؛ ولأنه من صلة الرحم، وهو عام كعموم الميراث في ذوي الأرحام، وهو رواية عن أحمد، والأوجه وجوبها مرتبا (3) .
__________
(1) اختيارات (284) ، ف (2/ 340) .
(2) إنصاف (9/ 383) ، ف (2/ 340) .
(3) إنصاف (9/ 395) واختيارات (287) ، ف (2/ 341) .(5/62)
وإن كان الموسر القريب ممتنعا فينبغي أن يكون كالمعسر، كما لو كان للرجل مال وحيل بينه وبينه لغصب أو بعد، لكن ينبغي أن يكون الواجب هنا القرض رجاء الاسترجاع.
وعلى هذا فمتى وجبت عليه النفقة وجب عليه القرض إذا كان له وفاء.
وذكر القاضي وأبو الخطاب وغيرهما في أب وابن القياس أن على الأب السدس، إلا أن الأصحاب تركوا القياس لظاهر الآية، والآية إنما هي للرضيع وليس له ابن فينبغي أن يفرق بين الصغير وغيره، فإن من له ابن يبعد أن لا تكون عليه نفقته، بل تكون على الأب فليس في القرآن ما يخالف ذلك، وهذا جيد على قول ابن عقيل حيث ذكر في التذكرة أن الولد ينفرد بنفقة والديه (1) .
وإرضاع الطفل واجب على الأم بشرط أن تكون مع الزوج، وهو قول ابن أبي ليلى وغيره من السلف ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها وهو اختيار القاضي في المجرد وقول الحنفية لأن الله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [233/2] فلم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة بالمعروف
وهو الواجب بالزوجية وما عساه يتجرد من زيادة خاصة للمرتضع كما قال في الحامل {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [6/65] فدخلت نفقة الولد في نفقة أمه؛ لأنه يتغذى بها، وكذلك المرتضع وتكون النفقة هنا واجبة بشيئين حتى لو
سقط الوجوب بأحدهما ثبت الآخر، كما لو نشزت وأرضعت ولدها فلها النفقة للإرضاع لا للزوجية، فأما إذا كانت بائنا وأرضعت له
__________
(1) اختيارات (278) ، ف (2/ 341) .(5/63)
ولده فإنها تستحق أجرها بلا ريبت، كما قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [6/65] ، وهذا الأجر هو النفقة والكسوة، وقاله طائفة منهم الضحاك وغيره.
وإذا كانت المرأة قليلة اللبن وطلقها زوجها فله أن يكتري مرضعة لولده، وإذا فعل ذلك فلا فرض للمرأة بسبب الولد، ولها حضانته (1) .
المماليك
وقال الشيخ تقي الدين: ولو لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده لزمه إخراجه عن ملكه (2) .
باب الحضانة
لا حضانة إلا لرجل من العصبة أو لامرأة وارثة أو مدلية بعصبة أو بوارث، فإن عدموا فالحاكم.
وقيل: إن عدموا تثبت لمن سواهم من الأقارب ثم للحاكم.
ويتوجه عند العدم أن تكون لمن سبقت إله اليد كاللقيط، فإن كفال اليتامى لم يكونوا يستأذونون الحاكم.
والوجه أن يتردد بين الميراث والمال (3) .
والعمة أحق من الخالة، وكذا نساء الأب أحق يقدمن على نساء الأم؛ لأن الولاية للأب وكذا أقاربه، وإنما قدمت الأم على الأب لأنه لا يقوم مقامها هنا في مصلحة الطفل.
__________
(1) اختيارات (286) ، ف (2/ 342) .
(2) إنصاف (9/ 412) وتقدم ف (2/ 343) .
(3) فروع (5/ 614) واختيارات (288) فيه زيادة ف (2/ 343)(5/64)
وإنما قدم الشارع عليه الصلاة والسلام خالة بنت حمزة على عمتها صفية لأن صفية لم تطلب وجعفر طلب نائبا عن خالتها فقضى لها بها في غيبتها (1) .
وضعف البصر يمنع من كمال ما يحتاج إليه المحضون من المصالح (2) .
قاعدة في حضانة الولد (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه.
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، من يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فصل
في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز هل هو للأب؟ أو للأم؟ أو يخير بينهما؟
__________
(1) المصدر السابق.
(2) اختيارات (288) ، ف (344) .
(3) هذه القاعدة فيها زيادة عما في المجموع (ست صفحات وخمسًا صحيفة) وفيها تصحيحات للموجود منها في المجموع فلذلك نقلتها في هذا المستدرك كاملة.(5/65)
فإن عامة كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذا بلغ سبع سنين خير بين أبويه، وأما الجارية فالأب أحق بها، وأكثرهم لم يذكروا في ذلك نزاعا.
وهؤلاء الذين ذكروا هذا بلغهم بعض نصوص أحمد في هذه المسألة ولم يبلغهم سائر نصوصه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدًّا، وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره وكثرة من كان يأخذ عنه العلم، فأبو بكر الخلال قد طاف البلاد وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدا وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه.
وأما ما جمعه من نصوصه في أصول الدين، ومثل كتاب السنة، نحو ثلاث مجلدات، ومثل أصول الفقه والحديث، ومثل كتاب العلم، الذي جمعه، ومن الكلام على علل الأحاديث، مثل كتاب العلل، الذي جمعه ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والآداب، ومن كلامه في الرجال والتأريخ، فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه.
والمقصود هنا: أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما، في مسألة البنت، وفي مسألة الابن، وفي مذهبه في المسألتين ثلاثة أقوال:
هل تكون مع الأم، أو مع الأب، أو تخير؟ لكن في الابن ثلاث روايات
وأما البنت فالمنقول عنه روايتان: هل هي للأم، أو للأب؟ وأما التخيير فهو وجه مخرج في مذهبه، فعنه في الابن ثلاث روايات معروفة وممن ذكرهن أبو البركات في محرره.
وعنه في الجارية روايتان: وممن ذكرهما أبو عبد الله بن تيمية في كتاب التلخيص، وترغيب القاصد.(5/66)
والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب.
وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلى في تعليقه، نقل عن أحمد في الغلام، أمه أحق به حتى يستغنى عنها، ثم الأب أحق به، قال في رواية الفضل بن زياد: إذا عقل الغلام واستغنى عن الأم فالأب أحق به، وقال في رواية أبي طالب: والأب أحق بالغلام إذا عقل واستغنى عن الأم، وهذا يشبه الذي نقله القاضي أبو يعلى والشاشي وغيرهما عن أبي حنيفة، قال: إذا أكل وحده، ولبس وحده، وتوضأ وحده، فالأب أحق به، ونقل ابن المنذر، أنه يخير حينئذ بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور، والأول هو مذهب أبي حنيفة الموجد في كتب أصحابه، وهو إحدى الروايتين عن مالك، فإنه نقل عنه ابن وهب: الأم أحق به حتى يثغر ولكن المشهور عنه أن الأم أحق به ما لم يبلغ.
وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد:
والرواية الثالثة عن أحمد: أن الأم أحق بالغلام مطلقا كمذهب مالك قال في رواية حنبل: في الرجل يطلق امرأته وله منها أولاد صغار فالأم أعطف عليهم، مقدار ما يعقل الأدب، فيكون الأب أحق بهم ما لم تتزوج، فإذا تزوجت فالأب أحق بولده غلاما كان أو جارية.
قال الشيخ أبو البركات: فهذه الرواية تدل على أنه إذا كبر وصار يعقل الأدب فإنه يكون مقره أيضا عند الأم، لكن في وقت الأدب، وهو النهار يكون عند الأب.
وهذا مذهب مالك بعينه الذي حكيناه.
فصار في المسألة ثلاث روايات.
ومذهب مالك في المدونة: أن الأم أحق به ما لم يبلغ، وللأب تعاهده عندها، وأدبه، وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم.(5/67)
قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي حنيفة، ثم اجتهد في مسائل كثيرة، ورجح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمد وغيره، وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام دمشق، وأما الذين كانوا يسألونه مطلقا مثل: الأثرم وعبد الله وصالح وغيرهم فكثيرون.
وأما حضانة البنت -إذا صارت مميزة- فوجدنا عنه روايتين منصوصتين وقد نقلهما غيرواحد من أصحابه، كأبي عبد الله بن تيمية وغيره.
إحداهما: أن الأب أحق بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه.
والثانية: أن الأم أحق بها.
قال في رواية إسحاق بن منصور، يقضي بالجارية للأم والخالة حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها، وقال في رواية مهنى بن يحيى: الأم والجدة أحق بالجارية حتى يتزوج الأب.
قال أبو عبد الله في "ترغيب القاصد" وإن كانت جارية فالأب أحق بها بغير تخيير، وعنه الأم أحق بها حتى تحيض.
وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة في ذلك.
ففي المدونة: مذهب مالك أن الأم أحق بالولد ما لم يبلغ، سواء كان ذكرا أو أنثى، فإذا بلغ -وهو أنثى- نظرت فإن كانت الأم في حرز(5/68)
ومنعة وتحصين فهي أحق بها أبدا ما لم تنكح، وإن بلغت أربعين سنة، وإن لم تكن في موضع حرز وتحصين أو كانت غير مرضية في نفسها فللأب أخذها منها، وكذلك الأولياء، والوصي كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصين.
ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحق بالجارية حتى تبلغ، فإذا كانت الأم غير مرضية في نفسها، وأدبها لولدها أخذت منها إذا بلغت إلا أن تكون صغيرة لا يخاف عليها.
وأما أبو حنيفة فقال: الأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض. ومن سوى الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدا تشتهى، هذا هو المشهور.
ولفظ الطحاوي: حتى تستغني، كما في الغلام مطلقا، ولهذا قيل فيها كما قيل في الغلام، حتى تأكل وحدها، وتلبس وحدها، وتتوضأ وحدها، ثم تكون مع الأب.
وأبو حنيفة أيضًا يجعل الأب أحق بها بعد التمييز، كما يقول مثل ذلك في الابن، لكن يستثنى الأم والجدة خاصة.
وأما المشهور عن أحمد وهو تخيير الغلام بين أبويه فهو مذهب الشافعي وإسحاق بن راهوية، وموافقته للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما، وكان يثني عليهما ويعظهما ويرجح أصول مذاهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما.
وعندهم أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث، وجمع بينهما في مسجد الخيف فتناظرا في مسألة رباع مكة، والقصة مشهورة، وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاق بالحجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في(5/69)
موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها.
وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولا، لا عن أحمد ولا عن إسحاق، كما نقل عنهما التخيير في الغلام.
ولكن نقل عن الحسن بن حيَّ: أنها تخير إذا كانت كاعبا.
والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وإسحاق للحديث الوارد في ذلك حيث خير النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاما بين أبويه، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نص عام في تخيير الولد مطلقا، والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف مخالف لإجماعهم، والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة لا تخيير رأي ومصلحة كتخيير من يتصرف لغيره كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين ثم قد يصيب ذلك الأصلح للمسلمين فيكون مصيبا في اجتهاده، حاكما بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة كالذي ينزل أهل حصن على حكمه، كما نزل بنو قريظة على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل قال: "ألا ترضون أن أجعل الأمر إلى سيدكم سعد بن معاذ" فرضوا بذلك وطمع من كان يحب استبقاءهم أن سعد يحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من الموالاة، فلما أتى سعد حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكما لله في نفس الأمر، وإن كان لا بد من إنفاذه.(5/70)
ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث بريدة المشهور قال فيه: "وإذا حاصرت أهل حصن، فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك".
ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا فنزلوا على حكم حاكم جاز إن كان رجلا مسلما حرا عدلا من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظ للإسلام من قتل أو رق أو فداء، وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن فأباه الإمام هل يلزم حكمه، أو لا يلزم، أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال، وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لا حظ فيه للمسلمين.
والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي ومصلحة بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه.
ولكن معنى قولنا: يخير أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعل هذا تارة، وفعل هذا تارة، وقول الله تعالى في القرآن {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [4/47] يقتضي فعل أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تعين هذا في حال وهذا في حال، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [52/9] فتربص أحد الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عين علينا بعض الأوقات، فحينئذ يصيبهم الله بعذاب بأيدينا، كما في قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [14-15/9] .(5/71)
ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى في المحاربين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [33/5] لا يقتضي أن الإمام يخير تخيير مشيئة فيفعل أي هذه الأربعة شاء؛ بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال وهذا في حال.
ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنص، فإن قتلوا تعين قتلهم، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا تعين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، روي في ذلك حديث مرفوع، ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام كقول مالك فإن رأى أن القتل هو المصلحة قتل وإن لم يكن قد قتل.
ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعلها فيئا وجعلها غنيمة، كما هو قول الأكثرين، كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في المشهور عنه.
فإنهم قالوا: إن رأى المصلحة في جعلها غنيمة قسمها بين الغانمين، كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، وإن رأى أن لا يقسمها جاز كما [لم] يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة مع أنه فتحها عنوة كما شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة وكما قاله جمهور العلماء، ولأن خلافاءه بعده أبا بكر وعمر وعثمان فتحوا ما فتحوا من أرض المغرب والروم وفارس كالعراق والشام ومصر وخراسان ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين لا السواد ولا غير السواد،
بل جعلوا العقار فيئا للمسلمين داخلا في قوله {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ} [7/59] ، ولم يستأذنوا في ذلك
الغانمين، بل طلب أكابر الغانمين قسمة العقار فلم يجيبوهم إلى ذلك، كما طلب بلال من عمر أن يقسم أرض الشام، وطلب منه الزبير(5/72)
أن يقسم أرض مصر فلم يجيبوهم إلى ذلك ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدا من الغانمين في ذلك، فضلا عن أن يستطيب أنفس جميع الغانمين.
وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيئا بنفس الفتح ومن نصر مذهبه كإسماعيل بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلة في الغنمية، فإن الله حرم على بني إسرائيل المغانم، وملكهم العقار، فعلم أنه ليس من المغانم، وهذا القول يذكر رواية عن أحمد، كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعي، أنه يجب قسمة العقار والمنقول لأن الجميع مغنوم
وقال الشافعي: إن مكة لم تفتح عنوة بل صلحا فلا يكون فيها حجة، ومن حكى عنه أنه قال: إنها فتحت عنوة -كصاحب الوسيط وفروعه- فقد غلط عليه، وقال في السواد، لا أدري ما أقول فيه إلا أني أظن فيه ظنا مقرونا بعلم وظن: أن عمر استطاب أنفس الغانمين، لما روي من قصة المثني بن حارثة، وبسط هذا له موضع آخر.
وقول الجمهور أعدل الأقاويل وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: يخير الإمام بين الأمرين تخيير رأي ومصلحة لا تخيير شهوة ومشيئة، وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية كناظر الوقف ووصي اليتيم والوكيل المطلق لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة، بل تخيير اجتهاد ونظر وطلب وتحري للأصلح كالرجل المبتلى بعدوين وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما فيبتدأ بما له نفع، وكالإمام في تولية من ولاه الحرب والحكم والمال يختار الأصلح فالأصلح، فمن ولى رجلا على عصابة وهو يجد فيهم من هو أرضى الله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين.
وهذا بخلاف من خير بين شيئين وله أن يفعل أيهما شاء: كالمكفر(5/73)
إذا خير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل المفضول، وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل وإن كان أحدهما أفضل، وكذلك المصلي إذا خير بين الصلاة في أول الوقت وآخره وإن كان أحدهما أفضل، وكذلك تخيير الأكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة وإن كان نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون الثلاثة، ويخير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور.
وأما من يقول لا يجوز أن يحج إلا متمتعا وأنه يتعين الفطر في السفر، كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة فلا يجيء هذا على أصلهم، وكذلك القصر عند الجمهور الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين ليس له أن يصلي أربعا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في السفر قط إلا ركعتين ولا أحد من أصحابه في حياته، وحديث عائشة التي تذكر فيه: «أنه -أو: أنها- صلت في حياته في السفر أربعًا» ، كذب عند حذاق أهل العلم بالحديث كما قد بسط في موضعه.
إذ المقصود هنا: أن التخيير في الشرع نوعان
فمن خير فيما يفعله لغيره بولايته عليه أو بوكالة مطلقة لم يبح له فيها فعل ما شاء، فعليه أن يختار الأصلح.
وأما من تصرف لنفسه فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء، بل وأصلح الأحكام في نفس الأمر، وتارة يبيح له ما شاء من الأنواع التي خير بينهما كما تقدم، هذا إذا كان مكلفًا.(5/74)
وأما الصبي المميز: فيخير تخيير شهوة حيث كان كل من الأبوين نظير الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميز من الأم، ولا كل أم فهي أصلح له من الأب، بل قد يكون بعض الآباء أصلح، وبعض الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال، فلم يمكن أن يعتبر (1) أحدهما في هذا، بخلاف الصغير فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك، وأرحم به، فهي أقدر، وأخبر، وأرحم، وأصبر في هذا الموضع فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع.
ولكن بقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب في الحضانة، أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال؟
وهذا فيه قولان للعلماء يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم مثل: أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل العمة والخالة ونحو ذلك، هذا فيه قولان، هما روايتان عن أحمد، وأرجح القولين في الحجة، وتقديم نساء العصبة فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم، وهو الذي ذكره الخرقي في مختصره، وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من
الأصحاب.
وعلل ذلك من علله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة الأم؛ فإن قرابتها فيها رحم وتعصيب، بخلاف قرابة الأم فإن فيها رحما بلا تعصيب، فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من
__________
(1) لعله يتعين.(5/75)
الأب مقدمة على الأخت من الأم، والعمة مقدمة على الخالة، كما تقدم أقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال، بل قد قيل: إنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وأن الحضانة لا تثبت إلا لرجل من العصبة، أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم.
وعلى الوجه الثاني: فلا حضانة للرجال في أقارب الأم.
وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد.
فلو كانت جهة الأمومة راجحة لترجح رجالها ونساؤها، فلما لم يترجح لرجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها.
وأيضا فمجموع أصول الشرع إنما تقدم أقارب الأب في الميراث والعقل والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدم الشارع قرابة الأم في حكم من الأحكام فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة.
ولكن قدموا الأم لكونها امرأة وجنس النساء مقدمات في الحضانة على الرجال، وهذا يقتضي تقديم الجدة أم الأب على الجد، كما قدمت الأم على الأب، وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته على أخواله، هذا هو القياس والاعتبار الصحيح.
وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالف للأصول والمعقول.
ولهذا كان من قال هذا في موضع يتناقض ولا يطرد أصله، ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصوده في ذلك أقوالا متناقضة، حتى يوجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من
هذا الجنس -فمنهم من يقدم أم الأم على أم الأب- كأحد القولين في(5/76)
مذهب أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، ثم من هؤلاء من يقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ثم يقدم الخالة على العمة كقول الشافعي في الجديد وطائفة من أصحاب أحمد، وبنوا قولهم على أن الخالات مقدمات على العمات لكونهن من جهة الأم، ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات من كانت لأبوين أولى، ثم من كانت لأب، ثم من كانت لأم.
وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم قرائب الأم ظهر التناقض، وهم أيضا قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع؛ لكنه يناقض هذا الأصل، ولهذا قالوا في القول الآخر، إن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب كقول الشافعي القديم، وهذا أطرد لأصلهم لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع.
وطائفة أخرى طردت أصلها فقدمت من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب، كقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج وبالغ بعض هؤلاء في طرد قياسه حتى قدم الخالة على الأخت من الأب كقول زفر ورواية عن أبي حنيفة، وافقهم ابن سريج، ولكن أبو يوسف استتبع ذلك (1) فقدم الأخت للأب، ورواه عن أبي حنيفة.
وروي عن زفر أنه أمعن في طرد قياسه حتى قال: إن الخالة أولى من الجدة أم الأب، وقد روي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال، وحللتم الحرام، وكان يقول في القياس: قياس زفر أقبح من البول في المسجد، وزفر كان معروفًا بالإمعان في طرد قياسه، لكن الشأن في الأصل الذي
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله استبشع ذلك.(5/77)
قاس عليه وفي علة الحكم في الأصل -وهو جواب- سؤال المطالبة -فمن أحكم هذا الأصل استقام قياسه، وهذا كما أن زفر اعتقد أن النكاح إلى أجل يبطل التوقيت ويصح النكاح لازمًا، وخرج بعضهم ذلك قولا في مذهب أحمد، فكان مضمون هذا القول، إن نكاح المتعة يصح لازما غير مؤقت، وهو خلاف النصوص، وخلاف إجماع السلف والأمة إذا اختلفت في مسألة على قول (1) لم يكن لمن بعدهم أحداث قول يناقض القولين ويتضمن إجماع السلف على الخطأ والعدول عن الصواب، وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنه باطل، أو يصح مؤجلا، فالقول بلزومه مطلقا خلاف الإجماع.
وسبب هذا القول: اعتقادهم أن كل شرط فاسد في النكاح فإنه يبطل وينعقد النكاح لازما بدون حصول غرض المشترط، فألزموه مالم يلتزمه ولا ألزمه به الشارع، ولهذا صحح من قال ذلك نكاح الشغار، ونحوه مما شرط فيه نفي المهر، وصححوا نكاح التحليل لازما مع إبطال شرط التحليل، وأمثال ذلك.
وقد ثبت في الصحيحين عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" فدل النص على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يبطل العقد وإما أن يثبت الخيار لمن فات غرضه بالاشتراط إذا بطل الشرط فكيف بالشروط في النكاح؟
وأصل عمدتهم: كون النكاح يصح بدون تقدير الصداق، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.
فقاسوا النكاح الذي شرط فيه نفي المهر على النكاح الذي ترك تقدير الصداق فيه، كما فعل أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأكثر متأخري
__________
(1) كذا في الأصل ولعله: على قولين.(5/78)
أصحاب أحمد، ثم طرد أبو حنيفة قياسه فصحح نكاح الشغار بناء على أن لا موجب لفساده إلا إشغاره عن المهر، وهذا ليس مفسدًا.
وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلفوا الفرق بن الشغار وغيره بأن فيه تشريكا في البضع أو تعليقًا للعقد أو غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع، وبين فيه أن كل هذه فروق غير مؤثرة، وأن الصواب مذهب أهل المدينة مالك وغيره وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته وعليه أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفساده هي شرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد، فإن الله فرض فيه المهر، فلم يحل لغير الرسول النكاح بلا مهر، فمن تزوج بشرط أن لا يجب مهر فلم يعقد النكاح الذي أذن الله فيه فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بما له محصنا غير مسافح كما قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [24/4] فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحل الله، وهذا بخلاف من اعتقد أنه لا بد من مهر لكن لم يقدره، كما قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} الآية [236-237/2] فهذا نكاح المهر المعروف وهو مهر المثل.
قالوا: فهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل وهو السعر أو الإجارة بثمن المثل لا يصح بخلاف النكاح.
وقد سلم لهم هذا الأصل الذي قاسوا عليه الشافعي وكثير من أصحاب أحمد في البيع، وأما في الإجارة فأصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: إنه يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه، في مثل ذلك، كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكراء، أو سكن في(5/79)
خان أو حجرة جرت عادتهم بذلك، أو دفع طعامه أو خبزه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو ثيابه إلى من يغسل بالأجرة أو ركب دابة مكاري يكاري بالأجرة، أو سفينة ملاح يركب الناس بالأجرة، فإن هذه إجارة عرفية عند جمهور العلماء، وتجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك، فهذه إجارة بأجرة المثل.
وكذلك لو ابتاع طعاما بمثل ما ينقطع به السعر أو بسعر ما يبيع الناس أو بما اشتراه به من بلده أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد نص أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير موضع، وإن كان كثير من متأخري أصحابه لا يوجد في كتبهم إلا القول الآخر، ففساد هذا العقود كقول الشافعي وغيره، وبسط هذه المسائل في مواضع آخر.
والمقصود هنا: كان مسائل الحضانة وأن الذين اعتقدوا أن الأم قدمت لتقدم قرابة الأم لما كان أصلهم ضعيفا كانت الفروع اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، بل الصواب بلا ريب أنها قدمت لكونها أنثى، فتكون المرأة أحق بحضانة الصغير من الرجل، فتقدم الأم على الأب والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم، وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجل قريب فهذا لبسطه موضع آخر.
إذ المقصود هنا مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصيبة والصبي فتخيير الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحد الأبوين له، ولهذا كان تعيين الأب كما قال: مالك وأحمد في رواية والتخيير تخيير شهوة.
ولهذا قالوا: إذا اختار الأب مدة، ثم اختار الأم فله ذلك حتى.(5/80)
قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نقل إليه، وكذلك إذا اختار ابتداء.
وهذا قول القائلين بالتخيير: الحسن بن صالح والشافعي وأحمد بن حنبل.
وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلا، وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه.
هذا مذهب الشافعي وأحمد، وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، للأب تعاهده عندها وأدبه وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم.
قال أصحاب الشافعي وأحمد: وإن اختار الأب كان عنده ليلا ونهارًا ولم يمنع من زيارة أمه، ولا تمنع الأم من تمريضه إذا اعتل.
فأما البنت إذا خيرت -فكانت عند الأم تارة وعند الأب تارة- أفضى ذلك إلى كثرة بروزها وتبرجها وانتقالها من مكان إلى مكان، ولا يبقى الأب موكلا بحفظها ولا الأم موكلة بحفظها، وقد عرف بالعادة أن ما تناوب الناس على حفظه ضاع، ومن الأمثال السائرة، لا تصلح القدر بين طباختين.
وأيضا فاختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر في الإحسان والصيانة فلا يبقى الأب تام الرغبة في حفظها ولا الأم تامة الرغبة في حفظها وليس الذكر كالأنثى، كما قالت امرأة عمران {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} إلى قوله: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} إلى قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا(5/81)
مَرْيَمُ} [35-44/3] فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها حتى اقترعوا على كفالتها فكيف بمن سواها من النساء؟
وهذا أمر يعرف بالتجربة أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا يحتاج إليه الصبي، وكلما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها؛ ولهذا كان لباسها المشروع لباسا لها يسترها، ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يلبس منهن لباس الرجال» ، وقال لأم سلمة في عصابتها: "لَيَّة لا لَيَّتَيْن" رواه أبو داود وغيره، وقال في الحديث الصحيح "صنفان من أمتي لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رءوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله".
وأيضا فأمرت المرأة في الصلاة أن تتجمع ولا تجافي بين أعضائها وفي الإحرام أن لا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا ترقى فوق الصفا والمروة، كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها ونهيت أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرها ومعرفتها فكيف إذا كانت صغيرة مميزة وقد بلغت سن ثوران الشهوة فيها، وهي قابلة للانخداع؟ وفي الحديث: "النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه".
فهذا مما يبين أن مثل هذه الصبية المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وترددها بين الأبوين، مما يخل بذلك من جهة: أنها هي التي لا يجتمع قلبها على مكان معين، ولا يجتمع قلب أحد الأبوين على حفظها، ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارة وهذا تارة يخل بكمال حفظها وهو ذريعة إلى ظهورها وبروزها، فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين مطلقًا، ولا تمكن من تخيير، كما قال ذلك جمهور(5/82)
المسلمين: مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم، وليس في تخييرها نص صريح ولا قياس صحيح.
والفرق ظاهر بين تخييرها وتخيير الابن، لا سيما والذكر محبوب مرغوب فيه، فلو اختار أحدهما كانت محبة الآخر له تدعوه إلى مراعاته والبنت مزهود فيها فأحد الوالدين قد يزهد فيها مع رغبتها فيه فكيف مع زهدها فيه؟ فالأصلح لها لزوم أحدهما لا التردد بينهما.
ثم هنا يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما فمن عين الأم مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، لا بد أن يراعوا مع ذلك صيانة الأم لها، ولهذا قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما، إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين أو كانت غير مرضية، فللأب أخذها منها، وهذا هو الذي راعاه أحمد في الرواية التي اشتهرت عند أصحابه، حتى لم يذكر أكثرهم في ذلك نزاعا، وقد عللوا ذلك بحاجتها إلى الحفظ والتزويج والأب أقوم لذلك من الأم، فإنه إذا كان لا بد من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظة لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد، والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم.
وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضرر، فلو قدر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها أو يهمل حفظها لاشتغاله عنها أو لقلة دينه والأم قائمة بحفظها وصيانتها، فإنه تقدم الأم في هذه الحال.
فكل من قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها واندفعت به مفسدتها، فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى به بلا ريب، حتى الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدمناه إنما نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال مفسدته، فلو قدرنا أن الأب أقرب لكن(5/83)
لا يصونه والأم تصونه لم يلتفت إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل، قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصده الفجور ومعاشرة الفجار، وترك ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، والآخر يذوده ويصلحه، ومتى كان كذلك فلا ريب أنه لا يمكن ممن يفسد معه حاله، ولهذا قال أصحاب الشافعي وأحمد: إنه لا حضانة لفاسق، وكذلك قال الحسن بن حيي، وقال مالك: كل من له الحضانة من أب أو ذات رحم أو عصبة ليس له كفاية ولا موضعه بحرز، ولا يؤمن في نفسه فلا حضانة له، والحضانة لمن فيه ذلك وإن بعد، وينظر للولد في ذلك بالذي هو أكفأ وأحرز، فرب والد يضيع ولده، وكذلك قالوا، وهذا لفظ القاضي أبو يعلي في خلافه، إنما يكون التخيير بين أبوين مأمونين عليه يعلم أنه لا ضرر عليه من كونه عند واحد منهما، فأما من لا يقوم بأمره ويخليه للعب فلا يثبت التخيير في حقه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع" فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك والآخر لا يأمره كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر؛ لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاص لله ورسوله فلا يقدم من يعصي الله فيه على من يطيع الله فيه بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله، ويترك ما حرم الله ورسوله والآخر لا يفعل معه الواجب أو يفعل معه الحرام قدم من يفعل الواجب ولو اختار الصبي غيره، بل ذلك العاصي لا ولاية له عليه بحال. بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له، بل إما أن يرفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب، فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين يحصل طاعة الله ورسوله في حقه، ومع حصوله عند الآخر لا يحصل له، قدم الأول قطعًا، وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم.(5/84)
والنكاح والولاء، وإن كان الوارث حاضرا وعاجزا، بل هو من جنس الولاية ولاية النكاح والمال التي لا بد فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان، وإذا قدر أن الأب تزوج بضرة وهو يتركها عند ضرة أمها لا تعلم مصلحتها بل تؤذيها أو تقصر في مصلحتها وأمها تعلم مصلحتها ولا تؤذيها فالحضانة هنا للأم قطعا ولو قدر أن التخيير مشروع وأنها اختارت الأم فكيف إذا لم يكن كذلك؟
ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام على تقديم أحد الأبوين مطلقا، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقا، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا، بل مع العدوان والتفريط والفساد والضرر، لا يقدم من يكون كذلك على البر العادل المحسن القائم بالواجب (1) .
وقد عللوا أيضا تقديم الأب بعلة ثانية، بأنها إذا صارت مميزة صارت ممن تخطب وتزوج واحتاجت إلى تجهيزها، فإذا كانت عند الأب كان أنظر لها وأحرص على تجهيزها وتزويجها مما إذا كانت عند الأم.
وأبو حنيفة يوافق أحمد على أن الأب أحق بها من الخالة والأخت والعمة وسائر النساء؛ بخلاف ما قاله في الصبي، فإنه جعل الأب أحق به مطلقا، لكن قال: الأم والجدة أحق من الأب فكلاهما قدم الأب وغيره من العصبة على النساء، لكن أحمد طرد القياس فقدمه على جميع النساء، وأبو حنيفة فرق بين عمود النسب وغيره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخالة أم" فإذا قدم الأب على النساء اللائي يقدمن عليه في حال صغرها دل ذلك على أن الأب أقوم بمصلحة ابنته من النساء وتبين أن أصل هذا القول ليس من مفردات أحمد، بل هو طرد فيه قياسه.
__________
(1) من هنا إلى آخر القاعدة غير موجود في المجموع ست صفحات وخمسا صفحة.(5/85)
وبكل حال فهو قول قوي متوجه ليس بأضعف من غيره من الأقوال المقولة في الحضانة، وليس قول من رجح الأم مطلقًا بأقوى
منه.
ومما يقوي هذا القول: إن الولد مطلقًا إذا تعين أن يكون في مدينة أحد الأبوين دون الآخر، وكان الأب ساكنا في مصر والأم ساكنة في مصر آخر فالأب أحق به مطلقًا سواءً كان ذكرًا أو أنثى عند عامة العلماء كشريح القاضي وكمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، حتى قالوا: إن الأب إذا أراد سفر نقلة لغير الضرار إلى مكان بعيد فهو أحق به؛ لأن كونه مع الأب أصلح له؛ لحفظ نسبه، وكمال تربيته، وتعليمه وتأديبه، وأنه مع الأم تضيع مصلحته، ولا يخير الغلام هنا عند أحدهما لا يخرج إلى الأحق، فالأب أيضا أحق لأن كونه عند الأب أصلح له، وهذا المعنى منتف في الابن لأنه يخير، ولأن تردد الابن بينهما لا مضرة عليه فيه بخلاف البنت.
واتفقوا كلهم على أن الأم لو أرادت أن تسافر بالذكر أو الأنثى من المصر الذي فيه عقد النكاح فالأب أحق به، فلم يرجح أحد منهم الأم مطلقا فدل على أن ترجيحها في حضانة الولد مطلقًا ذكرًا كان أو أنثى مخالف لهذا الأصل الذي اتفقوا عليه، وعلم أنهم متفقون على ترجيح جانب الأب عند تعذر الجمع بينهما، وهذا ثابت في الولد، وإن كان طفلاً يكون في بلد أبيه بخلاف ما إذا كان الأبوان في مصر واحد فههنا هو مع الصغر للأم، لأن في ذلك جمعا بين المصلحتين.
ومما يقويه أيضا: أن الغلام إذا بلغ معتوها كانت حضانته للأم كالصغير، وإن كان عاقلا كان أمره إلى نفسه يسكن حيث شاء إذا كان مأمونا على نفسه عند الأئمة الأربعة وغيرهم، فإن كان غير مأمون
على نفسه فلم يجعل أحد الولاية عليه للأم، بل قالوا: للأب ضمة إليه(5/86)
وتأديبه، والأب يمنعه من السفلة (1) .
وأما الجارية إذا بلغت فنقل عن مالك: الوالد أحق بضمها إليه حتى تزوج ويدخل بها الزوج، ثم هي أحق بنفسها وتسكن حيث شاءت إلا أن يخاف منها هوى أو ضيعة أو سوء موضع فيمنعها الأب بضمها إليه.
وقد تقدم في المدونة: أن الأم أحق بها ما لم تنكح وإن بلغت أربعين سنة، وكذلك قال أبو حنيفة في البكر قال: الأب أحق بها مأمونة كانت أو غير مأمونة، والبنت هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة، وقال الشافعي: هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة: بكرًا كانت أو ثيبًا.
وفي مذهب أحمد ثلاثة أقوال ذكرها في المحرر روايتين ووجهًا.
أحدها: أنها تكون عند الأب حتى تتزوج ويدخل بها الزوج، وهذا هو الذي نصره القاضي وغيره في كتبهم، وقالوا: إن الجارية إذا بلغت وكانت بكرًا فعليها أن تكون مع أبيها حتى تتزوج ويدخل بها الزوج، ولم يذكروا فيه نزاعًا.
والرواية الثانية: عن أحمد: تكون عند الأم، وهذه الرواية إنما أخذها الشيخ أبو البركات من الرواية المتقدمة أن حضانتها تكون للأم ما لم تتزوج، فإنه على هذه الرواية نقل عن أحمد فيها روايتين، فإن أحمد قال في تلك الرواية، الأم والجدة أحق بالجارية ما لم تتزوج، فجعلهما أحق بها ما لم تتزوج في رواية مهنا، وقال في رواية ابن منصور، يقضي بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها، فهنا قال عند الحاجة إلى التزويج للأب، وإن كانت لم تتزوج بعد، وهذا يكون بالبلوغ.
__________
(1) في الأصل: السلفة.(5/87)
وأما القول الثالث في مذهبه: وهو أنها إذا بلغت تكون حيث شاءت كالغلام فهذا يجيء على قول من يخيرها كما يخير الغلام، فمن خير الغلام قبل بلوغه كان بعد البلوغ أمره إلى نفسه كما قال الشافعي وأحمد وغيرهما، لكن أبو البركات حكى هذه الأقوال الثلاثة في محرره في البالغة، وهي مطابقة للأقوال الثلاثة التي ذكرناها في غير البالغة، فإنه على المشهور عند أصحاب أحمد أنها إذا كانت قبل البلوغ عند الأب فهي بعد البلوغ أولى أن تكون عند الأب منها عند الأم، فإن أبا حنيفة وأحمد في رواية ومالكا يجعلونها قبل البلوغ للأم، وبعد البلوغ جعلوها عند الأب، وهذا يدل على أن الأب أحفظ لها وأصون وأنظر في مصلحتها، فإذا كان كذلك فلا فرق بين ما قبل البلوغ وما بعده في ذلك.
فتبين أن هذا القول، وهو جعل البنت المميزة عند الأب، أرجح من غيره والله أعلم.
فصل
والتخيير جاء فيه حديثان، وأما تقديم الأم على الأب في حق الصغير فمتفق عليه، وقد جاءت فيه حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعم مني، فقال: "أنت أحق به ما لم تنكحني" رواه أحمد وأبو داود، لكن في لفظه، وأن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم، على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أن الأم أحق به ما لم تنكح، وممن حفظنا عنه ذلك: يحيى الأنصاري، والزهري، ومالك والثوري.(5/88)
والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وبه نقول، وقد روينا عن أبي بكر الصديق: أنه حكم على عمر به، وبصبي لعاصم لأمه أم عاصم. وقال: حجرها وريحها ومسها خير له منك حتى يشب ويختار.
وأما التخيير فعن أبي هريرة: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير غلامًا بين أبيه وأمه» ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، ورواه أبو داود وقال فيه: «إن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عتبة، وقد نفعني. فقال رسول الله: استهما عليه. قال زوجها: من يحاققني في ولدي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به» ، ورواه النسائي كذلك، ولم يذكر: «استهما عليه» ، ورواه أحمد أيضًا لكنه قال فيه: «جاءت امرأة قد طلقها زوجها» ، ولم يذكر فيه قولها: «قد سقاني ونفعني» .
وقد روى تخيير الغلام بين أبويه عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة. فروى سعيد بن منصور، وغيره: «أن عمر بن الخطاب خير غلامًا بين أبيه وأمه» ، وعن عمارة الحريثي (1) أنه قال: خيرني عليٌّ بين عمي وأمي، وكنت ابن سبع أو ثمان، وروى نحو ذلك عن أبي هريرة، ولم يعرف لهم مخالف مع أنها في مظنة الاشتهار.
وأما الحديث الثاني فرواه عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جده: «أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فجاء بابن له صغير لم يبلغ. قال: فأجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - الأب ههنا والأم ههنا ثم خيره، وقال: اللهم اهده. فذهب إلى أبيه» ، وهكذا رواه أحمد والنسائي، ورواه أبو داود عن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان: «أنه
أسلم وأبتت امرأته أن تسلمَ فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ابنتي وهي فطيم
__________
(1) في الأصل: مهملة لا نقط فيها، فتحرر.(5/89)
أو شيبة، وقال رافع: ابنتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اقعد ناحية" وقال لها "اقعدي ناحية" واقعد الصبي بينهما ثم قال: "ادعواها" فمالت إلى أمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم اهدها" فمالت إلى أبيها فأخذها.
وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان الأنصاري وهذا الحديث قد ضعفه بعضهم فقال ابن المنذر في إسناده مقال، وقال غيره هذا الحديث لا يثبته أهل النقل، وقد روي على غير هذا الوجه، وقد اضطرب فيه هل كان المخبر ذكرا أم أنثى ومن روى أنه أنثى قال فيه "إنها فطيم" أي مقطوعة وفعيل بمعنى مفعول إذا كان صفة يستوي فيه الذكر والمؤنث يقال: عين كحيل، وكف خضيب، فيقال للصغير، فطيم وللصغير، فطيم.
ولفظ "الفطيم" إنما يطلق على قريب العهد بالفطم فيكون له نحو ثلاث سنين، ومثل هذا لا يخير باتفاق العلماء.
وأيضا: فإنه خير بين مسلم وكافر وهذا لا يجوز بين مسلم وكافر كالشافعي وأحمد.
وأما القائلون بأن الكافرة لها حضانة كأبي حنيفة وابن القاسم فلا يخيرون لكن أبو ثور يقول بالتخيير فيما حكاه عنه ابن المنذر، والجمهور على أنه لا حضانة لكافر، وهو مذهب مالك والشافعي والبصريين كسوار وعبد الله بن الحسن.
وقال أبو حنيفة وأبو ثور وابن القاسم صاحب مالك: الذمية في ذلك كالمسلمة وهي أحق بولدها من أبيه المسلم، وهو قول الاصطخري من أصحاب الشافعي، وقد قيد ذلك أبو حنيفة فقال: هي أحق بولدها ما لم يعقل الأديان ويخاف أن يألف الكفر، والأب إذا كان مسلما كان الولد مسلما باتفاقهم.(5/90)
وكذلك إذا كانت الأم مسلمة عند الجمهور كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة فإنه يتبع عند الجمهور في الدين خيرهما دينا، وأما في النسب والولاء فهو يتبع الأب بالاتفاق، وفي الحرية أو الرق يتبع الأم بالاتفاق،.
وحمل بعضهم هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنها تختار الأب بدعائه، فكان ذلك خاصا في حقه.
وأيضًا فهذه القصة قضية في عين، والأشبه أنها كانت في أول زمن الهجرة، فإن الأب كان من الأنصار فأسلم والأم لم تسلم، وفي آخر الأمر أسلم جميع نساء الأنصار فلم يكن فيهن إلا مسلمة حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء الأنصار".
ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكره أحدا على الإسلام ولا ضرب الجزية على أحد، ولكن هادن اليهود مهادنة وأما الأنصار ففشى فيهم الإسلام وكان فيهم من لم يسلم، بل كان مظهرا لكفره فلم يكونوا ملتزمين لحكم الإٍسلام، وكذلك كان عبد الله بن أبي بن سلول وغيره قبل أن يظهروا الإسلام.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب يعود سعد بن عبادة فمر بمجلس من الأنصار الحديث، ففي هذا الحديث وغيره من الأحاديث ما يبين أنهم كانوا قبل غزوة بدر متظاهرين بالكفر من غير الإسلام ولا ذمة، فلم يكن الكفار ملتزمين لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا التزام حكمه إنما يكون بالإسلام أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولم يكن المشركون كذلك، فلهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام، بل دعا الله أن يهدي الصغير فاستجاب الله، ودعاؤه له أن يهديه: دليل على أنه كان طالبا مريدا لهداه، وهداه أن يكون عند المسلم، لا عند الكافر، لكن لم يمكنه ذلك بالحكم الظاهر، لعدم دخول الكافرة تحت حكمه، فطلبه بدعائه القبول، وهذا يدل على أنه متى أمكن أن يجعل مع المسلم لا يجعل مع الكافر.(5/91)
وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمون جريان حكم الله ورسوله عليهم يحكم بينهم بذلك، نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل الحرب والهدنة الذين لم يلتزموا جريان حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذ في تغليب الإسلام بالدعاء، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان الاجتهاد في ظهور الإسلام دعاؤه واجبًا بحسب الإمكان.
وعلى هذا: فالحديث إن كان ثابتا دليل على التخيير في الجملة، لكن قد اختلف في المخير: هل كان صبيا أو صبية؟ فلم يتبين أحدهما، فلا يبقى فيه حجة على تخيير الأنثى، لا سيما والمخيرة كانت فطيمًا، وهذه لا تخير باتفاقهم، وإنما كان تخيير هذه إن صح الحديث من جنس آخر.
آخر ما وجد والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم وكتب في شهر ربيع الأول من شهور سنة أربع وستين وسبعمائة أحسن الله عاقبتها بمنة وكرمه، آمين يا رب العالمين.
وكتبها أضعف العباد عبد المنعم البغدادي الحنبلي عفا الله عنه بمنه وكرمه.
بلغ مقابلة بحوله ومنه، فصحح حسب الطاقة في ليلة صباحها خامس عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة الأربع والستين وسبع مائة أحسن الله عاقبتها بمنه وكرمه (1) .
__________
(1) آخر قاعدة الحضانة الملحقة بمختصر الفتاوى المصرية (613-638) أصلها بدار الكتب الأزهرية رقم (182) خصوصي وهي بخط عبد المنعم البغدادي الحنبلي في (26/ 3/ 76) وفيها زيادة على ما في الجموع وتصحيح لبعض أخطاء فيه كما تقدم.(5/92)
كتاب الجنايات
العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله بالخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض (1) .
وليست التوبة بعد الجرح أو بعد الرمي قبل الإصابة مانعة من وجوب القصاص (2) وإمساك الحيات جناية محرمة (3) .
إسقاؤه سما لا يعلم به.. فإن علم آكله به وهو بالغ عاقل أو خلطه بطعام نفسه فأكله إنسان بغير إذنه فلا ضمان عليه، وقال الشيخ تقي الدين: إذا كان مميزا ففي ضمانه نظر (4) .
وقال الشيخ تقي الدين: من صور القتل عمدا، الموجب للقصاص من شهدت بينة بالردة فقتل بذلك ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله، قال وفي هذا نظر؛ لأن المرتد إنما يقتل إذا لم يتب فيمكن المشهود عليه التوبة، كما يمكنه التخلص من النار إذا ألقي فيها اهـ (5) .
__________
(1) اختيارات (288) ، ف (2/ 345) .
(2) اختيارات (289) ، ف (2/346) .
(3) اختيارات (289) ، ف (2/346) .
(4) إنصاف (9/ 440) ، ف (2/346) .
(5) اختيارات (289) ، ف (2/347) .(5/93)
لو رجع الوالي والبينة ضمنه الوالي وحده على الصحيح من المذهب، وقال القاضي وأصحابه: يضمنه الوالي والبينة معا كمشترك واختار الشيخ تقي الدين: أن الوالي يلزمه القود إن تعمد وإلا الدية، وأن الآمر لا يرث (1) .
شبه العمد: الثاني أن يقتل في دار الحرب من يظنه حربيا ... قال الشيخ تقي الدين: محل هذا في المسلم الذي هو بين الكفار، معذور كالأسير، والمسلم الذي لا يمكنه الهجرة والخروج من صفهم فأما الذي يقف في صف قتالهم باختياره فلا يضمن بحال (2) .
فصل
قال في المحرر: لو أمر به يعني القتل سلطان عادل أو جائر ظلما من لم يعرف ظلمه فيه فقتله فالقود والدية على الآمر، قال أبو العباس: هذا بناء على وجوب طاعة السلطان في القتل المجهول: وفيه نظر بل لا يطاع حتى يعلم جواز قتله، وحينئذ فتكون الطاعة له معصية لا سيما إذا كان معروفا بالظلم فهنا الجهل بعدم الحل كالعلم بالحرمة.
وقياس المذهب: أنه إذا كان المأمور ممن يطيعه غالبا في ذلك أنه يجب القتل عليهما، وهو أولى من الحاكم والشهود، فإنه سبب يقتضي غالبا بل هو أقوى من المكره (3) .
وإذا قال: أنا قاتل غلام زيد، فقياس المذهب إن كان نحويا لم يكن مقرا، وإن كان غير نحوي كان مقرا، كما لو قاله بالإضافة (4) .
__________
(1) إنصاف (9/ 444) ، ف (2/ 347) .
(2) إنصاف (9/ 447) ، ف (2/ 347) .
(3) اختيارات (289) ، ف (2/ 347) .
(4) اختيارات (291) ، ف (2/ 247) وللإقرار.(5/94)
باب شروط وجوب القصاص
والذي ينبغي ألا يعاقب المجنون بقتل ولا قطع، لكن يضرب على فعله لينزجر، وكذا الصبي المميز يعاقب على الفاحشة، ويعزر تعزيرا بليغا (1) .
ولا يقتل مسلم بذمي، إلا أن يقتله غيلة لأخذ ماله، وهو مذهب مالك (2) .
والسنة إنما جاءت «لا يقتل والد بولده» ، فإلحاق الجد بذلك وأبي الأم بعيد.
ويتوجه ألا يرث القاتل دما من وارث، كما لا يرث هو المقتول وهو يشبه حد القذف المطالب به إذا كان القاذف هو الوارث أو وارث الوارث، فعلى هذا لو قتل أحد الابنين أباه، والآخر أمه وهي في زوجية الأب فكل واحد منهما يستحق قتل الآخر، فيتقاصان، لا سيما إذا قيل إنه يستحق القود بملك نقله إلى غيره، إما بطريق التوكيل بلا ريب، وإما بالتمليك وليس ببعيد (3) .
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس في العبد نصوص صريحة صحيحة تمنع قتل الحربه، وقوي أنه يقتل به، وقال: هذا أرجح وأقوى على قول الإمام أحمد رحمه الله (4) .
باب استيفاء القصاص
والجماعة المشتركون في استحقاق دم المقتول الواحد، إما أن
__________
(1) إنصاف (10/ 241) واختيارات (292) فيه زيادة ف (2/ 349) .
(2) اختيارات (289) ، ف (2/ 349) .
(3) اختيارات (291) ، ف (2/ 350) .
(4) إنصاف (9/ 469) ، ف (2/ 349) .(5/95)
يثبت لكل واحد منهم بعض الاستيفاء فيكونون كالمشتركين في عقد أو خصومة، وتعيين الإمام قوي، كما يؤجر عليهم لنيابته عن الممتنع، والقرعة إنما شرعت في الأصل إذا كان كل واحد مستحقا أو كالمستحق.
ويتوجه أن يقدم الأكثر حقا أو الأفضل، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سهل في قصة قتل أخيه عبد الله بن سهل الأنصاري (كبر) وكالأولياء في النكاح بإذن الباقين؛ لأن القرعة لم تسقط حقوقهم (1) .
وإذا كان المقتول رضي بالاستيفاء أو بالدية فينبغي أن يتعين، كما لو عفا، وعليه تخرج قصة علي مع قاتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، إذا لم تخرج على كونه مرتدا أو مفسدا، في الأرض أو قاتل الأئمة (2) .
قال الشيخ تقي الدين: مطالبة المقتول بالقصاص توجب تحتمه فلا يمكن الورثة بعد ذلك من العفو (3) .
فصل
وسألت شيخنا أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن القتل بالحال، هل يوجب القصاص؟ فقال: للولي أن يقتله بالحال كما قتل به (4) .
ويحتمل أن يجوز الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص، في النفس، واختاره الشيخ تقي الدين (5) .
__________
(1) اختيارات (292) ، ف (2/ 350) .
(2) اختيارات (291) وإنصاف (10/ 3) ، ف (2/، 350) .
(3) اختيارات (291) وإنصاف (10/ 3) ، ف (2/، 350) .
(4) مدارج (1/ 402) ، ف (2/ 350) .
(5) إنصاف (9/ 487) ، ف (2/ 350) .(5/96)
ويفعل بالجاني على النفس مثل ما فعل بالمجني عليه ما لم يكن محرما في نفسه، أو يقتله بالسيف إن شاء وهو رواية عن أحمد، ولو كوى شخصا بمسمار كان للمجني عليه أن يكويه مثل ما كواه إن أمكن (1) وقال: هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل (2) .
وولاية القصاص والعفو عنه ليست عامة لجميع الورثة، بل تختص بالعصبة وهو مذهب مالك، وتخرج رواية عن أحمد (3) .
وكل من ورث المال ورث القصاص على قدر ميراثه من المال حتى الزوجين وذوي الأرحام.
وعنه: يختص العصبة ذكرها ابن البناء وخرجها الشيخ تقي الدين رحمه الله واختارها (4) .
باب العفو عن القصاص
واختار الشيخ تقي الدين، أن العفو لا يصح في قتل الغيلة لتعذر الاحتراز كالقتل مكابرة (5) .
وقال الشيخ تقي الدين: استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانا إلا بعد العدل، وهو ألا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل به ضرر كان ظلما من العافي إما لنفسه وإما لغيره فلا يشرع (6) .
__________
(1) اختيارات (293) وفروع (5/ 263) ، ف (2/351) وإنصاف (9/ 487) .
(2) اختيارات (293) وفروع (5/ 263) ، ف (2/351) وإنصاف (9/ 487) .
(3) اختيارات (293) ، ف (2/ 351) .
(4) إنصاف (9/ 482) ، ف (2/350) فيه زيادة.
(5) إنصاف (10/ 6) ، ف (2/ 351) .
(6) إنصاف (10/ 3) ، ف (2/ 351) .(5/97)
وإن مات القاتل وجبت الدية في تركته، واختار الشيخ تقي الدين: أنها تسقط بموته وقتله وخرجه وجها، وسواء كان معسرا أو موسرا وسواء قلنا الواجب القصاص عينا أو أحد شيئين (1) .
ويتوجه إذا قلنا: ليس للولي أخذ الدية إلا برضا الجاني أن يسقط حقه بموته كما لو مات العبد الجاني أو المكفول به، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي ثواب وابن القاسم وأبي طالب، ويتوجه ذلك وإن قلنا الواجب القود عينا أو أحد شيئين، لأن الدية عديل العفو فأما الدية مع الهلاك فلا (2) .
باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس
ولا يستوفى القود في الطرف إلا بحضرة السلطان (3) .
وفي جراحه.. (العبد) إن لم يكن مقدرا، وعنه: أنه يضمن بما نقص مطلقا اختاره الشيخ تقي الدين (4) .
ولا يجوز أن يكذب على من كذب عليه، ولا يشهد بزور على من شهد عليه بزور، ولا يكفره بباطل كما كفره بالباطل، ولا يقذفه كذبا كما قذفه كذبا، ولا يفجر إذا خاصمه كما فجر هو.
وكذلك لا يجوز أن يغرر في عقد عقده بينهما لأجل كونه غرر به، فلا يخونه كما خانه، والشارع نهى عن الخيانة لمن خانه ولم يجعل ذلك قصاصا فلا يأخذ من ماله بغير علمه بقدر ما أخذه هو، وهذا أصح قولي العلماء (5) .
__________
(1) إنصاف (10/ 6، 7) ، ف (2/ 352) .
(2) اختيارات (292) ، ف (2/ 352) .
(3) اختيارات (293) ، ف (2/ 352) .
(4) إنصاف (10/ 66) ، ف (2/ 352) .
(5) مختصر الفتاوى (609) ، ف (2/ 353) .(5/98)
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وقوله: الله أكبر عليك، كالدعاء عليه، شتمه بغير فرية نحو: يا كلب، فله قوله له أو تعزيره، ولو لعنه فهل له أن يلعنه؟ ينبني على جواز لعن المعين.
ومن لعن نصرانيا أدب أدبا خفيفا، إلا أن يكون صدر من النصراني ما يقتضي ذلك.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: الدعاء قصاص، ومن دعا على ظالمه فما صبر اهـ (1) .
__________
(1) إنصاف (10/ 150) ، ف (2/ 353) (2/ 371) .(5/99)
كتاب الديات
وقال الشيخ تقي الدين مثل الحية والصاعقة كل سبب يختص البقعة كالوباء وانهدم سقف عليه ونحوها (1) .
المعروف أن الحر يضمن بالإتلاف، لا باليد، إلا الصغير ففيه روايتان كالروايتين في سرقته.
فإذا كان الحر قد تعلق برقبته حق لغيره مثل أن يكون عليه حق قود أو في ذمته مال أو منفعة أو عنده أمانات أو غصوب تلفت بتلفه مثل أن يكون حافظا عليها وإذا تلف زال الحفظ فينبغي أنه إن أتلف فما ذهب بإتلافه من عين أو منفعة مضمونة ضمنت كالقود، فإنه مضمون، لكن هل ينتقل الحق إلى القاتل فيخير الأولياء، بين قتله والعفو عنه، أو إلى ترك الأول؟ فيه روايتان.
وأما إذا تلف تحت اليد العادية فالمتوجه أن يضمن ما تلف بذلك من مال أو بدل قود، بحيث يقال: إذا كان عليه قود فحال بين أهل الحق وبين القود حتى مات ضمن لهم الدية (2) .
باب ديات الأعضاء ومنافعها
ومن جنى على سنه اثنان، واختلفوا، فالقول قول المجني عليه في قدر ما أتلفه كل واحد منهما قاله أصحابنا.
__________
(1) إنصاف (10/ 34) ، ف (2/ 352) .
(2) اختيارات (294) ، ف (2/353) .(5/100)
ويتوجه أن يقترعا على القدر المتنازع فيه، لأنه ثبت على أحدهما لا بعينه كما لو ثبت الحق لأحدهما لا بعينه (1) .
وإذا بقي من لحيته ما لا جمال فيه فهل يجب القسط، أو كمال الدية، أو حكومة؟ على ثلاثة أوجه، ويتوجه أن يكون أكثر الأمرين: القسط، أو الحكومة (2) .
باب العاقلة وما تحمله
ويتوجه أن يعقل ذوو الأرحام عند عدم العصبة إذا قلنا تجب النفقة عليهم.
والمرتد يجب أن يعقل عنه من يرثه من المسلمين، أو أهل الدين الذي انتقل إليه (3) .
وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء (4) .
ومن أبرأ جانيا حرا جنايته على عاقلته إن قلنا تجب الدية على العاقلة تحملا وعليه ابتداء، أو عبدا إن قلنا جنايته في ذمته صح، مع أنه يتوجه الصحة مطلقا، وهو وجه بناء على أن مفهوم هذا اللفظ في عرف الناس العفو مطلقا، وألفاظ التصرفات تحمل موجباتها على عرف الناس، فتختلف باختلاف الاصطلاحات (5) .
__________
(1) اختيارات (294) ، ف (2/354) .
(2) اختيارات (294) ، ف (2/ 354) .
(3) اختيارات (295) ، ف (2/ 354) .
(4) اختيارات (294) ، ف (2/ 354) .
(5) الاختيارات (293) ، ف (2/ 355) .(5/101)
باب القسامة
ومن اتهم بقتيل وهناك لوث ويغلب على الظن أنه قتله لعداوة أو توعد بقتل ونحوه جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دمه.
وأما ضربه ليقر فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدل على أنه قتله، فإن بعضهم جوز تقريره بالضرب في هذه الحال، ومنعه بعضهم مطلقا.
وليس على أهل البقعة في العادة السلطانية، ولا في حكم الشرع شيء (1) .
نقل الميموني عن الإمام أحمد أنه قال: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا كان مثل المدعى عليه يفعل هذا، فذكر الإمام أحمد أربعة أمور، اللطخ وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة، والسبب البين: كالتفرق عن قتيل والعداوة: كون المطلوب من المعروفين بالقتل، وهذا هو الصواب، واختاره ابن الجوزي، فإذا كان ثم لوث يغلب على الظن أنه قتل من اتهم بقتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دمه (2) .
وعنه: أنه ما يدل على أنه ما يغلب على الظن صحة الدعوى به، كتفرق جماعة عن قتيل، ووجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم، وشهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان، وعدل واحد وفسقة ونحو ذلك، واختار هذه الرواية أبو محمد الجوزي وابن رزين والشيخ تقي الدين وغيرهم (3) .
__________
(1) مختصر الفتاوى (467) فيه زيادة ف (2/ 356) .
(2) اختيارات (295) وفروع (6/ 46) ، ف (2/ 356) .
(3) إنصاف (10/ 140) هذا جامع، ف (2/ 356) وفروع (6/ 46) .(5/102)
وقال في "الترغيب" في القسامة: من قضي عليه بنكوله بالدية ففي ماله كإقرار، وبه قال أبو بكر في الجامع، اختار الشيخ تقي الدين: أن المدعي يحلف ابتداء مع اللوث (1) .
__________
(1) إنصاف (11/ 260) ، ف (2/ 356) .(5/103)
كتاب الحدود
وقال شيخنا في تتمة كلامه السابق في آخر الصلح، فعلى الإنسان أن يكون مقصوده نفع الخلق والإحسان إليهم، وهذا هو الرحمة التي بعث الله بها محمدا - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} لكن للاحتياط إلى دفع الظلم شرعت العقوبات، وعلى المقيم لها أن يقصد بها النفع والإحسان، كما يقصد الولد بعقوبة الولد والطيب بدواء المريض، فلم يأمر الشرع إلا بما هو نفع للعباد، وعلى المؤمن أن يقصد ذلك (1) .
تحرم إقامة حد إلا لإمام أو نائبه، واختار شيخنا، إلا لقرينة كتطلب الإمام له ليقتله (2) .
ولا يقيم الإمام الحد بعلمه، ووجه في الفروع تخريجا من كلام الشيخ تقي الدين رحمه الله جواز إقامته بعلمه (3) .
ويقام الحد ولو كان من يقيمه شريكا لمن يقيمه عليه في المعصية أو عونا له، ولهذا ذكر العلماء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط بذلك، بل عليه أن يأمر وينهى ولا يجمع بين معصيتين (4) .
__________
(1) فروع (6/ 356) ، ف (2/358) .
(2) فروع (6/ 53) هذا عام ف (2/ 357) .
(3) إنصاف (10/ 154) ، ف (2/ 358) .
(4) اختيارات (306) ، ف (2/ 358) .(5/104)
وإذا اجتمعت حدود لله عز وجل، فإن كان فيها قتل استوفي وحده، قال في المغني: لا يشرع غيره، وإلا تداخل الجنس، فظاهره لا يجوز إلا حد واحد، قال أحمد: يقام عليه الحد مرة لا الأجناس.
وذكر ابن عقيل رواية: لا تداخل في السرقة، وفي "البلغة" فقطع واحد على الأصح، وفي المستوعب رواية: إن طالبوا متفرقين قطع لكل واحد، قال أبو بكر، هذه رواية صالح، والعمل على خلافها، ثم قال شيخنا: قول الفقهاء تتداخل دليل على أن الثابت أحكام وإلا فالشيء الواحد لا يعقل فيه تداخل فالصواب أنها أحكام، وعلى ذلك نص الأئمة كما قال أحمد بعض ما ذكره: هذا مثل لحم خنزير ميت، فأثبت فيه تحريمين (1) .
لا تعتبر الموالاة في الحدود، قال الشيخ تقي الدين: وفيه نظر (2) .
الأشهر الحرم لا تعصم من شيء من الحدود والجنايات على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب وتردد الشيخ تقي الدين رحمه الله في ذلك (3) .
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إن تعدى أهل مكة أو غيرهم على الركب دفع الركب كما يدفع الصائل، وللإنسان أن يدفع مع الركب بل قد يجب إن احتيج إليه (4) .
قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ
أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا *} [15/4] قد يستدل على أن المذنب إذا
__________
(1) فروع (6/ 61) ، ف (2/ 358) .
(2) إنصاف (10/ 154) ، ف (2/ 359) .
(3) إنصاف (10/ 168) ، ف (2/ 359) .
(4) إنصاف (10/ 169) ، ف (2/ 359) وتقدم هذا النقل.(5/105)
لم يعرف فيه حكم للشرع فإنه يمسك ويحبس حتى يعرف فيه الحكم الشرعي فينفذ فيه (1) .
باب حد الزنا واللواط
وذكر في الإرشاد أن المراهق يحصن غيره، وذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله رواية (2) .
ونقل ابن منصور: لا نفي إلا للزاني والمخنث، قال القاضي: نفيه دون سنة، واحتج به الشيخ تقي الدين، وبنفي عمر لنصر بن حجاج (3) .
ومن وطئ أمة امرأته فعليه الحد، وهل يلحقه نسبه؟ على روايتين، قال الشيخ تقي الدين: إن ظن جوازه لحقه، وإلا فروايتان فيه وفي حده (4) .
أو وطئ في نكاح مجمع على بطلانه بلا نزاع إن كان عالما، وأما إذا كان جاهلا تحريم ذلك فقال جماعة من الأصحاب، إن كان يجهله مثله فلا حد عليه، وقال الشيخ تقي الدين (5) .
لو أكرهت المرأة أو الغلام على الزنا بإلجاء أو تهديد أو منع طعام مع الاضطرار إليه ونحوه فلا حد عليهما، وعنه تحد المرأة، وعنه فيها لا حد بتهديد ونحوه ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله، وقال بناء على أنه لا يباح الفعل بالإكراه بل القول (6) .
__________
(1) اختيارات (295) ، ف (2/ 359) .
(2) الإنصاف (10/ 171) ، ف (2/ 360) .
(3) إنصاف (10/ 150) ، ف (2/ 361) .
(4) إنصاف (10/ 243) ، ف (2/ 361) .
(5) إنصاف (10/ 243) ، ف (2/ 362) .
(6) إنصاف (10/183) ، ف (2/362) .(5/106)
وسحاق النساء: قياس المذهب المنصوص أنه يخرج على الخلاف في مباشرة الرجل الرجل بشهوة (1) .
والرقيق إذا زنا علانية وجب على السيد إقامة الحد عليه، وإن عصى سرا فينبغي ألا يجب عليه إقامته، بل يخير بين ستره أو استتابته بحسب المصلحة في ذلك، كما يخبر الشهود على من وجب عليه الحد بين إقامتها عند الإمام وبين الستر عليه، واستتابته بحسب المصلحة في ذلك؛ فإنه يرجح أن يتوب إن ستروه، وإن كان في ترك إقامة الحد ضرر على الناس كان الراجح فعله (2) .
ولهذا لم يقل أصحابنا: إلا أن له إقامة الحد بعلمه، ولم يقولوا: إن ذلك عليه، وذلك لأنه لو وجب على من علم من رقيقه حدا أن يقيمه عليه مع إمكان استتابته لأفضى ذلك إلى وجوب هتك كل رقيق، وأنه لا يستر على أحد منهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "من ستر مسلما ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" (3) .
ويجب على السيد بيع الأمة إن زنت في المرة الرابعة (4) .
وإذا زنى الذمي بالمسلمة قتل، ولا يصرف عنه القتل بإسلامه، ولا يعتبر فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم، بل يكفي استفاضته واشتهاره (5) .
__________
(1) اختيارات (211) ، ف (2/ 362) .
(2) اختيارات (306) ، ف (2/ 359، 360) .
(3) الفروع (6/ 54، 55) ، ف (2/ 359، 360) .
(4) اختيارات (306) ، ف (2/ 359، 360)
(5) اختيارات (295) ، ف (2/ 360) .(5/107)
قال ابن القيم رحمه الله: ويشبه هذا الاستدلال (1) استدلال بعض الزنادقة المنتسبين إلى الفقه على حل الفاحشة بمملوك الرجل بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *} [6/23] ، ومعتقد ذلك كافر حلال الدم بعد قيام الحجة عليه، وإنما تسترت هذه الطائفة لهواها وشهواتها وأوهمت أنها تنظر عبرة واستدلالا، حتى آل ببعضهم الأمر إلى أن ظنوا أن نظرهم عبادة لأنهم ينظرون إلى مظاهر الجمال الإلهي ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى عن قول إخوان النصارى يظهر في تلك الصورة الجميلة، ويجعلون هذا طريقا إلى الله، كما وقع فيه طوائف كثيرة ممن يدعي المعرفة والسلوك.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وكفر هؤلاء شر من كفر قوم لوط، وشر من كفر عباد الأصنام فإن أولئك لم يقولوا: إن الله سبحانه يتجلى في تلك الصورة وعباد الأصنام غاية ما قالوه: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [3/29] وهؤلاء يقولون: نعبدهم لأن الله ظهر في صورهم.
وحكى لي شيخنا: أن رجلا من هؤلاء مر به شاب جميل فجعل يتبعه ببصره، فأنكر عليه جليس له، قال: لا يصلح هذا لمثلك، فقال: إني أرى فيه صفات معبودي وهو مظهر من مظاهر جماله، فقال: لقد فعلت به وصنعت؟ قال: وإن قال شيخنا فلعن الله أمة معبودها موطوؤها.
قال: وسئل أفضل متأخريهم العفيف التلمساني فقيل له: إذا كان
__________
(1) الاستدلال على إباحة النظر إلى المردان الحسان بآية {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} ، واستدلالهم على إباحة السماع الشيطاني بقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} .(5/108)
الوجود واحدًا فما الفرق بين الأخت والبنت والأجنبية حتى تحل هذه؟ فقال: الجميع عندنا سواء، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم (1) .
قال شيخنا: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [221/2] على ذلك: قال: وقد سألني بعض الناس عن هذه الآية وكان ممن يقرأ القرآن فظن أن معناها في إباحة ذكران العبيد المؤمنين.
قال: ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء ويحرمه بعضهم ويقول: اختلافهم شبهة، وهذا كذب وجهل؛ فإنه ليس في فرق الأمة من يبيح ذلك، بل ولا في دين من أديان الرسل، وإنما يبيحه زنادقة العالم الذين لا يؤمنون بالله ورسوله.
قال: ومنهم من يقول: هو مباح للضرورة، مثل أن يبقى الرجل أربعين يوما لا يجامع إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء.
قال: ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء في وجوب الحد فيه فظن أن ذلك خلاف في التحريم، ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير وليس فيه حد مقدر.
قال شيخنا: وحكى لي من أثق به، أن بعض هؤلاء أخذ على هذه الفاحشة فحكم عليه بالحد، فقال: هو ارتضى بذلك وما أكرهته، ولا غصبته فكيف أعاقب؟ فقال: نصير المشركين، وكان حاضرا هذا حكم محمد بن عبد الله وليس لهؤلاء ذنب (2) .
__________
(1) روضة المحبين (122، 123) ، ف (2/ 362) .
(2) إغاثة اللهفان (2/ 145، 146) ، ف (2/ 362) .(5/109)
باب حد القذف
وهل حد القذف حق لله، أو للآدمي؟ على روايتين:
إحداهما: هو حق للآدمي..
الثانية: هو حق لله. . وعلى الثانية: لا يسقط.
وعليهما: لا يحد، ولا يجوز أن يعرض له إلا بطلب، وذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله إجماعًا (1) .
الفائدة الثانية: يحد بقذف على وجه الغيرة بفتح الغين المعجمة على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: ويتوجه احتمال لا يحد، وفاقا لمالك رحمه الله، وأنها عذر في غيبة ونحوها وتقدم كلام ابن عقيل والشيخ تقي الدين رحمه الله (2) .
باب حد المسكر
والصحيح في حد الخمر: إحدى الروايتين الموافقة لمذهب الشافعي وغيره: أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق، ولامحرمة على الإطلاق، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه بالجريد والنعال وأطراف الثياب بخلاف بقية الحدود، ويقتل شارب الخمر في الرابعة عند الحاجة إلى قتله إذا لم ينته الناس بدونه (3) .
وإذا شككت في المطعوم والمشروب هل يسكر أو لا؟ لم يحرم عليك بمجرد الشك، ولم يقم الحد على شاربه، ولا ينبغي إباحته للناس.
__________
(1) إنصاف (10/ 200، 201) ، ف (2/ 363) .
(2) إنصاف (10/ 202، 203) ، ف (2/ 364) .
(3) الاختيارات (299) والإنصاف (10/ 230) هنا زيادة إيضاح وجزم بالحكم ف
(2/ 368) .(5/110)
إذا كان يجوز أن يكون مسكرا؛ لأن إباحة الحرام مثل تحريم الحلال، فيكشف عن هذا بشهادة من تقبل شهادته مثل: أن يكون طعمه ثم تاب منه، أو طعمه غير معتقد تحريمه، أو معتقد حله لتداو ونحوه، أو على مذهب الكوفيين في تناول يسير النبيذ، فإن شهد به جماعة ممن تناوله معتقدا تحريمه فينبغي إذا أخبر عدد كثير لا يمكن تواطؤهم على الكذب أن يحكم بذلك، فإن مثل هذا التواتر والاستفاضة كما استفاض بين الفساق والكفار الموت والنسب والنكاح والطلاق، فيكون أحد الأمرين:
إما الحكم بذلك، لأن التواتر لا يشترط فيه الإسلام، والعدالة، وإما الشهادة بذلك بناء على أن الاستفاضة يحصل بها ما يحصل بالتواتر، وإما أن يمتحن بعض العدول بتناوله لوجهين.
أحدهما: أنه لا يعلم تحريم ذلك قبل التأويل فيجوز الإقدام على تناوله، وكراهة الإقدام على الشبهة تعارضها مصلحة بيان الحال.
الوجه الثاني: أن المحرمات قد تباح عند الضرورة، والحاجة إلى البيان موضع ضرورة فيجوز تناولها لأجل ذلك (1) .
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، رخص أكثر العلماء فيما يكره عليه من المحرمات لحق الله كأكل الميتة وشرب الخمر وهو ظاهر مذهب أحمد رحمه الله (2) .
باب التعزير
وإذا شتم الرجل أباه واعتدى عليه وجب أن يعاقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله بل وأبلغ من ذلك أنه ثبت في الصحيح "أن من الكبائر أن يسب الرجل والديه، قالوا: وكيف يسب الرجل والديه؟ " قال: "يسب
__________
(1) اختيارات (299) ، ف (2/ 367) .
(2) إنصاف (10/ 231) ، ف (2/ 367) .(5/111)
أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" وقال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [23/17] فكيف يشتمهما؟ (1) .
ومن قال: الله أكبر عليك، فهو من نحو الدعاء عليه، فإن لم يكن بحق وإلا كان ظالما له، يستحق الانتصار منه لذلك، إما بمثل قوله، أو تعزيره (2) .
ومن قذف رجلا بأنه ينظر إلى حريم الناس وهو كذاب عزر على افترائه بما يزجره وأمثاله إذا طالبه المقذوف بذلك، وكذلك إذا شتمه بأنه فاسق أو أنه يشرب الخمر، وهو كاذب عليه يعزر (3) .
ومن اعتاد الكذب فصار إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، فهو منافق والمنافق شر من الكافر، فإذا قال رجل للذي يكذب النصراني خير منك، وقصد أن النصراني لا يكذب خير من هذا الكذاب مع أن دين الإسلام هو الحق فلا شيء عليه، فإن الكذب أساس النفاق، ومن لا يكذب خير ممن يكذب (4) .
ومن التعزير الذي جاءت به السنة ونص عليه أحمد والشافعي: نفي المخنث، وحلق عمر رأس نصر بن حجاج ونفاه لما افتتن به النساء فكذلك من افتتن به الرجال من المردان بل هو أولى (5) .
ولا يقدر التعزير بل بما يردع المعزر، وقد يكون بالعزل والنيل من عرضه مثل أن يقال له: يا ظالم، يا معتدي، وبإقامته من المجلس.
__________
(1) مختصر الفتاوى (493) ، ف (2/ 371) .
(2) مختصر الفتاوى (371) ، ف (2/ 371) .
(3) مختصر الفتاوى (493) ، ف (2/ 371) .
(4) مختصر الفتاوى (548) ، ف (2/ 371) .
(5) اختيارات (299) ، ف (2/ 371) .(5/112)
والذين قدروا التعزير من أصحابنا إنما هو فيما إذا كان تعزيرا على ما مضى من فعل أو ترك، فإن كان تعزيرا لأجل ترك ما هو فاعل له فهو بمنزلة قتل المرتد والحربي وقتال الباغي والعادي، وهذا تعزير غير مقدر، بل قد ينتهي إلى القتل، كما في الصائل لأخذ المال يجوز أن يمنع من الأخذ ولو بالقتل، وعلى هذا فإذا كان المقصود دفع الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قتل، وحينئذ فمن تكرر منه فعل الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة بل استمر على ذلك الفساد هو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل فيقتل، ويمكن أن يخرج قتل الشارب في الرابعة على هذا.
ويقتل الجاسوس الذي تكرر منه التجسس على المسلمين لعدوهم، وقد ذكر الحنفية والمالكية شيئا من هذا، وإليه يرجع قول ابن عقيل، وهو أصل عظيم في إصلاح الناس.
وكذلك تارك الواجب، فلا يزال يعاقب حتى يفعله.
ومن فر إلى بلاد العدو ولم يندفع ضرره إلا بقتله قتل.
والتعزير بالمال سائغ، إتلافا وأخذا وهو جار على مذهب أحمد؛ لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها.
وقول الشيخ أبي محمد المقدسي: لا يجوز أخذ ماله، يعني المعزر، فإشارة منه إلى ما يأخذه الولاة الظلمة.
ومن وطئ امرأة مشركة قدح ذلك في عدالته وأدب.
والتعزير يكون على فعل المحرمات وترك الواجبات.
فمن ترك الواجبات: من كتم ما يجب بيانه كالبائع المدلس، والمؤجر المدلس والناكح وغيرهم من العالمين، وكذا الشاهد والمخبر والمفتي والحاكم ونحوهم، فإن كتمان الحق مشبه بالكذب.
وينبغي أن يكون سببا للضمان، كما أن الكذب سبب للضمان.(5/113)
فإن ترك الواجبات عندنا في الضمان كفعل المحرمات، حتى قلنا: من قدر على إنجاء شخص بإطعام أو سقي فلم يفعل فمات ضمنه.
فعلى هذا فلو كتم شهادة كتمانا أبطل بها حق مسلم ضمنه، مثل أن يكون عليه حق ببينة وقد أداه حقه، وله بينة بالأداء، فكتم الشهادة حتى ضمن ذلك الحق، وكما لو كانت وثائق لرجل فكتمها أو جحدها حتى فات الحق، ولو قال: أنا أعلمها ولا أؤديها فوجوب الضمان ظاهر.
وظاهر نقل حنبل وابن منصور: سماع الدعوى والإعداء التحليف في الشهادة.
ومن هذا الباب لو كان في القرية أو المحلة أو البلدة رجل ظالم فسأل الوالي أو الغريم عن مكانه ليأخذ منه الحق فإنه يجب على الناس دلالته عليه بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحق، فعلى هذا: إذا كتموا ذلك حتى تلف الحق ضمنوه.
ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنه كتم الخبر الواجب، كما يملك تعزير المقر إقرارًا مجهولاً، حتى يفسر؟ ومن كتم الإقرار.
وقد يكون التعزير على ترك المستحب، كما يعزر العاطس الذي لم يحمد الله بترك تشميته.
وقال أبو العباس في موضع آخر: والتعزير على الشيء دليل على تحريمه.
ومن هذا الباب ما ذكره أصحابنا وأصحاب الشافعي من قتل الداعية من أهل البدع، كما قتل الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وغيلان القدري.
وقتل هؤلاء له مأخذان.(5/114)
أحدهما: كون ذلك كفرا، كقتل المرتد ردة مجردة أو مغلظة وهذا المعنى يعم الداعي إليها وغير الداعي، وإذا كفروا فيكون قتلهم من باب قتل المرتد.
والمأخذ الثاني: لما في الدعاء إلى البدعة من إفساد دين الناس، ولهذا كان أصل الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث وعلمائهم، أنهم يفرقون بين الداعي إلى البدعة وغير الداعي في رد الشهادة، وترك الرواية عنه، والصلاة خلفه، وهجره، ولهذا ترك أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده الرواية عن مثل عمرو بن عبيد ونحوه، ولم يتركوا الرواية عن القدرية الذين ليسوا بدعاة.
وعلى هذا المأخذ: فقتلهم من باب قتل المفسدين المحاربين، لأن المحاربة باللسان كالمحاربة باليد.
ويشبه قتل المحاربين للسنة بالرأي قتل المحاربين لها بالرواية، وهو قتل من يتعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كذب عليه في حياته، وهو حديث جيد، لما فيه من تغيير سنته.
وقرر أبو العباس هذا مع نظائر له في «الصارم المسلول، على شاتم الرسول» كقتل الذي يتعرض لحرمه أو يسبه ونحو ذلك، وكما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل المفرق بين جماعة المسلمين لما فيه من تفريق الجماعة.
ومن هذا الباب قتل الجاسوس المسلم الذي يخبر العدو بعورات المسلمين.
ومنه الذي يكذب بلسانه أو خطه أو يأمر بذلك حتى يقتل به أعيان الأمة: علماؤها وأمراؤها، فيحصل بكذبه أنواع كثيرة من الفساد، فهذا متى لم يندفع فساده إلا بقتله فلا ريب في قتله، وإن جاز أن يندفع وجاز ألا يندفع قتل أيضًا.(5/115)
وعلى هذا جاء قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} [32/5] ، وقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [33/5] .
وأما إن اندفع الفساد الأكبر بقتله، لكن بقي فساد دون ذلك، فهو محل نظر.
قال أبو العباس: وأفتيت أميرا مقدما على عسكر كبير في الحربية، إذا نهبوا أموال المسلمين ولم ينزجروا إلا بالقتل أن يقتل من يكفون بقتله ولو أنهم عشرة إذ هو من باب دفع الصائل، قال: وأمرت أميرا خرج لتسكين الفتنة الثائرة بين قيس ويمن قد قتل منهم ألفان أن يقتل من يحصل بقتله كف الفتنة، ولو أنهم مائة.
قال: وأفتيت ولاة الأمور في شهر رمضان، سنة أربع وسبع مائة بقتل من أمسك في سوق المسلمين وهو سكران وقد شرب الخمر مع أهل الذمة وهو مجتاز بشقة لحم يذهب بها إلى ندمائه، وكنت أفيتهم قبل هذا: بأنه يعاقب عقوبتين عقوبة على الشرب، وعقوبة على الفطر في نهار رمضان، فقالوا: ما مقدار التعزير؟ فقلت: هذا يختلف باختلاف الذنب، وحال المذنب، وحال الناس، وتوقفت عن القتل، فكبر هذا على الأمراء والناس حتى خفت أنه إن لم يقتل ينحل نظام الإسلام لجرأة الناس على انتهاك المحارم في نهار رمضان فأفتيت بقتله فقتل، ثم ظهر فيما بعد أنه كان يهوديا وأنه أظهر الإسلام.
والمطلوب له ثلاث أحوال:
أحدها: براءته في الظاهر، فهل يحضره الحاكم؟ على روايتين.
وذكر أبو العباس في موضع آخر: أن المدعي حيث ظهر كذبه في دعواه بما يؤذي به المدعى عليه عزر لكذبه ولأذاه وأن طريقة القاضي(5/116)
رد هذه الدعوى على الروايتين، بخلاف ما إذا كانت ممكنة، ونص أحمد في رواية عبد الله فيما إذا علم بالعرف المطرد أنه لا حقيقة للدعوى لا يعذبه، وفيما لم يعرف واحد من الأمرين يعذبه، كما في رواية الأثرم، وهذا التفريق حسن.
والحال الثاني: احتمال الأمرين، وأنه يحضره بلا خلاف.
والحال الثالث: تهمته وهو قيام سبب يوهم أن الحق عنده، فإن الاتهام افتعال من الوهم، وحبسه هنا بمنزلة حبسه بعد إقامة البينة وقبل التعزير، أو بمنزلة حبسه بعد شهادة أحد الشاهدين، فأما امتحانه بالضرب كما يجوز ضربه لامتناعه من أداء الحق الواجب دينا أو عينا، ففي المسألة حديث النعمان بن بشير في سنن أبي داود لما قال: "إن شئتم ضربته فإن ظهر الحق عنده وإلا ضربتكم وقال: هذا قضاء الله ورسوله".
وهذا يشبه تحليف المدعي إذا كان معه لوث، فإن اقتران اللوث بالدعوى جعل جانبه مرجحا فلا يستبعد أن يكون اقترانه بالتهمة يبيح مثل ذلك.
والمقصود أنه إذا استحق التعزير وكان متهما بما يوجب حقا واحدا مثل أن يثبت عليه هتك الحرز ودخوله ولم يقر بأخذ المال وإخراجه ويثبت عليه المحاربة لخروجه بالسلاح وشهره له، ولم يثبت عليه القتل والأخذ، فهذا يعزر لما فعله من المعاصي، وهل يجوز أن يفعل ذلك، أيضا امتحانا لا غير، فيجمع بين المصلحتين؟ هذا قوي في حقوق الآدميين.
فأما حدود الله تعالى عند الحاجة إلى إقامتها فيحتمل، ويقوى ذلك إذا أنكر الجميع ثم قامت البينة ببعض ما أنكر فإنه يصير لوثًا.(5/117)
ونظير ذلك أن يعاقب الإمام من استحق العقوبة بقتل وتوهم العامة بأنه عاقبه على بعض الذنوب التي يريد الحذر عنها، وهذا شبيه بما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - من أنه "إذا أراد غزوة ورى بغيرها".
والذي لا ريب فيه: أن الحاكم إذا علم كتمانه الحق عاقبه حتى يقربه، كما يعاقب كاتم المال الواجب أداؤه، فأما إذا احتمل أن لا يكون كاتما فهذا كالمتهم سواء.
وخبر من قال له جني بأن فلانا سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة.
وإذا طلب المتهم بحق فمن عرف مكانه دل عليه.
والقوادة التي تفسد النساء والرجال أقل ما يجب على الحاكم فيها الضرب البليغ وينبغي تشهيرها بذلك بحيث يستفيض هذا في النساء، والرجال وإذا أركبت دابة وضمت عليها ثيابها ونودي عليها هذا جزاء من يفعل كذا وكذا كان من أعظم ما يؤجر عليه، إذ هي بمنزلة عجوز السواء امرأة لوط وقد أهلكها الله تعالى مع قومها.
ومن قال لمن لامه الناس: تقرءون تواريخ آدم؟ وظهر منه قصد معرفتهم بخطيئته عزر ولو كان صادقا، وكذا من يمسك الحية ويدخل النار ونحوه.
وكذا من تنقص مسلمًا بأنه مسلماني مع حسن إسلامه.
ومن غضب فقال: ما نحن مسلمون، إن أراد ذم نفسه لنقص دينه فلاحرج فيه ولا عقوبة.
ومن قال لذمي: يا حاج، عزر لأن فيه تشبيه قاصد الكنائس بقاصد بيت الله، وفيه تعظيم ذلك فهو بمنزلة من يشبه أعياد الكفار.(5/118)
بأعياد المسلمين وكذا يعزر من يسمي من زار القبور والمشاهد حاجا، إلا أن يسميه حاجا بقيد، كحجاج الكفار والضالين، ومن سمي زيارة ذلك حجا أو جعل له مناسك فإنه ضال مضل، ليس لأحد أن يفعل في ذلك ما هو من خصائص حج البيت العتيق.
وإذا اشترى اليهودي نصرانيا فجعله يهوديًّا عزر على جعله يهوديا ولا يكون مسلما.
ولا يجوز للجذمى مخالطة الناس عموما، ولا مخالطة أحد معين إلا بإذنه، وعلى ولاة الأمور منعهم من مخالطة الناس لهم، بل يكونون في مكان منفرد لهم، ونحو ذلك كما جاءت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وكما ذكره العلماء، وإذا امتنع ولي الأمر من ذلك أو امتنع المجذوم أثم بذلك.
وإذا أصر على ترك الواجب مع علمه به فسق.
ومن دعي عليه ظلما له أن يدعو على ظالمه بمثل ما دعا به عليه نحو: أخزاك الله، أو لعنك، أو شتمه بغير فرية نحو: يا كلب، يا خنزير فله أن يقول له مثل ذلك لقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ *} [41/42] فعلم أنه لا سبيل إلا على الظالم للناس الباغي.
وإذا كان له أن يستعين بالمخلوق من وكيل ووال وغيرهما فاستعانته بخالقه أولى بالجواز.
ومن وجب عليه الحد بقتل أو غيره سقط عنه بالتوبة، وظاهر كلام أصحابنا لا يجب عليه التعزير، كقولهم: هو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.(5/119)
وذكر أبو العباس في موضع آخر: أن المرتد إذا قبلت توبته ساغ تعزيره بعد التوبة (1) .
إذا كانت المعصية لا حد فيها ولا كفارة كما مثل المصنف (2) .
وفعلها فإنه يعزر، وقد يفعل معصية لا كفارة فيها ولا حد ولا تعزير أيضا كما لو شتم نفسه أو سبها قاله القاضي، ومال الشيخ تقي الدين إلى وجوب التعزير، قال الزركشي، ولا يشرع التعزير فيما فيه حد إلا على ما قاله أبو العباس ابن تيمية في شارب الخمر، يعني في جواز قتله، وفيما إذا أتى حدا في الحرم فإن بعض الأصحاب قال: يغلظ، وهو نظير تغليظ الدية بالقتل في ذلك (3) .
وقال المصنف والشارح وصاحب الفروع: ويحتمل كلام الإمام أحمد والخرقي ألا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا من جنسها، ويجوز أن يزيد على حد من غير جنسها، فعلى هذا ما كان سببه الوطء يجوز أن يجلد مائة إلا سوطا لينقص عن حد الزنا، وما كان سببه غير الوطء لم يبلغ به أدنى الحدود وإليه ميل الشيخ تقي الدين.
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله يعزر بما يردعه كعزل متول، وقال: لا يتقدر لكن ما فيه مقدر لا يبلغه فلا يقطع بسرقة دون نصاب ولا يحد حد الشرب بمضمضة خمر ونحوه، وقال: هو رواية عن الإمام أحمد، واختيار طائفة من أصحابه، وقد يقال بقتله للحاجة،
وقال: يقتل مبتدع داعية، وذكره وجها لمالك رحمه الله ونقله إبراهيم
__________
(1) اختيارات (300-306) فيها زيادات كثيرة وجامعة لما تفرق أو أكثره، وانظر الفروع (6/ 118-120) ، ف (2/ 371) ,.
(2) كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد، وإتيان المرأة المرأة وسرقة ما لا يوجب القطع والجناية على الناس بما لا قصاص فيه والقذف بغير الزنا ونحوه.
(3) إنصاف (10/ 239) ، ف (2/ 371) .(5/120)
ابن سعيد الأطرش عن الإمام أحمد رحمه الله في الدعاة من الجهمية (1) .
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: في الخلوة بالأجنبية واتخاذ الطواف بالصخرة دينا، وفي قول الشيخ انذروا لي واستعينوا بي إن أصر ولم يتب قتل، وكذلك من تكرار منه شربه للخمر ما لم ينته بدونه للأخبار فيه (2) .
باب القطع في السرقة
ونصابها ثلاثة دراهم خالصة ومغشوشة. قاله شيخنا (3) .
واللص الذي غرضه سرقة أموال الناس، ولا غرض له في شخص معين فإن قطع يده واجب، وله عفا عنه رب المال (4) .
ولا يشترط في القطع في السرقة مطالبة المسروق منه بماله، وهي رواية عن أحمد اختارها أبو بكر ومذهب مالك، كإقرار بالزنا بأمة غيره (5) .
ومن سرق ثمرًا أو كثرًا أو ماشية من غير حرز أضعفت عليه القيمة وهو مذهب أحمد، وكذا غيرها وهو رواية عنه (6) .
وأما غير الشجر والنخل والماشية إذا سرقه من غير حرز فلا يضمن عوضها إلا مرة واحدة.
__________
(1) إنصاف (10/ 249) فيه زيادة ف (2/ 371) .
(2) إنصاف (10/ 248) ، ف (2/ 372) .
(3) فروع (6/ 126) ، ف (2/ 372) وانظر (19/ 249) قوله من الكبار أو الصغار أو المختلطة.
(4) اختيارات (296) ، ف (2/ 373) .
(5) اختيارات (296) ، ف (2/ 373) .
(6) فروع (6/ 123) واختيارات (296) ، ف (2/ 373) .(5/121)
وعنه: أن ذلك كالثمر والماشية، اختاره أبو بكر، والشيخ تقي الدين (1) .
وقال في الفروع: وقياس قول شيخنا، يعني به الشيخ تقي الدين: أن السارق كالشارب في الرابعة يقتل عنده إذا لم يتب بدونه (2) .
واختار تعزير مدع سرقة ونحوها على من تعلم براءته.
واختار أن خبر من له رائي جني بأن فلانا سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة كما تقدم (3) .
باب حد قطاع الطريق
وأجمع المسلمون على مقاتلة قطاع الطريق (4) .
والمحاربون في المصر والصحراء حكمهم واحد، وهو قول مالك في المشهور عنه والشافعي وأكثر أصحابنا.
قال القاضي: المذهب على ما قال أبو بكر في عدم التفرقة ولا نص في الخلاف، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء والخلاء، فالمباشرة في الخراب، وهو مذهب أحمد، وكذا في السرقة والمرأة التي تحضر النساء للقتل تقتل (5) .
ويلزم الدفع عن مال الغير، وسواء كان المدفوع من أهل مكة أو غيرهم (6) .
__________
(1) إنصاف (10/ 277) ، ف (2/ 374) .
(2) إنصاف (10/ 386) ، ف (2/ 374) .
(3) فروع (6/ 480) ، ف (2/ 374، 422) .
(4) مختصر الفتاوى (470) ، ف (2/ 376) .
(5) اختيارات (296) فيه زيادة ف (2/ 376) .
(6) وانظر الإنصاف (10/ 306) .(5/122)
وقال أبو العباس في جند قاتلوا عربا نهبوا أموال التجار ليردوها إليهم فهم يجاهدون في سبيل الله، ولا ضمان عليهم بقود ولا دية ولا كفارة (1) .
باب الخلافة والملك
نصب السلطان
قد أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر فهو تنبيه على أنواع الاجتماع (2) .
ومن أمر للرئاسة والمال لم يثب، ويأثم على فساد نيته كالمصلي رياء وسمعة (3) .
وقال الشيخ تقي الدين: العدل تحصيل منفعته، ودفع مضرته، وعند الاجتماع يقدم أرجحهما لتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.
وقال في موضع آخر بعد أن ذكر ما رواه أحمد عن ميمون بن مهران، قال: ثلاثة لا تبلون نفسك بهم: لا تدخلن على ذي سلطان وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تخلون بامرأة وإن قلت: أعلمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك لذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه.
قال الشيخ تقي الدين: فالاجتماع بالسلطان من جنس الإمارة والولاية، وفعل ذلك لأمره ونهيه بمنزلة الولاية بنية العدل وإقامة الحق.
__________
(1) اختيارات ص (297) ، ف (2/ 376) وانظر ما إذا تعدى أهل مكة أو غيرهم على الركب الحجاج دفع الركب كما يدفع الصائل، أول كتاب الحج من هذا.
(2) فروع (6/ 417) اختيارات (331) ، ف (2/ 376) .
(3) فروع (6/ 417) واختيارات (297) ولفظها، ومن آمن إلخ، ف (2/ 376) .(5/123)
واستماع كلام المبتدع للرد عليه من جنس الجهاد، وأما الخلوة بالمرأة الأجنبية فمحرم فهذا كله من جنس واحد، وهو دخول الإنسان بنفسه من غير حاجة فيما يوجب عليه أمورا أو يحرم عليه أمورا، لا سيما إن كانت تلك الأمور مما جرت العادة بترك واجبها وفعل محظورها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدجال: "فلا يزال ما يراه من الشبهات حتى يفتنه ذلك".
من هذا الباب ما يذكر عن طوائف من السلف من امتناعهم ومنعهم من استماع كلام المبتدعة خشية الفتنة عليهم، وعلى غيرهم وأما من نهى عن ذلك للهجر أو للعقوبة على فعله فذلك نوع آخر إلى أن قال: فهذه الأمور العدل فيه ألا يطلب العبد أن يبتلى بها، وإذا ابتلي بها فليتق الله وليصبر، والاستعداد لها أن تصيبه من غير طلب الابتلاء بها، فهذه المحن والفتن إذا لم يطلبها المرء ولم يتعرض لها بل ابتلي بها ابتداء أعانه الله تعالى عليها بحسب حال ذلك العبد عنده؛ لأنه لم يكن منه في طلبها فعل ولا قصد حتى يكون ذلك ذبنا يعاقب عليه، ولا كان منه كبر واختيال مثل دعوى قوة أو ظن كفاية بنفسه حتى يخذل بترك توكله ويوكل إلى نفسه، فإن العبد يؤتى من ترك ما أمر به.
وسواء كان مراده بها محرما، أو مباحا، أو مستحبا.
وإرادته بها المحرم زيادة ذنب.
وإن أراد بها المستحب فقد فعل ما لم يؤمر به، وهذا مما يذم عليه، كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، "ما بعث الله من نبي إلا كان له من أمته حواريون وأنصار يستنون بسنته ويهتدون بهديه، ثم إنه يخلف من بعده خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون".
والتعرض للفتنة هو من باب الذنوب فالمؤمن الصادق لا يفعل.(5/124)
إلا ما أمر به فإن ذلك هو عبادة، ولا يستعين إلا بالله، فإذا أوجب هو بنفسه أو حرم هو بنفسه خرج عن الأول، فإن وثق بنفسه خرج عن الثاني، فإذا أذنب بعد ذلك فقد يتوب بعد الذنب فيعينه حينئذ وقد يكون له حسنات راجحة يستحق بها الإعانة، وقد يتداركه الله برحمته فيسلم أو يخفف عليه، والتوبة بفعل المأمور وترك المحظور في كل حال بحسبه، ليست ترك ما دخل فيه، فإن ذلك قد لا يمكنه إلا بذنوب هي أعظم من ذنوبه مع مقامه، فتدبر هذا.
والمبتلى من غير تعرض قد يفرط بترك المأمور وفعل المحظور حتى يخذل ولا يعان فيؤتى من ذنوبه، لا من نفس ما ابتلي به، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [155/3] ، وهذا كثير أكثر من الذي قبله، فأما المؤمنون الذين لم يكن منهم تفريط ولا عدوان فإذا ابتلوا أعينوا.
قال: وقد تبين أن التعرض للفتن بالإيجاب والتحريم بالعهود والنذور وطلب الولاية وتمني لقاء العدو ونحو ذلك هو من الذنوب انتهى كلامه (1) .
لا يعلم العدل والظلم إلا بالعلم، فصار الدين كله، العلم والعدل، وضد ذلك الظلم والجهل، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [72/33] وذلك يقع من الرعاة تارة، ومن الرعية تارة، ومن غيرهم تارة، فإن من العلم والعدل المأمور به الصبر على ظلم الأئمة وجورهم، وكما هو من أصول أهل السنة والجماعة، وكما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث المشهورة عنه، كما قال: "إنكم
__________
(1) الآداب (3/ 479، 480) ، ف (2/ 376) .(5/125)
ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" وقال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه" إلى أمثال ذلك، وقال: "أدوا لهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم" و"نهى عن قتالهم ما صلوا" وذلك لأن معهم أصل الدين المقصود وهو توحيد الله وعبادته، ومعهم حسنات وترك لسيئات كثيرة.
وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال بما فيه ظلم وجور، كما هو عادة أكثر النفوس يزيل الشر بما هـ شر منه، ويزيل العدوان بما هو أعدى منه، فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم فيصير عليه، كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور المنهي في مواضع كثيرة كقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [17/31] ، وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [35/46] وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [48/52] ، وهذا عام في ولاة الأمور وفي الرعية إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فعليهم أن يصبروا على ما أصيبوا به في ذات الله كما يصبر المجاهدون على ما يصاب من أنفسهم وأموالهم، فالصبر على الأذى في العرض أولى وأولى، وذلك لأن مصلحة الأمر والنهي لا تتم إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقد يندرج في ذلك ولاة الأمور فإن عليهم من الصبر والحلم ما ليس على غيرهم، كما أن عليهم من الشجاعة والسماحة ما ليس على غيرهم؛ لأن مصلحة الإمارة لا تتم إلا بذلك، فكما وجب على الأئمة الصبر على أذى الرعية وظلمها إذا لم تتم المصلحة إلا بذلك أو كان تركه يفضي إلى فساد أكثر منه.(5/126)
وكذلك يجب على الرعية الصبر على جور الأئمة وظلمهم إذا كان في ترك الصبر مفسدة راجحة.
فعلى كل من الراعي والرعية حقوقا للآخر، حقوقا عليه أداؤها كما ذكرت بعضه في كتاب الجهاد والقضاء، وعليه أن يصبر على الآخر ويحلم عنه في أمور، فلا بد من السماح والصبر في كل منهما، كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [17/90] وفي الحديث "أفضل الإيمان السماحة والصبر" وفي أسماء الله "الغفور، الرحيم" فبالحلم يعفو عن سيئاتهم، وبالسماحة يوصل إليهم المنافع، فيجمع بين جلب المنفعة ودفع المضرة، فأما الإمساك عن ظلمهم والعدل عليهم فوجوب ذاك أظهر من هذا، فلا حاجة إلى بيانه (1) .
باب قتل أهل البغي
وهم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ (2) .
قال شيخنا: عامة الفتن التي وقعت من أعظم أسبابها قلة الصبر؛ إذ الفتنة لها سببان: إما ضعف العلم، وإما ضعف الصبر، فإن الجهل والظلم أصل الشر، وفاعل الشر إنما يفعله لجهله بأنه شر، وتكون نفسه تريده فبالعلم يزول الجهل، وبالصبر يحبس الهوى والشهوة فتزول تلك الفتنة (3) .
__________
(1) من مجموع (96) ص (114) وهي آخر فصل جامع قد كتبت فيما تقدم في مواضع مثل بعض القواعد وآخر مسودة الفقه إن جماع الحسنات العدل وجماع السئات الظلم إلخ، وقد طبعنا أولها إلى قوله وأصل ذلك العلم في المجلد الأول من المجموع ص (87) وتركنا آخرها لوجود أسطر غير مقروءة إذ ذاك، وقد يسير الله قراءتها وتتميما للفائدة نقلت بقية هذه القاعدة هنا لمناسبة آخرها لهذا الباب ف (2/ 381) .
(2) فروع (6/ 152) ، ف (2/ 384) .
(3) فروع (6/ 160) ، ف (2/ 385) .(5/127)
والأفضل ترك قتال أهل البغي حتى يبدؤه (وم) .
وله قتل أهل الخوارج ابتداء أو متممة تخريجهم.
ومن استحل أذى من أمره ونهاه بتأويل فكالمبتدع ونحوه يسقط بتوبته حق الله تعالى وحق العبد، واحتج أبو العباس لذلك بما أتلفه البغاة، لأنه من الجهاد الذي يجب الأجر فيه على الله تعالى (1) .
وذكر الشيخ تقي الدين: أن ابن عقيل وغيره فسقوا البغاة (2) .
... وقد ذكر ابن عبد البر في كتابه "بهجة المجالس" قال رجل لابن سيرين: إني وقعت فيك فاجعلني في حل، قال: لا أحب أن أحل لك ما حرم الله عليك، وقال شيخنا إن في الآية المذكورة {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [39/24] فائدة عظيمة وهو أن حمدهم على أنهم ينتصرون عند البغي عليهم، كما أنهم هم يعفون عند الغضب، ليسوا مثل الذي ليس له قوة الانتصار وفعله لعجزهم أو كسلهم أو وهنهم أو ذلهم أو حزنهم فإن أكثر من يترك الانتصار بالحق إنما يتركه لهذه الأمور وأشباهها، وليسوا مثل الذي إذا غضب لا يغفر ولا يعفو بل يتعدى أو ينتقم حتى يكف من خارج كما عليه أكثر الناس إذا غضبوا أو قدروا لا يقفون عند العدل، فضلا عن الإحسان.
فحمدهم على أنهم هم ينتصرون وهم يعفون ولهذا قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، إلى أن ذكر الروايتين في دفع الإنسان عن نفسه، ثم قال: ويشبه ألا يجب مفسدة تقاوم مفسدة الترك أو تفضي إلى فساد أكثر، وعلى هذا تخرج قصة ابن آدم وعثمان رضي الله عنه؛ بخلاف من لم يكن في دفعه إلا إتلاف مال الغير الظالم أو حبسه أو
__________
(1) فروع (6/ 156) واختيارات (297) ، ف (2/ 385) .
(2) إنصاف (10/ 319) ، ف (2/ 385) .(5/128)
ضربه، فهنا الوجوب أوجه وهذا معنى قوله: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} فالانتصار قد يكون مستحبا تارة، وقد يكون واجبا أخرى، كالمغفرة سواء (1) .
وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رئاسة فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفته على الأخرى.
ولكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما نهبته كل طائفة من الأخرى تساوتا، كمن جهل قدر المحرم من ماله أخرج نصفه والباقي له.
وقال أيضا: أوجب الأصحاب على مجموع الطائفة وإن لم يعلم عين المتلف.
وقال أيضا: وإن تقاتلا تقاصا، لأن المباشر والمعين سواء عند الجمهور (2) .
باب حكم المرتد
والمرتد: من أشرك بالله تعالى، أو كان مبغضا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به اتفاقا، أو ترك إنكار منكر بقلبه، أو توهم أن أحدا من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم قاتل مع الكفار، أو أجاز ذلك، أو أنكر مجموعا عليه إجماعا قطعيا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم ومن شك في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمرتد وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، ولهذا لم يكفر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الشاك في قدرة الله على إعادته، لأنه لا يكون إلا بعد الرسالة (3) .
__________
(1) فروع (6/ 149، 150) ، ف (2/ 386) وف (1/ 327) .
(2) إنصاف (10/ 325) مختصر وفيه زيادة ف (2/ 386) .
(3) اختيارات (307) وفروع (6/ 165) وإنصاف (10/ 326) فيه زيادة ف (2/ 387) .(5/129)
وساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقتل ولو أسلم (1) .
قال الشيخ تقي الدين، التنجيم كالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية من السحر.
قال: ويحرم إجماعا وأقر أولهم وآخرهم يعني المنجمين أن الله يدفع عن أهل العبادة، والدعاء ببركة ذلك (2) ما زعموا أن الأفلاك توجبه، وأن لهم من ثواب الدارين ما لا تقوى الأفلاك على أن تجلبه (3) .
وليس كل من خالف ما علم بطريق العقل كان كافرًا، ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقل لم يحكم بكفره حتى يكون كفرا في الشريعة، بخلاف من خالف ما علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء به فإنه كافر بلا نزاع، وذلك أنه ليس في الكتاب والسنة، ولا في قول أحد من الأئمة، الإخبار عن الله بأنه متحيز، أو ليس بمتحيز، ولا في الكتاب والسنة أن من قال هذا أو هذا يكفر، وهذا اللفظ مبتدع، والكفر لا يتعلق بمجرد أسماء مبتدعة لا أصل لها، بل يستفسر هذا القائل، فإن قال: أعني أنه منحاز عن المخلوقات مباين لها، فهذا حق، وكذلك قوله: ليس بمتحيز، إن أراد أن المخلوق لا يحوز الخالق فقد أصاب، وإن قال: الخالق لا يباين المخلوق، فقد أخطأ (4) .
وقال الشيخ تقي الدين: نصوصه صريحة في عدم تكفير الخوارج والقدرية والمرجئة وغيرهم وإنما كفر الجهمية لا أعيانهم قال: وطائفة تحكي عنه روايتين في تكفير أهل البدع مطلقًا حتى المرجئة والشيعة
__________
(1) اختيارات (320) ، ف (2/ 388) .
(2) نسخ ببركته.
(3) فروع (6/ 178) واختيارات (308) وإنصاف (10/ 351) ، ف (2/ 396) .
(4) مختصر الفتاوى (320) ، ف (2/ 388) .(5/130)
المفضلة لعلي، قال: ومذاهب الأئمة الإمام أحمد وغيره رحمهم الله مبنية على التفصيل بين النوع والعين (1) .
قال شيخنا: قد بين الله تعالى: أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع (2) .
ولا يضمن المرتد ما أتلفه بدار الحرب، أو في جماعة مرتدة ممتنعة وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال وصاحبه (3) .
لو مات أبو الطفل أو الحمل أو المميز، أو مات أحدهما في دارنا فهو مسلم، وعنه لا يحكم بإسلامه، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة، وهو قول الجمهور وربما أدعي فيه إجماع معلوم متيقن واختاره شيخنا (4) .
__________
(1) إنصاف (10/ 345) ، ف (2/ 390، 183) .
(2) فروع (6/ 170) إنصاف (10/ 327) ، ف (2/ 392) .
(3) اختيارات (317) ، ف (2/ 394) .
(4) إنصاف (10/ 345) ، ف (2/ 390، 183) .(5/131)
كتاب الأطعمة
والأصل فيها الحل لمسلم يعمل صالحًا، لأن الله تعالى إنما يبيح الطيبات لمن يستعين بها على طاعته لا على معصيته، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [93/5] الآية ولهذا لا يجوز أن يعان بالمباح على معصية، كمن يعطي اللحم والخبز لمن يشرب عليه الخمر، ويستعين به على الفواحش، ومن أكل من الطيبات، ولم يشكر فهو مذموم، قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ *} [8/102] أي عن الشكر عليه (1) .
وأما الضبع فإنها مباحة في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وحرام في مذهب أبي حنيفة، لأنها من ذوات الأنياب، والأولون استدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنها صيد وأمر بأكلها" رواه أهل السنن وصححه الترمذي. قالوا: ليس لها ناب، لأن أضراسها صفيحة لا ناب فيها (2) .
وفي كلب الماء نزاع، الأولى تركه (3) .
وسنور أهلي. قال أحمد: أليس مما يشبه السباع؟ قال شيخنا:
__________
(1) اختيارات (321) ، ف (2/ 398) فيه زيادة.
(2) مختصر الفتاوى (520) ، ف (2/ 399) .
(3) مختصر الفتاوى (520) ، ف (2/ 399) .(5/132)
ليس في كلامه هذا إلا الكراهة، وجعله أحمد قياسا، وأنه قد يقال: يعمها اللفظ (1) .
وما يأكل الجيف يعني يحرم ونقل عبد الله وغيره: يكره وجعل فيه الشيخ تقي الدين روايتي الجلالة.
وقال: عامة أجوبة الإمام أحمد رحمه الله ليس فيها تحريم، قال: وإذا كان ما يأكلها من الدواب السباع، ففيه نزاع أو لم يحرموه والخبر في الصحيحين (2) فمن الطير أولى (3) .
وما يستخبث أي تستخبثه العرب، وقال الشيخ تقي الدين: وعند الإمام أحمد وقدماء أصحابه لا أثر لاستخباث العرب، وإن لم يحرمه الشرع حل (4) .
وكره أحمد الخفاش، لأنه مسخ، قال شيخنا: هل هي للتحريم؟ فيه وجهان (5) .
وأكل الشيطان لو تصور لكان أعظم المحرمات لما فيه من الخبث والبغي والعدوان، فمن قال: إن آدم سلقه وأكله فمن أقبح البهتان (6) .
ومن اضطر إلى محرم حل منه ما يسد رمقه، يعني: ويجب عليه أكل ذلك على الصحيح من المذهب نص عليه، وذكره الشيخ تقي الدين وفاقا (7) .
__________
(1) فروع (6/ 295) ، ف (2/ 399) وإنصاف (10/ 355) .
(2) يعني حديث كل ذي ناب من السباع.
(3) إنصاف (10/ 355) ، ف (2/ 399) .
(4) إنصاف (10/ 357) ، ف (2/ 399) .
(5) فروع (6/ 296) ، ف (2/ 399) .
(6) مختصر الفتاوى (177) ، ف (2/ 399) .
(7) إنصاف (10/ 370) ، ف (2/ 399) .(5/133)
يجب تقديم السؤال على أكل المحرم على الصحيح من المذهب، وقال الشيخ تقي الدين: إنه يجب ولا يأثم، وأنه ظاهر المذهب (1) .
والمضطر إلى طعام الغير إن كان فقيرا فلا يلزمه عوض، إذ إطعام الجائع وكسوة العاري فرض كفاية، ويصيران فرض عين على المعين إذا لم يقم به غيره.
وإن لم يكن بيده إلا مال لغيره، كوقف ومال يتيم ووصية ونحو ذلك، فهل يجب أو يجوز صرفه في ذلك؟ أو يفرق بين ما يكون من جنس الجهة فيصرف وبين ما يكون من غير جنسها فلا يصرف؟ تردد نظر أبي العباس في ذلك كله.
وإن كان غنيا لزمه العوض، إذ الواجب معاوضته.
وإذا وجد المضطر طعاما لا يعرف مالكه وميتة فإنه يأكل الميتة إذا لم يعرف مالك الطعام وأمكن رده إليه بعينه، أما إذا تعذر رده إلى مالكه، بحيث يجب أن يصرف إلى الفقراء كالمغصوب والأمانات التي لا يعرف مالكها فإنه يقدم ذلك على الميتة.
وإذا كانت الحاجة إلى عين قد بيعت ولم يتمكن المشتري من قبضها، فينبغي أن يخير المشتري بين الإمضاء والفسخ كما لو غصبها غاصب، لأنها في كلا الموضعين أخذت بغير اختياره على وجه يتمكن من أخذ عوضها، إلا أن الأخذ كان في أحد الموضعين بحق، وفي الآخر بباطل، وهذا إنما تأثيره في الأخذ لا في المأخوذ منه؛ لكن يحتاج إلى الفرق بين ذلك وبين استحقاق أخذ الشقص بالشفعة.
فيقال: الفرق بينهما أن المشتري هناك يعلم أن الشريك يستحق الانتزاع، فقد رضي بهذا الاستحقاق، بخلاف المشتري لقفيز من صبرة.
__________
(1) إنصاف (10/ 371) ، ف (2/ 399) .(5/134)
لغير اضطرار ثم يحدث اضطراره إليها، ولو كانت الضرورة إلى منافع مؤجرة مثل ظهر دابة وسكن دار أو نحو ذلك مما يحتاج إليه المؤجر أو المستأجر، فإن قلنا بوجوب القيمة فهي كالأعيان، وإن قلنا تؤخذ مجانا فإنها تكون من ضمان المؤجر لا المستأجر، لأنه لما استحق أخذها بغير عوض كان ذلك بمنزلة تلفها بأمر سماوي، ولو تلفت بأمر سماوي كانت من ضمان المؤجر، وحيث أوجبنا الضمان فالواجب المعروف عادة كالزوجية والقريب الرقيق (1) .
والضيافة كفايته، وأدم، وفي الواضح، ولفرسه لا شعير، ويتوجه فيه وجه: كأدمه، وأوجب شيخنا المعروف عادة قال: كزوجة وقريب ورقيق (2) .
قال الشيخ عبد القادر والشيخ تقي الدين أيضا: يأكل الضيف على ملك صاحب الطعام على وجه الإباحة وليس ذلك
بتمليك اهـ (3) .
وما نقل عن الإمام أحمد: أنه امتنع من البطيخ لعدم علمه بكيفية أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب ذكره شيخنا (4) .
ويكره ذبح الفرس الذي ينتفع به في الجهاد بلا نزاع (5) .
باب الذكاة
وأما من أحد أبويه غير كتابي فظاهر كلام المصنف أنه قدم إباحة ذبحه، وهو إحدى الروايتين.
__________
(1) اختيارات (323) ، ف (2/ 400) .
(2) فروع (6/ 308) ، ف (2/ 400) .
(3) إنصاف (8/ 340) وتقدم في باب آداب الأكل ف (2/ 400)
(4) فروع (6/ 308) وإنصاف (10/ 383) وتقدم، ف (2/ 400) .
(5) اختيارات (323) ، ف (2/ 400) .(5/135)
قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب وقدمه الناظم، كالمصنف، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم رحمهما الله تعالى (1) .
ويكره نكاح الحرائر الكتابيات مع وجود الحرائر المسلمات، قاله القاضي وأكثر العلماء.
كما يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين، مع كثرة ذباحين مسلمين، ولكن لا يحرم (2) .
ويحرم ما ذبحه الكتابي لعيده أو ليتقرب به إلى شيء يعظمه، وهو رواية عن أحمد (3) .
وإذا لم يقصد المذكي الأكل بل قصد مجرد حل يمينه لم تبح الذبيحة (4) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" ففي هذا دليل على أن الإحسان واجب على كل حال حتى حال إزهاق النفس: ناطقها وبهيمها فعلى الإنسان أن يحسن القتلة للآدميين، والذبحة للبهائم (5) .
فيما يشترط قطعه من الحيوان عند الذبح أقوال:
أحدها: أن الواجب قطع الحلقوم والمريء خاصة، كقول الشافعي، ورواية عن أحمد.
وعلى هذا لو قطع الودجين والمريء لكان أولى بالإباحة من قطع الودجين، بل قطع أحد الودجين والحلقوم أولى بالإباحة من قطع الحلقوم والمريء.
__________
(1) إنصاف (10/ 387) ، ف (2/ 400، 401) .
(2) فروع (5/ 207) واختيارات (217) ، ف (2/ 400،/ 401) .
(3) اختيارات (324) فروع (6/ 319) ، ف (2/ 401) .
(4) إنصاف (10/ 386) ، ف (2/ 402) .
(5) فروع (6/ 318) اختيارات (324) ، ف (2/ 402) .(5/136)
والقول الثاني: أن الواجب قطع الأربعة، كالرواية الأخرى عن أحمد، ويروى عن مالك.
والثالث: أن الواجب قطع ثلاثة، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ومالك فيما نقله أصحابه، وهو قول في مذهب أحمد؛ لكن مالك يعتبر قطع الحلقوم والودجين دون المريء.
وأبو حنيفة مع صاحبه مع قولين:
أحدهما: يعتبر قطع ثلاثة من الأربعة سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن، وهو القول المشهور في مذهب أحمد، فإذا قطع ودجيه وبلعومه جرح أو لم يقطع الحلقوم، يجيء فيه نزاع على ما تقدم، والأظهر حله (1) .
ويقطع الحلقوم والمريء والودجان والأقوى إن قطع ثلاثة من الأربع يبيح سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم، وأبلغ في إنهار الدم (2) .
باب الصيد
والصيد للحاجة فإنه جائز.
وأما الصيد الذي هو للهو واللعب فمكروه، فإن كان فيه تعد على زرع الناس، وأموالهم فهو حرام (3) .
وقد روي عن عثمان رضي الله عنه: أنه نهى عن الرمي بالجلاهق، وهي البندق.
__________
(1) مختصر الفتاوى (519) ، ف (2/ 402) .
(2) إنصاف (10/ 386) واختيارات (323) وفروع (6/ 310، 313) وفيه توضيح أكثر واختصار عما في المختصر ف (2/402) .
(3) مختصر الفتاوى (520) واختيارات (323) ، ف (2/، 402) .(5/137)
والمقتول بالبندق حرام باتفاق المسلمين، وأن أدرك حيا وذكى فحلال (1) .
وإذا جرح الصيد فغاب وليس فيه إلا سهمه فإنه يحل له على الصحيح من أقوالهم وبه أفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عدي بن حاتم: "إن نرمي الصيد فنقتفي أثره اليومين والثلاثة، ثم نجده ميتا وفيه سهمه؟ فقال: إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل" وفي حديث أبي ثعلبة الخشني: "إذا رميت بسهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكل ما لم ينتن" فهذان الحديثان الصحيحان، الأول في البخاري والثاني في مسلم عليهما اعتمد العلماء، فإن كلاهما أفتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أفتى بغير ذلك فلم يبلغه الحديث، وأما إذا أنتن فيكره أكله (2) .
والتحقيق أن المرجع في تعليم الفهد إلى أهل الخبرة، فإن قالوا: إنه من جنس تعليم الصقر بالأكل ألحق به، وإن قالوا: إنه تعلم بترك الأكل كالكلب ألحق به.
وإذا أكل الكلب بعد تعلمه لم يحرم ما تقدم من صيده، ولم يبح ما أكل منه (3) .
وما أكل منه الكلب لا يؤكل في أصح قولي العلماء، ولا يحرم على ما تقدم في أصح قولي العلماء أيضًا (4) .
__________
(1) مختصر الفتاوى (520) ، ف (2/ 402) أما بندق الرصاص هذه فليس هي المقصودة بالجلاهق.
(2) مختصر الفتاوى (519، 520) ، ف (2/ 402) .
(3) اختيارات (323) ، ف (2/ 402) .
(4) مختصر الفتاوى (520) ، ف (2/ 402) .(5/138)
كتاب الأيمان
قال شيخنا: الأحكام تتعلق بما أراده الناس بالألفاظ الملحونة، كقوله: حلفت بالله رفعا ونصبا، والله باصوم، أو باصلي ونحوه، وكقول الكافر: أشهد أن محمدا رسول الله برفع الأول ونصب الثاني، وأوصيت لزيدٍ بمائة وأعتقت سالم، ونحو ذلك، وأن من رام جعل الناس كلهم في لفظ واحد بحسب عادة قوم بعينهم فقد رام ما لا يمكن عقلا ولا يصلح شرعا (1) .
الحالف لا بد له من شيئين: من كراهة الشرط وكراهة الجزاء عند الشرط، ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفا، سواء كان قصده الحظ والمنع، أو لم يكن (2) .
قال أصحابنا: فإن حلف باسم من أسماء الله تعالى التي قد يسمى بها غيره وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى فهو يمين إن نوى به الله أو أطلق، وإن نوى غيره فليس بيمين.
قال أبو العباس: هذا من التأويل: لأنه نوى خلاف الظاهر، فإذا كان ظالما لم تنفعه وتنفع المظلوم.
وفي غيرهما وجهان: إذ الكلام المحلوف به كالمحلوف عليه.
__________
(1) فروع (6/ 338) والإنصاف (11/ 12) ، ف (2/ 403) .
(2) اختيارات (325) ، ف (2/ 403) .(5/139)
وأظن أن كلام أحمد في المحلوف به أيضا (1) .
قال في المحرر: فإن قال: اسم الله مرفوعا، مع الواو أو عدمه أو منصوبا مع الواو، ويعني في القسم باسم، فهو يمين، إلا أن يكون من أهل العربية ولا يريد اليمين.
قال أبو العباس: يتوجه فيمن يعرف العربية إذا أطلق وجهان، كما جاء في الحاسب والنحوي في الطلاق، كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة في اثنين.
ويتوجه أن هذا يمين بكل حال، لأن ربطه جملة القسم بالقسم يوجب في اللغة أن يكون يمينا، لأنه لحن لحنا لا يحيل المعنى: بخلاف مسألة الطلاق (2) .
ويحرم الحلف بغير الله تعالى، وهو ظاهر المذهب، وعن ابن مسعود وغيره، لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا، قال أبو العباس: لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك (3) .
ولو حلف لا يغدر فغدر، كفر للقسم لا لغدره مع أن الكفارة لا ترفع إثمه (4) .
واختلف كلام أبي العباس في الحلف بالطلاق، فاختار في موضع التحريم وتعزيره وهو قول مالك ووجه لنا، واختار في موضع آخر، أنه لا يكره وأنه قول غير واحد من أصحابنا، لأنه لم يحلف بمخلوق، ولم يلتزم لغير الله شيئا، وإنما التزم لله كما يلتزم بالنذر، والالتزام لله.
__________
(1) اختيارات (325) ، ف (2/ 404) .
(2) اختيارات (326) ، ف (2/ 404) .
(3) فروع (6/ 430) واختيارات (327) ، ف (2/ 404) .
(4) اختيارات (328) ، ف (2/ 404) .(5/140)
أبلغ من الالتزام به، بدليل النذر له، واليمين به، ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك كما أنكروا على من حلف بالكعبة (1) .
ولو قال: علي لأفعلن، فيمين، لأن هذه لام القسم، فلا تذكر إلا معه مظهرا أو مقدرا (2) .
قال في المحرر: وإن عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافة فهو كمن حلف على عدم فعل شيء في المستقبل ففعله ناسيا، قال أبو العباس: وهذا ذهول، لأن أبا حنيفة ومالكا يحنثان الناسي ولا يحنثان هذا، لأن تلك اليمين انعقدت بلا شك، وهذه لم تنعقد، ولم يقل أحد: إن اليمين على شيء تغيره عن صفته بحيث توجب إيجابا أو تحرم حريما لا ترفعه الكفارة (3) .
ولو حلف ليتزوجن على امرأته، المنصوص عن أحمد: لا يبر حتى يتزوج ويدخل بها ولا يشترط مما ثلتها (4) .
واختار شيخنا فيمن حلف بعتق أو طلاق وحنث يخير بين أن يوقعه أو يكفر كحلفه بالله ليوقعنه، وذكر أن الطلاق يلزمني ونحوه، حلف باتفاق العقلاء والأمم والفقهاء، وخرجه على نصوص لأحمد (5) .
قال في المحرر: وإن قال: أيمان البيعة لازمة لي، أو لم تلزم لي إن فعلت كذا، فهذه يمين رتبها الحجاج الثقفي تتضمن اليمين بالله تعالى وبالطلاق وبالعتاق وصدقة المال، فإن عرفها الحالف ونواها انعقدت يمينه بما فيها وإلا فلا.
__________
(1) فروع (6/ 340) وإنصاف (11/ 15) واختيارات (327) ، ف (2/ 405) .
(2) فروع (6/ 339) واختيارات (327) ، ف (2/ 404) .
(3) اختيارات (327) ، ف (2/ 404) .
(4) اختيارات (328) ، ف (2/ 405) .
(5) فروع (6/ 340، 341) ، ف (2/ 404) .(5/141)
وقيل: تنعقد إذا نواها ولم يعرفها.
وقيل: لا تنعقد الأيمان بالله إلا بشرط النية.
قال أبو العباس: قياس أيمان المسلمين تلزمني: أنه إذا عرف أيمان البيعة انعقدت بلا نية، ويتوجه أيضا أنها تلزمه بكل حال وإن لم يعرفها وهو مقتضى قول الخرقي وابن بطة.
ثم قال صاحب المحرر: ولو قال: أيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا لزمه يمين الظهار والطلاق والعتاق، والنذر واليمين بالله، نوى ذلك أو لم ينو ذكره القاضي.
وقيل: لا يتناول اليمين بالله تعالى، قال أبو العباس: قياس أيمان البيعة تلزمني ألا تنعقد أيمان المسلمين تلزمني إلا بالنية، وجمع المسلمين كما ذكر صاحب المحرر كأنه من طريقين (1) .
وأيمان المسلمين: يلزمه عتق وطلاق وظهار ويمين بالله بنية ذلك، ففي اليمين بالله وجهان، ويتوجه في جاهل ما تقدم، وألزم القاضي الحالف بالكل ولو لم ينو، ومن حلف بأحدها فقال آخر يميني في يمينك أو عليها أو مثلها ينوي التزام مثلها لزمه، نص عليه في طلاق، وفي المكفرة الوجهان، قال شيخنا: وكذا أنا معك ينوي في يمينه (2) .
ولو قال: أنا بريء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كلمته، فحنث، فعليه كفارة يمين (3) .
ولا يلزمه إبرار قسم في الأصح، كإجابة سؤال بالله، وقال شيخنا: إنما يجب على معين، فلا تجب إجابة سائل يقسم على الناس (4) .
__________
(1) اختيارات (326) فيه زيادات ف (2/ 406) .
(2) مختصر الفتاوى (377) ، ف (2/ 406) .
(3) فروع (6/ 341) ، ف (2/ 406) .
(4) فروع (6/ 342) ، ف (2/ 406) .(5/142)
ولا يجوز التعريض لغير ظالم، وهو قول بعض العلماء، كما لظالم بلا حاجة، ولأنه تدليس كالتدليس في المبيع، وقد كره أحمد التدليس، وقال: لا يعجبني ونصه: لا يجوز التعريض مع اليمين (1) .
شمل قوله: (وإن لم يكن ظالما فله تأويله) أنه لو لم يكن ظالما ولا مظلوما ينفعه تأويله.
وقيل: لا ينفعه تأويله والحالة هذه حكاه الشيخ تقي الدين وقال: ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله المنع من اليمين به (2) .
ومن كرر أيمانا قبل التكفير فروايات ثالثها وهو الصحيح إن كانت على فعل فكفارة وإلا فكفارتان، ومثل ذلك الحلف بنذور مكفرة وطلاق مكفر (3) .
... وجه تكفير العبد بالمال مع القول بانتفاء ملكه له مأخذان
أحدهما: أن تكفيره بالمال إنما هو تبرع له من السيد وإباحة..
والثاني: أن العبد ثبت له ملك قاصر بحسب حاجته إليه، وإن لم يثبت له الملك المطلق التام، فيجوز أن يثبت له في المال المكفر به ملك يبيح له التكفير بالمال دون بيعه وهبته، كما أثبتنا له في الأمة ملكا قاصرا أبيح له به التسري بها دون بيعها وهبتها، وهذا اختيارا الشيخ تقي الدين (4) .
باب النذور
النذر مكروه، وقال الناظم: ليس بسنة ولا محرم، وتوقف الشيخ
__________
(1) اختيارات (328) ، ف (2/ 406) .
(2) إنصاف (9/ 120) ، ف (2/ 406) .
(3) اختيارات (328) ، ف (2/ 407) .
(4) إنصاف (11/ 47) ، ف (2/ 407) .(5/143)
تقي الدين في تحريمه (1) .
توقف أبو العباس في تحريمه: وحرمه طائفة من أهل الحديث (2) .
والعهود والعقود متقاربة المعنى أو متفقة، فإذا قال: أعاهد الله أني أحج العام، فهو نذر وعهد ويمين. وإن قال: لا أكلم زيدا فيمين وعهد، لا نذر، فالأيمان إن تضمنت معنى النذر وهو أن يلتزم لله قربة لزمه الوفاء بها، فهي عقد وعهد ومعاهدة لله، لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه، وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس وهو أن يلتزم كل من المتعاقدين للآخر ما اتفقا عليه فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها إن كان العقد لازما، وإن لم يكن لازما خير، وهذه أيمان بنص القرآن ولم يعرض لها ما يحل عقدتها إجماعا (3) .
ومن نذر صوم الدهر أو صوم يوم الخميس والاثنين فله صوم يوم وإفطار يوم كالمكان (4) .
وأما صوم رجب وشعبان: ففيه نزاع في مذهب أحمد وغيره، قيل: هو مشروع فيجب الوفاء به، وقيل: بل يكره فيفطر بعض رجب (5) .
قال: ونذره لغير الله تعالى كنذره لشخص معين حي للاستعانة وقضاء الحاجة منه كحلفه بغيره، وقال غيره: هو نذر معصية وقاله شيخنا أيضا (6) .
__________
(1) إنصاف (11/ 117) ، ف (2/ 407) .
(2) اختيارات (328) ، ف (2/ 407) .
(3) اختيارات (327، 328) ، ف (2/ 408) .
(4) فروع (6/ 408) واختيارات (329) ، ف (2/ 409) .
(5) مختصر الفتاوى (552) ، ف (2/ 408) .
(6) فروع (6/ 404) ، ف (2/ 409) .(5/144)
ومن أسرج بئرا أو مقبرة أو جبلا أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو العاكفين عند ذلك المكان لم يجز، ولا يجوز الوفاء به إجماعا، ويصرف في المصالح ما لم يعلم ربه، ومن الجائز صرفه في نظيره من المشروع، وفي لزوم الكفارة خلاف.
ومن نذر قنديلا يوقد للنبي - صلى الله عليه وسلم - صرفت قيمته لجيرانه الساكنين بمدينته عليه الصلاة والسلام وهو أفضل من الختمة (1) .
ولو قال: إن فعلت كذا فعلي ذبح ولدي أو معصية غير ذلك أو نحوه وقصد اليمين فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشا، ولو فعل المعصية لم تسقط عنه الكفارة ولو في اليمين (2) .
قوله: إلا إذا نذر ذبح ولده، ففيه روايتان، وعنه إن قال: إن فعلته فعلي كذا أو نحوه قصد اليمين فيمين وإلا فنذر معصية فيذبح في مسألة الذبح كبشا اختاره الشيخ تقي الدين، قال: وعليه أكثر نصوصه قال: وهو مبني على الفرق بين النذر واليمين، قال: ولو نذر طاعة حالفا بها أجزأ كفارة يمين بلا خلاف عن الإمام أحمد، فكيف لا يجزئه إذا نذر معصية حالفا بها (3) .
قال أصحابنا: إذا نذر صوم يوم يقدم فلان، فقدم ليلة لم يلزمه شيء، قال أبو العباس: ولو قيل: يلزمه كفارة يمين كما لو نذر صوم الليل وأيام الحيض أو القضاء مع ذلك أو بدونه لتوجه (4) .
ولو نذر الصلاة في وقت النهي أو صوم أيام التشريق لم يجز، وإن كان يفعل فيها الوجه الشرعي، بل الواجب عليه فعل الصلاة في
__________
(1) فروع (6/ 401) واختيارات (329) وتقدم بعضه ف (2/ 409) .
(2) اختيارات (331) ، ف (2/ 409) .
(3) إنصاف (11/ 121) وفروع (6/ 403) ، ف (2/ 409) .
(4) اختيارات (330) ، ف (2/ 409) .(5/145)
وقتها وفعل الصوم في أيام العشر، فإن لم يفعل قضاه على سبيل البدل للضرورة، وما وجب للضرورة لا يجوز أن يجب مثله بالنذر (1) .
ولو نذر الصلاة في وقت النهي ففي صحتها لكونه يفعل فيهما الوجهان، في مذهب الشافعي وأحمد، والصواب أنه لا يصح (2) .
وأما إن نذر للمسلمين ولم يعرف صاحبه فإنه يصرف في مصالح المسلمين (3) .
ومن نذر أن يهب فلانا شيئا لم يحصل الوفاء إلا بقبض الهبة، فإن قبلها فلا كلام، وإن لم يقبلها فلا شيء على الواهب، كما لو حلف ليهبن فلانا فلم يقبل، فإن أصحابنا وغيرهم قالوا: إذا حلف لا يهب ولا يتصدق ففعل ولم يقبل الموهوب له لم يحنث، فهذا في النفي، وأما في الإثبات فإذا حلف لا يهب، فإما أن يجري مجرى الإثبات، أو يقال: يحمل على الإجمال، كما يفرق في لفظ النكاح وغيره بين النفي والإثبات، وقد قالوا في الطلاق، إذا وهب امرأته أهلها فلم يقبلوها لم يقع شيء، وفيه نظر، وكما لو نذر عتق عبد معين فمات؛ لأن مستحق النذر إذا كان ميتا لم يستحقه غيره (4) .
ومن نذر صوما معينا فله الانتقال إلى زمن أفضل منه (5) .
واستحب أحمد لمن نذر الحج مفردا أو قارنا أن يتمتع لأنه أفضل، لأمر النبي أصحابه بذلك في حجة الوداع (6) .
__________
(1) اختيارات (230) ، ف (2/ 409) .
(2) مختصر الفتاوى (288) ، ف (2/ 409) .
(3) مختصر الفتاوى (552) ، ف (2/ 409) .
(4) مختصر الفتاوى (552) ، ف (2/ 409) .
(5) اختيارات (329) ، ف (2/ 410) .
(6) اختيارات (330) ، ف (2/ 410) .(5/146)
ومن نذر صوما مشروعا وعجز لكبر أو مرض لا يرجى برؤه كان له أن يفطر ويكفر كفارة يمين، أو يطعم عن كل يوم مسكينا، أو يجمع بين الأمرين على ثلاثة أقوال لأحمد وغيره، أحوطها الثالث.
وإن كان عجزه لمرض يجرى برؤه فإنه يفطر ويقضي بدل ما أفطر، وهل عليه كفارة يمين؟ فيه نزاع لأحمد وغيره، وإن كان يمكنه الصوم لكن يضعفه عن واجب مثل الكسب الواجب فله أن يفطر، ثم إذا أمكنه القضاء قضى وإلا فهو كالشيخ الكبير (1) .
ومن نذر صوم يوم معين أبدا ثم جهله، أفتى بعض العلماء بصيام الأسبوع.
قال أبو العباس: بل يصوم يوما من الأيام مطلقا أي يوم كان، وهل عليه كفارة يمين لفوات التعيين؟ يخرج على روايتين بخلاف الصلوات الخمس فإنها لا تجزئ إلا بتعيين النية على المشهور، والتعيين يسقط بالعذر إلى كفارة أو على غير كفارة، كالتعيين في رمضان، والواجبات غير الصلوات أيضا (2) .
قال في المحرر: ومن نذر صوم سنة بعينها لم يتناول شهر رمضان ولا أيام النهي عن صوم الفرض فيها، وعنه: يتناولها فيقضيها وفي الكفارة وجهان، وعنه: يتناول أيام النهي دون أيام رمضان، قال أبو العباس: الصواب أنه يتناول رمضان ولا قضاء عليه إذا صامها لأنه نذر صوما واجبا وغير واجب، بخلاف أيام النهي، وهذا القول غير الثلاثة المذكورة، وإنما تجيء الرواية الثالثة على قول من لا يصحح نذر الواجب استغناء بإيجاب الشارع، وأما قضاؤها مع صومها فبعيد، لأن النذر لم يقتض صوما آخر كمسألة قدوم زيد (3) .
__________
(1) مختصر الفتاوى (288) ، ف (2/ 410) .
(2) اختيارات (310) ، ف (2/ 410) .
(3) اختيارات (310) ، ف (2/ 410) .(5/147)
وقول القائل: لئن ابتلاني الله لأصبرن، ولئن لقيت عدوا لأجاهدن، ولو علمت أعمل أحب إلى الله لعملته، فهو نذر معلق بشرط كقول الله تعالى: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [75/9] الآية (1) .
ولو نذر الطواف على أربع: طاف طوافين وهو المنصوص عن أحمد، ونقل عن ابن عباس (2) قال شيخنا: هذا بدل واجب (3) .
قال أصحابنا: ومن نذر المشي إلى بيت الله تعالى أو موضع من الحرم لزمه أن يمشي في حج وعمرة، فإن ترك المشي وركب لعذر أو غيره يلزمه كفارة يمين، وعنه: دم قال أبو العباس: أما لغير عذر فالمتوجه لزوم الإعادة كما لو قطع التتابع في الصوم المشروط فيه التتابع أو يتخرج لزوم الكفارة، والأقوى في جميع ما تقدم أنه لا يلزمه مع البدل عن عين الفعل كفارة، لأن البدل قائم مقام المبدل (4) .
ومن نذر من يستحب له الصدقة بماله بقصد القربة نص عليه أجزأه ثلثه، وعنه كله.
قال في الروضة: ليس لنا في نذر الطاعة ما يفي ببعضه إلا هذا الموضع، وعلله غير واحد بأنه تكره الصدقة بكله، واحتجوا للثانية بالخبر: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" وعنه يشمل النقد فقط، ويتوجه على اختيار شيخنا كل بحسب عزمه، ونص عليه أحمد (5) .
فنقل الأثرم فيمن نذر ماله في المساكين أيكون الثلث من
__________
(1) اختيارات (329) ، ف (2/ 410) .
(2) اختيارات (331) ، ف (2/ 410) .
(3) الفروع (6/ 414) ، ف (2/ 410) .
(4) اختيارات (331) ، ف (2/ 410) .
(5) فروع (6/ 398) ، ف (2/ 410) .(5/148)
الصامت أو من جميع ما يملك؟ قال: إنما يكون هذا على قدر ما نوى، أو على قدر مخرج يمينه، والأمور تختلف عندي (1) .
والصواب على أصلنا أن يقال مثل هذا في جميع العبادات والكفارات بل وسائر الواجبات التي هي من جنس الجائز: أنه يجوز تقديمها إذا وجد سبب الوجوب ولا يتقدم على سببه.
فعلى هذا إذا قال: إن شفى الله مريضي فله علي صوم شهر، فله تعجيل الصوم قبل الشفاء لوجود النذر (2) .
ويلزم الوفاء بالوعد، وهو وجه في مذهب أحمد، ويخرج رواية عنه من تعجيل العارية والصلح على عوض المتلف بمؤجل (3) .
وإن نذر أن يهب بر بالإيجاب ليمينه، وقد يحمل على الكمال (4) .
__________
(1) إنصاف (11/ 127، 128) ، ف (2/ 410) .
(2) اختيارات (329) ، ف (2/ 410) .
(3) فروع (6/ 415) ، ف (2/ 410) .
(4) اختيارات (331) ، ف (2/ 410) .(5/149)
الإفتاء (1)
قال ابن القيم رحمه الله: حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: "يا معلم إبراهيم علمني" ويكثر الاستعانة بذلك اقتداء بمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته وقد رآه يبكي، فقال: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما.
اطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز، فعليك بمعلم إبراهيم (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: جاءني بعض الفقهاء من الحنيفة فقال: أستشيرك في أمرك، قلت: ما هو؟ قال:
__________
(1) وتقدم في المجلد الثاني من أصول الفقهاء كثير مما يتعلق بالإفتاء والمستفتين فلينظر هذا ويرجع إلى هذا فهو مستوفى هناك.
(2) إعلام الموقعين (4/257) ، ف (2/ 410) .(5/150)
أريد أن انتقل عن مذهبي، قلت له: ولم؟ قال: لأني أرى الأحاديث الصحيحة كثيرا تخالفه، واستشرت في هذا بعض أئمة أصحاب الشافعي، فقال لي: لو رجعت عن مذهبك لم يرتفع ذلك من المذهب، ورجوعك غير مفيد، وأشار علي بعض أصحاب التصوف بالافتقار إلى الله والتضرع إليه، وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه فماذا تشير به أنت علي؟ قال: فقلت له: اجعل المذهب ثلاثة أقسام: قسم الحق فيه ظاهر بين موافق للكتاب والسنة فاقض به، وافت به طيب النفس، منشرح الصدر وقسم مرجوح ومخالفه مع الدليل، فلا تفت به، ولا تحكم به، وادفعه عنك، وقسم من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فإن شئت أن تفتي به، وإن شئت أن تدفعه عنك، فقال: جزاك الله خيرا، أو كما قال (1) .
قال ابن القيم رحمه الله في دلالة العالم للمستفتي على غيره: وهو موضع خطر جدا، فلينظر الرجل ما يحدث من ذلك فإنه متسبب بدلالته إما إلى الكذب على الله ورسوله في أحكامه، أو القول عليه بغير علم فهو معين على الإثم والعدوان، وإما معين على البر والتقوى، فلينظر الإنسان إلى من يدل عليه وليتق الله ربه.
فكان شيخنا قدس الله روحه شديد التجنب لذلك، ودللت مرة بحضرته على مفت أو مذهب فانتهزني وقال: ما لك وله؟ دعه، ففهمت من كلامه أنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم ولمن أفتاه (2) .
وسمعت شيخنا رحمه الله تعالى يقول: حضرت عقد مجلس عند نائب السلطان في وقف أفتى فيه قاضي البلد بجوابين مختلفين فقرأ
__________
(1) إعلام الموقعين (4/ 236) ، ف (2/ 410) .
(2) إعلام الموقعين (4/ 207) ، ف (2/ 410) .(5/151)
جوابه الموافق للحق، فأخرج بعض الحاضرين جوابه الأول، وقال: هذا جوابك بضد هذا، فكيف تكتب جوابين متناقضين في واقعة واحدة؟ فوجم الحاكم، فقلت: هذا من علمه ودينه أفتى أولاً بشيء ثم تبين له الصواب فرجع إليه، كما يفتي إمامه بقول ثم يتبين له خلافه فيرجع إليه، ولا يقدح ذلك في علمه ولا دينه، وكذلك سائر الأئمة، فسر القاضي بذلك وسري عنه (1) .
وقال شيخنا مرة: أنا مخير بين إفتاء هؤلاء وتركهم، فإنهم لا يستفتون للدين بل لوصولهم إلى أغراضهم حيث كانت، ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا إلي، بخلاف من سأل عن دينه، وقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في حق من جاءه يتحاكم إليه لأجل غرضه لا لالتزامه لدينه - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [42/5] فهؤلاء لما لم يلتزموا لدينه لم يلزمه الحكم بينهم والله تعالى أعلم (2) .
وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر. فقلت له: ما هذه الحكومة؟ قال: هذا حكم الله فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة قل: هذا حكم زفر، ولا تقل: هذا حكم الله، أو نحو هذا من الكلام (3) .
قال ابن القيم رحمه الله: من أفتى الناس وليس بأهل الفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا، وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي
__________
(1) زاد المعاد (4/ 232، 233) ، ف (2/ 410) .
(2) إعلام الموقعين (4/ 259) ، ف (2/ 410) .
(3) إعلام الموقعين (4/ 176) ، ف (2/ 410) .(5/152)
بعض هؤلاء: أجعلت محتسبا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب (1) .
قال ابن القيم رحمه الله: وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى، وهو مقدم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى، فيكتب، يجوز كذا، أو يصح كذا، أو ينعقد بشرطه فأرسل إليه يقول له: تأتينا فتاوى منك فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه فإما أن تبين شرطه وإما ألا تكتب ذلك.
وسمعت شيخنا يقول: كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط؛ فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها، يجوز بشرطه، أو يصح بشرطه أو يقبل بشرطه، ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم ولا يفيد فائدة أصلا سوى حيرة السائل وتنكدة (2) (3) .
قال ابن القيم رحمه الله: ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة وغيره بالمنع، ولا يجوز له إذا كان في المسألة قولان: قول بالجواز، وقول بالمنع أن يختار لنفسه قول الجواز ولغيره قول المنع.
وسمعت شيخنا يقول: سمعت بعض الأمراء يقول عن بعض المفتين من أهل زمانه: يكون عندهم في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: التفصيل، فالجواز لهم، والمنع لغيرهم، وعليه العمل (4) .
وظاهر نقل عبد الله يفتي غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله شيخنا على الحاجة (5) .
__________
(1) إعلام الموقعين (4/ 217) ، ف (2/ 410) .
(2) وفي نسخة وتبلده.
(3) إعلام الموقعين (4/ 178) ، ف (2/ 410) .
(4) إعلام الموقعين (4/ 211) ، ف (2/ 410) .
(5) فروع (6/ 422) ، ف (2/ 411) .(5/153)
ويقلد العامي من ظنه عالما، فإن جهل عدالته فوجهان، وميتا في الأصح، والعامي يخبر فقط، فيقول: مذهب فلان كذا، ذكره ابن عقيل وغيره، وكذا قال شيخنا: الناظر المجرد يكون حاكيا لما رآه، لا مفتيا (1) .
وله رد الفتيا إذا كان بالبلد قائم مقامه، وإلا لم يجز، وإن كان معروفا عند العامة بالفتيا وهو جاهل تعين الجواب على العالم، وقال شيخنا: الأظهر لا يجب في التي قبلها (2) .
فائدة: يحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعًا، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعًا، ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له أو عليه إجماعًا، قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله (3) .
__________
(1) فروع (6/ 428) ، ف (2/ 411) .
(2) فروع (6/ 433) وإنصاف (11/ 190) ، ف (2/ 411) وعبارة الإنصاف: الأظهر لا يجوز في التي قبلها.
(3) إنصاف (11/ 179) ، ف (2/ 411) ويأتي هذا في القضاء أيضا.(5/154)
كتاب القضاء
والواجب اتخاذ ولاية القضاء دينا وقربة، فإنها من أفضل القربات، وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها، ومن فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه (1) .
والولاية لها ركنان، القوة والأمانة، فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم والعدل في تنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله تعالى (2) .
وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعا (3) .
وأما سؤال الولاية فقد ذمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما سؤال يوسف قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [55/12] فلأنه كان طريقا إلى أن يدعوهم إلى الله، ويعدل بين الناس، ويرفع عنهم الظلم، ويفعل من الخير ما لم يكونوا يفعلوه، مع أنهم لم يكونوا يعرفون حاله، وقد علم بتأويل الرؤيا ما يئول إليه حال الناس، ففي هذه الأحوال ونحوها ما يوجب الفرق بين مثل هذه الحال وبين ما نهى عنه.
وأيضا: فليست هذه إمارة محضة إنما هي أمانة، وقد يقال: هذا شرع من قبلنا.
__________
(1) اختيارات (332) ، ف (2/ 414) .
(2) اختيارات (332) ، ف (2/ 414) .
(3) فروع (6/ 423) واختيارات (332) ، ف (2/ 414) .(5/155)
وقد تنازع العلماء في سؤال الإنسان القضاء ونحوه، فقال أكثرهم: يكره وإن كان صالحا له، وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما، وقال بعضهم، ينبغي أن يسأل إذا كان متعينا له، وربما قيل: إذا كانت ولايته أفضل له، وأما الإمام فينبغي ألا يولي من سأل الولاية إذا أمكن أن يولي المستحق بغير سؤال.
ونهيه لأبي ذر عن تولي الحكم وترك الولاية على مال اليتيم لما رآه ضعيفا لا أنه نهاه مطلقا (1) .
ومن باشر القضاء مع عدم الأهلية المسوغة للولاية وأصر على ذلك عاملا بالجهل والظلم فهو فاسق، ولا يجوز أن يولى خطبة ولا تنفذ أحكامه ولا عقوده كما تنفذ أحكام العالم العادل؛ بل من العلماء من يردها كلها، وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وأحمد، ومن العلماء من ينفذ ما وافق الحق لمسيس الحاجة، ولما يلحق الناس من الضرر، والحق يجب اتباعه سواء قام به البر والفاجر، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة ومالك وطائفة من أصحاب أحمد وهو الراجح (2) .
ويشترط في القاضي أن يكون ورعا.
والحاكم فيه ثلاث صفات، فمن جهة الإثبات هو شاهد، ومن جهة الأمر والنهي هو مفتي، ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان.
وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد، لأنه لا بد أن يحكم بعدل، ولا يجوز الاستفتاء إلا ممن يفتي بعلم وعدل.
وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان.
__________
(1) مختصر الفتاوى (564) ، ف (2/ 416) .
(2) مختصر الفتاوى (353) ، ف (2/ 416) .(5/156)
ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى لعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شرا، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد، وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيها قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع، وفيما ندر حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم.
ومن أكثر من سبر أهل العلم من المتوسطين (1) إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام: ترجح عنده أحدهما: لكن قد لا يثق بنظره يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه فالواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة إذا ترجح عنده أحدهما قلده، والدليل الخاص الذي يرجح به قول على قول أولى بالاتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأدين، وعلم الناس (2) بترجيح قول على قول أيسر من علم أحدهم بأن أحدهما أعلم وأدين، لأن الحق واحد ولا بد.
ويجب أن ينصب الله على الحق دليلا.
وأدلة الأحكام من الكتب والسنة والإجماع وما تكلم الصحابة والعلماء به إلى اليوم بقصد حسن؛ بخلاف الإمامية.
وقال أبو العباس: النبيه إذا سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة عنده ما يعرف به رجحان القول.
وليس لحاكم وغيره أن يبتدأ الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ وإلزامهم برأيه واعتقاده اتفاقا، ولو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف (3) .
__________
(1) وعبارة الفروع: وأكثر من تميز في العلم من المتوسطين.
(2) عبارة الفروع وعلم أكثر الناس.
(3) اختيارات (332، 333) فروع (6/ 425) ، ف (2/ 416) .(5/157)
قال شيخنا: قال بعض العلماء: إذا لم يوجد إلا فاسق عالم أو جاهل دين قدم ما الحاجة إليه أكثر إذن (1) .
قال في المحرر وغيره: ويشترط في القاضي عشر صفات.
قال أبو العباس: إنما اشترطت هذه الصفات فيمن يولى، لا فيمن يحكمه الخصمان.
وذكر القاضي: أن الأعمى لا يجوز قضاؤه، وذكر محل وفاق، قال: وعلى أنه لا يمتنع أن يقول إذا تحاكما إليه ورضيا به جاز حكمه.
قال أبو العباس: هذا الوجه قياس المذهب، كما يجوز شهادة الأعمى؛ إذ لا يعوزه إلا معرفة عين الخصم، ويتوجه أن يصح مطلقا ويعرف بأعيان الشهود والخصوم، كما يعرف بمعاني كلامهم في الترجمة؛ إذ معرفة كلامه وعينه سواء، وكما يجوز أن يقضي على غائب باسمه ونسبه.
وأصحابنا قاسوا شهادة الأعمى على الشهادة على الغائب والميت، وأكثر ما في الموضعين عند الرؤية والحكم لا يفتقر إلى الرؤية، بل هذا في الحاكم أوسع منه في الشاهد، بدليل الترجمة، والتعريف بالحكم دون الشهادة، وما به يحكم أوسع مما به يشهد.
ولا تشترط الحرية في الحاكم، واختاره أبو الخطاب وابن عقيل.
قال القاضي في التعليق: وعلى أن الحدود تدخل في ولاية القضاء فمن لا يصلح لبعض ما تضمنته الولاية لا يصلح لشيء منها، ولا تنعقد الولاية له.
قال أبو العباس: وكلام أحمد في تزويج الدهقان وتزويج الوالي صاحب الحسير يخالف هذا (2) .
__________
(1) فروع (6/ 424) ، ف (2/ 416) .
(2) اختيارات (335، 336) ، ف (2/ 416) .(5/158)
وولاية القضاء يجوز تبعيضها ولا يجب أن يكون عالما بما في ولايته، فإن منصب الاجتهاد ينقسم، حتى لو ولاه في المواريث لم يجب أن يعرف إلا الفرائض والوصايا وما يتعلق بذلك.
وإن ولاه عقد الأنكحة وفسخها لم يجب أن يعرف إلا ذلك.
وعلى هذا فقضاة الأطراف يجوز أن لا يقضوا في الأمور الكبار والدماء والقضايا المشكلة.
وعلى هذا فلو قال: اقض فيما تعلم، كما يقول له، أفت فيما تعلم جاز، ويبقى ما لا يعلم خارجا عن ولايته، كما يقول في الحاكم الذي ينزل على حكمه الكفار، وفي الحكمين في جزاء الصيد (1) .
وقال شيخنا: ما يستفيده بالولاية لا حد له شرعا، بل يتلقى من اللفظ والأحوال والعرف (2) .
قال في المحرر: ويجوز أن يولي قاضيين في بلد واحد، وقيل: إن ولاهما فيه عملا واحدا لم يجز.
قال أبو العباس: تولية قاضيين في بلد واحد: إما أن يكون على سبيل الاجتماع بحيث ليس لأحدهما الانفراد كالوصيين والوكيلين وإما على طريق الانفراد، أما الأول فليس هو مسألة الكتاب ولا مانع منه إذا كان فوقهما من يرد مواضع تنازعهما، وأما الثاني فهو مسألة الكتاب.
وتثبت ولاية القضاء بالأخبار، وقصة ولاية عمر بن عبد العزيز هكذا كانت (3) .
__________
(1) اختيارات (336) ، ف (2/ 416) .
(2) فروع (6/ 420) ، ف (2/ 416) .
(3) اختيارات (334، 335) ، ف (2/ 416) .(5/159)
والوكالة يصح قبولها على الفور والتراخي بالقول والفعل، والولاية نوع منها.
قال القاضي في التعليق: إذا استأذن امرأة في تزويجها وهي في غير عمله فزوجها في عمله لم يصح العقد، لأن إذنها يتعلق بالحكم، وحكمه في غير محله لا ينفذ.
فإن قلت: إذا حصلت في عمله فقد أذنت له، فزوجها في عمله: صح؛ بناء على جواز تعليق الوكالة بالشرط.
ومن شرط جواز العقد عليها، أن تكون في عمله حين العقد عليها، فإن كانت في غير عمله لم يصح عقده؛ لأنه حكم على من ليس في عمله.
قال أبو العباس: لا فرق بين أن تقول: زوجني إذا صرت في عملك أو إذا صرت في عملك فزوجني، لأن تقييد الوكالة أحسن حالا من تعليقها، نعم لو قالت: زوجني الآن أو فهم ذلك من إذنها فهنا أذنت لغير قاض، وهذا هو مقصود القاضي (1) .
ولا يجوز التقليد في معرفة الحكم اتفاقا، وقبله لا يجوز على المشهور إلا أن يضيق الوقت ففيه وجهان، فإن عجز عن معرفة الحق بتعارض الأدلة ففيه وجهان، فهذه أربع مسائل.
والعجز قد يعني به العجز الحقيقي، وقد يعني به المشقة العظيمة، والصحيح الجواز في هذين الموضعين (2) .
وإذا استناب الحاكم في الحكم من غير مذهبه، إن كان لكونه أرجح فقد أحسن وإلا لم تجز الاستنابة (3) .
__________
(1) اختيارات (334) ، ف (2/ 416) .
(2) اختيارات (334) ، ف (2/ 417) .
(3) اختيارات (335) ، ف (2/ 417) .(5/160)
والقضاة ثلاثة: من يصلح، ومن لا يصلح، والمجهول.
فلا يرد من أحكام من يصلح إلا ما علم أنه باطل، ولا ينفذ من أحكام من لا يصلح إلا ما علم أنه حق.
واختار صاحب المغني وغيره: إن كانت توليته ابتداء.
وأما المجهول فينظر فيمن ولاه، فإن كان لا يولي إلا الصالح جعل صالحا، وإن كان يولي هذا تارة وهذا تارة نفذ ما كان حقا، ورد الباطل، والباقي موقوف.
وبين من يصلح ومن لا يصلح إذا للضرورة ففيه مسألتان:
إحداهما: على القول بأن من لا يصلح تنقض جميع أحكامه هل ترد أحكام هذا كلها، أم يرد ما لم يكن صوابا؟ والثاني المختار، لأنها ولاية شرعية.
والثانية: هل تنفذ المجتهدات من أحكامه، أم يتعقبها العالم العادل؟ هذا فيه نظر (1) .
وحديث معاذ لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن الذي قال فيه: "فإذا لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: حكمت برأيي" طعن فيه جماعة، وروي في مسانيد ورواه أبو داود، واستدل به طوائف من الفقهاء، وأهل الأصول في كتبهم، وروي من طرق.
وبكل حال يجوز اجتهاد الرأي للقاضي والمفتي إذا لم يجد في الحادثة نصا من الكتاب أو السنة كقول جماهير السلف وأئمة الفقهاء كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم، واستدلوا على ذلك بدلائل مثل كتاب عمر لأبي موسى
__________
(1) اختيارات (337) وانظر الإنصاف (11/ 225) ، ف (2/ 417) .(5/161)
الأشعري، وفيه اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك.
وقد تكون تلك الحكومة في الكتاب والسنة على وجه خفي لم يدركه، أو تكون مركبة من مقدمتين من الكتاب والسنة لكنه لم يتفطن لذلك فيجوز له أن يجتهد برأيه حينئذ لكونه لم يجد تلك الحكومة في الكتاب ولا في السنة وإن كانت فيهما ثم قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [43/4] فقد يكون الماء تحت الأرض وهو لا يعرف، وكذلك قوله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [92/4] وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [286/2] .
والقياس الذي يسوغ مثل: أن يرد القضية إلى نظيرها الثابت بالكتاب والسنة.
أو لم يفهم علة الحكم التي حكم الشارع لأجلها ويجدها في الصورة التي في النص، وهذا من قياس التعليل، والأول قياس التمثيل.
وليس له أن يحكم بما شاء ومن جوز ذلك فهو كافر باتفاق المسلمين، وليس هذا مختصا بمعاذ (1) .
ونص الإمام أحمد على أن للقاضي أن يستخلف من غير إذن الإمام فرقا بينه وبين الوكيل، وجعلا له كالوصي (2) .
قال في المحرر: وفي العزل حيث قلنا به قبل العلم، وجهان كالوكيل؛ لأن الحق في الولاية لله، وإن قلنا: هو وكيل والنسخ في حقوق الله لا يثبت قبل العلم، كما قلنا في المشهور، إن نسخ الحكم لا يثبت في حق من لم يبلغه، وفرقوا بينه وبين الوكيل بأن أكثر ما في الوكيل ثبوت الضمان، وذلك لا ينافي الجهل بخلاف الحكم فإن فيه
__________
(1) مختصر الفتاوى (554) ، ف (2/ 417) .
(2) اختيارات (337) ، ف (2/ 317) .(5/162)
الإثم، وذلك ينافي الجهل، كذلك الأمر والنهي، وهذا هو المنصوص عن أحمد (1) .
باب آداب القاضي
وأجمع المسلمون على أن الحاكم ليس له أن يقبل الرشوة، سواء حكم بحق أو بباطل، ولا يحكم لنفسه، وليس للحاكم أن يكون له وكيل يعرف أنه وكيله يتجر له في بلاد عمله، وإذا عرف أن الحاكم بهذه المثابة فإنه ينهى عن ذلك، فإن انتهى وإلا استبدل به من هو أصلح منه إن أمكن، وإذا فصل الحكومة بينه وبين غريمه حاكم نافذ الحكم في الشرع لعلمه ودينه لم يكن لغريمه أن يحاكم عند حاكم آخر (2) .
ومن ادعى أن بعض الحكام أخذ منه شيئا وكان الرجل معروفا بالصدق فله على الحاكم اليمين، وإن كان غيره من الصادقين، وقد قال مثل قوله، لم ترد أخبار الصادقين بل ينبغي عزل الحاكم.
وإن كان الحاكم معروفا بالأمانة والرجل فاجرا لم يلتفت إلى قوله وعزر وإن كان كل منهما متهما فله تحليفه ولا يعزر (3) .
والأشبه ألا يكون للحاكم شراء ما يحتاجه في مظنة المحاباة والاستغلال والتبدل.
قال القاضي في التعليق: قاس المخالف القاضي على المفتي في مباشرة البيع، قال القاضي: أما المفتي فإنه لا يحابى في العادة، والقاضي بخلافه، ولا يكره له البيع في مجلس فتياه، ولا يكره له قبول الهدية بخلاف القاضي.
__________
(1) اختيارات (337) وانظر الإنصاف (11/ 171، 174، 175) ، ف (2/ 417) .
(2) مختصر الفتاوى (553) ، ف (2/ 417) .
(3) مختصر الفتاوى (606) ، ف (2/ 417) .(5/163)
قال أبو العباس: هذا فيه نظر وتفصيل؛ فإن العالم شبيه في هديته ومعاملته بالقاضي. وفيه حكايات عن أحمد. والعالم لا يعتاض على تعليمه (1) .
ولا يمضي حكم العدو على عدوه، كما لا تقبل شهادته عليه، بل يترافعان إلى حاكم آخر (2) .
وليس للحاكم منع الناس مما أباحه الله ورسوله مثل: أن يمنع أن يزوج المرأة وليها، أو يمنع الشهود أو غيرهم من كتابة مهرها، أو كتابة عقد بيع أو إجارة، أو إقرار، أو غير ذلك، وإن كان الكاتب مرتزقا بذلك، وإذا منع القاضي ذلك ليصل إليه منافع هذه الأمور كان هذا من المكس، نظير من يستأجر حانوتا في القرية على ألا يبيع غيره، وإن كان إنما يمنع الجاهل لئلا يعقد عقدا فاسدا فالطريق أن يفعل كما فعل الخلفاء الراشدون من تعزير من يعقد نكاحا فاسدا، كما فعله عمر وعثمان رضي الله عنهما فيمن تزوج بغير ولي وفيمن تزوج في العدة (3) .
ومن ادعى بحق وخرج يقيم البينة لم يجز حبس الغريم لكن هل له طلب كفيل منه إلى ثلاثة أيام أو نحوها إذا قال المدعي لي بينة حاضرة؟ فيه نزاع، هذا إذا لم تكن دعوى تهمة، فإن كانت دعوة تهمة مثل: أن ادعى أنه سرق فهنا إن كان مجهول الحال حبس حتى يكشف عنه، وأما دعوى الحقوق مثل: البيع والقرض والدين فلا يحبس بدون حجة، وإن ذكر نزاع في المدة القريبة كاليوم، فلا نزاع فيما أعلمه (4) .
وإذا حبست زوجها على الحق، فله عليها، ما كان يجب قبل الحبس
__________
(1) اختيارات (337) ، ف (2/ 417) .
(2) مختصر الفتاوى (567) ، ف (2/، 417) .
(3) مختصر الفتاوى (554، 555) ، ف (2/ 417) .
(4) مختصر الفتاوى (609) ، ف (2/ 418) .(5/164)
من إسكانها حيث شاء ومنعها الخروج، فإذا أمكن حبسه في مكان تكون هي عنده تمنعه من الخروج فعل ذلك، فإنه ليس للغريم منع المحبوس من حوائجه إذا احتاج؛ بل يخرجه ويلازمه مثل: غسل الجنابة، نحوه، والزوج له منعها مطلقا.
وأيضا فإنها قد تحبسه وتبقى هي مفلوتة تفعل الفواحش، وتقهره، وتعاشر من تختار، وتبقى هي القوامة عليه، لا سيما حيث يكثر ذلك في الأزمنة والأمكنة، وغاية ذلك (1) من أعظم المصالح التي لا يجوز إهمالها فكيف يستحل مسلم أن يحبس الرجل ويمنع زوجته من حبسها معه؟ بل يتركها تذهب حيث شاءت وهي إنما تملك بما لها عليه ملازمته، والملازمة تحصل بأن تكون هي وهو في موضع واحد؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الغريم بملازمة غريمه، وإذا طلب منها الجماع في الحبس لم يكن له منعه.
وإذا ظهر أنه قادر على الوفاء وامتنع ظلما عوقب بغير الحبس مثل ضربه مرة بعد مرة حتى يوفي؛ لأن مطل الغني ظلم، والظالم يستحق العقوبة.
وتمكين هذا من فضول الأكل والنكاح محل اجتهاد، فإذا رأى الحاكم تعزيره بالمنع منه كان له ذلك.
وإن لم يكن حبسها معه، إما لعداوة تحصل بينهما فأمكن أن يسكنها في موضع لا تخرج منه مثل رباط عند أناس مأمونين فلا بأس.
وبالجملة: فلا تترك المرأة تذهب حيث شاءت باتفاق (2) .
والقضاء نوعان: إخبار: هو إظهار وإبداء، وأمر: هو إنشاء وابتداء
__________
(1) لعله: ورعاية ذلك.
(2) مختصر الفتاوى (608) ، ف (2/ 418) .(5/165)
فالخبر: ثبت عندي، ويدخل فيه خبره عن حكمه، وعن عدالة الشهود وعن الإقرار والشهادة.
والآخر: هو حقيقة الحكم: أمر ونهي وإباحة، ويحصل بقوله: أعطه، ولا تكلمه أو ألزمه، وبقوله: حكمت، وألزمت.
وإذا قال الحاكم: ثبت عندي بشهادتهما فهذا فيه وجهان.
أحدهما: أن ذلك حكم، كما قاله ابن عقيل وغيره.
وفعل الحاكم حكم في أصح الوجهين في مذهب أحمد وغيره (1) .
وأخبار الحاكم «أنه ثبت عندي» بمنزلة إخباره أنه حكم به، أما إذا قال: شهد عندي فلان، أو أقر عندي، فهو بمنزلة الشاهد سواء، فإنه في الأول تضمن قوله: ثبت عندي، الدعوى والشهادة والعدالة أو الإقرار، وهذا من خصائص الحكم؛ بخلاف قوله: شهد عندي، أو أقر عندي، فإنما يقتضي الدعوى.
وخبره في غير محل ولايته كخبره في غيره زمن ولايته.
ونظير إخبار القاضي بعد عزله إخبار أمير الغزو أو الجهاد بعد عزله بما فعله (2) .
يجوز للحنفي الحاكم أن يستنيب شافعيا يحكم باجتهاده، وإن خالف اجتهاد مستنيبه، ولو شرط عليه أن يحكم بقول مستنيبه لم يجز هذا الشرط.
وأيضا: إذا رأى المستنيب قول بعض الأئمة أرجح من بعض لم يجز له أن يحكم بالمرجوح، بل عليه أن يحكم بالراجح، فكيف لا يكون له أن يستنيب من يحكم بالراجح، وإن خالف قول إمامه؟ وليس
__________
(1) اختيارات (334) ، ف (2/ 418) .
(2) فروع (6/ 489) وإنصاف (11/ 305) واختيارات (347، 348) ، ف (2/ 418) .(5/166)
على الخلق لا القضاة ولا غيرهم أن يطيعوا أحدا في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن سواه من الأئمة فإنه يؤخذ من قوله ويترك فيجوز لكل من الحكام أن يستنيب من يخالفه في مذهبه ليحكم بما أنزل الله (1) .
وقال شيخنا: لا ينعزل بانعزال المستنيب وموته حتى يقوم غيره مقامه، كعقد وصي وناظر عقدا جائزا، كوكالة وشركة ومضاربة ومثله كل عقد لمصلحة المسلمين كوال ومن ينصبه لجباية مال وصرفه وأمير الجهاد ووكيل بيت المال والمحتسب ذكر شيخناه وهو ظاهر كلام غيره (2) .
قال أصحابنا: ولا ينقض الحاكم حكم نفسه ولا غيره إلا أن يخالف نصًّا أو إجماعًا.
قال أبو العباس: ويفرق في هذا بين ما إذا استوفى المحكوم له الحق الذي ثبت له من المال، أو لم يستوف، فإن استوفى فلا كلام، وإن لم يستوف فالذي ينبغي نقض حكمه نفسه والإشارة على غيره بالنقض.
وليس للإنسان أن يعتقد أحد القولين في مسائل النزاع فيما له، والقول الآخر فيما عليه باتفاق المسلمين كما يعتقد أنه إذا كان جارا استحق شفعة الجوار، وإذا كان مشتريا لم يجب عليه شفعة الجوار.
والقضية الواحدة المشتملة على أشخاص أو أعيان فهل للحاكم أن يحكم على شخص أوله بخلاف ما حكم هو أو غيره لشخص آخر أو عليه أو في عين؟ مثل أن يدعي في مسألة الحمارية بعض ولد الأبوين فيقضي له بالتشريك ثم يدعي عنده آخر فيقضي عليه بنفي التشريك أو
__________
(1) مختصر الفتاوى (553) ، ف (2/ 418) .
(2) فروع (6/ 436، 437) ، ف (2/، 418) .(5/167)
يكون حاكم غيره قد حكم بنفي التشريك لشخص أو عليه فيحكم هو بخلافه.
فهذا ينبني على أن الحكم لأحد الشريكين أو الحكم عليه حكم عليه وله، وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وغيرهم.
لكن هناك يتوجه أن يبقى حق الغائب فيما طريقه الثبوت لتمكنه من القدح في الشهود ومعارضته.
أما إذا كان طريقه الفقه المحض فهنا لا فرق بين الخصم الحاضر والغائب.
ثم لو تداعيا في عين من الميراث، فهل يقول أحد: إن الحكم باستحقاق عين معينة لا يمنع الحكم بعدم استحقاق العين الأخرى مع اتحاد حكمهما من كل وجه؟ هذا لا يقوله أحد.
يوضح ذلك أن الأمة اختلفت في هذه المسألة على قولين. قائل يقول: يستحق جميع ولد الأبوين جميع التركة، وقائل يقول: لا حق لواحد منهم في شيء منها.
فلو حكم حاكم في وقتين أو حاكمان باستحقاق البعض أو استحقاقهم للبعض لكان قد حكم في هذه القضية بخلاف الإجماع، وهذا قد يفعله بعض قضاة زماننا؛ لكن هو ظنين في علمه ودينه؛ بل ممن لا يجوز توليته القضاء.
ويشبه هذه طبقات الواقف أو أزمنة الطبقة فإذا حكم حاكم بأن هذا الشخص مستحق لهذا المكان من الوقف ومستحق الساعة بمقتضى شرط شامل لجميع الأزمنة والأمكنة فهو كالميراث.
وأما إن حكم باستحقاق تلك الطبقة فهل يكون للطبقة الثانية إذا اقتضى الشرط لها؟ وأخذ هذا فيه نظر، من حيث إن تلقي كل طبقة من الواقف في زمن حدوثها شبيه بما لو مات عتيق شخص فحكم حاكم.(5/168)
بميراثه المال، وذلك أن كل طبقة من أهل الوقف تستحق ما حدث لها من الوقف عند وجودها، مع أن كل عصبة تستحق ميراث المعتقين عند موتهم.
والأشبه بمسألتنا ما لو حكم حاكم في عتيق بأن ميراثه للأكبر، ثم توفي ابن ذلك العتيق الذي كان محجوبا عن ميراث أبيه، فهل لحاكم آخر أن يحكم بميراثه لغير الأكبر؟
هذا يتوجه هنا وفي الوقف مما يترتب الاستحقاق فيه بخلاف الميراث ونحوه مما يقع مشتركا في الزمان (1) .
وإذا رفع إليه الخصمان عقدا فاسدا عنده فقط وأقر بأن نافذ الحكم حكم بصحته فله إلزامهما بذلك ورده والحكم بمذهبه، وقال شيخنا: قد يقال: قياس المذهب أنه كالبينة ثم ذكر أنه كبينة إن عينا الحاكم (2) .
وإذا حكم أحد الخصمين على خصمه جاز لقصة ابن مسعود؛ وكذا إذا حكم مفت في مسألة اجتهادية، وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما أو يكفي وصف القصة له؟ الأشبه أنه لا يفتقر بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزمه، فإن أراد أحدهما الامتناع فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود (3) .
وإن حكما بينهما من يصلح للقضاء نفذ حكمه وهو كحاكم الإمام، وعنه ينفذ في قود وحد قذف ولعان ونكاح، وظاهر كلامه ينفذ في غير فرج، واختار شيخنا نفوذ حكمه بعد حكم حاكم لا إمام، وأنه إن حكم أحدهما خصمه أو حكما مفتيا في مسألة اجتهادية جاز.
__________
(1) اختيارات (344-346) ، ف (2/ 418) .
(2) فروع (6/ 494) ، ف (2/ 417) .
(3) اختيارات (335) ، ف (2/ 417) .(5/169)
وأنه يكفي وصف القصة له يؤيده قول أبي طالب: نازعني ابن عمي، الأذان فتحاكمنا إلى أبي عبد الله، قال: اقترعا (1) .
قال شيخنا: خصوا اللعان؛ لأن فيه دعوى وإنكار، وبقية الفسوخ كإعسار قد يتصادقان فيكون الحكم إنشاء لا ابتداء، ونظيره لو حكماه في التداعي بدين وأقربه الورثة (2) .
باب طريق الحكم وصفته
وإذا طلبا حكمين أجيب من طلب الذي له الولاية على محل النزاع إذا كان الحاكمان عدلين فإن كان لهما الولاية معا أجيب من طلب الحاكم الأقرب، فإما أن يقرع بينهما، أو يجاب المدعي، فهذا القول الثالث أفتى به طائفة في زماننا، والأولان مقدمان، فهذه مسألة نزاع (3) .
قال في الإنصاف: واعلم أنه إذا ادعي على القاضي المعزول فالصحيح من المذهب أنه يعتبر تحرير الدعوى في حقه، قال الشيخ تقي الدين: تخصيص الحاكم المعزول بتحرير الدعوى في حقه لا معنى له، فإن الخليفة ونحوه في معناه، وكذلك العالم الكبير والشيخ المتبوع (4) .
لو قال لمدعي دينار: لا تستحق علي حبة، فعند ابن عقيل أن هذا ليس بجواب، وعند الشيخ تقي الدين رحمه الله: يعم الحبات، وما لم يندرج في لفظ حبة من باب الفحوى (5) .
ظاهر قوله: فإذا أحضرها سمعها الحاكم وحكم، أن الشهادة لا
__________
(1) فروع (6/ 436، 437) والإنصاف (11/ 198) ، ف (2/ 417) .
(2) فروع (6/ 440) ، ف (2/ 417) وهذا النقل فيه زيادة عما قبله.
(3) مختصر الفتاوى (567) ، ف (2/ 418) .
(4) إنصاف (11/ 231) ، ف (2/ 418) .
(5) إنصاف (11/ 242) ، ف (2/ 419) .(5/170)
تسمع قبل الدعوى، فإن كان الحق لآدمي معين فالصحيح من المذهب أنها لا تسمع قبل الدعوى.. وسمعها القاضي في التعليق وأبو الخطاب في الانتصار والمصنف في المغني، إن لم يعلم به، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: هو غريب، وذكر الأصحاب أنها تسمع بالوكالة من غير خصم، ونقله مهنا، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: تسمع ولو كان في البلد، وبناه القاضي وغيره على جواز القضاء على الغائب. اهـ.
«والوصية مثل الوكالة» ، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: الوكالة إنما تثبت استيفاء حق أو إبقاءه (1) .
وتسمع البينة قبل الدعوى في كل حق لآدمي غير معين: كالوقف على الفقراء، أو على مسجد، أو رباط، أو وصية لأحدهما، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وكذا عقوبة كذاب مفتر على الناس، والمتكلم فيهم (2) .
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله في حفظ وقف وغيره بالثبات عن خصم مقدر: تسمع الدعوى والشهادة فيه بلا خصم، قال: وقد ذكره قوم من الفقهاء، وفعله طائفة من الفقهاء، وفعله طائفة من القضاة، ولم يسمعها طوائف من الحنفية والشافعية والحنبلية.
وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله ما ذكره القاضي من احتيال الحنفية على سماع البينة من غير وجود مدعي عليه فإن المشتري المقر بالبيع قد قبض المبيع وسلم الثمن فهو لا يدعي شيئا ولا يدعى عليه شيء، وإنما غرضه تثبيت الإقرار والعقد، والمقصود سماع القاضي البينة وحكمه بموجبها من غير وجود مدعى عليه ومن غير مدع على أحد؛ لكن خوفا من حدوث خصم مستقبل، فيكون هذا الثبوت حجة
__________
(1) إنصاف (11/ 246) ، ف (2/ 419) .
(2) إنصاف (11/ 248) وفروع (6/ 524) .(5/171)
بمنزلة الشهادة، فإن لم يكن القاضي يسمع البينة بلا هذه الدعوى وإلا امتنع من سماعها مطلقًا، وعطل هذا المقصود الذي احتالوا عليه.
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله، وكلامه يقتضي أنه هو لا يحتاج إلى هذا الاختيال مع أن جماعات من القضاة المتأخرين من الشافعية والحنابلة دخلوا مع الحنفية في ذلك وسموه الخصم المسخر، قال: وأما على أصلنا الصحيح وأصل مالك رحمه الله فإما أن نمنع الدعوى من غير خصم منازع فتثبت الحقوق بالشهادات على الشهادات كما ذكره من ذكره من أصحابنا، وأما أن نسمع الدعوى والبينة بلا خصم، كما ذكره طائفة من المالكية والشافعية وهو مقتضى كلام الإمام أحمد رحمه الله وأصحابنا في مواضع؛ لأنا نسمع الدعوى والبينة على الغائب والممتنع، وكذا على الحاضر في البلد في المنصوص، فمع عدم خصم أولى.
قال: وقال أصحابنا: كتاب الحاكم كشهود الفرع، قالوا: لأن المكتوب إليه يحكم بما قام مقامه غيره، لأن إعلام القاضي للقاضي قائم مقام الشاهدين، فجعلوا كل واحد من كتاب الحاكم وشهود الفرع قائما مقام غيره وهو بدل عن شهود الأصل، وجعلوا كتاب القاضي كخطابه، وإنما خصوه بالكتاب لأن العادة تباعد الحكمين، وإلا فلو كان في محل واحد كان مخاطبة أحدهما للآخر أبلغ من الكتاب، وبنوا ذلك على أن الحاكم يثبت عنده بالشهادة ما لم يحكم به وإنما يعلم به حاكما آخر ليحكم به، كما يعلم الفروع بشهادة الأصول.
قال: وهذا كله إنما يصح إذا سمعت الدعوى والبينة في غير وجه خصم، وهو يفيد أن كلما ثبت بالشهادة على الشهادة يثبته القاضي بكتابه.
قال: ولأن الناس بهم حاجة إلى إثبات حقوقهم بإثبات القضاة، كإثباتها بشهادة الفروع، وإثبات القضاة أنفع لكونه كفى مؤنة النظر في(5/172)
الشهود، وبهم حاجة إلى الحكم فيما فيه شبهة أو خلاف لرفع، وإنما يخافون من خصم حادث (1) .
وقال في الفروع: وإن قال المدعي «ما لي بينة» ، أعلمه الحاكم بأن له اليمين على خصمه، قال: وله تحليفه مع علمه قدرته على حقه، نص عليه نقل ابن هانئ: إن علم عنده مالا لا يؤدي إليه حقه أرجو ألا يأثم، وظاهر رواية أبي طالب يكره، وقاله شيخنا: ونقله من حواشي تعليق القاضي، وهذا يدل على تحريم تحليف البريء، دون الظالم اهـ (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: ولما كانت أفهام الصحابة رضي الله عنهم فوق أفهام جميع الأمة وعلمهم بمقاصد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وقواعد دينه وشرعه أتم من علم كل من جاء بعدهم عدلوا عن ذلك إلى غير هذه المواضع الثلاثة (3) ، وحكموا بالرد مع النكول في موضع، وبالنكول وحده في موضع، وهذا من كمال فهمهم وعلمهم بالجامع والفارق والحكم والمناسبات، ولم يرتضوا لأنفسهم عبارات المتأخرين واصطلاحاتهم وتكلفاتهم، فهم كانوا أعمق الأمة علما، وأقلهم تكلفا والمتأخرون عكسهم في الأمرين.
فعثمان بن عفان قال لابن عمر: احلف بالله لقد بعت العبد وما به داء علمته، فأبى فحكم عليه بالنكول، ولم يرد اليمين في هذه الصورة على المدعي ويقول له: احلف أنت أنه كان عالما بالعيب، لأن هذا مما لا يمكن أن يعلمه المدعي ويمكن المدعى عليه معرفته، فإذا لم يحلف المدعى عليه لم يكلف المدعي اليمين، فإن ابن عمر قد باعه بالبراءة من العيوب، وهو إنما يبرأ إذا لم يعلم بالعيب فقال له:
__________
(1) إنصاف (11/ 248-250) ، ف (2/419) .
(2) إنصاف (11/ 251) .
(3) الطرق الحكمية (122، 223، 116) ، ف (2/ 419) .(5/173)
احلف أنك بعته وما به عيب تعلمه، وهذا مما يمكن أن يحلف عليه دون المدعي، فإنه قد تعذر عليه اليمين أنه كان عالما بالعيب وأنه كتمه مع علمه به.
وأما أثر عمر بن الخطاب وقوله للمقداد: احلف أنها سبعة آلاف، فأبي أن يحلف فلم يحكم عليه بنكول عثمان فوجهه: أن المقرض إن كان عالما بصدق نفسه وصحة دعواه حلف وأخذه وإن لم يعلم ذلك لم تحل له الدعوى بما لا يعلم صحته، فإذا نكل عن اليمين لم يقض له بمجرد نكول خصمه إذا خصمه قد لا يكون عالما بصحة دعواه فإذا قال للمدعي: إن كنت عالما بصحة دعواك فاحلف وخذ، فنقد أنصفه جد الإنصاف.
فلا أحسن مما قضى به الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا التفصيل في المسألة هو الحق، وهو اختيار شيخنا قدس الله روحه (1) .
والخط كاللفظ إذا ثبت أنه كان عنده على سبيل الوديعة، أو أنه قبضه أخذ بالخط، كما لو تلفظ بذلك، ولو أن يأخذ منه ما أخذه إذا كانت الوديعة قد تلفت بغير تفريط (2) .
مسألة: وإذا كانت عادة العمال يستأجرون بالوصولات فمات العمال فادعى بعض المستأجرين أنه قبض منه فلا يقبل إلا ببينة أو وصول فإذا قبض من له ولاية القبض لم يعد على المحتكرين بل يجب على أهل الوقف (3) .
ونص فيمن كتب وصيته، وقال: اشهدوا علي بما فيها: أنهم لا يشهدون إلا أن يسمعوها منه أو تقرأ عليه فيقرها بها.
__________
(1) المصدر السابق.
(2) مختصر الفتاوى (608) ، ف (2/ 419) .
(3) مختصر الفتاوى (618) ، ف (2/ 419) .(5/174)
فاختلف أصحابنا فمنهم من خرج في كل مسألة حكم الأخرى وجعل فيها وجهين بالنقل والتخريج.
ومنهم من منع التخريج وأقر النصين وفرق بينهما.
واختار شيخنا التفريق، قال: والفرق أنه إذا كتب وصيته، وقال: اشهدوا علي بما فيه فإنهم لا يشهدون بجواز أن يزيد في الوصية وينقص ويغير.
وأما إذا كتب وصيته ثم مات وعرف أنه خطه فإنه يشهد به لزوال المحذور (1) .
ومسألة تحرير الدعوى وفروعها ضعيفة؛ لحديث الحضرمي في دعواه على الآخر أرضا غير موصوفة.
وإذا قيل: لا تسمع الدعوى إلا محررة، فالواجب أن من ادعى مجملا استفصله الحاكم.
وظاهر كلام أبي العباس صحة الدعوى على المبهم، كدعوى الأنصار على اليهود قتل صاحبهم ودعوى المسروق منه على بني أبيرق وغيرهم.
ثم المبهم قد يكون مطلقًا، وقد ينحصر في قوم، كقولها: انكحني أحدهما، وزوجني أحدهما.
والثبوت المحض يصح بلا مدعى عليه، وقد ذكره قوم من الفقهاء وفعله طائفة من القضاة.
وتسمع الدعوى في الوكالة من غير حضور الخصم المدعى عليه، ونقله مهنا عن أحمد، ولو كان الخصم في البلد (2) .
__________
(1) الطرق الحكمية (206) ، ف (2/ 419) .
(2) وانظر الفروع (6/ 528) لزيادة الإيضاح.(5/175)
وتسمع دعوى الاستيلاد، وقاله أصحابنا، وفسره القاضي بأن يدعي استيلاد أمة فتنكره.
وقال أبو العباس: بل هي المدعية.
ومن ادعى على خصمه أن بيده عقار استغله مدة معينة وعينه وأنه استحقه فأنكر المدعى عليه وأقام المدعي بينة باستيلائه لا باستحقاقه لزم الحاكم إثباته والشهادة به، كما يلزم البينة أن تشهد به، لأنه كفرع مع أصل، وما لزم أصل الشهادة به لزم فرعه حيث يقبل، ولو لم تلزم إعانة مدع بإثبات وشهادة ونحو ذلك إلا بعد ثبوت استحقاقه لزم الدور، بخلاف الحكم، وهو الأمر بإعطائه ما ادعاه إن أقام بينة بأنه هو المستحق أمر بإعطائه ما ادعاه، وإلا فهو كمال مجهول يصرف في المصالح.
ومن بيده عقار فادعى رجل بثبوته عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته ثم إلى ورثته ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه ولا ينزع منه بذلك؛ لأن أصلين تعارضا، وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة، ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق.
ولو شهدت له بينة بملكه إلى حين وقفه وأقام وارث بينة أن مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه قدمت بينة الوارث أن مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه، لأن معها زيادة علم كتقديم من شهد له بأنه اشتراه من أبيه على من شهد له بأنه ورثه من أبيه.
قال القاضي: إذا ادعى على رجل ألفا من ثمن مبيع أو قرض أو غصب فقال: لا يستحق علي شيئًا كان جوابًا صحيحًا ويستحلف على ذلك.
وإن قال: لم أبايع وطنه منه ولم أغصبه، فهل يكون جوابا يحلف معه عليه؟ على وجهين.(5/176)
أحدهما: هو جواب صحيح يحلف عليه، والثاني: ليس بجواب صحيح يحلف عليه، لأنه يحتمل أنه غصبه ثم رده عليه، أو أقرضه ثم رده عليه أو باعه ثم رده إليه.
قال أبو العباس: إنما يتوجه الوجهان في أن الحاكم هل يلزمه بهذا الجواب أم لا؟ وأما صحته فلا ريب فيها.
وقياس المذهب: أن الإجمال ليس بجواب صحيح، لأن المطلوب قد يعتقد أنه ليس عليه لجهل أو تأويل ويكون واجبًا عليه في نفس الأمر، أو في مذهب الحاكم، ويمين المدعي بمنزلة الشاهد، كما لا يشهد بتأويل أو جهل.
ومن أصلنا إذا قال: كان له علي ثم أوفيته، لم يكن مقرًّا، فلا ضرر عليه في ذلك، إلا إذا قلنا بالرواية الضعيفة فقد أطلق أحمد التعديل في موضع فقال عبد الله: سألت أبي عن أبي يعفور العبدي، فقال: ثقة، قال أبو داود لأحمد الأسود بن قيس؟ فقال: ثقة.
قال أبو العباس: وعلى هذه الطريقة فكل لفظ يحصل به تعديل المخبر يحصل به تعديل الشهود مثل أن يقول: لا بأس به، لا أعلم إلا خيرا، كما نقل عن شريح وسوار وغيرهما.
ثم وجدت القاضي قد احتج في المسألة بأن عمر سأل رجلاً عن رجل؟ فقال: لا أعلم إلا خيرًا، فقال: حسبك إن ابن عمر كان إذا أنعم أن يمدح الرجل قال: لا نعلم إلا خيرًا، وعلى هذا فلا يعتبر لفظ الشهادة، وإن أوجبنا اثنين، لأن هذا من باب الاجتهاد، بمنزلة تقويم المقوم والقائف، لأنه من باب المسموع، ومثله المزكي والتفليس والرشد ونحوها فإن هذا كله إثبات صفة اجتهادية.
ويقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة قول عدل واحد، وهو رواية عن أحمد، ويقبل الجرح والتعديل باستفاضة.(5/177)
ومقتضى تعليل القاضي أنه لو قال المزكي: هو عدل لكن ليس على أنه يقبل مطلقًا، مثل أن يكون عدو المعدل، وشهادة العدو لعدوه مقبولة فوجود العداوة لا يمنع التزكية وإن لم تقبل شهادته على المزكي (1) .
وللمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها بالاتفاق (2) .
ويلزم الحاكم أن يكتب للمدعي عليه إذا ثبتت براءته محضرا بذلك إن تضرر بتركه (3) .
وقال الشيخ تقي الدين: التعريف يتضمن تعريف عين المشهود له والمشهود به إذا وقعت على الأسماء، وتعريف المحكوم عليه والمحكوم به، وتعريف المثبت عليه والمثبت له ونفس المثبت في كتاب القاضي إلى القاضي، والتعريف مثل الترجمة سواء، فإنه بيان مسمى هذا الاسم، كما أن الترجمة كذلك لأن التعريف قد يكون في أسماء الأعلام، والترجمة في أسماء الأجناس، وهذا التفسير لا يختص بشخص دون شخص اهـ (4) .
اختلفت الرواية عن أحمد فيما لو حكم الحاكم بما يرى المحكوم له تحريمه فهل يباح له بالحكم؟ على روايتين والتحقيق في هذا أنه ليس للرجل أن يطلب من الإمام ما يرى أنه حرام، ومن فعل هذا فقد فعل ما يعتقد تحريمه، وهذا لا يجوز لكن لو كان الطالب غيره، أو ابتدأ الإمام بحكمه أو قسمه فهنا يتوجه القول بالحل (5) .
__________
(1) اختيارات (339-343) ، ف (2/ 419) .
(2) فروع (6/ 470) والإنصاف (11/ 286) والاختيارات (349) ، ف (2/ 419) .
(3) اختيارات (349) ، ف (2/419) .
(4) إنصاف (11/ 297) ، ف (2/ 419) .
(5) اختيارات (344) ، ف (2/ 419) .(5/178)
واختار الشيخ تقي الدين جواز الأخذ (1) ولو قدر على أخذه بالحاكم في الحق الثابت بإقرار أو بينة إن كان سبب الحق ظاهرا، فأما إن كان قد غصب ماله فيجوز له الأخذ بقدر حقه ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله وغيره (2) .
وإذا مات الشاهد فهل يحكم بخطه؟ فيه نزاع، فمذهب مالك يحكم به، وهو قول في مذهب أحمد.
وإذا شهد شاهد أن فلانة أبرأت زوجها حلف الزوج وحكم له إن كان الشاهد ممن يرضى من الشهداء.
وإن كان الشاهد في الرضاع عدلاً قبل قوله، وفي تحليفه نزاع.
ويجوز للشافعي أن يشهد عند حاكم مالكي، أن هذا خط فلان إذا جزم به من غير شك، متبعًا لمن يجيز ذلك من الأئمة في مسألة يتوجه فيها قول الذي قلده ولم يكن متبعًا للرخصة فهذه سائغ في المشهور من مذاهب الأربعة، إذ لا يجب على أحد أن يلتزم مذهب شخص بعينه في جميع الشريعة في ظاهر مذهب الشافعي وغيره، ولكن متى ألزم نفسه التزامه فلا بد له أن يلتزمه فيما له وعليه، مثل أن يترجح عنده إثبات الشفعة للجار فيتبع ذلك له وعليه.
فأما أن يقلده من يرى إثباتها إذا كان هو الطالب وإذا كان هو المطلوب يقلد من ينفيها فهذا لا يجوز بلا نزاع فيما أعلمه، وكذلك لا يجوز أن يتبع الرخص مطلقًا.
والعمل بالخط مذهب قوي، بل هو قول جمهور السلف، وإذا رأى الرجل بخط أبيه حقًّا له وهو يعلم صدقه جاز له أن يدعيه ويحلف عليه.
__________
(1) وعنه في الضيف يأخذ وإن قدر على أخذه بالحاكم.
(2) إنصاف (11/ 311) قلت: وتقدم في باب الغصب ف (2/ 419) .(5/179)
وإذا اتفقوا على أنه يجوز أن يشهد على الرجل إذا عرف صورته مع إمكان الاشتباه وتنازعوا في الشهادة على الصوت من غير رؤية المشهود عليه فجوزه الجمهور كمالك وأحمد، وجوزه الشافعي في صورة المضبطة فالشهادة على الخط دون ذلك لأنه أقوى (1) .
وإذا أمكن القاضي أن يرسل إلى الغائب رسولاً، ويكتب إليه الكتاب والدعوى، ويجاب عن الدعوى بالكتاب والرسول فهذا هو الذي ينبغي كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمكاتبة اليهود لما ادعى الأنصار عليهم قتل صاحبهم وكاتبهم ولم يحضرهم وهكذا ينبغي أن يكون في كل غائب طلب إقراره أو إنكاره إذا لم يقم الطالب بينة، وإن أقام بينة فمن الممكن أيضًا أن يقال: إذا كان الخصم في البلد لم يجب عليه حضور مجلس الحاكم، بل يقول: أرسلوا إلي من يعلمني بما يدعي به علي.
وإذا كان لا بد للقاضي من رسول إلى الخصم يبلغه الدعوى ويحضره فيجوز أن يقام مقامه رسول، فإن المقصود من حضور الخصم سماع الدعوى ورد الجواب بإقرار أو إنكار.
وهذا نظير مانص عليه الإمام أحمد من أن النكاح يصح بالمراسلة مع أنه في الحضور لا يجوز تراخي القبول عن الإيجاب تراخيًا كثيرًا، فالدعوى التي يصح تراخي جوابها أولى وأحرى.
وعلى هذا فالرسول في الدعوى يجوز أن يكون واحدًا، لأنه نائب الحاكم كما كان أنيس نائب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الحد بعد سماع الاعتراف وثبوت الحد، أو يخرج على المراسلة من الحاكم إلى الحاكم، وفيه روايتان، فينظر في قضيته خبيرًا.
قال أبو العباس: فما وجدت فيها إلا واحدًا، ثم وجدت هذا منصوصا عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب فإنه نص فيها على أنه إذا
__________
(1) مختصر الفتاوى (601) ، ف (2/ 424) .(5/180)
أقام بينة بالعين المودعة عند رجل سلمت إليه وقضى على الغائب، قال: ومن قال بغير هذا يقول: له أن ينظر بقدر ما يذهب الكتاب ويجيء، فإن جاء وإلا أخذ إعلام المودع وكلامه محتمل تخيير الحاكم بين أن يقضي على الغائب وبين أن يكاتبه في الجواب (1) .
باب كتاب القاضي إلى القاضي
ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص، وهو قول مالك وأبي ثور في الحدود، وقول مالك والشافعي وأبي ثور ورواية عن أحمد في القصاص.
والمحكوم به إن كان عينًا في بلد الحاكم فإنه يسلمه إلى المدعي، ولا حاجة إلى كتاب، وأما إن كان دينًا أو عينًا في بلد أخرى، فهنا يقف على الكتاب.
وههنا ثلاث مسائل متداخلات.
مسألة: إحضار الخصم إذا كان غائبًا.
ومسألة الحكم على الغائب.
ومسألة كتاب القاضي إلى القاضي.
ولو قيل: إنما نحكم على الغائب إذا كان المحكوم به حاضرًا، لأن فيه فائدة وهي تسليمه، وأما إذا كان المحكوم به غائبًا فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عنده من شهادة الشهود حتى يكون الحكم في بلد التسليم لكان متوجها.
وهل يقبل كتاب القاضي إلى القاضي بالثبوت أو الحكم من حاكم غير معين، مثل: أن يشهد شاهدان أن حاكمًا نافذ الحكم حكم بكذا وكذا؟
__________
(1) اختيارات (338) ، ف (2/ 420) .(5/181)
القياس: أنه لا يقبل بخلاف ما إذا كان المكاتب معروفا؛ لأن مسألة مراسلة الحاكم ومكاتبته بمنزلة شهادة الأصول للفرع، وهذا لا يقبل في الحكم والشهادات، وإن قبل في الفتاوى والإخبارات (1) .
وقد ذكر صاحب المحرر ما ذكره القاضي من أن الخصمين إذا أقرا بحكم الحاكم عليهما خير الثاني بين الإمضاء والاستئناف، لأن ذلك بمنزلة قول الخصم: شهد علي شاهدان ذوي عدل، فهنا قد يقال بالتخيير أيضًا.
ومن عرف خطه بإقرار أو إنشاء أو عقد أو شهادة عمل به كالميت، فإن حضر وأنكر مضمونه فكاعترافه بالصوت وإنكاره مضمونة (2) .
وذكر قولا في المذهب أنه يحكم بشاهد ميت، وقال الخط كاللفظ إذا عرف أنه خطه وأنه مذهب جمهور العلماء وهو يعرف أن هذا خطه كما يعرف أن هذا صوته.
واتفق العلماء على أنه يشهد على الشخص إذا عرف صوته مع إمكان الاشتباه، وجوز الجمهور كمالك وأحمد الشهادة على الصوت من غير رؤية المشهود عليه، والشهادة على الخط أضعف، لكن جوازه قوي أقوى من منعه، وكتابه في غير عمله أو بعد عزله كخبره (3) .
ويقبل فيما حكم به لينفذه وإن كان ببلد واحد، وعند شيخنا وفي حق الله تعالى.
ويقبل فيما ثبت عنده ليحكم به في مسافة قصر وعنه فوق يوم، وعند شيخنا، وقال خرجته في المذهب وأقل كخبر (4) .
__________
(1) وانظر الإنصاف (11/ 324) .
(2) اختيارات (348، 349) ، ف (2/ 420) .
(3) فروع (6/ 500) ، ف (2/ 420) .
(4) فروع (6/ 500) ، ف (2/ 420) .(5/182)
قال القاضي: ويقول في كتابه: شهدا عندي بكذا، ولا يكتب ثبت عندي، لأنه حكم بشهادتهما كبقية الأحكام، وقاله ابن عقيل، وغيره، قال الشيخ تقي الدين: والأول أشهر؛ لأنه خبر بالثبوت كشهود الفرع؛ لأن الحكم أمر ونهي يتضمن إلزامًا اهـ (1) .
قوله: ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى من يصل إليه كتابه هذا من قضاة المسلمين وحكامهم.
قال الشيخ تقي الدين: وتعيين القاضي الكاتب كشهود الأصل، وقد يخبر المكتوب إليه قال الأصحاب في شهود الأصل يعتبر تعيينهم (2) .
قال الشيخ تقي الدين في كتاب أصدره إلى السلطان في مسألة الزيارة، وقد تنازع الفقهاء في كتاب الحاكم هل يحتاج إلى شاهدين على لفظه، أم إلى واحد، أم يكتفي بالكتاب المختوم، أو يقبل الكتاب بلا ختم ولا شاهد، على أربعة أقوال معروفة في مذهب أحمد وغيره.
نقله ابن خطيب السلامية في تعليقه (3) .
باب القسمة
وما لا يمكن قسمة عينه إذا طلب أحد الشركاء بيعه وقسم ثمنه بيع وقسم ثمنه، وهو المذهب المنصوص عن أحمد في رواية الميموني، وذكره الأكثرون من الأصحاب.
فيقال على هذا: إذا وقف قسطًا مشاعًا مما لا يمكن قسمة عينه فأنتم بين أمرين: إما بيع النصيب الموقوف وإما إبقاء شركة لازمة.
__________
(1) إنصاف (11/ 323) ، ف (2/420) .
(2) إنصاف (11/ 324) ، ف (2/ 420) .
(3) إنصاف (11/ 327) ، ف (2/ 420) .(5/183)
وجوابه: إما الفرق، وإما الالتزام.
أما الفرق فيقال: الوقف منع من نقل الملك في العين، فلا ضرر في شركة عينه.
وأما الشركة في المنافع فيزول الضرر بالمهايات أو المؤاجرة عليها.
والالتزام: أن يجوز مثل هذا أو جعل الوقف مفرزا تقديما لحق الشريك، كما لو طلب قسمة العين وأمكن، فإنا نقدم حق الإفراز على حق الوقف، ومن قال هذا فينبغي له أن يقول بقسم الوقف، وإن قلنا: القسمة بيع ضرورة، فقد نص أحمد على بيع أشياء تابعة في الوقف والاعتياض عنها.
ومن تأمل الضرر الناشئ من الاشتراك في الأموال الموقوفة لم يخف عليه هذا.
ولو طلب أحد الشريكين الإجارة أجبر الآخر عليها، ذكره الأصحاب ولو في الوقف، ولو طلب ادهم العلو لم يجب؛ بل يكرى عليهما على مذهب جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد.
وإذا أوجبنا على الشريك أن يؤاجر مع صاحبه فأجر أحد الشريكين العين المؤجرة، بدون إذن شريكه مدة فينبغي أن يستحق أكثر الأمرين من أجرة المثل والأجرة المسماة؛ لأن الأجرة المسماة إذا كانت أكثر فالمستأجر رضى أن ينتفع بها.
وعلى قياس ذلك كل من اكترى مال غيره بغير إذنه.
ويلزم إجابة من طلب المهايأة بالزمان والمكان.
وليس لأحدهما أن يفسخ حتى ينقضي الدور ويستوفي كل منهما حقه منه.
ولو استوفى أحدهما نوبته ثم تلفت المنافع في مدة الإجارة فإنه(5/184)
يرجع على الأول ببدل حصته من تلك المدة التي استوفاها ما لم يكن قد رضي بمنفعته في الزمن المتأخر على أي حال كان، جعلاً للتالف قبل القبض كالتالف في الإجارة (1) .
وإذا طلب أحد الشركاء القسمة فيما ينقسم لزم الحاكم إجابته، ولو لم يثبت عنده ملكه كبيع المرهون والجاني.
وكلام أحمد في بيع ما لا ينقسم وقسم ثمنه عام فيما يثبت عنده أنه ملكه وما لا يثبت، كجميع الأموال التي تباع، وأن مثل ذلك لو جاءته امرأة فزعمت أنها خلية لا ولي لها، هل يزوجها بلا بينة؟
وقد نص أحمد في رواية حرب فيمن أقام بينة بسهم من ضيعة بيد قوم فهربوا منه تقسم عليهم ويدفع إليه حقه.
فقد أمر الإمام أحمد الحاكم أن يقسم على الغائب إذا طلب الحاضر، وإن لم يثبت ملك الغائب (2) .
وقال شيخنا في قرية مشاعة قسمها فلا حوها: هل يصح؟ قال: إذا تهايئوها وزرع كل واحد منهم حصته فالزرع له ولرب الأرض نصيبه، إلا أن من ترك نصيبه مالكه فله أخذ أجرة الفضلة أو مقاسمتها (3) .
ومن بنى أو غرس فخرج مستحقًا فقلع رجع على شريكه بنصف قيمته في قسمة إجبار إن قلنا بيع كقسمة تراض، وإلا فلا، وأطلق في التبصرة رجوعه، وفيه احتمال، قال شيخنا: إذا لم يرجع حيث لا يكون بيعًا فلا يرجع بالأجرة ولا بنصف قيمة الولد في الغرور إذا اقتسما الجواري أعيانا (4) .
__________
(1) اختيارات (350) فيه زيادات ف (2/، 420) .
(2) فروع (6/ 510، 511) واختيارات (352) فيه زيادة ف (2/ 420) .
(3) فروع (6/ 511) والإنصاف (11/ 346) ، ف (2/ 420) .
(4) فروع (6/ 515) ، ف (2/ 420) .(5/185)
ولا إجبار في قسمة المنافع، وعنه: بلى واختاره، في المحرر في القسمة بالمكان ولا ضرر، وإن اقتسماها بزمن أو مكان صح جائزًا، واختار في المحرر لازمًا إن تعاقدا مدة معلومة وقيل: لازمًا بالمكان مطلقًا فإن انتقلت كانتقال وقف فهل تنتقل مقسومة أو لا؟ فيه نظر، فإن كانت إلى مدة لزمت الورثة والمشتري قال ذلك شيخنا (1) .
والمكيلات والموزونات المتساوية من كل وجه إذا قسمت لا يحتاج فيها إلى قرعة، نعم الابتداء بالكيل أو الوزن لبعض الشركاء ينبغي أن يكون بالقرعة، ثم إذا خرجت القرعة لصاحب الأكثر فهل يوفى جميع حقه، أو بقدر نصيب الأقل؟ الأوجه: أن يوفى الجميع كما يوفى مثله في العقار بين أنصبائه، لأن عليه في التفريق ضررًا، وحقه من جنس واحد، بخلاف الحكومات فإن الخصم لا يقدر إلا بواحدة لعدم ارتباط بعضها ببعض، نعم إن تعدد سبب استحقاقه مثل أن يكون ورث ثلث صبرة وابتاع ثلثها فهنا يتوجه وجهان (2) .
وإن كان بينهما أشجار فيها الثمرة أو أغنام فيها اللبن أو الصوم فهو كاقتسام الماء الحادث والمنافع الحادثة.
وجماع ذلك انقسام المعدوم، لكن لو نقص الحادث المعتاد فللآخر الفسخ.
قال القاضي: رأيت في تعليق أبي حفص العكبري عن أبي عبد الله ابن بطة في قوم بينهم كروم فيها ثمرة لم تبلغ مثل الحصرم فأرادوا قسمتها، فقال: لا تجوز قسمتها وفيها غلة لم تبلغ؛ لأن القسمة لا تجوز إلا بالقيمة، والقسمة كالبيع، وكما لا يجوز بيعة كذلك لا تجوز قسمته، قال: وهذا يدل من كلام أحمد على أنها بيع.
__________
(1) فروع (6/ 508) والإنصاف (11/ 341) ، ف (2/420) .
(2) اختيارات (352) ، ف (2/ 420) .(5/186)
قال أبو العباس: هذا من ابن بطة يقتضي أن بيع الشجرة الذي عليه ثمرة لم تبلغ لا يصح لتضمنه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهذا خلاف المعروف من المذهب، وخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من باع ثمرة قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» .
ومفهوم كلامه أن الحصرم إذا بلغ جازت القسمة مع أنها إنما تقسم خرصًا كأنه بيع شاة لبن بشاة ذات لبن.
وعلى قياسه يجوز عنده بيع نخلة ذات رطب بنخلة ذات رطب؛ لأن الربوي تابع (1) وإذا اقتسما فحصل الطريق في حصة واحدة ولا منفذ للآخر بطلت لعدم التعديل والنفع.
قال شيخنا: كذا طريق ماء، ونصه: هو لهما ما لم يشترطا رده (2) .
قال شيخنا: ولا أعلم خلافًا أن من قسم شيئًا يلزمه أن يتحرى العدل، ويتبع ما هو أرضي لله ورسوله، استفاد القسمة بولاية كإمام وحاكم أو بعقد كالناظر والوصي (3) .
وأجرة وكيل الضيافة والأمين لحفظ الزرع على المالك والفلاح، كسائر الأملاك، فإذا أخذوا من الفلاح بقدر ما عليه أو ما يستحقه الضيف حل لهم، وإن لم يأخذ الوكيل لنفسه إلا قدر أجرة عمله بالمعروف والزيادة يأخذها المقطع فالمقطع هو الذي ظلم الفلاحين (4) .
__________
(1) اختيارات (351) ، ف (2/ 421) .
(2) فروع (6/ 516) ، ف (2/ 421) .
(3) فروع (6/ 602) واختيارات (177) ، ف (2/ 421) .
(4) اختيارات (352) وفروع (6/ 513) والإنصاف (11/ 355) وعبارة الإنصاف: فعلى المذهب المنصوص أجرة شاهد يخرج لقسم البلاد ووكيل وأمين للحفظ على مالك وفلاح كأملاك ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله قال: فإذا أمانهم الفلاح ما عليه أو يستحقه الضيف حل لهم إلخ.(5/187)
باب الدعاوي والبينات
قال ابن القيم رحمه الله: وقد ذكر أصحاب مالك القسامة في الأموال، وذلك فيما إذا أغار قوم على بيت رجل وأخذوا ما فيه والناس ينظرون إليهم ولم يشهدوا على معاينة ما أخذوا ولكن علم أنهم أغاروا وانتهبوا فقال ابن القاسم وابن الماجشون: القول قول المنتهب مع يمينه، وقال مطرف وابن كنانة وابن حبيب: القول قول المنهوب منه مع يمينه فيما يشبه، وقد تقدم ذلك، وذكرنا أنه اختيار شيخ الإسلام، وحكينا كلامه رحمه الله (1) .
ويجب أن يفرق بين فسق المدعى عليه وعدالته، فليس كل مدعى عليه يرضى منه باليمين، ولا كل مدع يطالب بالبينة، فإن المدعي به إذا كان كبيرة والمطلوب لا تعلم عدالته فمن استحل أن يقتل أو يسرق استحل أن يحلف، لا سيما عند خوف القتل أو القطع ويرجع (2) باليد العرفية إذا استويا في الخشية أو عدمها.
وإن كانت العين بيد أحدهما فمن شاهد الحال معه كان ذلك لوثًا فيحكم له بيمينه (3) .
وإن ادعى أن له الآن لم تسمع بينة أنه كان له أمس، أو في يده في أصح الوجهين.
وقال الشيخ تقي الدين: إن قال لا أعلم له مزيلاً، قبل كعلم الحاكم أنه يلبس عليه (4) .
ولو قال لمدعي دينارًا لا يستحق علي حبة فعند ابن عقيل ليس
__________
(1) الطريق الحكمية (191) ، ف (2/ 421) .
(2) لعله يرجع.
(3) اختيارات (352، 353) ، ف (2/ 421) .
(4) إنصاف (11/ 272) ، ف (2/ 421) .(5/188)
بجواب لأنه لا يكتفي في دفع الدعوى إلا بنص لا بظاهر، ولهذا لو حلف والله إني لصادق فيما أدعيته عليه أو حلف المنكر إنه لكاذب فيما ادعاه علي لم يقبل، وعند شيخنا: يعم الحبات وما لم يندرج في لفظ حبة من باب الفحوى (1) .
وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين ردت على المدعي، وقيل: لا ترد؛ بل يحكم عليه بنكوله، وقيل:إن كان المدعى عليه هو العالم بالمدعي، دون المدعي مثل أن يدعي الورثة أو الوصي على غريم للميت دعوى فينكرها فهنا لا يحلف المدعي، بل إذا نكل المنكر قضي عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تضطروا لناس في أيمانهم إلى ما لا يعلمون"، وإذا كان المدعي هو العالم مثل: أن يدعي على ورثة الميت حقًّا عليه يتعلق بتركته فهنا لهم رد اليمين عليه، فإذا لم يحلف لم يأخذ، وأما إذا كان المدعي يدعي العلم والمنكر يدعي العلم فهنا يتوجه القولان (2) .
وكل ناكل لا يقضي عليه بالنكول كاللعان ونحوه فهل يخلى سبيله أو يحبس حتى يقر أو يحلف على وجهين: أحدهما: يخلى سبيله، والوجه الثاني: يحبس حتى يقر أو يحلف، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إذا قلنا يحبس فينبغي جواز ضربه كما يضرب الممتنع من اختيار إحدى نسائه إذا أسلم والممتنع من قضاء الدين كما يضرب المقر بالمجهول حتى يفسر (3) .
والدعوى في التهمة كسرقة يعاقب المدعي عليه الفاجر، وأنه لا يجوز إطلاقه ويحبس المستور.. وقال في الأحكام السلطانية:
يحبسه وال. قال: وظاهر كلام الإمام أحمد: وقاض أيضًا، وأنه يشهد له قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} إلى قوله: {الْكَاذِبِينَ} حملنا على
__________
(1) فروع (6/ 467) ، ف (2/421) وتقدمت.
(2) مختصر الفتاوى (607) ، ف (2/ 422) .
(3) إنصاف (12/ 113) ، ف (2/ 422) .(5/189)
الحبس لقوة التهمة، وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله الأول قول أكثر العلماء، واختار تعزير مدع بسرقة ونحوها على من يعلم براءته واختار بأن خبر من له رائي جني بأن فلانا سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة كما تقدم (1) .
قال الإمام أحمد في رواية مهنا: في الرجل يقيم الشهود أيستقيم للحاكم أن يقول: احلف؟ فقال: قد فعل ذلك علي بن أبي طالب، قيل: ويقيم ذلك؟ قال: قد فعل ذلك علي بن أبي طالب.
وقال في رواية إبراهيم بن الحارث في رجل جاء بشهود على حق فقال المدعى عليه: استحلفه لم يلزم المدعي اليمين.
فحمل القاضي الرواية الأولى على ما إذا ادعى على صبي أو مجنون أو غائب، والثانية على ما إذا ما ادعى على غيره.
وحمل أبو العباس الرواية الأولى على أن للحاكم أن يفعل ذلك إذا أراد مصلحة لظهور ريبة في الشهود؛ لا أنه يجب مطلقا، والثانية على أنه لا يجب مطلقًا، فلا منافاة بين الروايتين كما قلنا في تفريق الشهود بين
"أين"، و"حتى" (2) و"كيف"؟ فإن الحاكم يفعل ذلك عند الريبة ولا يجب فعله في كل شهادة وكذلك تغليظ اليمين للحاكم أن يفعله عند الحاجة (3) .
قصة أبي قتادة وخزيمة تقتضي الحكم بالشاهد في الأموال.
وقال القاضي في التعليق: الحكم بالشاهد الواحد غير متبع، كما قاله المخالف في الهلال في الغيم وفي القابلة على أنا لا نعرف الرواية بمنع الجواز.
__________
(1) إنصاف (11/ 260) وفروع (6/480) ، ف (2/422) .
(2) كذا بالأصل ولعله ومتى.
(3) اختيارات (343، 344) ، ف (2/ 422) .(5/190)
قال أبو العباس: وقد يقال: اليمين مع الشاهد الواحد حق للمستحلف، وللإمام فله أن يسقطها وهذا أحسن (1) .
ولو قيل: إنه يحكم بشهادة امرأة واحدة مع يمين الطالب في الأموال لكان متوجها؛ لأنهما أقيما مقام الرجل في التحمل.
وتثبت الوكالة ولو في غير المال بشاهد ويمين وهو رواية عن أحمد
والإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة بدليل الأمة السوداء في الرضاع، فإن عقبة بن الحارث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن المرأة أخبرته أنها أرضعتهما" فنهاه عنها من غير سماع من المرأة، وقد احتج به الأصحاب في قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، فلولا أن الإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة ما صحت الحجة، يؤيده: أن الإقرار بحكم الحاكم بالعقد الفاسد يسوغ للحاكم الثاني أن ينفذه مع مخالفته لمذهبه (2) .
وقال ابن القيم رحمه الله في شهادة الرهن بقدر الدين: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدره فالقول قول المرتهن مع يمينه ما لم يدع أكثر من قيمة الرهن عند مالك وأهل المدينة، وخالفه الأكثرون ومذهبه أرجح، واختاره شيخنا رحمه الله (3) .
قال الأصحاب: ومن ادعى أنه اشترى أو أتهب من زيد عبده، وادعى آخر كذلك، أو ادعى العبد العتق، وأقاما بينتين بذلك صححنا أسبق التصرفين وإن علم التأريخ، وإلا تعارضتا فيتساقطان أو يقتسماه، أو يقرع على الخلاف، وعن أحمد: تقدم بينة العتق.
__________
(1) اختيارات (363) ، ف (2/ 422) .
(2) اختيارات (363) ، ف (2/ 422) .
(3) الطرق الحكمية (213) ، ف (2/ 422) .(5/191)
قال أبو العباس: الأصوب أن البينتين لم يتعارضا فإنه من الممكن أن يقع العقدان، لكن يكون بمنزلة ما لو زوج الوليان المرأة وجهل السابق، فإما أن يقرع بينهما أو يبطل العقدان بحكم أو بغير حكم.
ولو قامت بينة بأن الولي أجر حصة مولية بأجرة مثلها وبينة بنصفها أخذ بأعلى البينتين قاله طائفة من العلماء.
قال في المحرر: ولو شهد شاهدان أنه أخذ من صبي ألفا، وشاهدان على رجل آخر أنه أخذ من هذا الصبي ألفا لزم الولي أن يطالبهما بالألفين، إلا أن تشهد البينتان على ألف بعينها فيطلب الولي ألفا من أيهما شاء.
قال أبو العباس: الواجب أن يقرع هنا إذا لم يكن فعل كل منهما مضمنا، نقل مهنا عن أحمد في عبد شهد له رجلان بأن مولاه باعه نفسه بألف درهم وشهد لمولاه رجل آخر أنه باعه بألفين، يعتق العبد، ويحلف لمولاه أنه لم يبعه إلا بألف.
قال القاضي: فقد نص على الشاهد واليمين في قدر العوض الذي وقع العتق عليه.
قال أبو العباس: بل اختلف الشاهدان، وليس هذا مما يتكرر فلم يجعل للسيد أن يحلف مع شاهده الأكبر لاختلافهما كما لا يحلف مع شاهده بالقيمة الكثيرة (1) .
لو ادعى الزوجية اثنان وأقرت لهما وأقاما بينتين قدم أسبقهما فإن جهل عمل بقول الولي، وقال في الرعاية، يعمل بقول الولي المجبر، وقال في المغني: يسقطان ويحال بينهما ولم يذكر الولي.
__________
(1) اختيارات (353، 354) ، ف (2/ 422) .(5/192)
وقال الشيخ تقي الدين: مقتضى كلام القاضي أنها إذا كانت بيد أحدهما: مسألة الداخل والخارج (1) .
وإن شهد أن هذا ابنه لا وارث له غيره وبينة أن هذا ابنه لا وارث له غيره قسم المال بينهما لأنه لا تنافي ذكره في عيون المسائل والمغني، قال الشيخ في فتاويه، إنما احتاج إلى إثبات لا وارث سواه، لأنه يعلم ظاهرا، فإن بحكم العادة يعلمه جاره ومن يعرف باطن أمره؛ بخلاف دينه على الميت لا يحتاج إلى إثبات «لا دين عليه سواه» لخفاء الدين؛ ولأن جهات الإرث يمكن الاطلاع على يقين انتقالها (2) .
وإذا مات رجل وادعى آخر أنه وارثه قال في المحرر: حكم له بتركته وإن كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة وإلا ففي الاستكشاف معها وجهان: انتهى، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: لا بد أن تقيد المسألة بأن لا يكون الميت ابن سبيل ولا غريبا (3) .
وإن تنازع الزوجان أورثتهما أو أحدهما وورثة الآخر ولو أن أحدهم مملوك نقله مهنا في قماش البيت.. وكذا صانعان في آلة دكانهما فآلة كل صنعة لصانعها.
وقال القاضي في المسألتين: إذا كان بيدهما المشاهدة فبينهما وإن كان بيد أحدهما المشاهدة فله، ويتوجه طرده فيما تقدم.
قال شيخنا: وكلام القاضي في التعليق يقتضي أن المدعي متى كان بيديهما وإن لم يكونا بدكان كالزوجين.
__________
(1) الإنصاف (12/ 125) ، ف (2/ 422) .
(2) فروع (6/ 557) ، ف (2/ 423) .
(3) إنصاف (12/ 19، 20) ، ف (2/ 424) .(5/193)
فصل
وإن كانت بيد ثالث فادعاها لنفسه حلف لكل واحد يمينًا، فإن نكل أخذها منه وبدلها واقترعا عليها، وقيل: يقتسمانها كَناكِلٍ مقر لهما. وقيل: من قرع منهما وحلف فله.
وقال شيخنا: قد يقال: تجزئ يمين واحد (1) .
__________
(1) فروع (4/ 519) ، ف (2/ 424) .(5/194)
كتاب الشهادات
ويجب على من طلبت من الشهادة أداؤها، بل إذا امتنع الجماعة من الشهادة أثموا كلهم باتفاق العلماء، وقدح ذلك في دينهم وعدالتهم (1) .
والطلب العرفي أو مقتضى الحال في طلب الشهادة كاللفظي، علمها المشهود له أو لا؟ وهو ظاهر الخبر وخبر "يشهد ولا يستشهد" محمول على شهادة الزور.
وإذا أدى العبد شهادة قبل الطلب قام بالواجب، وكان أفضل، كمن عنده أمانة أداها عند الحاجة، والمسألة تشبه الخلاف في الحكم قبل الطلب.
وإذا غلب على ظن الشاهد أنه يمتحن فيدعى إلى القول المخالف للكتاب والسنة أو إلى محرم فلا يسوغ له أداء الشهادة وفاقا، اللهم إلا أن يظهر قولا يريد به مصلحة عظيمة (2) .
ويجوز أخذ الأجرة على أداء الشهادة وتحملها، ولو تعينت إذا كان محتاجًا، وهو قول في مذهب أحمد، ويحرم كتمها ويقدح في عدالته (3) .
__________
(1) مختصر الفتاوى (604) ، ف (2/ 424) .
(2) اختيارات (354) ، ف (2/ 424) .
(3) اختيارات (354) ، ف (2/ 424) .(5/195)
الشهادة سبب موجب للحق، وحيث امتنع أداء الشهادة امتنعت كتابتها في ظاهر كلام أبي العباس والشيخ أبي محمد المقدسي (1) .
ويجب على الشاهد أداء الشهادة إذا طلبت منه ولو كان الشهود أكثر من نصاب الشهادة.
وأما إن كان المطلوب لا يتم النصاب إلا به فقد تعينت عليه إجماعا، إلا أن تكون الشهادة بجوز أو كذب ونحوه فلا يجوز أن يعان الظالم على ذلك لا بشهادة ولا غيرها (2) .
ولا تقبل الشهادة إلا بلفظ الشهادة فإن قال أعلم أو أُحق لم يحكم به.
وعنه: يصح، ويحكم بها، اختارها أبو الخطاب والشيخ تقي الدين (3) .
قال شيخنا: فاشتراط لفظ الشهادة لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من الصحابة، ولا يتوقف لفظ الشهادة لغة على ذلك وبالله التوفيق (4) .
ولا يشترط في أداء الشهادة لفظة أشهد وهو مقتضى قول أحمد، قال علي بن المديني، أقول: إن العشرة في الجنة، ولا أشهد، فقال أحمد: متى قلت فقد شهدت، وقال ابن هانئ لأحمد: تفرق بين العلم والشهادة في أن العشرة في الجنة قال: لا، وقال الميموني: قال أبو عبد الله: وهل معنى القول أو الشهادة إلا واحدا؟ قال أبو طالب: قال أبو عبد الله: العلم شهادة، وزاد أبو بكر بن حماد قال أبو عبد الله:
__________
(1) اختيارات (354) ، ف (2/ 424)
(2) مختصر الفتاوى (604، 605) .
(3) إنصاف (12/ 108) ، ف (2/ 424) .
(4) الطرق الحكمية (204) ، ف (2/ 424) .(5/196)
{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [86/58] ، وقال: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [81/12] ، وقال المروذي: أظن أني سمعت أبا عبد الله يقول: هذا جهل أقول: فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أشهد أنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو العباس: ولا أعلم نصا يخالف هذا ولا يعرف عن صحابي ولا تابعي اشتراط لفظ أشهد.
ويعرض في الشهادة إذا خاف الشاهد من إظهار الباطن ظلم المشهود عليه، وكذلك التعريض في الحكم إذا خاف الحاكم من إظهار الأمر وقوع الظلم عليه، وكذلك التعريض في الفتوى والرواية كاليمين وأولى، إذ اليمين خبر وزيادة (1) .
وإذا شهد أن العين كانت ملكه حين خرجت من يده بغير حق حكم له بها.
وإما إن شهد أنها كانت ملكه فقط فهل يحكم له بذلك؟ على وجهين في مذهب أحمد، وقولين للشافعي.
وإن شهد بسبب الملك وظهوره مثل: أن يشهد أنه ابتاعه، أو ورثه أو حكم له به الحاكم الفلاني، فإن الحاكم هنا يحكم باستصحاب الحال إذا لم يثبت معارض راجح، والشاهد لا يشهد بناء على استصحاب الحال، ولا أعلم في الأولى خلافا أن الحاكم يحكم باستصحاب الحال باتفاق العلماء.
وأما صورة الخلاف فإن البينة لما شهدت بالملك في الماضي وسكتت عنه في الحال كان هذا ريبة تجوز أن البينة علمت بالزوال وسكتت عن ذلك، وأما إذا شهدت بسبب الملك لم يكن فيه ريبة، والأصل بقاء الملك، وإذا شهدت أنه لم يزل ملكه إلى أن غصبت منه
__________
(1) اختيارات (362) فيها زيادة ف (2/424) .(5/197)
أو استعيرت أو زالت يده عنه بغير حق، كما لو شهدت له أنه لم يزل ملكه عنه إلى أن مات فإنه يحكم به للورثة حتى تقوم حجة بما يخالف ذلك.
وكذلك هناك يحكم للذي كان حائزًا إلى حين زوال حوزه، كزوال الملك، ولا أعلم في هذا خلافًا، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، فإن الغاصب والمستعير وغيرهما إذا جحدوا ملك غيرهم فشهدت البينة أنه لم يزل ملكه إلى حين الغصب، مثلاً احتاجوا إلى إثبات الانتقال إليهم، وإلا فالأصل بقاء الملك، وقد علم أن زوال اليد بالعدوان فلا يقبل أن اليد يده إذا عرف من مستندها ما يصلح مستندًا له من زوال اليد المحققة والانتقال إلى يد عادية، أما هذه البينة أو غيرها فلا يكلف رب البينة بقاء الملك إلى حين الدعوى لتعذر ذلك أو لعسره وفيه معونة عظيمة لكل سارق وناهب.
يوضح ذلك أن الحاكم يحكم باستصحاب اليد وبغيرها من الطرق التي تفيد غالب الظن، والشاهد لا يشهد إلا بالعلم؛ لأن الحاكم لا بد له من فصل الحكومة فيفصلها لأقوى الجانبين حجة (1) .
قال أحمد في رواية حرب: من كان أخرس فهو أصم لا تجوز شهادته قيل له فإن كتبها؟ قال: لم يبلغني في هذا شيء، واختار الجد قبول الكتابة، ومنعها أبو بكر.
وقول أحمد: فهو أصم لا تجوز شهادته، يقتضي أنه منع شهادته لعدم سماعه فهذا منتف فيما رآه.
قال الأصحاب: تجوز شهادة الأعمى في المسموعات (2) وفيما رآه
__________
(1) مختصر الفتاوى (604) ، ف (2/ 424) .
(2) عبارة الفروع: فيما سمعه.(5/198)
قبل عماه إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه (1) وإن لم يعرفه إلا بعينه (2) فوجهان وكذلك الوجهان إذا تعذر حضور المشهود عليه أو به لموت أو غيبة أو حبس، ويشهد البصير على حليته، إذ في الموضعين تعذرات الرؤية من الشاهد.
فأما الشاهد نفسه: هل له أن يعين ما رآه وكتب صفته أو ضبطها ثم رأى شخصًا بتلك الصفة؟ هذا أبعد. وهو شبيه بخطه إذا رآه ولم يذكر الشهادة.
قال القاضي: فإن قال الأعمى: أشهد أن لفلان هذا على فلان هذا ولم يذكر اسمه ونسبه أو شهد البصير على رجل من وراء حائط ولم يذكر اسمه ونسبه لم يصح ذكره محل وفاق.
قال أبو العباس: قياس المذهب أنه إذا سمع صوته صحت الشهادة عليه أداء، كما تصح تحملاً، فإنا لا نشترط رؤية المشهود عليه حين التحمل ولو كان شاهدًا بصيرًا فكذلك لا يشترط عند الأداء، وهذا نظير إشارة البصير الحاضر إذا سماه ونسبه، وهو لا يشترط في أصح الوجهين فكذلك إذا أشار إليه لا تشترط رؤيته.
وعلى هذا فتجوز شهادة الأعمى على من سمع صوته وعرفه وإن لم يعرف اسمه ونسبه ويؤديها عليه إذا سمع صوته (3) .
ويشهد بالاستفاضة ولو عن واحد تسكن نفسه إليه اختاره الجد (4) .
__________
(1) في الفروع زيادة «وما يتميز به» .
(2) وفي الفروع: «وإن عرفه يقينا بعينه أو صوته فوصفه للحاكم وشهد» فوجهان ونصه: يقبل، وقال شيخنا: وكذا إن تعذر رؤية العين المشهود لها أو عليها أو بها لموت أو غيبة إنصاف (12/ 62) .
(3) اختيارات (360، 361) ، ف (2/ 424) .
(4) اختيارات (355) ، ف (2/ 424) .(5/199)
وفي التعليق وغيره: الشهادة بالاستفاضة خبر لا شهادة وأنها تحصل بالنساء والعبيد، وقال شيخنا: هي نظير أصحاب المسائل عن الشهود على الخلاف (1) .
قال القاضي: لا تصح الشهادة بمجهول ولا لمجهول، قال أبو العباس: وفي هذا نظر؛ بل تصح الشهادة بالمجهول ويقضي له بالمتيقن، وللمجهول يصح في مواضع كثيرة، أما حيث يقع الحق مجهولاً فلا ريب فيها، كما لو شهد بالوصية بمجهول أو لمجهول، أو شهد باللقطة أو اللقيط، والمجهول نوعان: مبهم كأحد هذين، ومطلق كثوب وعبد، وكذلك في البيع والإجارة والصداق، كما قلنا في الواجب المخير والمطلق.
قال أبو العباس: وقد سئلت عن بينة شهدت بوقف سهم من دار معينة من دور، ثم تهدمت وصارت عرصة فلم تعرف عين تلك الدار التي فيها السهم ولا عدد الدور، فقلت: يحتمل أن يقرع قرعتين، قرعة لتعيين الدار، وقرعة لتعيين ذلك السهم وكذلك في كل حق اختلط بغيره وجهلنا القدر فيقرع للمقدر فيكتب رقاعًا بأسماء العدد ثم يخرج لعدد الحق الفلاني (2) .
وكذا تجوز الشهادة على المزارعة لمن لم ير جوازها لأن ذلك محل اجتهاد. وأما الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها فحرام (3) .
وقال الشيخ تقي الدين: ولا يعتبر في أداء الشهادة قوله: وأن
__________
(1) فروع (6/ 563) والإنصاف (12/ 13) .
(2) اختيارات (355) ، ف (2/ 424) .
(3) اختيارات (132) ، ف (2/ 424) .(5/200)
الدين باق في ذمة الغريم إلى الآن، بل يحكم الحاكم باستصحاب الحال إذا ثبت عنده سبق الحق إجماعا (1) .
فصل
ذكر القاضي أن الخلاف عند الأصحاب في الشهادة شهادة الصبيان على الجراح الموجبة للقصاص، فأما الشهادة بالمال فلا تقبل، قال الشيخ تقي الدين: وهذا عجيب من القاضي؛ فإن الصبيان لا قود عليهم، وإنما الشهادة بما يوجب المال، ذكره في القواعد الأصولية (الإنصاف 12/ 38) .
وقال شيخنا في الذمي إذا زنا بالمسلمة قتل، ولا يرفع عنه القتل الإسلام، ولا يشترط فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم بل يكفي استفاضة ذلك واشتهاره هذا نص كلامه (2) .
وإذا حضر الموت وليس عنده مسلم فله أن يشهد من حضره من أهل الذمة في الوصية ويحلفوا إذا شهدوا وهذا قول جمهور السلف وهو قول إمام الأئمة أحمد وأبي عبيد، وعليه يدل القرآن والسنة.
وهذا مبني على أصل وهو أن الشهادة عند الحاجة يجوز فيها مثل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال (3) .
قال شيخنا رحمه الله: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضع (4) وهو ضرورة يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا.
__________
(1) إنصاف (11/ 272) وتقدمت ف (2/ 424) .
(2) الطرق الحكمية (202) وتقدم ف (2/ 424) .
(3) مختصر الفتاوى (604) ، ف (2/ 425) .
(4) يعني في السفر إذا لم يوجد أحد من المسلمين انظر الطرق الحكمية (182) .(5/201)
قال الشيخ: ويؤيد هذا ما ذكره القاضي وغيره، محتجًا به وهو في الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد، أن رجلاً من المسلمين خرج فمر بقرية فمرض ومعه رجلان من المسلمين: فدفع إليهما ماله، ثم قال: ادعوا لي من أشهده على ما قبضتماه، فلم يجد أحدًا من المسلمين في تلك القرية فدعوا أناسًا من اليهود والنصارى فأشهدوهم على ما دفع إليهما وذكر القصة فانطلقوا إلى ابن مسعود فأمر اليهود والنصارى أن يحلفوا بالله لقد ترك من المال كذا وكذا، ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين ثم أمر أهل المتوفى أن يحلفوا أن شهادة اليهود والنصارى حق، فحلفوا فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهد به اليهودي والنصراني، وذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه (1) .
قال شيخنا رحمه الله: وهل تعتبر عدالة الكافرين في الشهادة بالوصية في دينهما؟ عموم كلام الأصحاب يقتضي أنها لا تعتبر، وإن كنا إذا قبلنا شهادة بعضهم على بعض اعتبرنا عدالتهم في دينهم (2) .
وشهادة الفاسق مردودة بنص القرآن واتفاق المسلمين، وقد يجيز بعضهم الأمثل فالأمثل، من الفساق عند الضرورة إذا لم يجد عدول ونحو ذلك، وأما قبول شهادة الفاسق فهذا لم يقله أحد من المسلمين (3) .
وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [282/2] يقتضي أنه يقبل في الشهادة على حقوق الآدميين من رضوه شهيدًا بينهم ولا ينظر إلى عدالته، كما يكون مقبولاً عليهم فيما ائتمنوه عليه.
وقوله تعالى: في آية الرجعة والوصية {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}
__________
(1) الطرق الحكمية (192) ، ف (2/ 425) .
(2) الطرق الحكمية (193) ، ف (2/ 425) .
(3) مختصر الفتاوى (604) ، ف (2/ 425) .(5/202)
[106/5] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [2/65] ولم يصف الرجلين نفسهما بأنهما عدل بل وصفهما بأنهما ذوا عدل أي صاحبا عدل.
والعدل في المقال هو الصدق والبيان الذي هو ضد الكذب والكتمان كما بينه تعالى في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [102/6] والعدل في كل زمان ومكان وفي كل طائفة بحسبها، فيكون الشهيد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدله على وجه آخر.
وبهذا يمكن الحكم بين الناس وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة ألا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كان الصحابة رضي الله عنهم لبطلت الشهادات كلها أو غالبها.
وقال أبو العباس في موضع آخر: إذا فسر الفاسق في الشهادة بالفاجر وبالمتهم فينبغي أن يفرق بين حال الضرورة وعدمها كما قلنا في الكفار.
وقال أبو العباس في موضع آخر: ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة مثل: الجند، وجفاة البدو، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل.
وله أصول، منها قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم، وشهادة بعضهم على بعض في قول وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وشهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه الرجال.
ويظهر ذلك بالمحتضر في السفر إذا حضره اثنان كافران واثنان مسلمان يصدقان وليس بملتزمين للحدود، أو اثنان مبتدعان، فهاذان خير من الكافرين.(5/203)
والشروط التي في القرآن إنما هي في تحمل الشهادة، لا في الأداء.
وينبغي أن نقول في الشهود ما نقول في المحدثين، وهو أنه من الشهود من تقبل شهادته في نوع دون نوع أو شخص دون شخص، كما أن في المحدثين كذلك.
ونبأ الفاسق ليس بمردود بل هو موجب للتبين والتثبت كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *} [6/49] وفي القراءة الأخرى: {فتثبتوا} فعلينا التبين والتثبت عند خبر الفاسق الواحد ولم نؤمر به عند خبر الفاسقين، وذلك أن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد، أما إذا علم أنهما لم يتواطئا فهذا قد يحصل به العلم.
وترد الشهادة بالكذبة الواحدة، وإن لم نقل هي كبيرة وهي رواية عن الإمام أحمد.
ومن شهد على إقرار كذب مع علمه بالحال أو تكرر منه النظر إلى الأجنبيات والقعود في مجالس تنتهك فيها المحرمات الشرعية قدح ذلك في عدالته (1) ولا يستريب أحد فيمن صلى محدثًا أو إلى غير القبلة، أو بعد الوقت أو بلا قراءة أنها كبيرة.
ويحرم اللعب بالشطرنج، وهو قول أحمد وغيره من العلماء، كما لو كان بعوض أو تضمن ترك واجب أو فعل محرم إجماعًا وهو شر من النرد وقاله مالك.
ومن ترك الجماعة فليس عدلاً، ولو قلنا هي سنة.
__________
(1) وعبارة الفروع: النظر إلى الأجنبيات والقعود له بلا حاجة شرعية قدح في عدالته.(5/204)
وتحرم محاكاة الناس على وجه السخرية المضحكة ويعزر فاعلها هو ومن يأمره بها، لأنه أذى.
ومن دخل قاعات البغايا، فتح على نفسه باب الشر وصار من أهل التهم عند الناس؛ لأنه اشتهر عمن اعتاد دخولها وقوعه في مقدمات الجماع المحرم أو فيه.
والعشرة المحرمة، والنفقة في غير الطاعة، وعلى كافل الأمرد منعه منها، ومن عشرة أهلها ولو لمجرد خوف وقوع الصغائر فقد بلغ عمر رضي الله عنه: أن رجلاً تجتمع إليه الأحداث فنهى عن الاجتماع به لمجرد الريبة.
وتقبل شهادة الكافر على المسلم في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيره، وهو مذهب أحمد، ولا تعتبر عدالتهم، وإن شاء لم يحلفهم بسبب حق الله.
ولو حكم حاكم بخلاف آية الوصية ينقض حكمه؛ فإنه إنما خالف نص الكتاب بتأويلات سمجة.
وقول أحمد: أقبل شهادة أهل الذمة إذا كانوا في سفر ليس فيه غيرهم هذه ضرورة.
يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة، حضرا، وسفرا، وصية، وغيرها وهو متجه.
كما تقبل شهادة النساء في الحدود إذا اجتمعن في العرس، أو الحمام ونص عليه أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه.
ونقل ابن صدقة في الرجل يوصي بأشياء لأقاربه ويعتق بعض عبيده ولا يحضره إلا النساء، هل تجوز شهادتهن؟ قال: نعم، تجوز شهادتهن في الحقوق.(5/205)
والصحيح قبول شهادة النساء في الرجعة فإن حضورهن عندها أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق في الديون.
وعن أحمد في شهادة الكفار في كل موضع ضرورة غير المنصوص عليه روايتان، لكن التحليف هنا لم يتعرضوا له فيمكن أن يقال: لا تحليف، لأنهم إنما يحلفون حيث تكون شهادتهم بدلا في التحمل، بخلاف ما إذا كانوا أصولاً قد علموا من غير تحمل.
وقال أبو العباس في موضع آخر: ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون لكان وجها، وتكون شهادتهم بدلا مطلقا.
وإذا قبلنا شهادة الكفارة في الوصية في السفر فلا يعتبر كونهم من أهل الكتاب وهو ظاهر القرآن.
وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، وهو رواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب في انتصاره ومذهب أبي حنيفة وجماعة من العلماء.
ولو قيل: إنهم يحلفون مع شهادة بعضهم على بعض كما يحلفون على شهادتهم على المسلمين، في وصية السفر لكان متوجهًا.
وشهادة الوصي على الميت مقبولة، قال في المغني: لا نعلم فيه خلافًا.
قال أبو العباس: إلا أن يقال: قد يستفيد بهذه الشهادة نوع ولاية في تسليم المال، ومثله شهادة المودع يقول: أودعنيها فلان، ومالكها فلان.
والواجب في العدو أو الصديق ونحوهما: أنه إن علم منهما العدالة الحقيقية قبلت شهادتهما وأما إن كانت عداوتهما ظاهرة مع إمكان أن يكون الباطن بخلافه لم تقبل، ويتوجه هذا في الأب ونحوه.(5/206)
وتقبل شهادة البدوي على القروي في الوصية في السفر، وهو أخص من قول من قبلها مطلقا، أو منع منها مطلقًا، وعلل القاضي وغيره منع شهادة البدوي على القروي بأن العادة أن القروي إنما يشهد على أهل القرية دون أهل البادية.
قال أبو العباس: فإذا كان البدوي قاطنًا مع المدعيين في القرية قبلت شهادته لزوال هذا المعنى، فيكون قولا آخر في المسألة مفصلاً.
وقال أبو العباس في قوم أجروا شيئًا: لا تقبل شهادة أحد منهم على المستأجر لأنهم وكلاء أو أولياء (1) .
ولا تشترط الحرية (2) في الشهادة، وهو رواية في مذهب أحمد.
وظاهر كلام أبي العباس: ولو في الحدود والقصاص، وهو مذهب أحمد.
والشهادة في مصرف الوقف مقبولة، وإن كان مستندها الاستفاضة في أصح القولين (3) .
ما لا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة والحيض ونحوه فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة.. قال الشيخ تقي الدين قال أصحابنا: والاثنتان أحوط من المرأة الواحدة (4) .
__________
(1) وعبارة الإنصاف قال الشيخ تقي الدين في قوم في ديوان أجروا شيئًا لا تقبل شهادة أحد منهم على مستأجره لأنهم وكلاء أو ولاة، قال: ولا شهادة ديوان الأموال السلطانية على الخصوم اهـ الإنصاف (12/ 73) .
(2) وفي الإنصاف (12/ 60) ولا تشترط لكن ليس عن تقي الدين، وآخر الكلام في الاختيارات يؤكد سقوط لام النفي.
(3) اختيارات (356-361) أكثرها ليس موجودا في المجموع وهي شاملة ف (2/ 425) .
(4) إنصاف (12/ 71) ، ف (2/ 425) .(5/207)
ونقل جماعة: من ترك الوتر ليس عدلاً، وقاله شيخنا في الجماعة على أنها سنة، لأنه يسمى ناقص الإيمان (1) .
ويعتبر أيضًا اجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة.. وهي ما فيه حد في الدنيا أو وعيد نص عليه، وعند شيخنا، أو غضب أو لعنة أو نفي الإيمان، قال: ولا يجوز أن يقع نفي الإيمان لأمر مستحب، بل لكمال واجب (2) .
ومن أتى فرعًا مختلفًا فيه يعتقد تحريمه ردت شهادته نص عليه وقيل: لا، كمتأول.
وفيه في الإرشاد: إلا أن يجيز ربا الفضل أو لا يرى الماء من الماء لتحريمهما الآن، وذكرهما شيخنا مما خالف النص من جنس ما ينقض فيه حكم الحاكم.
وقال الشيخ تقي الدين: اختلف الناس في دخول الفقهاء في أهل الأهواء فأدخلهم القاضي وغيره وأخرجهم ابن عقيل وغيره (3) .
وعنه: يفسق متأول لم يسكر من نبيذ، اختاره في الإرشاد والمبهج، قال الزركشي: وعلله ابن الزاغوني.. وفيه في الواضح روايتان واختلف فيه كلام الشيخ تقي الدين (4) .
ومن أخذ بالرخص فنصه: يفسق وذكره ابن عبد البر إجماعًا، وقال شيخنا كرهه العلماء (5) .
__________
(1) فروع (6/ 561) ، ف (2/ 425) .
(2) فروع (6/ 564) ، ف (2/ 425) .
(3) فروع (6/ 570) وإنصاف (12/ 50) ، ف (2/ 425) .
(4) إنصاف (12/ 49) ، ف (2/ 426) .
(5) فروع (6/ 571) والإنصاف (12/ 50) ، ف (2/ 426) .(5/208)
ومن قصد خروج الريح منه ليضحك الجماعة، فإنه يعزر على ذلك، وترد شهادته فقد ذكر العلماء أن هذا عمل قوم لوط، ومن لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله، وقد قال طائفة في قول تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [29/29] أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم، وينصبون مزالق يزلق بها المارة ونحو ذلك (1) .
"إن الذي يحدث ليضحك الناس ويل له ثم ويل له" والمصر على ذلك فاسق، مسلوب الولاية، مردود الشهادة (2) .
إذا مات الرجل وقد قال لأولاده: إنه طلق امرأته من مدة، واتفقوا مع بعض الشهود من أصحاب الميت فشهدوا بذلك وهم من أصحابه المباطنين له، وكانت المرأة مقيمة معه إلى أن توفي يخلو بها وهم يعلمون ذلك في العادة؛ فإن شهادتهم مرودة، لأن إقرارهم له على خلوتها بعد الطلاق يجرح عدالهم (3) .
قال ابن القيم رحمه الله في الحكم بالتواتر: وإن لم يكن المخبرون عدولا ولا مسلمين.
قال شيخنا: وهذا يقتضي أن القاضي إذا حصل له العلم بشهادة الشهود لم يحتج إلى تزكية (4) .
موانع الشهادة وعدد الشهود
ولو شهد أحد الغانمين بشيء من المغنم قبل القسمة فإن قلنا: ملكوه لم تقبل شهادته، كشهادة أحد الشريكين للآخر، وإن قلنا: لم
__________
(1) مختصر الفتاوى (605) ، ف (2/ 426) .
(2) مختصر الفتاوى (605) ، ف (2/ 426) .
(3) مختصر الفتاوى (607) ، ف (2/426) وتقدمت.
(4) الطرق الحكمية (200) ، ف (2/426) .(5/209)
تملك قبلت ذكره القاضي في خلافه، وقال الشيخ تقي الدين: وفي قبولها نظر وإن قلنا لم تملك، لأنها شهادة تجر نفعًا (1) .
الشهادة على الشهادة
وقال الشيخ تقي الدين: الفرع يقول: أشهد على فلان أنه يشهد له، أو أشهد على شهادة فلان بكذا، فإن ذكر لفظ المسترعي فقال: أشهد على فلان أنه قال: إني أشهد فهو أوضح، فالحاصل أن الشاهد بما سمع: تارة يؤدي اللفظ، وتارة يؤدي المعنى.
وقال أيضا: والفرع يقول: أشهد أن فلانًا يشهد، أو بأن فلانًا يشهد فهو أولى رتبة، والثانية: أشهد أنه يشهد أو بأن يشهد، والثالث: أشهد على شهادته (2) .
وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى أو بدله بلا نزاع وعنه: يغرمون كل المهر، وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله: يغرمون مهر المثل (3) .
لو شهد بعد الحكم بمناف للشهادة الأولى فكرجوعه وأولى، قاله الشيخ تقي الدين (4) .
نقل الشيخ أبو محمد في الكافي عن أبي الخطاب أن الشهود إذا بانوا بعد الحكم كافرين أو فاسقين وكان المحكوم به إتلافا فإن الضمان عليهم دون المزكين والحاكم قال: لأنهم فوتوا الحق على مستحقه.
__________
(1) إنصاف (12/ 76) ، ف (2/ 426) قلت: وتقدم بعض ما يتعلق بعدد الشهود وأصنافهم، وكذلك أن من موانع الشهادة شهادة الدلالين على المستأجر، وشهادة الوصي على الميت إن كان قد يستفيد بها، وشهادة العدو على عدوه.
(2) إنصاف (12/ 92) ، ف (2/ 426) .
(3) إنصاف (12/ 98) ، ف (2/ 426) .
(4) إنصاف (12/ 104) ، ف (2/ 426) .(5/210)
بشهادتهم الباطلة، قال أبو العباس: هذا ينبني على أن الشاهد الصادق إذا كان فاسقًا أو متهمًا بحيث لا يحل للحاكم الحكم بشهادته: هل يجوز له أداء الشهادة؟ إن جاز له أداء الشهادة بطل قول أبي الخطاب، وإن لم يجز كان متوجهًا لأن شهادتهم حينئذ فعل محرم، وإن كانوا صادقين كالقاذف الصادق.
وإذا جوزنا للفاسق أن يشهد جوزنا للمستحق أن يشهده عند الحاكم ويكتم فسقه، وإلا فلا.
وعلى هذا فلو امتنع الشاهد الصادق العدل أن يؤدي الشهادة إلا بجعل: هل يجوز إعطاؤه الجعل؟ إن لم نجعل ذلك فسقًا فعلى ما ذكرنا.
قال صاحب المحرر: وعنه لا ينتقض الحكم إذا كانا فاسقين، ويغرم الشاهدان المال، لأنهما سبب الحكم بشهادة ظاهرها الزور.
قال أبو العباس: وهذا يوافق قول أبي الخطاب، ولا فرق إلا في تسمية ضمانهما نقضًا وهذا لا أثر له، لكن أبو الخطاب يقوله في الفاسق وغير الفاسق على ما حكي عنه.
وهذه الرواية لا تتوجه على أصلنا إذا قلنا الجرح المطلق لا ينقض وكان جرح البينة مطلقًا، فإنه اجتهاد فلا ينقض به اجتهاد، ورواية عدم النقض أخذها القاضي من رواية الميموني عن أحمد في رجلين شهدا أنهما دفنا ههنا فلانا بالبصرة فقسم ميراثه، ثم إن الرجل جاء بعد وقد تلف ماله قد تبين للحاكم أنهما شهدا على زور أيضمنهما ماله؟ قال: وظاهر هذا أنه لم ينقض الحكم، لأنه لم يغرم الورثة قيمة ما أتلفوه من المال، بل أغرم الشاهدين ولو نقضه لأغرم الورثة.
قال: ويحتمل أنه أغرم الورثة ورجعوا بذلك على الشهود، لأنهم معذورون فيكون قوله: «يضمنهما» يعني: الورثة.(5/211)
قال أبو العباس: النقض في هذه الصورة لا خلاف فيه فإن تبين كذب الشاهد غير تبين فسقه.
فقول أحمد: إما أن يكون ضمانًا في الجملة كسائر المتسببين، أو يكون ضمان استقرار كما دلت عليه أكثر النصوص من أن المعذور لا ضمان عليه.
ولو زكوا الشهود ثم ظهر فسقهم ضمن المزكون.
وكذلك يجب في الولاية لو أراد الإمام أن يولي قاضيًا أو واليًا لا يعرفه فيسأل عنه فزكاه أقوام ووصفوه بما يصلح معه للولاية ثم رجعوا أو ظهر بطلان تزكيتهم، فينبغي أن يضمنوا ما أفسده الوالي والقاضي، وذلك لو أشاروا عليه وأمروا بولايته.
لكن الذي لا ريب في ضمانه هو من تعهد المعصية منه مثل الخيانة مثل من يعلم منه الخيانة أو العجز ويخبر عنه بخلاف ذلك، أو يأمر بولايته، أو يكون لا يعلم حاله ويزكيه أو يشير به.
فأما إن اعتقد صلاحه وأخطأ فهذا معذور، والسبب ليس محرمًا.
وعلى هذا فالمزكي للعامل من المقترض والمشتري والوكيل كذلك (1) .
وشاهد الزور إذا تاب بعد الحكم فيما لا يبطل برجوعه فهنا قد يتعلق به حق آدمي، ثم تارة يجيء إلى الإمام تائبًا فهذا بمنزلة قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة عليه، وتارة يتوب بعد ظهور تزويره فهنا لا ينبغي أن يسقط عنه التعزير.
__________
(1) اختيارات (346، 347) ، ف (2/ 446) .(5/212)
ومن شهد بعد الحكم شهادة تنافي شهادته الأولى فكرجوعه عن الشهادة الأولى وأولى.
وأفتى أبو العباس في شاهد قاس بكذا، وكتب خطه بالصحة فاستخرج الوكيل على حكمه، ثم قاس وكتب خطه بزيادة فغرم الوكيل الزيادة.
قال أبو العباس: يغرم الشاهد ما غرمه الوكيل من الزيادة بسببه، تعمد الكذب أو أخطأ كالرجوع، والله سبحانه وتعالى أعلم (1) .
باب اليمين في الدعاوي
قال أصحابنا: ومن تغليظ اليمين بالمكان: اليمين عند صخرة بيت المقدس.
وليس له أصل في كلام أحمد ولا غيره من الأئمة، بل السنة أن تغليظ اليمين فيها كتغليظها في سائر المساجد عن المنبر.
والتغليظ بالمكان والزمان واللفظ لا يستحب على قول أبي البركات ويستحب على قول أبي الخطاب مطلقًا.
وكلام أحمد في رواية الميموني يقتضي التغليظ مطلقًا من غير تعليق باجتهاد الإمام.
ولنا قول ثالث: يستحب إذا رآه الإمام مصلحة فينبغي أنه إذا امتنع منه الخصم صار ناكلاً.
ولا يحلف المدعي عليه بالطلاق وفاقًا (2) .
__________
(1) فروع (6/601) واختيارات (364) ، ف (2/ 426) .
(2) اختيارات (354) ، ف (2/ 427) .(5/213)
ومال الشيخ تقي الدين وصاحب النكت إلى وجوب التغليظ إذا رآه الحاكم وطلبه على ما يأتي في كلامهما (1) .
ونقل المجد من تعليق القاضي: تغليظ اليمين على المجوس بالله الذي بعث إدريس رسولاً، لأنهم يعتقدون أنه الذي جاء بالنجوم التي يعتقدون تعظيمها.
ويغلظ على الصابئ «بالله الذي خلق النار» ؛ لأنهم يعتقدون تعظيم النار.
قال الشيخ تقي الدين: هذا بالعكس، لأن المجوس تعظم النار، والصابئة تعظم النجوم (2) .
لو أبى من وجبت عليه اليمين التغليظ لم يصر ناكلا، قال الشيخ تقي الدين: قصة مروان مع زيد تدل على أن القاضي إذا رأى التغليظ فامتنع من الإجابة أدى ما أدعي به ولو لم يكن كذلك لم يكن في التغليظ زجر قط.
وقال الشيخ تقي الدين أيضا: متى قلنا هو مستحب، فينبغي إنه إذا امتنع منه الخصم يصير ناكلا (3) .
__________
(1) إنصاف (12/ 120) ، ف (2/ 427) .
(2) إنصاف (12/ 121) ، ف (2/ 427) .
(3) إنصاف (12/ 122) ، ف (2/ 427) .(5/214)
كتاب الإقرار
والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع، وإن أخبر بما على غيره لغيره، فإن كان مؤتمنًا عليه فهو مخبر، وإلا فهو شاهد
فالقاضي والوكيل والمكاتب والوصي والمأذون له كل هؤلاء ما أدوه فهم مؤتمنون فيه، فإخبارهم بعد العزل ليس إقرارًا، وإنما هو خبر محض (1) .
وإن قال: أنا مقر، أو خذها، أو اتزنها، أو اقبضها، أو أحرزها، أو هي صحاح -فعلى وجهين:
أحدهما: يكون مقرًا، واختاره الشيخ تقي الدين (2) .
ولا يجب عند أحد من العلماء أن يكتب في الوثائق أنه قادر مليء ولا يجوز أن يكتب ذلك إلا إذا علم أنه مقر به.
ولا يجوز تلقين الإقرار لمن لا يعلم أنه صادق فيه، ولا الشهادة عليه إلا إذا علم أنه كاذب في ذلك، كالعقود المحرمة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لعن آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه" ومن أقر بمثل هذا الكذب وشهد على الإقرار به أو لقنه أن يقول إنه مليء بالحق وهو غير مليء به بل لقنه ذلك مع علمه عاقبه ذلك من غضب الله فهو متبع هواه (3) .
__________
(1) اختيارات (364) ، ف (2/ 427) .
(2) إنصاف (12/ 16) ، ف (2/ 427) .
(3) مختصر الفتاوى (603) ، ف (2/427) .(5/215)
وإذا خلف رجل مالاً بينه وبين آخر فأنكر الورثة حتى أبرأ وأخذوا منه بعض شيء لم يصح إبراؤهم، لأنهم مكرهون، وكذلك إذا قال: ما لكم عندي، غير كذا فأبرؤه، ثم ظهر أن لهم عنده غير ما أقر لهم به فلا يصح إبراؤهم من الزائد الذي كتمه (1) .
وإذا كان الإنسان ببلد سلطان ظالم أو قطاع طريق ونحوهم من الظلمة، فخاف أن يؤخذ ماله أو المال الذي يتركه لورثته أو المال الذي بيده للناس إما بحجة أنه ميت لا وارث له أو بحجة أنه مال غائب أو بلا حجة أصلاً، فيجوز له الإقرار بما يدفع عنه هذا الظلم ويحفظ هذا المال لصاحبه، مثل أن يقر لحاضر: أنه ابنه أو يقر أن له عليه كذا وكذا، أو يقر أن المال الذي بيده لفلان ويتأول في إقراره بأنه يعني بقوله: "ابني" كونه صغيرًا، أو بقوله: "أخي" أخوة الإسلام، وأن المال الذي بيده له، أي لأنه قبضه لكوني قد وكلته في إيصاله إلى مستحقه، لكن يشترط أن يكون المقر له أمينًا.
والاحتياط أن يشهد على المقر له أيضا: أن هذا الإقرار تلجئه، تفسيره كذا وكذا (2) .
وإن أقر لبهيمة لم يصح، وقيل: يصح كقولهم بسببها ويكون لمالكها فيعتبر تصديقه.
قال الشيخ تقي الدين عن هذا القول: هذا الذي ذكره القاضي في ضمن مسألة الحمل (3) .
وإن أقر من عليه ولاء بنسب وارث لم يقبل إقراره إلا أن يصدقه
__________
(1) مختصر الفتاوى (608) ، ف (2/ 427) .
(2) اختيارات (364،/ 365) ، ف (2/ 427) .
(3) إنصاف (12/ 145) ، ف (2/ 427) .(5/216)
مولاه، وخرج في المحرر وغيره يقبل إقراره، واختاره الشيخ تقي الدين (1) .
وإن أقر من شك في بلوغه وذكر أنه لم يبلغ فالقول قوله بلا يمين، قطع به في المغني والمحرر لعدم تكليفه.
ويتوجه أن يجب عليه اليمين؛ لأنه إن كان لم يبلغ لم يضره، وإن كان قد بلغ حجر عليه فأقر بالحق، فقد نص أحمد في رواية ابن منصور إذا قال البائع: بعتك قبل أن تبلغ، وقال المشتري بعد بلوغك أن القول قول المشتري: وهكذا يجيء في الإقرار وسائر التصرفات التي يشك فيها هل وقعت قبل البلوغ أو بعده؟ لأن الأصل في العقود الصحة، فإما إن يقال: هذا عام، وإما أن يفرق بين أن يتيقن أنه وقت التصرف كان مشكوكًا فيه غير محكومة يبلوغه أو لا يتيقن، فإنا مع تيقن الشك قد تيقنا صدور التصرف ممن لم تثبت أهليته، والأصل عدمها، فقد شككنا في شرط الصحة، وذلك مانع من الصحة.
وأما في الحالة الأخرى، فإنه يجوز صدوره في حال الأهلية وحال عدمها والظاهر صدوره وقت الأهلية، والأصل عدمه قبل وقتها فالأهلية هنا متيقن وجودها.
ثم ذكر أبو العباس: أن من لم يقر بالبلوغ حتى تعلق به حق مثل إسلامه بإسلام أبيه أو ثبوت الذمة له تبعًا لأبيه أو بعد تصرف الولي له أو تزويج ولي أبعد منه لموليته- فهل يقبل منه دعوى البلوغ حينئذ، أم لا؟ لثبوت هذه الأحكام المتعلقة به في الظاهر قبل دعواه.
وأشار أبو العباس إلى تخريج المسألة على الوجهين فيما إذا راجع الرجعية زوجها، فقالت: قد انقضت عدتي.
وشبيه أيضا بما إذا ادعى المجهول المحكوم بإسلامه ظاهرًا كاللقيط
__________
(1) إنصاف (12/ 150، 151) ، ف (2/ 427) .(5/217)
الكفر بعد البلوغ فإنه لا يسمع منه على الصحيح، وكذلك لو تصرف المحكوم بحريته ظاهرًا كاللقيط ثم ادعى الرق ففي قبول قوله خلاف معروف (1) .
وإذا أقر المريض مرض الموت المخوف لوارث فيحتمل أن يجعل إقراره لوارث كالشهادة فترد في حق من ترد شهادته له كالأب، بخلاف من لا ترد.
ثم هذا هل يحلف المقر له معه كالشاهد؟ وهل تعتبر عدالة المقر؟ ثلاث احتمالات.
ويحتمل أن يفرق مطلقًا بين العدل وغيره؛ فإن العدل معه من الدين ما يمنعه من الكذب ونحوه في براءة ذمته، بخلاف الفاجر.
ولو حلف المقر له مع هذا تأكد؛ فإن في قبول الإقرار مطلقا فساد عظيم، كذلك في رده أيضًا.
ويتوجه فيمن أقر في حق الغير وهو غير متهم كإقرار العبد بجناية الخطأ وإقرار القاتل بجناية الخطأ إذ يجعل المقر كشاهد، ويحلف معه المدعي فيما ثبت بشاهد آخر، كما قلنا في إقرار بعض الورثة بالنسب هذا القياس والاستحسان.
وإقرار العبد لسيده (2) ينبني على ثبوت مال السيد في ذمة العبد ابتداء ودوامًا، وفيه ثلاثة أوجه في الصداق.
وإقرار سيده له ينبني على أن العبد إذا قيل: يملك هل يثبت له دين على سيده؟ قال في الكافي: وإن أقر العبد بنكاح أو قصاص أو تعزير قذف صح (3) وإن كذبه الولي.
__________
(1) اختيارات (365) ، ف (2/ 427) .
(2) في الإنصاف زيادة: لم يصح على المذهب (12/ 114) .
(3) وفي الإنصاف (12/ 145) صح الإقرار وإن كذبه السيد.(5/218)
قال أبو العباس: وهذا في النكاح فيه نظر؛ فإن العبد لا يصح نكاحه بدون إذن سيده لأن في ثبوت نكاح العبد ضررا عليه فلا يقبل إلا بتصديق السيد.
قال الأصحاب: وإن أقر لعبد غيره بمال صح وكان لسيده.
قال أبو العباس: وإذا قلنا يصح قبول الهبة والوصية بدون إذن السيد لم يفتقر الإقرار إلى تصديق السيد.
وقد يقال: بل (1) وإن لم نقل بذلك لجواز أن يكون قد يملك مباحا فأقر بعينه أو تلفه وتضمن قيمته (2) ، (3) .
وإذا حجر الولي على المأذون له فأقر بعد الحجر. قال القاضي وغيره: لا يقبل.
وقياس المذهب صحة إقراره مطلقا، كالحاكم والوكيل والوصي بعد العزل، لأن الحجر عندنا يتبعض (4) .
فصل
ولا تقبل الدعوى بما يناقض إقراره، إلا أن يذكر شبهة تجري بها العادة.
وإذا أنكر زوجية امرأته قدام الحاكم فلما أبرأته الزوجة بعد ذلك اعترف بالزوجية وطلق على مائتي درهم لم يبطل حقها بل هو باق في ذمته لها أخذه منه (5) .
__________
(1) في الإنصاف قال: وقد يقال: بلى.
(2) وفي الإنصاف وضمن قيمته.
(3) اختيارات (367) ، ف (2/ 427) .
(4) اختيارات (367) ، ف (2/ 427) .
(5) مختصر الفتاوى (608) ، ف (2/ 428) .(5/219)
ومتى ثبت نسب المقر له من المقر ثم رجع المقر وصدقه المقر له فهل يقبل رجوعه؟ فيه وجهان حكاهما في الكافي.
وقال أبو العباس: إن جعل النسب فيه حقًّا لله تعالى فهو كالحرية وإن جعل حق آدمي فهو كالمال.
والأشبه أنه حق آدمي كالولاء.
ثم إذا قبل: الرجوع عنه لحق الأقارب الثابت من المحرمية ونحوها هل يزول؟ وكذلك لو تراضيا عن التصادق على النكاح فالمصاهرة الثابتة هل تزول أو تكون كالإقرار بالرق؟ تردد نظر أبي العباس في ذلك.
فأما إن ادعى نسبًا ولم يثبت لعدم تصديق المقر له، أو قال: أنا فلان ابن فلان، وانتسب إلى غير أب معروف، وقال: لا أب لي، أو لا نسب لي، ثم ادعى بعد هذا نسبًا آخر، أو ادعى أنه له أبا فقد ذكر الأصحاب في باب ما علق من النسب أن الأب إذا اعترف بالابن بعد نفيه قبل منه فكذلك غيره لأن هذا النفي والإقرار بمحل ومنكر لم يثبت به نسب، فيكون إقراره بعد ذلك مقبولاً، كما قلنا فيما إذا أقر بمال لمكذب إذا لم يجعله لبيت المال فإنه إذا ادعى المقر بعد هذا أنه ملكه قبل منه، وإن كان المقر به أرق نفسه فهو كغيره بناء على أن الإقرار المكذوب وجوده كعدمه.
وهناك على الوجه الآخر يجعله بمنزلة المال الضائع أو المجهول فيحكم بالحرية لحريته وبالمال ليثبت المال.
وهنا يكون بمنزلة مجهول النسب فيقبل به الإقرار ثابتا.
وسر المسألة: أن الرجوع عن الدعوى مقبول، والرجوع عن الإقرار غير مقبول.
والإقرار الذي لم يتعلق به حق لله ولا حق لآدمي هو من باب(5/220)
الدعاوي فيصح الرجوع عنه، ومن أقر بطفل له أم فجاءت أمه بعد موت المقر تدعي زوجته فالأشبه بكلام أحمد ثبوت الزوجية، فهنا حمل على الصحة وخالف الأصحاب في ذلك.
ومن أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر وقال: ما قبضت، وسأل إحلاف خصمه فله ذلك في أصح قولي العلماء.
ولا يشترط في صحة الإقرار كون المقر به بيد المقر.
والإقرار قد يكون بمعنى الإنشاء كقوله تعالى: {قَالُوا أَقْرَرْنَا} [81/3] ولو أقر به وأراد إنشاء تمليكه صح.
ومن أنكر زوجية امرأة فأبرأته ثم أقر بها كان أو عليه ولاء بنسب له طلبه بحقها.
ومن أقر وهو مجهول النسب لوارث حي أخ أو عم فصدقه المقر له وأمكن قبل، صدقه الولي أو لا، وهو قول أبي حنيفة وذكره الجد تخريجا.
وكل صلة كلام معتبرة له للاستثناء، وغير المتقارب فيها متواصل، والإقرار مع استدراك متواصل وهو أحد القولين.
ولو قال في الطلاق أنه سبق لسانه لكان كذلك، ويحتمل أن يقبل الإضراب المتصل (1) .
وإن قال: غصبت هذا المال من زيد لا بل من عمرو لزمه دفعه إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو، وقيل: لا يغرم قيمته لعمرو، وقيل: لا بإقرار مع استدراك متصل واختاره الشيخ تقي الدين (2) .
__________
(1) اختيارات (367-369) ، ف (2/ 427) .
(2) إنصاف (12/ 197) ، ف (2/ 428) .(5/221)
ومن أقر بملك ثم ادعى شراءه قبل إقراره لا يقبل ما يناقض إقراره إلا مع شبهة معتادة (1) .
وإن قال: قفيز حنطة بل قال قفيز شعير أو درهم بل دينار لزماه معًا، وقيل: يلزمه شعير والدينار فقط، قال في النكت: ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين قبول قوله في الإضراب مع الاتصال (2) .
ولو أبان زوجته في مرضه فأقر وارث شافعي أنه وارثه وأقبضها وأبرأها مع علمه بالخلاف لم يكن له دعوى ما يناقضه ولا يسوغ الحكم له.
وقياس المذهب فيما إذا قال: أنا مقر في جواب الدعوى أن يكون مقرا بالمدعي به لأن المفعول ما في الدعوى، كما قلنا في قوله: «قبلت» أن القبول ينصرف إلى الإيجاب لا إلى شيء آخر وهو وجه في المذهب.
وأما إذا قال: لا أنكر ما تدعيه فبين الإنكار والإقرار مرتبة، وهي السكوت.
ولو قال الرجل: أنا لا أكذب فلانا لم يكن مصدقًا له، فالمتوجه أنه مجرد نفي للإنكار إن لم ينضم إليه قرينة بأن يكون المدعي مما يعلمه المطلوب وقد ادعى عليه علمه وإلا لم يكن إقرارًا.
حكى صاحب الكافي عن القاضي أنه قال فيما إذا قال المدعي: لي عليك ألف، فقال المدعي عليه: قضيتك منها مائة، أنه ليس بإقرار، لأن المائة قد رفعها بقوله والباقي لم يقر به. وقوله: «منها» يحتمل ما يدعيه.
قال أبو العباس: هذا يخرج على أحد الوجهين في «أبرأتها» .
__________
(1) اختيارات (369) ، ف (2/ 428) .
(2) إنصاف (12/ 230) ، ف (2/ 428) .(5/222)
و «أخذتها» و «قبضتها» أنه مقر بباقي الألف؛ لأن الهاء ترجع إلى المذكور، ويتخرج أن يكون مقرًا بالمائة على رواية في قوله: «كان له علي وقضيته» .
ثم هل يكون مقرا بها وحدها أو بالجميع؟ على ما تقدم.
والصواب في الإقرار المعلق بشرط: أن نفس الإقرار لا يتعلق، وإنما يتعلق المقر به، لأن المقر به قد يكون معلقا بسبب قد يوجبه، أو يوجب أداءه دليل يظهره.
فالأول كما لو قال مقر: إذا قدم زيد فعلي لفلان ألف، صح، وكذلك إن قال: إن رد عبده الآبق فله ألف ثم أقر بها فقال: إن رد عبده الآبق فله ألف صح.
وكذلك الإقرار بعوض الخلع لو قالت: إن طلقني أو عفا عني فله عندي ألف وأما التعليق بالشهادة فقد يشبه التحكيم.
ولو قال: إن حكمت علي بكذا التزمته. . لزمه عندنا فلذلك قد يرضى بشهادته وهو في الحقيقة التزام، وتزكية للشاهد، ورضى بشهادة واحد.
وإذا أقر العامي بمضمون محض وادعى عدم العلم بدلالة اللفظ ومثله يجهله قبل منه على المذهب.
وإذا أقر لغيره بعين له فيها حق لا يثبت إلا برضا المالك، كالرهن والإجارة ولا بينة، قال الأصحاب: لم يقبل ويتوجه أن يكون القول قوله؛ لأن الإقرار ما تضمن ما يوجب تسليم العين أو المنفعة فما أقر بما يوجب التسليم كما في قوله: «كان له علي ألف وقضيته» ، ولأنا نجوز مثل هذا الاستثناء في الإنشاءات في البيع ونحوه فكذلك في الإقرارات. والقرآن يدل على ذلك في آية الدين، وكذا لو أقر بفعل فعله وادعى إذن المالك.(5/223)
والاستثناء يمنع دخول المستثني في اللفظ، لا أنه يخرجه بعدما دخل في الأصح.
قال القاضي: ظاهر كلام أحمد جواز استثناء النصف لأن أبا منصور روى عن أحمد أنه إذا قال: كان لك عندي مائة دينار فقضيتك منها خمسين وليس بينهما بينة فالقول قوله.
قال أبو العباس: ليس هذا من الاستثناء المختلف فيه، فإن قوله: قضيتك ستين مثل خمسين، قال أبو حنيفة إذا قال: له علي كذا وكذا درهما لزمه أحد عشر درهما وإن قال: كذا وكذا درهما لزمه إحدى وعشرون.
وإن قال: كذا درهم لزمه عشرون.
وما قاله أبو حنيفة أقرب مما قاله أصحابنا؛ فإن أصحابنا بنوه على أن كذا وكذا تأكيد وهو خلاف الظاهر المعروف، وأن الدرهم مثل الترجمة لهما، وهذا يقتضي الرفع إلى النصب، ثم هو خلاف لغة العرب.
وأيضا: لو أراد درهما لما كان في قوله "درهما" فائدة؛ بل يكفيه أن يقول كذا درهما لما كان (1) في أراد درهما.
وأيضا (2) لو لغة العرب هو خلاف لا النصب ثم يقتضي الرفع لهما وهذا مثل الترجمة وأن الدرهم المعروف الظاهر أن يقول: درهم (3) .
ويصح استثناء ما دون النصف ... وظاهر كلامه في المستوعب أنه كالاستثناء في اليمين على ما تقدم في كتاب الأيمان وذكر الشيخ تقي
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) هكذا في الأصل.
(3) اختيارات (369-371) ، ف (2/ 428) .(5/224)
الدين قال مثله كل صلة كلام مغير له، واختار أن المتقارب متواصل (1) .
وإن قال: له علي اثنا عشر درهما ودينار، فإن رفع الدينار فواحد، واثني عشر إن رضيه نحوي فمعناه الاثنا عشر دراهم ودنانير، وذكره الشيخ في فتاويه (2) .
ومنها لو قال: غصبت منه ثوبا في منديل أو زيتا في زق ونحوه ففيه الوجهان المتقدمان.
قال في النكت: ومن العجب حكاية بعض المتأخرين أنهما يلزمانه وأنه محل وفاق، واختار الشيخ تقي الدين التفرقة بين المسألتين فإنه قال فرق بين أن يقول: غصبته أو أخذت منه ثوبا في منديل؛ وبين أن يقول له عندي ثوب في منديل، فإن الأول يقتضي أن يكون موصوفا بكونه في المنديل وقت الأخذ، وهذا لا يكون إلا وكلاهما مغصوب؛ بخلاف قوله: له عندي، فإنه يقتضي أن يكون فيه وقت الإقرار، وهذا لا يوجب كونه له اهـ (3) .
وإن أقر أنه وهب وأقبض أو رهن وأقبض أو أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر القبض فقط ولا بينة، فعنه له تحليفه، واختاره جماعة ... واختاره الشيخ تقي الدين والشيخ الموفق (4) .
وإذا قال له علي من درهم إلى عشرة أو ما بين الدرهم إلى العشرة فهذا له أوجه.
أحدها: يلزمه تسعة، وثانيها، عشرة، وثالثها ثمانية.
__________
(1) إنصاف (12/ 171) وفي الاختيارات وفي كل صلة كلام معتبرة له للاستثناء وغير المتقارب فيها متواصل قلت: وما في الإنصاف أصح، ف (2/ 428) .
(2) فروع (6/ 639) ، ف (2/ 428) .
(3) إنصاف (12/ 236) واختيارات (371) ، ف (2/ 428) .
(4) تصحيح الفروع (6/ 632) وإنصاف (12/ 195) ، ف (2/428) .(5/225)
والذي ينبغي (1) أن يجمع بين الطرفين من الأعداد، فإذا قال: من واحد إلى عشرة لزمه خمسة وخمسون إن أدخلنا الطرفين وخمسة وأربعون إن أدخلنا المبتدأ فقط، وأربعة وأربعون إن أخرجناهما.
ويعتبر في الكلام عرف المتكلم، فيحمل مطلق كلامه على أقل محتملاته (2) والله سبحانه وتعلم أعلم (3) .
وإن قال: من درهم إلى عشرة، لزمه تسعة ويحتمل أن يلزمه عشرة، وذكر الشيخ تقي الدين أن قياس هذا القول يلزمه أحد عشر؛ لأنه واحد وعشرة والعطف يقتضي التغاير (4) .
لو قال: له عندي ما بين عشرة إلى عشرين لزمه تسعة عشر على القول الأول، وعشرون على القول الثاني، قال في المحرر ومن تبعه: وقياس الثالث يلزمه تسعة، وقال الشيخ تقي الدين: قياس الثاني أن يلزمه ثلاثون بناء على أنه يلزمه في المسألة الأولى أحد عشر (5) .
لو قال: له علي ما بين كر شعيرا، إلى كر حنطة، لزمه كر شعير وكر حنطة إلا قفيز شعير على قياس المسألة التي قبلها، قال في المستوعب قال القاضي في الجامع: هو مبني على ما تقدم إن قلنا لزمه هناك عشرة لزمه هنا كران، وإن قلنا: يلزمه تسعة، لزمه كر حنطة وكر شعير إلا قفيزا شعيرا، وقال في التلخيص قال أصحابنا: يتخرج على الروايتين إن قلنا يلزمه عشرة لزمه الكران، وإن قلنا: يلزمه تسعة لزمه كران إلا قفيز شعير اهـ.
__________
(1) وفي الإنصاف زيادة في هذه المسائل.
(2) وفي الإنصاف على أقل احتمالاته.
(3) اختيارات (371) وفروع (6/ 636) ، ف (2/ 428) .
(4) إنصاف (12/ 221) ، ف (2/ 428) .
(5) إنصاف (12/ 221) ، ف (2/ 428) .(5/226)
وقال في الرعاية: لزمه كران، وقيل: إلا قفيز شعير، إن قلنا يلزمه تسعة.
وقال الشيخ تقي الدين: الذي قدمه في الرعاية هو قياس الثاني في الأولى، وكذلك هو عند القاضي، ثم قال: هذا اللفظ ليس بمعهود، فإنه إن قال: له علي ما بين كر حنطة وكر شعير فالواجب تفاوت ما بين قيمتهما وهو قياس الوجه الثالث، واختيار أبي محمد اهـ (1) .
والواجب أن يفرق بين الشيئين اللذين يتصل أحدهما بالآخر عادة كالقراب في السيف والخاتم في الفص، لأن ذلك إقرار بهما، وكذلك الزيت في الزق والتمر في الجراب.
ولو قال غصبته ثوبا في منديل أو أخذت منه ثوبا في منديل كان إقرار بهما لا، له عندي ثوب في منديل فإنه إقرار بالثوب خاصة وهو قول أبي حنيفة (2) .
علوم (3)
وينبغي أن يخفض صوته عند المعلم قال الشيخ تقي الدين: من رفع صوته على غيره علم كل عاقل أنه قلة احترام له انتهى كلامه (4) .
الاشتقاق
وقلت يوما لشيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه: قال ابن جنين: مكثت برهة إذ ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه
__________
(1) إنصاف (12/ 224، 225) ، ف (2/ 428) .
(2) اختيارات (371) ، ف (2/ 428) .
(3) انظر الجزء الأول في العلم وأقسامه والواجب منه.
(4) الآداب (2/23) ، ف (2/ 453) .(5/227)
وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه، ثم أكشفه فإذا هو كما ظننته أو قريبا منه، فقال لي رحمه الله: وهذا كثير ما يقع لي (1) .
ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى، والفتحة خفيفة للمعنى الخفيف، والمتوسطة للمتوسط، فيقولون: عز يعز بفتح العين إذا صلب.
وأرض عزاز صلبة ويقولون: عز يعز بكسرها إذا امتنع، والممتنع فوق الصلب، فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره، ثم يقولون: عزه يعزه، إذا غلبه، قال الله تعالى في قصة داود {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [23/38] والغلبة أقوى من الامتناع إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه متحصنا عن عدوه ولا يغلب غيره، فالغالب أقوى من الممتنع، فأعطوه أقوى الحركات، والصلب أضعف من الممتنع فاعطوه أضعف الحركات والممتنع المتوسط بين المرتبين فأعطوه حركة الوسط (2) .
علم النفس
قال ابن القيم رحمه الله في أقسام النفوس وطبائعها وانقسام الناس بالنسبة إليها، وسألت يوما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والأشغال بتنقية الطريق وبتنظيفها.
فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس وهو جب القذر كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئا ظهر غيره.
__________
(1) بدائع الفوائد (2/ 95) ، ف (2/ 453) .
(2) جلاء الأفهام (74، 75) ، ف (2/ 474) .(5/228)
فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السير قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك.
فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا وأثنى على قائله (1) .
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف في السمع والبصر: أيهما أشرف؟
قال شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه ونور ضريحه: وفصل الخطاب إن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما بما اختص به تم كلامه (2) .
وقال المعتصم يوما لبعض أصحابه، يا فلان، إذا نصر الهوى ذهب الرأي.
وسمعت رجلا يقول لشيخنا: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد، أو قال: نسيه فقال الشيخ: هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم (3) .
أعلام
أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي المتوفى 481 هـ.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: علمه خير من عمله (4) .
__________
(1) مدارج (2/ 313، 314) ، ف (2/ 479) .
(2) بدائع (1/ 72) ، ف (2/ 480) ج (1/ 29) .
(3) روضة المحبين (480) ، ف (2/ 482) ، ف (1/ 286) .
(4) مدارج (3/ 394) ، ف (2/ 494) .(5/229)
مؤلفات:
الرد على الجهمية للإمام أحمد
قال الخلال كتبت هذا الكتاب من خط عبد الله وكتبه عبد الله من خط أبيه، واحتج القاضي أبو يعلى في كتابه إبطال التأويل، بما نقله منه عن أحمد، وذكر ابن عقيل في كتابه بعض ما فيه عن أحمد، ونقله عن أصحابه قديما وحديثا، ونقل منهم البيهقي وعزاه إلى أحمد، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية عن أحمد.
كتاب الرد على الجهمية والنقض على بشر المريسي.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جداً.
وانتهيت من تبييضه في شهر ربيع الثاني من عام ألف وأربعمائة وسبعة عشرة هجرية وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم(5/230)
المراجع
1- مختصر الفتاوى المصرية مطبعة أنصار السنة المحمدية 1368هـ.
2- الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية 1369 هـ.
3- الفروع لأبي عبد الله محمد بن مفلح ت 763 ومعه تصحيح الفروع للشيخ علاء الدين أبي الحسين علي بن سليمان المرداوي ت 885 ستة مجلدات عالم الكتب.
4- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف تأليف.. علي بن سليمان المرداوي بتصحيح وتحقيق محمد حامد الفقي عدد المجلدات اثنا عشر الطبعة الأولى عام 1376.
5- المسودة في أصول الفقه: تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد (دار الكتب العربي، بيروت) .
6- الآداب الشرعية والمنح المرعية، تأليف شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي مكتبة التقدم عام 1348 هـ.(5/231)
مؤلفات ابن القيم:
1- إعلام الموقعين تأليف العالم العلامة المحقق المدقق أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت (751) بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (ط 1407 هـ مكتبة الكليات الأزهرية) .
2- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: بتحقيق وتصحيح محمد حامد الفقي دار المعرفة بيروت جزآن.
3- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام (دار الطباعة المحمدية بالأزهر 1392) هـ.
4- الكلام على مسألة السماع: تحقيق ودراسة الدكتور راشد بن عبد العزيز الحمد دار العاصمة بالرياض 1409 هـ.
5- زاد المعاد في هدي خير العباد: (ط دار الفكر بيروت 1392هـ) أربعة أجزاء.
6- الوابل الصيب تحقيق وتعليق الشيخ إسماعيل الإنصاري (مطابع النصر الحديثة بالرياض) .
7- مدارج السالكين (مطبعة السنة المحمدية 1375هـ ثلاث مجلدات) .
8- تهذيب سنن أبي داود بتحقيق محمد حامد الفقي وأحمد محمد شاكر مطبعة السنة المحمدية.
9- إعلام الموقعين: بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد شركة الطباعة الفنية المتحدة بيروت أربعة أجزاء.
10- الروح مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح دار الكتب العلمية بيروت.
11- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة جزآن المطبعة السلفية بمكة 1349 هـ.(5/232)
12- مفتاح دار السعادة جزآن (مكتبة الرياض الحديثة) .
13- الجواب الكافي: (دار الكتب العلمية بيروت) .
14- التبيان في أقسام القرآن (دار الطباعة المحمدية بالأزهر (1368 هـ)) .
15- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
16- أحكام أهل الذمة بتحقيق وتعليق الدكتور صبحي الصالح دار العلم للملايين بيروت جزآن.
17- بدائع الفوائد (إدارة الطباعة المنيرية) أربعة أجزاء.
18- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية (دار الكتب العلمية بيروت) .
19- إغاثة اللفهان في حكم طلاق الغضبان (المكتب الإسلامي بيروت) .
20- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية بتحقيق محمد حامد الفقي 1372 هـ.
21- الرسالة التبوكية (مطبعة المدني 1376) هـ.
22- الفوائد (دار مصر للطباعة) .
23- عدة الصابرين.
24- تحفة الودود بأحكام المولود (دار الكتاب العربي- بيروت) .
25- طريق الهجرتين (دار الكتاب العربي- بيروت) .
26- شفاء العليل (دار التراث بالقاهرة) .
27- الفروسية تحقيق محمد نظام الدين الفتيح (مكتبة التراث) .
وبقية المراجع وهي قليلة ذكرت في الأصل عند نهايتها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(5/233)