الذي يختار لهم وفي أثر إسرائيلي: أن موسى: سأل ربه عما فيه رضاه فأوحى الله إليه: إن رضاه في كرهك وأنت لا تصبر على ما تكره فقال: يا رب دلنى عليه فقال: إن رضاه في رضاك بقضائي وفي أثر آخر: أن موسى عليه السلام قال: يا رب أي خلقك أحب إليك فقال: من إذا أخذت منه محبوبه سالمني قال: فأي خلقك أنت عليه ساخط قال: من استخارني في أمر فإذا قضيته له سخط قضائي
وفي أثر آخر: أنا الله لا إله إلا أنا قدرت التقادير ودبرت التدابير وأحكمت الصنع فمن رضي فله الرضى مني حتى يلقانى ومن سخط فله السخط حتى يلقاني الثاني والخمسون: أن أفضل الأحوال: الرغبة في الله ولوازمها وذلك لا يتم إلا باليقين والرضى عن الله ولهذا قال سهل: حظ الخلق من اليقين على قدر حظهم من الرضى وحظهم من الرضى على قدر رغبتهم فى الله الثالث والخمسون: أن الرضى يخلصه من عيب ما لم يعبه الله ومن ذم ما لم يذمه الله فإن العبد إذا لم يرض بالشيء عابه بأنواع المعايب وذمه بأنواع المذام وذلك منه قلة حياء من الله وذم لما ليس له ذنب وعيب لخلقه وذلك يسقط العبد من عين ربه ولو أن رجلا صنع لك طعاما وقدمه إليك فعبته وذممته(2/222)
لكنت متعرضا لمقته وإهانته ومستدعيا منه: أن يقطع ذلك عنك وقد قال بعض العارفين: إن ذم المصنوع وعيبه إذا لم يذمه صانعه غيبة له وقدح فيه الرابع والخمسون: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله الرضى بالقضاء كما في المسند والسنن: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: سأله الرضى بعد القضاء لأنه حينئذ تبين حقيقة الرضى وأما الرضى قبله: فإنما هو عزم على أنه يرضى إذا أصابه وإنما يتحقق الرضى بعده قال البيهقي وروينا في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أسألك الصحة والعفة والأمانة وحسن الخلق والرضى بالقدر الخامس والخمسون: أن الرضى بالقدر يخلص العبد من أن يرضي الناس بسخط الله وأن يذمهم على ما لم يؤته الله وأن يحمدهم على ما هو عين فضل الله فيكون ظالما لهم في الأول وهو رضاهم وذمهم مشركا بهم فى الثانى وهو حمدهم فإذا رضي بالقضاء تخلص من ذمهم وحمدهم فخلصه الرضى من ذلك كله وقد روى عمرو بن قيس الملائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من ضعف اليقين: أن ترضي الناس بسخط الله وأن تحمدهم رزقالله وأن تذمهم على ما لم(2/223)
يؤتك الله إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كره كاره وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط وقد رواه الثوري عن منصور عن خيثمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم السادس والخمسون: أن الرضى يفرغ قلب العبد ويقلل همه وغمه فيتفرغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها كما ذكر ابن أبي الدنيا عن بشر بن بشار المجاشعي وكان من العلماء قال: قلت لعابد: أوصنى قال: ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك فهو أحرى أن يفرغ قلبك ويقلل همك وإياك أن تسخط ذلك فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به فيلقيك مع الذين سخط الله عليهم وقال بعض السلف: ذروا التدبير والاختيار تكونوا في طيب من العيش فإن التدبير والاختيار يكدر على الناس عيشهم وقال أبو العباس بن عطاء: الفرح في تدبير الله لنا والشقاء كله في تدبيرنا وقال سفيان بن عيينة: من لم يصلح على تقدير الله لم يصلح على تقديره نفسه وقال أبو العباس الطوسي: من ترك التدبير عاش في راحة وقال بعضهم: لا تجد السلامة حتى تكون في التدبير كأهل القبور وقال: الرضاء ترك الخلاف على الرب فيما يجريه على العبدر(2/224)
وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله لقد تركتني هؤلاء الدعوات وما لي في شيء من الأمور كلها أرب إلا في مواقع قدر الله وكان كثيرا ما يدعو: اللهم رضني بقضائك وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته ولا تأخير شيء عجلته وقال: ما أصبح لي هوى في شيء سوى ما قضى الله عز وجل وقال شعبة: قال يونس بن عبيد: ما تمنيت شيئا قط وقال الفضيل بن عياض: الراضي لا يتمنى فوق منزلته وقال ذو النون: ثلاثة من أعلام التسليم: مقابلة القضاء بالرضى والصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء وثلاثة من أعلام التفويض: تعطيل إرادتك لمراده والنظر إلى ما يقع من تدبيره لك وترك الاعتراض على الحكم وثلاثة من أعلام التوحيد: رؤية كل شيء من الله وقبول كل شيء عنه وإضافة كل شيء إليه وقال بعض العارفين: أصل العبادة ثلاثة: لا ترد من أحكامه شيئا ولا تسأل غيره حاجة ولا تدخر عنه شيئا وسئل ابن شمعون عن الرضى فقال: أن ترضى به مدبرا ومختارا وترضى عنه قاسما ومعطيا ومانعا وترضاه إلها ومعبودا وربا وقال بعض العارفين: الرضى ترك الاختيار وسرور القلب بمر القضاء وإسقاط التدبير من النفس حتى يحكم الله لها أو عليها وقيل: الراضي من لم يندم على فائت من الدنيا ولم يتأسف عليها ولله در القائل:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم(2/225)
.والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفي اختيار سواه اللوم والشوم
السابع والخمسون: أنه إذا لم يرض بالقدر وقع في لوم المقادير إما بقالبه وإما بقلبه وحاله ولوم المقادير لوم لمقدرها وكذلك يقع في لوم الخلق والله والناس يلومونه فلا يزال لائما ملوما وهذا مناف للعبودية قال أنس رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته ولا قال لي لشيء كان: ليته لم يكن ولا لشيء لم يكن: ليته كان وكان بعض أهله إذا لامني يقول: دعوه فلو قضي شيء لكان وقوله: لو قضى شيء لكان يتناول أمرين أحدهما: مالم يوجد من مراد العبد والثاني: ما وجد مما يكرهه وهو يتناول فوات المحبوب وحصول المكروه فلو قضي الأول لكان ولو قضي خلاف الآخر لكان فإذا استوت الحالتان بالنسبة إلى القضاء فعبودية العبد: أن يستوي عنده الحالتان بالنسبة إلى رضاه وهذا موجب العبودية ومقتضاها يوضحه:
الثامن والخمسون: أنه إذا استوى الأمران بالنسبة إلى رضى الرب تعالى فهذا رضيه لعبده فقدره وهذا لم يرضه له فلم يقدره فكمال الموافقة: أن يستويا بالنسبة إلى العبد فيرضى ما رضيه له ربه في الحالين
التاسع والخمسون: أن الله تعالى نهى عن التقدم بين يديه ويدى رسوله في حكمه الديني الشرعي وذلك عبودية هذا الأمر فعبودية أمره الكوني القدري: أن لا يتقدم بين يديه إلا حيث كانت المصلحة الراجحة في ذلك فيكون التقدم أيضا بأمره الكوني والديني فإذا كان فرضه الصبر أو ندبه أو فرضه الرضى حتى ترك ذلك: فقد تقدم بين يدي شرعه وقدره
الستون: أن المحبة والإخلاص والإنابة: لا تقوم إلا على ساق الرضى(2/226)
فالمحب راض عن حبيبه في كل حالة وقد كان عمران بن حصين رضى الله عنه استسقى بطنه فبقي ملقى على ظهره مدة طويلة لا يقوم ولا يقعد وقد نقب له في سريره موضع لحاجته فدخل عليه مطرف بن عبدالله الشخير فجعل يبكي لما رأى من حاله فقال له عمران: لم تبكي فقال: لأني أراك على هذه الحال الفظيعة فقال: لاتبك فإن أحبه إلي أحبه إليه وقال: أخبرك بشيء لعل الله أن ينفعك به واكتم علي حتى أموت إن الملائكة تزورني فآنس بها وتسلم علي فأسمع تسليمها ولما قدم سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه إلى مكة وقد كف بصره جعل الناس يهرعون إليه ليدعو لهم فجعل يدعو لهم قال عبدالله بن السائب: فأتيته وأنا غلام فتعرفت إليه فعرفني فقلت: ياعم أنت تدعو للناس فيشفون فلو دعوت لنفسك لرد الله عليك بصرك فتبسم ثم قال: يا بني قضاء الله أحب إلى من بصري وقال بعض العارفين: ذنب أذنبته أنا أبكى عليه ثلاثين سنة قيل: وما هو قال: قلت لشىء قضاه الله: ليته لم يقضه أو ليته لم يكن وقال بعض السلف: لو قرض لحمى بالمقاريض كان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه وقيل لعبد الواحد بن زيد: ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة فقصده فقال له: حبيبي أخبرني عنك هل قنعت به قال: لا قال: فهل أنست به قال: لا قال: فهل رضيت عنه قال: لا قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة قال: نعم قال: لولا أني أستحي منك لأخبرتك: أن معاملتك خمسين سنة مدخولة يعنى أنه لم يقربه فيجعله في مقام المقربين فيوجده مواجيد العارفين بحيث يكون مزيده لديه: أعمال القلوب التي يستعمل بها كل محبوب مطلوب(2/227)
لأن القناعة: حال الموفق والأنس به: مقام المحب والرضى: وصف المتوكل يعني أنت عنده في طبقات أصحاب اليمين فمزيدك عنده مزيد العموم من أعمال الجوارح وقوله: إن معاملته مدخولة يحتمل وجهين:
أحدهما: أنها ناقصة عن معاملة المقربين التى أوجبت لهم هذه الأحوال
الثاني: أنها لو كانت صحيحة سالمة لا علة فيها ولا غش: لأثمرت له الأنس والرضى والمحبة والأحوال العلية فإن الرب تعالى شكور إذا وصل إليه عمل عبده جمل به ظاهره وباطنه وأثابه عليه من حقائق المعرفة والإيمان بحسب عمله فحيث لم يجد له أثرا في قلبه من الأنس والرضى والمحبة: استدل على أنه مدخول غير سالم من الآفات
الحادي والستون: أن أعمال الجوارح تضاعف إلى حد معلوم محسوب وأما أعمال القلوب: فلا ينتهي تضعيفها وذلك لأن أعمال الجوارح: لها حد تنتهي إليه وتقف عنده فيكون جزاؤها بحسب حدها وأما أعمال القلوب: فهي دائمة متصلة وإن توارى شهود العبد لها مثاله: أن المحبة والرضى حال المحب الراضي لا تفارقه أصلا وإن توارى حكمها فصاحبها في مزيد متصل فمزيد المحب الراضي: متصل بدوام هذه الحال له فهو في مزيد ولو فترت جوارحه بل قد يكون مزيده في حال سكونه وفتوره أكثر من مزيد كثير من أهل النوافل بما لا نسبة بينهما ويبلغ ذلك بصاحبه إلى أن يكون مزيده في حال نومه أكثر من مزيد كثير من أهل القيام وأكله أكثر من مزيد كثير من أهل الصيام والجوع فإن أنكرت هذا فتأمل مزيد نائم بالله وقيام غافل عن الله فالله سبحانه إنما ينظر إلى القلوب والهمم والعزائم لا إلى صور الأعمال وقيمة العبد: همته وإرادته فمن لا يرضيه غير الله ولو أعطي الدنيا بحذافيرها له شأن ومن(2/228)
يرضيه أدنى حظ من حظوظها له شأن وإن كانت أعمالهما في الصورة واحدة وقد تكون أعمال الملتفت إلى الحظوظ أكثر وأشق وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقد اختلف أرباب هذا الشأن في مسألة وهي: هل للرضى حد ينتهي إليه فقال أبو سليمان الداراني: ثلاث مقامات لا حد لها: الزهد والورع والرضى وخالفه سليمان ابنه وكان عارفاحتى إن من الناس من كان يقدمه على أبيه فقال: بل من تورع في كل شيء: فقد بلغ حد الورع ومن زهد في غير الله: فقد بلغ حد الزهد ومن رضي عن الله في كل شيء: فقد بلغ حد الرضى
وقد اختلفوا في مسألة تتعلق بذلك وهي: أهل مقامات ثلاثة أحدهم: يحب الموت شوقا إلى الله ولقائه والثاني: يحب البقاء للخدمة والتقرب وقال الثالث: لا أختار بل أرضى بما يختار لي مولاي إن شاء أحياني وإن شاء أماتني فتحاكموا إلى بعض العارفين فقال: صاحب الرضى أفضلهم لأنه أقلهم فضولا وأقربهم إلى السلامة ولا ريب أن مقام الرضى فوق مقام الشوق والزهد في الدنيا بقي النظر في مقامي الآخرين: أيهما أعلى فرجحت طائفة مقام من أحب الموت لأنه فى مقام الشوق إلى لقاء الله ومحبة لقائه ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ورجحت طائفة مقام مريد البقاء لتنفيذ أوامر الرب تعالى واحتجوا بأن الأول محب لحظه من الله وهذا محب لمراد الله منه لم يشبع منه ولم يقض منه وطرا قالوا: وهذا حال موسى صلوات الله وسلامه عليه حين لطم وجه ملك الموت(2/229)
ففقأ عينه لا محبة للدنيا ولكن لينفذ أوامر ربه ومراضيه في الناس فكأنه قال: أنت عبده وأنا عبده وأنت في طاعته وأنا في طاعته وتنفيذ أوامره
وحينئذ فنقول في الوجه الثاني والستين: إن حال الراضي المسلم ينتظم حاليهما جميعا مع زيادة التسليم وترك الاختيار فإنه قد غاب بمراد ربه منه من إحيائه وإماتته عن مراده هو من هذين الأمرين وكل محب فهو مشتاق إلى لقاء حبيبه مؤثر لمراضيه فقد أخذ بزمام كل من المقامين واتصف بالحالين وقال: أحب ذلك إلي أحبه إليه لا أتمنى غير رضاه ولا أتخير عليه إلا ما يحبه ويرضاه وهذا القدر كاف في هذا الموضع وبالله التوفيق فلنرجع إلى شرح كلامه قال: الثاني: سقوط الخصومة عن الخلق يعني أن الرضى إنما يصح بسقوط الخصومة مع الخلق فإن الخصومة تنافي حال الرضى وتنافي نسبة الأشياء كلها إلى من بيده أزمة القضاء والقدر ففي الخصومة آفات أحدها: المنازعة التي تضاد الرضى الثاني: نقص التوحيد بنسبة ما يخاصم فيه إلى عبد دون الخالق لكل شيء الثالث: نسيان الموجب والسبب الذى جر إلى الخصومة فلو رجع العبد إلى السبب والموجب لكان اشتغاله بدفعه أجدى عليه وأنفع له من خصومة من جرى على يديه فإنه وإن كان ظالما فهو الذي سلطه على نفسه بظلمه قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [ آل عمران: 165 ] فأخبر أن أذى عدوهم لهم وغلبتهم لهم: إنما هو بسبب ظلمهم وقال الله تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [ الشورى: 30 ](2/230)
فإذا اجتمعت بصيرة العبد على مشاهد القدر والتوحيد والحكمة والعدل: انسد عنه باب خصومة الخلق إلا فيما كان حقا لله ورسوله فالراضي لا يخاصم ولا يعاتب إلا فيما يتعلق بحق الله وهذه كانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن يخاصم أحدا ولا يعاتبه إلا فيما يتعلق بحق الله كما أنه كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله فالمخاصمة لحظ النفس تطفىء نور الرضى وتذهب بهجته وتبدل بالمرارة حلاوته وتكدر صفوه قال:
الشرط الثالث: الخلاص من المسألة للخلق والإلحاح وذلك: لأن المسألة: فيها ضرب من الخصومة والمنازعة والمحاربة والرجوع عن مالك الضر والنفع إلى من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا بربه وفيها الغيبة عن المعطي المانع والإلحاح ينافي حال الرضى ووصفه وقد أثنى الله سبحانه على الذين لا يسألون الناس إلحافا فقال تعالى {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [ البقرة: 273 ] فقالت طائفة: يسألون الناس ما تدعو حاجتهم إلى سؤاله ولكن لا يلحفون فنفى الله عنهم سؤال الإلحاف لا مطلق السؤال قال ابن عباس: إذا كان عنده غداء لم يسأل عشاء وإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء وقالت طائفة منهم الزجاج والفراء وغيرهما: بل الآية اقتضت ترك السؤال مطلقا لأنهم وصفوا بالتعفف والمعرفة بسيماهم دون الإفصاح بالمسألة لأنهم لو أفصحوا بالسؤال لم يحسبهم الجاهل أغنياء ثم اختلفوا في وجه قوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [ البقرة: 273 ](2/231)
فقال الزجاح: المعنى لا يكون منهم سؤال فيقع إلحاف كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أي لا تكون شفاعة فتنفع وكما فى قوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [ البقرة: 123 ] أي لا يكون عدل فيقبل ونظائره قال امروء القيس: على لاحب لا يهتدى لمناره أي ليس له منار يهتدي به قال ابن الأنباري وتأويل الآية: لا يسألون ألبتة فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف فيجري هذا مجرى قولك: فلان لا يرجى خيره أي ليس له خير فيرجى
وقال أبو علي: لم يثبت في هذه الآية مسألة منهم لأن المعنى: ليس منهم مسألة فيكون منهم إلحاف قال: ومثل ذلك قول الشاعر: لا يفزع الأرنب أهوالها % ولا ترى الضب بها ينجحر أي ليس بها أرنب فتفزع لهولها ولا ضب فينجحر وقال الفراء: نفى الإلحاف عنهم وهو يريد نفي جميع السؤال
فصل و المسألة في الأصل حرام وإنما أبيحت للحاجة والضرورة لأنها ظلم
في حق الربوبية وظلم في حق المسئول وظلم في حق السائل أما الأول: فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله واستعطاءه لغير الله وذلك نوع عبودية فوضع المسألة في غير موضعها وأنزلها بغير أهلها وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله وتوكله عليه ورضاه بقسمه واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس وذلك كله يهضم من حق التوحيد ويطفىء نوره ويضعف قوته وأما ظلمه للمسئول: فلأنه سأله ما ليس عنده فأوجب له بسؤاله عليه حقا(2/232)
لم يكن له عليه وعرضه لمشقة البذل أو لوم المنع فإن أعطاه أعطاه على كراهة وإن منعه منعه على استحياء وإغماض هذا إذا سأله ما ليس عليه وأما إذا سأله حقا هو له عنده: فلم يدخل في ذلك ولم يظلمه بسؤاله وأما ظلمه لنفسه: فإنه أراق ماء وجهه وذل لغير خالقه وأنزل نفسه أدنى المنزلتين ورضي لها بأبخس الحالتين ورضي بإسقاط شرف نفسه وعزة تعففه وراحة قناعته وباع صبره ورضاه وتوكله وقناعته بما قسم له واستغناءه عن الناس بسؤالهم وهذا عين ظلمه لنفسه إذ وضعها في غير موضعها وأخمل شرفها ووضع قدرها وأذهب عزها وصغرها وحقرها ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسئول ويده تحت يده ولولا الضرورة لم يبح ذلك في الشرع
وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيتصدق به على الناس: خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه " وفي صحيح مسلم عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس: خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى "(2/233)
وابدأ بمن تعول زاد الإمام أحمد: "ولأن يأخذ ترابا فيجعله في فيه: خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه" وفي صحيح البخاري عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه: خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه " وفى الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه: أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف والمسألة: "اليد العليا خير من اليد السفلى فاليد العليا: هي المنفقة واليد السفلى: هي السائلة" رواه البخارى ومسلم وعن حكيم بن حزام رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال: "يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم: فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا " وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم: أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم رضي الله عنه أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي متفق على صحته(2/234)
وروي عن الشعبى قال: حدثني كاتب المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إلي شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال " رواه البخاري ومسلم وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلحفوا فى المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته" وفي لفظ: "إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك له فيه ومن أعطيته عن مسألة وشره كان كالذي يأكل ولا يشبع " رواه مسلم وعن أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه قال: حدثنى الحبيب الأمين أما هو: فحبيب إلي وأما هو عندي: فأمين عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : "ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا حديثي عهد ببيعته فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلام نبايعك قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا الله وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه " رواه مسلم وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المسئلة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه " رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح وفى مسند الإمام أحمد عن زيد بن عقبة الفزاري قال: دخلت على الحجاج ابن يوسف الثقفي فقلت: أصلح الله الأمير ألا أحدثك حديثا سمعته من سمرة بن(2/235)
جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بلى قال سمعته يقول: "المسائل كد يكد بها الرجل وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل رجل ذا سلطان أو يسأل في أمر لابد منه " وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتقبل لى بواحدة وأتقبل له بالجنة قال: قلت: أنا قال: لا تسأل الناس شيئا فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد: ناولنيه حتى ينزل هو فيتناوله " رواه الإمام أحمد و أهل السنن وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصابته فاقة فأنزلها بالناس: لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله: أوشك الله له بالغنى: إما بموت عاجل أو غنى عاجل " رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وعن سهل بن الحنظلية قال: قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة ابن حصن والأقرع بن حابس فسألاه فأمر لهما بما سألاه وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا فأما الأقرع: فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق وأما عيينة: فأخذ كتابه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه فقال: يا محمد أراني حاملا إلى قومي كتابا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وعنده ما يغنيه: فإنما يستكثر من النار وفي لفظ: من جمر جهنم قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يغنيه وفي لفظ: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال: قدر ما يغديه وما يعشيه وفي لفظ: أن يكون له شبع يوم وليلة" رواه أبو داود والإمام أحمد وعن ابن الفراسي أن الفراسي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسأل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا وإن كنت سائلا لا بد فسل الصالحين " رواه النسائي(2/236)
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها ثم قال: يا قبيضة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا رواه مسلم وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه فلما وضع رجله على أسكفة الباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا" رواه النسائى وعن مالك بن نضلة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي "ثلاثة فيد الله: العليا ويد المعطي: التي تليها ويد السائل: السفلى فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك " رواه الإمام أحمد وأبو داود وعن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شينا في وجهه يوم القيامة " رواه الإمام أحمد وعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا رفعه الله بها ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر رواه الإمام أحمد وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: سرحتني أمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فأتيته فقعدت قال: فاستقبلني فقال: من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله ومن استكفى كفاه الله ومن سأل وله قيمة(2/237)
أوقية فقد ألحف فقلت: ناقتي هي خير من أوقية ولم أسأله رواه الإمام أحمد وأبو داود وعن خالد بن عدي الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه " رواه الإمام أحمد فهذا أحد المعنيين في قوله: إن من شرط الرضى: ترك الإلحاح في المسألة وهو أليق المعنيين وأولاهما لأنه قرنه بترك الخصومة مع الخلق فلا يخاصمهم في حقه ولا يطلب منهم حقوقه والمعنى الثاني أنه لا يلح في الدعاء ولا يبالغ فيه فإن ذلك يقدح في رضاه وهذا يصح في وجه دون وجه فيصح إذا كان الداعي يلح في الدعاء بأغراضه وحظوظه العاجلة وأما إذا ألح على الله في سؤاله بما فيه رضاه والقرب منه: فإن ذلك لا يقدح في مقام الرضى أصلا وفي الأثر: إن الله يحب الملحين فى الدعاء وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم بدر للنبي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألححت على ربك كفاك بعض مناشدتك لربك فهذا الإلحاح عين العبودية وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه فإذا كان سؤاله يرضيه لم يكن الإلحاح فيه منافيا لرضاه " وحقيقة الرضى: موافقته سبحانه فى رضاه بل الذي ينافي الرضى: أن يلح عليه متحكما عليه متخيرا عليه ما لم يعلم: هل يرضيه أم لا كمن يلح على ربه في ولاية شخص أو إغنائه أو قضاء حاجته فهذا ينافي الرضى لأنه ليس على يقين أن مرضاة الرب في ذلك(2/238)
فإن قيل: فقد يكون للعبد حاجة يباح له سؤاله إياها فيلح على ربه في طلبها حتى يفتح له من لذيذ مناجاته وسؤاله والذل بين يديه وتملقه والتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وتفريغ القلب له وعدم تعلقه في حاجته بغيره: ما لم يحصل له بدون الإلحاح فهل يكره له هذا الإلحاح وإن كان المطلوب حظا من حظوظه قيل: ها هنا ثلاثة أمور أحدها: أن يفنى بمطلوبه وحاجته عن مراده ورضاه ويجعل الرب تعالى وسيلة إلى مطلوبه بحيث يكون أهم إليه منه فهذا ينافي كمال الرضى به وعنه الثاني: أن يفتح على قلبه حال السؤال من معرفة الله ومحبته والذل له والخضوع والتملق: ما ينسيه حاجته ويكون ما فتح له من ذلك أحب إليه من حاجته بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال وتكون آثر عنده من حاجته وفرحه بها أعظم من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاته ذلك فهذا لا ينافي رضاه وقال بعض العارفين: إنه لتكون لي حاجة إلى الله فأسأله إياها فيفتح علي من مناجاته ومعرفته والتذلل له والتملق بين يديه: ما أحب معه أن يؤخر عني قضاءها وتدوم لي تلك الحال وفي أثر: إن العبد ليدعو ربه عز وجل فيقول الله عز وجل لملائكته: اقضوا حاجة عبدي وأخروها فإني أحب أن أسمع دعاءه ويدعوه آخر فيقول الله لملائكته اقضوا حاجته وعجلوها فإني أكره صوته وقد روى الترمذي وغيره عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج وروي أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء"(2/239)
وروى أيضا من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله الملح وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وفيه أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية وإن الدعاء لينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء"
وإذا كان هذا محبة الرب تعالى للدعاء فلا ينافي الإلحاح فيه الرضى
الثالث: أن ينقطع طمعه من الخلق ويتعلق بربه في طلب حاجته وقد أفرده بالطلب ولا يلوي على ما وراء ذلك فهذا قد تنشأ له المصلحة من نفس الطلب وإفراد الرب بالقصد والفرق بينه وبين الذي قبله: أن ذلك قد فتح عليه بما هو أحب إليه من حاجته فهو لا يبالي بفواتها بعد ظفره بما فتح عليه وبالله التوفيق
فصل قال: الدرجة الثالثة: الرضى برضى الله فلا يرى العبد لنفسه سخطا ولا رضى فيبعثه على ترك التحكم وحسم الاختيار وإسقاط التمييز ولو أدخل النار إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها من الدرجات عنده: لأنها درجة صاحب الجمع الفاني بربه عن نفسه وعما منها قد غيبه شاهد رضى الله بالأشياء في وقوعها على مقتضى مشيئته عن شاهد رضاه هو فيشهد الرضى لله ومنه حقيقة ويرى نفسه فانيا ذاهبا مفقودا فهو يستوحش من نفسه ومن صفاتها ومن رضاها ومن سخطها فهو عامل على التغيب عن وجوده وعما منه مترام إلى العدم المحض قد تلاشى وجوده ونفسه وصفاتها في وجود مولاه الملك الحق وصفاته وأفعاله كما يتلاشى ضوء السراج الضعيف في جرم الشمس فغاب برضى(2/240)
ربه عن رضاه هو وعن ربه في أقضيته وأقداره وغاب بصفات ربه عن صفاته وبأفعاله عن أفعاله فتلاشي وجوده وصفاته وأفعاله في جنب وجود ربه وصفاته بحيث صار كالعدم المحض وفي هذا المقام لا يرى لنفسه رضى ولا سخطا فيوجب له هذا الفناء: ترك التحكم على الله بأمر من الأمور وترك التخير عليه فتذهب مادة التحكم وتفنى وتنحسم مادة الاختيار وتتلاشى وعند ذلك يسقط تمييز العبد ويتلاشى هذا تقدير كلامه وبعد فههنا أمران: أحدهما: أن هذا حال يعرض لا مقام يطلب ويشمر إليه فإن هذه الحال متى عرضت له وارت عنه تمييزه ولا يمكن أن يدوم له ذلك بل يقصر زمنه ويطول ثم يرجع إلى تمييزه وعقله وصاحب هذه الحال مغلوب: إما سكران بحاله وإما فان عن وجوده والكمال وراء ذلك وهو أن يكون فانيا عن إرادته بإرادة ربه منه فيكون باقيا بوجود آخر غير وجوده الطبيعي وهو وجود مطهر كائن بالله ولله ومع الله وصاحب هذا في مقام: فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش قد فني عن وجوده الطبيعي والنفسي وبقي بهذا الوجود العلوي القدسي فيعود عليه تمييزه وفرقانه ورضاه عن ربه تعالى ومقامات إيمانه وهذا أكمل وأعلى من فنائه عنها كالسكران فإن قلت: فهل يمكن وصوله إلى هذا المقام من غير درب الفناء وعبوره إليه على غير جسره
قلت: اختلف في ذلك فطائفة ظنت أنه لا يصل إلى البقاء وإلى هذا الوجود المطهر إلا بعد عبوره على جسر الفناء فعدوه لازما من لوازم السير إلى الله وقالت طائفة: بل يمكن الوصول إلى البقاء على غير درب الفناء والفناء عندهم عارض من عوارض الطريق لا لازم وسببه: قوة الوارد وضعف المحل واستجلابه بتعاطي أسبابه(2/241)
والتحقيق: أنه لا يصل إلى هذا المقام إلا بعد عبوره على جسر الفناء عن مراده بمراد سيده فما دام لم يحصل له هذا الفناء فلا سبيل له إلى ذلك البقاء وأما فناؤه عن وجوده: فليس شرطا لذلك البقاء ولا هو من لوازمه وصاحب هذا المقام: هو في رضاه عن ربه بربه لا بنفسه كما هو في توكله وتفويضه وتسليمه وإخلاصه ومحبته وغير ذلك من أحواله بربه لا بنفسه فيرى ذلك كله من عين المنة والفضل مستعملا فيه قد أقيم فيه لا أنه قد قام هو به فهو واقف بين مشهد {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [ التكوير: 28 ] ومشهد {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ التكوير: 29 ] والله المستعان(2/242)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الشكر
وهي من أعلى المنازل وهي فوق منزلة الرضى وزيادة فالرضى مندرج في الشكر إذ يستحيل وجود الشكر بدونه وهو نصف الإيمان كما تقدم والإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر وقد أمر الله به ونهى عن ضده وأثنى على أهله ووصف به خواص خلقه وجعله غاية خلقه وأمره ووعد أهله بأحسن جزائه وجعله سببا للمزيد من فضله وحارسا وحافظا لنعمته وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته واشتق لهم اسما من أسمائه فإنه سبحانه هو الشكور وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكورا وهو غاية الرب من عبده وأهله هم القليل من عباده قال الله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [ البقرة: 172 ] وقال: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [ البقرة: 152 ] وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ} [ النحل: 120-121 ] وقال عن نوح عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [ الإسراء: 3 ] وقال(2/242)
تعالى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [ النحل: 78 ] وقال تعالى: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [ العنكبوت: 17 ] وقال تعالى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [ آل عمران: 144 ] وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ إبراهيم: وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ لقمان: 31 ] وسمى نفسه شاكرا وشكورا وسمى الشاكرين بهذين الاسمين فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلا وإعادته للشاكر مشكورا كقوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [ الإنسان: 22 ] ورضى الرب عن عبده به كقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [ الزمر: 7 ] وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه كقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [ سبأ: 13 ] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قام حتى تورمت قدماه فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : أفلا أكون عبدا شكورا وقال لمعاذ: والله يا معاذ إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وفي المسند و الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم أعني ولا تعن علي وانصرنى ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر بي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني على من بغى علي رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لكرهابا لك مطاوعا لك مخبتا إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري(2/243)
فصل وأصل الشكر في وضع اللسان: ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان
ظهورا بينا يقال: شكرت الدابة تشكر شكرا على وزن سمنت تسمن سمنا: إذا ظهر عليها أثر العلف ودابة شكور: إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكل وتعطى من العلف وفي صحيح مسلم: حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم أي لتسمن من كثرة ما تأكل منها وكذلك حقيقته في العبودية وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا وعلى قلبه: شهودا ومحبة وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة و الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور وحبه له واعترافه بنعمته وثناؤه عليه بها وأن لا يستعملها فيما يكره فهذه الخمس: هي أساس الشكر وبناؤه عليها فمتى عدم منها واحدة: اختل من قواعد الشكر قاعدة وكل من تكلم في الشكر وحده فكلامه إليها يرجع وعليها يدور فقيل: حده الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع وقيل: الثناء على المحسن بذكر إحسانه وقيل: هو عكوف القلب على محبة المنعم والجوارح على طاعته وجريان اللسان بذكره والثناء عليه وقيل: هو مشاهدة المنة وحفظ الحرمة وما ألطف ما قال حمدون القصار: شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا وقال أبو عثمان: الشكر معرفة العجز عن الشكر وقيل: الشكر إضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له وقال الجنيد: الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة(2/244)
هذا معنى قول حمدون: أن يرى نفسه فيها طفيليا وقال رويم: الشكر استفراغ الطاقة وقال الشبلي: الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة قلت: يحتمل كلامه أمرين أحدهما: أن يفنى برؤية المنعم لا رؤية نعمه والثاني: أن لا تحجبه رؤية نعمه ومشاهدتها عن رؤية المنعم بها وهذا أكمل والأول أقوى عندهم والكمال: أن تشهد النعمة والمنعم لأن شكره بحسب شهود النعمة فكلما كان أتم كان الشكر أكمل والله يحب من عبده: أن يشهد نعمه ويعترف له بها ويثني عليه بها ويحبه عليها لا أن يفنى عنها ويغيب عن شهودها وقيل: الشكر قيد النعم الموجوده وصيد النعم المفقودة وشكر العامة: على المطعم والمشرب والملبس وقوت الأبدان وشكر الخاصة: على التوحيد والإيمان وقوت القلوب وقال داود عليه السلام: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة على من عندك تستوجب بها شكرا فقال: الآن شكرتني يا داود وفي أثر آخر إسرائيلي: أن موسى قال: يارب خلقت آدم بيدك ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك وعلمته أسماء كل شيء وفعلت وفعلت فكيف أطاق شكرك قال الله عز وجل: علم أن ذلك مني فكانت معرفته بذلك شكرا لي وقيل: الشكر التلذذ بثنائه على ما لم تستوجب من عطائه وقال الجنيد وقد سأله سري عن الشكر وهو صبي الشكر: أن لا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه فقال: من أين لك هذا قال: من مجالستك وقيل: من قصرت يداه عن المكافآت فليطل لسانه بالشكر(2/245)
والشكر معه المزيد أبدا لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [ إبراهيم: 7 ] فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر وفي أثر إلهي: يقول الله عز وجل: أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب وقيل: من كتم النعمة فقد كفرها ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها وهذا مأخوذ من قوله: إن الله إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده وفي هذا قيل:
ومن الرزية أن شكري صامت ... عما فعلت وأن برك ناطق
وأرى الصنيعة منك ثم أسرها ... إني إذا لندى الكريم لسارق
فصل وتكلم الناس في الفرق بين الحمد و الشكر أيهما أعلى وأفضل وفي
الحديث: الحمد رأس الشكر فمن لم يحمد الله لم يشكره والفرق بينهما: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه وأخص من جهة متعلقاته و الحمد أعم من جهة المتعلقات وأخص من جهة الأسباب ومعنى هذا: أن الشكر يكون: بالقلب خضوعا واستكانة وباللسان ثناء واعترافا وبالجوارح طاعة وانقيادا ومتعلقه: النعم دون الأوصاف الذاتية فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه وهو المحمود عليها كما هو محمود على إحسانه وعدله والشكر يكون على الإحسان والنعم فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس فإن الشكر يقع بالجوارح والحمد يقع بالقلب واللسان(2/246)
فصل قال صاحب المنازل: الشكر: اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى
معرفة المنعم ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن: شكرا فمعرفة النعمة: ركن من أركان الشكر لا أنها جملة الشكر كما تقدم: أنه الاعتراف بها والثناء عليه بها والخضوع له ومحبته والعمل بما يرضيه فيها لكن لما كان معرفتها ركن الشكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه: جعل أحدهما اسما للآخر قوله: لأنه السبيل إلى معرفة المنعم يعني أنه إذا عرف النعمة توصل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها وهذا من جهة معرفة كونها نعمة لا من أي جهة عرفها بها ومتى عرف المنعم أحبه وجد في طلبه فإن من عرف الله أحبه لا محالة ومن عرف الدنيا أبغضها لا محالة وعلى هذا: يكون قوله: الشكر اسم لمعرفة النعمة مستلزما لمعرفة المنعم ومعرفته تستلزم محبته ومحبته تستلزم شكره فيكون قد ذكر بعض أقسام الشكر باللفظ ونبه على سائرها باللزوم وهذا من أحسن اختصاره وكمال معرفته وتصوره قدس الله روحه قال: ومعاني الشكر ثلاثة أشياء: معرفة النعمة ثم قبول النعمة ثم الثناء بها وهو أيضا من سبل العامة أما معرفتها: فهو إحضارها في الذهن ومشاهدتها وتمييزها فمعرفتها: تحصيلها ذهنا كما حصلت له خارجا إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري فلا يصح من هذا الشكر قوله: ثم قبول النعمة(2/247)
قبولها: هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه ولا بذل ثمن بل يرى نفسه فيها كالطفيلي فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة قوله: ثم الثناء بها الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان: عام وخاص فالعام: وصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك والخاص: التحدث بنعمته والإخبار بوصولها إليه من جهته كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [ الضحى: 11 ] وفي هذا التحديث المأمور به قولان أحدهما: أنه ذكر النعمة والإخبار بها وقوله: أنعم الله علي بكذا وكذا قال مقاتل: يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة: من جبر اليتيم والهدى بعد الضلال والإغناء بعد العيلة والتحدث بنعمة الله شكر كما في حديث جابر مرفوعا: من صنع إليه معروف فليجز به فإن لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور
فذكر أقسام الخلق الثلاثة: شاكر النعمة المثني بها والجاحد لها والكاتم لها والمظهر أنه من أهلها وليس من أهلها فهو متحل بما لم يعطه وفي أثر آخر مرفوع: من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب والقول الثاني: أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية: هو الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته وتعليم الأمة قال مجاهد: هي النبوة قال الزجاج: أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي آتاك الله وقال الكلبي: هو القرآن أمره أن يقرأه(2/248)
والصواب: أنه يعم النوعين إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها وإظهارها من شكرها قوله: وهو أيضا من سبل العامة يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل إذ جعل نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبل بل الشكر سبيل رسل الله وأنبيائه صلى الله عليهم وسلم أجمعين أخص خلقه وأقربهم إليه ويا عجبا ! أي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان حتى المحبة والرضى والتوكل وغيرها فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى ولكن الشيخ وأصحاب الفناء كلهم يرون أن فوق هذا مقاما أجل منه وأعلى لأن الشكر عندهم يتضمن نوع دعوى وأنه شكر الحق على إنعامه ففي الشاكر بقية من بقايا رسمه لم يتخلص عنها ويفرغ منها فلو فني عنها بتحققه أن الحق سبحانه هو الذي شكر نفسه بنفسه وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل علم أن الشكر من منازل العامة ولو أن السلطان كسا عبدا من عبيده ثوبا من ثيابه فأخذ يشكر السلطان على ذلك: لعد مخطئا مسيئا للأدب فإنه مدع بذلك مكافأة السلطان بشكره فإن الشكر مكافأة والعبد أصغر قدرا من المكافأة والشهود للحقيقة يقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء ورجوعها إلى وصف المعطي وقوته فالخاصة يسقط عندهم الشكر بالشهود وفي حقهم ما هو أعلى منه هذا غاية تقرير كلامهم وكسوته أحسن عبارة لئلا يتعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير ونحن معنا العصمة النافعة: أن كل أحد غير المعصوم(2/249)
فمأخوذ من قوله ومتروك وكل سبيل لا يوافق سبيله فمهجور غير مسلوك فأما تضمن الشكر لنوع دعوى فإن أريد بهذه الدعوى إضافة البعد الفعل إلى نفسه وأنه كان به وغاب بذلك عن كونه بحول الله وقوته ومنته على عبده: فلعمر الله هذه علة مؤثرة ودعوى باطلة كاذبة وإن أريد: أن شهوده لشكره شهوده لنعمة الله عليه به وتوفيقه له فيه وإذنه له به ومشيئته عليه ومنته فشهد عبوديته وقيامه بها وكونها بالله فأي دعوى في هذا وأي علة نعم غايته: أنه لا يجامع الفناء ولا يخوض تياره فكان ماذا فأنتم جعلتم الفناء غاية فأوجب لكم ما أوجب وقدمتموه على ما قدمه الله ورسوله فتضمن ذلك تقديم ما أخر وتأخير ما قدم وإلغاء ما اعتبر واعتبار ما ألغى ولولا منة الله على الصادقين منكم بتحكيم الرسالة والتقيد بالشرع لكان أمرا غير هذا كما جرى لغير واحد من السالكين على هذه الطريق الخطرة فلا إله إلا الله كم فيها من قتيل وسليب وجريح وأسير وطريد
وأما قولكم: إن الشاكر فيه بقية من بقايا رسمه فيقال: إذا كانت هذه البقية محض العبودية ومركبها والحاملة لها: فأي نقص في هذا فإن العبودية لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بهذا الرسم فلا نقص في حمل العبودية عليه والسير به إلى الله عز وجل نعم النقص كل النقص: في حمل النفس والشهوة والحظ المخالف لمراد الرب تعالى الديني بني على هذا الرسم والسير به إلى النفس ولعل العامل على الفناء(2/250)
بهذه المثابة وهو ملبوس عليه فالعارف يستقصى التفتيش عن كمائن النفس وأما قولكم: من لم يكن كيف يشكر من لم يزل فهذا بالشطح أليق منه بالمعرفة فإن من لم يزل إذا أمر من لم يكن بالشكر ورضيه منه وأحبه وأثنى عليه به واستدعاه واقتضاه منه وأوجب له به المزيد وأضافه إليه واشتق منه له الاسم وأوقع عليه به الحكم وأخبر أنه غاية رضاه منه وأمره مع ذلك أن يشهد أن شكره به وبإذنه ومشيئته وتوفيقه: فهذا شكر من لم يكن لمن يزل وهو محض العبودية وأما ضربكم مثل كسوة السلطان لعبده وأخذه في الشكر له مكافأة: فهذا من أبطل الأمثلة عقلا ونقلا وفطرة وهو الحجاب الذي أوجب لمن قال: إن شكر المنعم لا يجب عقلا ما قال ذلك حتى زعم أن شكره قبيح عقلا ولولا الشرع لما حسن الإقدام عليه وضرب هذا المثل الذي ضربتموه بعينه وهذا من القياس الفاسد المتضمن قياس الخالق على المخلوق وبمثله عبدت الشمس والقمر والأوثان إذ قال المشركون: جناب العظيم لا يهجم عليه بغير وسائل ووسائط وسرت هاتان الرقيقتان فيمن فسد من أهل التعبد وأهل النظر والبحث والمعصوم من عصمه الله فيقال: الفرق من وجوه كثيرة جدا تفوت الحصر
منها: أن الملك محتاج فقير إلى من أنعم عليه لا يقوم ملكه إلا به فهو محتاج إلى معاوضة بتلك الكسوة مثلا خدمة له وحفظا له وذبا عنه وسعيا في تحصيل مصالحه فكسوته له من باب المعاوضة والمعاونة فإذا أخذ في شكره فكأنه جعل ذلك ثمنا لنعمته وليس بثمن لها وأما إنعام الرب تعالى على عبده: فإحسان إليه وتفضل عليه ومجرد امتنان لا لحاجة منه إليه ولا لمعاوضة ولا لاستعانة به ولا ليتكثر به من قلة ولا ليتعزر به من ذلة ولا ليقوى به من ضعف سبحانه وبحمده(2/251)
وأمره له بالشكر أيضا: إنعام آخر عليه وإحسان منه إليه إذ منفعة الشكر ترجع إلى العبد دنيا وآخرة لا إلى الله والعبد هو الذي ينتفع بشكره كما قال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [ لقمان: 12 ] فشكر العبد إحسان منه إلى نفسه دنيا وأخرى فلا يذم ما أتى به من ذلك وإن كان لا يحسن مقابلة المنعم به ولا يستطيع شكره فإنه إنما هو محسن إلى نفسه بالشكر لا أنه مكافىء به لنعم الرب فالرب تعالى لا يستطيع أحد أن يكافىء نعمه أبدا ولا أقلها ولا أدنى نعمة من نعمه فإنه تعالى هو المنعم المتفضل الخالق للشكر والشاكر وما يشكر عليه فلا يستطيع أحد أن يحصى ثناء عليه فإنه هو المحسن إلى عبده بنعمه وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها فشكره نعمة من الله أنعم بها عليه تحتاج إلى شكر آخر وهلم جرا
ومن تمام نعمته سبحانه وعظيم بره وكرمه وجوده: محبته له على هذا الشكر ورضاه منه به وثناؤه عليه به ومنفعته وفائدته مختصة بالعبد لا تعود منفعته على اللهوهذا غاية الكرم الذى لا كرم فوقه ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة ويرضى عنك بذلك ثم يعيد إليك منفعة شكرك ويجعله سببا لتوالي نعمه واتصالها إليك والزيادة على ذلك منها
وهذا الوجه وحده يكفي اللبيب ليتنبه به على ما بعده وأما كون الشهود يسقط الشكر: فلعمر الله إنه إسقاط لحق المشكور بحظ الشاهد نعم بحظ عظيم متعلق بالحق عز وجل لا حظ سفلي متعلق بالكائنات ولكن صاحبه قد سار من حرم إلى حرم(2/252)
وكان يقع لي هذا القدر منذ أزمان ولا أتجرأ على التصريح به لأن أصحابه يرون من ذكرهم به بعين الفرق الأول فلا يصغون إليهم ألبتة لا سيما وقد ذاقوا حلاوته ولذته ورأوا تخبيط أهل الفرق الأول وتلوثهم بنفوسهم وعوالمها وانضاف إلى ذلك: أن جعلوه غاية فتركب من هذه الأمور ما تركب وإذا لاحت الحقائق فليقل القائل ما شاء
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الشكر على المحاب
وهذا شكر تشاركت فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ومن سعة رحمة الباري سبحانه: أن عده شكرا ووعد عليه الزيادة وأوجب فيه المثوبة إذا علمت حقيقة الشكر وأن جزء حقيقته: الاستعانة بنعم المنعم على طاعته ومرضاته: علمت اختصاص أهل الإسلام بهذه الدرجة وأن حقيقة الشكر على المحاب ليست لغيرهم
نعم لغيرهم منها بعض أركانها وأجزائها كالاعتراف بالنعمة والثناء على المنعم بها فإن جميع الخلق في نعم الله وكل من أقر بالله ربا وتفرده بالخلق والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر وهو الاستعانة بها على مرضاته وقد كتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه: أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلا إلى معصيته
وقد عرف مراد الشيخ وهو أن هذا الشكر مشترك وهو الاعتراف بنعمه سبحانه والثناء عليه بها والإحسان إلى خلقه منها وهذا بلا شك يوجب حفظها عليهم والمزيد منها فهذا الجزء من الشكر مشترك وقد تكون ثمرته في الدنيا بعاجل الثواب وفي الآخرة: بتخفيف العقاب فإن النار دركات في العقوبة مختلفة(2/253)
فصل قال: الدرجة الثانية: الشكر في المكاره وهذا ممن تستوى عنده
الحالات: إظهارا للرضى وممن يميز بين الأحوال: لكظم الغيظ وستر الشكوى ورعاية الأدب وسلوك مسلك العلم وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة يعني أن الشكر على المكاره: أشد وأصعب من الشكر على المحاب ولهذا كان فوقه في الدرجة ولا يكون إلا من أحد رجلين: إما رجل لا يميز بين الحالات بل يستوي عنده المكروه والمحبوب فشكر هذا: إظهار منه للرضى بما نزل به وهذا مقام الرضى الرجل الثانى: من يميز بين الأحوال فهو لا يحب المكروه ولا يرضى بنزوله به فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه فكان شكره كظما للغيظ الذي أصابه وسترا للشكوى ورعاية منه للأدب وسلوكا لمسلك العلم فإن العلم والأدب يأمران بشكر الله على السراء والضراء فهو يسلك بهذا الشكر مسلك العلم لأنه شاكر لله شكر من رضي بقضائه كحال الذي قبله فالذي قبله أرفع منه وإنما كان هذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة: لأنه قابل المكاره التي يقابلها أكثر الناس بالجزع والسخط وأوساطهم بالصبر وخاصتهم بالرضى فقابلها هو بأعلى من ذلك كله وهو الشكر فكان أسبقهم دخولا إلى الجنة وأول من يدعى منهم إليها
وقسم أهل هذه الدرجة إلى قسمين: سابقين ومقربين بحسب انقسامهم إلى من يستوي عنده الحالات من المكروه والمحبوب فلا يؤثر أحدهما على الآخر بل قد فني بإيثاره ما يرضى له به ربه عما يرضاه هو لنفسه وإلى من يؤثر المحبوب ولكن إذا نزل به المكروه قابله بالشكر(2/254)
فصل قال: الدرجة الثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم فإذا شهد
المنعم عبودية: استعظم منه النعمة وإذا شهده حبا: استحلى منه الشدة وإذا شهده تفريدا: لم يشهد منه نعمة ولا شدة هذه الدرجة يستغرق صاحبها بشهود المنعم عن النعمة فلا يتسع شهوده للمنعم ولغيره وقسم أصحابها إلى ثلاثة أقسام: أصحاب شهود العبودية وأصحاب شهود الحب وأصحاب شهود التفريد وجعل لكل منهم حكما هو أولى به فأما شهوده عبودية: فهو مشاهدة العبد للسيد بحقيقة العبودية والملك له فإن العبيد إذا حضروا بين يدي سيدهم فإنهم ينسون ما هم فيه من الجاه والقرب الذي اختصوا به عن غيرهم باستغراقهم في أدب العبودية وحقها وملاحظتهم لسيدهم خوفا أن يشير إليهم بأمر فيجدهم غافلين عن ملاحظته وهذا أمر يعرفه من شاهد أحوال الملوك وخواصهم
فهذا هو شهود العبد للمنعم بوصف عبوديته له واستغراقه عن الإحسان بما حصل له منه من القرب الذي تميز به عن غيره فصاحب هذا المشهد: إذا أنعم عليه سيده في هذه الحال مع قيامه فى مقام العبودية يوجب عليه أن يستصغر نفسه في حضرة سيده غاية الاستصغار مع امتلاء قلبه من محبته فأي إحسان ناله منه في هذه الحالة رآه عظيما والواقع شاهد بهذا في حال المحب الكامل المحبة المستغرق في مشاهدة محبوبه إذا ناوله شيئا يسيرا فإنه يراه في ذلك المقام عظيما جدا ولا يراه غيره كذلك القسم الثاني: يشهد الحق شهود محبة غالبة قاهرة له مستغرق في شهوده كذلك فإنه يستحلي في هذه الحال الشدة منه لأن المحب يستحلي فعل المحبوب به وأقل ما في هذا المشهد: أن يخف عليه حمل الشدائد إن لم تسمح نفسه(2/255)
باستحلائها وفي هذا من الحكايات المعروفة عند الناس ما يغني عن ذكرها كحال الذي كان يضرب بالسياط ولا يتحرك حتى ضرب آخر سوط فصاح صياحا شديدا فقيل له في ذلك فقال: العين التي كانت تنظر إلي وقت الضرب كانت تمنعني من الإحساس بالألم فلما فقدتها وجدت ألم الضرب وهذه الحال عارضة ليست بلازمة فإن الطبيعة تأبى استحلاء المنافي كاستحلاء الموافق نعم قد يقوى سلطان المحبة حتى يستحلى المحب ما يستمره غيره ويستخف ما يستثقله غيره ويأنس بما يستوحش منه الخلي ويستوحش مما يأنس به ويستلين ما يستوعره وقوة هذا وضعفه بحسب قهر سلطان المحبة وغلبته على قلب المحب القسم الثالث: أن يشهده تفريدا فإنه لا يشهد معه نعمة ولا شدة يقول: إن شهود التفريد: يفني الرسم وهذه حال الفناء المستغرق فيه الذي لا يشهد نعمة ولا بلية فإنه يغيب بمشهوده عن شهوده له ويفنى به عنه فكيف يشهد معه نعمة أو بلية كما قال بعضهم في هذا: من كانت مواهبه لا تتعدى يديه فلا واهب ولا موهوب وذلك مقام الجمع عندهم وبعضهم يحرم العبارة عنه وحقيقته: اصطلام يرفع إحساس صاحبه برسمه فضلا عن رسم غيره لاستغراقه في مشهوده وغيبته به عما سواه وهذا هو مطلوب القوم وقد عرفت أن فوقه مقاما أعلى منه وأرفع وأجل وهو أن يصطلم بمراده عن غيره فيكون في حال مشاهدته واستغراقه: منفذا لمراسيمه ومراده ملاحظا لما يلاحظ محبوبه من المرادات والأوامر فتأمل الآن عبدين بين يدي ملك من ملوك الدنيا وهما على موقف واحد بين يديه أحدهما مشغول بمشاهدته فإن استغراقه في ملاحظة الملك ليس فيه(2/256)
متسع إلى ملاحظة شيء من أمور الملك ألبتة وآخر مشغول بملاحظة حركات الملك وكلماته وإيشأمره ولحظاته وخواطره ليرتب على كل من ذلك ما هو مراد للملك وتأمل قصة بعض الملوك: الذي كان له غلام يخصه بإقباله عليه وإكرامه والحظوة عنده من بين سائر غلمانه ولم يكن الغلام أكثرهم قيمة ولا أحسنهم صورة فقالوا له في ذلك فأراد السلطان أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فيوما من الأيام كان راكبا في بعض شئونه ومعه الحشم وبالبعد منه جبل عليه ثلج فنظر السلطان إلى ذلك الثلج وأطرق فركض الغلام فرسه ولم يعلم القوم لماذا ركض فلم يلبث أن جاء ومعه شيء من الثلج فقال السلطان: ما أدراك أني أريد الثلج فقال الغلام: لأنك نظرت إليه ونظر الملوك إلى شيء لا يكون عن غير قصد فقال السلطان: إنما أخصه بإكرامي وإقبالي لأن لكل واحد منكم شغلا وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي يعني في تحصيل مرادي وسمعت بعض الشيوخ يقول: لو قال ملك لغلامين له بين يديه مستغرقين في مشاهدته والإقبال عليه: اذهبا إلى بلاد عدوي فأوصلا إليهم هذه الكتب وطالعاني بأحوالهم وافعلا كيت وكيت فأحدهما: مضى من ساعته لوجهه وبادر ما أمره به والآخر قال: أنا لا أدع مشاهدتك والاستغراق فيك ودوام النظر إليك ولا أشتغل بغيرك: لكان هذا جديرا بمقت الملك له وبغضه إياه وسقوطه من عينه إذ هو واقف مع مجرد حظه من الملك لا مع مراد الملك منه بخلاف صاحبه الأول وسمعته أيضا يقول: لو أن شخصين ادعيا محبة محبوب فحضرا بين يديه فأقبل أحدهما على مشاهدته والنظر إليه فقط وأقبل الآخر على استقراء مراداته ومراضيه وأوامره ليمتثلها فقال لهما: ما تريدان فقال أحدهما: أريد دوام(2/257)
مشاهدتك والاستغراق في جمالك وقال الآخر: أريد تنفيذ أوامرك وتحصيل مراضيك فمرادي منك ما تريده أنت مني لا ما أريده أنا منك والآخر قال: مرادي منك تمتعي بمشاهدتك أكانا عنده سواء
فمن هو الآن صاحب المحبة المعلولة المدخولة الناقصة النفسانية وصاحب المحبة الصحيحة الصادقة الكاملة أهذا أم هذا وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكى عن بعض العارفين أنه قال: الناس يعبدون الله والصوفية يعبدون أنفسهم
أراد هذا المعنى المتقدم وأنهم واقفون مع مرادهم من الله لا مع مراد الله منهم وهذا عين عبادة النفس فليتأمل اللبيب هذا الموضع حق التأمل فإنه محك وميزان والله المستعان(2/258)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الحياء
قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } [ العلق: 14 ] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [ النساء: 1 ] وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [ غافر: 1 وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مر برجل وهو يعظ أخاه في الحياء فقال: "دعه فإن الحياء من الإيمان "(2/258)
وفيهما عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحياء لا يأتي إلا بخير" وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة فأفضلها: قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" وفيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه وفى الصحيح عنه: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وفي هذا قولان
أحدهما: أنه أمر تهديد ومعناه الخبر أي من لم يستح صنع ما شاء
والثاني: أنه أمر إباحة أي انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله فإن كان مما لا يستحيى منه فافعله والأول أصح وهو قول الأكثرين وفي الترمذي مرفوعا: "استحيوا من الله حق الحياء قالوا: إنا نستحيي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس ذلكم ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى وليحفظ البطن وما حوى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء"
فصل و الحياء من الحياة ومنه الحيا للمطر لكن هو مقصور وعلى حسب
حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء وقلة الحياء من موت القلب والروح فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق(2/259)
ومن كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيي منه وعمارة القلب: بالهيبة والحياء فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك والحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق وقال السري: إن الحياء والأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد والورع وإلا رحلا وفي أثر إلهي يقول الله عز وجل: ابن آدم إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك ومحوت من أم الكتاب زلاتك وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة وفي أثر آخر: أوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: عظ نفسك فإن اتعظت وإلا فاستحي مني: أن تعظ الناس وقال الفضيل بن عياض: خمس من علامات الشقوة: القسوة في القلب وجمود العين وقلة الحياء والرغبة في الدنيا وطول الأمل وفي أثر إلهي ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أرده ويعصيني ولا يستحيي مني وقال يحيى بن معاذ: من استحيى من الله مطيعا استحيى الله منه وهو مذنب
وهذا الكلام يحتاج إلى شرح ومعنا: أن من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى في حال طاعته فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستح خجل: فإنه إذا واقع ذنبا استحيى الله عز وجل من نظره إليه في تلك الحال لكرامته عليه فيستحيي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه: ما يشينه عنده وفي الشاهد شاهد بذلك فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأقربهم منه من صاحب أو ولد أو من يحبه وهو(2/260)
يخونه فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياء عجيب حتى كأنه هو الجاني وهذا غاية الكرم وقد قيل: إن سبب هذا الحياء: إنه يمثل نفسه في حال طاعته كأنه يعصي الله عز وجل فيستحيي منه في تلك الحال ولهذا شرع الاستغفار عقيب الأعمال الصالحة والقرب التي يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل وقيل: إنه يمثل نفسه خائنا فيلحقه الحياء كما إذا شاهد رجلا مضروبا وهو صديق له أو من أحصر على المنبر عن الكلام فإنه يخجل أيضا تمثيلا لنفسه بتلك الحال وهذا قد يقع ولكن حياء من اطلع على محبوبه وهو يخونه ليس من هذا فإنه لو اطلع على غيره ممن هو فارغ البال منه لم يلحقه هذا الحياء ولا قريب منه وإنما يلحقه مقته وسقوطه من عينه وإنما سببه والله أعلم شدة تعلق قلبه ونفسه به فينزل الوهم فعله بمنزلة فعله هو ولا سيما إن قدر حصول المكاشفة بينهما فإن عند حصولها يهيج خلق الحياء منه تكرما فعند تقديرها ينبعث ذلك الحياء هذا في حق الشاهد وأما حياء الرب تعالى من عبده: فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا ويستحيي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام وكان يحيى بن معاد يقول: سبحان من يذنب عبده ويستحيى هو وفي أثر: من استحيى من الله استحيى الله منه وقد قسم الحياء على عشرة أوجه: حياء جناية وحياء تقصير وحياء إجلال وحياء كرم وحياء حشمة وحياء استصغار للنفس واحتقار لها وحياء محبة وحياء عبودية وحياء شرف وعزة وحياء المستحيي من نفسه(2/261)
فاما حياء الجناية: فمنه حياء آدم عليه السلام لما فر هاربا في الجنة قال الله تعالى: أفرارا مني يا آدم قال: لا يا رب بل حياء منك وحياء التقصير: كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ! ما عبدناك حق عبادتك وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه وحياء الكرم: كحياء النبيمن القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب وطولوا الجلوس عنده فقام واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا وحياء الحشمة: كحياء علي بن طالب رضى الله عنه أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلمعن المذي لمكان ابنته منه وحياء الاستحقار واستصغار النفس: كحياء العبد من ربه عز وجل حين يسأله حوائجه احتقار الشأن نفسه واستصغارا لها وفي أثر إسرائيلي إن موسى عليه السلام قال: يارب إنه لتعرض لى الحاجة من الدنيا فأستحيي أن أسألك هي يا رب فقال الله تعالى: سلنى حتى ملح عجينتك وعلف شاتك وقد يكون لهذا النوع سببان أحدهما: استحقار السائل نفسه واستعظام ذنوبه وخطاياه والثاني: استعظام مسؤله وأما حياء المحبة: فهو حياء المحب من محبوبه حتى إنه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه وأحس به في وجهه ولا يدرى ما سببه وكذلك يعرض للمحب عند ملاقاته محبوبه ومناجاته له روعة شديدة ومنه قولهم: جمال رائع وسبب هذا الحياء والروعة مما لا يعرفه أكثر الناس
ولا ريب أن للمحبة سلطانا قاهرا للقلب أعظم من سلطان من يقهر البدن فأين من يقهر قلبك وروحك إلى من يقهر بدنك ولذلك تعجبت الملوك والجبابرة من قهرهم للخلق(2/262)
وقهر المحبوب لهم وذلهم له فإذا فاجأ المحبوب محبه ورآه بغتة: أحس القلب بهجوم سلطانه عليه فاعتراه روعة وخوف وسألنا يوما شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه عن هذه المسألة فذكرت أنا هذا الجواب فتبسم ولم يقل شيئا وأما الحياء الذي يعتريه منه وإن كان قادرا عليه كأمته وزوجته فسببه والله أعلم أن هذا السلطان لما زال خوفه عن القلب بقيت هيبته واحتشامه فتولد منها الحياء وأما حصول ذلك له في غيبة المحبوب: فظاهر لاستيلائه على قلبه فوهمه يغالطه عليه ويكابره حتى كأنه معه
وأما حياء العبودية: فهو حياء ممتزج من محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده وأن قدره أعلى وأجل منها فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة وأما حياء الشرف والعزة فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء وإحسان فإنه يستحي مع بذله حياء شرف نفس وعزة وهذا له سببان أحدهما: هذا والثاني: استحياؤه من الآخذ حتى كأنه هو الآخذ السائل حتى إن بعض أهل الكرم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياء منه وهذا يدخل في حياء التلوم لأنه يستحيي من خجلة الآخذ وأما حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقناعتها بالدون فيجد نفسه مستحيا من نفسه حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى وهذا أكمل ما يكون من الحياء فإن العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر(2/263)
فصل قال صاحب المنازل: الحياء: من أول مدارج أهل الخصوص يتولد
من تعظيم منوط بود إنما جعل الحياء من أول مدارج أهل الخصوص: لما فيه من ملاحظة حضور من يستحيي منه وأول سلوك أهل الخصوص: أن يروا الحق سبحانه حاضرا معهم وعليه بناء سلوكهم وقوله: إنه يتولد من تعظيم منوط بود يعني: أن الحياء حالة حاصلة من امتزاج التعظيم بالمودة فإذا اقترنا تولد بينهما الحياء والجنيد يقول: إن تولده من مشاهدة النعم ورؤية التقصير ومنهم من يقول: تولده من شعور القلب بما يستحيي منه فيتولد من هذا الشعور والنفرة حالة تسمى الحياء ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن للحياء عدة أسباب قد تقدم ذكرها فكل أشار إلى بعضها والله أعلم
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: حياء يتولد من علم
العبد بنظر الحق إليه فيجذبه إلى تحمل هذه المجاهدة ويحمله على استقباح الجناية ويسكته عن الشكوى يعني: أن العبد متى علم أن الرب تعالى ناظر إليه أورثه هذا العلم حياء منه يجذبه إلى احتمال أعباء الطاعة مثل العبد إذا عمل الشغل بين يدي سيده فإنه يكون نشيطا فيه محتملا لأعبائه ولا سيما مع الإحسان من سيده إليه ومحبته لسيده بخلاف ما إذا كان غائبا عن سيده والرب تعالى لا يغيب نظره عن عبده ولكن يغيب نظر القلب والتفاته إلى نظره سبحانه إلى العبيد فإن القلب إذا(2/264)
غاب نظره وقل التفاته إلى نظر الله تبارك وتعالى إليه: تولد من ذلك قلة الحياء والقحة وكذلك يحمله على استقباح جنايته وهذا الاستقباح الحاصل بالحياء قدر زائد على استقباح ملاحظة الوعيد وهو فوقه
وأرفع منه درجة: الاستقباح الحاصل عن المحبة فاستقباح المحب أتم من استقباح الخائف ولذلك فإن هذا الحياء يكف العبد أن يشتكي لغير الله فيكون قد شكا الله إلى خلقه ولا يمنع الشكوى إليه سبحانه فإن الشكوى إليه سبحانه فقر وذلة وفاقة وعبودية فالحياء منه فى مثل ذلك لا ينافيها
فصل قال: الدرجة الثانية: حياء يتولد من النظر في علم القرب
فيدعوه إلى ركوب المحبة ويربطه بروح الأنس ويكره إليه ملابسة الخلق النظر في علم القرب: تحقق القلب بالمعية الخاصة مع الله فإن المعية نوعان: عامة وهى: معية العلم والإحاطة كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [ الحديد: 4 ] وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [ المجادلة: 7 ] وخاصة: وهى معية القرب كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [ النحل: 128 ] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقرة: 153 ] وقوله: { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [ العنكبوت: 69 ] فهذه معية قرب تتضمن الموالاة والنصر والحفظ وكلا المعنيين مصاحبة منه للعبد لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة ف مع في لغة العرب تفيد الصحبة اللائقة لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ولا مجاورة ولا مجانبة فمن ظن شيئا من هذا فمن سوء فهمه أتي(2/265)
وأما القرب: فلا يقع في القرآن إلا خاصا وهو نوعان: قربه من داعيه بالإجابة وقربه من عابده بالإثابة فالأول: كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [ البقرة: 186 ] ولهذا نزلت جوابا للصحابة رضي الله عنهم وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى هذه الآية والثاني: قوله: أقرب ما يكون العبد من ربه: وهو ساجد وأقرب ما يكون الرب من عبده: في جوف الليل فهذا قربه من أهل طاعته وفى الصحيح: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع النبيفي سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته فهذا قرب خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه واستواءه على عرشه بل يجامعه ويلازمه فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولكنه نوع آخر والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز تتقطع فيها أعناق المطي ويجده أقرب إليه من جليسه كما قيل
ألا رب من يدنو ويزعم أنه ... يحبك والنائي أحب وأقرب
وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم وأحب إليهم منها: يجدون نفوسهم أقرب إليه وهم في الأقطار النائية عنه من جيران حجرته في المدينة والمحبون المشتاقون للكعبة والبيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن(2/266)
حولها هذا مع عدم تأتي القرب منها فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على عرشه وأهل الذوق لا يلتفتون فى: ذلك إلى شبهة معطل بعيد من الله خلى من محبته ومعرفته والقصد: أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة وكلما ازداد حبا ازداد قربا فالمحبة بين قربين: قرب قبلها وقرب بعدها وبين معرفتين: معرفة قبلها حملت عليها ودعت إليها ودلت عليها ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها
وأما ربطه بروح الأنس: فهو تعلق قلبه بروح الأنس بالله تعلقا لازما لا يفارقه بل يجعل بين القلب والأنس رابطة لازمة ولا ريب أن هذا يكره إليه ملابسة الخلق بل يجد الوحشة في ملابستهم بقدر أنسه بربه وقرة عينه بحبه وقربه منه فإنه ليس مع الله غيره فإن لابسهم لابسهم برسمه دون سره وروحه وقلبه فقلبه وروحه في ملأ وبدنه ورسمه في ملأ
فصل قال: الدرجة الثالثة: حياء يتولد من شهود الحضرة وهي التي لا
تشوبها هيبة ولا تقارنها تفرقة ولا يوقف لها على غاية شهود الحضرة: انجذاب الروح والقلب من الكائنات وعكوفه على رب البريات فهو في حضرة قربه مشاهدا لها وإذا وصل القلب إليها غشيته الهيبة وزالت عنه التفرقة إذ ما مع الله سواه فلا يخطر بباله في تلك الحال سوى الله وحده وهذا مقام الجمعية وأما قوله: ولا يوقف لها على غاية فيعني أن كل من وصل إلى مطلوبه وظفر به: وصل إلى الغاية إلا صاحب هذا المشهد فإنه لا يقف بحضرة الربوبية على غاية فإن ذلك مستحيل بل إذا شهد تلك الروابى ووقف على تلك الربوع وعاين الحضرة التى هي غاية(2/267)
الغايات شارف أمرا لا غاية له ولا نهاية والغايات والنهايات كلها إليه تنتهي {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [ النجم: 42 ] فانتهت إليه الغايات والنهايات وليس له سبحانه غاية ولا نهاية: لا في وجوده ولا في مزيد جوده إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء و الآخر الذي ليس بعده شىء ولا نهاية وحمده وعطائهبل كلما ازداد له العبد شكرا زاده فضلا وكلما ازداد له طاعة زاده لمجده مثوبة وكلما ازداد منه قربا لاح له من جلاله وعظمته ما لم يشاهده قبل ذلك وهكذا أبدا لا يقف على غاية ولا نهاية ولهذا جاء: إن أهل الجنة في مزيد دائم بلا انتهاء فإن نعيمهم متصل ممن لا نهاية لفضله ولا لعطائه ولا لمزيده ولا لأوصافه فتبارك الله ذو الجلال والإكرام إن هذا لرزقنا ماله من نفاد [ ص: 54 ] ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته: ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر(2/268)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصدق
وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه من صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين ومن مساكنهم(2/268)
في الجنات: تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان: أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [ التوبة: 119 ] وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [ النساء: 69 ] فهم الرفيق الأعلى وحسن أولئك رفيقا ولا يزال الله يمدهم بأنعمه وألطافه ومزيده إحسانا منه وتوفيقا ولهم مرتبة المعية مع الله فإن الله مع الصادقين ولهم منزلة القرب منه إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين وأخبر تعالى أن من صدقه فهو خير له فقال: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [ محمد: 21 ] وأخبر تعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم: من الإيمان والإسلام والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ البقرة: 177 ] وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان وقسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق فقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [ الأحزاب: 24 ] والإيمان أساسه الصدق والنفاق أساسه الكذب فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر وأخبر سبحانه أنه فى يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه(2/269)
قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ المائدة: 119] وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ الزمر: 34 ] فالذي جاء بالصدق: هو من شأنه الصدق فى قوله وعمله وحاله فالصدق: فى هذه الثلاثة فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به: تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه: ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق و الصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق
فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل وقد أمر الله تعالى رسوله: أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [ الإسراء: 80 ] وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84 ] وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [ يونس: 2 ] وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [ القمر: 54-55 ] فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل(2/270)
إلى الله وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر ومخرج الصدق كمخرجه هو وأصحابه في تلك الغزوة وكذلك مدخله المدينة: كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب: أصابه معهم ما أصابهم فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق وكان بعض السلف إذا خرج من داره: رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك يريد: أن لا يكون المخرج مخرج صدق ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه: بخروجهمن مكة ودخوله المدينة ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله: لا يعدو الصدق والكذب والله(2/271)
المستعان وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليهمن سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [ مريم: 50 ] والمراد باللسان ههنا: الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وعبر به عنه فإن اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا واللغة كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [ إبراهيم: 4 ] وقوله: { وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [ الروم: 22 ] وقوله: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [ النحل: 103 ] ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [ القيامة: 16 ] وأما قدم الصدق: ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك فمن فسره بها أراد: ما يقدمون عليه ومن فسره بالأعمال وبالنبي: فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم فالثلاثة قدم صدق وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله فهو صدق غير كذب وحق غير باطل ودائم غير زائل ونافع غير ضار وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل ومن علامات الصدق: طمأنينة القلب إليه ومن علامات الكذب: حصول الريبة كما في الترمذي مرفوعا من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما(2/272)
عنهما عن النبيقال: الصدق طمأنينة والكذب ريبة وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيقال: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عندالله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عندالله كذابا فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب ألبتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدا وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه كل ذلك مناف للصديقية وكذلك الكذب معه في الأعمال: بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم فلذلك كانت الصديقية: كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا حتى إن صدق المتبايعين يحل البركة في بيعهما وكذبهما يمحق بركة بيعهما كما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما: محقت بركة بيعهما(2/273)
فصل في كلمات في حقيقة الصدق قال عبدالواحد بن زيد: الصدق الوفاء
لله بالعمل وقيل: موافقة السر النطق وقيل: استواء السر والعلانية يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه
وقيل: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة وقيل: كلمة الحق عند من تخافه وترجوه وقال الجنيد: الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد يسبق إلى الذهن خلافه وأن الكاذب متلون لأن الكذب ألوان فهو يتلون بتلونه والصادق مستمر على حالة واحدة فإن الصدق واحد في نفسه وصاحبه لا يتلون ولا يتغير لكن مراد الشيخ أبي القاسم صحيح غير هذا فإن المعارضات والواردات التي ترد على الصادق لا ترد على الكاذب المرائي بل هو فارغ منها فإنه لا يرد عليه من قبل الحق موارد الصادقين على الكاذبين المرائين ولا يعارضهم الشيطان كما يعارض الصادقين فإنه لا أرب له في خربة لا شيء فيها وهذه الواردات توجب تقلب الصادق بحسب اختلافها وتنوعها فلا تراه إلا هاربا من مكان إلى مكان ومن عمل إلى عمل ومن حال إلى حال ومن سبب إلى سبب لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها ومكان وسبب: أن يقطعه عن مطلوبه فهو لا يساكن حالة ولا شيئا دون مطلوبه فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى الذي يفوق به الأغنياء والأحوال والأسباب تتقلب به وتقيمه وتقعده وتحركه وتسكنه حتى يجد فيها ما يعينه على مطلوبه وهذا عزيز فيها فقلبه في تقلب وحركة(2/274)
شديدة بحسب سعة مطلوبه وعظمته وهمته أعلى من أن يقف دون مطلبه على رسم أو حال أو يساكن شيئا غيره فهو كالمحب الصادق الذي همته التفتيش على محبوبه وكذا حال الصادق في طلب العلم وحال الصادق في طلب الدنيا فكل صادق في طلب شيء لا يستقر له قرار ولا يدوم على حالة واحدة وأيضا: فإن الصادق مطلوبه رضى ربه وتنفيذ أوامره وتتبع محابه فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها ويستقل معها أين استقلت مضاربها فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ثم في حج ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو في قيام بسبب فيه عمارة الدين والدنيا ثم في عيادة مريض أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم إن أمكن إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع فهو في تفرق دائم لله وجمعية على الله لا يملكه رسم ولا عادة ولا وضع ولا يتقيد بقيد ولا إشارة ولا بمكان معين يصلى فيه لا يصلى في غيره وزي معين لا يلبس سواه وعبادة معينة لا يلتفت إلى غيرها مع فضل غيرها عليها أو هي أعلى من غيرها في الدرجة وبعد ما بينهما كبعد ما بين السماء والأرض فإن البلاء والآفات والرياء والتصنع وعبادة النفس وإيثار مرادها والاشارة إليها: كلها في هذه الأوضاع والرسوم والقيود التي حبست أربابها عن السير إلى قلوبهم فضلا عن السير من قلوبهم إلى الله تعالى فإذا خرج أحدهم عن(2/275)
رسمه ووضعه وزيه وقيده وإشارته ولو إلى أفضل منه استهجن ذلك ورآه نقصا وسقوطا من أعين الناس وانحطاطا لرتبته عندهم وهو قد انحط وسقط من عين الله
وقد يحس أحدهم ذلك من نفسه وحاله ولا تدعه رسومه وأوضاعه وزيه وقيوده: أن يسعى في ترميم ذلك وإصلاحه وهذا شأن الكذاب المرائي الذي يبدي للناس خلاف ما يعلمه الله من باطنه العامل على عمارة نفسه ومرتبته وهذا هو النفاق بعينه ولو كان عاملا على مراد الله منه وعلى الصدق مع الله: لأثقلته تلك القيود وحبسته تلك الرسوم ولرأى الوقوف عندها ومعها عين الانقطاع عن الله لا إليه ولما بالى أي ثوب لبس ولا أي عمل عمل إذا كان على مراد الله من العبد فكلام أبي القاسم الجنيد حق كلام راسخ في الصدق عالم بتفاصيله وآفاته ومواضع اشتباهه بالكذب
وأيضا فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل والرياء والكذب خفيف كالريشة لا يجد له صاحبه ثقلا ألبتة فهو حامل له في أي موضع اتفق بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله وقال بعضهم: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره وقال بعضهم: الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف قال الله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [ البقرة: 94 ] قلت: هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا: إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر: أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا(2/276)
وقالت طائفة: لما ادعت اليهود: أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته كذبهم الله في دعواهم وقال: إن كنتم صادقين فتمنوا الموت لتصلوا إلى الجنة دار النعيم فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه ثم أخبر سبحانه: أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [ البقرة: 95 ] وقالت طائفة منهم محمد بن إسحاق وغيره هذه من جنس آية المباهلة وأنهم لما عاندوا ودفعوا الهدى عيانا وكتموا الحق: دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه وهو أن يدعوا بالموت على الكاذب المفتري و التمني سؤال ودعاء فتمنوا الموت وادعوا به على المبطل الكاذب المفتري وعلى هذا فليس المراد: تمنوه لأنفسكم خاصة كما قاله أصحاب القولين الأولين بل معناه: ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل وهذا أبلغ في إقامة الحجة وبرهان الصدق وأسلم من أن يعارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: فتمنوه أنتم أيضا إن كنتم محقين أنكم أهل الجنة لتقدموا على ثواب الله وكرامته كانوا أحرص شيء على معارضته فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لضره وبلائه وشدة حاله ويدعو به وهذا بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة فإن هذا لا يكون أبدا ولا وقع من أحد منهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه وكفرهم به حسدا وبغيا فلا يتمنوه أبدا لعلمهم أنهم هم الكاذبون وهذا القول: هو الذي نختاره والله أعلم بما أراد من كتابه وقال إبراهيم الخواص: الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه وقال الجنيد: حقيقة الصدق: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب وقيل: ثلاث لا تخطىء الصادق: الحلاوة والملاحة والهيبة(2/277)
وفي أثر إلهي: من صدقني في سريرته صدقته في علانيته عند خلقي وقال سهل بن عبدالله: أول خيانة الصديقين: حديثهم مع أنفسهم وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أضرب بسيفي في سبيل الله وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من علامات الصديقين وفي هذا نظر لأن كراهته لاطلاع الناس على مساوىء عمله من جنس كراهته للضرب والمرض وسائر الآلام وهذا أمر جبلي طبيعي ولا يخرج صاحبه عن الصدق لا سيما إذا كان قدوة متبعا فإن كراهته لذلك من علامات صدقة لأن فيها مفسدتين: مفسدة ترك الاقتداء به واتباعه على الخير وتنفيذه ومفسدة اقتداء الجهال به فيها فكراهيته لاطلاعهم على مساوىء عمله: لا تنافي صدقه بل قد تكون من علامات صدقه نعم المنافي للصدق: أن لا يكون له مراد سوى عمارة حاله عندهم وسكناه في قلوبهم تعظيما له فلو كان مراده تنفيذا لأمر الله ونشرا لدينه وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ودعوة إلى الله: فهذا الصادق حقا والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها وأظن أن هذا هو مراد المحاسبي بقوله: ولا يكره اطلاع الناس على السيء من عمله فإنهم يريدون ذلك فضولا ودخولا فيما لا يعني فرضي الله عن أبي بكر الصديق حيث قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه فهذا وأمثاله يعدونه ويرونه من سيء الأعمال عند العوام والجهال(2/278)
وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت قيل: وما الفرض الدائم قال: الصدق وقيل: من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك وقيل: ما أملق تاجر صدوق
فصل قال صاحب المنازل: الصدق: اسم لحقيقة الشيء بعينه حصولا ووجودا
الصدق: هو حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه كما يقال: عزيمة صادقة إذا كانت قوية تامة وكذلك: محبة صادقة وإرادة صادقة وكذا قولهم: حلاوة صادقة إذا كانت قوية تامة ثابتة الحقيقة لم ينقص منها شيء ومن هذا أيضا: صدق الخبر لأنه وجود المخبر بتمام حقيقته في ذهن السامع فالتمام والوجود نوعان: خارجي وذهني فإذا أخبرت المخاطب بخبر صادق حصلت له حقيقة المخبر عنه بكماله وتمامه في ذهنه ومن هذا: وصفهم الرمح بأنه صادق الكعوب إذا كانت كعوبه صلبة قوية ممتلئة قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: صدق القصد وبه يصح الدخول في هذا الشأن ويتلافى به كل تفريط ويتدارك به كل فائت ويعمر كل خراب وعلامة هذا الصادق: أن لا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد ولا يصبر على صحبة ضد ولا يقعد عن الجد بحال يعني بصدق القصد: كمال العزم وقوة الإرادة بأن يكون في القلب داعية صادقة إلى السلوك وميل شديد يقهر السر على صحة التوجه فهو طلب لا يمازجه رياء ولا فتور ولا يكون فيه قسمة بحال ولا يصح الدخول في شأن السفر إلى الله والاستعداد للقائه إلا به(2/279)
ويتلافى به كل تفريط فإنه حامل على كل سبب ينال به الوصول وقطع كل سبب يحول بينه وبينه فلا يترك فرصة تفوته وما فاته من الفرص السابقة تداركها بحسب الإمكان فيصلح من قلبه ما مزقته يد الغفلة والشهوة ويعمر منه ما خربته يد البطالة ويوقد فيه ما أطفأته أهوية النفس ويلم منه ما شعثته يد التفريط والإضاعة ويسترد منه ما نهبته أكف اللصوص والسراق ويزرع منه ما وجده بورا من أراضيه ويقلع ما وجده شوكا وشبرقا في نواحيه ويستفرغ منه ما ملأته مواد الأخلاط الردئية الفاسدة المترامية به إلى الهلاك والعطب ويداوي منه الجراحات التي أصابته من عبرات الرياء ويغسل منه الأوساخ والحوبات التي تراكمت عليه على تقادم الأوقات حتى لو اطلع عليه لأحزنه سواده ووسخه الذي صار دباغا له فيطهره بالماء البارد من ينابيع الصدق الخالصة من جميع الكدورات قبل أن يكون طهوره بالجحيم والحميم فإنه لا يجاور الرحمن قلب دنس بأوساخ الشهوات والرياء أبدا ولابد من طهور فاللبيب يؤثر أسهل الطهورين وأنفعهما والله المستعان وقوله: وعلامة هذا الصادق: أن لا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد يعني أن الصادق حقيقة: هو الذي قد انجذبت قوى روحه كلها إلى إرادة الله وطلبه والسير إليه والاستعداد للقائه ومن تكون هذه حاله: لا يحتمل سببا يدعوه إلى نقض عهده مع الله بوجه وقوله: ولا يصبر على صحبة ضده الضد عند القوم: هم أهل الغفلة وقطاع طريق القلب إلى الله وأضر شيء على الصادق: صحبتهم بل لا تصبر نفسه على ذلك أبدا إلا جمع ضرورة وتكون صحبتهم له في تلك الحال بقالبه وشبحه دون قلبه وروحه فإن هذا لما استحكمت الغفلة عليه كما استحكم الصدق في الصادق: أحست روحه بالأجنبية التي بينه وبينهم بالمضادة فاشتدت النفرة وقوي الهرب وبحسب هذه الأجنبية(2/280)
وإحساس الصادق بها: تكون نفرته وهربه عن الأضداد فإن هذا الضد إن نطق أحس قلب الصادق: أنه نطق بلسان الغفلة والرياء والكبر وطلب الجاه ولو كان ذاكرا أو قارئا أو مصليا أو حاجا أو غير ذلك فنفر قلبه منه وإن صمت أحس قلبه: أنه صمت على غير حضور وجمعية على الله وإقبال بالقلب عليه وعكوف السر عليه فينفر منه أيضا فإن قلب الصادق قوي الإحساس فيجد الغيرية والأجنبية من الضد ويشم القلب القلب كما يشم الرائحة الخبيثة فيزوي وجهه لذلك ويعتريه عبوس فلا يأنس به إلا تكلفا ولا يصاحبه إلا ضرورة فيأخذ من صحبته قدر الحاجة كصحبة من يشتري منه أو يحتاج إليه في مصالحه كالزوجة والخادم ونحوه قوله: ولا يقعد عن الجد بحال يعني أنه لما كان صادقا في طلبه مستجمع القوة: لم يقعد به عزمه عن الجد في جميع أحواله فلا تراه إلا جادا وأمره كله جد
فصل قال: الدرجة الثانية: أن لا يتمنى الحياة إلا للحق ولا يشهد
من نفسه إلا أثر النقصان ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص أي لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضى محبوبه ويقوم بعبوديته ويستكثر من الأسباب التي تقر به إليه وتدنيه منه لا لعلة من علل الدنيا ولا لشهوة من شهواتها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله ومكابدة الليل ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر يريد رضي الله عنه: الجهاد والصلاة والعلم النافع وهذه درجات الفضائل وأهلها هم أهل الزلفى والدرجات العليا وقال معاذ رضي الله عنه عند موته: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء(2/281)
لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولا لنكح الأزواج ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر وقوله: ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان يعني لا يرى نفسه إلا مقصرا والموجب له لهذه الرؤية: استعظام مطلوبه واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها وقلة زاده في عينه فمن عرف الله وعرف نفسه: لم ير نفسه إلا بعين النقصان وأما قوله: ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص فلأنه لكمال صدقه وقوة إرادته وطلبه للتقدم: يحمل نفسه على العزائم ولا يلتفت إلى الرفاهية التي في الرخص وهذا لابد فيه من التفصيل فإن الصادق يعمل على رضى الحق تعالى ومحابه فإذا كانت الرخص أحب إليه تعالى من العزائم: كان التفاته إلى ترفيهها وهو عين صدقه فإذا أفطر في السفر وقصر وجمع بين الصلاتين عند الحاجة إليه وخفف الصلاة عند الشغل ونحو ذلك من الرخص التي يحب الله تعالى أن يؤخذ بها: فهذا الالتفات إلى ترفيهها لا ينافي الصدق بل ههنا نكتة وهي أنه فرق بين أن يكون التفاته إليها ترفها وراحة وأن يكون متابعة وموافقة ومع هذا فالالتفات إليها ترفها وراحة لا ينافي الصدق فإن هذا هو المقصود منها وفيه شهود نعمة الله على العبد وتعبده باسمه البر اللطيف المحسن الرفيق فإنه رفيق يحب الرفق وفي الصحيح: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما لما فيه من روح التعبد باسم الرفيق اللطيف وإجمام القلب به لعبودية أخرى فإن القلب لا يزال يتنقل في منازل العبودية فإذا أخذ بترفيه رخصة محبوبه: استعد بها لعبودية أخرى وقد تقطعه عزيمتها عن عبودية هي أحب(2/282)
إلى الله منها كالصائم في السفر الذي ينقطع عن خدمة أصحابه والمفطر الذي يضرب الأخبية ويسقي الركاب ويضم المتاع ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر أما الرخص التأويلية المستندة إلى اختلاف المذاهب والآراء التي تصيب وتخطىء: فالأخذ بها عندهم عين البطالة مناف للصدق
فصل قال: الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق فإن الصدق لا
يستقيم في علم أهل الخصوص إلا على حرف واحد وهو أن يتفق رضى الحق بعمل العبد أو حاله أو وقته وإيقان العبد وقصده: بكون العبد راضيا مرضيا فأعماله إذن مرضية وأحواله صادقة وقصوده مستقيمة وإن كان العبد كسى ثوبا معارا فأحسن أعماله: ذنب وأصدق أحواله: زور وأصفى قصوده: قعود يعني أن الصدق المتحقق إنما يحصل لمن صدق في معرفة الصدق فكأنه قال: لا يحصل حال الصدق إلا بعد معرفة علم الصدق ثم عرف حقيقة الصدق فقال: لا يستقيم الصدق في علم أهل الخصوص إلا على حرف واحد وهو أن يتفق رضى الحق بعمل العبد أو حاله أو وقته وإيقانه وقصده وهذا موجب الصدق وفائدته وثمرته
فالشيخ ذكر الغاية الدالة على الحقيقة التي يعرف انتفاء الحقيقة بانتفائها وثبوتها بثبوتها فإن العبد إذا صدق الله: رضي الله بعمله وحاله ويقينه وقصده لا أن رضى الله نفس الصدق وإنما يعلم الصدق بموافقة رضاه سبحانه ولكن من أين يعلم العبد رضاه(2/283)
فمن ههنا كان الصادق مضطرا أشد ضرورة إلى متابعة الأمر والتسليم للرسول في ظاهره وباطنه والاقتداء به والتعبد بطاعته في كل حركة وسكون مع إخلاص القصد لله عز وجل فإن الله تعالى لا يرضيه من عبده إلا ذلك وما عدا هذا فقوت النفس ومجرد حظها واتباع أهوائها وإن كان فيه من المجاهدات والرياضات والخلوات ما كان فإن الله سبحانه وتعالى أبى أن يقبل من عبده عملا أو يرضى به حتى يكون على متابعة رسوله خالصا لوجهه سبحانه
ومن ههنا يفارق الصادق أكثر السالكين بل يستوحش في طريقه وذلك لقلة سالكها فإن أكثرهم سائرون على طرق أذواقهم وتجريد أنفاسهم لنفوسهم ومتابعة رسوم شيوخهم والصادق في واد وهؤلاء في واد وقوله: فيكون العبد راضيا مرضيا لأنه قد رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فرضي الله به عبدا وأعماله إذا مرضية لله وأحواله صادقة مع الله وقصوده مستقيمة على متابعة أوامر الله عز وجل وقوله وإن كان العبد كسي ثوبا معارا فأحسن أعماله: ذنب وأصدق أحواله: زور وأصفى قصوده: قعود هذا يراد به أمران أحدهما: أن يكسى حلية الصادقين ويلبس ثيابهم على غير قلوبهم وأرواحهم فثوب الصدق عارية له لا ملك له فهو كالمتشبع بما لم يعط فإنه كلابس ثوبي زور فهذا أحسن أعماله: ذنب يعاقب عليه كما يعاقب المقتول في الجهاد والقارىء القرآن المتنسك والمتصدق ويكونون أول من تسعر بهم النار يوم القيامة لما لبسوا ثياب الصادقين على قلوب المرائين هذا معنى صحيح ما أظن الشيخ قصده وإنما أظنه قصد معنى آخر وهو أنه متى تيقن العبد: أن وجوده ثوب(2/284)
معار ليس منه ولا له وإنما إيجاده وصفاته وإرادته وقدرته وأعماله: عارية من الفعال وحده والعبد ليس له من ذاته إلا العدم فوجوده وحياته: ثوب أعيره فمتى نظر بعين الحقيقة إلى كسوته: رأى أحسن أعماله ذنويا في هذا المقام وأصدق أحواله زورا وأصفى قصوده قعودا فلا يرى لنفسه منه عملا ولا حالا ولا قصدا فإنه ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم فكل ما من النفس: فهو ذنب وزور وقعود وما كان مرضيا فهو بالله ومن الله ولله لا بالنفس ولا منها ولا لها فإن العبد إذا رأى أنه قد فعل الطاعة: كانت رؤيته لذلك ذنبا فإنه قد نسب الفعل إليه والله في الحقيقة هو المنفرد بالفعل فعلى هذا لا يتخلص العبد من الذنب قط فإنه إذا خلص فعله من الرياء ومن كل شيء يفسده: اقترن به آخر لا يمكنه الخلاص منه وهو اعتقاده: أنه هو الفاعل والصواب: أن هذا ليس بذنب ولا هو مقدور للعبد ولا مأمور به والكمال في حقه: أن يشهد الأمر كما هو عليه وأنه فاعل حقيقة كما أضاف الله إليه الفعل في كتابه كله والله هو الذي جعله فاعلا فإذا شهد نفسه فاعلا حقيقة وشهد فاعليته بالله ومن الله لا من نفسه: فلا ذنب في هذا الشهود ولا زور بحمد الله وهو نظر بمجموع عينيه إلى السبب والمسبب والشرع والقدر والخلق والأمر وأنه متى شهد نفسه عاصيا مخالفا مذنبا: كان عاصيا بهذا الشهود لأن الفاعل فيه غيره وهذا مناف للعبودية أشد منافاة وهو من سير القوم إلى شهود الحقيقة الكونية واعتقادهم: أنه غاية السالكين
فإن قيل: الشيخ ههنا ما نطق بلسان الأبرار وإنما نطق بلسان المقربين ولا ريب أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولسنا نريد أن شهود فعله ذنب(2/285)
في الشرع بل يكون حسنة كما ذكرتم لكن هو حسنة للبر ذنب للمقرب فإن نصيب البر من السيئة: ما جاء به العلم ونصيب المقرب: ما جاءت به المعرفة التي هي أخص من العلم قيل: هذا أيضا باطل قطعا فإن المعرفة الصحيحة: مطابقة للحق في نفسه شرعا وقدرا ومخالف ذلك فمعرفة فاسدة والحق في نفس الأمر: نسبة الأفعال إلى الفاعلين قياما ومباشرة وصدورا منهم وذلك محل الأمر والنهي والثواب والعقاب والقدح في ذلك مستلزم لإبطال الشرع والجزاء فإن الشرع إنما أمر بأفعالنا ونهى عنها والجزاء إنما ترتب عليها فشهود أفعالنا كذلك من تمام الإيمان بالشرع والجزاء ونسبتها إلى الرب تعالى قضاء وقدرا وخلقا للأسباب التي منها إرادتنا وقدرتنا فلم يجبرنا عليها ولم يكرهنا بل خلقها بما أعطانا من القدرة والإرادة اللتين هما من أسباب الفعل فهذا المشهد يحقق عبودية إياك نستعين والمشهد الأول: يحقق عبودية إياك نعبد وهما يحققان مشهدي: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [ الإنسان: 29-30 ] وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ التكوير: 2829 ] وما جاء به العلم لا يناقض ما جاءت به المعرفة بل المعرفة روح العلم ولبه وكماله وحقيقتها: العلم الذي أثمر لصاحبه مقصوده ولسان الأبرار لا يخالف لسان المقربين إنما يخالف لسان الفجار نعم لسان المقربين أعلى منه وأرفع على مقتضى أعمالهم وأحوالهم فنسبته إليه: كنسبة مقام التوكل إلى الرضى والرضى إلى الحمد والشكر فإن قيل: كلامكم هذا بلسان العلم ولو تكلمتم بلسان الحال لعلمتم صحة ما ذكرناه فإن صاحب الحال صاحب شهود وصاحب العلم صاحب غيبة(2/286)
والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ونحن نشير إليكم إشارة حالية علمية تنزلا من الحال إلى العلم فنقول: الحال تأثر عن نور من أنوار الأحدية والفردانية يستر العبد عن نفسه ويبدي ظهور مشهوده ولا ريب أن في هذا الحال قد يعتقد أن الشاهد هو المشهود حتى قال أبو يزيد في مثل هذا الحال: سبحاني سبحاني وما في الجبة إلا الله ولا شك أن هذا الاعتقاد زور وإن كان سببه نور من أنوار الأحدية وصاحبه معذور ما دام مستورا عن نفسه بوارده فإذا رد إلى رسمه وعقله وحسه: حال ذلك الحال وزال وعلم صاحبه أنه كان زورا حيث ظن أن الشاهد هو المشهود فإن أنكرتم ذلك فلا كلام معكم وإن اعترفتم به حصل المقصود فهذا معنى كون أصدق أحوال الصادق: زورا وإذا عرف هذا في الحال: عرف مثله في كون أحسن أعماله: ذنبا فإنه لصدقه في الطلب وبذله الجهد في العمل واستفراغه الوسع فيه يغيب بذلك عن شهود الحقيقة الكونية وأن المحرك له سواه وأنه آلة ومجرى للمشيئة وأن نفسه أعجز وأضعف من أن يكون لها أو بها أو منها: فعل أو إرادة أو حركة فإذا رجع إلى الحقيقة فشهد منة الله عليه وأنه هو المحرك له وأن مشيئته هي التي أوجبت سعيه: رأى أحسن أعماله: ذنبا بهذا الاعتبار
وأما رؤيته أصفى قصوده: قعودا فلأن القاصد إلى الحقيقة متى شهد مقصوده: قعد عن قصده فإن المقصود المراد: أقرب إلى اللسان من نطقه وإلى القلب من قصده فالقصد إليه: هو عين القعود عن القصد لأن القصد إنما يكون لبعيد عن القاصد أما من هو أقرب إلى القاصد من ذاته: فمتى شاهد القاصد الحقيقة: علم أن قصده عين القعود عن قصده والعبارة تزيد هذا المعنى جفوة والحوالة فيه على الحال والذوق(2/287)
فالجواب أن يقال: من أحالك على الحال فما أنصفك فإنه أحالك على أمر مشترك بين الحق والباطل فإن كل من اعتقد شيئا وطلبه طلبا صادقا واستفرغ وسعه في الوصول إليه: كان له لا محالة فيه حال ليست لغيره بحسب صدقه في طلبه وجمع همته وقصده عليه وهذا يكون للأبرار والفجار بل لأولياء الله وأعدائه فيكون الرجل له شهود بمشهوده وحال في طلبه لا يوجب كونه حقاولا باطلا فإن كل من اعتقد عقيدة وارتاض وصقل قلبه بأنواع الرياضة وجزم بما اعتقده: تجلت له صورة معتقده في عالم نفسه فيظن ذلك كشفا صحيحا وإن كان صادقا في طلبه وحبه لما اعتقده: كان له فيه حال وتأثير بحسبه فالحوالة على الحال حوالة مفلس من العلم على غير مليء به ومن ههنا دخل الداخل على أكثر السالكين وانعكس سيرهم حيث أحالوا العلم على الحال وحكموه عليه
وسير أولياء الله وعباده الأبرار والمقربين: بخلاف هذا وهو إحالة الحال على العلم وتحكيمه عليه وتقديمه ووزنه به وقبول حكمه فإن وافقه العلم وإلا كان حالا فاسدا من حرفا عن أحوال الصادقين بحسب بعده عن العلم فالعلم حاكم والحال محكوم عليه والعلم راع والحال من رعيته فمن لم يكن هذا أصل بناء سلوكه فسلوكه فاسد وغايته: الانسلاخ من العلم والدين كما جرى ذلك لمن جرى له وبالله المستعان ونحن لا ننكر ما ذكرتم من غيبة الشاهد بمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته وبمحبوبه عن حبه لكن ننكر كون هذا أكمل حالا من صاحب البقاء والتمييز وشهود الحقائق على ما هي عليه فلا يحتاج أن يشهد حاله زورا لأنه لم يحصل له ما حصل لصاحب السكر والاصطلام من الزور فهو أكمل منه حقيقة وشرعا(2/288)
وأما الغائب عن الحقيقة الكونية بشهود فعله: فإنه متى صحبه استصحاب عقد التوحيد وأن مصدر كل شيء مشيئة الله وحده وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يتحرك متحرك في ظاهره أو باطنه إلا به سبحانه: فلا تضره الغيبة عن هذا المشهد باستغراقه في القصد والطلب والفعل إذ حكمه جار عليه في هذه الحال وليس ضيق قلبه عن استحضار ذلك وقت استجماع إرادته وفعله وطلبه: ذنبا لا للخاصة ولا للعامة ولا بالنسبة إلى مقامه أيضا فإن الذنب تعمد مخالفة الأمر وهذا ليس كذلك ولا هو مطالب بالغيبة عن شهود الحقيقة والفناء فيها عن شهود الفعل وقيامه به مع اعتقاد أنه بمشيئة الله وحوله وقوته وأما ما ذكرتم من أن مشاهدة القرب تجعل القصد قعودا: فكلام له خبىء وقد أفصح عنه بعض المغرورين المخدوعين بقوله:
ما بال عينك لا يقر قرارها ... وإلام ظلك لا ينى متنقلا
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا
وكأن صاحبه يشير إلى أنه وجود قلبه ولسانه ووجوده أقرب إليه من إرادته ولطفه هذا خبىء هذا الكلام وتعالى الله عن إلحاد هذا وأمثاله وإفكهم علوا كبيرا بل هو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وأما ما ذكرتم من القرب: فإن أردتم عموم قربه إلى كل لسان من نطقه وإلى كل قلب من قصده: فهذا لو صح لكان قرب قدرة وعلم وإحاطة لا قربا بالذات والوجود فإنه سبحانه لا يمازج خلقه ولا يخالطهم ولا يتحد بهم مع أن هذا المعنى لم يرد عن الله ورسوله ولا عن أحد من السلف الأخيار تسميته قربا ولم يجىء القرب في القرآن والسنة قط إلا خاصا كما تقدم
وإن أردتم القرب الخاص إلى اللسان والقلب: فهذا قرب المحبة وقرب الرضى والأنس كقرب العبد من ربه وهو ساجد وهو نوع آخر من القرب(2/289)
لا مثال له ولا نظير فإن الروح والقلب يقربان من الله وهو على عرشه والروح والقلب في البدن وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك
وهذا القرب لا ينافي القصد والطلب بل هو مشروط بالقصد فيستحيل وجوده بدونه وكلما كان الطلب والقصد أتم: كان هذا القرب أقوى فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ ق: 16 ] قيل: هذه الآية فيها قولان للناس أحدهما: أنه قربه بعلمه ولهذا قرنه بعلمه بوسوسة نفس الإنسان و حبل الوريد حبل العنق وهو عرق بين الحلقوم والودجين الذي متى قطع مات صاحبه وأجزاء القلب وهذا الحبل يحجب بعضها بعضا وعلم الله بأسرار العبد وما في ضميره لا يحجبه شيء والقول الثاني: أنه قربه من العبد بملائكته الذين يصلون إلى قلبه فيكون أقرب إليه من ذلك العرق اختاره شيخنا
وسمعته يقول: هذا مثل قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [ يوسف: 3 ] وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [ القيامة: 18 ] فإن جبريل عليه السلام هو الذي قصه عليه بأمر الله فنسب تعليمه إليه إذ هو بأمره وكذلك جبريل هو الذي قرأه عليه كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: فإذا قرأه رسولنا فأنصت لقراءته حتى يقضيها قلت: أول الآية يأبى ذلك فإنه قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ ق: 16 ] قال: وكذلك خلقه للإنسان إنما هو بالأسباب وتخليق الملائكة قلت: وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه في تخليق النطفة: فيقول الملك الذي يخلقه: يارب ذكر أم أنثى أسوى أم غير سوى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك فهو سبحانه الخالق وحده ولا ينافي ذلك(2/290)
استعمال الملائكة بإذنه ومشيئته وقدرته في التخليق فإن أفعالهم وتخليقهم خلق له سبحانه فما ثم خالق على الحقيقة غيره والمقصود: أن هذا موضع ضلت فيه أفهام وزلت فيه أقدام واشتبهت فيه معية العلم والقدرة والإحاطة بالقرب واشتبهت فيه آثار قرب المحبة والرضى والموافقة وغلبة ذكره ومراقبته بقرب ذاته واشتبه فيه ما في الذهن بما في الخارج واشتبه اضمحلال شهود الرسم وانمحاؤه من القلب بعدمه وفنائه واشتبهت فيه آثار الصفات بحقيقتها وأنوار المعرفة بأنوار الذات وأصحابه لتحكيمهم الحال والذوق لا يلتفتون إلى لسان العلم ولا يصغون إليه وفي هذا كفاية والله المستعان(2/291)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإيثار قال الله تعالى
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ الحشر: 9 ] فالإيثار ضد الشح فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه والشحيح: حريص على ما ليس بيده فإذا حصل بيده شيء شح عليه وبخل بإخراجه فالبخل ثمرة الشح والشح يأمر بالبخل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا فالبخيل: من أجاب داعي الشح والمؤثر: من أجاب داعي الجود كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء وهو أفضل من سخاء البذل قال عبدالله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل(2/291)
وهذا المنزل: هو منزل الجود والسخاء والإحسان وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه فإن المراتب ثلاثة إحداها: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة السخاء الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئا أو يبقى مثل ما أعطى فهو الجود الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهي مرتبة الإيثار وعكسها الأثرة وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [ الحشر: 9 ] فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفا وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين حتى إنه مرض مرة فاستبطأ إخوانه في العيادة فسأل عنهم فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده وقالوا له يوما: هل رأيت أسخى منك قال: نعم نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها فقالت: إنه نزل بك ضيفان فجاء بناقة فنحرها وقال: شأنكم فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر وهو يفعل ذلك فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه ومضينا فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام أعطيتموني ثمن قراي ثم إنه لحقنا وقال: لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي فأخذناه وانصرف(2/292)
فتأمل سر التقدير حيث قدر الحكيم الخبير سبحانه استئثار الناس على الأنصار بالدنيا وهم أهل الإيثار ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار فاعلم أنه لخير يراد بك والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل و الجود عشر مراتب أحدها: الجود بالنفس وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية
الجود الثانية: الجود بالرياسة وهو ثاني مراتب الجود فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها والإيثار في قضاء حاجات الملتمس
الثالثة: الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه فيجود بها تعباوكدا في مصلحة غيره ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره كما قيل: متيم بالندى لو قال سائله % هب لي جميع كرى عينيك لم ينم الرابعة: الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال والناس في الجود به على مراتب متفاوتة وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ: أن لاينفع به بخيلا أبدا ومن الجود به: أن تبذله لمن يسألك عنه بل تطرحه عليه طرحا ومن الجود بالعلم: أن السائل إذا سألك عن مسألة: استقصيت له جوابها(2/293)
جوابا شافيا لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا نعم أو لا مقتصرا عليها ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في ذلك أمرا عجيبا: كان إذا سئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر ومأخذ الخلاف وترجيح القول الراجح وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم: أعظم من فرحه بمسألته وهذه فتاويه رحمه الله بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها بحيث يشفيه ويكفيه وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المتوضىء بماء البحر فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته فأجابهم عن سؤالهم وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا جف قالوا: نعم قال: فلا إذن ولم يكن يخفى عليه نقصان الرطب بجفافه ولكن نبههم على علة الحكم وهذا كثير جدا في أجوبته مثل قوله: إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق وفي لفظ: أرأيت إن منع الله الثمرة: بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن وهي منع الله الثمرة التي ليس للمشتري فيها صنع وكان خصومه يعني شيخ الإسلام ابن تيمية يعيبونه بذلك ويقولون:(2/294)
سأله السائل عن طريق مصر مثلا فيذكر له معها طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ولعمر الله ليس ذلك بعيب وإنما العيب: الجهل والكبر وهذا موضع المثل المشهور:
لقبوه بحامض وهو خل ... مثل من لم يصل إلى العنقود
الخامسة: الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد كما أن التعليم وبذل العلم زكاته
السادسة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه كما قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين: صدقة ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه: صدقة والكلمة الطيبة: صدقة وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة: "صدقة ويميط الأذى عن الطريق": صدقة متفق عليه
السابعة: الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضى الله عنهم كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني: فهو في حل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه
الثامنة: الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء وهذه مرتبة شريفة من مراتبه وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له وأنصر وأملك لنفسه وأشرف لها ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة وهذا جود الفتوة قال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ(2/295)
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [ المائدة: 45 ] وفي هذا الجود قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [ الشورى: 40 ] فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية: مقام العدل وأذن فيه ومقام الفضل وندب إليه ومقام الظلم وحرمه
التاسعة: الجود بالخلق والبشر والبسطة وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم وهو أثقل ما يوضع في الميزان قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه " وفي هذا الجود من المنافع والمسار وأنواع المصالح ما فيه والعبد لا يمكنه أن يسع الناس بحاله ويمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله
العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه ولا يستشرف له بقلبه ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه وهذا الذي قال عبدالله ابن المبارك: إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد: وإن لم أعطك ما تجود به على الناس فجد عليهم بزهدك في أموالهم وما في أيديهم تفضل عليهم وتزاحمهم في الجود وتنفرد عنهم بالراحة ولكل مرتبة من مراتب الجود مزيد وتأثير خاص في القلب والحال والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك والله المستعان
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله: الإيثار: تخصيص واختيار والأثرة:
تحسن طوعا وتصح كرها فرق الشيخ بين الإيثار و الأثرة وجعل الإيثار اختيارا و الأثرة منقسمة إلى اختيارية واضطرارية وبالفرق بينهما يعلم معنى كلامه(2/296)
فإن الإيثار هو البذل وتخصيصك لمن تؤثره على نفسك وهذا لا يكون إلا اختيارا وأما الأثرة فهي استئثار صاحب الشيء به عليك وحوزه لنفسه دونك فهذه لا يحمد عليها المستأثر عليه إلا إذا كانت طوعا مثل أن يقدر على منازعته ومجاذبته فلا يفعل ويدعه وأثرته طوعا فهذا حسن وإن لم يقدر على ذلك كانت أثرة كره ويعني بالصحة: الوجود أي توجد كرها ولكن إنما تحسن إذا كانت طوعا من المستأثر عليه فحقيقة الإيثار بذل صاحبه وإعطاؤه و الأثرة استبداله هو بالمؤثر به فيتركه وما استبدل به: إما طوعا وإما كرها فكأنك آثرته باستئثاره حيث خليت بينه وبينه ولم تنازعه قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله فالسمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره: لهم معه ومع الأئمة بعده والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة فإنه لم يستأثر عليهم
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: أن تؤثر الخلق
على نفسك فيما لا يحرم عليك دينا ولا يقطع عليك طريقا ولا يفسد عليك وقتا يعني: أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم مثل أن تطعمهم وتجوع وتكسوهم وتعرى وتسقيهم وتظمأ بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين ومثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلا مضطرا(2/297)
مستشرفا للناس أو سائلا وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه فإنه سفه وعجز يذم المؤثر به عند الله وعند الناس وأما قوله: ولا يقطع عليك طريقا أي لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخد يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى فإيثارهم عليه عين الغبن وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره وما أقل المؤثرين الله على غيره وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته ويشتت خاطره فهذا أيضا إيثار غير محمود وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع واشتغال القلب بالله ونظائر ذلك لا تخفى بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله: فلا تؤثر به أحدا فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم وأي جهالة وسفه فوق هذا ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب وقالوا: إنه مكروه أو حرام كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ويرفعه عليه فيفوز به دونه(2/298)
وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها وأجابوا عنه بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت إذ لا تقرب في حق الميت وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر والله أعلم
فصل قال: ولا يستطاع إلا بثلاثة أشياء: بتعظيم الحقوق ومقت الشح
والرغبة في مكارم الأخلاق ذكر ما يعين على الإيثار فيبعث عليه وهو ثلاثة أشياء تعظيم الحقوق فإن من عظمت الحقوق عنده قام بواجبها ورعاها حق رعايتها واستعظم إضاعتها وعلم أنه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطا لأدائها الثاني: مقت الشح فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار فإنه يرى أنه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلا بالإيثار الثالث: الرغبة في مكارم الأخلاق وبحسب رغبته فيها: يكون إيثاره لأن الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق
فصل قال: الدرجة الثانية: إيثار رضى الله على رضى غيره وإن عظمت
فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن إيثار رضى الله عز وجل على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه وأعلاها لأولى العزم منهم وأعلاها لنبينا وعليهم(2/299)
فإنه قاوم العالم كله وتجرد للدعوة إلى الله واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى وآثر رضى الله على رضى الخلق من كل وجه ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم بل كان همه وعزمه وسعيه كله مقصورا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته وإعلاء كلماته وجهاد أعدائه حتى ظهر دين الله على كل دين وقامت حجته على العالمين وتمت نعمته على المؤمنين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال صلوات الله وسلامه عليه وأما قوله: وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن فإن المحنة تعظم فيه أولا ليتأخر من ليس من أهله فإذا احتملها وتقدم انقلبت تلك المحن منحا وصارت تلك المؤن عونا وهذا معروف بالتجربة الخاصة والعامة فإنه ما آثر عبد مرضاة الله عز وجل على مرضاة الخلق وتحمل ثقل ذلك ومؤنته وصبر على محنته: إلا أنشأ الله من تلك المحنة والمؤنة نعمة ومسرة ومعونة بقدر ما تحمل من مرضاته فانقلبت مخاوفه أمانا ومظان عطبه نجاة وتعبه راحة ومؤنته معونة وبليته نعمة ومحنته منحة وسخطه رضى فيا خيبة المتخلفين ويا ذلة المتهيبين هذا وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يسخط عليه من آثر رضاه ويخذله من جهته ويجعل محنته على يديه فيعود حامده ذاما ومن آثر مرضاته ساخطا فلا على مقصوده منهم حصل ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل وهذا أعجز الخلق وأحمقهم هذا مع أن رضى الخلق: لا مقدور ولا مأمور ولا مأثور فهو مستحيل بل لا بد من سخطهم عليك فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضى الله عنك أحب إليك وأنفع لك من أن يسخوا عليك والله عنك غير راض فإذا كان سخطهم لابد منه على التقديرين فآثر سخطهم الذي ينال به رضي الله فإن هم رضوا(2/300)
عنك بعد هذا وإلا فأهون شيء رضى من لا ينفعك رضاه ولا يضرك سخطه في دينك ولا في إيمانك ولا في آخرتك فإن ضرك في أمر يسير في الدنيا فمضرة سخط الله أعظم وأعظم وخاصة العقل: احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما فوازن بعقلك ثم انظر أي الأمرين وأيهما خير فآثره وأيهما شر فابعد عنه فهذا برهان قطعي ضروري في إيثار رضي الله على رضى الخلق هذا مع أنه إذا آثر رضى الله كفاه الله مؤنة غضب الخلق وإذا آثر رضاهم لم يكفوه مؤنة غضب الله عليه قال بعض السلف: لمصانعة وجه واحد أيسر عليك من مصانعة وجوه كثيرة إنك إذا صانعت ذلك الوجه الواحد كفاك الوجوه كلها وقال الشافعي رضي الله عنه: رضى الناس غاية لا تدرك فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه ومعلوم: أنه لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضى ربها ومولاها على غيره ولقد أحسن أبو فراس في هذا المعنى إلا أنه أساء كل الإساءة في قوله إذ يقوله لمخلوق لا يملك له ولا لنفسه نفعا ولا ضرا:
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
ثم ذكر الشيخ رحمه الله ما يستطاع به هذا الإيثار العظيم الشأن فقال: ويستطاع هذا بثلاثة أشياء: بطيب العود وحسن الإسلام وقوة الصبر من المعلوم: أن المؤثر لرضى الله متصد لمعاداة الخلق وأذاهم وسعيهم في إتلافه ولابد هذه سنة الله في خلقه وإلا فما ذنب الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس والقائمين بدين الله الذابين عن كتابه وسنة رسوله عندهم(2/301)
فمن آثر رضى الله فلابد أن يعاديه رذالة العالم وسقطهم وغرثاهم وجهالهم وأهل البدع والفجور منهم وأهل الرياسات الباطلة وكل من يخالف هديه هديه فما يقدم على معاداة هؤلاء إلا طالب الرجوع إلى الله عامل على سماع خطاب: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [ الفجر: 27-28 ] ومن إسلامه صلب كامل لا تزعزعه الرجال ولا تقلقله الجبال ومن عقد عزيمة صبره محكم لا تحله المحن والشدائد والمخاوف
قلت: وملاك ذلك أمران: الزهد في الحياة والثناء فما ضعف من ضعف وتأخر من تأخر إلا بحبه للحياة والبقاء وثناء الناس عليه ونفرته من ذمهم له فإذا زهد في هذين الشيئين تأخرت عنه العوارض كلها وانغمس حينئذ في العساكر وملاك هذين الشيئين بشيئين: صحة اليقين وقوة المحبة وملاك هذين بشيئين أيضا: بصدق اللجإ والطلب والتصدي للأسباب الموصلة إليهما فإلى ههنا تنتهي معرفة الخلق وقدرتهم والتوفيق بعد بيد من أزمة الأمور كلها بيده {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [ الإنسان: 30-31 ]
فصل قال: الدرجة الثالثة: إيثار إيثار الله فإن الخوض في الإيثار
دعوى في الملك ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله ثم غيبتك عن الترك يعني بإيثار إيثار الله: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك وأنه هو الذي تفرد بالإيثار لا أنت فكأنك سلمت الإيثار إليه فإذا آثرت غيرك بشيء فإن الذي آثره هو الحق لا أنت فهو المؤثر حقيقة إذ هو المعطي حقيقة(2/302)
ثم بين الشيخ السبب الذي يصح به نسبة الإيثار إلى الله وترك نسبته إلى نفسك فقال: فإن الخوض في الإيثار: دعوى في الملك فإذا ادعى العبد: أنه مؤثر فقد ادعى ملك ما آثر به غيره والملك في الحقيقة: إنما هو لله الذي له كل شيء فإذا خرج العبد عن دعوى الملك فقد آثر إيثار الله وهو إعطاؤه على إيثار نفسه وشهد أن الله وحده هو المؤثر بملكه وأما من لا ملك له: فأي إيثار له وقوله: ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله يعني أنك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثار إليه: بقيت عليك من نفسك بقية أخرى لابد من الخروج عنها وهي أن تعرض عن شهودك رؤيتك أنك آثرت الحق بإيثارك وأنك نسبت الإيثار إليه لا إليك فإن في شهودك ذلك ورؤيتك له: دعوى أخرى هي أعظم من دعوى الملك وهي أنك ادعيت أن لك شيئا آثرت به الله وقدمته على نفسك فيه بعد أن كان لك وهذه الدعوى أصعب من الأولى فإنها تتضمن ما تضمنته الأولى من الملك وتزيد عليها برؤية الإيثار به فالأول: مدع للملك مؤثر به وهذا مدع للملك ومدع للإيثار به فإذن يجب عليه ترك شهود رؤيته لهذا الإيثار فلا يعتقد أنه آثر الله بهذا الإيثار بل الله هو الذي استأثر به دونك فإن الأثرة واجبة له بإيجابه إياها بنفسه لا بإيجاب العبد إياها له قوله: ثم غيبتك عن الترك يريد: أنك إذا نزلت هذا الشهود وهذه الرؤية: بقيت عليك بقية أخرى وهي رؤيتك لهذا الترك المتضمنة لدعوى ملكك للترك وهي دعوى كاذبة إذ ليس للعبد شيء من الأمر ولا بيده فعل ولا ترك وإنما الأمر كله لله وقد تبين في الكشف والشهود والعلم والمعرفة: أن العبد ليس له شيء أصلا والعبد لا يملك حقيقة إنما المالك بالحقيقة سيده فالأثرة والإيثار والاستئثار كلها(2/303)
لله ومنه وإليه سواء اختار العبد ذلك وعلمه أو جهله أم لم يختره فالأثرة واقعة كره العبد أم رضي فإنها استئثار المالك الحق بملكه تعالى وقد فهمت من هذا قوله: فإن الأثرة تحسن طوعا وتصح كرها والله سبحانه وتعالى أعلم(2/304)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الخلق
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [ القلم: 4 ] قال ابن عباس ومجاهد: لعلى دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام وقال الحسن رضي الله عنه: هو آداب القرآن وقال قتادة: هو ما كان يأمر به من أمر الله وينهى عنه من نهى الله والمعنى: إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن وفي الصحيحين: أن هشام بن حكيم: سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئا وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [ الأعراف: 199 ] قال جعفر بن محمد: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية وقد ذكر: أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما هذا قال: لا أدري حتى أسأل فسأل ثم رجع إليه فقال: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ولا ريب أن للمطاع مع الناس ثلاثة أحوال: أحدها: أمرهم ونهيهم بما فيه مصلحتهم الثاني: أخذه منهم ما يبذلونه مما عليهم من الطاعة(2/304)
الثالث: أن الناس معه قسمان: موافق له موال ومعاد له معارض وعليه في كل واحد من هذه واجب فواجبه في أمرهم ونهيهم: أن يأمر بالمعروف وهو المعروف الذي به صلاحهم وصلاح شأنهم وينهاهم عن ضده وواجبه فيما يبذلونه له من الطاعة: أن يأخذ منهم ما سهل عليهم وطوعت له به أنفسهم سماحة واختيارا ولا يحملهم على العنت والمشقة فيفسدهم وواجبه عند جهل الجاهلين عليه: الإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالمثل والانتقام منهم لنفسه فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [ الأعراف: 199 ] قال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما: أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس مثل قبول الأعذار والعفو والمساهلة وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقاقق بواطنهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خذ ما عفا لك من أموالهم وهو الفاضل عن العيال وذلك معنى قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [ البقرة: 219 ] ثم قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وهو كل معروف وأعرفه: التوحيد ثم حقوق العبودية وحقوق العبيد ثم قال تعالى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} يعني إذا سفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه كقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [ الفرقان: 63 ] وعلى هذا فليست بمنسوخة بل يعرض عنه مع إقامة حق الله عليه ولا ينتقم لنفسه وهكذا كان خلقه قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وقال: ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب(2/305)
من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أف ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا متفق عليهما وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن البر: هو حسن الخلق وفي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس فقابل البر بالإثم وأخبر: أن البر حسن الخلق والإثم: حواز الصدور وهذا يدل على أن حسن الخلق: هو الدين كله وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام ولهذا قابله بالإثم وفي حديث آخر: البر: ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدر وقد فسر حسن الخلق بأنه البر فدل على أن حسن الخلق: طمأنينة النفس والقلب والإثم حواز الصدور وما حاك فيها واسترابت به وهذا غير حسن الخلق وسوئه في عرف كثير من الناس كما سيأتي في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: خياركم: أحاسنكم أخلاقا وفي الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء قال الترمذي: حديث حسن صحيح وفيه أيضا وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: تقوى الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج وفيه أيضا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه إن من أكمل المؤمنين إيمانا: أحسنهم خلقا وخياركم: خياركم لنسائهم(2/306)
وفي الصحيح عن عائشة عنه: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم رواه أبو داود وعن ابن عمر رضي الله عنهما عنه: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة: لمن ترك المراء وإن كان محقا وببيت في وسط الجنة: لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه رواه الطبراني وإسناده صحيح فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله وفي الترمذي عن جابر رضي الله عنه عنه: إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون قال: المتكبرون الثرثار: هو كثير الكلام بغير فائده دينية والمتشدق: المتكلم بملء فيه تفاصحا وتعاظما وتطاولا وإظهارا لفضله على غيره وأصله: من الفهق وهو الامتلاء
فصل الدين كله خلق فمن زاد عليك في الخلق: زاد عليك في الدين
وكذلك التصوف قال الكتاني: التصوف هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق: فقد زاد عليك في التصوف وقد قيل: إن حسن الخلق بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى وقيل: حسن الخلق: بذل الجميل وكف القبيح وقيل: التخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل(2/307)
وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة والشجاعة: تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب وهوحقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل والظلم والشهوة والغضب فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح والقبيح في صورة الحسن والكمال نقصا والنقص كمالا والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه فيغضب في موضع الرضى(2/308)
ويرضى في موضع الغضب ويجهل في موضع الأناة ويبخل في موضع البذل ويبذل في موضع البخل ويحجم في موضع الإقدام ويقدم في موضع الإحجام ويلين في موضع الشدة ويشتد في موضع اللين ويتواضع في موضع العزة ويتكبر في موضع التواضع والشهوة: تحمله على الحرص والشح والبخل وعدم العفة والنهمة والجشع والذل والدناءات كلها والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف وإفراطها في القوة فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والبخل والخسة واللؤم والذل والحرص والشح وسفساف الأمور والأخلاق ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والغضب والحدة والفحش والطيش ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر: أولاد غية كثيرون فإن النفس قد تجمع قوة وضعفا فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر وأذلهم إذا قهر ظالم عنوف جبار فإذا قهر صار أذل من امرأة: جبان عن القوي جريء على الضعيف فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضا كما أن الأخلاق الحميدة: يولد بعضها بعضا وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما وطرفاه خلقان ذميمان كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير والتواضع: الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة والكبر والعلو فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت: إما إلى كبر وعلو وإما إلى ذل ومهانة وحقارة وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت: إما إلى قحة(2/309)
وجرأة وإما إلى عجز وخور ومهانة بحيث يطمع في نفسه عدوه ويفوته كثير من مصالحه ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس وكذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط وإما إلى غلظة كبد وقسوة قلب وتحجر طبع كما قال بعضهم:
تبكي علينا ولا نبكي على أحد ... فنحن أغلظ أكبادا من الإبل
وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت: إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة وإما إلى الذل والمهانة والحقارة ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجىء إليها اللئام
وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف وإما إلى تفريط وإضاعة والرفق والأناة بينهما وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت: إما إلى كبر وإما إلى ذل والعزة المحمودة بينهما وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود وإما إلى جبن وتأخر مذموم وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت: إما إلى حسد وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت: إما إلى حرص وكلب وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت: إما إلى قسوة وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد وتأديب ولد(2/310)
ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك وقد ذبح أرحم الخلق بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة وقطع الأيدي من الرجال والنساء وضرب الأعناق وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم وكذلك طلاقة الوجه والبشر المحمود فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد وطي البشر عن البشر وبين الاسترسال مع كل أحد بحيث يذهب الهيبة ويزيل الوقار ويطمع في الجانب كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة والنفرة في قلوب الخلق وصاحب الخلق الوسط: مهيب محبوب عزيز جانبه حبيب لقاؤه وفي صفة نبينا: من رآه بديهة هابه ومن خالطه عشرة أحبه والله أعلم
فصل نافع جدا عظيم النفع للسالك يوصله عن قريب ويسيره بأخلاقه التي
لا يمكنه إزالتها فإن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية: تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم يظفر أكثرهم بتبديلها لكن النفس اشتغلت بتلك الرياضات عن ظهور سلطانها فإذا جاء سلطان تلك الأخلاق وبرز: كسر جيوش الرياضة وشتتها واستولى على مملكة الطبع وهذا فصل يصل به السالك مع تلك الأخلاق ولا يحتاج إلى علاجها وإزالتها ويكون سيره أقوى وأجل وأسرع من سير العامل على إزالتها ونقدم قبل هذا مثلا نضربه مطابقا لما نريده وهو: نهر جار في صببه ومنحدره ومنته إلى تغريق أرض وعمران ودور وأصحابها يعلمون أنه لا ينتهي حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم وأموالهم فانقسموا ثلاث فرق(2/311)
فرقة صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سكره وحبسه وإيقافه فلا تصنع هذه الفرقة كبير أمر فإنه يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر فيكون إفساده وتخريبه أعظم وفرقة رأت هذه الحالة وعلمت أنه لا يغنى عنها شيئا فقالت: لا خلاص من محذوره إلا بقطعه من أصل الينبوع فرامت قطعه من أصله فتعذر عليها ذلك غاية التعذر وأبت الطبيعة النهرية عليهم ذلك أشد الإباء فهم دائما في قطع الينبوع وكلما سدوه من موضع نبع من موضع فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزراعات والعمارات وغرس الأشجار فجاءت فرقة ثالثة خالفت رأي الفرقتين وعلموا أنهم قد ضاع عليهم كثير من مصالحهم فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون به فصرفوه إلى أرض قابلة للنبات وسقوها به فأنبتت أنواع العشب والكلإ والثمار المختلفة الأصناف فكانت هذه الفرقة هم أصوب الفرق في شأن هذا النهر فإذا تبين هذا المثل فالله سبحانه قد اقتضت حكمته: أن ركب الإنسان بل وسائر الحيوان على طبيعة محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية وهي الإرادية وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها وهما مركوزتان في جبلة كل حيوان فبقوة الشهوة والإرادة: يجذب المنافع إلى نفسه وبقوة الغضب: يدفع المضار عنها فإذا استعمل الشهوة في طلب ما يحتاج إليه: تولد منها الحرص وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه: تولد منه القوة والغيرة فإذا عجز عن ذلك الضار: أورثه قوة الحقد وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبدا به أورثه الحسد فإن ظفر به: أورثته شدة شهوته وإرادته: خلق البخل والشح وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه: أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم ومنه يتولد: الكبر(2/312)
والفخر والخيلاء فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب وتزوج أحدهما بصاحبه فإذا تبين هذا: فالنهر مثال هاتين القوتين وهو منصب في جدول الطبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه وحواصله يخربها ويتلفها ولابد فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان وقلع آثاره وهدم عمرانه وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة من حنظل وضريع وشوك وزقوم وهو الذي يأكله أهل النار يوم القيامة يوم المعاد وأما النفوس الزكية الفاضلة: فإنها رأت ما يؤل إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق فأصحاب الرياضات والمجاهدات والخلوات والتمرينات: راموا قطعه من ينبوعه فأبت عليهم ذلك حكمة الله تعالى وما طبع عليه الجبلة البشرية ولم تنقد له الطبيعة فاشتد القتال ودام الحرب وحمى الوطيس وصارت الحرب دولا وسجالا وهؤلاء صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس على إزالة تلك الصفات وفرقة أعرضوا عنها وشغلوا نفوسهم بالأعمال ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات مع تخليتهم إياها على مجراها لكن لم يمكنوا نهرها من إفساد عمرانهم بل اشتغلوا بتحصين العمران وإحكام بنائه وأساسه ورأوا أن ذلك النهر لابد أن يصل إليه فإذا وصل وصل إلى بناء محكم فلم يهدمه بل أخذ عنه يمينا وشمالا فهؤلاء صرفوا قوة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة وإحكام البناء وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفا من هدم البناء وسألت يوما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وبتنظيفها فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس وهو جب القذر كلما نبشته ظهر وخرج ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل(2/313)
ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره وكلما نبشت شيئا ظهر غيره فقلت سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها: انقطع ولم يمكنه السفر قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا وأثنى على قائله إذا تبين هذا فهذه الفرقة الثالثة: رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدى ولا عبثا وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك والثمار والحطب وأنها صوان وأصداف لجواهر منطوية عليها وأن ما خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح والظفر فرأوا أن الكبر نهر يسقي به العلو والفخر والبطر والظلم والعدوان ويسقي به علو الهمة والأنفة والحمية والمراغمة لأعداء الله وقهرهم والعلو عليهم وهذه درة في صدفته فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس واستخرجوا هذه الدرة من صدفته وأبقوه على حاله في نفوسهم لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة يتبختر بين الصفين فقال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع فانظر كيف خلى مجرى هذه الصفة وهذا الخلق يجري في أحسن مواضعه وفي الحديث الآخر وأظنه في المسند: إن من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله فالخيلاء التي يحبها الله: اختيال الرجل في الحرب وعند الصدقة فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية وكيف استحال القاطع موصلا فصاحب الرياضات والعامل بطريق الرياضات والمجاهدات والخلوات: هيهات هيهات إنما يوقعه ذلك في الآفات والشبهات والضلالات فإن(2/314)
تزكية النفوس مسلم إلى الرسل وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا لا خلقا ولا إلهاما فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [ الجمعة: 2 ] وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [ البقرة: 151 ] وتزكية النفوس: أصعب من علاج الأبدان وأشد فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجىء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم وبمحض الانقياد والتسليم لهم والله المستعان فإن قلت: هل يمكن أن يقع الخلق كسبيا أو هو أمر خارج عن الكسب قلت: يمكن أن يقع كسبيا بالتخلق والتكلف حتى يصير له سجية وملكة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس رضي الله عنه: إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة فقال: أخلقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما فقال: بل جبلك الله عليهما فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله فدل على أن من الخلق: ما هو طبيعة وجبلة وما هو مكتسب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت فذكر الكسب والقدر والله أعلم(2/315)
فصل قال صاحب المنازل: الخلق: ما يرجع إليه المتكلف من نعمته أي
خلق كل متكلف: فهو ما اشتملت عليه نعوته فتكلفه يرده إلى خلقه كما قيل: إن التخلق يأتي دونه الخلق
وقال الآخر:
راد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل
فمتكلف ما ليس من نعته ولا شيمته: يرجع إلى شيمته ونعته وسجيته فذاك الذي يرجع إليه: هو الخلق قال: واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم: أن التصوف هو الخلق وجميع الكلام فيه يدور على قطب واحد وهو بذل المعروف وكف الأذى قلت: من الناس من يجعلها ثلاثة: كف الأذى واحتمال الأذى وإيجاد الراحة(2/316)
ومنهم: من يجعلها اثنين كما قال الشيخ بذل المعروف وكف الأذى ومنهم من يردها إلى واحد وهو بذل المعروف والكل صحيح قال: وإنما يدرك إمكان ذلك في ثلاثة أشياء في العلم والجود والصبر ف العلم يرشده إلى مواقع بذل المعروف والفرق بينه وبين المنكر وترتيبه في وضعه مواضعه فلا يضع الغضب موضع الحلم ولا بالعكس ولا الإمساك موضع البذل ولا بالعكس بل يعرف مواقع الخير والشر ومراتبها وموضع كل خلق: أين يضعه وأين يحسن استعماله
و الجود يبعثه على المسامحة بحقوق نفسه والاستقصاء منها بحقوق غيره فالجود هو قائد جيوش الخير
و الصبر يحفظ عليه استدامة ذلك ويحمله على الاحتمال وكظلم الغيظ وكف الأذى وعدم المقابلة وعلى كل خير كما تقدم وهو أكبر العون على نيل كل مطلوب من خير الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [ البقرة: 45 ] فهذه الثلاثة أشياء: بها يدرك التصوف والتصوف: زاوية من زوايا السلوك الحقيقي وتزكية النفس وتهذيبها لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومعية من تحبه فإن المرء مع من أحب كما قال سمنون: ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة فإن المرء مع من أحب والله أعلم
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: أن تعرف مقام الخلق
وأنهم بأقدارهم مربوطون وفي طاقتهم محبوسون وعلى الحكم موقوفون فتستفيد بهذه المعرفة ثلاثة أشياء: أمن الخلق منك حتى الكلب ومحبة الخلق إياك ونجاة الخلق بك فبهذه الدرجة: يكون تحسين الخلق مع الخلق في معاملتهم وكيفية مصاحبتهم(2/317)
وبالثانية: تحسين الخلق مع الله في معاملته وبالثالثة: درجة الفناء على قاعدته وأصله يقول: إذا عرفت مقام الخلق ومقاديرهم وجريان الأحكام القدرية عليهم وأنهم مقيدون بالقدر لا خروج لهم عنه ألبتة ومحبوسون في قدرتهم وطاقتهم لا يمكنهم تجاوزها إلى غيرها وأنهم موقوفون على الحكم الكوني القدري لايتعدونه استفدت بهذه المعرفة ثلاثة أشياء: أمن الخلق منك وذلك: أنه إذا نظر إليهم بعين الحقيقة: لم يطالبهم بما لا يقدرون عليه وامتثل فيهم أمر الله تعالى لنبيه بأخذ العفو منهم فأمنوا من تكليفه إياهم وإلزامه لهم ما ليس في قواهم وقدرهم وأيضا فإنهم يأمنون لائمته فإنه في هذه الحال عاذر لهم فيما يجري عليهم من الأحكام فيما لم يأمر الشرع بإقامته فيهم لأنهم إذا كانوا محبوسين في طاقتهم فينبغي مطالبتهم بما يطالب به المحبوس وعذرهم بما يعذر به المحبوس وإذا بدا منهم في حقك تقصير أو إساءة أو تفريط فلا تقابلهم به ولا تخاصمهم بل اغفر لهم ذلك واعذرهم نظرا إلى جريان الأحكام عليهم وأنهم آلة وههنا ينفعك الفناء بشهود الحقيقة عن شهود جنايتهم عليك كما قال بعض العارفين لرجل تعدى عليه وظلمه: إن كنت ظالما فالذي سلطك علي ليس بظالم وههنا للعبد أحد عشر مشهدا فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه أحدها: المشهد الذي ذكره الشيخ رحمه الله وهو مشهد القدر وأن ما جرى عليه: بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار فإن الكل أوجبته مشيئة الله فما شاء الله كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وإذا شهد هذا: استراح وعلم أنه كائن لا محالة فما للجزع منه وجه وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت(2/318)
فصل المشهد الثاني: مشهد الصبر فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء
أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة وعلم أنه إن لم يصبر اختيارا على هذا وهو محمود صبر اضطرارا على أكبر منه وهو مذموم
فصل المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم فإنه متى شهد ذلك
وفضله وحلاوته وعزته: لم يعدل عنه إلا لعشي في بصيرته فإنه ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم بالتجربة والوجود وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل هذا وفي الصفح والعفو والحلم: من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام: ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام
فصل المشهد الرابع: مشهد الرضى وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا
يكون إلا للنفوس المطمئنة سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته: رضيت بما نالها في الله وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره ومتى تسخط به وتشكى منه كان ذلك دليلا على كذبه في محبته والواقع شاهد بذلك والمحب الصادق كما قيل:
من أجلك جعلت خدي أرضا ... للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه فلينزل عن درجة المحبة وليتأخر فليس من ذا الشأن(2/319)
فصل المشهد الخامس: مشهد الإحسان وهو أرفع مما قبله وهو أن يقابل
إساءة المسيء إليه بالإحسان فيحسن إليه كلما أساء هو إليه ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك
وههنا ينفع استحضار مسألة اقتضاء الهبة الثواب وهذا المسكين قد وهبك حسناته فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها لتثبت الهبة وتأمن رجوع الواهب فيها وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم
ويهونه عليك أيضا: علمك بأن الجزاء من جنس العمل فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك فهذا لابد منه وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها
فصل المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب وهذا مشهد شريف جدا لمن
عرفه وذاق حلاوته وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبونا والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام(2/320)
فصل المشهد السابع: مشهد الأمن فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام:
أمن ما هو شر من ذلك وإذا انتقم: واقعه الخوف ولا بد فإن ذلك يزرع العداوة والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيرا فكم من حقير أردى عدوه الكبير فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل: أمن من تولد العداوة أو زيادتها ولابد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ويكف من جزعه بعكس الانتقام والواقع شاهد بذلك أيضا
فصل المشهد الثامن: مشهد الجهاد وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من
جهاده في سبيل الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامة دين الله وإعلاء كلماته وصاحب هذا المقام: قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فإنه قد وجب أجره على الله وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من سكنى مكة أعزها الله ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم: تلك دماء وأموال ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد فأصفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق فمن قام لله حتى أوذي في الله: حرم الله عليه الانتقام كما قال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [ لقمان: 17 ](2/321)
فصل المشهد التاسع: مشهد النعمة وذلك من وجوه
أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوما يترقب النصر ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ فلو خير العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما لاختار أن يكون مظلوما
ومنها: أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه فإنه ما أصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه فذلك في الحقيقة دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء: فهو مغبون سفيه فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته ومن كان على يديه وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهينة وأنها في الحقيقة نعمة والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة وفي بعض الآثار: أنه يتمنى(2/322)
أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء هذا وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض فالعاقل يعد هذا ذخرا ليوم الفقر والفاقة ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا
فصل المشهد العاشر: مشهد الأسوة وهو مشهد شريف لطيف جدا فإن العاقل
اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم وشأن نبينا وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله وقد قال له ورقة بن نوفل: لتكذبن ولتخرجن ولتؤذين وقال له: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم
أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده: الأمثل فالأمثل ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم وقد صنف في ذلك ابن عبدالبر كتابا سماه محن العلماء
فصل المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد وهو أجل المشاهد وأرفعها فإذا
امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والإنس به واطمأن إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقائه واتخذه وليا دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه: فإنه لا يبقى(2/323)
في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه فهو قلب جائع غير شبعان فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها: فإنه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
فصل وأما قوله: أن يستفيد بمعرفة أقدار الناس وجريان الأحكام عليهم
: محبتهم له ونجاتهم به فلأنه إذا عاملهم بهذه المعاملة: من إقامة أعذارهم والعفو عنهم وترك مقابلتهم: استوت كراهتهم ومحبتهم له وكان ذلك سببا لنجاتهم الأخروية أيضا إذ يرشدهم ذلك إلى القبول منه وتلقي ما يأمرهم به وينهاهم عنه أحسن التلقي هذه طباع الناس
فصل قال: الدرجة الثانية: تحسين خلقك مع الحق وتحسينه منك: أن تعلم أن كل ما يأتي منك يوجب عذرا وأن كل ما يأتي من الحق يوجب شكرا وأن لا ترى له من الوفاء بدا هذه الدرجة مبنية على قاعدتين إحداهما: أن تعلم أنك ناقص وكل ما يأتي من الناقص ناقص فهو يوجب اعتذاره منه لا محالة فعلى العبد أن يعتذر إلى ربه من كل ما يأتي به من خير وشر أما الشر: فظاهر وأما الخير: فيعتذر من نقصانه ولا يراه صالحا لربه فهو مع إحسانه معتذر في إحسانه ولذلك مدح الله أولياءه بالوجل منه مع إحسانهم بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [ المؤمنون: 60 ] وقال النبي(2/324)
: هو الرجل يصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه فإذا خاف فهو بالاعتذار أولى والحامل له على هذا الاعتذار أمران
أحدهما: شهود تقصيره ونقصانه
والثاني: صدق محبته فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه وهو معتذر إليه مستحي منه: أن يواجهه بما واجهه به وهو يرى أن قدره فوقه وأجل منه وهذا مشاهد في محبة المخلوقين القاعدة الثانية: استعظام كل ما يصدر منه سبحانه إليك والاعتراف بأنه يوجب الشكر عليك وأنك عاجزة عن شكره ولا يتبين هذا إلا في المحبة الصادقة فإن المحب يستكثر من محبوبه كل ما يناله فإذا ذكره بشيء وأعطاه إياه: كان سروره بذكره له وتأهيله لعطائه: أعظم عنده من سروره بذلك العطاء بل يغيب بسروره بذكره له عن سروره بالعطية وإن كان المحب يسره ذكر محبوبه له وإن ناله بمساءة كما قال القائل:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالكا
فكيف إذا ناله محبوبه بمسرة وإن دقت فإنه لا يراها إلا جليلة خطيرة فكيف هذا مع الرب تعالى الذي لا يأتي أبدا إلا بالخير ويستحيل خلاف ذلك في حقه كما يستحيل عليه خلاف كماله وقد أفصح أعرف الخلق بربه عن هذا بقوله: والشر ليس إليك أي لا يضاف إليك ولا ينسب إليك ولا يصدر منك فإن أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها كمال وأفعاله كلها فضل وعدل وحكمة ورحمة ومصلحة فبأي وجه ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى فكل ما يأتي منه فله عليه الحمد والشكر وله فيه النعمة والفضل قوله: وأن لا يرى من الوفاء بدا يعني: أن معاملتك للحق سبحانه بمقتضى الاعتذار من كل ما منك والشكر(2/325)
على ما منه: عقد مع الله تعالى لازم لك أبدا لا ترى من الوفاء به بدا فليس ذلك بأمر عارض وحال يحول بل عقد لازم عليك الوفاء به إلى يوم القيامة
فصل قال: الدرجة الثالثة: التخلق بتصفية الخلق ثم الصعود عن تفرقة
التخلق ثم التخلق بمجاوزة الأخلاق هذه الدرجة ثلاثة أشياء أحدها: تصفية الخلق بتكميل ما ذكر في الدرجتين قبله فيصفيه من كل شائبة وقذى ومشوش فإذا فعلت ذلك صعدت من تفرقته إلى جمعيتك على الله فإن التخلق والتصوف تهذيب واستعداد للجمعية وإنما سماه تفرقة: لأنه اشتغال بالغير والسلوك يقتضي الإقبال بالكلية والاشتغال بالرب وحده عما سواه ثم يصعد إلى ما فوق ذلك وهو مجاوزة الأخلاق كلها بأن يغيب عن الخلق والتخلق وهذه الغيبة لها مرتبتان عندهم إحداهما: الاشتغال بالله عز وجل عن كل ما سواه والثانية: الفناء في الفردانية التي يسمونها حضرة الجمع وهي أعلى الغايات عندهم وهي موهبية لا كسبية لكن العبد إذا تعرض وصدق في الطلب: رجى له الظفر بمطلوبه والله أعلم
فصل ومدار حسن الخلق مع الحق ومع الخلق: على حرفين ذكرهما عبدالقادر
الكيلاني فقال: كن مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا نفس فتأمل ما أجل هاتين الكلمتين مع اختصارهما وما أجمعهما لقواعد(2/326)
السلوك ولكل خلق جميل وفساد الخلق إنما ينشأ من توسط الخلق بينك وبين الله تعالى وتوسط النفس بينك وبين خلقه فمتى عزلت الخلق حال كونك مع الله تعالى وعزلت النفس حال كونك مع الخلق فقد فزت بكل ما أشار إليه القوم وشمروا إليه وحاموا حوله والله المستعان(2/327)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التواضع
قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [ الفرقان: 63 ] أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين قال الحسن: علماء حلماء وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا والهون بالفتح في اللغة: الرفق واللين و الهون بالضم: الهوان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان والمضموم صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [ المائدة: 54 ] لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على تضمينا لمعاني هذه الأفعال فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول فالمؤمن ذلول كما في الحديث: "المؤمن كالجمل الذلول والمنافق والفاسق ذليل وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق: الكذاب والنمام والبخيل والجبار" وقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هو من عزة القوة والمنعة والغلبة قال عطاء رضي الله عنه: للمؤمنين كالوالد لولده وعلى الكافرين كالسبع على فريسته(2/327)
كما قال في الآية الأخرى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [ الفتح: 29 ] وهذا عكس حال من قيل فيهم:
كبر علينا وجبنا عن عدوكم ... لبئست الخلتان الكبر والجبن
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إلي: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد"
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" وفي الصحيحين مرفوعا:
"ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر"
وفي حديث احتجاج الجنة والنار: أن النار قالت: مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وهو في الصحيح وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله عز وجل: العزة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني عذبته"
وفي جامع الترمذي مرفوعا عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبارين فيصيبه ما أصابهم" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر على الصبيان فيسلم عليهم وكانت الأمة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت وكان إذا أكل لعق أصابعه الثلاث وكان يكون في بيته في خدمة أهله ولم يكن ينتقم لنفسه قط وكان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب الشاة لأهله ويعلف البعير ويأكل مع الخادم ويجالس المساكين ويمشي مع الأرملة واليتيم(2/328)
في حاجتهما ويبدأ من لقيه بالسلام ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء وكان هين المؤنة لين الخلق كريم الطبع جميل المعاشرة طلق الوجه بساما متواضعا من غير ذلة جوادا من غير سرف رقيق القلب رحيما بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين لين الجانب لهم وقال: ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو تحرم عليه النار تحرم على كل قريب هين لين سهل رواه الترمذي وقال: حديث حسن وقال: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت رواه البخاري وكان يعوض المريض ويشهد الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف
فصل سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له
ويقبله ممن قاله وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب وهذا مذهب الفضيل وغيره وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح ولين الجانب وقال أبو يزيد البسطامي: هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى في الخلق شرا منه وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار(2/329)
وقال إبراهيم بن شيبان: الشرف في التواضع والعز في التقوي والحرية في القناعة ويذكر عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد وفقيه صوفي وغني متواضع وفقير شاكر وشريف سني وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره يقول طرقوا للأمير وركب زيد بن ثابت مرة فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال: مه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا فقال: أرني يدك فأخرجها إليه فقبلها فقال: هكذا أمرنا نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حللا فبعث إلى معاذ حلة مثمنة فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم فبلغ ذلك عمر فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها فعاتبه معاذ فقال عمر: لأنك بعت الأولى فقال معاذوما عليك ادفع لي نصيبي وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه: رأسي بين يديك وقد يرفق الشاب بالشيخ ومر الحسن بن علي صبيان معهم كسر خبز فاستضافوه فنزل فأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال: اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عير بلالا رضي الله عنه بسواده ثم ندم فألقى بنفسه فحلف: لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال(2/330)
وقال رجاء بن حيوة قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة ورأى محمد بن واسع ابنا له يمشي مشية منكرة فقال: تدري بكم شريت أمك بثلاثمائة درهم وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله أنا وأنت تمشي هذه المشية وقال حمدون القصار: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة لا في الدين ولا في الدنيا وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول: كنا في بلاد الترك فأخذ العلج هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزني لأنه لم يكن فى تلك السفينة أحد أحقر مني والأخرى: كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال: اخرج فلم أطق فأخذ برجلي وجرني إلى خارج والأخرى: كنت بالشام وعلي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته فسرني ذلك وفي رواية: كنت يوما جالسا فجاء إنسان فبال علي وقال بعضهم: رأيت في الطواف رجلا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل شيئا فتعجبت منه فقال لي: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع(2/331)
الخاتم وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه والله اعلم
فصل أول ذنب عصى الله به أبو الثقلين: الكبر والحرص فكان الكبر
ذنب إبليس اللعين فآل أمره إلى ما آل إليه وذنب آدم على نبينا وعليه السلام: كان من الحرص والشهوة فكان عاقبته التوبة والهداية وذنب إبليس حمله على الاحتجاج بالقدر والإصرار وذنب آدم أوجب له إضافته إلى نفسه والاعتراف به والاستغفار فأهل الكبر والإصرار والاحتجاج بالأقدار: مع شيخهم وقائدهم إلى النار إبليس وأهل الشهوة: المستغفرون التائبون المعترفون بالذنوب الذين لا يحتجون عليها بالقدر: مع أبيهم آدم في الجنة وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: التكبر شر من الشرك فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى والمشرك يعبد الله وغيره قلت: ولذلك جعل الله النار دار المتكبرين كما قال الله تعالى في سورة الزمر وفي سورة غافر: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [ غافر: 76]، [ الزمر: 72 ] وفي سورة النحل: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [ النحل: 29 ] وفي سورة تنزيل: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [ الزمر: 60 ] وأخبر أن أهل الكبر والتجبر هم الذين طبع الله على قلوبهم فقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [ غافر: 35 ] وقال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر رواه مسلم(2/332)
وقال: الكبر بطر الحق وغمص الناس وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [ النساء: 8 ] تنبيها على أنه لا يغفر الكبر الذي هو أعظم من الشرك وكما أن من تواضع لله رفعه فكذلك من تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغره وحقره ومن تكبر عن الانقياد للحق ولو جاءه على يد صغير أو من يبغضه أو يعاديه فإنما تكبره على الله فإن الله هو الحق وكلامه حق ودينه حق والحق صفته ومنه وله فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله: فإنما رد على الله وتكبر عليه والله أعلم
فصل قال صاحب المنازل: التواضع: أن يتواضع العبد لصولة الحق
يعني: أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل والانقياد والدخول تحت رقه بحيث يكون الحق متصرفا فيه تصرف المالك في مملوكه فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بضده فقال: الكبر بطر الحق وغمص الناس فبطر الحق: رده وجحده والدفع في صدره كدفع الصائل و غمص الناس احتقارهم وازدراؤهم ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها ولما كان لصاحب الحق مقال وصولة: كانت النفوس المتكبرة لا تقر له بالصولة على تلك الصولة التي فيها ولا سيما النفوس المبطلة فتصول على صولة الحق بكبرها وباطلها فكان حقيقة التواضع: خضوع العبد لصولة الحق وانقياده لها فلا يقابلها بصولته عليها قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: التواضع للدين وهو أن لا يعارض بمعقول منقولا ولا يتهم للدين دليلا ولا يرى إلى الخلاف سبيلا(2/333)
التواضع للدين هو الانقياد لما جاء به الرسول والاستسلام له والإذعان وذلك بثلاثة أشياء الأول: أن لا يعارض شيئا مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم المسماة: بالمعقول والقياس والذوق والسياسة فالأولى: للمنحرفين أهل الكبر من المتكلمين الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل: قدمنا العقل وعزلنا النقل إما عزل تفويض وإما عزل تأويل والثاني: للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه قالوا: إذا تعارض القياس والرأي والنصوص: قدمنا القياس على النص ولم نلتفت إليه والثالث: للمتكبرين المنحرفين من المنتسبين إلى التصوف والزهد فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر قدموا الذوق والحال ولم يعبأوا بالأمر والرابع: للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة فهؤلاء الأربعة: هم أهل الكبر والتواضع: التخلص من ذلك كله الثاني: أن لا يتهم دليلا من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة أو ناقص الدلالة أو قاصرها أو أن غيره كان أولى منه ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه وليعلم أن الآفة منه والبلية فيه كما قيل:
وكم من عائب قولاصحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والفهوم
وهكذا الواقع في الواقع حقيقة: أنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن المأفون في عقله وذهنه فالآفة من الذهن العليل لا في نفس الدليل وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك وينبو فهمك عنه فاعلم أنه(2/334)
لعظمته وشرفه استعصى عليك وأن تحته كنزا من كنوز العلم ولم تؤت مفتاحه بعد هذا في حق نفسك وأما بالنسبة إلى غيرك: فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص فما لم تفعل ذلك فلست على شيء ولو ولو وهذا لا خلاف فيه بين العلماء قال الشافعي قدس الله روحه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يحل له أن يدعها لقول أحد الثالث: أن لا يجد إلى خلاف النص سبيلا ألبتة لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله بل إذا أحس بشيء من الخلاف: فهو كخلاف المقدم على الزنا وشرب الخمر وقتل النفس بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك وهو داع إلى النفاق وهو الذي خافه الكبار والأئمة على نفوسهم واعلم أن المخالف للنص لقول متبوعه وشيخه ومقلده أو لرأيه ومعقوله وذوقه وسياسته إن كان عند الله معذورا ولا والله ما هو بمعذور فالمخالف لقوله لنصوص الوحي أولى بالعذر عند الله ورسوله وملائكته والمؤمنين من عباده
فواعجبا إذا اتسع بطلان المخالفين للنصوص لعذر من خالفها تقليدا أو تأويلا أو لغير ذلك فكيف ضاق عن عذر من خالف أقوالهم وأقوال شيوخهم لأجل موافقة النصوص وكيف نصبوا له الحبائل وبغوه الغوائل ورموه بالعظائم وجعلوه أسوأ حالا من أرباب الجرائم فرموه بدائهم وانسلوا منه لواذا وقذفوه بمصابهم وجعلوا تعظيم المتبوعين ملاذا لهم ومعاذا والله أعلم(2/335)
فصل قال: ولا يصح ذلك إلا بأن يعلم: أن النجاة في البصيرة
والاستقامة بعد الثقة وأن البينة وراء الحجة يقول: إن ما ذكرناه من التواضع للدين بهذه الأمور الثلاثة: الأولى: علمه أن النجاة من الشقاء والضلال: إنما هي في البصيرة فمن لا بصيرة له: فهو من أهل الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة والبصيرة نور يجعله الله في عين القلب يفرق به العبد بين الحق والباطل ونسبته إلى القلب: كنسبة ضوء العين إلى العين وهذه البصيرة وهبية وكسبية فمن أدار النظر في أعلام الحق وأدلته وتجرد لله من هواه: استنارت بصيرته ورزق فرقانا يفرق به بين الحق والباطل الثاني: أن يعلم أن الاستقامة إنما تكون بعد الثقة أي لا يتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلا بعد الثقة بصحة ما معه من العلم وأنه مقتبس من مشكاة النبوة ومن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة الثالث: أن يعلم أن البينة وراء الحجة و البينة مراده بها: استبانة الحق وظهوره وهذا إنما يكون بعد الحجة إذا قامت استبان الحق وظهر واتضح وفيه معنى آخر وهو: أن العبد إذا قبل حجة الله بمحض الإيمان والتسليم والانقياد: كان هذا القبول هو سبب تبينها وظهورها وانكشافها لقلبه فلا يصبر على بينة ربه إلا بعد قبول حجته وفيه معنى آخر أيضا: أنه لا يتبين له عيب عمله من صحته إلا بعد العلم الذي هو حجة الله على العبد فإدا عرف الحجة اتضح له بها ما كان مشكلا عليه من علومه وما كان معيبا من أعماله وفيه معنى آخر أيضا: وهو أن يكون وراء بمعنى أمام والمعنى: أن(2/336)
الحجة إنما تحصل للعبد بعد تبينها فإذا لم تتبين له لم تكن له حجة يعني فلا يقنع من الحجة بمجرد حصولها بلا تبين فإن التبين أمام الحجة والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: أن ترضى بما رضي الحق به لنفسه عبدا
من المسلمين أخا وأن لا ترد على عدوك حقا وأن تقبل من المعتذر معاذيره يقول: إذا كان الله قد رضي أخاك المسلم لنفسه عبدا أفلا ترضى أنت به أخا فعدم رضاك به أخا وقد رضيه سيدك الذي أنت عبده عبدا لنفسه عين الكبر وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله لا يرضى بأخوته وسيده راض بعبوديته فيجيء من هذا: أن المتكبر غير راض بعبودية سيده إذ عبوديته توجب رضاه بأخوة عبده وهذا شأن عبيد الملوك فإنهم يرون بعضهم خشداشية بعض ومن ترفع منهم عن ذلك: لم يكن من عبيد أستاذهم قوله: وأن لا ترد على عدوك حقا أي لا تصح لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحب وممن تبغض فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك وإذا لم ترد عليه حقه فكيف تمنعه حقا له قبلك بل حقيقة التواضع أنه إذا جاءك قبلته منه وإذا كان له عليك حق أديته إليه فلا تمنعك عداوته من قبول حقه ولا من إيتائه إياه وأما قبولك من المعتذر معاذيره فمعناه: أن من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقا كانت أو باطلا وتكل سريرته إلى الله تعالى كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو فلما قدم جاءوا يعتذرون إليه فقبل أعذارهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى وعلامة الكرم والتواضع: أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه(2/337)
ولا تحاجه وقل يمكن أن يكون الأمر كما تقول ولو قضى شيء لكان والمقدور لا مدفع له ونحو ذلك
فصل قال: الدرجة الثالثة: أن تتضع للحق فتنزل عن رأيك وعوائدك
في الخدمة ورؤية حقك في الصحبة وعن رسمك في المشاهدة بقول: التواضع بأن تخدم الحق سبحانه وتعبده بما أمرك به على مقتضى أمره لا على ما تراه من رأيك ولا يكون الباعث لك داعي العادة كما هو باعث من لا بصيرة له غير أنه اعتاد أمرا فجرى عليه ولو اعتاد ضده لكان كذلك وحاصله: أنه لا يكون باعثه على العبودية مجرد رأي وموافقة هوى ومحبة ولا عادة بل الباعث مجرد الأمر والرأي والمحبة والهوى والعوائد: منفذة تابعة لا أنها مطاعة باعثة وهذه نكتة لا يتنبه لها إلا أهل البصائر وأما نزوله عن رؤية حقه في الصحبة فمعناه: أن لا يرى لنفسه حقا على الله لأجل عمله فإن صحبته مع الله بالعبودية والفقر المحض والذل والانكسار فمتى رأى لنفسه عليه حقا فسدت الصحبة وصارت معلولة وخيف منها المقت ولا ينافي هذا ما أحقه سبحانه على نفسه من إثابة عابديه وإكرامهم فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره وجوده وإحسانه لا باستحقاق العبيد وأنهم أوجبوه عليه بأعمالهم فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي هو مفترق الطرق والناس فيه ثلاث فرق فرقة رأت أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقا فقالت: لا يجب على الله شيء ألبتة وأنكرت وجوب ما أوجب على نفسه وفرقة رأت أنه سبحانه أوجب على نفسه أمورا لعبده فظنت أن العبد(2/338)
أوجبها عليه بأعماله وأن أعماله كانت سببا لهذا الإيجاب والفرقتان غالطتان والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحا ولا يدخل أحدا عمله الجنة أبدا ولا ينجيه من النار والله تعالى بفضله وكرمه ومحض جوده وإحسانه أكد إحسانه وجوده وبره بأن أوجب لعبده عليه سبحانه حقا بمقتضى الوعد فإن وعد الكريم إيجاب ولو ب عسى ولعل ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: عسى: من الله واجب ووعد اللئيم خلف ولو اقترن به العهد والحلف والمقصود: أن عدم رؤية العبد لنفسه حقا على الله لا ينافي ما أوجبه الله على نفسه وجعله حقا لعبده قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قال: الله ورسوله أعلم قال: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقهم عليه: أن لا يعذبهم بالنار" فالرب سبحانه ما لأحد عليه حق ولا يضيع لديه سعي كما قيل:
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعد له أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع
وأما قوله: وتنزل عن رسمك في المشاهدة أي من جملة التواضع للحق: فناؤك عن نفسك فإن رسمه هي نفسه والنزول عنها: فناؤه عنها حين شهوده الحضرة وهذا النزول يصح أن يقال كسبي باعتبار وإن كان عند القوم غير كسبي لأنه يحصل عند التجلي والتجلي نور والنور يقهر الظلمة ويبطلها والرسم عند القوم ظلمة فهي تنفر من النور بالذات فصار النزول عن الرسم حين التجلي ذاتيا ووجه كونه كسبيا: أنه نتيجة المقامات الكسبية ونتيجة الكسبي كسبي(2/339)
وثمرته وإن حصلت ضرورة بالذات: لم يمتنع أن يطلق عليها كونها كسبية باعتبار السبب والله أعلم(2/340)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفتوة هذه المنزلة
حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس وكف الأذى عنهم واحتمال أذاهم فهي استعمال حسن الخلق معهم فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله والفرق بينها وبين المروءة: أن المروءة أعم منها فالفتوة نوع من أنواع المروءة فإن المروءة استعمال ما يجمل ويزين مما هو مختص بالعبد أو متعد إلى غيره وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص أيضا به أو متعلق بغيره و الفتوة إنما هي استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق فهي ثلاثة منازل: منزلة التخلق وحسن الخلق ومنزلة الفتوة ومنزلة المروءة وقد تقدمت منزلة الخلق وهذه منزلة شريفة لم تعبر عنها الشريعة باسم الفتوة بل عبرت عنها باسم مكارم الأخلاق كما في حديث يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وأصل الفتوة من الفتى وهو الشاب الحديث السن قال الله تعالى عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [ الكهف: 13 ] وقال عن قوم إبراهيم أنهم {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [ الأنبياء: 60 ] وقال تعالى عن يوسف {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [ يوسف: 36 ] وقال لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [ يوسف: 62 ](2/340)
فاسم الفتى لا يشعر بمدح ولا ذم كاسم الشاب والحدث ولذلك لم يجىء اسم الفتوة في القرآن ولا في السنة ولا في لسان السلف وإنما استعمله من بعدهم في مكارم الأخلاق وأصلها عندهم: أن يكون العبد أبدا: في أمر غيره وأقدم من علمته تكلم في الفتوة جعفر بن محمد ثم الفضيل بن عياض والإمام أحمد وسهل بن عبدالله والجنيد ثم الطائفة فيذكر أن جعفر بن محمد سئل عن الفتوة فقال للسائل: ما تقول أنت فقال: إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت فقال: الكلاب عندنا كذلك فقال السائل: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما الفتوة عندكم فقال: إن أعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا وقال الفضيل بن عياض: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان وقال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية ابنه عبدالله عنه وقد سئل عن الفتوة فقال: ترك ما تهوى لما تخشى ولا أعلم لأحد من الأئمة الأربعة فيها سواه(2/341)
وسئل الجنيد عن الفتوة فقال: لا تنافر فقيرا ولا تعارض غنيا وقال الحارث المحاسبي: الفتوة أن تنصف ولا تنتصف وقال عمر بن عثمان المكي: الفتوة حسن الخلق وقال محمد بن علي الترمذي: الفتوة أن تكون خصما لربك على نفسك وقيل: الفتوة أن لا ترى لنفسك فضلا على غيرك وقال الدقاق: هذا الخلق لا يكون كماله إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كل أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي وهو يقول: أمتي أمتي وقيل: الفتوة كسر الصنم الذي بينك وبين الله تعالى وهو نفسك فإن الله حكى عن خليله إبراهيم عليه السلام: أنه جعل الأصنام جذاذا فكسر الأصنام له فالفتى من كسر صنما واحدا في الله وقيل: الفتوة أن لا تكون خصما لأحد يعني في حفظ نفسك وأما في حق الله فالفتوة: أن تكون خصما لكل أحد ولو كان الحبيب المصافيا وقال الترمذي: الفتوة أن يستوي عندكم المقيم والطارىء وقال بعضهم: الفتوة أن لا يميز بين أن يأكل عنده ولي أو كافر وقال الجنيد أيضا: الفتوة كف الأذى وبذل الندى وقال سهل: هي اتباع السنة وقيل: هي الوفاء والحفاظ وقيل: فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فيها وقيل: أن لا تحتجب ممن قصدك وقيل: أن لا تهرب إذا أقبل العافي يعني طالب المعروف وقيل: إظهار النعمة وإسرار المحنة وقيل: أن لا تدخر ولا تعتذر وقيل: تزوج رجل بامرأة فلما دخلت عليه رأى بها الجدري فقال: اشتكيت عيني ثم قال: عميت فبعد عشرين سنة ماتت ولم تعلم أنه بصير فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها فقيل له: سبقت الفتيان وقيل: ليس من الفتوة أن تربح على صديقك(2/342)
واستضاف رجل جماعة من الفتيان فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم فانقبض واحد منهم وقال: ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال فقال آخر منهم: أنا منذ سنين أدخل إلى هذه الدار ولم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أو رجلا وقدم جماعة فتيان لزيارة فتى فقال الرجل: يا غلام قدم السفرة فلم يقدم فقالها ثانيا وثالثا فلم يقدم فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا فقال الرجل: لم أبطأت بالسفرة فقال الغلام: كان عليها نمل فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل ولم يكن من الفتوة إلقاء النمل وطردهم عن الزاد فلبثت حتى دب النمل فقالوا: يا غلام مثلك يخدم الفتيان ومن الفتوة التي لا تلحق: ما يذكر أن رجلا نام من الحاج في المدينة ففقد هميانا فيه ألف دينار فقام فزعا فوجد جعفر بن محمد فعلق به وقال: أخذت همياني فقال: أي شيء كان فيه قال: ألف دينار فأدخله داره ووزن له ألف دينار ثم إن الرجل وجد هميانه فجاء إلى جعفر معتذرا بالمال فأبى أن يقبله منه وقال: شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبدا فقال الرجل للناس: من هذا فقالوا: هذا جعفر بن محمد رضي الله عنه
فصل قال صاحب المنازل نكتة الفتوة: أن لا تشهد لك فضلا ولا ترى
لك حقا يقول: قلب الفتوة وإنسان عينها: أن تفنى بشهادة نقصك وعيبك عن فضلك وتغيب بشهادة حقوق الخلق عليك عن شهادة حقوقك عليهم والناس في هذا مراتب فأشرفها: أهل هذه المرتبة وأخسها: عكسهم(2/343)
وهم أهل الفناء في شهود فضائلهم عن عيوبهم وشهود حقوقهم على الناس عن شهود حقوق الناس عليهم
وأوسطهم: من شهد هذا وهذا فيشهد ما في العيب والكمال ويشهد حقوق الناس عليه وحقوقه عليهم قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: ترك الخصومة والتغافل عن الزلة ونسيان الأذية هذه الدرجة من باب الترك والتخلي وهي أن لا يخاصم أحدا فلا ينصب نفسه خصما لأحد غيرها فهي خصمه وهذه المنزلة أيضا ثلاث درجات لا يخاصم بلسانه ولا ينوي الخصومة بقلبه ولا يخطرها على باله هذا في حق نفسه وأما في حق ربه: فالفتوة أن يخاصم بالله وفي الله ويحاكم إلى الله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: وبك خاصمت وإليك حاكمت وهذه درجة فتوة العلماء الدعاة إلى الله تعالى وأما التغافل عن الزلة فهو أنه إذا رأى من أحد زلة يوجب عليه الشرع أخذه بها: أظهر أنه لم يرها لئلا يعرض صاحبها للوحشة ويريحه من تحمل العذر وفتوة التغافل: أرفع من فتوة الكتمان مع الرؤية
قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتما عن مسألة فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت فقال حاتم: ارفعي صوتك فأوهمها أنه أصم فسرت المرأة بذلك وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلقب بحاتم الأصم وهذا التغافل هو نصف الفتوة وأما نسيان الأذية فهو بأن تنسى أذية من نالك بأذى ليصفو قلبك له ولا تستوحش منه قلت: وهنا نسيان آخر أيضا وهو من الفتوة وهو نسيان إحسانك إلى(2/344)
من أحسنت إليه حتى كأنه لم يصدر منك وهذا النسيان أكمل من الأول وفيه قيل:
ينسى صنائعه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
فصل قال: الدرجة الثانية: أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك وتعتذر
إلى من يجني عليك سماحة لا كظما ومودة لا مصابرة هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب فإن الأولى: تتضمن ترك المقابلة والتغافل وهذه تتضمن الإحسان إلى من أساء إليك ومعاملته بضد ما عاملك به فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطتين فخطتك: الإحسان وخطته: الإساءة وفي مثلها قال القائل:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها هذه بعينها ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضى عنه وهذا مفهوم وأما الاعتذار إلى من يجني عليك فإنه غير مفهوم في بادي الرأي إذ لم(2/345)
يصدر منك جناية توجب اعتذارا وغايتك: أنك لا تؤاخذه فهل تعتذر إليه من ترك المؤاخذة ومعنى هذا: أنك تنزل نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه والجاني خليق بالعذر والذي يشهدك هذا المشهد: أنك تعلم أنه إنما سلط عليك بذنب كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [ الشورى: 30 ] فإذا علمت أنك بدأت بالجناية فانتقم الله منك على يده: كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار والذي يهون عليك هذا كله: مشاهدة تلك المشاهد العشرة المتقدمة فعليك بها فإن فيها كنوز المعرفة والبر وقوله: سماحة لا كظما ومودة لا مصابرة يعني: اجعل هذه المعاملة منك صادرة عن سماحة وطيبة نفس وانشراح صدر لا عن كظم وضيق ومصابرة فإن ذلك دليل على أن هذا ليس في خلقك وإنما هو تكلف يوشك أن يزول ويظهر حكم الخلق صريحا فتفتضح وليس المقصود إلا إصلاح الباطن والسر والقلب وهذا الذي قاله الشيخ لا يمكن إلا بعد العبور على جسر المصابرة والكظم فإذا تمكن منه أفضى به إلى هذه المنزلة بعون الله والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثالثة: أن لا تتعلق في السير بدليل ولا تشوب
إجابتك بعوض ولا تقف في شهودك على رسم هذه ثلاثة أمور اشتملت عليها هذه الدرجة أما عدم تعلقه في السير بدليل: فقد بين مراده به في آخر الباب إذ يقول:(2/346)
وفي علم الخصوص: من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم يحل له دعوى الفتوة أبدا وهذا موضع عظيم يحتاج إلى تبيين وتقدير والمراد: أن السائر إلى الله يسير على قدم اليقين وطريق البصيرة والمشاهدة فوقوفه مع الدليل: دليل على أنه لم يشم رائحة اليقين والمراد بهذا: أن المعرفة عندهم ضرورية لا استدلالية وهذا هو الصواب ولهذا لم تدع الرسل قط الأمم إلى الإقرار بالصانع سبحانه وتعالى وإنما دعوهم إلى عبادته وتوحيده وخاطبوهم خطاب من لا شبهة عنده قط في الإقرار بالله تعالى ولا هو محتاج إلى الاستدلال عليه ولهذا: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [ إبراهيم: 10 ] وكيف يصح الاستدلال على مدلول هو أظهر من دليله حتى قال بعضهم: كيف أطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء فتقيد السائر بالدليل وتوقفه عليه دليل على عدم يقينه بل إنما يتقيد بالدليل الموصل له إلى المطلوب بعد معرفته به فإنه يحتاج بعد معرفته إلى دليل يوصله إليه ويدله على طريق الوصول إليه وهذا الدليل: هو الرسول فهو موقوف عليه يتقيد به لا يخطو خطوة إلا وراءه وأيضا فالقوم يشيرون إلى الكشف ومشاهدة الحقيقة وهذا لا يمكن طلبه بالدليل أصلا ولا يقال: ما الدليل على حصول هذا وإنما يحصل بالسلوك في منازل السير وقطعها منزلة منزلة حتى يصل إلى المطلوب فوصوله إليه بالسير لا بالاستدلال بخلاف وصول المستدل فإنه إنما يصل إلى العلم ومطلوب القوم وراءه والعلم منزلة من منازلهم كما سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ولهذا يسمون أصحاب الاستدلال: أصحاب القال وأصحاب الكشف: أصحاب الحال والقوم عاملون على الكشف الذي يحصل بنور العيان لا على العلم الذي ينال بالاستدلال والبرهان(2/347)
وهذا موضع غلط واشتباه فإن الدليل في هذا المقام شرط وكذلك العلم وهو باب لا بد من دخوله إلى المطلوب ولا يوصل إلى المطلوب إلا من بابه كما قال تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [ البقرة: 189 ] ثم إنه يخاف على من لا يقف مع الدليل ما هو أعظم الأمور وأشدها خطرا وهو الانقطاع عن الطلب بالكلية والوصول إلى مجرد الخيال والمحال فمن خرج عن الدليل: ضل سواء السبيل فإن قيل: تعلقه في المسير بالدليل: يفرق عليه عزمه وقلبه فإن الدليل يفرق والمدلول يجمع فالسالك يقصد الجمعية على المدلول فماله ولتفرقة الدليل قيل: هذه هي البلية التي لأجلها أعرض من أعرض من السالكين عن العلم ونهى عنه وجعلت علة في الطريق ووقع هذا في زمن الشيوخ القدماء العارفين فأنكروه غاية الإنكار وتبرأوا منه ومن قائله وأوصوا بالعلم وأخبروا أن طريقهم مقيدة بالعلم لا يفلح فيها من لم يتقيد بالعلم والجنيد كان من أشد الناس مبالغة في الوصية بالعلم وحثا لأصحابه عليه والتفرق في الدليل خير من الجمعية على الوهم والخيال فإنه لا يعرف كون الجمعية حقا إلا بالدليل والعلم فالدليل والعلم ضروريان للصادق لا يستغنى عنهما نعم يقينه ونور بصيرته وكشفه: يغنيه عن كثير من الأدلة التي يتكلفها المتكلفون وأرباب القال فإنه مشغول عنها بما هو أهم منها وهو الغاية المطلوبة مثاله: أن المتكلم يفني زمانه في تقرير حدوث العالم وإثبات وجود الصانع وذلك أمر مفروغ منه عند السالك الصادق صاحب اليقين فالذي يطلبه هذا الاستدلال الذي هو عرضة الشبه والأسئلة والإيرادات التي لا نهاية لها هو كشف ويقين للسالك فتقيده في سلوكه بحال هذا المتكلم انقطاع وخروج عن الفتوة وهذا حق لا ينازع فيه عارف فترى المتكلم يبحث في الزمان والمكان(2/348)
والجواهر والأعراض والأكوان وهمته مقصورة عليها لا يعدوها ليصل منها إلى المكون وعبوديته والسالك قد جاوزها إلى جمع القلب على المكون وعبوديته بمقتضى أسمائه وصفاته لا يلتفت إلى غيره ولا يشتغل قلبه بسواه
فالمتكلم متفرق مشتغل في معرفة حقيقة الزمان والمكان والعارف قد شح بالزمان أن يذهب ضائعا في غير السير إلى رب الزمان والمكان وبالجملة: فصاحب هذه الدرجة لا يتعلق في سيره بدليل ولا يمكنه السير إلا خلف الدليل وكلاهما يجتمع في حقه فهو لا يفتقر إلى دليل على وجود المطلوب ولا يستغني طرفة عين عن دليل يوصله إلى المطلوب فسير الصادق على البصيرة واليقين والكشف لا على النظر والاستدلال وأما قوله: ولا تشوب إجابتك بعوض أي تكون إجابتك لداعي الحق خالصة إجابة محبة ورغبة وطلب للمحبوب ذاته غير مشوبة بطلب غيره من الحظوظ والأعواض فإنه متى حصل لك حصل لك كل عوض وكل حظ به وكل قسم كما في الأثر الإلهي: ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء فمن أعرض عن طلب ما سوى الله ولم يشب طلبه له بعوض بل كان حبا له وإرادة خالصة لوجهه فهو في الحقيقة الذي يفوز بالأعواض والأقسام والحظوظ كلها فإنه لما لم يجعلها غاية طلبه توفرت عليه في حصولها وهو محمود مشكور مقرب ولو كانت هي مطلوبة لنقصت عليه بحسب اشتغاله بطلبها وإرادتها عن طلب الرب تعالى لذاته وإرادته فهذا قلبه ممتليء بها والحاصل له منها: نزر يسير والعارف ليس قلبه متعلقا بها وقد حصلت له كلها فالزهد فيها لا يفيتكها بل هو عين حصولها والزهد في الله هو الذي يفيتكه ويفيتك الحظوظ وإذا كان لك أربعة عبيد أحدهم:(2/349)
يريدك ولا يريد منك بل إرادته مقصورة عليك وعلى مرضاتك والثاني: يريد منك ولا يريدك بل إرادته مقصورة على حظوظه منك والثالث: يريدك ويريد منك والرابع: لا يريدك ولا يريد منك بل هو متعلق القلب ببعض عبيدك فله يريد ومنه يريد فإن آثر العبيد عندك وأحبهم إليك وأقربهم منك منزلة والمخصوص من إكرامك وعطائك بما لا يناله العبيد الثلاثة: هو الأول هكذا نحن عندالله سواء وأما قوله: ولا تقف في شهودك على رسم فيعني: أن لا يكون منك نظر إلى السوي عند الشهود كما تقدم مرارا وهذا عند القوم غير مكتسب فإن الشهود إذا صح محا الرسوم ضرورة في نظر الشاهد فلا حاجة إلى أن يشرط عليه عدم الوقوف عليها والشهود الصحيح ماح لها بالذات لكن أوله قد لا يستغني عن الكسب ونهايته لا تقف على كسب قال: واعلم أن من أحوج عدوه إلى شفاعة ولم يخجل من المعذرة إليه: لم يشم رائحة الفتوة يعني أن العدو متى علم أنك متألم من جهة ما نالك من الأذى منه احتاج إلى أن يعتذر إليك ويشفع إليك شافعا يزيل ما في قلبك منه فالفتوة كل الفتوة: أن لا تحوجه إلى الشفاعة بأن لا يظهر له منك عتب ولا تغير عما كان له منك قبل معاداته ولا تطوي عنه بشرك ولا برك وإذا لم تخجل أنت من قيامه بين يديك مقام المعتذر لم يكن لك في الفتوة نصيب ولا تستعظم هذا الخلق فإن للفتيان ما هو أكبر منه ولا تستصعبه فإنه موجود في كثير من الشطار والعشراء الذين ليس لهم في حال المعرفة ولا في لسانها نصيب فأنت أيها العارف أولى به(2/350)
قال: وفي علم الخصوص: من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال: لم يحل له دعوى الفتوة أبدا كأنه يقول: إذا لم تحوج عدوك إلى العذر والشفاعة ولم تكلفه طلب الاستدلال على صحة عذره فكيف تحوج وليك وحبيبك إلى أن يقيم لك الدليل على التوحيد والمعرفة ولا تشير إليه حتى يقيم لك دليلا على وجوده ووحدانيته وقدرته ومشيئته فأين هذا من درجة الفتوة وهل هذا إلا خلاف الفتوة من كل وجه ولو أن رجلا دعاك إلى داره فقلت للرسول: لا آتي معك حتى تقيم لي الدليل على وجود من أرسلك وأنه مطاع وأنه أهل أن يغشى بابه لسكنت في دعوى الفتوة زنيما فكيف بمن وجوده ووحدانيته وقدرته وربوبيته وإلهيته: أظهر من كل دليل تطلبه فما من دليل يستدل به إلا ووحدانية الله وكماله أظهر منه فإقرار الفطر بالرب سبحانه خالق العالم: لم يوقفها عليه موقف ولم تحتج فيه إلى نظر واستدلال : {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [ إبراهيم: 10 ] فأبعد الناس من درجة الفتوة: طالب الدليل على ذلك
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل(2/351)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المروءة
المروءة فعولة من لفظ المرء كالفتوة من الفتى والإنسانية من الإنسان ولهذا كان حقيقتها: اتصاف النفس بصفات الإنسان التي فارق بها الحيوان البهيم والشيطان الرجيم فإن في النفس ثلاثه دواع متجاذبة: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشيطان: من الكبر والحسد والعلو والبغي والشر والأذى والفساد والغش وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان وهو داعي الشهوة(2/351)
وداع يدعوها إلى أخلاق الملك: من الإحسان والنصح والبر والعلم والطاعة فحقيقة المروءة: بغض ذينك الداعيين وإجابة الداعي الثالث وقلة المروءة وعدمها: هو الاسترسال مع ذينك الداعيين والتوجه لدعوتهما أين كانت فالإنسانية والمروءة والفتوة: كلها في عصيان الداعيين وإجابة الداعي الثالث كما قال بعض السلف: خلق الله الملائكة عقولا بلا شهوة وخلق البهائم شهوة بلا عقول وخلق ابن آدم وركب فيه العقل والشهوة فمن غلب عقله شهوته: التحق بالملائكة ومن غلبت شهوته عقله: التحق بالبهائم ولهذا قيل في حد المروءة: إنها غلبة العقل للشهوة وقال الفقهاء في حدها: هي استعمال ما يجمل العبد ويزينه وترك ما يدنسه ويشينه وقيل: المروءة استعمال كل خلق حسن واجتناب كل خلق قبيح وحقيقة المروءة تجنب للدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال فمروءة اللسان: حلاوته وطيبه ولينه واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر ومروءة الخلق: سعته وبسطه للحبيب والبغيض ومروءة المال: الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلا وعرفا وشرعا ومروءة الجاه: بذله للمحتاج إليه ومروءة الإحسان: تعجيله وتيسيره وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه ونسيانه بعد وقوعه فهذه مروءة البذل وأما مروءة الترك: فترك الخصام والمعاتبة والمطالبة والمماراة والإغضاء عن عيب ما يأخذه من حقك وترك الاستقصاء في طلبه والتغافل عن عثرات(2/352)
الناس وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد منهم عثرة والتوقير للكبير وحفظ حرمة النظير ورعاية أدب الصغير وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: مروءة المرء مع نفسه وهي أن يحملها قسرا على ما يجمل ويزين وترك ما يدنس ويشين ليصير لها ملكة في العلانية فمن أراد شيئا في سره وخلوته: ملكه في جهره وعلانيته فلا يكشف عورته في الخلوة ولا يتجشأ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلا ولا يخرج الريح بصوت وهو يقدر على خلافه ولا يجشع وينهم عند أكله وحده وبالجملة: فلا يفعل خاليا ما يستحي من فعله في الملإ إلا مالا يحظره الشرع والعقل ولا يكون إلا في الخلوة كالجماع والتخلي ونحو ذلك الدرجة الثانية: المروءة مع الخلق بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه وليتخذ الناس مرآة لنفسه فكل ما كرهه ونفر عنه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص وسيء الخلق وحسنه وعديم المروءة وغزيرها وكثير من الناس: يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها كما روي عن بعض الأكابر: أنه كان له مملوك سيء الخلق فظ غليظ لا يناسبه فسئل عن ذلك فقال: أدرس عليه مكارم الأخلاق وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق في ضد أخلاقه ويكون بتمرين النفس على مصاحبته ومعاشرته والصبر عليه الدرجة الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه بالاستحياء من نظره إليك وإطلاعه عليك في كل لحظة ونفس وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان فإنه قد اشتراها منك وأنت ساع في تسليم المبيع وتقاضي الثمن وليس من(2/353)
المروءة: تسليمه على ما فيه من العيوب وتقاضي الثمن كاملا أو رؤية منته في هذا الإصلاح وأنه هو المتولي له لا أنت فيغنيك الحياء منه عن رسوم الطبيعة والاشتغال بإصلاح عيوب نفسك عن التفاتك إلى عيب غيرك وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحك وكل ما تقدم في منزلة الخلق و الفتوة فإنه بعينه في هذه المسألة فلذلك اقتصرنا منها على هذا القدر وصاحب المنازل رحمه الله استغني بما ذكر في الفتوة والله أعلم(2/354)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة البسط والتخلي عن القبض
وهي منزلة شريفة لطيفة وهي عنوان على الحال وداعية لمحبة الخلق وقد غلط صاحب المنازل حيث صدرها بقوله تعالى حاكيا عن كليمه موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [ الأعراف: 155 ] وكأنه فهم من هذا الخطاب: انبساطا بين موسى وبين الله تعالى حمله على أن قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} وسمعت بعض الصوفية يقول لآخر وهما في الطواف لما قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} تدارك هذا الانبساط بالتذلل بقوله: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [ الأعراف: 155 ] أو نحو من هذا الكلام وكل هذا وهم وفهم خلاف المقصود فالفتنة ههنا: هي الامتحان والاختبار كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [ الجن: 16-17 ] وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [ الأنبياء: 35 ] والمعنى: أن هذه الفتنة اختبار منك لعبدك وامتحان تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء فأى تعلق لهذا بالانبساط وهل هذا إلا توحيد وشهود(2/354)
للحكمة وسؤال للعصمة والمغفرة وليس للعارف في هذه المنزلة حظ مع الله وإنما هي متعلقة بالخلق وصاحب المنازل: جعلها ثلاث درجات الأولى: مع الناس والثانية والثالثة: مع الله وسنبين ما في كلامه بحول الله وقوته وتوفيقه قال: الانبساط: إرسال السجية والتحاشي من وحشة الحشمة السجية الطبع وجمعها سجايا يقال: سجية وخليفة وطبيعة وغريزة و إرسالها تركها في مجراها والتحاشي من وحشة الحشمة التحاشي: هو تجنب الوحشة الواقعة بينك وبين من تحبه وتخدمه فإن مرتبته تقتضي احتشامه والحياء منه وإجلاله عن انبساطك إليه وذلك نوع وحشة فالانبساط: إزالة تلك الوحشة لا تسقطك من عينه بل تزيدك حبا إليه ولا سيما إذا وقع في موقعه قال: وهو السير مع الجبلة أي المشي مع ما جبل الله عليه العبد من الأخلاق من غير تكلف قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الانبساط مع الخلق وهو أن لا تعتزلهم ضنا على نفسك أو شحا على حظك وتسترسل له في فضلك وتسعهم بخلقك وتدعهم يطؤونك والعلم قائم وشهود المعنى دائم يريد: لا تبخل عليهم بنفسك فيحملك ذلك البخل على اعتزالهم وتشح بحظك في الخلوة وراحة العزلة: أن تذهب بمخالطتهم بل تحملك السماحة والجود والبذل على أن تترك ذلك لراحة إخوانك بك وانتفاعهم بمجالستك فتتكرم عليهم بحظك في عزلتك وخلوتك وتؤثرهم به على نفسك وهذا من الفتوة والمروءة والتخلق ضد من أضدادها قوله: وتسترسل لهم في فضلكر(2/355)
يعني: إذا استرسلت معهم ولم تجذب عنهم عنانك: نالوا من فضلك فيكون استرسالك سببا لنيلهم لفضلك وقبض العنان سببا للحرمان وتسعهم بخلقك باحتمال ما يبدو منهم من سوء العشرة فخذ منهم ما أمر الله نبيه أن يأخذه من أخلاق الناس وهو العفو وتدعهم يطؤونك أي يدوسونك من لينك وتواضعك وخفض جناحك بحيث لا تترك لنفسك بينهم رتبة تتقاضاهم أن يحترموك لأجلها هذا معنى كلامه وقوله: والعلم قائم وشهود المعنى دائم أما قيام العلم: فهو أن يكون هذا الاسترسال موافقا للشرع غير مخرج عن حدوده وآدابه بحيث لا تحملهم على تعدي حدود الله وتضييع حقه وحقوق عباده وأما دوام شهود المعنى فهو حفظ حالك وقلبك مع الله ودوام إقبالك عليه بقلبك كله فأنت معهم مسترسل بشبحك ورسمك وصورتك فقط ومفارقهم بقلبك وسرك مشاهدا للمعنى الذي به حياتك فإذا فارقته كنت كالحوت إذا فارق الماء فإن هذا المعنى هو حياة القلب والروح فإذا فات العبد علته الكآبة وغمره الهم والغم والأحزان وتلون في أفعاله وأقواله وتاه قلبه في الأودية والشعاب وفقد نعيم الدنيا والآخرة وهذا هو الذي أشار إليه يحيى الصرصري في قوله:
إذا صار قلب العبد للسر معدنا ... تلوح على أعطافه بهجة السنا
وإن فاته المعنى علته كآبة ... فأصبح في أفعاله متلونا
فمتى كان شهود هذا المعنى قائما في قلبك: لا يضرك مخالطة من لا تسلبك إياه مخالطته والانبساط إليه(2/356)
فصل قال: الدرجة الثانية: الانبساط مع الحق وهو أن لا يحبسك
خوف ولا يحجبك رجاء ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء يريد: أن لا يمنعك عن الانبساط إليه خوف فإن مقام الخوف لا يجامع مقام الانبساط والخوف من أحكام اسم القابض والانبساط من أحكام اسم الباسط و البسط عندهم: من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان والتودد والرحمة و القبض من مشاهدة أوصاف الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام وبعضهم يجعل الخوف من منازل العامة والانبساط من منازل الخاصة إذ الانبساط لا يكون إلا للعارفين أرباب التجليات وليس في حق هؤلاء خوف وأما قوله: ولا يحجبك رجاء فلأن الراجي لطلبه حاجته تحتاج إلى التملق والتذلل فيحجبه رجاؤه وطمعه فيما يناله من المعظم عن انبساطه كالسائل للغني فإن سؤاله وطمعه يمنعه من انبساطه إليه فإذا غاب عن ذلك انبسط وقوله: ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء استعارة والمعنى: أنك تراه أقرب إليك من أبيك وأمك وأرحم بك منهما وأشفق عليك فلا توسط بينك وبينه أبا خرجت من صلبه ولا أما ركضت في رحمها
وفيه معنى آخر وهو الإشارة إلى أنك تشاهد خلقه لك بلا واسطة كما خلق آدم وحواء فتشاهد خلقه لك بيده ونفخه فيك من روحه وإسجاد ملائكته لك وإبعاد إبليس حيث لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك آدم(2/357)
وهذا يوجب لك شهود الانطواء عن الانبساط وهو رحب الهمة لانطواء انبساط العبد في بسط الحق جل جلاله ومعنى هذا: أن لا يرى العبد لنفسه انبساطا ولا انقباضا بل ينطوي انبساطه ويضمحل في صفة البسط التي للحق جل جلاله وهذا شهود معنى اسم الباسط عز وجل فهذا تقدير كلامه على أن فيه مقبولا ومردودا ولا معنى لتعلق هذه الصفة بالرب تعالى ألبتة وأما تعلقها بالخلق: فصحيح
نعم ههنا مقام اشتباه وفرق وهو أن المحب الصادق: لابد أن يقارنه أحيانا فرح بمحبوبه ويشتد فرحه به ويرى مواقع لطفه به وبره به وإحسانه إليه وحسن دفاعه عنه والتلطف في إيصاله المنافع والمسار والمبار إليه بكل طريق ودفع المضار والمكاره عنه بكل طريق وكلما فتش عن ذلك اطلع منه على أمور عجيبة لا يقف وهمه ومقتبسه لها على غاية بل ما خفي عنه منها أعظم فيداخله من شهود هذه الحالة نوع إدلال وانبساط وشهود نفسه في منزلة المراد المحبوب ولا يسلم من آفات ذلك إلا خواص العارفين
وصاحب هذا المقام نهايته: أن يكون معذورا وما يبدو منه من أحكامه بالشطحات أليق منه بأحكام العبودية ولم يكن لأحد من البشر في منزلة القرب والكرامة والحظوة والجاه: ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى فكان أشد الخلق لله(2/358)
خشية وتعظيما وإجلالا وحاله كلها مع الله تشهد بتكميل العبودية وأين درجة الانبساط من المخلوق من التراب إلى الانبساط مع رب الأرباب نعم لا ينكر فرح القلب بالرب تعالى وسروره به وابتهاجه وقرة عينه ونعيمه بحبه والشوق إلى لقائه: إلا كثيف الحجاب حجري الطباع فلا بهذا الميعان ولا بذاك الجمود والقسوة وبهذا ومثله طرق المتأخرون من القوم السبيل إليهم وفتحوا للمقالة فيهم بابا فالعبد الخائف الوجل المشفق الذليل بين يدي الله عز وجل المنكس الرأس بين يديه الذي لا يرضى لربه شيئا من عمله: هو أحوج شيء إلى عفوه ورحمته ولا يرى نفسه في نعمته إلا طفيليا ولا يرى نفسه محسنا قط وإن صدر منه إحسان: علم أنه ليس من نفسه ولا بها ولا فيها وإنما هو محض منة الله عليه وصدقته عليه فما لهذا والانبساط نعم انبساطه انبساط فرح وسرور ورضى وابتهاج فإن كان المراد بالانبساط هذا: فلا ننكره لكنه غير الاسترسال المذكور والاستشهاد عليه بالآية يبين مراده والله أعلم(2/359)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة العزم
وقد ذكرنا في أول الكتاب أنه نوعان(2/359)
أحدهما: عزم المريد على الدخول في الطريق وهو بداية
والثاني: عزم السالك وهو مقام ذكره صاحب المنازل في وسط كتابه في قسم الأصول فقال: هو تحقيق القصد طوعا أو كرها أما قوله: تحقيق القصد فهو أن يكون قصده محققا لا يشوبه شيء من التردد وأما تقسيمه هذا التحقيق إلى طوع وكره: فصحيح فإن المختار: تحقيق قصده طوعا وأما المكره: فتحقيق قصده كرها فإنه إذا أكره على فعل وعزم عليه: فقد حقق قصده كرها لا طوعا واختلف الفقهاء والأصوليون في المكره: هل يسمى مختارا أم لا وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: والتحقيق أنه محمول على الاختيار فله اختيار في الفعل وبه صح وقوعه فإنه لولا إرادته واختياره: لما وقع الفعل ولكنه محمول على أن هذه الإرادة والاختيار ليست من قبله فهو مختار باعتبار أن حقيقة الإرادة والاختيار منه وغير مختار باعتبار أن غيره حمله على الاختيار ولم يكن مختارا من نفسه هذا معنى كلامه قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: إباء الحال على العلم لشيم برق الكشف واستدامة نور الأنس والإجابة لإماتة الهوى يريد ب إباء الحال على العلم استعصاؤه عليه وأن صاحب الحال: تأبى عليه حاله أن ينزل منه إلى درجة العلم ويصعب عليه ذلك كل الصعوبة وهو انحطاط في رتبته ولا يريد امتناع الحال عن طاعة العلم وتحكيمه فإن هذا انحلال وانسلاخ(2/360)
من الطريق بالكلية فكل حال لا يطيع العلم ولا يحكمه فهو حال فاسد مبعد عن الله لكن من وصل إلى حال العلم لم يحجبه حاله أن ينزل إلى درجة العلم وينحط إليها بلا حال فإن كان مراده هذا المعني: فهو صحيح وإن كان مراده: امتناع الحال عن طاعة العلم لأن العلم يدعو إلى أحكام الغيبة والحجاب والحال يدعو إلى أنس الكشف والحضور فصاحب الحال لا يلتفت إلى العلم: فباطل فإن العلم شرط في الحال تستحيل معرفة صحته بدونه نعم لا ينكر حصوله بدون العلم لكن صاحبه على غير بصيرة ولا وثوق به وشيم برق الكشف هو النظر إليه على بعد فإن صاحب الحال: عامل على شيم برق الكشف لأن شيم برق الكشف: يوجب نورا يأنس به القلب فعزيمة صاحبه: على استدامته وحفظه وأما الإجابة لإماته الهوى فهو أن السالك إذا أشرف على الكشف: أحس بحالة شبيهة بالموت حتى أن منهم من يسقط إلى الأرض ويظن ذلك موتا وهذه الحال من مبادىء الفناء فتهوى نفسه العود إلى الحجاب خوفا من الانعدام لما جبلت عليه النفس البشرية من كراهة الموت فإذا حصل العزم أميت هذا الهوى ولم يلتفت إليه رغبة فيما يطلبه من الفناء في الفردانية فإن الحقيقة لا تبدأ إلا بعد فناء البشرية وهذا الذي قاله حق لا ينكره إلا من لم يذقه وإنما الكلام في مرتبته وأنه غاية أو توسط أو لازم أو عارض فشيخنا رحمه الله كان يرى أنه عارض من عوارض الطريق لا يعرض للكمل ومن السالكين من لم يعرض له ألبتة ومن الناس من يراه لازما للطريق لابد منه ومن الناس من يراه غاية لا شيء فوقه(2/361)
ومنهم من يراه توسطا وفوقه ما هو أجل منه وأرفع وهو حالة البقاء والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: الاستغراق في لوائح المشاهدة واستنارة
ضياء الطريق واستجماع قوى الاستقامة هذه ثلاثة أشياء أحدها: فقدان الإحساس بغيره لاستغراقه في مشاهدته الثاني: استنارة ضياء الطريق يعني ظهور الجادة له ووضوحها واتصالها بمطلوبه وهذا كمن هو سائر إلى مدينة فإذا شارفها ورآها: رأى الطريق حينئذ واضحة إليها واستنار له ضياؤها واتصالها بالمدينة وكان قبل مشاهدة المدينة على علم أو ظن يجوز معه أن يضيع عن باب المدية وأما الآن: فقد أمن من أن يضيع عن الباب وكذلك هذا السالك: قد انقطعت عنه الموانع واستبان له الطريق وأيقن بالوصول وصارت حاله حال معاين باب المدينة من حين يقع بصره عليه وكحال معاين الشفق الأحمر قرب طلوع الشمس حيث تيقن أن الشمس بعده قوله: واستجماع قوى الاستقامة يعني: تستجمع له قوى الظاهر والباطن على قصد الوصول والعزم عليه لمشاهدته ما هو سائر إليه وهكذا عادة المسافر: أنه إذا عاين القرية التي يريد دخولها أسرع السير وبذل الجهد وكذلك المسابق إذا عاين الغاية: استفرغ قوى جريه وسوقه وكذلك الصادق في آخر عمره: أقوى عزما وقصدا من أوله لقرابه من الغاية التي يجري إليها والله أعلم(2/362)
فصل قال: الدرجة الثالثة: معرفة علة العزم على التخلص من العزم
ثم الخلاص من تكاليف ترك العزم فإن العزائم لم تورث أربابها ميراثا أكرم من وقوفهم على علل العزائم معرفة علة العزم هي نسبته إلى نفسه فإذا عرف أن العزم مجرد فضل الله وإيثاره وتوفيقه وأنه ليس من العبد: فنسبته إياه بعد ذلك إلى نفسه علة قادحة فيه فإذا لاح له لائح الكشف وشهد توحيد الفضل علم حينئذ علة عزمه وهو نسبته إياه إلى نفسه ورؤيته له فإذا عرف هذه العلة عزم على التخلص منها بالعزم على التخلص من العزم وهذا قد يسبق منه إلى الذهن تناقض وتدافع فكيف يتخلص من العزم بالعزم ومراده: أن يعزم على التخلص من العزم المنسوب إليه بالعزم الذي هو مجرد فضل الله وموهبته ولا تناقض حينئذ فيتخلص من العزم بالعزم كما ينازع القدر بالقدر وأما الخلاص من ترك تكاليف العزم فهو أنه إذا تخلص من هذا العزم وتركه: بقيت عليه بقية وهي رؤيته أنه قد ترك فعليه التخلص من رؤية هذا الترك فهو يطلب الآن الخلاص من رؤية ترك العزم كما كان يطلب ترك العزم قوله: فإن العزائم لم تورث أربابها ميراثا أكرم من وقوفهم على علل العزائم مدار علل العزائم: على ثلاثة أشياء: أحدها: فتورها وضعفها الثاني: عدم تجردها من الأغراض وشوائب الحظوظ الثالث: رؤية العزائم وشهودها ونسبتها إلى أنفسهم(2/363)
فإذا عرف هذه الثلاثة: عرف علل العزائم والله المستعان وهو سبحانه وتعالى أعلم(2/364)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإرادة
قال الله تعالى: { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [ الأنعام: 52 ] وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [ الليل: 19-21 ] وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [ الأحزاب: 29 ] وقد أشكل على المتكلمين تعلق الإرادة بالله وكون وجهه تعالى مرادا قالوا: الإرادة لا تتعلق إلا بالحادث وأما بالقديم: فلا لأن القديم لا يراد وأولوا الإرادة المتعلقة به بإرادة التقرب إليه ثم إنه لا يتصور عندهم التقرب إليه فأولوا ذلك بإرادة طاعته الموجبة لجزائه هذا حاصل ما عندهم وحجابهم في هذا الباب: غليظ كثيف من أغلظ الحجب وأكثفها ولهذا تجدهم أهل قسوة ولا تجد عليهم روح السلوك ولا بهجة المحبة والطلب والإرادة عند أرباب السلوك: هي التجرد عن الإرادة فلا تصح عندهم الإرادة إلا لمن لا إرادة له ولا تظن أن هذا تناقض بل هو محض الحق واتفاق كلمة القوم عليه وقد تنوعت عبارات القوم عنها وغالبهم يخبر عنها بأنها ترك العادة ومعنى هذا: أن عادة الناس غالبا التعريج على أوطان الغفلة وإجابة داعي الشهوة والإخلاد إلى أرض الطبيعة والمريد منسلخ عن ذلك فصار خروجه عنه: أمارة ودلالة على صحة الإرادة فسمي انسلاخه وتركه إرادة وقيل: نهوض القلب في طلب الحق(2/364)
ويقال: لوعة تهون كل روعة قال الدقاقي: الإرادة لوعة في الفؤاد لذعة في القلب غرام في الضمير انزعاج في الباطن نيران تأجج في القلوب وقيل: من صفات المريد التحبب إلى الله بالنوافل والإخلاص في نصيحة الأمة والأنس بالخلوة والصبر على مقاساة الأحكام والإيثار لأمره والحياء من نظره وبذل المجهود في محبوبه والتعرض لكل سبب يوصل إليه والقناعة بالخمول وعدم قرار القلب حتى يصل إلى وليه ومعبوده وقال حاتم الأصم: إذا رأيت المريد يريد غير مراده فاعلم أنه أظهر نذالته وقيل: من حكم المريد: أن يكون نومه غلبة وأكله فاقة وكلامه ضرورة وقال بعضهم: نهاية الإرادة: أن تشير إلى الله فتجده مع الإشارة فقيل له: وابن تستوعبه الإشارة فقال: أن تجد الله بلا إشارة وهذا كلام متين فإن المراتب ثلاثة: أعلاها: أن يكون واجدا لله في كل وقت لا يتوقف وجوده له على الإشارة منه ولا من غيره الثاني: أن يكون له ملكة وحال وإرادة تامة بحيث إنه متى أشير له إلى الله وجده عند إشارة المشير الثالث: أن لا يكون كذلك ويتكلف وجدانه عند الإشارة إليه فالمرتبة الأولى: للمقربين السابقين والوسطى: للأبرار المقتصدين والثالثة: للغافلين وقال أبو عثمان الحيري: من لم تصح إرادته ابتداء فإنه لا يزيده مرور الأيام عليه إلا إدبارا(2/365)
وقال: المريد إذا سمع شيئا من علوم القوم فعمل به: صار حكمة في قلبه إلى آخر عمره ينتفع به وإذا تكلم انتفع به من سمعه ومن سمع شيئا من علومهم ولم يعمل به كان حكاية يحفظها أياما ثم ينساها وقال الواسطي: أول مقام المريد: إرادة الحق بإسقاط إرادته وقال يحيى بن معاذ: أشد شيء على المريد: معاشرة الأضداد وسئل الجنيد: ما للمريد حظ في مجازات الحكايات فقال: الحكايات جند من جند الله يثبت الله بها قلوب المريدين ثم قرأ قوله تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود: 120 ] وقد ذكر عن الجنيد كلمتان في الإرادة مجملتان تحتاج كل منهما إلى تفسير الكلمة الواحدة: قال أبو عبدالرحمن السلمي: سمعت محمد بن مخلد يقول: سمعت جعفرا يقول: سمعت الجنيد يقول: المريد الصادق غني من العلماء وقال أيضا: سمعت الجنيد يقول: إذا أراد الله بالمريد خيرا: أوقعه إلى الصوفيه ومنعه صحبة القراء قلت: إذا صدق المريد وصح عقد صدقه مع الله: فتح الله على قلبه ببركة الصدق وحسن المعاملة مع الله: ما يغنيه عن العلوم التي هي نتائج أفكار الناس وآرائهم وعن العلوم التي هي فضلة ليست من زاد القبر وعن كثير من إشارات الصوفية وعلومهم التي أفنوا فيها أعمارهم: من معرفة النفس وآفاتها وعيوبها ومعرفة مفسدات الأعمال وأحكام السلوك فإن حال صدقه وصحة طلبه: يريه ذلك كله بالفعل
ومثال ذلك: رجل قاعد في البلد يدأب ليله ونهاره في علم منازل الطريق وعقباتها وأوديتها ومواضع المتاهات فيها والموارد والمفاوز وآخر: حمله الوجد وصدق الإرادة على أن ركب الطريق وسار فيها فصدقه يغنيه عن علم ذلك القاعد ويريه إياها في سلوكه عيانا(2/366)
وأما أن يغنيه صدق إرادته عن علم الحلال والحرام وأحكام الأمر والنهي ومعرفة العبادات وشروطها وواجباتها ومبطلاتها وعن علم أحكام الله ورسوله على ظاهره وباطنه: فقد أعاذ الله من هو دون الجنيد من ذلك فضلا عن سيد الطائفة وإمامها وإنما يقول ذلك قطاع الطريق وزنادقة الصوفية وملاحدتهم الذين لا يرون اتباع الرسول شرطا في الطريق وأيضا فإن المريد الصادق: يفتح الله على قلبه وينوره بنور من عنده مضاف إليها معه من نور العلم يعرف به كثيرا من أمر دينه فيستغني به عن كثير من علم الناس فإن العلم نور وقلب الصادق ممتلىء بنور الصدق ومعه نور الإيمان والنور يهدي إلى النور والجنيد أخبر بهذا عن حاله وهذا أمر جزئي ليس على عمومه بل صدقه يغنيه عن كثير من العلم وأما عن جملة العلم: فكلام أبي القاسم الثابت عنه في ضرورة الصادق إلى العلم وأنه لا يفلح من لم يكن له علم وأن طريق القوم مقيدة بالعلم وأنه لا يحل لأحد أن يتكلم في الطريق إلا بالعلم فمشهور معروف قد ذكرنا فيما مضى طرفا منه كقوله: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة وأيضا فإن علم العلماء الذين أشار إليهم: هو ما فهموه واستنبطوه من القرآن والسنة(2/367)
والمريد الصادق: هو الذي قرأ القرآن وحفظ السنة والله يرزقه ببركة صدقه ونور قلبه فهما في كتابه وسنة رسوله يفنيه عن تقليد فهم غيره وأما قوله يعني الجنيد إذا أراد الله بالمريد خيرا: أوقعه على الصوفية ومنعه صحبة القراء فالقراء في لسانهم: هم أهل التنسك والتعبد سواء كانوا يقرءون القرآن أم لا فالقارىء عندهم: هو الكثير التعبد والتنسك الذي قد قصر همته على ظاهر العبادة دون أرواح المعارف ودون حقائق الإيمان وروح المحبة وأعمال القلوب فهمتهم كلها إلى العبادة ولا خبر عندهم مما عند أهل التصوف وأرباب القلوب وأهل المعارف ولهذا قال من قال: طريقنا تفت لا تقسر فسير هؤلاء: بالقلوب والأرواح وسير أولئك: بمجرد القوالب والأشباح وبين أرواح هؤلاء وقلوبهم وأرواح هؤلاء وقلوبهم: نوع تناكر وتنافر ولا يقدر أحدهم على صحبة النوع الآخر إلا على نوع إغضاء وتحميل للطبيعة ما تأباه وهو من جنس ما بينهم وبين ظاهرية الفقهاء من التنافر ويسمونهم: أصحاب الرسوم ويسمون أولئك: القراء والطائفتان عندهم: أهل ظواهر لا أرباب حقائق هؤلاء مع رسوم العلم وهؤلاء مع رسوم العبادة ثم إنهم في أنفسهم فريقان: صوفية وفقراء وهم متنازعون في ترجيح الصوفية على الفقراء أو بالعكس أو هما سواء على ثلاثة أقوال فطائفة رجحت الصوفي منهم كثير من أهل العراق وعلى هذا صاحب العوارف وجعلوا نهاية الفقير: بداية الصوفي وطائفة رجحت الفقير وجعلوا الفقر لب التصوف وثمرته وهم كثير من أهل خراسان(2/368)
وطائفة ثالثة قالوا: الفقر والتصوف شيء واحد وهؤلاء هم أهل الشام ولا يستقيم الحكم بين هؤلاء وهؤلاء حتى تتبين حقيقة الفقر والتصوف وحينئذ يعلم: هل هما حقيقة واحدة أو حقيقتان ويعلم راجحهما من مرجوحهما وسترى ذلك مبينا إن شاء الله في منزلتي الفقر والتصوف إذا انتهينا إليهما إن ساعد الله ومن بفضله وتوفيقه فلا حول ولا قوة إلا بالله وبه المستعان وعليه التكلان وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والمقصود: أن المراتب عندهم ثلاثة: مرتبة التقوى وهي مرتبة التعبد والتنسك ومرتبة التصوف وهي مرتبة التفتي بكل خلق حسن والخروج من كل خلق ذميم ومرتبة الفقر وهي مرتبة التجرد وقطع كل علاقة تحول بين القلب وبين الله تعالى فهذه مراتب طلاب الآخرة ومن عداهم: فمع القاعدين المتخلفين فأشار أبو القاسم الجنيد إلى أن المريد لله بصدق إذا أراد الله به خيرا: أوقعه على طائفة الصوفية يهذبون أخلاقه ويدلونه على تزكية نفسه وإزالة أخلاقها الذميمة والاستبدال بالأخلاق الحميدة ويعرفونه منازل الطريق ومفازاتها وقواطعها وآفاتها وأما القراء: فيدقونه بالعبادة من الصوم والصلاة دقا ولا يذيقونه شيئا من حلاوة أعمال القلوب وتهذيب النفوس إذ ليس ذلك طريقهم ولهذا بينهم وبين أرباب التصوف نوع تنافر كما تقدم(2/369)
والبصير الصادق: يضرب في كل غنيمة بسهم ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها ولا يتحيز إلى طائفة وينأى عن الأخرى بالكلية: أن لا يكون معها شيء من الحق فهذه طريقة الصادقين ودعوى الجاهلية كامنة في النفوس ولا أعني بذلك أصغريهم ولكني أريد به الدوينا سمع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته قائلا يقول: "يا للمهاجرين" وآخر يقول: "يا للأنصار" ! فقال: "ما بال دعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " هذا وهما اسمان شريفان سماهم الله بهما في كتابه فنهاهم عن ذلك وأرشدهم إلى أن يتداعوا ب المسلمين و المؤمنين و عباد الله وهي الدعوى الجامعة بخلاف المفرقة ك الفلانية و الفلانية فالله المستعان وقال لأبي ذر: "إنك امروء فيك جاهلية" فقال: على كبر السن مني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم فمن يأمن القراء بعدك يا شهر ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان وطعم الصدق واليقين حتى تخرج الجاهلية كلها من قلبه والله لو تحقق الناس في هذا الزمان ذلك من قلب رجل لرموه عن قوس واحدة وقالوا: هذا مبتدع ومن دعاة البدع فإلى الله المشتكى وهو المسئول الصبر والثبات فلابد من لقائه {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [ طه: 61 ] {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [ الشعراء: 227 ](2/370)
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله: باب الإرادة: قال الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [ الإسراء: 84 ] في تصديره الباب بهذه الآية دلالة على عظم قدره وجلالة محله من هذا العلم فإن معنى الآية: كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به فالفاجر يعمل على ما يليق به وكذلك الكافر والمنافق ومريد الدنيا وجيفتها: عامل على ما يناسبه ولا يليق به سواه ومحب الصور: عامل على ما يناسبه ويليق به فكل امرىء يهفو إلى ما يحبه وكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه فالمريد الصادق المحب لله: يعمل ما هو اللائق به والمناسب له فهو يعمل على شاكلة إرادته وما هو الأليق به والأنسب لها قال: الإرادة: من قوانين هذا العلم وجوامع أبنيته وهي الإجابة لدواعي الحقيقة طوعا أو كرها يريد: أن هذا العلم مبني على الإرادة فهي أساسه ومجمع بنائه وهو مشتمل على تفاصيل أحكام الإرادة وهي حركة القلب ولهذا سمي علم الباطن كما أن علم الفقه يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح ولهذا سموه علم الظاهر فهاتان حركتان اختياريتان وللعبد حركة طبيعية اضطرارية فالعلم المشتمل على تفاصيلها وأحكامها: هو علم الطب فهذه العلوم الثلاثة: هي الكفيلة بمعرفة حركات النفس والقلب وحركات اللسان والجوارح وحركات الطبيعة فالطبيب: ينظر في تلك الحركات من جهة تأثر البدن عنها صحة واعتلالا وفي لوازم ذلك ومتعلقاته(2/371)
والفقيه: ينظر في تلك الحركات من جهة موافقتها لأمر الشرع ونهيه وإذنه وكراهته ومتعلقات ذلك
والصوفي: ينظر في تلك الحركات من جهة كونها موصلة له إلى مراده أو قاطعة عنه ومفسدة لقلبه أو مصححة له وأما قوله: وهي الإجابة لداعي الحقيقة ف الإجابة هي الانقياد والإذعان و الحقيقة عندهم: مشاهدة الربوبية و الشريعة التزام العبودية فالشريعة: أن تعبده والحقيقة: أن تشهده فالشريعة: قيامك بأمره والحقيقة: شهودك لوصفه وداعي الحقيقة: هو صحة المعرفة فإن من عرف الله أحبه ولا بد
ولابد في هذه الإجابة من ثلاثة أشياء: نفس مستعدة قابلة لا تعوز إلا الداعي ودعوة مستمعة وتخلية الطريق من المانع فما انقطع من انقطع إلا من جهة من هذه الجهات الثلاث وقوله: طوعا أو كرها يشير إلى المجذوب المختطف من نفسه والسالك إرادة واختيارا ومجاهدة قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: ذهاب عن العادات بصحة العلم والتعلق بأنفاس السالكين مع صدق القصد وخلع كل شاغل من الإخوان ومشتت من الأوطان هذا يوافق من حد الإرادة بأنها: مخالفة العادة وهي ترك عوائد النفس وشهواتها ورعوناتها وبطالاتها ولا يمكن ذلك إلا بهذه الأشياء التي أشار إليها وهي: صحبة العلم ومعانقته فإنه النور الذي يعرف العبد مواقع ما ينبغي إيثار طلبه وما ينبغي إيثار تركه فمن لم يصحبه العلم: لم تصح له إرادة باتفاق كلمة الصادقين ولا عبرة بقطاع الطريق وقال بعضهم: متى رأيت الصوفي والفقير يقدح في العلم فاتهمه على الإسلام(2/372)
ومنها: التعلق بأنفاس السالكين ولا ريب أن كل من تعلق بأنفاس قوم انخرط في مسلكهم ودخل في جماعتهم وقال: أنفاس السالكين ولم يقل: أنفاس العابدين فإن العابدين من شأنهم القيام بالأعمال وشأن السالكين مراعاة الأحوال وقوله: مع صدق القصد يكون بأمرين أحدهما: توحيده والثاني: توحيد المقصود فلا يقع في قصدك قسمة ولا في مقصودك وقوله: وخلع كل شاغل من الإخوان: ومشتت من الأوطان يشير إلى ترك الموانع والقواطع العائقة عن السلوك: من صحبة الأغيار والتعلق بالأوطان التي ألف فيها البطالة والنذالة فليس على المريد الصادق أضر من عشرائه ووطنه القاطعين له عن سيره إلى الله تعالى فليغترب عنهم بجهده والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: تقطع بصحبة الحال وترويح الأنس والسير
بين القبض والبسط أي ينقطع إلى صحبة الحال وهو الوارد الذي يرد على القلب من تأثيره بالمعاملة السالب لوصف الكسل والفتور الجالب له إلى مرافقة الرفيق الأعلى الذين أنعم الله عليهم فينتقل من مقام العلم إلى مقام الكشف ومن مقام رسوم الأعمال إلى مقام حقائقها وأذواقها ومواجيدها وأحوالها فيترقى من الإسلام إلى الإيمان ومن الإيمان إلى الإحسان وأما ترويح الأنس الذي أشار إليه: فإن السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت قرة عين له وقوة ولذة(2/373)
فتصير الصلاة قرة عينه بعد أن كانت عملا عليه ويستريح بها بعد أن كان يطلب الراحة منها فله ميراث من قوله أرحنا بالصلاة يا بلال وجعلت قرة عيني في الصلاة بحسب إرادته ومحبته وأنسه بالله سبحانه وتعالى ووحشته مما سواه وأما السير بين القبض والبسط ف القبض و البسط حالتان تعرضان لكل سالك يتولدان من الخوف تارة والرجاء تارة فيقبضه الخوف ويبسطه الرجاء
ويتولدان من الوفاء تارة والجفاء تارة فوفاؤه: يورثه البسط ورجاؤه يورثه القبض
ويتولدان من التفرقة تارة والجمعية تارة فتفرقته تورثه القبض وجمعيته تورثه البسط ويتولدان من أحكام الوارد تارة فوارد يورث قبضا ووارد يورث بسطا وقد يهجم على قلب السالك قبض لا يدري ما سببه وبسط لا يدري ما سببه وحكم صاحب هذا القبض: أمران
الأول: التوبة والاستغفار لأن ذلك القبض نتيجة جناية أو جفوة ولا يشعر بها
والثاني: الاستسلام حتى يمضي عنه ذلك الوقت ولا يتكلف دفعه ولا يستقبل وقته مغالبة وقهرا ولا يطلب طلوع الفجر في وسط الليل وليرقد حتى يمضي عامة الليل ويحين طلوع الفجر وانقشاع ظلمة الليل بل يصبر حتى يهجم عليه الملك فالله يقبض ويبسط وكذلك إذا هجم عليه وارد البسط: فليحذر كل الحذر من الحركة والاهتزاز وليحرزه بالسكون والانكماش فالعاقل يقف على البساط ويحذر من الانبساط وهذا شأن عقلاء أهل الدنيا ورؤسائهم: إذا ما ورد عليهم ما يسرهم ويبسطهم(2/374)
ويهيج أفراحهم قابلوه بالسكون والثبات والاستقرار حتى كأنه لم يهجم عليهم وقال كعب بن زهير في مدح المهاجرين:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم قوما ... وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
قال الدرجة الثالثة: ذهول مع صحبة الاستقامة وملازمة الرعاية على تهذيب الأدب الذهول ههنا: الغيبة في المشاهدة بالحال الغالب المذهل لصاحبه عن التفاته إلى غيره وهذا إنما ينفع إذا كان مصحوبا بالإستقامة وهي حفظ حدود العلم والوقوف معها وعدم إضاعتها وإلا فأحسن أحوال هذا الذاهل: أن يكون كالمجنون الذي رفع عنه القلم فلا يقتدى به ولا يعاقب على تركه الاستقامة وأما إن كان سبب الذهول المخرج عن الإستقامة باستدعائه وتكلفه وإرادته: فهو عاص مفرط مضيع لأمر الله له حكم أمثاله من المفرطين وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: متى كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا وقوله: وملازمة الرعاية على تهذيب الأدب
يريد به: ملازمته رعاية حقوق الله مع التأدب بآدابه فلا يخرجه ذهول عن استقامته ولا عن رعاية حقوق سيده ولا عن الوقوف بالأدب بين يديه والله المستعان(2/375)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأدب
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [ التحريم: 6 ] قال ابن عباس وغيره: أدبوهم وعلموهم وهذه اللفظة مؤذنة بالاجتماع فالأدب: اجتماع خصال الخير في العبد ومنه المأدبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس(2/375)
وعلم الأدب: هو علم إصلاح اللسان والخطاب وإصابة مواقعه وتحسين ألفاظه وصيانته عن الخطاء والخلل وهو شعبة من الأدب العام والله أعلم
فصل و الأدب ثلاثة أنواع: أدب مع الله سبحانه وأدب مع رسوله
وشرعه وأدب مع خلقه فالأدب مع الله ثلاثة أنواع أحدها: صيانة معاملته: أن يشوبها بنقيصة الثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره الثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه قال أبو علي الدقاق: العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة ويصل بأدبه في طاعته إلى الله وقال: رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده وقال ابن عطاء: الأدب الوقوف مع المستحسنات فقيل له: وما معناه فقال: أن تعامله سبحانه بالأدب سرا وعلنا ثم أنشد
إذا نطقت جاءت بكل ملاحة ... وإن سكتت جاءت بكل مليح
وقال أبو علي: من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل وقال يحيى بن معاذ: إذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين وقال أبو علي: ترك الأدب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب وقال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله وقال ابن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم
وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب فقال: التفقه في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما لله عليك(2/376)
وقال سهل: القوم استعانوا بالله على مراد الله وصبروا لله على آداب الله وقال ابن المبارك: طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون وقال: الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف وقال أبو حفص لما قال له الجنيد: لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين فقال: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن فالأدب مع الله حسن الصحبة معه بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء كحال مجالس الملوك ومصاحبهم وقال أبو نصر السراج: الناس في الأدب على ثلاث طبقات: أما أهل الدنيا: فأكبر آدابهم: في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسمار الملوك وأشعار العرب وأما أهل الدين: فأكثر آدابهم: في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات وأما أهل الخصوصية: فأكبر آدابهم: في طهارة القلوب ومراعاة الأسرار والوفاء بالعهود وحفظ الوقت وقلة الالتفات إلى الخواطر وحسن الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب وقال سهل: من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالإخلاص وقال عبدالله بن المبارك: قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول: إنه معرفة النفس ورعوناتها وتجنب تلك الرعونات وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب وقال بعضهم: الحق سبحانه يقول: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي: ألزمته الأدب ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي: ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب(2/377)
ويشهد لهذا: أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات وقال أبو عثمان: إذا صحت المحبة تأكدت على المحب ملازمة الأدب وقال النوري رحمه الله: من لم يتأدب للوقت فوقته مقت وقال ذو النون: إذا خرج المريد عن استعمال الأدب: فإنه يرجع من حيث جاء وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به قال المسيح عليه السلام: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [ المائدة: 116 ] ولم يقل: لم أقله وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره فقال: تعلم ما في نفسي ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه فقال: ولا أعلم ما في نفسك ثم أثنى على ربه ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها فقال: إنك أنت علام الغيوب ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به وهو محض التوحيد فقال: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: {أن اعبدوا الله ربي وربكم} [ المائدة: 117 ] ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [ المائدة: 117 ] ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم فقال: وأنت على كل شيء شهيد ثم قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [ المائدة: 118 ] وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك فإذا عذبتهم مع كونهم عبيدك فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس(2/378)
العبيد وأعتاهم على سيدهم وأعصاهم له: لم تعذبهم لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته فلماذا يعذب أرحم الراحمين وأجود الأجودين وأعظم المحسنين إحسانا عبيده لولا فرط عتوهم وإباؤهم عن طاعته وكمال استحقاقهم للعذاب وقد تقدم قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [ المائدة: 116 ] أي هم عبادك وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم فإذا عذبتهم: عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه فليس في هذا استعطاف لهم كما يظنه الجهال ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة كما تظنه القدرية وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله وكمال علمه بحالهم واستحقاقهم للعذاب ثم قال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ المائدة: 118 ] ولم يقل الغفور الرحيم وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم والأمر بهم إلى النار فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة بل مقام براءة منهم فلو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم ليست عن عجز عن الانتقام منهم ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه ولجهله بمقدار إساءته إليه والكمال: هو مغفرة القادر العالم وهو العزيز الحكيم وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب وفي بعض الآثار: حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا(2/379)
وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى كقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} وكذلك قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [ الشعراء: 7880 ] ولم يقل وإذا أمرضني حفظا للأدب مع الله وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [ الكهف: 79 ] ولم يقل فأراد ربك أن أعيبها وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [ الكهف: 82 ] وكذلك قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [ الجن: 10 ] ولم يقولوا: أراده ربهم ثم قالوا: أم أراد بهم ربهم رشدا وألطف من هذا قول موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [ القصص: 24 ] ولم يقل أطعمني وقول آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ الأعراف: 23 ] ولم يقل: رب قدرت علي وقضيت علي وقول أيوب عليه السلام: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [ الأنبياء: 83 ] ولم يقل فعافني واشفني وقول يوسف لأبيه وإخوته: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [ يوسف: 100 ] ولم يقل: أخرجني من الجب حفظا للأدب مع إخوته وتفتيا عليهم: أن لا يخجلهم بما جرى في الجب وقال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ولم يقل: رفع عنكم جهد الجوع والحاجة أدبا معهم وأضاف ما جرى إلى السبب ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه فقال: { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} فأعطى الفتوة(2/380)
والكرم والأدب حقه ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
ومن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل: أن يستر عورته وإن كان خاليا لا يراه أحد أدبا مع الله على حسب القرب منه وتعظيمه وإجلاله وشدة الحياء منه ومعرفة وقاره وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرا وباطنا فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهرا وما أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل ولهذا كان الأدب: استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل
فإن لله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزناد فألهمه ومكنه وعرفه وأرشده وأرسل إليه رسله وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [ الشمس: 7-10 ] فعبر عن خلق النفس بالتسوية والدالة على الاعتدال والتمام ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه وهي التقوى ثم حكم بالشقاء على من دساها فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور والله سبحانه وتعالى أعلم(2/381)
فصل وجرت عادة القوم: أن يذكروا في هذا المقام قوله تعالى عن نبيه
حين أراه ما أراه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [ النجم: 17 ] وأبو القاسم القشيري صدر باب الأدب بهذه الآية وكذلك غيره وكأنهم نظروا إلى قول من قال من أهل التفسير: إن هذا وصف لأدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا ولا تجاوز ما رآه وهذا كمال الأدب والإخلال به: أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله أو يتطلع أمام المنظور فالالتفات زيغ والتطلع إلى ما أمام المنظور: طغيان ومجاوزة فكمال إقبال الناظر على المنظور: أن لا يصرف بصره عنه يمنة ولا يسرة ولا يتجاوزه هذا معنى ما حصلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وفي هذه الآية أسرار عجيبة وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر: تواطأ هناك بصره وبصيرته وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره فالبصيرة مواطئة له وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حق مشهود بالبصر فتواطأ في حقة مشهد البصر والبصيرة ولهذا قال سبحانه وتعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [ النجم: 11-12 ] أي ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره ولهذا قرأها أبو جعفر ما كذب الفؤاد ما رأى بتشديد الذال أي لم يكذب الفؤاد البصر بل صدقه وواطأه لصحة الفؤاد والبصر أو استقامة البصيرة والبصر وكون المرئي المشاهد بالبصر والبصيرة حقا وقرأ الجمهور ما كذب الفؤاد بالتخفيف وهو متعد و ما رأى مفعوله: أي ما كذب قلبه ما رأته عيناه بل واطأه ووافقه فلمواطأة قلبه لقالبه وظاهره لباطنه وبصره لبصيرته: لم يكذب الفؤاد البصر ولم يتجاوز البصر حده فيطغى(2/382)
ولم يمل عن المرئي فيزيغ بل اعتدل البصر نحو المرئي ما جاوزه ولا مال عنه كما اعتدل القلب في الإقبال على الله والإعراض عما سواه فإنه أقبل على الله بكليته وللقلب زيغ وطغيان كما للبصر زيغ وطغيان وكلاهما منتف عن قلبه وبصره فلم يزغ قلبه التفاتا عن الله إلى غيره ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذي أقيم فيه
وهذا غاية الكمال والأدب مع الله الذي لا يلحقه فيه سواه فإن عادة النفوس إذا أقيمت في مقام عال رفيع: أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه ألا ترى إلى موسى لما أقيم في مقام التكليم والمناجاة: طلبت نفسه الرؤية ونبينا لما أقيم في ذلك المقام وفاه حقه: فلم يلتفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه ألبتة ولأجل هذا ما عاقه عائق ولا وقف به مراد حتى جاوز السموات السبع حتى عاتب موسى ربه فيه وقال: يقول بنو إسرائيل: إني كريم الخلق على الله وهذا قد جاوزني وخلفني علوا فلو أنه وحده ولكن معه كل أمته وفي رواية للبخاري: فلما جاوزته بكى قيل: ما يبكيك قال: أبكي أن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ثم جاوزه علوا فلم تعقه إرادة ولم تقف به دون كمال العبودية همة ولهذا كان مركوبه في مسراه يسبق خطوه الطرف فيضع قدمه عند منتهى طرفه مشاكلا لحال راكبه وبعد شأوه الذي سبق به العالم أجمع في سيره فكان قدم البراق لا يختلف عن موضع نظره كما كان قدمه لا يتأخر عن محل معرفته فلم يزل في خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه وتكميل مراتب عبوديته له حتى خرق حجب السموات وجاوز السبع الطباق وجاور سدرة المنتهى ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين فانصبت(2/383)
إليه هناك أقسام القرب انصبابا وانقشعت عنه سحائب الحجب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا وأقيم مقاما غبطه به الأنبياء والمرسلون فإذا كان في المعاد أقيم مقاما من القرب ثانيا يغبطه به الأولون والآخرون واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله ما زاغ البصر عنه وما طغى فأقامه في هذا العالم على أقوم صراط من الحق والهدى وأقسم بكلامه على ذلك في الذكر الحكيم فقال تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [ يس: 1-4 ] فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط يسأله السلامة لأتباعه وأهل سنته حتى يجوزونه إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
فصل و الأدب هو الدين كله فإن ستر العورة من الأدب والوضوء وغسل
الجنابة من الأدب والتطهر من الخبث من الأدب حتى يقف بين يدي الله طاهرا ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين يدي ربه وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [ الأعراف: 31 ] فعلق الأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له: أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة(2/384)
وكان لبعض السلف حلة بمبلغ عظيم من المال وكان يلبسها وقت الصلاة ويقول: ربي أحق من تجملت له في صلاتي ومعلوم: أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده لا سيما إذا وقف بين يديه فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرا وباطنا ومن الأدب: نهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلي: أن يرفع بصره إلى السماء فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا من كمال أدب الصلاة: أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقا خافضا طرفه إلى الأرض ولا يرفع بصره إلى فوق قال: والجهمية لما لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه ظنوا أن هذا دليل أن الله ليس فوق سمواته على عرشه كما أخبر به عن نفسه واتفقت عليه رسله وجميع أهل السنة قال: وهذا من جهلهم بل هذا دليل لمن عقل عن الرسول على نقيض قولهم إذ من الأدب مع الملوك: أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض ولا يرفع بصره إليهم فما الظن بملك الملوك سبحانه وسمعته يقول في نهيه عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إن القرآن هو أشرف الكلام وهو كلام الله وحالتا الركوع(2/385)
والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد فمن الأدب مع كلام الله: أن لا يقرأ في هاتين الحالتين ويكون حال القيام والانتصاب أولى به
ومن الأدب مع الله: أن لا يستقبل بيته ولا يستدبره عند قضاء الحاجة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم والصحيح: أن هذا الأدب: يعم الفضاء والبنيان كما ذكرنا في غير هذا الموضع ومن الأدب مع الله في الوقوف بين يديه في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة ففي الموطأ لمالك عن سهل بن سعد: أنه من السنة و: كان الناس يؤمرون به ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء فعظيم العظماء أحق به ومنها: السكون في الصلاة وهو الدوام الذي قال الله تعالى فيه: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [ المعارج: 23 ] قال عبدالله بن المبارك عن ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب: أن أبا الخير أخبره قال: سألنا عقبة بن عامر عن قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أهم الذين يصلون دائما قال: لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه(2/386)
قلت: هما أمران الدوام عليها والمداومة عليها فهذا الدوام والمداومة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [ المعارج: 34 ] وفسر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة وأدبه في استماع القراءة: أن يلقي السمع وهو شهيد وأدبه في الركوع: أن يستوي ويعظم الله تعالى حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم منه ويتضاءل ويتصاغر في نفسه حتى يكون أقل من الهباء
والمقصود: أن الأدب مع الله تبارك وتعالى: هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق علما وعملا وحالا والله المستعان
فصل وأما الأدب مع الرسول: فالقرآن مملوء به
فرأس الأدب معه: كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا أو يحمله شبهة أو شكا أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره وإلا فإن طلب السلامة: أعرض عن(2/387)
أمره وخبره وفوضه إليهم وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه: تأويلا وحملا فقال: نؤوله ونحمله فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء فقلت له: سألتك بالله لو قدر أن الرسول حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه: أكان فرضا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ فوضع إصبعه على فيه وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة هذا أدب الخواص معه لا مخالفة أمره والشرك به ورفع الأصوات وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم وعزل كلامه عن اليقين وأن يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه بل المعول في باب معرفة الله: على العقول المنهوكة المتحيرة المتناقضة وفي الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها والقرآن والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ(2/388)
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [ المؤمنون: 6374
والناصح لنفسه العامل على نجاتها: يتدبر هذه الآيات حق تدبرها ويتأملها حق تأملها وينزلها على الواقع: فيرى العجب ولا يظنها اختصت بقوم كانوا فبانوا فالحديث لك واسمعي يا جارة والله المستعان ومن الأدب مع الرسول: أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [ الحجرات: 1 ] وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم قال مجاهد رحمه الله: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو عبيدة: تقول العرب: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب أي لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه
وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهى
ومن الأدب معه: أن لا ترفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجبا لحبوطها ومن الأدب معه: أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [ النور: 63 ] وفيه قولان للمفسرين أحدهما: أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا بل قولوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا نبي الله فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول أي دعاءكم الرسول الثاني: أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا إن شاء(2/389)
أجاب وإن شاء ترك بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من أجابته ولم يسعكم التخلف عنها ألبتة فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل أي دعاؤه إياكم
ومن الأدب معه: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد منهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [ النور: 62 ] فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه دقيقه وجلبله هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [ النحل: 43 ] [ الأنبياء: 7 ] ومن الأدب معه: أن لا يستشكل قوله بل تستشكل الآراء لقوله ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا نعم هو مجهول وعن الصواب معزول ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد فكل هذا من قلة الأدب معه وهو عين الجرأة
فصل وأما الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق
بهم فلكل مرتبة أدب والمراتب فيها أدب خاص فمع الوالدين: أدب خاص وللأب منهما: أدب هو أخص به ومع العالم: أدب آخر ومع السلطان أدب يليق به وله مع الأقران أدب يليق بهم ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته ولكل حال أدب: فللأ كل آداب وللشرب آداب وللركوب والدخول والخروج والسفر والإقامة والنوم آداب وللبول آداب وللكلام آداب وللسكوت والاستماع آداب(2/390)
وأدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبواره فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب
فانظر إلى الأدب مع الوالدين: كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة والإخلال به مع الأم تأويلا وإقبالا على الصلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته وضرب الناس له ورميه بالفاحشة
وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر: كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان وانظر قلة أدب عوف مع خالد: كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه وانظر أدب الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: أن يتقدم بين يديه فقال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أورثه مقامه والإمامة بالأمة بعده فكان ذلك(2/391)
التأخر إلى خلفه وقد أومأ إليه أن: اثبت مكانك جمزا وسعيا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطي والله أعلم
فصل قال صاحب المنازل الأدب: حفظ الحد بين الغلو والجفاء بمعرفة ضرر
العدوان
هذا من أحسن الحدود فإن الانحراف إلى أحد طرفي الغلو والجفاء: هو قلة الأدب والأدب: الوقوف في الوسط بين الطرفين فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودا له فكلاهما عدوان والله لا يحب المعتدين والعدوان: هو سوء الأدب وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه فإضاعة الأدب بالجفاء: كمن لم يكمل أعضاء الوضوء ولم يوف الصلاة آدابها التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها وهي قريب من مائة أدب: ما بين واجب ومستحب وإضاعته بالغلو: كالوسوسة في عقد النية ورفع الصوت بها والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرا وتطويل ما السنة تخفيفه وحذفه كالتشهد الأول والسلام الذي حذفه سنة وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على ما يظنه سراق الصلاة والنقارون لها ويشتهونه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه وقد صانه الله من ذلك وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافات ويأمرهم بالتخفيف وتقام صلاة الظهر فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله ويتوضأ ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى فهذا هو التخفيف الذي أمر به لا نقر الصلاة وسرقها فإن ذلك اختصار بل اقتصار على ما يقع عليه الاسم ويسمى به مصليا وهو كأكل المضطر في المخمصة ما يسد به رمقه: فليته شبع على القول الآخر وهو كجائع قدم(2/392)
إليه طعام لذيذ جدا فأكل منه لقمة أو لقمتين فماذا يغنيان عنه ولكن لو أحس بجوعه لما قام من الطعام حتى يشبع منه وهو يقدر على ذلك لكن القلب شبعان من شيء آخر ومثال هذا التوسط في حق الأنبياء عليهم السلام: أن لا يغلو فيهم كما غلت النصارى في المسيح ولا يجفو عنهم كما جفت اليهود فالنصاري عبدوهم واليهود قتلوهم وكذبوهم والأمة الوسط: آمنوا بهم وعزروهم ونصروهم واتبعوا ما جاءوا به ومثال ذلك في حقوق الخلق: أن لا يفرط في القيام بحقوقهم ولا يستغرق فيها بحيث يشتغل بها عن حقوق الله أو عن تكميلها أو عن مصلحة دينه وقلبه وأن لا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية فإن الطرفين من العدوان الضار وعلى هذا الحد فحقيقة الأدب: هي العدل والله أعلم
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: منع الخوف: أن
لا يتعدى إلى اليأس وحبس الرجاء: أن يخرج إلى الأمن وضبط السرور: أن يضاهىء الجرأة يريد: أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله فإن هذا الخوف مذموم(2/393)
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: حد الخوف ما حجزك عن معاصي الله فما زاد على ذلك: فهو غير محتاج إليه وهذا الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه وجهل بها وأما حبس الرجاء: أن يخرج إلى الأمن فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن معه العقوبة فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وهذا إغراق في الطرف الآخر بل حد الرجاء: ما طيب لك العبادة وحملك على السير فهو بمنزلة الرياح التي تسير السفينة فإذا انقطعت وقفت السفينة وإذا زادت ألقتها إلى المهالك وإذا كانت بقدر: أوصلتها إلى البغية
وأما ضبط السرور: أن يخرج إلى مشابهة الجرأة فلا يقدر عليه إلا الأقوياء أرباب العزائم الذين لا تستفزهم السراء فتغلب شكرهم ولا تضعفهم الضراء فتغلب صبرهم كما قيل:
لا تغلب السراء منهم شكرهم ... كلا ولا الضراء صبر الصابر
والنفس قرينة الشيطان ومصاحبته وتشبهه في صفاته ومواهب الرب تبارك وتعالى تنزل على القلب والروح فالنفس تسترق السمع فإذا نزلت على القلب تلك المواهب: وثبت لتأخذ قسطها منها وتصيره من عدتها وحواصلها فالمسترسل معها الجاهل بها: يدعها تستوفي ذلك فبينا هو في موهبة القلب والروح وعدة وقوة له إذ صار ذلك كله من حاصل النفس وآلتها وعددها فصالت به وطغت لأنها رأت غناها به والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال فكيف بما هو أعظم خطرا وأجل قدرا من المال بما لا نسبة بينهما: من علم أو حال أو معرفة أو كشف فإذا صار ذلك من حاصلها: انحرف العبد به ولابد إلى طرف مذموم من جرأة أو شطح أو إدلال ونحو ذلك فوالله كم ههنا من قتيل وسليب وجريح يقول: من أين أتيت ومن أين(2/394)
دهيت ومن أين أصبت وأقل ما يعاقب به من الحرمان بذلك: أن يغلق عنه باب المزيد ولهذا كان العارفون وأرباب البصائر: إذا نالوا شيئا من ذلك انحرفوا إلى طرف الذل والانكسار ومطالعة عيوب النفس واستدعوا حارس الخوف وحافظوا على الرباط بملازمة الثغر بين القلب وبين النفس ونظروا إلى أقرب الخلق من الله وأكرمهم عليه وأدناهم منه وسيلة وأعظمهم عنده جاها وقد دخل مكة يوم الفتح وذقنه تمس قربوس سرجه: انخفاضا وانكسارا وتواضعا لربه تعالى في مثل تلك الحال التي عادة النفوس البشرية فيها: أن يملكها سرورها وفرحها بالنصر والظفر والتأييد ويرفعها إلى عنان السماء فالرجل: من صان فتحه ونصيبه من الله وواره عن استراق نفسه وبخل عليها به والعاجز: من جاد لها به فيا له من جود ما أقبحه وسماحة ما أسفه صاحبها والله المستعان
فصل قال: الدرجة الثانية: الخروج عن الخوف إلى ميدان القبض والصعود
من الرجاء إلى ميدان البسط ثم الترقي من السرور إلى ميدان المشاهدة ذكر في الدرجة الأولى: كيف يحفظ الحد بين المقامات حتى لا يتعدى إلى غلو أو جفاء وذلك سوء أدب
فذكر مع الخوف: أن يخرجه إلى اليأس ومع الرجاء: أن يخرجه إلى الأمن ومع السرور: أن يخرجه إلى الجرأة ثم ذكر في هذه الدرجة: أدب الترقي من هذه الثلاثة إلى ما يحفظه عليها ولا يضيعها بالكلية كما أن في الدرجة الأولى: لا يبالغ به بل يكون خروجه من الخوف إلى القبض يعني لا يزايل الخوف بالكلية فإن قبضه لا يؤيسه ولا يقنطه ولا يحمله على مخالفة ولا بطالة وكذلك رجاؤه لا يقعد به عن ميدان(2/395)
البسط بل يكون بين القبض والبسط وهذه حال الكمل وهي السير بين القبض والبسط وسروره: لا يقعد به عن ترقيه إلى ميدان مشاهدته بل يرقى بسروره إلى المشاهدة ويرجع من رجائه إلى البسط ومن خوفه إلى القبض
ومقصوده: أن ينتقل من أشباح هذه الأحوال إلى أرواحها فإن الخوف شبح والقبض روحه والرجاء شبح والبسط روحه والسرور شبح والمشاهدة روحه فيكون حظه من هذه الثلاثة: أرواحها وحقائقها لا صورها ورسومها
فصل قال: الدرجة الثالثة: معرفة الأدب ثم الفناء عن التأدب بتأديب
الحق ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب قوله: معرفة الأدب يعني لابد من الاطلاع على حقيقته في كل درجة وإنما يكون ذلك في الدرجة الثالثة فإنه يشرف منها على الأدب في الدرجتين الأوليين فإذا عرفه وصار له حالا فإنه ينبغي له أن يفنى عنه بأن يغلب عليه شهود من أقامه فيه فينسبه إليه تعالى دون نفسه ويفنى عن رؤية نفسه وقيامها بالأدب بشهود الفضل لمن أقامها فيه ومنته فهذا هو الفناء عن التأدب بتأديب الحق قوله: ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب يعني: أنه يفنى عن مشاهدة الأدب بالكلية لاستغراقه في شهود الحقيقة في حضرة الجمع التي غيبته عن الأدب ففناؤه عن الأدب فيها: هو الأدب حقيقة فيستريح حينئذ من كلفة حمل أعباء الأدب وأثقاله لأن استغراقه في شهود الحقيقة لم يبق عليه شيئا من أعباء الأدب والله سبحانه وتعالى أعلم(2/396)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة اليقين
وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون وعمل القوم إنما كان عليه وإشاراتهم كلها إليه وإذا تزوج الصبر باليقين: ولد بينهما حصول الإمامة في الدين قال الله تعالى وبقوله يهتدي المهتدون: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [ السجدة: 24 ] وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال وهو أصدق القائلين: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [ الذرايات: 20 ] وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ البقرة: 4-5 ] وأخبر عن أهل النار: بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين فقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [ الجاثية: 32 ] ف اليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال القلوب التي هي من أعمال الجوارح وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره وروى خالد بن يزيد عن السفيانين عن التيمي عن خيثمة عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترضين أحدا بسخط الله ولا تحمدن أحدا على فضل الله ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله فإن ما رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهية كاره" وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط واليقين قرين التوكل ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين(2/397)
والصواب: أن التوكل ثمرته ونتيجته ولهذا حسن اقتران الهدى به قال الله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [ النمل: 79 ] فالحق: هو اليقين وقالت رسل الله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [ إبراهيم: 12 ] ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم فامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضي به وشكراله وتوكلاعليه وإنابة إليه فهو مادة جميع المقامات والحامل لها واختلف فيه: هل هو كسبي أو موهبي فقيل: هو العلم المستودع في القلوب يشير إلى أنه غير كسبي وقال سهل: اليقين من زيادة الإيمان ولا ريب أن الإيمان كسبي والتحقيق: أنه كسبي باعتبار أسبابه موهبي باعتبار نفسه وذاته قال سهل: ابتداؤه المكاشفة كما قال بعض السلف: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ثم المعاينة والمشاهدة وقال ابن خفيف: هو تحقق الأسرار بأحكام المغيبات وقال أبو بكر بن طاهر: العلم تعارضه الشكوك واليقين لا شك فيه وعند القوم: اليقين لا يساكن قلبا فيه سكون إلى غير الله وقال ذو النون: اليقين يدعو إلى قصر الأمل وقصر الأمل يدعو إلى الزهد والزهد يورث الحكمة وهي تورث النظر في العواقب قال: وثلاثة من أعلام اليقين: قلة مخالطة الناس في العشرة وترك المدح لهم في العطية والتنزه عن ذمهم عند المنع وثلاثة من أعلامه أيضا: النظر إلى الله في كل شيء والرجوع إليه في كل أمر والاستعانة به في كل حال وقال الجنيد: اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب وقال ابن عطاء: على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين(2/398)
وأصل التقوى مباينة النهي وهو مباينة النفس فعلى قدر مفارقتهم النفس: وصلوا إلى اليقين وقيل: اليقين هو المكاشفة وهو على ثلاثة أوجه: مكاشفة في الأخبار ومكاشفة بإظهار القدرة ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان ومراد القوم بالمكاشفة: ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلا وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان وقد يريدون بها أمرا آخر وهو ما يراه أحدهم في برزخ بين النوم واليقظة عند أوائل تجرد الروح عن البدن ومن أشار منهم إلى غير هذين: فقد غلط ولبس عليه وقال السري: اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عنك مقضيا وقال أبو بكر الوراق: اليقين ملاك القلب وبه كمال الإيمان وباليقين عرف الله وبالعقل عقل عن الله وقال الجنيد: قد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا وقد اختلف في تفضيل اليقين على الحضور والحضور على اليقين فقيل: الحضور أفضل لأنه وطنات واليقين خطرات وبعضهم رجح اليقين وقال: هو غاية الإيمان والأول: رأى أن اليقين ابتداء الحضور فكأنه جعل اليقين ابتداء والحضور دواما وهذا الخلاف لا يتبين فإن اليقين لا ينفك عن الحضور ولا الحضور عن(2/399)
اليقين بل في اليقين من زيادة الإيمان ومعرفة تفاصيله وشعبه وتنزيلها منازلها: ما ليس في الحضور فهو أكمل منه من هذا الوجه وفي الحضور من الجمعية وعدم التفرقة والدخول في الفناء: ما قد ينفك عنه اليقين فاليقين أخص بالمعرفة والحضور أخص بالإرادة والله أعلم وقال النهرجوري: إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء عنده مصيبة وقال أبو بكر الوراق: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين خبر ويقين دلالة ويقين مشاهدة يريد بيقين الخبر: سكون القلب إلى خبر المخبر ووتوثقة به وبيقين الدلالة: ما هو فوقه: وهو أن يقيم له مع وثوقه بصدقه الأدلة الدالة على ما أخبر به وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن فإنه سبحانه مع كونه أصدق الصادقين يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين على صدق أخباره فيحصل لهم اليقين من الوجهين: من جهة الخبر ومن جهة الدليل
فيرتفعون من ذلك إلى الدرجة الثالثة وهي يقين المكاشفة بحيث يصبر المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلى القلب: كنسبة المرئي إلى العين وهذا أعلى أنواع المكاشفة وهي التي أشار إليها عامر بن عبد قيس في قوله: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من قول علي كما يظنه من لا علم له بالمنقولات وقال بعضهم: رأيت الجنة والنار حقيقة قيل له: وكيف قال: رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيتي لهما بعينيه: آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني فإن بصري قد يطغى ويزيغ بخلاف بصره و اليقين يحمله على الأهوال وركوب الأخطار وهو يأمر بالتقدم دائما فإن لم يقارنه العلم: حمل على المعاطب(2/400)
و العلم يأمر بالتأخر والإحجام فإن لم يصحبه اليقين قعد بصاحبه عن المكاسب والغنائم والله أعلم
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله اليقين: مركب الآخذ في هذا الطريق
وهو غاية درجات العامة وقيل: أول خطوة للخاصة لما كان اليقين هو الذي يحمل السائر إلى الله كما قال أبو سعيد الخراز: العلم ما استعملك واليقين ما حملك سماه مركبا يركبه السائر إلى الله فإنه لولا اليقين ما سار ركب إلى الله ولا ثبت لأحد قدم في السلوك إلا به وإنما جعله آخر درجات العامة: لأنهم إليه ينتهون ثم حكى قول من قال: إنه أول خطوة للخاصة يعني: أنه ليس بمقام لهم وإنما هو مبدأ لسلوكهم فمنه يبتدئون سلوكهم وسيرهم وهذا لأن الخاصة عنده سائرون إلى عين الجمع والفناء في شهود الحقيقة لا تقف بهم دونها همة ولا يعرجون دونها على رسم فكل ما دونها فهو عندهم من مشاهد العامة ومنازلهم ومقاماتهم حتى المحبة وحسبك بجعل اليقين نهاية للعامة وبداية لهم قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: علم اليقين وهو قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق ذكر الشيخ رحمه الله في هذه الدرجة ثلاثة أشياء هي متعلق اليقين وأركانه الأولى: قبول ما ظهر من الحق تعالى والذي ظهر منه سبحانه: أوامره ونواهيه وشرعه ودينه الذي ظهر لنا منه على ألسنة رسله فنتلقاه بالقبول(2/401)
والانقياد والاذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رقع العبودية الثاني: قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه على لسان رسله من أمور المعاد وتفصيله والجنة والنار وما قبل ذلك: من الصراط والميزان والحساب وما قبل ذلك: من تشقق السماء وانفطارها وانتثار الكواكب ونسف الجبال وطي العالم وما قبل ذلك: من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه فقبول هذا كله إيمانا وتصديقا وإيقانا هو اليقين بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا تناس ولا غفلة عنه فإنه إن لم يهلك يقينه أفسده وأضعفه الثالث: الوقوف عل ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله وهو علم التوحيد الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات وضده: التعطيل والنفي والتجهم فهذا التوحيد يقابله التعطيل وأما التوحيد القصدي الإرادي الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده: فيقابله الشرك والتعطيل شر من الشرك فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها وهو جحد لحقيقة الإلهية فإن ذاتا لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا ترضى ولا تغضب ولا تفعل شيئا وليست داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة ولا مجانية له ولا مباينة له ولا مجاورة ولا مجاوزة ولا فوق العرش ولا تحت العرش ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يساره: سواء هي والعدم والمشرك مقر بالله وصفاته لكن عبد معه غيره فهو خير من المعطل للذات والصفات(2/402)
فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق: علم الأمر والنهي وعلم الأسماء والصفات والتوحيد وعلم المعاد واليوم الآخر والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: عين اليقين وهو المغني بالاستدلال عن
الاستدلال وعن الخبر بالعيان وخرق الشهود حجاب العلم الفرق بين علم اليقين وعين اليقين: كالفرق بين الخبر الصادق والعيان وحق اليقين: فوق هذا وقد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك: أن عنده عسلا وأنت لا تشك في صدقه ثم أراك إياه فازددت يقينا ثم ذقت منه فالأول: علم اليقين والثاني: عين اليقين والثالث: حق اليقين فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك: عين اليقين فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين قوله: هو المغني بالاستدلال عن الاستدلال(2/403)
يريد بالاستدلال: الإدراك والشهود يعني صاحبه قد استغنى به عن طلب الدليل فإنه إنما يطلب الدليل ليحصل له العلم بالمدلول فإذا كان المدلول مشاهدا له وقد أدركه بكشفه فأي حاجة به إلى الاستدلال وهذا معنى الاستغناء عن الخبر بالعيان وأما قوله: وخرق الشهود حجاب العلم فيريد به: أن المعارف التي تحصل لصاحب هذه الدرجة: هي من الشهود الخارق لحجاب العلم فإن العلم حجاب عن الشهود ففي هذه الدرجة يرتفع الحجاب ويفضي إلى المعلوم بحيث يكافح بصيرته وقلبه مكافحة
فصل قال: الدرجة الثالثة: حق اليقين وهو إسفار صبح الكشف ثم الخلاص
من كلفة اليقين ثم الفناء في حق اليقين
اعلم أن هذه الدرجة لا تنال في هذا العالم إلا للرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى بعينه الجنة والنار وموسى عليه السلام سمع كلام الله منه إليه بلا واسطة وكلمه تكليما وتجلى للجبل وموسى ينظر فجعله دكا هشيما نعم يحصل لنا حق اليقين من مرتبة وهي ذوق ما أخبر به الرسول من حقائق الإيمان المتعلقة بالقلوب وأعمالها فإن القلب إذا باشرها وذاقها صارت في حقه حق يقين وأما في أمور الآخرة والمعاد ورؤية الله جهرة عيانا وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة فحظ المؤمن منه في هذه الدار: الإيمان وعلم اليقين وحق اليقين: يتأخر إلى وقت اللقاء ولكن لما كان السالك عنده ينتهي إلى الفناء ويتحقق شهود الحقيقة ويصل إلى عين الجمع قال: حق اليقين: هو إسفار صبح الكشف(2/404)
يعنى: تحققه وثبوته وغلبة نوره على ظلمة ليل الحجاب فينتقل من طور العلم إلى الاستغراق في الشهود بالفناء عن الرسم بالكلية وقوله: ثم الخلاص من كلفة اليقين يعني: أن اليقين له حقوق يجب على صاحبه أن يؤديها ويقوم بها ويتحمل كلفها ومشاقها فأذا فني في التوحيد حصل له أمور أخرى رفيعة عالية جدا يصير فيها محمولا بعد أن كان حاملا وطائرا بعذ أن كان سائرا فتزول عنه كلفة حمل تلك الحقوق بل يبقى له كالنفس وكالماء للسمك وهذا أمر التحكم فيه إلى الذوق والإحساس فلا تسرع إلى إنكاره وتأمل حال ذلك الصحابي الذي أخذ تمراته وقعد يأكلها على حاجة وجوع وفاقة إليها فلما عاين سوق الشهادة قد قامت ألقى قوته من يده وقال: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات وألقاها من يده وقاتل حتى قتل وكذلك أحوال الصحابة رضي الله عنهم كانت مطابقة لما أشار إليه
ولكن بقيت نكتة عظيمة وهي موضع السجدة وهي أن فناءهم لم يكن في توحيد الربوبية وشهود الحقيقة التي يشير إليها أرباب الفناء بل في توحيد الإلهية ففنوا بحبه تعالى عن حب ما سواه وبمراده منهم عن مرادهم وحظوظهم فلم يكونوا عاملين على فناء ولا إلا استغراق في الشهود بحيث يفنون به عن مراد محبوبهم منهم بل قد فنوا بمراده عن مرادهم فهم أهل بقاء في فناء وفرق في جمع وكثرة في وحدة وحقيقة كونية في حقيقة دينية
هم القوم لا قوم إلا هم ... ولولاهم ما اهتدينا السبيلا(2/405)
فنسبة أحوال من بعدهم الصحيحة الكاملة إلى أحوالهم: كنسبة ما يرشح من الظرف والقربة إلى ما في داخلها وأما الطريق المنحرفة الفاسدة: فسبيل غير سبيلهم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(2/406)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأنس بالله
قال صاحب المنارل رحمه الله: وهو روح القرب ولهذا صدر منزلته بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [ البقرة: 186] فاستحضار القلب هذا البر والإحسان واللطف: يوجب قربه من الرب سبحانه وتعالى وقربه منه يوجب له الأنس و الأنس ثمرة الطاعة والمحبة فكل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش كما قيل:
فإن كنت قد أوحشتك الذنوب ... فدعها إذا شئت واستأنس
والقرب يوجب الأنس والهيبة والمحبة قال صاحب المنازل رحمه الله وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الأنس بالشواهد وهو استحلاء الذكر والتغذى بالسماع والوقوف على الإشارات هذه اللفطه يجرونها في كلامهم أعني لفظة الشواهد ومرادهم بها: أمران أحدهما: شواهد الحقيقة وهي ما يقوم بقلب العبد حتى كأنه يشاهده ويبصره لغلبته عليه فكل ما يستولي على قلب صاحبه ذكره فإنه شاهده فمنهم من يكون شاهده العمل ومنهم من يكون شاهده الذكر ومنهم من يكون شاهده المحبة ومنهم من يكون شاهده الخوف(2/406)
فالمريد: يأنس بشاهده ويستوحش لفقده والثاني: شاهد الحال وهو الأثر الذي يقوم به ويظهر عليه من عمله وسلوكه وحاله فإن شاهده لابد أن يظهر عليه
ومراد صاحب المنازل: الشاهد الأول الذي يأنس به المريد وهو الحامل له على استحلاء الذكر طلبا لظفره بحصول المذكور فهو يستأنس بالذكر طلبا لاستئناسه بالمذكور ويتغذى بالسماع كما يتغذى الجسم بالطعام والشراب فإن كان محبا صادقا طالبا لله عاملا على مرضاته: كان غذاؤه بالسماع القرآني الذي كان غذاء سادات العارفين من هذه الأمة وأبرها قلوبا وأصحها أحوالا وهم الصحابة رضي الله عنهم
وإن كان منحرفا فاسد الحال ملبوسا عليه مغرورا مخدوعا: كان غذاؤه بالسماع الشيطاني الذي هو قرآن الشيطان المشتمل على محاب النفوس ولذاتها وحظوظها وأصحابه: أبعد الخلق من الله وأغلظهم عنه حجابا وإن كثرت إشاراتهم إليه
وهذا السماع القرآني سماع أهل المعرفة بالله والاستقامة على صراطه المستقيم ويحصل للأذهان الصافية منه معان وإشارات ومعارف وعلوم تتغذى بها القلوب المشرقة بنور الأنس فتجد بها ولها لذة روحانية يصل نعيمها إلى القلوب ولأرواح وربما فاض حتى وصل إلى الأجسام فيجد من اللذة مالم يعهد مثله من اللذات الحسية وللتغذي بالسماع سر لطيف نذكره للطف موضعه
وهو الذي أوقع كثيرا من السالكين في إيثار سماع الأبيات لما رأى فيه من غذاء القلب وقوته نعيمه فلو جئته بألف آية وألف خبر لما أعطاك شطرا من إصغائه وكان ذلك عنده أعظم من الظواهر التي يعارض بها الفلاسفة وأرباب الكلام(2/407)
اعلم أن الله عز وجل جعل للقلوب نوعين من الغذاء: نوعا من الطعام والشراب الحسي وللقلب منه خلاصته وصفوه ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله والثاني: غذاء روحاني معنوي خارج عن الطعام والشراب: من السرور والفرح والابتهاج واللذة والعلوم والمعارف وبهذا الغذاء كان سماويا علويا وبالغذاء المشترك كان أرضيا سفليا وقوامه بهذين الغذاءين وله ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس وغذاء يصل إليه منها فله ارتباط بحاسة اللمس ويصل إليه منها غذاء وكذلك حاسة الشم وكذلك حاسة الذوق وكذلك ارتباط بحاستي السمع والبصر: أشد من ارتباطه(2/408)
بغيرهما ووصول الغذاء منهما إليه أكمل وأقوى من سائر الحواس وانفعاله عنهما أشد من انفعاله عن غيرهما ولهذا تجد في القرآن اقترانه بهما أكثر من اقترانه بغيرهما بل لا يكاد يقرن إلا بهما أو بأحدهما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [ النحل: 78 ] وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [ الأحقاف: 26 ] وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [ الأعراف: 179 ] وقال تعالى في صفة الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [ البقرة: 171 ] وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [ الحج: 46 ] وهذا كثير جدا في القرآن
لأن تأثره بما يراه ويسمعه: أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه ولأن هذه الثلاثة: هي طرق العلم وهي: السمع والبصر والعقل وتعلق القلب بالسمع وارتباطه به: أشد من تعلقه بالبصر وارتباطه به ولهذا يتأثر بما يسمعه من الملذوذات أعظم مما يتأثر بما يراه من المستحسنات وكذلك في المكروهات سماعا ورؤية ولهذا كان الصحيح من القولين: أن حاسة السمع أفضل من حاسة البصر لشدة تعلقها بالقلب وعظم حاجته إليها وتوقف كماله عليها ووصول العلوم إليه بها وتوقف الهدى على سلامتها(2/409)
ورجحت طائفة حاسة البصر لكمال مدركها وامتناع الكذب فيه وزوال الريب والشك به ولأنه عين اليقين وغاية مدرك حاسة السمع علم اليقين وعين اليقين أفضل وأكمل من علم اليقين ولأن متعلقها رؤية وجه الرب عز وجل في دار النعيم ولا شيء أعلى وأجل من هذا التعلق
وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما حسنا فقال: المدرك بحاسة السمع أعم وأشمل والمدرك بحاسة البصر: أتم وأكمل فللسمع العموم والشمول والإحاطة بالموجود والمعدوم والحاضر والغائب والحسي والمعنوي وللبصر: التمام والكمال وإذا عرف هذا فهذه الحواس الخمس لها أشباح وأرواح وأرواحها حظ القلب ونصيبه منها
فمن الناس: من ليس لقلبه منها نصيب إلا كنصيب الحيوانات البهيمية منها فهو بمنزلتها وبينه وبينها أول درجة الإنسانية ولهذا شبه الله سبحانه أولئك بالأنعام بل جعلهم أضل فقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [ الفرقان: 44 ] ولهذا نفى الله عن الكفار السمع والبصر والعقول إما لعدم انتفاعهم بها فنزلت منزلة المعدوم وإما لأن النفي توجه إلى أسماع قلوبهم وأبصارها وإدراكها ولهذا يظهر لهم ذلك عند انكشاف حقائق الأمور كقول أصحاب السعير: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [ الملك: 10 ] ومنه في أحد التأويلين قوله تعالى {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [ الأعراف: 198 ] فإنهم كانوا ينظرون إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم بالحواس الظاهرة ولا يبصرون صورة نبوته ومعناها بالحاسة الباطنة التي هي بصر القلب والقول الثاني: أن الضمير عائد على الأصنام ثم فيه قولان أحدهما: أنه على التشبيه أي كأنهم ينظرون إليك ولا أبصار لهم يرونك بها(2/410)
والثاني: المراد به المقابلة تقول العرب: داري تنظر دارك أي تقابلها وكذلك السمع ثابت لهم وبه قامت الحجة عليهم ومنتف عنهم وهو سمع القلب فإنهم كانوا يسمعون القرآن من حيث السمع الحسي المشترك كالغنم التي لا تسمع إلا نعيق الراعي بها دعاء ونداء ولم يسمعوه بالروح الحقيقي الذي هو روح حاسة السمع التي هي حظ القلب فلو سمعوه من هذه الجهة: لحصلت لهم الحياة الطيبة التي منشؤها من السماع المتصل أثره بالقلب ولزال عنهم الصمم والبكم ولأنقذوا نفوسهم من السعير بمفارقة من عدم السمع والعقل فحصول السمع الحقيقي: مبدأ لظهور آثار الحياة الطيبة التي هي أكمل أنواع الحياة في هذا العالم فإن بها يحصل غذاء القلب ويعتدل فتتم قوته وحياته وسروره ونعيمه وبهجته وإذا فقد غذاءه الصالح: احتاج إلى أن يعتاض عنه بغذاء قبيح خبيث وإذا فسد غذاؤه وخبث: ونقص من حياته وقوته وسروره ونعيمه بحسب ما فسد من غذائه كالبدن إذا فسد غذاؤه نقص فلما كان تعلق السمع الظاهر الحسي بالقلب أشد والمسافة بينهما أقرب من المسافة بين البصر وبينه ولذلك يؤدي آثار ما يتعلق بالسمع الظاهر إلى القلب أسرع مما يؤدي إليه آثار البصر الظاهر ولهذا ربما غشي على الإنسان إذا سمع كلاما يسره أو يسؤه أو صوتا لذيذا طيبا مطربا مناسبا ولا يكاد يحصل له ذلك من رؤية الأشياء المستحسنة بالبصر الظاهر وقد يكون هذا المسموع شديد التأثير في القلب ولا يشعر به صاحبه لاشتغاله بغيره ولمباينة ظاهره لباطنه ذلك الوقت فإذا حصل له نوع تجرد ورياضة: ظهرت قوة ذلك التأثير والتأثر فكلما تجردت الروح والقلب وانقطعتا عن علائق البدن كان حظهما من ذلك السماع أوفى وتأثرهما به أقوى فإن كان المسموع معنى شريفا بصوت لذيذ: حصل للقلب حظه ونصيبه من(2/411)
إدراك المعنى وابتهج به أتم ابتهاج على حسب إدراكه له وللروح حظها ونصيبها من لذة الصوت ونغمته وحسنه فابتهجت به فتضاعف اللذة ويتم الابتهاج ويحصل الارتياح حتى ربما فاض على البدن والجوارح وعلى الجليس
وهذا لا يحصل على الكمال في هذا العالم ولا يحصل إلا عند سماع كلام الله فإذا تجردت الروح وكانت مستعدة وباشر القلب روح المعنى وأقبل بكليته على المسموع فألقى السمع وهو شهيد وساعده طيب صوت القارىء: كاد القلب يفارق هذا العالم ويلج عالما آخر ويجد له لذة وحالة لا يعهدها في شيء غيره ألبتة وذلك رقيقة من حال أهل الجنة في الجنة
فيا له من غذاء ما أصلحه وما أنفعه وحرام على قلب قد ترب على غذاء السماع الشيطاني: أن يجد شيئا من ذلك في سماع القرآن بل إن حصل له نوع لذة فهو من قبل الصوت المشترك لا من قبل المعنى الخاص وليس في نعيم أهل الجنة أعلى من رؤيتهم وجه الله محبوبهم سبحانه وتعالى عيانا وسماع كلامه منه وذكر عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب السنة أثرا لا يحضرني الآن: هل هو موقوف أو مرفوع: إذا سمع الناس القرآن يوم القيامة من الرحمن عز وجل فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك وإذا امتلأ القلب بشيء وارتفعت المباينة الشديدة بين الظاهر والباطن: أدت الأذن إلى القلب من المسموع ما يناسبه وإن لم يدل عليه ذلك المسموع ولا قصده المتكلم ولا يختص ذلك بالكلام الدال على معنى بل قد يقع في الأصوات المجردة قال القشيري: سمعت أبا عبدالله السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة فقال: يا أبا عبدالرحمن أتدري(2/412)
إيش تقول هذه البكرة فقلت: لا فقال تقول: الله الله ومثل ذلك كثير كما سمع أبو سليمان الدمشقي من المنادي: يا سعتر بري: اسع تر بري
وهذا السماع الروحاني تبع لحقيقة القلب ومادته منه فالاتحاد به يظن به السامع: أنه أدرك ذلك المعنى لا محالة من الصوت الخارجي وسبب ذلك اتحاد السمع بالقلب وأكمل السماع: سماع من يسمع بالله ما هو مسموع من الله وهو كلامه وهو سماع المحبين المحبوبين كما في الحديث الذي في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال:" ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة فإذا امتلأ من محبة الله وسمع كلام محبوبه أي بمصاحبته وحضوره في قلبه فله من سماعه هذا شأن ولغيره شأن آخر والله أعلم
فصل والثاني على ثلاثة أقسام: أحدها: من اتصف قلبه بصفات نفسه بحيث
صار قلبه نفسا محضة(2/413)
فغلبت عليه آفات الشهوات ودعوات الهوى فهذا حظه من السماع: كحظ البهائم لا يسمع إلا دعاء ونداء والفرق الذي بينها وبينه: غير طائل القسم الثاني: من اتصفت نفسه بصفات قلبه فصارت نفسه قلبا محضا فغلبت عليه المعرفة والمحبة والعقل واللب وعشق صفات الكمال فاستنارت نفسه بنور القلب واطمأنت إلى ربها وقرت عينها بعبوديته وصار نعيمها في حبه وقربه فهذا حظه من السماع مثل أو قريب من حظ الملائكة وسماعه غذاء قلبه وروحه وقرة عينه ونعيمه من الدنيا ورياضه التي يسرح فيها وحياته التي بها قوامه وإلى هذا المعنى قصد أرباب سماع القصائد والأبيات ولكن أخطأوا الطريق وأخذوا عن الدرب شمالا ووراء القسم الثالث: من له منزلة بين منزلتين وقلبه باق على فطرته الأولى ولكن ما تصرف في نفسه تصرفا أحالها إليه وأزال به رسومها وجلا عنه ظلمتها ولا قويت النفس على القلب بإحالته إليها وتصرفت فيه تصرفا أزالت عنه نوره وصحته وفطرته فبين القلب والنفس منازلات ووقائع والحرب بينهما دول وسجال تدال النفس عليه تارة ويدال عليها تارة فهذا حظه من السماع: حظ بين الحظين ونصيبه منه بين النصيبين فإن صادفه وقت دولة القلب: كان حظه منه قويا وإن صادفه وقت دولة النفس: كان ضعيفا(2/414)
ومن ههنا يقع التفاوت من الناس في الفقه عن الله والفهم عنه والابتهاج والنعيم بسماع كلامه وصاحب هذه الحال في حال سماعه يشتغل القلب بالحرب بينه وبين النفس فيفوته من روح المسموع ونعيمه ولذته بحسب اشتغاله عنه بالمحاربة ولا سبيل له إلى حصول ذلك بتمامه حتى تضع الحرب أوزارها وربما صادفه في حال السماع وارد حق أو الظفر بمعنى بديع لا يقدر فكره على صيده كل وقت فيغيب به ويستغرق فيه عما يأتي بعده فيعجز عن صيد تلك المعاني ويدهشه ازدحامها فيبقى قلبه باهتا كما يحكى أن بعض العرب: أرسل صائدا له على صيد فخرج الصيد عليه من أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فوقف باهتا ينظر يمينا وشمالا ولم يصطد شيئا فقال
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
فوظيفته في مثل هدا الحال: أن يفنى عن وارده ويعلق قلبه بالمتكلم وكأنه يسمع كلامه منه ويجعل قلبه نهرا لجريان معاينة ويفرغه من سوى فهم المراد وينصب إليه انصبابا يتلقى فيه معاينه كتلقى المحب للأحباب القادمين عليه لا يشغله حبيب منهم عن حبيب بل يعطي كل قادم حقه وكتلقي الضيوف والزوار وهذا إنما يكون مع سعة القلب وقوة الاستعداد وكمال الحضور فإذا سمع خطاب الترغيب والتشويق واللطف والإحسان: لا يفنى به عما يجيء بعده من خطاب التخويف والترهيب والعدل بل يسمع الخطاب الثاني مستصحبا لحكم الخطاب الأول ويمزج هذا بهذا ويسير بهما ومعهما جميعا عاكفا بقلبه على المتكلم وصفاته سبحانه وهذا سير في الله وهو نوع آخر أعلى وأرفع من مجرد المسير إليه ولا ينقطع بذلك سيره إليه بل يدرج سيره فان سير القلب في معاني أسمائه وصفاته وتوحيده ومعرفته(2/415)
ومتى بقيت للقلب في ذلك ملكة واشتد تعلقه به: لم تحجبه معانى المسموع وصفات المتكلم بعضها عن بعض ولكن في الابتداء يعسر عليه ذلك وفي التوسط يهون عليه ولا انتهاء ههنا ألبته والله المستعان فهذه كلمات تشير الى معاني سماع أهل المعرفة والإيمان والأحوال المستقيمة وأما السماع الشيطاني: فبالضد من ذلك وهو مشتمل على أكثر من مائة مفسدة ولولا خوف الإطالة لسقناها مفصلة
وسنفرد لها مصنفا مستقلا إن شاء الله فهذا ما يتعلق بقوله: إن من الأنس بالشواهد: التغذي بالسماع وقوله: والوقوف على الإشارات الإشارات هي المعاني التي تشير إلى الحقيقة من بعد ومن وراء حجاب وهي تارة تكون من مسموع وتارة تكون من مرئي وتارة تكون من معقول وقد تكون من الحواس كلها فالإشارات: من جنس الأدلة والأعلام وسببها: صفاء يحصل بالجمعية فيلطف به الحس والذهن فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة لا يكشف حس غيره وفهمه عن إدراكها وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الصحيح منها: ما يدل عليه اللفظ بإشارته من باب قياس الأولى قلت: مثاله قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [ الواقعة: 79 ] قال: والصحيح في الآية أن المراد به: الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة منها: أنه وصفه بأنه مكنون و المكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة(2/416)
ومنها: أنه قال: لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة ولو أراد المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة: 222 ] فالملائكة مطهرون والمؤمنون متطهرون ومنها: أن هذا إخبار ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم والأصل في الخبر: أن يكون خبرا صورة ومعنى ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن فأخبر تعالى: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه كما قال تعالى في آية الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [ الشعراء: 210، 211] وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس: لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم: أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان ولا ينال منه ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: لكن تدل(2/417)
الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر
وسمعته يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلىء بكلاب الشهوات وصورها فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة
ومن هذا: أن طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطا في صحة الصلاة والاعتداد بها فإذا أخل بها كانت فاسدة فكيف إذا كان القلب نجسا ولم يطهره صاحبه فكيف يعتد له بصلاته وإن أسقطت القضاء وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن ومن هذا: أن استقبال القبلة في الصلاة شرط لصحتها وهي بيت الرب فتوجه المصلي إليها ببدنه وقالبه شرط فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن بل وجه بدنه إلى البيت ووجه قلبه إلى غير رب البيت وأمثال ذلك من الإشارات الصحيحة التي لا تنال إلا بصفاء الباطن وصحة البصيرة وحسن التأمل والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: الأنس بنور الكشف وهو أنس شاخص عن الأنس
الأول تشوبه صولة الهيمان ويضربه موج الفناء وهو الذي غلب قوما على عقولهم وسلب قوما طاقة الاصطبار وحل عنهم قيود العلم وفي هذا ورد الخبر بهذا الدعاء: أسألك شوقا إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة(2/418)
يجوز أن تكون الباء في قوله: بنور الكشف باء السبية أو باء الإلصاق فإن كانت باء السببية: كان المعنى: الأنس الحاصل بسبب نور الكشف وإن كانت باء الإلصاق كان المعنى: الأنس المتلبس بنور الكشف فإن قلت: ما الفرق بين الأنس ونور الكشف حتى يكون أحدهما سببا للآخر أو متلبسا به قلت: الفرق بينهما: أن نور الكشف من باب المعارف وانكشاف الحقيقة للقلب وأما الأنس: فمن باب القرب والدنو والسكون إلى من يأنس به والطمأنينة إليه فضده: الوحشة وضد نور الكشف: ظلمة الحجاب وقوله: شاخص عن الأنس الأول أي مرتفع عنه وأعلى منه قوله: تشوبه صولة الهيمان
وذلك: لأن هذا الأنس المذكور يكون مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها كاسم الجميل والبر واللطيف والودود والحليم والرحيم ونحوها ثم يقوى التعلق بها إلى أن يستغرق العقل فيما زجه نوع من الأسماء فيقهر العقل بصولته
و الهيمان هو الحركة إلى كل جهة بسبب الحيرة والدهشة وذلك إنما يكون مع نوع عدم تمييز وقوة إرادة قاهرة لا يملك صاحبها ضبطها وقوله: ويضربه موج الفناء أي إن صاحب هذا الأنس: يطالع مبادىء الفناء محيطة به فهي تقلبه كما يقلب الموج الغريق وهذا قبل استيلاء سلطان الفناء على وجوده وقوله: وهو الذي غلب قوما على عقولهم أي سلبهم إياها لأنهم شاهدوا شيئا فوق مدارك العقول وفوق كل(2/419)
مدرك بالحواس الظاهرة والباطنة ولا إلف لهم به فأوجبت قوة المشاهدة والوارد وضعف المحل والحامل: غلبته على العقل والكامل من القوم يثبت لذلك ولا يتحرك بل يبقى كأنه جبل وتلا الجنيد في مثل هذه الحال وقد قيل له أما يغيرك ما تسمع فتلا {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [ النمل: 88 ] وبعضهم تلا في مثل ذلك: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [ الكهف: 18 ] وقوم أقوى تمكينا من هؤلاء: لم يغلبهم على عقولهم بل سلبهم طاقة صبرهم فبدا منهم ما ينافي الصبر وأما قوله: وحل عنهم قيود العلم فكلام لابد من تأويله وتكلف وجه يصححه وأحسن ما يحمل عليه: أن العلم يقيد صاحبه والمعرفة تطلقه وتوسع بطانه وتريه حقائق الأشياء فتزول عنه التقيدات التي كانت حاصلة بسبب خفاء نور المعرفة وكشفها عليه فإن العارف صاحب ضياء الكشف أوسع بطانا وقلبا وأعظم إطلاقا بلا شك من صاحب العلم ونسبته إليه كنسبة صاحب العلم إلى الجاهل فكما أن العالم أوسع بطانا من الجاهل وله إطلاق بحسب علمه فالعارف بما معه من روح العلم وضياء الكشف ونوره هو أكثر إطلاقا وأوسع بطانا من صاحب العلم فيتقيد العالم بظواهر العلم وأحكامه والعارف لا يراها قيودا ومن ههنا تزندق من تزندق وظن أنه إذا لاحت له حقائقها وبواطنها: خلع قيود ظواهرها ورسومها اشتغالا بالمقصود عن الوسيلة وبالحقيقة عن الرسم فهؤلاء هم المقطوعون عن الله القطاع لطريق الله وهم معاطب الطريق وآفاتها واتفق أن العارفين تكلموا في الحقائق وأمروا بالانتقال من الرسوم(2/420)
والظواهر إليها وأن لا يقف عندها فظن هؤلاء الزنادقة: أنهم جوزوا خلعها والانحلال منها ولا ريب أن من جوز ذلك: فهو مثل هؤلاء والله يركم الخبيث بعضه على بعض فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون فصاحب المنازل: أشار إلى المعنى الحق الصحيح كما أشار إليه شيوخ القوم
وأما استدلاله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة فليس مطابقا لما ذكره في هذه الدرجة فأين طلب الشوق إلى لقائه الباعث على كمال الاستعداد وعلى خفة أعباء السير والمزيل لكل فتور والحامل على كل صدق وإخلاص وإنابة وصحة معاملة إلى أمر مشوب بصولة الهيمان تضربه أمواج الفناء بحيث غلب قوما على عقولهم وسلب قوما صبرهم بحيث صيرهم في عالم الفناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يكن ليسأل حالة الفناء قط وإنما سأل شوقا موجبا للبقاء مصاحبا له طيب الحياة وقرة العين ولذة القلب وبهجة الروح
وصاحب المنازل كأنه فهم منه اشتياقه إلى المشاهدة من غير غلبة على عقل ولا فقد لاصطبار ولهذا قال: من غير ضراء مضرة وهي الغلبة على العقل ولا فتنة مضلة وهي مفارقة أحكام العلم(2/421)
وهذا غايته: أن يؤخذ من إشارة الحديث على عادة القوم وأما أن يكون هو نفس المراد: فلا وإنما المسئول: أن يهب له شوقا إلى لقائه مصاحبا للعافية والهداية فلا تصحبه فتنة ولا محنة وهذا من أجل العطايا والمواهب فإن كثيرا ممن يحصل له هذا لا يناله إلا بعد امتحان واختبار: هل يصلح أم لا ومن لم يمتحن ولم يختبر فأكثرهم لم يؤهل لهذا فتضمن هذا الدعاء: حصول ذلك والتأهيل له مع كمال العافية بلا محنة والهداية بلا فتنة وبالله التوفيق والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثالثة: أنس اضمحلال في شهود الحضرة لا يعبر عن
غيبه ولا يشار إلى حده ولا يوقف على كنهه الاضمحلال الانعدام و شهود الحضرة هو مشاهدة الحقيقة والفناء في ذلك الشهود قوله: ولا يعبر عن غيبه إلى آخره حاصله: أن هذا أمر وراء العبارة لا تناله العبارة ولا يحاط به عينا ولا حدا ولا كنها ولا حقيقة فإن حقيقته: تستغرق العبارة والإشارة والدلالة وفي وصفه يقول قائلهم:
فألقوا حبال مراسيهم ... فغطاهم البحر ثم انطبق
وههنا إنما حوالة القوم على الذوق وإشارتهم: إلى الفناء الذي يصطلم المشير وإشارته والمعبر وعبارته مع ظهور سلطان الحقيقة التي هي فوق الإشارة والعبارة والدلالة والله سبحانه وتعالى أعلم(2/422)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الذكر
وهي منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون وفيها يتجرون وإليها دائما يترددون و الذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ومن منعه عزل وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا وعمارة ديارهم التى إذا تعطلت عنه صارت بورا وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب إذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحيانا فننتكس به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات إذا أظلمهم البلاء فإليه ملجؤهم وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم فهو رياض جنتهم التي فيها يتقبلون ورءوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون يدع القلب الحزين ضاحكا مسرورا ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذاكر مذكورا وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة و الذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة بل هم يأمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال: قياما وقعودا وعلى جنوبهم فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها فكذلك القلوب بور وخراب وهو عمارتها وأساسها وهو جلاء القلوب وصقالها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقا: ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقا وإذا واطأ في ذكره(2/423)
قلبه للسانه: نسي في جنب ذكره كل شيء وحفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضا من كل شيء به يزول الوقر عن الأسماع والبكم عن الألسن وتنقشع الظلمة عن الأبصار زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين فاللسان الغافل: كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته قال الحسن البصري رحمه الله: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق وبالذكر: يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا فيقال: قد مسه الإنسي وهو روح الأعمال الصالحة فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه والله أعلم
فصل وهو في القرآن على عشرة أوجه الأول: الأمر به مطلقا ومقيدا
الثاني: النهي عن ضده من الغفلة والنسيان الثالث: تعليق الفلاح باستدامته وكثرته الرابع: الثناء على أهله والإخبار بما أعد الله لهم من الجنة والمغفرة الخامس: الإخبار عن خسران من لها عنه بغيره السادس: أنه سبحانه جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له السابع: الإخبار أنه أكبر من كل شيء(2/424)
الثامن: أنه جعله خاتمة الأعمال الصالحة كما كان مفتاحها التاسع: الإخبار عن أهله بأنهم هم أهل الانتفاع بآياته وأنهم أولو الألباب دون غيرهم العاشر: أنه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة وروحها فمتى عدمته كانت كالجسد بلا روح
فصل في تفصيل ذلك
أما الأول: فكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [ الأحزاب: 41-43 ] وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [ الأعراف: 205 ] وفيه قولان أحدهما: في سرك وقلبك والثاني: بلسانك بحيث تسمع نفسك وأما النهي عن ضده: فكقوله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [ الأعراف: 205 ] وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [ الحشر: 19 ] وأما تعليق الفلاح بالإكثار منه: فكقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [ الأنفال: 45 الجمعه: 10 ]
وأما الثناء على أهله وحسن جزائهم: فكقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [ الأحزاب: 35 ] وأما خسران من لها عنه فكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [ المنافقون: 9 ] وأما جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له فكقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [ البقرة: 152 ](2/425)
وأما الإخبار عنه بأنه أكبر من كل شيء فكقوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [ العنكبوت: 45 ] وفيها أربعة أقوال:
أحدها: أن ذكر الله أكبر من كل شيء فهو أفضل الطاعات لأن المقصود بالطاعات كلها: إقامة ذكره فهو سر الطاعات وروحها
الثاني: أن المعني: أنكم إذا ذكرتموه ذكركم فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الأول: مضاف إلى المذكور الثالث: أن المعنى: ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر بل إذا تم الذكر: محق كل خطيئة ومعصية هذا ما ذكره المفسرون وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: معنى الآية: أن في الصلاة فائدتين عظيمتين إحداهما: نهيها عن الفحشاء والمنكر والثانية: اشتمالها على ذكر الله وتضمنها له ولما تضمنته من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر وأما ختم الأعمال الصالحة به: فكما ختم به عمل الصيام بقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [ البقرة: 185 ] وختم به الحج في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [ البقرة: 200 ] وختم به الصلاة كقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [ النساء: 103 ](2/426)
وختم به الجمعة كقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [ الجمعة: 10 ] ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا وإذا كان آخر كلام العبد: أدخله الله الجنة وأما اختصاص الذاكرين بالانتفاع بآياته وهم أولو الألباب والعقول فكقوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [ آل عمران: 190191 ] وأما مصاحبته لجميع الأعمال واقترانه بها وأنه روحها: فإنه سبحانه قرنه بالصلاة كقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [ طه: 14 ] وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه بل هو روح الحج ولبه ومقصوده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار: لإقامة ذكر الله وقرنه بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران ومكافحة الاعداء فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [ الأنفال: 45] وفي أثر إلهي يقول الله تعالى: إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يستشهد به وسمعته يقول: المحبون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال كما قال عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
وقال الآخر:
ذكرتك والخطي يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر
قال آخر:
ولقد ذكرتك والرماح شواجر ... بحوى وبيض الهند تقطر
من دمي وهذا كثير في أشعارهم وهو مما يدل على قوة المحبة فإن ذكر المحب محبوبه(2/427)
في تلك الحال التي لا يهم المرء فيها غير نفسه يدل على أنه عنده بمنزلة نفسه أو أعز منها وهذا دليل على صدق المحبة والله أعلم
فصل والذاكرون: هم أهل السبق كما روى مسلم في صحيحه من حديث العلاء
عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبال يقال له جمدان فقال: "سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذاكرون الله كثيراوالذاكرات والمفردون إما الموحدون وإما الآحاد الفرادي " وفي المسند مرفوعا من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا: وما ذاك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذكر الله عز وجل"
وروى شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت الأغر قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد
رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " وهو في صحيح مسلم ويكفي في شرف الذكر: أن الله يباهي ملائكته بأهله كما في صحيح مسلم عن معاوية رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك"(2/428)
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكن أتاني جبريل فأخبرني: أن الله يباهي بكم الملائكة وسأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل فقال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله وقال له رجل: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فمرني بأمر أتشبث به فقال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله
وفي المسند وغيره من حديث جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس ارتعوا في رياض الجنة قلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما رياض الجنة فقال: مجالس الذكر وقال: اغدوا وروحوا واذكروا من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله: فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه وروى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه أبراهيم ليلة الإسراء أنه قال له: أقرىء أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رواه الترمذي وأحمد وغيرهما وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره: مثل الحي والميت ولفظ مسلم: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه: مثل الحي والميت فجعل بيت الذاكر بمنزلة بيت الحي وبيت الغافل بمنزلة بيت الميت وهو القبر
وفي اللفظ الأول: جعل الذاكر بمنزلة الحي والغافل بمنزلة الميت فتضمن اللفظان: أن القلب الذاكر كالحي في بيوت الأحياء والغافل(2/429)
كالميت في بيوت الأموات ولا ريب أن أبدان الغافلين قبور لقلوبهم وقلوبهم فيها كالأموات في القبور كما قيل:
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ... وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور
وكما قيل:
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ... وأجسامهم فهي القبور الدوارس
وأرواحهم في وحشة من حبيبهم ... ولكنها عند الخبيث أوانس
وفي أثر إلهي: يقول الله تعالى: إذا كان الغالب على عبدي ذكري: أحبني وأحببته وفي آخر: فبي فافرحوا وبذكري فتنعموا وفي آخر: ابن آدم ما أنصفتني أذكرك وتنساني وأدعوك وتهرب إلى غيري وأذهب عنك البلايا وأنت معتكف على الخطايا يا ابن آدم ما تقول غدا إذ جئتني وفي آخر: ابن آدم اذكرني حين تغضب: أذكرك حين أغضب وارض بنصرتي لك فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك وفي الصحيح: في الأثر الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وقد ذكرنا في الذكر نحو مائة فائدة في كتابنا الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب وذكرنا هناك أسرار الذكر وعظم نفعه وطيب ثمرته وذكرنا فيه: أن الذكر ثلاثة أنواع ذكر الأسماء والصفات ومعانيها والثناء على الله بها وتوحيد الله بها وذكر الأمر والنهي والحلال والحرام وذكر الآلاء والنعماء والإحسان(2/430)
والأيادي وأنه ثلاثة أنواع أيضا: ذكر يتواطأ عليه القلب واللسان وهو أعلاها وذكر بالقلب وحده وهو في الدرجة الثانية وذكر باللسان المجرد وهو في الدرجة الثالثة
فصل قال صاحب المنازل: قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}
الكهف: 24 ] يعني: إذا نسيت غيره ونسيت نفسك في ذكرك ثم نسيت ذكرك في ذكره ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكر ليته قدس الله روحه لم يقل فلا والله ما عنى الله هذا المعنى ولا هو مراد الآية ولا تفسيرها عند أحد من السلف ولا من الخلف
وتفسير الآية عند جماعة المفسرين: أنك لا تقل لشيء أفعل كذا وكذا حتى تقول: إن شاء الله فإذا نسيت أن تقولها فقلها متى ذكرتها وهذا هو الاستثناء المتراخي الذي جوزه ابن عباس وتأول عليه الآية وهو الصواب فغلط عليه من لم يفهم كلامه ونقل عنه أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا أو قال: نسائي الأربع طوالق ثم بعد سنة يقول: إلا واحدة أو إلا زينب إن هذا الاستثناء ينفعه وقد صان الله عن هذا من هو دون غلمان ابن عباس بكثير فضلا عن البحر حبر الأمة وعالمها الذي فقهه الله في الدين وعلمه التأويل وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالإفهام القاصرة ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جدا وإن ساعد الله أفردنا له كتابا والذي أجمع عليه المفسرون: أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال: أخبركم غدا ولم يقل: إن شاء الله فتلبث الوحي أياما ثم نزلت هذه الآية قال ابن عباس(2/431)
ومجاهد والحسن وغيرهم: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن قال ابن عباس رضي الله عنهما: ويجوز الاستثناء إلى سنة وقال عكرمة رحمه الله: واذكر ربك إذا غضبت وقال الضحاك والسدي: هذا في الصلاة أي إذا نسيت الصلاة فصلها متى ذكرتها وأما كلام صاحب المنازل: فيحمل على الإشارة لا على التفسير فذكر أربع مراتب إحداها: أن ينسى غير الله ولا ينسى نفسه لأنه ناس لغيره ولا يكون ناسيا إلا ونفسه باقية يعلم أنه ناس بها لما سوى المذكور الثانية: نسيان نفسه في ذكره وهي التي عبر عنها بقوله: ونسيت نفسك في ذكرك وفي هذه المرتبة: ذكره معه لم ينسه فقال في المرتبة الثالثة: ثم نسيت ذكرك في ذكره وهي مرتبة الفناء ثم قال في المرتبة الرابعة: ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكر وهذا الفناء بذكر الحق عبده عن ذكر العبد ربه فأما المرتبة الأولى: فهي أول درجات الذكر وهي أن تنسى غير المذكور ولا تنسى نفسك في الذكر وفي هذه المرتبة: لم يذكره بتمام الذكر إذ لتمامه مرتبتان فوقه إحداهما: نسيان نفسه وهي المرتبة الثانية فيغيب بذكره عن نفسه فيعدم إدراكها بوجدان المذكور الثانية: نسيان ذكره في ذكره كما سئل ذو النون عن الذكر فقال: غيبة الذاكر عن الذكر ثم أنشد:
لا لأني أنساك أكثر ذكراك ... ولكن بذاك يجري لساني
وهذه هي المرتبة الثالثة(2/432)
ففي الأولى: فنى عما سوى المذكور ولم يفن عن نفسه وفي الثانية: فن عن نفسه دون ذكره وفي الثالثة: فنى عن نفسه وذكره وبقي بعد هذا مرتبة رابعة وهي: أن يفني بذكر الحق سبحانه له عن كل ذكر فإنه ما ذكر الله إلا بعد ذكر الله له فذكر الله للعبد سابق على ذكر العبد للرب ففي هذه المرتبة الرابعة: يشهد صفات المذكور سبحانه وذكره لعبده فيفنى بذلك عن شهود ما من العبد وهذا الذي يسمونه وجدان المذكور في الذكر والذاكر فإن الذاكر و ذكره و المذكور ثلاثة أشياء فالذاكر وذكره قد اضمحلا وفنيا ولم يبق غير المذكور وحده ولا شيء معه سواه فهو الذاكر لنفسه بنفسه من غير حلول ولا اتحاد بل الذكر منه بدأ وإليه يعود وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له: ذكر قبله به صار العبد ذاكرا له وذكر بعده به صار العبد مذكورا كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [ البقرة: 152 ] وقال فيما يروي عنه نبيه: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير مهم والذكر الذي ذكره الله به بعد ذكره له: نوع غير الذكر الذي ذكره به قبل ذكره له ومن كثف فهمه عن هذا فليجاوزه إلى غيره فقد قيل: إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع وسألت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوما فقلت له: إذا كان الرب سبحانه يرضى بطاعة العبد ويفرح بتوبته ويغضب من مخالفته فهل يجوز أن يؤثر المحدث في القديم حبا وبغضا وفرحا وغير ذلك فقال لي: الرب سبحانه هو الذي خلق أسباب الرضى والغضب والفرح وإنما كانت بمشيئته وخلقه فلم يكن ذلك التأثر من غيره بل من نفسه بنفسه والممتنع(2/433)
أن يؤثر غيره فيه فهذا محال وأما أن يخلق هو أسبابا ويشاءها ويقدرها تقتضي رضاه ومحبته وفرحه وغضبه: فهذا ليس بمحال فإن ذلك منه بدأ وإليه يعود والله سبحانه أعلم
فصل قال: والذكر: هو التلخص من الغفلة والنسيان والفرق بين الغفلة
والنسيان: أن الغفلة ترك باختيار الغافل و النسيان ترك بغير اختياره ولهذا قال تعالى: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [ الأعراف: 205 ] ولم يقل: ولا تكن من الناسيين فإن النسيان لا يدخل تحت التكليف فلا ينهى عنه قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الذكر الظاهر من: ثناء أو دعاء أو رعاية يريد بالظاهر: الجاري على اللسان المطابق للقلب لا مجرد الذكر اللساني فإن القوم لا يعتدون به فأما ذكر الثناء: فنحو: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وأما ذكر الدعاء فنحو: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ الأعراف: 23 ] و: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ونحو ذلك وأما ذكر الرعاية: فمثل قول الذاكر: الله معي والله ناظر إلي الله شاهدي ونحو ذلك مما يستعمل لتقوية الحضور مع الله وفيه رعاية لمصلحة القلب ولحفظ الأدب مع الله والتحرز من الغفلة والاعتصام من الشيطان والنفس والأذكار النبوية تجمع الأنواع الثلاثة فإنها متضمنة للثناء على الله والتعرض للدعاء والسؤال والتصريح به كما في الحديث: أفضل الدعاء الحمد لله قيل لسفيان بن عيينة: كيف جعلها دعاء قال: أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان يرجو نائله:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباؤك إن شيمتك الحباءر(2/434)
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
فهذا مخلوق واكتفى من مخلوق بالثناء عليه من سؤاله فكيف برب العالمين والأذكار النبوية متضمنة أيضا لكمال الرعاية ومصلحة القلب والتحرز من الغفلات والاعتصام من الوساوس والشيطان والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: الذكر الخفي وهو الخلاص من القيود
والبقاء مع الشهود ولزوم المسامرة يريد بالخفي ههنا: الذكر بمجرد القلب بما يعرض له من الواردات وهذا ثمرة الذكر الأول ويريد بالخلاض من القيود: التخلص من الغفلة والنسيان والحجب الحائلة بين القلب وبين الرب سبحانه والبقاء مع الشهود: ملازمة الحضور مع المذكور ومشاهدة القلب له حتى كأنه يراه ولزوم المسامرة: هي لزوم مناجاة القلب لربه: تملقا تارة وتضرعا تارة وثناء تارة واستعظاما تارة وغير ذلك من أنواع المناجاة بالسر والقلب وهذا شأن كل محب وحبيبه كما قيل:
إذا ما خلونا والرقيب بمجلس ... فنحن سكوت والهوى يتكلم
فصل قال: الدرجة الثالثة: الذكر الحقيقي وهو شهود ذكر الحق إياك
والتخلص من شهود ذكرك ومعرفة افتراء الذاكر في بقائه مع الذكر إنما سمي هذا الذكر في هذه الدرجة حقيقيا لأنه منسوب إلى الرب تعالى وأما نسبة الذكر للعبد: فليست حقيقية فذكر الله لعبده هو الذكر الحقيقي وهو شهود ذكر الحق عبده وأنه ذكره فيمن اختصه وأهله للقرب منه ولذكره(2/435)
فجعله ذاكرا له ففي الحقيقة: هو الذاكر لنفسه بأن جعل عبده ذاكرا له وأهله لذكره وهذا المعني هو الذي أشار إليه في باب التوحيد بقوله: توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لأحد أي هو الذي وحد نفسه في الحقيقة فتوحيد العبد منسوب إليه حقيقة ونسبته إلى العبد غير حقيقية إذ ذاك لم يكن به ولا منه وإنما هو مجعول فيه فإن سمي موحدا ذاكرا فلكونه مجرى ومحلا لما أجرى فيه كما يسمى أبيض وأسود وطويلا وقصيرا لكونه محلا لهذه الصفات لا صنع له فيها ولم توجبها مشيئته ولا حوله ولا قوته هذا مع ما يتصل بذلك من استيلاء القرب والفناء عن الرسم والغيبة بالمشهود عن الشهود وقوة الوارد فيتركب من ذلك ذوق خاص: أنه ما وحد الله إلا الله وما ذكر الله إلا الله وما أحب الله إلا الله فهذا حقيقة ما عند القوم فالعارفون منهم أرباب البصائر أعطوا مع ذلك العبودية حقها والعلم حقه وعرفوا أن العبد عبد حقيقة من كل وجه والرب رب حقيقة من كل وجه وقاموا بحق العبودية بالله لا بأنفسهم ولله لا لحظوظهم وفنوا بمشاهدة معاني أسمائه وصفاته عما سواه وبما له محبة ورضى عما به كونا ومشيئة فإن الكون كله به والذي له: هو محوبه ومرضيه فهو له وبه والمنحرفون فنوا بما به عما له فوالوا أعداءه وعطلوا دينه وسووا بين محابه ومساخطه ومواقع رضاه وغضبه والله المستعان قوله: التخلص من شهود ذكرك يعني بفناء شهود ذكره لك عن شهود ذكرك له وهذا الشهود يريح العبد من رؤية النفس وملاحظة العمل ويميته ويحييه يميته عن نفسه ويحييه بربه ويفنيه ويقتطعه من نفسه ويوصله بربه وهذا هو عين الظفر بالنفس قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم قوله: ومعرفة افتراء الذاكر في بقائه مع الذكر(2/436)
يعني أن الباقي مع الذكر يشهد على نفسه أنه ذاكر وذلك افتراء منه فإنه لا فعل له ولا يزول عنه هذا الافتراء إلا إذا فني عن ذكره فإن شهود ذكره وبقاءه معه افتراء يتضمن نسبة الذكر إليه وهي في الحقيقة ليست له فيقال: سبحان الله ! أي افتراء في هذا وهل هذا إلا شهود الحقائق على ما هي عليه فإنه إذا شهد نفسه ذاكرا بجعل الله له ذاكرا وتأهيله له وتقدم ذكره للعبد على ذكر العبد له فاجتمع في شهوده الأمران فأي افتراء ههنا وهل هذا إلا عين الحق وشهود الحقائق على ما هي عليه نعم الافتراء: أن يشهد ذلك به وبحوله وقوته لا بالله وحده لكن الشيخ لا تأخذه في الفناء لومة لائم ولا يصغي فيه إلى عاذل والذي لا ريب فيه: أن البقاء في الذكر أكمل من الفناء فيه والغيبة به لما في البقاء من التفصيل والمعارف وشهود الحقائق على ما هي عليه والتمييز بين الرب والعبد وما قام بالعبد وما قام بالرب تعالى وشهود العبودية والمعبود وليس في الفناء شيء من ذلك والفناء كاسمه الفناء والبقاء بقاء كاسمه والفناء مطلوب لغيره والبقاء مطلوب لنفسه والفناء وصف العبد والبقاء وصف الرب: والفناء عدم والبقاء وجود والفناء نفي والبقاء إثبات والسلوك على درب الفناء مخطر وكم به من مفازة ومهلكة والسلوك على درب البقاء آمن فإنه درب عليه الأعلام والهداة والخفراء ولكن أصحاب الفناء يزعمون أنه طويل ولا يشكون في سلامته وإيصاله إلى المطلوب ولكنهم يزعمون أن درب الفناء أقرب وراكبه طائر وراكب درب البقاء سائر والكمل من السائرين يرون الفناء منزلة من منازل الطريق وليس نزولها عاما لكل سائر بل منهم من لا يراها ولا يمر بها وإنما الدرب الأعظم والطريق الأقوم هو درب البقاء ويحتجون على صاحب الفناء بالانتقال إليه من الفناء وإلا فهو عندهم على خطر والله المستعان وهو سبحانه أعلم(2/437)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفقر
هذه المنزلة أشرف منازل الطريق عند القوم وأعلاها وأرفعها بل هي روح كل منزلة وسرها ولبها وغايتها
وهذا إنما يعرف بمعرفة حقيقة الفقر والذي تريد به هذه الطائفة أخص من معناه الأصلي فإن لفظ الفقر وقع في القرآن في ثلاثة مواضع أحدها: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} الآية [ البقرة: 273 ] أي الصدقات لهؤلاء كان فقراء المهاجرين نحو أربعمائة لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر وكانوا قد حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله فكانوا وقفا على كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الصفة هذا أحد الأقوال في إحصارهم في سبيل الله وقيل: هو حبسهم أنفسهم في طاعة الله وقيل: حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله وقيل: لما عادوا أعداء الله وجاهدوهم في الله تعالى: أحصروا عن الضرب في الأرض لطلب المعاش فلا يستطيعون ضربا في الأرض والصحيح: أنهم لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضربا في الأرض ولكمال عفتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أغنياء
والموضع الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [ التوبة: 60 ] والموضع الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [ فاطر: 15 ](2/438)
فالصنف الأول: خواص الفقراء والثاني: فقراء المسلمين خاصهم وعامهم والثالث: الفقر العام لأهل الأرض كلهم: غنيهم وفقيرهم مؤمنهم وكافرهم فالفقراء الموصوفون في الآية الأولى: يقابلهم أصحاب الجدة ومن ليس محصرا في سبيل الله ومن لا يكتم فقره تعففا فمقابلهم أكثر من مقابل الصنف الثاني والصنف الثاني: يقابلهم الأغنياء أهل الجدة ويدخل فيهم المتعفف وغيره والمحصر في سبيل الله وغيره والصنف الثالث: لا مقابل لهم بل الله وحده الغني وكل ما سواه فقير إليه ومراد القوم بالفقر: شيء أخص من هذا كله وهو تحقيق العبودية والافتقار إلى الله تعالى في كل حالة
وهذا المعنى أجل من أن يسمى فقرا بل هو حقيقة العبودية ولبها وعزل النفس عن مزاحمة الربوبية وسئل عنه يحيى بن معاذ فقال: حقيقته أن لا يستغني إلا بالله ورسمه: عدم الأسباب كلها يقول: عدم الوثوق بها والوقوف معها وهو كما قال بعض المشايخ: شيء لا يضعه الله إلا عند من يحبه ويسوقه إلى من يريده وسئل رويم عن الفقر فقال: إرسال النفس في أحكام الله وهذا إنما يحمد في إرسالها في الأحكام الدينية والقدرية التي لا يؤمر بمدافعتها والتحرز منها(2/439)
وسئل أبو حفص: بم يقدم الفقير على ربه فقال: ما للفقير شيء يقدم به على ربه سوى فقره وحقيقة الفقر وكماله كما قال بعضهم وقد سئل: متى يستحق الفقير اسم الفقر فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه فقيل له: وكيف ذاك فقال: إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له
وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم وهو أن يصير كله لله عز وجل لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه فمتى بقي عليه شيء من أحكام نفسه ففقره مدخول ثم فسر ذلك بقوله: إذا كان له فليس له أي إذا كان لنفسه فليس لله وإذا لم يكن لنفسه فهو لله فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء بحيث تكون كلك لله وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر وهذا الفقر الذي يشيرون إليه: لا تنافيه الجدة ولا الأملاك فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جدتهم وملكهم كإبراهيم الخليل كان أبا الضيفان وكانت له الأموال والمواشي وكذلك كان سليمان وداود عليهما السلام وكذلك كان نبينا كان كما قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [ الضحى: 8 ] فكانوا أغنياء في فقرهم فقراء في غناهم فالفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه فالفقر ذاتي للعبد وإنما يتجدد له لشهوده ووجوده حالا وإلا فهو حقيقة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه:
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي(2/440)
وله آثار وعلامات وموجبات وأسباب أكثر إشارات القوم إليها كقول بعضهم: الفقير لا تسبق همته خطوته يريد: أنه ابن حاله ووقته فهمته مقصورة على وقته لاتتعداه وقيل: أركان الفقر أربعة: علم يسوسه وورع يحجزه ويقين يحمله وذكر يؤنسه وقال الشبلي: حقيقة الفقر أن لا يستغني بشيء دون الله وسئل سهل بن عبدالله: متى يستريح الفقير فقال: إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه وقال أبو حفص: أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله: دوام الافتقار إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال وقيل: من حكم الفقر: أن لا تكون له رغبة فإذا كان ولابد فلا تجاوز رغبته كفايته وقيل: الفقير من لا يملك ولا يملك وأتم من هذا: من يملك ولا يملكه مالك وقيل: من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيرا ومن أراده لئلا يشتغل عن الله بشيء مات غنيا و الفقر له بداية ونهاية وظاهر وباطن فبدايته: الذل ونهايته: العز وظاهره: العدم وباطنه: الغنى كما قال رجل لآخر: فقر وذل فقال: لا بل فقر وعز قال: فقر وثراء قال: لا بل فقر وعرش وكلاهما مصيب واتفقت كلمة القوم على أن دوام الافتقار إلى الله مع التخليط خير من دوام الصفاء مع رؤية النفس والعجب مع أنه لا صفاء معهما وإذا عرفت معنى الفقر علمت أنه عين الغنى بالله فلا معنى لسؤال من سأل: أي الحالين أكمل الافتقار إلى الله أم الاستغناء به(2/441)
فهذه مسألة غير صحيحة فإن الاستغناء به هو عين الافتقار إليه وسئل عن ذلك محمد بن عبدالله الفرغاني فقال: إذا صح الافتقار إلى الله تعالى فقد صح الاستغناء بالله وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به فلا يقال أيهما أفضل: الافتقار أم الاستغناء لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى وإما كلامهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر وترجيح أحدهما على صاحبه فعند أهل التحقيق والمعرفة: أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق فالمسألة أيضا فاسدة في نفسها فإن التفضيل: عند الله تعالى بالتقوى وحقائق الإيمان لا بفقر ولا غنى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [ الحجرات: 13 ] ولم يقل أفقركم ولا أغناكم قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: والفقر والغنى ابتلاء من الله لعبده كما قال تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول: ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول: {رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ} [ الفحر: 15-16 ] أي ليس كل من وسعت عليه وأعطيته: أكون قد أكرمته ولا كل من ضيقت عليه وقترت: أكون قد أهنته فالإكرام: أن يكرم الله العبد بطاعته والإيمان به ومحبته ومعرفته والإهانة: أن يسلبه ذلك قال يعني ابن تيمية ولا يقع التفاضل بالغني والفقر بل بالتقوى فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة سمعته يقول ذلك وتذاكروا هذه المسألة عند يحيى بن معاذ فقال: لا يوزن غدا الفقر ولا الغنى وإنما يوزن الصبر والشكر وقال غيره: هذه المسألة محال من وجه آخر وهو أن كلا من الغني والفقير لابد له من صبر وشكر فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر بل قد يكون نصيب الغني وقسطه من الصبر أوفر لأنه يصبر عن قدرة فصبره أتم(2/442)
من صبر من يصبر عن عجز ويكون شكر الفقير أتم لأن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله والفقير أعظم فراغا للشكر من الغني فكلاهما لا تقوم قائمة إيمانه إلا على ساقي الصبر والشكر نعم الذي يحكي الناس من هذه المسألة: فرعا من الشكر وفرعا من الصبر وأخذوا في الترجيح بينهما فجردوا غنيا منفقا متصدقا باذلا ماله في وجوه القرب شاكرا لله عليه وفقيرامتفرغا لطاعة الله ولأوراد العبادات من الطاعات صابرا على فقره فهل هو أكمل من ذلك الغني أم الغني أكمل منه فالصواب في مثل هذا: أن أكملهما أطوعهما فإن تساوت طاعتهما تساوت درجاتهما والله أعلم
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله: الفقر اسم للبراءة من الملكة
عدل الشيخ عن لفظ عدم الملكة إلى قوله: البراءة من الملكة لأن عدم الملكة ثابت في نفس الأمر لكل أحد سوى الله تعالى فالله سبحانه هو المالك حقيقة فعدم الملكة: أمر ثابت لكل ما سواه لذاته والكلام في الفقر الذي يمدح به صاحبه: هو فقر الاختيار وهو أخص من مطلق الفقر وهو براءة العبد من دعوى الملك بحيث لا ينازع مالكه الحق ولما كانت نفس الإنسان ليست له وانما هي ملك لله فما لم يخرج عنها ويسلمها لمالكها ومولاها الحق: لم يثبت له في الفقر قدم فلذلك كان أول قدم الفقر: الخروج عن النفس وتسليمها لمالكها ومولاها فلا يخاصم لها ولا يتوكل لها ولا يحاجج عنها ولا ينتصر لها بل يفوض ذلك لمالكها وسيدها قال بندار بن الحسين: لا تخاصم لنفسك فإنها ليست لك دعها لمالكها يفعل بها ما يريد(2/443)
وقد أجمعت هذه الطائفة على أنه لا وصول إلى الله إلا من طريق الفقر ولا دخول عليه إلا من بابه والله اعلم
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الاولى: فقر الزهاد وهو
قبض اليد عن الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها مدحا أو ذما والسلامة منها طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه الدنيا عند القوم: ماسوى الله تعالى من المال والجاه والصور والمراتب واختلف المتكلمون فيها على قولين حكاهما أبو الحسن الأشعري في مقالاته احدهما: أنها اسم لمدة بقاء هذا العالم والثاني: أنها اسم لما بين السماء والارض فما فوق السماء ليس من الدنيا وما تحت الأرض ليس منها فعلى الاول: تكون الدنيا زمانا وعلى الثاني: تكون مكانا ولما كان لها تعلق بالجوارح والقلب واللسان كان حقيقة الفقر: تعطيل هذه الثلاثة عن تعلقها بها وسلبها منها فلذلك قال: قبض اليد عن الدنيا ضبطا أو طلبا يعني يقبض يده عن إمساكها إذا حصلت له فإذا قبض يده عن الامساك جاد بها وإن كانت غير حاصلة له كف يده عن طلبها فلا يطلب معدومها ولا يبخل بموجودها واما تعطيلها عن اللسان
فهو أن لا يمدحها ولا يذمها فإن اشتغاله بمدحها أو ذمها دليل على محبتها ورغبته فيها فاإن من أحب شيئا أكثر من ذكره وإنما اشتغل بذمها حيث فاتته كمن طلب العنقود فلم يصل إليه فقال: هو حامض ولا يتصدى لذم الدنيا إلا راغب محب مفارق فالواصل مادح والمفارق ذام وأما تعطيل القلب منها فالسلامة من آفات طلبها وتركها فإن لتركها(2/444)
آفات ولطلبها آفات والفقر سلامة القلب من آفات الطلب والترك بحيث لا يحجبه عن ربه بوجه من الوجوه الظاهرة والباطنة لا في طلبها وأخذها ولا في تركها والرغبة عنها فان قلت: عرفت الآفة في أخذها وطلبها فما وجه الآفة في تركها والرغبة عنها قلت: من وجوه شتى أحدها: أنه إذا تركها وهو بشر لا ملك تعلق قلبه بما يقيمه ويقيته ويعيشه وما هو محتاج اليه فيبقى في مجاهدة شديدة مع نفسه لترك معلومها وحظها من الدنيا وهذه قلة فقه في الطريق بل الفقيه العارف: يردها عنه بلقمة كما يرد الكلب إذا نبح عليه بكسرة ولا يقطع زمانه بمجاهدته ومدافعته بل أعطاها حظها وطالبها بما عليها من الحق
هذه طريقة الرسل وهي طريقة العارفين من أرباب السلوك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنلنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولزوجك عليك حقا ولضيفك عليك حقا فأعط كلع ذي حق حقه
والعارف البصير يجعل عوض مجاهدته لنفسه في ترك شهوة مباحة: مجاهدته لأعداء الله من شياطين الإنس والجن وقطاع الطريق على القلوب كأهل البدع من بني العلم وبني الإرادة ويستفرغ قواه في حربهم ومجاهدتهم ويتقوى على حربهم بإعطاء النفس حقها من المباح ولا يشتغل بها ومن آفات الترك: تطلعه إلى ما في أيدي الناس إذا مسته الحاجة إلى ما تركه فاستدامتها كان أنفع له من هذا الترك ومن افات تركها وعدم أخذها: ما يداخله من الكبر والعجب والزهو وهذا يقابل الزهد فيها وتركها كما أن كسرة الآخذ وذلته وتواضعه: يقابل الآخذ التارك ففي الأخذ آفات وفي الترك آفات فالفقر الصحيح: السلامة من آفات الأخذ والترك وهذا لا يحصل الا بفقه في الفقر(2/445)
قوله رحمه الله فهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه يعني تكلم فيه أرباب السلوك وفضلوه ومدحوه
فصل قال: الدرجة الثانية: الرجوع الى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث
الخلاص من رؤية الاعمال ويقطع شهود الاحوال ويمحص من أدناس مطالعة المقامات يريد بالرجوع إلى السبق: الالتفات إلى ما سبقت به السابقة من الله بمطالعة فضله ومنته وجوده وأن العبد وكل ما فيه من خير فهو محض جود الله وإحسانه وليس للعبد من ذاته سوى العدم وذاته وصفاته وإيمانه وأعماله كلها من فضل الله عليه فإذا شهد هذا وأحضره قلبه وتحقق به: خلصه من رؤية أعماله فإنه لا يراها إلا من الله وبالله وليست منه هو ولا به واتفقت كلمة الطائفة على أن رؤية الأعمال حجاب بين العبد وبين الله ويخلصه منها: شهود السبق ومطالعة الفضل وقوله: ويقطع شهود الأحوال لأنه إذا طالع سبق فضل الله: علم أن كل ما حصل له من حال أو غيره فهو محض جوده فلا يشهد له حالا مع الله ولا مقاما كما لم يشهد له عملا فقد جعل عدته للقاء ربه: فقره من أعماله وأحواله فهو لا يقدم عليه إلا بالفقر المحض فالفقر خير العلاقة التي بينه وبين ربه والنسبة التي ينتسب بها إليه والباب الذي يدخل منه عليه وكذلك قوله: يمحص من أدناس مطالعة المقامات هو من جنس التخلص من رؤية الأعمال والانقطاع عن رؤية شهود الأحوال ومطالعة المقامات: دنس عند هذه الطائفة فمطالعة الفضل يمحص من هذا الدنس(2/446)
والفرق بين الحال والمقام: أن الحال معنى يرد على القلب من غير اجتلاب له ولا اكتساب ولا تعمد و المقام يتوصل إليه بنوع كسب وطلب فالأحوال عندهم مواهب والمقامات مكاسب فالمقام يحصل ببذل المجهود وأما الحال: فمن عين الجود ولما دخل الواسطى نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم فقالوا: كان يأمر بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها فقال: أمركم بالمجوسية المحضة هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها قلت: لم يأمرهم أبو عثمان رحمه الله إلا بالحنيفية المحضة وهي القيام بالأمر ومطالعة التقصير فيه وليس في هذا من رائحة المجوسية شيء فإنه إذا بذل الطاعة لله وبالله صانه ذلك عن الاتحاد والشرك وإذا شهد تقصيره فيها صانه عن الإعجاب فيكون قائما بإياك نعبد وإياك نستعين وأما ما أشار إليه الواسطي: فمشهد الفناء ولا ريب أن مشهد البقاء أكمل فإن من غاب عن طاعاته: لم يشهد تقصيره فيها ومن تمام العبودية: شهود التقصير فمشهد أبي عثمان أتم من مشهد الواسطي وأبو عثمان هذا: هو سعيد بن إسماعيل النيسابوري من جلة شيوخ القوم وعارفيهم وكان يقال: في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم: أبو عثمان النيسابوري بنيسابور والجنيد ببغداد وأبو عبدالله بن الجلا بالشام وله كلام رفيع عال في التصوف والمعرفة وكان شديد الوصية باتباع السنة وتحكيمها ولزومها ولما حضرته الوفاة مزق ابنه قميصا على نفسه ففتح أبو عثمان عينيه وهو في السياق فقال: يا بني خلاف السنة في الظاهر علامة رياء في الباطن
فصل قال: الدرجة الثالثة: الاضطرار والوقوع في يد التقطع الوجداني
أو الاحتباس في بيداء قيد التجريد وهذا فقر الصوفية(2/447)
الاضطرار شهود كمال الضرورة والفاقة علما وحالا ويريد بالوقوع في يد التقطع الوجداني: حضرة الجمع التي ليس عندها آغيار فهي منقطعة عن الأغيار وحدانية في نفسها والوقوع في يدها: الاستسلام والإذعان لها والدخول في رقها وقد تقدم أن حضرة الجمع عندهم: هي شهود الحقيقة الكونية ورؤيتها بنور الكشف حيث يشهدها منشأ جميع الكائنات والكائنات عدم بالنسبة إليها و أما الاحتباس في بيداء قيد التجريد فهو تجريد الفردانية أن يشهد معها غيرها وهو الفناء عن شهود السوى وسمعى ذلك احتباسا لأنه منع نفسه عن شهود الأغيار وجعل للتجريد قيدا وهو التقيد بشهود الحقيقة وجعل القيد بيداء لوجهين أحدهما: أن الأغيار تبيد فيه وتنعدم ولا يكون معه سواه والثاني: لسعته وفضائه فصاحب مشهده: في بيداء واسعة وإن احتبس في قيد شهوده وقوله: وهذا فقر الصوفية قد يفهم منه: أن التصوف أعلى عنده من الفقر فإن هذه الدرجة الثالثة التي هي أعلى درجات الفقر عنده هي من بعض مقامات الصوفية وطائفة تنازعه في ذلك وتقول: التصوف دون هذا المقام بكثير والتصوف وسيلة إلى هذا الفقر فإن التصوف خلق وهذا الفقر حقيقة وغاية لا غاية وراءها(2/448)
وقد تقدم ذكر الخلاف بين القوم في هذه المسألة وحكينا فيها ثلاثة أقوال هدين والثالث: أنه لا يفضل أحدهما على الآخر فإن كل واحد منهما لا تتم حقيقته إلا بالآخر وهذا قول الشاميين والله أعلم(2/449)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الغنى العالي
وهو نوعان: غنى بالله وغنى عن غير الله وهما حقيقة الفقر ولكن أرباب الطريق أفردوا للغنى منزلة قال صاحب المنازل رحمه الله باب الغني قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [ الضحى: 8 ] وفي الآية ثلاثة أقوال أحدها: أنه أغناه من المال بعد فقره: وهذا قول أكثر المفسرين لأنه قابله بقوله عائلا والعائل: هو المحتاج ليس ذا العيلة فأغناه من المال والثاني: أنه أرضاه بما أعطاه وأغناه به عن سواه فهو غنى قلب ونفس لا غنى مال وهو حقيقة الغنى والثالث: وهو الصحيح أنه يعم النوعين: نوعي الغنى فأغنى قلبه به وأغناه من المال ثم قال: الغنى اسم للملك التام يعني أن من كان مالكا من وجه دون وجه فليس بغني وعلى هذا: فلا يستحق اسم الغنى بالحقيقة إلا الله وكل ما سواه فقير إليه بالذات قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: غنى القلب وهو سلامته من السبب ومسالمته للحكم وخلاصه من الخصومة(2/449)
حقيقة غني القلب: تعلقه بالله وحده وحقيقة فقره المذموم: تعلقه بغيره فإذا تعلق بالله حصلت له هذه الثلاثة التي ذكرها سلامته من السبب أي من التعلق به لا من القيام به والغني عند أهل الغفلة بالسبب ولذلك قلوبهم معلقة به وعند العارفين بالمسبب وكذلك الصناعة والقوة فهذه الثلاثة: هي جهات الغنى عند الناس وهي التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوى وفي رواية ولا لقوي مكتسب وهو غني بالشيء فصاحبها غني بها إذا سكنت نفسه إليها وإن كان سكونه إلى ربه: فهو غني به وكل ما سكنت النفس إليه فهي فقيرة إليه وأما مسالمة الحكم فعلى نوعين أحدهما: مسالمة الحكم الديني الأمري وهي معانقته وموافقته ضد محاربته والثاني: مسالمة الحكم الكوني القدري الذي يجري عليه بغير اختباره ولا قدره له على دفعه وهو غير مأمور بدفعه وفي مسالمة الحكم نكتة لابد منها وهي تجريد إضافته ونسبته إلى من صدر عنه بحيث لا ينسبه إلى غيره وهذا يتضمن توحيد الربوبية في مسالمة الحكم الكوني وتوحيد الإلهية في مسألمة الحكم الديني وهما حقيقة إياك نعبد وإياك نستعين وأما الخلاص من الخصومة فإنما يحمد منه: الخلاص من الخصومة بنفسه لنفسه وأما إذا خاصم بالله ولله: فهذا من كمال العبودية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه: اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت(2/450)
فصل قال: الدرجة الثانية: غنى النفس وهو استقامتها على المرغوب
وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة جعل الشيخ: غنى النفس فوق غنى القلب ومعلوم: أن أمور القلب أكمل وأقوى من أمور النفس لكن في هذا الترتيب نكتة لطيفة وهي أن النفس من جند القلب ورعيته وهي من أشد جنده خلافا عليه وشقاقا له ومن قبلها تتشوش عليه المملكة ويدخل عليه الداخل فإذا حصل له كمال بالغنى: لم يتم له إلا بغناها أيضا فإنها متى كانت فقيرة عاد حكم فقرها عليه وتشوش عليه غناه فكان غناها تماما لغناه وكمالا له وغناه أصلا بغناها فمنه يصل الغنى إليها ومنها يصل الفقر والضرر والعنت إليه إذا عرف هذا فالشيخ جعل غناها بثلاثة أشياء: استقامتها على المرغوب وهو الحق تعالى واستقامتها عليه: استدامة طلبه وقطع المنازل بالسير إليه الثاني: سلامتها من الحظوظ وهي تعلقاتها الظاهرة والباطنة بما سوى الله الثالث: براءتها من المراءاة وهي إرادة غير الله بشيء من أعمالها وأقوالها فمراءاتها دليل على شدة فقرها وتعلقها بالحظوظ من فقرها أيضا وعدم استقامتها على مطلوبها الحق أيضا: من فقرها وذلك يدل على أنها غير واجدة لله إذ لو وجدته لاستقامت على السير إليه ولقطعت تعلقاتها وحظوظها من غيره ولما أرادت بعملها غيره فلا تستقيم هذه الثلاثة إلا لمن قد ظفر بنفسه ووجد مطلوبه وما لم يجد ربه تعالى فلا استقامة له ولا سلامة لها من الحظوظ ولا براءة لها من الرياء(2/451)
فصل قال: الدرجة الثالثة: الغنى بالحق وهو على ثلاث مراتب المرتبة
الأولى: شهود ذكره إياك والثانية: دوام مطالعة أوليته والثالثة: الفوز بوجوده أما شهود ذكره إياك فقد تقدم قريبا وأما مطالعة أوليته فهو سبقه للأشياء جميعا فهو الأول الذي ليس قبله شيء قال بعضهم: ما رأيت شيئا إلا وقد رأيت الله قبله فإن قلت: وأي غنى يحصل للقلب للقلب من مطالعة أولية الرب وسبقه لكل شيء ومعلوم أن هذا حاصل لكل أحد من غني أو فقير فما وجه الغنى الحاصل به قلت: إذا شهد القلب سبقه للأسباب وأنها كانت في حيز العدم وهو الذي كساها حلة الوجود فهي معدومة بالذات فقيرة إليه بالذات وهو الموجود بذاته والغني بذاته لا بغيره فليس الغنى في الحقيقة إلا به كما أنه ليس في الحقيقة إلا له فالغنى بغيره: عين الفقر فإنه غني بمعدوم فقير وفقير كيف يستغني بفقير مثله وأما الفوز بوجوده فإشارة القوم كلهم إلى هذا المعنى وهو نهاية سفرهم وفي الأثر الإلهي: ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء ومن لم يعلم معنى وجوده لله عز وجل والفوز به: فليحث على رأسه الرماد وليبك على نفسه والله أعلم(2/452)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المراد
أفردها القوم بالذكر وفي الحقيقة: فكل مريد مراد بل لم يصر(2/452)
مريدا إلا بعد أن كان مرادا لكن القوم خصوا المريد بالمبتدىء و المراد بالمنتهي قال أبو علي الدقاق: المريد متحمل والمراد محمول وقد كان موسى مريدا إذ: قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [ طه: 25 ] ونبينا كان مرادا إذ قيل له: ألم نشرح لك صدرك وسئل الجنيد عن المريد والمراد فقال: المريد يتولى سياسته العلم والمراد: يتولى رعايته الحق لأن المريد يسير والمراد يطير فمتى يلحق السائر الطائر
فصل قال صاحب المنازل:
باب المراد قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [ القصص: 86 ] أكثر المتكلمين في هذا العلم جعلوا المريد والمراد اثنين وجعلوا مقام المراد فوق مقام المريد وإنما أشاروا باسم المراد إلى الضنائن الذين ورد فيهم الخبر قلت: وجه استشهاده بالآية: أن الله سبحانه ألقى إلى رسوله كتابه وخصه بكرامته وأهله لرسالته ونبوته من غير أن يكون ذلك منه على رجاء أو ناله بكسب أو توسل إليه بعمل بل هو أمر أريد به فهو المراد حقيقة وقوله: إن أكثرهم جعلوا المريد والمراد اثنين فهو تعرض إلى أن منهم من اكتفى عن ذكر مقام المراد بمنزلة الإرادة لأن صاحبها مريد مرادوأما إشارتهم إلى الضنائن فالمراد به: حديث يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن لله ضنائن من خلقه يحييهم في عافية ويميتهم في عافية و الضنائن الخصائص يقال: هو ضنتي من بين الناس بكسر الضاد أي الذي أختص به وأضن بجودته أي أبخل بها أن أضيعها(2/453)
وقد مثل للمريد والمراد بقوم بعث إليهم سلطانهم يستدعيهم إلى حضرته من بلاد نائية وأرسل إليهم بالأدلة والأموال والمراكب وأنواع الزاد وأمرهم بأن يتجشموا إليه قطع السبل والمفاوز وأن يجتهدوا في المسير حتى يلحقوا به وبعث خيلا له ومماليك إلى طائفة منهم فقال: احملوهم على هذه الخيل التي تسبق الركاب واخدموهم في طريقهم ولا تدعوهم يعانون مؤنة الشد والربط بل إذا نزلوا فأريحوهم ثم احملوهم حتى تقدموهم عليفلم يجد هؤلاء من مجاهدة السير ومكابدته ووعثاء السفر ما وجده غيرهم ومن الناس من يقول: المريد ينتقل من منزلة الإرادة إلى أن يصير مرادا فكان محبا فصار محبوبا فكل مريد صادق نهاية أمره: أن يكون مرادا وأكثرهم على هذا وصاحب المنازل كأن عنده المراد هو المجذوب و المريد هو السالك على طريق الجادة
فصل قال: وللمراد ثلاث درجات الأولى أن يعصم العبد وهو مستشرف
للجفاء اضطرارا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ وسد مسالك المعاطب عليه إكراها يعني: أن العبد إذا استشرفت نفسه للجفاء بينه وبين سيده بموافقة شهواته عصمه سيده اضطرارا بأن ينغص عليه الشهوات فلا تصفو له ألبتة بل لا ينال ما ينال منها إلا مشوبا بأنواع التنغيص الذي ربما أربى على لذتها واستهلكها بحيث تكون اللذة في جنب التنغيص كالخلسة والغفوة وكذلك يعوق الملاذ عليه بأن يحول بينه وبينها حتى لا يركن إليها ولا يطمئن إليها ويساكنها فيحول بينه وبين أسبابها فإن هيئت له قيض له مدافع يحول بينه وبين استيفائها(2/454)
فيقول: من أين دهيت وإنما هي عين العناية والحمية والصيانة وكذلك يسد عنه طرق المعاصي فإنها طرق المعاطب وإن كان كارها عناية به وصيانة له
فصل قال: الدرجة الثانية: أن يضع عن العبد عوارض النقص ويعافيه
من سمة اللائمة ويملكه عواقب الهفوات كما فعل بسليمان عليه السلام حين قتل الخيل فحمله على الريح الرخاء فأغناه عن الخيل وفعل بموسى عليه السلام حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ولم يعتب عليه كما عتب على آدم عليه السلام ونوح ودواد ويونس عليهم السلام والفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها: أن في التي قبلها منعا من مواقعة أسباب الجفاء اضطرارا وفي هذه: إذا عرضت له أسباب النقيصة التي يستحق عليها اللائمة لم يعتبه عليها ولم يلمه وهذا نوع من الدلال وصاحبه من ضنائن الله وأحبابه فإن الحبيب يسامح بما لا يسامح به سواه لأن المحبة أكبر شفعائه وإذا هفا هفوة ملكه عاقبتها بأن جعلها سببا لرفعته وعلو درجته فيجعل تلك الهفوة سببا لتوبة نصوح وذل خاص وانكسار بين يديه وأعمال صالحة تزيد في قربه منه أضعاف ما كان عليه قبل الهفوة فتكون تلك الهفوة أنفع له من حسنات كثيرة وهذا من علامات اعتناء الله بالعبد وكونه من أحبابه وحزبه وقد استشهد الشيخ بقصة سليمان عليه السلام حين ألهته الخيل عن صلاة العصر فأخذته الغضبة لله والحمية فحملته على أن مسح عراقيبها وأعناقها بالسيف(2/455)
وأتلف مالا شغله عن الله في الله فعوضه الله منه: أن حمله على متن الريح فملكه الله تعالى عاقبة هذه الهفوة وجعلها سببا لنيل تلك المنزلة الرفيعة واستشهد بقصة موسى حين ألقى الألواح وفيها كلام الله عن رأسه وكسرها وجر بلحية أخيه وهو نبي مثله ولم يعاتبه الله على ذلك كما عتب على آدم عليه السلام في أكل لقمة من الشجرة وعلى نوح في ابنه حين سأل ربه أن ينجيه وعلى داود في شأن امرأة أوريا وعلى يونس في شأن المغاضبة وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: وكذلك لطم موسى عين ملك الموت ففقأها ولم يعتب عليه ربه وفي ليلة الإسراء عاتب ربه في النبي صلى الله عليه وسلم إذ رفعه فوقه ورفع صوته بذلك ولم يعتبه الله على ذلك قال: لأن موسى عليه السلام قام تلك المقامات العظيمة التي أوجبت له هذا الدلال فإنه قاوم فرعون أكبر أعداء الله تعالى وتصدى له ولقومه وعالج بني إسرائيل أشد المعالجة وجاهد في الله أعداء الله أشد الجهاد وكان شديد الغضب لربه فاحتمل له ما لم يحتمله لغيره وذو النون لما لم يكن في هذا المقام: سجنه في بطن الحوت من غضبة وقد جعل الله لكل شيء قدرا(2/456)
فصل قال: الدرجة الثالثة: اجتباء الحق عبده واستخلاصه إياه بخالصته
كما ابتدأ موسى وقد خرج يقتبس نارا فاصطنعه لنفسه وأبقى منه رسما معارا قلت: الاجتباء الاصطفاء والإيثار والتخصيص وهو افتعال من جبيت الشيء: إذا حزته وأحرزته إليك كجباية المال وغيره و الاصطناع أيضا الاصطفاء والاختيار يعني أنه اصطفى موسى واستخلصه لنفسه وجعله خالصا له من غير سبب كان من موسى ولا وسيلة فإنه خرج ليقتبس النار فرجع وهو كليم الواحد القهار وأكرم الخلق عليه ابتداء منه سبحانه من غير سابقة استحقاق ولا تقدم وسيلة وفي مثل هذا قيل:
أيها العبد كن لما لست ترجو ... من صلاح أرجى لما أنت راجي
إن موسى أتى ليقبس نارا ... من ضياء رآه والليل داجي
فانثنى راجعا وقد كلمه الله وناجاه وهو خير مناجي وقوله: وأبقى منه رسما معارا يحتمل أن يريد بالرسم: البقية التي تقدم بها عليه محمد ورفع فوقه بدرجات لأجل بقائها منه ويحتمل وهو الأظهر أنه أخذه من نفسه واصطنعه لنفسه واختاره من بين العالمين وخصه بكلامه ولم يبق له من نفسه إلا رسما مجردا يصحب به الخلق وتجري عليه فيه أحكام البشرية إتماما لحكمته وإظهارا لقدرته فهو عارية معه فإذا قضى ما عليه: استرد منه ذلك الرسم وجعله من ماله فتكملت إذ ذاك مرتبة الاجتباء ظاهرا وباطنا حقيقة ورسما ورجعت العارية إلى مالكها الحق الذي يرجع إليه الأمر كله فكما ابتدأت منه عادت إليه وموسى عليه السلام كان في مظهر الجلال ولهذا كانت شريعته شريعة جلال وقهر أمروا بقتل نفوسهم وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر(2/457)
وغيرها من الطيبات وحرمت عليهم الغنائم وعجل لهم من العقوبات ما عجل وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم وكان موسى من أعظم خلق الله هيبة ووقارا وأشدهم بأسا وغضبا لله وبطشا بأعداء الله وكان لا يستطاع النظر إليه وعيسى: كان في مظهر الجمال وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان وكان لا يقاتل ولا يحارب وليس في شريعته قتال ألبتة والنصارى يحرم عليهم دينهم القتال وهم به عصاة لشرعه فإن الإنجيل يأمرهم فيه: أن: من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين ونحو هذا وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال وإنما النصارى ابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولم تكتب عليهم وأما نبينا: فكان في مظهر الكمال الجامع لتلك القوة والعدل والشدة في الله وهذا اللين والرأفة والرحمة وشريعته أكمل الشرائع فهو نبي الكمال وشريعته شريعة الكمال وأمته أكمل الأمم وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات ولذلك تأتي شريعته بالعدل إيجابا له وفرضا وبالفضل ندبا إليه واستحبابا وبالشدة في موضع الشدة وباللين في موضع اللين ووضع السيف موضعه ووضع الندى موضعه فيذكر الظلم(2/458)
ويحرمه والعدل ويوجبه والفضل ويندب إليه في بعض آيات كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [ الشورى: 40 ] فهذا عدل فمن عفى وأصلح فأجره على الله فهذا فضل إنه لا يحب الظالمين فهذا تحريم للظلم وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [ النحل: 126 ] فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ندب إلى الفضل وقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [ البقرة: 279-280] تحريم للظلم {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضل وكذلك تحريم ما حرم على أمته صيانة وحمية حرم عليهم كل خبيث وضار وأباح لهم كل طيب ونافع فتحريمه عليهم رحمة وعلى من قبلهم لم يخل من عقوبة وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم ووهب لهم من علمه وحلمه وجعلهم خير أمة أخرجت للناس وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم كما كمل نبيهم من المحاسن بما فرقه في الأنبياء قبله وكمل في كتابه من المحاسن بما فرقها في الكتب قبله وكذلك في شريعته فهؤلاء الضنائن وهم المجتبون الأخيار كما قال تعالى لهم: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [ الحج: 78 ] وجعلهم شهداء على الناس فأقامهم في ذلك مقام الأنبياء الشاهدين على أممهم وتفصيل تفضيل هذه الأمة وخصائصها يستدعي سفرا بل أسفارا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(2/459)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإحسان
وهي لب الإيمان وروحه وكماله وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل فجميعها منطوية فيها وكل ما قيل من أول الكتاب إلى ههنا فهو من الإحسان(2/459)
قال صاحب المنازل رحمه الله وقد استشهد على هذه المنزلة بقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [ الرحمن: 60 ]: فالإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق وهو أن تعبد الله كأنك تراه أما الآية: فقال ابن عباس رضي الله عنه والمفسرون: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [ الرحمن: 60 ] ثم قال: هل تدورن ماذا قال ربكم قالوا: الله ورسوله أعلم قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة وأما الحديث: فإشارة إلى كمال الحضور مع الله عز وجل ومراقبته الجامعة لخشيته ومحبته ومعرفته والإنابة إليه والإخلاص له ولجميع مقامات الإيمان قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علما وإبرامه عزما وتصفيته حالا يعني إحسان القصد يكون بثلاثة أشياء أحدها: تهذيبه علما بأن يجعله تابعا للعلم على مقتضاه مهذبا به منقى من شوائب الحظوظ فلا يقصد إلا ما يجوز في العلم و العلم هو اتباع الأمر والشرع والثاني: إبرامه عزما و الإبرام الإحكام والقوة أي يقارنه عزم يمضيه ولا يصحبه فتور وتوان يضعفه ويوهنه الثالث: تصفيته حالا أي يكون حال صاحبه صافيا من الأكدار والشوائب التي تدل على كدر قصده فإن الحال مظهر القصد وثمرته وهو أيضا مادته وباعثه فكل منهما ينفعل عن الآخر فصفاؤه وتخليصه من تمام صفاء الآخر وتخليصه
فصل قال: الدرجة الثانية: الإحسان في الأحوال وهو أن تراعيها غيرة
وتسترها تظرفا وتصححها تحقيقا(2/460)
يريد بمراعاتها: حفظها وصونها غيرة عليها أن تحول فإنها تمر مر السحاب فإن لم يرع حقوقها حالت ومراعاتها: بدوام الوفاء وتجنب الجفاء ويراعيها أيضا بإكرام نزلها فإنها ضيف والضيف إن لم تكرم نزله ارتحل
ويراعيها أيضا بضبطها ملكة وشد يده عليها وأن لا يسمح بها لقاطع طريق ولا ناهب ويراعيها أيضا: بالانقياد إلى حكمها والإذعان لسلطانها إذا وافق الأمر ويراعيها أيضا: بسترها تظرفا وهو أن يسترها عن الناس ما أمكنه لئلا يعلموا بها ولا يظهرها إلا لحجة أو حاجة أو مصلحة راجحة فإن في إظهارها بدون ذلك آفات عديدة مع تعريضها للصوص والسراق والمغيرين وإظهار الحال للناس عند الصادقين: حمق وعجز وهو من حظوظ النفس والشيطان وأهل الصدق والعزم لها أستر وأكتم من أرباب الكنوز من الأموال لأموالهم حتى إن منهم من يظهر أضدادها نفيا وجحدا وهم أصحاب الملامتيه ولهم طريقة معروفة وكان شيخ هذه الطائفة عبدالله بن منازل واتفقت الطائفة على أن من أطلع الناس على حاله مع الله: فقد دنس طريقته إلا لحجة أو حاجة أو ضرورة وقوله: وتصحيحها تحقيقا أي يجتهد في تحقيق أحواله وتصحيحها وتخليصها فإن الحال قد يمتزج بحق وباطل ولا يميزه إلا أولو البصائر والعلم وأهل هذه الطريق يقولون: إن الوارد الذي يبتدىء العبد من جانبه الأيمن والهواتف والخطاب: يكون في الغالب حقا والذي يبتدىء من الجانب الأيسر: يكون في الغالب باطلا وكذبا فإن أهل اليمين: هم أهل الحق وبأيمانهم يأخذون كتبهم ونورهم الظاهر على الصراط يكون بأيمانهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/461)
يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله والله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف وأخبر أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وحظه من ابن آدم جهة الشمال ولهذا تكون اليد الشمال للاستجمار وإزالة النجاسة والأذى ويبدأ بالرجل الشمال عند دخول الخلاء ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد يبقي الإنسان بعد انفصاله نشيطا مسرورا نشوانا: فإنه وارد ملكي وكل وارد يبقي الإنسان بعد انفصالة خبيث النفس كسلان ثقيل الأعضاء والروح يجنح إلى فتور: فهو وارد شيطاني ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد أعقب في القلب: معرفة بالله ومحبة له وأنسا به وطمأنينة بذكره وسكونا إليه: فهو ملكي إلهي وخلافه بخلافه
ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد أعقب صاحبه تقدما إلى الله تعالى والدار الآخرة وحضورا فيها حتى كأنه يشاهد الجنة قد أزلفت والجحيم قد سعرت: فهو إلهي ملكي وخلافه شيطاني نفساني ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد كان سببه النصيحة في امتثال الأمر والإخلاص والصدق فيه: فهو إلهي ملكي وإلا فهو شيطاني ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد استنار به القلب وانشرح له الصدر وقوي به القلب: إلهي ملكي وإلا فهو شيطاني ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد جمعك على الله فهو منه وكل وارد فرقك عنه وأخذك عنه: فمن الشيطان ومن الفرقان أيضا: أن الوارد الإلهي لا يصرف إلا في قربة وطاعة ولا يكون سببه إلا قربة وطاعة فمستخرجه الأمر ومصرفه الأمر والشيطاني بخلافه ومن الفرقان أيضا: أن الوارد الرحماني لا يتناقض ولا يتفاوت ولا يختلف بل يصدق بعضه بعضا والشيطاني بخلافه يكذب بعضه بعضا والله سبحانه أعلم(2/462)
فصل قال: الدرجة الثالثة: الإحسان في الوقت وهو أن لا تزايل
المشاهدة أبدا ولا تخلط بهمتك أحدا وتجعل هجرتك إلى الحق سرمدا أي لا تفارق حال الشهود وهذا إنما يقدر عليه أهل التمكن الذين ظفروا بنفوسهم وقطعوا المسافات التي بين النفس وبين القلب والمسافات التي بين القلب وبين الله بمجاهدة القطاع التي على تلك المسافات وقوله: ولا تخلط بهمتك أحدا
يعني: أن تعلق همتك بالحق وحده ولا تعلق همتك بأحد غيره فإن ذلك شرك في طريق الصادقين قوله: وأن تجعل هجرتك إلى الحق سرمدا يعني: أن كل متوجه إلى الله بالصدق والإخلاص فإنه من المهاجرين إليه فلا ينبغي أن يتخلف عن هذه الهجرة بل ينبغي أن يصحبها سرمدا حتى يلحق بالله عز وجل
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويحمد غب السير من هو سائر
ولله على كل قلب هجرتان وهما فرض لازم له على الأنفاس: هجرة إلى الله سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية وهجرة إلى رسوله: بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته فيكون تعبده به أعظم من تعبد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على رأسه الرماد وليراجع الإيمان من أصله فيرجع وراءه ليقتبس نورا قبل أن يحال بينه وبينه ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور والله المستعان(2/463)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة العلم
وهذه المنزلة إن لم تصحب السالك من أول قدم يضعة في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه: فسلوكه على غير طريق وهو مقطوع عليه طريق الوصول مسدود عليه سبل الهدى والفلاح مغلقة عنه أبوابها وهذا إجماع من الشيوخ العارفين ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق منهم ونواب إبليس وشرطه قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد رحمه الله: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول وقال: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة وقال أبو حفص رحمه الله: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة وقال سهل به عبدالله رحمه الله: كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء: فهو عذاب على النفس وقال السري: التصوف اسم لثلاثة معان: لا يطفىء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله وقال أبو يزيد: عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاأشد علي(2/464)
من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لبقيت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد وقال مرة لخادمه: قم بنا إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالصلاح لنزوره فلما دخلا عليه المسجد تنخع ثم رمى بها نحو القبلة فرجع ولم يسلم عليه وقال: هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه وقال: لقد هممت أن أسأل الله تعالى أن يكفيني مؤنة النساء ثم قلت: كيف يجوز لي أن أسأل الله هذا ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسأله ثم إن الله كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أو حائط وقالوا: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله وقال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله: الصحبة مع الله: بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع الرسول: بإتباع سنته ولزوم ظاهر العلم ومع أولياء الله: بالاحترام والخدمة ومع الأهل: بحسن(2/465)
الخلق ومع الإخوان: بدوام البشر ما لم يكن إثما ومع الجهال: بالدعاء لهم والرحمة زاد غيره: ومع الحافظين: بإكرامهما واحترامهما وإملائهما ما يحمدانك عليه ومع النفس: بالمخالفة ومع الشيطان: بالعداوة وقال أبو عثمان أيضا: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا: نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا: نطق بالبدعة قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [ النور: 54 ] وقال أبو الحسين: النووي من رأيتموه يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربوا منه وقال محمد بن الفضل البامجي من مشايخ القوم الكبار: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ما يعملون ويمنعون الناس من التعلم والتعليم وقال عمرو بن عثمان المكي: العلم قائد والخوف سائق والنفس حرون بين ذلك جموح خداعة رواغة فاحذرها وراعها بسياسة العلم وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد
وقال أبو سعيد الخراز كل باطن يخالفه الظاهر فهو باطل وقال ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه وقال: كل ما سألت عنه فاطلبه في مفازة العلم فإن لم تجده ففي ميدان الحكمة فإن لم تجده فزنه بالتوحيد فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجه الشيطان وألقى بنان الحمال بين يدي السبع فجعل السبع يشمه ولا يضره فلما أخرج(2/466)
قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع قال: كنت أتفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع وقال أبو حمزة البغدادي من أكابر الشيوخ وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل: ما تقول يا صوفي من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله ومر الشيخ أبو بكر محمد بن موسى الواسطي يوم الجمعة إلى الجامع فانقطع شسع نعله فأصلحه له رجل صيدلاني فقال: تدري لم انقطع شسع نعلي فقلت: لا فقال: لأني ما اغتسلت للجمعة فقال: ههنا حمام تدخله فقال: نعم فدخل واغتسل وقال أبو إسحاق الرقي من أقران الجنيد: علامة محبة الله: إيثار طاعته ومتابعة رسوله وقال أبو يعقوب النهرجوري: أفضل الأحوال: ما قارن العلم
وقال أبو القاسم النصراباذي شيخ خراسان في وقته: أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع وتعظيم كرامات المشايخ ورؤية أعذار الخلق والمداومة على المداومة على الأوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات وقال أبو بكر الطمستاني من كبار شيوخ الطائفة: الطريق واضح والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم فمن صحب الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله: فهو الصادق المصيب(2/467)
وقال أبو عمرو بن نجيد: كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه وقال: التصوف الصبر تحت الأوامر والنواهي وكان بعض أكابر الشيوخ المتقدمين يقول: يا معشر الصوفية لا تفارقوا السواد في البياض تهلكوا وأما الكلمات التي تروى عن بعضهم: من التزهيد في العلم والاستغناء عنه كقول من قال: نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت وأنتم تأخذونه من حي يموت وقول الآخر وقد قيل له: ألا ترحل حتى تسمع من عبدالرزاق فقال: ما يصنع بالسماع من عبدالرزاق من يسمع من الخلاق وقول الآخر: العلم حجاب بين القلب وبين الله عز وجل وقول الآخر: إذا رأيت الصوفي يشتغل بأخبرنا و حدثنا فاغسل يدك منه وقول الآخر: لنا علم الحرف ولكم علم الورق ونحو هذا من الكلمات التي أحسن أحوال قائلها: أن يكون جاهلا يعذر بجهله أو شاطحا معترفا بشطحه وإلا فلولا عبدالرزاق وأمثاله ولولا أخبرنا و حدثنا لما وصل إلى هذا وأمثاله شيء من الإسلام ومن أحالك على غير أخبرنا و حدثنا فقد أحالك: إما على خيال صوفي أو قياس فلسفي أو رأي نفسي فليس بعد القرآن و أخبرنا(2/468)
و حدثنا إلا شبهات المتكلمين وآراء المنحرفين وخيالات المتصوفين وقياس المتفلسفين ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم والشيطان الرجيم و العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه: ما جاء به الرسول و العلم خير من الحال: العلم حاكم و الحال محكوم عليه و العلم هاد والحال تابع و العلم آمر ناه و الحال منفذ قابل و الحال سيف إن لم يصحبه العلم فهو مخراق في يد لاعب الحال مركب لا يجارى فإن لم يصحبه علم ألقى صاحبه في الممالك والمتالف والحال كالمال يؤتاه البر والفاجر فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالا على صاحبه الحال بلا علم كالسلطان الذي لا يزعه عن سطوته وازع الحال بلا علم كالنار التي لا سائس لها نفع الحال لا يتعدى صاحبه ونفع العلم كالغيث يقع على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر دائرة العلم تسع الدنيا والآخرة ودائرة الحال تضيق عن غير صاحبه وربما ضاقت عنه العلم هاد والحال الصحيح مهتد به وهو تركة الأنبياء وتراثهم وأهله عصبتهم ووراثهم وهو حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين والغي والرشاد والهدى والضلال به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد ويحمد ويمجد وبه اهتدى إليه السالكون ومن طريقه وصل إليه الواصلون ومن بابه دخل عليه القاصدون(2/469)
به تعرف الشرائع والأحكام ويتميز الحلال من الحرام وبه توصل الأرحام وبه تعرف مراضي الحبيب وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب
وهو إمام والعمل مأموم وهو قائد والعمل تابع وهوالصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والأنيس في الوحشة والكاشف عن الشبهة والغني الذي لا فقر على من ظفر بكنزه والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه مذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وطلبه قربة وبذله صدقة ومدارسته تعدل بالصيام والقيام والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام قال الإمام أحمد رضي الله عنه: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه وروينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ونص على ذلك أبو حنيفة رضي الله عنهوقال ابن وهب: كنت بين يدي مالك رضي الله عنه فوضعت ألواحي وقمت أصلي فقال: ما الذي قمت إليه بأفضل مما قمت عنه ذكره ابن عبدالبر وغيره واستشهد الله عز وجل بأهل العلم على أجل مشهود به وهو التوحيد وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته وفي ضمن ذلك تعديلهم فإنه سبحانه وتعالى لا يستشهد بمجروح ومن ههنا: والله أعلم يؤخذ الحديث المعروف: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل المبطلين وهو حجة الله في أرضه ونوره بين عباده وقائدهم ودليلهم إلى جنته ومدنيهم من كرامته(2/470)
ويكفي في شرفه: أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها وتظلهم بها وأن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر وحتى النمل في جحرها وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير ولقد رحل كليم الرحمن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام في طلب العلم هو وفتاه حتى مسهما النصب في سفرهما في طلب العلم حتى ظفر بثلاث مسائل وهو من أكرم الخلق على الله وأعلمهم به وأمر الله رسوله أن يسأله المزيد منه فقال: {وقل رب زدني علما} [ طه: 114 ] وحرم الله صيد الجوارح الجاهلة وإنما أباح للأمة صيد الجوارح العالمة فهكذا جوارح الإنسان الجاهل لا يجدي عليه صيدها من الأعمال شيئا والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله: العلم ما قام بدليل ورفع الجهل
يريد: أن للعلم علامة قبله وعلامة بعده فعلامته قبله: ما قام به الدليل وعلامته بعده: رفع الجهل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: علم جلي به يقع العيان أو واستفاضة صحيحة أو صحة تجربة قديمة يريد بالجلي: الظاهر الذي لا خفاء به وجعله ثلاثة أنواع أحدها: ما وقع عن عيان وهو البصر والثاني: ما استند إلى السمع وهو علم الاستفاضة والثالث: ما استند إلى العقل وهو علم التجربة(2/471)
فهذه الطرق الثلاثة وهي السمع والبصر والعقل هي طرق العلم وأبوابه ولا تنحصر طرق العلم فيما ذكره فإن سائر الحواس توجب العلم وكذا ما يدرك بالباطن وهي الوجدانيات وكذا ما يدرك بخبر المخبر الصادق وإن كان واحدا وكذا ما يحصل بالفكر والاستنباط وإن لم يكن عن تجربة فالعلم لا يتوقف على هذه الثلاثة التي ذكرها فقط والفرق بينه وبين المعرفة من وجوه ثلاثة:
أحدها: أن المعرفة لب العلم ونسبة العلم إليها كنسبة الإيمان إلى الإحسان وهي علم خاص متعلقها أخفى من متعلق العلم وأدق
والثاني: أن المعرفة هي العلم الذي يراعيه صاحبه بموجبه ومقتضاه فهي علم تتصل به الرعاية
والثالث: أن المعرفة شاهد لنفسها وهي بمنزلة الأمور الوجدانية التي لا يمكن صاحبها أن يشك فيها ولا ينتقل عنها وكشف المعرفة أتم من كشف العلم والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: علم خفي ينبت في الأسرار الطاهرة من
الأبدان الزاكية بماء الرياضة الخالصة ويظهر في الأنفاس الصادقة لأهل الهمة العالية في الأحايين الخالية والأسماع الصاخبة وهو علم يظهر الغائب ويغيب الشاهد ويشير إلى الجمع يعني: أن هذا العلم خفي على أهل الدرجة الأولى وهو المسمى بالمعرفة عند هذه الطائفة قوله: ينبت في الإسرار الطاهرة لفظ السر يطلق في لسانهم ويراد به أمور(2/472)
أحدها: اللطيفة المودعة في هذا القالب التي حصل بها الإدراك والمحبة والإرادة والعلم وذلك هو الروح الثاني: معنى: قائم بالروح نسبته إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن وغالب ما يريدون به: هذا المعنى وعندهم: أن القلب أشرف ما في البدن والروح أشرف من القلب والسر ألطف من الروح وعندهم: للسر سر آخر لا يطلع عليه غير الحق سبحانه وصاحبه لا يطلع عليه وإن اطلع على سره فيقولون السر مالك عليه إشراف و سر السر مالا اطلاع عليه لغير الحق سبحانه والمعنى الثالث: يراد به ما يكون مصونا مكتوما بين العبد وبين ربه من الأحوال والمقامات كما قال بعضهم: أسرارنا بكر لم يفتضها وهم واهم ويقول قائلهم: لو عرف زرى سري لطرحته والمقصود قوله: ينبت في الأسرار الطاهرة يعني: الطاهرة من كدر الدنيا والاشتغال بها وعلائقها التي تعوق الأرواح عن ديار الأفراح فإن هذه أكدار وتنفسات في وجه مرآة القلب والروح فلا تنجلي فيها صور الحقائق كما ينبغي والنفس تنفس فيها دائما بالرغبة في الدنيا والرهبة من فوتها فإذا جليت المرآة بإذهاب هذه الأكدار صفت وظهرت فيها الحقائق والمعارف وأما الأبدان الزكية فهي التي زكت بطاعة الله ونبتت على أكل الحلال فمتى خلصت الأبدان من الحرام وأدناس البشرية التي ينهى عنها العقل والدين والمروءة وطهرت الأنفس من علائق الدنيا: زكت أرض القلب فقبلت بذر العلوم والمعارف فإن سقيت بعد ذلك بماء الرياضة الشرعية النبوية المحمدية وهي التي(2/473)
لا تخرج عن علم ولا تبعد عن واجب ولا تعطل سنة أنبتت من كل زوج كريم من علم وحكمة وفائدة وتعرف فاجتنى منها صاحبها ومن جالسه أنواع الطرف والفوائد والثمار المختلفة الألوان والأذواق كما قال بعض السلف: إذا عقدت القلوب على ترك المعاصي: جالت في الملكوت ثم رجعت إلى أصحابها بأنواع التحف والفوائد قوله: وتظهر في الأنفاس الصادقة يريد بالأنفاس أمرين: أحدهما: أنفاس الذكر والمعرفة والثاني: أنفاس المحبة والإرادة وما يتعلق بالمعروف المذكور وبالمحبوب المراد من الذاكر والمحب و صدقها خلوصها من شوائب الأغيار والحظوظ وقوله: لأهل الهمم العالية فهي التي لا تقف دون الله عز وجل ولا تعرج في سفرها على شيء سواه وأعلى الهمم: ما تعلق بالعلي الأعلى وأوسعها: ما تعلق بصلاح العباد وهي همم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وورثتهم وقوله: في الأحايين الخالية يريد بها: ساعات الصفاء مع الله تعالى وأوقات النفحات الإلهية التي من تعرض لها يوشك أن لا يحرمها ومن أعرض عنها فهي عنه أشد إعراضا وقوله: في الأسماع الصاخية فهي التي صحت من تعلقها بالباطل واللغو وأصاخت لدعوة الحق ومنادي الإيمان فإن الباطل واللغو خمر الأسماع والعقول فصحوها بتجنبه والإصفاء إلى دعوة الحق قوله: وهو علم يظهر الغائب أي يكشف ما كان غائبا عن العارف قوله: ويغيب الشاهد أي يغيبه عن شهود ما سوى مشهوده الحق ويشير إلى الجمع وهو مقام الفردانية واضمحلال الرسوم حتى رسم الشاهد نفسه والله سبحانه أعلم(2/474)
فصل قال: الدرجة الثالثة: علم لدني إسناده وجوده وإدراكه عيانه
ونعته حكمه ليس بينه وبين الغيب حجاب يشير القوم بالعلم اللدني إلى ما يحصل للعبد من غير واسطة بل بإلهام من الله وتعريف منه لعبده كما حصل للخضر عليه السلام يغير واسطة موسى قال الله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [ الكهف: 65 ]
وفرق بين الرحمة والعلم وجعلهما من عنده و من لدنه إذ لم ينلهما على يد بشر وكان من لدنه أخص وأقرب من عنده ولهذا قال تعالى: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [ الإسراء: 80 ] ف السلطان النصير الذي من لدنه سبحانه: أخص وأقرب مما عنده ولهذا قال تعالى واجعل لي من لدنك سلطانانصيراوهو الذي أيده به والذي من عنده: نصره بالمؤمنين كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [ الأنفال: 62 ] و العلم اللدني ثمرة العبودية والمتابعة والصدق مع الله والإخلاص له وبذل الجهد في تلقي العلم من مشكاة رسوله وكمال الانقياد له فيفتح له من فهم الكتاب والسنة بأمر يخصه به كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس فقال:(2/475)
لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه فهذا هو العلم اللدني الحقيقي وأما علم من أعرض عن الكتاب والسنة ولم يتقيد بهما: فهو من لدن النفس والهوى والشيطان فهو لدني لكن من لدن من وإنما يعرف كون العلم لدنيا رحمانيا: بموافقته لما جاء به الرسول عن ربه عز وجل فالعلم اللدني نوعان: لدني رحماني ولدني شيطاني بطناوي والمحك: هو الوحي ولا وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قصة موسى مع الخضر عليهما السلام: فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني إلحاد وكفر مخرج عن الإسلام موجب لإراقة الدم والفرق: أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته ولو كان مأمورا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه ولهذا قال له: أنت موسى نبي بني إسرائل قال: نعم ومحمد مبعوث إلى جميع الثقلين فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان ولو كان موسى وعيسى عليهما السلام حيين لكانا من أتباعه وإذا نزل عيسى ابن مريم عليهما السلام فإنما يحكم بشريعة محمد فمن ادعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى أو جوز ذلك لأحد من الأمة: فليجدد إسلامه وليتشهد شهادة الحق فإنه بذلك مفارق لدين الإسلام بالكلية فضلا عن أن يكون من خاصة أولياء الله وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه وهذا الموضع مقطع ومفرق بين زنادقة القوم وبين أهل الاستقامة منهم فحرك تره(2/476)
قوله: إسناده وجوده يعني: أن طريق هذا العلم: هو وجدانه كما أن طريق غيره: هو الإسناد و إدراكه عيانه أي إن هذا العلم لا يؤخذ بالفكر والاستنباط وإنما يؤخذ عيانا وشهودا ونعته حكمه يعني: أن نعوته لا يوصل إليها إلا به فهي قاصرة عنه يعني أن شاهده منه ودليله وجوده وإنيته لميته فبرهان الإن فيه هو برهان اللم فهو الدليل وهو المدلول ولذلك لم يكن بينه وبين الغيوب حجاب بخلاف ما دونه من العلوم فإن بينه وبين العلوم حجابا والذي يشير إليه القوم: هو نور من جناب المشهود يمحو قوى الحواس وأحكامها ويقوم لصاحبها مقامها فهو المشهود بنوره ويفني ما سواه بظهوره وهذا عندهم معنى الأثر الإلهي: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع له وبصره الذي يبصر به فبي يسمع وبي يبصر والعلم اللدني الرحماني: هو ثمرة هذه الموافقة والمحبة التي أوجبها التقرب بالنوافل بعد الفرائض واللدني الشيطاني: ثمرة الإعراض عن الوحي وتحكيم الهوى والشيطان والله المستعان(2/477)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الحكمة
قال الله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [ البقرة: 269 ] وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [ النساء: 113 ] وقال عن المسيح عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} [ آل عمران: 48 ] الحكمة في كتاب الله نوعان: مفردة ومقترنة بالكتاب فالمفردة: فسرت بالنبوة وفسرت بعلم القرآن قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي علم القرآن: ناسخة ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله وقال الضحاك: هي القرآن والفهم فيه وقال مجاهد: هي القرآن والعلم والفقه وفي رواية أخرى عنه: هي الإصابة في القول والفعل وقال النخعي: هي معاني الأشياء وفهمها وقال الحسن: الورع في دين الله كأنه فسرها بثمرتها ومقتضاها وأما الحكمة المقرونة بالكتاب: فهي السنة كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة وقيل: هي القضاء بالوحي وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر وأحسن ما قيل في الحكمة: قول مجاهد ومالك: إنها معرفة الحق والعمل به والإصابة في القول والعمل وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان و الحكمة حكمتان: علمية وعملية فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا قدرا وشرعا(2/478)
و العلمية كما قال صاحب المنازل: وهي وضع الشيء في موضعه قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: أن تعطي كل شيء حقه ولا تعديه حده ولا تعجله عن وقته ولا تؤخره عنه
لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعا وقدرا ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاثة بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره ولا تتعدى بها حدها فتكون متعديا مخالفا للحكمة ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة ولا تؤخرها عنه فتفوتها وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض وتعدي الحق: كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد وتعجيلها عن وقتها: كحصاده قبل إدراكه وكماله وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس: إخلال بالحكمة وتعدي الحد المحتاج إليه: خروج عنها أيضا وتعجيل ذلك قبل وقته: إخلال بها وتأخيره عن وقته: إخلال بها فالحكمة إذا: فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي والله تعالى أورث الحكمة آدم وبنيه فالرجل الكامل: من له إرث كامل من أبيه ونصف الرجل كالمرأة له نصف ميراث والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى وأكمل الخلق في هذا: الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأكملهم أولو العزم وأكملهم محمد ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى عليه وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [ النساء: 113 ] وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا(2/479)
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [ البقرة: 151 ] فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة وكل خلل في الوجود وفي العبد فسببه: الإخلال بها فأكمل الناس: أوفرهم منها نصيبا وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال: أقلهم منها ميراثا ولها ثلاثة أركان: العلم والحلم والأناة وآفاتها وأضدادها: الجهل والطيش والعجلة فلا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: أن تشهد نظر الله في وعده وتعرف عدله
في حكمه وتلحظ بره في منعه أي تعرف الحكمة في الوعد والوعيد وتشهد حكمه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [ النساء: 40 ] فتشهد عدله في وعيده وإحسانه في وعده وكل قائم بحكمته وكذلك تعرف عدله في أحكامه الشرعية والكونية الجارية على الخلائق فإنه لا ظلم فيها ولا حيف ولا جور وإن أجراها على أيدي الظلمة فهو أعدل العادلين ومن جرت على يديه هو الظالم وكذلك تعرف بره في منعه فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق ولا يغيض ما في يمينه سعة عطائه فما منع من منعه فضله إلا لحكمة كاملة في ذلك فإنه الجواد الحكيم وحكمته لا تناقض جوده فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته ولو بسط الله الرزق لعباده لفسدوا وهلكوا ولو علم في الكفار خيرا وقبولا لنعمة الإيمان وشكرا له عليها(2/480)
ومحبة له واعترافا بها لهداهم إلى الإيمان ولهذا لما قالوا للمؤمنين: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [ الأنعام: 53 ] أجابهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هم الذين يعرفون قدر نعمة الإيمان ويشكرون الله عليها فهو سبحانه ما أعطى إلا بحكمته ولا منع إلا بحكمته ولا أضل إلا بحكمته وإذا تأمل البصير أحوال العالم وما فيه من النقص: رآه عين الحكمة وما عمرت الدنيا والآخرة والجنة والنار إلا بحكمته وفي الحكمة ثلاثة أقوال للناس أحدها: أنها مطابقة علمه لمعلومه وإرادته ومشيئته لمراده هذا تفسير الجبرية وهو في الحقيقة نفي حكمته إذ مطابقة المعلوم والمراد: أعم من أن يكون حكمة أو خلافها فإن السفيه من العباد: يطابق علمه وإرادته لمعلومه ومراده مع كونه سفيها الثاني مذهب القدرية النفاة: أنها مصالح العباد ومنافعهم العائدة عليهم وهو إنكار لوصفه تعالى بالحكمة وردوها إلى مخلوق من مخلوقاته الثالث قول أهل الإثبات والسنة: أنها الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه بخلقه وأمره التي أمر لأجلها وقدر وخلق لأجلها وهي صفته القائمة به كسائر صفاته: من سمعه وبصره وقدرته وإرادته وعلمه وحياته وكلامه وللرد على طائفتي الجبرية والقدرية موضع غير هذا والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثالثة: أن تبلغ في استدلالك البصيرة وفي إرشادك
الحقيقة وفي إشارتك الغاية يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر وهذه هي الخصيصة التي(2/481)
اختص بها الصحابة عن سائر الأمة وهي أعلى درجات العلماء قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [ يوسف: 108 ] أي أنا وأتباعي على بصيرة وقيل: ومن اتبعني عطف على المرفوع بأدعو أي أنا أدعو إلى الله على بصيرة ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة وعلى القولين فالآية تدل أن أتباعه هم أهل البصائر الداعين إلى الله على بصيرة فمن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى وقوله: وفي إرشادك الحقيقة إما أن يريد: أنك إذا أرشدت غيرك تبلغ في إرشاده إلى الحقيقة أو تبلغ في إرشاد غيرك لك إلى الحقيقة ولا تقف دونها فعلى الأول: المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الثاني: إلى المفعول والمعنى: أنك تكون من أهل الوجود الذين إذا أشاروا لم يشيروا إلا إلى الغاية المطلوبة التي ليس وراءها مرمى والقوم يسمون أخبارهم عن المعارف وعن المطلوب إشارات لأن المعروف أجل من أن يفصح عنه بعبارة مطابقة وشأنه فوق ذلك فالكامل من إشارته إلى الغاية ولا يكون ذلك إلا لمن فني عن رسمه وهواه وحظه وبقي بربه ومراده الديني الأمري وكل أحد فاشارته بحسب معرفته وهمته ومعارف القوم وهممهم تؤخذ من إشاراتهم والله المستعان(2/482)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفراسة
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [ الحجر: 75 ] قال مجاهد رحمه الله: المتفرسين: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: للناظرين وقال قتادة: للمعتبرين وقال مقاتل: للمتفكرين(2/482)
ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم وما آل إليه أمرهم: أورثه فراسة وعبرة وفكرة وقال تعالى في حق المنافقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [ محمد: 30 ] فالأول: فراسة النظر والعين والثاني: فراسة الأذن والسمع وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط بل أخبر به خبرا مؤكدا بالقسم فقال: ولتعرفنهم في لحن القول وهو تعريض الخطاب وفحوى الكلام ومغزاه و اللحن ضربان: صواب وخطأ فلحن الصواب نوعان أحدهما: الفطنة ومنه الحديث: ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض والثاني: التعريض والإشارة وهو قريب من الكناية ومنه قول الشاعر:
وحديث ألذه وهو مما ... يشتهي السامعون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا
والثالث: فساد المنطق في الإعراب وحقيقته: تغيير الكلام عن وجهه: إما إلى خطإوإما إلى معنى خفي لم يوضع له اللفظ والمقصود: أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه: أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السيماء المرئية والفراسة تتعلق بالنوعين بالنظر والسماع وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بور الله ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [ الحجر: 75 ]
فصل و الفراسة ثلاثة أنواع: إيمانية وهي المتكلم فيها في هذه المنزلة(2/483)
وسببها: نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق به بين الحق والباطل والحالي والعاطل والصادق والكاذب وحقيقتها: أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة لكن الفريسة فعيلة بمعنى مفعولة وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة قال أبو سعيد الخراز: من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهو ولا غفلة بل حكم حق جرى على لسان عبده وقال الواسطي: الفراسة شعاشع أنوار لمعت في القلوب وتمكن معرفة جملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق إياها فيتكلم عن ضمير الخلق وقال الدراني: الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب وهي من مقامات الإيمان وسئل بعضهم عن الفراسة فقال: أرواح تتقلب في الملكوت فتشرف على معاني الغيوب فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان وقال عمرو بن نجيد: كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطىء ويقول: من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام بالمراقبه وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الحلال: لم تخطىء فراسته وقال أبو جعفر الحداد: الفراسة أول خاطر بلا معارض فإن عارضه معارض آخر من جنسه فهو خاطر وحديث نفس وقال أبو حفص النيسابوري: ليس لأحد أن يدعي الفراسة ولكن يتقي(2/484)
الفراسة من الغير لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ولم يقل: تفرسوا وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون وكان الجنيد يوما يتكلم على الناس فوقف عليه شاب نصراني متنكرا فقال: أيها الشيخ ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه إليه وقال: أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام ويقال في بعض الكتب القديمة: إن الصديق لا تخطىء فراسته وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف حيث قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اسْتَأْجِرْهُ} [ القصص: 26 ] وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما حيث استخلفه وفي رواية أخرى: وامرأة فرعون حين قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [ القصص: 9 ] وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء: أظنه كذا إلا كان كما قال ويكفي في فراسته: موافقته ربه في المواضع المعروفة ومر به سواد بن قارب ولم يكن يعرفه فقال لقد أخطأ ظني أو أن هذا كاهن أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية فلما جلس بين يديه قال له ذلك عمر فقال: سبحان الله يا أمير المؤمنين ما استقبلت أحدا من جلسائك(2/485)
بمثل ما استقبلتني به فقال له عمر رضي الله عنه: ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك ولكن أخبرني عما سألتك عنه فقال: صدقت يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهلية ثم ذكر القصة وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه صادق الفراسة وقال أنس ابن مالك رضي الله عنه: دخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه وكنت رأيت امرأة في الطريق تأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه: يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه فقلت: أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة وأصل هذا النوع من الفراسة: من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطىء قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [ الأنعام: 122 ] كان ميتا بالكفر والجهل فأحياه الله بالإيمان والعلم وجعل له بالقرآن والإيمان نورا يستضيء به في الناس على قصد السبيل ويمشي به في الظلم والله أعلم
فصل الفراسة الثانية: فراسة الرياضة والجوع والسهر والتخلي فإن
النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية وكثير من الجهال(2/486)
يغتر بها وللرهبان فيها وقائع معلومة وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم وللأطباء فراسة معروفة من حذقهم في صناعتهم ومن أحب الوقوف عليها فليطالع تاريخهم وأخبارهم وقريب من نصف الطب: فراسة صادقة يقترن بها تجربة والله سبحانه أعلم
فصل الفراسة الثالثة: الفراسة الخلقية وهي التي صنف فيها الأطباء
وغيرهم واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل وبكبره وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه: على سعة خلق صاحبه واحتماله وبسطته وبضيقه على ضيقه وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها وضعف حرارة قلبه وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة وهو الشكل على شجاعته وإقدامه وفطنته وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه ومعظم تعلق الفراسة بالعين فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه ثم باللسان فإنه رسوله وترجمانه وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة وبإفراطه في الجعودة على الشر وباعتداله على اعتدال صاحبه وأصل هذه الفراسة: أن اعتدال الخلقة والصورة: هو من اعتدال المزاج(2/487)
والروح وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال: يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال هذا إذا خليت النفس وطبيعتها ولكن صاحب الصورة والخلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره ولو أنه من الحيوان البهيم فيصير من أخبث الناس أخلاقا وأفعالا وتعود له تلك طباعا ويتعذر أو يتعسر عليه الانتقال عنها وكذلك صاحب الخلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقا وأفعالا شريفة تصير له كالطبيعة فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق
فليتأمل هذا الموضع ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيرا فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط أو لوجود مانع
وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء: بعينه وأذنه وقلبه فعينه للسيماء والعلامات وأذنه: للكلام وتصريحه وتعريضه ومنطوقه ومفهومه وفحواه وإشاراته ولحنه وإيمائه ونحو ذلك وقلبه للعبور: والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه فيعبر إلى ما وراء ظاهره كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد والاطلاع عليه: هل هو صحيح أو زغل وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل إلى باطن الروح والقلب فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد وكذلك نقد أهل الحديث فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب فيخرجه ناقدهم كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة(2/488)
وكذلك فراسة التمييز بين الصادق والكاذب في أقواله وأفعاله وأحواله وللفراسة سببان أحدهما: جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته والثاني: ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطىء للعبد فراسة وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر: كانت فراسته بين بين
وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة وله الوقائع المشهورة وكذلك الشافعي رحمة الله وقيل: إن له فيها تآليف ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وحدته في الأموال: وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له: قل إن شاء الله فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وسمعته يقول ذلك قال: فلما أكثروا علي قلت: لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر ولما طلب إلى الديار المصرية وأريد قتله بعد ما أنضجت له القدور وقلبت له الأمور: اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا: قد تواترت الكتب بأن(2/489)
القوم عاملون على قتلك فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدا قالوا: أفتحبس قال: نعم ويطول حبسي ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس سمعته يقول ذلك ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك وقالوا: الآن بلغ مراده منك فسجد لله شكرا وأطال فقيل له: ما سبب هذه السجدة فقال: هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره فقيل له: متى هذا فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه وقال مرة: يدخل علي أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورالا أذكرها لهم فقلت له أو غيري لو أخبرتهم فقال: أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة وقلت له يوما: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة أو قال: شهرا وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته والله أعلم
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله: الفراسة: استئناس حكم غيب
والاستئناس: استفعال من آنست كذا إذا رأيته فإن أدركت بهذا(2/490)
الاستئناس حكم غيب: كان فراسة وإن كان بالعين: كان رؤية وإن كان بغيرها من المدارك: فبحسبها قوله: من غير استدلال بشاهده هذا الاستدلال بالشاهد على الغائب: أمر مشترك بين البر والفاجر والمؤمن والكافر كالاستدلال بالبروق والرعود على الأمطار وكاستدلال رؤساء البحر بالكدر الذي يبدو لهم في جانب الأفق على ريح عاصف ونحو ذلك وكاستدلال الطبيب بالسحنة والتفسرة على حال المريض ويدق ذلك حتى يبلغ إلى حد يعجز عنه أكثر الأذهان وكما يستدل بسيرة الرجل وسيره على عاقبة أمره في الدنيا من خير أو شر فيطابق أو يكاد فهذا خارج عن الفراسة التي تتكلم فيها هذه الطائفة وهو نوع فراسة لكنها غير فراستهم وكذلك ما علم بالتجربة من مسائل الطب والصناعات والفلاحة وغيرها والله اعلم
فصل قال: وهي على ثلاث درجات الأولى: فراسة طارئة نادرة تسقط على
لسان وحشي في العمر مرة لحاجة سمع مريد صادق اليها لا يتوقف على مخرجها ولا يؤبه لصاحبها وهذا شىء لا يخلص من الكهانة وما ضاهاها لأنها لم تشر عن عين ولم تصدر عن علم ولم تسبق بوجود يريد بهذا النوع: فراسة تجري على ألسنة الغافلين الذين ليست لهم يقظة أرباب القلوب فلذلك قال: طارئة نادرة تسقط على لسان وحشي الذي لم يأنس بذكر الله ولا اطمأن اليه قلب صاحبه فيسقط على لسانه مكاشفة في العمر مرة وذلك نادر ورمية من غير رام وقوله: لحاجة مريد صادق(2/491)
يشير الى حكمة إجرائها على لسانه وهي حاجة المريد الصادق إليها فإذا سمعها على لسان غيره كان أشد تنبها له وكانت عنده أعظم موقعا وقوله: لا يوقف على مخرجها يعني لا يعلم الشخص الذي وصلت إليه واتصلت به: ما سبب مخرج ذلك الكلام وإنما سمعه مقتطعا مما قبله ومما هيجه ولا يؤبه لصاحبها لأنه ليس هناك قلت: وهذا من جنس الفأل وكان رسول يحب الفأل ويعجبه والطيرة من هذا ولكن المؤمن لا يتطير فإن التطير شرك ولا يصده ما سمع عن مقصده وحاجته بل يتوكل على الله ويثق به ويدفع شر التطير عنه بالتوكل وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: انه قال: "الطيرة شرك" وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل وهذه الزيادة وهي قوله: وما منا إلا يعني من يعتريه ولكن الله يذهبها بالتوكل مدرجة في الحديث من قول ابن مسعود وجاء ذلك مبينا ومن له يقظة يرى ويسمع من ذلك عجائب وهي من إلقاء الملك تارة على لسان الناطق وتارة من القاء الشيطان فالإلقاء الملكي: تبشير وتحذير وإنذار والإلقاء الشيطاني: تحزين وتخويف وشرك وصد عن المطالب وصاحب الهمة والعزيمة: لا يتقيد بذلك: ولا يصرف إليه همته وإذا سمع ما يسره استبشر وقوي رجاؤه وحسن ظنه وحمد الله وسأله إتمامه واستعان به على حصوله وإذا سمع ما يسوءه: استعاذ بالله ووثق به وتوكل عليه ولجأ إليه والتجأ إلى التوحيد وقال اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك(2/492)
ولا إله غيرك اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ومن جعل هذا نصب قلبه وعلق به همته: كان ضرره به أكثر من نفعه قوله: وهذا شيء لا يخلص من الكهانة يعني: أنه من جنس الكهانة وأحوال الكهان معلومة قديما وحديثا في إخبارهم عن نوع من المغيبات بواسطة إخوانهم من الشياطين الذين يلقون إليهم السمع ولم يزل هؤلاء في الوجود ويكثرون في الأزمنة والأمكنة التي يخفى فيها نور النبوة ولذلك كانوا أكثر ما كانوا في زمن الجاهلية وكل زمان جاهلية وبلد جاهلية وطائفة جاهلية فلهم نصيب منها بحسب اقتران الشياطين بهم وطاعتهم لهم وعبادتهم إياهم وقوله: وما ضاهأها أي وما شابهها من جنس الخط بالرمل وضرب الحصا والودع وزجر الطير الذي يسمونه السانح والبارح والقرعة الشركية لا الشرعية والاستقسام بالأزلام وغير ذلك مما تتعلق به النفوس الجاهلية المشركة التي عاقبة أمرها خسر وبوار وقوله: لأنها لم تشر عن عين أي عن عين الحقيقة التي لا يصدر عنها إلا حق يعني غير متصلة بالله عز وجل وقوله: ولم تصدر عن علم يعني أنها عن ظن وحسبان لا عن علم ويقين وصاحبها دائما في شك ليس على بصيرة من أمره وقوله: ولم تسبق بوجود أي لم يسقها وجود الحقيقة لصاحبها بل هو فارغ بل غير واجد بل فاقد من غير أهل الوجود والله أعلم(2/493)
فصل قال: الدرجة الثانية: فراسة تجنى من غرس الإيمان وتطلع من صحة
الحال وتلمع من نور الكشف هذا النوع من الفراسة: مختص بأهل الإيمان ولذلك قال: تجنى من غرس الإيمان وشبه الإيمان بالغرس لأنه يزداد وينمو ويزكو على السقي ويؤتي أكله كل حين بإذن ربه وأصله ثابت في الأرض وفروعه في السماء فمن غرس الإيمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية وسقى ذلك الغراس بماء الإخلاص والصدق والمتابعة: كان من بعض ثمره هذه الفراسة قوله: وتطلع من صحة الحال يعني: أن صدق الفراسة من صدق الحال فكلما كان الحال أصدق وأصح فالفراسة كذلك قوله: وتلمع من نور الكشف يعني أن نور الكشف من جملة ما يولد الفراسة بل أصلها نور الكشف وقوة الفراسة: بحسب قوة هذا النور وضعفه وقوته وضعفه بحسب قوة مادته وضعفها والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثالثة: فراسة سرية لم تجتلبها روية على لسان
مصطنع تصريحا أو رمزا يحتمل لفظ السرية وجهين: أحدهما: الشرف أي فراسة شريفة فإن الرجل السري هو الرجل الشريف وجمعه سراة ومنه في أحد التأويلين قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [ مريم: 24 ] أي سيدا مطاعا وهو المسيح وعلى هذا يكون سرية بوزن شريفة(2/494)
والثاني: أن يكون من السر أي فراسة متعلقة بالأسرار لا بالظواهر فتكون سرية بوزن شريبة ومكيثة قوله: لم تجتلبها روية أي لا تكون عن فكرة بل تهجم على القلب هجوما لا يعرف سببه قوله: على لسان مصطنع أي مختار مصطفى على غيره تصريحا أو رمزا يعني أن هذا المختار المصطفى يخبر بهذه الفراسة العالية عن أمور مغيبة تارة بالتصريح وتارة بالتلويح إما سترا لحاله وإما صيانة لما أخبر به عن الابتذال ووصوله إلى غير أهله وإما لغير ذلك من الأسباب والله سبحانه وتعالى أعلم(2/495)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التعظيم
وهذه المنزلة تابعة للمعرفة فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب وأعرف الناس به: أشدهم له تعظيما وإجلالا وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته ولا عرفه حق معرفته ولا وصفه حق صفته وأقوالهم تدور على هذا فقال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [ نوح: 13 ] قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته وقال الكلبي: لا تخافون لله عظمة قال البغوي: و الرجاء بمعنى المخوف و الوقار العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم وقال الحسن: لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة وقال ابن كيسان: لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا وروح العبادة: هو الإجلال والمحبة فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد والله سبحانه أعلم(2/495)
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله: التعظيم: معرفة العظمة مع التذلل
لها وهو على ثلاث درجات الأولى: تعظيم الأمر والنهي وهو أن لا يعارضا بترخص جاف ولا يعرضا لتشدد غال ولا يحملا على علة توهن الانقياد ههنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي أحدها: الترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال والثاني: الغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي فالأول: تفريط والثاني إفراط وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيهمضيع له هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد وقد نهى الله عن الغلو بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [ المائدة: 77 ] و الغلو نوعان نوع يخرجه عن كونه مطيعا كمن زاد في الصلاة ركعة أو صام الدهر مع أيام النهي أو رمي الجمرات بالصخرات الكبار التي يرمى بها في المنجنيق أو سعى بين الصفا والمروة عشرا أو نحو ذلك عمدا وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار كقيام الليل كله وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي والجور على النفوس في العبادات والأوراد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من(2/496)
الدلجة يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة فإن المسافر يستعين على قطع مسافة السفر بالسير فيها وقال: ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد رواهما البخاري وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: هلك المتنطعون قالها ثلاثا وهم المتعمقون المتشددون وفي صحيح البخاري عنه: عليكم من الأعمال ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا وفي السنن عنه أنه قال: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغضن إلى نفسك عبادة الله أو كما قال وقوله: ولا يحملا على علة توهن الانقياد يريد: أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بايقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه كما قيل:
أدرها فما التحريم فيها لذاتها ... ولكن لأسباب تضمنها السكر
إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى ... فسيان ماء في الزجاجة أو خمر
وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب خمر العنب معللا بالإسكار فله أن يشرب منه ما شاء ما لم يسكر ومن العلل التي توهن الانقياد: أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور وفي بعض الآثار القديمة: يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا ولكن قولوا: بم أمر ربنا(2/497)
وأيضا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادا للأمر وأقل درجاته: أن يضعف انقياده له وأيضا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلا وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله فقال: أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده وكل هذا من ترك تعظم الأمر والنهي وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا الله فكم عطلت لله من أمر وأباحت من نهى وحرمت من مباح ! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها
فصل قال: الدرجة الثانية: تعظيم الحكم: أن يبغي له عوج أو
يدافع بعلم أو يرضى بعوض الدرجة الأولى: تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي وهذه الدرجة تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري وهو الذي يخصه المصنف باسم الحكم وكما يجب على العبد أن يرعى حكم الله الديني بالتعظيم فكذلك يرعى حكمه الكوني به فذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء: أحدها: أن لا يبغي له عوج أي يطلب له عوج أو يرى فيه عوج بل يراه كله مستقيما لأنه صادر عن عين الحكمة فلا عوج فيه وهذا موضع أشكل على الناس جدا فقال نفاة القدر: ما في خلق الرحمن من تفاوت ولا عوج والكفر والمعاصي مشتملة على أعظم التفاوت والعوج فليست بخلقه ولا مشيئته ولا قدره(2/498)
وقالت: فرقة تقابلهم: بل هي من خلق الرحمن وقدره فلا عوج فيها وكل ما في الوجود مستقيم والطائفتان ضالتان منحرفتان عن الهدى وهذه الثانية أشد انحرافا لأنها جعلت الكفر والمعاصي طريقا مستقيما لا عوج فيه وعدم تفريق الطائفتين بين القضاء والمقضي والحكم والمحكوم به: هو الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه وقول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي فالقضاء فعله ومشيئته وما قام به والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه وهو المشتمل على الخير والشر والعوج والاستقامة فقضاؤه كله حق والمقضي: منه حق ومنه باطل وقضاؤه كله عدل والمقضي: منه عدل ومنه جور وقضاؤه كله مرضي والمقضي: منه مرضي ومنه مسخوط وقضاؤه كله مسالم والمقضي: منه ما يسالم ومنه ما يحارب وهذا أصل عظيم تجب مراعاته وهو موضع مزلة أقدام كما رأيت والمنحرف عنه: إما جاهل للحكمة أو القدرة أو للأمر والشرع ولابد وعلى هذا يحمل كلام صاحب المنازل رحمه الله: أن لا يبتغي للحكم عوج وأما قوله: أو يدفع بعلم فأشكل من الأول فإن العلم مقدم على القدر وحاكم عليه ولا يجوز دفع العلم بالحكم فأحسن ما يحمل عليه كلامه أن يقال: قضاء الله وقدره وحكمه الكوني لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع المدافعة بينهما لأن هذا مشيئته الكونية وهذا إرادته الدينية وإن كان المرادان قد يتدافعان ويتعارضان لكن من تعظيم كل منهما: أن لا يدافع بالآخر ولا يعارض فإنهما وصفان للرب تعالى وأوصافه لا يدافع بعضها ببعض وإن استعيذ ببعضها من بعض فالكل منه سبحانه وهو المعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعلم الخلق به: أعوذ برضاك(2/499)
من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعود بك منك فرضاه وإن أعاذ من سخطه فإنه لا يبطله ولا يدفعه وإنما يدفع تعلقه بالمستعيذ وتعلقه بأعدائه باق غير زائل فهكذا أمره وقدره سواء فإن أمره لا يبطل قدره ولا قدره يبطل أمره ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه وهو أيضا من قضائه فما دفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره فلم يدفع العلم الحكم بل المحكوم به والعلم والحكم دفعا المحكوم به الذي قدر دفعه وأمر به فتأمل هذا فإنه محض العبودية والمعرفة والإيمان بالقدر والاستسلام له والقيام بالأمر والتنفيذ له بالقدر فما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله ولا دفع مقدور الله بقدر الله وأمره وأما قوله: ولا يرضى بعوض أي إن صاحب مشهد الحكم قد وصل إلى حد لا يطلب معه عوضا ولا يكون ممن يعبد الله بالعوض فإنه يشاهد جريان حكم الله عليه وعدم تصرفه في نفسه وأن المتصرف فيه حقا هو مالكه الحق فهو الذي يقيمه ويقعده ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال وإنما يطلب العوض من غاب عن الحكم وذهل عنه وذلك مناف لتعظيمه فمن تعظيمه: أن لا يرضى العبد بعوض يطلبه بعمله لأن مشاهدة الحكم وتعظيمه يمنعه أن يرى لنفسه ما يعاوض عليه فهذا الذي يمكن حمل كلامه عليه من غير خروج عن حقيقة الأمر والله سبحانه أعلم
فصل قال: الدرجة الثالثة: تعظيم الحق سبحانه وهو أن لا يجعل دونه
سببا ولا يرى عليه حقا أو ينازع له اختيارا هذه الدرجة تتضمن تعظيم الحاكم سبحانه صاحب الخلق والأمر والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقضيه والأولى: تتضمن تعظيم أمره وذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء:(2/500)
أحداها: أن لاتجعل دونه سببا أي لاتجعل للوصلة إليه سببا غيره بل هو الذي يوصل عبده إليه فلا يوصل إلى الله إلا الله ولا يقرب إليه سواه ولا يدنى إليه غيره ولا يتوصل إلى رضاه إلا به فما دل على الله إلا الله ولا هدى إليه سواه ولا أدنى إليه غيره فإنه سبحانه هو الذي جعل السبب سببا فالسبب وسببيته وإيصاله: كله خلقه وفعله الثاني: أن لايرى عليه حقا أي لا ترى لأحد من الخلق لا لك ولا لغيرك حقا على الله بل الحق لله على خلقه وفي أثر إسرائيلي: أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك فأوحى الله إليه: يا داود أي حق لآبائك علي ألست أنا الذي هديتهم ومننت عليهم واصطفيتهم ولي الحق عليهم وأما حقوق العبيد على الله تعالى: من اثباته لمطيعهم وتوبته على تائبهم وإجابته لسائلهم: فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه لاأنها حقوق أحقوها هم عليه فالحق فى الحقيقة لله على عبده وحق العبد عليه هو مااقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه هذا قول أهل التوفيق والبصائر وهو وسط بين قولين منحرفين قد تقدم ذكرهما مرارا والله سبحانه أعلم وأما قوله: و لا ينازع له اختيارا أى إذا رأيت الله عز وجل قد اختار لك أو لغيرك شيئا إما بأمره ودينه وإما بقضائه وقدره فلا تنازع اختياره بل ارض باختيار ما اختاره لك فإن ذلك من تعظيمه سبحانه ولا يرد عليه قدره عليه من المعاصي فإنه سبحانه وإن قدرها لكنه لم يخترها له فمنازعتها غير اختياره من عبده وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه والله أعلم(2/501)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإلهام والإفهام والوحى
والتحديث والرؤيا الصادقة وقد تقدمت في أول الكتاب عند الكلام على مراتب الهداية وذكرنا كلام صاحب المنازل هناك(2/502)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة السكينة
هذه المنزلة من منازل المواهب لا من منازل المكاسب وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع:
الأولى: قوله تعالى: وقال لهم نبيهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [ البقرة: 248 ]
الثاني قوله تعالى {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [ التوبة: 26 ]
الثالث: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [ التوبة: 40 ]
الرابع: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [ الفتح: 4 ]
الخامس: قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [ الفتح: 18 ]
السادس: قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [ الفتح: 26] الآية وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة(2/502)
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له فى مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة قال: فلما اشتد علي الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرأوا آيات السكينة قال: ثم أقلع عني ذلك الحال وجلست وما بي قلبة وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه فرأيت لها تأثيراعظيمافي سكونه وطمأنينته وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوففلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رءوسهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها وهو عمر حتى ثبته الله بالصديق رضي الله عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: رأيت النبي(2/503)
ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلدة بطنه وهو يرتجز بكلمة عبدالله بن رواحة رضي الله عنه:
لاهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: إني باعث نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنا أسدده لكل جميل وأهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه
فصل قال صاحب المنازل:
السكينة: اسم لثلاثة أشياء أولها: سكينة بني إسرائيل التي أعطوها في التابوت قال أهل التفسير: هي ريح هفافة وذكروا صفتها قلت: اختلفوا: هل هي عين قائمة بنفسها أو معنى على قولين: أحدهما: أنها عين ثم اختلف أصحاب هذا القول في صفتها فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنها ريح هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان ويروى عن مجاهد: إنها صورة هرة لها جناحان وعينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد فإذا سمعوا صوتها أيقنوا بالنصر وعن ابن عباس: هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء(2/504)
وعن وهب بن منبه: هي روح من روح الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء أخبرتهم ببيان ما يريدون والثانى: انها معنى ويكون معنى قوله: وسكينة من ربكم أي ومجيئه إليكم: سكينة لكم وطمأنينة وعلى الأول: يكون المعنى: إن السكينة في نفس التابوت ويؤيده عطف قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [ البقرة: 248 ] قال عطاء بن أبي رباح: فيه سكينة هي ما تعرفون من الآيات فتسكنون إليها وقال قتادة والكلبي: هي من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا
فصل قال: وفيها ثلاثة أشياء: للأنبياء معجزة ولملوكهم كرامة وهي
آية النصرة تخلع قلوب الأعداء بصوتها رعبا إذا التقى الصفان للقتال وكرامات الأولياء: هي من معجزات الأنبياء لأنهم إنما نالوها على أيديهم وبسبب أتباعهم فهي لهم كرامات وللأنبياء دلالات فكرامات الأولياء: لا تعارض معجزات الأنبياء حتى يطلب الفرقان بينهما لأنها من أدلتهم وشواهد صدقهم
نعم: الفرقان بين ما للأنبياء وما للأولياء من وجوه كثيرة جدا ليس هذا موضع ذكرها وغير هذا الكتاب أليق بها
فصل قال: السكينة الثانية: هي التي تنطق على لسان المحدثين ليست هي
شيئا يملك إنما هي شيء من لطائف صنع الحق تلقى علي لسان المحدث الحكمة كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء وتنطق بنكت الحقائق مع ترويح الأسرار وكشف الشبه(2/505)
السكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها وسكنت إليها الجوارح وخشعت واكتسبت الوقار وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش واللغو والهجر وكل باطل قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه وكثيرا ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن عن فكرة منه ولا روية ولا هبة ويستغربه هو من نفسه كما يستغرب السامع له وربما لا يعلم بعد انقضائه بما صدر منه وأكثر ما يكون: هذا عند الحاجة وصدق الرغبة من السائل والمجالس وصدق الرغبة منه: هو إلى الله والإسراع بقلبه إلى بين يديه وحضرته مع تجرده من الأهواء وتجريده النصيحة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين وإزالة نفسه من البين
ومن جرب هذا عرف قدر منفعته وعظمها وساء ظنه بما يحسن به الغافلون ظنونهم من كثير من كلام الناس قوله: وليست شيئا يملك
يعني هي موهبة من الله تعالى ليست بسببية ولا كسبية وليست كالسكينة التي كانت في التابوت تنقل معهم كيف شاءوا وقوله: تلقى على لسان المحدث الحكمة أي تجرى الصواب على لسانه وقوله كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء عليهم السلام يعني: أنها بواسطة الملائكة بحيث تلقي في قلوب أربابها الحكمة عنهم والطمأنينة والصواب كما أن الأنبياء تتلقى الوحي عن الله بواسطة الملائكة ولكن ما للأنبياء مختص بهم ولا يشاركهم فيه غيرهم وهو نوع آخر وقوله: تنطق المحدثين بنكت الحقائق مع ترويح الأسرار وكشف الشبه قد تقدم في أول الكتاب: ذكر مرتبة المحدث وأن هذا التحديث من(2/506)
مراتب الهداية العشرة وأن المحدث هو الذي يحدث في سره بالشيء فيكون كما يحدث به والحقائقهي حقائق الإيمان والسلوك و نكتها عيونها ومواضع الإشارات منها ولا ريب أن تلك توجب للأسرار روحا تحيا به وتنعم وتكشف عنها شبهات لا يكشفها المتكلمون ولا الأصوليون فتسكن الأرواح والقلوب إليها ولهذا سميت سكينة ومن لم يفز من الله بذلك لم تنكشف عنه شبهاته فإنها لا يكشفها إلا سكينة الإيمان واليقين
فصل قال: السكينة الثالثة: هي التي نزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقلوب
المؤمنين وهي شيء يجمع قوة وروحا يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين والضجر ويسكن إليه العصي والجرئ والأبي هذا من عيون كلامه وغرره الذي تثني عليه الخناصر وتعقد عليه القلوب وتظفر به عن ذوق تام لا عن مجرد فذكر: أن هذا الشيء الذي أنزله الله في قلب رسوله وقلوب عباده المؤمنين يشتمل على ثلاثة معان: النور والقوة والروح وذكر له ثلاث ثمرات: سكون الخائف إليه وتسلي الحزين والضجر به واستكانة صاحب المعصية والجرأة على المخالفة والإباء إليه فبالروح الذي فيها: حياة القلب وبالنور الذي فيها: استنارته وضياؤه وإشراقه وبالقوة: ثباته وعزمه ونشاطه فالنور: يكشف له عن دلائل الإيمان وحقائق اليقين ويميز له بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشد والشك واليقين والحياة: توجب كمال يقظته وفطنته وحضوره وانتباهه من سنة الغفلة وتأهبه للقائه والقوة: توجب له الصدق وصحة المعرفة وقهر داعي الغي والعنت(2/507)
وضبط النفس عن جزعها وهلعها واسترسالها في النقائص والعيوب ولذلك ازداد بالسكينة إيمانا مع إيمانه والإيمان: يثمر له النور والحياة والقوة وهذه الثلاثة تثمره أيضا وتوجب زيادته فهو محفوف بها قبلها وبعدها فبالنور: يكشف دلائل الإيمان وبالحياة: ينتبه من سنة الغفلة ويصير يقظانا وبالقوة: يقهر الهوى والنفس والشيطان كما قيل:
وتلك مواهب الرحمن ليست ... تحصل باجتهاد أو بكسب
ولكن لا غني عن بذل جهد ... بإخلاص وجد لا بلعب
وفضل الله مبذول ولكن ... بحكمته وعن ذا النص ينبى
فما من حكمة الرحمن وضع ال ... كواكب بين أحجار وترب
فشكرا للذي أعطاك منه ... فلو قبل المحل لزاد ربي
فصل فإذا حصلت هذه الثلاثة بالسكينة وهي النور والحياة والروح سكن
إليها العصي وهو الذي سكونه إلى المعصية والمخالفة لعدم سكينة الإيمان في قلبه صار سكونه إليها عوض سكونه إلى الشهوات والمخالفات فإنه قد وجد فيها مطلوبه وهو اللذة التي كان يطلبها من المعصية ولم يكن له ما يعيضه عنها فإذا نزلت عليه السكينة اعتاض بذلتها وروحها ونعيمها عن لذة المعصية فاستراحت بها نفسه وهاج إليها قلبه ووجد فيها من الروح والراحة واللذة ما لا نسبة بينه وبين اللذة الجسمانية النفسانية فصارت لذته روحانية قلبية بعد أن كانت جسمانية فانسلب منها وحبس عنها وخلصته فإذا تألقت بروقها قال:
تألق البرق نجديا فقلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول
وإذا طرقته طيوفها الخيالية في ظلام ليل الشهوات نادى لسان حاله وتمثل بمثل قوله:(2/508)
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإذا ودعته وعزمت على الرحيل ووعدته بالموافاة بقول الآخر:
قالت وقد عزمت على ترحالها
ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي
فإذا باشرت هذه السكينة قلبه سكنت خوفه وهو قوله: يسكن إليها الخائف وسلت حزنه فإنها لا حزن معها فهي سلوة المحزون ومذهبة الهموم والغموم وكذلك تذهب عنه وخم ضجره وتبعت نشوة العزم وحالت بينه وبين الجرأة على مخالفة الأمر وبين إباء النفس والانقياد إليه والله أعلم
فصل قال: وأما سكينة الوقار التي نزلها نعتا لأربابها: فإنها ضياء
تلك السكينة الثالثة التي ذكرناها وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة: رعاية وتعظيما وحضورا
سكينة الوقار هي نوع من السكينة ولكن لما كانت موجبة للوقار سماها الشيخ رحمه الله سكينة الوقار وقوله: نزلها نعتا يعني نزلها الله تعالى في قلوب أهلها ونعتهم بها وقوله: فإنها ضياء تلك السكينة الثالثة التي ذكرناها أي نتيجتها وثمرتها وعنها نشأت كما أن الضياء عن الشمس حصل ولما كان النور والحياة والقوة التي ذكرناها مما يثمر الوقار: جعل سكينة الوقار كالضياء لتلك السكينة إذ هو علامة حصولها ودليل عليها كدلالة الضياء على حامله قوله: الدرجة الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة يريد به الوقار والخشوع الذي يحصل لصاحب مقام الإحسان
ولما كان الإيمان موجبا للخشوع وداعيا إليه قال الله تعالىطرقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإذا ودعته وعزمت على الرحيل ووعدته بالموافاة بقول الآخر:
قالت وقد عزمت على ترحالها
ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي
فإذا باشرت هذه السكينة قلبه سكنت خوفه وهو قوله: يسكن إليها الخائف وسلت حزنه فإنها لا حزن معها فهي سلوة المحزون ومذهبة الهموم والغموم وكذلك تذهب عنه وخم ضجره وتبعت نشوة العزم وحالت بينه وبين الجرأة على مخالفة الأمر وبين إباء النفس والانقياد إليه والله أعلم
فصل قال: وأما سكينة الوقار التي نزلها نعتا لأربابها: فإنها ضياء
تلك السكينة الثالثة التي ذكرناها وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة: رعاية وتعظيما وحضورا
سكينة الوقار هي نوع من السكينة ولكن لما كانت موجبة للوقار سماها الشيخ رحمه الله سكينة الوقار وقوله: نزلها نعتا يعني نزلها الله تعالى في قلوب أهلها ونعتهم بها وقوله: فإنها ضياء تلك السكينة الثالثة التي ذكرناها أي نتيجتها وثمرتها وعنها نشأت كما أن الضياء عن الشمس حصل ولما كان النور والحياة والقوة التي ذكرناها مما يثمر الوقار: جعل سكينة الوقار كالضياء لتلك السكينة إذ هو علامة حصولها ودليل عليها كدلالة الضياء على حامله قوله: الدرجة الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة يريد به الوقار والخشوع الذي يحصل لصاحب مقام الإحسان
ولما كان الإيمان موجبا للخشوع وداعيا إليه قال الله تعالى(2/509)
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ} [ الحديد: 16 ] دعاهم من مقام الإيمان إلى مقام الإحسان يعني: أما آن لهم أن يصلوا إلى الإحسان بالإيمان وتحقيق ذلك بخشوعهم لذكره الذي أنزله إليهم قوله: رعاية وتعظيما وحضورا هذه ثلاثة أمور تحقق الخشوع في الخدمة وهي رعاية حقوقها الظاهرة والباطنة فليس يضيعها خشوع ولا وقار الثاني: تعظيم الخدمة وإجلالها وذلك تبع لتعظيم المعبود وإجلاله ووقاره فعلى قدر تعظيمه في قلب العبد وإجلاله ووقاره: يكون تعظيمه لخدمته وإجلاله لها ورعايته لها والثالث: الحضور وهو إحضار القلب فيها مشاهدة المعبود كأنه يراه فهذه الثلاثة تثمر له سكينة الوقار والله سبحانه أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: السكينة عند المعاملة بمحاسبة النفوس
وملاطفة الخلق ومراقبة الحق هذه الدرجة هي التي يحوم عليها أهل التصوف والعلم الذي يشمرون إليه وهي سكينة للمعاملة التي بينهم وبين الله وبينهم وبين خلقه وتحصل بثلاثة أشياء أحدها: محاسبة النفس حتى تعرف ما لها وما عليها ولا يدعها تسترسل في الحقوق استرسالا فيضيعها ويهملها وأيضا فإن زكاتها وطهارتها موقوف على محاسبتها فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها قال الحسن رضي الله عنه: إن المؤمن والله لا تراه إلا قائما على نفسه: ما أردت بكلمة كذا ما أردت بأكلة ما أردت بمدخل كذا ومخرج كذا ما أردت بهذا مالي ولهذا والله لا أعود إلى هذا ونحو هذا من الكلام(2/510)
فبمحاسبتها يطلع على عيوبها ونقائصها فيمكنه السعي في إصلاحها الثاني: ملاطفة الخلق وهي معاملتهم بما يحب أن يعاملوه به من اللطف ولا يعاملهم بالعنف والشدة والغلظة فإن ذلك ينفرهم عنه ويغريهم به ويفسد عليه قلبه وحاله مع الله ووقته فليس للقلب أنفع من معاملة الناس باللطف فإن معاملة الناس بذلك: إما أجنبي فتكسب مودته ومحبته وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته وإما عدو ومبغض فتطفىء بلطفك جمرته وتستكفى شره ويكون احتمالك لمضض لطفك به دون احتمالك لضرر ما ينالك من الغلظة عليه والعنف به الثالث: مراقبة الحق سبحانه وهي الموجبة لكل صلاح وخير عاجل وآجل ولا تصح الدرجتان الأولتان إلا بهذه وهي المقصود لذاته وما قبله وسيلة إليه وعون عليه فمراقبة الحق سبحانه وتعالى: توجب إصلاح النفس واللطف بالخلق
فصل قال: الدرجة الثالثة: السكينة التي تثبت الرضى بالقسم وتمنع من
الشطح الفاحش وتقف صاحبها على حد الرتبة والسكينة لا تنزل إلا في قلب نبي أو ولي هذه الدرجة الثالثة: كأنها عند الشيخ لأهل الصحو بعد السكر ولمن شام بوارق الحقيقة فقوله: تثبت الرضى بالقسم أي توجب لصاحبها أن يرضى بالمقسوم ولا تتطلع نفسه إلى غيره وتمنع من الشطح الفاحش يعني مثل ما نقل عن أبي يزيد ونحوه بخلاف الجنيد وسهل وأمثالهما فإنهم لما كانت لهم هذه السكينة لم تصدر منهم الشطحات ولا ريب أن الشطح سببه عدم السكينة فإنها إذا استقرت في القلب منعته من الشطح وأسبابه(2/511)
قوله: وتوقف صاحبها على حد الرتبة أي توجب لصاحبها الوقوف عند حده من رتبة العبودية فلا يتعدى مرتبة العبودية وحدها قوله: والسكينة لا تنزل إلا على قلب نبي أو ولي وذلك لأنها من أعظم مواهب الحق سبحانه ومنحه ومن أجل عطاياه ولهذا لم يجعلها في القرآن إلا لرسوله وللمؤمنين كما تقدم فمن أعطيها فقد خلعت عليه خلع الولاية وأعطى منشورها والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله(2/512)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الطمأنينة
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [ الرعد: 28 ] وقال تعالى: 0 {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [ الفجر: 27-30 ] الطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه ومنه الأثر المعروف: الصدق طمأنينة والكذب ريبة أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع ويجد عنده سكونا إليه والكذب يوجب له اضطرابا وارتيابا ومنه قوله: البر ما اطمأن إليه القلب أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه وفي ذكر الله ها هنا قولان: أحدهما: أنه ذكر العبد ربه فإنه يطمئن إليه قلبه ويسكن فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه فمنهم من قال: هذا في الحلف واليمين إذا حلف المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه واطمأنت ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما(2/512)
ومنهم من قال: بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه يسكن إليه قلبه ويطمئن والقول الثاني: أن ذكر الله ههنا القرآن وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به طمأنينة قلوب المؤمنين فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه واضطرابه وقلقه من شكه والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به وهذا القول هو المختار وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [ الزخرف: 36 ] والصحيح: أن ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه من أعرض عنه: قيض له شيطانا يضله ويصده عن السبيل وهو يحسب أنه على هدى وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [ طه: 124 ]
والصحيح: أنه ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه ولهذا يقول المعرض عنه: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} قال: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [ طه: 125126 ]
وأما تأويل من تأوله على الحلف: ففي غاية البعد عن المقصود فإن ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون فيه ولو حلف وجعل الله سبحانه الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم وجعل الغبطة(2/513)
والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة فطوبى لهم وحسن مآب وفي قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [ الفجر: 27-28 ] دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة فهناك ترجع إليه وتدخل في عباده وتدخل جنته وكان من دعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك
فصل قال صاحب المنازل: الطمأنينة: سكون يقويه أمن صحيح شبيه
بالعيان وبينها وبين السكينة فرقان: أحدهما: أن السكينة صوله تورث خمود الهيبة أحيانا و الطمأنينة سكون أمن في استراحة أنس والثاني: أن السكينة تكون نعتا وتكون حينا بعد حين و الطمأنينة لا تفارق صاحبها الطمأنينة موجب السكينة وأثر من آثارها وكأنها نهاية السكينة فقوله: سكون يقويه أمن أي سكون القلب مع قوة الأمن الصحيح الذي لا يكون أمن غرور فإن القلب قد يسكن إلى أمن الغرور ولكن لا يطمئن به لمفارقة ذلك السكون له و الطمأنينة لا تفارقه فإنها مأخوذة من الإقامة يقال: اطمأن بالمكان والمنزل: إذا أقام به
وسبب صحة هذا الأمن المقوى للسكون: شبهه بالعيان بحيث لا يبقي معه شيء من مجوزات الظنون والأوهام بل كأن صاحبه يعاين ما يطمئن به فيأمن به اضطراب قلبه وقلقه وارتيابه وأما الفرقان اللذان ذكرهما بينها وبين السكينة فحاصل الفرق الأول: أن السكينة تصول على الهيبة الحاصلة في القلب فتخمدها في بعض الأحيان فيسكن القلب من انزعاج الهيبة بعض السكون وذلك في بعض الأوقات(2/514)
فليس حكما دائما مستمرا وهذا يكون لأهل الطمأنينة دائما ويصحبه الأمن والراحة بوجود الأنس فإن الاستراحة في السكينة قد تكون من الخوف والهيبة فقط والاستراحة في منزل الطمأنينة تكون مع زيادة أنس وذلك فوق محرد الأمن وقدر زائد عليه وحاصل الفرق الثاني: أن الطمأنينة ملكة ومقام لا يفارق و السكينة تنقسم إلى سكينة هي مقام ونعت لا يزول وإلى سكينة تكون وقتا دون وقت هذا حاصل كلامه والذي يظهر لي في الفرق بينهما أمران سوى ما ذكر:
أحدهما: أن ظفره وفوزه بمطلوبه الذي حصل له السكينة بمنزلة من واجهه عدو يريد هلاكه فهرب منه عدوه فسكن روعه والطمأنينة بمنزلة حصن رآه مفتوحا فدخله وأمن فيه وتقوى بصاحبه وعدته فللقلب ثلاثة أحوال أحدها: الخوف والاضطراب والقلق من الوارد الذي يزعجه ويقلقه
الثاني: زوال ذلك الوارد الذي يزعجه ويقلقه عنه وعدمه الثالث: ظفره وفوزه بمطلوبه الذي كان ذلك الوارد حائلا بينه وبينه وكل منهما يستلزم الآخر ويقارنه فالطمأنينة تستلزم السكينة ولا تفارقها وكذلك بالعكس لكن استلزام الطمأنينة للسكينة أقوى من استلزام السكينة للطمأنينة الثاني: أن الطمأنينة أعم فإنها تكون في العلم والخبر به واليقين والظفر بالمعلوم ولهذا اطمأنت القلوب بالقرآن لما حصل لها الإيمان به ومعرفته والهداية به في ظلم الآراء والمذاهب واكتفت به منها وحكمته عليها وعزلتها وجعلت له الولاية بأسرها كما جعلها الله فبه خاصمت وإليه حاكمت وبه صالت وبه دفعت الشبه وأما السكينة: فإنها ثبات القلب عند هجوم المخاوف عليه وسكونه(2/515)
وزوال قلقه واضطرابه كما يحصل لحزب الله عند مقابلة العدو وصولته والله سبحانه أعلم
فصل قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: طمأنينة القلب بذكر
الله وهي طمأنينة الخائف إلى الرجاء والضجر إلى الحكم والمبتلى إلى المثوبة قد تقدم أن الطمأنينة بذكر الله بكلامه وكتابه ولا ريب أن الذي ذكره في هذه الدرجة: هو من جملة الطمأنينة بذكره وهي أهم من ذلك فذكر طمأنينة الخائف إلى الرجاء فإن الخائف إذا طال عليه الخوف واشتد به وأراد الله عز وجل أن يريحه ويحمل عنه: أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمأن به وسكن لهيب خوفه وأما طمأنينة الضجر إلى الحكم فالمراد بها: أن من أدركه الضجر من قوة التكاليف وأعباء الأمر وأثقاله ولا سيما من أقيم مقام التبليغ عن الله ومجاهدة أعداء الله وقطاع الطريق إليه فإن ما يحمله ويتحمله فوق ما يحمله الناس ويتحملونه فلابد أن يدركه الضجر ويضعف صبره فإذا أراد الله أن يريحه ويحمل عنه: أنزل عليه سكينته فاطمأن إلى حكمه الديني وحكمه القدري ولا طمأنينة له بدون مشاهدة الحكمين وبحسب مشاهدته لهما تكون طمأنينته فإنه إذا اطمأن إلى حكمه الديني علم أنه دينه الحق وهو صراطه المستقيم وهو ناصره وناصر أهله وكافيهم ووليهم وإذا اطمأن إلى حكمه الكوني: علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأنه ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف اليقين والإيمان فإن المحذور والمخوف: إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه وإن قدر فلا سبيل إلى صرفه بعد أن أبرم تقديره فلا جزع حينئذ لا مما قدر ولا مما لم يقدر نعم إن كان له في هذه النازلة حيلة فلا ينبغي أن يضجر عنها وإن لم يكن(2/516)
فيها حيلة فلا ينبغي أن يضجر منها فهذه طمأنينة الضجر إلى الحكم وفي مثل هذا قال القائل:
ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر
وتحققي أن المقدر كائن ... يجري عليك حذرت أم لم تحذري
وأما طمأنينة المبتلى إلى المثوبة فلا ريب أن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه واطمأن بمشاهدة العوض وإنما يشتد به البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب وقد تقوى ملاحظة العوض حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمة ولا تستبعد هذا فكثير من العقلاء إذا تحقق نفع الدواء الكريه فإنه يكاد يلتذ به وملاحظته لنفعه تغيبه عن تألمه بمذاقه أو تخففه عنه والعمل المعول عليه: إنما هو على البصائر والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: طمأنينة الروح في القصد إلى الكشف وفي
الشوق إلى العدة وفي التفرقة إلى الجمع طمأنينة الروح أن تطمئن في حال قصدها ولا تلتفت إلى ما وراءها والمراد بالكشف: كشف الحقيقة لا الكشف الجزئي السفلي وهو ثلاث درجات: كشف عن الطريق الموصل إلى المطلوب وهو الكشف عن حقائق الإيمان وشرائع الإسلام وكشف عن المطلوب المقصود بالسير: وهو معرفة الأسماء والصفات ونوعي التوحيد وتفاصيله ومراعاة ذلك حق رعايته وليس وراء ذلك إلا الدعاوى والشطح والغرور وقوله: وفي الشوق إلى العدة(2/517)
يعني أن الروح تظهر في اشتياقها إلى ما وعدت به وشوقت إليه فطمأنينتها بتلك العدة: تسكن عنها لهيب اشتياقها وهذا شأن كل مشتاق إلى محبوب وعد بحصوله إنما يحصل لروحه الطمأنينة بسكونها إلى وعد اللقاء وعلمها بحصول الموعود به قوله وفي التفرقة إلى الجمع أي وتطمئن الروح في حال تفرقتها إلى ما اعتادته من الجمع بأن توافيها روحه فتسكن إليه وتطمئن به كما يطمئن الجائع الشديد الجوع إلى ما عنده من الطعام ويسكن إليه قلبه وهذا إنما يكون لمن أشرف على الجمع من وراء حجاب رقيق وشام برقه فاطمأن بحصوله وأما من بينه وبينه الحجب الكثيفة: فلا يطمئن به
فصل قال: الدرجة الثالثة: طمأنينة شهود الحضرة إلى اللطف وطمأنينة
الجمع إلى البقاء وطمأنينة المقام إلى نور الأزل هذه الدرجة الثالثة تتعلق بالفناء والبقاء فالواصل إلى شهود الحضرة: مطمئن إلى لطف الله و حضرة الجمع يريدون بها الشهود الذاتي فإن الشهود عندهم مراتب بحسب تعلقه فشهود الأفعال: أول مراتب الشهود ثم فوقه: شهود الأسماء والصفات ثم فوقه: شهود الذات الجامعة إلى الأفعال والأسماء والصفات والتجلي عند القوم: بحسب هذه الشهود الثلاثة فأصحاب تجلي الأفعال: مشهدهم توحيد الربوبية وأصحاب تجلي الأسماء والصفات: مشهدهم توحيد الإلهية: وأصحاب تجلي الذات: يغنيهم به عنهم وقد يعرض لبعضهم بحسب قوة الوارد وضعف المحل عجز عن القيام والحركة فربما عطل بعض الفروض وهذا له حكم أمثاله من أهل العجز والتفريط والكاملون منهم قد يفترون في تلك الحال عن الأعمال الشاقة ويقتصرون على الفرائض وسننها وحقوقها ولا يقعد بهم ذلك الشهود والتجلي عنها ولا يؤثرون(2/518)
عليه شيئا من النوافل والحركات التي لم تعرض عليهم ألبتة وذلك في طريقهم رجوع وانقطاع وأكمل من هؤلاء: من يصحبه ذلك في حال حركاته ونوافله فلا يعطل ذرة من أوراده والله سبحانه قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان وفي كل شيء له آية وصاحب هذا المقام آية من آيات الله لأولي الألباب والبصائر
والمقصود: أنه لولا طمأنينته إلى لطف الله لمحقه شهود الحضرة وأفناه جملة فقد خر موسى صعقا لما تجلى ربه للجبل وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه هذا ولا يتوهم متوهم أن الحاصل في الدنيا للبشر كذلك ولا قريب منه أبدا وإنما هي المعارف واستيلاء مقام الإحسان على القلب فقط وإياك وترهات القوم وخيالاتهم ورعوناتهم وإن سموك محجوبا فقل: اللهم زدني من هذا الحجاب الذي ما وراءه إلا الخيالات والترهات والشطحات فكليم الرحمن وحده مع هذا لم تتجل الذات له وأراه ربه تعالى أنه لا يثبت لتجلي ذاته لما أشهده من حال الجبل وخر الكليم صعقا مغشيا عليه لما رأى ما رأى من حال الجبل عند تجلي ربه له ولم يكن تجليا مطلقا قال الضحاك: أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور وقال عبدالله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار: ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سمع الخياط حتى صار دكا وقال السدي: ما تجلى إلا قدر الخنصر و في مستدرك الحاكم من حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: هكذا ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وإسناده على شرط مسلم ولما حدث به حميد عن ثابت استعظمه بعض أصحابه وقال: تحدث بهذا فضرب بيده في(2/519)
صدره وقال: يحدث به ثابت عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنكره أنت ولا أحدث به فإذا شهد لك المخدوعون بأنك محجوب عن ترهاتهم وخيالاتهم فتلك الشهادة لك بالاستقامة فلا تستوحش منها وبالله التوفيق وهو المستعان
فصل وأما طمأنينة الجمع إلى البقاء فمشهد شريف فاضل وهو مشهد الكمل
فإن حضرة الجمع تعفي الآثار وتمحو الأغيار وتحول بين الشاهد وبين رؤية القلب للخلق فيرى الحق سبحانه وحده قائما بذاته ويرى كل شيء قائم به متوحدا في كثرة أسمائه وأفعاله وصفاته ولا يرى معه غيره ولا يشهده عكس حال من يشهد غيره ولا يشهده وليس الشأن في هذا الشهود فإن صاحبه في مقام الفناء فإن لم ينتقل منه إلى مقام البقاء وإلا انقطع انقطاعا كليا ففي هذا المقام: إن لم يطمئن إلى حصول البقاء وإلا عطل الأمر وخلع ربقة العبودية من عنقه فإذا اطمأن إلى البقاء طمأنينة من يعلم أنه لا بد له منه وإن لم يصحبه وإلا فسد وهلك كان هذا من طمأنينة الجمع إلى البقاء والله أعلم
فصل وأما طمأنينة المقام إلى نور الأزل فيريد به: طمأنينة مقامه إلى
السابقة التي سبق بها في الأزل فلا تتغير ولا تتبدل ولهذا قال: طمأنينة المقام ولم يقل: طمأنينة الحال فإن الحال يزول ويحول ولو لم يحل لما سمى حالا بخلاف المقام فإذا اطمأن إلى السابقة والحسنى التي سبقت له من الله في الأزل كان هذا طمأنينة المقام إلى الأزل وهذا هو شهود أهل البقاء بعد الفناء والله أعلم(2/520)
المجلد الثالث
فصل منازل إياك نعبد وإياك نستعين (تابع)
باب التوحيد
...
فصل قال صاحب المنازل باب التوحيد
قال الله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} التوحيد تنزيه الله عز وجل عن الحدث وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون بما أشاروا به في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب بالعلل قلت التوحيد أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال هود لقومه {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال صالح لقومه {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال شعيب لقومه {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل ولهذا قال النبي صلى اله عليه وسلم لرسوله معاذ ابن جبل رضي الله عنه وقد بعثه إلى اليمن " إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وحده فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" وذكر الحديث وقال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولهذا كان الصحيح أن أول(3/443)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الوجد
ثبت.في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال:" ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" وقد استشهد صاحب المنازل بقوله تعالى في أهل الكهف {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} وهذا من أحسن الاستدلال والاستشهاد فإن هؤلاء كانوا بين قومهم الكفار في خدمة ملكهم الكافر فما هو إلا أن وجدوا حقيقة الإيمان والتوفيق وذاقوا حلاوته وباشر قلوبهم فقاموا من بين قومهم وقالوا ربنا رب السموات والأرض الآية والربط على قلوبهم يتضمن الشد عليها بالصبر والتثبيت وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش وفروا بدينهم إلى الكهف.(3/67)
فصل في منزلةالهيمان
وقد يعرض للسالك عند ورود بعض المعاني.والواردات العجيبة على قلبه فرط تعجب واستحسان واستلذاذ يزيل عنه تماسكه فيورثه ذلك الهيمان وليس ذلك من مقامات السير ولا منازل الطريق المقصودة بالنزول فيها للمسافرين خلافا لصاحب المنازل حيث عد ذلك من أعلى المنازل وغاياتها وعبر عنه بمنزلة الهيمان ولهذا ليس له ذكر في القرآن ولا في السنة ولا في لسان سلف القوم وقد تكلف له صاحب المنازل الاستشهاد بقوله تعالى {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} وما أبعد الآية من استشهاده وكأنه ظن أن موسى ذهب عن تماسكه لما ورد عليه في حالة الخطاب والتكليم الإلهي فأورثه ذلك هيمانا صعق منه وليس كما ظنه وإنما صعق موسى عند تجلي الرب تعالى للجبل واضمحلاله وتدكدكه من تجلي الرب تعالى فالاستشهاد بالآية في منزلة الفناء التي تضمحل فيها الرسوم أنسب وأظهر لأن تدكدك الجبل هو اضمحلال رسمه عند ورود نور التجلي عليه والصعق فناء في هذه الحال لهذا الوارد المفني لبشرية موسى عليه الصلاة والسلام وقد حده بأنه الذهاب عن التماسك تعجبا أو حيرة يعني أن الهائم لا يقدر على إمساك نفسه للوارد تعجبا منه وحيرة قال وهو أثبت دواما وأملك للنعت من الدهش يعني أن الهائم قد يستمر هيمانه مدةطويلة بخلاف المدهوش وصاحب.(3/79)
الهيمان يملك عنان القول فيصرفه كيف يشاء ويتمكن من التعبير عنه وأما الدهش فلضيق معناه وقصر زمانه لم يملك النعت فالهائم أملك بنعت حاله ووارده من المدهوش قال وهو على ثلاث درجات الأولى هيمان في شيم أوائل برق اللطف عند قصد الطريق مع ملاحظة العبد خسة قدره وسفالة منزلته وتفاهة قيمته يريد أن القاصد للسلوك إذا نظر إلى مواقع لطف ربه به حيث أهله لما لم يؤهل له أهل البلاء وهم أهل الغفلة والإعراض عنه أورثه ذلك النظر تعجبا يوقعه في نوع من الهيمان قال بعض العارفين في الأثر المروى إذا رأيتم أهل البلاء فسلوا الله العافية تدرون من أهل البلاء هم أهل الغفلة عن الله وتقوى هذه الحال إذا انضاف إليها شهود العبد خسة قدر نفسه فاستصغرها أن تكون أهلا لما أهلت له وكذلك شهود سفالة منزلته أي انحطاط رتبته وكذلك شهود تفاهة قيمته أي خستها وقلتها وحاصل ذلك كله احتقاره لنفسه واستعظامه للطف ربه به وتأهيله له فيتولد من بين هذين الهيمان المذكور ولا ريب أنه يتولد من بين هذين الشهودين أمور أخرى أجل وأعظم وأشرف من الهيمان من محبة وحمد وشكر وعزم وإخلاص ونصيحة في العبودية وسرور وفرح بربه وأنس به هي مطلوبة لذاتها بخلاف عارض الهيمان فإنه لا يطلب لذاته وليس هو من منازل العبودية.
فصل قال الدرجة الثانية هيمان في تلاطم أمواج التحقيق عند ظهور.
براهينه وتواصل عجائبه ولوامع انواره يريد أن السالك والمريد إذا لاحت له أنوار تحقق العلم والمعرفة اهتدى بها إلى القصد عن بصيرة مستجدة ويقظة مستعدة فاستنار بها قلبه وأشرق.(3/80)
لها سره فتلاطمت عليه أمواج التحقيق عند ظهور البراهين فهام قلبه فيها وهذا أمر يعرفه بالذوق كل طالب لأمر عظيم انفتحت له الطرق والأبواب إلى تحصيله ويريد بتواصل عجائبه تتابع عجائب التحقيق وأن بعضها لا يحجب عن بعض ولا يقف في طريق بعض وكذلك لوامع أنواره وأعظم ما يجد هذا الواجد عند استغراقه في تدبر القرآن ويحصل ذلك بحسب استعداده وأهليته للفهم ونسبة ما دون ذلك إليه كتفلة في بحر.
فصل قال الدرجة الثالثة هيمان عند الوقوع في عين القدم ومعاينة.
سلطان الأزل والغرق في بحر الكشف يريد هيمان الفناء والوقوع في عين القدم إنما يكون باضمحلال الرسم وفنائه في شهود القدم فإنه يفنى من لم يكن مشهودا ويبقى من لم يزل وكذلك معاينة سلطان الأزل لا يبقى معها معاينة رسوم الكائنات وأطلال الحادثات وأما بحر الكشف الذي أشار إليه فهو انكشاف الحقيقة لعين القلب ولاتعتقد ان للسالك وراء مقام الإحسان شيئا أعلى منه بل إلإحسان مراتب وأما الكشف الحقيقي للحقيقة فلا سبيل إليه في الدنيا البتة والقوم يلوح لأحدهم أنوار هي ثمرات الإيمان ومعاملات القلوب وآثار الأحوال الصادقة فيظنونها نور الحقيقة ولا يأخذهم في ذلك لومة لائم وإنما.(3/81)
هي أنوار في بواطنهم ليس إلا وباب العصمة عن غير الرسل مسدود إلا عمن اتفقت عليه الأمة والله أعلم.(3/82)
فصل في نور البرق.
ومن أنوار {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نور البرق الذي يبدو للعبد عند دخوله في طريق الصادقين وهو لامع يلمع لقلبه يشبه لامع البرق قال صاحب المنازل البرق باكورة تلمع للعبد فتدعوه إلى الدخول في هذه الطريق واستشهد عليه بقوله تعالى {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ} ووجه الاستشهاد أن النار التي رآها موسى كانت مبدأ في طريق نبوته والبرق مبدأ في طريق الولاية التي هي وراثة النبوة وقوله باكورة الباكورة هي أول الشيء ومنه باكورة الثمار وهو لما سبق نوعه في النضج وقوله يلمع للعبد أي يبدو له ويظهر فتدعوه إلى الدخول في هذه الطريق ولم يرد طريق أهل البدايات فإن تلك هي اليقظة التي ذكرها في أول كتابه وإنما أراد طريق أرباب التوسط والنهايات وعلى هذا فالبرق الذي أشار إليه هو برق الأحوال لا برق الأعمال أو برق لا سبب له من السالك إنما هو مجرد موهبة والدليل على أنه أراد ما يحصل لأرباب التوسط والنهايات أنه أخذ بعد تعريفه يفرق بينه وبين الوجد فقال والفرق بينه وبين الوجد أن الوجد يقع بعد الدخول فيه والبرق قبله فالوجد زاد والبرق إذن.(3/82)
يريد أن البرق نور يقذفه الله في قلب العبد ويبديه له فيدعوه به إلى الدخول في الطريق والوجد هو شدة الطلب وقوته الموجبة لتأجيج اللهيب من الشهود كما تقدم والوجد زاد يعني أنه يصحب السالك كما يصحبه زاده بل هو من نفائس زاده والبرق إذن يعني إذنا في السلوك والإذن إنما يفسح للسالك في المسير لا غير قال وهو ثلاث درجات الأولى برق يلمع من جانب العدة في عين الرجاء فيستكثر فيه العبد القليل من العطاء ويستقل فيه الكثير من الإعياء ويستحلي فيه مرارة القضاء يعني بالعدة ما وعد الله أولياءه من أنواع الكرامة في هذه الدار وعند اللقاء وقوله يلمع في عين الرجاء أي يبدو في حقيقةالرجاء من أفقه وناحيته فيوجب له ذلك استكثار القليل ولا قليل من الله من عطائه والحامل له على هذا الاستكثار أربعة أمور أحدها نظره إلى جلالة معطيه وعظمته الثاني احتقاره لنفسه فإن ازدراءه لها يوجب استكثار ما يناله من سيده الثالث محبته له فإن المحبة إذا تمكنت من العبد استكثر قليل ما يناله من محبوبه الرابع أن هذا قبل العطاء لم يكن له إلف به ولا اتصال بالعطية فلما فاجأته استكثرها وأما استقلاله الكثير من الإعياء وهو التعب والنصب فلأنه لما بدا له برق الوعود من أفق الرجاء حمله ذلك على الجد والطلب وحمل عنه مشقة السير فلم يجد من مس الإعياء والنصب ما يجده من لم يشم ذلك وكذلك استحلاؤه في هذا البرق مرارة القضاء وهو البلاء الذي.(3/83)
يختبر به الله عز وجل عباده ليبلوهم أيهم أصبر وأصدق وأعظم إيمانا ومحبة وتوكلا وإنابة فإذا لاح للسالك هذا البرق استحلى فيه مرارة القضاء.
فصل قال الدرجة الثانية برق يلمع من جانب الوعيد في عين الحذر.
فيستقصر فيه العبد الطويل من الأمل ويزهد في الخلق على القرب ويرغب في تطهير السر هذا البرق أفقه وعينه غير أفق البرق الأول فإن هذا يلمع من أفق الحذر وذاك من أفق الرجاء فإذا شام هذا البرق استقصر فيه الطويل من الأمل وتخيل في كل وقت أن المنية تعافصه وتفاجئه فاشتد حذره من هجومها مخافة أن تحل به عقوبةالله ويحال بينه وبين الاستعتاب والتأهب للقاء فيلقى ربه قبل الطهر التام فلا يؤذن له بالدخول عليه بغير طهارة كما أنه لم يؤذن له في دار التكليف بالدخول عليه للصلاة بغير طهارة وهذا يذكر العباد بالتطهر للموافاة والقدوم عليه والدخول وقت اللقاء لمن عقل عن الله وفهم أسرار العبادات فإذا كان العبد لا يدخل عليه حتى يستقبل بيته المحرم بوجهه ويستر عورته ويطهر بدنه وثيابه وموضع مقامه بين يديه ثم يخلص له النية فهكذا الدخول عليه وقت اللقاء لا يحصل إلا بأن يستقبل ربه بقلبه كله ويستر عوراته الباطنة بلباس التقوى ويطهر قلبه وروحه وجوارحه من أدناسها الظاهرة والباطنة ويتطهر لله طهرا كاملا ويتأهب للدخول أكمل تأهب وأوقات الصلاة نظير وقت الموافاة فإذا تأهب العبد قبل الوقت جاءه الوقت وهو متأهب فيدخل على الله وإذا فرط في التأهب خيف عليه من خروج الوقت قبل التأهب إذ هجوم وقت الموافاة مضيق لا يقبل التوسعة فلا يمكن العبد من التطهر والتأهب عند.(3/84)
هجوم الوقت بل يقال له هيهات فات ما فات وقد بعدت بينك وبين التطهر المسافات فمن شام برق الوعيد بقصر الأمل لم يزل على طهارة وأما تزهيده في الخلق على القرب وإن كانوا أقاربه أو مناسبيه أو مجاوريه وملاصقيه أو معاشريه ومخالطيه فلكمال حذره واستعداده واشتغاله بما أمامه وملاحظة الوعيد من أفق ذلك البارق الذي ليس بخلب بل هو أصدق بارق ويحتمل أن يريد بقوله عن قرب أي عن أقرب وقت فلا ينتظر بزهده فيهم أملا يؤمله ولا وقتا يستقبله قوله ويرغب في تطهير السر يعني تطهير سره عما سوى الله وقد تقدم بيانه.
فصل قال الدرجة الثالثة برق يلمع من جانب اللطف في عين الافتقار.
فينشىء سحاب السرور ويمطر مطر الطرب ويجري من نهر الافتخار هذا البرق يلمع من أفق ملاطفة الرب تعالى لعبده بأنواع الملاطفات ومطلع هذا البرق في عين الافتخار الذي هو باب السلوك إلى الله تعالى والطريق الأعظم الذي لا يدخل عليه إلا منه وكل طريق سواه فمسدود ومع هذا فلا يصل العبد منه إلا بالمتابعة فلا طريق إلى الله البتة أبدا ولو تعنى المتعنون وتمنى المتمنون إلا الافتقار ومتابعة الرسول فقط فلا يتعب السالك نفسه في غير هذه الطريق فإنه على غير شيء وهو صيد الوحوش والسباع قوله فينشىء سحاب السرور أي ينشىء للعبد سرورا خاصا وفرحا بربه لا عهد له بمثله ولا نظير له في الدنيا ونفحة من نعيم الجنة ونسمة من ريح شمالهم فإذا نشأ له ذلك السحاب أمطر عليه صيب الطرب فطرب باطنه وسره.(3/85)
لما ورد عليه من عند سيده ووليه وإذا اشتد ذلك الطرب جرى به نهر الافتخار يتميز به عن أبناء جنسه بما خصه الله به وإما أن يريد به افتخاره على الشيطان وهذه مخيلة محمودة طربا وافتخارا عليه فإن الله لا يكره ذلك ولهذا يحب المختال بين الصفين عند الحرب لما في ذلك من مراغمة أعدائه ويحب الخيلاء عند الصدقة كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث لسر عجيب يعرفه أولو الصدقات والبذل من نفوسهم عند ارتياحهم للعطاء وابتهاجهم به واختيالهم على النفس الشحيحة الأمارة بالبخل وعلى الشيطان المزين لها ذلك
وهم ينفدون المال في أول الغنى ... ويستأنفون الصبر في آخر الصبر
مغاوير للعليا مغابير للحمى ... مفاريج للغمى مداريك للوتر
وتأخذهم في ساعة الجود هزة ... كما تأخذ المطراب عن نزوة الخمر
فهذا الافتخار من تمام العبودية أو يريد به أنه حري بالافتخار بما تميز به ولم يفتخر به إبقاء على عبوديته وافتقاره وكلا المعنيين صحيح والله أعلم وسر ذلك أن العبد إذا لاحظ ما هو فيه من الالطاف وشهده من عين المنة ومحض الجود شهد مع ذلك فقره إليه في كل لحظة وعدم استغنائه عنه طرفة عين فكان ذلك من أعظم أبواب الشكر وأسباب المزيد وتوالي النعم عليه وكلما توالت عليه النعم أنشأت في قلبه سحائب السرور وإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه وامتلأ بها أفقه أمطرت عليه وابل الطرب بما هو فيه من لذيذ السرور فإن لم يصبه وابل فطل وحينئذ يجري على لسانه وظاهره نهر الافتخار من غير عجب ولا فخر بل فرحا بفضل الله ورحمته كما قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فالافتخار على ظاهره والافتقار والانكسار في باطنه ولا ينافي أحدهما الآخر.(3/86)
وتأمل قول النبي صلى اله عليه وسلم" أنا سيد ولد آدم ولا فخر " فكيف أخبر بفضل الله ومنته عليه وأخبر أن ذلك لم يصدر منه افتخارا به على من دونه ولكن إظهارا لنعمة الله عليه وإعلاما للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله وعلو منزلته لديه لتعرف الامة نعمة الله عليه وعليهم ويشبه هذا قول يوسف الصديق للعزيز اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فإخباره عن نفسه بذلك لما كان متضمنا لمصلحة تعود على العزيز وعلى الأمة وعلى نفسه كان حسنا إذ لم يقصد به الفخر عليهم فمصدر الكلمة والحامل عليها يحسنها ويهجنها وصورته واحدة.(3/87)
فصل في منزلة الذوق.
ومنها منزلة الذوق والذوق مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر ولا يختص ذلك بحادسة الفم في لغة القرآن بل ولا في لغة العرب قال الله تعالى {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وقال {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} وقال تعالى {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وقال {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} فتأمل كيف جمع بين الذوق واللباس ليدل على مباشرة المذوق وإحاطته وشموله فأفاد الإخبار عن إذاقته أنه واقع مباشر غير منتظر فإن الخوف قد يتوقع ولا يباشر وأفاد الإخبار عن لباسه أنه محيط شامل كاللباس للبدن وفي الصحيح عنه" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا" فأخبر أن للإيمان طعما وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب وقد عبر النبي صلى اله عليه وسلم عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان وحصوله للقلب ومباشرته له بالذوق تارة وبالطعام والشراب تارة وبوجود.(3/87)
الحلاوة تارة كما قال" ذاق طعم الإيمان" وقال" ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " ولما نهاهم عن الوصال" قالوا إنك تواصل قال إني لست كهيئتكم إني أطعم واسقى" وفي لفظ" إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" وفي لفظ "إن لي مطعما يطعمني وساقيا يسقيني " وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم ولو كان كما ظنه هذا الظان لما كان صائما فضلا عن أن يكون مواصلا ولما صح جوابه بقوله" إني لست كهيئتكم" فأجاب بالفرق بينه وبينهم ولو كان يأكل ويشرب بفيه الكريم حسا لكان الجواب أن يقول وأنا لست أواصل أيضا فلما أقرهم على قولهم إنك تواصل علم أنه كان يمسك عن الطعام والشراب ويكتفي بذلك الطعام والشراب العالي الروحاني الذي يغني عن الطعام والشراب المشترك الحسي وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة حيث قال لأبي سفيان فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه فقال لا قال وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب فاستدل بما يحصل لأتباعه من ذوق الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب لم يسخطه ذلك القلب أبدا على أنه دعوة نبوة ورسالة لا دعوى ملك ورياسة والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان والإحسان أمر يجده القلب تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم وذوق حلاوة الجماع إلى إلفة النفس كما قال النبي صلى اله عليه وسلم حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك فللإيمان طعم وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد ولا تزول الشبه والشكوك عن القلب.(3/88)
إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحال فباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشر فيذوق طعمه ويجد حلاوته والله الموفق.
فصل قال صاحب المنازل باب الذوق قال الله تعالى {هَذَا ذِكْرُ} في.
تنزيل هذه الآية على الذوق صعوبة والذي يظهر والله أعلم أن الشيخ أراد أن الذوق مقدمة الشراب كما أن التذكر مقدمة المعرفة ومنه يدخل إلى مقام الإيمان والإحسان فإنه إذا تذكر أبصر الحقيقة كما قال تعالى{ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} أبصر الحقيقة فالتذكر بهذا الذكر الذي قصه الله تعالى يشهد صاحبه الإيمان بالمعاد وما أعد الله لأوليائه عند لقائه فيصير إيمانهم بذلك ذوقا لا خبرا محضا لأنه نشأ عن تذكرهم بذكره سبحانه وتأملهم حقائقه وأسراره وما فيه من الهدى والبيان فالتذكر سبب الذوق والله سبحانه أعلم.
فصل قال والذوق أبقى من الوجد وأجلى من البرق يريد به أن.
منزلة الذوق أثبت وأرسخ من منزلة الوجد وذلك لأن أثر الذوق يبقى في القلب ويطول بقاؤه كما يبقى أثر ذوق الطعام والشراب في القوة الذائقة ويبقى على البدن والروح فإن الذوق مباشرة كما تقدم والوجد عند الشيخ لهيب يتأجج من شهود عارض مقلق فهو عنده من العوارض كالهيمان والقلق فإنه ينشأ من مكاشفة لا تدوم فلذلك جعله أبقى من الوجد وأما قوله وأجلى من البرق فإن البرق أسرع انقضاء وكشفه دون كشف الذوق وهذا صحيح.(3/89)
ولكن جعله الذوق أبقى من الوجد وأعلى منه فيه نظر وقد يقال إن النبي صلى اله عليه وسلم جعل الوجد فوق الذوق وأعلى منزلة منه فإنه قال" ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان "الحديث وقال في الذوق "ذاق طعم الإيمان" فوجد حلاوة الشيء المذوق أخص من مجرد ذوقه ولما كانت الحلاوة أخص من الطعم قرن بها الوجد الذي هو أخص من مجرد الذوق فقرن الأخص بالأخص والأعم بالأعم وليس المراد بوجد حلاوة الإيمان الوجد الذي هو لهيب القلب فإن ذلك مصدر وجد بالشيء وجدا وإنما هو من الوجود الذي هو الثبوت فمصدر هذا الفعل الوجود والوجدان فوجد الشيء يجده وجدانا إذا حصل له وثبت كما يجد الفاقد الشيء الذي بعد منه ومنه قوله تعالى {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} وقوله {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} وقوله{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} وقوله {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} فهذا كله من الوجود والثبوت وكذلك قوله" وجد بهن حلاوة الإيمان " فوجدان الشيء ثبوته واستقراه ولا ريب أن ذوق طعم الإيمان وجدان له إذ يمتنع حصول هذا الذوق من غير وجدان ولكن اصطلاح كثير من القوم على أن الذائق أخص من الواجد فكأنه شارك الواجد في الحصول وامتاز عنه بالذوق فإنه قد يجد الشيء ولا يذوقه الذوق التام وهذا ليس كما قالوه بل وجود هذه الحقائق للقلب ذوق لها وزيادة وثبوت واستقرار والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى ذوق التصديق طعم العدة.
فلا يعقله ظن ولا يقطعه أمل ولا تعوقه أمنية.(3/90)
يريد أن العبد المصدق إذا ذاق طعم الوعد من الله على إيمانه وتصديقه وطاعته ثبت على حكم الوعد واستقام فلم يعقله ظن أي لم يحبسه ظن تقول عقلت فلانا عن كذا أي منعته عنه وصددته ومنه عقال البعير لأنه يحبسه عن الشرود ومنه العقل لأنه يحبس صاحبه عن فعل مالا يحسن ولا يجمل ومنه عقلت الكلام وعقلت معناه إذا حبسته في صدرك وحصلته في قلبك بعد أن لم يكن حاصلا عندك ومنه العقل للدية لأنها تمنع آخذها من العدوان على الجاني وعصبته والمقصود أن ذوق طعم الإيمان بوعد الله يمنع الذائق أن يحبسه ظن عن الجد في الطلب والسير إلى ربه والظن هو الوقوف عن الجزم بصحة الوعد والوعيد بحيث لا يترجح عنده جانب التصديق وكأن الشيخ يقول الذائق بالتصديق طعم الوعد لا يعارضه ظن يعقله عن صدق الطلب ويحبس عزيمته عن الجد فيه وفي حديث سيد الاستغفار قوله وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أي مقيم على التصديق بوعدك وعلى القيام بعهدك وعلى القيام بعهدك بحسب استطاعتي والحامل على هذه الإقامة والثبات ذوق طعم الإيمان ومباشرته للقلب ولو كان الإيمان مجازا لا حقيقة لم يثبت القلب على حكم الوعد والوفاء بالعهد ولا يفيد في هذا المقام إلا ذوق طعم الإيمان وثوب العارية لا يجمل لابسه ولا سيما إذا عرف الناس أنه ليس له وأنه عارية عليه كما قيل ثوب الرياء يشف عما تحته % فإذا اشتملت به فإنك عاري وكان بعض الصحابة يكثر التلبية في إحرامه ثم يقول لبيك لو كان رياء لاضمحل وقد نفى الله تعالى اإلإيمان عمن ادعاه وليس له فيه ذوق فقال تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم فهؤلاء مسلمون وليسوا بمؤمنين لأنهم ليسوا ممن.(3/91)
باشر الإيمان قلبه فذاق حلاوته وطعمه وهذا حال أكثر المنتسبين إلى الإسلام وليس هؤلاء كفارا فإنه سبحانه أثبت لهم الإسلام بقوله ولكن قولوا أسلمنا ولم يرد قولوا بألسنتكم من غير مواطأة القلب فإنه فرق بين قولهم آمنا وقولهم أسلمنا ولكن لما لم يذوقوا طعم الإيمان قال لم تؤمنوا ووعدهم سبحانه وتعالى مع ذلك على طاعتهم أن لا ينقصهم من أجور أعمالهم شيئا ثم ذكر أهل الإيمان الذين ذاقوا طعمه وهم الذين آمنوا به وبرسوله ثم لم يرتابوا في إيمانهم وإنما انتفى عنهم الريب لأن الإيمان قد باشر قلوبهم وخالطتها بشاشته فلم يبق للريب فيه موضع وصدق ذلك الذوق بذلهم أحب شيء إليهم في رضى ربهم تعالى وهو أموالهم وأنفسهم ومن الممتنع حصول هذا البذل من غير ذوق طعم الإيمان ووجود حلاوته فإن ذلك إنما يحصل بصدق الذوق والوجد كما قال الحسن ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل فالذوق والوجد أمر باطن والعمل دليل عليه ومصدق له كما أن الريب والشك والنفاق أمر باطن والعمل دليل عليه ومصدق له فالأعمال ثمرات العلوم والعقائد فاليقين يثمر الجهاد ومقامات الإحسان فعلى حسب قوته تكون ثمرته ونتيجته والريب والشك يثمر الأعمال المناسبة له وبالله التوفيق قوله ولا يقطعه أمل أي من علامات الذوق أن لا يقطع صاحبه عن طلبه أمر دنيا وطمع في غرض من أغراضها فإن الأمل والطمع يقطعان طريق القلب في سيره إلى مطلوبه ولم يقل الشيخ إنه لا يكون له أمل بل قال لا يقطعه أمل فإن الأمل إذا قام به ولم يقطعه لم يضره وإن عوق سيره بعض التعويق وإنما البلاء في الأمل القاطع للقلب عن سيره إلى الله.(3/92)
وعند الطائفة أن كل ما سوى الله فإرادته أمل قاطع كائنا ما كان فمن كان ذلك أمله ومنتهى طلبه فليس من أهل ذوق الإيمان فإنه من ذاق حلاوة معرفة الله والقرب منه والأنس به لم يكن له أمل في غيره وإن تعلق أمله لسواه فهو لإعانته على مرضاته ومحابه فهو يؤمله لأجله لا يؤمله معه فإن قلت فما الذي يقطع به العبد هذا الأمل قلت قوة رغبته في المطلب الأعلى الذي ليس شيء أعلى منه ومعرفته بخسة ما يؤمل دونه وسرعة ذهابه فيوشك انقطاعه وأنه في الحقيقة كخيال طيف أو سحابة صيف فهو ظل زائل ونجم قد تدلى للغروب فهو عن قريب آفل قال النبي صلى اله عليه وسلم " مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها" وقال" ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع" فشبه الدنيا في جنب الآخرة بما يعلق على الإصبع من البلل حين تغمس في البحر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل ثم جاءه الموت لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء وقال مطرف بن عبدالله أو غيره نعيم الدنيا بحذافيره في جنب نعيم الآخرة أقل من ذرة في جنب جبال الدنيا ومن حدق عين بصيرته في الدنيا والآخرة علم أن الأمر كذلك فكيف يليق بصحيح العقل والمعرفة أن يقطعه أمل من هذا الجزء الحقير عن نعيم لا يزول ولا يضمحل فضلا عن أن يقطعه عن طلب من نسبة هذا النعيم الدائم إلى نعيم معرفته ومحبته والأنس به والفرح بقربه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة قال الله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ(3/93)
أَكْبَرُ} فيسير من رضوانه ولا يقال له يسير أكبر من الجنات وما فيها وفي حديث الرؤية " فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه " وفي حديث آخر" إنهم إذا رأوه سبحانه لم يلتفتوا إلى شيء مما هم فيه من النعيم حتى يتوارى عنهم " فمن قطعه عن هذا أمل فقد فاز بالحرمان ورضي لنفسه بغاية الخسران والله المستعان وعليه التكلان وما شاء الله كان قوله ولا تعوقه أمنية الأمنية هي ما يتمناه العبد من الحظوظ وجمعها أماني والفرق بينها وبين الأمل أن الأمل يتعلق بما يرجى وجوده والأمنية قد تتعلق بما لا يرجى حصوله كما يتمنى العاجز المراتب العالية والأماني الباطلة هي رؤوس أموال المفاليس بها يقطعون أوقاتهم ويلتذون بها كالتذاذ من زال عقله بالمسكر أو بالخيالات الباطلة وفي الحديث المرفوع "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" ولا يرضى بالأماني عن الحقائق إلا ذوو النفوس الدنيئة الساقطة كما قيل
واترك منى النفس لا تحسبه يشبعها ... إن المنى رأس أموال المفاليس
وأمنية الرجل تدل على علو همته وخستها وفي أثر إلهي إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنظر إلى همته والعامة تقول قيمة كل امرىء ما يحسنه والعارفون يقولون قيمه كل امرىء ما يطلب.
فصل قال الدرجة الثانية ذوق الإرادة طعم الأنس فلا يعلق به شاغل.
ولا يفسده عارض ولا تكدره تفرقة الإرادة وصف المريد والفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها أن الأولى وصف حال العابد الذي ذاق بتصديقه طعم وعد الرب عز وجل فجد في العبادة.(3/94)
وأعمال البر لثقته بالوعد عليها وصاحب هذه الدرجة ذاقت إرادته طعم الأنس فهي حال المريد ولهذا علق حال صاحب الدرجة الأولى بالوعد الجميل وعلق حال صاحب هذه الدرجة بالأنس بالله والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة فإذا ذاق المريد طعم الأنس جد في إرادته واجتهد في حفظ أنسه وتحصيل الأسباب المقوية له فلا يعلق به شاغل أي لا يتعلق به شيء يشغله عن سلوكه وسيره إلى الله لشدة طلبه الباعث عليه أنسه الذي قد ذاق طعمه وتلذذ بحلاوته والأنس بالله حالة وجدانية وهي من مقامات الإحسان تقوى بثلاثة أشياء دوام الذكر وصدق المحبة وإحسان العمل وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب فكلما كان القلب من ربه أقرب كان أنسه به أقوى وكلما كان منه أبعد كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد قوله ولا يفسده عارض العارض المفسد هو الذي يعذل المحب ويلومه على النشاط في رضى محبوبه وطاعته ويدعوه إلى الالتفات إليه والوقوف معه دون مطلبه العالي فهو كالذي يجيء عرضا يمنع المار في طريقة عن المرور ويلفته عن جهة مقصده إلى غيرها وهذا العارض عند القوم هو إرادة السوى فإن كل ما سوى الله فهو عارض وإرادة السوى توقف السالك وتنكس الطالب وتحجب الواصل فإياك وإرادة السوى وإن علا فإنك تحجب عن الله بقدر إرادتك لغيره قال تعالى إخبارا عن عباده المقربين {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} وقال تعالى {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.(3/95)
وقال تعالى {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} قوله ولا تكدره تفرقة الكدر ضد الصفاء والتفرقة ضد الجمعية والجمعية هي جمع القلب والهمة على الله بالحضور معه بحال الأنس خاليا من تفرقة الخواطر والتفرقة من أعظم مكدرات القلب وهي تزيل الصفاء الذي أثمره له الإسلام والأيمان والإحسان فإن القلب يصفو بذلك فتجيء التفرقة فتكدر عليه ذلك الصفاء وتشعث القلب فيجد الصادق ألم ذلك الشعث وأذاه فيجتهد في لمه و لا يلم شعث القلوب بشيء غير الإقبال على الله والإعراض عما سواه فهناك يلم شعثه ويزول كدره ويصح سفره ويجد روح الحياة ويذوق طعم الحياة الملكية.
فصل قال الدرجة الثالثة ذوق الانقطاع طعم الاتصال وذوق الهمة طعم.
الجمع وذوق المسامرة طعم العيان الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها أن تلك بقاء مع الأحوال وهذه الدرجة خروج وفناء عن الأحوال فإن المتمكن في حال فنائه عن الأسباب أعمالا كانت أو أحوالا هو الذي يجد طعم الاتصال حقيقة فإنه على حسب تجرده عن الالتفات إلى الأسباب يكون اتصاله وعلى حسب التفاته إليها يكون انقطاعه وكلما تمكن في جمع همه على الحق سبحانه وجد لذة الجمع عليه وذاق طعم القرب منه والأنس به فالانقطاع عند القوم هو أنس القلب بغيره تعالى والالتفات إلى ما سواه والاتصال تجريد التعلق به وحده والانقطاع عما سواه بالكلية إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير كلامه فقوله ذوق الانقطاع طعم الاتصال استعارة وإلا فالذائق هو صاحب.(3/96)
الانقطاع لا نفس الانقطاع فإنه هو الذي ذاق الانقطاع والاتصال وبالجملة فالمراد أن المنقطع هو المحجوب والمتصل هو المشاهد بقلبه المكاشف بسره وأحسن من التعبير بالاتصال التعبير بالقرب فإنها العبارة السديدة التي ارتضاها الله ورسوله في هذا المقام وأما التعبير بالوصل والاتصال فعبارة غير سديدة يتشبث بها الزنديق الملحد والصديق الموحد فالموحد يريد بالاتصال القرب وبالانفصال والانقطاع البعد والملحد يريد به الحلول تارة والاتحاد تارة حتى قال بعض هؤلاء المنقطع ليس في الحقيقة منقطعا بل لم يزل متصلا لكنه كان غائبا عن المشاهدة فلما شاهد وجد نفسه لم يكن منقطعا بل لم يزل متصلا قال وليس قولنا لم يزل متصلا بسديد فإن الاتصال لا يصح إلا بين اثنين فلا المحجوب منقطعا ولا المكاشف متصلا وإنما هي عبارات للتقريب والتفهيم وأنشد في ذلك
ما بال عيسك لا يقر قرارها ... وإلام ظلك لا يني متنقلا
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا وبإزاء
هؤلاء طائفة غلظ حجابهم وكثفت أرواحهم عن هذا الشأن فزعموا أن القرب والبعد والأنس ليس له حقيقة تتعلق بالخالق سبحانه وإنما ذلك القرب من داره وجنته بالطاعات وأنس القلب بما وعد عليها من الثواب والبعد ضد ذلك لأن العبد لا يقرب من ربه ولا يبعد عنه ولا يأنس به.(3/97)
وصرحوا بأنه لا يريده ولا يحبه فلا يصح تعلق الإرادة والمحبة به فسار هؤلاء مغربين وسار أولئك مشرقين كما قيل
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
ومصباح الموحد السالك على درب الرسول وطريقه يتوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس قوله وذوق الهمة طعم الجمع جعل الهمة ذائقةوإنما الذوق لصاحبها توسعا والهمة قد عبر عنها الشيخ فيما تقدم بأنها ما يملك الانبعاث إلى المقصود صرفا أي حالة وصفية لها سطوة وملكة تحمل صاحبها على المقصود وتبعثه عليه بعثا لا يخالطه غيره فالهمة عندهم طلب الحق من غير التفات إلى غيره والجمع شهود الفردانية التي تفنى فيها رسوم المشاهد وهذا جمع في الربوبية وأعلى منه الجمع في الألوهية وهو جمع قلبه وهمه وسره على محبوبه ومراضيه ومراده منه فهو عكوف القلب بكليته على الله عز وجل لا يلتفت عنه يمنة ولا يسرة فإذا ذاقت الهمة طعم هذا الجمع اتصل اشتياق صاحبها وتأججت نيران المحبة والطلب في قلبه ويجد صبره عن محبوبه من أعظم كبائره كما قيل
والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يحمد
وقد تقدم ذكر الأثر الإلهي إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنطر إلى همته فلله همة نفس قطعت جميع الأكوان وسارت فما ألقت عصى السير إلا بين يدي الرحمن تبارك وتعالى فسجدت بين يديه سجدة الشكر على الوصول.(3/98)
إليه فلم تزل ساجدة حتى قيل لها {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} فسبحان من فاوت بين الخلق في هممهم حتى ترى بين الهمتين أبعد مما بين المشرقين والمغربين بل أبعد مما بين أسفل سافلين وأعلى عليين وتلك مواهب العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم قوله وذوق المسامرة طعم العيان مرادهم بالمسامرة مناجاة القلب ربه وإن سكت اللسان فلذة استيلاء ذكره تعالى ومحبته على قلب العبد وحضوره بين يديه وأنسه به وقربه منه حتى يصير كأنه يخاطبه ويسامره ويعتذر إليه تارة ويتملقه تارة ويثني عليه تارة حتى يبقى القلب ناطقا بقوله أنت الله الذي لا إله إلا أنت من غير تكلف له بذلك بل يبقى هذا حالا له ومقاما ولا ينكر وصول القوم إلى هذا فقد قال النبي صلى اله عليه وسلم " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " فإذا بلغ في مقام الإحسان بحيث يكون كأنه يرى الله سبحانه فهكذا مخاطبته ومناجاته له لكن الأولى العدول عن لفظ المسامرة إلى المناجاة فإنه اللفظ الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا وعبر به عن حال العبد بقوله" إذا قام أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه" وفي الحديث الآخر "كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض" فلا تعدل عن ألفاظه فأنها معصومة وصادرة عن معصوم والإجمال والإشكال في اصطلاحات القوم وأوضاعهم وبالله التوفيق.(3/99)
فصل ومن ذلك منزلة اللحظ
قال شيخ الإسلام باب اللحظ قال الله.تعالى ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني قلت يريد والله أعلم بالاستشهاد بالآية أن الله سبحانه أراد أن يري موسى من كمال عظمته وجلاله ما يعلم به أن القوة البشرية في هذه الدار لا تثبت لرؤيته ومشاهدته عيانا لصيرورة الجبل دكا عند تجلي ربه سبحانه أدنى تجل كما رواه ابن جرير في تفسيره من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس عن النبي صلى اله عليه وسلم " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا" قال حماد هكذا ووضع الإبهام على مفصل الخنصر الأيمن فقال حميد لثابت أتحدث بمثلي هذا فضرب ثابت صدر حميد ضربة بيده وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث به وأنا لا أحدث به رواه الحاكم في صحيحه وقال هو على شرط مسلم وهو كما قال والمقصود أن الشيخ استشهد بهذه الآية في باب اللحظ لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينظر إلى الجبل حين تجلى له ربه فرأى أثر التجلي في الجبل دكا فخر موسى صعقا قال الشيخ اللحظ لمح مسترق الصواب قراءة هذه الكلمة على الصفة بالتخفيف فوصف اللمح بأنه مسترق كما يقال سارقته النظر وهو لمح بخفية بحيث لا يشعر به الملموح ولهذا الاستراق أسباب منها تعظيم الملموح وإجلاله فالناظر يسارقه النظر ولا يحد نظره إليه إجلالا له كما كان أصحاب النبي صلى اله عليه وسلم لا يحدون النظر إليه إجلالا له وقال عمرو بن العاص لم أكن أملأ عيني منه.(3/100)
إجلالا له ولو سئلت أن أصفه لكم لما قدرت لأني لم أكن أملأ عيني منه ومنها خوف اللامح سطوته ومنها محبته ومنها الحياء منه ومنها ضعف القوة الباصرة عن التحديق فيه وهذا السبب هو السبب الغالب في هذا الباب ويجوز أن تقرأ بكسر الراء وتشديد القاف أي نظرا يسترق صاحبه أي يأسر قلبه ويجعله رقيقا أي عبدا مملوكا للمنظور إليه لما شاهد من جماله وكماله فاسترق قلبه فلم يكن بينه وبين رقة له إلا مجرد وقوع لحظه عليه فهكذا صاحب هذه الحال إذا لاحظ بقلبه جلال الربوبية وكمال الرب سبحانه وكمال نعوته ومواقع لطفه وفضله وبره وإحسانه استرق قلبه له وصارت له عبودية خاصة قال وهو في هذا الباب على ثلاث درجات الدرجة الأولى ملاحظة الفضل سبقا وهي تقطع طريق السؤال إلا ما استحقته الربوبية من إظهار التذلل لها وتنبت السرور إلا ما يشوبه من حذر المكر وتبعث على الشكر إلا ما قام به الحق عز وجل من حق الصفة الشيخ عادته في كل باب أن يقول وهو على ثلاث درجات وقال ههنا وهو في هذا الباب على ثلاث درجات فعين هذا الباب هنا دون غيره من الأبواب لأن اللحظ مشترك بين لحظ البصر ولحظ البصيرة والشيخ إنما أراد ههنا هذا الثاني دون الأول فإن كلامه فيه خاصة وهو لما صدر بالآية والأمر بالنظر فيها إنما توجه إلى الأمر بنظر العين استدرك كلامه وقال اللحظ الذي نشير إليه في هذا الباب ليس هو لحظ العين والله أعلم قوله ملاحظة الفضل سبقا الفضل هو العطاء الإلهي والسبق هو ما سبق له بالتقدير قبل خروجه إلى الدنيا كما قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}وقال {وَلَقَدْ سَبَقَتْ(3/101)
كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وهذا الكلام يفسر على معنيين أحدهما أن العبد إذا رأى ما قدره الله له قد سبق به تقديره فهو واصل إليه لا محالة ولا بد أن يناله سكن جأشه واطمأن قلبه ووطن نفسه وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وأنه ما يفتح الله له وللناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده فإذا تيقن ذلك وذاق طعم الإيمان به قطع ذلك عليه طريق الطلب من ربه لأن ما سبق له به القدر كائن واصل لا محالة ثم استدرك الشيخ أن العبد لا بد له من سؤال ربه والطلب منه فقال إلا ما استحقته الربوبية من إظهار التذلل لها أي لا يعتقد أن سؤاله وطلبه يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يحذره فإن القدر السابق قد استقر بوصول المقدور إليه سأله أو لم يسأله يسأله ولاكن يكون سؤاله على وجه التذلل وإظهار فقر العبودية وذلها بين يدي عز الربوبية فإن الرب سبحانه يحب من عبده أن يسأله ويرغب إليه لأن وصول بره وإحسانه إليه موقوف على سؤاله بل هو المتفضل به ابتداء بلا سبب من العبد ولا توسط سؤاله وطلبه بل قدر له ذلك الفضل بلا سبب من العبد ثم أمره بسؤاله والطلب منه إظهارا لمرتبة العبودية والفقر والحاجة واعترافا بعز الربوبية وكمال غنى الرب وتفرده بالفضل والإحسان وأن العبد لا غنى له عن فضله طرفة عين فيأتي بالطلب والسؤال إتيان من يعلم أنه لا يستحق بطلبه وسؤاله شيئا ولكن ربه تعالى يحب أن يسأل ويرغب إليه ويطلب منه كما قال تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقال تعالى{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} وقال {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} وقال {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ}(3/102)
وقال {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وقال {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} وقال النبي صلى اله عليه وسلم" ليسأل أحدكم ربه كل شيء حتى شسع نعله إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر"وقال" من لم يسأل الله يغضب عليه " وروى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى اله عليه وسلم قال " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل من فضله وما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية "وقال" إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم" وقال" ما من داع يدعو الله بدعوة إلا آتاه بها أحد ثلاث إما أن يعجل له حاجته وإما أن يعطيه من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها قالوا إذا نكثر يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فالله أكثر" وقال" ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " وقال تعالى في الحديث القدسي فيما رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم" وقال "وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه وفي هذا يقول القائل
لو لم ترد بذل ما أرجو وأطلبه ... من جود كفك ما عودتني الطلبا
والله سبحانه وتعالى يحب تذلل عبيده بين يديه وسؤالهم إياه وطلبهم حوائجهم منه وشكواهم إليه وعياذهم به منه وفرارهم منه إليه كما قيل.(3/103)
قالوا أتشكوا إليه ... ما ليس يخفى عليه
فقلت ربي يرضى ... ذل العبيد لديه
وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا عبد الوهاب عن إسحاق عن مطرف بن عبدالله قال تذاكرت ما جماع الخير فإذا الخير كثير الصيام والصلاة وإذا هو في يد الله تعالى وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك فإذا جماع الخير الدعاء وفي هذا المقام غلط طائفتان من الناس طائفة ظنت أن القدر السابق يجعل الدعاء عديم الفائدة قالوا فإن المطلوب إن كان قد قدر فلا بد من وصوله دعا العبد أو لم يدع وإن لم يكن قد قدر فلا سبيل إلى حصوله دعا أو لم يدع ولما رأوا الكتاب والسنة والآثار قد تظاهرت بالدعاء وفضله والحث عليه وطلبه قالوا هو عبودية محضة لا تأثير له في المطلوب البتة وإنما تعبدنا به الله وله أن يتعبد عباده بما شاء كيف شاء والطائفة الثانية ظنت أن بنفس الدعاء والطلب ينال المطلوب وأنه موجب لحصوله حتى كأنه سبب مستقل وربما انضاف إلى ذلك شهودهم أن هذا السبب منهم وبهم وأنهم هم الذين فعلوه وأن نفوسهم هي التي فعلته وأحدثته وإن علموا أن الله خالق أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم وإراداتهم فربما غاب عنهم شهود كون ذلك بالله ومن الله لا بهم ولا منهم وأنه هو الذي حركهم للدعاء وقذفه في قلب العبد واجراه على لسانه فهاتان الطائفتان غالطتان أقبح غلط وهما محجوبتان عن الله فالأولى محجوبة عن رؤية حكمته في الأسباب ونصبها لإقامة العبودية وتعلق الشرع والقدر بها فحجابها كثيف عن معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى في شرعه وأمره وقدره.(3/104)
والثانية محجوبة عن رؤية مننه وفضله وتفرده بالربوبية والتدبير وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حول للعبد ولا قوة له بل ولا للعالم أجمع إلا به سبحانه وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ومشيئته وقول الطائفة الأولى إن المطلوب إن قدر لا بد من حصوله وإنه إن لم يقدر فلا مطمع في حصوله جوابه أن يقال بقي قسم ثالث لم تذكروه وهو انه قدر بسببه فإن وجد سببه وجد ما رتب عليه وإن لم يوجد سببه لم يوجد ومن أسباب المطلوب الدعاء والطلب اللذين إذا وجدا ما رتب عليهما كما أن أسباب الولد الجماع ومن أسباب الزرع البذر ونحو ذلك وهذا القسم الثالث هو الحق ويقال للطائفة الثانية لا موجب إلا مشيئة الله تعالى وليس ههنا سبب مستقل غيرها فهو الذي جعل السبب سببا وهو الذي رتب على السبب حصول المسبب ولو شاء لأوجده بغير ذلك السبب وإذا شاء منع سببية السبب وقطع عنه اقتضاء أثره وإذا شاء أقام له مانعا يمنعه عن اقتضاء أثره مع بقاء قوته فيه وإذا شاء رتب عليه ضد مقتضاه وموجبه فالأسباب طوع مشيئته سبحانه وقدرته وتحت تصرفه وتدبيره يقلبها كيف شاء فهذا أحدالمعنيين في كلامه والمعنى الثاني أن من لاحظ بعين قلبه ما سبق له من ربه من جزيل الفضل والإحسان والبر من غير معاوضة ولا سبب من العبد أصلا فإنه سبقت له تلك السابقة وهو في العدم لم يكن شيئا البتة شغلته تلك الملاحظة بطلب الله ومحبته وإرادته عن الطلب منه وقطعت عليه طريق السؤال اشتغالا بذكره وشكره ومطالعة منته عن مسألته لا لأن مسألته والطلب منه نقص بل لأنه في هذه الحال لا يتسع للأمرين بل استغراقه في شهود المنة وسبق الفضل قطع عليه طريق الطلب والسؤال وهذا لا يكون مقاما لازما له لا يفارقه بل هذا حكمه في هذه الحال والله أعلم.(3/105)
فصل قوله وينبت السرور إلا ما يشوبه من حذر المكر يعني أن.
هذا اللحظ من العبد ينبت له السرور إذا علم أن فضل ربه قد سبق له بذلك قبل أن يخلقه مع علمه به وبأحواله وتقصيره على التفصيل ولم يمنعه علمه به أن يقدر له ذلك الفضل والإحسان فهو أعلم به إذ أنشأه من الأرض وإذ هو جنين في بطن أمه ومع ذلك فقدر له من الفضل والجود ما قدره بدون سبب منه بل مع علمه بأنه يأتي من الأسباب ما يقتضي قطع ذلك ومنعه عنه فإذا شاهد العبد ذلك اشتد سروره بربه وبمواقع فضله وإحسانه وهذا فرح محمود غير مذموم قال الله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضله الإسلام والإيمان ورحمته العلم والقرآن وهو يحب من عبده أن يفرح بذلك ويسر به بل يحب من عبده أن يفرح بالحسنة إذا عملها وأن يسر بها وهو في الحقيقة فرح بفضل الله حيث وفقه الله لها وأعانه عليها ويسرها له ففي الحقيقة إنما يفرح العبد بفضل الله وبرحمته ومن أعظم مقامات الإيمان الفرح بالله والسرور به فيفرح به إذ هو عبده ومحبه ويفرح به سبحانه ربا وإلها ومنعما ومربيا أشد من فرح العبد بسيده المخلوق المشفق عليه القادر على مايريده العبد ويطلبه منه المتنوع في الإحسان إليه والذب عنه وسيأتي عن قريب إن شاء الله تمام هذا المعنى في باب السرور قوله إلا ما يشوبه من حذر المكر أي يمازجه فإن السرور والفرح يبسط النفس وينسيها وينسبها عيوبها وآفاتها ونقائصها إذ لو شهدت ذلك وأبصرته لشغلها ذلك عن الفرح.(3/106)
وأيضا فإن الفرح بالنعمة قد ينسيه المنعم فيشتغل بالخلعة التي خلعها عليه عنه فيطفح عليه السرور حتى يغيب بنعمته عنه وهنا يكون المكر إليه أقرب من اليد للفم ولله كم ها هنا من مسترد منه ما وهب له عزة وحكمة وربما كان ذلك رحمة به إذ لو استمر على تلك الولاية لخيف عليه من الطغيان كما قال تعالى كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى فإذا كان هذا غنى بالحطام الفاني فكيف بالغنى بما هو أعلى من ذلك وأكثر فصاحب هذا إن لم يصحبه حذر المكر خيف عليه أن يسلبه وينحط عنه والمكر الذي يخاف عليه منه أن يغيب الله سبحانه عنه شهود أوليته في ذلك ومنته وفضله وأنه محض منته عليه وأنه به وحده ومنه وحده فيغيب عن شهود حقيقة قوله تعالى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وقوله{إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّه} وقوله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقوله{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّك} وقوله {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} وأمثال ذلك فيغيبه عن شهود ذلك ويحيله على معرفته في كسبه وطلبه فيحيله على نفسه التي لها الفقر بالذات ويحجبه عن الحوالة على المليء الوفي الذي له الغنى التام كله بالذات فهذا من أعظم أسباب المكر والله المستعان ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ فلا ينبغي له أن يفارقه هذا الحذر وقد خافه خيار خلقه وصفوته من عباده قال شعيب وقد قال له قومه{ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ(3/107)
بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} إلى قوله{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} فرد الأمر إلى مشيئة الله تعالى وعلمه أدبا مع الله ومعرفة بحق الربوبية ووقوفا مع حد العبودية وكذلك قال إبراهيم لقومه وقد خوفوه بآلهتهم فقال ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما فرد الأمر إلى مشيئة الله وعلمه وقد قال تعالى أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وقد اختلف السلف هل يكره أن يقول العبد في دعائه اللهم لا تؤمني مكرك فكان بعض السلف يدعو بذلك ومراده لا تخذلني حتى آمن مكرك ولا أخافه وكرهه مطرف بن عبدالله بن الشخير وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالوهاب عن إسحاق عن مطرف أنه كان يكره أن يقول اللهم لا تنسني ذكرك ولا تؤمني مكرك ولكن أقول اللهم لا تنسني ذكرك وأعوذ بك أن آمن مكرك حتى تكون أنت تؤمنني وبالجملة فمن أحيل على نفسه فقد مكر به قال الإمام أحمدحدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا الصلت بن طريف المعولي حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال وجدت هذا الإنسان ملقى بين الله عز وجل وبين الشيطان فإن يعلم الله تعالى في قلبه خيرا جبذه إليه وإن لم يعلم فيه خيرا وكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فقد هلك وقال جعفر بن سليمان حدثنا ثابت عن مطرف قال لو أخرج قلبي فجعل في يدي هذه في اليسار وجيء بالخير فجعل في هذه اليمنى ثم قربت من الأخرى ما استطعت أن أولج في قلبي شيئا حتى يكون الله عز وجل يضعه ومما يدل على أن الفرح من أسباب المكر مالم يقارنه خوف قوله تعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا(3/108)
بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} وقال قوم قارون له {قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} فالفرح متى كان بالله وبما من الله به مقارنا للخوف والحذر لم يضر صاحبه ومتى خلا عن ذلك ضره ولا بد قوله ويبعث على الشكر إلا ما قام به الحق عز وجل من حق الصفة هذا الكلام يحتمل معنيين أحدهما أن يريد أن هذه الملاحظة تبعثه على الشكر لله في السراء والضراء في كل حين إلا ما عجزت قدرته عن شكره فإن الحق سبحانه هو الذي يقوم به لنفسه بحق كماله المقدس وكمال صفاته ونعوته فتلك الملاحظة تبسط للعبد الشكر الذي يعجز عنه ولا يقدر أن يقوم به فإن شكر العبد لربه نعمة من الله أنعم بها عليه فهي تستدعي شكرا آخر عليها وذلك الشكر نعمة أيضا فيستدعي شكرا ثالثا وهلم جرا فلا سبل إلى القيام بشكر الرب على الحقيقة ولا يشكره على الحقيقة سواه فإنه هو المنعم بالنعمة وبشكرها فهو الشكور لنفسه وإن سمى عبده شكورا فمدحة الشكر في الحقيقة راجعة إليه وموقوفة عليه فهو الشاكر لنفسه بما أنعم على عبده فما شكره في الحقيقة سواه مع كون العبد عبدا والرب ربا فهذا أحد المعنيين في كلامه المعنى الثاني أن هذا اللحظ يبسطه للشكر الذي هو وصفه وفعله لا الشكر الذي هو صفة الرب جل جلاله وفعله فإنه سمى نفسه بالشكور كما قال تعالى {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} وقال أهل الجنة {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} فهذاالشكر الذي هو وصفه سبحانه لا يقوم إلا به ولا يبعث العبد على الملاحظة المذكورة إلا على وجه واحد وهو أنه إذا لاحظ سبق الفضل منه سبحانه علم أنه فعل ذلك لمحبته للشكر فإنه تعالى يحب أن يشكر كما قال موسى" يا رب هلا ساويت بين عبادك فقال إني أحب أن اشكر".(3/109)
كان يحب الشكر فهو أولى أن يتصف به كما أنه سبحانه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال محسن يحب المحسنين صبور يحب الصابرين عفو يحب العفو قوى والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف فكذلك هو شكور يحب الشاكرين فملاحظة العبد سبق الفضل تشهده صفة الشكر وتبعثه على القيام بفعل الشكر والله أعلم.
فصل قال الدرجة الثانية ملاحظة نور الكشف وهي تسبل لباس التولي.
وتذيق طعم التجلي وتعصم من عوار التسلي هذه الدرجة أتم مما قبلها فإن تلك الدرجة ملاحظة ما سبق بنور العلم وهذه ملاحظة كشف بحال قد استولى على قلبه حتى شغله عن الخلق فأسبل عليه لباس توليه الله وحده وتوليه عما سواه ونور الكشف عندهم هو مبدأ الشهود وهو نور تجلى معاني الأسماء الحسنى على القلب فتضيء به ظلمة القلب ويرتفع به حجاب الكشف ولا تلتفت إلى غير هذا فتزل قدم بعد ثبوتها فإنك تجد في كلام بعضهم تجلي الذات يقتضي كذا وكذا وتجلي الصفات يقتضي كذا وكذا وتجلي الأفعال يقتضي كذا وكذا والقوم عنايتهم بالألفاظ فيتوهم المتوهم أنهم يريدون تجلي حقيقة الذات والصفات والأفعال للعيان فيقع من يقع منهم في الشطحات والطامات والصادقون العارفون برآء من ذلك.(3/110)
وإنما يشيرون إلى كمال المعرفة وارتفاع حجب الغفلة والشك والإعراض واستيلاءسلطان المعرفة على القلب بمحو شهود السوى بالكلية فلا يشهد القلب سوى معروفه وينظرون هذا بطلوع الشمس فإنها إذا طلعت انطمس نور الكواكب ولم تعدم الكواكب وإنما غطى عليها نور الشمس فلم يظهر لها وجود وهي في الواقع موجودة في أماكنها وهكذا نور المعرفة إذا استولى على القلب قوى سلطانها وزالت الموانع والحجب عن القلب ولا ينكر هذا إلا من ليس من أهله ولا يعتقد أن الذات المقدسة والأوصاف برزت وتجلت للعبد كما تجلى سبحانه سبحانه للطور وكما يتجلى يوم القيامة للناس إلا غالط فاقد للعلم وكثيرا ما يقع الغلط من التجاوز من نور العبادات والرياضة والذكر إلى نور الذات والصفات فإن العبادة الصحيحة والرياضة الشرعية والذكر المتواطىء عليه القلب واللسان يوجب نورا على قدر قوته وضعفه وربما قوى ذلك النور حتى يشاهد بالعيان فيغلط فيه ضعيف العلم والتمييز بين خصائص الربوبية ومقتضيات العبودية فيظنه نور الذات وهيهات ثم هيهات نور الذات لا يقوم له شيء ولو كشف سبحانه وتعالى الحجاب عنه لتدكدك العالم كله كما تدكدك الجبل وساخ لما ظهر له القدر اليسير من التجلي وفي الصحيح عنه" إن الله سبحانه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل.(3/111)
النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه أحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" فالإسلام له نور والإيمان له نور أقوى منه والإحسان له نور أقوى منهما فإذا اجتمع الإسلام والإيمان والإحسان وزالت الحجب الشاغلة عن الله تعالى امتلأ القلب والجوارح بذلك النور لا بالنور الذي هو صفة الرب تعالى فإن صفاته لا تحل في شيء من مخلوقاته كما أن مخلوقاته لا تحل فيه فالخالق سبحانه بائن عن المخلوق بذاته وصفاته فلا اتحاد ولا حلول ولا ممازجة تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا قوله ويعصم من عوار التسلي العوار العيب والتسلي السلوة عن المحبوب الذي لا حياة للقلب ولا نعيم إلا بحبه والقرب منه والأنس بذكره فإن سلو القلب وغفلته عن ذكره هو من أعظم العيوب فهذه الملاحظة إذا صدقت عصمت صاحبها عن عيب سلوته عن مطلوبه ومراده فإنه في هذه الدرجة مستغرق في شهود الأسماء والصفات وقد استولى على قلبه نور الإيمان بها ومعرفتها ودوام ذكرها ومع هذا فباب السلوة عليه مسدود وطريقها عليه مقطوع والمحب يمكنه التسلي قبل ان يشاهد جمال محبوبه ويستغرق في شهود كماله ويغيب به عن غيره فإذا وصل إلى هذه الحال كان كما قيل
مرت بأرجاء الخيال طيوفه ... فبكب على رسم السلو الدارس
فصل قال الدرجة الثالثةملاحطة عين الجمع وهي توقظ لاستهانةالمجاهد.
ات والتخلص من رعونة المعارضات وتفيد مطالعة البدايات هذه الدرجة عنده أرفع مما قبلها فإن ما قبلها مطالعة كشف الأنوار تشير إلى نوع كسب واختيار وهذه مطالعة تجذب القلب من التفرق في أودية إلإرادات وشعاب الأحوال والمقامات إلى ما استولى عليه من عين الجمع.(3/112)
الناظر إلى الواحد الفرد الأول الذي ليس قبله شيء الآخر الذي ليس بعده شيء الظاهر الذي ليس فوقه شيء الباطن الذي ليس دونه شيء سبق كل شيء بأوليته وبقي بعد كل شيء بآخريته وعلا فوق كل شيء بظهوره وأحاط بكل شيء ببطونه فالنظر بهذه العين يوقظ قلبه لاستهانته بالمجاهدات ومعنى ذلك أن السالك في مبدأ أمره له شرة وفي طلبه حدة تحمله على أنواع المجاهدات وترميه عليها لشدة طلبه ففتوره نائم واجتهاده يقظان فإذا وصل إلى هذه الدرجة استهان بالمجاهدات الشاقة في جنب ما حصل له من مقام الجمع على الله واستراح من كدها فإن ساعة من ساعات الجمع على الله أنفع وأجدى عليه من القيام بكثير من المجاهدات البدنية التي لم نيرضها الله عليه فإذا جمع همه وقلبه كله على الله وزال كل مفرق ومشتت كانت هذه هي ساعات عمره في الحقيقة فتعوض بها عما كان يقاسيه من كد المجاهدات وتعبها وهذا موضع غلط فيه طائفتان من الناس إحداهما غلت فيه حتى قدمته علىالفرائض والسنن ورأت نزولها عنه إلى القيام بالأوامر انحطاطا من الأعلى إلى الأدنى حتى قيل لبعض من زعم أنه ذاق ذلك قم إلى الصلاة فقال
يطالب بالأوراد من كان غافلا ... فكيف بقلب كل أوقاته
ورد وقال آخر
لا تسيب واردك لو ردك ... وهؤلاء بين كافر وناقص فمن
لم ير القيام بالفرائض إذا حصلت له الجمعية فهو كافر منسلخ من الدين ومن عطل لها مصلحة راجحة كالسنن الرواتب والعلم النافع والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفع العظيم المتعدي فهو ناقص.(3/113)
والطائفة الثانية لا تعبأ بالجمعية ولا تعمل عليها ولعلها لا تدري ما مسماها ولا حقيقتها وطريقة الأقوياء أهل الاستقامة القيام بالجمعية بالجمعة في التفرقة ما أمكن فيقوم أحدهم بالعبادات ونفع الخلق والإحسان إليهم مع جمعيته على الله فإن ضعف عن اجتماع الأمرين وضاق عن ذلك قام بالفرائض ونزل عن الجمعية ولم يلتفت إليها إداء كان لا يقدر على تحصيلها إلا بتعطيل الفرض فإن ربه سبحانه يريد منه إداء فرائضه ونفسه تريد الجمعية لما فيها من الراحة واللذة والتخلص من ألم التفرقة وشعثها فالفرائض حق ربه والجمعية حظه هو.(3/114)
فالعبودية الصحيحة توجب عليه تقديم أحد الأمرين على الآخر فإذا جاء إلى النوافل وتعارض عنده الأمران فمنهم من يرجح الجمعية ومنهم من يرجح النوافل ومنهم من يؤثر هذا في وقت وهذا في وقت والتحقيق إن شاء الله أن تلك النوافل إن كانت مصلحتها أرجح من الجمعية ولا تعوضه الجمعية عنها اشتغل بها ولو فاتت الجمعية كالدعوة إلى الله وتعليم العلم النافع وقيام وسط الليل والذكر أول الليل وآخره وقراءة القرآن بالتدبر ونفل الجهاد والإحسان إلى المضطر وإغاثة الملهوف ونحو ذلك فهذا كله مصلحته أرجح من مصلحة الجمعية وإن كانت مصلحته دون الجمعية كصلاة الضحى وزيارة الإخوان والغسل لحضور الجنائز وعيادةالمرضى وإجابةالدعوات وزيارةالقدس وضيافةالإخوان ونحو ذلك فهذا فيه تفصيل فإن قويت جمعيته فظهر تأثيرها فيه فهي أولى له وأنفع من ذلك وإن ضعفت الجمعية وقوي أخلاصه في هذه الأعمال فهي أنفع له وأفضل من الجمعية والمعول عليه في ذلك كله إيثار أحب الأمرين إلى الرب تعالى وذلك يعرف بنفع العمل وثمرته من زيادة الإيمان به وترتب الغايات الحميدة عليه وكثرة مواظبة الرسول وشدة اعتنائه به وكثرة الوصية به وإخباره أن الله يحب فاعله ويباهي به الملائكة ونحو ذلك ونكتة المسألة وحرفها أن الصادق في طلبه يؤثر مرضاة ربه على حظه فإن كان رضى الله في القيام بذلك العمل وحظه في الجمعية خلى الجمعية تذهب وقام بما فيه رضى الله ومتى علم الله من قلبه أن تردده وتوقفه ليعلم أي الأمرين أحب إلى الله وأرضى له أنشأ له من ذلك التوقف والتردد حالة شريفة فاضلة حتى لو قدم المفضول لظنه أنه الأحب إلى الله ردت تلك النية والإرادة عليه ما ذهب عليه وفاته من زيادة العمل الآخر وبالله التوفيق.(3/115)
وفي كلامه معنى آخر وهو أن صاحب المجاهدات مسافر بعزمه وهمته إلى الله فإذا لاحط عين الجمع وهي الوحدانية التي شهود عينها هو انكشاف حقيقتها للقلب كان بمنزلة مسافر جاد في سيره وقد وصل إلى المنزل وقرت عينه بالوصول وسكنت نفسه كما قيل
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
ولكن هذا الموضع مورد الصديق الموحد والزنديق الملحد فالزنديق يقول الاشتغال بالسير بعد الوصول عيب لا فائدة فيه والوصول عنده هو ملاحظة عين الجمع فإذا استغرق في هذا الشهود وفنى به عن كل ما سواه ظن أن ذلك هو الغاية المطلوبة بالأوراد والعبادات وقد حصلت له الغاية فرأى قيامه بها أولى به وأنفع له من الاشتغال بالوسيلة فالعبادات البدنية عنده وسيلة لغاية وقد حصلت فلا معنى للاشتغال بالوسيلة بعدها كما يقول كثير من الناس إن العلم وسيلة إلى العمل فإذا اشتغلت بالغاية لم تحتج إلى الوسيلة وقد اشتد نكير السلف من أهل الاستقامة من الشيوخ على هذه الفرقة وحذروا منهم وجعلوا أهل الكبائر وأصحاب الشهوات خيرا منهم وأرجى عاقبة وأما الصديق الموحد فإذا وصل إلى هناك صارت أعماله القلبية والروحية أعظم من أعماله البدنية ولم يسقط من أعماله شيئا ولكنه استراح من كد المجاهدات بملاحظة عين الجمع وصار بمنزلة مسافر طلب ملكا عظيما رحيما جوادا فجد في السفر إليه خشية أن يقتطع دونه فلما وصل إليه ووقع بصره عليه بقي له سير آخر في مرضاته ومحابه فالأول كان سيرا إليه وهذا سير في محابه ومراضيه فهذا أقرب ما يقال في كلام الشيخ وأمثاله في ذلك.(3/116)
وبعد فالعبد وإن لاحظ عين الجمع ولم يغب عنها فهو سائر إلى الله ولا ينقطع سيره إليه ما دام في قيد الحياة ولا يصل العبد ما دام حيا إلى الله وصولا يستغنى به عن السير إليه البتة وهذا عين المحال بل يشتد سيره إلى الله كلما زادت ملاحظته لتوحيده وأسمائه وصفاته ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بالأعمال ومحافظة عليها إلى أن توفاه الله وهو أعظم ما كان اجتهادا وقياما بوظائف العبودية فلو اتى العبد بأعمال الثقلين جميعها لم تفارقه حقيقة السير إلى الله وكان بعد في طريق الطلب والإرادة وتقسيم السائرين إلى الله إلى طالب وسائر وواصل أو إلى مريد ومراد تقسيم فيه مساهلة لا تقسيم حقيقي فإن الطلب والسلوك والإرادة لو فارق العبد لانقطع عن الله بالكلية ولكن هذا التقسيم باعتبار تنقل العبد في أحوال سيره وإلا فإرادة العبد المراد وطلبه وسيره أشد من إرادة غيره وطلبه وسيره وأيضا فإنه مراد أولا حيث أقيم في مقام الطلب وجذب إلى السير فكل مريد مراد وكل واصل وسالك وطالب لا يفارقه طلبه ولا سيره وإن تنوعت طرق السير بحسب اختلاف حال العبد فمن السالكين من يكون سيره ببدنه وجوارحه أغلب عليه من سيره بقلبه وروحه ومنهم من سيره بقلبه أغلب عليه أعني قوة سيره وحدته ومنهم وهم الكمل الأقوياء من يعطي كل مرتبة حقها فيسير إلى الله ببدنه وجوارحه وقلبه وروحه وقد أخبر الله سبحانه عن صفوة أوليائه بأنهم دائما في مقام الإرادة له فقال.(3/117)
تعالى {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه} وقال تعالى{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فالعبد أخص أوصافه وأعلى مقاماته أن يكون مريدا صادق الإرادة عبدا في إرادته بحيث يكون مراده تبعا لمراد ربه الديني منه ليس له إرادة في سواه وقد يحمل كلام الشيخ على معنى آخر وهو أن يكون معنى قوله إن ملاحظة عين الجمع توقظ الاستهانة بالمجاهدات أنه يوقظه من نوم الاستهانة بالمجاهدات وتكون اللام للتعليل أي يوقظه من سنة التقصير لاستهانته بالمجاهدات وهذا معنى صحيح في نفسه فإن العبد كلما كان إلى الله أقرب كان جهاده في الله أعظم قال الله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه} وتأمل أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب في مقام عظم جهادهم واجتهادهم لا كما ظنه بعض الملاحدة المنتسبين إلى الطريق حيث قال القرب الحقيقي تنقل العبد من الأحوال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة ويريح الجسد والجوارح من كد العمل وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة التي هي من أماني النفس وخدع الشيطان وكأن قائلهم إنما عنى نفسه وذوى مذهبه بقوله
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من ... مكانهم وما ظعنوا في السير عنه كلوا
وقد صرح أهل الاستقامة وأئمة الطريق بكفر هؤلاء فأخرجوهم من الإسلام وقالوا لو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة أي ما دام قادرا عليه.(3/118)
وهؤلاء يظنون أنهم يستغنون بهذه الحقيقة عن ظاهر الشريعة وأجمعت هذه الطائفة على أن هذا كفر وإلحاد وصرحوا بأن كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر قال سرى السقطي من ادعى باطن حقيقة ينقضها ظاهر حكم فهو غالط وقال سيد الطائفة الجنيد بن محمد علمنا هذا مشتبه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إبراهيم بن محمد النصرابادي أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف وترك ما أحدثه الآخرون والمقام على ما سلك الأولون وسئل إسماعيل بن نجيد ما الذي لا بد للعبد منه فقال ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة وسئل ما التصوف فقال الصبر تحت الأمر والنهي وقال احمد بن أبي الحواري من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله وقال الشبلي يوما ومد يده إلى ثوبه لولا أنه عارية لمزقته فقيل له رؤيتك في تلك الغلبة ثيابك وأنها عارية فقال نعم أرباب الحقائق محفوظ عليهم في كل الأوقات الشريعة وقال أبو يزيد البسطامي لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشريعة وقال عبدالله الخياط الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مع ما يقع في قلوبهم فجاء النبي صلى اله عليه وسلم فردهم من القلب إلى الدين والشريعة ولما حضرت أبا عثمان الحيرى الوفاة مزق ابنه أبو بكر.(3/119)
قميصه ففتح أبو عثمان عينيه وقال يا بني خلاف السنة في الظاهر من رياء باطن في القلب ومن كلام ابن عثمان هذا أسلم الطرق من الاغترار طريق السلف ولزوم الشريعة وقال عبدالله بن مبارك لا يظهر على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة وكل موضع ترى فيه اجتهادا ظاهرا بلا نور فاعلم أن ثم بدعة خفية وقال سهل بن عبدالله الزم السواد على البياض حدثنا وأخبرنا إن أردت أن تفلح ولقد كان سادات الطائفة أشد ما كانوا اجتهادا في آخر أعمارهم قال القشيري سمعت أبا علي الدقاق يقول رؤى في يد الجنيد سبحة فقيل له أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة فقال طريق وصلت به إلى ربي تبارك وتعالى لا أفارقه أبدا وقال إسماعيل بن نجيد كان الجنيد يجيء كل يوم إلى السوق فيفتح باب حانوته فيدخله ويسبل الستر ويصلي أربعمائة ركعة ثم يرجع إلى بيته ودخل عليه ابن عطاء وهو في النزع فسلم عليه فلم يرد عليه ثم رد عليه بعد ساعة فقال اعذرني فإني كنت في وردي ثم حول وجهه إلى القبلة وكبر ومات وقال أبو سعيد بن الأعرابي سمعت أبا بكر العطار يقول حضرت أبا القاسم الجنيد أنا وجماعة من أصحابنا فكان قاعدا يصلي ويثني رجله إذا أراد أن يسجد فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجليه فثقلت عليه حركتها وكانتا قد تورمتا فقال له بعض أصحابه ما هذا يا أبا القاسم فقال هذه نعم الله الله أكبر فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري يا أبا القاسم لو اضطجعت فقال يا أبا محمد هذا.(3/120)
وقت يؤخذ فيه الله أكبر فلم يزل ذلك حاله حتى مات ودخل عليه شاب وهو في مرضه الذي مات فيه وقد تورم وجهه وبين يديه مخدة يصلي إليها فقال وفي هذه الساعة لا تترك الصلاة فلما سلم دعاه وقال شيء وصلت به إلى الله فلا أدعه ومات بعد ساعة رحمة الله عليه وقال أبو محمد الجريري كنت واقفا على رأس الجنيد في وقت وفاته وكان يوم جمعة ويوم نيروز وهو يقرأ القرآن فقلت له يا أبا القاسم ارفق بنفسك فقال يا أبا محمد أرأيت أحدا أحوج إليه مني في مثل هذا الوقت وهو ذا تطوى صحيفتي وقال أبو بكر العطوي كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ في ختمة أخرى فقرأ من البقرة سبعين آية ثم مات وقال محمد بن إبراهيم رأيت الجنيد في النوم فقلت ما فعل الله بك فقال طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار وتذاكروا بين يديه أهل المعرفة وما استهانوا به من الأوراد والعبادات بعد ما وصلوا إليه فقال الجنيد العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك وقال الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه وقال من ظن أنه يصل ببذل المجهود فمتعن ومن ظن أنه يصل بغير بذل المجهود فمتمن وقال أبو نعيم سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر بن هانىء يقول سألت الجنيد ما علامة الإيمان فقال علامته طاعة من آمنت به والعمل بما يحبه ويرضاه وترك التشاغل عنه بما ينقضي ويزول.(3/121)
فرحمة الله على أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه ما أتبعه لسنة الرسول وما وما أقفاه لطريقة أصحابه وهذا باب يطول تتبعه جدا يدلك على أن أهل الاستقامة في نهاياتهم أشد اجتهادا منهم في بداياتهم بل كان اجتهادهم في البداية في عمل مخصوص فصار اجتهادهم في النهاية الطاعة المطلقة وصارت إرادتهم دائرة معها فتضعف الاجتهاد في المعنى المعين لأنه كان مقسوما بينه وبين غيره ولا تصغ الى قول ملحد قاطع للطريق في قالب عارف يقول إن منزلة القرب تنقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة وتحمل على الاستهانة بالطاعات الظاهرة وتريحه من كد القيام بها.
فصل قوله وتخلص من رعونة المعارضات يريد أن هذه الملاحظة تخلص.
العبد من رعونة معارضة حكم الله الديني والكوني الذي لم يأمر بمعارضته فيستسلم للحكمين فإن ملاحظة عين الجمع تشهده أن الحكمين صدرا عن عزيز حكيم فلا يعارض حكمه برأي ولا عقل ولا ذوق ولا خاطر وأيضا فتخلص قلبه من معارضات السوى للأمر فإن الأمر يعارض بالشهوة والخبر يعارض بالشك والشبهة فملاحظة عين الجمع تخلص قلبه من هاتين المعارضتين وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من لقي الله به هذا تفسير أهل الحق والاستقامة وأما أهل الإلحاد فقالوا المراد بالمعارضات ههنا الإنكار على الخلق فيما يبدو منهم من أحكام البشرية لأن المشاهد لعين الجمع يعلم أن مراد الله من الخلق ما هم عليه فإذا علم ذلك بحقيقة الشهود كانت المعارضات والإنكار عليهم من رعونات الأنفس المحجوبة.(3/122)
وقال قدوتهم في ذلك العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر وهذا عين الاتحاد والإلحاد والانسلاخ من الدين بالكلية وقد أعاذ الله شيخ الإسلام من ذلك وإذا كان الملحد يحمل كلام الله ورسوله ما لا يحتمله فما الظن بكلام مخلوق مثله فيقال إنما بعث الله رسله وأنزل كتبه بالإنكار على الخلق بما هم عليه من أحكام البشرية وغيرها فبهذا أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وانقسمت الدار إلى دار سعادة للمنكرين ودار شقاوة للمنكر عليهم فالطعن في ذلك طعن في الرسل والكتب والتخلص من ذلك انحلال من ربقة الدين ومن تأمل أحوال الرسل مع أممهم وجدهم كانوا قائمين بالإنكار عليهم أشد القيام حتى لقوا الله تعالى وأوصوا من آمن بهم بالإنكار على من خالفهم وأخبر النبي صلى اله عليه وسلم "أن المتخلص من مقامات الإنكار الثلاثة ليس معه من الإيمان حبة خردل" وبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد المبالغة حتى قال" إن الناس إذا تركوه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " وأخبر أن تركه يمنع إجابة دعاء الأخيار ويوجب تسلط الأشرار وأخبر أن تركه يوقع المخالفة بين القلوب والوجوه ويحل لعنه الله كما لعن الله بني إسرائيل على تركه فكيف يكون الإنكار من رعونات النفوس وهو مقصود الشريعة وهل الجهاد إلا على أنواع الإنكار وهو جهاد باليد وجهاد أهل العلم إنكار باللسان وأما قوله إن المشاهد أن مراد الله من الخلائق ما هم عليه فيقال له الرب تعالى له مرادان كوني وديني فهب أن مراده الكوني منهم ما هم عليه فمراده الديني الأمري الشرعي هو الإنكار على أصحاب المراد الكوني فإذا عطلت مراده الديني لم تكن واقفا مع مراده الديني الذي يحبه.(3/123)
ويرضاه ولا ينفعك وقوفك مع مراده الكوني الذي قدره وقضاه إذ لو نفعك ذلك لم يكن للشرائع معنى البتة ولا للحدود والزواجر ولا للعقوبات الدنيوية ولا للأخذ على أيدي الظلمة والفجار وكف عدوانهم وفجورهم فإن العارف عندك يشهد أن مراد الله منهم هو ذلك وفي هذا فساد الدنيا قبل الأديان فهذا المذهب الخبيث لا يصلح عليه دنيا ولا دين ولكنه رعونة نفس قد أخلدت إلى الإلحاد وكفرت بدين رب العباد واتخذت تعطيل الشرائع دينا ومقاما ووساوس الشيطان مسامرة وإلهاما وجعلت أقدار الرب تعالى مبطلة لما بعث به رسله ومعطلة لما أنزل به كتبه وجعلوا هذا الإلحاد غاية المعارف الألهية وأشرف المقامات العلية ودعوا إلى ذلك النفوس المبطلة الجاهلة بالله ودينه فلبوا دعوتهم مسرعين واستخف الداعي منهم قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين وأما قوله إن الإنكار من معارضات النفوس المحجوبة فلعمر الله إنهم لفي حجاب منيع من هذا الكفر والإلحاد ولكنهم يشرفون على أهله وهم في ضلالتهم يعمهون وفي كفرهم يترددون ولأتباع الرسل يحاربون وإلى خلاف طريقهم يدعون وبغير هداهم يهتدون وعن صراطهم المستقيم ناكبون ولما جاءا به يعارضون {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا(3/124)
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فصل قوله وتفيد مطالعة البدايات يحتمل كلامه أمرين أحدهما أن.
ملاحظة عين الجمع تفيد صابحها مطالعة السوابق التي ابتدأه الله بها فتفيده ملاحظة عين الجمع نظرة إلى أولية الرب تعالى في كل شيء ويحتمل أن يريد بالبدايات بدايات سلوكه وحدة طلبه فإنه في حال سلوكه لا يلتفت إلى ما وراءه لشدة شغله بما بين يديه وغلبة أحكام الهمة عليه فلا يتفرغ لمطالعة بداياته فإذا لاحظ عين الجمع قطع السلوك الأول وبقى له سلوك ثان فتفرغ حينئذ إلى مطالعة بداياته ووجد اشتياقا منه إليها كما قال الجنيد واشوقاه إلى أوقات البداية يعني لذة أوقات البداية وجمع الهمة على الطلب والسير إلى الله فإنه كان مجموع الهمة على السير والطلب فلما لاحظ عين الجمع فنيت رسومه وهو لا يمكنه الفناء عن بشريته وأحكام طبيعته فتقاصت طباعه ما فيها فلزمته الكلف فارتاح إلى أوقات البدايات لما كان فيها من لذة الإعراض عن الخلق واجتماع الهمة ومر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على رجل وهو يبكي من خشية الله فقال هكذا كنا حتى قست قلوبنا وقد أخبر النبي صلى اله عليه وسلم " إن لكل عامل شرة ولك شرة فترة " فالطالب الجاد لا بدأن تعرض له فترة فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد ولما فتر الوحي عن النبي صلى اله عليه وسلم "كان يغدو إلى شواهق الجبال .(3/125)
ليلقى نفسه فيبدو له جبريل عليه السلام فيقول له إنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسكن لذلك جأشه وتطمئن نفسه " فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لا بد منه فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم رجى له أن يعود خيرا مما كان قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل وإن أدبرت فألزموها الفرائض وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين من الحكم مالا يعلم تفصيله إلا الله وبها يتبين الصادق من الكاذب فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه 3والصادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله ويلقى نفسه بالباب طريحا ذليلا مسكينا مستكينا كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتة ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له لا بسبب من العبد وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب لكن ليس هو منك بل هو الذي من عليك به وجردك منك وأخلاك عنك وهو الذي يحول بين المرء وقلبه فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام فاعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مضيع فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يرده عليك ويجمع شملك به ولقد أحسن القائل
إذا ما وضعت القلب في غير موضع ... بغير إناء فهو قلب مضيع(3/126)
فصل الوقت
...
فصل ومنها الوقت
قال صاحب المنازل. باب الوقت قال الله تعالى {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} الوقت اسم لظرف الكون وهو اسم في هذا الباب لثلاثة معان على ثلاث درجات المعنى الأول حين وجد صادق لأنياس ضياء فضل جذبه صفاء رجاء أو لعصمة جذبها صدق خوف أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة وجه استشهاده بالآية أن الله سبحانه قدر مجيء موسى أحوج ما كان الوقت إليه فإن العرب تقول جاء فلان على قدر إذا جاء وقت الحاجة إليه قال جرير
نال الخلافة إذ كانت على قدر ... كما أتى ربه موسى على قدر
وقال مجاهد على موعد وهذا فيه نظر لأنه لم يسبق بين الله سبحانه وبين موسى موعد للمجيءحتى يقال إنه أتى على ذلك الموعد ولكن وجه هذا أن المعنى جئت على الموعد الذي وعدنا أن ننجزه والقدر الذي قدرنا أن يكون في وقته وهذا كقوله تعالى إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا لأن الله سبحانه وتعالى وعد بإرسال نبي في آخر الزمان يملأ الأرض نورا وهدى فلما سمعوا القرآن علموا أن الله أنجز ذلك الوعد الذي وعد به واستشهاده بهذه الآية يدل على محله من العلم لأن الشيء إذا وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه كان أحسن وأنفع وأجدى كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه وكما إذا وقع الفرج في وقته الذي يليق به.(3/127)
ومن تأمل أقدار الرب تعالى وجريانها في الخلق علم أنها واقعة في أليق الأوقات بها فبعث الله سبحانه موسى أحوج ما كان الناس إلى بعثته وبعث عيسى كذلك وبعث محمد وعليهم أجمعين أحوج ما كان أهل الأرض إلى إرساله فهكذا وقت العبد مع الله يعمره بأنفع الأشياء له أحوج ما كان إلى عمارته قوله الوقت ظرف الكون الوقت عبارة عن مقاربة حادث لحادث عند المتكلمين فهو نسبة بين حادثين فقوله ظرف الكون أي وعاء التكوين فهو الوعاء الزماني الذي يقع فيه التكوين كما أن ظرف المكان هو الوعاء المكاني الذي يحصل فيه الجسم ولكن الوقت في اصطلاح القوم أخص من ذلك قال أبو على الدقاق الوقت ما أنت فيه فإن كنت في الدنيا فوقتك الدنيا وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى وإن كنت بالسرور فوقتك السرور وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن يريد أن الوقت ما كان الغالب على الإنسان من حاله وقد يريد أن الوقت ما بين الزمانين الماضي والمستقبل وهو اصطلاح أكثر الطائفة ولهذا يقولون الصوفي والفقير ابن وقته يريدون أن همته لا تتعدى وظينة عمارته بما هو أولى الأشياء به وأنفعها له فهو قائم بما هو مطالب به في الحين والساعة الراهنة فهو لا يهتم بماضي وقته وآتيه بل يهتم بوقته الذي هو فيه فإن الاشتغال بالوقت الماضي والمستقبل يضيع الوقت الحاضر وكلما حضر وقت اشتغل عنه بالطرفين فتصير أوقاته كلها فوات.(3/128)
قال الشافع رضي الله عنه صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين سمعتهم يقولون الوقت سيف فإن قطعته وإلا قطعك ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل قلت يا لهما من كلمتين ما أنفعهما وأجمعهما وأدلهما على علو همة قائلهما ويقظته ويكفي في هذا ثناء الشافعي على طائفة هذا قدر كلماتهم وقد يريدون بالوقت ما هو أخص من هذا كله وهو ما يصادفهم في تصريف الحق لهم دون ما يختارونه لأنفسهم ويقولون فلان بحكم الوقت أي مستسلم لما يأتي من عند الله من غير اختيار وهذا يحسن في حال ويحرم في حال وينقص صاحبه في حال فيحسن في كل موضع ليس لله على العبد فيه أمر ولا نهي بل في موضع جريان الحكم الكوني الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي كالفقر والمرض والغربة والجوع والألم والحر والبرد ونحو ذلك ويحرم في الحال التي يجري عليه فيها الأمر والنهي والقيام بحقوق الشرع فإن التضييع لذلك والاستسلام والاسترسال مع القدر انسلاخ من الدين بالكلية وينقص صاحبه في حال تقتضي قياما بالنوافل وأنواع البر والطاعة وإذا أراد الله بالعبد خيرا أعانه بالوقت وجعل وقته مساعدا له وإذا أراد.(3/129)
به شرا جعل وقته عليه وناكده وقته فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده الوقت والأول كلما همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده وقد قسم بعضهم الصوفية أربعة أقسام أصحاب السوابق وأصحاب العواقب وأصحاب الوقت وأصحاب الحق قال فأما أصحاب السوابق فقلوبهم أبدا فيما سبق لهم من الله لعلمهم أن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد ويقولون من أقصته السوابق لم تدنه الوسائل ففكرهم في هذا أبدا ومع ذلك فهم يجدون في القيام بالأوامر واجتناب النواهي والتقرب إلى الله بأنواع القرب غير واثقين بها ولا ملتفتين إليها ويقول قائلهم
من أين أرضيك إلا أن توفقني ... هيهات هيهات ما التوفيق من قبلي
إن لم يكن لي في المقدور سابقة ... فليس ينفع ما قدمت من عملي
وأما أصحاب العواقب فهم متفكرون فيما يختم به أمرهم فإن الأمور بأواخرها والأعمال بخواتيمها والعاقبة مستورة كما قيل
لا يغرنك صفا الأوقات
فإن تحتها غوامض الآفات
فكم من ربيع نورت أشجاره وتفتحت أزهاره وزهت ثماره لم يلبث أن أصابته جائحة سماوية فصار كما قال الله عز وجل {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} إلى قوله {تَفَكَّرُونَ}
فكم من مريد كبا به جواد عزمه ... فخر صريعا لليدين وللفم
وقيل لبعضهم وقد شوهد منه خلاف ما كان يعهد عليه ما الذي أصابك فقال حجاب وقع وأنشد
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
ليس العجب ممن هلك كيف هلك ... إنما العجب ممن نجا كيف نجا
تعجبين من سقمي ... صحتي هي العجب(3/130)
الناكصون على أعقابهم أضعاف أضعاف من اقتحم العقبة
خذ من الألف واحدا ... واطرح الكل من بعده
وأما أصحاب الوقت فلم يشتغلوا بالسواق ولا بالعواقب بل اشتغلوا بمراعاة الوقت وما يلزمهم من أحكامه وقالوا العارف ابن وقته لا ماضي له ولا مستقبل ورأى بعضهم الصديق رضي الله عنه في منامه فقال له أوصني فقال هل كن ابن وقتك وأما أصحاب الحق فهم مع صاحب الوقت والزمان ومالكهما ومدبرهما مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات لا يتفرغون لمراعاة وقت ولا زمان كما قيل
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلى ... ولرعي النجوم كنت مخلى إن
للعاشقين عن قصر الليل، وعن طوله من العشق
شغلا قال الجنيد دخلت على السرى يوما فقلت له كيف أصبحت فأنشأ يقول
ما في النهار ولا في الليل لي فرج ... فلا أبالي أطال الليل أم قصرا
ثم قال ليس عند ربكم ليل ولا نهار يشير إلى أنه غير متطلع إلى الأوقات بل هو مع الذي يقدر الليل والنهار.
فصل قال صاحب المنازل الوقت اسم في هذا الباب لثلاث معان المعنى.
الأول حين وجد صادق أي وقت وجد صادق أي زمن من وجد يقوم بقلبه وهو صادق منه غير متكلف له ولا متعمل في تحصيله يكون متعلقه إيناس ضياء فضل أي رؤية ذلك والإيناس الرؤية.(3/131)
قال الله تعالى فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا وليس هو مجرد الرؤية بل رؤية ما يأنس به القلب ويسكن إليه ولا يقال لمن رأى عدوه أو مخوفا آنسه ومقصوده أن هذا الوقت وقت وجد صاحبه صادق فيه لرؤيته ضياء فضل الله ومنته عليه والفضل هو العطاء الذي لا يستحقه المعطى أو يعطى فوق استحقاقه فإذا آنس هذا الفضل وطالعه بقلبه أثار ذلك فيه وجدا آخر باعثا على محبة صاحب الفضل والشوق إلى لقائه فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها ودخلت يوما على بعض أصحابنا وقد حصل له وجد أبكاه فسألته عنه فقال ذكرت ما من الله به علي من السنة ومعرفتها والتخلص من شبه القوم وقواعدهم الباطلة وموافقة العقل الصريح والفطرة السليمة لما جاء به الرسول فسرني ذلك حتى أبكاني فهذا الوجد أثاره إيناس فضل الله ومنته قوله جذبه صفاء رجاء أي جذب ذلك الوجد أو الإيناس أو الفضل رجاء صاف غير مكدر والرجاء الصافي هو الذي لا يشوبه كدر توهم معاوضة منك وأن عملك هو الذي بعثك على الرجاء فصفاء الرجاء يخرجه عن ذلك بل يكون رجاء محضا لمن هو مبتدئك بالنعم من غير استحقاقك والفضل كله له ومنه وفي يده أسبابه وغاياته ووسائله وشروطه وصرف موانعه كلها بيد الله لا يستطيع العبد أن ينال منه شيئا بدون توفيقه وإذنه ومشيئته وملخص ذلك أن الوقت في هذه الدرجة الأولى عبارة عن وجد صادق سببه رؤية فضل الله على عبده لأن رجاءه كان صافيا من الأكدار قوله أو لعصمة جذبها صدق خوف اللام في قوله أو لعصمة.(3/132)
معطوف على اللام في قوله أو لإيناس ضياء فضل أي وجد لعصمة جذبها صدق خوف فاللام ليست للتعليل بل هي على حدها في قولك ذوق لكذا ورؤية لكذا فمتعلق الوجد عصمة وهي منعة وحفظ ظاهر وباطن جذبها صدق خوف من الرب سبحانه والفرق بين الوجد في هذ الدرجة والتي قبلها أن الوجد في الأولى جذبه صدق الرجاء وفي الثانية جذبه صدق الخوف وفي الثالثة التي ستذكر جذبه صدق الحب فهو معنى قوله أو التلهب شوق جذبه اشتعال محبة وخدمته التورية في اللهيب والأشتعال والمحبة متى قويت اشتعلت نارها في القلب فحدث عنها لهيب الاشتياق إلى لقاء الحبيب وهذه الثلاثة التي تضمنتها هذه الدرجة وهي الحب والخوف والرجاء هي التي تبعث على عمارة الوقت بما هو الأولى لصاحبه والأنفع له وهي أساس السلوك والسير إلى الله وقد جمع الله سبحانه الثلاثة في قوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وهذه الثلاثة هي قطب رحى العبودية وعليها دارت رحى الأعمال والله أعلم.
فصل قال والمعنى الثاني اسم لطريق سالك يسير بين تمكن وتلون ولكنه.
إلى التمكن ما هو يسلك الحال ويلتفت إلى العلم فالعلم يشغله في حين والحال يحمله في حين فبلاؤه بينهما يذيقه شهودا طورا ويكسوه عبدة طورا ويريه غيرة تفرق طورا هذا المعنى هو المعنى الثاني من المعاني الثلاثة من معاني الوقت عنده قوله اسم لطريق سالك هو على الإضافة أي لطريق عبد سالك.(3/133)
قوله يسير بين تمكن وتلون أي ذلك العبد يسير بين تمكن وتلون والتمكن هو الانقياد إلى أحكام العبودية بالشهود والحال والتلون في هذا الموضع خاصة هو الانقياد إلى أحكما العبودية بالعلم فالحال يجمعه بقوته وسلطانه فيعطيه تمكينا والعلم بلونه بحسب متعلقاته وأحكامه قوله لكنه إلى التمكن ما هو يسلك الحال ويلتفت إلى العلم يعني أن هذا العبد هو سالك إلى التمكن ما دام يسلك الحال ويلتفت إلى العلم فأما إن سلك العلم والتفت إلى الحال لم يكن سالكا إلى التمكن فالسالكون ضربان سالكون على الحال ملتفتون إلى العلم وهم إلى التمكن أقرب وسالكون على العلم ملتفتون إلى الحال وهم إلى التلون أقرب هذا حاصل كلامه وهذه الثلاثة هي المفرقة بين أهل العلم وأهل الحال حتى كأنهما غيران وحزبان وكل فرقة منهما لا تأنس بالأخرى ولا تعاشرها إلا على إغماض ونوع استكراه وهذا من تقصير الفريقين حيث ضعف أحدهما عن السير في العلم وضعف الآخر عن الحال في العلم فلم يتمكن كل منهما من الجمع بين الحال والعلم فأخذ هؤلاء العلم وسعته ونوره ورجحوه وأخذ هؤلاء الحال وسلطانه وتمكينه ورجحوه وصار الصادق الضعيف من الفريقين يسير بأحدهما ملتفتا إلى الآخر فهذا مطيع للحال وهذا مطيع للعلم لكن المطيع للحال متى عصى به العلم كان منقطعا محجوبا وإن كان له من الحال ما عساه أن يكون والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيعا منقوصا مشتغلا بالوسيلة عن الغاية وصاحب التمكين يتصرف علمه في حاله ويحكم عليه فينقاد لحكمه ويتصرف حاله في علمه فلا يدعه أن يقف معه بل يدعوه إلى غاية العلم فيجيبه.(3/134)
ويلبي دعوته فهذه حال الكمل من هذه الأمة ومن استقرأ احوال الصحابة رضي الله عنهم وجدها كذلك فلما فرق المتأخرون بين الحال والعلم دخل عليهم النقص والخلل والله المستعان يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير فكذلك يهب لمن يشاء علما ولمن يشاء حالا ويجمع بينهما لمن يشاء ويخلي منهما من يشاء قوله فالعلم يشغله في حين أي يشغله عن السلوك إلى تمكن الحال لأن العلم متنوع التعلقات فهو يفرق والحال يجمع لأنه يدعوه إلى الفناء وهناك سلطان الحال قوله والحال يحمله في حين أي يغلب عليه الحال تارة فيصير محمولا بقوة الحال وسلطانه على السلوك فيشتد سيره بحكم الحال يعني وإذا غلبه العلم شغله عن السلوك وهذا هو المعهود من طريقة المتأخرين أن العلم عندهم يشغل عن السلوك ولهذا يعدون السالك من سلك على الحال ملتفتا عن العلم وأما على ما قررناه من أن العلم يعين على السلوك ويحمل عليه ويكون صاحبه سالكا به وفيه فلا يشغله العلم عن سلوكه وإن أضعف سيره على درب الفناء فلا ريب أن العلم لا يجامع الفناء فالفناء ليس هو غاية السالكين إلى الله بل ولا هو لازم من لوازم الطريق وإن كان عارضا من عوارضها يعرض لغير الكمل كما تقدم تقرير ذلك فبينا أن الفناء الكامل الذي هو الغاية المطلوبة هو الفناء عن محبة ما سوى الله وإرادته فيفنى بمحبة الله عن محبة ما سواه وبإرادته ورجائه والخوف منه والتوكل عليه والإنابة إليه عن إرادة ما سواه وخوفه ورجائه والتوكل عليه وهذا الفناء لا ينافي العلم بحال ولا يحول بين العبد وبينه بل قد يكون في.(3/135)
أغلب الأحوال من أعظم أعوانه وهذا أمر غفل عنه أكثر المتأخرين بحيث لم يعرفوه ولم يسلكوه ولكن لم يخل الله الأرض من قائم به داع إليه قوله فبلاؤه بينهما أي عذابه وألمه بين داعي الحال وداعي العلم فإيمانه يحمله على إجابة داعي العلم ووارده يحمله على إجابة داعي الحال فيصير كالغريم بين مطالبين كل منهما يطالبه بحقه وليس بيده إلا ما يقضي أحدهما وقد عرفت أن هذا من الضيق وإلا فمع السعة يوفى كلا منهما حقه قوله يذيقه شهودا طورا أي ذلك البلاء الحاصل بين الداعيين يذيقه شهودا طورا وهو الطور الذي يكون الحاكم عليه فيه هو العلم قوله ويكسوه عبرة طورا الظاهر أنه عبرة بالباء الموحدة والعين أي اعتبارا بأفعاله واستدلالا عليه بها فإنه سبحانه دل على نفسه بأفعاله فالعلم يكسو صاحبه اعتبارا واستدلالا على الرب بأفعاله ويصح أن يكون غيرة بالغين المعجمة والياء المثناة من تحت ومعناه أن العلم يكسوه غيرة من حجابة عن مقام صاحب الحال فيغار من احتجابه عن الحال بالعلم وعن العيان بلاستدلالا وعن الشهود الذي هو مقام الإحسان بلايمان الذي هو إيمان بالغيب قوله ويريه غيرة تفرق طورا هذا بالغين المعجمة ليس إلا أي ويريه العلم غيرة تفرقه في أوديته فيفرق بين أحكام الحال وأحكام العلم وهو حال صحو وتمييز وكأن الشيخ يشير إلى أن صاحب هذا المقام تغار تفرقته من جمعيته على الله فنفسه تفر من الجمعية على الله إلى تفرق العلم فإنه لا أشق على النفوس من جمعيتها على الله فهي تهرب من الله إلى الحال تارة وإلى العمل تارة وإلى العلم تارة هذه نفوس السالكين الصادقين.(3/136)
وأما من ليس من أهل هذا الشأن فنفوسهم تفر من الله إلى الشهوات والراحات فأشق ما على النفوس جمعيتها على الله وهي تناشد صاحبها أن لا يوصلها إليه وأن يشغلها بما دونه فإن حبس النفس على الله شديد وأشد منه حبسها على أوامره وحبسها عن نواهيه فهي دائما ترضيك بالعلم عن العمل وبالعمل عن الحال وبالحال عن الله سبحانه وتعالى وهذا أمر لا يعرفه إلا من شد مئزر سيره إلى الله وعلم أن كل ما سواه فهو قاطع عنه وقد تضمن كلامه في هذه الدرجة ثلاث درجات كما أشار إليه درجة الحال ودرجة العلم ودرجة التفرقة بين الحال والعلم وهذه الثلاث الدرجات هي المختصة بالمعنى الثاني من معاني الوقت والله أعلم.
فصل قال والمعنى الثالث قالوا الوقت الحق أرادوا به استغراق رسم.
الوقت في وجود الحق وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي لكنه هو اسم في هذا المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفا لا وجودا محضا وهو فوق البرق والوجد وهو يشارف مقام الجمع لو دام وبقي ولا يبلغ وادي الوجود لكنه يكفي مؤنة المعاملة ويصفي عين المسامرة ويشم روائح الوجود هذا المعنى الثالث من معاني الوقت أخص مما قبله وأصعب تصورا وحصولا فإن الأول وقت سلوك يتلون وهذا وقت كشف يتمكن ولذلك أطلقوا عليه اسم الحق لغلبة حكمه على قلب صاحبه فلا يحس برسم الوقت بل يتلاشى ذكر وقته من قلبه لما قهره من نور الكشف فقوله قالوا الوقت هو الحق يعني أن بعضهم أطلق اسم الحق على الوقت ثم فسر مرادهم بذلك وأنهم عنوا به استغراق رسم الوقت في وجود الحق ومعنى هذا أن السالك بهذا المعنى الثالث للحق إذا اشتد استغراقته في وقته يتلاشى عنه وقته بالكلية.(3/137)
وتقريب هذا إلى الفهم أنه إذا شهد استغراق وقته الحاضر في ماهية الزمان فقد استغرق الزمان رسم الوقت إلى ما هو جزء يسير جدا من أجزائه وانغمر فيه كما تنغمر القطرة في البحر ثم إن الزمان المحدود الطرفين يستغرق رسمه في وجود الدهر وهو ما بين الأزل والأبد ثم إن الدهر يستغرق رسمه في دوام الرب جل جلاله وذلك الدوام هو صفة الرب فهناك يضمحل الدهر والزمان والوقت ولا يبقى له نسبة إلى دوام الرب جل جلاله البتة فاضمحل الزمان والدهر والوقت في الدوام الإلهي كما تضمحل الأنوار المخلوقة في نوره وكما يضمحل علم الخلق في علمه وقدرهم في قدرته وجمالهم في جماله وكلامهم في كلامه بحيث لا يبقى للمخلوق نسبة ما إلى صفات الرب جل جلاله والقوم إذا أطلق أهل الاستقامة منهم ما في الوجود إلا الله أو ما ثم موجود على الحقيقة إلا الله أو هناك يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل ونحو ذلك من العبارات فهذا مرادهم لا سيما إذا حصل هذا الاستغراق في الشهود كما هو في الوجود وغلب سلطانه على سلطان العلم وكان العلم مغمورا بوارده وفي قوة التمييز ضعف وقد توارى العلم بالشهود وحكم الحال فهناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت وتزل أقدام كثيرة إلى الحضيض الأدنى ولا ريب أن وجود الحق سبحانه ودوامه يستغرق وجود كل ما سواه ووقته وزمانه بحيث يصير كأنه لا وجود له ومن هنا غلط القائلون بوحدة الوجود وظنوا أنه ليس لغيره وجود البتة وغرهم كلمات مشتبهات جرت على ألسنة أهل الاستقامة من الطائفة فجعلوها عمدة لكفرهم وضلالهم وظنوا أن السالكين سيرجعون إليهم وتصير طريقة الناس واحدة ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.(3/138)
قوله وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي يريد أن الحق سابق على الاسم الذي هو الوقت أي منزه عن أن يسمى بالوقت فلا ينبغي إطلاقه عليه لأن الأوقات حادثة قوله لكنه اسم في هذا المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفا لا وجودا محضا تلاشي الرسوم اضمحلالها وفناؤها والرسوم عندهم ما سوى الله وقد صرح الشيخ أنها إنما تتلاشى في وجود العبد الكشفي بحيث لا يبقى فيه سعة للإحساس بها لما استغرقه من الكشف فهذه عقيدة أهل الاستقامة من القوم وأما الملاحدة أهل وحدة الوجود فعندهم أنها لم تزل متلاشية في عين وجود الحق بل وجودها هو نفس وجوده وإنما كان الحس يفرق بين الوجوديين فلما غاب عن حسه بكشفه تبين أن وجودها هو عين وجود الحق ولكن الشيخ كأنه عبر بالكشف والوجود عن المقامين اللذين ذكرهما في كتابه والكشف هو دون الوجود عنده فإن الكشف يكون مع بقاء بعض رسوم صاحبه فليس معه استغراق في الفناء والوجود لا يكون معه رسم باق ولذلك قال لا وجودا محضا فإن الوجود المحض عنده يفني الرسوم وبكل حال فهو يفنيها من وجود الواجد لا يفنيها في الخارج وسر المسألة أن الواصل إلى هذا المقام يصير له وجود آخر غير وجوده الطبيعي المشترك بين جميع الموجودات ويصير له نشأة أخرى لقلبه وروحه نسبة النشأة الحيوانية إليها كنسبة النشأة في بطن الأم إلى هذه النشأة المشاهدة في العالم وكنسبة هذه النشأة إلى النشأة الأخرى فللعبد أربع نشآت نشأة في الرحم حيث لا بصر يدركه ولا يد تناله ونشأة في الدنيا ونشأة في البرزخ ونشأة في المعاد الثاني وكل نشأة أعظم من التي قبلها وهذه النشأة للروح والقلب أصلا وللبدن تبعا.(3/139)
فللروح في هذا العالم نشأتان إحداهما النشأة الطبيعية المشتركة والثانية نشأة قلبية روحانية يولد بها قلبه وينفصل عن مشيمة طبعه كما ولد بدنه وانفصل عن مشيمة البطن ومن لم يصدق بهذا فليضرب عن هذا صفحا وليشتغل بغيره وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أن المسيح عليه السلام قال للحواريين إنكم لن تلجوا ملكوت السموات حتى تولدوا مرتين وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول هي ولادة الأرواح والقلوب من الأبدان وخروجها من عالم الطبيعة كما ولدت الأبدان من البدن وخرجت منه والولادة الأخرى هي الولادة المعروفة والله أعلم قوله وهو فوق البرق والوجد يعني أن هذا الكشف الذي تلاشت فيه الرسوم فوق منزلتي البرق والوجد فإنه أثبت وأدوم والوجود فوقه لأنه يشعر بالدوام قوله وهو يشارف مقام الجمع لو دام أي لو دام هذا الوقت لشارف مقام الجمع وهو ذهاب شعور القلب بغير الحق سبحانه وتعالى شغلا به عن غيره فهو جمع في الشهود وعند الملاحدة هو جمع في الوجود ومقصوده أنه لو دام الوقت بهذا المعنى الثالث لشارف حضرة الجمع لكنه لا يدوم قوله ولا يبلغ وادي الوجود يعني أن الوقت المذكور لا يبلغ السالك فيه وادي الوجود حتى يقطعه ووادي الوجود هو حضرة الجمع قوله لكنه يلقى مؤنة المعاملة يعني أن الوقت المذكور وهو الكشف المشارف لحضرة الجمع يخفف عن العامل أثقال المعاملة مع قيامه بها أتم القيام بحيث تصير هي الحاملة له.(3/140)
فإنه كان يعمل على الخبر فصار يعمل على العيان هذا مراد الشيخ وعند الملحد أنه يفنى عن المعاملات الجسمانية ويرد صاحبه إلى المعاملات القلبية وقد تقدم إشباع الكلام في هذا المعنى قوله ويصفى عن المسامرة المسامرة عند القوم هي الخطاب القلبي الروحي بين العبد وربه وقد تقدم أن تسميتها بالمناجاة أولى فهذا الكشف يخلص عن المسامرة من ذكر غير الحق سبحانه ومناجاته قوله ويشم روائح الوجود أي صاحب مقام هذا الوقت الخاص يشم روائح الوجود وهو حضرة الجمع فإنهم يسمونها بالجمع والوجود ويعنون بذلك ظهور وجود الحق سبحانه وفناء وجود ما سواه وقد عرفت أن فناء وجود ما سوله بأحد اعتبارين إما سواه بأحد اعتبارين إما فناؤه من شهود العبد فلا يشهده وإما اضملاله وتلاشيه بالنسبة إلى وجود الرب ولا تلتفت إلى غير هذين المعنيين فهو إلحاد وكفر والله المستعان.(3/141)
فصل منزلة الصفاء
ومنها منزلة الصفاء قال صاحب المنازل. باب الصفاء قال الله عز وجل وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار الصفا اسم للبراءة من الكدر وهو في هذا الباب سقوط التلوين أما الاستشهاد بالآية فوجهه أن المصطفى مفتعل من الصفوة وهي خلاصة الشيء وتصفيته مما يشوبه ومنه اصطفى الشيء لنفسه أي خلصه من شوب شركة غيره له فيه ومنه الصفي وهو السهم الذي كان يصطفيه.(3/141)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من الغنيمة ومنه الشيء الصافي وهو الخالص من كدر غيره قوله الصفاء إسم للبراءة من الكدر البراءة هي الخلاص والكدر امتزاج الطيب بالخبيث قوله وهو في هذا الباب سقوط التلوين التلوين هو التردد والتذبذب كما قيل
كل يوم تتلون ... ترك هذا بك أجمل
قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى صفاء علم يهذب لسلوك الطريق ويبصر غاية الجد ويصحح همة القاصد ذكر الشيخ له في هذه الدرجة ثلاث فوائد الفائدة الأولى علم يهذب لسلوك الطريق وهذا العلم الصافي الذي أشار إليه هو العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الجنيد يقول دائما علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به وقال غيره من العارفين كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر وقال الجنيد علمنا هذا متشبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو سليمان الداراني إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة وقال النصرابادي أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع والاقتداء بالسلف وترك ما أحدثه الآخرون والإقامة على ما سلكه الأولون.(3/142)
وقد تقدم ذكر بعض ذلك فهذا العلم الصافي المتلقى من مشكاة الوحي والنبوة يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية وحقيقتها التأدب بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا وتحكيمه باطنا وظاهرا والوقوف معه حيث وقف بك والمسير معه حيث سار بك بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألقيت إليه أمرك كله سره وظاهره واقتديت به في جميع أحوالك ووقفت مع ما يأمرك به فلا تخالفه البته فتجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لك شيخا وإماما وقدوة وحاكما وتعلق قلبك بقلبه الكريم وروحانيتك بروحانيته كما يعلق المريد روحانيته بروحانية شيخه فتجيبه إذا دعاك وتقف معه إذا استوقفك وتسير إذا سار بك وتقيل إذا قال وتنزل إذا نزل وتغضب لغضبه وترضى لرضاه وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزله ما تسمعه من الله بإذنك.(3/143)
وبالجملة فتجعل الرسول شيخك وأستاذك ومعلمك ومربيك ومؤدبك وتسقط الوسائط بينك وبينه إلا في التبليغ كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية ولا تثبت وساطة إلا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك وهذان التجريدان هما حقيقة شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله والله وحده هو المعبود المألوه الذي لا يستحق العبادة سواه ورسوله المطاع المتبع المهتدى به الذي لا يستحق الطاعة سواه ومن سواه فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته فيطاع تبعا للأصل وبالجملة فالطريق مسدودة إلا على من اقتفى آثار الرسول واقتدى به في ظاهره وباطنه فلا يتعنى السالك على غير هذا الطريق فليس حظه من سلوكه إلا التعب وأعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ولا يتعنى السالك على هذا الطريق فإنه واصل ولو زحف زحفا فأتباع الرسول إذا قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عزائمهم وهمهم ومتابعتهم لنبيهم كما قيل
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدا وتجي في الأول
والمنحرفون عن طريقه إذا قامت بهم أعمالهم واجتهاداتهم قعد بهم عدولهم عن طريقه.(3/144)
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
قوله ويبصر غاية الجد الجد الاجتهاد والتشمير والغاية النهاية يريد أن صفاء العلم يهدي صاحبه إلى الغاية المقصودة بالاجتهاد والتشمير فإن كثيرا من السالكين بل أكثرهم سالك بجده واجتهاده غير منتبه إلى المقصود وأضرب لك في هذا مثلا حسنا جدا وهو أن قوما قدموا من بلاد بعيدة عليهم أثر النعيم والبهجة والملابس السنية والهيئة العجيبة فعجب الناس لهم فسألوهم عن حالهم فقالوا بلادنا من أحسن البلاد وأجمعها لسائر أنواع النعيم وأرخاها وأكثرها مياها وأصحها هواء وأكثرها فاكهة وأعظمها اعتدالا وأهلها كذلك احسن الناس صورا وأبشارا ومع هذا فملكها لا يناله الوصف جمالا وكمالا وإحسانا وعلما وحلما وجودا ورحمة للرعية وقربا منهم وله الهيبة والسطوة على سائر ملوك الأطراف فلا يطمع أحد منهم في مقاومته ومحاربته فأهل بلده في أمان من عدوهم لا يحل الخوف بساحتهم ومع هذا فله أوقات يبرز فيها لرعيته ويسهل لهم الدخول عليه ويرفع الحجاب بينه وبينهم فإذا وقعت أبصارهم عليه تلاشى عندهم كل ما هم فيه من النعيم واضمحل حتى لا يلتفتون إلى شيء منه فإذا أقبل على واحد منهم أقبل عليه سائر أهل المملكة بالتعظيم والإجلال ونحن رسله إلى أهل البلاد ندعوهم إلى حضرته وهذه كتبه إلى الناس ومعنا من الشهود ما يزيل سوء الظن بنا ويدفع اتهامنا بالكذب عليه فلما سمع الناس ذلك وشاهدوا أحوال الرسل انقسموا أقساما فطائفة قالت لا نفارق أوطاننا ولا نخرج من ديارنا ولا نتجشم مشقة السفر البعيد ونترك ما ألفناه من عيشنا ومنازلنا ومفارقة آبائنا وأبنائنا.(3/145)
وإخواننا لأمر وعدنا به في غير هذه البلاد ونحن لا نقدر على تحصيل ما نحن فيه إلا بعد الجهد والمشقة فكيف ننتقل عنه ورأت هذه الفرقة مفارقتها لأوطانها وبلادها كمفارقة أنفسها لأبدانها فإن النفس لشدة إلفها للبدن أكره ما إليها مفارقته ولو فارقته إلى النعيم المقيم فهذه الطائفة غلب عليها داعي الحس والطبع على داعي العقل والرشد والطائفة الثانية لما رأت حال الرسل وما هم فيه من البهجة وحسن الحال وعلموا صدقهم تأهبوا للسير إلى بلاد الملك فأخذوا في المسير فعارضهم أهلوهم وأصحابهم وعشائرهم من القاعدين وعارضهم إلفهم مساكنهم ودورهم وبساتينهم فجعلوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى فإذا تذكروا طيب بلاد الملك وما فيها من سلوه العيش تقدموا نحوها وإذا عارضهم ما ألفوه واعتادوه من ظلال بلادهم وعيشها وصحبة أهلهم وأصحابهم تأخروا عن المسير والتفتوا إليهم فهم دائما بين الداعيين والجاذبين إلى أن يغلب أحدهما ويقوى على الآخر فيصيرون إليه والطائفة الثالثة ركبت ظهور عزائمها ورأت أن بلاد الملك أولى بهافوطنت أنفسها على قصدها ولم يثنها لوم اللوام لكن في سيرها بطء بحسب ضعف ما كشف لها من احوال تلك البلاد وحال الملك والطائفة الرابعة جدت في السير وواصلته فسارت سيرا حثيثا فهم كما قيل
وركب سروا والليل مرخ سدوله ... على كل مغبر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ... فصار سراهم في ظهور العزائم
تريهم نجوم الليل ما يطلبونه ... على عاتق الشعرى وهام النعائم
فهؤلاء هممهم مصروفة إلى السير وقواهم موقوفة عليه من غير تثنية منهم إلى المقصود الأعظم والغاية العليا.(3/146)
والطائفة الخامسة أخذوا في الجد في المسير وهمتهم متعلقة بالغاية فهم في سيرهم ناظرون إلى المقصود بالمسير فكأنهم يشاهدونه من بعد وهو يدعوهم إلى نفسه وإلى بلاده فهم عاملون على هذا الشاهد الذي قام بقلوبهم وعمل كل أحد منهم على قدر شاهده فمن شاهد المقصود بالعمل في علمه كان نصحه فيه وإخلاصه وتحسينه وبذل الجهد فيه أتم ممن لم يشاهده ولم يلاحظه ولم يجد من مس التعب والنصب ما يجده الغائب والوجود شاهد بذلك فمن عمل عملا لملك بحضرته وهو يشاهده ليس حاله كحال من عمل في غيبته وبعده عنه وهو غير متيقن وصوله إليه وقوله ويصحح همة القاصد أي ويصحح له صفاء هذا العلم همته ومتى صحت الهمة علت وارتفعت فإن سقوطها ودناءتها من علتها وسقمها وإلا فهي كالنار تطلب الصعود والاتفاع مالم تمنع وأعلى الهمم همة اتصلت بالحق سبحانه طلبا وقصدا وأوصلت الخلق إليه دعوة ونصحا وهذه همة الرسل وأتباعهم وصحتها بتمييزها من انقسام طلبها وانقسام مطلوبها وانقسام طريقها بل توحد مطلوبها بالإخلاص وطلبها بالصدق وطريقها بالسلوك خلف الدليل الذي نصبه الله دليلا لا من نصبه هو دليلا لنفسه ولله الهمم ما أعجب شأنها وأشد تفاوتها فهمة متعلقة بمن فوق العرش وهمة حائمة حول الأنتان والحش والعامة تقول قيمة كل امرىء ما يحسنه والخاصة تقول قيمة المرء ما يطلبه وخاصة الخاصة تقول همة المرء إلى مطلوبه وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم فانظر إلى همة ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم" سلني فقال أسألك مرافقتك في الجنة "وكان غيره يسأله ما يملأ بطنه أو يواري جلده وانظر إلى همة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرضت عليه مفاتيح.(3/147)
كنوز الأرض فأباها ومعلوم أنه لو أخذها لأنفقها في طاعة ربه تعالى فأبت له تلك الهمة العالية أن يتعلق منها بشيء مما سوى الله ومحابه وعرض عليه أن يتصرف بالملك فأباه واختار التصرف بلعبودية المحضة فلا إله إلا الله خالق هذه الهمة وخالق نفس تحملها وخالق همم لا تعدو همم أخس الحيوانات.
فصل قال الدرجة الثانية صفاء حال يشاهد به شواهد التحقيق ويذاق به.
حلاوة المناجاة وينسى به الكون هذه الدرجة إنما كانت أعلى مما قبلها لأنها همة حال والحال ثمرة العلم ولا يصفو حال إلا بصفاء العلم المثمر له وعلى حسب شوب العلم يكون شوب الحال وإذا صفا الحال شاهد العبد بصفائه آثار الحقائق وهي الشواهد فيه وفي غيره وعليه وعلى غيره ووجد حلاوة المناجاة وإذا تمكن في هذه الدرجة نسي الكون وما فيه من المكونات وهذه الدرجة تختص بصفاء الحال كما اختصت الأولى بصفاء العلم والحال هو تكيف القلب وانصباغه بحكم الواردات على اختلافها والحال يدعو صاحبه إلى المقام الذي جاء منه الوارد كما تدعوه رائحة البستان الطيبة إلى دخوله والمقام فيه فإذا كان الوارد من حضرة صحيحة وهي حضرة الحقيقة الإلهية لا الحقيقة الخيالية الذهنية شاهد السالك بصفائه شواهد التحقيق وهي علاماته والتحقيق هو حكم الحقيقة وتأثر القلب والروح بها والحقيقة ما تعلق بالحق المبين سبحانه فالله هو الحق والحقيقة ما نسب.(3/148)
إليه وتعلق به والتحقيق تأثر القلب بآثار الحقيقة ولكل حق حقيقة ولك حقيقة تحقيق يقوم بمشاهدة الحقيقة قوله ويذاق به حلاوة المناجاة المناجاة مفاعلة من النجوى وهو الخطاب في سر العبد وباطنه والشيخ ذكر في هذه الدرجة ثلاثة أمور أحدها مشاهدة شواهد التحقيق الثاني ذوق حلاوة المناجاة فإنه متى صفا له حاله من الشوائب خلصت له حلاوته من مرارة الأكدار فذاق تلك الحلاوة في حال مناجاته فلو كان الحال مشوبا مكدرا لم يجد حلاوة المناجاة والحال المستندة إلى وارد تذاق به حلاوة المناجاة هو من حضرة الأسماء والصفات بحسب ما يصادف القلب من ظهورها وكشف معانيها فمن ظهر له اسم الودود مثلا وكشف له عن معاني هذا الاسم ولطفه وتعلقه بظاهر العبد وباطنه كان الحال الحاصل له من حضرة هذا الاسم مناسبا له فكان حال اشتغال حب وشوق ولذه مناجاة لا أحلى منها ولا أطيب بحسب استغراقه في شهود معنى هذا الاسم وخطه من أثره فإن الودود وإن كان بمعنى المودود كما قال البخاري في صحيحه الودود الحبيب واستغرق العبد في مطالعة صفات الكمال التي تدعو العبد إلى حب الموصوف بها أثمر له صفاء علمه بها وصفاء حاله في تعبده بمقتضاها ما ذكره الشيخ من هذه الأمور الثلاثة وغيرها وكذلك إن كان اسم فاعل بمعنى الواد وهو المحب أثمرت له مطالعة ذلك حالا تناسبه فإنه إذا شاهد بقلبه غنيا كريما جوادا عزيزا قادرا كل أحد محتاج إليه بالذات وهو غني بالذات عن كل ما سواه وهو مع ذلك يود عباده ويحبهم ويتودد إليهم بإحسانه إليهم وتفضله عليهم كان له من هذا الشهود حالة صافية خالصة من الشوائب.(3/149)
وكذلك سائر الأسماء والصفات فصفاء الحال بحسب صفاء المعرفة بها وخلوصها من دم التعطيل وفرث التمثيل فتخرج المعرفة من بين ذلك فطرة خالصة سائغة للعارفين كما يخرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين والأمر الثالث قوله وينسى به الكون أي ينسى الكون بما يغلب على قلبه من اشتغاله بهذه الحال المذكورة والمراد بالكون المخلوقات أي يشتغل بالحق عن الخلق.
فصل قال الدرجة الثالثة صفاء اتصال يدرج حظ العبودية في حق.
الربوبية ويغرق نهايات الخبر في بدايات العيان ويطوي خسة التكاليف في عين الأزل في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير يجبره حسن حال صاحبه وصدقه وتعظيمه لله ورسوله ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له ولا ريب أن بين ارباب الأحوال وبين أصحاب التمكن تفاوتا عظيما وانظر إلى غلبة الحال على الكليم عليه السلام لما شاهد آثار التجلي الإلهي على الجبل كيف خر صعقا وصاحب التمكن صلوات الله وسلامه عليه لما أسري به ورأى ما رأى لم يصعق ولم يخر بل ثبت فؤاده وبصره ومراد القوم بالاتصال والوصول اتصال العبد بربه ووصوله إليه لا بمعنى اتصال ذات العبد بذات الرب كما تتصل الذاتان إحداهما بالأخرى ولا بمعنى انضمام إحدى الذاتين إلى الأخرى والتصاقها بها وإنما مرادهم بالاتصال والوصول إزالة النفس والخلق من طريق السير إلى الله ولا تتوهم سوى ذلك فإنه عين المحال.(3/150)
فإن السالك لا يزال سائرا إلى الله تعالى حتى يموت فلا ينقطع سيره إلا بالموت فليس في هذه الحياة وصول يفرغ معه السير وينتهي وليس ثم اتصال حسي بين ذات العبد وذات الرب فالأول تعطيل وإلحاد والثاني حلول واتحاد وإنما حقيقة الأمر تنحية النفس والخلق عن الطريق فإن الوقوف معهما هو الانقطاع وتنحيتهما هو الاتصال وأما الملاحدة القائلون بوحدة الوجود فإنهم قالوا العبد من أفعال الله وأفعاله من صفاته وصفاته من ذاته فأنتج لهم هذا التركيب أن العبد من ذات الرب تعالى الله وتقدس عما يقولون علوا كبيرا وموضع الغلط أن العبد من مفعولات الرب تعالى لا من أفعاله القائمة بذاته ومفعولاته آثار أفعاله وأفعاله من صفاته القائمة بذاته فذاته سبحانه مستلزمة لصفاته وأفعاله ومفعولاته منفصلة عنه تلك مخلوقة محدثة والرب تعالى هو الخالق بذاته وصفاته وأفعاله فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها فإنها أصل البلاء وهي مورد الصديق والزنديق فإذا سمع الضعيف المعرفة والعلم بالله تعالى لفظ اتصال وانفصال ومسامرة ومكالمة وأنه لا وجود في الحقيقة.(3/151)
إلا وجود الله وأن وجود الكائنات خيال ووهم وهو بمنزلة وجود الظل القائم بغعيره فاسمع منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسها فغلط الغالطون في فهم ما أرادوه ونسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم واتخذوا كلماتهم المتشابهة ترسا له وجنة حتى قال قائلهم
ومنك بدا حب بعز تمازجا ... بنا ووصالا كنت أنت وصلته
ظهرت لمن أبقيت بعد فنائه ... وكان بلا كون لأنك كنته
فيسمع الغر التمازج والوصال فيظن أنه سبحانه نفس كون العبد فلا يشك أن هذا هو غاية التحقيق ونهاية الطريق ثم لنرجع إلى شرح كلامه قوله يدرج حظ العبودية في حق الربوبية المعنى الصحيح الذي يحمل عليه هذا الكلام أن من تمكن في قلبه شهود الأسماء والصفات وصفا له علمه وحاله اندرج عمله جميعه وأضعافه وأضعاف أضعافه في حق ربه تعالى ورآه في جنب حقه أقل من خردلة بالنسبة إلى جبال الدنيا فسقط من قلبه اقتضاء حظه من المجازاة عليه لاحتقاره له وقلته عنده وصغره في عينه قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا صالح عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد "أن الله تعالى أوحى إلى داود يا داود أنذر عبادي الصادقين فلا يعجبن بأنفسهم ولا يتكلن على أعمالهم فإنه ليس أحد من عبادي أنصبه للحساب وأقيم عليه عدلي إلا عذبته من غير أن أظلمه وبشر عبادي الخطائين أنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره وأتجاوز عنه " وقال الإمام أحمد وحدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا ثابت البناني قال" تعبد رجل سبعين سنة وكان يقول في دعائه رب اجزني بعملي فمات فأدخل الجنة فكان فيها سبعين عاما فلما فرغ وقته قيل له اخرج فقد استوفيت عملك فقلب أمره أي شيء كان في الدنيا أوثق في نفسه فلم يجد شيئا أوثق.(3/152)
في نفسه من دعاء الله والرغبة إليه فأقبل يقول في دعائه رب سمعتك وأنا في الدنيا وأنت تقيل العثرات فأقل اليوم عثرتي فترك في الجنة " وقال أحمد بن حنبل حدثنا هاشم حدثنا صالح عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد قال" قال موسى إلهي كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمتك لا يجازيها عملي كله فأوحى الله تعالى إليه يا موسى الآن شكرتني " فهذا المعنى الصحيح من اندراج حظ العبودية في حق الربوبية وله محمل آخر صحيح أيضا وهو أن ذات العبد وصفاته وأفعاله وقواه وحركاته كلها مفعولة للرب مملوكة له ليس يملك العبد منها شيئا بل هو محض ملك الله فهو المالك لها المنعم على عبده بإعطائه إياها فالمال ماله والعبد عبده والخدمة مستحقة عليه بحق الربوبية وهي من فضل الله عليه فالفضل كله لله ومن الله وبالله قوله ويعرف نهايات الخبر في بدايات العيان الخبر متعلق الغيب والعيان متعلق الشهادة وهو إدراك عين البصيرة لصحة الخبر وثبوت مخبره ومراده ببدايات العيان أوائل الكشف الحقيقي الذي يدخل منه إلى مقام الفناء ومقصوده أن يرى الشاهد ما أخبر به الصادق بقلبه عيانا قال الله تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقال تعالى أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى فقد قال أفمن رأى بعين قلبه أن ما أنزل الله إلى رسوله هو الحق كمن هو أعمى لا يبصر ذلك وقال النبي صلى اله عليه وسلم في مقام الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه" ولا ريب أن تصديق الخبر واليقين به يقوى القلب حتى يصير الغيب بمنزلة المشاهد بالعين فصاحب هذا المقام كأنه يرى ربه سبحانه فوق سماواته على عرشه مطلعا على عباده ناظرا إليهم يسمع كلامهم ويرى ظواهرهم وبواطنهم وكأنه يسمعه وهو يتكلم بالوحي ويكلم به عبده جبريل ويأمره وينهاه بما.(3/153)
يريد ويدبر أمر المملكة وأملاكه صاعدة إليه بالأمر نازلة من عنده به وكأنه يشاهده وهو يرضى ويغضب ويحب ويبغض ويعطي ويمنع ويضحك ويفرح ويثني على أوليائه بين ملائكته ويذم أعداءه وكأنه يشاهده ويشاهد يديه الكريمتين وقد قبضت إحداهما السموات السبع والأخرى الأرضين السبع وقد طوى السموات السبع بيمينه كما يطوى السجل على أسطر الكتاب وكأنه يشاهده وقد جاء لفصل القضاء بين عباده فأشرقت الأرض بنوره ونادى وهو مستو على عرشه بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم وكأنه يسمع ندائه لآدم يا آدم قم فابعث بعث النار بإذنه الآن وكذلك نداؤه لأهل الموقف ماذا أجبتم المرسلين وماذا كنتم تعبدون وبالجملة فيشاهد بقلبه ربا عرفت به الرسل كما عرفت به الكتب ودينا دعت إليه الرسل وحقائق أخبرت بها الرسل فقام شاهد ذلك بقلبه كما قام شاهد ما أخبر به أهل التواتر وإن لم يره من البلاد والوقائع فهذا إيمانه يجري مجرى العيان وإيمان غيره فمحض تقليد العميان قوله ويطوى خسة التكاليف ليت الشيخ عبر عن هذه اللفظة بغيرها فوالله إنها لأقبح من شوكة في العين وشجى في الحلق وحاشا التكاليف أن توصف بخسة أو تلحقها خسة وإنما هي قرة عين وسرور قلب وحياة روح صدر التكليف بها عن حكيم حميد فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد نعم لو قال يطوى ثقل التكاليف ويخفف أعباءها ونحو ذلك فلعله كان.(3/154)
أولى ولولا مقامه في الإيمان والمعرفة والقيام بالأوامر لكنا نسيء به الظن والذي يحتمل أن يصرف كلامه إليه وجهان أحدهما أن الصفاء المذكور في هذه الدرجة لما انطوت في حكمه الوسائط والأسباب واندرج فيه حظ العبودية في حق الربوبية انطوت فيه رؤية كون العبادة تكليفا فإن رؤيتها تكليفا خسة من الرائي لأنه رآها بعين أنفته وقيامه بها ولم يرها بعين الحقيقة فإنه لم يصل إلى مقام فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولو وصل إلى ذلك لرآها بعين الحقيقة ولا خسة فيها هناك البتة فإن نظره قد تعدى من قيامه بها إلى قيامها بالقيوم الذي قام به كل شيء فكان لها وجهان أحدهما هي به خسيسة وهو وجه قيامها بالعبد وصدورها منه والثاني هي به شريفة وهو وجه كونها بالرب تعالى وأوليته أمرا وتكوينا وإعانة فالصفاء يطويها من ذلك الوجه خاصة والمعنى الثاني الذي يحتمله كلامه أن يكون مراده أن الصفاء يشهده عين الأزل وسبق الرب تعالى وأوليته لكل شيء فتنطوي في هذا المشهد أعماله التي عملها ويراها خسيسة جدا بالنسبة إلى عين الأزل فكأنه قال تنطوي أعماله وتصير بالنسبة إلى هذه العين خسيسة جدا لا تذكر بل تكون في عين الأزل هباء منثورا لا حاصل لها فإن الوقت الذي هو ظرف التكليف يتلاشى جدا بالنسبة إلى الأزل وهو وقت خسيس حقير حتى كأنه لا حاصل له ولا نسبة له إلى الأزل والأبد في مقدار الأعمال الواقعة فيه وهي يسيرة بالنسبة إلى مجموع ذلك الوقت الذي هو.(3/155)
يسير جدا بالنسبة إلى مجموع الزمان الذي هو يسير جدا بالنسبة إلى عين الأزل فهذا أقرب ما يحمل عليه كلامه مع قلقه وقد اعتراه فيه سوء تعبير وكأنه أطلق عليها الخسة لقلتها وخفتها بالنسبة إلى عظمة المكلف بها سبحانه وما يستحقه والله سبحانه أعلم.(3/156)
منزلة السرور
...
فصل ومنها السرور
قال صاحب المنازل.باب السرور قال الله تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} تصدير الباب بهذه الآية في غاية الحسن فإن الله تعالى أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته وذلك تبع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة فإن من فرح بما يصل إليه من جواد كريم محسن بر يكون فرحه بمن أوصل ذلك إليه أولى وأحرى ونذكر ما في هذه الآية من المعنى ثم نشرح كلام المصنف قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم فضل الله الإسلام ورحمته القرآن فجعلوا رحمته أخص من فضله فإن فضله الخاص عام على أهل الإسلام ورحمته بتعليم كتابه لبعضهم دون بعض فجعلهم مسلمين بفضله وأنزل إليهم كتابه برحمته قال تعالى { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فضل الله القرآن ورحمته أن جعلنا من أهله قلت يريد بذلك أن ههنا أمرين.(3/156)
أحدهما الفضل في نفسه والثاني استعداد المحل لقبوله كالغيث يقع على الأرض القابلة للنبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له والله أعلم والفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى فيتولد من إدراكه حالة تسمى الفرح والسرور كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب فإذا فقده تولد من فقده حالة تسمى الحزن والغم وذكر سبحانه الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقيب قوله يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة فأخبر سبحانه أن ما آتى عباده من الموعظة التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وشفاء الصدور المتضمن لعافيتها من داء الجهل والظلمة والغي والسفه وهو أشد ألما لها من أدواء البدن ولكنها لما ألفت هذه الأدواء لم تحس بألمها وإنما يقوى إحساسها بها عند المفارقة للدنيا فهناك يحضرها كل مؤلم محزن وما آتاها من ربها الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه وحياة الروح به والرحمة التي تجلب لها كل خير ولذة وتدفع عنها كل شر ومؤلم فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها أي هذا هو الذي ينبغي أن يفرح به ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح به لا ما يجمع أهل الدنيا منها فإنه ليس بموضع للفرح لأنه عرضة للآفات ووشيك الزوال ووخيم العاقبة وهو طيف خيال زار الصب في المنام ثم انقضى المنام وولى الطيف وأعقب مزاره الهجران وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين مطلق ومقيد.(3/157)
فالمطلق جاء في الذم كقوله تعالى {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وقوله {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} والمقيد نوعان أيضا مقيد بالدنيا ينسي صاحبه فضل الله ومنته فهو مذموم كقوله {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} والثاني مقيد بفضل الله وبرحمته وهو نوعان أيضا فضل ورحمة بالسبب وفضل بالمسبب فالأول كقوله {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} والثاني كقوله {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فالفرح بالله وبرسوله وبالإيمان وبالسنة وبالعلم وبالقرآن من أعلى مقامات العارفين قال الله تعالى {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وقال {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له وإيثاره له على غيره فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له ورغبته فيه فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله له ولا يحزنه فواته فالفرح تابع للمحبة والرغبة والفرق بينه وبين الاستبشار أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله ولهذا قال تعالى {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِم} والفرح صفة كمال ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها كفرحه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها واليأس من حصولها والمقصود أن الفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته والفرح والسرور نعيمه والهم والحزن عذابه والفرح بالشيء فوق الرضى به فإن الرضى.ر(3/158)
طمأنينة وسكون وانشراح والفرح لذة وبهجة وسرور فكل فرح راض وليس كل راض فرحا ولهذا كان الفرح ضد الحزن والرضى ضد السخط والحزن يؤلم صاحبه والسخط لا يؤلمه إلا إن كان مع العجز عن الانتقام والله أعلم.
فصل قال صاحب المنازل السرور اسم لاستبشار جامع وهو أصفى من.
الفرح لأن الأفراح ربما شانه الأحزان ولذلك نزل القرآن باسمه في أفراح الدنيا في مواضع وورد السرور في موضعين من القرآن في حال الآخرة السرور والمسرة مصدر سره سرورا ومسرة وكأن معنى سره أثر في أسارير وجهه فإنه تبرق منه أسارير الوجه كما قال شاعر العرب
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
وهذا كما يقال رأسه إذا أصاب رأسه وبطنه وظهره إذا أصاب بطنه وظهره وأمه إذا أصاب أم رأسه وأما الاستبشار فهو استعفال من البشرى والبشارة هي أول خبر صادق سار والبشرى يراد بها أمران أحدهما بشارة المخبر والثاني سرور المخبر قال الله تعالى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فسرت البشرى بهذا وهذا ففي حديث عبادة بن الصامت وأبي الدرداء رضي الله عنهما عن النبي صلى اله عليه وسلم" هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " وقال ابن عباس بشرى الحياة الدنيا هي عند الموت تأتيهم ملائكة الرحمة بالبشرى من الله وفي الآخرة عند خروج نفس المؤمن إذا خرجت يعرجون بها إلى الله تزف كما تزف العروس تبشر برضوان الله.(3/159)
وقال الحسن هي الجنة واختاره الزجاج والفراء وفسرت بشرى الدنيا بالثناء الحسن يجري له على ألسنة الناس وكل ذلك صحيح فالثناء من البشرى والرؤيا الصالحة من البشرى وتبشير الملائكة له عند الموت من البشرى والجنة من أعظم البشرى قال الله تعالى {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} وقال تعالى {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} قيل وسميت بذلك لأنها تؤثر في بشرة الوجه ولذلك كانت نوعين بشرى سارة تؤثر فيه نضارة وبهجة وبشرى محزنة تؤثر فيه بسورا وعبوسا ولكن إذا أطلقت كانت للسرور وإذا قيدت كانت بحسب ما تقيد به قوله هو أصفى من الفرح واحتج على ذلك بأن الأفراح ربما شابها أحزان أي ربما مازجها ضدها بخلاف السرور فيقال والمسرات ربما شابها أنكاد وأحزان فلا فرق قوله ولذلك نزل القرآن باسمه في أفراح الدنيا في مواضع يريد أن الله تعالى نسب الفرح إلى أحوال الدنيا في قوله تعالى {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} وفي قوله تعالى {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وقوله تعالى {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} فإن الدنيا لا تتخلص أفراحها من أحزانها وأتراحها البتة بل ما من فرحة إلا ومعها ترحة سابقة أو مقارنة أو لاحقة ولا تتجرد الفرحة بل لا بد من ترحة تقارنها ولكن قد تقوى الفرحة على الحزن فينغمر حكمه وألمه مع وجودها وبالعكس فيقال ولقد نزل القرآن أيضا بالفرح في أمور الآخرة في مواضع كقوله تعالى فرحين بما آتاهم الله من فضله وقوله تعالى {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فلا فرق بينهما من هذا الوجه الذي ذكره قوله وورد اسم السرور في القرآن في موضعين في حال الآخرة.(3/160)
يريد بهما قوله تعالى{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} والموضع الثاني قوله{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} فيقال وورد السرور في أحوال الدنيا في موضع على وجه الذم كقوله تعالى {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} فقد رأيت ورود كل واحد من الفرح والسرور في القرآن بالنسبة إلى أحوال الدنيا وأحوال الآخرة فلا يظهر ما ذكره من الترجيح بل قد يقال الترجيح للفرح لأن الرب تبارك وتعالى يوصف به ويطلق عليه اسمه دون السرور فدل على أن معناه أكمل من معنى السرور وأمر الله به في قوله تعالى {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} وأثنى على السعداء به في قوله {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } وأما قوله تعالى{ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} وقوله {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} فعدل إلى لفظ السرور لاتفاق رؤوس الآي ولو أنه ترجم الباب بباب الفرح لكان أشد مطابقة للآية التي استشهد بها والأمر في ذلك قريب فالمقصود أمر وراء ذلك قال وهو في هذا الباب على ثلاث درجات الدرجة الأولى سرور ذوق ذهب بثلاثة أحزان حزن أورثه خوف الانقطاع وحزن هاجته ظلمة الجهل وحزن بعثته وحشة التفرق لما كان السرور ضد الحزن والحزن لا يجامعه كان مذهبا له ولما كان سببه ذوق الشيء السار فإنه كلما مان الذوق أتم كان السرور به أكمل وهذا السرور يذهب ثلاثة أحزان الحزن الأول حزن أورثه خوف انقطاع وهذا حزن المتخلفين عن.(3/161)
ركب المحبين ووفد المحبة فأهل الانقطاع هم المتخلفون عن صحبة هذا الركب وهذا الوفد وهم الذين كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فثبط عزائمهم وهممهم أن تسير إليه وإلى جنته وأمر قلوبهم أمرا كونيا قدريا أن تقعد مع القاعدين المتخلفين عن السعي إلى محغابه فلو عانيت قلوبهم حين أمرت بالقعود عن مرافقة الوفد وقد غمرتها الهموم وعقدت عليها سحائب البلاء فأحضرت كل حزن وغم وأمواج القلق والحسرات تتقاذف بها وقد غابت عنها المسرات ونابت عنها الأحزان لعلمت أن الأبرار في هذه الدار في نعيم وأن المتخلفين عن رفقتهم في جحيم وهذا الحزن يذهب به ذوق طعم الإيمان فيذيق الصديق طعم الوعد الذي وعد به على لسان الرسول فلا يعقله ظن ولا يقطعه أمل ولا تعوقه أمنية كما تقدم فيباشر قلبه حقيقة قوله تعالى {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} وقوله تعالى {ياأيها الناس اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وقوله تعالى{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وأمثال هذه الآيات قوله وحزن هاجته ظلمة الجهل وهذا الحزن الثاني الذي يذهب سرور الذوق هو حزن ظلمة الجهل والجهل نوعان جهل علم ومعرفة وهو مراد الشيخ ههنا وجهل عمل وغي وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب وكما أن العلم يوجب نورا وأنسا فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة وقد سمى الله سبحانه وتعالى العلم الذي بعث به رسوله نورا وهدى وحياة وسمى ضده ظلمة وموتا وضلالا قال الله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} وقال تعالى.(3/162)
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وقال تعالى{قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} وقال تعالى{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فجعله روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح ونورا لما يحصل به من الهدى والرشاد ومثل هذا النور في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ومثل حال من فقد هذا النور بمن هو في ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور الحزن الثالث حزن بعثته وحشة التفرق وهو تفرق الهم والقلب عن الله عز وجل ولهذا التفرق حزن ممض على فوات جمعية القلب على الله ولذاتها ونعيمها فلو فرضت لذات أهل الدنيا بأجمعها حاصلة لرجل لم يكن لها نسبة إلى لذة جمعية قلبه على الله وفرحه به وأنسه بقربه وشوقه إلى لقائه وهذا أمر لا يصدق به إلا من ذاقه فإنما يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك ولله در القائل.(3/163)
أيا صاحبي أما ترى نارهم ... فقال تريني مالا أرى
سقاك الغرام ولم يسقني ... فأبصرت مالم أكن مبصرا
فلو لم يكن في التفرق المذكور إلا ألم الوحشة ونكد التشتت وغبار الشعث لكفى به عقوبة فكيف وأقل عقوبته أن يبتلى بصحبة المنقطعين ومعاشرتهم وخدمتهم فتصير أوقاته التي هي مادة حياته ولا قيمة لها مستغرفة في قضاء حوائجهم ونيل أغراضهم وهذه عقوبة قلب ذاق حلاوة الإقبال على الله والجمعية عليه والأنس به ثم آثر على ذلك سواه ورضي بطريقة بني جنسه وما هم عليه ومن له أدنى حياة في قلبه ونور فإنه يستغيث قلبه من وحشة هذا التفرق كما تستغيث الحامل عند ولادتها ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا فالتفرق يوقع وحشة الحجاب وألمه أشد من ألم العذاب قال الله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} فاجتمع عليهم عذاب الحجاب وعذاب الجحيم والذوق الذي يذهب وحشة هذا التفرق هو الذوق الذي ذكره الشيخ.(3/164)
في قوله ذوق الإرادة طعم الأنس فلا يعلق به شاغل ولا يفسده عارض ولا تكدره تفرقة.
فصل قال الدرجة الثانية سرور شهود كشف حجاب العلم وفك رق التكليف.
ونفي صغار الاختيار يريد أن العلم حجاب على المعرفة فشهود كشف ذلك الحجاب حتى يفضي القلب إلى المعرفة يوجب سرورا والعلم عند هذه الطائفة استدلال والمعرفة ضرورية فالعلم له الخبر والمعرفة لها العيان فالعلم عندهم حجاب على المعرفة وإن كان لا يوصل إليها إلا بالعلم والعلم لها كالصوان لما تحته فهو حجاب عليه ولا يوصل إليه إلا منه ومثال هذا أنك إذا رأيت في حومة ثلج ثقبا خاليا استدللت به على أن تحته حيوانا يتنفس فهذا علم فإذا حفرته وشاهدت الحيوان فهذه معرفة قوله وفك رق التكليف عبارة قلقة غير سديدة ورق التكليف لا يفك إلى الممات وكلما تقدم العبد منزلا شاهد من رق تكليفه مالم يكن شاهده من قبل فرق التكليف أمر لازم للمكلف ما بقي في هذا العالم والذي يتوجه عليه كلامه أن السرور بالذوق الذي أشار إليه يعتق العبد من رق التكليف بحيث لا يعده تكليفا بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه وسرورا له وقرة عين في حقه ونعيما لروحه يتلذذ بها ويتنعم بملابستها أعظم مما يتنعم بملابسة الطعام والشراب واللذات الجسمانية فإن اللذات الروحانية القلبية أقوى وأتم من اللذات الجسمانية فلا يجد في أوراد العبادة كلفة ولا تصير تكليفا في حقه فإن ما يفعله المحب الصادق ويأتي به في خدمة محبوبه هو أسر شيء إليه وألذه عنده ولا يرى ذلك تكليفا لما في التكليف من إلزام المكلف بما فيه كلفة ومشقة.(3/165)
عليه والله سبحانه إنما سمى أوامره ونواهيه وصية وعهدا وموعظة ورحمة ولم يطلق عليها اسم التكليف إلا في جانب النفي كقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ووقوع الوسع بعد الاستثناء من التكليف لا يوجب وقوع الاسم عليه مطلقا فهذا أقرب ما يؤول به كلامه على أن للملحد ههنا مجالا وهو أن هذه الحال إنما هي لأقوام انتقلت عباداتهم من ظواهرهم إلى بواطنهم فانتقل حكم أورادهم إلى وارداتهم فاستغنوا بالواردات عن الأوراد وبالحقائق عن الرسوم وبالمعاني عن الصور فخلصوا من رق التكليف المختص بالعلم وقاموا بالحقيقة التي يقتضيها الحكم وهكذا الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل قوله ونفى صغار الاختيار يريد به أن العبد متى كان مربوطا باختياراته محبوسا في سجن إراداته فهو في ذل وصغار فإذا وصل إلى هذه الدرجة انتفى عنه صغار الاختيار وبقي من جملة الأحرار فيا لها من عبودية أوجبت حرية وحرية كملت عبودية فيصير واقفا مع ما يختار الله له لا مع ما يختاره هو لنفسه بل يصير مع الله بمنزلة من لا اختيار له البتة فمن كان محجوبا بالعلم عن المعرفة نازعته اختياراته ونازعها فهو معها في ذل وصغار ومتى أفضى إلى المعرفة وكشف له عن حجابها شاهد البلاء نعيما والمنع عطاء والذل عزا والفقر غنى فانقاد باطنه لأحكام المعرفة وظاهره لأحكام العلم على أن للملحد ههنا مجالا قد جال فيه هو وطائفته فقال هذا يوجب الانقياد لأحكام المعرفة والتخلص والراحة من أحكام العلم وقد قيل إن العالم يسعطك الخل والخردل والعارف ينشقك المسك والعنبر قال ومعنى هذا أنك مع العالم في تعب ومع العارف في راحة لأن العارف يبسط عذر العوالم والخلائق والعالم يلوم وقد قيل من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم ومن نظر إليهم بعين الحقيقةعذرهم.(3/166)
فانظر ما تضمنه هذا الكلام الذي ملمسه ناعم وسمه زعاف قاتل من الانحلال عن الدين ودعوى الراحة من حكم العبودية والتماس الأعذار لليهود والنصارى وعباد الأوثان والظلمة والفجرة وأن أحكام الأمر والنهي الواردين على السن الرسل للقلوب بمنزلة سعط الخل والخردل وأن شهود الحقيقة الكونية الشاملة للخلائق والوقوف معها والانقياد لحكمها بمنزلة تنشيق المسك والعنبر فليهن الكفار والفجار والفساق انتشاق هذا المسك والعنبر إذا شهدوا هذه الحقيقة وانقادوا لحكمها ويا رحمة للأبرار المحكمين لما جاء به الرسول من كثرة سعوطهم بالخل والخردل فإن قوله هذا يجوز وهذا لايجوز وهذا حلال وهذا حرام وهذا يرضي الله وهذا يسخطه خل وخردل عند هؤلاء الملاحدة وإلا فالحقيقة تشهدك الأمر بخلاف ذلك ولذلك إذا نظرت عندهم إلى الخلق بعين الحقيقة عذرت الجميع فتعذر من توعده الله ورسوله أعظم الوعيد وتهدده أعظم التهديد ويا لله العجب إذا كانوا معذورين في الحقيقة فكيف يعذب الله سبحانه المعذور ويذيقه أشد العذاب وهلا كان الغنى الرحيم أولى بعذره من هؤلاء نعم العالم الناصح يلوم بأمر الله والعارف الصادق يرحم بقدر الله ولا يتنافى عنده اللوم والرحمة ومن رحمته عقوبة من أمر الله بعقوبته فذلك رحمة له وللأمة وترك عقوبته زيادة في أذاه وأذى غيره وأنت مع العالم في تعب يعقب كل الراحة ومع عارف هؤلاء الملاحدة في راحة وهمية تعقب كل تعب وخيبة وألم كما ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد أن المسيح عليه السلام كان يقول على قدر ما تتعبون ههنا تستريحون هنالك وعلى قدر ما تستريحون ههنا تتبعون هنالك.(3/167)
فالعالم يحذرك ويمنعك الوقوف حتى تبلغ المأمن وعارف الملاحدة يوهمك الراحة من كد المسير ومؤنة السفر حتى تؤخذ في الطريق.
فصل قال الدرجة الثالثة سرور سماع الإجابة وهو سرور يمحو آثار.
الوحشة ويقرع باب المشاهدة ويضحك الروح قيد الشيخ السماع بكونه سماع إجابة فإنه السماع المنتفع به لا مجرد سماع الإدراك فإنه مشترك بين المجيب والمعرض وبه تقوم الحجة وينقطع العذر ولهذا قال الله عن أصحابه {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وقال النبي صلى اله عليه وسلم لليهودي الذي سأله عن أمور من الغيب " ينفعك إن حدثتك" قال أسمع بأذني وأما سماع الإجابة ففي مثل قوله تعالى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي مستجيبون لهم وفي قوله{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي مستجيبون له وهو المراد وهذا المراد بقول المصلى سمع الله لمن حمده أي أجاب الله حمد من حمده وهو السمع الذي نفاه الله عز وجل عمن لم يرد به خيرا في قوله {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} أي لجعلهم يسمعون سمع إجابة وانقياد وقيل المعنى لأفهمهم وعلى هذا يكون المعنى لأسمع قلوبهم فإن سماع القلب يتضمن الفهم والتحقيق أن كلا الأمرين مراد فلو علم فيهم خيرا لأفهمهم ولجعلهم يستجيبون لما سمعوه وفهموه والمقصود أن سماع الإجابة هو سماع انقياد القلب والروح والجوارح لما سمعته الأذنان قوله ويمحو آثار الوحشة يعني يزيل بقايا الوحشة التي سببها ترك الانقياد التام فإنه على قدر فقد ذلك تكون الوحشة وزوالها إنما يكون بالانقياد التام وأيضا فإنه يبقى على أهل الدرجة الثانية آثار وهم أهل كشف حجاب(3/168)
العلم فإنهم إذا انكشف عنهم حجاب العلم وأفضوا إلى المعرفة بقيت عليهم بقايا من آثار ذلك الحجاب فإذا حصلوا في هذه الدرجة زالت عنهم تلك البقايا وقد يوجه كلامه على معنى آخر وهو أنه إذا دعا ربه سبحانه فسمع ربه دعاءه سماع إجابة وأعطاه ما سأله على حسب مراده ومطلبه أو أعطاه خيرا منه حصل له بذلك سرور يمحو من قلبه آثار ما كان يجده من وحشة البعد فإن للعطاء والإجابة سرورا وأنسا وحلاوة وللمنع وحشة ومرارة فإذا تكرر منه الدعاء وتكرر من ربه سماع وإجابة لدعائه محا عنه آثار الوحشة وأبدله بها أنسا وحلاوة قوله ويقرع باب المشاهدة يريد والله أعلم مشاهدة حضرة الجمع التي يشمر إليها السالكون عنده وإلا فمشاهدة الفضل والمنة قد سبقت في الدرجتين الأولتين وانتقل المشاهد لذلك إلى ما هو أعلامنه وهو مشاهدة الحضرة المذكورة قوله ويضحك الروح يعني أن سماع إلإجابة يضحك الروح لسرورها بما حصل لها من ذلك السماع وإنما خص الروح بالضحك ليخرج به سرورا يضحك النفس والعقل والقلب فإن ذلك يكون قبل رفع الحجاب الذي أشار إليه إذ محله النفس فإذا ارتفع ومحا الشهود رسم النفس بالكلية كان الإدراك حينئذ بالروح فيضحكها بالسرور وهذا مبني على قواعد القوم في الفرق بين أحكام النفس والقلب والروح والفتح عندهم نوعان فتح قلبي وفتح روحي فالفتح القلبي يجمعه على الله ويلم شعثه والفتح الروحي يغنيه عنه ويجرده منه وبالله التوفيق.(3/169)
فصل ومنها منزلة السر
قال صاحب المنازل. باب السر قال الله تعالى {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} أصحاب السر هم الأخفياء الذين ورد فيهم الخبر أما استشهاده بالآية فوجهه أن أتباع الرسل الذين صدقوهم وآثروا الله والدار الآخرة على قومهم وأصحابهم قد أودع الله قلوبهم سرا من أسرار معرفته ومحبته والإيمان به خفي على أعداء الرسل فنظروا إلى ظواهرهم وعموا عن بواطنهم فازدروهم واحتقروهم وقالوا للرسل اطرد هؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك وقالوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا فقال نوح عليه السلام لقومه {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} قال الزجاج المعنى إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعوني في بادي الرأي وظاهره فليس على أن أطلع على ما في أنفسهم فإذا رأيت من يوحد الله عملت على ظاهره ورددت علم ما في نفوسهم إلى الله وهذا معنى حسن والذي يظهر من الآية أن الله يعلم ما في أنفسهم إذ أهلهم لقبول دينه وتوحيده وتصديق رسله والله سبحانه وتعالى عليم حكيم يضع العطاء في مواضعه وتكون هذه الآية مثل قوله تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين فإنهم أنكروا أن يكون الله سبحانه أهلهم للهدى والحق وحرمه رؤساء الكفار وأهل العزة والثروة منهم كأنهم استدلوا بعطاء الدنيا على عطاء الآخرة فأخبر الله سبحانه أنه أعلم بمن يؤهله لذلك لسر عنده من معرفة قدر النعمة.(3/170)
ورؤيتها من مجرد فضل المنعم ومحبته وشكره عليها وليس كل أحد عنده هذا السر فلا يؤهل كل أحد لهذا العطاء قوله أصحاب السر هم الأخفياء الذين ورد فيهم الخبر قد يريد به حديث سعد بن أبي وقاص حيث قال له ابنه أنت ههنا والناس يتنازعون في الإمارة فقال" إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" وقد يريد به قوله "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" وقوله في الحديث الآخر وقد مر به رجل فقال" ما تقولون في هذا فقالوا هذا حري إن شفع أن يشفع وإن خطب أن ينكح وإن قال أن يسمع لقوله ثم مر به آخر فقال ما تقولون في هذا فقالوا هذا حري إن شفع أن لا يشفع وإن خطب أن لا ينكح وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال النبي صلى اله عليه وسلم هذ ا خير من ملء الأرض من مثل هذا ".
فصل قال وهم على ثلاث طبقات الطبقة الأولى طائفة علت هممهم وصفت.
قصودهم وصح سلوكهم ولم يوقف لهم على رسم ولم ينسبوا إلى اسم ولم يشر إليهم بالأصابع أولئك ذخائر الله حيث كانوا ذكر لهم ثلاث صفات ثبوتية وثلاثا سلبية الأولى علو هممهم وعلو الهمة أن لا تقف دون الله ولا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلا منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي علىالطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها.(3/171)
وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان فإن الآفات قواطع وجواذب وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه وإنما تجتذب من المكان السافل فعلو همة المرء عنوان فلاحه وسفول همته عنوان حرمانه العلامة الثانية صفاء القصد وهو خلاصه من الشوائب التي تعوقه عن مقصوده فصفاء القصد تجريده لطلب المقصود له لا لغيره فهاتان آفتان في القصد إحداهما أن لا يتجرد لمطلوبه الثانية أن يطلبه لغيره لا لذاته وصفاء القصد يراد به العزم الجازم على اقتحام بحر الفناء عند الشيخ ومن وافقه على أن الفناء غاية ويراد به خلوص القصد من كل إرادة تزاحم مراد الرب تعالى بل يصير القصد مجردا لمراده الديني الأمري وهذه طريقة من يجعل الغاية هي الفناء عن إرادة السوى وعلامته اندراج حظ العبد في حق الرب تعالى بحيث يصير حظه هو نفس حق ربه عليه ولا يخفى على البصير الصادق علو هذه المنزلة وفضلها على منزلة الفناءوبالله التوفيق العلامة الثالثة صحة السلوك وهو سلامته من الآفات والعوائق والقواط وهو إنما يصح بثلاثة أشياء أحدها أن يكون على الدرب الأعظم الدرب النبوي المحمدي لا على الجواد الوضعية والرسوم الاصطلاحية وإن زخرفوا لها القول ودققوا لها الإشارة وحسنوا لها العبارة فتلك من بقايا النفوس عليهم وهم لا يشعرون الثاني أن لا يجيب على الطريق داعي البطالة والوقوف والدعة الثالث أن يكون في سلوكه ناظرا إلى المقصود وقد تقدم بيان ذلك فبهذه الثلاثة يصح السلوك والعبارة الجامعة لها أن يكون واحدا لواحد في طريق واحد فلاا ينقسم طلبه ولا مطلوبه ولا يتلون مطلوبه وأما الثلاثة السلبية التي ذكرها فأولها قوله ولم يوقف لهم على رسم.(3/172)
يريد أنهم قد انمحت رسومهم فلم يبق منها ما يقف عليه واقف وهذا كلام يحتاج إلى شرح فإن الرسم الظاهر المعاين لا يمحي ما دام في هذا العالم ولا يرون محو هذا الرسم وهم مختلفون فيما يعبر بالرسم عنه فطائفة قالت الرسم ما سوى الحق سبحانه ومحوه هو ذهاب الوقوف معه والنظر إليه والرضى به والتعلق به ومنهم من يريد بالرسم الظواهر والعلامات وهذا أقرب إلى وضع اللغة فإن رسم الدار هو الأثر الباقي منها الذي يدل عليها ولهذا يسمون الفقهاءوأهل الأثر ونحوهم علماء الرسوم لأنهم عندهم لم يصلوا إلى الحقائق بل اشتغلوا عن معرفتها بالظواهر والأدلة فهذه الطائفة التي أشار إليها لا رسم لهم يقفون عنده بل قد اشتغلوا بالحقائق والمعاني عن الرسوم والظواهر وللملحد ههنا مجال إذ عنده أن العبادات والأوامر والأوراد كلها رسوم وأن العباد وقفوا على الرسوم ووقفوا هم على الحقائق ولعمر الله إنها لرسوم إلهية أتت على أيدي رسله ورسم لهم أن لا يتعدوها ولا يقصروا عنها فالرسل قعدوا على هذه الرسوم يدعون الخلق إليها ويمنعونهم من تجاوزها ليصلوا إلى حقائقها ومقاصدها فعطلت الملاحدة تلك الرسوم وقالوا إنما المراد الحقائق ففاتتهم الرسوم والحقائق معا ووصلوا ولكن إلى الحقائق الإلحادية الكفرية وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فأحسن ما حمل عليه قول الشيخ ولم يقفوا مع رسم أنهم لم ينقطعوا بشيء سوى الله عنه فكل ما قطع عن الله لم يقفوا معه وما أوصلهم إلى الله لم يفارقوه وكان وقوفهم معه وقد يريد بقوله لم يوقف لهم على رسم أنهم لعلو هممهم سبقوا الناس.(3/173)
في السير فلم يقفوا معهم فهم المفردون السابقون فلسبقهم لم يوقف لهم على أثر في الطريق ولم يعلم المتأخر عنهم أين سلكوا والشمس بعدهم قد يرى آثار نيرانهم على بعد عظيم كما يرى الكوكب ويستخبر ممن رآهم أين رآهم فحاله كما قيل
أسائل عنكم كل غاد ورائح ... وأومي إلى أوطانكم وأسلم
العلامة الثانية قوله ولم ينسبوا إلى اسم أي لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء التي صارت أعلاما لأهل الطريق وأيضا فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه فيعرفون به دون غيره من الأعمال فإن هذا آفة في العبودية وهي عبودية مقيدة وأما العبودية المطلقة فلا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم فلا يتقيد برسم ولا إشارة ولا اسم ولا بزي ولا طريق وضعي اصطلاحي بل إن سئل عن شيخه قال الرسول وعن طريقه قال الاتباع وعن خرقته قال لباس التقوى وعن مذهبه قال تحكيم السنة وعن مقصوده ومطلبه قال يريدون وجهه وعن رباطه وعن خانكاه قال {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} وعن نسبه قال أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تيم وعن مأكله ومشربه قال ما لك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجر حتى تلقى ربها
واحسرتاه تقضي العمر وانصرمت ... ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد ... ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل(3/174)
والعلامة الثالثة قوله ولم يشر إليهم بالأصابع يريد أنهم لخفائهم عن الناس لم يعرفوا بينهم حتى يشيروا إليهم بالأصابع وفي الحديث المعروف عن النبي صلى اله عليه وسلم لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فإن صاحبها سدد وقارب فارجوا له وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه شيئا فسئل راوي الحديث عن معنى أشير إليه بالأصابع فقال هو المستبدع في دينه الفاجر في دنياه وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل فإن الناس إنما يشيرون بالأصابع إلى من يأتيهم بشيء فبعضهم يعرفه وبعضهم لا يعرفه فإذا مر أشار من يعرفه إلى من لا يعرفه هذا فلان وهذا قد يكون ذما له وقد يكون مدحا فمن كان معروفا باجتهاد وعبادة وزهد وانقطاع عن الخلق ثم انحط عن ذلك وعاد إلى حال أهل الدنيا والشهوات فإذا مر بالناس أشاروا إليه وقالوا هذا كان على طريق كذا وكذا ثم فتن وانقلب فهذا الذي قال في الحديث عنه فلا تعدوه شيئا لأنه انقلب على عقبيه ورجع بعد الشرة إلى أسوأ فترة وقد يكون الرجل منهمكا في الدنيا ولذاتها ثم يوقظه الله لآخرته فيترك ما هو فيه ويقبل على شأنه فإذا مر أشار الناس إليه بالأصابع وقالوا هذا كان مفتونا ثم تداركه الله فهذا كانت شرته في المعاصي ثم صارت في الطاعات والأول كانت شرته في الطاعات ثم فترت وعادت إلى البدعة والفجور وبالجملة فالإإشارة بالأصابع إلى الرجل علامة خير وشر ومورد هلاكه ونجاته والله سبحانه الموفق قوله أولئك ذخائر الله حيث كانوا ذخائر الملك ما يخبأ عنده ويذخره لمهماته ولا يبذله لكل أحد وكذلك ذخيرة الرجل ما يذخره لحوائجه ومهماته وهؤلاء لما كانوا مستورين عن الناس بأسبابهم غير مشار إليهم.(3/175)
ولا متميزين برسم دون الناس ولا منتسبين إلى اسم طريق أو مذهب أو شيخ أو زي كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها ولزوم الطرق الاصطلاحية والأوضاع المتداولة الحادثة هذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله وهم لا يشعرون والعجب أن أهلها هم المعروفون بالطلب والإرادة والسير إلى الله وهم إلا الواحد بعد الواحد المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود وقد سئل بعض الأئمة عن السنة فقال مالا اسم له سوى السنة يعني أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها فمن الناس من يتقيد بلباس لا يلبس غيره أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره أو مشية لا يمشي غيرها أو بزي وهيئة لا يخرج عنهما أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها وإن كانت أعلى منها أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب الألى مصدودون عنه قد قيدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة فأضحوا عنها بمعزل ومنزلتهم منها أبعد منزل فترى أحدهم يتعبد بالرياضة والخلوة وتفريغ القلب ويعد العلم قاطعا له عن الطريق فإذا ذكر له الموالاة في الله والعاداة فيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عد ذلك فضولا وشرا وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم وعدوه غيرا عليهم فهؤلاء أبعد الناس عن الله وإن كانوا أكثر إشارة والله أعلم.
فصل قال الطبقة الثانية طائفة أشاروا عن منزل وهم في غيره ووروا.
بأمر وهم لغيره ونادوا على شأن وهم على غيره فهم بين غيرة عليهم تسترهم وأدب فيهم يصونهم وظرف يهذبهم أهل هذه الطبقة استسروا اختيارا وإرادة لذلك صيانة لأحوالهم وكمالا.(3/176)
في تمكنهم فمقاماتهم عالية لا ترمقها العيون ولا تخالطها الظنون يشيرون إلى ما يعرفه المخاطب من مقامات المريدين السالكين وبدايات السلوك ويخفون ما مكنهم فيه الحق سبحانه وتعالى من أحوال المحبة ومواجيدها وآثار المعرفة وتوحيدها فهذه هي التورية التي ذكرها فكأنهم يظهرون للمخاطب أنهم من أهل البدايات وهم في أعلى المقامات يتكلمون معهم في البداية والإرادة والسلوك ومقامهم فوق ذلك وهم محقون في الحالتين لكنهم يسترون أشرف أحوالهم ومقاماتهم عن الناس وبالجملة فهم مع الناس بظواهرهم يخاطبونهم على قدر عقولهم ولا يخاطبونهم بما لا تصل إليه عقولهم فينكرون عليهم فيحسبهم المخاطب مثلهم فالناس عندهم وليسوا هم عند أحد قوله أشاروا إلى منزل وهم في غيره يعني يشيرون إلى منزل التوبة والمحاسبة وهم في منزل المحبة والوجد والذوق ونحوها وقد يريد أنهم يشيرون إلى أنهم عامة وهم خاصة الخاصة وإلى أنهم جهال وهم العارفون بالله وأنهم مسيئون وهم محسنون وعلى هذا فيكونون من الطائفةالملامتيه الذين يظهرون مالا يمدحون عليه ويسرون ما يحمدهم الله عليه عكس المرائين المنافقين وهؤلاء طائفة معروفة لهم طريقة معروفة تسمى طريقة أهل الملامة وهم الطائفة الملامتية يزعمون أنهم يحتملون ملام الناس لهم على ما يظهرونه من الأعمال ليخلص لهم ما يبطنونه من الأحوال ويحتجون بقوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فهم عاملون على أسقاط جاههم ومنزلتهم في قلوب الناس لما رأوا المغترين المغتر بهم من المنتسبين إلى السلوك يعملون على تزكية نفوسهم وتوفير جاههم في قلوب الناس فعاكسهم هؤلاء وأظهروا بطالة.(3/177)
وأبطنوا أعمالاوكتموا أحوالهم جهدهم وينشدون في هذه الحال
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى ... فكل الذي فوق التراب تراب
قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق حدثنا سفيان عن منصور عن هلال سياق ابن يساف قال" كان عيسى عليه السلام يقول إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه حتى يخرج إلى الناس فيقولون ليس بصائم " ولهذا قال بعضهم التصوف ترك الدعاوي وكتمان المعاني وسئل الحارث ابن أسد عن علامات الصادق فقال أن لا يبالي أن يخرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع الناس على اليسير من عمله وهذا يحمد في حال ويذم في حال ويحسن من رجل ويقبح من آخر فيحمد إذا أظهر ما يجوز إظهاره ولا نقص عليه فيه ولا ذم من الله ورسوله ليكتم به حاله وعمله كما إذا أظهر الغنى وكتم الفقر والفاقة وأظهر الصحة وكتم المرض وأظهر النعمة وكتم البلية فهذا كله من كنوز الستر وله في القلب تأثير عجيب يعرفه من ذاقه وشكى رجل إلى الأحنف بن قيس شكاة فقال يا بن أخي قد ذهب ضوء بصري من عشرين سنة فما أخبرت به أحدا وأما الحال التي يذم فيها فأن يظهر مالا يجوز إظهاره ليسيء به الناس الظن فلا يعظموه كما يذكر عن بعضهم أنه دخل الحمام ثم خرج وسرق ثياب رجل ومشى رويدا حتى أدركوه فأخذوها منه وسبوه فهذا حرام لا يحل تعاطيه ويقبح أيضا من المتبوع المقتدى به ذلك بل وما هو دونه لأنه يغر الناس ويوقعهم في التأسي بما يظهره من سوء فالملامتية نوعان ممدوحون أبرار ومذمومون جهال وإن كانوا في خفارة صدقهم.(3/178)
فالأولون الذين لا يبالون بلوم اللوم في ذات الله والقيام بأمره والدعوة إليه وهم الذين قال الله فيهم {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} " فأحب الناس إلى الله من لا تأخذه في الله لومة لائم "وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم والنوع الثاني المذموم هو الذي يظهر ما يلام عليه شرعا من محرم أو مكروه ليكتم بذلك حاله وقد قال النبي صلى اله عليه وسلم " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " فلنرجع إلى شرح كلام الشيخ قوله أشاروا إلى منزل وهم في غيره مثاله أنهم يتكلمون في التوبة والمحاسبة وهم في منزل المحبة والفناء قوله ووروا بأمر وهم لغيره التورية أن يذكر لفظا يفهم به المخاطب معنى وهو يريد غيره مثاله أن يقول أحدهم أنا غني فيوهم المخاطب له أنه غني بالشيء ومراده غني بالله عنه كما قيل غنيت بلا مال عن الناس كلهم % وإن الغنى العالي عن الشيء لا به وأن يقول ما صح لي مقام التوبة بعد ويريد ما صحت لي التوبة عن رؤية التوبة ونحو ذلك قوله ونادوا على شأن وهم على غيره أي عظموا شأنا من شئون القوم ودعوا الناس إليه وهم في أعلى منه وهذا قريب مما قبله قوله فهم بين غيرة عليهم تسترهم أي يغار الحق سبحانه عليهم فيسترهم عن الخلق ويغارون على أحوالهم ومقاماتهم فيسترون أحوالهم عن رؤية الخلق لها كما قيل
ألف الخمول صيانة وتسترا ... فكأنما تعريفه أن ينكرا
وكأنه كلف الفؤاد بنفسه ... فحمته غيرته عليها أن ترى(3/179)
قوله وأدب فيهم يصونهم بهذا يتم أمرهم وهو أن يقوم بهم أدب يصونهم عن ظن السوء بهم ويصونهم عن دناءة الأخلاق والأعمالب فأدبهم صوان على أحوالهم فهمته العلية ترتفع به وأدبه يرسو به إلى التراب كما قيل
أبلج سهل الأخلاق ممتنع ... يبرزه الدهر وهو يحتجب
إذا ترقت به عزائمه ... إلى الثريا رسا به الأدب
فأدب المريد والسالك صوان له وتاج على رأسه قوله وظرف يهذبهم التهذيب هو التأديب والتصفية والظرف في هذه الطائفة أحلى من كل حلو وأزين من كل زين فما قرن شيء إلى شيء أحسن من ظرف إلى صدق وإخلاص وسر مع الله وجمعية عليه فإن أكثر من عني بهذا الشأن تضيق نفسه وأخلاقه عن سوى ما هو بصدده فتثقل وطأته علىأهله وجليسه ويضن عليه ببشره والتبسط إليه ولين الجانب له ولعمر الله إنه لمعذور وإن لم يكن في ذلك بمشكور فإن الخلق كلهم أغيار إلا من أعانك على شأنك وساعدك على مطلوبك فإذا تمكن العبد في حاله وصار له إقبال على الله وجمعية عليه ملكة ومقاما راسخا أنس بالخلق وأنسوا به وانبسط إليهم وحملهم على ضلعهم وبطء سيرهم فعكفت القلوب على محبته للطفه وظرفه فإن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب ويدفع عن صاحبه من الشر ويسهل له ما توعر على غيره فليس الثقلاء بخواص الأولياء وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفا فترى الصادق فيها من أحلى الناس وألطفهم وأظرفهم قد زالت عنه ثقالة النفس وكدورة الطبع وصار روحانيا سمائيا بعد أن كان حيوانيا أرضيا فتراه أكرم الناس عشرة.(3/180)
وألينهم عريكة وألطفهم قلبا وروحا وهذه خاصة المحبة فإنها تلطف وتظرف وتنظف ومن ظرف أهل هذه الطبقة أن لا يظهر أحدهم على جليسه بحال ولا مقام ولا يواجهه إذا لقيه بالحال بل بلين الجانب وخفض الجناح وطلاقة الوجه فيفرش له بساط الأنس ويجلسه عليه فهو أحب إليه من الفرش الوثيرة وسئل محمد بن علي القصاب أستاذ الجنيد عن التصوف فقال أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم مع قوم كرام وبالجملة فهذه الطريق لا تنافي اللطف والظرف والصلف بل هي أصلف شيء لكن ههنا دقيقة قاطعة وهي الاسترسال مع هذه الأمور فإنها أقطع شيء للمريد والسالك فمن استرسل معها قطعته ومن عاداها بالكلية وعرت عليه طريق سلوكه ومن استعان بها أراحته في طريقه أو أراحت غيره به وبالله التوفيق(3/181)
فصل وأهل هذه الطبقة أثقل شيء عليهم البحث عما جريات الناس وطلب.
تعرف أحوالهم وأثقل ما على قلوبهم سماعها فهم مشغولون عنها بشأنهم فإذا اشتغلوا بمالا يعنيهم منها فاتهم ما هو أعظم عناية لهم وإذا عد غيرهم الاشتغال بذلك وسماعه من باب الظرف والأدب وستر الأحوال كان هذامن خدع النفوس وتلبيسها فإنه يحط الهمم العالية من أوجها إلى حضيضها وربما يعز عليه أن يحصل همة أخرى يسعد بها إلى موضعه الذي كان فيه فأهل الهمم والفطن الثاقبة لا يفتحون من آذانهم وقلوبهم طريقا إلى ذلك إلا ما تقاضاه الأمر وكانت مصلحته أرجح وما عداه فبطالة وحط مرتبة.(3/182)
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وقال تعالى {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقال تعالى{ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} فلم يأمر الله سبحانه بالفناء عن شهود نعمته فضلا عن أن يكون مقام الفناء أرفع من مقام شهودها من فضله ومنته وقد أشبعنا القول في هذا فيما تقدم ولا تأخذنا فيه لومة لائم ولا تأخذ أرباب الفناء في ترجيح الفناء عليه لومة لائم فقوله أسرهم الحق عنهم أي شغلهم به عن ذكر أنفسهم فأنساهم بذكره ذكر نفوسهم وهذا ضد حال الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فإن أولئك لما نسوه أنساهم مصالح أنفسهم التي لا صلاح لهم إلا بها فلا يطلبونها وأنساهم عيوبهم فلا يصلحونها وهؤلاء أنساهم حظوظهم بحقوقه وذكر ما سواه بذكره والمقصود أنه سبحانه أخذهم إليه وشغلهم به عنهم قوله وألاح لهم لائحا أذهلهم عن إدراك ما هم فيه ألاح أي أظهر والمعنى أظهر لهم من معرفة جماله وجلاله لائحا ما لم تتسع قلوبهم بعده لإدراك شيء من أحوالهم ومقاماتهم وهذا رقيقة من حال أهل الجنة إذا تجلى لهم سبحانه وأراهم نفسه فإنهم لا يشعرون في تلك الحال بشيء من النعيم ولا يلتفتون إلى سواه البتة كما صرح به في الحديث الصحيح في قوله" فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه" والمعنى أن هذا اللائح الذي ألاحه سبحانه لهم أذهلهم عن الشعور بغيره قوله هيمهم عن شهود ماهم له يحتمل أن يكون مراده أن هذا اللائح هيمهم عن شهود ما خلقوا له فلم يبق فيهم اتساع للجمع بين الأمرين وهذا وإن كان لقوة الوارد فهو دليل على ضعف المحل حيث لم يتسع القلب معه لذكر ما خلق له والكمال أن يجتمع له الأمران.(3/183)
ويحتمل أن يريد به أن هذا اللائح غيبهم عن شهود أحوالهم التي هم لها في تلك الحال فغابوا بمشهودهم عن شهودهم وبمعروفهم عن معرفتهم وبمعبودهم عن عبادتهم فإن الهائم لا يشعر بما هو فيه ولا بحال نفسه وفي الصحاح الهيام كالجنون من العشق قوله وضن بحالهم عن علمهم أي بخل به والمعنى لم يمكن علمهم أن يدرك حالهم وما هم عليه قوله فاستسروا عنهم أي اختفوا حتى عن أنفسهم فلم تعلم نفوسهم كيف هم ولا تبادر بإنكار هذا تكن ممن لا يصل إلى العنقود فيقول هو حامض قوله مع شواهد تشهد لهم بصحة مقامهم يريد أنهم لم يعطلوا أحكام العبودية في هذه الحال فيكون ذلك شاهدا عليهم بفساد أحوالهم بل لهم مع ذلك شواهد صحيحة تشهد لهم بصحة مقاماتهم وتلك الشواهد هي القيام بالأمر وآداب الشريعة ظاهرا وباطنا قوله عن قصد سابق يهيجه غيب يجوز أن يتعلق هذا الحرف وما بعده بمحذوف دل عليه الكلام أي حصل لهم ذلك عن قصد صادق أي لازم ثابت لا يلحقه تلون يهيجه غيب أي أمر غائب عن إدراكهم هيج لهم ذلك القصد الصادق قوله وحب صادق يخفى عليه مبدأ علمه أي هم لا يعرفون مبدأ ما بهم ولا يصل علمهم إليه لأنهم لما لاح لهم ذلك اللائح استغرق قلوبهم وشغل عقولهم عن غيره فهم مأخوذون عن أنفسهم مقهورون بواردهم.(3/184)
قوله ووجد غريب لا ينكشف لصاحبه موقده أي لا ينكشف لصاحب هذا الوجد السبب الذي أهاجه له وأوقده في قلبه فهو لا يعرف السبب الذي أوجد نار وجده قوله وهذا من أدق مقامات أهل الولاية جعله دقيقا لكون الحس مقهورا مغلوبا عند صاحبه والعلم والمعرفة لا يحكمان عليه فضلا عن الحس والعادة وحاصل هذا المقام الاستغراق في الفناء وهو الغاية عند الشيخ والصحيح أن أهل الطبقة الثانية أعلى من هؤلاء وأرفع مقاما وهم الكمل وهم أقوى منهم كما كان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أرفع من مقام موسى عليه السلام يوم التجلي ولم يحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الفناء ما حصل لموسى وكان حب امرأة العزيز ليوسف عليه السلام أعظم من حب النسوة ولم يحصل لها من تقطيع الأيدي ونحوه ما حصل لهن وكان حب أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من حب عمر رضي الله عنه وغيره ولم يحصل له عند موته من الاضطراب والغشى والإقعاد ما حصل لغيره فأهل البقاء والتمكن أقوى حالا وأرفع مقاما من أهل الفناء وبالله التوفيق.(3/185)
فصل النفس
...
فصل ومنها النفس قال صاحب المنازل.
باب النفس قال الله تعالى {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} وجه إشارته بالآية أن النفس يكون بعد مفارقة الحال وانفصاله عن.(3/185)
صاحبه فشبه الحال بالشيء الذي يأخذ صاحبه فيغته ويغطه حتى إذا أقلع عنه تنفس نفسا يستريح به ويستروح قال ويسمى النفس نفسا لتروح المتنفس به التنفيس هو الترويح يقال نفس الله عنك الكرب أي اراحك منه وفي الحديث الصحيح من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة وهذه الأحرف الثلاثة وهي النون والفاء وما يثلثهما تدل حيث وجدت على الخروج والانفصال فمنه النفل لأنه زائد على الأصل خارج عنه ومنه النفر والنفي والنفس ونفقت الدابة ونفست المرأة ونفست إذا حاضت أو ولدت فالنفس خروج وانفصال يستريح به المتنفس قال وهو على ثلاث درجات وهي تشابه درجات الوقت وجه الشبه بينهما أن الأوقات تعد بالأنفاس كدرجاتها وأيضا فالوقت كما قال هو حين وجد صادق فقيد الحين بالوجد والوجد بالصدق وقال في هذا الباب هو نفس في حين استتار فقيد النفس بالحين وبالوجد وقيد به الوقت فهو معتبر بهما وأيضا فالوقت والنفس لهما أسباب تعرض للقلب بسبب حجبه عن مطلوبه أو مفارقة حال كان فيها فاستترت عنه فبينهما تشابه من هذه الوجوه وغيرها قال والأنفاس ثلاثة نفس في حين استتار مملوء من الكظم متعلق بالعمل إن تنفس تنفس بالأسف وإن نطق نطق بالحزن وعندي هو متولد من وحشة الاستتار وهي الظلمة التي قالوا إنها مقام فقوله نفس في حين استتار أي يكون له حال صادق وكشف صحيح فيستتر عنه بحكم الطبيعة والبشرية ولا بد فيضيق بذلك صدره ويمتلىء كظما.(3/186)
بحجب ما كان فيه واستتاره لأسباب فاعلية وغائية سترد عليك إن شاء الله فإذا تنفس في هذه الحال فتنفسه تنفس الحزين المكروب قوله مملوء من الكظم الكظم هو الإمساك ومنه كظم غيظه إذا تجرعه وحبسه ولم يخرجه قوله متعلق بالعمل يريد أن ذلك النفس متعلق بأحكام الظاهر لا بأحكام الحال وذلك هو البلاء الذي تقدم ذكر الشيخ له وهو بلاء العبد بين الاستجابة لداعي العلم وداعي الحال وإنما كان ذلك نفس مكظوم لخلوه في هذه الحال من أحكام المحبة التي تهون الشدائد وتسهل الصعب وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق وتعلقه بالعلم الذي هو داعي التفرق فإن كرب المحبة ممزوج بالحلاوة فإذا خلا من أحكامها إلى أحكام العلم فقد تلك الحلاوة واشتاق إلى ذلك الكرب كما قيل
ويشكو المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكان لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي
قوله إن تنفس تنفس بالأسف الأسف الحزن كقوله تعالى عن يعقوب يا أسفى على يوسف والأسف الغضب كقوله تعالى فلما آسفونا انتقمنا منهم وهو في هذا الموضع الحزن على ما توارى عنه من مطلوبه أو من صدق حاله قوله وإن نطق نطق بالحزن يعني أن هذا المتنفس إن نطق بما يدل على الحزن على ما توارى عنه فمصدر تنفسه ونطقه حزنه على ما حجب عنه قوله وعندي أنه يتولد من وحشة الاستتار والحجب وكأن الاستتار بسبب السبب فيتولد السبب يريد أن هذا الأسف وإن أضيف إلى الاستتار والحجاب فتولده.(3/187)
إنما هو من الوحشة التي سببها الاستتار من تلك الوحشة المتولدة من الاستتار وهذا صحيح فإنه لما كان مطلوبه مشاهدا له وحال محبته وأحكامها قائما به كان نصيبه من الأنس على قدر ذلك فإنه لما توارى عنه مطلوبه وأحكام محبته استوحش لذلك فتولد الحزن من تلك الوحشة وبعد فالحزن يتولد من مفارقة المحبوب ليس له سبب سواه وإن تولد من حصول مكروه فذلك المكروه إنما كان كذلك لما فات به من المحبوب وفلا كان حزن إذا ولا هم ولا غم ولا أذى ولا كرب إلا في مفارقة المحبوب ولهذا كان حزن الفقر والمرض والألم والجهل والخمول والضيق وسوء الحال ونحو ذلك على فراق المحبوب من المال والوجد والعافية والعلم والسعة وحسن الحال ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى مفارقة المشتهيات من أعظم العقوبات فقال تعالى وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب فالفرح والسرور بالظفر بالمحبوب والهم والغم والحزن والأسف بفوات المحبوب فأطيب العيش عيش المحب الواصل إلى محبوبه وأمر العيش عيش من حيل بينه وبين محبوبه والاستتار المذكور لا يكون إلا بعد كشف وعيان والرب تعالى يستر عنهم ما يستره رحمة بهم ولطفا بضعيفهم إذ لو دام له حال الكشف لمحقه بل رحمة ربه من به أن رده إلى أحكام البشرية ومقتضى الطبيعة وأيضا ليتزايد طلبه ويقوى شوقه فإنه لو دامت له تلك الحال لألفها واعتادها ولم يقع منه موقع الماء من ذي الغلة الصادي ولا موقع الأمن من الخائف ولا موقع الوصال من المهجور فالرب سبحانه واراها عنه ليكمل فرحه ولذته وسروره بها وأيضا فليعرفه سبحانه قدر نعمته بما أعطاه وخلع عليه فإنه لما ذاق قرارة الفقد عرف حلاوة الوجود فإن الأشياء تتبين بأضدادها.(3/188)
وأيضا فليعرفه فقره وحاجته وضرورته إلى ربه وأنه غير مستغن عن فضله وبره طرفة عين وأنه إن انقطع عنه إمداده فسد بالكلية وأيضا فليعرفه أن ذلك الفضل والعطاء ليس لسبب من العبد وأنه عاجز عن تحصيلها بكسب واختيار وأنها مجرد موهبة وصدقة تصدق الله بها عليه لا يبلغها عمله ولا ينالها سعيه وأيضا فليعرفه عزه في منعه وبره في عطائه وكرمه وجوده في عوده عليه بما حجب عنه فينفتح على قلبه من معرفة الأسماء والصفات بسبب هذا الاستتار والكشف بعده أمور غريبة عجيبة يعرفها الذائق لها وينكرها من ليس من أهلها وأيضا فإن الطبيعة والنفس لم يموتا ولم يعدما بالكلية ولولا ذلك لما قام سوق الامتحان والتكليف في هذا العالم بل قهرا بسلطان العلم والمعرفة والإيمان والمحبة والمقهورالمغلوب لا بد أن يتحرك أحيانا وإن قلت ولكن حركة أسير مقهور بعد أن كانت حركته حركة أمير مسلط فمن تمام إحسان الرب إلى عبده وتعريفه قدر نعمته أن أراه في الأعيان ما كان حاكما عليه قاهرا له وقد تقاضى ما كان يتقاضاه منه أولا فحينئذ يستغيث العبد بربه ووليه ومالك أمره كله يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك وأيضا فإنه يزيل من قلبه آفة الركون إلى نفسه أو عمله أو حاله كما قيل إن ركنت إلى العلم أنسيناكه وإن ركنت إلى الحال سلبناك إياه وإن ركنت إلى المعرفة حجبناها عنك وإن ركنت إلى قلبك أفسدناه عليك فلا يركن العبد إلى شيء سوى الله البتة ومتى وجد من قلبه ركونا إلى غيره فليعلم أنه قد أحيل على مفلس بل معدم وأنه قد فتح له الباب مكرا فليحذر ولوجه والله المستعان.(3/189)
قوله وهي الظلمة التي قالوا إنها مقام يعني أن وحشة الاستتار ظلمة وقد قال قوم إنها مقام ووجهه أن الرب سبحانه يقيم عبده بحكمته فيها لما ذكرناه من الحكم والفوائد وغيرها مما لم نذكره فبهذا الاعتبار تكون مقاما ولكن صاحب هذا المقام أنفاسه أنفاس حزن وأسف وهلاك وتلف لما حجب عنه من المقام الذي كان فيه والشيخ كأنه لا يرى ذلك مقاما فإن المقامات هي منازل في طريق المطلوب فكل أمر أقيم فيه السالك من حاله الذي يقدمه إلى مطلوبه فهو مقام وأما وحشة الاستتار فهي تأخر في الحقيقة لا تقدم فكيف تسمى مقاما بل هي ضد المقام ومما يدل على أن وحشة الاستتار ليست مقاما أن كل مقام فهو تعلق بالحق سبحانه على وجه الثبوت وحقيقته بأن يكون العبد بالمقيم لا بالمقام وأما حال الاستتار فهو حال انقطاع عن ذلك التعلق المذكور والتحقيق في ذلك أن له وجهين هو من أحدهما ظلمة ووحشة ومن الثاني مقام فهو باعتبار الحال وباعتبار نفسه ليس مقاما وباعتبار المآل وما يترتب عليه وما فيه من تلك الحكم والفوائد المذكورة فهو مقام وبالله التوفيق.
فصل قال والنفس الثاني نفس في حين التجلي وهو نفس شاخص عن مقام.
السرور إلى روح المعاينة مملوء من نور الوجود شاخص إلى منقطع الإشارة هذا النفس أعلى من الأول فإن الأول في حين استتار وظلمة وهذا نفس في حال تجل ونوره وحين التجلي هو زمان حصول الكشف والتجلي مشتق من الجلوة قيل وحقيقته إشراق نور الحق على قلوب المريدين.(3/190)
فإن أرادوا إشراق نور الذات فغلط شنيع منهم ولهذا قال من احترز منهم عن لك إشراق نور الصفات فإن أرادواأيضا إشراق نفس الصفة فغلط كذلك فإن التجلي الذاتي والصفاتي لا يقع في هذا العالم ولا تثبت له القوى البشرية والحق أنه إشراق نور المعرفة والإيمان واستغراق القلب في شهود الذات المقدسة وصفاتها استغراقا علميا نعم هو أرفع من العلم المجرد لأسباب منها قوته فإن المعارف والعلوم تتفاوت ومنها صفاء المحل ونقاؤه من الكدر المانع من ظهور العلم والمعرفة فيه ومنها التجرد عن الموانع والشواغل ومنها كمال الالتفات والتحديق نحو المعروف المشهود ومنها كمال الأنس به والقرب منه إلى غير ذلك من الأسباب التي توجب للقلب شهودا وكشفا وراء مجرد العلم قوله وهو نفس شاخص عن مقام السرور أي صادر عن مقام السرور والشخوص الخروج يقال شخص فلان إلى بلد كذا إذا خرج إليه والمقصود أن هذا النفس صدرعن سرور وفرح بخلاف الأول فإنه صدر عن ظلمة ووحشة أثارت حزنا فهذا النفس صدر عن سماع الإجابة الذي يمحو آثار الوحشة قوله إلى روح المعاينة هو بفتح الراء وهو النعيم والراحة التي تحصل بالمعاينة ضد الألم والوحشة الحاصلين في حين الاستتار فهذا النفس مصدره السرور ونهايته روح المعاينة صادرا عن مسرة طالبا المعاينة وأصح ما يحمل عليه كلام الشيخ وأمثاله من أهل الاستقامة في المعانية أنها تزايد العلم حتى يصير يقينا ولا يصل أحد إلى عين اليقين في هذه الدار.(3/191)
وإن خالف في ذلك من خالف فالغلط من لوازم الطبيعة والعلم يميز بين الغلط والصواب وقد أشعر كلام الشيخ ههنا بأن التجلي دون المعاينة فإن التجلي قد يكون من وراء ستر رقيق وحاجز لطيف والكشف والعيان هو الظهور من غير ستر فإذا كان مسرورا بحال التجلي كانت أنفاسه متعلقة بمقام المعاينة الذي هو فوق مقام التجلي ولهذا جعله شاخصا إليها قوله مملوء من نور الوجود يريد أن هذا النفس مملوء من نور الوجود والوجود عنده هو حضرة الجمع فكأنه يقول هذا النفس منصبغ مكتس بنور الوجود فإن صاحبه لما تنفس به كان في مقام الجمع والوجود قوله شاخص إلى منقطع الإشارة لما كان قلبه مملوءا من نور الوجود وكان شاخصا إلى المعاينة مستفرغا بكليته في طلبها كان شاخصا إلى حضرة الجمع التي هي منقطع الإشارة عندهم فضلا عن العبارة فلا إشارة هناك ولا عبارة ولا رسم بل تفنى الإشارات وتعجز العبارات وتضمحل الرسوم.
فصل قوله والنفس الثالث نفس مطهر بماءالقدس قائم بإشارات الأزل وهو.
النفس الذي يسمى بصدق النور القدس الطهارة والتقديس التطهير والتنزيه ومراده بالقدس ههنا الشهود الذي يفنى الحادث الذي لم يكن ويبقى القديم الذي لم يزل فكأن صفات الحدوث عندهم مما يتطهر منها بالتجلي المذكور فالتجلي يطهر.(3/192)
العبد منها فإنه ما دام في الحجاب فهو باق مع إنيته وصفاته فإذا أشرق عليه نور التجلي طهره من صفاته وشهودها وتوسيطها بينه وبين مشهوده الحق وحاصل كلامه أن هذا النفس صادر عن مشاهدة الأزل الماحي للحوادث المفنى لها فهذا النفس مطهر بالطهر المقدس عن كل غين وعن ملاحظة كل مقام بل هو مستغرق بنور الحق وآثار الحق تنطق عليه كما قال النبي صلى اله عليه وسلم " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " وقال ابن مسعود ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر وهذا نطق غير النطق النفساني الطبيعي ولهذا سمى هذا النفس بصدق النور لصدق شدة تعلقه بالنور وملازمته له قوله قائم بإشارات الأزل أي هذا النفس منزه مطهر عن إشارات الحدوث فقد ترحل عنها وفارقها إلى إشارات الأزل ويعني بإشارات الأزل أنه قد فنى في عيانه الذي شخص إليه من لم يكن وبقي من لم يزل فصارت أنفاسه من جملة إشارات الأزل ولم يرد الشيخ أن أنفاسه تنقلب أزلية فمن هو دون الشيخ لا يتوهم هذا بل أنفاس الخلق متعلقة بمن لم يكن وهذا نفسه متعلق بمن لم يزل وبعد فللملحد ههنا مجال لكنه في الحقيقة وهم باطل وخيال وفي قوله يسمى بصدق النور لطيفة وهي أن السالك يلوح له في سلوكه النور مرارا ثم يختف عنه كالبرق يلمع ثم يختفي فإذا قوي ذلك النور ودام ظهوره صار نورا صادقا قوله فالنفس الأول للعيون سراج والثاني للقاصد معراج والثالث للمحقق تاج.(3/193)
أي النفس الأول سراج في ظلمة السلوك لتعلقه بالعلم كما تقدم والعلم سراج يهتدى به في طرقات القصد ويوضح مسالكها ويبين مراتبها فهو سراج للعيون والنفس الثاني للقاصد معراج فإنه أعلى من الأول لأنه من نور المعرفة الرافعة للحجاب والنفس الثالث للمحقق تاج لأنه نفس مطهر من أدناس الأكوان ومتصل بالكائن قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء فهذا تاج لقلبه بمنزلة التاج على رأس الملك والنفس الأول يؤمن السالك من عثرته والثاني يوصله إلى طلبته والثالث يدله على علو مرتبته والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/194)
فصل قال شيخ الإسلام.باب الغربة
قال الله تعالى {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} استشهاده بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية وهم الذين أشار إليهم النبي صلى اله عليه وسلم في قوله "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي يصلحون إذا فسد الناس " وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن زهير عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن حنطب عن المطلب بن حنطب عن النبي صلى اله عليه وسلم قال" طوبى للغرباء قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الغرباء قال الذين يزيدون إذا نقص الناس " فإن كان هذا الحديث بهذا اللفظ محفوظا لم ينقلب على الراوي لفظه وهو.(3/194)
الذين ينقصون إذا زاد الناس فمعناه الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك والله اعلم وفي حديث الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النزاع من القبائل" وفي حديث عبدالله بن عمرو قال" قال النبي صلى اله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده طوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ناس صالحون قليل في ناس كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" وقال أحمد حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا محمد بن مسلم حدثنا عثمان بن عبدالله عن سليمان بن هرمز عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى اله عليه وسلم قال " إن أحب شيء إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء قال الفرارون بدينهم يجتمعون إلى عيسى ابن مريم عليه السلام يوم القيامة " وفي حديث آخر "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى لغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي يحيون سنتي ويعلمونها الناس " وقال نافع عن مالك" دخل عمر بن الخطاب المسجد فوجد معاذ بن جبل جالسا إلى بيت النبي صلى اله عليه وسلم وهو يبكي فقال له عمر ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن هلك أخوك قال لا ولكن حديثا حدثنيه حبيبي وأنا في هذا المسجد فقال ما هو قال إن الله يحب الأخفياء الأحفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة " فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون ولقلتهم في الناس جدا سموا غرباء فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات فأهل الإسلام في الناس.(3/195)
غرباء والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء وأهل العلم في المؤمنين غرباء وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز وجل فيهم {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه وغربتهم هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم كما قيل
فليس غريبا من تناءت دياره ... ولكن من تنأين عنه غريب
ولما خرج موسى عليه السلام هاربا من قوم فرعون انتهى إلى مدين على الحال التي ذكر الله وهو وحيد غريب خائف جائع فقال يا رب وحيد مريض غريب فقيل له يا موسى الوحيد من ليس له مثلي أنيس والمريض من ليس له مثلي طبيب والغريب من ليس بيني وبينه معاملة فالغربة ثلاثة أنواع غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق وهي الغربة التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلها وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا وأنه سيعود غريبا كما بدأ وأن أهله يصيرون غرباء وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان ووقت دون وقت وبين قوم دون قوم ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا فإنهم لم يأووا إلى غير الله ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ولم يدعوا إلى غير ما جاء به وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم فيقال لهم ألا تنطلقون حيث انطلق الناس.(3/196)
فيقولون فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا فوليه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وجفوه وفي حديث القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى اله عليه وسلم قال" عن الله تعالى إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاته أحسن عبادة ربه وكان رزقه كفافا وكان مع ذلك غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وصبر على ذلك حتى لقي الله ثم حلت منيته وقل تراثه وقلت بواكيه " ومن هؤلاء الغرباء من ذكرهم أنس في حديثه عن النبي صلى اله عليه وسلم" رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" وفي حديث أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل عن النبي صلى اله عليه وسلم قال" ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة قالوا بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ضعيف أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره " وقال الحسن المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها للناس حال وله حال الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى اله عليه وسلم التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم.(3/197)
فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم ومعنى قول النبي صلى اله عليه وسلم هم النزاع من القبائل أن الله سبحانه بعث رسوله وأهل الأرض على أديان مختلفة فهم بين عباد أوثان ونيران وعباد صور وصلبان ويهود وصابئة وفلاسفة وكان الإسلام في أول ظهوره غريبا وكان من أسلم منهم واستجاب لله ولرسوله غريبا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل بل آحادا منهم تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم ودخلوا في الإسلام فكانوا هم الغرباء حقا حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا فزالت تلك الغربة عنهم ثم أخذ في الاغتراب والترحل حتى عاد غريبا كما بدأ بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة فالإسلام الحقيقي غريب جدا وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شحهم وأعجب كل منهم برأيه كما قال النبي صلى اله عليه وسلم " مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيتم شحا.(3/198)
مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا يد لك به فعليك بخاصة نفسك وإياك وعوامهم فإن وراءكم أياما صبر الصابر فيهن كالقابض على الجمر" ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسك بدينه أجر خمسين من الصحابة ففي سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة الخشني قال " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام فإن من وراءكم أيام الصبر الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم " وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه وفقها في سنة رسوله وفهما في كتابه وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وإزرائهم به وتنفير الناس عنه وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه فأما إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله فهو غريب في دينه لفساد أديانهم غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم غريب في صلاته لسوء صلاتهم.(3/199)
غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم غريب في نسبته لمخالفة نسبهم غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا فهو عالم بين جهال صاحب سنة بين أهل بدع داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف.
فصل النوع الثاني من الغربة غربة مذمومة وهي غربة أهل الباطل.
وأهل الفجور بين أهل الحق فهي غربة بين حزب الله المفلحين وإن كثر أهلها فهم غرباء على كثرة أصحابهم وأشياعهم أهل وحشة على كثرة مؤنسهم يعرفون في أهل الأرض ويخفون على أهل السماء.
فصل النوع الثالث غربة مشتركة لا تحمد ولا تذم وهي الغربة عن.
الوطن فإن الناس كلهم في هذه الدار غرباء فإنها ليست لهم بدار مقام ولا هي الدار التي خلقوا لها وقد قال النبي صلى اله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " وهكذا هو نفس الأمر لأنه أمر أن يطالع ذلك بقلبه ويعرفه حق المعرفة ولي من أبيات في هذا المعنى
وحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم(3/200)
وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ... وشطت به أوطانه ليس ينعم
فمن أجل ذا لا ينعم العبد ساعة ... من العمر إلا بعد ما يتألم
وكيف لا يكون العبد في هذه الدار غريبا وهو على جناح سفر لا يحل عن راحلته إلا بين أهل القبور فهو مسافر في صورة قاعد وقد قيل
وما هذه الأيام إلا مراحل ... يحث بها داع إلى الموت قاصد
وأعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوى والمسافر قاعد(3/201)
منزلة الاغتراب
...
فصل قال صاحب المنازل الاغتراب
أمر يشار به إلى الانفراد عن.الأكفاء يريد أن كل من انفرد بوصف شريف دون أبناء جنسه فإنه غريب بينهم لعدم مشاركه أو لقلته قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى الغربة عن الأوطان وهذا الغريب موته شهادة ويقاس له في قبره من مدفنه إلى وطنه ويجمع يوم القيامة إلى عيسى بن مريم عليه السلام لما كانت الغربة هي انفراد والانفراد إما بالجسم وإما بالقصد والحال وإما بهما كان الغريب غريب جسم أو غريب قلب وإرادة وحال أو غريبا بالاعتبارين قوله وهذا الغريب موته شهادة يشير به إلى الحديث الذي يروى عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم قال " موت الغريب شهادة "ولكن هذا الحديث لا يثبت وقد روى من طرق لا يصح منها شيء قال الإمام أحمد هذا حديث منكر وأما قوله ويقاس له في قبره من مدفنه إلى وطنه فيشير به إلى ما رواه.(3/201)
عبدالله بن وهب حدثني حيي بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن البجلي عن عبدالله بن عمرو قال" توفي رجل بالمدينة ممن ولد بالمدينة فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ليته مات في غير مولده فقال رجل ولم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الرجل إذا مات قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة " رواه ابن لهيعة عن حيى بهذا الإسناد وقال" وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم علىقبر رجل بالمدينة فقال ياله لو مات غريبا فقيل وما للغريب يموت بغير أرضه فقال ما من غريب يموت بغير أرضه إلا قيس له من تربته إلى مولده في الجنة " قوله ويجمع يوم القيامة إلى عيسى بن مريم يشير إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا القاسم بن جميل حدثنا محمد بن مسلم حدثنا عثمان بن عبدالله بن إدريس عن سليمان بن هرمز عن عبدالله بن عمرو قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب شيء إلى الله الغرباء قيل وما الغرباء يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفرارون بدينهم يجتمعون إلى عيسى بن مريم يوم القيامة" .
فصل قال الدرجة الثانية غربة الحال وهذا من الغرباء الذين طوبى لهم.
وهو رجل صالح في زمان فاسد وبين قوم فاسدين أو عالم بين قوم جاهلين أو صديق بين قوم منافقين يريد بالحال ههنا الوصف الذي قام به من الدين والتمسك بالسنة ولا يريد به الحال الاصطلاحي عند القوم والمراد به العالم بالحق العامل به الداعي إليه وجعل الشيخ الغرباء في هذه الدرجة ثلاثة أنواع صاحب صلاح ودين بين قوم فاسدين وصاحب علم ومعرفة بين قوم جهال وصاحب صدق وإخلاص بين أهل كذب ونفاق فإن صفات هؤلاء وأحوالهم تنافي صفات من هم بين.(3/202)
أظهرهم فمثل هؤلاء بين أولئك كمثل الطير الغريب بين الطيور والكلب الغريب بين الكلاب والصديق هو الذي صدق في قوله وفعله وصدق الحق بقوله وعمله فقد انجذبت قواه كلها للانقياد لله ولرسوله عكس المنافق الذي ظاهره خلاف باطنه وقوله خلاف عمله.
فصل قال الدرجة الثالثة غربة الهمة وهي غربة طلب الحق وهي غربة.
العارف لأن العارف في شاهده غريب ومصحوبه في شاهده غريب وموجوده لا يحمله علم أو يظهره وجد أو يقوم به رسم أو تطيقه إشارة أو يشمله اسم غريب فغربة العارف غربة الغربة لأنه غريب الدنيا والآخرة إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها لأن الغربة الأولى غربة بالأبدان والثانية غربة بالأفعال والأحوال وهذه الثالثة غربة بالهمم فإن همة العارف حائمة حول معروفه فهو غريب في أبناء الآخرة فضلا عن أبناء الدنيا كما أن طالب الآخرة غريب في أبناء الدنيا قوله لأن العارف في شاهده غريب شاهد العارف هو الذي يشهد عنده وله بصحة ما وجد وأنه كما وجد وبثبوت ما عرف وأنه كما عرف وهذا الشاهد أمر يجده من قلبه وهو قربه من الله وأنسه به وشدة شوقه إلى لقائه وفرحه به فهذا شاهده في سره وقلبه وله شاهد في حاله وعمله يصدق هذا الشاهد الذي في قلبه وله شاهد في قلوب الصادقين يصدق هذين الشاهدين فإن قلوب الصادقين لا تشهد بالزور البتة فإذا خفي عليك شأنك وحالك فاسأل عنك قلوب الصادقين فإنها تخبره عن حالك قوله ومصحوبه في شاهده غريب مصحوبه في شاهده هو الذي.(3/203)
يصحبه فيه من العلم والعمل والحال وهو غريب بالنسبة إلى غيره ممن لم يذق طعم هذا الشأن بل هو في واد وأهله في واد وقوله وموجوده لا يحمله علم إلى آخره يريد بموجوده ما يجده في شهوده وجدانا ذاتيا حقيقيا في هذه المراتب المذكورة لأن الشهود يشملها كلها حالة المشاهدة فأما ما يحمله العلم فهو أحكام العلم التي متى انسلخ منها انسلخ من الإيمان وموجوده في هذه المشاهدة في هذا الحال هو إصابته وجه الصواب الذي أراده الله ورسوله بشرعه وأمره وهذه الإصابة غريبة جدا عند أهل العلم بل هي متروكة عند كثير منهم فليس الحلال إلا ما أحله من قلدوه والحرام ما حرمه والدين ما أفتي به يقدم على النصوص وتترك له أقوال الرسول والصحابة وسائر أهل العلم قوله أو يظهره وجد الوجد يظهر أمورا ينكرها من لم يكن له ذلك الوجد ويعرفها من كان له وهذا الوجد إن شهد له العلم بالقبول وزكاه فهو وجد صحيح وإلا فهو وجد فاسد وفيه انحراف والمقصود أن ما يظهره وجد هذا العارف بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه غريب على غيره بحسب همته ومعرفته وطلبه قوله أو يقوم به رسم الرسم هو الصورة الخلقية وصفاتها وأفعالها عندهم والذي يقوم به هذا الرسم هو الذي يقيمه من تعلق اسم القيوم به فإن القيوم هو القائم بنفسه الذي قيام كل شيء به أي هو المقيم لغيره فلا قيام لغيره بدون إقامته له وقيامه هو بنفسه لا بغيره ويحتمل أن يريد به معنى آخر وهو ما يقوى رسمه على القيام به فإن وراء ذلك مالا يقوى رسم العبد على إظهاره ولا القيام به وهذا أظهر المعنيين.(3/204)
من كلامه وسياقه إنما يدل عليه ولهذا قال بعد ذلك أو تطيقه إشارة أي لا تقدر على إفهامه وإظهاره إشارة فتنهض الإشارة بكشفه ثم قال أو يشمله رسم يعني أو تناله عبارة فذكر الشيخ خمس مراتب الأولى مرتبة حمل العلم له الثانية مرتبة إظهار الوجد له الثالثة مرتبة قيام الرسم به الرابعة مرتبة إطاقة الإشارة له الخامسة مرتبة شمول العبارة له ومقصوده أن موجود العارف أخفى وأدق من موجود غيره فهو غريب بالنسبة إلى موجود سواه وأخبر أن موجوده في هذه المراتب غريب فكيف بموجوده الذي لا يحمله علم ولا يظهره وجد ولا يقوم به رسم ولا تطيقه إشارة ولا تشمله عبارة فهذا أشد غربة قوله فغربة العارف غربة الغربة والغربة أن يكون الإنسان بين أبناء جنسه غريبا مع أن له نسبا فيهم وأما غربة المعرفة فلا يبقى معها نسبة بينه وبين أبناء جنسه إلا بوجه بعيد لأنه في شأن والناس في شأن آخر فغربته غربة الغربة وأيضا فالصالحون غرباء في الناس والزاهدون غرباء في الصالحين والعارفون غرباء في الزاهدين قوله لأنه غريب الدنيا وغريب الآخرة يعني أن أبناء الدنيا لا يعرفونه لأنه ليس منهم وأهل الآخرة العباد الزهاد لا يعرفونه لأن شأنه وراء شأنهم همتهم متعلقة بالعبادة وهمته متعلقة بالمعبود مع قيامه بالعبادة فهو يرى الناس والناس لا يرونه كما
قيل تسترت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني(3/205)
فصل قال شيخ الإسلام.باب الغرق
قال الله تعالى {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} هذا اسم يشار به في هذا الباب إلى من توسط المقام وجاوز حد التفرق وجه استددلاله بإشارة الآية أن إبراهيم لما بلغ ما بلغ هو وولده في المبادرة إلى الامتثال والعزم عل إيقاع الذبح المأمور به ألقاه الوالد على جبينه في الحال وأخذ الشفرة وأهوى إلى حلقه أعرض في تلك الحال عن نفسه وولده وفنى بأمر الله عنهما فتوسط بحر جمع السر والقلب والهم على الله وجاوز حد التفرقة المانعة من امتثال هذا الأمر قوله {فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي استسلما وانقادا لأمر الله فلم يبق هناك منازعة لا من الوالد ولا من الولد بل استسلام صرف وتسليم محض قوله{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي صرعه على جبينه وهو جانب الجبهة الذي يلي الأرض عند النوم وتلك هي هيئة ما يراد ذبحه قوله توسط المقام لا يريد به مقاما معينا ولذلك أبهمه ولم يقيده والمقام عندهم منزل من منازل السالكين وهو يختلف باختلاف مراتبه وله بداية وتوسط ونهاية فالغرق المشار إليه أن يصير في وسط المقام فإن قيل الغرق أخص بنهاية المقام من توسطه لأنه استغراق فيه بحيث يستغرق قلبه وهمه فكيف جعله الشيخ توسطا فيه قلت لما كانت همة الطالب في هذه الحال مجموعة على المقصود وهو معرض عما سواه قد فارق مقام التفرقة وجاوز حدها إلى مقام الجمع فابتدأ في المقام وأول كل مقام يشبه آخر الذي قبله فلما توسط فيه استغرق قلبه وهمه وإرادته كما يغرق من توسط اللجة فيها قبل وصوله إلى آخرها قوله وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى استغراق العلم في عين الحال.(3/206)
وهذا رجل قد ظفر بالاستقامة وتحقق في الإشارة فاستحق صحة النسبة هذه الدرجة التي بدأ بها هي أول درجاته لأن الرجل قد يكون عالما بالشيء ولا يكون متصفا بالتخلق به واستعماله فالعلم شيء والحال شيء آخر فعلم العشق والصحة والشكر والعافية غير حصولها والاتصاف بها فإذا غلب عليه حال تلك المعلومات صار علمه بها كالمغفول عنه وليس بمغفول عنه بل صار الحكم للحال فإن العبد يعرف الخوف من حيث العلم ولكن إذا اتصف بالخوف وباشر الخوف قلبه غلب عليه حال الخوف والانزعاج واستغرق علمه في حاله فلم يذكر علمه لغلبة حاله عليه ومن هذه حاله فقد ظفر بالاستقامة لأن العلوم إذا أثمرت الأحوال كانت عنها الاستقامة في الأعمال ووقوعها على وجه الصواب وتحقق صاحبها في الإشارة إلى ما وجده من الأحوال ولم تكن إشارته عن تخمين وظن وحسبان واستحق اسم النسبة في صحة العبودية إلى الرحمن عز وجل لقوله { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وقوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً}الآيات وقوله{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه}وقوله{يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} والمقصود أن هذا قد انتقل من أحكام العمل وحده إلى أحكام العمل بالحال المصاحب للعلم فهو عامل بالمواجيد الحالية المصحوبة بالعلوم النبوية فإن انفراد العلم عن الحال تعطيل وبطالة وانفراد الحال عن العلم كفر وإلحاد والأكمل أن لا يغيب عن شهود العلم بالحال وإن استغرقه الحال عن شهود العلم مع قيامه بأحكامه لم يضره قوله وهذا رجل قد ظفر بالاستقامة أي هو على محجة الطريق القاصد إلى الله الموصل إليه والظفر هو حصول الإنسان على مطلوبه.(3/207)
قوله وتحقق في الإشارة أي إشارته إشارة تحقيق ليست كإشارة صاحب البرق الذي يلوح ثم يذهب قوله فاستحق صحة النسبة لأنه لما استقام وصح حاله بعمله وأثمر علمه حاله صحت نسبة العبودية له فإنه لا نسبة بين العبد ولرب إلا نسبة العبودية.
فصل قال الدرجة الثانية استغراق الإشارة في الكشف وهذا رجل ينطق عن.
موجوده ويسير مع مشهوده ولا يحس برعونة رسمه إنما كانت هذه الدرجة أرفع مما قبلها لأن صاحب الدرجة الأولى غايته أن يشير إلى ما تحققه وإن فارقه وصاحب هذه الدرجة قد فنى عن الإشارة لغلبة توالي نور الكشف عليه فاستغراق الإشارة في الكشف هو ارتفاع حكمها فيه فإن الإشارة عندهم نداء على رأس العبد وبوح بمعنى العلة وقد ارتفعت العلل عن صاحب هذه الدرجة فاستغرقت إشارته في كشفه فلم يبق له إشارة في الكشف وإنما ترتفع اإلإشارة لاستغراق الكشف لها إلا أن صاحب هذه الدرجة فيه بقية من رعونة رسمه فلذلك قال ولا يحس برعونة رسمه ورعونة الرسم هي التفاته إلى إنيته وقوله وهذا رجل ينطق عن موجوده أي لا يستعير ما يذكره من الذوق والوجد من غيره ويكون لسانه ناطقا به على حال غيره وموجوده فهو ينطق عن أمر هو متصف به لا وصاف له قوله ويسير مع مشهوده هو بالسين المهملة أي يسير إلى الله عز وجل عن شهود وكشف لا مع حجاب وغفلة فهو سائر إلى الله بالله مع الله قوله ولا يحس برعونة رسمه الرسم عندهم هو ذات العبد التي تفنى عند الشهود وليس المراد بفنائها عدمها من الوجود العيني بل عدمها من الوجود الذهني العلمي هذا مرادهم بقولهم فنى من لم يكن وبقي من لم يزل.ر(3/208)
وقد يريدون به معنى آخر وهو اضمحلال الوجود المحدث الحاصل بين عدمين وتلاشيه في الوجود الذي لم يزل ولا يزال وللملحد ههنا مجال يجول فيه ويقول إن الوجود المحدث لم تكن له حقيقة وإن الوجود القديم الدائم وحده هو الثابت لا وجود لغيره لا في ذهن ولا في خارج وإنما هو وجود فائض على الدوام على ماهيات معدومةفتكتسى بعين وجوده بحسب استعداداتها والمقصود شرح كلام الشيخ والمراد برعونة الرسم ههنا بقية تبقى من صاحب الشهود لا يدركها لضعفها وقلتها واشتغاله بنور الكشف عن ظلمتها فهو لا يحس بها.
فصل قال الدرجة الثالثة استغراق الشواهد في الجمع وهذا رجل شملته.
أنوار الأولية ففتح عينه في مطالعة الأزلية فتخلص من الهمم الدنية إنما كان هذا الاستغراق عنده أكمل مما قبله لأن الأول استغراق كاشف في كشف وهو متضمن لتفرقة وهذا استغراق عن شهود كشفه في الجمع فتمكن هذا في حال جمع همته مع الحق حتى غاب عن إدراك شهوده وذكر رسومه لما توالى عليه من الأنوار التي خصه الحق بها في الأزل وهي أنوار كشف اسمه الأول ففتح عين بصيرته في مطالعة الاختصاصات الأزلية فتخلص بذلك من الهمم الدنية المنقسمة بين تغيير مقسوم أو تفويت مضمون أو تعجيل مؤخر أو تأخير سابق ونحو ذلك وقد يراد بالهمم الدنية تعلتها بما سوى الحق سبحانه وما كان له وعلى هذا فاستغراق شواهده في جمع الحكم وشموله وقد يراد به معنى آخر وهو استغراق شواهد الأسماء والصفات في الذات الجامعة لها فإن الذات جامعة لأسمائها وصفاتها فإذا استغرق العبد في حضرة الجمع غابت الشواهد في تلك الحضرة.(3/209)
وأكمل من ذلك أن يشهد كثرة في وحدة ووحدة في كثرة بمعنى أن يشهد كثرة الأسماء والصفات في الذات الواحدة ووحدة الذات مع كثرة أسمائها وصفاتها وقوله ففتح عينه في مطالعة الأزلية نظر بالله لا بنفسه واستمد من فضله وتوفيقه لا من معرفته وتحقيقه فشاهد سبق الله سبحانه وتعالى لكل شيء وأوليته قبل كل شيء فتخلص من همم المخلوقين المتعلقة بالأدنى وصارت له همة عالية متعلقة بربه الأعلى تسرح ي رياض الأنس به ومعرفته ثم تأوي إلى مقاماتها تحت عرشه ساجدة له خاضعة لعظمته متذللة لعزته لا تبغي عنه حولا ولا تروم به بدلا.(3/210)
فصل قال صاحب المنازل باب الغيبة
قال الله تعالى {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} وقال{يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف} وجه الاستدلا له بإشارة الآية أن يعقوب لما امتلأ قلبه بحب يوسف عليه الصلاة والسلام وذكره أعرض عن ذكر أخيه مع قرب عهده بمصيبة فراقه فلم يذكره مع ذلك ولم يتأسف عليه غيبة عنه بمحبة يوسف واستيلائه على قلبه ولو استدل بقوله تعالى فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن لكان دليلا أيضا فإن مشاهدته في تلك الحال غيب عن النسوة السكاكين وما يقطعن بهن حتى قطعن أيديهن ولا يشعرن وذلك من قوة الغيبة قال الشيخ الغيبة التي يشار إليها في هذا الباب على ثلاث درجات الأولى غيبة المريد في تخلص القصد عن أيدي العلائق ودرك العوائق لالتماس الحقائق.(3/210)
يريد غيبة المريد عن بلده ووطنه وعاداته في محل تخليص القصد وتصحيحه ليقطع بذلك العلائق وهي ما يتعلق بقلبه وقالبه وحسه من المألوفات ويسبق العوائق حتى لا تلحقه ولا تدركه قوله لالتماس الحقائق متعلق بقوله غيبة المريد أي هذه الغيبة لالتماس الحقائق فإن العوائق والعلائق تحول بينه وبين طلبها وحصولها لمضادتها لها والحقائق جمع حقيقة ويراد بها الحق تعالى وما نسب إليه فهو الحق وقوله الحق ووعده الحق ولقاؤه حق ورسوله حق وعبوديته وحده حق وعبودية ما سواه الباطل فكل شيء ما خلا الله باطل والمقصود أن المريد إن لم يتخلص قصده في مطلوبه عما يعوقه من الشواغل أو ما يدركه من المعوقات لم يبلغ مقصوده ولم يصل إليه وإن وصل إليه فبعد جهد شديد ومشقة بسبب تلك الشواغل ولم يصل القوم إلى مطلبهم إلا بقطع العلائق ورفض الشواغل.
فصل قال الدرجة الثانية غيبة السالك عن رسوم العلم وعلل السعي ورخص.
الفتور يريد أنه ينتقل عن أحكام العلم إلىالحال وهذا كلام فيه إجمال فالملحد يفهم منه أنه يفارق أحكام العلم ويقف مع أحكام الحال وهذا زندقة وإلحاد والموحد يفهم منه أنه ينتقل من أحكام العلم وحده إلىأحكام الحال المصاحب للعلم فإن العلم الخالي عن الحال ضعف في الطريق والحال المجرد عن العلم ضلال عن الطريق ومن عبدالله بحال مجرد عن علم لم يزدد من الله إلا بعدا قوله وعلل السعي يعني أن السالك يغيب عن علل سعيه وعمله.(3/211)
فصل قال صاحب المنازل باب التمكن
قال الله تعالى {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} وجه استدلاله بالآية في غاية الظهور وهو أن المتمكن لا يبالي بكثرة الشواغل ولا بمخالطة أصحاب الغفلات ولا بمعاشرة أهل البطالات بل قد تمكن بصبره ويقينه عن استفزازهم إياه واستخفافهم له ولهذا قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق فمن وفى الصبر حقه وتيقن أن وعد الله حق لم يستفزه المبطلون ولم يستخفه الذين لا يوقنون ومتى ضعف صبره ويقينه أو كلاهما استفزه هؤلاء واستخفه هؤلاء فجذبوه إليهم بحسب ضعف قوة صبره ويقينه فكلما ضعف ذلك منه قوي جذبهم له وكلما قوي صبره ويقينه قوي انجذابه منهم وجذبه لهم.
فصل قال الشيخ التمكن فوق الطمأنينة وهو الإشارة إلى غاية الاستقرار.
التمكن هو القدرة على التصرف في الفعل والترك ويسمى مكانة أيضا قال الله تعالى قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل الآية وأكثر ما يطلق في اصطلاح القوم على من انتقل إلى مقام البقاء.(3/215)
بعد الفناء وهو الوصول عندهم وحقيقته ظفر العبد بنفسه وهو أن تتوارى عنه أحكام البشرية بطلوع شمس الحقيقة واستيلاء سلطانها فإذا دامت له هذه الحال أو غلبت عليه فهو صاحب تمكين قال صاحب المنازل التمكن فوق الطمأنينة وهو الإشارة إلى غاية الاستقرار إنما كان فوق الطمأنينة لأنها تكون مع نوع من المنازعة فيطمئن القلب إلى ما يسكنه وقد يتمكن فيه وقد لا يتمكن ولذلك كان التمكن هو غاية الاستقرار وهو تفعل من المكان فكأنه قد صار مقامه مكانا لقلبه قد تبوأه منزلا ومستقرا قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى تمكن المريد وهو أن يجتمع له صحة قصد يسيره ولمع شهود يحمله وسعة طريق تروحه المريد في اصطلاحهم هو الذي قد شرع في السير إلى الله وهو فوق العابد ودون الواصل وهذا اصطلاح بحسب حال السالكين وإلا فالعابد مريد والسالك مريد والواصل مريد فالإرادة لا تفارق العبد ما دام تحت حكم العبودية وقد ذكر الشيخ للتمكن في هذه الدرجة ثلاثة أمور صحة قصد وصحة علم وسعة طريق فبصحة القصد يصح سيره وبصحة العلم تنكشف له الطريق وبسعة الطريق يهون عليه السير وكل طالب أمر من الأمور فلا بد له من تعين مطلوبه وهو المقصود ومعرفة الطريق الموصل إليه والأخذ في السلوك فمتى فاته واحد من هذه الثلاث لم يصح طلبه ولا سيره فالأمر دائر بين مطلوب يتعين إيثاره على غيره وطلب يقوم بقصد من يقصده وطريق توصل إليه فإذا تحقق العبد بطلب ربه وحده تعين مطلوبه فإذا بذل جهده في طلبه صح له طلبه فإذا تحقق باتباع أوامره واجتناب نواهيه صح له طريقه وصحة القصد والطريق موقوفة على صحة المطلوب وتعينه.(3/216)
فحكم القصد يتلقى من حكم المقصود فمتى كان المقصود أهلا للإيثار كان القصد المتعلق به كذلك فالقصد والطريق تابعان للمقصود وتمام العبودية أن يوافق الرسول في مقصوده وقصده وطريقه فمقصوده الله وحده وقصده تنفيذ أوامره في نفسه وفي خلقه وطريقه اتباع ما أوحي إليه فصحبه الصحابة رضي الله عنهم على ذلك حتى لحقوا به ثم جاء التابعون لهم بإحسان فمضوا على آثارهم ثم تفرقت الطرق بالناس فخيار الناس من وافقه في المقصود والطريق وأبعدهم عن الله ورسوله من خالفه في المقصود والطريق وهم أهل الشرك بالمعبود والبدعة في العبادة ومنهم من وافقه في المقصود وخالفه في الطريق ومنهم من وافقه في الطريق وخالفه في المقصود فمن كان مراده الله والدار الآخرة فقد وافقه في المقصود فإن عبدالله بما به أمر على لسان رسوله فقد وافقه في الطريق وإن عبده بغير ذلك فقد خالفه في الطريق ومن كان مقصوده من أهل العلم والعبادة والزهد في الدنيا الرياسة فقد خالفه في المقصود وإن تقيد بالأمر فإن لم يتقيد به فقد خالفه في المقصود والطريق فإذا عرف هذا فقول الشيخ تمكن المريد أن يجتمع له صحة قصد يسيره إشارة إلى صحة القصد وقوله ولمع شهود يحمله إشارة إلى معرفة المقصود وقوة اليقين فيحصل لقلبه كشف يحمله على سلوكه فإن السالك إذا كشف له عن مقصوده حتى كأنه يعاينه جد في طلبه وذهبت عنه رخص الفتور وقوله وسعة طريق تروحه إشارة إلى صحة طريقه وذلك بأمرين بسعتها حتى لا تضيق عليه فيعجز عن سلوكها وباستقامتها حتى لا يزيغ عنها.(3/217)
إلى غيرها فإن طريق الحق واسعة مستقيمة وطرق الباطل ضيقة معوجة وهذا يدل على رسوخ الشيخ في العلم ووقوفه مع السنة وفقهه في هذا الشأن.
فصل قال الدرجة الثانية تمكن السالك وهو أن يجتمع له صحة انقطاع.
وبرق كشف وضياء حال هذه الدرجة أتم مما قبلها فإن تلك تمكن في تصحيح قصد الأعمال وهذه تمكن في حال التمكن والتمكن في الحال أبلغ من التمكن في القصد ويريد بصحة الانقطاع انقطاع قلبه عن الأغيار وتعلقه بالشواغل الموجبة للأكدار ومع ذلك فقد حصل لقلبه برق كشف يجعل الإيمان له كالعيان ومع ذلك فحاله مع الله صاف من معارضات السوى فلا يعارض كشفه شبهة ولا همته إرادة بل هو متمكن في انقطاعه وشهوده وحاله.
فصل قال الدرجة الثالثة تمكن العارف وهو أن يحصل في الحضرة فوق حجب.
الطلب لابسا نور الوجود العارف فوق السالك ولا يفارقه السلوك لكنه مع السلوك قد ظفر بالمعرفة فأخذ منها اسما أخص من اسم السالك وهكذا الشأن في سائر المقامات والأحوال فإنها لا تفارق من ترقى فيها ولكن إذا ترقى في مقام أخذ اسمه وكان أحق به مع ثبوت الأول له والحضرة يراد بها حضرة الجمع وعندي أنها حضرة دوام المراقبة والتمكن من مقام الإحسان هذه حضرة الأنبياء والعارفين.(3/218)
وأما حضرة الجمع التي يشيرون إليها فكل فرقة تشير إلى شيء فأهل الفناء يريدون حضرة جمع الفناء في توحيد الربوبية وأهل الإلحاد يريدون حضرة جمع الوجود في وجود واحد وطائفة من السالكين يريدون حضرة جمع الأسماء والصفات في ذات واحدة وإذا فسرت بحضرة دوام المراقبة والتمكن في فقام الإحسان كان ذلك أحسن وأصح وصاحب هذه الحضرة لدوام مراقبته قد انقشعت عنه سحب الغفلات ولم تشغله عن تلك الحضرة الشواغل الملهيات قوله فوق حجب الطلب يعني أن العارف قد ارتفع عن مقام الطلب للمعرفة إلى مقام حصولها والطالب للأمر دون الواصل إليه فالطالب بعد في حجاب طلبه والعارف قد ارتفع فوق حجاب الطلب بما شاهده من الحقيقة فالطالب شيء والواجد شيء وهذا كلام يحتاج إلى شرح وبيان فإن الطلب لا يفارق العبد ما دامت أحكام العبودية تجري عليه ولكنه متنقل في منازل الطلب ينتقل من عبودية إلى عبودية والمعبود واحد جل وعلا لا ينتقل عنه فكيف يمكن تجرد المعرفة عن الطلب هذا موضع زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وظن المخدوعون المغرورون أنهم قد استغنوا بالمعرفة عن الطلب وأن الطلب وسيلة والمعرفة غاية ولا معنى للاشتغال بالوسيلة بعد الوصول إلى الغاية فهؤلاء خرجوا عن الدين بالكلية بعد أن شمروا في السير فيها فردوا.(3/219)
على أدبارهم ونكصوا على أعقابهم ولم يفهموا مراد أهل الاستقامة بذكر حجب الطلب واعلم أن كل ما منك حجاب على مطلوبك فإن وقفت معه فأنت دون الحجاب وإن قطعته إلى تجريد المطلوب صرت فوق الحجاب فطلبك وإرادتك وتوكلك وحالك وعملك كله حجاب إن وقفت معه أو ركنت إليه وإن جاوزته إلى الذي أنت به وله وفي يديه وتحت تصرفه ومشيئته وليس لك ذرة واحدة إلا به ومنه ولم تقف مع طلبك في إرادتك فقد صرت فوق حجاب الطلب ففي الحقيقة أنت حجاب قلبك عن ربك فإذا كشفت الحجاب عن القلب أفضى إلى الرب ووصل إلى الحضرة المقدسة وقولنا إذا كشفت الحجاب إخبار عن محل العبودية وإلا فكشفه ليس بيدك ولا أنت الكاشف له{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} ومن أعظم الضر حجاب القلب عن الرب وهو أعظم عذابا من الجحيم قال تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} قوله لابسا نور الوجود المعنى الصحيح من هذه اللفظة أن نور الوجود نور ظفره بإقبال قلبه على الله عز وجل وجمع همه عليه وفنائه بمراده عن مراد نفسه فصار واحدا واحدا لما أكثر الخلق فاقد له قد لبس قلبه نور ذلك الوجود حتى فاض على لسانه وجوارحه وحركاته وسكناته فإن نطق علاه النور وإن سكت علاه النور.(3/220)
وأخص من هذا أنه قد فاض على قلبه نور اليقين بالأسماء والصفات فصار لقلبه من معرفتها والإيمان بها وذوق حلاوة ذلك نور خاص غير مجرد نور العبادة والإرادة والسلوك وإياك أن تلتفت إلى غير هذا فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله وليس مراد الشيخ بالوجود ما يريده المتكلمون والفلاسفة ولا ما يريده الاتحادية الملاحدة وإنما مراده به الوجدان بعد الفقد كما يقال فلان واجد وفلان فاقد والله أعلم.(3/221)
فصل قال صاحب المنازل باب المكاشفة
قال الله تعالى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وجه احتجاجه بإشارة الآية أن الله سبحانه كشف لعبده ما لم يكشفه لغيره وأطلعه على مالم يطلع عليه غيره فحصل لقلبه الكريم من انكشاف الحقائق التي لا تخطر ببال غيره ما خصه الله به والإيحاء هو الإعلام السريع الخفي ومنه الوحا الوحا أي الإسراع الإسراع قوله ما أوحي أبهمه لعظمه فإن الإبهام قد يقع للتعظيم ونظيره قوله تعالى {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} أي أمر عظيم فوق الصفة قال الشيخ المكاشفة مهاداة السر بين متباطنين يريد أن المكاشفة إطلاع أحد المتحابين المتصافيين صاحبه على باطن أمره وسره قوله مهاداة السر أي تردد السر على وجه الألطاف والمودة قوله بين متباطنين يعني بالمتباطنين باطن المكاشف والمكاشف فيحمل سر كل منهما إلى الآخر كما يحمل إليه هديته فيسري سر كل واحد منها إلى الآخر وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال وأحست روحه بالقرب.(3/221)
الخاص الذي ليس هو كقرب من المحسوس حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه فإن حجابه هو نفسه وقد رفع الله سبحانه عنه ذلك الحجاب بحوله وقوته أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب فصار يعبده كأنه يراه فإذا تحقق بذلك وارتفع عنه حجاب النفس وانقشع عنه ضبابها ودخانها وكشطت عنه سحبها وغيومها فهناك يقال له
بدلك سر طال عنك اكتتامه ... ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ... ولولاك لم يطبع عليه ختامه
فأن غبت عنه خلفيه وطنبت ... على منكب الكشف المصون
وجاء حديث لايمل سماعه ... شهي إلينا . الكثيب قتامه
إذا ذكرت النفس النفس زال عناؤها ... وزال عن القلب الكئيب قتامه
فلذلك قال الشيخ وهي في هذا الباب بلوغ ما وراء الحجاب وجودا قوله وجودا احتراز من بلوغه سماعا وعلما وكثيرا ما يلتبس على العبد أحدهما بالآخر فأين وجود الحقيقة من العلم بها ومعرفتها كما تقدم ذلك مرارا فتعلق العلم بالقلب شيء واتصافه بالمعلوم شيء آخر فمن الناس من يتعلق به سماع ذلك دون فهمه ومنهم من يتعلق به فهمه دون حقيقته والتعلق الكامل أن يتعلق به وجوده فلذلك قال بلوغ ما وراء الحجاب وجودا قال الشيخ وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى مكاشفة تدل على التحقيق الصحيح وهي لا تكون مستدامة فإذا كانت حينا دون حين ولم يعارضها تفرق غير أن الغين ربما شاب مقامه على أنه قد بلغ مبلغا لا يلفته قاطع ولا يلويه سبب ولا يقتطعه حظ وهي درجة القاصد فإذا استدامت فهي الدرجة الثانية المكاشفة الصحيحة علوم يحدثها الرب سبحانه وتعالى في قلب العبد.(3/222)
ويطلعه بها على أمور تخفى على غيره وقد يواليها وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها ويواريها عنه بالغين الذي يغشى قلبه وهو أرق الحجب أو بالغيم وهو أغلظ منه أو بالران وهو أشدها فالأول يقع للأنبياء عليهم السلام كما قال النبي صلى اله عليه وسلم" إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله أكثر من سبعين مرة " والثاني يكون للمؤمنين والثالث لمن غلبت عليه الشقوة قال الله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال ابن عباس وغيره هو الذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالران عليه والحجب عشرة حجاب التعطيل ونفي حقائق الأسماء والصفات وهو أغلظها فلا يتهيأ لصاحب هذا الحجاب أن يعرف الله ولا يصل إليه البتة إلا كما يتهيأ للحجر أن يصعد إلى فوق الثاني حجاب الشرك وهو أن يتعبد قلبه لغير الله الثالث حجاب البدعة القولية كحجاب أهل الأهواء والمقالات الفاسدة على اختلافها الرابع حجاب البدعة العملية كحجاب أهل السلوك المبتدعين في طريقهم وسلوكهم الخامس حجاب أهل الكبائر الباطنة كحجاب أهل الكبر والعجب والرياء والحسد والفخر والخيلاء ونحوها السادس حجاب أهل الكبائر الظاهرة وحجابهم أرق من حجاب إخوانهم من أهل الكبائر الباطنة مع كثرة عباداتهم وزهاداتهم واجتهاداتهم فكبائر هؤلاء أقرب إلى التوبة من كبائر أولئك فإنها قد صارت مقامات لهم لا يتحاشون من إظهارها وإخراجها في قوالب عبادة ومعرفة فأهل الكبائر الظاهرة أدنى إلى السلامة منهم وقلوبهم خير من قلوبهم.(3/223)
السابع حجاب أهل الصغائر الثامن حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات التاسع حجاب أهل الغفلة عن استحضار ما خلقوا له وأريد منهم وما لله عليهم من دوام ذكره وشكره وعبوديته العاشر حجاب المجتهدين السالكين المشمرين في السير عن المقصود فهذه عشر حجب بين القلب وبين الله سبحانه وتعالى تحول بينه وبين هذا الشأن وهذه الحجب تنشأ من أربعة عناصر عنصر النفس وعنصر الشيطان وعنصر الدنيا وعنصر الهوى فلا يمكن كشف هذه الحجب مع بقاء أصولها وعناصرها في القلب البتة وهذه الأربعة العناصر تفسد القول والعمل والقصد والطريق بحسب غلبتها وقلتها فتقطع طريق القول والعمل والقصد أن يصل إلى القلب وما وصل منه إلى القلب قطعت عليه الطريق أن يصل إلى الرب فبين القول والعمل وبين القلب مسافة يسافر فيها العبد إلى قلبه ليرى عجائب ما هنالك وفي هذه المسافة قطاع الطريق المذكورون فإن حاربهم وخلص العمل إلى قلبه دار فيه وطلب النفوذ من هناك إلى الله فإنه لا يستقر دون الوصول إليه وأن إلى ربك المنتهى فإذا وصل إلى الله سبحانه أثابه عليه مزيدا في إيمانه ويقينه ومعرفته وعقله وجمل به ظاهره وباطنه فهداه به لأحسن الأخلاق والأعمال وصرف عنه به سيء الأخلاق والأعمال وأقام الله سبحانه من ذلك العمل للقلب جندا يحارب به قطاع الطريق للوصول إليه فيحارب الدنيا بالزهد فيها وإخراجها من قلبه ولا يضره أن تكون في يده وبيته ولا يمنع ذلك من قوة يقينه بالآخرة يحارب الشيطان بترك الإستجابة لداعي الهوى فإن الشيطان مع الهوى لا يفارقه ويحارب الهوى بتحكيم الأمر المطلق والوقوف معه بحيث لا يبقى له هوى فيما يفعله ويتركه ويحارب النفس بقوة الإخلاص.(3/224)
هذا كله إذا وجد العمل منفذا من القلب إلى الرب سبحانه وتعالى وإن دار فيه ولم يجد منفذا وثبت عليه النفس فأخذته وصيرته جندا لها فصالت به وعلت وطغت فتراه أزهد ما يكون وأعبد ما يكون وأشده اجتهادا وهو أبعد ما يكون عن الله وأصحاب الكبائر أقرب قلوبا إلى الله منه وأدنى منه إلى الإخلاص والخلاص فانظر إلى السجاد العباد الزاهد الذي بين عينيه أثر السجود كيف أورثه طغيان عمله أن أنكر على النبي صلى اله عليه وسلم وأورث أصحابه احتقار المسلمين حتى سلوا عليهم سيوفهم واستباحوا دماءهم وانظر إلى الشريب السكير الذي كان كثيرا ما يؤتى به إلى النبي صلى اله عليه وسلم فيحده على الشراب كيف قامت به قوة إيمانه ويقينه ومحبته لله ورسوله وتواضعه وانكساره لله حتى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لعنته فظهر بهذا أن طغيان المعاصي أسلم عاقبة من طغيان الطاعات وقد روى الإمام أحمد في كتاب الزهد" أن الله سبحانه أوحى إلى موسى يا موسى أنذر الصديقين فإني لا أضع عدلي على أحد إلا عذبته من غير أن أظلمه وبشر الخطائين فإنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفر"ه فلنرجع إلى شرح كلامه قوله مكاشفة تدل على التحقيق الصحيح كل يدعي أن التحقيق الصحيح معه
وكل يدعون وصال ليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك(3/225)
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
فليس التحقيق الصحيح إلا المطابق لما عليه الأمر في نفسه وهو في العلم الكشف المطابق لما أخبر به الرسل وفي الإرادة الكشف المطابق لمراد الرب الديني من عبده وقولنا الديني احتراز من مراده الكوني فإن كل ما في الكون موجب هذه الإرادة فالكشف الصحيح أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه معاينة لقلبه ويجرد إرادة القلب له فيدور معه وجودا وعدما هذا هو التحقيق الصحيح وما خالفه فغرور قبيح قوله وهي لا تكون مستدامة هكذا رأيته في نسخ وفي أخرى وهي أن تكون مستديمة وكأن هذا الثاني أصح لأن سياق الكلام يدل على ذلك وأنها غير مستدامة في الدرجة الأولى فإذا استدامت صارت في الدرجة الثانية وبذلك يحصل الإختلاف بين الدرجتين وإلا فلو كانت مستدامة فيهما لكانت الدرجتان واحدة قوله فإذا كانت حينا دون حين ولم يعارضها تفرق يعني فهي الدرجة الأولى بشرط أن لا يقطع حكمها تفرق ولهذا قال لم يعارضها ولم يقل لم يعرض لها فإن التفرق لا بد أن يعرض لكن لا يعارضها ويقاومها بحيث يزيلها فإن العارض إذا عرض للقلب كرهه ومحاه وأزاله بسرعة وأما المعارض فإنه يزيل الحاصل ويخلفه فيصير الحكم له فلذلك قال غير أن الغين ربما شاب مقامه على أنه قد بلغ مبلغا إلى آخره يعني أن لوازم البشرية لا بد له منها ولو لم يكن إلا أخفها وهو الحجاب الرقيق الذي يعرض لقلبه وهو الغين لكنه لا يضره لأنه قد بلغ مبلغا لا يلفته قاطع أي لا توجب له القواطع التفات قلبه عن مقامه إليها بل إذا.(3/226)
لحظها بقلبه فر منها كما يفر الظبي من الكلب الصائد إذا أحس به ولا يلويه سبب أي لا يعوج قصده للحق سبب من الأسباب ولا يرده عنه قوله ولا يقطعه حظ أي لا يقطعه عن بلوغ مقصوده حظ من الحظوظ النفسية والقاصد في هذه الدرجة هو الذي قد ظفر بالقصد الذي لا يلقى سببا إلا قطعه ولا حائلا إلا منعه ولا تحاملا إلا سهله فهذه درجة القاصد فإذا استدامت وتمكن فيها السالك فهي الدرجة الثانية قال الشيخ وأما الدرجة الثالثة فمكاشفة عين لا مكاشفة علم وهي مكاشفة لا تذر سمة تشير إلى التذاذ أو تلجىء إلى توقف أو تنزل إلى رسم وغاية هذه المكاشفة المشاهدة إنما كانت هذه الدرجة مكاشفة عين لغلبة نور الكشف على القلب فتنزلت هذه المكاشفة من القلب وحلت منه محل العلم الضروري الذي لا يمكن جحده ولا تكذيبه بل صارت للقلب بمنزلة المرئي للبصر والمسموع للأذن والوجدانيات للنفس وكما أن المشاهدة بالبصر لا تصح إلا مع صحة القوة المدركة وعدم الحائل من جسم أو ظلمة وانتفاء البعد المفرط فكذلك المكاشفة بالبصيرة تستلزم صحة القلب وعدم الحائل والشاغل وقرب القلب ممن يكاشفه بأسراره وليس مراد الشيخ في هذا الباب الكشف الجزئي المشترك بين المؤمنين والكفار والأبرار والفجار كالكشف عما في دار إنسان أو عما في يده أو تحت ثيابه أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكرا أو أنثى وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك فإن ذلك يكون من الشيطان تارة ومن النفس تارة ولذلك يقع من الكفار كالنصارى وعابدي النيران والصلبان فقد كاشف ابن صياد النبي صلى اله عليه وسلم بما أضمره له وخبأه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت من إخوان الكهان فأخبر أن ذلك.(3/227)
الكشف من جنس كشف الكهان وأن ذلك قدره وكذلك مسيلمة الكذاب مع فرط كفره كان يكاشف أصحابه بما فعله أحدهم في بيته وما قاله لأهله يخبره به شيطانه ليغوي الناس وكذلك الأسود العنسي والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبدالملك بن مروان وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة وشاهد الناس من كشف الرهبان عباد الصليب ما هو معروف والكشف الرحماني من هذا النوع هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة رضي الله عنهماإن امرأته حامل بأنثى وكشف عمر رضي الله عنه لما قال يا سارية الجبل وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن والمقصود أن مراد القوم بالكشف في هذا الباب أمر وراء ذلك وأفضله وأجله أن يكشف للسالك عن طريق سلوكه ليستقيم عليها وعن عيوب نفسه ليصلحها وعن ذنوبه ليتوب منها فما أكرم الله الصادقين بكرامة أعظم من هذا الكشف وجعلهم منقادين له عاملين بمقتضاه فإذا انضم هذا الكشف إلى كشف تلك الحجب المتقدمة عن قلوبهم سارت القلوب إلى ربها سير الغيث إذا استدبرته الريح فلنرجع إلى شرح كلامه فقوله الدرجة الثالثة مكاشفة عين لا مكاشفة علم أي متعلق هذه المكاشفة عين الحقيقة بخلاف مكاشفة العلم فإن متعلقهاالصورة الذهنية المطابقة للحقيقة الخارجية فكشف العلم أن يكون مطابقا لعلومه وكشف العيان أن يصيرالمعلوم مشاهدا للقلب كما تشاهد العين المرئي.(3/228)
ومن ظن من القوم أن كشف العين ظهور الذات المقدسة لعيانه حقيقة فقد غلط أقبح الغلط وأحسن أحواله أن يكون صادقا ملبوسا عليه فإن هذا لم يقع في الدنيا لبشر قط وقد منع منه كليم الرحمن وقد اختلف السلف والخلف هل حصل هذا لسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه فالأكثرون على أنه لم ير الله سبحانه وحكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعا من الصحابة فمن ادعى كشف العيان البصري عن الحقيقة الإلهية فقد وهم وأخطأ وإن قال إنما هو كشف العيان القلبي بحيث يصير الرب سبحانه كأنه مرئي للعبد كما قال النبي صلى اله عليه وسلم" اعبد الله كأنك تراه" فهذا حق وهو قوة يقين ومزيد علم فقط نعم قد يظهر له نور عظيم فيتوهم أن ذلك نور الحقيقة الإلهية وأنها قد تجلت له وذلك غلط أيضا فإن نور الرب تعالى لا يقوم له شيء ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ الجبل وتدكدك وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى لا تدركه الأبصار قال ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى به لم يقم له شيء وهذا النور الذي يظهر للصادق هو نور الإيمان الذي أخبر الله عنه في قوله {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاح} قال أبي بن كعب مثل نوره في قلب المؤمن فهذا نور يضاف إلى الرب ويقال هو نور الله كما أضافه الله سبحانه إلى نفسه والمراد نور الإيمان الذي جعله الله له خلقا وتكوينا كما قال تعالى {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} فهذا النور إذا تمكن من القلب وأشرق فيه فاض على الجوارح فيرى أثره في الوجه والعين ويظهر في القول والعمل وقد يقوى حتى يشاهده صاحبه عيانا وذلك لاستيلاء أحكام القلب عليه وغيبة أحكام النفس والعين شديدة الارتباط بالقلب تظهر ما فيه فتقوى مادة النور في القلب.(3/229)
ويغيب صاحبه بما في قلبه عن أحكام حسه بل وعن أحكام العلم فينتقل من أحكام العلم إلى أحكام العيان وسر المسألة أن أحكام الطبيعة والنفس شيء وأحكام القلب شيء وأحكام الروح شيء وأنوار العبادات شيء وأنوار استيلاء معاني الصفات والأسماء على القلب شيء وأنوار الذات المقدسة شيء وراء ذلك كله فهذا الباب يغلط فيه رجلان أحدهما غليظ الحجاب كثيف الطبع والآخر قليل العلم يلتبس عليه ما في الذهن بما في الخارج ونور المعاملات بنور رب الأرض والسموات ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور قوله ولا مكاشفة الحال مكاشفة الحال هي المواجيد التي يجدها السالك بوارداته حتى يبقى الحكم لقلبه وحاله قوله وهي مكاشفة لا تذر سمة تشير إلى الالتذاذ يريد أن هذه المكاشفة تمحو رسوم المكاشف فلا يبقى منه ما يحس بلذة فإن الأحوال والمواجيد لها لذه عظيمة أضعاف اللذة الحسية فإن لذتها روحانية قلبية والمكاشفة العينية تغيب المكاشف عن إدراك تلك اللذة والسمة هي العلامة فالمعنى أن هذه المكاشفة لا تذر له علامة تدل على لذة قوله أو تلجىء إلى توقف يعني لا تذر له بقية تلجئه إلى وقفة فإن البقية التي تبقى على السالك من نفسه هي التي تلجئه إلى التوقف في سيره قوله ولا تنزل على رسم أي لا تنزل هذه المكاشفة على من بقي فيه رسم حجاب بينه وبين هذه المكاشفة فإنها بمنزلة نور الشمس فلا تنزل في بيت عليه سقف حائل فإن الرسم عند القوم هو الحجاب بينهم وبين مطلوبهم والرسم هو النفس وأحكامها وصفاتها وهذه المكاشفة إذا قويت واستحكمت صارت مشاهدة ولذلك قال وغاية هذه المكاشفة هو مقام المشاهدة.(3/230)
فصل قال صاحب المنازل باب المشاهدة
قال الله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} قلت جعل الله سبحانه كلامه ذكرى لا ينتفع بها إلا من جمع هذه الأمور الثلاثة أحدها أن يكون له قلب حي واع فإذا فقد هذا القلب لم ينتفع بالذكرى الثاني أن يصغي بسمعه فيميله كله نحو المخاطب فإن لم يفعل لم ينتفع بكلامه الثالث أن يحضر قلبه وذهنه عند المكلم له وهو الشهيد أي الحاضر غيرالغائب فإن غاب قلبه وسافر في موضع آخر لم ينتفع بالخطاب وهذا كما أن المبصر لا يدرك حقيقةالمرئي إلا إذا كانت له قوة مبصرة وحدق بها نحو المرئي ولم يكن قلبه مشغولا بغير ذلك فإن فقد القوة المبصرة أو لم يحدق نحو المرئي أو حدق نحوه ولكن قلبه كله في موضع آخر لم يدركه فكثيرا ما يمر بك إنسان أو غيره وقلبك مشغول بغيره فلا تشعر بمروره فهذا الشأن يستدعي صحة القلب وحضوره وكمال الإصغاء.
فصل قال الشيخ المشاهدة سقوط الحجاب بتا أي قطعا بحيث لا يبقى منه.
شيء والمشاهدة هي المسقطة للحجاب وهي التي تكون عند سقوط الحجاب وليست هي نفس سقوط الحجاب لكن عبر عن الشيء بلازمه فإن سقوط الحجاب يلازم حصول المشاهدة قوله وهي فوق المكاشفة هذا يدلك على أن مراد الشيخ ومن وافقه من اهل الاستقامة بالمكاشفة والمشاهدة قوة اليقين ومزيد العلم وارتفاع.(3/231)
الحجب المانعة من ذلك لا نفس معاينة الحقيقة فإن المكاشفة لو كانت هي معاينة الحقيقة لما كان فوقها مرتبة أخرى وإنما كانت المشاهدة عنده فوق المكاشفة لما ذكره من قوله لأن المكاشفة ولاية النعت وفيه شيء من بقايا الرسم والمشاهدة ولاية العين والذات يريد أن المكاشفة تتعلق بالصفات الإلهية فولايتها ولاية النعوت والأوصاف أي سلطانها وما يتعلق به هو النعوت والصفات وسلطان المشاهدة وما يتعلق به هو نفس الذات الجامعة للنعوت والصفات فلذلك كانت فوقها وأكمل منها والفرق بين ولاية النعت وولاية العين والذات أن النعت صفة ومن شاهد الصفة فلا بد أن يشاهد متعلقاتها فإن النظر في متعلقاتها يكسبه التعظيم للمتصف بها فإن من شاهد العلم القديم الأزلي متعلقا بسائر المعلومات التي لا تتناهى من واجب وممكن ومستحيل ومن شاهد الإرادة الموجبة لسائر الإرادات على تنوعها من الأفعال والأعيان والحركات والأوصاف التي لا تتناهى وشاهد القدرة التي هي كذلك وشاهد صفة الكلام الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر وأشجار العالم كلها أقلام يكتب بها كلام الرب جل جلاله لفنيت البحار ونفدت الأقلام وكلام الله عز وجل لا ينفد ولا يفنى فمن شاهد الصفات كذلك وجال قلبه في عظمتها فهو مشغول بالصفات ومتفرق قلبه في متعلقاتها وتنوعها في أنفسها بخلاف من قصر نظره على نفس الذات وشاهد قدمها وبقاءها واستغرق قلبه في عظمة تلك الذات بقطع النظر عن صفاتها فهو مشاهد للعين والأول مشاهد للصفات فالأول في فرق.(3/232)
وهذا في جمع فمن استغرق قلبه في هذا المشهد استحق اسم المشاهد ووصف المشاهدة عند القوم إذا غاب عن إدراك رسمه وكل ما فيه من علم أو عمل أو حال هذا تقرير كلامه وبعد فإن ولاية النعوت والصفات التي جعلها دون ولاية العين والذات ليس الأمر فيها كما زعم بل لا نسبة بينهما البتة فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده في كتبه الإلهية إلى الأول دون الثاني وبذلك نطقت كتبه ورسله فهذا القرآن من أوله إلى آخره إنما يدعو الناس إلى النظر في صفات الله وأفعاله وأسمائه دون الذات المجردة فإن الذات المجردة لا يلحظ معها وصف ولا يشهد فيها نعت ولا تدل على كمال ولا جلال ولا يحصل من شهودها إيمان فضلا عن أن يكون من أعلى مقامات العارفين ويا سبحان الله أين يقع شهود صفات الكمال وتنوعها وكثرتها وما تدل عليه من عظمة الموصوف بها وجلاله وكماله وأنه ليس كمثله شيء في كماله لكثرة أوصافه ونعوته وأسمائه وامتناع أضدادها عليه وثبوتها له على أكمل الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه ما من شهود ذات قد غاب مشاهدها عن كل صفة ونعت واسم فبين هذين المشهدين من التفاوت مالا يحصيه إلا الله وهذا هو مشهد من تأله وفني من الجهمية والمعطلة صرحوا بذلك وقالوا إن كمال هذا المشهد هو قصر النظر القلبي على عين الذات وتنزيهها عن الأعراض والأبعاض والأغراض والحدود والجهات ومرادهم بالأعراض الصفات التي تقوم بالحي كالسمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام فلا سمع له ولا بصر ولا إرادة ولا حياة ولا علم ولا قدرة ومرادهم بالأبعاض أنه لا وجه له ولا يدان ولم يخلق آدم بيده ولا يطوي سماواته بيده ولا يقبض الأرض باليد الأخرى ولا يمسك السموات على إصبع.(3/233)
ولا الأرضين على إصبع ولا الشجر على إصبع ونحو ذلك مما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله الصادق ومرادهم بالأغراض أنه لا يفعل لحكمة ولا لعلة غائية ولا سبب لفعله ولا غاية مقصودة ومرادهم بالحدود والجهات مسألة المباينة والعلو وأنه غير بائن عن خلقه ولا مستو على عرشه ولا ترفع إليه الأيدي ولا تصعد إليه الأعمال ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد بل ليس هناك إلا العدم المحض الذي هو لا شيء فكمال الشهود عندهم أن يشهد العبد ذاتا مجردة عن كل اسم ووصف ونعت وشيخ الإسلام عدو هذه الطائفة وهو بريء منهم براءة الرسل منهم ولكن بقيت عليه مثل هذه البقية وهي جعل مشهد العين والذات فوق مشهد الصفات على أنه لا سبيل للقوى البشرية إلى شهود الذات الإلهية البتة ولا يقع الشهود على تلك الحقيقة ولا جعل ذلك إليها وإنما إليها شهود الصفات والأفعال وأما حقيقة الذات والعين فغير معلومة للبشرية ولما سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة ربه سبحانه من أي شيء هو أنزل الله عز وجل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ولذلك لما سأل فرعون موسى عن حقيقة ربه بقوله {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أجابه موسى بقوله {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} إذ لا وصول للبشر إلى حقيقة ذاته فدلهم على نفسه بصفاته الثبوتية من كونه صمدا وصفاته السلبية المتضمنة للثبوت من كونه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة الذات والكنه فما هذا الشهود العين الذاتي الذي جعلتموه للمشاهد وجعلتموه فوق.(3/234)
المكاشفة وجعلتم ولاية المكاشفة النعت وولاية المشاهدة العين فاعلم أن مراد الشيخ وأمثاله من العارفين أهل الاستقامة أن لا يقصر نظر القلب على صفة من الصفات بحيث يستغرق فيها وحدها بل يكون التفاته وشهوده واقعا على الذات الموصوفة بصفات الكمال المنعوتة بنعوت الجلال فحينئذ يكون شهوده واقعا على الذات والصفات جميعا ولا ريب أن هذا فوق مشهد الصفة الواحدة أو الصفات ولكن يقال الشهود لا يقع علىالصفة المجردة ولا يصح تجردها في الخارج ولا في الذهن بل متى شهد الصفة شهد قيامها بالموصوف ولا بد فما هذا الشهود الذاتي الذي هو فوق الشهود الوصفي والأمر يرجع إلى شيء واحد وهو أن من كان بصفات الله أعرف ولها أثبت ومعارض الإثبات منتف عنده كان أكمل شهودا ولهذا كان أكمل الخلق شهودا من قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ولكمال معرفته بالأسماء والصفات استدل بما عرفه منها على أن الأمر فوق ما أحصاه وعلمه فمشهد الصفات مشهد الرسل والأنبياء وورثتهم وكل من كان بها أعرف كان بالله أعلم وكان مشهده بحسب ما عرف منها وليس للعبد في الحقيقة مشاهدة ولا مكاشفة لا للذات ولا للصفات أعني مشاهدة عيان وكشف عيان وإنما هو مزيد إيمان وإيقان ويجب التنبه والتنبيه ههنا على أمر وهو أن المشاهدة نتائح العقائد فمن كان معتقده ثابتا في أمر من الأمور فإنه إذا صفت نفسه وارتاضت وفارقت الشهوات والرذائل وصارت روحانية تجلت لها صورة معتقدها كما اعتقدته وربما قوى ذلك التجلي حتى يصير كالعيان وليس به فيقع الغلط من وجهين أحدهما ظن أن ذلك ثابت في الخارج وإنما هو في الذهن ولكن لما.(3/235)
صفا الارتياض وانجلت عنه ظلمات الطبع وغاب بمشهوده عن شهوده واستولت عليه أحكام القلب بل أحكام الروح ظن أنه الذي ظهر له في الخارج ولا تأخذه في ذلك لومة لائم ولو جاءته كل آية في السموات والأرض وذلك عنده بمنزلة من عاين الهلال ببصره جهرة فلو قال له أهل السموات والأرض لم تره لم يلتفت إليهم ولعمر الله إنا لا نكذبه فيما أخبر به عن رؤيته ولكن إنما نوقن أنه إنما رأى صورة معتقده في ذاته ونفسه لا الحقيقة في الخارج فهذا أحد الغلطين وسببه قوة ارتباط حاسة البصر بالقلب فالعين مرآة القلب شديدة الاتصال به وتنضم إلى ذلك قوة الاعتقاد وضعف التمييز وغلبة حكم الهوى والحال على العلم وسماعه من القوم أن العلم حجاب والغلط الثاني ظن أن الأمر كما اعتقده وأن ما في الخارج مطابق لاعتقاده فيتولد من هذين الغلطين مثل هذا الكشف والشهود ولقد أخبر صادق الملاحدة القائلين بوحدة الوجود أنهم كشف لهم أن الأمر كما قالوه وشهدوه في الخارج كذلك عيانا وهذا الكشف والشهود ثمرة اعتقادهم ونتيجته فهذه إشارة ما إلى الفرقان في هذا الموضع والله أعلم.
فصل قال وهي على ثلاث درجات الدرجة الأول مشاهدة معرفة تجري فوق.
حدود العلم في لوائح نور الوجود منيخة بفناء الجمع.(3/236)
هذا بناء على أصول القوم وأن المعرفة فوق العلم فإن العلم عندهم هو إدراك المعلوم ولو ببعض صفاته ولوازمه والمعرفة عندهم إحاطة بعين الشيء على ما هو به كما حدها الشيخ ولا ريب أنها بهذا الاعتبار فوق العلم لكن على هذا الحد لا يتصور أن يعرف الله أحد من خلقه البتة وسيأتي الكلام على هذا الحد في موضعه إن شاء الله تعالى وليست المعرفة عند القوم مشروطة بما ذكروا وسنذكر كلامهم إن شاء الله وقد ذكر بعضهم أن أعمال الأبرار بالعلم وأعمال المقربين بالمعرفة وهذا كلام يصح من وجه ويبطل من وجه فالأبرار والمقربون عاملون بالعلم واقفون مع أحكامه وإن كانت معرفة المقربين أكمل من معرفة الأبرار فكلاهما أهل علم ومعرفة فلا يسلب الأبرار المعرفة ولا يستغني المقربون عن العلم وقد قال النبي صلى اله عليه وسلم لمعاذ بن جبل " إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله فإذا هم عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" فجعلهم عارفين بالله قبل إتيانهم بفرض الصلاة والزكاة بل جعلهم في أول أوقات دخولهم في الإسلام عارفين بالله ولا ريب أن هذه المعرفة ليست كمعرفة المهاجرين والأنصار فالناس متفاوتون في درجات المعرفة تفاوتا بعيدا قوله في لوائح نور الوجود يعني أن شواهد المعرفة بوارق تلوح من نور الوجود والوجود عند الشيخ ثلاث مراتب وجود علم ووجود عين ووجود مقام كما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى وهذه اللوائح التي أشار إليها تلوح في المراتب الثلاثة وقد ذكروا عن الجنيد أنه قال علم التوحيد مباين لوجوده ووجوده مباين لعلمه ومعنى ذلك أن العبد قد يصح له العلم بانفراد الحق في ذاته وصفاته وأفعاله علما جازما لا يشك ولا يرتاب فيه ولكن إذا اختلفت عليه الأسباب.(3/237)
وتقاذفت به أمواجها لم يثبت قلبه في أوائل الصدمات ولم يبادر إذ ذاك إلى رؤية الأسباب كلها من الأول الذي دلت على وحدانيته وأوليته البراهين القطعية والمشاهدة الإيمانية فهذا عالم بالتوحيد غير واجد لمقامه ولا متصف بحال أكسبه إياها التوحيد فإذا وجد قلبه وقت اختلاف الأحوال وتباين الأسباب واثقا بربه مقبلا عليه مستغرقا في شهود وحدانيته في ربوبيته وإلهيته فإنه وحده هو المنفرد بتدبير عباده فقد وجد مقام التوحيد وحاله وأهل هذا المقام متفاوتون في شهوده تفاوتا عظيما من مدرك لما هو فيه متنعم متلذذ في وقت دون وقت ومن غالب عليه هذه الحال ومن مستغرق غائب عن حظه ولذته بما هو فيه من وجوده فنور الوجود قد غشي مشاهدته لحاله ولم يصل إلى مقام الجمع بل قد أناخ بفنائه والوجود عنده هو حضرة الجمع ويسمى حضرة الوجود قوله منيخة بفناء الجمع يعني قد شارفت مشاهدته لحاله منزل الجمع وأناخت به وتهيأ لدخوله وهذه استعارة فكأنه مثل المشاهد بالمسافر ومثل مشاهدته بناقته التي يسافر عليها فإنها الحاملة له وشبه حضرة الجمع بالمنزل والدار وقد أناخ المسافر بفنائها وهذا إشارة منه إلى إشرافه عليها وأن نور الوجود لا يلوح إلا منها.
فصل قال الدرجة الثانية مشاهدة معاينة تقطع حبال الشواهد وتلبس.
نعوت القدس وتخرس ألسنة الإشارات إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها لأن تلك الدرجة مشاهدة برق عن العلم النظري بالتوحيد وتمكنت في وجود التوحيد حتى صار صاحبها يرى الأسباب كلها عن واحد متقدم عليها لا أول لوجوده حالا وذوقا وأناخ بفناء الجمع ليتبوأه منزلا لتوحيده ولكنه بعد لم يكمل استغراقه عن شهود رسمها.(3/238)
بالكلية فشواهد الرسوم بعد معه وصاحب هذه الدرجة قد انقطعت عنه حبال الشواهد وتمكن في مقام المشاهدة وتطهر من نعوت النفس ولبس نعوت القدس فتطهر من الالتفات إلى غير مشهوده فخرس لذلك لسانه عن الإشارة إلى ما هو فيه فهذه المشاهدة عنده فوق مشاهدة المعرفة لأن تلك من لوائح نور الوجود وهذه مشاهدة الوجود نفسه لا بوارق نوره فهي أعلى لأنها مشاهدة عيان والعيان والمعاينة أن تقع العين في العين وقد عرفت أن هذا مستحيل في الدنيا ومن جوزه فقد أخطأ أقبح الخطأ وتعدى مقام الرسل وإنما غاية ما يصل إليه العارف مزيد إيمان ويقين بحيث يعبد الله كأنه يراه لقوة يقينه وإيمانه بوجوده وأسمائه وصفاته وأن الأنوار واللوامع والبوارق إنما هي أنوار الإيمان والطاعات من الذكر وقراءة القرآن ونحوها أوهي أنوار استغراقه في مطالعة الأسماء والصفات وإثباتها والإيمان بها بحيث يبقى كالمعاين لها فيشرق على قلبه نور المعرفة فيظنه نور الذات والصفات وتقدم بيان السبب الموقع لهم في ذلك وأنهم لا يمكن رجوعهم في ذلك إلى المحجوبين الذين غلظ في هذا الباب حجابهم وكثفت عن إدراكه أرواحهم وقصرت عنه علومهم ومعارفهم ولم يكادوا يظفرون بذائق صحيح الذوق يفصل لهم أحكام أذواقهم ومشاهدتهم وينزلها منازلها ويبين أسبابها وعللها فوجود هذا أعز شيء والقوم لهم طلب شديد وهمم عالية ومطلبهم وهممهم عندهم فوق مطالب الناس وهممهم فتشهد أرواحهم مقامات المنكر عليهم وسفولها.(3/239)
واستغراقه في حظوظه وأحكام نفسه وطبيعته فلا تسمح نفوسهم بقبول قوله والرجوع إليه فلو وجدوا عارفا ذا قرآن وإيمان ينادي القرآن والإيمان على معرفته وتدل معرفته على مقتضى الإيمان والقرآن محكما للوحي على الذوق مستخرجا أحكام الذوق من الوحي ليس فظا ولا غليظا ولا مدعيا ولا محجوبا بالوسائل عن الغايات إشارته دون مقامه ومقامه فوق إشارته إن أشارة أشار بالله مستشهدا بشواهد الله وإن سكت سكت بالله عاكفا بسره وقلبه على الله فلو وجدوا مثل هذا لكان الصادقون أسرع إليه من النار في يابس الحطب والوقود والله المستعان قوله وقطع حبال الشواهد شبه الشواهد بالحبال التي تجذب العبد إلى مطلوبه وهذا إنما يكون مع الغيبة عنه فإذا صار الأمر إلى العيان انقطعت حينئذ حبال الشواهد بحكم المعاينة قوله وتلبس نعوت القدس القدس هو النزاهة والطهارة ونعوت القدس هي صفاته فيلبسه الحق سبحانه من تلك النعوت ما يليق به واستعار لذلك لفظة اللبس فإن تلك الصفات خلع وخلع الحق سبحانه وتعالى يلبسها من يشاء من عباده وهذا موضع يتوارد عيه الموحدون والملحدون فالموحد يعتقد أن الذي ألبسه الله إياه هو صفات جمل اليه بها ظاهره وباطنه وهي صفات مخلوقه ألبست عبدا مخلوقا فكسى عبده حلة من حلل فضله وعطائه.(3/240)
والملحد يقول كساه نفس صفاته وخلع عليه خلعة من صفات ذاته حتى صار شبيها به بل هو هو ويقولون الوصول هو التشبه بالإله على قدر الطاقة وبعضهم يلطف هذا المعنى ويقول بل يتخلق بأخلاق الرب ورووا في ذلك أثرا باطلا تخلقوا بأخلاق الله وليس ههنا غير التعبد بالصفات الجميلة والأخلاق الفاضلة التي يحبها الله ويخلقها لمن يشاء من عباده فالعبد مخلوق وخلعته مخلوقة وصفاته مخلوقة والله سبحانه وتعالى بائن بذاته وصفاته عن خلقه لا يمازجهم ولا يمازجونه ولا يحل فيهم ولا يحلون فيه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فصل قال الدرجة الثالثة مشاهدة جمع تجذب إلى عين الجمع مالكة لصحة.
الورود راكبة بحر الوجود صاحب هذه الدرجة أثبت عند الشيخ في مقام المشاهدة وأمكن في مقام الجمع الذي هو حضرة الوجود وأملك لحمل ما يرد عليه في مقامه من أنواع الكشوفات والمعارف ولذلك كانت مشاهدته مالكة لصحة الورود أي تشهد لنفسها بصحة ورودها إلى حضرة الجمع وتشهد الأشياء كلها لها بالصدق ويشهد المشهود أيضا لها بذلك فلا يبقى عندها احتمال شك ولا ريب وهذا أيضا مورد للملحد والموحد فالملحد يقول مشاهدة الجمع هي مشاهدة الوجود الواحد الجامع لجميع المعاني والصور والقوى والأفعال والأسماء وحضرة الجمع عنده هي حضرة هذا الوجود ومشاهدة هذا الجمع تجذب إلى عينه قال وصفة هذا الجذب أن يحل الحق تعالى عقد خليقته بيد حقيقته فيرجع النور الفائض على صورة خليقته إلى أصله ويرجع العبد إلى عدميته فيبقى الوجود للحق والفناء للخلق ويقيم الحق تعالى وصفا من أوصافه نائبا.(3/241)
عنه في استجلاء ذاته فيكون الحق هو المشاهد ذاته بذاته في طور من أطوار ظهوره وهي مرتبة عبده فإذا ثبت الحق تعالى عبده بعد نفيه ومحوه وأبقاه بعد فنائه فعاد كما يعود السكران إلى صحوه وجد في ذاته أسرار ربه وطور صفاته وحقائق ذاته ومعالم وجوده ومطارح أشعة نوره ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته وعوده إليه فيرى العبد ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود المنزه الأصل الموهم الفرع فيؤدي استصحاب النظر إلى أصله أن الفرع لم يفارقه هو إلا بشكله والشكل على اختلاف ضروبه فمعنى عدمي لتعين إمكانه في وجوبه فانظر ما في هذا الكلام من الإلحاد والكفر الصراح وجعل عين المخلوق نفس عين الخالق وأن الرب سبحانه أقام نفس أوصافه نائبة عنه في استجلاء ذاته وأنه شاهد ذاته بذاته في مراتب الخلق وأن الإإنسان إذا صحا من سكره وجد في ذاته حقائق ذات الرب ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته فيرى ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود المنزه الأصل يعني عن الانقسام والتكثر الموهم الفرع يعني الذي يوهم فروعه وتكثر مظاهره واختلاف أشكاله أنه متعدد وإنما هو وجود واحد والأشكال على اختلاف ضروبها أمور عدمية لأنها ممكنة وإمكانها يفنى في وجبها فلم يبق إلا وجوب واجب الوجود وهو واحد وإن اختلفت الأشكال التي ظهر فيها والأسماء التي أشارت إليه فالاتحادي يشاهد وجودا واحدا جامعا لجميع الصور والأنواع والأجناس فاض عليها كلها فظهر فيها بحسب قوابلها واستعداداتها وذلك الشهود يجذبه إلى انحلال عزمه عن التقيد بمعبود معين أو عبادة معينة بل يبقى معبوده الوجود المطلق الساري في الموجودات بأي معنى ظهر.(3/242)
وفي أي ماهية تحقق فلا فرق عنده بين السجود للصنم والشمس والقمر والنجوم وغيرها كما قال شاعر
القوم
وإن خر للأحجار في البيد عاكف ... فلا تعد بالإنكار بالعصبية
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار مذ ألف حجة
فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يظهروا عقد نية
وما عقد الزنار حكما سوى يدي ... وإن حل بالإقرار لي فهي بيعتي
وكما قال عارفهم واعلم أن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله فالعارف يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر قال الله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} قال وما قضى الله شيئا إلا وقع وما عبد غير لله في كل معبود فهذا مشهد الملحد والموحد يشاهد بإيمانه ويقينه ذاتا جامعة للأسماء الحسنى والصفات العلى لها كل صفة كمال وكل اسم حسن وذلك يجذبه إلى نفس اجتماع همه على الله وعلى القيام بفرائضه والطريق بمجموعها لا تخرج عن هذين السببين وإن طولوا العبارات ودققوا الإشارات فالأمر كله دائر على جمع الهمة على الله واستفراغ الوسع بغاية النصيحة في التقرب إليه بالنوافل بعد تكميل الفرائض فلا تطول ولا يطول عليك وشيخ الإسلام مراده بالجمع الجاذب إلى عين الجمع أمر آخر بين هذا وبين جمع أهل الوحدة وعين جمعهم لا هو هذا ولا هو هذا فهو دائر على الفناء لا تأخذه فيه لومة لائم وهو الجمع الذي يدندن حوله وعين الجمع عنده.(3/243)
هو تفرد الرب سبحانه بالأزلية وبالدوام وبالخلق والفعل فكان ولا شيء ويكون بعد كل شيء وهو المكون لكل شيء فلا وجود في الحقيقة لغيره ولا فعل لغيره بل وجود غيره كالخيال والظلال وفعل غيره في الحقيقة كحركات الأشجار والنبات وهذا تحقيق الفناء في شهود الربوبية والأزلية والأبدية وطي بساط شهود الأكوان فإذا ظهر هذا الحكم انمحق وجود العبد في وجود الحق وتدبيره في تدبير الحق فصار سبحانه هو المشهود بوجود العبد متلاش مضمحل كالخيال والظلال ولا يستعد لهذا عندهم إلا من اجتمعت إرادته على المراد وحده حالا لا تكلفا وطبعا لا تطبعا فقد تنبعث الهمة إلى أمر وتتعلق به وصاحبها معرض عن غير مطلبه متحل به ولكن إرادة السوى كامنة فيه قد توارى حكمها واستتر ولما يزل فإن القله إذا اشتغل بشيء اشتغالا تاما توارت عنه إرادته لغيره والتفاته إلى ما سواه مع كونه كامنا في نفسه مادته حاضرة عنده فإذا وجد فجوة وأدنى تخل من شاغله ظهر حكم تلك الإرادات التي كان سلطان شهوده يحول بينه وبينها فإذا الجمع وعين الجمع ثلاث مراتب أعلاها جمع لهم على الله إرادة ومحبة وإنابة وجمع القلب والروح والنفس والجوارح على استفراغ الوسع في التقرب إليه بما يحبه ويرضاه دون رسوم الناس وعوائدهم فهذا جمع خواص المقربين وساداتهم والثاني الاستغراق في الفناء في شهود الربوبية وتفرد الرب سبحانه بالأزلية والدوام وأن الوجود الحقيقي له وحده وهذا الجمع دون الجمع الأول بمراتب كثيرة والثالث جمع الملاحدة الاتحادية وعين جمعهم وهو جمع الشهود في وحدة الوجود فعليك بتمييز المراتب لتسلم من المعاطب وسيأتي ذكر مراتب الجمع.(3/244)
والتمييز بين صحيحها وفاسدها في آخر باب التوحيد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى والله المستعان قوله مالكة لصحة الورود أي ضامنة لصحة ورودها شاهدة بذلك مشهودا لها به لأنها فوق مشاهدة المعرفة وفوق مشاهدة المعاينة قوله راكبة بحر الوجود يعني تلك المشاهدة راكبة بحر الوجود فهي في لجة بحره لا في أنواره ولا في بوارقه وقد تقدم الكلام على مراده بالوجود وأنه وجود علم ووجود عين ووجود مقام وسيأتي تمام الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى.(3/245)
فصل قال شيخ الإسلام باب المعاينة
قال الله تعالى {لَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} قلت المعاينة مفاعلة من العيان وأصلها من الرؤية بالعين يقال عاينه إذا وقعت عينه عليه كما يقال شافهه إذا كلمه شفاها وواجهه إذا قابله بوجهه وهذا مستحيل في هذه الدار أن يظفر به بشر وأما قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلّ} فالرؤية واقعة على نفس مد الظل لا على الذي مده سبحانه كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} وقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} فههنا أوقع الرؤية على نفس الفعل وفي قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أوقعها في اللفظ عليه سبحانه والمراد فعله من مد الظل هذا كلام عربي بين معناه غير محتمل ولا مجمل كما قيل في العزى كفرانك اليوم لا سبحانك % إني رأيت الله قد أهانك وهو كثير في كلامهم يقولون رأيت الله قد فعل كذا وكذا والمراد.(3/245)
رأيت فعله فالعيان والرؤية واقع على المفعول لا على ذات الفاعل وصفته ولا فعله القائم به
فصل قال صاحب المنازل المعاينة ثلاث إحداها معاينة الأبصار الثانية.
معاينة عين القلب وهي معرفة عين الشيء على نعته علما يقطع الريبة ولا تشوبه حيرة الثالثة معاينة عين الروح وهي التي تعاين الحق عيانا محضأ والأرواح إنما طهرت وأكرمت بالبقاء لتعاين سنا الحضرة وتشاهد بها العزة وتجذب القلوب إلى فناء الحضرة جعل الشيخ المعاينة للعين والقلب والروح وجعل لكل معاينة منها حكما فمعاينة العين هي رؤية الشيء عيانا إما بانطباع صورة المرئي في القوة الباصرة عند أصحاب الانطباع وإما باتصال الشعاع المنبسط من العين المتصل بالمرئي عند أصحاب الشعاع وإما بالنسبة والإضافة الخاصة بين العين وبين المرئي عند كثير من المتكلمين والأقوال الثلاثة لا تخلو عن خطأ وصواب والحق شيء غيرها وأن الله سبحانه جعل في العين قوة باصرة كما جعل في الأذن قوة سامعة وفي الأنف قوة شامة وفي اللسان قوة ناطقة وقوة ذائقة فهذه قوى أودعها الله سبحانه في هذه الأعضاء وجعل بينها وبينها رابطة وجعل لها أسباب من خارج وموانع تمنع حكمها وكل ما ذكروه من انطباع ومقابلة وشعاع ونسبة وإضافة فهو سبب وشرط والمقتضى هو القوة القائمة بالمحل وليس الغرض ذكر هذه المسألة فالمقصود أمر آخر وأما معاينة القلب فهي انكشاف صورة المعلوم له بحيث تكون نسبته إلى القلب كنسبة المرئي إلى العين وقد جعل الله سبحانه القلب يبصر ويعمى كما تبصر العين وكما تعمى قال تعالى {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ(3/246)
فصل قال صاحب المنازل باب الحياة
قال الله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} استشهاده بهذه الآية في هذا الباب ظاهر جدا فإن المراد بها من كان ميت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان فأحياه الرب تعالى بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه وهي روح معرفته وتوحيده ومحبته وعبادته وحده لا شريك له إذ لا حياة للروح إلا بذلك وإلا فهي في جملة الأموات ولهذا وصف الله تعالى من عدم ذلك بالموت فقال {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} وقال تعالى {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وسمى وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح فقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فأخبر أنه روح تحصل به الحياة وأنه نور تحصل به الإضاءة وقال تعالى {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وقال تعالى {رَفِيعُ الدَّرَجَات.(3/258)
ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} فالوحي حياة الروح كما أن الروح حياة البدن ولهذا من فقد هذه الروح فقد فقد الحياة النافعة في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فحياته حياة البهائم وله المعيشة الضنك وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته فقال تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضى والرزق الحسن وغير ذلك والصواب أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة كما كان بعض العارفين يقول إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وقال غيره إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح فإنه ملكها ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره وهي عكس الحياة الطيبة وهذه الحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار والمعيشة الضنك أيضا تكون في الدور الثلاث فالأبرار في النعيم هنا وهنالك والفجار في الجحيم هنا وهنالك قال الله تعالى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} وقال تعالى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فذكر الله سبحانه وتعالى ومحبته وطاعته والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة والإعراض عنه والغفلة ومعصيته كفيل بالحياة المنغصة والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة.(3/259)
فصل قال صاحب المنازل الحياة في هذا الباب يشار بها إلى ثلاثة.
اشياء الحياة الأولى حياة العلم من موت الجهل ولها ثلاثة أنفاس نفس الخوف ونفس الرجاء ونفس المحبة قوله الحياة في هذا الباب يريد الحياة الخاصة التي يتكلم عليها القوم دون الحياة العامة المشتركة بين الحيوان كله بل بين الحيوان والنبات وللحياة مراتب ونحن نشير إليها المرتبة الأولى حياة الأرض بالنبات قال تعالى {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} وقال في الماء {أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} وقال {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتا} وجعل هذه الحياة دليلا على الحياة يوم المعاد وهذه حياة حقيقة في هذه المرتبة مستعملة في في كل لغة جارية على ألسن الخاصة والعامة قال الشاعر يمدح عبد المطلب
بشيبة الحمد أحيا الله بلدتنا ... لما فقدنا الحيا وأجلوز المطر
وهذا أكثر من أن نذكر شواهده المرتبة الثانية حياة النمو والاغتذاء وهذه الحياة مشتركة بين النبات والحيوان الذي يعيش بالغذاء قال الله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وقد اختلف الفقهاء في الشعور هل تحلها الحياة على قولين والصواب أنها تحلها حياة النمو والغذاء دون الحسن والحركة ولهذا لا تنجس بالموت إذ لو أوجب لها فراق النمو والاغتذاء النجاسة لنجس الزرع والشجر لمفارقته هذه الحياة له ولهذا كان الجمهور على أن الشعور لا تنجس بالموت.(3/260)
المرتبة الثالثة حياة الحيوان المغتذي بقدر زائد على نموه واغتذائه وهي إحساسه وحركته ولهذا يألم بورود الكيفيات المؤلمة عليه وبتفرق الاتصال ونحو ذلك وهذه الحياة فوق حياة النبات وهذه الحياة تقوى وتضعف في الحيوان الواحد بحسب أحواله فحياته بعد الولادة أكمل منها وهو جنين في بطن أمه وحياته وهو صحيح معافى أكمل منها وهو سقيم عليل فنفس هذه الحياة تتفاوت تفاوتا عظيما في محالها فحياة الحية أكمل من حياة البعوضة ومن قال غير هذا فقد كابر الحس والعقل المرتبة الرابعة حياة الحيوان الذي لا يغتذي بالطعام والشراب كحياة الملائكة وحياة الأرواح بعد مفارقتها لأبدانها فإن حياتها أكمل من حياة الحيوان المغتذي ولهذا لا يلحقها كلال ولا فتور ولا نوم ولا إعياء قال تعالى {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} وكذلك الأرواح إذا تخلصت من هذه الأبدان وتجردت صار لها حياة أخرى أكمل من هذه إن كانت سعيدة وإن كانت شقية كانت عمله ناصبة في العذاب المرتبة الخامسة الحياة التي أشار إليها المصنف وهي حياة العلم من موت الجهل فإن الجهل موت لأصحابه كما قيل
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... فليس لهم حتى النشور نشور
فإن الجاهل ميت القلب والروح وإن كان حي البدن فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض قال الله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وقال تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال تعالى {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}(3/261)
وشبههم في موت قلوبهم بأهل القبور فإنهم قد ماتت أرواحهم وصارت أجسامهم قبورا لها فكما أنه لا يسمع أصحاب القبور كذلك لا يسمع هؤلاء وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان ولم تتحرك له كانت ميتة حقيقة وليس هذا تشبيها لموتها بموت البدن بل ذلك موت القلب والروح وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد من كلام لقمان أنه قال لابنه يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل القطر وقال معاذ بن جبل تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدي بأفعالهم وينتهى إلى رأيهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة التفكر فيه يعدل الصيام.(3/262)
ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل والعمل تابع له يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء رواه الطبراني وابن عبد البر وغيرهما وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى اله عليه وسلم والوقف أصح والمقصود قوله لأن العلم حياة القلوب من الجهل فالقلب ميت وحياته بالعلم والإيمان.
فصل المرتبة السادسة حياة الإرادة والهمة وضعف الإرادة والطلب من.
ضعف حياة القلب وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى وإرادته ومحبته أقوى فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وإرادته فضعف الطلب وفتور الهمة إما من نقصان الشعور والإحساس وإما من وجود الآفة المضعفة للحياة فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة وضعفهما دليل على ضعفها وكما أن علو الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة والإرادة الخالصة فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة وأخس الناس حياة أخسهم همة وأضعفهم محبة وطلبا وحياة البهائم خير من حياته كما قيل
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وتكدح فيما سوف تنكر غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى ... كما غر باللذات في النوم حالم
والمقصود أن حياة القلب بالعلم والإرادة والهمة والناس إذا شاهدوا ذلك من الرجل قالوا هو حي القلب وحياة القلب بدوام الذكر وترك الذنوب كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله.(3/263)
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس ولم يربحوا ... ولم يغل في البيع أثمانها
فقد رتع القوم في جيفة ... يبين لذي اللب خسرانها
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول من واظب على يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر أربعين مرة أحيى الله بها قلبه وكما أن الله سبحانه جعل حياة البدن بالطعام والشراب فحياة القلب بدوام الذكر والإنابة إلى الله وترك الذنوب والغفلة الجاثمة على القلب والتعلق بالرذائل والشهوات المنقطعة عن قريب يضعف هذه الحياة ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت وعلامة موته أنه لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا كما قال عبد الله بن مسعود أتدرون من ميت القلب الذي قيل فيه
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
قالوا ومن هو قال الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا والرجل هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه إذ أكثر هؤلاء الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية وذلك من موت القلب والروح فإن هذه الحياة الطبيعية شبيهة بالظل الزائل والنبات السريع الجفاف والمنام الذي يخيل كأنه حقيقة فإذا استيقظ عرف أنه كان خيالا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أن الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل واحد ثم جاءه الموت لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء وقد قيل إن الموت موتان موت إرادي وموت طبيعي فمن أمات نفسه موتا إراديا.(3/264)
كان موته الطبيعي حياة له ومعنى هذا أن الموت الإرادي هو قمع الشهوات المردية وإخماد نيرانها المحرقة وتسكين هوائجها المتلفة فحينئذ يتفرغ القلب والروح للتفكر فيما فيه كمال العبد ومعرفته والاشتغال به ويرى حينئذ أن إيثار الظل الزائل عن قريب على العيش اللذيذ الدائم أخسر الخسران فأما إذا كانت الشهوات وافدة واللذات مؤثرة والعوائد غالبة والطبيعة حاكمة فالقلب حينئذ إما أن يكون أسيرا ذليلا أو مهزوما مخرجا عن وطنه ومستقره الذي لا قرار له إلا فيه أو قتيلا ميتا وما لجرح به إيلام وأحسن أحواله أن يكون في حرب يدال له فيها مرة ويدال عليه مرة فإذا مات العبد موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة والأعمال الصالحة والأحوال الفاضلة التي حصلت له بإماتة نفسه فتكون حياته ههنا على حسب موته الإرادي في هذه الدار وهذا موضع لا يفهمه إلا ألباء الناس وعقلاؤهم ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العلية والنفوس الزكية الأبية.
فصل المرتبة السابعة من مراتب الحياة حياة الأخلاق والصفات.
المحمودة التي هي حياة راسخة للموصوف بها فهو لا يتكلف الترقي في درجات الكمال ولا يشق عليه لاقتضاء أخلاقه وصفاته لذلك بحيث لو فارقه ذلك لفارق ما هو من طبيعته وسجيته فحياة من قد طبع على الحياء والعفة والجود والسخاء والمروءة والصدق والوفاء ونحوها أتم من حياة من يقهر نفسه ويغالب طبعه حتى يكون كذلك فإن هذا بمنزلة من تعارضه أسباب الداء وهو يعالجها ويقهرها بأضدادها وذلك بمنزلة من قد عوفي من ذلك.(3/265)
وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم ولهذا كان خلق الحياء مشتقا من الحياة اسما وحقيقة فأكمل الناس حياة أكملهم حياء ونقصان حياء المرء من نقصان حياته فإن الروح إذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح فلا تستحي منها فإذا كانت صحيحة الحياة أحست بذلك فاستحيت منه وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة والصفات الممدوحة تابعة لقوة الحياة وضدها من نقصان الحياة ولهذا كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان وحياة السخي أكمل من حياة البخيل وحياة الفطن الذكي أكمل من حياة الفدم البليد ولهذا لما كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أكمل الناس حياة حتى إن قوة حياتهم تمنع الأرض أن تبلى أجسامهم كانوا أكمل الناس في هذه الأخلاق ثم الأمثل فالأمثل من أتباعهم فانظر الآن إلى حياة حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم وحياة جواد شجاع بر عادل عفيف محسن تجد الأول ميتا بالنسبة إلى الثاني ولله در القائل
وما للمرء خير في حياة ... إذ ما عد من سقط المتاع
فصل المرتبة الثامنة من مراتب الحياة حياة الفرح والسرور وقرة.
العين بالله وهذه الحياة إنما تكون بعد الظفر بالمطلوب الذي تقر به عين طالبه فلا حياة نافعة له بدونه وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم وكلهم قد أخطأ طريقها وسلك طرقا لا تفضي إليها بل تقطعه عنها إلا أقل القليل فدار طلب الكل حول هذه الحياة وحرمها أكثرهم وسبب حرمانهم إياها ضعف العقل والتمييز والبصيرة وضعف الهمة والإرادة فإن مادتها بصيرة وقادة وهمة نقادة والبصيرة كالبصر تكون عمى وعورا وعمشا.(3/266)
ورمدا وتامة النور والضياء وهذه الآفات قد تكون لها بالخلقة في الأصل وقد تحدث فيها بالعوارض الكسبية والمقصود أن هذه المرتبة من مراتب الحياة هي أعلى مراتبها ولكن كيف يصل إليها من عقله مسبي في بلاد الشهوات وأمله موقوف على اجتناء اللذات وسيرته جارية على أسوأ العادات ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات وهمته واقفة مع السفليات وعقيدته غير متلقاة من مشكاة النبوات فهو في الشهوات منغمس وفي الشبهات منتكس وعن الناصح معرض وعلى المرشد معترض وعن السراء نائم وقلبه في كل واد هائم فلو أنه تجرد من نفسه ورغب عن مشاركة أبناء جنسه وخرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم ومن سجن الهوى إلى ساحة الهدى ومن نجاسة النفس إلى طهارة القدس لرأى الإلف الذي نشأ بنشأته وزاد بزيادته وقوى بقوته وشرف عند نفسه وأبناء جنسه بحصوله وسد قذى في عين بصيرته وشجا في حلق إيمانه ومرضا متراميا إلى هلاكه فإن قلت قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء فهل يمكنك وصف طريقها لأصل إلى شيء من أذواقها فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياة حياة بهيمية ربما زادت علينا فيها البهائم بخلوها عن المنكرات والمنغصات وسلامة العاقبة قلت لعمر الله إن اشتياقك إلى هذه الحياة وطلب علمها ومعرفتها لدليل على حياتك وأنك لست من جملة الأموات فأول طريقها أن تعرف الله وتهتدي إليه طريقا يوصلك إليه ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة فينجذب.(3/267)
إليها بكليته ويزهد في التعلقات الفانية ويدأب في تصحيح التوبة والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة وترك المنهيات الظاهرة والباطنة ثم يقوم حارسا على قلبه فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله ولا بخطرة فضول لا تنفعه فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسها فيفدى من أسرها ويصير طليقا فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه إلى فضاء الخلوة بربه وذكره كما قيل وأخرج من بين البيوت لعلني % أحدث عنك النفس في السر خاليا فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول واستولت روحانيته على قلبه فجعله إمامه ومعلمه وأستاذه وشيخه وقدوته كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديا إليه فيطالع سيرته ومبادئ أمره وكيفية نزول الوحي عليه ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه في حركاته وسكونه ويقظته ومنامه وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح عليه بفهم الوحي المنزل عليه من ربه بحيث لو قرأ السورة شاهد قلبه ما أنزلت فيه وما أريد بها وحظه المختص به منها من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المخوف وشاهد حظه من الصفات والأفعال الممدوحة فيجتهد في تكميلها وإتمامها فإذا تمكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرى يشاهد بها صفات الرب جل جلاله حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه فيشهد علو الرب سبحانه فوق خلقه واستواءه على عرشه ونزول الأمر من عنده بتدبير مملكته وتكليمه.(3/268)
بالوحي وتكليمه لعبده جبريل به وإرساله إلى من يشاء بما يشاء وصعود الأمور إليه وعرضها عليه فيشاهد قلبه ربا قاهرا فوق عباده آمرا ناهيا باعثا لرسله منزلا لكتبه معبودا مطاعا لا شريك له ولا مثيل ولا عدل له ليس لأحد معه من الأمر شيء بل الأمر كله له فيشهد ربه سبحانه قائما بالملك والتدبير فلا حركة ولا سكون ولا نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره فيشهد قيام الكون كله به وقيامه سبحانه بنفسه فهو القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه فإذا رسخ قلبه في ذلك شهد الصفة المصححة لجميع صفات الكمال وهي الحياة التي كمالها يستلزم كمال السمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام وسائر صفات الكمال وصفة القيومية الصحيحة المصححة لجميع الأفعال فالحي القيوم من له كل صفة كمال وهو الفعال لما يريد فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح له مشهد القرب والمعية فيشهده سبحانه معه غير غائب عنه قريبا غير بعيد مع كونه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه قائما بالصنع والتدبير والخلق والأمر فيحصل له مع التعظيم والإجلال الأنس بهذه الصفة فيأنس به بعد أن كان مستوحشا ويقوى به بعد أن كان ضعيفا ويفرح به بعد أن كان حزينا ويجد بعد أن كان فاقدا فحينئذ يجد طعم قوله ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد فإنه محب محبوب متقرب إلى ربه وربه قريب منه قد صار له حبيبه لفرط استيلائه على قلبه ولهجه بذكره وعكوف همته على مرضاته بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله وهذه.(3/269)
آلات إدراكه وعمله وسعيه فإن سمع سمع بحبيبه وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به وإن مشى مشى به فإن صعب عليك فهم هذا المعنى وكون المحب الكامل المحبة يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بمحبوبه وذاته غائبة عنه فأضرب عنه صفحا وخل هذا الشأن لأهله
خل الهوى لأناس يعرفون به ... قد كابدوا الحب حتى لان أصبعه
فإن السالك إلى ربه لا تزال همته عاكفة على أمرين استفراغ القلب في صدق الحب وبذل الجهد في امتثال الأمر فلا يزال كذلك حتى يبدو على سره شواهد معرفته وآثار صفاته وأسمائه ولكن يتوارى عنه ذلك أحيانا ويبدو أحيانا يبدو من عين الجود ويتوارى بحكم الفترة والفترات أمر لازم للعبد فكل عامل له شرة ولكل شرة فترة فأعلاها فترة الوحي وهي للأنبياء وفترة الحال الخاص للعارفين وفترة الهمة للمريدين وفترة العمل للعابدين وفي هذه الفترات أنواع من الحكمة والرحمة والتعرفات الإلهية وتعريف قدر النعمة وتجديد الشوق إليها ومحض التواجد إليها وغير ذلك ولا تزال تلك الشواهد تتكرر وتتزايد حتى تستقر وينصبغ بها قلبه وتصير الفترة غير قاطعة له بل تكون نعمة عليه وراحة له وترويحا وتنفيسا عنه فهمة المحب إذا تعلقت روحه بحبيبه عاكفا على مزيد محبته وأسباب قوتها فهو يعمل على هذا ثم يترقى منه إلى طلب محبة حبيبه له فيعمل على حصول ذلك ولا يعدم الطلب الأول ولا يفارقه ألبتة بل يندرج في هذا الطلب الثاني فتتعلق همته بالأمرين جميعا فإنه إنما يحصل له منزلة كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به بهذا الأمر الثاني وهو كونه محبوبا لحبيبه كما قال في الحديث" فإذا أحببته كنت سمعه وبصره "الخ فهو يتقرب إلى ربه حفظا لمحبته له واستدعاء لمحبة ربه له.(3/270)
فحينئذ يشد مئزر الجد في طلب محبة حبيبه له بأنواع التقرب إليه فقلبه للمحبة والانابة والتوكل والخوف والرجاء ولسانه للذكر وتلاوة كلام حبيبه وجوارحه للطاعات فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه وهذا هو السير المفضي إلى هذه الغاية التي لا تنال إلا به ولا يتوصل إليها إلا من هذا الباب وهذه الطريق وحينئذ تجمع له في سيره جميع متفرقات السلوك من الحضور والهيبة والمراقبة ونفي الخواطر وتخلية الباطن فإن المحب يشرع أولا في التقربات بالأعمال الظاهرة وهي ظاهر التقرب ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وقلبه وعقله وبدنه ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان فيعبد الله كأنه يراه فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب من المحبة والإنابة والتعظيم والإجلال والخشية فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح والجود في محبة حبيبه بلا تكلف فيجود بروحه ونفسه وأنفاسه وإرادته وأعماله لحبيبه حالا لا تكلفا فإذا وجد المحب ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط فليدم على ذلك وليتكلف التقرب بالإذكار والأعمال على الدوام فعساه أن يحظى بحال القرب ووراء هذا القرب الباطن أمر آخر أيضا وهو شيء لا يعبر عنه بأحسن من عبارة أقرب الخلق إلى الله عن هذا المعنى حيث يقول حاكيا عن ربه تبارك وتعالى من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا" ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" فيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقا حقيقيا فذكر من مراتب القرب ثلاثة ونبه بها على ما دونها وما فوقها فذكر تقرب العبد إليه بالبر وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعا فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعا فإذا.(3/271)
ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة وههنا منتهى الحديث منبها على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر أو إحالة له على المراتب المتقدمة فكأنه قيل له وقس على هذا فعلى قدر ما تبذل منك متقربا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه أي من تقرب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه وإرادته وأقواله وأعماله تقرب الرب منه سبحانه بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة بل هو قرب حقيقي والرب تعالى فوق سماواته على عرشه والعبد في الأرض وهذا الموضع هو سر السلوك وحقيقة العبودية وهو معنى الوصول الذي يدندن حوله القوم وملاك هذا الأمر هو قصد التقرب أولا ثم التقرب ثانيا ثم حال القرب ثالثا وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب وحقيقة هذا الانبعاث أن تفنى بمراده عن هواك وبما منه عن حظك بل يصير ذلك هو مجموع حظك ومرادك وقد عرفت أن من تقرب إلى حبيبه بشيء من الأشياء جوزي على ذلك بقرب هو أضعافه وعرفت أن أعلى أنواع التقرب تقرب العبد بجملته بظاهره وباطنه وبوجوده إلى حبيبه فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله ولم تبق منه بقية لغير حبيبه كما قيل
لا كان من لسواك فيه بقية ... يجد السبيل بها إليه العذل
وإذا كان المتقرب إليه بالأعمال يعطي أضعاف أضعاف ما تقرب به فما.(3/272)
الظن بمن أعطي حال التقرب وذوقه ووجده فما الظن بمن تقرب إليه بروحه وجميع إرادته وهمته وأقواله وأعماله وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه فإنه أهل أن يجاد عليه بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه عوضا عن كل شيء جزاءا وفاقا فإن الجزاء من جنس العمل وشواهد هذا كثيرة منها قوله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ففرق بين الجزائين كما ترى وجعل جزاء المتوكل عليه كونه سبحانه حسبه وكافيه ومنها أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته ومنها أن من بذل لله شيئا أعاضه الله خيرا منه ومنها قوله تعالى { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} ومنها قوله في الحديث القدسي " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منه" ومنها قوله" من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا " الحديث فالعبد لا يزال رابحا على ربه أفضل مما قدم له وهذا المتقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة بل حياة من ليس كذلك بالنسبة إلى حياته كحياة الجنين في بطن أمه بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها بل أعظم من ذلك فهذا نموذج من بيان شرف هذه الحياة وفضلها وإن كان علم هذا يوجب لصاحبه حياة طيبة فكيف إن انصبغ القلب به وصار حالا ملازما لذاته فالله المستعان.(3/273)
فهذه الحياة هي حياة الدنيا ونعيمها في الحقيقة فمن فقدها فقده لحياته الطبيعية أولى به
هذي حياة الفتى فإن فقدت ... ففقده للحياة أليق به
فلا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به واستأنسوا بقربه وتنعموا بحبه ففي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه والإنابة إليه ولا يلم شعثه بغير ذلك ألبتة ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم وآلام وحسرات فإنه إن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات فإن همته لا ترضى فيها بالدون وإن كان مهينا خسيسا فعيشه كعيش أخس الحيوانات فلا تقر العيون إلا بمحبة الحبيب الأول
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
فصل المرتبة التاسعة من مراتب الحياة حياة الأرواح بعد مفارقتها.
الأبدان وخلاصها من هذا السجن وضيقه فإن من روائه فضاء وروحا وريحانا وراحة نسبة هذه الدار إليه كنسبة بطن الأم إلى هذه الدار أو أدنى من ذلك قال بعض العارفين لتكن مبادرتك إلى الخروج من الدنيا كمبادرتك إلى الخروج من السجن الضيق إلى أحبتك والاجتماع بهم في البساتين المونقة قال الله تعالى في هذه الحياة {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى ومفارقة الرفيق المؤذي المنكد الذي تنغص رؤيته ومشاهدته الحياة فضلا عن مخالطته وعشرته إلى الرفيق الأعلى الذين أنعم الله عليهم من النبي صلى اله عليه وسلمين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا في جوار الرب الرحمن الرحيم.(3/274)
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف
ولو لم يكن في الموت من الخير إلا أنه باب الدخول إلى هذه الحياة وجسر يعبر منه إليها لكفي به تحفة المؤمن
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه ... أبر بنا من كل بر وألطف
يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدني إلى الدار التي هي أشرف
فالاجتهاد في هذا العمر القصير والمدة القليلة والسعي والكدح وتحمل الأثقال والتعب والمشقة إنما هو لهذه الحياة والعلوم والأعمال وسيلة إليها وهي يقضه وما قبلها من الحياة نوم وهي عين وما قبلها أثر وهي حياة جامعة بين فقد المكروه وحصول المحبوب في مقام الأنس وحضرة القدس حيث لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب حيث الطمأنينة والراحة والبهجة والسرور حيث لا عبارة للعبد عن حقيقة كنهها لأنها في بلد لا عهد لنا به ولا إلف بيننا وبين ساكنه فالنفس لإلفها لهذا السجن الضيق النكد زمانا طويلا تكره الانتقال منه إلى ذلك البلد وتستوحش إذا استشعرت مفارقته وحصول العلم بهذه الحياة إنما وصل إلينا بخبر إلهي على يد أكمل الخلق وأعلمهم وأنصحهم فقامت شواهدها في قلوب أهل الإيمان حتى صارت لهم بمنزلة العيان ففرت نفوسهم من هذا الظل الزائل والخيال المضمحل والعيش الفاني المشوب بالتنغيص وأنواع الغصص رغبة في هذه الحياة وشوقا إلى ذلك الملكوت ووجدا بهذا السرور وطربا على هذا الحد واشتياقا لهذا النسيم الوارد من محل النعيم المقيم ولعمر الله إن من سافر إلى بلد العدل والخصب والأمن والسرور صبر في طريقه على كل مشقة وإعواز وجدب وفارق المتخلفين أحوج ما كان إليهم وأجاب المنادي إذا نادى به حي على الفلاح وبذل نفس في الوصول بذل.(3/275)
المحب بالرضى والسماح وواصل السير بالغدو والرواح فحمد عند الوصول مسراه وإنما يحمد المسافر السري عند الصباح عند الصباح يحمد القوم السري % وفي الممات يحمد القوم اللقا وما هذا والله بالصعب ولا بالشديد مع هذا العمر القصير الذي هو بالنسبة إلى تلك الدار كساعة من نهار { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فلو أن أحدنا يجر على وجهه يتقي به الشوك والحجارة إلى هذه الحياة لم يكن ذلك كثيرا ولا غبنا في جنب ما يوقاه فواحسرتاه على بصيرة شاهدت هاتين الحياتين على ما هما عليه وعلى همة تؤثر الأدنى على الأعلى وما ذاك إلا بتوفيق من أزمة الأمور بيديه ومنه ابتداء كل شيء وانتهاؤه إليه أقعد نفوس من غلبت عليهم الشقاوة عن السفر إلى هذه الدار وجذب قلوب من سبقت لهم منه الحسنى وأقامهم في الطريق وسهل عليهم ركوب الأخطار فأضاع أولئك مراحل أعمارهم مع المتخلفين وقطع هؤلاء مراحل أعمارهم مع السائرين وعقدت الغبرة وثار العجاج فتوارى عنه السائرون والمتخلفون وسينجلي عن قريب فيفوز العاملون ويخسر المبطلون ومن طيب هذه الحياة ولذتها قال النبي صلى اله عليه وسلم ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا وأن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع إلى الدنيا لما يرى من كرامة الله له يعني ليقتل فيه مرة أخرى وسمع بعض العارفين منشدا ينشد.(3/276)
إنما العيش في بهيمية الل ... ذة لا ما يقوله الفلسفي حكم
كأس المنون أن يتساوى ... في حساها البليد والألمعي
ويصير الغبي تحت ثرى الأر ... ض كما صار تحتها اللوذعي
فسل الأرض عنهما إن أزال الش ... ك والشبهة السؤال الجلي
فقال قاتله الله ما أشد معاندته للدين والعقل هذا نفس عدو الفطرة والشريعة والعقل والإيمان والحكمة يا مسكين أمن أجل أن الموت تساوى فيه الصالح والطالح والعالم والجاهل وصاروا جميعا تحت أطباق الثرى أيجب أن يتساووا في العاقبة أما تساوى قوم سافروا من بلد إلى بلد في الطريق فلما بلغوا القصد نزل كل واحد في مكان كان معد له وتلقى بغير ما تلقى به رفيقه في الطريق أما لكل قوم دار فأجلس كل واحد منهم حيث يليق به وقوبل هذا بشيء وهذا بضده أما قدم على الملك من جاءه بما يحبه فأكرمه عليه ومن جاءه بما يسخطه فعاقبه عليه أما قدم ركب المدينة فنزل بعضهم في قصورها وبساتينها وأماكنها الفاضلة ونزل قوم على قوارع الطريق بين الكلاب أما قدم اثنان من بطن الأم الواحدة فصار هذا إلى الملك وهذا إلى الأسر والعناء وقولك سل الأرض عنهما أما إنا قد سألناها فأخبرتنا أنها قد ضمت أجسادهم وجثثهم وأوصالهم لا كفرهم وإيمانهم ولا أنسابهم وأحسابهم ولا حلمهم وسفههم ولا طاعتهم وجثثهم ومعصيتهم ولا يقينهم وشكهم ولا توحيدهم.(3/277)
وشركهم ولا جورهم وعدلهم ولا علمهم وجهلهم فأخبرتنا عن هذه الجثث البالية والأبدان المتلاشية والأوصال المتمزقة وقالت هذا خبر ما عندي وأما خبر تلك الأرواح وما صارت إليه فسلوا عنها كتب رب العالمين ورسله الصادقين وخلفاءهم الوارثين سلوا القرآن فعنده الخبر اليقين وسلوا من جاء به فهو بذلك أعرف العارفين وسلوا العلم والإيمان فهما الشاهدان المقبولان وسلوا العقول والفطر فعندها حقيقة الخبر {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} تعالى الله أحكم الحاكمين عن هذا الظن والحسبان الذي لا يليق إلا بأجهل الجاهلين ثم قال الناظر في هذا الباب رجلان رجل ينظر إلى الأشياء ورجل ينظر في الأشياء فالأول يحار فيها فإن صورها وأشكالها وتخاطيطها تستفرغ ذهنه وحسه وتبدد فكره وقلبه فنظره إليها بعين حسه لا يفيده منها ثمرة الاعتبار ولا زبدة الاختبار لأنه لما فقد الاعتبار أولا فإنه فقد الاختيار ثانيا وأما الناظر في الأشياء فإن نظره يبعثه على العبور من صورها إلى حقائقها والمراد بها وما اقتضى وجودها من الحكمة البالغة والعلم التام فيفيده هذا النظر تمييز مراتبها ومعرفة نافعها من ضارها وصحيحها من سقيمها وباقيها من فانيها وقشرها من لبها ويميز بين الوسيلة والغاية وبين وسيلة الشيء ووسيلة ضده فيعرف حينئذ أن الدينا قشر والآخرة لبه وأن الدنيا محل الزرع والآخرة وقت الحصاد وأن الدنيا معبر وممر والآخرة دار مستقر وإذا عرف أن الدنيا طريق وممر كان حريا بتهيئه الزاد لقراره ويعلم.(3/278)
حينئذ أنه لم ينشأ في هذه الدار للاستيطان والخلود ولكن للجواز إلى مكان آخر هو المنزل والمتبوأ وأن الإنسان دعي إلى ذلك بكل شريعة وعلى لسان كل نبي وبكل إشارة ودليل ونصب له على ذلك علم وضرب لأجله كل مثل ونبه عليه بنشأته الأولى ومبادئه وسائر أحواله وأحوال طعامه وشرابه وأرضه وسمائه بحيث أزيلت عنه الشبهة وأوضحت له المحجة وأقيمت عليه الحجة وأعذر إليه غاية الإعذار وأمهل أتم الإمهال فاستبان لذي العقل الصحيح والفطرة السليمة أن الظعن عن هذا المكان ضروري والانتقال عنه حق لا مرية فيه وأن له محلا آخر له قد أنشئ ولأجله قد خلق وله هيئ فمصيره إليه وقدومه بلا ريب عليه وأن داره هذه منزل عبور لا منزل قرار وبالجملة من نظر في الموجودات ولم يقنع بمجرد النظر إليها وحدها وجدها دالة على أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أكمل منها وأن هذه الحياة بالنسبة إليها كالمنام بالنسبة إلى اليقظة وكالظل بالنسبة إلى الشخص وسمعها كلها تنادي بما نادى به ربها وخالقها وفاطرها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وتنادى بلسان الحال بما نادى به ربها بصريح المقال {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} وقال تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ.(3/279)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ثم ندبهم إلى المسابقة إلى الدار الآخرة الباقية التي لا زوال لها فقال {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وسمع بعض العارفين منشدا ينشد عن بعض الزنادقة عند موته وهو محمد ابن زكريا الرازي المتطبب
لعمري ما أدري وقد اذن البلى ... بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجه ... عن الهيكل المنحل والجسد البالي
فقال وما علينا من جهله إذا لم يدر أين ترحاله ولكننا ندري إلى أين ترحالنا وترحاله أما ترحاله فإلى دار الأشقياء ومحل المنكرين لقدرة الله وحكمته والمكذبين بما اتفقت عليه كلمة المرسلين عن ربهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ لْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} وأما ترحالنا أيها المسلمون المصدقون بلقاء ربهم وكتبه ورسله فإلى نعيم دائم وخلود متصل ومقام كريم وجنة عرضها السموات والأرض في جوار رب العالمين وأرحم الراحمين وأقدر القادرين وأحكم الحاكمين الذي له الخلق والأمر وبيده النفع والضر الأول بالحق الموجود بالضرورة المعروف بالفطرة الذي أقرت به العقول ودلت عليه كل الموجودات وشهدت بوحدانيته وربوبيته جميع المخلوقات وأقرت بها الفطر المشهود وجوده وقيوميته بكل حركة وسكون بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون الذي خلق السماوات والأرض.(3/280)
وأنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة من أنواع النباتات وبث به في الأرض جميع الحيوانات {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه ويكشف السوء ويفرج الكربات ويقيل العثرات الذي يهدي خلقه في ظلمات البر والبحر ويرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته فيحبي الأرض بوابل القطر الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ويرزق من في السماوات والأرض من خلقه وعبيده الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويدبر الأمر الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا المستعان به على كل نائبة وفادحة والمعهود منه كل بر وكرامة الذي عنت له الوجوه وخشعت له الأصوات وسبحت بحمده الأرض والسموات وجميع الموجودات الذي لا تسكن الأرواح إلا بحبه ولا تطمئن القلوب إلا بذكره ولا تزكو العقول إلا بمعرفته ولا يدرك النجاح إلا بتوفيقه ولا تحيا القلوب إلا بنسيم لطفه وقربه ولا يقع أمر إلا بإذنه ولا يهتدي ضال إلا بهدايته ولا يستقيم ذو أود إلا بتقويمه ولا يفهم أحد إلا بتفهيمه ولا يتخلص من مكروه إلا برحمته ولا يحفظ شيء إلا بكلاءته ولا يفتتح أمر إلا باسمه ولا يتم إلا بحمده ولا يدرك مأمول إلا بتيسيره ولا تنال سعادة إلا بطاعته ولا حياة إلا بذكره ومحبته ومعرفته ولا طابت الجنة إلا بسماع خطابه ورؤيته الذي وسع كل شيء رحمة وعلما وأوسع كل مخلوق فضلا وبرا فهو الإله الحق والرب الحق والملك الحق والمنفرد بالكمال المطلق من كل الوجوه المبرأ عن النقائص والعيوب من كل الوجوه لا يبلغ المثنون وإن.(3/281)
استوعبوا جميع الأوقات بكل أنواع الثناء ثناء عليه بل ثناؤه أعظم من ذلك فهو كما أثنى على نفسه هذا الجار وأما الدار فلا تعلم نفس حسنها وبهاءها وسعتها ونعيمها وبهجتها وروحها وراحتها فيها مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فهي الجامعة لجميع أنواع الأفراح والمسرات الخالية من جميع المنكدات والمنغصات ريحانة تهتز وقصر مشيد وزوجة حسناء وفاكهة نضيجة فتر حالنا أيها الصادقون المصدقون إلى هذه الدار بإذن ربنا وتوفيقه وإحسانه وترحال الكاذبين المكذبين إلى الدار التي أعدت لمن كفر بالله ولقائه وكتبه ورسله ولن يجمع الله بين الموحدين له الطالبين لمرضاته الساعين في طاعته الدائبين في خدمته المجاهدين في سبيله وبين الملحدين الساعين في مساخطه الدائبين في معصيته المستفرغين جهدهم في أهوائهم وشهواتهم في دار واحدة إلا على سبيل الجواز والعبور كما جمع بينهما في هذه الدنيا ويجمع بينهم في موقف القيامة فحاشاه من هذا الظن السيء الذي لا يليق بكماله وحكمته.
فصل وفي هذه المرتبة تعلم حياة الشهداء وأنهم عند ربهم يرزقون.
وأنها أكمل من حياتهم في هذه الدنيا وأتم وأطيب وإن كانت أجسادهم متلاشية ولحومهم متمزقة وأوصالهم متفرقة وعظامهم نخرة فليس العمل على الطلل وإنما الشأن في الساكن قال الله تعالى {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وقال تعالى { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} وإذا كان الشهداء إنما نالوا هذه.(3/282)
الحياة بمتابعة الرسل وعلى أيديهم فما الظن بحياة الرسل في البرزخ ولقد أحسن القائل ما شاء
فالعيش نوم والمنية يقظة ... والمرء بينهما خيال ساري فللرسل
والشهداء والصديقين من هذه الحياة التي هي يقظة من نوم الدنيا أكملها وأتمها وعلى قدر حياة العبد في هذا العالم يكون شوقه إلى هذه الحياة وسعيه وحرصه على الظفر بها والله المستعان.
فصل المرتبة العاشرة من مراتب الحياة الحياة الدائمة الباقية بعد.
طي هذا العالم وذهاب الدنيا وأهلها في دار الحيوان وهي الحياة التي شمر اليها المشمرون وسابق إليها المتسابقون ونافس فيها المتنافسون وهي التي أجرينا الكلام إليها ونادت الكتب السماوية ورسل الله جميعهم عليها وهي التي يقول من فاته الاستعداد لها {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} وهي التي قال الله عز وجل فيها {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} والحياة المتقدمة كالنوم بالنسبة إليها وكل ما تقدم من وصف السير ومنازله وأحوال السائرين وعبوديتهم الظاهرة والباطنة فوسيلة إلى هذه الحياة إنما الحياة الدنيا بالنسبة إليها كما قال النبي صلى اله عليه وسلم "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع " وكما قيل تنفست الآخرة فكانت الدنيا نفسا من أنفاسها فأصاب أهل.(3/283)
السعادة نفس نعيمها فهم على هذا النفس يعملون وأصاب أهل الشقاوة نفس عذابها فهم على ذلك النفس يعملون وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة فما الظن بحياتهم في البرزخ وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول وهم يرون وجه ربهم تبارك وتعالى بكرة وعشيا ويسمعون خطابه فإن قلت ما سبب تخلف النفس عن طلب هذه الحياة التي لا خطر لها وما الذي زهدها فيها وما سبب رغبتها في الحياة الفانية المضمحلة التي هي كالخيال والمنام أفساد في تصورها وشعورها أم تكذيب بتلك الحياة أم لآفة في العقل وعمي هناك أم إيثار للحاضر المشهود بالعيان على الغائب المعلوم بالإيمان قيل بل ذلك لمجموع أمور مركبة من ذلك كله وأقوى الأسباب في ذلك ضعف الإيمان فإن الإيمان هو روح الأعمال وهو الباعث عليها والآمر بأحسنها والناهي عن أقبحها وعلى قدر قوة الإيمان يكون أمره ونهيه لصاحبه وائتمار صاحبه وانتهاؤه قال الله تعالى {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وبالجملة فإذا قوي الإيمان قوي الشوق إلى هذه الحياة واشتد طلب صاحبه لها السبب الثاني جثوم الغفلة على القلب فإن الغفلة نوم القلب ولهذا تجد كثيرا من الإيقاظ في الحس نياما في الواقع فتحسبهم أيقاظا وهو رقود ضد حال من يكون يقظان القلب وهو نائم فإن القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن وكمال هذه الحياة كان لنبينا ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسالته على بصيرة من ذلك بحسب نصيبه منهما فالغفلة واليقظة يكونان في الحس والعقل والقلب فمستيقظ القلب وغافله.(3/284)
كسمتيقظ البدن ونائمه وكما أن يقظة الحس على نوعين فكذلك يقظة القلب على نوعين فالنوع الأول من يقظة الحس أن صاحبها ينفذ في الأمور الحسية ويتوغل فيها بكسبه وفطانته واحتياله وحسن تأتيه والنوع الثاني أن يقبل على نفسه وقلبه وذاته فيعتنى بتحصيل كماله فيلحظ عوالي الأمور وسفاسفها فيؤثر الأعلى على الأدنى ويقدم خير الخيرين بتفويت أدناهما ويرتكب أخف الشرين خشية حصول أقواهما ويتحلى بمكارم الأخلاق ومعالي الشيم فيكون ظاهره جميلا وباطنه أجمل من ظاهره وسريرته خيرا من علانيته فيزاحم أصحاب المعالي عليها كما يتزاحم أهل الدينار والدرهم عليهما فبهذه اليقظة يستعد للنوعين الآخرين منهما أحدهما يقظه تبعثه على اقتباس الحياة الدائمة الباقية التي لا خطر لها من هذه الحياة الزائلة الفانية التي لا قيمة لها فإن قلت مثل لي كيف تقتبس الحياة الدائمة من الحياة الفانية وكيف يكون هذا فإني لا أفهمه قلت وهذا أيضا من نوم القلب بل من موته وهل تقتبس الحياة الدائمة إلا من هذه الحياة الزائلة وأنت قد تشعل سراجك من سراج آخر قد أشفى على الانطفاء فيتقد الثاني ويضيء غاية الإضاءة ويتصل ضوءه وينطفئ الأول والمقتبس لحياته الدائمة من حياته المنقطعة إنما ينتقل من دار منقطعة إلى دار باقية وقد توسط الموت بين الدارين فهو قنطرة لا يعبر إلى تلك الدار إلا عليها وباب لا يدخل إليها إلا منه فهما حياتان في دارين بينهما موت وكما أن نور تلك الدار مقتبس من نور هذه الدار فحياتها كذلك مقتبسة من حياتها فعلى قدر نور الإيمان في هذه الدار يكون نور العبد في تلك الدار وعلى قدر حياته في هذه الدار تكون حياته هناك.(3/285)
نعم هذا النور والحياة الذي يقتبس منه ذلك النور والحياة لا ينقطع بل يضيء للعبد في البرزخ وفي موقف القيامة وعلى الصراط فلا يفارقه إلى دار الحيوان يطفأ نور الشمس وهذا النور لا يطفأ وتبطل الحياة المحسوسة وهذه الحياة لا تبطل هذا أحد نوعي يقظة القلب النوع الثاني يقظة تبعث على حياة لا تدركها العبارة ولا ينالها التوهم ولا يطابق فيها اللفظ لمعناه ألبتة والذي يشار به إليها حياة المحب مع حبيبه الذي لا قوام لقلبه وروحه وحياته إلا به ولا غنى له عنه طرفة عين ولا قرة لعينه ولا طمأنينة لقلبه ولا سكون لروحه إلا به فهو أحوج إليه من سمعه وبصره وقوته بل ومن حياته فإن حياته بدونه عذاب وآلام وهموم وأحزان فحياته موقوفة على قربه وحبه ومصاحبته وعذاب حجابه عنه أعظم من العذاب الآخر كما أن نعيم القلب والروح بإزالة ذلك الحجاب أعظم من النعيم بالأكل والشرب والتمتع بالحور العين فهكذا عذاب الحجاب أعظم من عذاب الجحيم ولهذا جمع الله سبحانه لأوليائه بين النعيمين في قوله {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فالحسنى الجنة والزيادة رؤية وجهه الكريم في جنات عدن وجمع لأعدائه بين العذابين في قوله {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ } والمقصود أن الغفلة هي نوم القلب عن طلب هذه الحياة وهي حجاب عليه فإن كشف هذا الحجاب بالذكر وإلا تكاثف حتى يصير حجاب بطالة ولعب واشتغال بما لا يفيد فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب صغار تبعده عن الله فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب كبائر توجب مقت الرب تعالى له وغضبه ولعنته فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاف حتى صار حجاب بدع عملية يعذب العامل فيها نفسه ولا تجدي عليه شيئا فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع.(3/286)
قولية اعتقادية تتضمن الكذب على الله ورسوله والتكذيب بالحق الذي جاء به الرسول فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب شك وتكذيب يقدح في اصول الإيمان الخمسة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه فلغلظ حجابه وكثافته وظلمته وسواده لا يرى حقائق الإيمان ويتمكن منه الشيطان يعده ويمنيه والنفس الأمارة بالسوء تهوى وتشتهي وسلطان الطبع قد ظفر بسلطان الإيمان فأسره وسجنه إن لم يهلكه وتولى تدبير المملكة واستخدام جنود الشهوات وأقطعها العوائد التي جرى عليها العمل وأغلق باب اليقظة وأقام عليه بواب الغفلة وقال إياك أن تؤتى من قبلك واتخذ حجابا من الهوى وقال إياك أن تمكن أحدا يدخل علي إلا معك فأمر هذه المملكة قد صار إليك وإلى البواب فيا بواب الغفلة ويا حاجب الهوى ليلزم كل منكما ثغره فإن أخليتما فسد أمر مملكتنا وعادت الدولة لغيرنا وسامنا سلطان الإيمان شر الخزي والهوان ولا نفرح بهذه المدينة أبدا فلا إله إلا الله إذا اجتمعت على القلب هذه العساكر مع رقة الإيمان وقلة الأعوان والإعراض عن ذكر الرحمن والانخراط في سلك أبناء الزمان وطول الأمل المفسد للإنسان أن أكثر العاجل الحاضر على الغائب الموعود به بعد طي هذه الأكوان فالله المستعان وعليه التكلان فهذا فصل مختصر نافع في ذكر الحياة وأنواعها والتشويق في أشرفها وأطيبها فمن صادف من قلبه حياة انتفع به وإلا فخود تزف إلى ضرير مقعد فلنرجع إلى شرح كلام صاحب المنازل قال ولها ثلاثة أنفاس نفس الخوف ونفس الرجاء ونفس المحبة لما كان كل حيوان متنفسا فإن النفس موجب الحياة وعلامتها كانت أنفاس الحياة المشار إليها ثلاثة أنفاس نفس الخوف ومصدره مطالعة الوعيد.(3/287)
وما أعد الله لمن آثر الدنيا على الآخرة والمخلوق على الخالق والهوى على الهدى والغي على الرشاد ونفس الرجاء ومصدره مطالعة الوعد وحسن الظن بالرب تعالى وما الله أعد لمن آثر الله ورسوله والدار الآخرة وحكم الهدى على الهوى والوحي على الآراء والسنة على البدعة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على عوائد الخلق ونفس بالمحبة مصدره مطالعة الأسماء والصفات ومشاهدة النعماء والآلاء فإذا ذكر ذنوبه تنفس بالخوف وإذا ذكر رحمة ربه وسعة مغفرته وعفوه تنفس بالرجاء وإذا ذكر جماله وجلاله وكماله وإحسانه وإنعامه تنفس بالحب فليزن العبد إيمانه بهذه الأنفاس الثلاثة ليعلم ما معه من الإيمان فإن القلوب مفطورة على حب الجمال والاجمال والله سبحانه جميل بل له الجمال التام الكامل من جميع الوجوه جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال وجمال الأسماء وإذا جمع جمال المخلوقات كله على شخص واحد ثم كانت جميعها على جمال ذلك الشخص ثم نسب هذا الجمال إلى جمال الرب تبارك وتعالى كان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى عين الشمس فالنفس الصادر عن هذه الملاحظة والمطالعة اشرف أنفاس العبد على الاطلاق فأين نفس المشتاق المحب الصادق إلى نفس الخائف الراجي ولكن لا يحصل له هذا النفس إلا بتحصيل ذينك النفسين فإن أحدهما ثمرة تركه للمخالفات والثاني ثمرة فعله للطاعات فمن هذين النفسين يصل إلى النفس الثالث.
فصل قال الحياة الثانية حياة الجمع من موت التفرقة ولها ثلاثة.
أنفاس نفس الاضطرار ونفس الافتقار ونفس الافتخار.(3/288)
ومراده إن شاء الله بالجمع في هذه الدرجة جمع القلب على الله وجمع الخواطر والعزوم في التوجه إليه سبحانه لا الجمع الذي هو حضرة الوجود لأنه قد ذكر حياة هذا الجمع في الدرجة الثالثة وسماها حياة الوجود وإنما كان جمع القلب على الله والخواطر على السير إليه حياة حقيقية لأن القلب لا سعادة له ولا فلاح ولا نعيم ولا فوز ولا لذة ولا قرة عين إلا بأن يكون الله وحده هو غاية طلبه ونهاية قصده ووجهه الأعلى هو كل بغيته فالتفرقة المتضمنة للإعراض عن التوجه إليه واجتماع القلب عليه هي مرضه إن لم يمت منها قال ولهذه الحياة ثلاثة أنفاس نفس الاضطرار وذلك لانقطاع أمله مما سوى الله فيضطر حينئذ بقلبه وروحه ونفسه وبدنه إلى ربه ضرورة تامة بحيث يجد في كل منبت شعرة منه فاقة تامة إلى ربه ومعبوده فهذا النفس نفس مضطر إلى مالا غنى له عنه طرفة عين وضرورته إليه من جهة كونه ربه وخالقه وفاطره وناصره وحافظه ومعينه ورازقه وهاديه ومعافيه والقائم بجميع مصالحه ومن جهة كونه معبوده وإلهه وحبيبه الذي لا تكمل حياته ولا تنفع إلا بأن يكون هو وحده أحب شيء إليه واشوق شيء إليه وهذا الاضطرار هو اضطرار {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والاضطرار الأول اضطرار { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولعمر الله إن نفس الافتقار هو هذا النفس أو من نوعه ولكن الشيخ جعلهما نفسين فجعل نفس الاضطرار بداية ونفس الافتقار توسط ونفس الافتخار نهاية وكأن نفس الاضطرار يقطع الخلق من قلبه ونفس الافتقار يعلق قلبه بربه والتحقيق أنه نفس واحد ممتد أوله انقطاع وآخره اتصال وأما نفس الافتخار فهو نتيجة هذين النفسين لأنهما إذا صحا للعبد حصل له القرب من ربه والأنس به والفرج به وبالخلع التي خلعها ربه على قلبه.(3/289)
وروحه مما لا يقوم لبعضه ممالك الدنيا بحذافيرها فحينئذ يتنفس نفسا آخر يجد به من التفريج والترويح والراحة والانشراح ما يشبه من بعض الوجوه بنفس من جعل في عنقه حبل ليخنق به حتى يموت ثم كشف عنه وقد حبس نفسه فتنفس نفس من أعيدت عليه حياته وتخلص من أسباب الموت فإن قلت ما للعبد والافتخار وأين العبودية من نفس الافتخار قلت لا يريد بذلك أن العبد يفتخر بذلك ويختال على بني جنسه بل هو فرح وسرور لا يمكن دفعه عن نفسه بما فتح عليه ربه ومنحه إياه وخصه به وأولى ما فرح به العبد فضل ربه عليه فإنه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويحب الفرح بذلك لأنه من الشكر ومن لا يفرح بنعمة المنعم لا يعد شكورا فهو افتخار بما هو محض منة الله ونعمته على عبده لا افتخار بما من العبد فهذا هو الذي ينافي العبودية لا ذاك وهنا سر لطيف وهو أن هذا النفس يفخر على أنفاسه التي ليست كذلك كما تفخر الحياة على الموت والعلم على الجهل والسمع على الصمم والبصر على العمى فيكون الافتخار للنفس على النفس لا للمتنفس على الناس والله أعلم.
فصل قال الحياة الثالثة حياة الوجود وهي حياة بالحق ولها ثلاثة.
أنفاس نفس الهيبة وهو يميت الاعتدال ونفس الوجود وهو يمنع الانفصال ونفس الانفراد وهو يورث الاتصال وليس وراء ذلك ملحظ للنظارة ولا طاقة للاشارة هذه المرتبة من الحياة هي حياة الواجد وهي أكمل من النوعين اللذين قبلها ووجود العبد لربه هو الذي أشار إليه في الحديث الإلهي بقوله" فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي".(3/290)
والمشار إليه في قوله: "ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء" وسيأتي في باب الوجود من مزيدا لهذا إن شاء الله تعالى وإنما كانت حياة الوجود أكمل الحياة لشرفها وكمالها بموجدها وهو الحق سبحانه وتعالى فمن حبي بوجوده فقد فاز بأعلى أنواع الحياة فان قلت يصعب علي فهم معنى الحياة بوجوده قلت لأجل الحجاب الذي ضرب بينك وبين هذه الحياة فافهم الحياة بوجود الفناء وبوجود المالك القادر إذا كان معك وناصرك دون مجرد وجوده ولا معرفة بينك وبينه ألبتة فحقيقة الحياة هي الحياة بالرب تعالى لا الحياة بالنفس والفناء وأسباب العيش وقد تفسر حياة الوجود بشهود القيومية حيث لا يرى شيئا من الأشياء إلا وهو بالله وهو الذي أقامه وبحال هذا الشهود وهو أن لا يلتفت بقلبه إلى شيء سوى الله ولا يخافه ولا يرجوه بل قد قصر خوفه ورجاءه وتوكله وإنابته على الحي القيوم قيوم الوجود وقيمه وقيامه ومقيمه وحده فمتى حصل له هذا الشهود وهذا الحال فقد حصلت له حياة الوجود فتارة يتنفس بالهيبة وهي سطوة نور الصفات وذلك عند أول ما يسطع نور الوجود فيقع القلب في هيبة تستغرق حسه عن الالتفات إلى شيء من عوالم النفس وذلك هو الاعتلال الذي يميته النفس الثاني وهو قوله ونفس يميت الاعتلال فتموت منه علل أعماله وآثار حظوظه وشهود إنيته قوله ونفس الوجود يريد به وجود العبد بربه فيتنفس بهذا الوجود كما يسمع به ويبصر به ويبطش به ويمشي به ولا تصغ إلى غير هذا فتزل قدم بعد ثبوتها قوله وهو يمنع الانفصال الانفصال عند القوم انقطاع القلب عن الرب.(3/291)
وبقاؤه بنفسه وطبيعته والاتصال هو بقاؤه بربه وفناؤه عن أحكام نفسه وطبعه وهواه وقد يراد بالاتصال الفناء في شهود القيومية وبالانفصال الغيبة عن هذا الشهود وأما الملحد فيفسر الاتصال والانفصال بالاتصال الذاتي والانفصال الذاتي وهذا محال أيضا فإنه لم يزل متصلا به بل لم يزل إياه عنده فالأول يتعلق بالإرادة والهمة وهو أعلى الأنواع والثاني يتعلق بالشهود والشعور وهو دونه وهو عند الشيخ أعلى لأنه إنما يكون في وادي الفناء والثالث للملاحدة القائلين بوحدة الوجود قوله ونفس الانفراد وهو يورث الاتصال نفس الانفراد هو المصحوب بشهود الفردانية وهي تفرد الرب سبحانه بالربوبية والإلهية والتدبير والقيومية فلا يثبت لسواه قسطا في الربوبية ولا يجعل لسواه حظا في الإلهية ولا في القيومية بل يفرده بذلك في شهوده كما أفرده به في علمه ثم يفرده به في الحال التي أوجبها له الشهود فيكون الله سبحانه فردا في علم العبد ومعرفته فردا في شهوده فردا في حاله في شهوده وهذاالنفس يورثه الاتصال بربه بحيث لا يبقى له مراد غيره ولا إرادة غير مراده الديني الذي يحبه ويرضاه فيستفرغ حبه قلبه وتستفرغ مرضاته سعيه وليس وراء ذلك مقام يلحظه النظارة لا بالقلب ولا بالروح فإن كمال هذا الاتصال والشغل بالحق سبحانه قد استفرغ المقامات واستوعب الإشارات والله المستعان.(3/292)
فصل قال صاحب المنازل باب القبض
قال الله تعالى {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} قلت قد أبعد في تعلقه بإشارة لآية إلى القبض الذي يريده ولا تدل عليه(3/292)
الآية بوجه ما وإنما يشارك القبض المترجم عليه في اللفظ فقط فإن القبض في الآية هو قبض الظل وهو تقلصه بعد امتداده قال الله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} فأخبر تعالى أنه بسط الظل ومده وأنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس ولو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك إما بسكون المظهر له والدليل عليه وإما بسبب آخر ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا وهو شيء بعد شيء لم يقبضه جملة فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته وكمال حكمته فندب الرب سبحانه عباده إلى رؤية صنعته وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته ولو شاء لجعله لاصقا بأصل ما هو ظل له من جبل وبناء وشجر وغيره فلم ينتفع به أحد فإن كان الانتفاع به تابعا لمده وبسطه وتحوله من مكان إلى مكان ففي مده وبسطه ثم قبضه شيئا فشيئا من المصالح والمنافع مالا يخفى ولا يحصى فلو كان ساكنا دائما أو قبض دفعة واحدة لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس فمد الظل وقبضه شيئا فشيئا لازم لحركة الشمس على ما قدرت عليه من مصالح العالم وفي دلالة الشمس على الظلال ما تعرف به أوقات الصلوات وما مضى من اليوم وما بقي منه وفي تحركه وانتقاله ما يبرد به ما أصابه من حر الشمس وينفع الحيوانات والشجر والنبات فهو من آيات الله الدالة عليه وفي الآية وجه آخر وهو أنه سبحانه مد الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحى الأرض تحتها فألقت القبة ظلها عليها فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال ثم خلق الشمس ونصبها دليلا على ذلك الظل فهو يتبعها في حركتها يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص فهو تابع لها تبعية المدلول لدليله وفيها وجه آخر وهو أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه.(3/293)
وهي الأجرام التي تلقي الظلال فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه وقوله تعالى {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} كأنه يشعر بذلك وقوله {قَبْضاً يَسِيراً} يشبه قوله {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} وقوله {قَبَضْنَاهُ} بصيغة الماضي لا ينافي ذلك كقوله {أَتَى أَمْرُ اللَّه} والوجه في الآية هو الأول وهذان الوجهان إن أراد من ذكرهما دلالة الآية عليهما إشارة وإيماء فقريب وإن أراد أن ذلك هو المراد من لفظها فبعيد لأنه سبحانه جعل ذلك آية ودلالة عليه للناظر فيه كما في سائر آياته التي يدعو عباده إلى النظر فيها فلا بد أن يكون ذلك أمرا مشهودا تقوم به الدلالة وتحصل به التبصرة وأبعد من هذا ما تعلق به صاحب المنازل في باب القبض بقبض الظل كما أشار إليه في خطبة كتابه حيث يقول الذي مد ظل التكوين على الخليقة مدا طويلا ثم جعل شمس التمكين لصفوته عليه دليلا ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا فاستعار للتكوين لفظ الظل إعلاما بأن المكونات بمنزلة الظلال في عدم استقلالها بأنفسها إذ لا يتحرك الظل إلا بحركة صاحبه وقوله مدا طويلا إشارة إلى أنه سبحانه لا يزال يخلق شيئا بعد شيء خلقا لا يتناهى لسعة قدرته ووجوب أبديته ثم إن حقيقة الظل هي عدم الشمس في بقعة ماء لسائر سترها فإنما تتعين تلك الحقيقة بالشمس فكذلك المكون إنما تتعين حقيقته بالمكون له سبحانه وتعالى وشمس التمكين هي التوحيد الجامع لقلوب صفوته عن التفرق في شعاب ظل التكوين ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا أي أخذ ظل التفرقة عنهم أخذا سهلا فالشيخ أحال باستشهاده بالآية في الباب المذكور على ما تقدم له في الخطبة.(3/294)
ووجه الإشارة بالآية يعلم من قوله {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} والقبض في هذا الباب لم يرد به قبض الإضافة ولهذا قال الشيخ القبض في هذا الباب أسم يشار به إلى مقام الضنائن الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه فالقبض نوعان قبض في الأحوال وقبض في الحقائق فالقبض في الأحوال أمر يطرق القلب يمنعه عن الانبساط والفرح وهو نوعان أيضا أحدهما ما يعرف سببه مثل تذكر ذنب أو تفريط أو بعد أو جفوة أو حدوث ما هو نحو ذلك والثاني مالا يعرف سببه بل يهجم على القلب هجوما لا يقدر على التخلص منه وهذا هو القبض المشار إليه على ألسنة القوم وضده البسط فالقبض والبسط عندهم حالتان للقلب لا يكاد ينفك عنهما وقال أبو القاسم الجنيد في معنى القبض والبسط معنى الخوف والرجاء فالرجاء يبسط إلى الطاعة والخوف يقبض عن المعصية فكلهم تكلم في القبض والبسط على هذا المنهج حتى جعلوه أقساما قبض تأديب وقبض تهذيب وقبض جمع وقبض تفريق ولهذا يمتنع صاحبه إذا تمكن منه من الأكل والشرب والكلام وفعل الأوراد والانبساط إلى الأهل وغيرهم فقبض التأديب يكون عقوبة على غفلة أو خاطر سوء أو فكرة رديئة وقبض التهذيب يكون إعدادا لبسط عظيم شأنه يأتي بعده فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه والمقدمة له كما كان الغت والغط مقدمة بين يدي الوحي وإعدادا لوروده وهكذا الشدة مقدمة بين يدي الفرج والبلاء مقدمة بين يدي العافية والخوف الشديد مقدمة بين يدي الأمن وقد جرت سنة الله سبحانه أن هذه الأمور النافعة المحبوبة إنما يدخل إليها من أبواب أضدادها.(3/295)
وأما قبض الجمع فهو ما يحصل للقلب حال جمعيته على الله من انقباضه عن العلم وما فيه فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير من اجتمع قلبه عليه وفي هذه الحال من أراد من صاحبه ما يعهده منه من المؤانسة والمذاكرة فقد ظلمه وأما قبض التفرقة فهو القبض الذي يحصل من تفرق قلبه عن الله وتشتته عنه في الشعاب والأودية فأقل عقوبته ما يجده من القبض الذي يتمنى معه الموت وأما القبض الذي أشار إليه صاحب المنازل فهو شيء وراء هذا كله فإنه جعله من قسم الحقائق وذلك القبض الذي تقدم ذكره من قسم البدايات ولهذا قال القبض في هذا الباب اسم يشار به إلى مقام الضنائن ومن هنا حسن استشهاده بإشارة الآية لأنه تعالى أخبر عن قبض الظل إليه والقبض في هذا الباب يتضمن قبض القلب عن غيره إليه وجمعيته بعد التفرقة عليه والضنائن جمع ضنينة وهي الخاصة يضن بها صاحبها أي يبخل ببذلها ويصطفيها لنفسه ولهذا قال الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه والادخار افتعال من الذخر وهو ما يعده المرء لحوائجه ومصالحه والاصطناع بمعنى الاصطفاء قال تعالى لموسى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} والاصطناع في الأصل اتخاذ الصنيعة وهي الخير تسديه إلى غيرك قال الشاعر
وإذا اصطنعت صنيعة فاقصد بها ... وجه الذي يولي الصنائع أودع
قال ابن عباس اصطنعتك لوحيي ورسالتي وقال الكلبي اخترتك بالرسالة لنفسي لكي تحبني وتقوم بأمري وقيل اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي فتكلم عبادي عني قال أبو إسحاق اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في الخطاب والتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم.(3/296)
وقيل مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه وخصائص أهلا لكرامته وتقريبه فلا يكون أحد أقرب منه منزلة إليه ولا ألطف محلا فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه بحيث يسمع به ويبصر به ويطلع على سره والمقصود أن الرب سبحانه حال بين هؤلاء الضنائن وبين التعلق بالخلق وصرف قلوبهم وهممهم وعزائمهم إليه قال وهم على ثلاث فرق فرقة قبضهم إليه قبض التوقي فضن بهم عن أعين العالمين هذا الحرف في التوقي بالقاف من الوقاية وليس من الوفاة أي سترهم عن أعين الناس وقاية لهم وصيانة عن ملابستهم فغيبهم عن أعين الناس فلم يطلعهم عليهم وهؤلاء هم أهل الانقطاع والعزلة عن الناس وقت فساد الزمان ولعلهم الذين قال فيهم النبي صلى اله عليه وسلم " يوشك أن يكون خير مال المرء غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر " وقوله "ورجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره" وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأوقات دون بعضها وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من هؤلاء فالعزلة في وقت تجب فيه ووقت تستحب فيه ووقت تباح فيه ووقت تكره فيه وقت تحرم فيه ويجوز أن يكون قبض التوفي بالفاء أجسادهم وقلوبهم من بين العالمين وهم في الدنيا لكن لما لم يخالطوا الناس كانوا بمنزلة من قد توفي وفارق الدنيا قال وفرقة قبضهم بسترهم في لباس التلبيس وأسبل عليهم أكلة الرسوم فأخفاهم عن عيون العالم.(3/297)
هذه الفرقة هم مع الناس مخالطون والناس يرون ظواهرهم وقد ستر الله حقائقهم وأحوالهم عن رؤية الخلق لها فحالهم ملتبس على الناس لا يعرفونه فإذا رأوا منهم ما يرون من أبناء الدنيا من الأكل والشرب واللباس والنكاح وطلاقة الوجه وحسن العشرة قالوا هؤلاء من أبناء الدنيا وإذا رأوا ذلك الجد والهمم والصبر والصدق وحلاوة المعرفة والإيمان والذكر وشاهدوا منهم أمورا ليست من أمور أبناء الدنيا قالوا هؤلاء من أبناء الآخرة فالتبس حالهم عليهم وهم مستورون عن الناس بأسبابهم وصنائعهم ولباسهم لم يجعلوا لطلبهم وإرادتهم إشارة تشير إليهم اعرفوني فهؤلاء يكونون مع الناس والمحجوبون لا يعرفونهم ولا يرفعون بهم رءوسا وهم من سادات أولياء الله صانهم الله عن معرفة الناس كرامة لهم لئلا يفتتنوا بهم وإهانة للجهال بهم فلا ينتفعون بهم وهذه الفرقة بينها وبين الأولى من الفضل مالا يعلمه إلا الله فهم بين الناس بأبدانهم وبين الرفيق الأعلى بقلوبهم فإذا فارقوا هذا العالم انتقلت أرواحهم إلى تلك الحضرة فإن روح كل عبد تنتقل بعد مفارقة البدن إلى حضرة من كان يألفهم ويحبهم فإن المرء مع من أحبه قوله وأسبل عليهم أكلة الرسوم أي أجرى عليهم أحكام الخلق يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون ويسكنون حيث يسكنون ويمشون معهم في الأسواق ويعانون معهم الأسباب وهم في واد والناس في واد فمشاركتهم إياهم في ذلك هي التي سترتهم عن معرفتهم وعن إدراك حقائقهم فهم تحت ستور المشاركة
ووراء هاتيك الستور محجب ... بالحسن كل العز تحت لوائه(3/298)
لو أبصرت عيناك بعض جماله ... لبذلت منك الروح في إرضائه
ما طابت الدنيا بغير حديثه ... كلا ولا الأخرى بدون لقائه
يا خاسرا هانت عليه نفسه ... إذ باعها بالغبن من أعدائه
لو كنت تعلم قدر ما قد بعته ... لفسخت ذاك البيع قبل وفائه
أو كنت كفوا للرشاد وللهدى ... أبصرت لكن لست من أكفائه
قوله وفرقة قبضهم منهم إليه فصافاهم مصافاة سر فضن بهم عليهم هذه الفرقة إنما كانت أعلى من الفرقتين المتقدمتين لأن الحق سبحانه قد سترهم عن نفوسهم لكمال ما أطلعهم عليه وشغلهم به عنهم فهم في أعلى الأحوال والمقامات ولا التفات لهم إليها فهؤلاء قلوبهم معه سبحانه لا مع سواه فلم يكونوا من السوى ولا السوى منهم بل هم مع السوى بالمجاورة والامتحان لا بالمساكنة والألفة قلوبهم عامرة بالأسرار وأرواحهم تحن إليه حنين الطيور إلى الأوكار قد سترهم وليهم وحبيبهم عنهم وأخذهم إليه منهم قوله فصافاهم مصافاة سر أي جعل مواجيدهم في أسرارهم وقلوبهم للطف إدراكهم فلم تظهر عليهم في ظواهرهم لقوة الاستعداد قوله فضن بهم عليهم أي أخذهم عن رسومهم فأفناهم عنهم وأبقاهم به وقد علمت من هذا أن القبض المشار إليه في هذا الباب ليس هو القبض الذي يشير إليه القوم في البدايات والسلوك والله أعلم.(3/299)
فصل قال صاحب المنازل باب البسط
قال الله تعالى {يَذْرَأُكُمْ فِيه}. قلت وجه تعلقه بإشارة الآية هو أن الله سبحانه يعيشكم فيما خلق لكم من الأنعام المذكورة قال الكلبي يكثركم في هذا التزيج ولولا هذا التزويج.(3/299)
لك لم يكثر النسل والمعنى يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعله لكم أزواجا فإن سبب خلقنا وخلق الحيوان بالأزواج والضمير في قوله فيه يرجع إلى الجعل ومعنى الذرء الخلق وهو هنا الخلق الكثير فهو خلق وتكثير فقيل في بمعنى الباء أي يكثركم بذلك وهذا قول الكوفيين والصحيح أنها على بابها والفعل تضمن معنى ينشئكم وهو يتعدى بفي كما قال تعالى وننشئكم فيما لا تعلمون فهذا تفسير الآية ولما كانت الحياة حياتين حياة الأبدان وحياة الأرواح وهو سبحانه الذي يحيي قلوب أوليائه وأرواحهم بإكرامه ولطفه وبسطه كان ذلك تنمية لها وتكثيرا وذرءا والله أعلم قال صاحب المنازل البسط أن يرسل شواهد العبد في مدارج العلم ويسبل على باطنه رداء الاختصاص وهم أهل التلبيس وإنما بسطوا في ميدان البسط بعد ثلاث معان لكل معنى طائفة يريد أن البسط إرسال ظواهر العبد وأعماله على مقتضى العلم ويكون باطنه مغمورا بالمراقبة والمحبة والأنس بالله فيكون جماله في ظاهره وباطنه فظاهره قد اكتسى الجمال بموجب العلم وباطنه قد اكتسى الجمال بالمحبة والرجاء والخوف والمراقبة والأنس فالاعمال الظاهرة له دثار والاحوال الباطنة له شعار فلا حاله ينقص عليه ظاهر حكمه ولا علمه يقطع وارد حاله وقد جمع سبحانه بين الجمالين أعني جمال الظاهر وجمال الباطن في غير موضع من كتابه منها قوله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} ومنها قوله تعالى في نساء الجنة {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} فهن حسان الوجوه خيرات الأخلاق.(3/300)
ومنها قوله تعالى {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} فالنضرة جمال الوجوه والسرور وجمال القلوب ومنها قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فالنضرة تزين ظواهرهم والنظر يجمل بواطنهم ومنها قوله تعالى {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} فالأساور جملت ظواهرهم والشراب الطهور طهر بواطنهم ومنها قوله تعالى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} فجمل ظاهرها بالكواكب وباطنها بالحراسة من الشياطين رجعنا إلى شرح كلامه قوله وهم أهل التلبذيس يعني أنهم المذكورون في باب القبض وهم الفرقة الثانية الذين ستروا بلباس التلبيس عن أعين الناس فلا ترى حقائقهم قوله وإنما بسطوا في ميدان البسط أي بسطهم الحق سبحانه على لسان رسوله لا ما يظنه الملحد أنه السماع الشهي وملاحظة المنظر البهي ورؤية الصور المستحسنات وسماع الآلات المطربات نعم هذا ميدان بسطه الشيطان يقتطع به النفوس عن الميدان الذي نصبه الرحمن فميدان الرحمن الذي بسطه هو الذي نصبه لأنبيائه وأوليائه وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وأهله ومع الغريب والقريب وهي سعة الصدر ودوام البشر وحسن الخلق والسلام على من لقيه والوقوف مع من استوقفه والمزاح بالحق مع الصغير والكبير أحيانا وإجابة الدعوة ولين الجانب حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبا أو مستحبا أو مباحا يعين عليهما قوله فطائفة بسطت رحمة للخلق يباسطونهم ويلابسونهم فيستضيئون بنورهم والحقائق مجموعة والسرائر مصونة.(3/301)
جعل الله انبساطهم مع الخلق رحمة لهم كما قال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} فالرب سبحانه بسط هؤلاء مع خلقه ليقتدى بهم السالك ويهتدي بهم الحيران ويشفى بهم العليل ويستضاء بنور هدايتهم ونصحهم ومعرفتهم في ظلمات دياجي الطبع والهوى فالسالكون يقتدون بهم إذا سكتوا وينتفعون بكلماتهم إذا نطقوا فإن حركاتهم وسكونهم لما كانت بالله ولله وعلى أمر الله جذبت قلوب الصادقين إليهم وهذا النور الذي أضاء على الناس منهم هو نور العلم والمعرفة والعلماء ثلاثة عالم استنار بنوره واستنار به الناس فهذا من خلفاء الرسل وورثة الأنبياء وعالم استنار بنوره ولم يستنر به غيره فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصرا على نفسه فبينه وبين الأول ما بينهما وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره فهذا علمه وبال عليه وبسطته للناس فتنة لهم وبسطة الأول رحمة لهم قوله وتصميم والحقائق مجموعة والسرائر مصونة أي انبسطوا والحقائق التي في سرائرهم مجموعة في بواطنهم فالانبساط لم يشتت قلوبهم ولم يفرق هممهم ولم يحل عقد عزائمهم قوله وسرائرهم مصونة مستورة لم يكشفوها لمن انبسطوا إليه وإن كان البسط يقتضي الإلف وإطلاع كل من المتباسطين على سر صاحبه فإياك ثم إياك أن تطلع من باسطته على سرك مع الله ولكن اجذبه وشوقه واحفظ وديعة الله عندك لا تعرضها للاسترجاع قال وطائفة بسطت لقوة معاينتهم وتصميم مناظرهم لأنهم طائفة لا تخالج الشواهد مشهودهم ولا تضرب رياح الرسوم موجودهم فهم مبسوطون في قبضة القبض إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها لأن ما قبلها لأرباب الأعمال وهذه.(3/302)
لأرباب الأحوال بسطت الأولى رحمة للخلق وبسطت هذه اختصاصا بالحق وقوله لقوة معاينتهم إما أن يكون المعنى لقوة إدراك معاينتهم أو لقوة ظهور معاينتهم لبواطنهم أو لقوتها وبيانها في نفسها والمعنى أنه لا يطمع البسط أن يحجبهم عن معاينة مطلوبهم لأن قوة المعاينة منعت وصول البسط إلى إزالتها وإضعافها قوله وتصميم مناظرهم يعني ثبات مناظر قلوبهم وصحتها فليسوا ممن يحول بين نظر قلوبهم وبين ما تراه قتر من شك ولا غيم من ريب فاللطيفة الانسانية المدركة لحقيقة ما أخبروا به من الغيب صحيحة وهي شديدة التوجه إلى مشهودها فلم يقدر البسط على حجبها عن مشهودها قوله لأنهم طائفة لا تخالج الشواهد مشهودهم أي لا تمازج الشواهد مشهودهم فيكون إدراكهم بالاستدلال بل مشهودهم حاضر لهم لم يدركوه بغيره فلا تخالط مشاهدتهم له شواهد من غيره والشواهد مثل الأمارات والعلامات وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وبيان وتفصيل فإن الله سبحانه أقام الشواهد عليه وملأ بها كتابه وهدى عباده إلى النظر فيها والاستدلال بها ولكن العارف إذا حصل له منها الدلالة ووصل منها إلى اليقين انطوى حكمها عن شهوده وسافر قلبه منها إلى المطلوب المدلول عليه بها ورآها كلها أثرا من آثار أسمائه وصفاته وأفعاله المشهود المدلول عليه بها معاينة للقلب والبصيرة للصانع إذا عاين صنعته فكأنه يرى الباني وهو يبني ما شاهده من البناء المحكم المتقن لأن الشواهد والأدلة تبطل ويبطل حكمها فتأمل هذا الموضع فإنه قد غلط فيه فريقان فريق أساءوا الظن بمن طوى حكم الشواهد والأدلة ونسبوهم إلى ما نسبوهم إليه وفريق رأوا أن الشواهد نفس المشهود والدليل عين المدلول عليه ولكن كان في الابتداء شاهدا ودليلا وفي الانتهاء مشهودا ومدلولا.(3/303)
قوله ولا تضرب رياح الرسوم موجودهم شبه الرسوم بالرياح لأن معاني الصور الخلقية تمر على أهل الشهود الضعيف فتحرك بواطنهم بنوع من الشك والريب فهؤلاء الذين بسطهم الحق تعالى سالمون من ذلك قوله فهم منبسطون في قبضة القبض أي هم في حال انبساطهم غير محجوبين عن معاني القبض بل هم مبسوطون بقبضه إياهم عن غيره فلا يتنافى في حقهم البسط والقبض بل قبضهم إليه في بسطهم وبسطهم به في قبضهم وجعل للقبض قبضة ترشيحا للاستعارة قال وطائفة بسطت أعلاما على الطريق وأئمة للهدى ومصابيح للسالكين إنما كانت هذه الفرقة أعلى من الفرقتين لأنها شاركتهما في درجتيهما واختصت عنهما بهذه الدرجة فاتصفت بما اتصفت به الأولى من الأعمال واتصفت بما اتصفت به الثانية من الأحوال وزادت عليهما بالنفع للسالكين والهداية للحائرين والإرشاد للطالبين فاهتدى بهم الحائر وسار بهم الواقف واستقام بهم الحاند وأقبل بهم المعرض وكمل بهم الناقص ورجع بهم الناكص وتقوى بهم الضعيف وتنبه على المقصود من هو في الطريق وهؤلاء هم خلفاء الرسل حقا وهم أولوا البصر واليقين فجمعوا بين البصيرة والبصر قال الله تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فنالوا إمامة الدين بالصبر واليقين.(3/304)
باب السكر
...
ابن عفان رضي الله عنه لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله وقال بعض العارفين كيف يشبعون من كلام محبوبهم وهو غاية مطلوبهم والذي يريده الشيخ وأمثاله بهذا أن المحب الصادق يمتلئ قلبه بالمحبة فتكون هي الغالبة عليه فتحمله غلبتها وتمكنها على أن لا يغفل عن محبوبه ولا يشتغل قلبه بغيره ألبتة فيسمع من الفارغين ما ورد في حق المحبين ويسمع منهم أوصاف حبيبه والخبر عنه فلا يكاد يصبر على أن يسمع ذلك أبدا لضيق قلبه عن سماعه من قلب غافل وإلا فلو سمع هذا الخبر ممن هو شريكه في شجوه وأنيسه في طريقه وصاحبه في سفره لما ضاق عنه بل لاتسع له غاية الاتساع فهذا وجه ووجه ثان وهو أن السكران بالمحبة قد امتلأ قلبه بمشاهدة المحبوب فاجتمعت قوى قلبه وهمه وإرادته عليه ومعاني الخبر فيها كثرة وانتقال من معنى إلى معنى فقلبه يضيق في هذه الحال عنها حتى إذا صحا اتسع قلبه لها قوله والتعظيم قائم أي ضيق قلبه عن اشتغاله بالخبر ليس اطراحا له ورغبة عنه وكيف وهو خبر عن محبوبه واردا منه بل لضيقه في تلك الحال عن الاشتغال به وتعظيمه قائم في قلبه فهو مشغول بوجده وحاله عما يفرقه عنه وهذا يحسن إذا كان المشتغل به أحب إلى حبيبه من المشتغل عنه فأما إذا كان ما أعرض عنه أحب إلى الحبيب مما اشتغل به فشرع المحبة يوجب عليه إيثار أعظم المحبوبين إلى حبيبه وإلا كان مع نفسه ووجده ولذته قوله واقتحام لجة الشوق والتمكن دائم اقتحام لجة الشوق وهو ركوب بحره وتوسطه لا الدخول في حاشيته وطرفه والتمكن المشار إليه هو لزوم أحكام العلم من العمل به ولزوم أحكام الورع والقيام بالأوراد الشرعية فلزوم ذلك دوامه علامة صحة الشوق قوله والغرق في بحر السرور والصبر هائم أي يكون المحب غريقا في بحر.(3/211)
فصل قال صاحب المنازل باب الصحو
قال الله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وجه استدلاله بإشارة الآية أن الله سبحانه إذا تكلم بالوحي صعقت الملائكة وأخذهم شبه الغشي من تكلم الرب جل جلاله فإذا كشف الفزع عن قلوبهم وخلي عنها وأفاقوا من ذلك الغشي قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فيستخبر كل أهل سماء من يليهم حتى ينتهي الأمر إلى أهل السماء السابعة فيسألون جبريل يا جبريل ماذا قال ربنا فيقول قال الحق وهو العلي الكبير قال الصحو فوق السكر وهو يناسب مقام البسط والصحو مقام.(3/314)
صاعد عن الانتظار مغن عن الطلب طاهر من الحرج فإن السكر إنما هو في الحق والصحو إنما هو بالحق كل ما كان في عين الحق لم يخل من حيرة لا حيرة الشبهة بل حيرة مشاهدة نور العزة وما كان بالحق لم يخل من صحة ولم تحف عليه نقيصة ولم تتعاوره علة والصحو من منازل الحياة وأودية الجمع ولوائح الوجود قوله الصحو فوق السكر يعني أن السكر يكون في الانفصال والصحو في الاتصال وأيضا فالسكر فناء والصحو بقاء وأيضا فالسكر غيبة والصحو حضور وأيضا فالسكر غلبة والصحو تمكن وأيضا فالسكر كالنوم والصحو كاليقظة وبعضهم يفضل مقام السكر على مقام الصحو ويقول لولا البقية التي بقيت فيه لما صحا وينشد متمثلا
ومهما بقي للصحو فيك بقية ... يجد نحوك اللاحي سبيلا إلى العذل
وهذا غلط محض لما ذكرنا نعم السكر فوق الصحو الفارغ والسكران بالمحبة خير من الصاحي منها والصاحي بها خير من السكران فيها قوله وهو يناسب مقام البسط وجه المناسبة بينهما أن الانبساط لا يكون إلا مع الصحو وإلا فالسكر لا يحتمل الانبساط قوله والصحو مقام صاعد عن الانتظار يعني انتظار الحضور فإن الصاحي متمكن في الحضور ولذلك أشبه مقامه مقام البسط فالصحو أعلى من أن يصحبه الانتظار لأن صاحبه قد اتصل فهو لا ينتظر الاتصال ولذلك قال مغن عن الطلب فإن الطالب إنما يطلب الوصول إلى مطلوبه وهذا قد اتصل فصحوه مغن له عن طلبه وهذا الكلام ليس على إطلاقه فإن الطلب لا يفارق العبد ما دامت الحياة.(3/315)
تصحبه نعم صحوه مغن عن طلب حظ من حظوظه وأما طلب محاب محبوبه ومراضيه فهو أكمل ما يكون لها طلبا فإن قيل إن مراد الشيخ أنه مغن عن التوجه والسلوك فإنه واصل والسالك لا يزال في الطريق قلت العبد لا يزال في الطريق حتى يلحق الله تعالى قال الله تعالى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وهو الموت بإجماع أهل العلم كلهم قال الحسن لم يجعل الله لعباده المؤمنين أجلا دون الموت وتقسيم أبناء الآخرة إلى طالب وسالك وواصل صحيح باعتبار فاسد باعتبار فكأنهم جعلوا السير إلى الله تعالى بمنزلة السير إلى بيته فالناس ثلاثة طالب للسفر ومسافر في الطريق وواصل إلى البيت وهذا موضع زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام ولا بد من تحقيقه فنقول وبالله التوفيق ومنه الاستمداد وهو المستعان هذا المثال غير مطابق فإن الوصول إلى البيت هو غاية الطريق فإذا وصل فقد انقطعت طريقه وانتهى سفره وليس كذلك الوصول إلى الله فإن العبد إذا صل إلى الله جذبه سيره وقوى سفره فعلامة الوصول إلى الله الجد في السير والاجتهاد في السفر وهذا الموضع هو مفرق الطريقين بين الموحدين والملحدين فالملحد يقول السفر وسيئته والاشتغال بالوسيلة بعد الوصول إلى الغاية بطالة ومتى وصل العبد سقطت عنه أحكام السفر وصار كما قيل
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
ودعي بعض هؤلاء إلى الصلاة وقد أقيمت فقال
يطالب بالأولاد من كان غافلا ... فكيف بقلب كل أوقاته
ورد وقيل لملحد آخر منهم ألا تصلي فقال أنتم مع أورادكم ونحن مع وارداتنا وهؤلاء هم الذين صاح بهم أئمة الطريق وأخرجوهم من دائرة.(3/316)
الإسلام وقال بعضهم نعم وصلوا ولكن إلى الشيطان لا إلى الرحمن وقال آخر وصلوا ولكن إلى سقر فكل واصل إلى الله فهو طالب له وسالك في طريق مرضاته نعم بداية الأمر الطلب وتوسطه السلوك ونهايته الوصول وسيأتي بيان حقيقة الوصول الذي يشير إليه القوم في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى والمقصود أن قوله مغن عن الطلب كلام يحتاج إلى تأويل وحمل على معنى يصح فإما أن يحمل على أنه مغن عن تكلف الطلب فلا يريد هذا على هذا المعنى وإما أن يحمل على أنه مغن عن رؤيته وهذا أقرب ولكن لا يريده وإما أن يحمل على أنه قد وصل إلى مشاهدة الأولية حيث تنطوي الأكوان والأسباب ولا يبقى للطلب تأثير ألبتة فإنه من عين الجود وحصول المطلوب لم يكن موقوفا عليه ولا به وإنما هو ممن وجود كل شيء به وحده فهو الموجد والمعد والممد وبيده الأسباب وسببيتها وقواها وموانعها ومعارضها فالأمر كله له وبه ومصيره إليه فهذا معنى صحيح في نفسه ولكن صاحب هذا المقام لا يستغنى عن الطلب قوله طاهر من الحرج أي خال منه لا حرج عليه لأنه قائم بوظائف العبودية في سكره وصحوه قوله فإن السكر إنما هو في الحق والصحو إنما هو بالحق يريد أن السكر إنما هو في محبته والشوق إليه فقلبه مستغرق في الحب والصحو إنما هو بالحق أي بوجوده وهذا كلام يحتاج إلى شرح وبيان وعبارة وافية فنقول والله المستعان المحب له حالتان حالة استغراق في محبة محبوبه كاستغراق صاحب السكر في سكره وذلك عند استغراقه في شهود جماله وكماله فلا يبقىفيه متسع لسواه.(3/317)
ولا فضل لغيره فإذا رآه من لم يعرف حاله ظنه سكرا فهذا استغراق في محبوبه وصفاته ونعوته الحالة الثانية حالة صحو يفيق فيها على عبوديته والقيام بمرضاته كالمسارعة إلى محابه فهو في هذا الحال به أي متصرف في أوامره ومحابه به ليس غائبا عنه بأوامره ولا غائبا به عن أوامره فلا يشغله واجب أوامر وحقوقه عن واجب محبته والإنابة إليه والرضى به ولا يشغله واجب حبه عن أوامره بل هو مقتد بإمام الحنفاء إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه فإنه كان في أعلى مقامات المحبة وهي الخلة ولم يشغله ذلك عن القيام بخصال الفطرة من الختان وقص الشارب وتقليم الأظافر فضلا عما هو فوق ذلك فوفى المقامين حقهما ولهذا أثنى الله عليه بذلك فقال {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قوله وكلما كان في عين الحق لم يخل من حيرة يريد بذلك تفضيل مقام الصحو على مقام السكر ورفعه عليه وأن السكر لما كان في عين الحق كان مستلزما لنوع من الحيرة ثم استدرك فقال لا حيرة الشبهة فإنها تنافي أصل عقد الإيمان ولكن حيرة المشاهدة أنوار العزة وهي دهشة تعتري الشاهد لأمر عظيم جدا لا عهد له بمثله بخلاف مقام الصحو فإنه لقوته وثباته وتمكنه لا يعرض له ذلك وحاصل كلامه أن من كان ناظرا في عين الحقيقة لزمته الحيرة وهي حيرة مشاهدة أنوار العزة لا حيرة من ضل عن طريق مقصوده فإن الشبهة هي اشتباه الطريق على السالك بحيث لا يدري أعلى حق هو أم على باطل وقد تقدم بيان أن مشاهدة نور الذات المقدسة في هذه الدار محال فلا نعيده قوله وما كان بالحق لم يخل من صحة ولم تحف عليه نقيصة ولم تتعاوره علة هذا تقرير منه لرفع مقام الصحو على مقام السكر فإنه لما كان بالله كان محفوظا محروسا من النفس والشيطان اللذين هما مصدر كل باطل وهذا.(3/318)
الحفظ هو معنى قوله "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فأين الباطل ههنا ثم قال فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" \ح\ تحقيقا لحفظ سمعه وبصره وبطشه ومشيه قوله ولم تتعاوره علة التعاور الاختلاف أي لم تتخالف عليه العلل والعلل ملاحظة الأغيار وطاعة القلب للسوى وإجابته لداعيه قوله والصحو من منازل الحياة وأودية الجمع ولوائح الوجود هذا تقرير أيضا لرفع مقامه على مقام السكر وقد تقدم ذكر الحياة ومراتبها وأقسامها والمناسبة بين الصحو والحياة أن الحياة هي المصححة لجميع المقامات والأحوال فهي التي ترمي على جميعها كما ترمي الأودية أمواهها على البحار قوله وأودية الجمع الجمع يراد به جمع الوجود وجمع الشهود وجمع الارادة فالأول جمع أهل الالحاد الاتحادية والثاني جمع أهل الفناء والثالث جمع الرسل وورثتهم كما سيأتي تفصيل ذلك في باب الجمع إن شاء الله تعالى فالصحو من أودية الجمع العالي لا النازل ولا المتوسط قوله ولوائح الوجود اللوائح جمع لائحة وهي ما يلوح لك كالبرق وغيره وسيأتي الكلام على الوجود الذي الصحو من لوائحه في بابه إن شاء الله تعالى.(3/319)
فصل قال صاحب المنازل باب الاتصال
قال الله تعالى ثم دنى فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدني آيس العقول فقطع البحث بقوله أو أدنى كأن الشيخ فهم من الآية أن الذي دنى فتدلى فكان من محمد قاب قوسين أو أدنى هو الله عز وجل وهذا وإن قاله جماعة من المفسرين فالصحيح أن ذلك هو جبريل عليه الصلاة والسلام فهو الموصوف.(3/319)
بما ذكر من أول السورة إلى قوله {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} هكذا فسره النبي صلى اله عليه وسلم في الحديث الصحيح قالت عائشة رضي الله عنها "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال جبريل لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين" ولفظ القرآن لا يدل على ذاك غير ذلك من وجوه أحدها أنه قال {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وهذا جبريل الذي وصفه الله بالقوة في سورة التكوير فقال {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} الثاني أنه قال ذو مرة أي حسن الخلق وهو الكريم المذكور في التكوير الثالث أنه قال { فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} وهو ناحية السماء العليا وهذا استواء جبريل بالأفق الأعلى وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه الرابع أنه قال {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فهذا دنو جبريل وتدليه إلى الأرض حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان فوق السموات فهناك دنى الجبار جل جلاله منه وتدلى فالدنو والتدلي في الحديث غير الدنو والتدلي في الآية وإن اتفقا في اللفظ الخامس أنه قال { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(3/320)
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} والمرئي عند السدرة هو جبريل قطعا وبهذا فسره النبي صلى اله عليه وسلم فقال لعائشة" ذاك جبريل" السادس أن مفسر الضمير في قوله {وَلَقَدْ رَآهُ} وفي قوله {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} وفي قوله {فَاسْتَوَى} وفي قوله {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} واحد فلا يجوز أن يخالف بين المفسر والمفسر من غير دليل السابع أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين الملكي والبشري ونزه البشرى عن الضلال والغواية ونزه الملكي عن أن يكون شيطانا قبيحا ضعيفا بل هو قوي كريم حسن الخلق وهذا نظير الوصف المذكور في سورة التكوير سواء الثامن أنه أخبر هناك أنه رآه بالأفق المبين وههنا أخبر أنه رآه بالأفق الأعلى وهو واحد وصف بصفتين فهو مبين وهو أعلى فإن الشيء كلما علا بان ظهر التاسع أنه قال {ذُو مِرَّةٍ} والمرة الخلق الحسن المحكم فأخبر عن حسن خلق الذي علم النبي صلى اله عليه وسلم ثم ساق الخبر كله عنه نسقا واحدا العاشر أنه لو كان خبرا عن الرب تعالى لكان القرآن قد دل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مرتين مرة بالأفق ومرة عند السدرة ومعلوم أن الأمر لو كان كذلك لم يقل النبي صلى اله عليه وسلم لأبي ذر وقد سأله "هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه" فكيف يخبر القرآن أنه رآه مرتين ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنى أراه " وهذا أبلغ من قوله لم أره لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط وهذا يتضمن النفي وطرفا من الإنكار على السائل كما إذا قال لرجل هل كان كيت وكيت فيقول كيف يكون ذلك الحادي عشر أنه لم يتقدم للرب جل جلاله ذكر يعود الضمير عليه في.
.(3/321)
قوله {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له وإنما هو لعبده الثاني عشر أنه كيف يعود الضمير إلى ما لم يذكر ويترك عوده إلى المذكور مع كونه أولى به الثالث عشر أنه قد تقدم ذكر صاحبكم وأعاد عليه الضمائر التي تليق به ثم ذكر بعده شديد القوى ذا المرة وأعاد عليه الضمائر التي تليق به والخبر كله عن هذين المفسرين وهما الرسول الملكي والرسول البشري الرابع عشر أنه سبحانه أخبر أن هذا الذي دنى فتدلى كان بالأفق الأعلى وهو أفق السماء بل هو تحتها قد دنى من رسول رب العالمين ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك كان من فوق العرش لا إلى الأرض الخامس عشر أنهم لم يماروه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه ولا أخبرهم بها لتقع مماراتهم له عليها وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله إياها ولو أخبرهم الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليها أعظم من مماراتهم على رؤية المخلوقات السادس عشر أنه سبحانه قرر صحة ما رآه الرسول وأن مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} فلو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى والمماراة على ذلك منهم لكان تقرير تلك الرؤية أولى والمقام إليها أحوج والله أعلم قوله آيس العقول بقوله أو أدنى يعني أن العقول لا تقدر أن تثبت على معرفة اتصال هو أدنى من قاب قوسين وهذا بناء على ما فهمه من الآية وإلا فالعقول غير آيسة من دنو رسوله الملكي من رسوله البشري حتى صار في القرب منه قاب قوسين أو أدنى من قوسين فإنه دنو عبد من عبد ومخلوق من مخلوق يبقى أن يقال فما فائدة ذكر أو فيقال هي لتقرير المذكور قبلها.(3/322)
وأن القرب إن لم ينقص عن قدر قوسين لم يزد عليهما وهذا كقوله {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} والمعنى أنهم إن لم يزيدوا على المائة الألف لم ينقصوا عنها فهو تقرير لنصية عدد المائة الألف فتأمله قال والاتصال ثلاث درجات الدرجة الأولى اتصال الاعتصام ثم اتصال الشهود ثم اتصال الوجود واتصال الاعتصام تصحيح القصد ثم تصفية الإرادة ثم الحال أما القسمان الأولان وهما اتصال الاعتصام واتصال الشهود فلا إشكال فيهما فإنهما مقاما الإيمان والإحسان فاتصال الاعتصام مقام الإيمان واتصال الشهود مقام الإحسان وعندي أنه ليس وراء ذلك مرمى وكل ما يذكر بعد ذلك من اتصال صحيح فهو من مقام الإحسان فاتصال الوجود لا حقيقة له ولكن لا بد من ذكر مراد الشيخ وأهل الاستقامة بهذا الاتصال ومراد أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود منه إذا انتهينا إلى ذكره إن شاء الله فأما اتصال الاعتصام فقد قال الله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وقال تعالى{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} وقال {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} فالاعتصام به نوعان اعتصام توكل واستعانة وتفويض ولجإ وعياذ وإسلام النفس إليه والاستسلام له سبحانه والثاني اعتصام بوحيه وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ومعقولاتهم وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم فمن لم يكن كذلك فهو منسل من هذا الاعتصام فالدين كله في الاعتصام به وبحبله علما وعملا وإخلاصا واستعانة ومتابعة واستمرارا على ذلك إلى يوم القيامة.(3/323)
قوله ثم اتصال الشهود وتقدم ذكر المشاهدة قريبا وبينا أن المشاهدة هي تحقق مقام الإحسان فالاتصال الأول اتصال العلم والعمل والثاني اتصال الحال والمعرفة قوله ثم اتصال الوجود الوجود الظفر بحقيقة الشيء ومعاذ الله أن يريد الشيخ أن وجود العبد يتصل بوجود الرب فيصير الكل وجودا واحدا كما يظنه الملحد فإن كفر النصارى جزء يسير من هذا الكفر وهو أيضا كلام لا معنى له فإن العبد بل لا عبد في الحقيقة عندهم لم يزل كذلك ولو كان أفسق الخلق وأفجرهم فنفس وجوده متصل بوجود ربه بل هو عين وجوده بل لا رب عندهم ولا عبد وإنما يريد الشيخ باتصال الوجود أن العبد يجد ربه بعد أن كان فاقدا له فهو بمنزلة من كان يطلب كنزا ولا وصول له إليه فظفر به بعد ذلك ووجده واستغنى به غاية الغنى فهذا اتصال الوجود كما في الأثر اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وهذا الوجود من العبد لربه يتنوع بحسب أحوال العبد ومقامه فإن التائب الصادق في توبته إذا تاب إليه وجده غفورا رحيما والمتوكل إذا صدق في التوكل عليه وجده حسيبا كافيا والداعي إذا صدق في الرغبة إليه وجده قريبا مجيبا والمحب إذا صدق في محبته وجده ودودا حبيبا والملهوف إذا صدق في الاستغاثة به وجده كاشفا للكرب مخلصا منه والمضطر إذا صدق في الاضطرار إليه وجده رحيما مغيثا والخائف إذا صدق في اللجإ إليه وجده مؤمنا من الخوف والراجي إذا صدق في الرجاء وجده عند ظنه به.(3/324)
فمحبه وطالبه ومريده الذي لا يبغي به بدلا ولا يرضى بسواه عوضا إذا صدق في محبته وإرادته وجده أيضا وجودا أخص من تلك الموجودات فإنه إذا كان المريد منه يجده فكيف بمريده ومحبه فيظفر هذا الواجد بنفسه وبربه أما ظفره بنفسه فتصير منقادة له مطيعة له تابعة لمرضاته غير آبية ولا أمارة بل تصير خادمة له مملوكة بعد أن كانت مخدومة مالكة وأما ظفره بربه فقربه منه وأنسه به وعمارة سره به وفرحه وسروره به أعظم فرح وسرور فهذا حقيقة اتصال الوجود والله المستعان قوله فاتصال الاعتصام تصحيح القصد ثم تصفية الإرادة ثم تحقيق الحال قلت تصحيح القصد يكون بشيئين إفراد المقصود وجمع الهم عليه وحقيقته توحيد القصد والمقصود فمتى انقسم قصده أو مقصوده لم يكن صحيحا وقد عبر عنه الشيخ فيما تقدم بأنه قصد يبعث على الارتياض ويخلص من التردد ويدعو إلى مجانبة الأعواض فالاتصال في هذه الدرجة بهذا القصد وقوله ثم تصفية الإرادة هو تخليصها من الشوائب وتعيلقها بالسوى أو بالأعواض بل تكون إرادة صافية من ذلك كله بحيث تكون متعلقة بالله وبمراده الديني الشرعي كما تقدم بيانه وقوله ثم تحقيق الحال أي يكون له حال محقق ثابت لا يكتفي بمجرد العلم حتى يصحبه العمل ولا بمجرد العمل حتى يصحبه الحال فتصير الإرادة والمحبة والإنابة والتوكل وحقائق الإيمان حالا لقلبه قد انصبغ قلبه بها بحيث لو تعطلت جوارحه كان قلبه في العمل والسير إلى الله وربما يكون عمل قلبه أقوى من عمل جوارحه قوله الدرجة الثانية اتصال الشهود وهو الخلاص من الاعتلال والغنى عن الاستدلال وسقوط شتات الأسرار.(3/325)
الاعتلال هو العوائق والعلل والخلاص منها هو الصحة ولهذا كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها فإن الأولى اتصال بصحة القصود والأعمال وهذه اتصال برؤية من العمل له على تحقيق مشاهدته بالبصيرة فيتخلص العبد بذلك من علل الأعمال واستكثارها واستحسانها والسكون إليها قوله والغنى عن الاستدلال أي هو مستغن بمشاهدة المدلول عليه عن طلب الدليل فإن طالب الدليل إنما يطلبه ليصل به إلى معرفة المدلول فإذا كان مشاهدا للمدلول فماله ولطلب الدليل
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
فكيف يحتاج إلى إقامة الدليل عليه من النهار بعض آياته الدالة عليه {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} ولهذا خاطب الرسل قومهم خطاب من لا يشك في ربه ولا يرتاب في وجوده قالت لهم رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض قوله وسقوط شتات الأسرار يعني أن الخلاص من الاعتلال والفناء باتصال الشهود عن الاستلال يسقطان عنه شتات الأسرار وهو تفرق باله وتشتت قلبه في الأكوان فإن اتصال شهوده يجمعه على المشهود كما أن دوام الذكر الذي تواطأ عليه القلب واللسان وشهود المذكور يجمعه عليه ويسقط شتاته فالشتات مصحوب الغيبة وسقوطه مصحوب الحضور والله المستعان قوله الدرجة الثالثة اتصال الوجود وهذا الاتصال لا يدرك منه نعت ولا مقدار إلا اسم معار ولمح إليه مشار يقول لما يعهد في هذا النوع من الاتصال وكان أعز شيء وأغربه عن النفوس علما وحالا لم تف العبارة بكشفه فإن اللفظ لملوم والعبارة فتانة إما أن تزيغ إلى زيادة مفسدة أو نقص.(3/326)
مخل أو تعدل بالمعنى إلى غيره فيظن أنه هو الذي تمكن العبارة عنه من ذلك أنه غلبه نور القرب وتمكن المحبة وقوة الأنس وكمال المراقبة واستيلاء الذكر القلبي فيذهب العبد عن إدراكه بحاله لما قهره من هذه الأمور فيبقى بوجود آخر غير وجوده الطبيعي وما أظنك تصدق بهذا وأنه يصير له وجود آخر وتقول هذا خيال ووهم فلا تعجل بانكار مالم تحط بعلمه فضلا عن ذوق حاله وأعط القوس باريها وخل المطايا وحاديها فلو أنصفت لعرفت أن الوجود الحاصل لمعذب مضيق عليه في أسوأ حال وأضيق سجن وأنكد عيش إذا فارق هذه الحال وصار إلى ملك هني واسع نافذة فيه كلمته مطاع أمره قد انقادت له الجيوش واجتمعت عليه الأمة فإن وجوده حينئذ غير الوجود الذي كان فيه وهذا تشبيه على التقريب وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأعظم فلهذا قال لا يدرك منه نعت يطابقه ويحيط به فإن الأمور العظيمة جدا نعتها لا يكشف حقيقتها على ما هي عليه وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء وإنما نذكر بعض لوازمها ومتعلقاتها فيدل بالمذكور على غيره قوله ولا مقدار يريد مقدار الشرف والمنزلة كما تقول فلان كبير المقدار قوله إلا اسم معار ولمح إليه يشار لما كان الاسم لا يبلغ الحقيقة ولا يطابقها فكأنه لغيرها وأعير إطلاقه عليها عارية وكذلك اللمح المشار هو الذي يشار به إشارة إلى الحقيقة وبعد فالشيخ يدندن حول بحر الفناء وكأنه يقول صاحب هذا الاتصال قد فنى في الوجود بحيث صار نقطة انحل تعينها واضمحل تكونها ورجع عودها على بدئها ففني من لم يكن وبقي من لم يزل فهنالك طاحت الإشارات وذهبت العبارات وفنيت الرسوم {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}.(3/327)
فصل قال صاحب المنازل باب الانفصال
قال الله تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ليس في المقامات شيء فيه من التفاوت ما في الانفصال وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه المقرب المبعد فليحذر القريب من الإبعاد والمتصل من الانفصال فإن الحق جل جلاله غيور لا يرضى ممن عرفه ووجد حلاوة معرفته واتصل قلبه بمحبته والأنس به وتعلقت روحه بإرادة وجهه الأعلى أن يكون له التفات إلى غيره ألبتة ومن غيرته سبحانه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والله سبحانه يغار أشد الغيرة على عبده أن يلتفت إلى سواه فإذا أذاقه حلاوة محبته ولذة الشوق إليه وأنس معرفته ثم ساكن غيره باعده من قربه وقطعه من وصله وأوحش سره وشتت قلبه ونغص عيشه وألبسه رداء الذل والصغار والهوان فنادى عليه حاله إن لم يصرح به قاله هذا جزاء من تعوض عن وليه وإلهه وفاطره ومن لا حياة له إلا به بغيره وآثر غيره عليه فاتخذ سواه له حبيبا ورضي بغيره أنيسا واتخذ سواه وليا قال الله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} فإذا ضرب هذا القلب بسوط البعد والحجاب وسلط عليه من يسومه سوء العذاب وملئ من الهموم والغموم والأحزان وصار محلا للجيف والأقذار والأنتان وبدل بالأنس وحشة وبالعز ذلا وبالقناعة حرصا وبالقرب بعدا وطردا وبالجمع شتاتا وتفرقة كان هذا بعض جزائه فحينئذ تطرقه الطوارق والمؤلمات وتعتريه وفود الأحزان والهموم بعد وفود المسرات قرأ قارئ بين يدي السرى {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} فقال السري تدرون ما هذا.(3/328)
الحجاب هو حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله فمن عرفه وذاق حلاوة قربه ومحبته ثم رجع عنه إلى مساكنة غيره ثبط جوارحه عن طاعته وعقل قلبه عن إرادته ومحبته وأخره عن محل قربه وولاه ما اختاره لنفسه وقال بعضهم احذره فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه ومن غيرته أن صفيه آدم لما ساكن بقلبه الجنة وحرص على الخلود فيها أخرجه منها ومن غيرته سبحانه أن إبراهيم خليله لما أخذ اسماعيل شعبة من قلبه أمره بذبحه حتى يخرج من قلبه ذلك المزاحم إنما كان الشرك عنده ذنبا لا يغفر لتعلق قلب المشرك به وبغيره فكيف بمن تعلق قلبه كله بغيره وأعرض عنه بكليته إذا أردت أن تعرف ما حل بك من بلاء الانفصال وذل الحجاب فانظر لمن استعبد قلبك واستخدم جوارحك وبمن شغل سرك وأين يبيت قلبك إذا أخذت مضجعك وإلى أين يطير إذا استيقظت من منامك فذلك هو معبودك وإلهك فإذا سمعت النداء يوم القيامة لينطلق كل واحد مع من كان يعبده انطلقت معه كائنا من كان لا إله إلا الله ما أشد غبن من باع أطيب الحياة في هذه الدار المتصلة بالحياة الطيبة هناك والنعيم المقيم بالحياة المنغصة المنكدة المتصلة بالعذاب الأليم والمدة ساعة من نهار أو عشية أو ضحاها أو يوم أو بعض يوم فيه ربح الأبد أو خسارة الأبد فما هي إلا ساعة ثم تنقضي % ويذهب هذا كله ويزول.
فصل قال الشيخ ليس في المقامات شيء فيه من التفاوت ما في الانفصال.
يعني أن بين درجات المقامات تناسب واختلاف يسير ومقام الانفصال قليل التناسب في درجاته كثير التفاوت كما سنذكره.(3/329)
قال ووجوهه ثلاثة أحدها انفصال هو شرط الاتصال وهو الانفصال عن الكونين بانفصال نظرك إليهما وانفصال توقفك عليهما وانفصال مبالاتك بهما يعني أن انفصال العبد عن رسومه بالفناء هو شرط اتصال وجوده بالبقاء فلا ولاء لله ورسوله إلا بالبراء مما يضاد ذلك ويخالفه وقد قال إمام الحنفاء لقومه {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} وقال الفتية {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} فلم تعتزلوه وهذه العبارة التي ذكرها الشيخ في بادي الرأي لا تخلو عن إنكار حتى يبين معناها والمراد بها فإن الكونين عبارة عن جميع ما خلقه الله في الدنيا والآخرة ويعبر عنهما بعالم الغيب وعالم الشهادة وفيهما الرسل والأنبياء والملائكة والأولياء فكيف ينفصل عنهم ولا ينظر إليهم ولا يقف بقلبه عليهم ولا يبالي بهم فاعلم أن في لسان القوم من الاستعارات وإطلاق العام وإرادة الخاص وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف غيرهم ولهذا يقولون نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة والإشارة لنا والعبارة لغيرنا وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد ويريدون بها معنى لا فساد فيه وصار هذا سببا لفتنة طائفتين طائفة تعلقوا عليهم بظاهر عباراتهم فبدعوهم وضللوهم وطائفة نظروا إلى مقاصدهم ومغزاهم فصوبوا تلك.(3/330)
العبارات وصححوا تلك الإشارات فطالب الحق يقبله ممن كان ويرد ما خالفه على من كان ومراد الشيخ وأهل الاستقامة أن النفس لما كانت مائلة إلى الملذوذات المحسوسة والمعنوية المشاهدة المعاينة كان النظر إليها والوقوف معها علة في الطريق والقصد جميعا وكان شاغلا لها عن النظر إلى المقصود وحده والوقوف معه دون غيره والالتفات إليه دون ما سواه فمتى قوي تعلق القلب بالمقصود الأعلى بحيث يشغله ذكره عن ذكر غيره وحبه عن حب غيره وخوفه عن خوف غيره ورجاؤه عن رجاء غيره وكان أنسه به خاصة انفصل عن ذكر غيره في حال شغله به سبحانه إذ ليس فيه اتساع لغيره فانفصل في هذه الحال نظره إلى الكونين وانفصل توقفه عليهما وانفصلت مبالاته بهما ضرا أو نفعا أو عطاء أو منعا وهذه الحال لا تدوم فإذا رجع إلى الكون بحكم طبيعته وأنه جزء من الكون ذكر الرسل والأنبياء والملائكة والأولياء بالتعظيم والاحترام وأحسن الذكر وذكر أعداءهم باللعن وأقبح الذكر فهذه وظيفته في هذه الحال وتلك وظيفته في ذلك المقام والمقصود أنه انفصال شهود في الأحوال لا انفصال وجود ولا انفصال شهود دائما أبدا ولا تلتفت إلى غير هذا فإنه خيال وخبال ووهم لا نطيل الكتاب بذكره قال الثاني انفصال عن رؤية الانفصال الذي ذكرناه وهو ان لا يتراءى عندك في شهود التحقيق شيء يوصل بالانفصال منهما إلى شيء إنما كانت هذه الدرجة أعلى عنده مما قبلها من حيث كانت الأولى وسيلة إليها وكانت هذه غاية لها ومرتبة عليها فإن المنفصل من الكونين شغلا بالله عز وجل قد تسكن نفسه إلى مقامه من الأنفصال ويساكنه بسره وقلبه.
.(3/331)
ويغيب عنه أنه محض منة الله ومجرد عطائه فيحتاج إلى أن ينفصل عن رؤية انفصاله ويضيف ذلك إلى أهله ووليه المان به وهذا التفصيل يتضمن التفاوت الذي أشار إليه الشيخ في أول الباب فإنه ذكر في الدرجة الأولى أن الانفصال شرط في الاتصال وقال ههنا لا يتراءى عندك في شهود التحقيق سبب يوصل بالانفصال منهما إلى شيء وهذا يناقض ما ذكره ولا يجتمع معنى كلاميه بل بينهما تفاوت التناقض فأين شرط حصول الشيء من شهود عدم كونه سببا وشرطا والجواب عن هذا أن كون الشيء شرطا وسببا لحصول شيء لا يناقض أن يكون عدم رؤيته شرطا لحصول ذلك الشيء فيكون حصوله مشروطا بوجود ذلك الشيء في نفس الأمر وبعدم رؤية العبد له فتكون الرؤية مانعة وإيضاح ذلك ببيان كلامه فقوله انفصال عن رؤية الانفصال يعني أن العبد يرى حالة الشهود أنه انفصل عن الكونين ثم اتصل بجناب العزة فيشهد اتصالا بعد انفصال وهذه الرؤية في التحقيق ليست صحيحة لأنه لم ينفصل عن الكونين أصلا لكنه توهم ذلك فإذا تبين أنه لم ينفصل عن الكونين فقد انفصل عن الانفصال المذكور لتحققه أنه لم يكن صحيحا ثم بين كيف يصح له انفصاله عن انفصاله بقوله أن لا يتراءى أي أي لا يظهر لك شيء في شهود التحقيق يكون هو السبب الموجب للاتصال فكأنه قال أن تشهد التحقيق فيريك شهوده أنك ما انفصلت بنفسك عن شيء ولا اتصلت بنفسك بشيء بل الأمر كله بيد غيرك فهو الذي فصلك وهو الذي وصلك وأما الملحد فيفسر كلامه بغير هذا ويقول إذا شهدت الحقيقة أرتك أنك ما انفصلت من شيء ولا اتصلت بشيء فإن تلك اثنينية تنافي الوحدة المطلقة.(3/332)
فانظر ما في الألفاظ المجملة الاصطلاحية من الاحتمال وكيف يجرها كل أحد إلى نحلته ومذهبه ولهذا يقول الملحد إنه ليس هناك اتصال ولا انفصال إنما هو في نظر العبد ووهمه فقط فإذا صار من أهل التحقيق علم بعد ذلك أنه لا انفصال ولا اتصال وينشد في هذا المعنى بيتا مشهورا لطائفة الاتحادية
فما فيك لي شيء لشيء موافق ... ولا منك لي شيء لشيء مخالف
قال الثالث انفصال عن الاتصال وهو انفصال عن شهود مزاحمة الاتصال عين السبق فإن الانفصال والاتصال على عظم تفاوتهما في الاسم والرسم في العلة سيان الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها أن ما قبلها انفصال عن سكونه إلى انفصاله ورؤيته له وهو في هذه الدرجة انفصال عن رؤية اتصاله فيتجرد عن رؤية كونه متصلا فإن هذه الرؤية علة في الاتصال بل كمال الاتصال غيبته عن رؤية كونه متصلا لكمال استغراقه بما هو فيه من حقيقة الاتصال فيحصل من الدرجتين انفصاله عن الانفصال والاتصال معا فههنا جال الملحد وصال وفتح فاه ناطقا بالإلحاد وقال هذا يدل على أن الانفصال والاتصال لا حقيقة لهما في نفس الأمر بل في نظر الناظر فلا حقيقة لهما في نفس الأمر لكن في وهم المكاشف فأين الاتصال والانفصال في العين الواحدة وإنما الوهم والخيال قد حكما على أكثر الخلق وقد أعاذ الله الشيخ من أن يظن به هذا الإلحاد وإنما مراده ما ذكرناه وقد كشف عن مراده بقوله وهو انفصال عن شهود مزاحمة الاتصال عين السبق أي ينفصل عن شهود مزاحمته لاتصاله عما سبق في الأزل من الأول الآخر سبحانه فإنه إذا لاحظ السبق وما تقرر فيه حيث لم يكن هو ولا شيء(3/333)
من الأشياء لم يزاحم شهود اتصاله لشهود ما سبق له به الأزل بل اضمحل فعله وشهوده ووجوده إلى ذلك الوجود الأزلي بحيث كأنه لم يكن فإذا نسب فعله وصفاته ووجوده إلى ذلك الوجود اضمحل وتلاشى وصار كالظل والخيال للشخص قوله فإن الاتصال والانفصال على عظم تفاوتهما في الاسم والرسم في العلة سيان معناه أن معنى اسم الاتصال يضاد اسم الانفصال كما يضاد اسمه اسمه وهما متساويان في العلة أي رؤية الاتصال علة ورؤية الانفصال علة فتساويا من هذا الوجه وإن تضادا لفظا ومعنى والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/334)
باب المعرفة
...
أحدها أن النعت يكون بالأفعال التي تتجدد كقوله تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَار} الآية وقوله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُون وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} ونظائر ذلك والصفة هي الأمور الثابتة اللازمة للذات كقوله تعالى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} إلى قوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ونظائر ذلك الفرق الثاني أن الصفات الذاتية لا يطلق عليها اسم النعوت كالوجه واليدين والقدم والأصابع وتسمى صفات وقد أطلق عليها السلف هذا الاسم وكذلك متكلموا أهل الإثبات سموها صفات وأنكر بعضهم هذه التسمية كأبي الوفاء بن عقيل وغيره وقال لا ينبغي أن يقال نصوص الصفات بل آيات الإضافات لأن الحي لا يوصف بيده ولا وجهه فإن ذلك هو الموصوف فكيف تسمى صفة وأيضا فالصفة معنى يعم الموصوف فلا يكون الوجه واليد صفة والتحقيق أن هذا نزاع لفظي في التسمية فالمقصود إطلاق هذه الإضافات عليه سبحانه ونسبتها إليه والإخبار عنه بها منزهة عن التمثيل والتعطيل سواء سميت صفات أو لم تسم الفرق الثالث أن النعوت ما يظهر من الصفات ويشتهر ويعرفه الخاص والعام والصفات أعم فالفرق بين النعت والصفة فرق ما بين الخاص والعام ومنه قولهم في تحلية الشيء نعته كذا وكذا لما يظهر من صفاته.(3/246)
فصل قال صاحب المنازل باب الفناء
قال الله تعالى كل من عليها. فان {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} الفناء المذكور في الآية ليس هو الفناء الذي تشير إليه الطائفة فإن الفناء في الآية الهلاك والعدم أخبر سبحانه أن كل من على الأرض يعدم ويموت ويبقى وجهه سبحانه وهذا مثل قوله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ومثل قوله {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} قال الكلبي ومقاتل لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض فلما قال تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أيقنت الملائكة بالهلاك قال الشعبي إذا قرأت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فلا تسكت حتى تقرأ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ} وهذا من فقهه في القرآن وكمال علمه إذ المقصود الإخبار بفناء من عليها مع بقاء وجهه سبحانه فإن الآية سيقت لتمدحه بالبقاء وحده ومجرد فناء الخليقة ليس فيه مدحه إنما المدح في بقائه بعد فناء خلقه فهي نظير قوله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} وأما الفناء الذي تترجم عنه الطائفة فأمر غير هذا ولكن وجد.(3/368)
الإشارة بالآية أن الفناء المشار إليه هو ذهاب القلب وخروجه من هذا العالم وتعلقه بالعلي الكبير الذي له البقاء فلا يدركه الفناء ومن فني في محبته وطاعته وإرادة وجهه أوصله هذا الفناء إلى منزل البقاء فالآية تشير إلى أن العبد حقيق أن لا يتعلق بمن هو فان ويذر من له البقاء وهو ذو الجلال والإكرام فكأنها تقول إذا تعلقت بمن هو فان انقطع ذلك التعلق عند فنائه أحوج ما تكون إليه وإذا تعلقت بمن هو باق لا يفنى لم ينقطع تعلقك ودام بدوامه والفناء الذي يترجم عليه هو غاية التعلق ونهايته فإنه انقطاع عما سوى الرب تعالى من كل وجه ولذلك قال الفناء في هذا الباب اضمحلال ما دون الحق علما ثم جحدا ثم حقا قلت الفناء ضد البقاء والباقي إما باق بنفسه من غير حاجة إلى من يبقيه بل بقاؤه من لوازم نفسه وهو الله تعالى وحده وما سواه فبقاؤه ببقاء الرب وليس له من نفسه بقاء كما أنه ليس له من نفسه وجود فإيجاده وإبقاؤه من ربه وخالقه وإلا فهو ليس له من نفسه إلا العدم قبل إيجاده والفناء بعد إيجاده وليس المعنى أن نفسه وذاته اقتضت عدمه وفناءه وإنما الفناء أنك إذا نظرت إلى ذاته بقطع النظر عن إيجاد موجده له كان معدوما وإذا نظرت إليه بعد وجوده مع قطع النظر عن إبقاء موجده له استحال بقاؤه فإنه إنما يبقى بابقائه كما أنه إنما يوجد بإيجاده فهذا معنى قولنا إنه بنفسه معدوم وفان فافهمه وقد اختلف الناس هل إفناء الموجود وإعدامه بخلق عرض فيه يسمى.(3/369)
الفناء والإعدام أم بإمساك خلق البقاء له إذ هو في كل وقت محتاج إلى أن يخلق له بقاء يبقيه وهي مسألة الإعدام المشهورة والتحقيق فيها أن ذاته لا تقتضي الوجود وهو معدوم بنفسه فإذا قدر الرب تعالى لوجوده أجلا ووقتا انتهى وجوده عند حضور أجله فرجع إلى أصله وهو العدم نعم قد يقدر له وقتا ثم يمحو سبحانه ذلك الوقت ويريد إعدامه قبل وقته كما أنه سبحانه يمحو ما يشاء ويريد استمرار وجوده بعد الوقت المقدر إلى أمد آخر فإنه يمحو ما يشاء ويثبت قال الله تعالى حاكيا عن نبيه نوح عليه السلام {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} فإذا أراد الله سبحانه إبقاء الشيء أبقاه إلى حين يشاء وإذا أراد إفناءه أعدمه بمشيئته كما يوجده بمشيئته فإن قيل متعلق المشيئة لا بد أن يكون أمرا وجوديا فكيف يكون العدم متعلق المشيئة قيل متعلق المشيئة أمران إيجاد وإعدام وكلاهما ممكن فقول القائل لا بد أن يكون متعلق المشيئة أمرا وجوديا دعوى باطلة نعم العدم المحض لا تتعلق به المشيئة وأما الإعدام فهو أخص من العدم ولولا أنا في أمر أخص من هذا لبسطنا الكلام في هذه المسألة وذكرنا أوهام الناس وأغلاطهم فيها وقوله الفناء اسم لاضمحلال ما دون الحق علما يعني يضمحل عن القلب والشهود علما وإن لم تكن ذاته فانية في الحال مضمحلة فتغيب صور الموجودات في شهود العبد بحيث تكون كأنها دخلت في العدم كما كانت قبل أن توجد ويبقى الحق تعالى ذو الجلال والإكرام وحده في قلب الشاهد كما كان وحده قبل إيجاد العوالم.(3/370)
قوله علما ثم جحدا ثم حقا هذه الثلاثة هي مراتب الاضمحلال إذا ورد على العبد على الترتيب فإذا جاء وهلة واحدة لم يشهد شيئا من ذلك وإن كان قد يعرف ذلك إذا عاد إلى علمه وشهوده فإن الرب سبحانه إذا رقى عبده بالتدريج نور باطنه وعقله بالعلم فرأى أنه لا خالق سواه ولا رب غيره ولا يملك الضر والنفع والعطاء والمنع غيره وأنه لا يستحق أن يعبد بنهاية الخضوع والحب سواه وكل معبود سوى وجهه الكريم فباطل فهذا توحيد العلم ثم إذا رقاه الحق سبحانه درجة أخرى فوق هذه أشهد عود المفعولات إلى أفعاله سبحانه وعود أفعاله إلى أسمائه وصفاته وقيام صفاته بذاته فيضمحل شهود غيره من قلبه وجحد أن يكون لسواه من نفسه شيء ألبتة ولم يجحد السوي كما يجحده الملاحدة فإن هذا الجحود عين الإلحاد ثم إذا رقاه درجة أخرى أشهده قيام العوالم كلها جواهرها وأعراضها ذواتها وصفاتها به وحده أي بإقامته لها وإمساكه لها فإنه سبحانه يمسك السماوات والأرض أن تزولا ويمسك البحار أن تغيض أو تفيض على العالم ويمسك السماء أن تقع على الأرض ويمسك الطير في الهواء صافات ويقبضن ويمسك القلوب الموقنة أن تزيغ عن الإيمان ويمسك حياة الحيوان أن تفارقه إلى الأجل المحدود ويمسك على الموجودات وجودها ولولا ذلك لاضمحلت وتلاشت والكل قائم بأفعاله وصفاته التي هي من لوازم ذاته فليس الوجود الحقيقي إلا له أعني الوجود الذي هو مستغن فيه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه بالذات لا قيام له بنفسه طرفة عين ولما كان للفناء مبدأ وتوسط وغاية أشار إلى مراتبه الثلاثة فالمرتبة الأولى فناء أهل العلم المتحققين به والثانية فناء أهل السلوك والإرادة والثالثة فناء أهل المعرفة المستغرقين في شهود الحق سبحانه فأول الأمر أن تفنى قوة علمه وشعوره بالمخلوقين في جنب علمه ومعرفته بالله.(3/371)
وحقوقه ثم يقوي ذلك حتى يعدهم كالأموات وكالعدم ثم يقوي ذلك حتى يغيب عنهم بحيث يكلم ولا يسمع ويمر به ولا يرى وذلك أبلع من حال السكر ولكن لا تدوم له هذه الحال ولا يمكن أن يعيش عليها.
فصل قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى فناء المعرفة في المعروف.
وهو الفناء علما وفناء العيان في المعاين وهو الفناء جحدا وفناء الطلب في الوجود وهو الفناء حقا هذا تفصيل ما أجمله أولا ونبين ما أرادوا بالعلم والجحد والحق ففناء المعرفة في المعروف هو غيبة العارف بمعروفه عن شعوره بمعرفته ومعانيها فيفنى به سبحانه عن وصفه هنا وما قام به فإن المعرفة فعله ووصفه فإذا استغرق في شهود المعروف فني عن صفة نفسه وفعلها ولما كانت المعرفة فوق العلم وأخص منه كان فناء المعرفة في المعروف مستلزما لفناء العلم في المعرفة فيفنى أولا في المعرفة ثم تفنى المعرفة في المعروف وأما فناء العيان في المعاين فالعيان فوق المعرفة فإن المعرفة مرتبة فوق العلم ودون العيان فإذا انتقل من المعرفة إلى العيان فني عيانه في معاينه كما فنيت معرفته في معروفه وأما فناء الطلب في الوجود فهو أن لا يبقى لصاحب هذا الفناء طلب لأنه ظفر بالمطلوب المشاهد وصار واجدا بعد أن كان طالبا فكان إدراكه أولا علما ثم قوي فصار معرفة ثم قوي فصار عيانا ثم تمكن فصار معرفة ثم تمكن فصار وجودا ولعلك أن تستنكر أو تستبعد هذه الألفاظ ومعانيها فاسمع ضرب مثل يهون عليك ذلك ويقربه منك مثل ملك عظيم السلطان شديد السطوة تام الهيبة قوي البأس استدعى رجلا من رعيته قد اشتد جرمه وعصيانه له.(3/372)
فحضر بين يديه وغلب على ظنه إتلافه فأحواله في حال حضوره مختلفة بالنسبة إلى ما يشاهده فتارة يتذكر جرمه وسطوة السلطان وقدرته عليه فيفكر فيما سيلقاه وتارة تقهره الحال التي هو فيها فلا يذكر ما كان منه ولا ما أحضر من أجله لغلبة الخوف على قلبه ويأسه من الخلاص ولكن عقله وذهنه معه وتارة يغيب قلبه وذهنه بالكلية فلا يشعر أين هو ولا من إلى جانبه ولا بما يراد به وربما جرى على لسانه في هذه الحال مالا يريده فهذا فناء الخوف ومثال ثان في فناء الحب محب استغرقت محبته شخصا في غاية الجمال والبهاء وأكبر أمنيته الوصول إليه ومحادثته ورؤيته فبينا هو على حاله قد ملأ الحب قلبه وقد استغرق فكره في محبوبه وإذا به قد دخل عليه محبوبه بغتة على أحسن هيئة فقابله قريبا منه وليس دونه سواه أفليس هذا حقيقا أن يفنى عن رؤية غيره بمشاهدته وأن يفنى عن شهوده بمشهوده بل وعن حبه بمحبوبه فيملك عليه المحبوب سمعه وبصره وإرادته وإحساسه ويغيب به عن ذاته وصفاته وانظر إلى النسوة كيف قطعن أيديهن لما طلع عليهن يوسف وشاهدن ذلك الجمال ولم يتقدم لهن من عشقه ومحبته ما تقدم لامرأة العزيز فأفناهن شهود جماله عن حالهن حتى قطعن أيديهن وأما امرأة العزيز فإنها وإن كانت صاحبة المحبة فإنها كانت قد ألفت رؤيته ومشاهدته فلما خرج لم يتغير عليها حالها كما تغير على العواذل فكان مقامها البقاء ومقامهن الفناء وحصل لهن الفناء من وجهين.(3/373)
أحدهما ذهولهن عن الشعور بقطع ما في أيديهن حتى تخطاه القطع إلى الأيدي الثاني فناؤهن عن الإحساس بألم القطع وهكذا الفناء بالمخوف والفرح بالمحبوب يفنى صاحبه عن شعوره وعن إحساسه بالكيفيات النفسانية هذا في مشاهدة مخلوق محدث له أشباه أمثال وله من يقاربه ويدانيه في الجمال وإنما فاق بني جنسه في الحسن والجمال ببعض الصفات وامتاز ببعض المعاني المخلوقة المصنوعة فما الظن بمن له الجمال كله والكمال كله والإحسان والإجمال ونسبة كل جمال في الوجود إلى جماله وجلاله أقل من نسبة سراج ضعيف إلى عين الشمس ولما علم سبحانه أن قوى البشر لا تحتمل في هذه الدار رؤيته احتجب عن عباده إلى يوم القيامة فينشئهم نشأة يتمكنون بها من مشاهدة جمال ورؤية وجهه وأنت ترى بعض آياته ومخلوقاته ومبدعاته كيف يفنى فيها مشاهدها عن غيرها ولكن هذا كله في المشاهدات العيانية والواردات الوجدانية وأما المعارف الإلهية فإن حالة البقاء فيها أكمل من حالة الفناء وهي حالة نبينا صلوات الله وسلامه عليه وحال الكمل من أتباعه ولهذا رأى ما رأى ليلة الإسراء وهو ثابت القلب رابط الجأش حاضر الإدراك تام التمييز ولو رأى غيره بعض ذلك لما تمالك فإن قلت ربما أفهم معنى فناء المعرفة في المعروف وفناء العيان في المعاين فما معنى فناء الطلب في الوجود حتى يكون هو الفناء حقا قلت متى فهمت الأمرين اللذين قبله فهمت معناه فإن الواجد لما ظفر بموجوده فني طلبه له واضمحل وهذا مشهود في الشاهد فإنك ترى طالب أمر مهم فإذا ظفرت يداه به وأدركه كيف يبرد طلبه ويفنى في وجوده لكن هذا محال في حق العارف فإن طلبه لا يفارقه بل إذا وجد اشتد طلبه فلا.(3/374)
يزال طالبا فكلما كان أوجد كان أطلب نعم الذي يفنى طلب حظه في طلب محبوبه وطلب مراضيه وليس بعد هذا غاية ولكن الذي يشير إليه القوم أن العبد يصل في منزلة المحبة والمعرفة والاستغراق في المشاهدة إلى حالة تستولي فيها عليه أنواع القرب وآثار الصفات بحيث يذهل لبه عن شعوره بطلبه وإرادته ومحبته وأيضاح ذلك أن العبد إذا أقبل على ربه وتفقد أحواله وتمكن من شهود قيام ربه عليه فإنه يكون في أول أمره مكابدا وصابرا ومرابطا فإذا صبر وصابر ورابط صبر في نفسه وصابر عدوه ورابط على ثغر قلبه أن يدخل فيه خاطر لا يحبه وليه الحق ظهر حينئذ في قلبه نور من إقباله على ربه فإذا قوي ذلك النور غيبه عن وجوده الذهني وسري به في مطاوي الغيب فحينئذ يصفو له إقباله على ربه فإذا صفا له ذلك غاب عن وجوده العيني والذهني فغاب بنور إقباله على ربه بوصول خالص الذكر وصافيه إلى قلبه حيث خلا من كل شاغل من الوجود العيني والذهني وصار واحدا لواحد فيستولي نور المراقبة على أجزاء باطنه فيمتلئ قلبه من نور التوجه بحيث يغمر قلبه ويستره عما سواه ثم يسري ذلك النور من باطنه فيعم أجزاء ظاهره فيتشابه الظاهر والباطن فيه وحينئذ يفنى العبد عما سواه ويبقى بالمشهد الروحي الذاتي الموجب للمحبة الخاصة الملهبة للروح فمنهم من يضعف لقلة الوارد فلا يمكنه أن يتسع لغير ما باشر سره وقلبه من آثار الحب الخاص ومنهم من يقوى ويتسع نظره فيجد آثار الجلال والجمال المقدس في قلبه وروحه ويجد العبودية والمحبة والدعاء والافتقار والتوكل والخوف والرجاء وسائر الأعمال القلبية قائمة بقلبه لا تشغله عن مشهد الروح ولا تستغرق مشهد الروح عنه ويجد ملاحظته للأوامر والنواهي حاضرا في جذر قلبه حيث نزلت الأمانة فلا يشغله مشهد الروح المستغرق ولا مشهد القلب عن ملاحظة مراضي الرب تعالى ومحابه وحقه على عبده ويجد ترك التدبير والاختيار.(3/375)
وصحة التفويض موجودا في محل نفسه فيعامل الله سبحانه بذلك بحيث لا تشغله مشاهدة الأولى عنه ويقوم بملاحظة عقله لأسرار حكمة الله في خلقه وأمره ولا يحجبه ذلك كله عن ملاحظة عبوديته فيبقى مغمور الروح بملاحظة الفردانية وجلالها وكمالها وجمالها قد استغرقته محبته والشوق إليه معمور القلب بعبادات القلوب معمور القلب بملاحظة الحكمة ومعاني الخطاب طاهر القلب عن سفساف الأخلاق مع الله تعالى ومع الخلق قد صار عبدا محضا لربه بروحه وقلبه وعقله ونفسه وبدنه وجوارحه قد قام كل بما عليه من العبودية بحيث لا تحجبه عبودية بعضه عن عبودية البعض الآخر قد فنى عن نفسه وبقي بريه كما قال أبو بكر الكتاني جرت مسألة بمكة أيام الموسم في المحبة فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا له هات ما عندك يا عراقي فأطرق ساعة ودمعت عيناه ثم قال عبد ذاهب عن نفسه ومتصل بذكر ربه قائم بأداء حقوقه ناظر إليه بقلبه أحرق قلبه أنوار هيبته وصفا شربه من كأس وده وانكشف له الجبار من أستار غيبه فإن تكلم فبالله وإن نطق فعن الله وإن عمل فبأمر الله وإن سكن فمع الله فهو لله وبالله ومع الله فبكى الشيوخ وقالوا ما على هذا مزيد جبرك الله يا تاج العارفين.
فصل قال الشيخ الدرجة الثانية فناء شهود الطلب لإسقاطه وفناء شهود.
العلم لإسقاطه وفناء شهود العيان لإسقاطه إنما كانت هذه الدرجة من الفناء أعلى عنده مما قبلها لأنها أبلغ في الفناء من جهة فناء أربابها عن فنائهم فقد سقط عن قلوبهم ذكر أحوالهم ومقاماتهم لما هم فيه من الشغل بربهم وقوله لإسقاطه أي لإسقاط الشهود لا إسقاط المشهود فالطلب والعلم والعيان قائم وقد سقط الشهود لاستغراق صاحبه في المطلوب المعاين.(3/376)
فصل قال الدرجة الثالثة الفناء عن شهود الفناء وهو الفناء حقا.
شائما برق العين راكبا بحر الجمع سالكا سبيل البقاء الفرق بين الفناء في هذه الدرجة والتي قبلها أنه في التي قبلها قد فني عن شهود طلبه وعلمه وعيانه مع شعوره بفنائه عن ذلك وفي هذه الدرجة قد فني عن ذلك كله وفني عن شهود فنائه كما يقال آخر من يموت ملك الموت وإنما كان هذا الفناء عنده هو الفناء حقا لأنه قد فني فيه كل ما سوى الحق سبحانه لأن صاحبه يشهد الفناء قد فني فلم يبق سوى الواحد القهار وقوله شائما برق العين الشائم الناظر من بعد وبرق العين نور الحقيقة وقد تقدم التنبيه على استحالة تعلق هذا بالنور الخارجي وإنما هو أنوار القرب والمراقبة والحضور مع الله وقوله راكبا بحر الجمع الجمع الذي يشيرون إليه عبارة عن شخوص البصيرة إلى مجرد مصدر المتفرقات كلها كما سيأتي بيانه في بابه إن شاء الله تعالى وركوب لجة هذا الجمع هو فناؤه فيه قوله سالكا سبيل البقاء يعني أن من فنى فقد تأهل للبقاء بالحق وهذا البقاء هو بعد الفناء فإنه إذا تحقق بالفناء رفع له علم الحقيقة فشمر إليه سالكا في طريق البقاء وهي القيام بالأوراد وحفظ الواردات فحينئذ يرجى له الوصول.
فصل لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة والتابعين.
مدح لفظ الفناء ولا ذمه ولا استعملوا لفظه في هذا المعنى المشار إليه البتة ولا ذكره.(3/377)
مشايخ الطريق المتقدمون ولا جعلوه غاية ولا مقاما وقد كان القوم أحق بكل كمال وأسبق إلى كل غاية محمودة ونحن لا ننكر هذا اللفظ مطلقا ولا نقبله مطلقا ولا بد فيه من التفصيل وبيان صحيحه من معلوله ووسيلته من غايته فنقول وبالله التوفيق وهو الفتاح العليم حقيقة الفناء المشار إليه هو استهلاك الشيء في الوجود العلمي الذهني وههنا تقسمه أهل الاستقامة وأهل الزيغ والإلحاد فزعم أهل الاتحاد القائلون بوحدة الوجود أن الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوى فلا يثبت للسوى وجود ألبتة لا في الشهود ولا في العيان بل يتحقق بشهود وحدة الوجود فيعلم حينئذ أن وجود جميع الموجودات هو عين وجود الحق فما ثم وجودان بل الموجود واحد وحقيقة الفناء عندهم أن يفنى عما لا حقيقة له بل هو وهم وخيال فيفنى عما هو فان في نفسه لا وجود له فيشهد فناء وجود كل ما سواه في وجوده وهذا تعبير محض وإلا ففي الحقيقة ليس عند القوم سوى ولا غير وإنما السوي والغير في الوهم والخيال فحول هذا الفناء يدندنون وعليه يحومون وأما أهل التوحيد والاستقامة فيشيرون بالفناء إلى أمرين أحدهما أرفع من الآخر الأمر الأول الفناء في شهود الربوبية والقيومية فيشهد تفرد الرب تعالى بالقيومية والتدبير والخلق والرزق والعطاء والمنع والضر والنفع وأن جميع الموجودات منفعلة لا فاعلة وماله منها فعل فهو منفعل في فعله محل محض.(3/378)
لجريان أحكام الربوبية عليه لا يملك شيئا منها لنفسه ولا لغيره فلا يملك ضرا ولا نفعا فإذا تحقق العبد بهذا المشهد خمدت منه الخواطر والإرادات نظرا إلى القيوم الذي بيده تدبير الأمور وشخوصا منه إلى مشيئته وحكمته فهو ناظر منه به إليه فإن بشهوده عن شهود ما سواه ومع هذا فهو ساع في طلب الوصول إليه قائما بالواجبات والنوافل الأمر الثاني الفناء في مشهد الإلهية وحقيقته الفناء عن إرادة ما سوى الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجائه فيفنى بحبه عن حب ما سواه وبخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه وحقيقة هذا الفناء إفراد الرب سبحانه بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والإجلال ونحن نشير إلى مبادئ ذلك توسطه وغايته فنقول اعلم أن القلب إذا خلى من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رياسة أو صورة وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العدة والتأهب للقدوم على الله عز وجل فذلك أول فتوحه وتباشير فجره فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى به ربه منه فيفعله ويتقرب به إليه وما يسخطه منه فيجتنبه وهذا عنوان صدق إرادته فإن كل من أيقن بلقاء الله وأنه سائله عن كلمتين يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين لا بد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصلة إليه فإذا تمكن في ذلك فتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات فلا شيء أشوق إليه من ذلك فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه وتشت قلبه فيأنس بها ويستوحش من الخلق ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات بحيث إنه إذا دخل في الصلاة ود أن لا يخرج منها ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله.(3/379)
فلا يشبع منه وإذا سمعه هدأ قلبه به كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد المحبة له ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به وجلاله وكمال نعوته وصفاته وحكمته ومعاني خطابه بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه ويحس بقلبه وقد دخل في عالم آخر غير ما الناس فيه ثم يفتح له باب الحياء من الله وهو أول شواهد المعرفة وهو نور يقع في القلب يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه عز وجل فيستحي منه في خلواته وجلواته ويرزق عند ذلك دوام المراقة للرقيب ودوام التطلع إلى حضرة العلي الأعلى حتى كأنه يراه ويشاهده فوق سمواته مستويا على عرشه ناظرا إلى خلقه سامعا لأصواتهم مشاهدا لبواطنهم فإذا استولى عليه هذا الشاهد غطى عليه كثيرا من الهموم بالدنيا وما فيها فهو في وجود والناس في وجود آخر هو في وجود بين يدي ربه ووليه ناظرا إليه بقلبه والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا فهو يراهم وهم لا يرونه ولا يرون منه إلا ما يناسب عالمهم ووجودهم ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده فيشهده مالك الضر والنفع والخلق والرزق والإحياء والإماتة فيتخذه وحده وكيلا ويرضى به ربا ومدبرا وكافيا وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه وصفات كماله ونعوت جلاله فلا يحجبه خلقه عنه سبحانه بل يناديه كل من المخلوقات بلسان حاله اسمع شهادتي لمن أحسن كل شيء خلقه فأنا صنع الله الذي أتقن كل شيء فإذا استمر له ذلك فتح عليه باب القبض والبسط فيقبض عليه حتى يجد ألم القبض لقوة وارده ثم يقبض وعاءه بأنوار الوجود فيفنى عن وجوده وينمحي كما يمحو نور الشمس نور الكواكب ويطوي الكون عن قلبه بحيث لا يبقى.(3/380)
فيه إلا الله الواحد القهار وتفيض أنوار المعرفة والمعاملة والصدق والإخلاص والمحبة من قلبه كما يفيض نور الشمس عن جرمها فيغرق حينئذ في الأنوار كما يغرق راكب البحر في البحر وذلك إنما يكون في الرياضة والمجاهدة وزوال أحكام الطبيعة وطول الوقوف في الباب وهذا هو من علم اليقين لا من عين اليقين ولا من حق اليقين إذ لا سبيل إليهما في الدار فإن عين اليقين مشاهدة وحق اليقين مباشرة نعم قد يكون حق اليقين في هذه الدنيا بالنسبة إلى الوجود الذهني وما يقوم بالقلوب فقط ليس إلا كما تقدم تقريره مرارا ونحن لا تأخذنا في ذلك لومة لائم وهم لا تأخذهم في كون ذلك في العيان لومة لائم وهم عندنا صادقون ملبوس عليهم ونحن عندهم محجوبون عن ذلك غير واصلين إليه فإن استمر على حاله واقفا بباب مولاه لا يلتفت عنه يمينا ولا شمالا ولا يجيب غير من يدعوه إليه ويعلم أن الأمر وراء ذلك وأنه لم يصل بعد ومتى توهم أنه قد وصل انقطع عنه المزيد رجى أن يفتح له فتح آخر هو فوق ما كان فيه مستغرقا قلبه في أنوار مشاهدة الجلال بعد ظهور أنوار الوجود الحق ومحو وجوده هو ولا يتوهم أن وجود صفاته وذاته تبطل بل الذي يبطل هو وجوده النفساني الطبعي ويبقى له وجود قلبي روحاني ملكي فيبقى قلبه سابحا في بحر من أنوار آثار الجلال فتنبع الأنوار من باطنه كما ينبع الماء من العين حتى يجد الملكوت الأعلى كأنه في باطنه وقلبه ويجد قلبه عاليا على ذلك كله صاعدا إلى من ليس فوقه شيء ثم يرقيه الله سبحانه فيشهده أنوار الإكرام بعد ما شهد أنوار الجلال فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال وفي هذا المشهد يذوق المحبة الخاصة الملهبة للأرواح والقلوب فيبقى القلب مأسورا في يد حبيبه ووليه ممتحنا بحبه وإن شئت أن تفهم ذلك تقريبا فانظر إليك وإلى غيرك وقد امتحنت بصورة بديعة الجمال ظاهرا وباطنا فملكت عليك.(3/381)
قلبك وفكرك وليلك ونهارك فيحصل لك نار من المحبة فتضرم في أحشائك يعز معها الاصطبار وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فياله من قلب ممتحن مغمور مستغرق بما ظهر له من اشعة أنوار الجمال الأحدى والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى من المال والصور والرياسة معذبون بذلك قبل حصوله وحال حصوله وبعد حصوله وأعلاهم مرتبة من يكون مفتونا بالحور العين أو عاملا على تمتعه في الجنة بالأكل والشرب واللباس والنكاح وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على أهل المقامات ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق لعلو درجته وقرب منزلته من حبيبه ومعيته معه فإن المرء مع من أحب ولكل عمل جزاء وجزاء المحبة المحبة والوصول والاصطناع والقرب فهذا هو الذي يصلح وكفى بذلك شرفا وفخرا في عاجل الدنيا فما ظنك بمقاماتهم العالية عند مليك مقتدر فكيف إذا رأيتهم في موقف القيامة وقد أسمعهم المنادي لينطلق كل قوم مع ما كانوا يعبدون فيبقون في مكانهم ينتظرون معبودهم وحبيبهم الذي هو أحب شيء إليهم حتى يأتيهم فينظرون إليه ويتجلى لهم ضاحكا والمقصود أن هذا العبد لا يزال الله يرقيه طبقا بعد طبق ومنزلا بعد منزل إلى أن يوصله إليه ويمكن له بين يديه أو يموت في الطريق فيقع أجره على الله فالسعيد كل السعيد والموفق كل الموفق من لم يلتفت عن ربه تبارك وتعالى يمينا ولا شمالا ولا اتخذ سواه ربا ولا وكيلا ولا حبيبا ولا مدبرا ولا حكما ولا ناصرا ولا رازقا وجميع ما تقدم من مراتب الوصول إنما هي شواهد وامثلة إذا تجلت له الحقائق في الغيب بحسب استعداده ولطفه ورقته من حيث لا يراها ظهر من تجليها شاهد في قلبه وذلك الشاهد دال عليها ليس هو عينها فإن نور الجلال في القلب ليس هو نور ذي الجلال في الخارج فإن ذلك لا تقوم له السماوات.(3/382)
والأرض ولو ظهر للوجود لتدكدك لكنه شاهد دال على ذلك كما أن المثل الأعلى شاهد دال على الذات والحق وراء ذلك كله منزه عن حلول واتحاد وممازجة لخلقه وإنما تلك رقائق وشواهد تقوم بقلب العارف تدل على قرب الالطاف منه في عالم الغيب حيث يراها وإذا فني فانما يفنى بحال نفسه لا بالله ولا فيه وإذا بقي فإنما يبقى بحاله هو ووصفه لا ببقاء ربه وصفاته ولا يبقى بالله إلا الله ومع ذلك فالوصول حق يجد الواصل آثار تجلي الصفات في قلبه وآثار تجلي الحق في قلبه ويوقف القلب فوق الأكوان كلها بين يدي الرب تعالى وهو على عرشه ومن هناك يكاشف بآثار الجلال والإكرام فيجد العرش والكرسي تحت مشهد قلبه حكما وليس الذي يجده تحت قلبه حقيقة العرش والكرسي بل شاهد ومثال علمي يدل على قرب قلبه من ربه وقرب ربه من قلبه وبين الذوقين تفاوت فإذا قرب الرب تعالى من قلب عبده بقيت الأكوان كلها تحت مشهد قلبه وحينئذ يطلع في أفقه شمس التوحيد فينقشع بها ضباب وجوده ويضمحل ويتلاشى وذاته وحقيقته موجودة بائنة عن ربه وربه بائن عنه فحينئذ يغيب العبد عن نفسه ويفنى وفي الحقيقة هو باق غير فان ولكنه ليس في سره غير الله قد فنى فيه عن كل ما سواه نعم قد يتفق له في هذه الحالة أن لا يجد شيئا غير الله فذلك لاستغراق قلبه في مشهوده وموجوده ولو كان ذلك في نفس الأمر لكان العبد في هذه الحال خالقا بارئا مصورا أزليا أبديا فعليك بهذا الفرقان واحذر فريقين هما أعدى عدو لهذا الشأن فريق الجهمية المعطلة التي ليس عندها فوق العرش إلا العدم المحض فشم رائحة هذا المقام من أبعد الأمكنة حرام عليها وفريق أهل الاتحاد القائلين بوحدة الوجود وأن العبد ينتهي في هذا السفر إلى أن يشهد وجوده هو عين وجود الحق جل جلاله وعيشك بجهلك خير من معرفة هاتين الطائفتين وانقطاعك مع الشهوات خيرك معهما والله المستعان وعليه التكلان.(3/383)
فصل قال الشيخ باب البقاء
قال الله عز وجل {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. البقاء الذي يشير إليه القوم هو صفة العبد ومقامه والبقاء في الآية هو بقاء الرب ودوام وجوده وإنما ذكره مؤمنو السحرة في هذا المكان لأن عدو الله فرعون توعدهم على الإيمان بإتلاف حياتهم وإفناء ذواتهم فقالوا له وإن فعلت ذلك فالذي آمنا به وانتقلنا من عبوديتك إلى عبوديته ومن طلب رضاك والمنزلة عندك إلى طلب رضاه والمنزلة عنده خير منك وأدوم وعذابك ونعيمك ينقطع ويفرغ وعذابه هو ونعيمه وكرامته لا تنقطع ولا تبيد فكيف نؤثر المنقطع الفاني الأدنى على الباقي المستمر الأعلى ولكن وجه الإشارة بالآية أن الوسائل والتعلقات والمحبة والإرادة تابعة لغاياتها ومحبوبها ومرادها فمن كانت غاية محبته وإرادته منقطعة انقطع تعلقه عند انقطاعها وذهب عمله وسعيه واضمحل ومن كان مطلوبه وغايته باقيا دائما لا زوال له ولا فناء ولا يضمحل ولا يتلاشى دام تعلقه ونعيمه به بدوامه فالوسائل تابعة للغايات والتعلقات تابعة لمتعلقاتها والمحبة تابعة للمحبوب فليس المحبوب الذي يتلاشى ويضمحل ويفنى كالمحبوب الذي كل شيء هالك إلا وجهه فالمحب باق ببقاء محبوبه يشرف بشرفه ويعظم خطره بحسب محبوبه ويستغنى بغناه ويقوى بقوته ويعز بعزه ويعظم شأنه في النفوس بخدمته وإرادته ومحبته تالله لولا حجاب الغفلة والعوائد والهوى والمخالفات لذاق القلب أعظم الألم بتعلقه بغير الحبيب الأول ولذاق أعظم اللذة والسرور بتعلقه به فالله المستعان.
فصل قال الشيخ البقاء اسم لما بقي قائما بعد فناء الشواهد وسقوطها.
له في هذه العبارة تسامح وأرباب هذا الشأن همهم المعاني فهم يسامحون في العبارات مالا يسامح فيه غيرهم.(3/384)
فالبقاء هو الدوام واستمرار الوجود وهو نوعان مقيد ومطلق فالمقيد البقاء إلى مدة والمطلق الدائم المستمر لا إلى غاية والبقاء أوضح من هذا الحد الذي ذكره ولكن لما كان مراده البقاء الذي هو صفة العبد ومقامه قال هو اسم لما بقي بعد فناء الشواهد وهذا عام في سائر أنواع ما بقي العبد متصفا به بعد فناء الأدلة والآثار التي دلت على الحقيقة والشواهد عنده هي الرسوم كلها وربما يراد بها معالم الشهود وهو الذي عناه فيما تقدم فإذا جعلت الشواهد ههنا معالم الشهود كان المعنى أن المعالم توصل إلى الشهود ويبقى الشهود قائما بعد فناء معالمه وحقيقة الأمر أن الحق سبحانه يفنيهم عما سواه ويبقيهم به وما سواه هو المعالم والرسوم قال وهو على ثلاث درجات بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عينا لا علما وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا لا نعتا وبقاء مالم يزل حقا بإسقاط مالم يكن محوا قلت أما بقاء المعلوم بعد سقوط العلم فقد يظهر في بادي الأمر امتناعه إذ كونه معلوما مع سقوط العلم به جمع بين النقيضين وكأنه معلوم غير معلوم فإن المعلوم لا يكون معلوما إلا بالعلم فكيف يكون معلوما مع سقوطه وجواب هذا أن هنا أمرين أحدهما وجود صورة المعلوم في قلب العالم وإدراكه لها وشعوره بها والثاني علمه بعلمه وشعوره وهو أمر وراء حضور تلك الصورة وهذا في سائر المدارك فقد يدى الرائي الشيء ويسمعه ويشمه ويغيب عن علمه وشعوره بصفة نفسه التي هي إدراكه فيغيب بمدركه عن إدراكه وبمعلومه عن علمه وبمرئيه عن رؤيته فإن قلت أوضح لي هذا لينجلي فهمه.(3/385)
فاعلم أن ههنا قوة مدركة له إذا تعلقت به صار معلوما مدركا فتولد من بين هذين الأمر حالة ثالثة تسمى الشعور والعلم والإدراك مثال ذلك ما يدركه بحاسة الذوق والشم فإنه لا بد من وجود المدرك المذوق المشموم ولا بد من قوة في الآلة والمحل المخصوص تقابل المدرك وتتعلق به فيتولد من بين الأمرين كيفية الشم والذوق وكذلك في الملموس والمسموع والمرئي فتمام الإدراك أن يحيط علما بهذه الأمور الثلاثة فيشعر بالمدرك وبالقوة المدركة وبحالة الإدراك فإذا استغرق القلب في شهوده المعلوم غاب به عن شهود القوة التي بها يعلم وعن حالة العلم ومثل هذا برجل أدرك بلمسه ما التذ به أعظم لذة حصلت له فاستغرقته تلك اللذة عما سواها فأسقطت شعوره بها دون وجودها ولهذا قال الشيخ بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عيانا لا علما فعيانا حال من البقاء لا من السقوط أي بقاؤه وجودا لا نعتا فإنه في مرتبة العلم باق نعتا ووصفا وفي هذه المرتبة باق وجودا وعيانا لا علما مجردا وهذا وجه ثان في كلامه أنه يبقى وجوده وعينه لا مجرد العلم به فالعلم به لم يعدم ولكن انتقل العبد من وجود العلم إلى وجود المعلوم وكذلك قوله في الدرجة الثانية وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا لا نعتا الشهود فوق العلم لأنه علم عيان فينتقل من مجرد الشهود إلى الوجود فيبقى المشهود موجودا له بعد أن كان مشهودا ومرتبة الوجود فوق مرتبة الشهود فإن الوجود حصول ذاتي والشهود حصول علمي وإن كان فوق العلم قوله في الدرجة الثالثة وبقاء من لم يزل حقا بإسقاط ما لم يكن محوا أي يغلب على القلب سلطان الحقيقة ونور الجمع حتى ينطمس من قلبه أثر المخلوقات.(3/386)
كما ينطمس نور الكواكب بطلوع الشمس ويبقى فيه تعظيم من لم يزل وذكره وحبه والاشتغال به لا بغيره فالدرجة الأولى بقاء في مرتبة العلم والثانية بقاء في مرتبة الشهود والثالثة بقاء في مرتبة الوجود فهذا وجه ويمكن شرح كلامه على وجه آخر وهو أن المعلوم يسقط شهود العلم فالعلم يسقط والمعلوم يثبت فالعبد إذا بقي بعد الفناء سقط علمه في مشهد عيانه بحيث تبقى مرتبة العلم عيانا فيسقط العلم بالعيان بحيث يصير عينا لا علما فإذا نظرت إلى العلم باعتبار العين وهي حضرة الجمع سقط العلم فإذا نظرت إليه باعتبار الفرق لم يسقط فسقوطه في حضرة الجمع وثبوته في مقام الفرق قوله وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا يعني بقاء الحق الذي هو المشهود بعد سقوط الشهود الذي هو المخلوق كان المشهود صفة المشاهد والمشاهد وصفاته مخلوق ومشهوده سبحانه غير مخلوق كما أن علمه وذكره ومعرفته مخلوقة والمعلوم المذكور المعروف سبحانه غير مخلوق وإذا كان الموصوف قد فني وصفاته تابعة له في الفناء فيفنى شهوده ويبقى مشهوده قوله وجودا لا نعتا أي سقط وجود شهوده لا نعته والإخبار عنه قوله وبقاء ما لم يزل حقا بإسقاط مالم يكن محوا يوضح المراد من الدرجتين اللتين قبل ومعناه بقاء الحق وفناء المخلوق والحق سبحانه لم يزل باقيا فلم يتجدد له البقاء والفناء المتعلق بالمخلوق فناؤهم في شهود المشاهد ومحو رسومهم من قلبه بالكلية لا فناؤهم في الخارج وحاصل ذلك أن يفنى من قلبك إرادة السوى وشهوده والالتفات إليه ويبقى فيه إرادة الحق وحده وشهوده والالتفات بالكلية إليه والإقبال بجمعيتك عليه فحول هذا يدندن العارفون وإليه يشمر السالكون وإن وسعوا له العبارات وصرفوا إليه القول والله أعلم.(3/387)
فصل قال باب التحقيق
قال الله تعالى {أو أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} التحقيق تلخيص مصحوبك من الحق ثم بالحق ثم في الحق وهذه أسماء درجاته الثلاث وجه تعلقه بإشارة الآية إن إبراهيم طلب الانتقال من الإيمان بالعلم بإحياء الله الموتى إلى رؤية تحقيقه عيانا فطلب بعد حصول العلم الذهني تحقيق الوجود الخارجي فإن ذلك أبلغ في طمأنينة القلب ولما كان بين العلم والعيان منزلة أخرى قال النبي صلى اله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم : "نحن أحق بالشك من إبراهيم" إذ قال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} وإبراهيم لم يشك ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشك ولكن أوقع اسم الشك على المرتبة العلمية باعتبار التفاوت الذي بينها وبين مرتبة العيان في الخارج وباعتبار هذه المرتبة سمي العلم اليقيني قبل مشاهدة معلومه ظنا قال تعالى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون وقال تعالى {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} وهذا الظن علم جازم كما قال تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} لكم بين الخبر والعيان فرق وفي المسند مرفوعا ليس الخبر كالعيان ولهذا لما أخبر الله موسى أنه قد فتن قومه وأن السامري أضلهم لم يحصل له من الغضب والكيفية وإلقاء الألواح ما حصل له عند مشاهدة ذلك إذا عرف هذا فقوله التحقيق تلخيص مصحوبك من الحق ههنا أربعة ألفاظ بتفسيرها يفهم مراده إن شاء الله أحدها لفظ التحقيق وهو تفعيل من حقق الشيء تحقيقا فهو مصدر فعله حقق الشيء أي أثبته وخلصه من غيره الثانية لفظ التلخيص ومعناه تخليص الشيء من غيره فخلصه ولخصه.(3/388)
يشتركان لفظا ومعنى وإن كان التلخيص أغلب على ما في الذهن والتخليص أغلب على ما في الخارج فالتلخيص تلخيص الشيء في الذهن بحيث لا يدخل فيه غيره والتخليص إفراده في الخارج عن غيره الثالث المصحوب وهو ما يصحب الإنسان في قصده ومعرفته من معلوم ومراد الرابع الحق وهو الله سبحانه وما كان موصلا إليه مدنيا للعبد من رضاه إذا عرف هذا فمصحوب العبد من الحق هو معرفته ومحبته وإراده وجهه الكريم وما يستعين به على الوصول إليه وما هو محتاج إليه في سلوكه فالتحقيق هو تخليصه من المفسدات القاطعة عنه الحائلة بين القلب وبين الموصل إليه وتحصينه من المخالطات وتخليصه من المشوشات فإن تلك قواطع له عن مصحوبه الحق وهي نوعان لا ثالث لهما عوارض محبوبة وعوارض مكروهة فصاحب مقام التحقيق لا يقف مع العوارض المحبوبة فإنها تقطعه عن مصحوبه ومحبوبه ولا مع العوارض المكروهة فإنها قواطع أيضا ويتغافل عنها ما أمكنه فإنها تمر بالمكاثرة والتغافل مرا سريعا لا يوسع دوائرها فإنه كلما وسعها اتسعت ووجدت مجالا فسيحا فصالت فيه وجالت ولو ضيقها بالإعراض عنها والتغافل لاضمحلت وتلاشت فصاحب مقام التحقيق ينساها ويطمس آثارها ويعلم أنها جاءت بحكم المقادير في دار المحن والآفات قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مرة العوارض والمحن هي كالحر والبرد فإذا علم العبد أنه لا بد منهما لم يغضب لورودهما ولم يغتم لذلك ولم يحزن فإذا صبر العبد على هذه العوارض ولم ينقطع بها رجى له أن يصل إلى مقام التحقيق فيبقى مع مصحوبه الحق وحده فتهذب نفسه وتطمئن مع الله وتنفطم عن عوائد السوء حتى تغمر محبة الله قلبه وروحه وتعود جوارحه متابعة.(3/389)
للأوامر فيحس قلبه حينئذ بأن معية الله معه وتوليه له فيبقى في حركاته وسكناته بالله لا بنفسه وترد على قلبه التعريفات الإلهية وذلك إنما يكون في منزل البقاء بعد الفناء والظفر بالمحبة الخاصة ويشهد الإلهية والقيومية والفردانية فإن على هذه المشاهد الثلاثة مدار المعرفة والوصول والمقصود أن صاحب مقام التحقيق يعرف الحق ويميز بينه وبين الباطل فيمسك بالحق ويلغي الباطل فهذه مرتبة ثم يتبين له أن ذلك ليس به بل بالله وحده فيبرأ حينئذ من حوله وقوته ويعلم أن ذلك بالحق ثم يتمكن في ذلك المقام ويرسخ فيه قلبه فيصير تحقيقه بالله وفي الله ففي الأول يخلص له مطلوبه من غيره ويتجرد له من سواه وفي الثاني يخلص له إضافته إلى غيره وأن يكون سواه سبحانه وفي الثالث تجرد له شهوده وقصوره بحيث صارت في مطلوبه فالأول سفر إلى الله والثاني سفر بالله والثالث سفر في الله وإن أشكل عليك معنى السفر فيه والفرق بينه وبين السفر إليه ففرق بين حال العابد الزاهد السائر إلى الله الذي لم يفتح له في الأسماء والصفات والمعرفة الخاصة وبين حال العارف الذي قد كشف له في معرفة الاسماء والصفات والصفات والفقه فيها ما حجب عن غيره قوله أما الدرجة الأولى وهي تخليص مصحوبك من الحق فإن لا يخالج علمك علمه يعني أنك كنت تنسب العلم إلى نفسك قبل وصولك إلى مقام التحقيق ففي حالة التحقيق تعود نسبته إلى معلمه ومعطيه الحق ولعل هذا معنى قول الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذ جمعهم الرب تبارك وتعالى وقال { مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} قيل قالوه تأدبا معه سبحانه إذ ردوا العلم إليه وقيل معناه لا علم لنا بحقيقة الباطن وإنما أجابنا من أجابنا ظاهرا والباطن غيب وأنت علام الغيوب.(3/390)
والتحقيق إن شاء الله أن علومهم تلاشت في علمه سبحانه واضمحلت فصارت بالنسبة إليه كلا علم فردوا العلم كله إلى وليه وأهله ومن هو أولى به فعلومهم وعلوم الخلائق جميعهم في جنب علمه تعالى كنقرة عصفور في بحر من بحار العالم والمخالجة المنازعة قوله وأما الدرجة الثانية فأن لا ينازع شهودك شهوده هذا قريب من المعنى الأول والمعنى أن الشهود الذي كنت تنسبه إلى نفسك قبل الفناء تصير بعد تنسبه إليه سبحانه لا إليك قوله الدرجة الثالثة أن لا يناسم رسمك سبقه الرسم عندهم هو الشخص وهو محدث مخلوق والرب تعالى هو القديم الخالق فإذا تحقق العبد بالحقيقة شهد الحق وحده منفردا عن خلقه فلم يناسم رسمه سبق الحق وأوليته والمناسمة كالمشامة يقال ناسمه أي شامه فاستعار الشيخ اللفظة لأدنى المقاربة والملابسة أي لا يداني رسمك سبقه ولو بأدنى مناسمة بل تشهد الحق وحده منفردا عن كل ما سواه وهم يشيرون بذلك إلى أمر وهو أن الله سبحانه كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان فأما اللفظ الأول وهو كان الله ولا شيء معه فهذا قد روي في الصحيح في بعض ألفاظ حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وإن كان اللفظ الثابت" كان الله ولم يكن شيء قبله" وهو المطابق لقوله في الحديث الآخر الصحيح" أنت الأول فليس قبلك شيء "ولم يقل فليس معك شيء وأما قوله وهو الآن على ما كان عليه فزيادة في الحديث ليست منه بل زادها بعض المتحذلقين وهي باطلة قطعا فإن الله مع خلقه بالعلم والتدبير والقدرة ومع أوليائه بالحفظ والكلاءة والنصرة وهم معه بالموافقة والمحبة وصارت هذه اللفظة مجنا وترسا للملاحدة من الاتحادية فقالوا إنه لا وجود.(3/391)
سوى وجوده أزلا وأبدا وحالا فليس في الوجود إلا الله وحده وكل ما تراه وتلمسه وتذوقه وتشمه وتباشره فهو حقيقة الله تعالى الله عن إفكهم علوا كبيرا وأما أهل التوحيد فقد يطلقون هذه اللفظة ويريدون بها لفظا صحيحا وهو أن الله سبحانه لم يزل منفردا بنفسه عن خلقه ليس مخالطا لهم ولا حالا فيهم ولا ممازجا لهم بل هو بائن عنهم بذاته وصفاته وأما الشيخ وأرباب الفناء فقد يعنون معنى آخر أخص من ذلك وهو المشار إليه بقوله لا يناسم رسمك سبقه أي لا ترى أنك معه بل تراه وحده ولهذا قال فتسقط الشهادات وتبطل العبارات وتفنى الإشارات يعني أنك إذا لم تشهد معه غيره وأسقطت الغير من الشهود لا من الوجود بخلاف ما يقول الملحد الاتحادي إنك تسقط الغير شهودا ووجودا سقطت الشهادات والعبارات والإشارات لإنها صفات العبد المحدث المخلوق والفناء يوجب إسقاطها والمعنى أن الواصل إلى هذا المقام لا يرى مع الحق سواه فيمحو السوى في شهوده وعند الملحد يمحوه من الوجود والله أعلم وهو الموفق.(3/392)
فصل قال باب التلبيس
قال الله تعالى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}.
ليته لم يستشهد بهذه الآية في هذا الباب فإن الاستشهاد بها على مقصوده أبعد شاهد عليه وأبطله شهاده وليته لم يسم هذا الباب بالتلبيس واختار له اسما أحسن منه موقعا فأما الآية فإن معناها غير ما عقد له الباب من كل وجه فإن المشركين قالوا تعنتا في كفرهم {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَك} يعنون ملكا نشاهده ونراه يشهد له ويصدقه وإلا فالملك كان ينزل عليه بالوحي من الله فأجاب الله تعالى عن هذا وبين الحكمة في عدم إنزال الملك على الوجه الذي اقترحوه بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا ولم يؤمنوا ويصدقوه لعوجلوا بالعذاب.(3/392)
كما جرت واستمرت به سنته تعالى مع الكفار في آيات الاقتراح إذا جاءتهم ولم يؤمنوا بها فقال {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} ثم بين سبحانه أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لما حصل به مقصودهم لأنه إن أنزله في صورته لم يقدروا على التلقي عنه إذ البشر لا يقدرون على مخاطبة الملك ومباشرته وقد كان النبي صلى اله عليه وسلم وهو أقوى الخلق إذا نزل عليه الملك كرب لذلك وأخذه البرحاء وتحدر منه العرق في اليوم الشاتي وإن جعله في صورة رجل حصل لهم لبس هل هو رجل أم ملك فقال تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} في هذه الحال ما يلبسون على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك فهذا معنى الآية فأين تجده مما عقد له الباب.
فصل قال التلبيس تورية بشاهد معار عن موجود قائم لما كانت التورية.
إظهار خلاف المراد بأن يذكر شيئا يوهم أنه مراده وليس هو بمراده بل وري بالمذكور عن المراد فسر التلبيس بها وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة وري بغيرها مثاله أن يريد غزو خيبر فيقول للناس كيف طريق نجد وما بها من المياه ونحو ذلك فههنا شيئآن أمر ستر الموري الملبس وأمر ستر ما وري عنه فاشار المصنف إلى الأمرين بقوله تورية شاهد معار عن موجود قائم فأما التورية فقد عرفتها وأما الشاهد فهو الذي تورى به عن مرادك وتستشهد به وأما المعار فهو الشاهد الذي استعير لغيره ليشهد له فهو شاهد استعير لمشهود قائم فالتورية أن تذكر ما يحتمل معنيين ومقصودك خلاف الذي يظهر منهما والتلبيس يشبه التعمية والتخليط ومنه قوله {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِل} والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/393)
فصل قال الشيخ وهو اسم لثلاثة معان أولها تلبيس الحق سبحانه بالكون.
على أهل التفرقة وهو تعليقه الكوائن بالأسباب والأماكن والأحايين وتعليقه المعارف بالوسائط والقضايا بالحجج والأحكام بالعلل والانتقام بالجنايات والمثوبة بالطاعات وأخفى الرضى والسخط اللذين يوجبان الفصل والوصل ويظهران الشقاوة والسعادة شيخ الإسلام حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عمله خير من علمه وصدق رحمه الله فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى وقد أخطأ في هذا الباب لفظا ومعنى أما اللفظ فتسميته فعل الله الذي هو حق وصواب وحكمة ورحمة وحكمه الذي هو عدل وإحسان وأمره الذي هو دينه وشرعه تلبيسا فمعاذ الله ثم معاذ الله من هذه التسمية ومعاذ الله من الرضى بها والإقرار عليها والذب عنها والانتصار لها ونحن نشهد بالله أن هذا تلبيس على شيخ الإسلام فالتلبيس وقع عليه ولا نقول وقع منه ولكنه صادق لبس عليه ولعل متعصبا له يقول أنتم لا تفهمون كلامه فنحن نبين مراده على وجهه إن شاء الله ثم نتبع ذلك بما له وعليه فقوله أولها تلبيس الحق بالكون على أهل التفرقة والحق ههنا المراد به الرب تعالى والكون اسم لكل ما سواه وأهل التفرقة ضد.(3/394)
أهل الجمع وسيأتي معنى الجمع عنده بعد هذا إن شاء الله فأهل التفرقة الذين لم يصلوا إلى مقام الجمع فأهل التفرقة عنده لبس عليهم الحق بالباطل فإنهم لبس عليهم الحق بالكون وهو الباطل وكل شيء ما خلا الله باطل وأهل التفرقة عندهم الذين غلب عليهم النظر إلى الأسباب حتى غفلوا عن المسبب ووقفوا معها دونه والتلبيس فعل من أفعال الرب تعالى وهو سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولذلك استدل على هذا المعنى بالآية وهي قوله تعالى { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ليعرفك أن هذا الفعل لا تمنع نسبته إلى الله كما لا تمنع نسبة الإضلال إليه ووجه هذا التلبيس أنه سبحانه أضاف الأفعال الصادرة عن محض قدرته ومشيئته إلى أسباب وأزمنة وأمكنة فلبس الحق سبحانه على أهل التفرقة حيث علق الكوائن وهي الأفعال بالأسباب فنسبها أهل التفرقة إلى أسبابها وعموا عن رؤية الحق سبحانه ففي الحقيقة لا فعل إلا لله وأهل التفرقة يجهلون ذلك ويقولون فعل فلان وفعل الماء وفعل الهواء وفعلت النار وكذلك تعليقه سبحانه المعارف بالوسائط وهي الأدلة السمعية والعقلية والفطرية وتعليقه المسموعات والمبصرات والملموسات بآلاتها وحواسها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس وهو سبحانه الخالق لتلك الإدراكات مقارنة لهذه الحواس وعندها لا بها ولا بقوى مودعة فيها وهو سبحانه قادر على خلق هذه المعارف بغير هذه الوسائط فحجب أهل التفرقة فهذه الوسائط عن إله قادر سبحانه حقيقة الذي لا فعل في الحقيقة إلا له فكأنه لبس على أهل التفرقة أي أضلهم بشهودهم الأسباب وغيبتهم بها عنه وكذلك القضايا وهي الوقائع بين العباد علقها بالحجج الموجبه لها فكل.(3/395)
قضاء وحكم لها بد له من حجة يستند إليها فيحجب صاحب التفرقة بتلك الحجة عن المصدر الأول الذي منه ابتداء كل شيء ويقف مع الحجة ولا ينظر إلى من حكم بها وجعلها مظهرا لنفوذ حكمه وقضائه وكذلك تعليقه الأحكام بالعلل وهي المعاني والمناسبات والحكم والمصالح التي من أجلها ثبتت الأحكام وهو سبحانه واضع تلك المعاني ومضيف الأحكام إليها وإنما هي في الحقيقة مضافة إليه سبحانه وكذلك ترتيبه الانتقام على الجنايات وربطه الثواب بالطاعات كل ذلك مضاف إليه سبحانه وحده لا إلى الجنايات ولا إلى الطاعات فإضافة ذلك إليها تلبيس على أهل التفرقة وموضع التلبيس في ذلك كله أن أهل التفرقة يظنون أنه لولا تلك الوسائط لما وجدت معرفة ولا وقعت قضية ولا كان حكم ولا ثواب ولا عقاب ولا انتقام وهذا تلبيس عليهم فإن هذه الأمور إنما أوجبها محض مشيئة الله الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فانطوى حكم تلك الوسائط والأسباب والعلل في بساط المشيئة الأزلية واضمحلت في عين الحكم الأزلي وصارت من جملة الكائنات التي هي منفعلة لا فاعلة ومطيعة لا مطاعة ومأمورة لا آمرة وخلق من خلقه لا واسطة بينه وبين خلقه فهي به لا بهم ولهذا عاذالعارفون به منه وهربوا منه إليه والتجأوا منه إليه وفروا منه إليه وتوكلوا به عليه وخافوه بما منه لا من غيره فشهدوا أوليته في كل شيء وتفرده في الصنع وأنه ما ثم ما يوجب من الأشياء إلا مشيئته وحده فمشيئته هي السبب في الحقيقة وما يشاهد أو يعلم من الأسباب فمحل ومجرى لنفوذ المشيئة لا أنه مؤثر وفاعل فالوسائط لا بد أن تنتهي إلى أول لامتناع التسلسل ولهذا قال النبي صلى اله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: "فمن أعدى الأول والله سبحانه قدر المقادير وكتب الآثار والأعمال والشقاء والسعادة والثواب والعقاب حيث لا واسطة هناك ولا سبب".(3/396)
ولا علة فأهل التفرقة وقفوا مع الوسائط وأهل الجمع نفذ بصرهم من الوسائط والأسباب إلى من أقامها وربط بها أحكامها قوله وأخفى الرضى والسخط الذين هما موضع الوصل والفصل يعني أنه سبحانه أخفى عن عباده ما سبق لهم عنده من سخطه على من سخط عليه ورضاه عمن رضي عنه الموجبين لوصل من وصله وقطع من قطعه ومراده أن هذا مع السبب الصحيح في نفس الأمر وهو رضاه وسخطه وإنما لبس سبحانه على أهل التفرقة الأمر بما ذكره من الجنايات والطاعات والعلل والحجج ولا سبب في الحقيقة إلا رضاه وسخطه وذلك لا علة له فالرضى هو الذي أوجب المثوبة لا الطاعة والسخط هو الذي أوجب العقوبة لا المعصية والمشيئة هي التي أوجبت الحكم لا الوسائط فأخفى الرب سبحانه ذلك عن خلقه وأظهر لهم أسبابا أخر علقوا بها الأحكام وذلك تلبيس من الحق عليهم فأهل التفرقة وقفوا مع هذا التلبيس وأهل الجمع صعدوا عنه وجاوزوه إلى مصدر الأشياء كلها وموجدها بمشيئته فقط فبالغ الشيخ في ذلك حتى جعل الرضى والسخط يظهران السعادة والشقاوة ولم يجعل الرضى والسخط مؤثرين فيهما وذلك لأن السعادة والشقاوة سبقت عنده سبقا محضا مستندا إلى محض المشيئة لا علة لهما والرضى والسخط أظهرا ما سبق به التقدير من السعادة والشقاوة فهذا أحسن ما يقال في شرح كلامه وتقريره وحمله على أحسن الوجوه وأجملها وأما ما فيه من التوحيد وانتهاء الأمور إلى مشيئة الرب جل جلاله وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فذلك عقد نظام الإيمان ومع ذلك فلا يكفي وحده إذ غايته تحقيق توحيد الربوبية الذي لا ينكره عباد الأصنام وإنما الشأن في أمر آخر وراء هذا هذا بابه والمدخل إليه والدليل عليه ومنه يوصل إليه وهو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب وعليه الثواب.(3/397)
والعقاب والشرائع كلها تفاصيله وحقوقه وهو توحيد الإلهية والعبادة وهو الذي لا سعادة للنفوس إلا بالقيام به علما وعملا وحالا وهو أن يكون الله وحده أحب إلى العبد من كل ما سواه وأخوف عنده من كل ما سواه وأرجى له من كل ما سواه فيعبده بمعاني الحب والخوف والرجاء بما يحبه هو ويرضاه وهو ما شرعه على لسان رسوله لا بما يريده العبد ويهواه وتلخيص ذلك في كلمتين إياك أريد بما تريد فالأولى توحيد وإخلاص والثانية اتباع للسنة وتحكيم للأمر والمقصود أن ما أشار إليه في هذا الباب غايته تقرير توحيد الأفعال وهو توحيد الربوبية وأما جعله ما نصبه من الأسباب في خلقه وأمره وأحكامه وثوابه وعقابه تلبيسا فتلبيس من النفس عليه وليس ذلك عند العارفين بالله ورسله وأسمائه وصفاته من التلبيس في شيء وإنما ذلك مظهر أسمائه وصفاته وحكمته ونعمته وقدرته وعزته إذ ظهور هذه الصفات والأسماء تستلزم محال وتعلقات تتعلق بها ويظهر فيها آثارها وهذا أمر ضروري للصفات والأسماء إذ العلم لا بد له من معلوم وصفة الخالقية والرازقية تستلزم وجود مخلوق ومرزوق وكذلك صفة الرحمة والإحسان والحلم والعفو والمغفرة والتجاوز تستلزم فكيف يكون تعليق الأحكام والثواب والعقاب بها تلبيسا وهل ذلك محال تتعلق بها ويظهر فيها آثارها فالأسباب والوسائط مظهر الخلق والأمر إلا حكمة بالغة باهرة وآيات ظاهرة وشواهد ناطقة بربوبية منشئها وكماله وثبوت أسمائه وصفاته فإن الكون كما هو محل الخلق والأمر ومظهر الأسماء.(3/399)
ولطفه في العود عليه بعد الإعراض عنه كما قال النبي صلى اله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم". فلمن كانت تكون مغفرته لو لم يخلق الأسباب التي يعفو عنها ويغفرها والعبد الذي له يغفر فخلق العبد المغفور له وتقدير الذنب الذي يغفر والتوبة التي يغفر بها هو نفس مقتضى العزة والحكمة وموجب الأسماء الحسنى والصفات العلا ليس من التلبيس في شيء فتعليق الكوائن بالأسباب كتعليق الثواب والعقاب بالأسباب ولهذا سوى صاحب المنازل بين الأمرين وهو محض الحكمة وموجب الكمال الإلهي ومقتضى الحمد التام ومظهر صفة العزة والقدرة والملك والشرائع كلها من أولها إلى آخرها مبنية على تعليق الأحكام بالعلل والقضايا بالحجج والثواب بالطاعة والعقوبات بالجرائم فهل يقال إن الشرائع كلها تلبيس بأي معنى فسر التلبيس ولعمر الله لقد كان في غنية عن هذا الباب وعن هذه التسمية ولقد أفسد الكتاب بذلك هذا ولا يجهل محل الرجل من العلم والسنة وطريق السلوك وآفته وعلله ولكن قصده تجريد توحيد الأفعال والربوبية قاده إلى ذلك وانضم إليه اعتقاده أن الفناء في هذا التوحيد هو غاية السلوك ونهاية العارفين وساعده اعتقاد كثير من المنتسبين إلى السنة الرادين على القدرية في الأسباب أنها لا تأثير لها البتة ولا فيها قوى ولا يفعل الله شيئا بشيء ولا شيئا لشيء فينكرون أن يكون في أفعاله باء سببية أو لام تعليل وما جاء من ذلك حملوا الباء فيه على باء المصاحبة واللام فيه على لام العاقبة وقالوا يفعل الله الإحراق والإغراق والإزهاق عند ملاقاة النار والماء والحديد لا بهما ولا بقوى فيهما ولا فرق في نفس.(3/400)
الأمر بين النار وبين الهواء والتراب والخشب وانضم إلى ذلك أن العبد ليس بفاعل أصلا وإنما هو منفعل محض ومحل جريان تصاريف الأحكام عليه وأن الفاعل فيه سواه والمحرك له غيره وإذا قيل إنه فاعل أو متحرك فهو تلبيس فهذه الأصول أوجبت هذا التلبيس على نفاة الحكم والأسباب وقابلهم آخرون فمزقوا لحومهم كل ممزق وفروا أديمهم وقالوا عطلتم الشرائع والثواب والعقاب وأبطلتم حقيقة الأمر والنهي فإن مبنى ذلك على أن العباد فاعلون حقيقة وأن أفعالهم منسوبة إليهم على الحقيقة وأن قدرهم وإرادتهم ودواعيهم مؤثرة في أفعالهم وأفعالهم واقعة بحسب دواعيهم وإرادتهم على ذلك قامت الشرائع والنبوات والثواب والعقاب والحدود والزواجر فطرة الله التي فطر الناس عليها والحيوان وسويتم بين ما فرق الله بينه فإن الله سبحانه ما سوى بين حركة المختار وحركة من تحرك قسرا بغير إرادة منه أبدا ولا سوى بين حركات الأشجار وحركات بني آدم ولا جعل الله سبحانه أفعال عباده وطاعتهم ومعاصيهم أفعالا له بل نسبها إليهم حقيقة وأخبر أنه هو الذي جعلهم فاعلين كما قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} وقال {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} وقال سادات العارفين به {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك} وقال إبراهيم خليله {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاة} فهو الذي جعل العبد كذلك والعبد هو الذي صلى وصام وأسلم وهو الفاعل حقيقة يجعل الله له فاعلا وهو السائر بتيسير الله له كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فهذا فعله والسير فعلهم والإقامة فعله والقيام فعلهم والإنطاق فعله والنطق فعلهم فكيف تجعل نسبة الأفعال إلى محالها القائمة بها وأسبابها المظهرة لها تلبيسا.(3/401)
ومعلوم أن طي بساط الأسباب والعلل تعطيل للأمر والنهي والشرائع والحكم وأما الوقوف مع الأسباب واعتقاد تأثيرها فلا نعلم من أتباع الرسل من قال إنها مستقلة بأنفسها حتى يحتاج إلى نفي هذا المذهب وإنما قالت طائفة من الناس وهم القدرية إن أفعال الحيوان خاصة غير مخلوقة لله ولا واقعة بمشيئة وهؤلاء هم الذين أطبق الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على دمهم وتبديعهم وتضليلهم وبين أئمة السنة أنهم أشباه المجوس وأنهم مخالفون العقول والفطر ونصوص الوحي فالتلبيس في الحقيقة حصل لهؤلاء ولمنكري الأسباب في القوى والطبائع والحكم ولبس على الفريقين الحق بالباطل والحق الذي بعث به الله رسله وأنزل به كتبه وفطر عليه عباده وأودعه في عقولهم بين مذهب هؤلاء وهؤلاء فالهدى بين الضلالتين والاستقامة بين الانحرافين والمقصود أن القرآن بل وسائر كتب الله تضمنت تعليق الكوائن بالأسباب والأماكن والأحايين وتعليق المعارف بالوسائط والقضايا بالحجج والأحكام بالعلل والانتقام بالجنايات والمثوبات بالطاعات فإن كان هذا تلبيسا عاد الوحي والشرع والكتب الإلهية تلبيسا نعم التلبيس على من ظن أن ذلك التعليق على وجه الاستقلال بقطع النظر عن مسبب الأسباب وناصبه الحكم والعلل فإن كان مراده أنه لبس الأمر على هؤلاء فلم يهتدوا إلى الصواب فأبعد الله من ينتصر لهم ويذب عنهم فإنهم أضل من الأنعام وإن كان المراد من أثبت الأسباب والحكم والعلل وعلق بها ما علقه الله بها من الحكم والشرع وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به ووضعها حيث وضعها فقد لبس عليه فنحن ندين الله بذلك وإن سمي تلبيسا كما ندين بإثبات القدر وإن سمي جبرا وندين بإثبات الصفات وحقائق الأسماء وإن سمي تجسيما وندين بإثبات علو الله على عرشه فوق سماواته وإن سمي تحيزا.(3/402)
أوجهه وندين بإثبات وجهه الأعلى ويديه المبسوطتين وإن سمي تركيبا وندين بحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن سمي نصبا وندين بأنه مكلم متكلم حقيقة كلاما يسمعه من خاطبه وأنه يرى بالابصار عيانا حقيقة
يوم لقائه وإن سمي ذلك تشبيها ويالله العجب أليست الكوائن كلها متعلقة بالأسباب أوليس الرب تعالى كل وقت يسوق المقادير إلى المواقيت التي وقتها لها ويظهرها بأسبابها التي سببها لها ويخصها بمحالها من الأعيان والأمكنة والأزمنة التي عينها لها أوليس قد قدر الله المقادير وسبب الأسباب التي تظهر بها ووقت المواقيت التي تنتهي إليها ونصب العلل التي توجد لأجلها وجعل للأسباب أسبابا أخر تعارضها وتدافعها فهذه تقتضي آثارها وهذه تمنعها اقتضاءها وتطلب ضد ما تطلبه تلك أوليس قد رتب الخلق والأمر على ذلك وجعله محل الامتحان والابتلاء والعبودية أوليس عمارة الدارين أعني الجنة والنار بالأسباب والعلل والحكم ولا حاجة بنا أن نقول وهو الذي خلق الأسباب ونصب العلل فإن ذكر هذا من باب بيان الواضحات التي لا يجهلها إلا أجهل خلق الله تعالى وأقلهم نصيبا من الإيمان والمعرفة أوليس القرآن من أوله إلى آخره قد علقت أخباره وقصصه عن الأنبياء وأممهم وأوامره ونواهيه وزواجره وثوابه وعقابه بالأسباب والحكم والعلل وعلقت فيه المعارف بالوسائط والقضايا بالحجج والعقوبات والمثوبات بالجنايات والطاعات أوليس ذلك مقتضى الرسالة وموجب الملك الحق والحكمة البالغة نعم مرجع ذلك كله إلى المشيئة الإلهية المقرونة بالحكمة والرحمة والعدل والمصلحة والإحسان ووضع الأشياء في مواضعها وتنزيلها في منازلها وهو.(3/403)
سبحانه الذي جعل لها تلك المواضع والمنازل والصفات والمقادير فلا تلبيس هناك بوجه ما وإنما التلبيس في إخراج الأسباب عن مواضعها وموضوعها وإلغائها أو في إنزالها غير منزلتها والغيبة بها عن مسببها وواضعها وبالله التوفيق.
فصل قال والتلبيس الثاني تلبيس أهل الغيرة على الأوقات بإخفائها.
وعلى الكرامات بكتمانها إطلاق التلبيس على هذه الدرجة أولى من إطلاقه على الدرجة الأولى فإن التلبيس في هذه الدرجة راجع إلى فعل العبد وفي الأولى إلى فعل الرب ولهذا لما كان تسمية الدرجة الأولى تلبيسا شنيعا جدا وطأله بذكر قوله تعالى { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي لا ستوحش من إطلاق ذلك على الله فإنه قد أطلقه على نفسه وقد عرفت ما فيه والمقصود أن العبد يقوي إخلاصه لله وصدقه ومعاملته حتى لا يحب أن يطلع أحد من الخلق على حاله مع الله ومقامه معه فهو يخفي أحواله غيرة عليها من أن تشوبها شائبة الأغيار ويخفي أنفاسه خوفا عليها من المداخلة وكان بعضهم إذا غلبه البكاء وعجز عن دفعه قال لا إله إلا الله ما أمر الزكام فالصادق إذا غلب عليه الوجد والحال وهاج من قلبه لواعج الشوق أخلد إلى السكون ما أمكنه فإن غلب أظهر ألما ووجعا يستر به حاله مع الله كما أظهر إبراهيم الخليل لقومه أنه سقيم حين أراد أن يفارقهم ويرجع بذلك الوارد وتلك الحال إلى الآلهة الباطلة فيجعلها جذاذا فالصادقون يعلمون في كتمان المعاني واجتناب الدعاوي فظواهرهم ظواهر الناس وقلوبهم مع الحق تعالى لا تلتفت عنه يمنة ولا يسرة فهم في واد والناس في واد.(3/404)
فقوله تلبيس أهل الغيرة على الأوقات بإخفائها يعني أنهم يغارون على الأوقات التي عمرت لهم بالله وصفت لهم أن يظهروها للناس وإن اطلع غيرهم عليها من غير قصدهم لكشفها وإظهارها لم يقدح ذلك في طريقهم فلا يفزعون إلى الجحد والإنكار وشكاية الحال بل يسعهم الإمساك عن الإظهار والجحد قوله وعلى الكرامات بكتمانها يعني أنهم يغارون على كراماتهم أن يعلم بها الناس فهم يخفونها أبدا غيرة عليها إلا إذا كان في إظهارها مصلحة راجحة من حجة أو حاجة فلا يظهرونها إلا لحجة على مبطل أو حاجة تقتضي إظهارها قوله والتلبيس بالمكاسب والأسباب وتعليق الظواهر بالشواهد والمكاسب تلبيس على العيون الكليلة والعقول العليلة يعني أن التلبيس المذكور إنما يكون على العيون الكليلة أي أهل الإحساس الضعيف والعقول العليلة هي المنحرفة التي لا تدرك الحق لمرض بها قوله مع تصحيح التحقيق عقدا وسلوكا ومعاينة يعني أن هذه الطائفة يلبسون على أهل العيون الكليلة أحوالهم وكراماتهم بسترهم لها عنهم مع كونهم قائمين بالتحقيق اعتقادا وسلوكا ومعاينة فهم معتقدون للحق سالكون الطريق الموصلة إلى المقصود أهل مراقبة وشهود قوله وهذه الطائفة رحمة من الله على أهل التفرقة والاسباب في ملابستهم وإنما كانوا رحمة من الله عليهم من وجهين أحدهما أنهم ذاكرون الله بين الغافلين وفي وسطهم يرحمهم الله بهم فإنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم الثاني أنهم لا يتركونهم في غفلاتهم بل يقومون فيهم بالنصيحة لهم والأمر لهم بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة لهم إلى الله فيرحمون بهم وينالون بهم سعادة الدنيا والآخرة فهم يتصرفون مع الخلق بحكم العلم والشرع وأحوالهم ومقاماتهم بينهم وبين الله خاصة.(3/405)
قوله التلبيس الثالث تلبيس أهل التمكين على العالم ترحما عليهم بملابسة الأسباب وتوسعا على العالم لا على أهل الإيمان وهذه درجة الأنبياء ثم هي للأئمة الربانيين الصادرين عن وادي الجمع المشيرين عن عينه هذا أيضا من النمط الأول مما ينكر لفظه وإطلاقه غاية الإنكار ويجب على أهل الإيمان محو هذا اللفظ القبيح وإطلاقه في حق الأنبياء وكيف تتسع مسامع المؤمن ليسمع أن الأنبياء لبسوا على الناس بأي اعتبار كان سبحانك هذا بهتان عظيم بل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كشفوا عن الناس التلبيس الذي لبسوه على أنفسهم ولبسه عليهم طواغيتهم فجاءوا بالبيان والبرهان وشياطينهم وكان الناس في لبس عظيم فجاءوا بالبيان فأظهروه وكان الناس في جهل عظيم فجاءوا باليقين فأذهبوه وكان الناس في كفر عظيم فجاءوا بالرشاد فأبطلوه والمصنف من أثبت الناس قدما في مقام الإيمان بالرسل وتعظيمهم وتعظيم ما جاءوا به ولكن لبس عليه في ذلك ما لبس على غيره والله يغفر لنا وله ويجمع بيننا وبينه في دار كرامته وقد صرح بأن أهل التمكين هم الأنبياء والأئمة بعدهم وجعل هذه الدرجة من التلبيس لهم ثم فسرها بأنها تلبيس ترحم وتوسيع على العالم ومقصوده أنهم يأمرونهم بتعاطي الأسباب رحمة لهم وتوسيعا عليهم مع علمهم بأنها لا أثر لها في خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع بل الله وحده هو الخالق الرازق الضار النافع المعطي المانع لكن لما علموا عجز الناس عن إدراك ذلك والتحقق به لبسوا عليهم وستروهم بالأسباب رحمة بهم وتوسيعا عليهم.(3/406)
فهذه الدرجة تتضمن الرجوع إلى الأسباب رحمة وتوسيعا مع الانقطاع عن الالتفات إليها والوقوف معها تجريدا وتوحيدا قوله لا لأنفسهم يعني أنه أمرهم بالأسباب إحسانا إليهم وتوسيعا عليهم لا لحظ الآمر وجر النفع إلى نفسه بل لقصد الإحسان إلى الخلق وحصول النفع لهم وهذا قريب مع أن فيه ما فيه لمن تأمله فإن من أمر غيره بمصلحة وقصد نفعه فبنفسه يبدأ ولها ينفع أولا ومصلحتها لا بد أن تكون قد حصلت قبل مصلحة المأمور والإحسان إلى نفسه قصد بإحسانه إلى غيره فإنه عبد فقير محتاج والله وحده هو الغني بذاته الذي يحسن إلى خلقه لا لأجل معاوضة منهم وأما المخلوق فإنه يريد العوض لكن الأعواض تتفاوت ومن يطلب منه العوض يختلف والمقصود أن قوله لا لأنفسهم ليس على إطلاقه وفي أثر إلهي ابن آدم كل يريدك لنفسه وأنا أريدك لك قوله ثم هي للأئمة الربانيين الصادرين عن وادي الجمع يعني الذي فنوا في الجمع ثم حصلوا في البقاء بعد الفناء فذلك صدورهم عن وادي الجمع قوله المشيرين عن عينه يعني الذين إذا أشاروا أشاروا عن عين لا عن علم فإن الإشارة تختلف باختلاف مصدرها فإشارة عن علم وإشارة عن كشف وإشارة عن شهود وإشارة عن عين.
فصل قد عرفت أن هذا الباب مبناه على محو الأسباب وعدم الالتفات.
إليها والوقوف معها ولهذا سمى المصنف نصبها تلبيسا ونحن نقول إن الدين هو إثبات الأسباب والوقوف معها والنظر إليها والالتفات إليها وإنه لا دين إلا بذلك كما لا حقيقة إلا به فالحقيقة والشريعة.(3/407)
مبناهما على إثباتها لا على محوها ولا ننكر الوقوف معها فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم لا يتم إسلامه وإيمانه إلا بذلك والله تعالى أمرنا بالوقوف معها بمعنى أنا نثبت الحكم إذا وجدت وننفيه إذا عدمت ونستدل بها على حكمه الكوني فوقوفنا معها بهذا الاعتبار هو مقتضى الحقيقة والشريعة وهل يمكن حيوانا أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع الأسباب فينتجع مساقط غيثها ومواقع قطرها ويرعى في خصبها دون جدبها ويسالمها ولا يحار بها فكيف وتنفسه في الهواء بها وتحركه بها وسمعه وبصره بها وغذاؤه بها ودواؤه بها وهداه بها وسعادته وفلاحه بها وضلاله وشقاؤه بالاعراض عنها وإلغائها فأسعد الناس في الدارين أقومهم بالأسباب الموصلة إلى مصالحهما وأشقاهم في الدارين أشدهم تعطيلا لأسبابهما فالأسباب محل الأمر والنهي والثواب والعقاب والنجاح والخسران وبالأسباب عرف الله وبها عبد الله وبها أطيع الله وبها تقرب إليه المتقربون وبها نال أولياؤه رضاه وجواره في جنته وبها نصر حزبه ودينه وأقاموا دعوته وبها أرسل رسله وشرع شرائعه وبها انقسم الناس إلى سعيد وشقي ومهتد وغوي فالوقوف معها والالتفات إليها والنظر إليها هو الواجب شرعا كما هو الواقع قدرا ولا تكن ممن غلظ حجابه وكثف طبعه فيقول لا نقف معها وقوف من يعتقد أنها مستقلة بالإحداث والتأثير وأنها أرباب من دون الله فإن وجدت أحدا يزعم ذلك ويظن أنها أرباب وآلهة مع الله مستقلة بالإيجاد أو إنها عون لله يحتاج في فعله إليها أو إنها شركاء له فشأنك به فمزق أديمه وتقرب إلى الله بعداوته ما استطعت وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله والإلغاء لما اعتبره والإهدار لما حققه والحط والوضع لما نصبه والمحو لما كتبه والعزل لما ولاه فإن زعمت أنك تعزلها عن رتبة الإلهية فسبحان الله من ولاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك في عزلها عنها.(3/408)
والله ما أجهل كثيرا من أهل الكلام والتصوف حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد إلا بإلغائها ومحوها وإهدارها بالكلية وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى ولا طبائع ولا غرائز لها تأثير موجبة ما ولا في النار حرارة ولا إحراق ولا في الدواء قوة مذهبة للداء ولا في الخبز قوة مشبعة ولا في الماء قوة مروية ولا في العين قوة باصرة ولا في الأنف قوة شامة ولا في السم قوة قاتلة ولا في الحديد قوة قاطعة وإن الله لم يفعل شيئا بشيء ولا فعل شيئا لأجل شيء فهذا غاية توحيدهم الذي يحومون حوله ويبالغون في تقريره فلعمر الله لقد أضحكوا عليهم العقلاء وأشمتوا بهم الأعداء ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم وجنوا على الإسلام والقرآن أعظم جناية وقالوا نحن أنصار الله ورسوله الموكلون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرسل ولعمر الله لقد كسروا الدين وسلطوا عليه المبطلين وقد قيل إياك ومصاحبة الجاهل فإنه يريد أن ينفعك فيضرك فقف مع الأسباب حيث أمرت بالوقوف معها وفارقها حيث أمرت بمفارقتها كما فارقها الخليل وهو في تلك السفرة من المنجنيق حيث عرض له جبريل أقوى الأسباب فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا ودر معها حيث دارت ناظرا إلى من أزمتها بيديه والتفت إليها التفات العبد المأمور إلى تنفيذ ما أمر به والتحديق نحوه وارعها حق رعايتها ولا تغب عنها ولا تفن عنها بل انظر إليها وهي في رتبها التي أنزلها الله إياها واعلم أن غيبتك بمسببها عنها نقص في عبوديتك بل الكمال أن تشهد المعبود وتشهد قيامك بعبوديته وتشهد أن قيامك به لا بك ومنه لا منك وبحوله وقوته.(3/409)
لا بحولك وقوتك ومتى خرجت عن ذلك وقعت في انحرافين لا بد لك من أحدهما إما أن تغيب بها عن المقصود لذاته لضعف نظرك وغفلتك وقصور علمك ومعرفتك وإما أن تغيب بالمقصود عنها بحيث لا تلتفت إليها والكمال أن يسلمك الله من الانحرافين فتبقى عبدا ملاحظا للعبودية ناظرا إلى المعبود والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.(3/410)
فصل قال شيخ الإسلام باب الوجود
أطلق الله سبحانه في القرآن اسم. الوجود على نفسه صريحا في مواضع فقال تعالى {يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} الوجود الظفر بحقيقة الشيء وهو اسم لثلاثة معان أولها وجود علم لدني يقطع علوم الشواهد في صحة مكاشفة الحق إياك والثاني وجود الحق وجود عين منقطعا عن مساغ الإشارة والثالث وجود مقام اضمحلال رسم الوجود فيه بالاستغراق في الأولية هذا الباب هو العلم الذي شمر إليه القوم والغاية التي قصدوها ولا ريب أنهم قصدوا معنى صحيحا وعبروا عنه بالوجود واستدلوا عليه بهذه الآيات ونظيرها ولكن ليس مقصودهم ما تضمنه الوجدان في هذه الآيات فإنه وجدان المطلوب تعلق باسم أو صفة قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} فهذا وجود مقيد بظفرهم بمغفرة الله ورحمته لهم وكذلك قوله تعالى {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} ومعناه أنه يجد ما ظنه من مغفرة الله له حاصلة وكذلك {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فهذا وجدان.(3/410)
الكافر لربه عند حسابه له على أعماله وليس هذا هو الوجود الذي يشير القوم إليه بل منه الأثر المعروف ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء ومنه الحديث" أنا عند ظن عبدي بي" \ح\ ومنه الأثر الإسرائيلي أن موسى قال يا رب أين أجدك قال عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ومنه الحديث الصحيح "إن الله تعالى يقول يوم القيامة عبدي استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدي فلان فلم تطمعه أما لو أطقمته لوجدت ذلك عندي عبدي استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي عبدي مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال مرض عبدي فلان فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده" فتأمل قوله في الإطعام والإسقاء لوجدت ذلك عندي وقوله في العيادة لوجدتني عنده ولم يقل لوجدت ذلك عندي إيذانا بقربه من المريض وأنه عنده لذله وخضوعه وانكسار قلبه وافتقاره إلى ربه فأوجب ذلك وجود الله عنده هذا وهو فوق سمواته مستو على عرشه بائن من خلقه وهو عند عبده فوجود العبد ربه ظفره بالوصول إليه والناس ثلاثة سالك وواصل وواجد فإن قلت اضرب لي مثلا أفهم به معنى الوصول في هذا الباب والوجود قلت إذا بلغك أن بمكان كذا وكذا كنزا عظيما من ظفر به أو بشيء منه استغنى غنى الدهر وترحل عنه العدم والفقر فتحركت نفسه للسير إليه فأخذ في التأهب للمسير فلما جد به السير انتهى إلى الكنز ووصل إليه ولكن.(3/411)
لم يظفر بتحويله إلى داره وحصوله عنده بعد فهو واصل غير واجد والذي في الطريق سالك والقاعد عن الطلب منقطع وآخذ الكنز بحيث حصل عنده وصار في داره واجد فهذا المعنى حوله حام القوم وعليه دارت إشاراتهم فعندهم التواجد بداية والواجد واسطة والوجود نهاية ومعنى ذلك أنه في الابتداء يتكلف التواجد فيقوى عليه حتى يصير واجدا ثم يستغرق في وجده حتى يصل إلى موجوده ويستشكل قول أبي الحسن النوري أنا منذ عشرين سنة بين الوجد والفقد إذا وجدت ربي فقدت قلبي وإذا وجدت قلبي فقدت ربي ومعنى هذا أن الوجود الصحيح يغيب الواجد عنه ويجرده منه فيفنى بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده فإذا وجد الحقيقة غاب عن قلبه وعن صفاته وإذا غابت عنه الحقيقة بقي مع صفاته وفي هذا المعنى قيل
وجودي أن أغيب عن الوجود ... بما يبدو علي من الشهود
وما في الوجد موجود ولكن ... فخرت بوجد موجود الوجود
وقد مثل التواجد والوجد والوجود بمشاهدة البحر وركوبه والغرق فيه فقيل التواجد يوجب استيعاب العبد والوجد يوجب استغراق العبد والوجود يوجب استهلاك العبد وهذه عبارات واستعارات للمراتب الثلاثة وهي البداية والتوسط والنهاية والسلوك والوصول عندهم قصود ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود فيقصد أولا ثم يرد ثم يشهد ثم يجد ثم تخمد نفسه وتذهب بالكلية والوجد ما يرد على الناظر من الله تعالى يكسبه فرحا أو حزنا وهي فرحة يجدها المغلوب عليه بصفات شريفة ينظر إلى الله منها والتواجد استجلاب الوجد بالتذكر والتفكير لا تساع فرجة الوجد بالخروج إلى فضاء الوجدان فلا وجد عندهم مع الوجدان كما لا خبر مع العيان والوجد عرضة للزوال والوجود ثابت ثبوت الجبال وقد قيل.(3/412)
قد كان يطربني وجدي فأقعدني عن رؤية الوجد من بالوجد موجود والوجد يطرب من في الوجد راحته والوجد عند حضور الحق مقصود فالتواجد استدعاء الوجد بنوع اختيار وتكلف وليس لصاحبه كمال الوجد إذ لو كان له ذلك لكان وجدا وباب التفاعل ينبني على ذلك فإن مبناه على إظهار الصفة وليست كذلك كما قال إذا تخازرت وما بي من خزر وقد اختلف الناس في التواجد هل يسلم لصاحبه على قولين فقالت طائفة لا يسلم لصاحبه لما فيه من التكلف وإظهار ما ليس عنده وقوم قالوا يسلم للصادق الذي يرصد لوجدان المعاني الصحيحة كما قال النبي صلى اله عليه وسلم ابكوا فإن لم تبكوا فتباكو ا والتحقيق أن صاحب التواجد إن تكلفه لحظ وشهوة ونفس لم يسلم له وإن تكلفه لاستجلاب حال أو مقام مع الله سلم له وهذا يعرف من حال المتواجد وشواهد صدقه وإخلاصه.
فصل وقد تكلم في الوجود الفلاسفة والمتكلمون والاتحادية بما هو.
أبعد شيء عن الصواب هل وجود الشيء عين ماهيته أو غير ماهيته أو وجود القديم نفس ماهيته أو وجود الحادث زائد على ماهيته وكل هذه الأقوال خطأ وأصحابها كخابط عشواء والتحقيق أن الوجود والماهية إن أخذا ذهنيين فالوجود الذهني عين الماهية الذهنية وكذلك إن أخذا خارجيين اتحدا أيضا فليس في الخارج وجود زائد على الماهية الخارجية بحيث يكون كالثوب المشتمل على البدن هذا.(3/413)
خيال محض وكذلك حصول الماهية في الذهن هو عين وجودها فليس في الذهن ماهية ووجود متغايرين بل إن أخذ أحدهما ذهنيا والآخر خارجيا فأحدهما غير الآخر وليس المقصود بحث هذه المسألة فإنها بعيدة عما نحن فيه وهي من وظائف أرباب الجدل والكلام والفلسفة لا من وظائف أرباب القلوب والمعاملات فهؤلاء هممهم في أن يجدوا مطلوبهم ويظفروا به وأولئك شاكون في وجوده هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته وهل هو وجود مجرد مطلق لا يضاف إليه وصف ولا اسم أم وجود خاص تضاف إليه الصفات والأسماء فهؤلاء في واد وهؤلاء في واد وأعظم الخلق كفرا وضلالا من زعم أن ربه نفس وجود هذه الموجودات وأن عين وجوده فاض عليها فاكتست عين وجوده فاتخذ حجابا من أعيانها واكتست جلبابا من وجوده ولبس عليهم ما لبسوه على ضعفاء العقول والبصائر من عدم التفريق بين وجود الحق سبحانه وإيجاده وأن إيجاده هو الذي فاض عليها وهو الذي اكتسته وأما وجوده فمختص به لا يشاركه فيه غيره كما هو مختص بماهيته وصفاته فهو بائن عن خلقه والخلق بائنون عنه فوجود ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن حاصل بايجاده له فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ووجوده المختص به وبان بذاته وصفاته ووجوده عن خلقه.
فصل قوله الوجود اسم للظفر بحقيقة الشيء هذا الوجود الذي هو مصدر.
وجد الشيء يجده وجودا ووجد ضالته وجدانا وفي الصحاح أوجده الله مطلوبه أي أظفره به وأوجده أي أغناه أي جعله ذا جدة قال الله تعالى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ويقال وجد فلان وجدا ووجدا بضم الواو وفتحها وكسرها إذا صار ذا جدة وثروة ووجد الشيء فهو موجود وأوجده الله ويقال وجد الله الشيء كذا وكذا على غير معنى.(3/414)
أوجده كما قال تعالى {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} فالله سبحانه أوجده على علمه بأن يكون على صفة ثم وجده بعد إيجاده على تلك الصفة التي علم أن سيكون عليها وأما الواجد في أسمائه سبحانه فهو بمعنى ذو الوجد والغنى وهو ضد الفاقد وهو كالموسع ذي السعة قال تعالى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي ذوو سعة وقدرة وملك كما قال تعالى ومنعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ودخل في أسمائه سبحانه الواجد دون الموجد فإن الموجد صفة فعل وهو معطي الوجود كالمحيي معطي الحياة وهذا الفعل لم يجيء إطلاقه في أفعال الله في الكتاب ولا في السنة فلا يعرف إطلاق أوجد الله كذا وكذا وإنما الذي جاء خلقه وبرأه وصوره وأعطاه خلقه ونحو ذلك فلما لم يكن يستعمل فعله لم يجيء اسم الفاعل منه في أسمائه الحسنى فإن الفعل أوسع من الاسم ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالا لم يتسم منها بأسماء الفاعل كأراد وشاء وأحدث ولم يسم بالمريد والشائي والمحدث كما لم يسم نفسه بالصانع والفاعل والمتقن وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء وقد أخطأ أقبح خطأ من اشتق له من كل فعل اسما وبلغ باسمائه زيادة على الألف فسماه الماكر والمخادع والفاتن والكائد ونحو ذلك وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به فإنه يخبر عنه بأنه شيء وموجود ومذكور ومعلوم ومراد ولا يسمى بذلك فأما الواجد فلم تجيء تسميته به إلا في حديث تعداد الاسماء الحسنى والصحيح أنه ليس من كلام النبي صلى اله عليه وسلم ومعناه صحيح فإنه ذو الوجد والغنى فهو أولى بأن يسمى به من الموجود ومن الموجد أما الموجود فإنه منقسم إلى كامل وناقص وخير وشر وما كان مسماه(3/415)
منقسما لم يدخل اسمه في الأسماء الحسنى كالشيء والمعلوم ولذلك لم يسم بالمريد ولا بالمتكلم وإن كان له الإرادة والكلام لانقسام مسمى المريد والمتكلم وأما الموجد فقد سمى نفسه بأكمل أنواعه وهو الخالق البارئ المصور فالموجد كالمحدث والفاعل والصانع وهذا من دقيق فقه الأسماء الحسنى فتأمله وبالله التوفيق.
فصل الظفر بحقيقة الشيء إن كان في باب العلم والمعرفة فهو معرفة.
تجري فوق حدود العلم وإن كان للمعاين كان معاينة وهي فوق المعرفة وإن كان للطالب فهو جمعيه له بكله على مطلوبه وإن كان لصاحب الجمع كان جمعية وجودية تغنيه عما سوى الله تعالى قوله هو اسم لثلاث معان أولها وجود علم لدني يقطع علوم الشواهد العلم اللدني عندهم هو المعرفة وسمي لدنيا لأنه تعريف من تعريفات الحق وارد على قلب العبد يقطع الوساوس ويزيل الشكوك ويحل محل العيان فيصير لصاحبه كالوجدانيات التي لا يمكن دفعها عن النفس ولذلك قال يقطع علوم الشواهد فعلوم الشواهد عنده هي علوم الاستدلال وهي تنقطع بوجدان هذا العلم أي يرتقي صاحبه عنها إلى ما هو أكمل منها لا أنها يبطل حكمها ويزول رسمها ولكن صاحب الوجود قد ارتقى عن العلم الحاصل بالشواهد إلى العلم المدرك بالذوق والحس الباطن.(3/416)
قوله في صحة مكاشفة الحق إياك متعلق بقوله بقطع علوم الشواهد أي يقطعها في كون الحق كشف لك كشفا صحيحا قطع عنك الحاجة إلى الشواهد والأدلة قوله والثاني وجود الحق وجود عين أي وجود معانية لا وجود خبر ومراده معاينة القلب له بحقيقة اليقين قوله منقطعا عن مساغ الإشارة لما كانت الدرجة الأولى وجود علم وهذه وجود عيان قام العيان فيها مقام الإشارة فأغنى عنها فإن العلم قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا والضروري أبعد عن الالتفات وعن تطرق الآفات وعدم الغفلات فصاحبه يشاهد معلومه بنور البصيرة كما يشاهد المبصرات بنور البصر ولما كانت مرتبة المعرفة فوق مرتبة العلم عندهم ومرتبة الشهود فوق مرتبة المعرفة ومرتبة الوجود فوق مرتبة الشهود كانت العبارة في مرتبة العلم والمعرفة والإشارة في مرتبة الشهود فإذا وصل إلى مرتبة الوجود انقطعت الإشارات واضمحلت العبارات فإن صاحب الوجود في حضرة الوجود فماله وما للإشارة إذ الإشارة في هذا الباب إنما تكون إلى غائب بوجه ما قوله والثالث وجود مقام اضمحلال رسم الوجود فيه بالاستغراق في الأولية هذا كلام فيه قلق وتعقيد وهو باللغز أشبه منه بالبيان وحقيقة هذه الدرجة أنها تشغل صاحبها بموجوده عن إدراك كونه واجدا فلم تبق فيه بقية يتفطن بها لكونه مدركا لموجوده لاستيلائه على قلبه فقد قهره ومحقه عن شعوره بكونه واجدا لموجوده فهو حاضر مع الحق غائب عن كل ما سواه.(3/417)
فالدرجة الأولى وجود علم والثانية وجود عيان والثالثة وجود مقام اضمحل فيه ما سوى الموجود وهذا معنى اضمحلال رسم الوجود فيه ولهذا قال بالاستغراق في الأولية فإنه إذا استغرق في شهود الأولية اضمحل في هذا الشهود كل حادث والله أعلم.(3/418)
فصل قال باب التجريد
قال الله تعالى {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} التجريد. انخلاع عن شهود الشواهد وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى تجريد عين الكشف عن كسب اليقين والدرجة الثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم والدرجة الثالثة تجريد الخلاص من شهود التجريد وجه الإشارة بالآية وليس هو تفسيرها ولا المراد بها أن الله سبحانه أمر موسى أن يخلع نعليه عند دخوله ذلك الوادي المقدس إما لتنال إخمص قدميه بركة الوادي وإما لأنهما كانتا مما لا يصلح أن يباشر ذلك المكان بهما قيل إنهما كانتا من جلد حمار غير مذكى وعلى كل حال فهو أمر بالتجرد من النعلين في ذلك المكان وتلك الحال وموضع الإشارة أنه أمر موسى بالتجرد من نعليه عند دخول الوادي فعلم أن التجرد شرط في الدخول فيما لا يصلح الدخول فيه إلا بالتجرد وعلى هذا فيقال لمن أراد الوصول إلى الله سبحانه وتعالى والدخول عليه اخلع من قلبك ما سواه وادخل عليه وأول قدم يدخل بها في الإسلام أن يخلع الأنداد والأوثان التي تعبد من دون الله ويتجرد منها فكأنه قيل له اطرح عنك ما لا يكون صالحا للوطء به على هذا البساط أو لأن ذلك الوادي لما.(3/418)
كان من أشرف الأودية وأطهرها ولذلك اختاره الله سبحانه على غيره من الأودية لتكليم نبيه وكليمه فأمره سبحانه أن يعظم ذلك الوادي بالوطء فيه حافيا كما يوطأ بساط الملك وصار ذلك سنة في بني إسرائيل في مواضع صلواتهم وكنائسهم وشريعتنا جاءت بخلاف ذلك فصلى النبي صلى اله عليه وسلم في النعلين وأمر أصحابه أن يصلوا في نعالهم وقال" إن اليهود والنصارى لا يصلون في نعالهم فخالفوهم " \ح\.(3/419)
فالسنة في ديننا الصلاة في النعال نص عليه الإمام أحمد وقيل له أيصلي الرجل في نعليه فقال أي والله.
فصل قوله التجريد الانخلاع عن شهود الشواهد والشواهد عنده هي ما.
سوى الحق سبحانه والانخلاع عن الشهود هو غيبة الشاهد بمشهوده عن شهوده وذلك يكون في مقام المعاينة فإنه لا ينخلع عن شهود الشواهد إلا إذا كان معاينا للمشهود قوله الدرجة الأولى تجريد عين الكشف عن كسب اليقين أي تجريد حقيقة الكشف عن كسب اليقين أي يعزل ما اكتسبه من اليقين العلمي بالكشف الحقيقي فتجرد الكشف أي يخلصه ويعريه عن الالتفات إلى اليقين فيعزل ما اكتسبه من اليقين العلمي بالكشف الحقيقي.
فصل قال الدرجة الثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم عين الجمع.
هي حقيقة الجمع وتجريده هو أن لا يشهد للعلم فيها آثارا فإن العلم من آثار الرسوم وحقيقة الجمع تمحو الرسوم فصاحب هذه الدرجة أبدا في تجرد وتجريد والدرك هو الإدراك في هذا الموضع ويحتمل أن يراد به أن درجة العلم أسفل من درجة عين الجمع فيجرد الجمع عن الدرجة التي هي أسفل منه وقد اعترفوا بأن هذا حال المولهين في الاستغراق في الجمع ولعمر الله إن ذلك ليس بكمال وهو أصل من أصول الانحلال فإنه إذا تجرد من العلم وما يوجبه فقد خرج من النور الذي يكشف له الحقائق ويميز له بين الحق والباطل والصحيح والفاسد فالكشف وشهود الحقيقة إذا تجرد عن العلم فقد ينسلخ صاحبه عن أصل الإيمان وهو لا يشعر.(3/420)
وأحسن من هذا أن يقال هو تجريد الجمع عن الوقوف مع مجرد العلم فلا يرضى بالعلم عن مقام جمعية حاله وقلبه وهمه على الله بل يرتقي من درجة العلم إلى درجة الجمع مصاحبا للعلم غير مفارق لأحكامه ولا جاعل له غاية يقف عندها قوله الدرجة الثالثة تجريد الخلاص من شهود التجريد يعني أن لا يشهد تجريده لمن يجرده من صفاته وأفعاله وصاحب هذه الدرجة دائما قد فنى عما سوى الحق تعالى فكيف يتسع مع ذلك لشهود وصفه وفعله بل أفناه تجريده عن شهود تجريده.(3/421)
فصل قال صاحب المنازل باب التفريد
. قال الله تعالى {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} التفريد اسم لتخليص الإشارة إلى الحق ثم بالحق ثم عن الحق الشيخ جعل التفريد عين التجريد وجعله بعده والفرق بينهما أن التجريد انقطاع عن الأغيار والتفريد إفراد الحق بالإيثار فالتفريد متعلق بالمعبود والتجريد متعلق بالعبودية وجعله ثلاث درجات تخليص الإشارة إلى الحق ثم به ثم عنه فههنا أمران أحدهما تخليص الإشارة والثاني متعلق الإشارة فأما تخليصها فهو تجريدها مما يمازجها ويخالطها وأما متعلقها فثلاثة أمور الإشارة إلى الحق وبه وعنه فالإشارة إليه غاية والإشارة به وجود والإشارة عنه إخبار وتبليغ فمن خلصت إشارته إلى الحق كان من المخلصين ومن كانت إشارته به فهو من الصادقين ومن كانت إشارته عنه فهو من المبلغين ومن اجتمعت له الثلاثة فهو من الأئمة العارفين فالكمال أن تشير إليه به عنه فتخليص الإشارة إليه هو حقيقة الإخلاص وتخليص الإشارة به هو حقيقة الصدق وتخليص الإشارة عنه هو حقيقة المتابعة وذلك هو محض الصديقية فمتى اجتمعت هذه الثلاثة في العبد فقد خلعت عليه خلعة الصديقية فما كل من.(3/421)
أشار إلى الله أشار به ولا كل من أشار به أشار عنه والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هم الذين كملوا المراتب الثلاثة فخلصت إشاراتهم إلى الله وبه وعنه من كل شائبة ثم الأمثل فالأمثل على مناجهم وما أكثر ما تشبه الإشارة إلى الله وبه بالإشارة إلى النفس والإشارة بها فيشير إلى نفسه بنفسه ظانا أن إشارته بالله وإلى الله ولا يميز بين هذا وهذا إلا خواص العارفين الفقهاء في معرفة الطريق والمقصود وههنا انقطع من انقطع واتصل من اتصل ولا إله إلا الله كم من تنوع في الإشارة وبالغ ودقق وحقق ولم تعد إشارته نفسه وهو لا يعلم أشار بنفسه وهو يظن أنه أشار بربه وإن فلتات لسانه ورائحة كلامه لتنادي عليه أنا وبي وعني فإذا خلصت الإشارة بالله وعن الله من جميع الشوائب كانت متصلة بالله خالصة له مقبولة لديه راضيا بها وعلى هذا كان حرص السابقين الأولين لا على كثرة العمل ولا على تدقيق الإشارة كما قال بعض الصحابة لو أعلم أن الله قبل مني عملا واحدا لم يكن غائب أحب إلى من الموت وليس هذا على معنى أن أعماله كانت لغير الله أو على غير سنة رسوله فشأن القوم كان أجل من ذلك ولكن على تخليص الأعمال من شوائب النفوس ومشاركات الحظوظ فكانوا يخافون لكمال علمهم بالله وحقوقه عليهم أن أعمالهم لم تخلص من شوائب حظوظهم ومشاركات أنفسهم بحيث تكون متمحصة لله وبالله ومأخوذة عن الله فمن وصل له عمل واحد على هذا الوجه وصل إلى الله والله تعالى شكور إذا رضي من العبد عملا من أعماله نجاه وأسعده به وثمره له وبارك له فيه وأوصله به إليه وأدخله به عليه ولم يقطعه به عنه فما أكثر المنقطعين بالإشارة عن المشار إليه وبالعبادة عن المعبود وبالمعرفة عن المعروف فتكون الإشارات والمعارف قبلة قلبه وغاية قصده فيتغذى بها ويجد من الأنس بها والذوق والوجد ما يسكن قلبه إليه ويطمئن(3/422)
به ويظن أنه الغاية المطلوبة فيصبر قلبه محبوسا عن ربه وهو لا يشعر وتصير نفسه راتعة في رياض العلوم والمعارف واجدة لها وهو يظن أنه قد وصل واتصل وعلى منزل الوجود حصل فهو دقيق الإشارة لطيف العبارة فقيه في مسائل السلوك وبينه وبين الله حجاب لم ينكشف عنه وإنما يرتفع هذا الحجاب بحال التجريد والتفريد لا بمجرد علم ذلك فبتفريد المعبود المطلوب المقصود عن غيره وبتجريد القصد والطلب والإرادة والمحبة والخوف والرجاء والانابة والتوكل عليه واللجإ إليه عن الحظوظ وإرادات النفس فينكشف عن القلب حجابه ويزول عنه ظلامه ويطلع فيه فجر التوحيد وتبزغ فيه شمس اليقين وتستنير له الطريق الغراء والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها.
فصل قال فأما تفريد الإشارة إلى الحق فعلى ثلاث درجات تفريد القصد.
عطشا ثم تفريد المحبة تلفا ثم تفريد الشهود اتصالا ذكر في هذه الدرجة ثلاثة أمور تفريد القصد والمحبة والشهود فالقصد بداية والشهود نهاية والمحبة واسطة فيفرد قصده وحبه وشهوده وذلك يتضمن إفراد مطلوبه ومحبوبه ومشهوده فيكون فردا لفرد فلا ينقسم طلبه ولا حبه ولا شهوده ولا ينقسم مطلوبه ومحبوبه ومشهوده فتفريد الطلب والمحبة والشهود صدق وتفريد المطلوب والمحبوب والمشهود إخلاص فالصدق والاخلاص هو أن تبذل كلك لمحبوبك وحده ثم تحتقر ما بذلت في جنب ما يستحقه ثم لا تنظر إلى بذلك وقيد تفريد القصد بالعطش وتفريد المحبة بالتلف وتفريد الشهود بالاتصال والعطش كما قال هو غلبة ولوع بمأمول والتلف هو المحبة المهلكة والاتصال سقوط الاغيار عن درجة الاعتبار فهذا حكم التفريد في الدرجة الأولى.(3/423)
قال وأما تفريد الإشارة بالحق فعلى ثلاث درجات تفريد الإشارة بالافتخار بوحا وتفريد الإشارة بالسلوك مطالعة وتفريد الإشارة بالقبض غيرة ذكر أيضا في هذه الدرجة ثلاثة أمور الافتخار والسلوك والقبض فالافتخار نوعان مذموم ومحمود فالمذموم إظهار مرتبته على أبناء جنسه ترفعا عليهم وهذا غير مراد والمحمود إظهار الأحوال السنية والمقامات الشريفة بوحا بها أي تصريحا وإعلانا لا على وجه الفخر بل على وجه تعظيم النعمة والفرح بها وذكرها ونشرها والتحدث بها والترغيب فيها وغير ذلك من المقاصد في إظهارها كما قال النبي صلى اله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله وقال أبو ذر رضي الله عنه لقد أتي علي كذا وكذا وإني لثالث الإسلام وقال علي رضي الله عنه إنه لعهد النبي صلى اله عليه وسلم الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق وقال عمر رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث وقال علي رضي الله عنه وأشار إلى صدره إن ههنا علما جما لو أصبت له حملة وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيدا ليلعب مع الغلمان وقال أيضا ما من كتاب الله آية إلا وأنا أعلم أين نزلت وماذا أريد بها ولو أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لرحلت إليه وقال بعض الصحابة لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من أن أحدث نفسي في الصلاة بغير ما أنا فيه وهذا أكثر من أن يذكر والصادق تختلف عليه الأحوال فتارة يبوح بما أولاه ربه ومن به عليه لا يطيق كتمان ذلك وتارة يخفيه ويكتمه لا يطيق إظهاره فتارة يقبض وتارة يبسط وينشط وتارة يجد لسانا قائلا فلا يسكت وتارة لا يقدر أن ينطق(3/424)
بكلمة وتارة تجده ضاحكا مسرورا وتارة باكيا حزينا وتارة يجد جمعية لا سبيل للتفرقة عليها وتارة تفرقة لا جمعية معها وتارة يقول واطرباه وأخرى يقول واحرباه بخلاف من هو على لون واحد لا يوجد على غيره فهذا لون والصادق لون قوله وتفريد الإشارة بالسلوك مطالعة أي تجريد الإشارة إلى المطلوب بالسلوك اطلاعا على حقائقه قوله وتفريد الإشارة بالقبض غيرة أي تخليص الإشارة إلى المطلوب بالقبض غيرة عليه والمقصود أنه تارة يفرد إشارته بما أولاه الحق لا يكتمه ولا يخفيه وتارة يفرد إشارته بحقائق السلوك اطلاعا عليها وإطلاعا لغيره وتارة يشير بالقبض غيره وتسترا فيشير بالافتخار تارة وبالاطلاع تارة وبالقبض تارة فافتخاره بالمنعم ونعمه لا بنفسه وصفته وإطلاعه لغيره تعليم وإرشاد وتبصير وقبضه غيره وستر وحقيقة الأمر ما ذكرناه أن الصادق بحسب دواعي صدقه وحاله مع الله وحكم وقته وما أقيم فيه.
فصل قوله وأما تفريد الإشارة عن الحق فانبساط ببسط ظاهر يتضمن قبضا خالصا للهداية إلى الحق والدعوة إليه يريد أن صاحب هذه الإشارة منبسط بسطا ظاهرا مع أن باطنه مجموع على الله وهو القبض الخالص الذي أشار إليه فهو في باطنه مقبوض لما هو فيه من جمعيته على الله وفي ظاهره مبسوط مع الخلق بسطا ظاهرا لقوته قصدا لهدايتهم إلى الحق سبحانه ودعواتهم إليه وحاصل الأمر أنه مبسوط بظاهره لدعوة الخلق إلى الله ومقبوض بباطنه عما سوى الله فظاهره منبسط مع الخلق وباطنه منقبض عنهم لقوة تعلقه بالله واشتغاله به عنهم فهو كائن بائن داخل خارج متصل منفصل قال الله تعالى {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً(3/425)
آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} فأمره بتجريد الدعوة إليه تجريد عبوديته وحده وهذان هما أصلا الدين وعليهما مداره وبالله التوفيق.(3/426)
فصل قال باب الجمع
قال الله تعالى{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قلت اعتقد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه وإضافته إلى الرب تعالى وجعلوا ذلك أصلا في الجبر وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده وهذا غلط منهم في فهم القرآن فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال فيقال ما صليت إذ صليت وما صمت إذ صمت وما ضحيت إذ ضحيت ولا فعلت كل فعل إذ فعلته ولكن الله فعل ذلك فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها أو رميه وحده تناقضوا فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية وبعد فهذه الآية نزلت في شأن رميه المشركين يوم بدر بقبصة من الحصباء فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ فكان منه مبدأ الرمي وهو الحذف ومن الله سبحانه وتعالى نهايته وهو الإيصال فأضاف إليه رمى الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته ونظير هذا قوله في الآية نفسها {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} ثم قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فأخبره أنه هو وحده هو الذي تفرد بقتلهم ولم يكن ذلك بكم أنتم كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم ولم يكن ذلك من رسوله ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة كدفع المشركين.(3/426)
وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه به وهو خير الناصرين قال الجمع ما أسقط التفرقة وقطع الإشارة وشخص عن الماء والطين بعد صحة التمكين والبراءة من التلوين والخلاص من شهود الثتوية والتنافي من إحساس الاعتلال والتنافي من شهود شهودها وهو على ثلاث درجات جمع علم ثم جمع وجود ثم جمع عين قوله الجمع ما أسقط التفرقة هذا حد غير محصل للفرق بين ما يحمد وما يذم من الجمع والتفرقة فإن الجمع ينقسم إلى صحيح وباطل والتفرقة تنقسم إلى محمود ومذموم وكل منهما لا يحمد مطلقا ولا يذم مطلقا فيراد بالجمع جمع الوجود وهو جمع الملاحدة القائلين بوحدة الوجود ويريدون بالتفرقة الفرق بين القديم والمحدث وبين الخالق والمخلوق وأصحابه يقولون الجمع ما أسقط هذه التفرقة ويقولون عن أنفسهم إنهم أصحاب جمع الوجود ولهذا صرح بما ذكرنا محققو الملاحدة فقالوا التفرقة اعتبار الفرق بين وجود ووجود فإذا زال الفرق في نظر المحقق حصل له حقيقة الجمع ويراد بالجمع الجمع بين الإرادة والطلب على المراد المطلوب وحده وبالتفرقة تفرقة الهمة والإرادة وهذا هو الجمع الصحيح والتفرقة المذمومة فحد الجمع الصحيح ما أزال هذه التفرقة وأما جمع يزيل التفرقة بين الرب والعبد والخالق والمخلوق والقديم والمحدث فأبطل الباطل وتلك التفرقة هي الحق وأهل هذه التفرقة هم أهل الإسلام والإيمان والإحسان كما أن أهل ذلك الجمع هم أهل الإلحاد والكفر والوثنية ويراد بالجمع جمع الشهود وبالتفرقة ما ينافي ذلك فإذا زال الفرق في نظر المشاهد وهو مثبت للفرق كان ذلك جمعا في شهوده خاصة مع تحققه بالفرق فإذا عرف هذا فالجمع الصحيح ما أسقط التفرقة الطبيعية النفسية وهي(3/427)
التفرقة المذمومة وأما التفرقة الأمرية الشرعية بين المأمور والمحظور والمحبوب والمكروه فلا يحمد جمع أسقطها بل يذم كل الذم وبمثل هذه المجملات دخل على أصحاب السلوك والإرادة ما دخل قوله وقطع الإشارة هو من جنس قوله ما أسقط التفرقة قال أهل الإلحاد لما كانت الإشارة نسبة بين شيئين مشير ومشار إليه كانت مستلزمة للثنوية فإذا جاءت الوحده جمعية وذهبت الثنوية انقطعت الإشارة وقال أهل التوحيد إنما تنقطع الإشارة عند كمال الجمعية على الله فلا يبقى في صاحب هذه الجمعية موضع للإشارة لأن جمعيته على المطلوب المراد غيبته عن الإشارة إليه وأيضا فإن جمعيته أفنته عن نفسه وإشارته ففي مقام الفناء تنقطع الإشارة لأنها من أحكام البشرية قوله وشخص عن الماء والطين هذا يحتمل معنيين أحدهما أن يريد بالماء والطين بني آدم ونفسه من جملتهم أي شخص عن النظر إلى الناس والالتفات إليهم وتعلق القلب بهم بالكلية وخصهم بالذكر لأن أكثر العلائق وأصعبها وأشدها قطعا لصاحبها هي علائقهم فإذا شخص قلبه عنهم بالكلية فعن غيرهم ممن هو أبعد إليه منهم أولى وأحرى وفي ذكر الماء والطين تقرير لهذا الشخوص عنهم وتنبيه على تعينه ووجوبه فإن المخلوق من الماء والطين بشر ضعيف لا يملك لنفسه ولا لمن تعلق به جلب منفعة ولا دفع مضرة فإن الماء والطين منفعل لا فاعل وعاجز مهين لا قوي متين كما قال تعالى {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} وأخبر أنه خلقنا {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} فحقيق بابن الماء والطين أن يشخص عنه القلب لا إليه وأن يعول على خالقه وحده لا عليه وأن يجعل رغبته كلها فيه وفيما لديه والمعنى الثاني الذي يحتمله كلامه أن يشخص عن أحكام الطبيعة(3/428)
السفلية الناشئة من الماء الطين وعن متعلقاتها إلى أحكام الأرواح العلوية ولما كان الله سبحانه وتعالى بحكمته وعجيب صنعه قد جعل الإنسان مركبا من جوهرين جوهر طبيعي كثيف وهو الجسم وجوهر روحاني لطيف وهو الروح ومن شأن كل شكل أن يميل إلى شكله ومن طبع كل مثل أن ينجذب إلى مثله صار الإنسان ينجذب إلى العالم الطبيعي بما فيه من الكثافة وإلى العالم الروحاني بما فيه من اللطافة فصار في الإنسان قوتان متضادتان إحداهما تجذبه سفلا والثانية تجذبه علوا فمن شخص عن طبيعة الماء والطين إلى محل الأرواح العلوية التي ليست من هذا العالم السفلي كان من أهل هذا الجمع المحمود الذي جمعه من متفرقات النفس والطبع قوله بعد صحة التمكين والبراءة من التلوية والخلاص من شهود الثنوية معناه أن العبد لا يمكنه أن يشخص عن الماء والطين إلا بعد صحة تمكنه في المعرفة وبراءته من التلوين فشرط الشيخ حصول التمكين له وانتفاء التلوين عنه وخلاصه من شهود الثنوية فالتلوين تلونه لإجابة دواعي الطبع والنفس وشهود الثنوية عبارة مجملة محتملة وقد حملها الملحد على أن يشهد عبدا وربا وقديما وحديثا وخالقا ومخلوقا والتوحيد المحض أن يتخلص من ذلك بشهوده وحدة الوجود ومتى شهد تعدد الوجود كان ثنويا عند الملاحدة وأما الموحدون فالثنوية التي يجب التخلص منها أن يتخذ إلهين اثنين فيشهد مع الله إلها آخر وأما كونه يشهد مع الله موجودا غيره هو موجده وخالقه وفاطره فليس بثنوية بل هو توحيد خالص ولا يتم له التوحيد إلا بهذا الشهود(3/429)
ليصح له نفي الإلهية عنه وإلا فكيف ينفي الآلهة عما لا يشهده ويشهد نفيها عنه والمقصود أن صاحب الجمع إذا شهد ربا وعبدا وخالقا ومخلوقات وآمرا وفاعلا منفذا ومحركا ومتحركا ووليا وعدوا كان ذلك موجب عقد التوحيد وصحة التمكين هي حفظ الأصل الذي هو بقاء شهود الرسوم في مرتبتها وكأنه نبه بذلك على الاحتراز من القوم الذي تخطفهم لوائح شهود الجمع وتمكنهم ضعيف فينكرون صور الخلق حتى يقول أحدهم أنا نور من نور ربي لما يغلب على أحدهم من شهود الجمع وعدم تمكنه في البقاء وهذا قد يعرض للصادق أحيانا فيعلم أنه غالط فيرجع إلى الأصل ويحكم العلم على الحال فإذا صحا علم أنه غالط مخطئ وفي مثل هذا الحال قال أبو يزيد سبحاني وما في الجبة إلا الله ونحو ذلك فأخذ قوم هذه الشحطات فجعلوها غاية يجرون إليها ويعملون عليها فالشيخ شرط أنه لا يثبت شهود الجمع إلا لمن تمكن في شهود طور البقاء قوله والتنافي من الإحساس بالاعتلال الاعتلال عندهم هو التفرقة في الأسباب والوقوف مع الربط الواقع بين المسببات وأسبابها وذلك عقد لا يحله إلا شهود الجمع ولا يخفى ما في هذه العبارة من العجم والتعقيد وكذلك قوله والتنافي من شهود شهودها ومراده أن ينتفي عنه شهود هذه الأشياء التي ذكرها كلها وأن يفنى عن هذا الشهود فإنه إن لم يفن عنها كلها وعن شهود فنائه وإلا فهو معها لأنه يحس بها ولا يقع الإحساس إلا بما هو موجود عند صاحب الإحساس فإذا غاب عن شهودها ثم عن شهود الشهود فقد استقر قدمه في حضرة الجمع وقد تقدم غير مرة أن هذا ليس بكمال ولا مقصود في نفسه ولا يعطي كمالا ولا فيه معرفة ولا عبودية ولا دعت إليه الرسل ألبتة ولا اشار إليه القرآن ولا وصفه أهل الطريق المتقدمون وغايته أن يشبه صاحبه بالغائب(3/430)
عن عقله وحسه وإدراكه وغايته أن يكون عارضا من عوارض الطريق ليس بلازم فضلا عن أن يكون غاية ولما جعله من جعله غاية مطلوبة يشمر إليها السالكون دخل بسبب ذلك من الفساد على من شمر إليه ما يعلمه الراسخون في العلم من أئمة هذا الشأن والله المستعان والعبودية المطلوبة من العبد بمعزل عن ذلك وبالله التوفيق قوله وهو على ثلاث درجات جمع علم ثم جمع وجود ثم جمع عين فأما جمع العلم فهو تلاشي علوم الشواهد في العلم اللدني صرفا وأما جمع الوجود فهو تلاشي نهاية الاتصال في عين الوجود محقا وأما جمع العين فهو تلاشي كل ما تقله الإشارة في ذات الحق حقا علوم الشواهد هي ما حصلت من الاستدلال بالأثر على المؤثر وبالمصنوع على الصانع فالمصنوعات شواهد وأدلة وآثار وعلوم الشواهد هي المستندة إلى الشواهد الحاصلة عنها والعلم اللدني هو العلم الذي يقذفه الله في القلب إلهاما بلا سبب من العبد ولا استدلال ولهذا سمي لدنيا قال الله تعالى {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} والله تعالى هو الذي علم العباد مالا يعلمون كما قال تعالى {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ولكن هذا العلم أخص من غيره ولذلك أضافه إليه سبحانه كبيته وناقته وبلده وعبده ونحو ذلك فتضمحل العلوم المستندة إلى الأدلة والشواهد في العلم اللدني الحاصل بلا سبب ولا استدلال هذا مضمون كلامه ونحن نقول إن العلم الحاصل بالشواهد والأدلة هو العلم الحقيقي وأما ما يدعي حصوله بغير شاهد ولا دليل فلا وثوق به وليس بعلم نعم قد يقوى العلم الحاصل بالشواهد ويتزايد بحيث يصير المعلوم كالمشهود والغائب كالمعاين وعلم اليقين كعين اليقين فيكون الأمر شعورا أولا ثم تجويزا ثم ظنا ثم علما ثم معرفة ثم علم يقين ثم حق يقين ثم عين يقين ثم تضمحل كل مرتبة في التي فوقها بحيث يصير الحكم لها دونها فهذا حق.(3/431)
وأما دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب من الاستدلال فليس بصحيح فإن الله سبحانه ربط التعريفات بأسبابها كما ربط الكائنات بأسبابها ولا يحصل لبشر علم إلا بدليل يدله عليه وقد أيد الله سبحانه رسله بأنواع الأدلة والبراهين التي دلتهم على أن ما جاءهم هو من عند الله ودلت أممهم على ذلك وكان معهم أعظم الأدلة والبراهين على ان ما جاءهم هو من عند الله وكانت براهينهم أدلة وشواهد لهم وللأمم فالأدلة والشواهد التي كانت لهم ومعهم أعظم الشواهد والأدلة والله تعالى شهد بتصديقهم بما أقام عليه من الشواهد فكل علم لا يستند إلى دليل فدعوى لا دليل عليها وحكم لا برهان عند قائله وما كان كذلك لم يكن علما فضلا عن أن يكون لدنيا فالعلم اللدني ما قام الدليل الصحيح عليه أنه جاء من عند الله على لسان رسله وما عداه فلدني من لدن نفس الإنسان منه بدأ وإليه يعود وقد انبثق سد العلم اللدني ورخص سعره حتى ادعت كل طائفة أن علمهم لدني وصار من تكلم في حقائق الإيمان والسلوك وباب الأسماء والصفات بما يسنح له ويلقيه شيطانه في قلبه يزعم أن علمه لدني فملاحدة الاتحادية وزنادقة المنتسبين إلى السلوك يقولون إن علمهم لدني وقد صنف في العلم اللدني متهوكو المتكلمين وزنادقة المتصوفين وجهلة المتفلسفين وكل يزعم أن علمه لدني وصدقوا وكذبوا فإن اللدني منسوب إلى لدن بمعنى عند فكأنهم قالوا العلم العندي ولكن الشأن فيمن هذا العلم من عنده ومن لدنه وقد ذم الله تعالى بأبلغ الذم من ينسب إليه ما ليس من عنده كما قال تعالى {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} و قال تعالى{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} فكل من قال هذا العلم من عند الله وهو كاذب في هذه النسبة(3/432)
فله نصيب وافر من هذا الذم وهذا في القرآن كثير يذم الله سبحانه من أضاف إليه مالا علم له به ومن قال عليه مالا يعلم ولهذا رتب سبحانه المحرمات أربع مراتب وجعل أشدها القول عليه بلا علم فجعله آخر مراتب المحرمات التي لا تباح بحال بل هي محرمة في كل ملة وعلى لسان كل رسول فالقائل إن هذا علم لدني لما لا يعلم أنه من عند الله ولا قام عليه برهان من الله أنه من عنده كاذب مفتر على الله وهو من أظلم الظالمين وأكذب الكاذبين قوله وأما جمع الوجود فهو تلاشي نهاية الاتصال في عين الوجود محقا تلاشي نهاية الاتصال هو فناء العبد في الشهود ونهاية الاتصال هو ما ذكره في الدرجة الثالثة من باب الاتصال أنه لا يدرك منه نعت ولا مقدار إلا اسم معار ولمح إليه مشار فحقيقة الجمع في هذه الدرجة تلاشى ذلك في عين الوجود أي في حقيقته ويريد بالوجود ما أشار إليه في الدرجة الثانية من باب الوجود وهو قوله وجود الحق وجود عين منقطعا عن مساغ الإشارة فتضمحل نهاية الاتصال في هذا الوجود محقا أي ذوبانا وفناء قوله وأما جمع العين فهو تلاشي كل ما تقله الإشارة في ذات الحق حقا تقله الإشارة أي تحمله وتقوم به والإشارة تارة تكون باليد والرأس فتكون إيماء وتارة تكون بالعين فتكون رمزا وتارة تكون باللفظ فيسمى تعريضا وتارة تكون بالذهن والعقل فتضمحل كل هذه الأنواع وتبطل عند شهود العين في حضرة الجمع وظهور جلال الذات المقدسة والذات هي الحاملة للصفات والأفعال فعرفت من هذا أنه في الدرجة الأولى يغيب عن جميع العلوم المتعلقة بالأدلة والشواهد بالعلم اللدني وفي الدرجة الثانية يغيب عن اتصاله وشهود اتصاله بالوجود فإن الوجود فوق الاتصال كما تقدم وهذا كما يغيب الواجد الذي قد ظفر بموجوده عن شهود وصوله إليه واتصاله به فتفنيه عين وجوده عن شهود(3/433)
نفسه وصفاتها وفي الدرجة الثالثة يضمحل كل ما تحمله الإشارة إلى ذات أو إلى صفة أو حال أو مقام في ذات الحق سبحانه فلا يبقى هناك ما يشار إليه سواه قوله والجمع غاية مقامات السالكين وهو طرف بحر التوحيد وجه ذلك أن السالك ما دام في سلوكه فهو في تفرقة الاستدلال وطلب الشواهد فإذا وصل إلى مقام المعرفة وصار همه هما واحدا لله وفي الله وبالله ينزل في منزلة الجمع ويشمر لركوب بحر التوحيد الذي يتلاشى فيه كل ما سوى الواحد القهار فالجمع عنده نهاية سفر السالكين إلى الله وهذا موضع غير مسلم له على إطلاقه وإنما غاية مقام السالكين التوبة التي هي بدايات منازلهم ولعل سمعك ينفر من هذا غاية النفور وتقول هذا كلام من لم يعرف شيئا من طريق القوم ولا نزل في منازل الطريق ولعمر الله أن كثيرا من الناس ليوافقك على هذا ويقول أين كنا وأين صرنا نحن قد قطعنا منزلة التوبة وبيننا وبينها مائة مقام فترجع من مائة مقام إليها ونجعلها غاية مقام السالكين فاسمع الآن وعيه ولا تعجل بالإنكار ولا تبادر بالرد وافتح ذهنك لمعرفة نفسك وحقوق ربك وما ينبغي له منك وماله من الحق عليك ثم أنسب أعمالك وأحوالك وتلك المنازل التي نزلتها والمقامات التي قمت فيها لله وبالله إلى عظيم جلاله وما يستحقه وما هو له أهل فإن رأيتها وافية بذلك مكافئة له فلا حاجة حينئذ إلى التوبة والرجوع إليها رجوع عن المقامات العلية وانحطاط من علو إلى سفل ورجوع من غاية إلى بداية وما ذلك ببعيد من كثير من المنتسبين إلى هذا الشأن المغرورين بأحوالهم ومعارفهم وإشاراتهم وإن رأيت أن أضعاف أضعاف ما قمت به من صدق وإخلاص وإنابة وتوكل وزهد.(3/434)
وعبادة لا يفي بأيسر حق له عليك ولا يكافئ نعمة من نعمه عندك وأن ما يستحقه لجلاله وعظمته أعظم وأجل وأكبر ما يقوم به الخلق فاعلم الآن أن التوبة نهاية كل عارف وغاية كل سالك وكما أنها بداية فهي نهاية والحاجة إليها في النهاية أشد من الحاجة إليها في البداية بل هي في النهاية في محل الضرورة فاسمع الآن ما خاطب الله به رسوله في آخر الأمر عند النهاية وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته أشد ما كان استغفارا وأكثره قال الله تعالى {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النبي صلى اله عليه وسلمِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وهذا أنزله الله سبحانه بعد غزوة تبوك وهي آخر الغزوات التي غزاها بنفسه فجعل الله سبحانه التوبة عليهم شكرانا لما تقدم من تلك الأعمال وذلك الجهاد وقال تعالى في آخر ما أنزل على رسوله {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} وفي الصحيح أنه ما صلى صلاة بعد ما نزلت عليه هذه السورة إلا قال فيها" سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي "وذلك في نهاية أمره صلوات الله وسلامه عليه ولهذا فهم منها علماء الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه فأمره سبحانه بالاستغفار في نهاية أحواله وآخر أمره على ما كان عليه مقاما وحالا وآخر ما سمع من كلامه عند قدومه على ربه "اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى" وكان يختم كل عمل صالح بالاستغفار كالصوم والصلاة والحج والجهاد فإنه كان إذا فرغ منه وأشرف على المدينة قال "آيبون تائبون لربنا حامدون" وشرع أن يختم المجلس بالاستغفار وإن(3/435)
كان مجلس خير وطاعة وشرع أن يختم العبد عمل يومه بالاستغفار فيقول عند النوم أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأن ينام على سيد الاستغفار والعارف بالله وأسمائه وصفاته وحقوقه يعلم أن العبد أحوج ما يكون إلى التوبة في نهايته وأنه أحوج إلى التوبة من الفناء والاتصال وجمع الشواهد وجمع الوجود وجمع العين وكيف يكون ذلك أعلى مقامات السالكين وغاية مطلب المقربين ولم يأت له ذكر في القرآن ولا في السنة ولا يعرفه إلا النادر من الناس ولا يتصوره أكثرهم إلا بصعوبة ومشقة ولو سمعه أكثر الخلق لما فهموه ولا عرفوا المراد منه إلا بترجمة فأين في كتاب الله أو سنة رسوله أو كلام الصحابة الذين نسبة معارف من بعدهم إلى معارفهم كنسبة فضلهم ودينهم وجهادهم إليهم ما يدل على ذلك أو يشير إليه فصار المتأخرون أرباب هذه الاصطلاحات الحادثة بالألفاظ المجملة والمعاني المتشابهة أعرف بمقامات السالكين ومنازل السائرين وغاياتها من أعلم الخلق بالله بعد رسله هذا من أعظم الباطل وهؤلاء في باب الإرادة والطلب والسلوك نظير أرباب الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم في باب العلم والخبر عن الله وأسمائه وصفاته فالطائفتان بل وكثير من المصنفين في الفقه من المتكلفين أشد التكلف وقد قال الله تعالى لرسوله {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم فلا تجد هذا التكلف الشديد والتعقيد في الألفاظ والمعاني عند الصحابة أصلا.(3/436)
وإنما يوجد عند من عدل عن طريقهم وإذا تأمله العارف وجده كلحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل فيطول عليك الطريق ويوسع لك العبارة ويأتي بكل لفظ غريب ومعنى أغرب من اللفظ فإذا وصلت لم تجد معك حاصلا طائلا ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحنا فالمتكلمون في جعاجع الجواهر والأعراض والاكوان والألوان والجوهر الفرد والأحوال والحركة والسكون والوجود والماهية والانحياز والجهات والنسب والإضافات والغيرين والخلافين والضدين والنقيضين والتماثل والاختلاف والعرض هل يبقى زمانين وما هو الزمان والمكان ويموت أحدهم ولم يعرف الزمان والمكان ويعترف بأنه لم يعرف الوجود هل هو ماهية الشيء أو زائد عليها ويعترف أنه شاك في وجود الرب هل هو وجود محض أو وجود مقارن للماهية ويقول الحق عندي الوقف في هذه المسألة ويقول أفضلهم عند نفسه عند الموت أخرج من الدنيا وما عرفت إلا مسألة واحدة وهي أن الممكن يفتقر إلى واجب ثم قال الافتقار أمر عدمي فأموت ولم أعرف شيئا وهذا أكثر من أن يذكر كما قال بعض السلف أكثر الناس شكا عند الموت أرباب الكلام وآخرون أعظم تكلفا من هؤلاء وأبعد شيء عن العلم النافع وهم أرباب الهيولي والصورة والاصطقصات والأركان والعلل والأربعة والجواهر العقلية والمفارقات والمجردات والمقولات العشر والكليات الخمس والمختلطات والموجهات والقضايا المسوارات والقضايا المهملات فهو أعظم الطوائف تكلفا وأقلهم تحصيلا للعلم النافع والعمل الصالح وكذلك المتكلفون من أصحاب الإرادة والسلوك وأرباب الحال والمقام والوقت والمكان والبادي والباذه والوارد والخاطر والواقع والقادح واللامع(3/437)
والغيبة والحضور والمحق والحق والسكر واللوائح والطوالع والعطش والدهش والتلبيس والتمكين والتلوين والاسم والرسم والجمع وجمع الجمع وجمع الشواهد وجمع الوجود والأثر والكون والبون والاتصال والانفصال والمسامرة والمشاهدة والمعاينة والتجلي والتخلي وأنا بلا أنا وأنت بلا أنت ونحن بلا نحن وهو بلا هو وكل ذلك أدنى إشارة إلى تكلف هؤلاء الطوائف وتنطعهم وكذلك كثير من المنتسبين إلى الفقه لهم مثل هذا التكلف وأعظم منه فكل هؤلاء محجوبون بما لديهم موقوفون على ما عندهم خاضوا بزعمهم بحار العلم وما ابتلت أقدامهم وكدوا أفكارهم وأذهانهم وخواطرهم وما استنارت بالعلم الموروث عن الرسل قلوبهم وأفهامهم فرحين بما عندهم من العلوم راضين بما قيدوا به من الرسوم فهم في واد ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في واد والله يعلم أنا لم نتجاوز فيهم القول بل قصرنا فيما ينبغي لنا أن نقوله فذكرنا غضبا من فيض وقليلا من كثير وهؤلاء كلهم داخلون تحت الرأي الذي اتفق السلف على ذمه وذم أهله فهم أهل الرأي حقا الذين قال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا" وقال أيضا" أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها وتفلتت عليهم أن يرووها فاشتغلوا عنها بالرأي" وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه" أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم وقال عمر رضي الله عنه يا أيها الناس إن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا لأن الله عز وجل كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف وقال ابن عباس رضي الله عنهما من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد ما هو على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل وقال عمر رضي الله عنه يا أيها الناس اتهموا رأيكم(3/438)
على الدين فقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي أجتهد والله ما آلو ذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب فقالوا تكتب باسمك اللهم فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت فقال يا عمر تراني قد رضيت وتأبى وقال في الحديث الذي رويناه من طريق مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني سليمان بن عتيق عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم قال ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون فإن لم تكن هذه الألفاظ والمعاني التي نجدها في كثير من كلام هؤلاء تنطعا فليس للتنطع حقيقة والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل فإن لم يسمح قلبك بكون التوبة غاية مقامات السالكين ولم تصغ إلى شيء مما ذكرنا وأبيت إلا أن يكون تلاشي نهاية الاتصال في عين الوجود محقا وتلاشى علوم الشواهد في العلم اللدني صرفا وجمع الوجود وجمع العين هو نهاية مقامات السالكين إلى الله بحيث يدخل في ذلك كل سالك فاعلم أن هذا الجمع المذكور بمجرد لا يعطي عبودية ولا إيمانا فضلا عن أن يكون غاية كل نبي وولي وعارف فإن هذا الجمع يحصل للصديق والزنديق وللملاحدة والإتحادية منه حظ كبير وحوله يدندنون وهو عندهم نهاية التحقيق فأين تحقيق العبودية والقيام بأعبائها واحتمال فرائضها وسننها وأدائها والجهاد لأعداء الله والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحمل الأذى في الله في هذا الجمع وأين معرفة الأسماء والصفات فيه مفصلا وأين معرفة ما يحبه الرب تعالى ويكرهه فيه مفصلا وأين معرفة خير الخيرين وشر الشرين فيه وأين العلم بمراتب العبودية ومنازلها فيه فالحق أن نهاية السالكين تكميل مرتبة العبودية صرفا وهذا مما لا سبيل(3/439)
إليه لبني الطبيعة وإنما خص بذلك الخليلان عليهما الصلاة والسلام من بين سائر الخلق أما إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه فإن الله عز وجل شهد له بأنه وفي وأما سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه فإنه كمل مرتبة العبودية فاستحق التقديم على سائر الخلائق فكان صاحب الوسيلة والشفاعة التي يتأخر عنها جميع الرسل ويقول هو أنا لها ولهذا ذكره الله سبحانه وتعالى بالعبودية في أعلى مقاماته وأشرف أحواله كقوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} وقوله {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وقوله {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وقوله {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} ولهذا يقول المسيح حين يرغب إليه في الشفاعة اذهبوا إلى محمد عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فاستحق تلك الرتبة العليا بتكميل عبوديته لله وبكمال مغفرة الله له فرجع الأمر إلى أن غاية المقامات ونهايتها هو التوبة والعبودية المحضة لا جمع العين ولا جمع الوجود ولا تلاشي الاتصال فإن قلت فهذا الجمع إنما يحصل لمن قام بحقيقة التوبة والعبودية قيل ليس كذلك بل الجمع الذي يحصل لمن قام بذلك هو جمع الرسل وخلفائهم وهو جمع الهمة على الله سبحانه محبة وإنابة وتوكلا وخوفا ورجاء ومراقبة وجمع الهمة على تنفيذ أوامر الله في الخلق ودعوة وجهادا فهما جمعان جمع القلب على المعبود وحده وجمع الهم له على محض عبوديته فإن قلت فأين شاهد هذين الجمعين قلت في القرآن كله فخذه من فاتحة الكتاب في قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وتأمل ما في قوله {إِيَّاكَ} التخصيص لذاته المقدسة بالعبادة والاستعانة وما في قوله نعبد الذي هو للحال والاستقبال وللعبادة الظاهرة والباطنة من استيفاء أنواع العبادة حالا واستقبالا قولا وعملا ظاهرا وباطنا والاستعانة على ذلك به لا بغيره ولهذا(3/440)
كانت الطريق كلها في هاتين الكلمتين وهي معنى قولهم الطريق في إياك أريد بما تريد فجمع المراد في واحد والإرادة في مراده الذي يحبه ويرضاه فالى هذا دعت الرسل من أولهم إلى آخرهم وإليه شخص العاملون وتوجه المتوجهون وكل الأحوال والمقامات من أولها إلى آخرها مندرجة في ضمن ذلك ومن ثمراته وموجباته فالعبودية تجمع كمال الحب في كمال الذل وكمال الانقياد لمراضي المحبوب وأوامره فهي الغاية التي ليس فوقها غاية وإذا لم يكن إلى القيام بحقيقتها كما يجب سبيل فالتوبة هي المعول والآخية وقد عرفت بهذا وبغيره أن الحاجة إليها في النهاية أشد من الحاجة إليها في البداية ولولا تنسم روحها لحال اليأس بين ابن الماء والطين وبين الوصول إلى رب العالمين هذا لو قام بما ينبغي عليه أن يقوم به لسيده من حقوقه فكيف والغفلة والتقصير والتفريط والتهاون وإيثار حظوظه في كثير من الأوقات على حقوق ربه لا يكاد يتخلص منها ولا سيما السالك على درب الفناء والجمع لأن ربه يطالبه بالعبودية ونفسه تطالبه بالجمع والفناء ولو حقق النظر مع نفسه وحاسبها حسابا صحيحا لتبين له أن حظه يريد ولذته يطلب نعم كل أحد يطلب ذلك لكن الشأن في الفرق بين من صار حظه نفس مرضاة الله ومحابه أحبت ذلك نفسه أو كرهته وبين من حظه ما يريد من ربه فالأول حظه مراد ربه الديني الشرعي منه وهذا حظه مراده من ربه وبالله التوفيق فإن قيل هذا الباب مسلم لأهل الذوق وأنتم تتكلمون بلسان العلم لا بلسان الذوق والذائق واجد والواجد لا يمكنه إنكار موجوده فلا يرجع إلى صاحب العلم بل يدعوه إلى ذوق ما ذاقه ويقول
أقول للائم المهدي ملامته ... ذق الهوى وإن اسطعت الملام لم.(3/441)
قيل لم ينصف من أحال على الذوق فإنها حوالة على محكوم عليه لا على حاكم وعلى مشهود له لا على شاهد وعلى موزون لا على ميزان ويا سبحان الله هل يدل مجرد ذوق الشيء على حكمه وأنه حق أو باطل وهل جعل الله ورسوله الأذواق والمواجيد حججا وأدلة يميز بها بين ما يحبه ويرضاه وبين ما يكرهه ويسخطه ولو كان ذلك كذلك لاحتج كل مبطل على باطله بالذوق والوجد كما تجده في كثير من أهل الباطل والإلحاد فهؤلاء الاتحادية وهم أكفر الخلق يحتجون بالذوق والوجد على كفرهم وإلحادهم حتى ليقول قائلهم
يا صاحبي أنت تنهاني وتأمرني ... والوجد أصدق نهاء وأمار
فإن أطعك وأعص الوجد رحت عم ... عن اليقين إلى أوهام أخبار
وعين ما أنت تدعوني إليه إذا ... حققته بدل المنهي يا جار
ويقول هذا القائل ثبت عندنا بالكشف والذوق ما يناقض صريح العقل وكل معتقد لأمر جازم به مستحسن له يذوق طعمه فالملحد يذوق طعم الاتحاد والانحلال من الدين والرافضي يذوق طعم الرفض ومعاداة خيار الخلق والقدري يذوق طعم إنكار القدر ويعجب ممن يثبته والجبري عكسه والمشرك يذوق طعم الشرك حتى إنه ليستبشر إذا ذكره إلهه ومعبوده من دون الله ويشمئز قلبه إذا ذكر الله وحده وهذا الاحتجاج قد سلكه أرباب السماع المحدث الشيطاني الذي هو محض شهوة النفس وهواها واحتجوا على إباحة هذا السماع بما فيه من الذوق والوجد واللذة وأنت تجد النصراني له في تثليثه ذوق ووجد وحنين بحيث لو عرض عليه أشد العذاب لاختاره دون أن يفارق تثليثه لما له فيه من الذوق وحينئذ فيقال هب أن الأمر كما تقول وأن المتكلم المنكر لم يتكلم بلسان الذوق فهل يصح أن يكون ذوق الذائق لذلك حجة صحيحة نافعة له بينه(3/442)
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة الهمة وقد صدرها صاحب المنازل بقوله تعالى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وقد تقدم أنه صدر بها باب الأدب وذكرنا وجهه وأما وجه تصدير الهمة بها فهو الإشارة إلى أن همته ما تعلقت بسوى مشهوده وما أقيم فيه ولو تجاوزته همته لتبعها بصره والهمة فعلة من الهم وهو مبدأ الإرادة ولكن خصوها بنهاية الإرادة فالهم مبدأها والهمة نهايتها وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في بعض الآثار الإلهية يقول الله تعالى إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنظر إلى همته قال والعامة تقول قيمة كل امرىء ما يحسن والخاصة تقول قيمة كل امرىء ما يطلب يريد أن قيمة المرء همته ومطلبه قال صاحب المنازل الهمة ما يملك الانبعاث للمقصود صرفا لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها قوله يملك الانبعاث للمقصود أي يستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك وصرفا أي خالصا صرفا والمراد أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبا صادقا خالصا محضا فتلك هي الهمة العالية التي لا يتمالك صاحبها أي لا يقدر على المهلة ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود ولا يلتفت عنها.ر(3/3)
إلى ما سوى أحكامها وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه مالم تعقه العوائق وتقطعه العلائق والله أعلم.
فصل قال وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى همة تصون القلب عن وحشة.
الرغبة في الفاني وتحمله على الرغبة في الباقي وتصفيه من كدر التواني الفاني الدنيا وما عليها أي يزهد القلب فيها وفي أهلها وسمى الرغبة فيها وحشة لأنها وأهلها توحش قلوب الراغبين فيها وقلوب الزاهدين فيها أما الراغبون فيها فأرواحهم وقلوبهم في وحشة من اجسامهم إذ فاتها ما خلقت له فهي في وحشة لفواته وأما الزاهدون فيها فإنهم يرونها موحشة لهم لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم ولا شيء أوحش عند القلب مما يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه ولذلك كان من نازع الناس أموالهم وطلبها منهم أوحش شيء إليهم وأبغضه وأيضا فالزاهدون فيها إنما ينظرون إليها بالبصائر والراغبون ينظرون إليها بالأبصار فيستوحش الزاهد مما يأنس به الراغب كما قيل:
وإذا أفاق القلب واندمل الهوى ... رأت القلوب ولم تر الأبصار
وكذلك هذه الهمة تحمله على الرغبة في الباقي لذاته وهو الحق سبحانه والباقي بإبقائه هو الدار الآخرة وتصفيه من كدر التواني أي تخلصه وتمحصه من أوساخ الفتور والتواني الذي هو سبب الإضاعة والتفريط والله أعلم.(3/4)
فصل قال الدرجة الثانية همة تورث أنفة من المبالاة بالعلل والنزول.
على العمل والثقة بالأمل العلل ههنا هي علل الأعمال من رؤيتها أو رؤية ثمراتها وإرادتها ونحو ذلك فإنها عندهم علل فصاحب هذه الهمة يأنف على همته وقلبه من أن يبالي بالعلل فإن همته فوق ذلك فمبالاته بها وفكرته فيها نزول من الهمة وعدم هذه المبالاة إما لأن العلل لم تحصل له لأن علو همته حال بينه وبينها فلا يبالي بما لم يحصل له وإما لأن همته وسعت مطلوبه وعلوه يأتي على تلك العلل ويستأصلها فإنه إذا علق همته بما هو أعلى منها تضمنتها الهمة العالية فاندرج حكمها في حكم الهمة العالية وهذا موضع غريب عزيز جدا وما أدري قصده الشيخ أو لا وأما أنفته من النزول على العمل فكلام يحتاج إلى تقييد وتبيين وهو أن العالي الهمة مطلبه فوق مطلب العمال والعباد وأعلى منه فهو يأنف أن ينزل من سماء مطلبه العالي إلى مجرد العمل والعبادة دون السفر بالقلب إلى الله ليحصل له ويفوز به فإنه طالب لربه تعالى طلبا تاما بكل معنى واعتبار في عمله وعبادته ومناجاته ونومه ويقظته وحركته وسكونه وعزلته وخلطته وسائر أحواله فقد انصبغ قلبه بالتوجه إلى الله تعالى أيما صبغة وهذاالأمر إنما يكون لأهل المحبة الصادقة فهم لا يقنعون بمجرد رسوم الأعمال ولا بالاقتصار على الطلب حال العمل فقط.(3/5)
وأما أنفته من الثقة بالأمل فإن الثقة توجب الفتور والتواني وصاحب هذه الهمة ليس من أهل ذلك كيف وهو طائر لا سائر والله أعلم.
فصل قال الدرجةالثالثة همة تتصاعد عن الأحوال والمعاملات وتزرى.
بالأعواض والدرجات وننحو عن النعوت نحو الذات أي هذه الهمة أعلى من أن يتعلق صاحبها بالأحوال التي هي آثار الأعمال والواردات أو يتعلق بالمعاملات وليس المراد تعطيلها بل القيام بها مع عدم الالتفات إليها والتعلق بها ووجه صعود هذه المهمة عن هذا ما ذكره من قوله وتزري بالأعواض والدرجات وتنحو عن النعوت نحو الذات أي صاحبها لا يقف عند عوض ولا درجة فإن ذلك نزول من همته ومطلبه أعلى من ذلك فإن صاحب هذه الهمة قد قصر همته على المطلب الأعلى الذي لا شيء أعلى منه والأعواض والدرجات دونه وهو يعلم أنه إذا حصل له فهناك كل عوض ودرجة عالية وأما نحوها نحو الذات فيريد به أن صاحبها لا يقتصر على شهود الأفعال والأسماء والصفات بل الذات الجامعة لمتفرقات الأسماء والصفات والأفعال كما تقدم والله أعلم.(3/6)
فصل ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة المحبة وهي.
المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون وإليها شخص العاملون وإلى علمها شمر السابقون وعليها تفانى المحبون وبروح نسيمها تروح العابدون فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.(3/6)
وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب فيالها من نعمة على المحبين سابغة تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدا وتجي في الأول
أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم وشكروا مولاهم على ما أعطاهم وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد ... حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم ... إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن ... نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد
وخذ منهم زادا اليهم وسر على ... ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
طريق الهدى والفقر تصبح واصلا
وأحي بذكراهم سراك إذا ونت ... ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها ... أمامك ورد الوصل فابغ المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به ... فنورهم يهديك ليس المشاعلا
...(3/7)
وحي على واد الأراك فقل به ... عساك تراهم فيه إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عند معرف ال ... أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن ... كفت فمتى يا ويح من كان
غافلا وحي على جنات عدن بقربهم ... منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا ... وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
فدعها رسوما دارسات فما بها ... مقيل فجاوزها فليست منازلا
رسوم عفت يفنى بها الخلق كم بها ... قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي ... عليه سرى وفد المحبة آهلا وقل
ساعدي يا نفس بالصبر ساعة ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح فما للمفلس الجبان البخيل
وسومها بدم المحب يباع وصلهم ... فمن الذي يبتاع بالثمن
تالله ما هزلت فيستامها المفلسون ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس فتأخر البطالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنا فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}
فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فتأخرا أكثر المحبين وقام المجاهدون فقيل لهم إن نفوس المحبين وأموالهم.(3/8)
ليست لهم فهلموا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وأن لها شأنا فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار وقالوا والله لا نقيلك ولا نستقيلك فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل له مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معا {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} إذا غرست شجرة المحبة في القلب وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب أثمرت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربها أصلها ثابت في قرار القلب وفرعها متصل بسدرة المنتهى لا يزال سعي المحب صاعدا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}.
فصل لا تحد المحبة بحد أوضح منها فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء.
فحدها وجودها ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة وتنوعت بهم العبارات وكثرت الإشارات بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله وملكه للعبارة وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة أشياء أحدها الصفاء والبياض ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان.(3/9)
الثاني العلو والظهور ومنه حبب الماء وحبابه وهو ما يعلوه عند المطر الشديد وحبب الكأس منه الثالث اللزوم والثبات ومنه حب البعير وأحب إذا برك ولم يقم قال الشاعر
حلت عليه بالفلاة ضربا ... ضرب بعير السوء إذ أحبا
الرابع اللب ومنه حبة القلب للبه وداخله ومنه الحبة لواحدة الحبوب إذي أصل الشيء ومادته وقوامه الخامس الحفظ والإمساك ومنه حب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه وفيه معنى الثبوت أيضا ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة فإنها صفاء المودة وهيجان إرادات القلب للمحبوب وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوما لا تفارقه ولإعطاء المحب محبوبه لبه وأشرف ما عنده وهو قلبه ولاجتماع عزماته وإرداته وهمومه على محبوبه فاجتمعت فيها المعاني الخمسة ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة الحاء التي هي من أقصى الحلق والباء الشفوية التي هي نهايته فللحاء الابتداء وللباء الانتهاء وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه وقالوا في فعلها حبه وأحبة قال الشاعر
أحب أبا ثروان من حب تمره ... ولم تعلم أن الرفق بالجار
أرفق فوالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق
ثم اقتصروا على اسم الفاعل من أحب فقالوا محب ولم يقولوا حاب واقتصروا على اسم المفعول من حب فقالوا محبوب ولم يقولوا محب إلا قليلا كما قال الشاعر
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم(3/10)
وأعطوا الحب حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة حركة مسماه وقوتها وأعطوا الحب وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها عن الضمة وخفة المحبوب وخفة ذكره على قلوبهم وألسنتهم من إعطائه حكم نظائره كنهب بمعنى منهوب وذبح بمعنى مذبوح وحمل للمحمول بخلاف الحمل الذي هو مصدر لخفته ثم ألحقوا به حملا لا يشق على حامله حمله كحمل الشجرة والولد فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني تطلعك على قدر هذه اللغة وأن لها شأنا ليس لسائر اللغات.
فصل في ذكر رسوم وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها وشواهدها.
والكلام على ما يحتاج إليه منها الأول قيل المحبة الميل الدائم بالقلب الهائم وهذا الحد لا تمييز فيه بين الحبة الخاصة والمشتركة والصحيحة والمعلولة الثاني إيثار المحبوب على جميع المصحوب وهذا حكم من أحكام المحبة وأثر من آثارها الثالث موافقة الحبيب في المشهد والمغيب وهذا أيضا موجبها ومقتضاها وهو أكمل من الحدين قبله فإنه يتناول المحبة الصادقة الصحيحة خاصة بخلاف مجرد الميل والإيثار بالإرادة فإنه إن لم تصحبه موافقة فمحبته معلولة الرابع محو الحب لصفاته وإثبات المحبوب لذاته وهذا أيضا من أحكام الفناء في المحبة أن تنمحي صفات المحب وتفنى في صفات محبوبه وذاته وهذا يستدعي بيانا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه وأخذه منه.(3/11)
الخامس مواطأة القلب لمرادات المحبوب وهذا أيضا من موجباتها وأحكامها والموطأة الموافقة لمرادات المحبوب وأوامره ومراضيه السادس خوف ترك الحرمة مع إقامة الخدمة وهذا أيضا من أعلامها وشواهدها وآثارها أن يقوم بالخدمة كما ينبغي مع خوفه من ترك الحرمة والتعظيم السابع استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك وهذا قول أبي يزيد وهو أيضا من أحكامها وموجباتها وشواهدها والمحب الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيى منه ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه الثامن استكثار القليل من جنايتك واستقلال الكثير من طاعتك وهو قريب من الذي قبله لكنه مخصوص بما من المحب التاسع معانقة الطاعة ومباينة المخالفة وهو لسهل بن عبدالله وهو أيضا حكم المحبة وموجبها العاشر دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب وهو للجنيد وفيه غموض ومراده أن استيلاء ذكر المحبوب وصفاته وأسمائه على قلب المحب حتى لا يكون الغالب عليه إلا ذلك ولا يكون شعوره وإحساسه في الغالب إلا بها فيصير شعوره وإحساسه بدلا من شعوره وإحساسه بصفات نفسه وقد يحتمل معنى أشرف من هذا وهو تبدل صفات المحب الذميمة التي لا توافق صفات المحبوب بالصفات الجميلة المحبوبة التي توافق صفاته والله أعلم الحادي عشر أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء وهو لأبي عبدالله القرشي وهو أيضا من موجبات المحبة وأحكامها والمراد أن تهب إرادتك وعزمك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه.(3/12)
وتجعلها حبسا في مرضاته ومحابه فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك فتأخذه منه له الثاني عشر أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب وهو للشبلي وكمال المحبة يقتضي ذلك فإنه ما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة الثالث عشر إقامة العتاب على الدوام وهو لابن عطاء وفيه غموض ومراده أن لا تزال عاتبا على نفسك في مرضاة المحبوب وأن لا ترضى له فيها عملا ولا حالا الرابع عشر أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك وهو للشبلي أيضا وفيه كلام سنذكره إن شاء الله في منزلة الغيرة ومراده احتقارك لنفسك واستصغارها أن يكون مثلك من محبيه الخامس عشر إرادة غرست أغصانها في القلب فأثمرت الموافقة والطاعة السادس عشر أن ينسى المحب حظه في محبوبه وينسى حوائجه إليه وهو لأبي يعقوب السوسي ومراده أن استيلاء سلطانها على قلبه غيبه عن حظوظه وعن حوائجه واندرجت كلها في حكم المحبة السابع عشر مجانبة السلو على كل حال وهو للنصراباذي وهو أيضا من لوازمها وثمراتها كما قيل
مرت بأرجاء الخيال طيوفه ... فبكت على رسم السلو الدارس
الثامن عشر توحيد المحبوب بخالص الإرادة وصدق الطلب التاسع عشر سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب وهو لمحمد بن الفضل ومراده توحيد المحبوب بالمحبة العشرون غض طرف القلب عما سوى المحبوب غيرة وعن المحبوب هيبة وهذا يحتاج إلى تبيين أما الأول فظاهر وأما الثاني فإن غض طرف القلب عن المحبوب مع.ر(3/13)
كمال محبته كالمستحيل ولكن عند استيلاء الهيبة يقع مثل هذا وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم وقد قيل إن هذا تفسير قول النبي صلى اله عليه وسلم "حبك الشيء يعمي ويصم" أي يعمى عما سواه غيرة وعنه هيبة وليس هذا مراد الحديث ولكن المراد به أن حبك للشيء يعمي ويصم عن تأمل قبائحه ومساويه فلا تراها ولا تسمعها وإن كانت فيه وليس المراد به ذكر المحبة المطلوبة المتعلقة بالرب ولا يقال في حب الرب تبارك وتعالى حبك الشيء ولا يوصف صاحبها بالعمى والصم ونحن لا ننكر المرتبتين المذكورتين فإن المحب قد يعمى ويصم عنه بالهيبة والإجلال ولكن لا توصف محبة العبد لربه تعالى بذلك وليس أهلها من أهل العمى والصمم بل هم أهل الأسماع والأبصار على الحقيقة ومن سواهم هم البكم العمي الصم الذين لا يعقلون الحادي والعشرون ميلك للشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه قال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول ذلك الثاني والعشرون المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول لمت بعض الإباحية فقال لي ذلك ثم قال والكون كله مراده فأي شيء أبغض منه قال الشيخ فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض أفعالا وأقوالا وأقواما وعاداهم فطردهم ولعنهم فأحببتهم تكون مواليا للمحبوب أو معاديا له قال فكأنما ألقم حجرا وافتضح بين أصحابه وكان مقدما فيهم مشارا إليه وهذا الحد صحيح وقائله إنما أراد أنها تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه لا المراد الذي قدره وقضاه لكن.(3/14)
لقلة حظ المتأخرين منهم وغيرهم من العلم وقعوا فيما وقعوا فيه من الإباحة والحلول والاتحاد والمعصوم من عصمه الله الثالث والعشرون المحبة بذل المجهود وترك الاعتراض على المحبوب وهذا أيضا من حقوقها وثمراتها وموجباتها الرابع والعشرون سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف وأنشد
فأسكر القوم دور الكأس بينهم
لكن سكري نشا من رؤية الساقي
وينبغي صون المحبة والحبيب عن هذه الألفاظ التي غاية صاحبها أن يعذر بصدقه وغلبة الوارد عليه وقهره له فمحبة الله أعلى وأجل من أن تضرب لها هذه الأمثال وتجعل عرضة للأفواه المتلوثة والألفاظ المبتدعة ولكن الصادق في خفارة صدقه
الخامس والعشرون أن لا يؤثر على المحبوب غيره وأن لا يتولى أمورك غيره السادس والعشرون الدخول تحت رق المحبوب وعبوديته والحرية من استرقاق ما سواه السابع والعشرون المحبة سفر القلب في طلب المحبوب ولهج اللسان بذكره على الدوام قلت أما سفر القلب في طلب المحبوب فهو الشوق إلى لقائه وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن من أحب شيئا أكثر من ذكره الثامن والعشرون أن المحبة هي مالا ينقص بالجفاء ولا تزيد بالبر وهو.(3/15)
ليحيى بن معاذ بل الإرادة والطلب والشوق إلى المحبوب لذاته فلا ينقص ذلك جفاؤه ولا يزيده بره وفي ذلك ما فيه فإن المحبة الذاتية تزيد بالبر ولا تنقصها زيادتها بالبر وليس ذلك بعلة ولكن مراد يحيى أن القلب قد امتلأ بالمحبة الذاتية فإذا جاء البر من محبوبه لم يجد في القلب مكانا خاليا من حبه يشغله محبة البر بل تلك المحبة قد استحقت عليه بالذات بلا سبب ومع هذا فلا يزيل الوهم فإن المحبة لا نهاية لها وكلما قويت المعرفة والبر قويت المحبة ولا نهاية لجمال المحبوب ولا بره فلا نهاية لمحبته بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم وكانت على قلب رجل واحد منهم كان ذلك دون ما يستحقه الرب جل جلاله ولهذا لا تسمى محبة العبد لربه عشقا كما سيأتي لأنه إفراط المحبة والعبد لا يصل في محبة الله إلى حد الإفراط البتة والله أعلم التاسع والعشرون المحبة أن يكون كلك بالمحبوب مشغولا وذلك له مبذولا الثلاثون وهو من أجمع ما قيل فيها قال أبو بكر الكتاني جرت مسألة في المحبة بمكة أعزها الله تعالى أيام الموسم فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا هات ما عندك يا عراقي فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه قائم بأداء حقوقه ناظر إليه بقلبه أحرقت قلبه أنوار هيبته وصفا شربه من كأس وده وانكشف له الجبار من أستار غيبه فإن تكلم فبالله وإن نطق فعن الله وإن تحرك فبأمر الله وإن سكن فمع الله فهو بالله ولله ومع الله فبكى الشيوخ وقالوا ما على هذا مزيد جزاك الله يا تاج العارفين.(3/16)
فصل في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها وهي عشرة.
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب
السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته
السابع: وهو من أعجبها انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك.(3/17)
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب وملاك ذلك كله أمران
1 استعداد الروح لهذا الشأن
2 وانفتاح عين البصيرة وبالله التوفيق.
فصل والكلام في هذه المنزلة معلق بطرفين طرف محبة العبد لربه وطرف.
محبة الرب لعبده والناس في إثبات ذلك ونفيه أربعة أقسام فأهل يحبهم ويحبونه على إثبات الطرفين وأن محبة العبد لربه فوق كل محبة تقدر ولا نسبة لسائر المحاب إليها وهي حقيقة لا إله إلا الله وكذلك عندهم محبة الرب لأوليائه وأنبيائه ورسله صفة زائدة على رحمته وإحسانه وعطائه فإن ذلك أثر المحبة وموجبها فإنه لما أحبهم كان نصيبهم من رحمته وإحسانه وبره أتم نصيب والجهمية المعطلة عكس هؤلاء فإنه عندهم لا يحب ولا يحب ولم يمكنهم تكذيب النصوص فأولوا نصوص محبة العباد له على محبة طاعته وعبادته والازدياد من الأعمال لينالوا بها الثواب وإن أطلقوا عليهم بها لفظ المحبة ينالون به من الثواب والأجر والثواب المنفصل عندهم هو المحبوب لذاته والرب تعالى محبوب لغيره حب الوسائل وأولوا نصوص محبته لهم بإحسانه إليهم وإعطائهم الثواب وربما أولوها بثنائه عليهم ومدحه لهم ونحو ذلك وربما أولوها بإراداته لذلك فتارة يؤولونها بالمفعول المنفصل وتارة يؤولونها بنفس الإرادة ويقولون الإرادة إن تعلقت بتخصيص العبد بالأحوال والمقامات العلية سميت محبة وإن تعلقت بالعقوبة والانتقام سميت غضبا وإن تعلقت بعموم الإحسان والإنعام الخاص سميت برا وإن تعلقت بإيصاله في خفاء.(3/18)
من حيث لا يشعر ولا يحتسب سميت لطفا وهي واحدة ولها أسماء وأحكام باعتبار متعلقاتها ومن جعل محبته للعبد ثناءه عليه ومدحه له ردها إلى صفة الكلام فهي عنده من صفات الذات لا من صفات الأفعال والفعل عنده نفس المفعول فلم يقم بذات الرب محبة لعبده ولا لأنبيائه ورسله البتة ومن ردها إلى صفة الإرادة جعلها من صفات الذات باعتبار أصل الإرادة ومن صفات الأفعال باعتبار تعلقها ولما رأى هؤلاء أن المحبة إرادة وأن الإرادة لا تتعلق إلا بالمحدث المقدور والقديم يستحيل أن يراد أنكروا محبة العباد والملائكة والأنبياء والرسل له وقالوا لا معنى لها إلا إرادة التقرب إليه والتعظيم له وإرادة عبادته فأنكروا خاصة الإلهية وخاصة العبودية واعتقدوا أن هذا من موجبات التوحيد والتنزيه فعندهم لا يتم التوحيد والتنزيه إلا بجحد حقيقة الإلهية وجحد حقيقة العبودية وجميع طرق الأدلة عقلا ونقلا وفطرة وقياسا واعتبارا وذوقا ووجدا تدل على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده وقد ذكرنا لذلك قريبا من مائة طريق في كتابنا الكبير في المحبة وذكرنا فيه فوائد المحبة وما تثمر لصاحبها من الكمالات وأسبابها وموجباتها والرد على من أنكرها وبيان فساد قوله وأن المنكرين لذلك قد أنكروا خاصة الخلق والأمر والغاية التي وجدوا لأجلها فإن الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشأ عن المحبة ولأجلها وهي الحق الذي به خلقت السموات والأرض وهي الحق الذي تضمنه الأمر والنهي وهي سر التأليه وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا الله وليس كما زعم المنكرون أن الإله هو الرب الخالق فإن المشركين.(3/19)
كانوا مقرين بأنه لا رب إلا الله ولا خالق سواه وبأنه وحده المنفرد بالخلق والربوبية ولم يكونوا مقرين بتوحيد الإلهية وهو المحبة والتعظيم بل كانوا يؤلهون مع الله غيره وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله وصاحبه ممن اتخذ من دون الله أندادا قال الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}
فأخبر أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية بخلاف ند المحبة فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم ثم قال {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}
وفي تقدير الآية قولان أحدهما {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله والثاني {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} من محبة المشركين في الأنذار فإن محبة المؤمنين خالصة ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها والمحبة الخالصة أشد من المشتركة والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} فإن فيها قولان أحدهما يحبونهم كما يحبون الله فيكون قد أثبت لهم محبة الله ولكنها محبة يشركون فيها مع الله أندادا والثاني أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم.(3/20)
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول إنما ذموا بأن أشركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم وهذا أصح القولين وقيل الباء بمعنى عن والمعنى ثم الذين كفروا عن ربهم يعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره وهذا ليس بقوي إذ لا تقول العرب عدلت بكذا أي عدلت عنه وإنما جاء هذا في فعل السؤال نحو سألت بكذا أي عنه كأنهم ضمنوه اعتنيت به واهتممت ونحو ذلك وقال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُم الله}
وهي تسمى آية المحبة قال أبو سليمان الداراني لما ادعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.(3/21)
قال بعض السلف ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحنة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها فدليلها وعلامتها اتباع الرسول وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم فما لم تحصل المتابعة فليست محبتكم له حاصلة ومحبته لكم منتفية وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فقد ذكر لهم أربع علامات أحدها أنهم أذلة على المؤمنين قيل معناه أرقاء رحماء مشفقين عليهم عاطفين عليهم فلما ضمن أذلة هذا المعنى عداه بأداة على قال عطاء للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده وعلى الكافرين كالأسد على فريسته {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
العلامة الثالثة الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد واللسان والمال وذلك تحقيق دعوى المحبة العلامة الرابعة أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم وهذا علامة صحة المحبة فكل محب يأخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة كما قيل
لا كان من لسواك فيه بقية ... يجد السبيل بها إليه اللوم
وقال تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} إلى قوله {مَحْذُوراً} فذكر المقامات الثلاث الحب وهو ابتغاء القرب إليه والتوسل إليه بالأعمال الصالحة والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب ومن المعلوم قطعا أنك لا يتنافس إلا في قرب من تحب قربه وحب قربه.ر(3/22)
تبع لمحبة ذاته بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه وعند الجهمية والمعطلة ما من ذلك كله شيء فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء ولا يقرب من ذاته شيء ولا يحب لذاته ولا يحب فأنكروا حياة القلوب ونعيم الأرواح وبهجة النفوس وقرة العيون وأعلى نعيم الدنيا والأخرة ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضربت دونهم ودون الله حجب على معرفته ومحبته فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله عز وجل ومعرفته وتوحيده والله المستعان وقال تعالى {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه}
وقال أحبابه وأولياؤه {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً}
وقال تعالى {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}
فجعل غاية أعمال الأبرار والمقربين والمحبين إرادة وجهه وقال تعالى {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} فجعل إرادته غير إرادة الآخرة وهذه الأرادة لوجهه موجبة للذة النظر إليه في الآخرة كما في مستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان في الحديث المرفوع عن النبي صلى اله عليه وسلم "أنه كان يدعو اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة.(3/23)
الحق في الغضب والرضى وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" فقد اشتمل هذا الحديث الشريف على ثبوت لذة النظر إلى وجه الله وعلى ثبوت الشوق إلى لقائه وعند الجهمية لا وجه له سبحانه ولا ينظر إليه فضلا أن يحصل به لذة كما سمع بعضهم داعيا يدعو بهذا الدعاء فقال ويحك هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" وفي الصحيحين عنه أيضا عن النبي صلى اله عليه وسلم" إذا أحب الله العبد دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض " /ح/ وذكر في البغض عكس ذلك وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في حديث أمير السرية الذي كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لأصحابه في كل صلاة وقال" لأنها صفة الرحمن فأنا.(3/24)
أحب أن أقرأ بها فقال النبي صلى اله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه" وفي جامع الترمذي من حديث أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال " كان من دعاء داود اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد" وفيه أيضا من حديث عبدالله بن يزيد الخطمي أن النبي صلى اله عليه وسلم "كان يقول في دعائه اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا فيما تحب " والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم كقوله تعالى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقوله في ضد ذلك {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} وكم في السنة أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا وإن الله يحب كذا وكذا كقوله" أحب الأعمال إلى الله الصلاة على أول وقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله" و"أحب الأعمال إلى الله الإيمان بالله ثم الجهاد في سبيل الله ثم حج مبرور" و" أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه" وقوله "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه " وأضعاف أضعاف ذلك وفرحه العظيم بتوبة عبده الذي هو أشد فرح يعلمه العباد وهو من محبته للتوبة وللتائب.(3/25)
فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان ولتعطلت منازل السير إلى الله فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها بل هي حقيقة الإخلاص بل هي نفس الإسلام فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله فمن لا محبة له لا إسلام له البتة بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله فإن الإله هو الذي يأله العباد حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة له بمعنى مألوه وهو الذي تألهه القلوب أي تحبه وتذل له وأصل التأله التعبد والتعبد آخر مراتب الحب يقال عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبه فالمحبة حقيقة العبودية وهل تمكن الإنابة بدون المحبة والرضى والحمد والشكر والخوف والرجاء وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين فإنه إنما يتوكل على المحبوب في حصول محابه ومراضيه وكذلك الزهد في الحقيقة هو زهد المحبين فإنهم يزهدون في محبة ما سوى محبوبهم لمحبته وكذلك الحياء في الحقيقة إنما هو حياء المحبين فإنه يتولد من بين الحب والتعظيم وأما مالا يكون عن محبة فذلك خوف محض وكذلك مقام الفقر فإنه في الحقيقة فقر الأرواح إلى محبوبها وهو أعلى أنواع الفقر فإنه لا فقر أتم من فقر القلب إلى من يحبه ولا سيما إذا وحده في الحب ولم يجد منه عوضا سواه هذا حقيقة الفقر عند العارفين وكذلك الغنى هو غنى القلب بحصول محبوبه وكذلك الشوق إلى الله تعالى ولقائه فإنه لب المحبة وسرها كما سيأتي فمنكر هذه المسألة ومعطلها من القلوب معطل لذلك كله وحجابه أكثف الحجب وقلبه أقسى القلوب وأبعدها عن الله وهو منكر لخلة.(3/26)
إبراهيم عليه السلام فإن الخلة كمال المحبة وهو يتأول الخليل بالمحتاج فخليل الله عنده هو المحتاج فكم على قوله لله من خليل من بر فاجر بل مؤمن وكافر إذ كثير من الفجار والكفار من ينزل حوائجه كلها بالله صغيرها وكبيرها ويرى نفسه أحوج شيء إلى ربه في كل حالة فلا بالخلة أقر المنكرون ولا بالعبودية ولا بتوحيد الإلهية ولا بحقائق الإسلام والإيمان والإحسان ولهذا ضحى خالد بن عبدالله القسرى بمقدم هؤلاء وشيخهم جعد بن درهم وقال في يوم عيد الله الأكبر عقيب خطبته أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه فشكر المسلمون سعيه ورحمه الله وتقبل منه.
فصل في مراتب المحبة.
أولها العلاقة وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب قال الشاعر أعلاقة أم الوليد بعيد ما % أفنان رأسك كالثغام المخلس الثانية الإرادة وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له الثالثة الصبابة وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه كانصباب الماء في الحدور فاسم الصفة منها صب والفعل صبا إليه يصبو صبا وصبابة فعاقبوا بين المضاعف والمعتل وجعلوا الفعل من المعتل والصفة من المضاعف ويقال صبا وصبوة وصبابة فالصبا أصل الميل والصبوة فوقه والصبابة الميل اللازم وإنصباب القلب بكليته الرابعة الغرام وهو الحب اللازم للقلب الذي لا يفارقه بل يلازمه.(3/27)
كملازمة الغريم لغريمه ومنه سمي عذاب النار غراما للزومه لأهله وعدم مفارقته لهم قال تعالى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} الخامسة الوداد وهو صفو المحبة وخالصها ولبها والودود من أسماء الرب تعالى وفيه قولان أحدهما أنه المودود قال البخاري رحمه الله في صحيحه الودود الحبيب والثاني أنه الواد لعباده أي المحب لهم وقرنه باسمه الغفور إعلاما بأنه يغفر الذنب ويحب التائب منه ويوده فحظ التائب نيل المغفرة منه وعلى القول الأول الودود في معنى يكون سر الاقتران أي اقتران الودود بالغفور استدعاء مودة العباد له ومحبتهم إياه باسم الغفور السادسة الشغف يقال شغف بكذا فهو مشغوف به وقد شغفه المحبوب أي وصل حبه إلى شغاف قلبه كما قال النسوة عن امرأة العزيز {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً}
وفيه ثلاثة أقوال
أحدها: أنه الحب المستولي على القلب بحيث يحجبه عن غيره قال الكلبي حجب حبه قلبها حتى لا تعقل سواه
الثاني: الحب الواصل إلى داخل القلب قال صاحب هذا القول المعنى أحبته حتى دخل حبه شغاف قلبها أي داخله
الثالث: أنه الحب الواصل إلى غشاء القلب والشغاف غشاء القلب إذا وصل الحب إليه باشر القلب قال السدى الشغاف جلدة رقيقة على القلب يقول دخله الحب حتى أصاب القلب وقرأ بعض السلف شعفها بالعين المهملة ومعناه ذهب الحب بها كل مذهب وبلغ بها أعلى مراتبه ومنه شعف الجبال لرؤوسها السابعة العشق وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه وعليه.(3/28)
عليه تأول إبراهيم ومحمد بن عبدالوهاب {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال محمد هو العشق ورفع إلى ابن عباس شاب رضي الله عنهما وهو يعرفه قد صار كالخلال فقال ما به قالوا العشق فجعل ابن عباس رضي الله عنهما عامة دعائه بعرفة الاستعاذة من العشق وفي اشتقاقه قولان أحدهما أنه من العشقة محركة وهي نبت أصفر يلتوي على الشجر فشبه به العاشق والثاني أنه من الإفراط وعلى القولين فلا يوصف به الرب تبارك وتعالى ولا العبد في محبة ربه وإن أطلقه سكران من المحبة قد أفناه الحب عن تمييزه كان في خفارة صدقه ومحبته الثامنة التتيم وهو التعبد والتذلل يقال تيمه الحب أي ذلله وعبده وتيم الله عبدالله وبينه وبين اليتم الذي هو الانفراد تلاق في الاشتقاق الأوسط وتناسب في المعنى فإن المتيم المنفرد بحبه وشجوه كانفراد اليتيم بنفسه عن أبيه وكل منهما مكسور ذليل هذا كسره يتم وهذا كسره تتيم التاسعة التعبد وهو فوق التتيم فإن العبد هو الذي قد ملك المحبوب رقه فلم يبق له شيء من نفسه البتة بل كله عبد لمحبوبه ظاهرا وباطنا وهذا هو حقيقة العبودية ومن كمل ذلك فقد كمل مرتبتها ولما كمل سيد ولد آدم هذه المرتبة وصفه الله بها في أشرف مقاماته مقام الإسراء كقوله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ومقام الدعوة كقوله {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} ومقام التحدي كقوله {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وبذلك استحق التقديم على الخلائق في الدنيا والآخرة وكذلك يقول المسيح عليه الصلاة والسلام لهم إذا طلبوا منه الشفاعة بعد.(3/29)
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته الله تعالى وكمال مغفرة الله له وحقيقة العبودية الحب التام مع الذل التام والخضوع للمحبوب تقول العرب طريق معبد أي قد ذللته الأقدام وسهلته العاشرة مرتبة الخلة التي انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم كما صح عنه أنه قال " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وقال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن" والحديثان في الصحيح وهما يبطلان قول من قال الخلة لابراهيم والمحبة لمحمد فابراهيم خليله ومحمد حبيبه والخلة هي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب كما قيل
قد تخللت مسلك الروح مني ... ولذا سمي الخليل خليلا
وهذا هو السر الذي لأجله والله أعلم أمر الخليل بذبح ولده وثمرة فؤاده وفلذة كبده لأنه لما سأل الولد فأعطيه تعلقت به شعبة من قلبه والخلة منصب لا يقبل الشركة والقسمة فغار الخليل على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره فأمره بذبح الولد ليخرج المزاحم من قلبه فلما وطن نفسه على ذلك وعزم عليه عزما جازما حصل مقصود الأمر فلم يبق في إزهاق نفس الولد مصلحة فحال بينه وبينه وفداه بالذبح العظيم وقيل له {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} أي عملت عمل المدق إنا كنا كذلك نجزي المحسنين نجزي من بادر إلى طاعتنا فنقر عنه كما أقررنا عينك بامتثال أوامرنا وإبقاء الولد وسلامته {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} وهو اختبار المحبوب لمحبه وامتحانه إياه.(3/30)
ليؤثر مرضاته فيتم عليه نعمه فهو بلاء محنة ومنحة عليه معا وهذه الدعوة إنما دعا إليها بها خواص خلقه وأهل الألباب والبصائر منهم فما كل أحد يجيب داعيها ولا كل عين قريرة بها وأهلها هم الذين حصلوا في وسط قبضة اليمين يوم القبضتين وسائر أهل اليمين في أطرافها
فما كل عين بالحبيب قريرة ... ولا كل من نودي يجيبالمناديا
ومن لا يجب داعي هداك فخله ... يجب كل من أضحى إلى الغي داعيا
وقل للعيون الرمد إياك أن تري ... سنا الشمس فاستغشي ظلاماللياليا
وسامح نفوسا لم يهبها لحبهم ... ودعها وما اختارت ولا تك جافيا
وقل للذي قد غاب يكفي عقوبة ... مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا
ووالله لو أضحى نصيبك وافرا ... رحمت عدوا حاسدا لك قاليا
ألم تر آثار القطيعة قد بدت ... على حاله فارحمه إن كنت راثيا
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ولاءمها قطع من الليل باديا
فجالت وصالت فيه حتى إذا النه ... ار بدا استخفت وأعطت تواريا
فيا محنة الحسناء تهدى إلى امرىء ... ضرير وعنين من الوجد خاليا
إذا ظلمة الليل انجلت بضيائها ... يعود لعينيه ظلاما كما هيا
فضن بها إن كنت تعرف قدرها ... إلى أن ترى كفؤا أتاك موافيا
فما مهرها شيء سوى الروح أيها ال ... جبان تأخر لست كفؤا مساويا
فكن أبدا حيث استقلت ركائب ال ... محبة في ظهر العزائم ساريا
وأدلج ولا تخش الظلام فإنه ... سيكفيك وجه الحب في الليل هاديا
وسقها بذكراه مطاياك إنه ... سيكفي المطايا طيب ذكراه حاديا
وعدها بروح الوصل تعطيك سيرها ... فما شئت واستبق العظام البواليا
وأقدم فإما منية أو منية ... تريحك من عيش به لست راضيا
فما ثم إلا الوصل أو كلف بهم ... وحسبك فوزا ذاك إن كنت واعيا(3/31)
أما سئمت من عيشها نفس واله
تبيت بنار البعد تلقى المكاويا
أما موته فيهم حياة وذله
هو العز والتوفيق مازال غاليا
أما يستحي من يدعي الحب باخلا
بما لحبيب عنه يدعوه ذا ليا
أما تلك دعوى كاذب ليس حظه
من الحب إلا قوله والأمانيا
أما أنفس العشاق ملك لغيرهم
بإجماع أهل الحب ما زال فاشيا
أما سمع العشاق قول حبيبة
لصب بها وافي من الحب شاكيا
ولما شكوت الحب قالت كذبتني
فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فلا حب حتى يلصق القلب بالحشا
وتخرس حتى لا تجيب المناديا وتنحل
حتى لا يبقى لك الهوى
سوى مقلة تبكي بها وتناجيا
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله المحبة تعلق القلب بين الهمة.
والأنس يعني تعلق القلب بالمحبوب تعلقا مقترنا بهمة المحب وأنسه بالمحبوب في حالتي بذله ومنعه وإفراده بذلك التعلق بحيث لا يكون لغيره فيه نصيب وإنما أشار إلى أنها بين الهمة والأنس لأن المحبة لما كانت هي نهاية شدة الطلب وكان المحب شديد الرغبة والطلب كانت الهمة من مقومات حبه وجملة صفاته ولما كان الطلب بالهمة قد يعرى عن الأنس وكان المحب لا يكون إلا مستأنسا بجمال محبوبه وطمعه بالوصول إليه فمن هذين يتولد الأنس وجب أن يكون المحب موصوفا بالأنس فصارت المحبة قائمه بين الهمة والأنس ويريد بالبذل والمنع أحد أمرين إما بذل الروح والنفس لمحبوبه ومنعها عن غيره فيكون البذل والمنع صفة المحب وإما بذل الحبيب ومنعه فتتعلق همة المحب به في حالتي بذله ومنعه ويريد بالإفراد معنيين إما إفراد المحبوب وتوحيده بذلك التعلق وإما.(3/32)
فناؤه في محبته بحيث ينسى نفسه وصفاته في ذكر محاسن محبوبه حتى لا يبقى إلا المحبوب وحده والمقصود إفراد المحب المبوبه بالتوحيد والمحبة والله أعلم.
فصل قال والمحبة أول أودية الفناء والعقبة التي ينحدر منها على.
منازل المحو وهي آخر منزل تلتقي فيه مقدمة العامة وساقة الخاصة إنما كانت المحبة أول أودية الفناء لأنها تفنى خواطر المحب عن التعلق بالغير وأول ما يفنى من المحب خواطره المتعلقة بما سوى محبوبه لأنه إذا انجذب قلبه بكليته إلى محبوبه انجذبت خواطره تبعا ويريد بمنازل المحو مقاماته وأولها محو الأفعال في فعل الحق تعالى فلا يرى لنفسه ولا لغيره فعلا والثاني محو الصفات التي في العبد فيراها عارية أعيرها وهبة وهبها ليستدل بها على بارئه وفاطره وعلى وحدانيته وصفاته فيعلم بواسطة حياته معنى حياة ربه وبواسطة علمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه وغضبه ورضاه معنى علم ربه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه وغضبه ورضاه ولولا هذه الصفات فيه لما عرفها من ربه وهذا أحد التأويلات في الأثر الإسرائيلي اعرف نفسك تعرف ربك وهذه الصفات في الحقيقة أثر الصفات الإلهية فيه فإنها أثر أفعال الحق وأفعاله موجب صفاته وأسمائه فإذن عاد الأمر كله إلى افعاله وعادت أفعاله إلى صفاته ففي هذه المنزلة يمحو العبد شهود صفاته ووجودها الذي ليس بحقيقي ويثبت شهود صفات المعبود ووجودها الحقيقي فالله سبحانه منح عبده هذه الصفات ليعرفه بها ويستدل بها عليه فإن لم يفعلها عطل عليه طريق المعرفة والاستدلال بها.(3/33)
فصارت بمنزلة العدم ولهذا يوصف الغافل عن الله بالصمم والبكم والعمى والموت وعدم العقل الثالث محو الذات وهو شهود تفرد الحق تعالى بالوجود أزلا وأبدا وأنه الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء ووجود كل ما سواه قائم به وأثر صنعه فوجوه هو الوجود الواجب الحق الثابت لنفسه أزلا وأبدا وأنه المتفرد بذلك وهذا المحو يصح باعتبارين أحدهما اعتبار الوجود الذاتي ولا ريب في إثبات محوه بهذا الاعتبار إذ ليس مع الله موجود بذاته سواه وكل ما سواه فموجود بإيجاده سبحانه الاعتبار الثاني المحو في المشهد فلا يشهد فاعلا غير الحق سبحانه ولا سفات غير صفاته ولا موجودا سواه لغيبته بكمال شهوده عن شهود غيره وأما محو ذلك من الوجود جملة فهو محو الزنادقة وطائفة الاتحادية وصاحب المنازل وكل ولي لله بريء منهم حالا وعقيدة والمقصود أن من عقبة المحبة ينحدر المحب على منازل المحو ولما كانت منازل المحو والفناء غاية عند صاحب المنازل جعل المحبة عقبة ينحدر منها إليها وأما جعل المحبة غاية فمنازل المحو عنده أودية يصعد منها إلى روح المحبة وليس بعد المحبة الصحيحة إلا منازل البقاء أما الفناء والمحو فعقبات وأودية في طريقها عند هؤلاء والله أعلم قوله وهي آخر منزلة تلتقي فيها مقدمة العامة وساقة الخاصة هذا بناء على الأصل الذي ذكره وهو أن المحبة ينحدر منها على أودية الفناء فهي أول أودية الفناء فمقدمة العامة هم في آخر مقام المحبة وساقة.(3/34)
الخاصة في أول منزل الفناء ومنزلة الفناء متصلة بآخر منزلة المحبة فتلتقي حينئذ مقدمة العامة بساقه الخاصة هذا شرح كلامه وعند الطائفة الأخرى الأمر بالعكس وهو أن مقدمة أرباب الفناء يلتقون بساقة أو باب المحبة فإنهم أمامهم في السير وهم أمام الركب دائما وهذا بناء على أن أهل البقاء في المحبة أعلى شأنا من أهل الفناء وهو الصواب والله أعلم.
فصل قال وما دونها أغراض لأعواض يعني ما دون المحبة من المقامات.
فهي أغراض من المخلوقين لأجل أعواض ينالونها وأما المحبون فإنهم عبيد والعبد ونفسه وعمله ومنافعه ملك لسيده فكيف يعاوضه على ملكه والأجير عن أخذ الأجرة ينصرف والعبد في الباب لا ينصرف فلا عبودية إلا عبودية أهل المحبة الخالصة أولئك هم الفائزون بشرف الدنيا والآخرة وأولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
فصل قال والمحبة هي سمة الطائفة وعنوان الطريقة ومعقد النسبة.
يعني سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم الذين ركبوا جناح السفر إليه ثم لم يفارقوه إلى حين اللقاء وهم الذين قعدوا على الحقائق وقعد من سواهم على الرسوم وعنوان طريقتهم أي دليلها فإن العنوان يدل على الكتاب والمحبة تدل على صدق الطالب وأنه من أهل الطريق ومعقد النسبة أي النسبة التي بين الرب وبين العبد فإنه لا نسبة بين الله وبين العبد إلا محض العبودية من العبد والربوبية من الرب وليس في العبد شيء من الربوبية ولا في الرب شيء من العبودية فالعبد عبد من كل وجه والرب.(3/35)
تعالى هو الإله الحق من كل وجه ومعقد نسبة العبودية هو المحبة فالعبودية معقودة بها بحيث متى انحلت المحبة انحلت العبودية والله أعلم.
فصل قال وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى محبة تقطع الوساوس وتلذ.
الخدمة وتسلي عن المصائب قوله تقطع الوساوس فإن الوساوس والمحبة متناقضان فإن المحبة توجب استيلاء ذكر المحبوب على القلب والوساوس تقتضي غيبته عنه حتى توسوس له نفسه بغيره فبين المحبة والوساوس تناقض شديد كما بين الذكر والغفلة فعزيمة المحبة تنفي تردد القلب بين المحبوب وغيره وذلك سبب الوساوس وهيهات أن يجد المحب الصادق فراغا لوسواس الغير لاستغراق قلبه في حضوره بين يدي محبوبه وهل الوسواس إلا لأهل الغفلة والإعراض عن الله تعالى ومن أين يجتمع الحب والوسواس لا كان من لسواك فيه بقية % فيها يقسم فكره ويوسوس قوله وتلذ الخدمة أي المحب يلتذ بخدمة محبوبه فيرتفع عن رؤية التعب الذي يراه الخلي في أثناءالخدمة وهذا معلوم بالمشاهدة قوله وتسلى عن المصائب فإن المحب يجد في لذة المحبة ما ينسيه المصائب ولا يجد من مسها ما يجد غيره حتى كأنه قد اكتسى طبيعة ثانية ليست طبيعة الخلق بل يقوى سلطان المحبة حتى يلتذ المحب بكثير من المصائب التي يصيبه بها حبيبه أعظم من التذاذ الخلى بحظوظه وشهواته والذوق والوجود شاهد بذلك والله أعلم.
فصل قال وهي محبة تنبت من مطالعة المنة وتثبت باتباع السنة وتنمو.
على الإجابة بالفاقة.(3/36)
قوله تنبت من مطالعة المنة أي تنشأ من مطالعة العبد منة الله عليه ونعمه الباطنة والظاهرة فبقدر مطالعته ذلك تكون قوة المحبة فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها وليس للعبد قط إحسان إلا من الله ولا إساءة إلا من الشيطان ومن أعظم مطالعة منة الله على عبده تأهيله لمحبته ومعرفته وإرادة وجهه ومتابعة حبيبه وأصل هذا نور يقذفه الله في قلب العبد فإذا دار ذلك النور في قلب العبد وذاته أشرقت ذاته فرأى فيه نفسه وما أهلت له من الكمالات والمحاسن فعلت به همته وقويت عزيمته وانقشعت عنه ظلمات نفسه وطبعه لأن النور والظلمة لا يجتمعان إلا ويطرد أحدهما صاحبة فرقيت الروح حينئذ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول نقل
فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
وهذا النور كالشمس في قلوب المقربين السابقين وكالبدر في قلوب الأبرار أصحاب اليمين وكالنجم في قلوب عامة المؤمنين وتفاوتهم فيه كتفاوت ما بين الزهرة والسهى قوله وتثبت باتباع السنة أي ثباتها إنما يكون بمتابعة الرسول في أعماله وأقواله وأخلاقه فبحسب هذا الاتباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها وبحسب نقصانه يكون نقصانها كما تقدم أن هذا الاتباع يوجب المحبة والمحبوبية معا ولا يتم الأمر إلا بهما فليس الشأن في أن تحب الله بل الشأن في أن يحبك الله ولا يحبك الله إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرا وباطنا وصدقته خبرا وأطعته أمرا وأجبته دعوة وآثرته طوعا وفنيت عن حكم غيره بحكمه وعن محبته غيره من الخلق بمحبته وعن طاعة غيره بطاعته وإن لم يكن ذلك فلا تتعن وارجع من حيث شئت فالتمس نورا فلست على شيء.(3/37)
وتأمل قوله {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} أي الشأن في أن الله يحبكم لا في أنكم تحبونه وهذا لا تنالونه إلا باتباع الحبيب قوله وتنمو على الإجابة بالفاقة الإجابة بالفاقة أن يجيب الداعي بموفور الأعمال وهو خال منها كأنه لم يعملها بل يجيب دعوته بمجرد الإفلاس والفقر التام فإن طريقة الفقر والفاقة تأبى أن يكون لصاحبها عمل أو حال أو مقام وإنما يدخل على ربه بالإفلاس المحض والفاقة المجردة ولا ريب أن المحبة تنمو على هذا المشهد وهذه الإجابة وما أعزه من مقام وأعلاه من مشهد وما أنفعه للعبد وما أجلبه للمحبة والله المستعان.
فصل قال الدرجة الثانية محبة تبعث على إيثار الحق على غيره وتلهج.
اللسان بذكره وتعلق القلب بشهوده وهي محبة تظهر من مطالعة الصفات والنظر إلى الآيات والارتياض بالمقامات هذه الدرجة أعلى مما قبلها باعتبار سببها وغايتها فإن سبب الأولى مطالعة الإحسان والمنة وسبب هذه مطالعة الصفات وشهود معاني آياته المسموعة والنظر إلى آياته المشهودة وحصول الملكة في مقامات السلوك وهو الارتياض بالمقامات ولذلك كانت غايتها أعلى من غاية ما قبلها فقوله تبعث على إيثار الحق على غيره أي لكمالها وقوتها فإنها تقتضي من المحب أن يترك لأجل الحق ما سواه فيؤثره على غيره ولا يؤثر غيره عليه ويجعل اللسان لهجا بذكره فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره وتعلق القلب بشهوده لفرط استيلائه على القلب وتعلقه به حتى كأنه لا يشاهد غيره وقوله وهي محبة تظهر من مطالعة الصفات يعني إثباتها أولا ومعرفتها ثانيا ونفي التحريف والتعطيل عن نصوصها ثالثا ونفي التمثيل والتكييف عن.(3/38)
معانيها رابعا فلا يصح له مطالعة الصفات الباعثة على المحبة الصحيحة إلا بهذه الأمور الأربعة وكلما أكثر قلبه من مطالعتها ومعرفة معانيها ازدادت محبته للموصوف بها ولذلك كانت الجهمية قطاع طريق المحبة بين المحبين وبينهم السيف الأحمر وقوله والنظر إلى الآيات أي نظر الفكر والاعتبار إلى آياته المشهودة وفي آياته المسموعة وكل منهما داع قوي إلى محبته سبحانه لأنها أدلة على صفات كماله ونعوت جلاله وتوحيد ربوبيته وإلهيته وعلى حكمته وبره وإحسانه ولطفه وجوده وكرمه وسعة رحمته وسبوغ نعمته فإدامة النظر فيها داع لا محالة إلى محبته وكذلك الارتياض بالمقامات فإن من كانت له رياضة وملكة في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان كانت محبته أقوى لأن محبة الله له أتم وإذا أحب الله عبدا أنشأ في قلبه محبته.
فصل قال الدرجة الثالثة محبة خاطفة تقطع العبارة وتدفع الإشارة ولا.
تنتهي بالنعوت يعني أنها تخطف قلوب المحبين لما يبدو لهم من جمال محبوبهم ويشير الشيخ بذلك إلى الفناء في المحبة والشهود وإن العبارة تنقطع دون حقيقة تلك المحبة ولا تبلغها ولا تصل إليها الإشارة فإنها فوق العبارة والإشارة وحقيقتها عندهم فناء الحدوث في القدم واضمحلال الرسوم في نور الحقيقة التي تظهر لقلوب المحبين فتملك عليها العبارة والإشارة والصفة فلا يقدر المحب أن يعبر عما يجده لأن واردها قد خطف فهمه والعبارة تابعة للفهم فلا يقدر المحب أن يشير إليه إشارة تامة والعبارة عندهم تحت الإشارة وأبعد منها ولذلك جعل حظها.(3/39)
القطع وحظ الإشارة الدفع فإن مقام المحبة يقبل العبارة وهذه الدرجة الثالثة لا تقبل إشارة ما ولا تقبل عبارة وعندهم إنما تمتنع العبارة والإشارة في مقام التوحيد حيث لا يبقى للمحبة رسم ولا اسم ولا إشارة وهو الغاية عندهم كما سيأتي والصواب أن توحيد المحبة أكمل من هذا التوحيد الذي يشيرون إليه وأعلى مقاما وأجل مشهدا وهو مقام الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وخواص المقربين وأما توحيد الفناء فدونه بكثير وليس ذلك من مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن توحيدهم توحيد بقاء ومحبة لا توحيد فناء وغيبة وسكر واصطلام ولما كان المحب عند أرباب الفناء لم يخلص إلى مقام توحيد الفناء بالكلية بل رسوم المحبة معه بعد جعلوا المحبة هي العقبة التي ينحدر منها إلى أودية الفناء كما تقدم والصواب الذي لا ريب فيه عند أرباب التحقيق والبصائر أن لسان المحبة أتم ومقامها أكمل وحالها أشرف وصاحبها من أهل الصحو بعد السكر والتمكين بعد التلوين والبقاء بعد الفناء ولسانه نائب عن كل لسان وبيانه واف بكل ذوق ومقامه أعلى من كل مقام فهو أمين على كل من دونه من أرباب المقامات لأن مقامه أمير على المقامات كلها
أمين أمين عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يجودا
وأما كون نعوت المحبة لا تتناهى فلأن لها في كل مقام نسبة وتعلقا به وهي روح كل مقام والحاملة له وأقدام السالكين إنما تتحرك بها فلها تعلق بكل قدم وحال ومقام فلا تتناهى نعوتها البتة والله أعلم.(3/40)
فصل قوله وهذه المحبة هي قطب هذا الشأن وما دونها محاب نادت عليها.
الألسن وادعتها الخليقة وأوجبتها العقول يريد أن مدار شأن السالكين المسافرين إلى الله على هذه المحبة الثالثة وإنما كان ذلك كذلك لخلوصها من الشوائب والعلل والأغراض وصاحبها مراد ومجذوب ومطلوب وما دونها من المحاب فصاحبها باق مع إرادته من محبوبه أما محبة الإحسان والأفعال فظاهر وأما محبة الصفات فصاحبها مع لذة روحه ونعيم قلبه بمطالعة الصفات فإن لذة الأرواح والعقول لا محالة في مطالعة صفات الكمال ونعوت الجمال وصاحب هذه المحبة الثالثة قد ارتقى عن هاتين الدرجتين وأخذ منه وغيب عنه وهذا مبنى على أصله في كون الفناء غاية وقد عرفته وقوله ونادت عليها الألسن أي وصفتها الألسن فأكثرت صفاتها وتمكنت من التعبير عنها وادعتها الخليقة بخلاف الدرجة الثالثة فإنه لا وصول لأحد إليها إلا بالحق تعالى فهي غير كسبية ولا تنال بسبب فلا يمكن فيها الدعوى فإن شأنها أجل من ذلك قوله وأوجبتها العقول يريد أن العقل يحكم بوجوبها وهو كما قال فإن العقول تحكم بوجوب تقديم محبة الله على محبة النفس والأهل والمال والولد وكل ما سواه وكل من لم يحكم عقله بهذا فلا تعبأ بعقله فإن العقل والفطرة والشرعة والاعتبار والنظر تدعو كلها إلى محبته سبحانه بل إلى توحيده في المحبة وإنما جاءت الرسل بتقرير ما في الفطر والعقول كما قيل
هب الرسل لم تأت من عنده ... ولا أخبرت عن جمال الحبيب
أليس من الواجب المست ... حق محبته في اللقا والمغيب(3/41)
فمن لم يكن عقله آمرا ... بذا ماله في الحجى من نصيب
وإن العقول لتدعو إلى ... محبة فاطرها من قريب
أليست على ذاك مجبولة ... ومفطورة لا بكسب غريب
أليس الجمال حبيب القلوب ... لذات الجمال وذات القلوب
أليس جميلا يحب الجمال ... تعالى إله الورى عن نسيب
أما بعد ذلك إحسانه ... بداع إليه لقلب المنيب
أليس إذا كملا أوجبا ... كمال المحبة للمستجيب
فمن ذا يشابه أوصافه ... تعالى إله الورى عن ضريب
ومن ذا يكافىء إحسانه ... فيألهه قلب عبد منيب
وهذا دليل على أنه ... إلى كل ذي الخلق أولى
حبيب فيا منكرا ذاك والله أن ... ت عين الطريد وعين الحريب
ويامن يحب سواه كمث ... كمثل محبته أنت عبد الصليب
ويامن يوحد محبوبه ... ويرضيه في مشهد أو مغيب
ولو سخط الخلق في وجهه ... لقال هوانا ولو بالنسيب
حظيت وخابوا فلا تبتئس ... بكيد العدو وهجر الرقيب(3/42)
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الغيرة قال.
الله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وفي الصحيح عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أحد أغير من الله ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله ومن أجل ذلك أثنى على نفسه وما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين " /ح/.(3/42)
وفي الصحيح أيضا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرةرضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه" /ح/ وفي الصحيح أيضا أن النبي صلى اله عليه وسلم قال " أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني "/ح/ ومما يدخل في الغيرة قوله تعالى { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} قال السري لأصحابه أتدرون ما هذا الحجاب حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله إن الله تعالى لم يجعل الكفار أهلا لفهم كلامه ولا أهلا لمعرفته وتوحيده ومحبته فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجابا مستورا عن العيون غيرة عليه أن يناله من ليس أهلا له والغيرة منزلة شريفة عظيمة جدا جليلة المقدار ولكن الصوفية المتأخرين منهم من قلب موضوعها وذهب بها مذهبا آخر باطلا سماه غيرة فوضعها في غير موضعها ولبس عليه أعظم تلبيس كما ستراه والغيرة نوعان غيرة من الشيء وغيرة على الشيء والغيرة من الشيء هي كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك والغيرة على الشيءهي شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك دونك أو يشاركك في الفوز به والغيرة أيضا نوعان غيرة العبد من نفسه على نفسه كغيرته من نفسه على قلبه ومن تفرقته على جمعيته ومن إعراضه على إقباله ومن صفاته المذمومة على صفاته الممدوحة وهذه الغيرة خاصية النفس الشريفة الزكية العلوية وما.(3/43)
للنفس الدنية المهينة فيها نصيب وعلى قدر شرف النفس وعلو همتها تكون هذه الغيرة ثم الغيرة أيضا نوعان غيرة الحق تعالى على عبده وغيرة العبد لربه لا عليه فأما غيرة الرب على عبده فهي أن لا يجعله للخلق عبدا بل يتخذه لنفسه عبدا فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين بل يفرده لنفسه ويضن به على غيره وهذه أعلى الغيرتين وغيرة العبد لربه نوعان أيضا غيرة من نفسه وغيرة من غيره فالتي من نفسه أن لا يجعل شيئا من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه والتي من غيره أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون وأما الغيرة على الله فأعظم الجهل وأبطل الباطل وصاحبها من أعظم الناس جهلا وربما أدت بصاحبها إلى معاداته وهو لا يشعر وإلى انسلاخه من أصل الدين والإسلام وربما كان صاحبها شرا على السالكين إلى الله من قطاع الطريق بل هو من قطاع طريق السالكين حقيقة وأخرج قطع الطريق في قالب الغيرة وأين هذا من الغيرة لله التي توجب تعظيم حقوقه وتصفية أعماله وأحواله لله فالعارف يغار لله والجاهل يغار على الله فلا يقال أنا أغار على الله ولكن أنا أغار لله وغيرة العبد من نفسه أهم من غيرته من غيره فإنك إذا غرت من نفسك صحت لك غيرتك لله من غيرك وإذا غرت له من غيرك ولم تغر من نفسك فالغيرة مدخولة معلولة ولا بد فتأملها وحقق النظر فيها فليتأمل السالك اللبيب هذه الكلمات في هذا المقام الذي زلت فيه أقدام كثير من السالكين والله الهادي والموفق المثبت.(3/44)
كما حكى عن واحد من مشهوري الصوفية أنه قال لا أستريح حتى لا أرى من يذكر الله يعني غيرة عليه من أهل الغفلة وذكرهم والعجب أن هذا يعد من مناقبه ومحاسنه وغاية هذا أن يعذر فيه لكونه مغلوبا على عقله وهو من أقبح الشطحات وذكر الله على الغفلة وعلى كل حال خير من نسيانه بالكلية والألسن متى تركت ذكر الله الذي هو محبوبها اشتغلت بذكر ما يبغضه ويمقت عليه فأي راحة للعارف في هذا وهل هو إلا أشق عليه وأكره إليه وقول آخر لا أحب أن أرى الله ولا أنظر إليه فقيل له كيف قال غيرة عليه من نظر مثلي فانظر إلى هذه الغيرة القبيحة الدالة على جهل صاحبها مع أنه في خفارة ذله وتواضعه وانكساره واحتقاره لنفسه ومن هذا ما يحكى عن الشبلي أنه لما مات ابنه دخل الحمام ونور لحيته حتى أذهب شعرها كله فكل من أتاه معزيا قال إيش هذا يا أبا بكر قال وافقت أهلي في قطع شعورهم فقال له بعض أصحابه أخبرني لم فعلت هذا فقال علمت أنهم يعزونني على الغفلة ويقولون آجرك الله ففديت ذكرهم لله على الغفلة بلحيتي فانظر إلى هذه الغيرة المحرمة القبيحة التي تضمنت أنواعا من المحرمات حلق الشعر عند المصيبة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس منا من.(3/45)
حلق وسلق وخرق أي حلق شعره ورفع صوته بالندب والنياحة وخرق ثيابه" ومنها حلق اللحية وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفائها وتوفيرها ومنها منع إخوانه من تعزيته ونيل ثوابها ومنها كراهته لجريان ذكر الله على ألسنتهم بالغفلة وذلك خير بلا شك من ترك ذكره فغاية صاحب هذا أن تغفر له هذه الذنوب ويعفى عنه وأما أن يعد ذلك في مناقبه وفي الغيرة المحمودة فسبحانك هذا بهتان عظيم ومن هذا ما ذكر عن أبي الحسين النوري أنه سمع رجلا يؤذن فقال طعنه وسم الموت وسمع كلبا ينبح فقال لبيك وسعديك فقالوا له هذا ترك للدين وصدقوا والله يقول للمؤذن في تشهده طعنه وسم الموت ويلبي نباح الكلب فقال أما ذاك فكان يذكر الله عن رأس الغفلة وأما الكلب فقد قال تعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} فيالله ماذا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه هذا القائل لو رآه يقول ذلك أو عمر بن الخطاب أو من عد ذلك في المناقب والمحاسن وسمع الشبلي رجلا يقول جل الله فقال أحب أن تجله عن هذا.(3/46)
وأذن مرة فلما بلغ الشهادتين قال لولا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك وقال بعض الجهال من القوم لا إله إلا الله من أصل القلب ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرط ونحن نقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تمام قول لا إله إلا الله فالكلمتان يخرجان من أصل القلب من مشكاة واحدة لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.
فصل قال صاحب المنازل.
باب الغيرة قال الله تعالى حاكيا عن نبيه سليمان عليه السلام {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} ووجه استشهاده بالآية أن سليمان عليه السلام كان يحب الخيل فشغله استحسانها والنظر إليها لما عرضت عليه عن صلاة النهار حتى توارت الشمس بالحجاب فلحقته الغيرة لله من الخيل إذ استغرقه استحسانها والنظر إليها عن خدمة مولاه وحقه فقال ردوها علي فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف غيرة لله قال الغيرة سقوط الاحتمال ضنا والضيق عن الصبر نفاسة أي عجز الغيور عن احتمال ما يشغله عن محبوبه ويحجبه عنه ضنا به أي بخلا به أن يعتاض عنه بغيره وهذا البخل هو محض الكرم عند المحبين الصادقين وأما الضيق عن الصبر نفاسة فهو أن يضيق ذرعه بالصبر عن محبوبه وهذا هو الصبر الذي لا يذم من أنواع الصبر سواه أو ما كان من وسيلته والحامل له على هذا الضيق مغالاته بمحبوبه وهي النفاسة فإنه لمنافسته ورغبته لا يسامح نفسه بالصبر عنه والمنافسة هي كمال الرغبة في الشيء.(3/47)
ومنع الغير منه إن لم يمدح فيه المشاركة والمسابقة إليه إن محدت فيه المشاركة قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} وبين المنافسة والغبطة جمع وفرق وبينهما وبين الحسد أيضا جمع وفرق فالمنافسة تتضمن مسابقة واجتهادا وحرصا والحسد يدل على مهانة الحاسد وعجزه وإلا فنافس من حسدته فذلك أنفع لك من حسده كما قيل
إذا أعجبتك خلال امرىء ... فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرما ... ت إذا جئتها حاجب يحجبك
والغبطة تتضمن نوع تعجب وفرح للمغبوط واستحسان لحاله.
فصل قال وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى غيرة العابد على ضائع.
يستر ضياعه ويستدرك فواته ويتدارك قواه العابد هو العامل بمقتضى العلم النافع للعمل الصالح فغيرته على ما ضاع عليه من عمل صالح فهو يسترد ضياعه بأمثاله ويجبر ما فاته من الأوراد والنوافل وأنواع القرب بفعل أمثالها من جنسها وغير جنسها فيقضى ما ينفع فيه القضاء ويعوض ما يقبل العوض ويجبر ما يمكن جبره وقوله ويستدرك فواته الفرق بين استرداد ضائعه واستدراك فائته أن الأول يمكن أن يسترد بعينه كما إذا فاته الحج في عام تمكن منه فأضاعه في ذلك العام استدركه في العام المقبل وكذلك إذا أخر الزكاة عن وقت وجوبها استدركها بعد تأخيرها ونحو ذلك وأما الفائت فإنما يستدرك بنظيره كقضاء الواجب المؤقت إذا فات وقته أو يكون مراده باسترداد الضائع واستدراك الفائت نوعي التفريط في الأمر والنهي فيسترد ضائع هذا بقضائه وفعل أمثاله ويستدرك فائت هذا أي سالفه بالتوبة والندم.(3/48)
وأما تدارك قواه فهو أن يتدارك قوته ببذلها في الطاعة قبل أن تتبدل بالضعف فهو يغار عليها أن تذهب في غير طاعة الله ويتدارك قوى العمل الذي لحقه الفتور عنه بأن يكسوه قوة ونشاطا غيرة له وعليه فهذه غيرة العباد على الأعمال والله أعلم.
فصل قال الدرجةالثانية غيرة المريد وهي غيرة على وقت فات وهي غيرة.
قاتلة فإن الوقت وحي التقضي أبي الجانب بطي الرجوع والمريدون هم أرباب الأحوال والعباد أرباب الأوراد والعبادات وكل مريد عابد وكل عابد مريد لكن القوم خصوا أهل المحبة وأذواق حقائق الإيمان باسم المريد وخصوا أصحاب العمل المجرد باسم العابد وكل مريد لا يكون عابدا فزنديق وكل عابد لا يكون مريدا فمراء والوقت عند العابد هو وقت العبادة والأوراد وعند المريد هو وقت الإقبال على الله والجمعية عليه والعكوف عليه بالقلب كله والوقت أعز شيء عليه يغار عليه أن ينقضي بدون ذلك فإذا فاته الوقت لا يمكنه استدراكه البتة لأن الوقت الثاني فقد استحق واجبه الخاص فإذا فاته وقت فلا سبيل له إلى تداركه كما في المسند مرفوعا من أفطر يوما من رمضان متعمدا من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر وإن صامه وقوله وهي غيرة قاتلة يعني مضرة ضررا شديدا بينا يشبه القتل لأن حسرة الفوت قاتلة ولا سيما إذا علم المتحسر أنه لا سبيل له إلى الاستدراك وأيضا فالغيرة على التفويت تفويت آخر كما يقال الاشتغال بالندم على الوقت الفائت تضييع للوقت الحاضر ولذلك يقال الوقت سيف إن لم تقطعه وإلا قطعك.(3/49)
ثم بين الشيخ السبب في كون هذه الغيرة قاتلة فقال فإن الوقت وحي التقضي أي سريع الانقضاء كما تقول العرب الوحا الوحا العجل العجل والوحي الإعلام في خفاء وسرعة ويقال جاء فلان وحيا أي مجيئا سريعا فالوقت منقض بذاته منصرم بنفسه فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدت حسراته فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع وطلب تناول الفائت وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ومنع مما يحبه ويرتضيه وعلم أن ما اقتناه ليس مما ينبغي للعاقل أن يقتنيه وحيل بينه وبين ما يشتهيه
فيا حسرات ما إلى رد مثلها ... سبيل ولو ردت لهان التحسر
هي الشهوات اللاء كانت تحولت ... إلى حسرات حين عز التصبر
فلو انها ردت بصبر وقوة ... تحولن لذات وذو اللب يبصر
ويقال إن أصعب الأحوال المنقطعة انقطاع الأنفاس فإن أربابها إذا صعد النفس الواحد صعدوه إلى نحو محبوبهم صاعدا إليه متلبسا بمحبته والشوق إليه فإذا أرادوا دفعه لم يدفعوه حتى يتبعوه نفسا آخر مثله فكل أنفاسهم بالله وإلى الله متلبسة بمحبته والشوق إليه والأنس به فلا يفوتهم نفس من أنفاسهم مع الله إلا إذا غلبهم النوم وكثير منهم يرى في نومه أنه كذلك لالتباس روحه وقلبه فيحفظ عليه أوقات نومه ويقظته ولا تستنكر هذه الحال فإن المحبة إذا غلبت على القلب وملكته أوجبت له ذلك لا محالة والمقصود أن الواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك فإنه عائد عليك لا محالة لهذا يقال للسعداء {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} ويقال للأشقياء ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون.(3/50)
فصل قال الدرجة الثالثة غيرة العارف على عين غطاها غين وسر غشيه.
رين ونفس علق برجاء أو التفت إلى عطاء أي يغار على بصيرة غطاها ستر أو حجاب فإن الغين بمنزلة الغطاء والحجاب وهو غطاء رقيق جدا وفوقه الغيم وهو لعموم المؤمنين وفوقه الرين والران وهو للكفار وقوله وسر غشيه رين أي حجاب أغلظ من الغيم الأول والسر ههنا إما اللطفية المدركة من الروح وإما الحال التي بين العبد وبين الله عز وجل فإذا غشيه رين النفس والطبيعة استغاث صاحبه كما يستغيث المعذب في عذابه غيرة على سره من ذلك الرين وقوله ونفس علق برجاء والتفت إلى عطاء يعني أن صاحب النفس يغار على نفسه إذا تعلق برجاء من ثواب منفصل ولم يتعلق بإرادة الله ومحبته فإن بين النفسين كما بين متعلقهما وكذلك قوله أو التفت إلى عطاء يعني أنه يلتفت إلى عطاء من دون الله فيرضى به ولا ينبغي أن يتعلق إلا بالله ولا يلتفت إلا إلى المعطي الغني الحميد وهو الله وحده والله أعلم.(3/51)
فصل ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة الشوق قال.
الله تعالى {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآت} قيل هذا تعزية للمشتاقين وتسلية لهم أي انا أعلم أن من كان يرجو لقائي فهو مشتاق إلي فقد أجلت له أجلا يكون عن قريب فإنه آت لا محالة وكل آت قريب.(3/51)
وفيه لطيفة أخرى وهي تعليل المشتاقين برجاء اللقاء
لولا التعلل بالرجاء لقطعت ... نفس المحب صبابة وتشوقا
ولقد يكاد يذوب منه قلبه ... مما يقاسي حسرة وتحرقا
حتى إذا روح الرجاء أصابه ... سكن الحريق إذا تعلل باللقا
وقد كان النبي صلى اله عليه وسلم يقول في دعائه أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك قال بعضهم كان النبي صلى اله عليه وسلم دائم الشوق إلى لقاء الله لم يسكن شوقه إلى لقائه قط ولكن الشوق مائة جزء تسعة وتسعون له وجزء مقسوم على الأمة فأراد أن يكون ذلك الجزء مضافا إلى ماله من الشوق الذي يختص به والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل والشوق أثر من آثار المحبة وحكم من أحكامها فإنه سفر القلب إلى.
المحبوب في كل حال وقيل هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب وقيل هو احتراق الأحشاء ومنها يتهيج ويتولد ويلهب القلوب ويقطع الأكباد والمحبة أعلى منه لأن الشوق عنها يتولد وعلى قدرها يقوى ويضعف قال يحيى بن معاذ علامة الشوق فطام الجوارح عن الشهوات وقال أبو عثمان علامته حب الموت مع الراحة والعافية كحال يوسف لما ألقي في الجب لم يقل توفني ولما أدخل السجن لم يقل توفني ولما تم له الأمر والأمن والنعمة قال توفني مسلما قال ابن خفيف الشوق ارتياح القلوب بالوجد ومحبة اللقاء بالقرب.(3/52)
وقيل هو لهب ينشأ بين أثناء الحشى يسنح عن الفرقة فإذا وقع اللقاء طفىء قلت هذه مسألة نزاع بين المحبين وهي أن الشوق هل يزول باللقاء أم لا ولا يختلفون أن المحبة لا تزول باللقاء فمنهم من قال يزول باللقاء لأن الشوق هو سفر القلب إلى محبوبه فإذا قدم عليه ووصل إليه صار مكان الشوق قرة عينه به وهذه القرة تجامع المحبة ولا تنافيها قال هؤلاء وإذا كان الغالب على القلب مشاهدة المحبوب لم يطرقه الشوق وقيل لبعضهم هل تشتاق إليه فقال لا إنما الشوق إلى غائب وهو حاضر وقالت طائفة بل يزيد الشوق بالقرب والوصول ولا يزول لأنه كان قبل الوصول على الخبر والعلم وبعده قد صار على العيان والشهود ولهذا قيل
وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام
قال الجنيد سمعت السري يقول الشوق أجل مقام للعارف إذا تحقق فيه وإذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه وعلى هذا فأهل الجنة دائما في شوق إلى الله مع قربهم منه ورؤيتهم له قالوا ومن الدليل على أن الشوق يكون حال اللقاء أعظم أنا نرى المحب يبكي عند لقاء محبوبه وذلك البكاء إنما هو من شدة شوقه إليه ووجده به ولذلك يجد عند لقائه نوعا من الشوق لم يجده في حال غيبته عنه.
فصل النزاع في هذه المسألة أن الشوق يراد به حركة القلب واهتياجه.
للقاء المحبوب فهذا يزول باللقاء ولكن يعقبه شوق آخر أعظم منه تثيره حلاوة الوصل ومشاهدة جمال المحبوب فهذا يزيد باللقاء والقرب ولا يزول والعبارة عن هذا وجوده والإشارة إليه حصوله.(3/53)
وبعضهم سمى النوع الأول شوقا والثاني اشتياقا قال القشيري سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يفرق بين الشوق والاشتياق ويقول الشوق يسكن باللقاء والاشتياق لا يزول باللقاء قال وفي معناه أنشدوا
ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته ... حتى يعود إليه الطرف مشتاقا
وقال النصراباذي للخلق كلهم مقام الشوق وليس لهم مقام الاشتياق ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له فيه أثر ولا قرار قال الدقاق في قول موسى {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} قال معناه شوقا إليك فستره بلفظ الرضى وقيل إن أهل الشوق إلى لقاء الله يتحسون حلاوة القرب عند وروده لما قد كشف لهم من روح الوصول أحلى من الشهد فهم في سكراته في أعظم لذة وحلاوة وقيل من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء كما قال بعضهم أنا أدخل في الشوق والأشياء تشتاق إلي وأتأخر عن جميعها وفي مثل هذا قيل
إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت ... عن الماء فاشتاقت إليها المناهل
وكانت عجوز مغيبة فقدم غائبها من السفر ففرح به أهله وأقاربه وقعدت هي تبكي فقيل لها ما يبكيك فقال ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله عز وجل
يامن شكا شوقه من طول فرقته ... اصبر لعلك تلقى من تحب غدا
وقيل خرج داود عليه السلام يوما إلى الصحراء منفردا فأوحى الله تعالى إليه مالي أراك منفردا فقال إلهي استأثر شوقي إلى لقائك على قلبي فحال بيني وبين صحبة الخلق فقال ارجع إليهم فإنك إن أتيتني بعبد آبق أثبتك في اللوح المحفوظ جهبذا.(3/54)
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله الشوق هبوب القلب إلى غائب وفي.
مذهب هذه الطائفة علة الشوق عظيمة فإن الشوق إنما يكون إلى الغائب ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة ولهذه العلة لم ينطق القرآن باسمه قلت هو صدر الباب بقوله تعالى {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} فكأنه جعل الرجاء شوقا بلسان الاعتبار لا بلسان التفسير أو أن دلالة الرجاء على الشوق باللزوم لا بالتضمن ولا بالمطابقة قوله هبوب القلب إلى غائب يعني سفره إليه وهويه إليه وأما العلة التي ذكرها في الشوق فقد تقدم أن من الناس من جعل الشوق في حال اللقاء أكمل منه في حال المغيب فعلى قول هؤلاء لا علة فيه وأما من جعله سفر القلب إلى المحبوب في حال غيبته عنه فعلى قوله يجيء كلام المصنف ووجهه مفهوم وقوله فإن مذهب هذه الطائفة الذي هو الفناء يريد أن الفناء إنما قام على المشاهدة فإن بدايته كما قرره هو المحبة التي في نهاية مقامات المريدين والفناء إنما يكون مع المشاهدة ومع المشاهدة لا عمل للشوق فيقال هذا باطل من وجوه أحدها أن المشاهدة لا تزيل الشوق بل تزيده كما تقدم الثاني أنه لا مشاهدة أكمل من مشاهدة أهل الجنة وهم إلى يوم المزيد وهو يوم الجمعة أشوق شيء كما في الحديث وكذلك هم أشوق شيء إلى رؤية ربهم وسماع كلامه تعالى وهم في الجنة فإن هذا إنما يحصل لهم في حال دون حال كما في حديث ابن عمر المسند وغيره إن أعلى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى وجه ربه كل يوم مرتين.(3/55)
ومعلوم قطعا أن شوق هذا إلى الرؤية قبل حصولها أعظم شوق يقدر وحصول المشاهدة لأهل الجنة أتم منها لأهل الدنيا الثالث أنه لا سبيل في الدنيا إلى مشاهدة تزيل الشوق البتة ومن ادعى هذا فقد كذب وافترى فإنه لم يحصل هذا لموسى بن عمران كليم الرحمن عز وجل فضلا عمن دونه فما هذه المشاهدة التي مبنى مذهب هذه الطائفة عليها بحيث لا يكون معها شوق أهي كمال المشاهدة عيانا وجهرة سبحانك هذا بهتان عظيم أم نوع من مشاهدة القلب لمعروفه مع اقترانها بالحجب الكثيرة التي لا يحصيها إلا الله فهل تمنع هذه المشاهدة الشوق إلى كمالها وتمامها وهل الأمر إلا بالعكس في العقل والفطرة والحقيقة لأن من شاهد محبوبه من بعض الوجوه كان شوقه إلى كمال مشاهدته أشد وأعظم وتكون تلك المشاهدة الجزئية سببا لاشتياقه إلى كمالها وتمامها فأين العلة في الشوق وأين المشاهدة المانعة من الشوق وهذا بحمد الله ظاهر ومن نازع فيه كان مكابرا والله أعلم.
فصل قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى شوق العابد إلى الجنة.
ليأمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل يعني شوق العابد إلى الجنة فيه هذه الحكم الثلاث أحدها حصول الأمن الباعث على الأمل فإن الخوف المجرد عن الأمن من كل وجه لا ينبعث صاحبه لعمل البتة إن لم يقارنه أمل فإن تجرد عنه قطع وصار قنوطا الثاني فرح الحزين فإن الحزن المجرد أيضا إن لم يقترن به الفرح قتل.(3/56)
صاحبه فلولا روح الفرح لتعطلت قوى الحزين وقعد حزنه به ولكن إذا قعد به الحزن قام به روح الفرح الثالث روح الظفر فإن الآمل إن لم يصحبه روح الظفر مات أمله والله أعلم.
فصل قال الدرجة الثانية شوق إلى الله عز وجل زرعه الحب الذي ينبت.
على حافات المنن فعلق قلبه بصفاته المقدسة فاشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وأعلام فضله وهذا شوق تغشاه المبار وتخالجه المسار ويقاومه الاصطبار الشوق إلى الله لا ينافي الشوق إلى الجنة فإن أطيب ما في الجنة قربه تعالى ورؤيته وسماع كلامه ورضاه نعم الشوق إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين في الجنة ناقص جدا بالنسبة إلى شوق المحبين إلى الله تعالى بل لا نسبة له إليه البتة وهذا الشوق درجتان إحداهما شوق زرعه الحب الذي سببه الإحسان والمنة وهو الذي قال فيه ينبت على حافات المنن فسببه مطالعة منة الله وإحسانه ونعمه وقد تقدم بيان ذلك في منزلة المحبة وتبين أن محبة الأسماء والصفات أكمل وأقوى من محبة الإحسان والآلاء وفي قوله تنبت على حافات المنن أي جوانبه إشارة إلى عدم تمكنها وقوتها وأنها من نبات الحافات التي هي جوانب المنن لا من نبات الأسماء والصفات وقوله فعلق قلبه بصفاته المقدسة يعني الصفات المختصة بالمنن والإحسان كالبر والمنان والمحسن والجواد والمعطي والغفور ونحوها.(3/57)
وقوله المقدسة يعني المطهرة المنزهة عن تأويل المحرفين وتشبيه الممثلين وتعطل المعطلين وإنما قلنا إن مراده هذه الصفات الخاصة لوجهين أحدهما أن تعلق القلب بالصفات العامة إنما يكون في الدرجة الثالثة الثاني أنه جعل ثمرة هذا التعلق شوق العبد إلى معاينة لطائف كرم الرب ومننه وإحسانه وآيات بره وهي علامات بره بالعبد وإحسانه إليه وكذلك أعلام فضله وهو ما يفضل عليه به ويفضله به على غيره قوله وهذا شوق تغشاه المبار يعني أنه شوق معلول ليس خالصا لذات المحبوب بل لما ينال منه من المبار فقد غشيته أي أدركته المبار قوله وتخالجه المسار أي تجاذبه فإن المخالجة هي المجاذبة فإذا خالط هذا الشوق الفرح كان ممزوجا بنوع من الحظ وقوله ويقاومه الاصطبار أي أن صاحبه يقوى على الصبر فيقاوم صبره شوقه ولا يغلبه بخلاف الشوق في الدرجة الثالثة.
فصل قال الدرجة الثالثة نار أضرمها صفو المحبة فنغصت العيش وسلبت.
السلوة ولم ينهنهها معزى دون اللقاء يريد أن الشوق في هذه المرتبة شبيه بالنار التي أضرمها صفو المحبة وهو خالصها وشبهه بالنار لالتهابه في الأحشاء وفي قوله صفو المحبة إشارة إلى أنها محبة لم تكن لأجل المنة والنعم ولكن محبة متعلقة بالذات والصفات قوله فنغصت العيش أي منعت صاحبها السكون إلى لذيذ العيش والتنغيص قريب من التكدير قوله وسلبت السلوة أي نهبت السلو وأخذته قهرا.(3/58)
والسلوة هي الخلاص من كرب المحبة وإلقاء حملها عن الظهر والإعراض عن المحبوب تناسيا وقوله لم ينهنهها معزى دون اللقاء أي لم يكفها ويردها قرار دون لقاء المحبوب وهذه لا يقاومها الاصطبار لأنه لا يكفها دون لقاء من يحب قرار.
فصل وقد يقوى هذا الشوق ويتجرد عن الصبر فيسمى قلقا وبذلك سماه.
صاحب المنازل واستشهد عليه بقوله تعالى حاكيا عن كليمه موسى عليه السلام وعجلت إليك ربي لترضى فكأنه فهم أن عجلته إنما حمله عليها القلق وهو تجريد الشوق للقائه وميعاده وظاهر الآية أن الحامل لموسى على العجلة هو طلب رضى ربه وأن رضاه في المبادرة إلى أوامره والعجلة إليها ولهذا احتج السلف بهذه الآية على أن الصلاة في أول الوقت أفضل سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر ذلك قال إن رضى الرب في العجلة إلى أوامره ثم حده صاحب المنازل بأنه تجريد الشوق بإسقاط الصبر أي تخلصه من كل شائبة بحيث يسقط معه الصبر فإن قارنه اصطبار فهو شوق ثم قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى قلق يضيق الخلق ويبغض الخلق ويلذذ الموت يعني يضيق خلق صاحبه عن احتمال الأغيار فلا يبقى فيه اتساع لحملهم فضلا عن تقييدهم له وتعوقه بأنفاسهم ويبغض الخلق يعني لا شيء أبغض إلى صاحبه من اجتماعه بالخلق لما في ذلك من التنافر بين حاله وبين خلطتهم وحدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال كان في بداية أمره يخرج أحيانا إلى الصحراء يخلو عن الناس لقوة ما يرد عليه فتبعته يوما.(3/59)
فلما أصحر تنفس الصعداء ثم جعل يتمثل بقول الشاعر وهو لمجنون ليلى من قصيدته الطويلة
وأخرج من بين البيوت لعلني
أحدث عنك النفس بالسر
خاليا وصاحب هذه الحال إن لم يرده الله سبحانه إلى الخلق بتثبيت وقوة وإلا فإنه لا صبر له على مخالطتهم قوله ويلذذ الموت فإن صاحبه يرجو فيه لقاء محبوبه فإذا ذكر الموت التذ به كما يلتذ المسافر بتذكر قدومه على أهله وأحبابه.
فصل قال الدرجة الثانية قلق يغالب العقل ويخلي السمع ويطاول الطاقة.
أي يكاد يقهر العقل ويغلبه فهو والعقل تارة وتارة ولكن لما لم يصل إلى درجة الشهود لم يصطلمه فإن العقل لا يصطلمه إلا الشهود ولذلك قال يغالب ولم يقل يغلب وأما إخلاؤه السمع فهو يتضمن إخاءه من شيء وإخلاءه لشيء فيخليه من استماعه ذكر الغير ويخليه لاستماعه أوصاف المحبوب وذكره وحديثه وقد يقوى إلى أن يبعد بين قلب صاحبه وبين إدراك الحواس لانقهار الحس لسلطان القلق قوله ويطاول الطاقة يعني يصابرها ويقاومها فلا تقدر طاقة الاصطبار على دفعه ورده والله أعلم.
فصل قال الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقى.
أحدا يريد أن هذا القلق له القهر والغلبة لأنه ربما كان عن شهود فإذا علق بالقلب لم يبق عليه حتى يلقيه في فناء الشهود.(3/60)
ولا يقبل أمدا أي لا يقبل حدا ومقدارا يقف عنده وينقضي به كما ينقضي ذو الأمد فإنه حاكم غير محكوم عليه مالك للقلب غير مملوك له ولا يبقى أحدا أي يلقى صاحبه في الشهود الذي تفنى فيه الرسوم وتضمحل فلا يبقى معه على أحد رسمه حتى يفنيه والله أعلم.
فصل ثم يقوى هذا القلق ويتزايد حتى يورث القلب حالة شبيهة بشدة ظمأ.
الصادي الحران إلى الماء وهذه الحالة هي التي يسميها صاحب المنازل العطش واستشهد عليه بقوله تعالى عن الخليل {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} كأنه أخذ من إشارة الآية أنه لشدة عطشه إلى لقاء محبوبه لما رأى الكوكب قال هذا ربي فإن العطشان إذا رأى السراب ذكر به الماء فاشتد عطشه إليه وهذا ليس معنى الآية قطعا وإنما القوم مولعون بالإشارات وإلا فالآية قد قيل إنها على تقدير الاستفهام أي أهذا ربي وليس بشيء وقيل إنها على وجه إقامة الحجة على قومه فتصور بصورة الموافق ليكون أدعى إلى القبول ثم توسل بصورة الموافقة إلى إعلامهم بأنه لا يجوز أن يكون المعبود ناقصا آفلا فإن المعبود الحق لا يجوز أن يغيب عن عابديه وخلقه ويأفل عنهم فإن ذلك مناف لربوبيته لهم أو أنه انتقل من مراتب الاستدلال على المعبود حتى أوصله الدليل إلى الذي فطر السماوات والأرض فوجه إليه وجهه حنيفا موحدا مقبلا عليه معرضا عما سواه والله سبحانه أعلم.(3/61)
فصل قال العطش كناية عن غلبة ولوع بمأمول الولوع بالشيء هو.
التعلق به بصفة المحبة مع أمل الوصول إليه وقيل في حد الولوع إنه كثرة ترداد القلب إلى الشيء المحبوب كما يقال فلان مولع بكذا وقد أولع به وقيل هو لزوم القلب للشيء فكأنه مثل أغرى به فهو مغرى قال وهو على ثلاث درجات الأولى عطش المريد إلى شاهد يرويه أو إشارة تشفيه أو عطفة تؤويه ولما كان المريد من أهل طلب الشواهد على الاعتبار ومثير العزمات وتعلق العباد بالأعمال وقوله شاهد يرويه يحتمل أنه من الرواية أي يرويه عمن أقامه له فيكون ذلك إشارة إلى شواهد العلم فهو شديد العطش إلى شواهد يرويها عن الصادقين من أهل السلوك يزداد بها تثبيتا وقوة بصيرة فإن المريد إذا تجددت له حالة أو حصل له وارد استوحش من تفرده بها فإذا قام عنده بمثلها شاهد حال لمريد آخر صادق قد سبقه إليها استأنس بها أعظم استئناس واستدل بشاهد ذلك المريد على صحة شاهده فلذلك يشتد عطشه إلى شاهد يرويه عن الصادقين ويحتمل أنه من الري فيكون مضموم الياء يعني إذا حصل له الري بذلك الشاهد ونزل على قلبه منزلة الماء البارد من الظمآن فقرر عنده صحته وأنه شاهد حق ويرجح هذا ذكر الري مع العطش ويرجح الأول ذكره لفظة الري في قوله أو عطفة ترويه والأمر قريب.(3/62)
قوله أو إشارة تشفيه أي تشفي قلبه من علة عارضة فإذا وردت عليه الإشارة إما من صادق مثله أو من عالم أو من شيخ مسلك أو من آية فهمها أو عبرة ظفر بها اشتفى بها قلبه وهذا معلوم عند من له ذوق قوله أو إلى عطفة ترويه أي عطفة من جانب محبوبه عليه تروي لهيب عطشه وتبرده ولا شيء أروى لقلب المحب من عطف محبوبه عليه ولا شيء أشد للهيبه وحريقه من إعراض محبوبه عنه ولهذا كان عذاب أهل النار باحتجاب ربهم عنهم أشد عليهم مما هم فيه من العذاب الجسماني كما أن نعيم أهل الجنة برؤيته تعالى وسماع خطابه ورضاه وإقباله أعظم من نعيمهم الجسماني.
فصل قال الدرجة الثانية عطش السالك إلى أجل يطويه ويوم يريه ما.
يغنيه ومنزل يستريح فيه إما أن يريد بالأجل الذي يطويه انقضاء مدة سجن القلب والروح في البدن حتى تصل إلى ربها وتلقاه وهذا هو الظاهر من كلامه وأما أن يريد به عطشه إلى مقصود السلوك من وصوله إلى محبوبه وقرة عينه وجمعيته عليه فهو يطوي مراحل سيره حثيثا ليصل إلى هذا المقصود وحينئذ يعود إليه سير آخر وراء هذا السير مع عدم مفارقته له فإنه إنما وصل به إليه فلو فارقه لانقطع انقطاعا كليا ولكن يبقى له سير وهو مستلق على ظهره يسبق به السعاة ويرجح هذا المعنى الثاني أن المريد الصادق لا يحب الخروج من الدنيا حتى يقضى نحبه لعلمه أنه لا سبيل إلى انقضائه في غير هذه الدار فإذا علم أنه قد.(3/63)
قضى نحبه أحب حينئذ الخروج منها ولكن لا يقضي نحبه حتى يوفى ما عليه والناس ثلاثة موف قد قضى نحبه ومنتظر للوفاء ساع فيه حريص عليه ومفرط في وفاء ما عليه من الحقوق والله المستعان قوله ويوم يريه ما يغنيه أي يوم يرى فيه ما يغني قلبه ويسد فاقته من قرة عينه بمطلوبه ومراده قوله ومنزل يستريح فيه أي منزل من منازل السير ومقام من مقامات الصادقين يستريح فيه قلبه ويسكن فيه ويخلص من تلون الأحوال عليه فإن المقامات منازل والأحوال مراحل فصاحب الحال شديد العطش إلى مقام يستقر فيه وينزله.
فصل قال الدرجة الثالثة عطش المحب إلى جلوة ما دونها سحاب علة ولا.
يغطيها حجاب تفرقة ولا يعرج دونها على انتظار عطش المحب فوق عطش المريد والسالك وإن كان كل محب سالكا وكل مريد سالكا وكل سالك ومريد محب لكن خص المحب بهذا الاسم لتمكنه من المحبة ورسوخ قلبه فيها والمريد والسالك يشمران إلى علمه الذي رفع له ووصل إليه ولذلك جعل الأولى لأهل البدايات والثانية للمتوسطين والثالثة لأهل النهايات وقوله عطش المحب إلى جلوة ما دونها سحاب يريد بالجلوة استجلاء القلب لصفات المحبوب ومحاسنه وانكشافها له.(3/64)
وقوله ما دونها سحاب أي لا يسترها شيء من سحب النفس وهي سحب العلل التي هي بقايا في العبد تحول بينه وبين استجلائه صفات محبوبه وتعوقه عنه فمهما بقي في العبد بقية من نفسه فهي سحاب وغيم ساتر على قدره فكثيف ورقيق وبين بين قوله ولا يغطيها حجاب الحجاب في لسان الطائفة النفس وصفاتها وأحكامها وهم مجمعون على أن النفس من أعظم الحجب بل هي الحجاب الأكبر فإن حجاب الرب سبحانه عن ذاته هو النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وحجابه من عبده هو نفسه وظلمته فلو كشف عنه هذا الحجاب لوصل إلى ربه والوصول عند القوم عبارة عن ارتفاع هذا الحجاب وزواله فالحجاب الذي يشتد على المحب ويشتد عطشه إلى زواله هو حجاب الظلمة والنفس وهو الحجاب الذي بينه وبين الله وأما الحجاب الذي بين الله وبين خلقه وهو حجاب النور فلا سبيل إلى كشفه في هذا العالم البتة ولا يطمع في ذلك بشر ولم يكلم الله بشرا إلا من وراء حجاب وهذا الحجاب كاشف للعبد موصل له إلى مقام الإحسان الذي يعبر عنه القوم بمقام المشاهدة والأول ساتر للعبد قاطع له حائل بينه وبين الإحسان وحقيقة الإيمان والتفرقة كلها عندهم حجب إلا تفرقة في الله وبالله ولله فإنها لا تحجب العبد عنه بل توصله إليه فلذلك قال ولا يغطيها حجاب تفرقة فإن التفرقة إنما تكون حجابا إذا كانت بالنفس ولها قوله ولا يعرج دونها على انتظار يعني لا يعرج المشاهد لم يشاهده على.(3/65)
انتظار أمر آخر وراءها كما يعرج المحب المحجوب على انتظار زوال حجابه والمراد أنه حصل له مشهد تام لا يبقى له بعده ما ينتظره وهذا عندي وهم بين فإنه لا غاية لجمال المحبوب وكمال صفاته بحيث يصل المشاهد لها إلى حالة لا ينتظر معها شيئا آخر هذا وسنبين إن شاء الله تعالى أنه لا يصح لأحد في الدنيا مقام المشاهدة أبدا وأن هذا من أوهام القوم وترهاتهم وإنما غاية ما يصل إليه العبد الشواهد ولا سبيل لأحد قط في الدنيا إلى مشاهدة الحق سبحانه وإنما وصوله إلى شواهد الحق ومن زعم غير هذا فلغلبة الوهم عليه وحسن ظنه بترهات القوم وخيالاتهم ولله در الشبلي حيث سئل عن المشاهدة فقال من أين لنا مشاهدةالحق لنا شاهد الحق هذا وهو صاحب الشطحات المعروفة وهذا من أحسن كلامه وأبينه 3وأراد بشاهد الحق ما يغلب على القلوب الصادقة العارفة الصافية من ذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه وتوقيره بحيث يكون ذلك حاضرا فيها مشهودا لها غير غائب عنها ومن أشار إلى غير ذلك فمغرور مخدوع وغايته أن يكون في خفارة صدقة وضعف تمييزه وعلمه ولا ريب أن القلوب تشاهد أنوارا بحسب استعدادها تقوى تارة وتضعف أخرى ولكن تلك أنوار الأعمال وإلإيمان والمعارف وصفاء البواطن والأسرار لا أنها أنوار الذات المقدسة فإن الجبل لم يثبت لليسير من ذلك النور حتى تدكدك وخر الكليم صعقا مع عدم تجليه له فما الظن بغيره فإياك ثم إياك وترهات القوم وخيالاتهم وأوهامهم فإنها عند العارفين أعظم من حجاب النفس وأحكامها فإن المحجوب بنفسه معترف بأنه في ذلك الحجاب.(3/66)