تعالى. قال تعالى عن نبيه داود عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] .
وقال عن المسيح عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48] .
وقال عن يحيى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيا} [مريم: 12] .
والحكم: هو الحكمة، وقال لرسوله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: {وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكُمَةَ} [النساء: 113] وقال {يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِى خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] .
وقال لأهل بيت رسوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 33] .
فالحكمة التى جاءت بها الرسل: هى الحكمة الحق المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح للهدى ودين الحق، لإصابة الحق اعتقادا وقولا وعملا. وهذه الحكمة فرقها الله سبحانه بين أنبيائه ورسله، وجمعها لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، كما جمع له من المحاسن ما فرقه فى الأنبياء قبله، وجمع فى كتابه من العلوم والأعمال ما فرقه فى الكتب قبله. فلو جمعت كل حكمة صحيحة فى العالم من كل طائفة لكانت فى الحكمة التى أوتيها صلوات الله وسلامه عليه جزاء يسيرا جدا لا يدرك البشر نسبته.
والمقصود: أن الفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها.
وقد صار هذا الاسم فى عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل فى زعمه.
وأخص من ذلك: أنه فى عرف المتأخرين اسم لأتباع إرسْطو، وهم المشاؤون خاصة. وهم الذين هذب ابن سيْنا طريقتهم وبسطها، وقررها، وهى التى يعرفها، بل لا يعرف سواها، المتأخرون من المتكلمين.
وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة، ومقالتهم واحدة من مقالات القوم، حتى قيل: إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير إرَسْطو وشيعته، فهو أول من عرف أنه قال بقدم هذا العالم. والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه، وإثبات الصانع، ومباينته للعالم، وأنه فوق(2/257)
العالم وفوق السماوات بذاته كما حكاه عنهم أعلم الناس فى زمانه بمقالاتهم: أبو الوليد بن رشد فى كتابه "مناهج الأدلة".
فقال فيه:
"القول فى الجهة"
وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية، كأبى المعالى ومن اقتدى بقوله - إلى أن قال -: والشرائع كلها مبنية على أن الله فى السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحى إلى النبيين، وأن من السماوات نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبى صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرَة المنتهى. وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة فى السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك.
ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول، وبين بطلان الشبهة التى لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم، إلى أن قال:
فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذى جاء به الشرع وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع.
فقد حكى لك هذا المطلع على مقالات القوم، الذى هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه: إجماع الحكماء على أن الله سبحانه فى السماء، فوق العالم.
والمتطفلون فى حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك، إما جهلا، وإما عمدا، وأكثر من رأيناه يحكى مذاهبهم ومقالات الناس يتطفل.
وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال، وحدوث العالم، وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه، كما ذكره فيلسوف الإسلام فى وقته أبو البركات البغدادى، وقرره غاية التقرير.
وقال: لا يستقيم كون الرب سبحانه رب العالمين إلا بذلك، وأن نفى هذه المسألة ينفى ربوبيته.
قال: والإجلال من هذا الإجلال، والتنزيه من هذا التنزيه أولى.(2/258)
فصل
وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم، العارفون فيهم، معظمين للرسل والشرائع، موجبين لاتباعهم، خاضعين لأقوالهم، معترفين بأن ما جاءوا به آخر وراء طور العقل، وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم.
وكانوا لا يتكلمون فى الإلهيات، ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل، ويقولون: علومنا إنما هى الرياضيات والطبيعيات وتوابعها. وكانوا يقرون بحدوث العالم.
وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم إرسطو. وكان مشركا يعبد الأصنام. وله فى الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره، فقد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين، حتى الجهمية والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه، وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء.
وأنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئا من الموجوادت، وقرر ذلك بأنه لو علم شيئا لكمل بمعلوماته، ولم يكن كاملا فى نفسه، وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات.
فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ.
وقد حكى ذلك أبو البركات، وبالغ فى إبطال هذه الحجج وردها.
فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه: الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة، ممن يتستر باتباع الرسل، وهو منحل من كل ما جاءوا به.
وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء، ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قلبوه، وما خالفه لم يعبأوا به شيئا.
ويسمونه المعلم الأول، لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية، كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشعر.(2/259)
وزعم إرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعانى، كما أن العروض ميزان الشعر.
وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه، وتعويجه للعقول، وتخبيطه للأذهان. وصنفوا فى رده وتهافته كثيرا.
وآخر من صنف فى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ألف فى رده وإبطاله كتابين، كبيرا، وصغيرا، بين فيه تناقضه وتهافته وفساد كثير من أوضاعه.
ورأيت فيه تصنيفا لأبى سعيد السيرافى.
والمقصود: أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلم الأول، حتى انتهت نوبتهم إلى معلمهم الثانى: أبى نصر الفارابى. فوضع لهم التعاليم الصوتية، كما أن المعلم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية، ثم وسع الفارابى الكلام فى صناعة المنطلق، وبسطها وشرح فلسفة إرسطو وهذبها، وبالغ فى ذلك. وكان على طريقة سلفه: من الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر.
فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف فى الحقيقة. وإذا رأوه مؤمنا بالله وملائكته، وكتبه ورسله، ولقائه، متقيدا بشريعة الإسلام، نسبوه إلى الجهل والغباوة. فإن كان ممن لا يشكون فى فضيلته ومعرفته، نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام.
فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة، أو شرط.
ولعل الجاهل يقول: إنا تحاملنا عليهم فى نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم. وليس هذا من جهلة بمقالات القوم، وجهلة بحقائق الإسلام ببعيد.
فاعلم أن الله - سبحانه وتعالى عما يقولون عندهم كما قرره أفضل متأخريهم، ولسانهم، وقدوتهم الذى يقدمونه على الرسل: أبو على بن سينا: هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به، ولا يفعل شيئا باختياره البتة ولا يعلم شيئا من الموجوادت أصلا، لا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئا من المغيبات. ولا له كلام يقوم به، ولا صفة.
ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر فى الذهن، لا حقيقة له، وإنما غايته أن يفرضه الذهن(2/260)
ويقدره، كما يفرض الأشياء المقدرة، وليس هذا هو الرب الذى دعت إليه الرسل وعرفته الأمم، بل بين هذا الرب الذى دعت إليه الملاحدة وجردته عن الماهية، وعن كل صفة ثبوتية، وكل فعل اختيارى، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل به، ولا مباين له ولا فوقه ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله - وبين رب العالمين، وإله المرسلين، ومن الفرق ما بين الوجود والعدم، والنفى والإثبات.
فأى موجود فرض كان أكمل من هذا الإله، الذى دعت إليه الملاحدة، ونحتته أفكارهم، بل منحوت الأيدى من الأصنام له وجود، وهذا الرب ليس له وجود، ويستحيل وجوده إلا فى الذهن.
هذا، وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم الأول إرسطو. فإن هؤلاء أثبتوا وجودا واجباً ممكنا، هو معلول له وصادر عنه صدور المعلول عن العلة، وأما إرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة، وعلة غائية لحركة الفلك فقط، وصرح بأنه لا يعقل شيئا، ولا يفعل باختياره.
وأما هذا الذى يوجد فى كتب المتأخرين من حكاية مذهبه، فإنما هو من وضع ابن سينا. فإنه قرب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده، وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين فى التجهم، فهم فى غلوهم فى تعطيلهم ونفيهم أشد مذهبا وأصح قولا من هؤلاء.
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل.
وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم. وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبى بزعمهم فى نفسه من أشكال نورانية، هى العقول عندهم، وهى مجردات ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السماوات، ولا تحتها، ولا هى أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل، ولا تدبر شيئا، ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العبد، ولا لها إحساس ولا حركة البتة، ولا تنتقل من مكان إلى مكان، ولا تَصُفُّ عند ربها، ولا تصلى، ولا لها تصرف فى أمر العالم البتة، فلا تقبض نفس العبد، ولا تكتب رزقه وأجله وعمله، ولا عن اليمين وعن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة.
وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام، فقال: الملائكة هى القوى الخيَّرة الفاضلة التى فى العبد. والشياطين هى القوى الشريرة الرديئة، هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل.(2/261)
وأما الكتب، فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئا، ولا يقول، ولا يجوز عليه الكلام. ومن تقرب منهم إلى المسلمين يقول: الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعانى، وتشكلت فى نفسه بحيث توهمها أصواتا تخاطبه، وربما قوى الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه، وربما قوى ذلك حتى يخيلها لبعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك فى الخارج.
وأما الرسل والأنبياء. فللنبوة عندهم ثلاث خصائص، من استكملها فهو نبى:
أحدها: قوة الحدس، بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة.
الثانية: قوة التخيل والتخييل، بحيث يتخيل فى نفسه أشكالا نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويخيلها إلى غيره.
الثالثة: قوة التأثير بالتصرف فى هيولى العالم. وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات، من العقول والنفوس المجردة.
وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب. ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين، وابن هود، وأضرابهما. والنبوة عند هؤلاء صنعة من الصنائع، بل من أشرف الصنائع، كالسياسة، بل هى سياسة العامة، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة: نبوة الخاصة. والنبوة: فلسفة العامة.
وأما الإيمان باليوم الآخر. فهم لا يقرون بانفطار السماوات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السماوات والأرض فى ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه.
فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولا نبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحى من الله تعالى.
فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير وأهون من دين هؤلاء.
وحسبك جهلا بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب، واستكمل بغيره. وحسبك خذلانا وضلالا وعمى: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أولو العقول.(2/262)
وحسبك عجبا من جهلهم، وضلالهم: ما قالوه فى سلسلة الموجودات، وصدور العالم عن العقول والنفوس، إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة، لا علم له بما صدر عنه ولا قدرة له عليه، ولا إرادة، وأنه لم يصدر عنه إلا واحد. فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطل ما أصَّلوه، وإن لم يكن فيه كثرة البتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله، وتكثر الموجودات وتعددها يكذب هذا الرأى الذى هو ضحكة للعقلاء وسخرية لأولى الألباب، مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا، وإرادته تقريب هذا المذهب من الشرائع، وهيهات. وإلا فالمعلم الأول لم يثبت صانعا للعالم البتة.
والرجل معطل مشرك، جاحد للنبوات والمعاد، لا مبدأ عنده ولا معاد، ولا رسول ولا كتاب والرازى وفروخه لا يعرفون مذهب الفلاسفة غير طريقه.
ومذاهبهم وآراؤهم كثيرة جدا، قد حكاها أصحاب المقالات، كالأشعرى فى مقالاته الكبيرة، وأبى عيسى الوراق، والحسن بن موسى النوبختى.
وأبو الوليد بن رشد يحكى مذهب إرسطو غير ما حكاه ابن سينا، ويغلطه فى كثير من المواضع. وكذلك أبو البركات البغدادى يحكى نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا.
فصل
والفلاسفة لا تختص بأمة من الأمم، بل هم موجودون فى سائر الأمم، وإن كان المعروف عند الناس الذين اعتنوا بحكاية مقالاتهم: هم فلاسفة اليونان. فهم طائفة من طوائف الفلاسفة، وهؤلاء أمة من الأمم، لهم مملكة وملوك، وعلماؤهم فلاسفتهم، ومن ملوكهم الإسكندر المقدونى. وهو ابن فيلبس. وليس هو بالإسكندر ذى القرنين الذى قص الله(2/263)
تعالى نبأه فى القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما فى الدين أعظم تباين. فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وكان يغزو عُبَّاد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدونى فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف سنة وستمائة سنة. والنصارى تؤرخ له. وكان إرسطاطاليس وزيره وكان مشركا يعبد الأصنام. وهو الذى غزا دارا بن دارا ملك الفرس فى عقر داره فثل عرشه، ومزق ملكه، وفرق جمعه، ثم دخل إلى الصين، والهند، وبلاد الترك، فقتل وسبى.
وكان لليونانيين فى دولته عز وسطوة بسبب وزيره إرسطو، فإنه كان مشيره ووزيره ومدبر مملكته.
وكان بعده لليونان عدة ملوك يعرفون بالبطالسة، وأحدهم بطليموس، كما إن كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم.
ثم غلبهم الروم واستولوا على ممالكهم، فصاروا رعية لهم، وانقرض ملكهم، فصارت المملكة للروم، وصارت المملكة واحدة. وهم على شركهم من عبادة الأصنام وهو دينهم الظاهر، ودين آبائهم، فنشأ فيهم سقراط أحد تلامذة فيثاغورس، وكان من عبادهم، ومتألهيهم، وجاهرهم بمخالفتهم فى عبادة الأصنام، وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها، فثار عليه العامة، واضطروا الملك إلى قتله، فأودعه السجن ليكفهم عنه، ثم لم يرض المشركون إلا بقتله، فسقاه السم خوفا من شرهم، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. ومذهبه فى الصفات قريبا من مذهب أهل الإثبات، فقال: إنه إله كل شيء وخالقه،(2/264)
ومقدره. وهو عزيز، أى منيع، ممتنع أن يضام وحكيم، أى محكم أفعاله على النظام.
وقال: إن علمه، وقدرته، ووجوده، وحكمته، بلا نهاية، لا يبلغ العقل أن يصفها.
وقال: إن تناهى المخلوقات بحسب احتمال القوابل، لا بحسب الحكمة والقدرة، فلما كانت المادة لا تحتمل صورا بلا نهاية تناهت الصور، لا من جهة بخل فى الواهب، بل لقصور فى المادة.
قال: وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت ذاتا وصورة وحيزا ومكانا. إلا أنها لا تتناهى زمانا فى آخرها، لا من نحو أولها، فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص باستبقاء الأنواع، وذلك بتجدد أمثالها، ليحفظ الأشخاص ببقاء الأنواع، ويستبقى الأنواع بتجدد الأشخاص. فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية، ولا الحكمة تقف على غاية.
ومن مذهبه: أن أخص ما يوصف به الرب سبحانه، هو كونه حيا قيوما، لأن العلم، والقدرة، والجود، والحكمة، تندرج تحت كونه حيا قيوما، فهما صفتان جامعتان للكل.
وكان يقول: هو حى ناطق من جوهره، أى من ذاته وحياته، ونطقنا وحياتنا لا من جوهرنا، ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد، ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه.
وكلامه فى المعاد والصفات والمبدأ أقرب إلى كلام الأنبياء من كلام غيره.
وبالجملة، فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل، ولهذا قتله قومه.
وكان يقول: إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات.
وقال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وقال: ينبغى أن يُغْتَم بالحياة ويفرح بالموت، لأن الإنسان يحيا ليموت، ثم يموت ليحيا.
وقال: قلوب المغرمين بالمعرفة بالحقائق منابر الملائكة. وقلوب المؤثرين للشهوات مقاعد للشياطين.(2/265)
وقال: للحياة حدان: أحدهما: الأمل، والآخر: الأجل. فبالأول بقاؤها، وبالآخر فناؤها.
وكذلك أفلاطون. كان معروفا بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وإثبات حدوث العالم وكان تلميذ سقراط، ولما هلك سقراط قام مقامه، وجلس على كرسيه.
وكان يقول إن للعالم صانعا محدثا، مبدعا أزليا، واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات.
قال: وليس فى الوجود رسم ولا طلل إلا ومثاله عند البارى تعالى.
يشير إلى وجود صور المعلومات فى علمه.
فهو مثبت للصفات، وحدوث العالم. ومنكر لعبادة الأصنام، ولكن لم يواجه قومه بالرد عليهم، وعيب آلهتهم فسكتوا عنه. وكانوا يعرفون له فضله وعمله.
وصرح أفلاطون بحدوث العالم. كما كان عليه الأساطين. وحكى ذلك عنه تلميذه إرسطو. وخالفه فيه، فزعم أنه قديم، وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة، من المنتسبين إلى الملل وغيرهم، حتى انتهت النوبة إلى أبى على بن سينا، فرام بجهده تقريب هذا الرأى من قول أهل الملل، وهيهات اتفاق النقيضين، واجتماع الضدين.
فرسل الله تعالى وكتبه وأتباع الرسل فى طرف. وهؤلاء القوم فى طرف.
وكان ابن سينا، كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبى من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى.
وكان هؤلاء الزنادقة، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا، وكانوا(2/266)
يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حراما، ولا يحلون حلالا. وفى زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفا.
ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك، والكفر الملحد، وزير الملاحدة، النصير الطوسى وزير هولاكو، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة، والمنجمين، والطبائعيين، والسحرة. ونقل أوقاف المدارس والمساجد، والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر فى كتبه قدم العالم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرب جل جلاله: من عمله، وقدرته، وحياته، وسمعه، وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد البتة.
واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك. فقال: هى قرآن الخواص. وذاك قرآن العوام. ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر. وتعلم السحر فى آخر الأمر. فكان ساحرا يعبد الأصنام.
وصارع محمد الشهرستانى ابن سينا فى كتاب سماه "المصارعة" أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد، ونفى علم الرب تعالى وقدرته، وخلقه العالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سماه "مصارعة المصارعة" ووقفنا على الكتابين - نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض فى ستة أيام. وأنه لا يعلم شيئا، وأنه لا يفعل شيئا بقدرته واختياره، ولا يبعث من فى القبور.
وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر.(2/267)
والفلسفة التى يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هى مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا، وبعضها عن أبى نصر الفارابى، وشيء يسير منها من كلام إرسطو. وهو - مع قلته وغثاتته وركاكة ألفاظه - كثير التطويل، لا فائدة فيه. وخيار ما عند هؤلاء، فالذى عند مشركى العرب من كفار قريش وغيرهم خير منهم فإنهم يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نعت، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السماوات والأرض بعد عدمهما، ولا له قدرة على فعل، ولا يعلم شيئا. وعباد الأصنام كانوا يثبتون ربا خالقا مبدعا عالما، قادرا حيا، ويشركون به فى العبادة فنهاية أمر هؤلاء الوصول إلى شيء برَّز عليهم فيه عباد الأصنام وهم فرق شتى لا يحصيهم إلا الله عز وجل.
وأحصى المعتنون بمقالات الناس منهم اثنتى عشرة فرقة، كل فرقة منها مختلفة اختلافا كثيرا عن الأخرى.
فمنهم أصحاب الرواق، وأصحاب الظلة، والمشاؤون، وهم شيعة إرسطو. وفلسفتهم هى الدائرة اليوم بين الناس، وهى التى يحكيها ابن سينا والفارابى، وابن خطيب الرى وغيرهم.
ومنهم الفيثاغورية، والأفلاطونية، ولا تكاد تجد منهم اثنين متفقين على رأى واحد، بل قد تلاعب بهم الشيطان كتلاعب الصبيان بالكرة. ومقالاتهم أكثر من أن نذكرها على التفصيل.
وبالجملة: فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض. فإنهم عطلوا الشرائع، وعطلوا المصنوع عن الصانع، وعطلوا الصانع عن صفات كماله، وعطلوا العالم عن الحق الذى خلق له ربه، فعطلوه عن مبدئه ومعاده، وعن فاعله وغايته.
ثم سرى هذا الداء منهم فى الأمم، وفى فرق المعطلة.
فكان منهم إمام المعطلين فرعون، فإنه أخرج التعطيل إلى العمل، وصرح به، وأذن به بين قومه، ودعا إليه، وأنكر أن يكون لقومه إله غيره. وأنكر أن يكون الله تعالى(2/268)
فوق سماواته على عرشه، وأن يكون كلم عبده موسى تكليما، وكذب موسى فى ذلك، وطلب من وزيره هامان أن يبنى له صرحا ليطلع - بزعمه - إلى إله موسى عليه السلام وكذبه فى ذلك، فاقتدى به كل جهمى. فكذب أن يكون الله مكلما متكلما، أو أن يكون فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه، على العرش استوى، ودرج قومه وأصحابه على ذلك، حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق، وجعلهم عبرة لعباده المؤمنين، ونكالا لأعدائه المعطلين.
ثم استمر الأمر على عهد نبوة موسى كليم الرحمن، على التوحيد وإثبات الصفات، وتكليم الله لعبده موسى تكليما، إلى أن توفى موسى عليه السلام، ودخل الداخل على بنى إسرائيل، ورفع التعطيل رأسه بينهم، وأقبلوا على عموم المعطلة، أعداء موسى عليه السلام، وقدموها على نصوص التوراة، فسلط الله تعالى عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم، وسبى ذراريهم، كما هى عادته سبحانه وسنته فى عباده إذا أعرضوا عن الوحى، وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم، كما سلط النصارى على بلاد العرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم، وأصاروهم رعية لهم، وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق، سلط عليهم عساكر التتار، فأبادوا أكثر البلاد الشرقية، واستولوا عليها. وكذلك فى أواخر المائة الثالثة، وأول الرابعة، لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عده مرات واستولوا على الحاج، واستعرضوهم قتلا وأسرا، واشتدت شوكتهم، واتهم بموافقتهم فى الباطن كثير من الأعيان، من الوزراء والكتاب، والأدباء وغيرهم، واستولى أهل دعوتهم على بلاد المعرب، واستقرت دار مملكتهم بمصر، وبنيت فى أيامهم القاهرة، واستولوا(2/269)
على الشام والحجاز واليمن والمغرب، وخطب لهم على منبر بغداد.
والمقصود أن هذا الداء لما دخل فى بنى إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال مملكتهم، ثم بعث الله سبحانه عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم، فجدد لهم الدين وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، والتبرى من تلك الأحداث، والآراء الباطلة، فعادوه وكذبوه، ورموه وأمه بالعظائم، وراموا قتله، فطهره الله تعالى منهم، ورفعة إليه، فلم يصلوا إليه بسوء. وأقام الله تعالى للمسيح أنصارا دعوا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته، واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة.
ثم أخذ دين المسيح فى التبديل والتغيير، حتى تناسخ واضمحل، ولم يبق بأيدى النصارى منه شيء، بل ركبوا دينا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوهم فى النصرانية، فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسدة إلى عبادة الصور التى لا ظل لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل إلى القول باتحاد الأب والابن وروح القدس.
هذا ومعهم بقايا من دين المسيح، كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة، إلا ما أحل لهم بنصها.
ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير، وأحلوا السبت، وعوضوا منه يوم الأحد وتركوا الختان، والاغتسال من الجنابة، وكان المسيح يصلى إلى بيت المقدس، فصلوا هم إلى المشرق، ولم يعظم المسيح عليه السلام صليبا قط، فعظموا هم الصليب وعبدوه، ولم يصم المسيح عليه السلام صومهم هذا أبدا، ولا شرعه، ولا أمر به البتة بل هم وضعوه على هذا العدد، ونقلوه إلى زمن الربيع، فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية، وتعبدوا بالنجاسات، وكان المسيح عليه السلام فى غاية الطهارة والطيب والنظافة، وأبعد الخلق عن النجاسة، فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود، ومراغمتهم، فغيروا دين المسيح، وتقربوا إلى الفلاسفة وعباد الأصنام، بأن وافقوهم فى بعض الأمر ليرضوهم به، وليستنصروا بذلك على اليهود.
ولما أخذ دين المسيح عليه السلام فى التغيير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع تزيد(2/270)
على ثمانين مجمعا، ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعن يلعن بعضهم بعضا، حتى قال فيهم بعض العقلاء:
"لو اجتمع عشرة من النصارى يتكلمون فى حقيقة ما هم عليه لتفرقَّوا عن أحد عشر مذهبا".
حتى جمعهم قسطنطين الملك آخر ذلك، من الجزائر والبلاد، وسائر الأقطار. فجمع كل بترك وأسقف وعالم فكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر.
فقال: أنتم اليوم علماء النصرانية، وأكابر النصارى فاتفقوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية، ومن خالفها لعنتموه، وحرمتموه، فقاموا وقعدوا وفكروا وقدروا، واتفقوا على وضع الأمانة التى بأيديهم اليوم، وكان ذلك بمدينة نيقية، سنة خمس عشرة من ملك قسطنطين.
وكان أحد أسباب ذلك أن بطْريق الإسكندرية منع أريوس من دخول الكنيسة ولعنه، فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مستعديا عليه، ومعه أسقُفان فشكوه إليه، وطلبوا مناظرته بين يدى الملك، فاستحضره الملك، وقال لأريوس: اشرح مقالتك. فقال أريوس: أقول: إن الأب كان إذ لم يكن الابن، ثم أحدث الابن، فكان كلمة له، إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة. فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما كما قال فى إنجيله، إذ يقول "وهب لى سلطانا على السماء والأرض" فكان هو الخالق لهما بما أعطى من ذلك. ثم إن تلك الكلمة بعد تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس. فصار ذلك مسيحا واحدا. فالمسيح الآن معنيان: كلمة، وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان.(2/271)
فقال بطريق الإسكندرية: أخبرنا: أيما أوجب علينا عندك؟ عبادة من خلقنا، أو عبادة من لم يخلقنا؟.
فقال أريوس: بل عبادة من خلقنا.
فقال: [فإن كان الابن خالقنا كما وصفت. وكان الابن مخلوقا] فعبادة الابن الذى خلقنا - وهو مخلوق - أوجب من عبادة الأب الذى ليس بمخلوق، بل تصير عبادة الأب الخالق كفرا. وعبادة الابن المخلوق إيمانا [وذلك من أقبح الأقوال] .
فاستحسن الملك والحاضرون مقالته، وأمرهم الملك أن يلعنوا أريوس وكل من يقول مقالته.
فلما انتصر البطريق قال للملك: استحضر البطارقة والأساقفة، حتى يكون لنا مجمع ونصنع قصة نشرح فيها الدين ونوضحه للناس، فحشرهم قسطنطين من سائر الآفاق فاجتمع عنده بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا. وكانوا مختلفى الآراء متباينين فى أديانهم. فلما اجتمعوا كثر اللغط بينهم، وارتفعت الأصوات، وعظم الاختلاف فتعجب الملك من شدة اختلافهم. فأجرى عليهم الأنزال وأمرهم أن يتناظروا حتى يعلم(2/272)
الدين الصحيح مع من منهم. فطالت المناظرة بينهم. فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأى واحد. فناظروا بقية الأساقفة، فظهروا عليهم. فعقد الملك لهؤلاء الثلاثمائة والثمانية عشر مجلسا خاصا وجلس فى وسطه، وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه، فدفعها إليهم، وقال لهم: قد سلطتكم على المملكة. فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قوام دينكم، وصلاح أمتكم. فباركوا عليه وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية وذب عنه. ودفعوا إليه الأمانة التى اتفقوا على وضعها. فلا يكون عندهم نصرانى من لم يقرَّ بها. ولا يتم لهم قربان إلا بها، وهى هذه:
"نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كل شئ، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، الذى ولد من أبيه قبل العوالم كلها. وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذى بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء الذى من أجلنا - معشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا وحمل به، ثم ولد من مريم البتول، وأُلِمَ، وشج، وقتل، وصلب، ودفن، وقام فى اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذى يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية، وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين".
فهذا العقد الذى أجمع عليه الملكية والنسطورية، واليعقوبية.
وهذه الأمانة التى ألفها أولئك البتاركة، والأساقفة، والعلماء، وجعلوها شعار النصرانية.
وكان رؤساء هذا المجمع بترك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وبترك بيت المقدس.
فافترقوا عليها، وعلى لعن ما خالفها ومن خالفها، والتبرى منه، وتكفيره.(2/273)
ثم ذهب أريوس يدعو إلى مقالته، وينفر النصارى عن أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر. فجمع جمعا عظيما، وصاروا إلى بيت المقدس، وخالف بكثير من النصارى لأولئك المجمع.
فلما اجتمعوا قال أريوس: إن أولئك النفر تعدوا على، وظلمونى، ولم ينصفونى فى الحجاج، وحرمونى ظلما وعدوانا. ووافقه كثير من الذين معه. وقالوا: صدق. فوثبوا عليه فضربوه، حتى كاد أن يقتل لولا ابن أخت الملك خلصه. وافترقوا على هذه الحال.
ثم كان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول. اجتمع الوزراء والقواد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت، وغلب عليهم مقالة أريوس، فاكتب إلى جميع البتاركة والأساقفة: أن يجتمعوا، ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى سائر بلاده. فاجتمع بقسطنطينية مائة وخمسون أسقفا. وكان مقدموهم بترك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وبترك بيت المقدس. فنظروا فى مقالة أريوس.
وكان من مقالته: أن روح القدس مخلوق مصنوع، ليس بإله.
فقال بترك الإسكندرية: ليس لروح القدس عندنا معنى غير روح الله تعالى وليس روح الله تعالى شيئا غير حياته. فإذا قلنا: إن روح القدس مخلوق، فقد قلنا: إن روح الله مخلوق. وإذا قلنا: إن روح الله مخلوقة، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة. فقد جعلناه غير حى. ومن جعله غير حى فقد كفر. ومن كفر وجب عليه اللعن.
فلعنوا بأجمعهم أريوس وأشياعه وأتباعه، والبتاركة الذين قالوا بمقالته، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حق، وأن طبيعة الأب والابن جوهر واحد، وطبيعة واحدة(2/274)
وزادوا فى الأمانة التى وضعها الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا "ونؤمن بروح القدس الرب المحيى المميت، المنبثق من الأب، الذى مع الابن والأب، وهو مسجود وممجد".
وكان فى الأمانة الأولى "وبروح القدس فقط".
وبينوا أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم، وثلاث وجوه، وثلاثة خواص، وحدة فى تثليث وتثليث فى وحدة، وزادوا ونقصوا فى الشريعة.
وأطلق بترك الإسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكل اللحم وكانوا على مذهب مانى، لا يرون أكل ذوات الأرواح.
فانفض هذا المجمع وقد لعنوا فيه أكثر أساقفتهم وبتاركتهم، ومضوا على تلك الأمانة.
ثم كان لهم مجمع رابع بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نسطورس.
وكان مذهبه "أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولكن ثمة اثنان: إله الذى هو موجود من الأب، والآخر إنسان الذى هو موجود من مريم. وأن هذا الإنسان الذى نقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله وابن الإله ليس ابنا على الحقيقة. لكن على سبيل الموهبة والكرامة، واتفاق الاسمين".
فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلات. واتفقوا على تخطئته. واجتمع منهم مائتا أسقف فى مدينة أفسيس، وأرسلوا إلى نسطورس للمناظرة. فامتنع ثلاث مرات. فأوجبوا عليه الكفر، فلعنوه، ونفوه وحرموه، وثبتوا "أن مريم ولدت إلها، وأن المسيح إله حق، وإنسان معروف بطبيعتين، متوحد فى الأقنوم".(2/275)
فلما لعنوا نسطورس غضب له يوحنا بترك أنطاكية. فجمع أساقفته الذين قدموا معه، وناظرهم، فقطعهم، فتقاتلوا. ووقع الحرب والشر بينهم، وتفاقم أمرهم. فلم يزل الملك [تذوس] حتى أصلح بينهم. فكتب أولئك صحيفة "أن مريم القدسية ولدت إلها، وهو ربنا يسوع المسيح، الذى هو مع أبيه فى الطبيعة، ومع الناس فى الناسوت" وأنفذوا لعن نسطورس.
فلما نفى نسطورس سار إلى أرض مصر، وأقام بإخميم سبع سنين، ودفن بها، ودرست مقالته، إلى أن أحياها ابن صرما، مطران نصيبين، وبثها فى بلاد المشرق فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية.
وانفض ذلك المجمع أيضا على لعن نسطورس، ومن قال بقوله.
وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال، وتفترق على اللعن. فلا ينفض المجمع إلا وهم ما بين لاعن وملعون.
ثم كان لهم مجمع خامس. وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له: أوطيوس يقول. إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا فى الطبيعة، وأن المسيح قبل التجسد طبيعتان، وبعد التجسد طبيعة واحدة.
وهذه مقالة اليعقوبية.
فرحل إليه أسقف دولته، فناظره فقطعه، ودحض حجته.
ثم سار إلى قسطنطينية فأخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعه. فأرسل بترك الإسكندرية إليه، فاستحضره، وجمع جمعا عظيما، وسأله عن قوله. فقال: إن قلنا: إن للمسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس. ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة، وأقنوم واحد، لأنه من طبيعتين، كانتا قبل التجسد فلما تجسد زالت عنه الاثنينية، وصار طبيعة واحدة، وأقنوما واحدا.(2/276)
فقال له بترك القسطنطينية: إن كان المسيح طبيعة واحدة، فالطبيعة القديمة هى الطبيعة المحدثة. وإن كان القديم هو المحدث فالذى لم يزل هو الذى لم يكن. ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث، لكان القائم هو القاعد والحار هو البارد، فأبى أن يرجع عن مقالته، فلعنوه، فاستعدى عليهم الملك، وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة:
فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس، فثبّت بطريق الإسكندرية مقالة أوطيوس، وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة. وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة البتاركة والأساقفة، فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقلبوا مقالة أوطيوس.
ففسدت الأمانة، صارت المقالة مقالة أوطيوس، وخاصة بمصر، والإسكندرية وهو مذهب اليعقوبية.
فافترق هذا المجمع الخامس وهم ما بين لاعن وملعون، وضال ومضل، وقائل يقول: الصواب مع اللاعنين، وقائل يقول: الحق مع الملاعنين.
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادس فى دولة مرقيون فإنه اجمتع إليه الأساقفة من سائر البلاد فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع، وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية، فأمر الملك باستحضار سائر الأساقفة والبطارقة إلى حضرته. فاجتمع عنده ستمائة وثلاثون أسقفا، فنظروا فى مقالة أوطيوس وبترك الإسكندرية، التى قطعا بها جميع البتاركة. فأفسدوا مقالتهما ولعنوهما. وأثبتوا "أن المسيح إله وإنسان، وهو مع الله فى اللاهوت ومعنا فى الناسوت، له طبيعتان تامتان. فهو تام باللاهوت، تام بالناسوت، وهو مسيح واحد" وثبتوا قول الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا، وقبلوا قولهم "بأن الابن مع الله فى المكان، وأنه إله حق من إله حق" ولعنوا أريوس وقالوا: "إن روح القدس إله، وقالوا: إن الأب وروح القدس واحد بطبيعة واحدة، وأقانيم ثلاثة".
وثبتوا قول أهل المجمع الثالث، وقالوا "إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذى هو مع الله فى الطبيعة، ومعنا فى الناسوت".
وقالوا: إن للمسيح طبيعتان وأقنوم واحد، ولعنوا نسطورس، وبترك الإسكندرية.(2/277)
فانفض هذا المجمع وهم ما بين لاعن وملعون.
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع فى أيام أنسطاس الملك.
وذلك أن سورس القسطنطين جاء إلى الملك، فقال "إن أصحاب ذلك المجمع الستمائة والثلاثين قد أخطأوا، والصواب ما قاله أوطيوس وبترك الإسكندرية، فلا تقبل ممن سواهما، واكتب إلى جميع بلادك أن العنوا الستمائة والثلاثين، وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة، وأقنوم واحد" فأجابه الملك إلى ذلك.
فلما بلغ بترك بيت المقدس جمع الرهبان، فلعنوا أنسطاس الملك، وسورس، ومن يقول بمقالتهما فبلغ ذلك الملك، فغضب، وبعث، فنفى البترك إلى أيلة، وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس: لأنه كان قد ضمن للملك أن يلعن الستمائة والثلاثين.
فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان وقالوا: إياك أن تقبل عن سورس، ولكن اقبل عن الستمائة والثلاثين ونحن معك. ففعل، وخالف الملك.
فلما بلغه أرسل قائداً وأمره أن يأخذ يوحنا بلعنة أولئك، فإن لم يفعل أنزله عن الكرسى ونفاه. فقدم القائد وطرح يوحنا فى الحبس، فصار إليه الرهبان فى الحبس وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك. فإذا حضر فليقر بلعنة كل من لعنه الرهبان.
فاجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف راهب، فلعنوا أوطسوس، ونسطورس، وسورس، ومن لا يقبل من أولئك الستمائة والثلاثين.
ففزع رسول الملك من الرهبان، وبلغ ذلك الملك فهمّ بنفى يوحنا. فاجتمع الرهبان والأساقفة، فكتبوا إلى الملك: أنهم لا يقبلون مقالة سورس، ولو أريقت دماؤهم، وسألوه أن يكف أذاه عنهم.
وكتب بترك رومية إلى الملك بقبح فعله وبلعنه، فانفض هذا المجمع على اللعنة أيضاً.
وكان لسورس تلميذ، يقال له يعقوب البراذعى، لأنه كان يلبس من قطع براذع الدواب، يرقع بعضها ببعض. وإليه ينسب اليعاقبة. فأفسد أمانة القوم.
ثم هلك أنسطاس الملك، وولى بعده قسطنطين، فرد كل من نفاه أنسطاس إلى موضعه. وكتب إلى بيت المقدس بأمانته.(2/278)
فاجتمع الرهبان وأظهروا كتابه، وفرحوا به، وأثبتوا قول الستمائة والثلاثين أسقفا وغلبت اليعقوبية على الإسكندرية، وقتلوا بتركا لهم يقال له بولس، وكان ملكانيا. فولى الملك إسطفانوس. فأرسل قائدا ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة فى ثياب البتركة، وتقدم وقدس، فرموه بالحجارة، حتى كادوا يقتلونه. فانصرف وتوارى عنهم. ثم أظهر لهم بعد ثلاثة أيام أنه أتاه كتاب من الملك. وأمر الحرس أن يجمعوا الناس لسماعه. فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماعه. وكان قد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيف فى الناس. فصعد المنبر، وقال: يا معشر أهل الإسكندرية، إن رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة، وإلا لم تأمنوا أن يوجه الملك إليكم من يسفك دماءكم. فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه. فأظهر العلامة، فوضعوا السيوف على من بالكنيسة. فقتل خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، حتى خاض الجند فى الدماء. وظهرت مقالة الملكانية بالإسكندرية.
ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن.
وذلك أن أسقف منبج كان يقول بالتناسخ، وأنه ليس ثمة قيامة، ولا بعث. وكان أسقف الرها وأسقف المصيصة، وأسقف ثالث يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة. فحشرهم الملك إلى قسطنطينية. فقال لهم بتركها: إن: كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا، وقوله خيالا، وكل جسد نعاينه لأحد من الناس، أو فعل أو قول، فهو كذلك.
وقال له: إن المسيح قد قام من الموتى، وأعلمنا أنه كذلك يقوم الناس يوم الدين.
واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله "إن كل من فى القبور إذا سمعوا قول الله سبحانه يحْيَون" فأوجب عليهم اللعن.
وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد.
فاجتمع عنده مائة وأربعة وستون أسقفا فلعنوا أسقف منبج، وأسقف المصيصة، وثبتوا "أن جسد المسيح حقيقة لا خيال، وأنه إله تام، وإنسان تام معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، أقنوم واحد، وأن الدنيا زائلة، وأن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتى(2/279)
بمجد عظيم، فيدين الأحياء والأموات، كما قال الثلاثمائة والثمانية عشر الأوائل" فتفرقوا على ذلك.
ثم كان لهم مجمع تاسع على عهد معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه، تلاعنوا فيه.
وذلك أنه كان برومية راهب له تلميذان، فجاء إلى قَسطا الوالى فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره، فأمر به قسطا فقطعت يداه ورجلاه، ونزع لسانه، وفعل بأحد التلميذين كذلك، وضرب الآخر بالسياط، ونفاه. فبلغ ذلك ملك قسطنطينية، فأرسل إليه أن يوجه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الشبهة، ومن كان ابتدأ بها، ويعلم من يستحق اللعن.
فبعث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلاثمائة شماس، فلما وصلوا إليه جمع الملك مائة وثمانية وخمسين أسقفا فصاروا ثلاثمائة وثمانية، وأسقطوا الشمامسة. وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية، فلعنوا من تقدم من القديسين والبتاركة واحدا واحدا، فلما لعنوهم جلسوا، فلخصوا الأمانة، وزادوا فيها ونقصوا فقالوا "نؤمن بأن الواحد من الناسوت الابن الوحيد، الذى هو الكلمة الأزلية الدائم المستوى مع الأب، الإله فى الجوهر، الذى هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين، فى أقنوم واحد، ووجه واحد، تاما بلاهوته، تاما بناسوته، وشهدت أن الإله الابن فى آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القدِّسية جسدا، إنسانا بنفس ناطفة عقلية. وذلك برحمة الله تعالى محب البشر. ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة، ولا فصل ولكن هو واحد، يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله فى طبيعته، وما يشبه الإله أن يعمله فى طبيعته الذى هو الابن الوحيد، والكلمة الأزلية المتجسدة التى صارت فى الحقيقة لحما، كما يقول الإنجيل المقدس، من غير أن ينتقل من مجده الأزلى، وليست بمتغيرة، لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين إلهى وإنسى، الذى بهما يكمل قول الحق. وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها مشيئتين، غير متضادتين، ولا متصارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء".
هذه أمانة هذا المجمع. فوضعوها ولعنوا من لعنوه، وبين المجمع الخامس الذى اجتمع فيه الستمائة والثلاثون، وبين هذا المجمع مائة سنة.
ثم كان لهم مجمع عاشر:(2/280)
وذلك لما مات الملك وولى ابنه بعده. فاجتمع أهل المجمع السادس. وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل. فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا. فثبتوا قول أهل المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنهم وخالفهم، وانصرفوا بين لاعن وملعون.
فهذه عشرة مجامع كبار من مجامعهم مشهورة، اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفا من البتاركة والأساقفة والرهبان. كلهم ما بين لاعن وملعون.
فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيام المسيح، ووجود أخباره فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة كلمتهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى، وهم حيارى تائهون، ضالون مضلون. لا يثبت لهم قدم، ولا يستقر لهم قول فى إلههم، بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، وصرح بالكفر والتبرى ممن اتبع سواه. قد تفرقت بهم فى نبيهم وإلههم الأقاويل، وهم كما قال الله تعالى:
{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .
فلو سألت أهل البيت الواحد عن دينهم ومعتقدهم فى ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب، وامرأته بجواب، وابنه بجواب، والخادم بجواب. فما ظنك بمن فى عصرنا هذا، وهم نخالة الماضين، وزبالة الغابرين، ونفاية المتحيرين؟ وقد طال عليهم الأمد وبعد عهدهم بالمسيح ودينه.
وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل - من الفلاسفة والملاحدة - أن يتمسكوا بما هم عليه، فإنهم شرحوا لهم دينهم الذى جاء به المسيح على هذا الوجه، ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل. فتواصى أولئك بينهم أن يتمسكوا بما هم عليه، وساءت ظنونهم بالرسل والكتب. ورأوا أن ما هم عليه من الآراء أقرب إلى المعقول من هذا الدين. وقال لهم هؤلاء الحيارى النصارى الضلال: إن هذا هو الحق الذى جاء به المسيح. فتركب من هذين الظنين الفاسدين إساءة الظن بالرسل، وإحسان الظن بما هم عليه.
ولهذا قال بعض ملوك الهند - وقد ذكرت له الملل الثلاث - فقال: أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحاربونهم بحكم شرعى، فإنى أرى ذلك بحكم عقلى وإن كنا لا نرى بحكم عقولنا قتالا. ولكن أستثنى هؤلاء القوم من بين جميع العوالم،(2/281)
لأنهم قصدوا مضادة العقل، وناصبوه العداوة. وحلوا ببيت الاستحالات، وحادوا عن المسلك الذى انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، فشذوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا، وبنوا على ذلك شريعة لا تؤدى البتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم، إنها تصير العاقل إذا تشرع بها أخرق، والرشيد سفيها، والمحسن مسيئا. لأن من كان أصل عقيدته التى جرى نشوءه عليها: لإساءة إلى الخالق، والنيل منه، ووصفه بضد صفاته الحسنى، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق، مع ما بلغنا عنهم من الجهل، وضعف العقل، وقلة الحياء، وخساسة الهمة.
فهذا وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غيض من فيض، وكانوا إذ ذاك أقرب عهدا بالنبوة.
وقال أفلاطون رئيس سدنة الهياكل بمصر، وليس بأفلاطون تلميذ سقراط، إذ ذاك أقدم من هذا: "لما ظهر محمد بتهامة، ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له، رأينا أن نقصد اصطمر البابلى لنعلم ما عنده، ونأخذ برأيه. فلما اجتمعنا على الخروج من مصر، رأينا أن نصبر إلى قراطيس معلمنا وحكيمنا لنودعه. فلما دخلنا عليه، ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خلت منا، فغشى عليه حينا غشية ظننا أنه فارق الحياة فيها، فبكينا فأومأ إلينا أن كفوا عن البكاء، فتصبرنا جهدنا هدأ وفتح عينيه، وقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه، وأحذركم منه، إنكم قوم غيرتم فغير بكم. أطعتم جهالا من ملوككم، فخلطوا عليكم فى الأدعية فقصدتم البشر من التعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم فى ذلك كمن أعطى القلم مدحة الكاتب. وإنما حركة القلم بالكاتب".
ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة.
أحدهما: الغلو فى المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءاً منه، وإلها آخر معه، وأنفوا أن يكون عبدا له.
والثانى: تنقص الخالق وسبه، ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه - سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيرا - نزل من العرش عن كرسى عظمته، ودخل فى فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو، وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعا صغيرا يمص الثدى، ولف فى القمط، وأودع السرير، يبكى ويجوع، ويعطش،(2/282)
ويبول، ويتغوط، ويحمل على الأيدى والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا فى وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرا بين لصين، وألبسوه إكليلا من الشوك،. وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا وهو الإله الحق الذى بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود المسجود له.
ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم، ولا بعدهم، كما قال تعالى، فيما يحكى عنه رسوله الذى نزهه ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذى.
{تَكَادُ السَّموَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضِ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدا} [مريم: 90] .
فقال: "شتمنى ابن آدم، وما ينبغى له ذلك. وكذبنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك. أما شتمه إيَّاى، فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذى لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لى كفوا أحد، وأما تكذيبه إياى. فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى. وليس أول الخلق بأهون على من إعادته".
وقال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه فى هذه الأمة: أهينوهم، ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".
ولعمر الله، إن عباد الأصنام، مع أنهم أعداء الله عز وجل على الحقيقة، وأعداء رسله عليهم السلام، وأشد الكفار كفرا يأنفون أن يصفوا آلهتهم التى يعبدونها من دون الله تعالى - وهى من الحجارة والحديد، والخشب - بمثل ما وصفت به هذه الأمة رب العالمين، إله السماوات والأرضين. وكان الله تعالى فى قلوبهم أجل وأعظم من أن يصفوه بذلك، أو بما يقاربه. وإنما شرك القوم: أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة محدثة، وزعموا أنها تقربهم إليه، لم يجعلوا شيئا من آلهتهم كفوا له، ولا نظيرا ولا ولدا، ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة.
عذرهم فى ذلك أقبح من قولهم، فإن أصل معتقدهم: أن أرواح الأنبياء عليهم السلام كانت فى الجحيم فى سجن إبليس، من عهد آدم إلى زمن المسيح، وكان إبراهيم وموسى ونوح(2/283)
وصالح وهود معذبين مسجونين فى النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام، وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بنى آدم أخذه إبليس وسجنه فى النار بذنب أبيه. ثم إن الله سبحانه وتعالى لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب، تحيل على إبليس بحيلة، فنزل عن كرسى عظمته، والتحم ببطن مريم، حتى ولد وكبر وصار رجلا. فمكن أعداءه اليهود من نفسه، حتى صلبوه، وتوجوه بالشوك على رأسه، فخلص أنبياءه ورسله، وفداهم بنفسه ودمه، فهرق دمه فى مرضاة جميع ولد آدم. إذ كان ذنبه باقيا فى أعناق جميعهم، فخلصهم منه بأن مكن أعداءه من صلبه، وتسميره وصفعه، إلا من أنكر صلبه أو شك فيه، أو قال: بأن الإله يجل عن ذلك، فهو فى سجن إبليس معذب حتى يقر بذلك. وأن إلهه صلب وصفع وسمر.
فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنف أسقط الناس وأقلهم أن يفعله بمملوكه وعبده وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن ينسب إليه أوثانهم، وكذبوا الله عز وجل فى كونه تاب على آدم عليه السلام وغفر له خطيئته، ونسبوه إلى أقبح الظلم، حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه فى الجحيم، بسبب خطيئة أبيهم، ونسبوه إلى غاية السفه، حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه، حتى قتلوه: وصلبوه وأراقوا دمه، ونسبوه إلى غاية العجز حيث عجزوه أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحلية، ونسبوه إلى غاية النقص، حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا.
وبالجملة، فلا نعلم أمة من الأمم سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة كما قال عمر رضى الله عنه "إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".
وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى صليبيا أغمض عينيه عنه، وقال: لا أستطيع أن أملأ عينى ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب.
ولهذا قال عقلاء الملوك: إن جهاد هؤلاء واجب شرعا وعقلا، فإنهم عار، على بنى آدم، مفسدون للعقول والشرائع.(2/284)
وأما شريعتهم ودينهم فليسوا متمسكين بشيء من شريعة المسيح، ولا دينه البتة.
فأول ذلك أمرُ الِقبْلة.
فإنهم ابتدعوا الصلاة إلى مطلع الشمس مع علمهم أن المسيح عليه السلام لم يُصَل إلى المشرق أصلا. بل قد نقل مؤرخوهم أن ذلك حدث بعد المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، وإلا فالمسيح إنما كان يصلى إلى قبلة بيت المقدس، وهى قبلة الأنبياء قبله، وإليها كان يصلى النبى صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمكة، وبعد هجرته ثمانية عشر شهرا، ثم نقله الله تعالى إلى قِبْلة أبيه إبراهيم عليه السلام.
ومن ذلك: أن طوائف منهم - وهم الروم وغيرهم - لا يرون الاستنجاء بالماء، فيبول أحدهم ويتغوط، ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة الكريهة، فيستقبل المشرق ويصلب على وجهه، ويحدث من يليه بأنواع الحديث، كذباً كان أو فجوراً، أو غيبة، أو سباً وشتماً، ويخبره بسعر الخمر ولحم الخنزير، وما شاكل ذلك ولا يضر ذلك فى الصلاة ولا يبطلها. وإن دعته الحاجة إلى البول فى الصلاة بال وهو يصلى ولا يضر صلاته.
وكل عاقل يعلم أن مواجهة إله العالمين بهذه العبادة قبيح جدا، وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقرب منه إلى الرضا والثواب.
ومن العجيب إنهم يقرءون فى نص التوراة "ملعون من تعلق بالصليب" وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه. ولو كان لهم أدنى عقل لكان الأولى بهم أن يحرقوا الصليب، حيث وجدوه، ويكسروه ويُضمِّخُوه بالنجاسة. فإنه صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه، وفضح، وخزى.
فيا للعجب، بأى وجه - بعد هذا - يستحقُّ الصليب التعظيم، لولا أن القوم أضل من الأنعام.
وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه فى دين المسيح بعده بزمان. ولا ذكر له فى الإنجيل البتة. وإنما ذكر فى التوراة باللعْنِ لمن تعلق به. فاتخذته هذه الأمة معبودا يسجدون له،(2/285)
وإذا اجتهد أحدهم فى اليمين، بحيث لا يحنث ولا يكذب، حلف بالصليب، ويكذب إذا حلف بالله، ولا يكذب إذا حلف بالصليب، ولو كان لهذه الأمة أدنى مسكة من عقل لكان ينبغى لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم، وإلههم حين صلب عليه، كما قالوا: إن الأرض لعنت من أجل آدم حين أخطأ، وكما لعنت الأرض حين قتل قابيل أخاه، وكما فى الإنجيل: إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان.
فلو عقلوا لكان ينبغى لهم أن لا يحملوا صليبا، ولا يمسوه بأيديهم، ولا يذكرونه بألسنتهم. وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم عن ذكره.
ولقد صدق القائل: "عدو عاقل خير من صديق أحمق" لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح فاجتهدوا فى ذمه وتنقصه والإزراء به، والطعن عليه. وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم وإغراءهم بهم، فنفروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير، وعلموا أن الدين لا يقوم بذلك. فوضع لهم رهبانهم وأساقفتهم من الحيل والمخاريق وأنواع الشعبذة ما استمالوا به الجهال، وربطوهم به، وهم يستجيزون ذلك ويستحسنونه، ويقولون: يشذ دين النصرانية.
وكأنهم إنما عظموا الصليب لما رأوه قد ثبت لصلب إلههم، ولم ينشق ولم يتطاير، ولم يتكسر من هيبته لما حُمل عليه. وقد ذكروا أن الشمس اسودت وتغير حال السماء والأرض، فلما لم يتغير الصليب ولم يتطاير، استحق عندهم التعظيم وأن يعبد.
ولقد قال بعض عقلائهم: إن تعظيمنا للصليب جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء، فإنه كان قبر المسيح وهو عليه، ثم لما دفن صار قبره فى الأرض، وليس وراء هذا الحمق والجهل حُمق، فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها شرك، بل من أعظم الشرك، وقد لعن إمام الحنفاء وخاتم الأنبياء صلى الله تعالى عليه وسلم اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وأصل الشرك وعبادة الأوثان من العكوف على القبور، واتخاذها مساجد.
ثم يقال: فأنتم تعظمون كل صليب، لا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينه.
فإن قلتم: الصليب من حيث هو يذكر بالصليب الذى صلب عليه إلهنا.(2/286)
قلنا: وكذلك الحفر تذكر بحفرته. فعظموا كل حفرة، واسجدوا لها لأنها كحفرته أيضا بل أولى، لأن خشبة الصلب لم يستقر عليها استقراره فى الحفرة.
ثم يقال: اليد التى مسته أولى أن تعظم من الصليب، فعظموا أيدى اليهود لمسهم إياه وإمساكهم له. ثم انقلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدى.
فإن قلتم: منع من ذلك مانع العداوة، فعندكم أنه هو الذى رضى بذلك واختاره. ولو لم يرض به لم يصلوا إليه منه، فعلى هذا فينبغى لكم أن تشكروهم وتحمدوهم، إذ فعلوا مرضاته واختياره الذى كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقديسين من الجحيم ومن سجن إبليس، فما أعظم منة اليهود عليكم وعلى آبائكم، وعلى سائر النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى زمن المسيح.
والمقصود: أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعيب الإله وتنقصه، وتنقص نبيهم وعيبه ومفارقة دينه بالكلية، فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح، لا فى صلاتهم ولا فى صيامهم ولا فى أعيادهم. بل هم فى ذلك أتباع كل ناعق، مستجيبون لكل ممخرق ومبطل. أدخلوا فى الشريعة ما ليس منها، وتركوا ما أتت به.
وإذا شئت أن ترى التغيير فى دينهم فانظر إلى صيامهم الذى وضعوه لملوكهم وعظمائهم فلهم صيام للحواريين، وصيام لمار مريم، وصيام لمار جرجس، وصيام للميلاد. وتركهم أكل اللحم فى صيامهم مما أدخلوه فى دين المسيح. وإلا فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكل اللحم، ولم يمنعهم منه لا فى صوم، ولا فطر.
وأصل ذلك: أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح، فلما دخلوا فى النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيقتلوا، فشرعوا لأنفسهم صياما، فصاموا للميلاد والحواريين، ومار مريم، وتركوا فى هذا الصوم أكل اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب مانى. فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية. فصارت سنة متعارفة بينهم، ثم تبعهم على ذلك الملكانية.(2/287)
فصل
ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم ورهبانهم قد نصبوا حبائل الحيل ليقتنصوا بها عقول العوام، ويتوصلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم لهم، واستدرار أموالهم. وذلك أشهر وأكثر من أن يذكر.
فمن ذلك: ما يعتمدونه فى العيد الذى يسمونه عيد النور، ومحله بيت المقدس فيجتمعون من سائر النواحى فى ذلك اليوم، ويأتون إلى بيت فيه قنديل معلق لا نار فيه فيتلو أحبارهم الإنجيل، ويرفعون أصواتهم ويبتهلون فى الدعاء، فبينا هم كذلك وإذا نار قد نزلت من سقف البيت فتقع على ذبالة القنديل فيشرق ويضيء ويشتعل، فيضجون ضجة واحدة، ويصلبون على وجوههم، ويأخذون فى البكاء والشهيق.
قال أبو بكر الطرطوشى: كنت ببيت المقدس، وكان واليها إذ ذاك رجلا يقال له سقمان. فلما نما خبر هذا العيد إليه أنفذ إلى بتاركتهم، وقال: أنا نازل إليكم فى يوم هذا العيد لأكشف عن حقيقة ما تقولون، فإن كان حقا ولم يتضح لى وجه الحيلة فيه أقررتكم عليه وعظمته معكم بعلم. وإن كان مخرقة على عوامكم أوقعت بكم ما تكرهونه. فصعب ذلك عليهم جداً، وسألوه أن لا يفعل فأبى ولج، فحملوا له مالا عظيما فأخذه وأعرض عنهم.
قال الطرطوشى: ثم اجتمعت بأبى محمد بن الأقدم بالإسكندرية. فحدثنى أنهم يأخذون خيطا دقيقا من نحاس وهو الشريط، ويجعلونه فى وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التى فى القنديل، ويدهنونه بدهن اللبان. والبيت مظلم، بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس، وقد عظموا ذلك البيت، فلا يمكنون كل أحد من دخوله. وفى رأس القبة رجل، فإذا قدسوا ودعوا ألقى على ذلك الخيط شيئا من نار النفط، فتجرى النار مع دهن اللبان إلى آخر الخيط النحاس، فتلقى فيتعلق بها.
فلو نصح أحد منهم نفسه وفتش على نجاته لتتبع هذا القدر، وطلب الخيط النحاس وفتش رأس القبة ليرى الرجل والنفط، ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرق الملبس، وأنه لو نزل من السماء لظهر من فوق ولم يكن ظهوره من الفتيلة.(2/288)
ومن حيلهم أيضاً: أنه قد كان بأرض الروم فى زمن المتوكل كنيسة، إذا كان يوم عيدها يحج الناس إليها، ويجتمعون عند صنم فيها، فيشاهدون ثدى ذلك الصنم فى ذلك اليوم يخرج منه اللبن. وكان يجتمع للسادن فى ذلك اليوم مال عظيم. فبحث الملك عنها. فانكشف له أمرها فوجد القيم قد ثقب من وراء الحائط ثقبا إلى ثدى الصنم، وجعل فيها أنبوبة من رصاص، وأصلحها بالجبس ليخفى أمرها، فإذا كان يوم العيد فتحها وصب فيها اللبن، فيجرى إلى الثدى فيقطر منه، فيعتقد الجهال أن هذا سر فى الصنم، وأنه علامة من الله تعالى لقبول قربانهم، وتعظيمهم له. فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادن، ومحو الصور من الكنائس. وقال: إن هذه الصور مقام الأصنام. فمن سجد للصورة فهو كمن سجد للأصنام.
ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله، لما فيه من الإعانة على الكفر، وتعظيم شعائره. فالمساعد على ذلك، والمعين عليه شريك للفاعل. لكن لما هان عليهم دين الإسلام، وكان السحت الذى يأخذونه منهم أحب إليهم من الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام أقروهم على ذلك ومكنوهم منه.
فصل
والمقصود: أن دين الأمة الصليبية، بعد أن بعث الله عز وجل محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم، بل قبله بنحو ثلاثمائة سنة، مبنى على معاندة العقول والشرائع، وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم، فكل نصرانى لا يأخذ بحظه من هذه فليس بنصرانى على الحقيقة.
أفليس هو الدين الذى أسسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد؟.
فيا عجبا، كيف رضى العاقل أن يكون هذا مبلغ عقله، ومنتهى علمه؟.
أترى لم يكن فى هذه الأمة من يرجع إلى عقله وفطرته، ويعلم أن هذا عين المحال، وإن ضربوا له الأمثال، واستخرجوا له الأشباه. فلا يذكرون مثالاً. ولا شبها إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم.(2/289)
كتشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت، وامتزاجه به باتحاد النار والحديد، وتمثيل غيرهم ذلك باختلاط الماء باللبن، وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء، واختلاطه بأعضاء البدن، إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس التى تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما، حتى صارا حقيقة أخرى، تعالى الله عز وجل عن إفكهم وكذبهم.
ولم يقنعهم هذا القول فى رب السماوات والأرض، حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلا مقهورا، وهو يحمل خشبته التى صلبوه عليها، واليهود يبصقون فى وجهه، ويضربونه، ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات، وتركوه مصلوبا حتى التصق شعره بجلده، لما يبس دمه بحرارة الشمس، ثم دفن، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام بلاهوتيته من قبره.
هذا قول جميعهم، ليس فيهم من ينكر منه شيئا.
فيا للعقول، كيف كان حال هذا العالم الأعلى والأسفل فى هذه الأيام الثلاثة؟ ومن كان يدبر أمر السماوات والأرض؟ ومن الذى خلف الرب سبحانه وتعالى فى هذه المدة؟ ومن الذى كان يمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو مدفون فى قبره؟.
ويا عجبا، هل دفنت الكلمة معه، بعد أن قتلت وصلبت؟ أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نصرها له، كما خذله أبوه وقومه؟ فإن كانت قد فارقته وتجرد منها، فليس هو حينئذ المسيح. وإنما هو كغيره من آحاد الناس. وكيف يصح مفارقتها له بعد أن اتحدت به، ومازجت لحمه ودمه؟ وأين ذهب الاتحاد والامتزاج؟ وإن كانت لم تفارقه وقتلت وصلبت، ودفنت معه. فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله، وصلبه ودفنه؟.
ويا عجبا، أى قبر يسع إله السماوات والأرض؟ هذا وهو الملك القُدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون.
الحمد لله، ثم الحمد لله تعالى، الذى هدانا للإسلام وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.
يا ذا الجلال والإكرام، كما هديتنا للإسلام أسألك أن لا تنزعه عنا، حتى
تتوفانا على الإسلام.
أَعُبَّادَ المَسِيحِ لَنَا سُؤَالٌ ... نُرِيدُ جَوَابَهُ مَّمِنْ وَعَاهُ
إذا ماتَ الإِلهُ بِصُنْع قومٍ ... أمَاتُوهُ فَما هذَا الإِلهُ؟(2/290)
وَهَلْ أرضاه ما نَالُوهُ مِنْهُ؟ ... فبُشْرَاهمْ إذا نالُوا رِضَاهُ
وَإِنْ سَخِطَ الّذِى فَعَلُوهُ فيه ... فَقُوَّتُهُمْ إِذًا أوْهَتْ قُوَاهُ
وَهَلْ بَقِى الوُجُودُ بِلاَ إِلهٍ ... سَمِيعٍ يَسْتَجِيبُ لَمِنْ دَعَاهُ؟
وَهَلْ خَلَتِ الطِّبَاقُ السَّبْعُ لَمّا ... ثَوَى تَحتَ التُّرَابِ، وَقَدْ عَلاَهُ
وَهَلْ خَلَتِ الْعَوَالُمِ مِن إِلهٍ ... يُدَبِّرهَا، وَقَدْ سُمِرَتْ يَدَاهُ؟
وَكَيْفَ تَخَلْتِ الأَمْلاَكُ عَنْهُ ... بِنَصْرِهِمُ، وَقَدْ سَمِعُوا بُكاهُ؟
وكيف أطاقت الخشبات حمل ال ... إله الحق مشدودا قفاه؟
وَكيْفَ دَنَا الحَدِيدُ إِلَيْهِ حَتَّى ... يُخَالِطَهُ، وَيَلْحَقَهُ أذَاهُ؟
وَكيْفَ تَمكْنَتْ أَيْدِى عِدَاهُ ... وَطَالتْ حَيْثُ قَدْ صَفَعُوا قَفَاهُ؟
وَهَلْ عَادَ المَسِيحُ إِلَى حَيَاةٍ ... أَمَ المُحْيى لَهُ رَب سِوَاهُ؟
وَيَا عَجَباً لِقَبْرٍ ضَمَّ رَبا ... وَأَعْجَبُ مِنْهُ بَطْنٌ قَدْ حَوَاهُ
أَقَامَ هُنَاكَ تِسْعاً مِنْ شُهُورٍ ... لَدَى الظُّلُمَاتِ مِنْ حَيْضٍ غِذَاهُ
وَشَقَّ الْفَرْجَ مَوْلُودًا صَغِيراً ... ضَعِيفاً، فَاتِحاً لِلثَّدْى فَاهُ
وَيَأْكُلُ، ثمَّ يَشْرَبُ، ثمَّ يَأْتِى ... بِلاَزِمِ ذَاكَ، هَلْ هذَا إِلهُ؟
تَعَالَى اللهُ عَنْ إِفْكِ النَّصَارَى ... سَيُسأَلُ كُلَّهُمْ عَمَّا افْترَاهُ
أَعُبَّادَ الصَّلِيبِ، لأَى مَعْنِّى ... يُعَظمُ أوْ يُقَبَّحُ مَنْ رَمَاهُ؟
وَهَلْ تَقْضِى العقولُ بِغَيْرِ كَسْرٍ ... وَإحْرَاقٍ لَهُ، وَلَمِنْ بَغَاهُ؟
إِذَا رَكِبَ الإِلهُ عَلَيْهِ كُرْهاً ... وَقَدْ شُدَّتْ لِتَسْمِيرٍ يَدَاهُ
فَذَاكَ المَرْكَبُ المَلْعُونُ حَقا ... فَدُسْهُ، لا تَبُسْهُ إِذْ تَرَاهُ
يُهَانُ عَلَيْهِ رَبُّ الْخَلقِ طُرا ... وتَعْبُدُهُ؟ فَإِنّكَ مِنْ عِدَاهُ
فإِنْ عَظِّمْتَهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ قَدْ ... حَوَى رَبَّ العِبَادِ، وَقَدْ عَلاَهُ
وَقَدْ فُقِدَ الصَّلِيبُ، فإِنْ رَأَيْنَا ... لَهُ شَكْلاً تَذَكَّرْنَا سَنَاهُ(2/291)
فَهَلاّ للقبورِ سَجَدْتَ طُرا ... لَضِّم القبرِ رَبّكَ فى حَشَاهُ؟
فَيَا عَبْدَ المِسيحِ أَفِقْ، فَهَذَا ... بِدَايَتُهُ، وَهذَا مُنْتَهاهُ
فصل
فقد بان لكل ذى عقل أن الشيطان تلاعب بهذه الأمة الضالة كل التلاعب، ودعاهم فأجابوه، واستخفهم فأطاعوه.
فتلاعب بهم فى شأن المعبود سبحانه وتعالى.
وتلاعب بهم فى أمر المسيح.
وتلاعب بهم فى شأن الصليب وعبادته.
وتلاعب بهم فى تصوير الصور فى الكنائس وعبادتها. فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو عن صورة مريم والمسيح، وجرجس، وبطرس، وغيرهم من القديسين عندهم، والشهداء وأكثرهم يسجدون للصور، ويدعونها من دون الله تعالى.
حتى لقد كتب بطريق الإسكندرية إلى ملك الروم كتابا يحتج فيه للسجود للصور: بأن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يصور فى قُبَّة الزمان صورة الساروس، وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب، ونصبها داخل الهيكل.
ثم قال فى كتابه: وإنما هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عماله كتابا، فيأخذه العامل ويقبله ويضعه على عينيه، ويقوم له، لا تعظيما للقرطاس والمداد، بل تعظيما للملك، كذلك السجود للصور تعظيم لاسم ذلك المصور، لا للأصباغ والألوان.
وبهذا المثال بعينه عبدت الأصنام.
وما ذكره هذا المشرك عن موسى وسليمان عليهما السلام لو صح لم يكن فيه دليل على السجود للصور. وغايته: أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود: أنه نقش خطيئته فى كفه كيلا ينساها. فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون: من التذلل، والخضوع والسجود بين يدى تلك الصور؟.
وإنما المثال المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدام الملك دخل على رجل. فوثب الرجل من مجلسه، وسجد له، وعبده، وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك.(2/292)
فكل عاقل يستجهله ويستحمقه فى فعله، إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغى له أن يخص به الملك دون عبيده: من الإكرام، والخضوع، والتذلل.
ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك له، وسقوطه من عينه، أقرب منه إلى إكرام له ورفع منزلته.
كذلك حال من سجد لمخلوق، أو لصورة مخلوق، لأنه عمد إلى السجود الذى هو غاية ما يتوصل به العبد إلى رضى الرب، ولا يصلح إلا له، ففعله لصورة عبد من عبيده، وسوى بين الله وبين عبده فى ذلك. وليس وراء هذا فى القبح والظلم شيء ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 33] .
وقد فطر الله سبحانه عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم والإجلال والخضوع، والذل الذى يعامل به الملك. فكيف حال من فعل ذلك بأعداء الملك؟ فإن الشيطان عدو الله والمشرك إنما يشرك به، لا بولى الله ورسوله، بل رسول الله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم، معادون لهم، أشد الناس مقتاً لهم. فهم فى نفس الأمر إنما أشركوا بأعداء الله، وسووا بينهم وبين الله فى العبادة والتعظيم، والسجود، والذل، ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلوما بالفطرة السليمة، والعقول الصحيحة، والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح.
والمقصود: ذكر تلاعب الشيطان بهذه الأمة فى أصول دينهم، وفروعه.
كتلاعبه بهم فى صيامهم. فإن أكثر صومهم لا أصل له فى شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع.
فمن ذلك: أنهم زادوا جمعة فى بدء الصوم الكبير، يصومونها لهرقل مخلص بيت المقدس.
وذلك أن الفرس لما ملكوا بيت المقدس، وقتلوا النصارى، وهدموا الكنائس أعانهم اليهود على ذلك، وكانوا أكثر قتلا وفتكا فى النصارى من الفرس.
فلما سار هرقل إليه استقبله اليهود بالهدايا، وسألوه أن يكتب لهم عهدا. ففعل فلما دخل بيت المقدس، شكا إليه من فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم.(2/293)
فقال لهم هرقل: وما تريدون منى؟ قالوا: تقتلهم.
قال: كيف أقتلهم، وقد كتبت لهم عهدا بالأمان، وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد؟.
فقالوا له: إنك حين أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى، وهدم الكنائس. وقتلهم قربان إلى الله تعالى. ونحن نتحمل عنك هذا الذنب ونكفره عنك ونسأل المسيح أن لا يؤاخذك به، ونجعل لك جمعة كاملة فى بدء الصوم، نصومها لك، ونترك فيها أكل اللحم، مادامت النصرانية، ونكتب به إلى جميع الأفاق، غفران لما سألناك.
فأجابهم. وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الخليل ما لا يحصى كثرة.
فصيروا أول جمعة من الصوم الذى يترك فيه الملكية أكل اللحم، يصومونها لهرقل الملك، غفرانا لنقضه العهد، وقتل اليهود، وكتبوا بذلك إلى الآفاق.
وأهل بيت المقدس، وأهل مصر يصومونها، وبقية أهل الشام والروم يتركون أكل اللحم فيها، ويصومون الأربعاء والجمعة.
وكذلك لما أرادوا نقل الصوم إلى فصل الربيع المعتدل، وتغيير شريعة المسيح، زادوا فيه عشرة أيام، عوضا وكفارة، لنقلهم له.
ومن ذلك: تلاعبه بهم فى أعيادهم: فكلها موضوعة مختلقة، محدثة بآرائهم واستحسانهم.
فمن ذلك: عيد ميكائيل.
وسببه: أنه كان بالإسكندرية صنم، وكان جميع من بمصر والإسكندرية يعيدون له عيدا عظيما، ويذبحون له الذبائح. فولى بتركه الإسكندرية واحدا منهم فأراد أن يكسره،(2/294)
ويبطل الذبائح، فامتنعوا عليه، فاحتال عليهم، وقال: إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله تعالى وجعلتم هذه الذبائح له كان يشفع لكم عند الله وكان خيرا لكم من هذا الصنم. فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم، وصيره صلبانا، وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل. وسماها قيسارية، ثم احترقت الكنيسة وخربت، وصيروا العيد والذبائح لميكائيل.
فنقلهم من كفر إلى كفر، ومن شرك إلى شرك.
فكانوا فى ذلك كمجوسى أسلم، فصار رافضيا. فدخل الناس عليه يهنئونه، فدخل عليه رجل وقال: إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى.
ومن ذلك عيد الصليب. وهو مما اختلقوه وابتدعوه. فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير.
وكان الذى أظهره - زورا وكذبا - أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذى صلب عليه إلههم وربهم. فانظر إلى هذا السند، وهذا الخبر، فاتخذوا ذلك الوقت الذى ظهر فيه عيدا، وسموه عيد الصليب، ولو أنهم فعلوا كما فعل أشباههم من الرافضة، حيث اتخذوا وقت قتل الحسين رضى الله عنه مأتما وحزنا لكان أقرب إلى العقول.
وكان من حديث الصليب: أنه لما صلب المسيح - على زعمهم الكاذب - وقتل ودفن رفع من القبر إلى السماء وكان التلاميذ كل يوم يصيرون إلى القبر إلى موضع الصلب ويصلون. فقالت اليهود: إن هذا الموضع لا يخفى، وسيكون له نبأ. وإذا رأى الناس القبر خاليا آمنوا به، فطرحوا عليه التراب والزبل، حتى صار مزبلة عظيمة. فلما كان فى أيام قسطنطين الملك، جاءت زوجته إلى بيت المقدس، تطلب الصليب، فجمعت من اليهود والسكان ببيت المقدس وجبل الخليل مائة رجل، واختارت منهم عشرة، واختارت من العشرة ثلاثة، اسم أحدهما يهوذا، فسألتهم أن يدلوها على الموضع، فامتنعوا وقالوا: لا علم لنا بالموضع،(2/295)
فطرحتهم فى الحبس فى جب لا ماء فيه. فأقاموا سبعة أيام لا يطعمون، ولا يسقون. فقال يهوذا لصاحبيه: إن أباه عرفه بالموضع الذى تطلب. فصاح الاثنان، فأخرجوهما. فخبراها بما قال يهوذا. فأمرت بضربه بالسياط، فأقر، وخرج إلى الموضع الذى فيه المقبرة. وكان مزبلة عظيمة. فصلى، وقال: اللهم إن كان فى هذا الموضع، فاجعله أن يتزلزل ويخرج منه دخان فتزلزل الموضع، وخرج منه دخان، فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب، فظهرت المقبرة وأصابوا ثلاثة صلبان. فقالت الملكة: كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح؟. وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد أيس منه، فوضع الصليب الأول عليه، ثم الثانى، ثم الثالث. فقام عند الثالث، واستراح من علته. فعلمت أنه صليب المسيح، فجعلته فى غلاف من ذهب، وحملته إلى قسطنطين.
وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة.
هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصرانى فى تاريخه.
والمقصود: أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة.
وبعد، فسند هذه الحكاية من بين يهودى ونصرانى، مع انقطاعها، وظهور الكذب فيها لمن له عقل من وجوه كثيرة.
ويكفى فى كذبها وبيان اختلاقها: أن ذلك الصليب الذى شفى العليل كان أولى أن لا يميت الإله الرب المحيى المميت.
ومنها: أنه إذا بقى تحت التراب خشب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة، فإنه ينخر ويبلى لدون هذه المدة.
فإن قال عباد الصليب: إنه لما مس جسم المسيح حصل له الثبات والقوة والبقاء.
قيل لهم: فما بال الصليبين الباقيين لم يتفتتا واشتبها به؟
فلعلهم يقولون: لما مست صليبه مسها البقاء والثبات.
وجهل القوم وحمقهم أعظم من ذلك، والرب سبحانه لما تجلى للجبل تدكدك الجبل، وساخ فى الأرض، ولم يثبت لتجليه، فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها فى تلك الحال؟
ولقد صدق القائل: إن هذه الأمة لعار على بنى آدم أن يكونوا منهم.
فإن كانت هذه الحكاية صحيحة، فما أقربها من حيل اليهود التى تخلصوا بها من(2/296)
الحبس والهلاك، وحيل بنى آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير. ولا سيما لما علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس، وأنها تعاقبهم حتى يدلوها على موضع القتل والصلب، وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلصوا من عقوبتها.
ومنها: أن عبُّاد الصليب يقولون: إن المسيح لما قتل غار دمه. ولو وقع منه قطرة على الأرض ليبست ولم تنبت، فيا عجبا، كيف يحيى الميت، ويبرأ العليل بالخشبة التى شُهر عليها وصلب؟ أهذا كله من بركتها وفرحها به، وهو مشدود عليها يبكى ويستغيث؟.
ولقد كان الأليق أن يتفتت الصليب ويضمحل لهيبة من صلب عليه وعظمته. ولخسفت الأرض بالحاضرين عند صلبه، والمتمائلين عليه. بل تتفطر السماوات وتنشق الأرض، وتخر الجبال هَدَّا.
ثم يقال لعُبُّاد الصليب: لا يخلوا أن يكون المصلوب الناسوت وحده، أو مع اللاهوت؟ فإن كان المصلوب هو الناسوت وحده، فقد فارقته الكلمة، وبطل اتحادها به. وكان المصلوب جسدا من الأجساد، ليس بإله. ولا فيه شيء من الإلهية والربوبية البتة.
وإن قلتم: إن الصلب وقع على اللاهوت والناسوت معا. فقد أقررتم بصلب الإله وقتله وموته، وقدرة الخلق على أذاه. وهذا أبطل الباطل، وأمحل المحال. فبطل تعلقكم بالصليب من كل وجه عقلا وشرعا.
وأما تلاعبه بهم فى صلاتهم فمن وجوه أحدها: صلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة. والمسيح بريء من هذه الصلاة، وسبحانه الله أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة، فقدره أعلى، وشأنه أجل من ذلك.
ومنها: صلاتهم إلى مشرق الشمس، وهم يعلمون أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلا. وإنما كان يصلى إلى قبلة بيت المقدس.
ومنها: تصليبهم على وجوههم عند الدخول فى الصلاة، والمسيح بريء من ذلك، فصلاة مفتاحها النجاسة، وتحريمها التصليب على الوجه، وقبلتها الشرق، وشعارها الشرك، كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتى بها شريعة من الشرائع البتة؟.(2/297)
ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساقفة: أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة، شدوه بالحيل والصور فى الحيطان، بالذهب واللازورد والزنجفر وبالأرغل وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول البصائر، وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة، والغلظة والمكر والكذب والبهت، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم، والفواحش، والفجور، والبدعة، والغلو فى المخلوق، حتى يتخذه إلها من دون الله، واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواص المسلمين وصالحيهم، فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم فيه، ورؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور، والشرك، والفواحش.
ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا. وقالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء.
ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام، ممن يعظمهم الجهال: من البدع والظلم، والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به. فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به.
فالله طليب قطاع طريق الله، وحسيبهم.
فهذه إشارة يسيرة جدا إلى تلاعب الشيطان بعبَّاد الصليب، تدل على ما بعدها. والله الهادى الموفق.
فصل: فى ذكر تلاعبه بالأمة الغضبية وهم اليهود
قال الله تعالى فى حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بَمَا أَنْزَلَ(2/298)
الله بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِه عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءوا بِغَضَبٍ عَلَى غضَبٍ} [البقرة: 90] .
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنبِّئُكُمْ بَشَر مِنْ ذلِكَ مَثُوبَة عِنْدَ اللهِ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَر مَكاَناً وَأَضَلّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَاءوكُمْ قَالْوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَالله أَعْلَمُ بَمِا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 60 - 63] .
وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنُفُسُهُم أَنْ سخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80] .
وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله فى صلواتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون".
فأول تلاعب الشيطان بهذه الأمة فى حياة نبيها، وقرب العهد بإنجائهم من فرعون وإغراقه وإغراق قومه، فلما جاوزوا البحر رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم فقالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لنا إِلهاً كمَا لَهُمْ آلَهِةٌ} [الأعراف: 138] .
فقال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هؤلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ، وَبَاطِلٌ مَا كانُوا يعْمَلُونَ} [الأعراف: 138] .
فأى جهل فوق هذا؟ والعهد قريب، وإهلاك المشركين أمامهم، بمرأى من عيونهم. فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها. فطلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلها مخلوقا وكيف يكون الإله مجعولا؟ فإن الإله هو الجاعل لكل ما سواه. والمجعول مربوب مصنوع، فيستحيل أن يكون إلها.(2/299)
وما أكثر الخلف لهؤلاء فى اتخاذ إله مجعول، فكل من اتخذ إلها غير الله فقد اتخذ إلها مجعولا.
وقد ثبت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم "أنه كان فى بعض غزواته، فمروا بشجرة يعلق عليها المشركون أسلحتهم وشاراتهم وثيابهم، يسمونها ذات أنواط. فقال بعضهم: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ثم قال: لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة".
فصل
ومن تلاعبه بهم: عبادتهم العجل من دون الله تعالى، وقد شاهدوا ما حل بالمشركين من العقوبة، والأخذة الرابية، ونبيهم حى لم يمت.
هذا، وقد شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه، ويصليه النار، ويدقه بالمطرقة، ويسطو عليه بالمبرد، ويقلبه بيديه ظهرا لبطن.
ومن عجيب أمرهم: أنهم لم يكتفوا بكونه إلههم، حتى جعلوه إله موسى. فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى، بل عبادة أبلد الحيوانات، وأقلها دفعا على نفسه، بحيث يضرب به المثل فى البلادة والذل. فجعلوه إله كليم الرحمن.
ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى عليه السلام ضالا مخطئا، فقالوا {فنسى} [طه: 88] .
قال ابن عباس "أى ضل وأخطأ الطريق".(2/300)
وفى رواية عنه "أى إن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه".
وعنه أيضا "نسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم".
وقال السدى "أى ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه".
وقال قتادة "أى إن موسى إنما يطلب هذا، ولكنه نسيه وخالفه فى طريق آخر".
هذا هو القول المشهور: أن قوله "فنسى" من كلام السامرى وعباد العجل معه.
وعن ابن عباس رواية أخرى "أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامرى: أنه نسى، أى ترك ما كان عليه من الإيمان".
والصحيح القول الأول. والسياق يدل عليه، ولم يذكر البخارى فى التفسير غيره، فقال يقولونه: "أخطأ الرب".
فإنه لما جعله إله موسى استحضر سؤالا من بنى إسرائيل يوردونه عليه، فيقولون له: إذا كان هذا إله موسى، فلأى شيء ذهب عنه لموعد إلهه؟ فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله "فنسى".
وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم.
فانظر إلى هؤلاء، كيف اتخذوا إلها مصنوعا من جوهر أرضى، إنما يكون تحت التراب، محتاجا إلى سبك بالنار، وتصفية وتخليص لخبثه منه، مدقوقا بمطارق الحديد، مقلبا فى النار مرة بعد مرة، قد نحت بالمبارد، وأحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذل والضيم. وجعلوه إله موسى، ونسبوه إلى الضلال، حيث ذهب يطلب إلها غيره.
قال محمد بن جرير: وكان سبب اتخاذهم العجل ما حدثنى به عبد الكريم بن الهيثم قال: حدثنى إبراهيم بن بشار الرمادى حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: "لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فرس أدهم [ذنوب] فلما هجم فرعون على البحر هاب الحصان أن يقتحم فى البحر، فمثل له جبريل على فرس أنثى [وَدِيق] فلما رآها الحصان تقحم خلفها، قال: وعرف السامرى(2/301)
جبريل [لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته فى غار وأطبقت عليه. وكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه، فيجد فى بعض أصابعه لبنا، وفى الأخرى عسلا، وفى الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ، فلما عاينه فى البحر عرفه] . فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ قبضة من تحت الحافر.
قال سفيان: وكان ابن مسعود يقرؤها: "فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول".
قال أبو سعيد: قال عكرمة عن ابن عباس "وألقى فى روع السامرى: إنك لا تلقيها على شيء، فتقول: كن كذا وكذا إلا كان، فلم تزل القبضة معه فى يده، حتى جاوز البحر، فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وأغرق الله آل فرعون. قال موسى لأخيه هارون: اخلفنى فى قومى وأصلح، ومضى موسى لموعد ربه. قال: وكان مع بنى إسرائيل حلى من حلى آل فرعون قد استعاروه، فكأنهم تأثموا منه، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله. فلما جمعوه قال السامرى بالقبضة التى كانت فى يده هكذا. [وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا] ، فقذفها فيه وقال: كن عجلا جسدا له خوار، فصار عجلا جسدا له خوار، فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه، يسمع له صوت.
{فَقَالَ هذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى} [طه: 88] .
فعكفوا على العجل يعبدونه. فقال هارون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى قَالُوا لنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى} [طه: 89 - 90] .
وقال السدى "لما أمر الله موسى أن يخرج ببنى إسرائيل من أرض مصر أمر موسى بنى إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلى من القبط. فلما نجى الله موسى ومن معه من بنى إسرائيل من البحر، وأغرق آل فرعون أتى جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الله، فأقبل على فرس، فرآه السامرى، فأنكره. ويقال: إنه فرس الحياة. فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا، فأخذ من تربة حافر الفرس. فانطلق موسى عليه السلام واستخلف هارون على بنى إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، فأتمها الله تعالى بعشر. فقال لهم هارون: يا بنى إسرائيل، إن الغنيمة لا تحل لكم، وإن حلى القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعا(2/302)
واحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذ تموها [وإلا كان شيئا لم تأكلوه] فجمعوا ذلك الحلى فى تلك الحفرة، وجاء السامرى بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحلى عجلا جسدا له خوار [وعدت بنو إسرائيل موعد موسى فعدوا الليلة يوما واليوم يوما. فلما كان تمام العشرين أخرج لهم العجل] فلما رأوه قال لهم السامرى- هذا إلهكم وإله موسى فنسى- يقول: ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشى، فقال لهم هارون: يا بنى إسرائيل، إنما فتنتم به، يقول إنما ابتليتم بالعجل:
{وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ} [طه: 90] ، فأقام هارون ومن معه من بنى إسرائيل، لا يقاتلونهم. وانطلق موسى إلى الله يكلمه، فلما كلمه قال له: {مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى} [طه: 83-85] .
فأخبره خبرهم. قال موسى: "يا رب هذا السامرى أمرهم أن يتخذوا العجل.(2/303)
فالروح من نفخها فيه؟ قال الرب تعالى: أنا، قال: يا رب أنت إذاً أضللتهم".
وقال ابن إسحق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "كان السامرى [من أهل باجِرما] من قوم يعبدون البقر، فكان يحب عبادة البقر فى نفسه، وكان قد أظهر الإسلام فى بنى إسرائيل. فلما ذهب موسى إلى ربه قال لهم هارون: أنتم قد حملتم أوزارا من زينة القوم آل فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها، فإنها نجس، وأوقد لهم نارا. فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلى، فيقذفون به فيها، حتى إذا انكسر الحلى فيها، ورأى السامرى أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار، فقال لهارون: يا نبى الله، ألقى ما فى يدى؟ ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلى والأمتعة. فقذفه فيها، فقال: كن عجلا جسدا له خوار، فكان البلاء والفتنة. فقال هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا عليه، وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا مثله قط. يقول الله عز وجل: فنسى أى ترك ما كان عليه من الإسلام، يعنى السامرى.
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنْ لاَ يَرْجِع إِلَيْهِمْ قوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرا وَلا نُفْعاً} [طه: 89] .
[وكان اسم السامرى موسى بن ظفر وقع فى أرض مصر فدخل فى بنى إسرائيل] .
فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى. قَالُوا لنْ نبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَي} [طه:90] .
فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى:
{فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إسْرَائِيلَ وَلَمْ تّرْقُبْ قَوْلِى} [طه: 94] .
وكان له هائبا مطيعا.
فقال تعالى مذكرا لبنى إسرائيل بهذه القصة التى جرت لأسلافهم مع نبيهم(2/304)
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ ليْلَةً ثُمُ اتخذتم الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِه} [البقرة: 51] .
يعنى من بعد ذهابه إلى ربه، وليس المراد من بعد موته.
{وَأَنْتُمْ ظَالُمِونَ} [البقرة: 51] .
أى بعبادة غير الله تعالى، لأن الشرك أظلم الظلم، لأن المشرك وضع العبادة فى غير موضعها.
فلما قدم موسى عليه السلام ورأى ما أصاب قومه من الفتنة اشتد غضبه، وألقى الألواح عن رأسه، وفيها كلام الله الذى كتبه له، وأخذ برأس أخيه ولحيته، ولم يعتب الله عليه فى ذلك، لأنه حمله عليه الغضب لله. وكان الله عز وجل قد أعلمه بفتنة قومه، ولكن لما رأى الحال مشاهدة حدث له غضب آخر، فإنه ليس الخبر كالمعاينة.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة فى حياة نبيهم أيضا:
ما قصه الله تعالى فى كتابه حيث يقول: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَة} [البقرة: 55] [أى عيانا] .
قال ابن جرير: ذكرهم الله سبحانه بذلك اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله ما يثلج بأقلها الصدور، وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسبوغ النعم من الله تعالى لديهم. وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله، ومرة يعبدون العجل من دون الله، ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة، وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال.
{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قَاعِدْونَ} [المائدة: 24] ومرة يقال لهم {قُولوا حطّةٌ(2/305)
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُم} [البقرة: 58] .
فيقولون "حبة فى شعيرة" ويدخلون من قِبَل أستاههم. ومرة يعرض عليهم العمل بالتوراة، فيمتنعون من ذلك، حتى نتق الله تعالى عليهم الجبل كأنه ظلة، إلى غير ذلك من أفعالهم، التى آذوا بها نبيهم، التى يكثر إحصاؤها. فأعلم ربنا تبارك وتعالى الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بنى إسرائيل، الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم لن يعدوا أن يكونوا فى تكذيبهم محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم وجحودهم نبوته، وتركهم الإقرار به وبما جاء به، مع علمهم به ومعرفتهم بحقيقة أمره كأسلافهم، وآبائهم الذين قص الله علينا قصصهم.
وقال محمد بن إسحق: لما رجع موسى إلى قومه، فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامرى ما قال، وحرق العجل وذراه فى اليمْ، اختار موسى منهم سبعين رجلا، الخيِّر فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إلى الله مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قوكم، فصوموا وتطهروا، وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه، فقال له السبعون - فيما ذكر لى - حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء الله: يا موسى اطلب لنا إلى ربك أن نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام، حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فأدخل فيه وقال للقوم: ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم، حتى إذا دخلوا فى الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه تعالى وهو يكلم نبيه موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلما فرغ الله من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم، فقالوا لموسى عليه السلام:
{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة: 55] .
فماتوا جميعا. وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه، ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ(2/306)
مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاى، أَتُهْلِكُنَا بَما فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] .
فإن قيل: فما مقصود موسى بقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبلُ} [الأعراف: 155] .
فقد ذكر فيه وجوه:
فقال السدى: لما ماتوا قام موسى يبكى، ويقول: يا رب، ماذا أقول لبنى إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟.
وقال محمد بن إسحق: اخترت منهم سبعين رجلا، الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معى منهم رجل واحد؟ فما الذى يصدقونى به، أو يأمنونى عليه بعد هذا؟.
وعلى هذا، فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا. فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك، ولا يتهموننى.
وقال الزجاج: المعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة.
قلت: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود. والذى يظهر- والله أعلم بمراده ومراد نبيه: أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حين عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم. يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضى هلاكهم. ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل.
وهذا كما يقول من واخذه سيده بجرم: لو شئت واخذتنى من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعنى عفوك أولا، فليسعنى اليوم.
ثم قال نبى الله {أَتهْلِكُنَا بمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا} [الأعراف: 155] .
فقال ابن الأنبارى وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد، أى لست تفعل ذلك.
والسفهاء هنا: عبدة العجل.
قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: {أَتُهْلِكُنَا بمَا فَعَلَ(2/307)
السُّفَهَاء مِنَّا} [الأعراف: 155] .
وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] ثم قال {إِنّ هِى إِلا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] .
وهذا من تمام الاستعطاف، أى ما هى إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك. فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت. فنحن عائذون بك منك. ولاجئون منك إليك.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم: أنهم قيل لهم، وهم مع نبيهم، والوحى ينزل عليه من الله تعالى: {ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] .
قال قتادة، وابن زيد، والسدى، وابن جرير وغيرهم: هى قرية بيت المقدس:
{فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} [البقرة: 58] ، أى: هنيئاً واسعاً، {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة: 58] .
قال السدى: هو باب من أبواب بيت المقدس. وكذلك قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما، قال: والسجود بمعنى الركوع. وأصل السجود: الانحناء لمن تعظمه. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد، قاله ابن جرير وغيره.
قلت: وعلى هذا فانحناء المتلاقيين عند السلام، أحدهما لصاحبه من السجود المحرم، وفيه نهى صريح عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ثم قيل لهم {قُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] .
أى حط عنا خطايانا. هذا قول الحسن، وقتادة، وعطاء.
وقال عكرمة وغيره: أى قولوا: "لا إله إلا الله" وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التى تحط بها الخطايا، وهى كلمة التوحيد.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس "أمروا بالاستغفار".(2/308)
وعلى القولين: فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار، وضمن لهم بذلك مغفرة خطاياهم. فتلاعب الشيطان بهم، فبدلوا قولا غير الذى قيل لهم، وفعلا غير الذى أمروا به.
فروى البخارى فى صحيحه ومسلم أيضاً، من حديث همام بن منبه عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "قِيلَ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطّةٌ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا: حَبَّةٌ فى شَعْرَةٍ. فبَدَّلُوا القولَ وَالفِعْلَ معاً. فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ".
قال أبو العالية: هو الغضب. وقال ابن زيد: هو الطاعون.
وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدل دين الله قولا وعملا.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم كانوا فى البريَّة قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيش الثوم والبصل، والعدس، والبقل، والقثاء. فسألوه موسى عليه السلام.
وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم، وقلة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة، واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها، ولهذا قال لهم موسى عليه السلام: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ؟ اهْبِطُوا مِصْراً -أى مصرا من الأمصار- فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] .(2/309)
فكانوا فى أفسح الأمكنة وأوسعها، وأطيبها هواء، وأبعدها عن الأذى، ومجاورة الأنتان والأقذار، سقفهم الذى يظلهم من الشمس: الغمام، وطعامهم: السلوى، وشرابهم: المن.
قال ابن زيد: كان طعام بنى إسرائيل فى التيه واحدا، وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينزل من السماء، يقال له: المن. وطعامهم طير، يقال له: السلوى يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكن لهم خبز ولا غيره.
ومعلوم فضل هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة.
وكانوا مع ذلك يتفجر لهم من الحجر اثنا عشر عينا من الماء. فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير. فذموا على ذلك فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى، والغى بالرشاد، والشرك بالتوحيد، والسنة بالبدعة، وخدمة الخالق بخدمة المخلوق، والعيش الطيب فى المساكن الطيبة فى جوار الله تعالى بحظه من العيش النكد الفانى فى هذه الدار؟(2/310)
فصل
ومن تلاعبه بهم: أنهم لما عرضت عليهم التوراة لم يقبلوها، وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه، حتى أمر الله سبحانه جبريل، فقلع جبلا من أصله على قدرهم. ثم رفعه فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم، فقبلوها كرها. قال الله تعالى:
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَل فَوْقَهُمْ كأَنَّهُ ظلّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بهِمْ، خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171] .
قال عبد الله بن وهب قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح، قال لبنى إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمره الذى أمركم به، ونهيه الذى نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذ بقولك أنت؟ لا والله، حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا، فيقول: هذا كتابى فخذوه. فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابى فخذوه؟ فجاءت غضبة من الله تعالى. فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم. فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. فقال: أى شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا. فقال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. قال: فبعث الله ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، الطور. قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق.
وقال السدى: لما قال الله تعالى لهم: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] .
فأبوا أن يسجدوا، فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر فكشفه عنهم، ثم تولوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا،(2/311)
ولم يعملوا بما فى كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم. فقال تعالى مذكرا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتّقُونَ ثَمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِريِنَ} [البقرة: 63 - 64] .
فصل
ومن تلاعبهم بهم: أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفرق بهم البحر، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم وآواهم وأعزهم، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين.
ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التى كتب الله لهم وفى ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم. وأن تلك القرية لهم. فأبوا طاعته وامتثال أمره، وقابلوا هذا الأمر والبشارة، بقولهم: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قاعِدُونَ} [المائدة: 24] .
وتأمل: تلطف نبى الله تعالى موسى عليه السلام بهم، وحسن خطابه لهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم، وبشارتهم بوعد الله لهم: بأن القرية مكتوبة لهم، ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم، وأنهم إن عصوا أمره، ولم يمتثلوا انقلبوا خاسرين.
فجمع لهم بين الأمر والنهى، والبشارة والنذارة، والترغيب والترهيب، والتذكير بالنعم السالفة. فقابلوه أقبح المقابلة. فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم: {يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] .
فلم يوقروا رسول الله وكليمه، حتى نادوه باسمه، ولم يقولوا: يا نبى الله. وقالوا: "إن فيها قوما جبارين" ونسوا قدرة جبار السماوات والأرض الذى يذل الجبابرة لأهل طاعته. وكان خوفهم من أولئك الجبارين - الذين نواصيهم بيد الله- أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه وكانوا أشد رهبة فى صدورهم منه.
ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة. فقالوا: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مٍنْهَا} [المائدة: 22] .
فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد.(2/312)
أحدها: تمهيد عذر العصيان بقولهم: {إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] .
والثانى: تصريحهم بأنهم غير مطيعين، وصدروا الجملة بحرق تأكيد، وهو "إن" ثم حققوا النفى بأداة "لن" الدالة على نفى المستقبل: أى لا ندخلها الآن، ولا فى المستقبل.
ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها فقال لهم: {رَجُلاَنِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة: 23] .
بطاعته والانقياد إلى أمره، من الذين يخافون الله. هذا قول الأكثرين، وهو الصحيح. وقيل: من الذين يخافونهم من الجبارين، أسلما واتبعا موسى عليه السلام:
{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23] .
أى باب القرية، فاهجموا عليهم، فإنهم قد ملئوا منكم رعبا: {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23] .
ثم أرشدهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل.
فكان جواب القوم أن {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبّداً مَا دَامُوا فِيهَا، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] .
فسبحان من عظم حلمه حيث يقابل أمره بمثل هذه المقابلة، ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب، وهو يحلم عنهم، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل وسعهم حلمه وكرمه، وكان أقصى ما عاقبهم به: أن رددهم فى برية التيه أربعين عاما يظل عليهم الغمام من الحر، وينزل عليهم المن والسلوى.
وفى الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: "لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به، أتى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك، وبين يديك ومن خلفك. فرأيت رسول الله صلى الله تعالى وسلم أشرق وجهه لذلك وسر به".(2/313)
فما قابلوا نبى الله بهذه المقابلة.
{قَالَ رَبِّ لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. قَالَ فَإنّهَا مَحَرَّمَةٌ عَلَيْهمْ أَرْبَعينَ سَنَة يَتِيهُونَ فِى الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] .
فصل
ومن تلاعبه بهم فى حياة نبيهم أيضا: ما قصه الله سبحانه وتعالى [البقرة: 67 - 74] فى كتابه من قصة القتيل الذى قتلوه وتدافعوا فيه، حتى أمروا بذبح بقرة وضربه ببعضها.
وفى القصة أنواع من العبر:
منها: أن الإخبار بها من أعلام نبوه رسول الله تعالى عليه وآله وسلم.
ومنها: الدلالة على نبوة موسى، وأنه رسول رب العالمين.
ومنها: الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم: من معاد الأبدان، وقيام الموتى من قبورهم.
ومنها: إثبات الفاعل المختار، وأنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، عدل لا يجوز عليه الظلم والجور، حكيم لا يجوز عليه العبث.
ومنها: إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتنوعات، زيادة فى هداية المهتدين، وإعذار وإنذارا للضال.(2/314)
ومنها: أنه لا ينبغى مقابلة أمر الله تعالى بالتعنت، وكثرة الأسئلة، بل يبادر إلى الامتثال، فإنهم لما أمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الامتثال بذبح أى بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال، بل هو بمنزلة قوله: أعتق رقبة، وأطعم مسكينا، وصم يوما، ونحو ذلك، ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فإن الآية غنية عن البيان المنفصل، مبينة بنفسها، ولكن لما تعنتوا وشدودا شدد عليهم.
قال أبو جعفر بن جرير عن الربيع عن أبى العالية "لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها. ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم".
ومنها: أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذى لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإنكار. وذلك نوع من الكفر. فإن القوم لما قال لهم نبيهم: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ كُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةَ} [البقرة: 67] .
قابلوا هذا الأمر بقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] .
فلما لم يعلموا وجه الحكمة فى ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه، قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] .
وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله. فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك، ولم يكن هو الآمر به. ولو كان هو الآمر به لم يجز لمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك. فلما قال لهم: {أَعُوذَ بِاللهِ أَنْ أكُونَ مِنَ الْجَاهِلينَ} [البقرة: 67] .
وتيقنوا أن الله سبحانه أمره بذلك، أخذوا فى التعنت بسؤالهم عن عينها ولونها. فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها. فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال، توقفوا فى الامتثال، ولم يكادوا يفعلون.(2/315)
ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] .
فإن أرادوا بذلك: إنك لم تأت بالحق قبل ذلك فى أمر البقرة، فتلك ردة وكفر ظاهر. وإن أرادوا: أنك الآن بينت لنا البيان التام فى تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر، فإن البيان قد حصل بقوله:
{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ كُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] .
فإنه لا إجمال فى الأمر، ولا فى الفعل، ولا فى المذبوح، فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق من أول مرة.
قال محمد بن جرير: وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى "الآن جئت بالحق" وزعم أن ذلك نفى منهم أن يكون موسى عليه السلام أتاهم بالحق فى أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك كفر منهم، قال: وليس الأمر كما قال عندنا، لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قولهم الذى قالوا لموسى جهلا منهم، وهفوة من هفواتهم.(2/316)
فصل
ومنها: الإخبار عن قساوة قلوب الأمة وغلظها، وعدم تمكن الإيمان فيها.
قال عبد الصمد بن معقل عن وهب: كان ابن عباس يقول "إن القوم بعد أن أحيى الله تعالى الميت فأخبرهم بقاتله، أنكروا قتله. وقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآيات والحق" قال الله تعالى:
{ثمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِى كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] .
ومنها: مقابلة الظالم الباغى بنقيض قصده شرعا وقدرا. فإن القاتل قصده ميراث المقتول، ودفع القتل عن نفسه، ففضحه الله تعالى وهتكه وحرمه ميراث المقتول.
ومنها: أن بنى إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب. ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة. والبقر من أبلد الحيوان، حتى ليضرب به المثل.
والظاهر: أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل. ففى الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذى لا يمتنع من الذبح والحرث والسقى، لا يصلح أن يكون إلها معبودا من دون الله تعالى، وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقى والعمل.
فصل
ومن تلاعبه بهذه الأمة أيضا: ما قصه الله تعالى علينا [البقرة: 65 - 66] من قصة أصحاب السبت، حتى مسخهم قردة لما تحيلوا على استحلال محارم الله تعالى.
ومعلوم أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام، واستباحة الفروج والحرام،(2/317)
والدم الحرام. وذلك أعظم إثما من مجرد العمل يوم السبت. ولكن لما استحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل، وتلاعبوا بدينه، وخادعوه مخادعة الصبيان، ومسخوا دينه بالاحتيال، مسخهم الله تعالى قردة. وكان الله تعالى قد أباح لهم الصيد فى كل أيام الأسبوع إلا يوما واحدا، فلم يدعهم حرصهم وجشعهم حتى تعدوا إلى الصيد فيه، وساعد القدر بأن عوقبوا بإمساك الحيتان عنهم فى غير يوم السبت، وإرسالها عليهم يوم السبت، وهكذا يفعل الله سبحانه بمن تعرض لمحارمه. فإنه يرسلها عليه بالقدر تزدلف إليه بأيها يبدأ.
فانظر ما فعل الحرص، وما أوجب من الحرمان بالكلية. ومن هاهنا قيل: من طلبه كله فاته كله.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم أيضا: أنهم لما حرمت عليهم الشحوم أذابوها، ثم باعوها، وأكلوا أثمانها، وهذا من عدم فقههم وفهمهم عن الله تعالى دينه. فإن ثمنها بدل منها. فتحريمها تحريم لبدلها والمعاوضة عنها. كما أن تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخترير يتناول تحريم أعيانها وأبدالها.(2/318)
ومن تلاعبه بهم أيضا: اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، وقد لعنهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك، ولعنته تتناول من فعل فعلهم.
ومن تلاعبه بهم أيضا: أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم. ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى، يحرمون عليهم ويحلون لهم. فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم. ولا يلتفتون: هل ذلك التحريم والتحليل من عند الله تعالى أم لا؟.
قال عدى بن حاتم: "أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فسألته عن قوله. {اتّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31] . فقلت: يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال: حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فأطاعوهم. فكانت تلك عبادتهم إياهم" رواه الترمذى وغيره.
وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان: أن يقتل أو يقاتل من هداه على يديه، ويتخذ من لم تضمن له عصمته ندا لله يحرم عليه، ويحلل له.
ومن تلاعبه بهم: ما كان منهم فى شأن زكريا ويحيى عليهما السلام، وقتلهم لهما، حتى سلط الله عليهم بختنصر، وسنحاريب وجنودهما، فنالوا منهم ما نالوه.(2/319)
ثم كان منهم فى شأن المسيح ورميه وأمه بالعظائم، وهم يعلمون أنه رسول الله تعالى إليهم فكفروا به بغيا وعنادا، وراموا قتله وصلبه، فصانه الله تعالى من ذلك، ورفعه إليه، وطهره منهم. فأوقعوا القتل والصلب على شبهه، وهم يظنون أنه رسول الله عيسى صلى الله تعالى عليه وسلم. فانتقم الله تعالى منهم، ودمر عليهم أعظم تدمير، وألزمهم كلهم حكم الكفر بتكذيبهم بالمسيح كما ألزم النصارى معهم حكم الكفر بتكذيبهم بمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به فى سفال ونقص إلى أن قطعهم الله تعالى فى الأرض أمما، ومزقهم كل ممزق، وسلبهم عزهم وملكهم، فلم يقم لهم بعد ذلك مُلك إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فكفروا به وكذبوه، فأتم عليهم غضبه، ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذلا وصغارا لا يرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح من السماء، فيستأصل شأفتهم، ويطهر الأرض منهم، ومن عباد الصليب.
قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ الله بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ الله مِنْ فَضْلِه عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90] .
فالغضب الأول: بسبب كفرهم بالمسيح، والغضب الثانى: بسبب كفرهم بمحمد، صلوات الله وسلامه عليهما.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أن ألقى إليهم أن الرب تعالى محجور عليه فى نسخ الشرائع، فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء(2/320)
ويحكم ما يريد، وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية ترساً لهم فى جحد نبوة رسول الله محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقرروا ذلك بأن النسخ يستلزم البداء وهو على الله تعالى محال.
وقد أكذبهم الله سبحانه فى نص التوراة، كما أكذبهم فى القرآن. قال الله تعالى:
{كُلّ الطَّعَامِ كانَ حِلا لِبَنِى إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالُمِونَ قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُوا مِلّةَ إبراهيم حَنِيفاً وما كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [آل عمران: 93- 95] .
فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا فى إبطال النسخ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبنى إسرائيل، قبل نزول التوراة، سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه.
ومعلوم أن بنى إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذى كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، التى كانت حلالا لبنى إسرائيل، وهذا محض النسخ.
وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93] متعلق بقوله: كان حلاً لبنى إسرائيل.
أى كان حلالا لهم قبل نزول التوراة، وهم يعلمون ذلك.
ثم قال تعالى: {قُلْ فَأتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] .
هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوراة عليكم؟ أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم؟ وهى لحوم الإبل وألبانها خاصة. وإذا كان إنما حرم هذا وحده، وكان ما سواه حلالا له ولبنيه، وقد حرمت التوراة كثيرا منه، ظهر كذبكم وافتراؤكم فى إنكار نسخ الشرائع، والحجر على الله تعالى فى نسخها.
فتأمل هذا الموضع الشريف الذى حام حوله أكثر المفسرين، وما وردوه.
وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة(2/321)
من المناكح، والذبائح، والأفعال، والأقوال. وذلك نسخ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا. فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب، إذ هذا شأن كل الشرائع، وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى، فيجعله حراما، أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا. وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل.
ثم يقال لهذه الأمة الغضبية: هل تقرون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا؟ فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة.
فيقال لهم: فهل رفعت التوراة شيئا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا؟
فإن قالوا: لم ترفع شيئا من أحكام تلك الشرائع، فقد جاهروا بالكذب والبهت وإن قالوا: قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة، فقد أقروا بالنسخ قطعاً.(2/322)
وأيضا، فيقال للأمة الغضبية: هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم قلنا أليس فى التوراة أن من مس عظم ميت، أو وطئ قبرا، أو حضر ميتا عند موته، فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد البقرة التى كان الإمام الهارونى يحرقها؟ فلا يمكنهم إنكار ذلك.
فيقال لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟.
فإن قالوا: لا نقدر عليه، فيقال لهم: لم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت طاهرا يصلح للصلاة، والذى فى كتابكم خلافه؟.
فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة، وهى رماد البقرة، وعدمنا الإمام المطهر ليستغفر.
فيقال لهم: فهل أغناكم عدمه عن فعله، أو لم يغنكم؟
فإن قالوا: أغنانا عدمه عن فعله.
قيل لهم: قد تبدل الحكم الشرعى من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر.
فيقال: وكذلك يتبدل الحكم الشرعى بنسخه لمصلحة النسخ، فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد فى الأحكام، فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة فى وقت دون وقت، وفى شريعة دون أخرى، كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة فى شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مفسدة فى سائر الشرائع، وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحة فى شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله وفى سائر الشرائع، ثم صار مفسدة فى شريعة موسى عليه السلام، وأمثال ذلك كثيرة.
وإن منعتم مراعاة المصالح فى الأحكام، ومنعتم تعليلها بها، فالأمر حينئذ أظهر، فإنه سبحانه يحلل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، والتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئته، لا يسأل عما يفعل.
وإن قلتم: لا نستغنى فى الطهارة عن ذلك الطهور الذى كان عليه أسلافنا، فقد أقررتم بأنكم الأنجاس أبدا، ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة.(2/323)
فإن قالوا: نعم، الأمر كذلك.
قيل لهم: فإذا كنتم أنجاساً على مقتضى أصولكم، فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام، اعتزالا تخرجون فيه إلى حد لو أن أحدكم لمس ثوبه ثوب المرأة نجستموه مع ثوبه.
فإن قلتم: ذلك من أحكام التوراة.
قيل لكم: ليس فى التوراة أن ذلك يراد به الطهارة، فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم، والنجاسة التى أنتم عليها لا ترتفع بالغسل، فهى إذاً أشد من نجاسة الحيض.
ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم، ولا تنجسون من لمسها، ولا الثوب الذى تلمسه، فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس فى التوراة.
فصل
قالت الأمة الغضبية:
التوراة قد حظرت أمورا، كانت مباحة من قبل، ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ الذى ننكره ونمنع منه: هو ما أوجب إباحة محظور، لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة: أنه غير نبى، بخلاف تحريم ما كان مباحا، فإنا نكون متعبدين بتحريمه.
قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة.
فهذه النكتة هى التى تعتمد عليها الأمة الغضبية، ويتلقاها خالف منهم عن سالف والمتكلمون لم يشفوهم فى جوابها. وإنما أطالوا معهم الكلام فى رفع البراءة الأصلية بالشرائع، وفى نسخ الإباحة بالتحريم.
ولعمر الله إنه لمما يبطل شبهتهم، لأن رفع البراءة الأصلية، ورفع الإباحة بالتحريم هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابى أو الشرعى، بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره، ولا فرق فى اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم، أو تغيير التحريم بالإباحة.(2/324)
والشبهة التى عرضت لهم فى أحد الموضعين هى بعينها فى الموضع الآخر، فإن إباحة الشى فى الشريعة تابع لعدم مفسدته، إذا لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة بإباحته. فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجب قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته فى الشريعة الأولى هو المصلحة، فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة فى الشريعة الأولى هو المصلحة، فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة فى الشريعة الأولى إباحة المفاسد- وحاشا لله- تضمن تحريم المباح فى الشريعة الأولى تحريم المصالح. وكلاهما باطل قطعا.
فإذا جاز أن تأتى شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدمه يستبيحه، فجائز أن تأتى شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان فى التوراة محظورا.
وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هى التى ردت بها الأمة الغضبية نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، هى بعينها التى رد بها أسلافهم نبوة المسيح، وتوارثوها كافرا عن كافر. وقالوا لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، كما قال أسلافهم للمسيح: لا نقر بنبوة من غير شريعة التوراة.
فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى بالنبوة، وقد جاء بتغيير بعض شرائع من تقدمه فإن قدح ذلك فى المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح فى موسى فلا تقدحون، فى نبوتهما بقادح(2/325)
إلا ومثله فى نبوة موسى سواء، كما أنكم لا تثبتون نبوءة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول، أو يكون المسيح رسولا ومحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ليس برسول.
ويقال للأمة الغضبية أيضا: لا يخلو المحرم، إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته، بحيث تمنع إباحته فى زمان من الأزمنة، وإما أن يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة فى زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحال دون حال.
فإن كان الأول، لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء فى كل زمان ومكان، من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام.
وإن كان الثانى، ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح، وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حراما فى ملة دون ملة، وفى وقت دون وقت، وفى مكان دون مكان، وفى حال دون حال. وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك.
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حراما على إبراهيم ونوح وسائر النبيين؟.
وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبى وفى كل شريعة.
وإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويبتلى عباده لما يشاء، ويحكم ولا يحكم عليه. فما الذى يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة، ثم ينهى أمة أخرى عنه أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى؟.
بل أى شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك فى الشريعة الواحدة فى وقتين مختلفين، بحسب المصلحة، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِير * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْك السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 106- 107] .
فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه فى مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء، ويثبت(2/326)
ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء، ويثبت فهكذا أحكامه الدينية الأمرية، ينسخ منها ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء.
فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم: أن يعارَض الرسول الذى جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته، وتجحد رسالته: بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله، أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم. وبالله التوفيق، يضل من يشاء ويهدى من يشاء.
ومن العجب أن هذه الأمة الغضبية تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام فى أكثر ما هم عليه، وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم.
فمن ذلك: أنهم يقولون فى صلاتهم ما ترجمته هكذا "اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل".
ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا "أردد حكامنا كالأولين، ومسراتنا كالابتداء وابْنِ أورشليم قرية قدسك فى أيامنا، وأعزنا بابتنائها، سبحانك يا بانى يورشليم".
فهذا قولهم فى صلاتهم، مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك. ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم.
وكذلك صيامهم، كصوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصا، وصوم كدليا التى جعلوها فرضا لم يصمها موسى، ولا يوشع بن نون. وكذلك صوم صَلْبِ هامان، ليس شيء من ذلك فى التوراة، وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم.
هذا. مع أنه فى التوراة ما ترجمته "لا تزيدوا على الأمر الذى أنا موصيكم به شيئا، ولا تنقصوا منه شيئا".
وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا، هم مجمعون على تعطليها وإلغائها فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام، أو باجتهاد(2/327)
علمائهم. وعلى التقادير الثلاث. فقد بطلت شبهتهم فى إنكار النسخ.
ثم من العجب أن أكبر تلك الأوامر التى هم مجمعون على عدم القول والعمل بها إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وأمرائهم. وقد اتفقوا على تعطيل الرجم للزانى، وهو نص التوراة. وتعطيل أحكام كثيرة منصوصة فى التوراة.
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا، وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه.
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة. فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم.
كما تكبر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغض منه. ثم رضى أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق.
وكما أبى عباد الأصنام أن يكون النبى المرسل إليهم بشرا، ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجراً.
وكما نزهت النصارى بتاركتهم عن الولد والصاحبة، ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله سبحانه تعالى.
وكما نزهت الفرعونية من الجهمية الرب سبحانه أن يكون مستويا على عرشه، لئلا يلزم الحصر، ثم جعلوه سبحانه فى الآبار والحانات، وأجواف الحيوانات.(2/328)
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم: ما شددوه على أنفسهم فى باب الذبائح وغيرها، مما ليس له أصل عن موسى عليه السلام، ولا هو فى التوراة، وإنما هو من أوضاع الحاخاميم وآرائهم، وهم فقهاءهم.
ولقد كان لهذه الأمة فى قديم الزمان بالشام والعراق والمدائن مدراس وفقهاء كثيرون، وذلك فى زمن دولة البابليين والفرس، ودولة اليونان والروم، حتى فقهاؤهم فى بعض تلك الدول على تأليف المشنا والتلمود.
فأما المشنا فهو الكتاب الأصغر، ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة.
وأما التلمود فهو الكتاب الأكبر. ومبلغه نحو نصف حمل بغل لكبره.
ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه فى عصر واحد. وإنما ألفوه جيلا بعد جيل. فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وأن فى الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه أدى إلى الخلل الذى لا يمكن سده، قطعوا الزيادة فيه، ومنعوا منها. وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه، وإضافة شيء آخر إليه، وحرموا من يضيف إليه شيئا آخر فوقف على ذلك المقدار.
وكانت أئمتهم قد حرموا عليهم فى هذين الكتابين مؤاكلة الأجانب، وهم من كان على غير ملتهم. فحرموا عليهم الأكل من ذبيحة من لم يكن على دينهم، لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى فى هذه الخلوة مع كونهم تحت الذل والعبودية، إلا أن يصدوهم عن مخالطة من هو على غير ملتهم. فحرموا عليهم الأكل من ذبائحهم، ومناكحتهم. ولم يمكن تقرير ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون بها على الله تعالى. لأن التوراة إنما حرمت(2/329)
عليهم مناكحة غيرهم من الأمم، لئلا يوافقوا الأزواج فى عبادة الأصنام والشرك. وحرم عليهم فى التوراة أكل ذبائح الأمم التى يذبحونها قرباناً إلى الأصنام. لأنه قد سمى عليها اسم غير الله تعالى. فأما الذبائح التى لم تذبح قربانا للأصنام فلم تنطق التوراة بتحريمها. وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدى غيرهم من الأمم وموسى عليه السلام إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام، وأكل ما يذبحونها على اسمها.
فما بال هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين وهم لا يذبحون للأصنام، ولا يذكرون اسمها عليها؟
فلما نظر أئمتهم إلى أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام، وأن التوراة قد صرحت بأن تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خوف استدراج المخالطة إلى المناكحة وأن مناكحتهم إنما منع منها خوف استتباعها إلى الانتقال إلى أديانهم وعبادة أوثانهم، ووجدوا جميع هذا واضحا فى التوراة. اختلقوا كتابا فى علم الذباحة، ووضعوا فيه من التشديد والآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والمشقة.
وذلك أنهم أمروهم أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملوها، هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا؟ فإن خرج منها الهواء حرموها. وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقا ببعض لم يأكلوه.
وأمروا الذى يتفقد الذبيحة أن يدخل يده فى بطن الذبيحة، ويتأمل بأصابعه، فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر، أو أحد الجانبين، ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة، حرموه، ولم يأكلوه. وسموه طريفا. يعنون بذلك أنه تنجس وأكله حرام.(2/330)
وهذه التسمية هى أصل بلائهم.
وذلك أن التوراة حرمت عليهم أكل الطريفا. والطريفا: هى الفريسة التى يفترسها الأسد أو الذئب، أو غيرهما من السباع. وهو الذى عبر عنه القرآن بقوله تعالى:
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] .
والدليل على ذلك: أنه قال فى التوراة "ولحما فى الصحراء فريسة لا تأكلوه، وللكلب ألقوه".
وأصل لفظ "طريفا" طوارف. وقد جاءت هذه اللفظة فى التوراة فى قصة يوسف عليه السلام، لما جاء إخوته على قميصه بدم كذب، وزعموا أن الذئب افترسه.
وقال فى التوراة "ولحما فى الصحراء فريسة لا تأكلوا" والفريسة إنما توجد غالبا فى الصحراء.
وكان سبب نزول هذا عليهم: أنهم كانوا ذوى أخبية يسكنون البر والتيه، لأنهم مكثوا يترددون فى التيه أربعين سنة، كانوا لا يجدون طعاما إلا المن والسلوى. وهو طائر صغير يشبه السمان. وفيه من الخاصية أن أكل لحمه يلين القلب ويذهب بالخروب والقساوة، فإن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد، كما أن الخطاف يقتله البرد فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يسكن جزائر البحر التى لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر، وينتشر فى الأرض.
فجلب الله تعالى إليهم هذا الطائر لينتفعوا به، ويكون اغتذاؤهم به كالدواء لغلظ قلوبهم وقسوتها.(2/331)
والمقصود: أن مشايخهم تعدوا فى تفسير الطريفا عن موضوعها وما أريد بها.
وكذلك فقهاؤهم اختلقوا من أنفسهم هذيانات وخرافات تتعلق بالرئة والقلب، وقالوا: ما كان من الذبائح سليما من تلك الشروط فهو "دحيا". ومعنى هذه الفظة أنه طاهر. وما كان خارجا عن هذه الشروط فهو "طريفا" وتفسيرها أنه حرام.
قالوا: ومعنى نص التوراة "ولحما فريسة فى الصحراء لا تأكلوه، وللكلب ألقوه" أى إنكم إذا ذبحتم ذبيحة ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل تبيعونها على من ليس من أهل ملتكم.
وفسروا قوله "للكلب ألقوه" أى لمن ليس من أهل ملتكم فأطعموه وبيعوه. وهم أحق بهذا اللقب وأشبه الناس بالكلاب.
ثم إن هذه الأمة الغضبية فرقتان:
إحداهما: عرفوا أن أولئك السلف الذين ألفوا المشنا والتلمود، هم فقهاء اليهود، وهم قوم كذابون على الله وعلى موسى النبى. وهم أصحاب حماقات وتنطع، ودعاوى كاذبة، يزعمون أنهم كانوا إذا اختلفوا فى شيء من تلك المسائل يوحى الله تعالى إليهم بصوت يسمعه جمهورهم، يقول: الحق فى هذه المسألة مع الفقيه فلان، ويسمون هذا الصوت "بث قول".
فلما نظرت اليهود القراءون، وهم أصحاب "عانان وبنيامين" إلى هذه المحالات الشنيعة، وهذا الافتراء الفاحش، والكذب البارد. انفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء وعن كل من يقول بمقالاتهم، وكذبوهم فى كل ما افتروا به على الله وزعموا أنه لا يجوز قبول شيء من أقوالهم، حيث ادعوا النبوة، وأن الله تعالى كان يوحى إليهم، كما يوحى إلى الأنبياء.(2/332)
وأما تلك الترهات التى ألفها الحاخاميم، وهم فقهاؤهم، ونسبوها إلى التوراة وإلى موسى فإن القرائين اطرحوها كلها، وألقوها ولم يحرموا شيئا من الذبائح التى يتولون ذباحتها البتة، ولم يحرموا سوى لحم الجدى بلبن أمه فقط، مراعاة لنص التوراة:
"لا تنضج الجدى بلبن أمه" وليسوا بأصحاب قياس، بل أصحاب ظاهر فقط.
وأما الفرقة الثانية: فهم الربانون، وهم أصحاب القياس، وهم أكثر عددا من القرائين، وفيهم الحاخاميم المفترون على الله تعالى الكذب، الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم فى كل مسألة بالصوت، الذى يسمونه "بث قول".
وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم، لأن حاخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تحل للناس إن استعملوا فيها هذا العلم، الذى نسبوه إلى موسى عليه السلام وإلى الله تعالى، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شرفهم الله تعالى بهذا وأمثال ذلك من الترهات، فصار أحدهم ينظر من ليس على مذهبه وملته كما ينظر إلى الحيوان البهيم، وينظر مآكل الأمم وذبائحهم، كما ينظر إلى العذرة.
وهذا من كيد الشيطان لهم، ولعبه بهم، فإن الحاخاميم قصدا بذلك المبالغة فى مخالفتهم الأمم، والإزراء عليهم، ونسبتهم إلى قلة العلم، وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال، والتشديدات.
وكلما كان الحاخاميم فيهم أكثر تكلفا وأشد إصرا، وأكثر تحريما، قالوا: هذا هو العالم الربانى.
ومما دعاهم إلى التضييق والتشديد: أنهم مبددون فى شرق الأرض وغربها، فما من جماعة منهم فى بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة، يظهر لهم الخشونة فى دينهم والمبالغة فى الاحتياط، فإن كان من المتفقهة فهو يسرع فى إنكار أشياء عليهم، ويوهمهم التنزه عما هم عليهم، وينسبهم إلى قلة الدين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه، وإلى أهل بلده،(2/333)
ويكون فى أكثر تلك الأشياء كاذبا، وقصده بذلك إما الرياسة عليهم، وإما تحصيل بعض مآربه منهم، ولا سيما إن أراد المقام عندهم.
فتراه أول ما ينزل بهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم، ويتأمل سكين ذابحهم، وينكر عليهم بعض أمره، ويقول: أنا لا آكل إلا من ذبيحة يدى، فتراهم معه فى عذاب، لا يزال ينكر عليهم المباح، ويوهمهم تحريمه بأشياء يخترعها، حتى لا يشكون فى ذلك.
فإن قدم عليهم قادم آخر، فخاف المقيم أن ينقض عليه القادم، تلقاه وأكرمه، وسعى فى موافقته وتصديقه، فيستحسن ما فعله الأول، ويقول لهم: لقد عظم الله تعالى ثواب فلان، إذ قوى ناموس الدين فى قلوب هذه الجماعة، وشد سياج الشرع عندهم، وإذا لقيه يظهر من مدحه وشكره والدعاء له ما يؤكد أمره.
وإن كان القادم الثانى منكرا لما جاء به الأول من التشديد والتضييق لم يقع عندهم بموقع، وينسبونه إما إلى الجهل، وإما إلى رقة الدين، لأنهم يعتقدون أن تضييق المعيشة، وتحريم الحلال، هو المبالغة فى الدين.
وهم أبدا يعتقدون الصواب والحق مع من يشدد ويضيق عليهم.
هذا إن كان القادم من فقهائهم.
فأما إن كانوا من عبادهم وأحبارهم فهناك ترى العجب العجاب من الناموس الذى يعتمد، والسنن التى يحدثها ويلحقها بالفرائض. فتراهم مسلمين له منقادين، وهو يحتلب درهم، ويجتلب درهمهم، حتى إذا بلغه أن يهوديا جلس على قارعة الطريق يوم السبت، أو اشترى لبنا من مسلم، تلبسه وسبه فى مجمع اليهود، وأباح عرضه ونسبه إلى قلة الدين.(2/334)
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم إذا رأوا الأمر أو النهى مما أمروا به أو نهوا عنه شاقا عليهم، طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل. فإن أعيتهم الحيل قالوا: هذا كان علينا لما كان لنا الملك والرياسة.
فمن ذلك: أنهم إذا أقام أخوان فى موضع واحد، ومات أحدهما ولم يعقب ولدا، فلا تخرج امرأة الميت إلى رجل أجنبى، بل ولد حميها ينكحها. وأول ولد ممن ينكحها ينسب إلى أخيه الدارج. فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية منه إلى مشيخة قومه، تقول: قد أبى ابن حمى أن يستبقى اسما لأخيه فى إسرائيل. ولم يرد نكاحى، فيحضره الحاكم هناك، ويكلفه أن يقف ويقول: ما أردت نكاحها. فتتناول المرأة نعله فيخرجه من رجله، وتمسكها بيدها وتبصق فى وجهه، وتنادى عليه: كذا فليصنع بالرجل الذى لا يبنى بيت أخيه، ويدعى فيما بعد بالمخلوع النعل وينبز بنوه ببنى مخلوع النعل.
هذا كله مفترض عليهم فيما يزعمون فى التوراة.
وفيه حكمة ملجئة للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج. فإنه إذا علم أن ذلك يناله إن لم ينكحها آثر نكاحها عليه. فإن كان مبغضا لها زاهداً فى نكاحها، أو كانت هى زاهدة فى نكاحه مبغضه له، استخرج له الفقهاء حيلة يتخلص بها منها وتتخلص منه، فيلزمونها الحضور عند الحاكم بمحضر من مشايخهم، ويلقنونها أن تقول: أبى ابن حمى أن يقيم لأخيه اسما فى إسرائيل، لم يرد نكاحى: فيلزمونها بالكذب عليه، لأنه أراد نكاحها وكرهته، وإذا لقنوها هذه الألفاظ قالتها، فيأمرونه بالكذب، وأن يقوم ويقول: ما أردت نكاحها. ولعل ذلك سؤله وأمنيته، فيأمرونه بأن يكذب، ولم يكفهم أن كذبوا عليه، وألزموه أن يكذب، حتى سلطوها على الإخراق به والبصاق فى وجهه. ويسمون هذه مسألة "البياما والجالوس".
وقد تقدم من التنبيه على حيلهم فى استباحتهم محارم الله تعالى بعض ما فيه كفاية.
فالقوم بيت الحيل والمكر، والخبث.
وقد كانوا يتنوعون فى عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأنواع الحيل والكيد والمكر عليه وعلى أصحابه، ويرد الله سبحانه وتعالى ذلك كله عليهم.
فتحيلوا عليه وأرادوا قتله مرارا والله تعالى ينجيه من كيدهم.(2/335)
فتحيلوا عليه وصعدوا فوق سطح وأخذوا رحا أرادوا طرحها عليه، وهو جالس فى ظل حائط، فأتاه الوحى، فقام منصرفاً، وأخذ فى حربهم وإجلائهم.
ومكروا به وظاهروا عليه أعداءه من المشركين، فظفره الله تعالى بهم.
ومكروا به وأخذوا فى جمع العدو له فظفره الله تعالى برئيسهم، فقتله.
ومكروا به وأرادوا قتله بالسم، فأعلمه الله تعالى به، ونجاه منه.(2/336)
ومكروا فسحروه، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، ولم يفعله. فشفاه الله تعالى وخلصه.
ومكروا به فى قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِى أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] .
يريدون بذلك تشكيك المسلمين فى نبوته، فإنهم إذا أسلموا أول النهار اطمأن المسلمون إليهم، وقالوا: قد اتبعوا الحق، وظهرت لهم أدلته، فيكفرون آخر النهار، ويجحدون نبوته، ويقولون: لم نقصد إلا الحق واتباعه، فلما تبين لنا أنه ليس به رجعنا عن الإيمان به.
وهذا من أعظم خبثهم ومكرهم.
ولم يزالوا مُوضعِين مجتهدين فى المكر والخبث إلى أن أخزاهم الله بيد رسوله وأتباعه - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ورضى عنهم - أعظم الخزى، ومزقهم كل ممزق وشتت شملهم كل مشتت.
وكانوا يعاهدونه عليه الصلاة والسلام، ويصالحونه. فإذا خرج لحرب عدوه نقضوا عهده.
ولما سلب الله تعالى هذه الأمة ملكها وعزها، وأذلها، وقطعهم فى الأرض، انتقلوا من التدبير بالقدرة والسلطان، إلى التدبير بالمكر والدهاء، والخيانة والخداع. وكذلك كل عاجز جبان سلطانه فى مكره وخداعه، وبهته وكذبه، ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع والكذب والخيانة، كما قال الله تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام أن قال:
{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكن إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] .
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أنهم يمثلون أنفسهم بعناقيد الكرم، وسائر الأمم بالشوك المحيط بأعالى حيطان الكرم.(2/337)
وهذا من غاية جهلهم وسفههم. فإن المعتنين بمصالح الكرم إنما يجعلون على أعالى حيطانه الشوك، حفظا له، وحياطة وصيانة. ولسنا نرى لليهود من سائر الأمم إلا الضرر والذل والصغار. كما يفعل الناس بالشوك.
ومن تلاعبه بهم أنهم ينتظرون قائما من ولد داود النبى، إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذى وعدوا به.
وهم فى الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال. فهم أكثر أتباعه. وإلا فمسيح الهدى عيسى ابن مريم عليه السلام يقتلهم، ولا يبقى منهم أحدا.
والأمم الثلاث تنتظر منتظرا يخرج فى آخر الزمان، فإنهم وعدوا به فى كل ملة. والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى ابن مريم من السماء، لكسر الصليب، وقتل الخنزير، وقتل أعدائه من اليهود، وعباده من النصارى، وينتظرون خروج المهدى من أهل بيت النبوة، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم فى العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة يقولون فى صلاتهم "لم تقول الأمم: أين إلههم؟ انتبه. كم تنام يارب؟ استيقظ من رقدتك".
وهؤلاء إنما أقدموا على هذه الكفريات من شدة ضجرهم من الذل والعبودية، وانتظار فرج لا يزداد منهم إلا بعدا. فأوقعهم ذلك فى الكفر والتزندق الذى لا يستحسنه إلا أمثالهم. وتجرءوا على الله سبحانه وتعالى بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخونه بذلك لينتخى لهم ويحمى لنفسه فكأنهم يخبرونه سبحانه وتعالى بأنه قد اختار الخمول لنفسه ولأحبابه، ولأبناء أنبيائه. فينخونه للنباهة، واشتهار الصيت.(2/338)
فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات فى الصلاة يقشعر جلده، ولا يشك أن هذه المناجاة تقع عند الله تعالى بموقع عظيم. وأنها تؤثر فيه، وتحركه، وتهزه وتنخيه.
ومن ذلك: أنهم ينسبون إلى الله سبحانه وتعالى الندم على الفعل.
فمن ذلك: قولهم فى التوراة التى بأيديهم "وندم الله سبحانه وتعالى على خلق البشر الذين فى الأرض، وشق عليه، وعاد فى رأيه".
وذلك عندهم فى قصة قوم نوح.
وزعموا أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لما رأى فساد قوم نوح، وأن شركهم وكفرهم قد عظم ندم على خلق البشر.
وكثير منهم يقول: إنه بكى على الطوفان، حتى رمد، وعادته الملائكة. وأنه عض على أنامله حتى جرى الدم منها.
وقالوا أيضا: إن الله تعالى ندم على تمليكه شاؤول على بنى إسرائيل. وأنه قال ذلك لشمويل.
وعندهم أيضا: أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبح لله تعالى، وقرب عليه قرابين، وأن الله تعالى استنشق رائحة القتار فقال الله تعالى فى ذاته "لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس، لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة، ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت".
وقد واجهوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضى الله تعالى عنهم بأمثال هذه الكفريات.
فقال قائل منهم للنبى صلى الله عليه وسلم: "إن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام، ثم استراح. فشق ذلك على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] .(2/339)
وتأمل قوله تعالى عقيب ذلك: {فَاصْبرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 39] .
فإن أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام نسبوه إلى ما لا يليق به، وقالوا فيه ما هو منزه عنه. فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم، ويكون له أسوة بربه سبحانه وتعالى، حيث قال أعداؤه فيه ما لا يليق.
وكذلك قال فنحاص لأبى بكر رضى الله عنه: إن الله فقير ونحن أغنياء. لهذا استقرضنا من أموالنا. فأنزل الله سبحانه وتعالى:
{لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنَ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَق وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 182] .
وقالوا أيضاً: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيديهم، وَلُعِنُوا بَمِا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يشَاءُ} [المائدة: 64] .
ويقولون فى العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة: "يا إلهنا وإله آبائنا، أملك على جميع أهل الأرض، ليقول كل ذى نسمة: الله إله إسرائيل قد ملك، ومملكته فى الكل متسلطة".
ويقولون فى هذه الصلاة أيضا: "وسيكون لله تعالى الملك. وفى ذلك اليوم يكون الله تعالى واحدا، واسمه واحدا".
ويعنون بذلك: أنه لا يظهر الملك لله تعالى إلا إذا صارت الدولة لليهود الذين هم صفوته(2/340)
وأمته. فأما ما دامت الدولة لغير اليهود فإنه سبحانه، وتعالى خامل الذكر عند الأمم، مطعون فى ملكه، مشكوك فى قدرته.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يقولون بالقدح فى الأنبياء، وأذيتهم.
وقد آذوا موسى عليه السلام فى حياته، ونسبوه إلى ما برأه الله تعالى منه. ونهى الله سبحانه هذه الأمة عن الاقتداء بهم فى ذلك حيث يقول: {يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأه اللهُ مَّمِا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهاً} [الأحزاب: 69] .
وثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالت بنو إسرائيل: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب موسى يغتسل. فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه. قال: فجمع موسى بأثره، يقول: ثوبى حجر، ثوبى حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى. وقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر، حتى نظر إليه بنو إسرائيل، وأخذ ثوبه، وطفق بالحجر ضربا" قال أبو هريرة "والله إن بالحجر لندبا، ستة أو سبعة. من أثر ضرب موسى الحجر" وأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مَّمِا قَالُوا} [الأحزاب: 69] الآية.
وقال ابن جرير، حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد "قالت بنو إسرائيل: إن موسى آدر. وقالت طائفة: هو أبرص، من شدة تستره".
وقال ابن سيرين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم "كان موسى رجلا حييا ستيرا، لا يكاد يرى من جلده شيء، استحياء منه. فآذاه من آذاه من بنى إسرائيل وقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة. وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا" وذكر الحديث.(2/341)
وقال سفيان بن حسين عن الحكم عن ابن جبير عن الحكم بن جبير عن ابن عباس عن على بن أبى طالب فى قوله تعالى: {لا تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] .
قال "صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون. فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشد حبا لنا منك وألين لنا منك، وآذوه بذلك. فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مروا به على بنى إسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته، حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات، فبرأه الله تعالى من ذلك، فانطلقوا به فدفنوه فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله تعالى إلا الَّرخم، فجعله الله تعالى أصم أبكم".
وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُنَنِى؟ وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5] .
فإنها جملة فى موضع الحال: أى أتؤذوننى وأنتم تعلمون أنى رسول الله إليكم.
وتأمل قوله: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّى رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ} [الصف: 5] .
وذلك أبلغ فى العناد.
وكذلك المسيح قال: {يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إنِّى رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لَمِا بَيْنَ يَدَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأْتِى مِنْ بعْدى اسْمُهُ أحْمَد فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] .
فهذا قليل من كثير من أذاهم لأنبيائهم.
وأما أذاهم لهم بالقتل والبغى فأشهر من أن يذكر.
ولقد بالغوا فى أذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجهدهم بالقول والفعل، حتى ردهم الله تعالى خاسئين.
ومن قدحهم فى الأنبياء: ما نسبوه إلى نص التوراة.
أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها، ونجى لوطا بابنتيه فقط، ظن ابنتاه أن الأرض قد(2/342)
خلت ممن يستبقين منه نسلا. فقالت الصغرى للكبرى: إن أبانا شيخ ولم يبق فى الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر، فهلمى نسقى أبانا خمرا ونضاجعه لنستبقى من أبينا نسلا ففعلتا ذلك بزعمهم.
فنسبوا لوطا النبى عليه السلام إلى أنه سكر، حتى لم يعرف ابنتيه، ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما. فولدت إحداهما ولدا أسمته "مواب" يعنى أنه من الأب.
والثانية سمت ولدها "بنى عمو" يعنى أنه من قبيلتها.
وقد أجاب بعضهم عن هذا: بأنه كان قبل نزول التوراة، فلم يكن نكاح الأقارب حراما والتوراة تكذبهم.
فإن فيها "أن إبراهيم الخليل خاف فى ذلك العصر أن يقتله المصريون، حسدا له على زوجته سارة، فأخفى نكاحها، وقال: هى أختى، علما منه بأنه إذا قال ذلك لم يبق للظنون إليهما سبيل".
وهذا أظهر دليل على أن تحريم نكاح الأخت كان ثابتا فى ذلك الزمان. فما ظنك بنكاح البنت الذى لم يشرع ولا فى زمن آدم عليه السلام؟.
وعندهم أيضا فى التوراة التى بأيديهم قصة أعجب من هذه.
وهى أن يهوذا بن يعقوب النبى زوج ولده الأكبر من امرأة يقال لها "تامار" فكان يأتها مستدبرا، فغضب الله تعالى من فعله. فأماته، فزوجها يهوذا من ولده الآخر. فكان إذا دخل بها أنزل على الأرض، علما منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعوا باسم أخيه، ومنسوبا إلى أخيه. فكره الله تعالى ذلك من فعله، فأماته أيضا. فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شبلا، ويتم عقله، حذرًا من أن يصيبه ما أصاب أخويه. فأقامت فى بيت أبيها. ثم ماتت من بعد زوجة يهوذا، وصعد إلى منزل [يقال له مناث] ليحرس غنمه، فلما أخبرت المرأة "تامار" بإصعاد حموها إلى المنزل، لبست زى الزوانى، وجلست فى مستشرف على طريقه لعلمها بشبقه فلما مر بها خالها زانية، فراودها، فطالبته بالأجرة، فوعدها بجدى، ورهن عندها عصاه وخاتمه، ودخل بها، فعلقت منه. فلما أخبر يهوذا أن كنته علقت من الزنا أذن(2/343)
بإحراقها، فبعث إليه بخاتمه وعصاه. فقالت: من رب هذين أنا حامل. فقال صدقت، ومنى ذلك. واعتذر بأنه لم يعرفها. ولم يستحل معاودتها. ولا تسليمها إلى ولده، وعلقت من هذا الزنا بفارص. قالوا: ومن ولدها داود النبى.
ففى ذلك من نسبتهم الزنا والكفر إلى بيت النبوة ما يقارب ما نسبوه إلى لوط عليه السلام وهذا كله عندهم وفى نص كتابهم. وهم يجعلون هذا نسبا لداود وسليمان عليهما السلام ولمسيحهم المنتظر.
ومن العجب: أنهم يجعلون المسلمين أولاد زنا، ويسمونهم "ممزيريم" واحدها "ممزير" وهو اسم لولد الزنا. لأن فى شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت زوجا غيره فأولادهما أولاد زنا.
وزعموا أن ما جاءت به شريعة الإسلام من ذلك هو من موضوعات عبد الله بن سلام قصد به أن يجعل أولاد المسلمين "ممزيريم" بزعمهم.
قالوا: وكان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قد رأى أحلاما تدل على أنه صاحب دولة، فسافر إلى الشام فى تجارة لخديجة. واجتمع بأحبار اليهود، وقص عليهم أحلامه، فعلموا أنه صاحب دولة، فأصحبوه عبد الله بن سلام. فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدة، ونسبوا الفصاحة والإعجاز اللذين فى القرآن إلى عبد الله بن سلام، وأن من جملة ما قرره عبد الله بن سلام: أن الزوجة لا تحل للمطلق ثلاثا إلا بعد أن ينكحها رجل آخر ليجعل أولاد المسلمين "ممزيريم" أولاد زنا.
ولا ريب أن مثل هذا البهت يروج على كثير من حميرهم.
وقد خلق الله تعالى لكل باطل وبهت حملة، كما للحق حملة وليس وراء هذا البهت بهت.
وليس بمستنكر من أمة قدحت فى معبودها وإلهها، ونسبته إلى مالا يليق بعظمته وجلاله، ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم، ورمتهم بالعظائم، أن ينسبوا محمدا صلى الله تعالى وآله(2/344)
وسلم وبجل وكرم وعظم - إلى ذلك. وعدواته لهم، وملاحمه فيهم، وإجلاؤه لهم من ديارهم وأموالهم، وسبى ذراريهم ونسائهم معلوم، غير مجهول.
وقد نسبت هذه الأمة الغضبية عيسى ابن مريم إلى أنه ساحر، ولد بغية. ونسبت أمه إلى الفجور.
ونسبت لوطا إلى أنه وطئ ابنتيه وأولدهما وهو سكران من الخمر.
ونسبوا سليمان عليه السلام إلى أنه كان ملكا ساحرا. وكان أبوه عندهم ملكا مسيحا.
ونسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه حل تكة سراويله وتكة سراويل سيدته، وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته، وأن الحائط انشق له فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله، فلم يقم حتى نزل جبريل عليه السلام فقال "يا يوسف تكون من الزناة، وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء؟ " فقام حينئذ.
ومعلوم أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه، فإن أفسق الناس لو رأى هذا لولى هاربا وترك الفاحشة.
ومنهم من يزعم أن المسيح كان من العلماء، وأنه كان يداوى المرضى بالأدوية، ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائه، وأنه داوى جماعة من المرضى فى يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود ذلك، فقال لهم: "أخبرونى عن الشاة من الغنم إن وقعت فى بئر، أما تنزلون إليها وتحلون السبت لتخليصها؟ قالوا: بلى. قال: فلم أحللتم السبت لتخليص الغنم ولا تحلونه لتخليص الإنسان الذى هو أكبر حرمة من الغنم؟ " فأفحموا.(2/345)
ويحكون أيضا عنه. أنه مشى مع قوم من تلاميذه فى جبل، ولم يحضرهم الطعام، فأذن لهم فى تناول الحشيش يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود قطع الحشيش فى يوم السبت، فقال لهم: أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدا مع قوم على غير ملته، وأمروه بقطع النبات وإلقائه لدوابهم لا يقصدون بذلك إبطال السبت، ألستم تجيزون له قطع النبات؟ قالوا: بلى. قال: فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه، وليتغذوا به، لا لقطع السبت.
ومن العجب: أن عندهم فى التوراة التى بأيديهم: "لا يزول الملك من آل يهودا والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتى المسيح" وهم لا يقدرون أن يجحدوا ذلك. فيقال لهم: إنكم كنتم أصحاب دولة حتى ظهر المسيح، ثم انقضى ملككم، ولم يبق لكم اليوم ملك. وهذا برهان على أن المسيح قد أرسل.
ومن حين بعث المسيح وكفروا به وطلبوا قتله، استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس، وانقضت دولتهم وتفرق شملهم.
فيقال لهم: ما تقولون فى عيسى ابن مريم؟.
فيقولون: إنه ولد يوسف النجار لِغَيَّة لا لِرَشْدَة وقد كان عرف اسم الله الأعظم سحر به كثيرا من الأشياء.
وعند هذه الأمة الغضبية أيضا: أن الله تعالى كان قد أطلع موسى عليه السلام على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفا، وبه شق البحر، وعمل المعجزات.
فيقال لهم فإذا كان موسى قد عمل المعجزات باسم الله، فلم صدقتم نبوته، وأقررتم بها وجحدتم نبوة عيسى، وقد عمل المعجزات بالاسم الأعظم؟(2/346)
فأجاب بعضهم عن الإلزام: بأن الله سبحانه وتعالى علم موسى ذلك الاسم، فعلمه بالوحى، وعيسى إنما تعلم من حيطان بيت المقدس.
وهذا هو اللائق ببهتهم وكذبهم على الله تعالى وأنبيائه. وهو يسد عليهم العلم بنبوة موسى. لأن كلا الرسولين اشتركا فى المعجزات والآيات الظاهرة، التى لا يقدر أحد أن يأتى بمثلها. فإن كان أحدهما قد تعلمها بحيله أو بعلم. فالآخر يمكن ذلك فى حقه.
وقد أخبرا جميعا أن الله سبحانه وتعالى هو الذى أجرى ذلك على أيديهما، وأنه ليس من صنعهما. فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين.
وأيضا، فإنه لا دليل لهم على أن موسى تلقى تلك المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدل على أن عيسى عليه السلام تلقاها أيضا عن الله تعالى. فإن أمكن القدح فى معجزات عيسى أمكن القدح فى معجزات موسى عليه السلام. وإن كان ذلك باطلا فهذا أيضا باطل.
وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين - مع بعد العهد، وتشتت شمل أمتيهما فى الأرض، وانقطاع معجزاتهما - فما الظن بنبوة من معجزاته وآياته تزيد على الألف؟ والعهد بها قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم، ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن. وأعظهما معجزة كتاب باق غض طرى لم يتغير ولم يتبدل منه شيء، بل كأنه منزل الآن، وهو القرآن العظيم، وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذى أخبر به كأنه كان يشاهده عيانا؟.
فصل
ولا يمكن البتة أن يؤمن يهودى بنبوة موسى عليه السلام إن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.(2/347)
وبيان ذلك أن يقال لهاتين الأمتين:
أنتم لم تشاهدوا هذين الرسولين، ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوتهما. فكيف يسع العاقل أن يكذب نبيا ذا دعوة سابقة، وكلمة قائمة، وآيات باهرة، وتصديق من ليس مثله ولا قريبا منه فى ذلك؟ لأنه لم ير أحد النبيين، ولا شاهد معجزاته. فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما. وإن صدق بأحدهما لزمه التصديق بنبوتهما فمن كفر بنبى واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه به.
قال الله تعالى: {إِنَّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِه وَيُرِيدُونَ أَنْ يفُرِّقوا بْينَ اللهِ ورُسُلِه وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ ببِعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِ وَيُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاَ أُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، حَقا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً * وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غفُوراً رَحِيماً} [النساء: 150 - 152] ، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمنُونَ كُل آمَنَ بِاللهَ مَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} [البقرة: 285] .
فنقول للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينت معجزاته؟ فبالضرورة يقول: لا.
فنقول له: بأى شيء عرفت نبوته وصدقه؟ فله جوابان.
أحدهما: أن يقول: أبى عرفنى ذلك، وأخبرنى به.(2/348)
والثانى: أن يقول: التواتر وشهادات الأمم حقق ذلك عندى، كما حققت شهادتهم وجود البلاد النائية، والبحار، والأنهار المعروفة وإن لم أشاهدها.
فإن اختار الجواب الأول، وقال: إن شهادة أبى وإخباره إياى بنبوة موسى هى سبب تصديقى بنبوته.
قلنا له: ولم كان أبوك عندك صادقا فى ذلك، معصوماً عن الكذب؟ وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك. فإذا كنت ترى الأديان الباطلة، والمذاهب الفاسدة، قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذى هم عليه ضلال. فلزمك أن تبحث ما أخذته عن أبيك، خوفا أن تكون هذه حاله.
فإن قال: إن الذى أخذته عن أبى أصح من الذى أخذه الناس عن آبائهم، كفاه معارضة غيره له بمثل قوله.
فإن قال: أبى أصدق من آبائهم وأعرف وأفضل، عارضه سائر الناس فى آبائهم بنظير ذلك.
فإن قال: أنا أعرف حال أبى، ولا أعرف حال غيره.
قيل له: فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك، وأصدق وأعرف؟.
وبكل حال. فإن كان تقليد أبيه حجة صحيحة، كان تقليد غيره لأبيه كذلك. وإن كان ذلك باطلا، كان تقليده لأبيه باطلا.
فإن رجع عن هذا الجواب واختار الجواب الثانى، وقال: إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن. فإنهم أخبروا بظهوره وبمعجزاته وآياته وبراهين نبوته التى تضطرنى إلى تصديقه.
فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب. لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
فإن قلت: تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته، ولم يتواتر ذلك فى المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
قيل لك: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية. فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت. وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد صلى الله تعالى عليهما وسلم أضعاف أضعافكم بكثير. والمعجزات التى شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التى أتى بها موسى عليه السلام، وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. وأنت لا تقبل(2/349)
خبر التواتر فى ذلك وترده، فيلزمك أن لا تقبله فى أمر موسى عليه السلام.
ومن المعلوم بالضرورة: أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض.
وإذا اشتهر النبى فى عصر وصحت نبوته فى ذلك العصر بالآيات التى ظهرت عليه لأهل عصره، ووصل خبره إلى أهل عصر آخر، وجب عليهم تصديقه والإيمان به. وموسى ومحمد والمسيح فى هذا سواء ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد، لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله تعالى كل ممزق، وقطعها فى الأرض، وسلبها ملكها وعزها، فلا عيش لها إلا تحت قهر سواهم من الأمم لها، بخلاف أمة عيسى عليه السلام، فإنها قد انتشرت فى الأرض، وفيهم الملوك، ولهم الممالك.
وأما الحنفاء، فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وملأوا الدنيا سهلا وجبلا فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا، ونقل الأمة الغضبية الخاملة القليلة الزائلة صدقا؟.
فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض أن يصدق بنبوة موسى عليه السلام إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يمكن نصرانيا البتة الإيمان بالمسيح عليه السلام إلا بعد الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح. لأنهم آمنوا بهما على يد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد، وبما جاء له. فلولاه ما عرفنا نبوتهما، ولا أمنا بهما.
ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم فلولا القرآن ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين.
فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكتابه هو الذى قرر نبوة موسى ونبوة المسيح، لا اليهود ولا النصارى.
بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما. فإنهما أخبرا بظهوره، وبشرا به قبل ظهوره. فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما.
وهذا أحد المعنيين فى قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلَهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ؟ بَلْ جَاءَ بَالْحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} [الصافات: 36- 37] .
أى مجيئه تصديق لهم من جهتين. من(2/350)
جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به، ومطابقة ما جاءوا به لما جاءوا به. فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحى، ثم جاء نبى آخر لم يقارنه فى الزمان ولا فى المكان، ولا تلقى عنه ما جاء به، وأخبر بمثل ما أخبر به سواء، دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر. وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان، ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته، بحيث يعلم أنه لم يجتمع به، ولا تلقى عنه، ولا عمن تلقى عنه فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء. فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثانى.
والمعنى الثانى: أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء، مزريا عليهم، كما يفعل الملوك المتغلبون على الناس بمن تقدمهم من الملوك بل جاء مصدقا لهم، شاهدا بنبوتهم. ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده سياسة، لم يصدق من قبله، بل كان يزرى بهم، ويطعن عليهم، كما يفعل أعداء الأنبياء.
فصل
وقد اختلف أقوال الناس فى التوراة التى بأيديهم: هل هى مبدلة، أم التبديل والتحريف وقع فى التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال طرفين، ووسط.
فأفرطت طائفة وزعمت أنها كلها أو أكثرها مبدلة مغيرة. ليست التوراة التى أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، وتعرض هؤلاء لتناقضها وتكذيب بعضها لبعض:
وغلا بعضهم. فجوز الاستجمار بها من البول.
وقابلهم طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام، فقالوا: بل التبديل وقع فى التأويل، لا فى التنزيل.(2/351)
وهذا مذهب أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى.(2/352)
قال فى صحيحه: "يحرفون: يزيلون. وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى ولكنهم يحرفونه: يتأولونه على غير تأويله".
وهذا اختيار الرازى فى تفسيره.
وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع فى هذه المسألة بين بعض الفضلاء. فاختار هذا المذهب ووهن غيره، فأنكر عليه، فأحضر لهم خمسة عشر نقلا به.
ومن حجة هؤلاء: أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبا وشمالا. ولا يعلم عدد نسخها إلا الله تعالى. ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير فى جميع تلك النسخ. بحيث لا يبقى فى الأرض نسخة إلا مبدلة مغيرة. والتغيير على منهاج واحد. وهذا مما يحيله العقل، ويشهد ببطلان.
قالوا: وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم محتجا على اليهود بها: {قُلْ فَائْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] .
قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة، ولهذا لما قرؤوها على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وضع القارئ يده على آية الرجم. فقال له عبد الله بن سلام:
"ارْفَعْ يَدَكَ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ".
فرفعها فإذا هى تلوح تحتها. فلو كانوا قد بدلوا ألفاظ التوراة لكان هذا من أهم ما يبدلونه.
قالوا: وكذلك صفات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومخرجه هو فى التوراة بين جدا. ولم(2/353)
يمكنهم إزالته وتغييره. وإنما ذمهم الله تعالى بكتمانهم. وكانوا إذا احتج عليهم بما فى التوراة من نعته وصفته يقولون: ليس هو، ونحن ننتظره.
قالوا: وقد روى أبو داود فى سننه عن ابن عمر رضى الله عنه، قال:
"أَتَى نَفُر مِنَ الْيَهُود. فَدَعَوْا رَسولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وسلَم إلى القُفِّ فأتاهم فى بَيْتِ المِدْرَاسِ، فقَالُوا يا أبا القاسم، إِنَّ رَجُلاً مِنَّا زَنَى بامْرَأةٍ، فَاحْكُمْ، فَوَضَعُوا لِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليهِ وَسلَم وِسَادَةً، فَجِلَسَ عَليهَا ثمَّ قَالَ ائْتُونِى بالتَّوْرَاةِ فأُتِى بها فَنَزَعَ الْوِسَادَهَ مِنْ تحْتِهِ، ووَضَعَ التَّوْرَاةَ عَليهَا ثمَّ قالَ آمَنْتُ بِكِ وَبمَنْ أَنْزَلَكِ قالَ ائْتُونَى بأَعْلَمِكُمْ فأُتِى بِفَتى ثم ذكر قِصَّةَ الرَّجْم".
قالوا: فلو كانت مبدلة مغيرة لم يضعها على الوسادة، ولم يقل: "آمَنْتُ بِكِ وبَمنَ أَنْزَلَكِ".
قالوا وقد قال تعالى: {وَتَّمتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنعام: 115] والتوراة من كلماته.
قالوا: والآثار التى فى كتمان اليهود صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى التوراة ومنعهم أولادهم وعوامهم الاطلاع عليها مشهورة، ومن اطلع عليها منهم، قالوا له ليس به.
فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة.
وتوسطت طائفة ثالثة. وقالوا: قد زيد فيها، وغير ألفاظ يسيرة، ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه. والتبديل فى يسير منها جدا.
وممن اختار هذا القول شيخنا فى كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح".
قال: وهذا كما فى التوراة عندهم: أن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام:(2/354)
"اذبح ولدك بكرك، ووحيدك إسحاق" زيادة منهم فى لفظ التوراة.
قلت: وهى باطلة قطعا من عشرة أوجه.
أحدها: أن بكره ووحيده هو إسماعيل باتفاق الملل الثلاث. فالجمع بين كونه مأمور بذبح بكره وتعيينه بإسحاق جمع بين النقيضين.
الثانى: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها إسماعيل عن سارة، ويسكنها فى برية مكة، لئلا تغير سارة. فأمر بإبعاد السرية وولدها عنها، حفظا لقلبها، ودفعا لأذى الغيرة عنها. فكيف يأمر سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السرية؟ فهذا مما لا تقتضيه الحكمة.
الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعا، ولهذا جعل الله تعالى ذبح الهدايا والقرابين بمكة، تذكيرا للأمة بما كان من قصة أبيهم إبراهيم مع ولده.
الرابع: أن الله سبحانه بشر سارة أم إسحاق: {بِإِسْحقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] . فبشرها بهما جمعيا، فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحق، وقد بشر أبويه بولد ولده؟.
الخامس: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة الذبيح وتسليمه نفسه لله تعالى، وإقدام إبراهيم على ذبحه، وفرغ من قصته، قال بعدها:
{وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحقَ نَبِيا مِنَ الصَّالحِينَ} [الصافات: 112] .
فشكر الله تعالى له استسلامه لأمره، وبذل ولده له، وجعل من إثابته على ذلك: أن آتاه إسحق. فنجى إسماعيل من الذبح، وزاده عليه إسحق.
السادس: أن إبراهيم - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - سأل ربه الولد. فأجاب الله دعاءه، وبشره، فلما بلغ معه السعى أمره بذبحه. قال تعالى:
{وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالحِينَ فَبَشّرْ نَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 99- 101] .(2/355)
فهذا دليل على أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولدا، وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعا بنص القرآن.
وأما إسحق فإنما بشر به من غير دعوة منه، بل على كبر السن، وكون مثله لا يولد له، وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة، ولهذا تعجبت من حصول الولد منها ومنه.
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَما لَبِثَ أنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إٍلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لا تَحَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائمة فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحقَ يَعْقوبِ، قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِى شَيْخاً؟ إنَّ هذَا لَشَئ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 69-73] .
فتأمل سياق هذه البشارة وتلك، تجدهما بشارتين، متفاوتتين، مخرج إحداهما غير مخرج الأخرى.
والبشارة الأولى كانت له. والثانية كانت لها.
والبشارة الأولى هى التى أمر بذبح من بشر به فيها، دون الثانية.
السابع: أن إبراهيم عليه السلام لم يقدم بإسحاق إلى مكة البتة، ولم يفرق بينه وبين أمه. وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن امرأته، فيذبحه بموضع ضرتها فى بلدها، ويدع ابن ضرتها؟.
الثامن: أن الله تعالى لما اتخذ إبراهيم خليلا. والخلة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقا بربه، ليس فيه شعبة لغيره. فلما سأله الولد، وهبه إسماعيل. فتعلق به شعبة من قلبه. فأراد خليله سبحانه أن تكون تلك الشعبة له، ليست لغيره من الخلق. فامتحنه بذبح ولده. فلما أقدم على الامتثال. خلصت له تلك الخلة، وتمحضت لله وحده. فنسخ الأمر بالذبح، لحصول المقصود وهو العزم، وتوطين النفس على الامتثال.
ومن المعلوم: أن هذا إنما يكون فى أول الأولاد، لا فى آخرها. فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يحتج فى الولد الآخر إلى مثله. فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه. كما أمر بذبح الأول. فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره فى الأول(2/356)
على مزاحمة الخلة به مدة طويلة. ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك. وهذا خلاف مقتضى الحكمة فتأمله.
التاسع: أن إبراهيم عليه السلام إنما رزق إسحاق عليه السلام على الكبر، وإسماعيل عليه السلام رزقه فى عنفوانه وقوته. والعادة أن القلب أعلق بأول الأولاد، وهو إليه أميل وله أحب، بخلاف من يرزقه على الكبر. ومحل الولد بعد الكبر كمحل الشهوة للمرأة.
العاشر: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يفتخر بقوله:
"أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ".
يعنى أباه عبد الله، وجده إسماعيل.(2/357)
والمقصود: أن هذه اللفظة مما زادوها فى التوراة.
ونحن نذكر السبب الموجب لتغيير ما غير منها، والحق أحق ما اتبع، فلا تغلوا غلو المستهينين لها، المتمسخرين بها، بل معاذ الله من ذلك.
ولا نقول: إنها باقية كما أنزلت من كل وجه، كالقرآن.
فنقول، وبالله التوفيق:
علماء اليهود وأحبارهم يعتقدون أن هذه التوراة التى بأيديهم ليست هى التى أنزلها الله تعالى على موسى بن عمران بعينها. لأن موسى عليه السلام صان التوراة عن بنى إسرائيل، خوفا من اختلافهم من بعده فى تأويلها، المؤدى إلى تفرقهم أحزابا. وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوى.
ودليل ذلك قوله فى التوراة: "وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى بنى إسرائيل إلى الأئمة من بنى لاوى".
وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخدمة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم. ولم يبذل موسى عليه السلام من التوراة لبنى إسرائيل إلا نصف سورة، وهى التى قال فيها: "وكتب موسى هذه السورة وعلمها بنى إسرائيل".(2/358)
هذا نص التوراة عندهم، قال: "وتكون لى هذه السورة شاهدة على بنى إسرائيل".
وفيها: قال الله تعالى: "إن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم".
يعنى أن هذه السورة مشتملة على ذم طبائعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتخرب ديارهم، ويسبون فى البلاد. فهذه السورة تكون متداولة فى أفواههم. كالشاهد عليهم. الموقف لهم على صحة ما قيل لهم.
فما نصت التوراة أن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم، دل ذلك على أن غيرها من السور ليس كذلك، وأنه يجوز أن ينسى من أفواههم.
وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لم يعط بنى إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة فأما بقيتها فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عمن سواهم.
وهؤلاء الأئمة الهارونيون - الذين كانوا يعرفون التوراة، ويحفظون أكثرها - قتلهم بختنصر على دم واحد، يوم فتح بيت المقدس، ولم يكن حفظ التوراة فرضا عليهم ولا سنة. بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة.
فلما رأى عزرا أن القوم قد أحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرق جمعهم، ورفع كتابهم جمع من محفوظاته، ومن الفصول التى يحفظها الكهنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التى بأيديهم ولذلك بالغوا فى تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة.
فزعموا أن النور الآن يظهر على قبره، وهو عند بطائح العراق. لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم.(2/359)
وغلا بعضهم فيه حتى قال: هو ابن الله. ولذلك نسب الله تعالى ذلك إلى اليهود، إلى جنسهم، لا إلى كل واحد منهم.
فهذه التوراة التى بأيديهم فى الحقيقة كتاب عزرا. وفيها كثير من التوراة التى أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصلاة والسلام. ثم تداولتها أمة قد مزقها الله تعالى كل ممزق، وشتت شملها فلحقها ثلاثة أمور.
أحدها: بعض الزيادة والنقصان.
الثانى: اختلاف الترجمة.(2/360)
الثالث: اختلاف التأويل والتفسير.
ونحن نذكر من ذلك أمثلة تبين حقيقة الحال.
المثال الأول:
نص ما تقدم من قوله "ولحم فريسة فى الصحراء لا تأكلوه، وللكلب ألقوه".
وتقدم بيان تحريفهم هذا النص وحمله على غير محمله.
المثال الثاني:
قوله فى التوراة "نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك، به فليؤمنوا".
فحرفوا تأويله، إذ لم يمكنهم أن يبدلوا تنزيله، وقالوا: هذه بشارة بنبى من بنى إسرائيل. وهذا باطل من وجوه.
أحدها: أنه لو أراد ذلك لقال "من أنفسهم" كما قال فى حق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكَمْ} [التوبة: 128] ولم يقل من إخوتكم.
الثانى: أن المعهود فى التوراة: أن إخوتهم غير بنى إسرائيل.
ففى الجزء الأول من السفر الخامس قوله "أنتم عابرون فى تخوم إخوتكم بنى العيص المقدس فى سيعير، إياكم أن تطمعوا فى شيء من أرضهم".
فإذا كان بنو العيص إخوة لبنى إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق. والروم هم بنو العيص، واليهود بنو إسرائيل، وهم إخوتهم. فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم.(2/361)
الثالث: أن هذه البشارة لو كانت بشمويل أو غيره من بنى إسرائيل، لم يصح أن يقال: بنو إسرائيل إخوة بنى إسرائيل. وإنما المفهوم من هذا: أن بنى إسماعيل أو بنى العيص هم إخوة بنى إسرائيل.
الرابع: أنه قال: "سأقيم لهم نبيا مثلك" وفى موضع آخر "أنزل عليه التوراة مثل توراة موسى".
ومعلوم أن شمويل وغيره من أنبياء بنى إسرائيل لم يكن فيهم مثل موسى، لا سيما وفى التوراة "لا يقوم فى بنى إسرائيل مثل موسى".
وأيضا فليس فى بنى إسرائيل من أنزل عليه توراة مثل توراة موسى إلا محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام. والمسيح كان من أنفس بنى إسرائيل، لا من إخوتهم، بخلاف محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فإنه من إخوتهم بنى إسماعيل.
وأيضا. فإن فى بعض ألفاظ هذا النص "كلكم له تسمعون" وشمويل لم يأت بزيادة ولا بنسخ، لأنه إنما أرسل ليقوى أيديهم على أهل فلسطين، وليردهم إلى شرع التوراة. فلم يأت بشريعة جديدة، ولا كتاب جديد. وإنما حكمه حكم سائر الأنبياء من بنى إسرائيل. فإنهم كانوا يسوسهم الأنبياء. كلما هلك نبى قام فيهم نبى.
فإن كانت هذه البشارة لشمويل، فهى بشارة بسائر الأنبياء الذين بعثوا فيهم. ويكونون كلهم مثل موسى عليه السلام، وكلهم قد أنزل عليهم كتاب مثل كتاب موسى عليه السلام.(2/362)
المثال الثالث:
قوله فى التوراة "جاء الله تعالى من طور سيناء، وأشرق نوره من سيعير، واستعلن من جبال فاران، ومعه ربوات المقدسين".
وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبل السراة، الذى يسكنه بنو العيص، الذين آمنوا بعيسى. ويعلمون أن فى هذا الجبل كان مقام المسيح. ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور.
وأما جبال فاران فهم يحملونها على جبال الشام. وهذا من بهتهم، وتحريف التأويل.
فإن جبال فاران هى جبال مكة و"فاران" اسم من أسماء مكة. وقد دل على هذا نص التوراة: أن إسماعيل لما فارق أباه سكن برية فاران، وهى جبال مكة. ولفظ التوراة "أن إسماعيل أقام فى برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر".
فثبت بنص التوراة أن جبال فاران مسكن لولد إسماعيل، وإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوة تنزل على جبال فاران، لزم أنها تنزل على ولد إسماعيل لأنهم سكانها.
ومن المعلوم بالضرورة أنها لم تنزل على غير محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام.
وهذا من أظهر الأمور بحمد الله تعالى.(2/363)
فصل
ومما يدل على غلظ أفهام هذه الأمة الغضبية وقلة فقههم، وفساد رأيهم وعقولهم كما فى التوراة "أنهم شعب عادم الرأى. فليس فيهم فطانة": أنهم سمعوا فى التوراة "يكون ثمار أرضك تحمل إلى بيت الله ربك، ولا ينضج الجدى بلبن أمه".
والمراد بذلك: أنهم أمروا عقيب افتراض الحج إلى بيت المقدس عليهم: أن يستصحبوا معهم إذا حجوا أبكار أغنامهم، وأبكار مستغلات أرضهم، لأنه كان فرض عليهم قبل ذلك أن تبقى سخولة الغنم والبقر وراء أمها سبعة أيام، وفى اليوم الثامن فصاعدا يصلح أن تكون قربانا. فأشار فى هذا النص بقوله "لا ينضج الجدى بلبن أمه" إلى أنهم لا يبالغون فى إطالة مكث باكور أولاد البقر والغنم وراء أمها، بل يستصحبون أبكارهم اللاتى قد عبرت سبعة أيام منذ ميلادهن معهم إذا حجوا إلى بيت المقدس، ليتخذوا منها القرابين.
فتوهم المشايخ البله أن الشرع يريد بالإنضاج إنضاج الطبيخ فى القدر، وأنهم نهوا أن يطبخوا لحم الجدى باللبن.
ولم يكفهم هذا الغلط فى تفسير هذه اللفظة حتى حرموا أكل سائر اللحمان باللبن فألغوا لفظ "الجدى" وألغوا لفظ "أمه" وحملوا النص ما لا يحتمله، وإذا أرادوا أن يأكلوا اللحم واللبن أكلوا كلا منهما على حدة. والأمر فى هذا ونحوه قريب.(2/364)
فصل
ولا يستبعد اصطلاح كافة هذه الأمة على المحال، واتفاقهم على أنواع الضلال.
فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها وأخذها، انطمست معالم دينها واندرست آثارها.
فإن الدولة إنما يكون زوالها بتتابع الغارات والمصافات، وإخراب البلاد وإحراقها، لا تزال هذه الأمور متواترة عليها إلى أن يعود علمها جهلا، وعزها ذلا، وكثرتها قلة.
وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالذل والصغار، كان حظها من اندراس معالم دينها وآثارها أوفر.
وهذه الأمة أوفر الأمم حظا من هذا الأمر، لأنها من أقدم الأمم، ولكثرة الأمم التى استولت عليها: من الكلدانيين، والبانليين، والفرس، واليونان، والنصارى وآخر ذلك المسلمون.
وما من هذه الأمم إلا من طلب استئصالهم، وبالغ فى إحراق بلادهم وكتبهم، وقطع آثارهم إلا المسلمين، فإنهم أعدل الأمم فيهم، وفى غيرهم، حفظا لوصية الله تعالى بهم حيث قال:
{يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بَما تَعْملُونَ خَبِيراً} [النساء: 135] ويقول: {يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] .
وصادف الإسلام هذه الأمة تحت ذمة الفرس، وذمة النصارى، بحيث لم يبق لهم مدينه ولا جيش.
وأعز ما صادفه الإسلام من هذه الأمة يهود خيبر والمدينة وما جاورها.(2/365)
فإنهم إنما قصدوا تلك الناحية لما كانوا وعدوا به من ظهور رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وكانوا يقاتلون المشركين من العرب، فيستنصرون عليهم بالإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبل ظهوره، ويعدونهم بأنه سيخرج نبى نتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله تعالى وآله وسلم سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب، فحملهم الحسد والبغى على الكفر به وتكذيبه.
وأشد ما على هذه الأمة الغضبية من ذلك ما نالهم من ملوك العصاة وغيرهم من ملوك، الإسرائيلين الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا فى تطلبهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنتها ليعلموا رسومها فى العبادة، وبنوا لها البيع والهياكل، وعكفوا على عبادتها وتركوا أحكام التوراة أعصارا متصلة.
فإذا كان هذا تواتر الآفات على دينهم من قبل ملوكهم ومن قبل أنفسهم، فما الظن بالآفات التى نالتهم من غير ملوكهم، وقتلهم أئمتهم، وإحراقهم كتبهم، ومنعهم من القيام بدينهم؟.
فإن الفرس كثيرا ما منعوهم عن الختان. وكثيرا ما منعوهم من الصلاة، لمعرفتهم بأن معظم صلاة هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار، وعلى العالم بالخراب [سوى بلادهم التى(2/366)
هى أرض كنعان] .
فلما رأت هذه الأمة الجِدَّ من الفرس فى منعهم من الصلاة، اخترعوا أدعية [زعموا أنها فصول من صلاتهم] سموها الحزانة، وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون فى أوقات صلاتهم على تلحينها وتلاوتها. وسموا القائم بها الحزان.
والفرق بينها وبين الصلاة: أن الصلاة بغير لحن، والمصلى يتلو الصلاة وحده، ولا يجهر معه غيره. والحزَّان يشاركه غيره فى الجهر بالحزانة، ويعاونونه فى الألحان.
فكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم، قالت اليهود: إنا ننعى أحيانا، وننوح على أنفسنا. فيتركونهم وذلك.
فلما قام الإسلام وأقرهم على صلاتهم استصحبوا تلك الحزانة، ولم يعطلوها.
فهذه فصول مختصرة فى كيد الشيطان وتلاعبه بهذه الأمة، يعرف بها المسلم الحنيف قدر نعمة الله تعالى عز وجل عليه، وما من به عليه من نعمة العلم والإيمان، ويهتدى بها من أراد الله تعالى هدايته من طالبى الحق من هذه الأمة.
ومن الله التوفيق والإرشاد إلى سواء الطريق. والحمد لله رب العالمين.(2/367)