ثمَّ الرضَاعَة الْمُحرمَة لَهَا أَرْكَان مِنْهَا الْمُرضعَة وَلها ثَلَاث شُرُوط
الأول كَونهَا امْرَأَة فلبن الْبَهِيمَة لَا يتَعَلَّق بِهِ تَحْرِيم فَلَو شربه صغيران لم يثبت بَينهمَا أخوة وَكَذَا لبن الرجل لَا يحرم على الصَّحِيح
الشَّرْط الثَّانِي كَونهَا حَيَّة فَلَو ارتضع صَغِير من ميتَة أَو حلب مِنْهَا لم يتَعَلَّق بِهِ التَّحْرِيم مَا لَا يثبت حكم الْمُصَاهَرَة بِوَطْء الْميتَة وَلَو حلب لبن حَيَّة ثمَّ أوجر الصَّبِي بعد مَوتهَا حرم على الصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي
الشَّرْط الثَّالِث كَونهَا مُحْتَملَة للولادة فَلَو ظهر لصغيرة دون تسع سِنِين لبن لم يحرم وَإِن كَانَت بنت تسع سِنِين حرم وَإِن لم يحكم بِالْبُلُوغِ لِأَن احْتِمَال الْبلُوغ قَائِم وَالرّضَاع كالنسب فَيَكْفِي فِيهِ الِاحْتِمَال وَلَا فرق فِي الْمُرضعَة بَين كَونهَا مُزَوّجَة أم لَا وَلَا بَين كَونهَا بكرا أم لَا وَقيل لَا يحرم لبن الْبكر وَالصَّحِيح أَنه يحرم وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَمِنْهَا أَي من أَرْكَان الرَّضَاع اللَّبن وَلَا يشْتَرط لثُبُوت التَّحْرِيم بَقَاء اللَّبن على هَيْئَة حَالَة انْفِصَاله عَن الثدي فَلَو تغير بحموضة أَو انْعِقَاد أَو أغلاه أَو صَار جبنا أَو أقطا أَو زبداً أَو مخيضاً وَأطْعم الصَّبِي حرم لحُصُول اللَّبن إِلَى الْجوف وَحُصُول التغذية بِهِ وَلَو خلط بِغَيْرِهِ نظر إِن كَانَ اللَّبن غَالِبا تعلّقت الْحُرْمَة بالمخلوط وَيشْتَرط أَن يكون اللَّبن قدرا يسْقِي مِنْهُ الْوَلَد خمس رَضعَات على الْمَذْهَب وَمِنْهَا أَي من الْأَركان المخل وَهِي معدة الصَّبِي الْحَيّ وَمَا فِي معنى الْعدة فَهَذِهِ ثَلَاثَة قيود الأول الْمعدة فالوصول إِلَيْهَا يثبت التَّحْرِيم سَوَاء ارتضع الطِّفْل أَو حلب أَو أوجر أَو صب فِي أَنفه فوصل إِلَى جَوْفه ودماغه حرم على الْمَذْهَب بِخِلَاف مَا إِذا احتقن بِهِ أَو كَانَ فِي بَطْنه جِرَاحَة فصب فِيهَا فوصل إِلَى الْجوف لم يثبت التَّحْرِيم على الْأَظْهر وَلَو ارتضع وتقيأ فِي الْحَال ثَبت التَّحْرِيم على الصَّحِيح الْقَيْد الثَّانِي كَون الصَّغِير دون الْحَوْلَيْنِ فَإِن بلغ سنتَيْن فَلَا أثر لارتضاعه ويعتبران بِالْأَهِلَّةِ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا رضَاع إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَفِي رِوَايَة لَا يحرم من الرَّضَاع إِلَّا مَا فتق الأمعاء فِي الثدي وَكَانَ قبل الْفِطَام الْقَيْد الثَّالِث حَيَاة الرَّضِيع فَلَا أثر للوصول إِلَى معدة الصَّغِير الْمَيِّت ثمَّ شَرط الرضَاعَة الْمُحرمَة خمس رَضعَات هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَقيل يثبت برضعة وَاحِدَة وَقيل بِثَلَاث وَبِه قَالَ ابْن الْمُنْذر وَجَمَاعَة وَحجَّة الصَّحِيح قَول عَائِشَة(1/435)
رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ فِيمَا أنزل الله تَعَالَى من الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات يحرمن ثمَّ نسخن بِخمْس مَعْلُومَات فَتوفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهن فِيمَا يقْرَأ من الْقُرْآن وَفِي رِوَايَة لَا تحرم المصة وَلَا المصتان 2 وَلَا الرضعة وَلَا الرضعتان ثمَّ شَرط الرضعات أَن يكن متفرقات وَالرُّجُوع فِي الرضعة والرضعتين إِلَى الْعرف فَمَتَى تخَلّل فصل كثير تعدّدت الرضعات فَلَو رضع ثمَّ قطع إعْرَاضًا واشتغل بِشَيْء آخر ثمَّ عَاد وارتضع فهما رضعتان وَلَو قطعت الْمُرضعَة رضاعه ثمَّ عَادَتْ إِلَى الارضاع فهما رضعتان على الْأَصَح كَمَا لَو قطع الصَّبِي وَلَا يحصل التَّعَدُّد بِأَن يلفظ الصَّغِير الثدي ثمَّ يعود إِلَى التقامه فِي الْحَال وَلَا بِأَن يتَحَوَّل من ثدي إِلَى آخر أَو تحوله الْمُرضعَة لنفاد مَا فِي الأول وَلَا بِأَن يلهو عَن الامتصاص وَلَا بِأَن يقطع للتنفس وَلَا بتخلل النومة الْخَفِيفَة وَلَا بِأَن تقوم الْمُرضعَة وتشتغل بشغل خَفِيف ثمَّ تعود إِلَى الْإِرْضَاع فَكل ذَلِك رضعة وَاحِدَة وَالله أعلم
(فرع) أرضعت صَغِيرا وَشَكتْ هَل أَرْضَعَتْه خمْسا أم أقل وَهل وصل اللَّبن إِلَى جَوْفه أم لَا فَلَا تَحْرِيم وَلَا يخفى الْوَرع وَلَو تحققت أَنَّهَا أَرْضَعَتْه خمْسا وَلَكِن شكت هَل هِيَ فِي الْحَوْلَيْنِ أم بَعْضهَا فَلَا تَحْرِيم أَيْضا على الرَّاجِح وَالله أعلم قَالَ
(وَيصير زَوجهَا أَبَا لَهُ)
هَذَا مَعْطُوف على قَوْله صَار الرَّضِيع وَلَدهَا فَإِذا حذف المتخلل بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ يبْقى الْكَلَام صَار الرَّضِيع وَلَدهَا وَيصير زَوجهَا أَبَا لَهُ وَحجَّة ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن أَفْلح أَخا أبي القعيس اسْتَأْذن عَليّ بعد مَا أنزل الْحجاب فَقلت وَالله مَا آذن لَهُ حَتَّى اسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن أَخا أبي القعيس لَيْسَ هُوَ أرضعني إِنَّمَا أرضعتني امْرَأَة أبي القعيس فَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت يَا رَسُول الله إِن الرجل لَيْسَ هُوَ أرضعني وَإِنَّمَا أرضعتني امْرَأَته فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ائذني لَهُ فَإِنَّهُ عمك تربت يَمِينك قَالَ عُرْوَة فَلذَلِك كَانَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تَقول حرمُوا من الرضَاعَة مَا يحرم من النّسَب وَأَبُو القعيس زوج أمهَا من الرضَاعَة فَهُوَ أَبوهَا لِأَن اللَّبن لَهُ وأفلح أَخُوهُ فَهُوَ عَمها وَقَوْلها إِنَّمَا أرضعتني امْرَأَته الضَّمِير رَاجع إِلَى أخي أَفْلح وَفِي رِوَايَة إِن الرضَاعَة تحرم مَا تحرم الْولادَة وَفِي رِوَايَة يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم(1/436)
من الْولادَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تربت يَمِينك فِي معنى ذَلِك خلاف منتشر جدا للسلف وَالْخلف من جَمِيع الطوائف قَالَ النَّوَوِيّ وَالأَصَح الْأَقْوَى الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهَا كلمة أَصْلهَا افْتَقَرت يَمِينك وَلَكِن الْعَرَب اعتادت اسْتِعْمَالهَا غير قاصدة حَقِيقَة مَعْنَاهَا الْأَصْلِيّ مثل قَاتله الله مَا أشجعه وَلَا أم لَهُ وَلَا أَبَا لَهُ وويل أمه وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَيحرم على الْمُرْضع التَّزْوِيج إِلَى من ناسبها وَيحرم عَلَيْهَا التَّزْوِيج إِلَى الْمُرْضع وَولده دون من كَانَ فِي دَرَجَته أَو أَعلَى طبقَة مِنْهُ)
الْكَلَام الْآن فِيمَن يحرم بِالرّضَاعِ وَلَا شكّ أَن قطب ذَلِك الرَّضِيع والمرضع وَكَذَا الْفَحْل الَّذِي لَهُ اللَّبن ثمَّ تَنْتَشِر الْحُرْمَة مِنْهُم إِلَى غَيرهم فَيحرم على الْمُرْضع بِفَتْح الضَّاد أَن يتَزَوَّج بِمن ناسب الْمُرضعَة أَي من انتسب إِلَيْهَا بِالنّسَبِ أَو بِالرّضَاعِ وَولده وَإِن سفل وَمن انتسب إِلَيْهِ وَإِن علا لِأَن الرَّضِيع وَولده وَإِن سفل أبناؤها إِمَّا على سَبِيل الْحَقِيقَة أَو الْمجَاز كأبناء النّسَب وَإِذا صدقت النِّسْبَة حرم على الشَّخْص أَن يتَزَوَّج أُخْته أَو بنت أُخْته أَو بنت أَخِيه وَإِن نزلت وَكَذَا يحرم عَلَيْهِ أَن يتَزَوَّج أم أمه وَأم أَبِيه من الرَّضَاع وَإِن علت لِأَنَّهُمَا أما أمه وَأَبِيهِ حَقِيقَة أَو مجَازًا وَنِكَاح تِلْكَ حرَام وَإِن علت فِي الرَّضَاع كالنسب وَكَذَا يحرم عَلَيْهَا أَن تتَزَوَّج بالمرضع أَي بالرضيع وبولده وَإِن سفل لِأَنَّهَا أمّهم وَإِن سفلوا دون من فِي دَرَجَته لِأَن أخوة الرَّضِيع إِذا لم يرضعوا فهم أجانب مِنْهَا وَكَذَا لَا يحرم من هُوَ أَعلَى من فِي دَرَجَة الرَّضِيع كأعمامه وَالْحَاصِل أَن كل مَا حرم من النّسَب حرم بِالرّضَاعِ للأدلة الْمُتَقَدّمَة وَاسْتثنى بَعضهم مسَائِل تحرم فِي النّسَب وَقد لَا تحرم فِي الرَّضَاع فَمنهمْ من صحّح الِاسْتِثْنَاء وَمِنْهُم من مَنعه وعَلى كل حَال فقد ذكرنَا ذَلِك مفصلا فِي فصل والمحرمات بِالنَّصِّ أَربع عشرَة فَرَاجعه وَالله أعلم قَالَ
بَاب النَّفَقَة فصل وَنَفَقَة الْأَهْل وَاجِبَة للْوَالِدين والمولودين فَأَما الوالدون فَتجب نَفَقَتهم بِشَرْطَيْنِ الْفقر والزمانة والفقر وَالْجُنُون وَأما المولودون فَتجب نَفَقَتهم بِشُرُوط الْفقر والصغر والفقر والزمانة والفق وَالْجُنُون
النَّفَقَة مَأْخُوذَة من الْإِنْفَاق والإخراج ويوجبها ثَلَاثَة أَسبَاب الْقَرَابَة وَالْملك والزوجية أما السببان الأخيران فيوجبان للمملوك على الْمَالِك وللزوجة على الزَّوْج وَلَا عكس وَأما السَّبَب الأول(1/437)
وَهُوَ الْقَرَابَة فَيُوجب لكل مِنْهُم على الآخر لشمُول البعضية والشفقة وَلِهَذَا إِنَّمَا تجب بِقرَابَة البعضية وَهِي الْأُصُول وَالْفُرُوع فَيجب للوالد على الْوَلَد وَإِن علا وللولد على الْوَالِد وَإِن سفل لصدق الْأُبُوَّة والبنوة وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث وَلَا بَين الْوَارِث وَغَيره وَلَا فرق بَين اتِّفَاق الدّين وَالِاخْتِلَاف فِيهِ وَفِي وَجه لَا تجب على مُسلم نفقه كَافِر وَالدَّلِيل على وجوب الانفاق لى الْوَالِدين قَوْله تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} وَقَوله تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أطيب مَا يَأْكُل الرجل من كَسبه وَولده من كَسبه يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} يَعْنِي وَلَده وَقد رُوِيَ إِن أَوْلَادكُم هبة من الله وَأَمْوَالهمْ لكم إِذا احتجتم إِلَيْهَا والأجداد والجدات ملحقون بالأبوين إِن لم يدخلُوا فِي عُمُوم الْأُبُوَّة كَمَا ألْحقُوا بهما فِي الْعتْق وَسُقُوط الْقصاص وَغَيرهمَا لوُجُود البعضية
وَإِنَّمَا تجب نَفَقَة الْوَالِدين بِشُرُوط مِنْهَا يسَار الْوَلَد والموسر من فضل عَن قوته وقوت عِيَاله فِي يَوْمه وَلَيْلَته مَا يصرفهُ إِلَيْهِمَا فَإِن لم يفضل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ لاعساره وَيُبَاع فِي نَفَقَة الْقَرِيب مَا يُبَاع فِي الدّين من الْعقار وَغَيره لِأَنَّهَا حق مَالِي لَا بدل لَهُ فَأشبه الدّين وَلَو كَانَ الْوَلَد لَا مَال لَهُ إِلَّا أَنه يقدر على الِاكْتِسَاب وَيحصل مَا يفضل عَن كِفَايَته فَهَل يُكَلف الْكسْب فِي خلاف قيل لَا كَمَا لَا يُكَلف الْكسْب لقَضَاء الدُّيُون وَالصَّحِيح أَنه يُكَلف وَبِه قطع الْجُمْهُور لِأَنَّهُ يلْزمه إحْيَاء نَفسه بِالْكَسْبِ وَمِنْهَا أَي من الشُّرُوط أَن لَا يكون لَهما مَال فَإِن كَانَ ويكفيهما فَلَا تجب سَوَاء كَانَا زمنين أَو مجنونين أَو بهما مرض وعمى أم لَا لعدم الْحَاجة وَمِنْهَا أَن لَا يَكُونَا مكتسبين فَإِن كَانَا مكتسبين لم تجب نفقتهما لِأَن الِاكْتِسَاب بِمَنْزِلَة المَال العتيد فَلَو كَانَا صَحِيحَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا غير مكتسبين فَهَل يكلفان الْكسْب فِيهِ قَولَانِ أصَحهمَا فِي التَّنْبِيه لَا تجب للقدرة على الْكسْب
وَالثَّانِي أَنَّهَا تجب لقَوْله تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} وَلَيْسَ من المصاحبة بِالْمَعْرُوفِ تكليفهما الْكسْب وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَمِنْهُم من قطع بِهِ فَإِن فقدت هَذِه الشُّرُوط وَكَانَا فقيرين زمنين أَو مجنونين أَو بهما عجز من مرض أَو عمى كَمَا قَالَه الْبَغَوِيّ وَجَبت نفقتهما لتحَقّق الْحَاجة وَالله أعلم(1/438)
(فرع حسن) لَو كَانَت الْأُم تقدر على النِّكَاح لِكَثْرَة الطلاب فَلَا تسْقط نَفَقَتهَا عَن الابْن فَلَو تزوجت سَقَطت فَلَو نشزت لم يلْزم الْوَلَد نَفَقَتهَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم وَأما الدَّلِيل على وجوب نَفَقَة المولودين وَإِن سفلوا ذُكُورا كَانُوا أَو إِنَاثًا فَقَوله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَوله تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَقَوله تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} الْآيَة وَفِي السّنة الشَّرِيفَة جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِن معي دِينَار فَقَالَ أنفقهُ على نَفسك فَقَالَ معي آخر قَالَ أنفقهُ على ولدك وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لزوجة أبي سُفْيَان فِي الحَدِيث الْمَشْهُور خذي من مَاله مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ وَيَكْفِي بنيك وَإِنَّمَا تجب النَّفَقَة لَهُم بِشُرُوط مِنْهَا يسَار الْوَالِدين كَمَا مر فِي حق الْوَلَد فَإِن لم يكن لَهما مَال وَلَكِن كَانَا ذَا كسب لَائِق بهما فَهَل يجب عَلَيْهِمَا أَن يكتسبا لنفقة الْوَلَد فِيهِ خلاف الصَّحِيح تجب وَبِه قطع الْأَكْثَرُونَ وَالثَّانِي لَا تجب وَمِنْهَا أَن لَا يكون للْوَلَد مَال وَلَا كسب فَإِن كَانَ لم تجب لعدم حَاجته سَوَاء كَانَ الْوَلَد زَمنا أَو مَجْنُونا أَو مَرِيضا أَو بِهِ عمى فَإِن كَانَ الْوَلَد أَو الْأَوْلَاد فُقَرَاء زمنين أَو فُقَرَاء مجانين أَو فُقَرَاء أطفالاً لَا يتهيأ مِنْهُم الْعَمَل وَجَبت نَفَقَتهم للآيات الدَّالَّة على ذَلِك ولعجزهم وَأوجب أَبُو ثَوْر نَفَقَتهم مَعَ الْيَسَار فَلَو كَانَت الْأَوْلَاد أصحاء إِلَّا أَنهم غير مكتسبين بِأَيْدِيهِم فَهَل تجب نَفَقَتهم وَالْحَالة هَذِه فِي خلاف وَالْأَحْسَن عِنْد الرَّافِعِيّ تجب كَمَا تجب للْأَب وَالْحَالة هَذِه وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيح عدم الْوُجُوب لِأَن الطِّفْل مَحل النَّص وَالصَّحِيح المتمكن من الْحِيلَة والتكسب لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يلْحق بِهِ بِخِلَاف الزَّمن وَالْمَجْنُون وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ للِابْن مَال غَائِب لزم الْوَالِد أَن ينْفق عَلَيْهِ قرضا مَوْقُوفا فَإِن قدم مَاله رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا أنْفق وَإِن لم يَأْذَن الْحَاكِم إِذا قصد الرُّجُوع وَإِن هلك المَال لم يرجع بِمَا أنْفق من حِين التّلف قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم وَاعْلَم أَنه يُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَن غير الأَصْل وَالْفُرُوع لَا تجب نَفَقَتهم وَهُوَ كَذَلِك وَقَالَ أَبُو ثَوْر يلْزم الْوَارِث النَّفَقَة لقَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَن النَّفَقَة لَو كَانَت على الْوَارِث للَزِمَ الْأَب ثلثا النَّفَقَة وَالأُم ثلثهَا وَلَيْسَ كَذَلِك وَالله أعلم(1/439)
(فرع) نَفَقَة الْقَرِيب لَا تقدر بل هِيَ بِقدر الْكِفَايَة وتختلف بِالْكبرِ والصغر والزهادة وَالرَّغْبَة لِأَنَّهَا لتجزية الْوَقْت وَلَا يشْتَرط انْتِهَاء الْمُنفق عَلَيْهِ إِلَى حد الضَّرُورَة وَيُعْطِيه مَا يسْتَقلّ بِهِ دون مَا يسد الرمق وَتجب لَهُ الْكسْوَة وَالسُّكْنَى وَلَو احْتَاجَ إِلَى خَادِم وَجب وَلَو اندفعت هَذِه الْأُمُور بضيافة وتبرع سَقَطت وَلَا يجب عَلَيْهِ بدلهَا فَلَو سلم النَّفَقَة إِلَى الْقَرِيب فَتلفت فِي يَده أَو أتلفهَا وَجب الْإِبْدَال لَكِن إِذا أتلفهَا لزمَه الْإِبْدَال إِذا أيسر فَلَو ترك الْإِنْفَاق على قَرِيبه حَتَّى مضى زمَان لم تصر دينا سَوَاء تعدى أم لَا لِأَنَّهَا شرعت على سَبِيل الْمُوَاسَاة بِخِلَاف نَفَقَة الزَّوْجَة لِأَنَّهَا عوض وَالله أعلم قَالَ
(وَنَفَقَة الرَّقِيق والبهائم وَاجِبَة بِقدر الْكِفَايَة وَلَا يُكَلف من الْعَمَل مَالا يُطيق)
هَذَا هُوَ السَّبَب الثَّانِي مِمَّا يُوجب النَّفَقَة وَهُوَ ملك الْيَمين فَمن ملك عبدا أَو أمة لزمَه نَفَقَة رَقِيقه قوتاً وأدماً وَكِسْوَة وَسَائِر الْمُؤَن سَوَاء كَانَ قِنَا أَو مُدبرا أَو أم ولد وَسُوء كَانَ صَغِيرا أَو كَبِيرا وَسَوَاء كَانَ زَمنا أَو أعمى أَو سليما وَسَوَاء كَانَ مَرْهُونا أَو مُسْتَأْجرًا أَو غير ذَلِك لوُجُود السَّبَب الْمُوجب لذَلِك وَهُوَ ملك الْيَمين وروى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للمملوك طَعَامه وَكسوته وَلَا يُكَلف من الْعَمَل إِلَّا مَا يُطيق وَفِي رِوَايَة كفى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَن يحبس عَمَّن يملكهُ قوته وَلِأَن السَّيِّد يملك كَسبه وتصرفه فَلَزِمته مُؤْنَته وَقد اتّفق الْعلمَاء على ذَلِك فَيلْزمهُ إطعامه ومؤنته بِقدر الْكِفَايَة وَيعْتَبر فِي ذَلِك رغبته وزهادته وَلَا يُكَلف من الْعَمَل مَالا يُطيق وَإِذا اسْتَعْملهُ لَيْلًا أراحه نَهَارا وَبِالْعَكْسِ ويريحه فِي الصَّيف فِي وَقت القيلولة وَمَا خفف عَنهُ فَلهُ أجره فَفِي الحَدِيث مَا خففت عَن خادمك من عمله كَانَ لَك أجر فِي موازينك وعَلى الْمَمْلُوك ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى بذل المجهود وَترك الكسل وَالله أعلم
وكما يجب عَلَيْهِ مُؤنَة مَمْلُوكه كَذَا يجب عَلَيْهِ نَفَقَة دَابَّته سَوَاء فِي ذَلِك الْعلف والسقي نعم يقوم مقَام ذَلِك أَن يخليها لترعى وَترد المَاء إِن كَانَت مِمَّن ترعى وتكتفي بذلك لخصب الأَرْض وَنَحْوه وَلم يكن مَانع من ثلج وَغَيره فَإِن امْتنع من ذَلِك أجْبرهُ الْحَاكِم عَلَيْهِ وأثم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ عذبت امْرَأَة فِي هرة حبستها حَتَّى مَاتَت فَدخلت فِيهَا النَّار لَا هِيَ أطعمتها وسقتها إِذْ هِيَ حبستها وَلَا هِيَ تركتهَا تَأْكُل من خشَاش الأَرْض قَالَ والخشاش الحشرات(1/440)
وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَائِط رجل من الْأَنْصَار والحائط الْبُسْتَان فَإِذا فِيهِ جمل فَلَمَّا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذرفت عَيناهُ فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمسح عَلَيْهِ فسكن ثمَّ قَالَ من رب هَذَا الْجمل فجَاء فَتى من الْأَنْصَار فَقَالَ هُوَ لي يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْك فَقَالَ أَلا تتقي الله فِي هَذِه الْبَهِيمَة الَّتِي ملكك الله إِيَّاهَا فَإِنَّهَا تَشْكُو إِلَيّ أَنَّك تجيعه وتدأبه وَفِي رِوَايَة أَن الْجمل حن إِلَيْهِ وَلِأَن الدَّابَّة ذَات روح فَأَشْبَهت الْمَمْلُوك وَلَا يكلفها من الْعَمَل إِلَّا مَا تطِيق كالرقيق وَالله أعلم
(فرع) الدَّابَّة اللَّبُون لَا يجوز نزف لَبنهَا بِحَيْثُ يضر وَلَدهَا وَإِنَّمَا يحلب مَا فضل عَن ري وَلَدهَا قَالَ الْمُتَوَلِي وَلَا يجوز الْحَلب إِذا كَانَ يضر الْبَهِيمَة لقلَّة الْعلف وَيسْتَحب أَن لَا يستقصى فِي الْحَلب ويدع فِي الضَّرع شَيْئا وَيسْتَحب أَن يقص الحالب أَظْفَاره لِئَلَّا تؤذيها وَكَذَا أَيْضا يبْقى للنحل شَيْئا من الْعَسَل فِي الكوارة وَالله أعلم قَالَ
(وَنَفَقَة الزَّوْجَة الممكنة من نَفسهَا وَاجِبَة وَهِي مقدرَة إِذا كَانَ الزَّوْج مُوسِرًا فمدان من غَالب قوتها وَمن الْأدم وَالْكِسْوَة مَا جرت بِهِ الْعَادة وَإِن كَانَ مُعسرا فَمد وَمَا يتأدم بِهِ المعسرون ويكتسونه وَإِن كَانَ متوسطاً فَمد وَنصف وَمن الْأدم وَالْكِسْوَة الْوسط)
قد علمت أَن أَسبَاب النَّفَقَة ثَلَاثَة الْقَرَابَة البعضية وَملك الْيَمين وَقد تقدم وَهَذَا هُوَ السَّبَب الثَّالِث وَهُوَ ملك الزَّوْجِيَّة وَلَا شكّ فِي وجوب نَفَقَة الزَّوْجَة وَقد تظاهرت الْأَدِلَّة على ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} والقيم على الْغَيْر هُوَ الْمُتَكَلف بأَمْره وَقَالَ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} والآيات فِي ذَلِك كَثِيرَة وَفِي السّنة الشَّرِيفَة أَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث هِنْد امْرَأَة أبي سُفْيَان لما جَاءَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشَكتْ إِلَيْهِ أمرهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ وَفِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل فَاتَّقُوا الله فِي النِّسَاء فَإِنَّكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله وَلكم عَلَيْهِنَّ أَن لَا يؤطئن فرشكم أحدا تكرهونه فَإِن فعلن ذَلِك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عَلَيْكُم رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ وَقد تركت فِيكُم مَا لن تضلوا بعدة إِن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كتاب الله الحَدِيث بِطُولِهِ وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على وجوب نَفَقَة الزَّوْجَة فِي الْجُمْلَة وَنَفَقَة الزَّوْجَة أَنْوَاع مِنْهَا(1/441)
الطَّعَام وَهُوَ الْحبّ المقتات فِي الْبَلَد غَالِبا وَيخْتَلف الْوَاجِب بإختلاف حَال الزَّوْج فِي الْيَسَار والإعسار وَيَسْتَوِي فِي ذَلِك الْمسلمَة والذمية والحرة وَالْأمة لِأَنَّهُ عوض فعلى الْمُوسر مدان وعَلى الْمُعسر مد وعَلى الْمُتَوَسّط مد وَنصف والأعتبار بِمد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مائَة وَثَلَاثَة وَسَبْعُونَ درهما وَثلث دِرْهَم على مَا صَححهُ الرَّافِعِيّ قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ تَفْرِيع من الرَّافِعِيّ على أَن رَطْل بَغْدَاد مائَة وَثَلَاثُونَ درهما وَالْمُخْتَار أَنه مائَة وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ درهما وَأَرْبَعَة أَسْبَاع دِرْهَم وَالله أعلم
وَدَلِيل التَّفَاوُت قَوْله تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أَي ضيق {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} وَأما اعْتِبَار الْحبّ المقتات فِي الْبَلَد فَلِأَن الله تَعَالَى أوجب النَّفَقَة بِالْمَعْرُوفِ وَمن الْمَعْرُوف أَن يطْعمهَا مِمَّا يَأْكُل أهل الْبَلَد وَأما وجوب الْحبّ دون غَيره من الدَّقِيق وَالْخبْز فبالقياس على الْكَفَّارَة وَسَوَاء فِي ذَلِك الْقَمْح وَالشعِير وَالتَّمْر وَكَذَا الأقط فِي أهل الْبَادِيَة الَّذين يقتاتونه وَلنَا مقَالَة إِن كَانَ الْأَغْلَب فِي بلدهما أم لَا يطحنون بِأَيْدِيهِم لم يفْرض لَهَا إِلَّا الدَّقِيق وَإِن اعتدن الطَّحْن فَلَا بَأْس بِفَرْض الْحِنْطَة وَقيل لأنظر إِلَى الْغَالِب بل إِلَى مَا يَلِيق بِحَال الزَّوْج وَالْمذهب الأول وَيجب لَهَا أُجْرَة الطَّحْن وَالْخبْز وَقيل إِن اعتادت ذَلِك لَزِمَهَا فعله وَإِلَّا فَلَا وَمِنْهَا أَي من الْأَنْوَاع الْوَاجِبَة للزَّوْجَة الْأدم وجنسه غَالب أَدَم الْبَلَد من الزَّيْت وَغَيره وَيخْتَلف باخْتلَاف الْفُصُول وَقد تغلب الْفَوَاكِه فِي أَوْقَاتهَا فَتجب وَيجب أَن يطعهما اللَّحْم وَفِي كَلَام الشَّافِعِي أَنه يطْعمهَا فِي كل أُسْبُوع رَطْل لحم وَهُوَ مَحْمُول على الْمُعسر وعَلى الْمُوسر رطلان وعَلى الْمُتَوَسّط رَطْل وَنصف وَاسْتحبَّ الشَّافِعِي أَن يكون يَوْم الْجُمُعَة فَإِنَّهُ أولى بالتوسع فِيهِ ثمَّ قَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِي هَذَا على عَادَة أهل مصر لعزة اللَّحْم عِنْدهم ذَلِك الْوَقْت وَأما حَيْثُ يكثر اللَّحْم فيزاد بِحَسب عَادَة الْبَلَد وَقَالَ الْقفال وَآخَرُونَ لَا مزِيد على مَا قَالَه الشَّافِعِي فِي جَمِيع الْبِلَاد لِأَن فِيهِ كِفَايَة لمن قنع وَيجب على الزَّوْج آلَات الطَّبْخ وَالشرب كالقدر والجرة والكوز وَنَحْوهَا وَيَكْفِي كَونهَا من خزف أَو حجر أَو خشب والزيادات على ذَلِك من رعونات الْأَنْفس
وَمِنْهَا أَي وَمن الْأَنْوَاع الْوَاجِبَة الإخدام فَمن لَا تخْدم نَفسهَا فِي عَادَة الْبَلَد فعلى الزَّوْج إخداهما على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور لِأَنَّهُ من المعاشرة بِالْمَعْرُوفِ فَإِن قَالَ الزَّوْج أَنا أخدمها بنفسي لم يلْزمهَا ذَلِك لِأَنَّهَا تَسْتَحي مِنْهُ فتمتنع من اسْتِيفَاء الْخدمَة وَلِأَنَّهُ عَار عَلَيْهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل لَهُ ذَلِك
وَمِنْهَا أَي من الْأَنْوَاع الْوَاجِبَة الْكسْوَة وَتجب على قدر الْكِفَايَة وتختلف بطول الْمَرْأَة وقصرها وهزلها وسمنها وباختلاف الْبَلَد فِي الْحر وَالْبرد وَلَا يخْتَلف عدد الْكسْوَة بيسار الزَّوْج وإعساره وَفِي(1/442)
الْحَاوِي للماوردي أَن نسَاء أهل الْقرى إِذا جرت عادتهن أَن لَا يلبسن فِي أرجلهن شَيْئا فِي الْبيُوت لم يجب لأرجلهن شَيْء ثمَّ جنس الْكسْوَة تخْتَلف باخْتلَاف يسَار الزَّوْج وإعساره فَيجب لامْرَأَة الْمُوسر من رفيع مَا يلبس أهل الْبَلَد من قطن أَو كتَّان أَو حَرِير لِأَن الْكسْوَة مقدرَة بالكفاية فَلَا يُمكن فِيهَا الزِّيَادَة فَيرجع إِلَى تفَاوت النَّوْع لِأَنَّهُ الْعرف بِخِلَاف النَّفَقَة وَيجب لامْرَأَة الْمُعسر من غليظ الْقطن والكتنان ولامرأة الْمُتَوَسّط مَا بَينهمَا هَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَقيل ينظر فِي الْكسْوَة إِلَى حَال الزَّوْجَيْنِ فَيلْزمهُ مَا يكسو مثله مثلهَا عَادَة وَقيل يعْتَبر حَال الزَّوْجَة وَالله أعلم
وَقَول الشَّيْخ وَنَفَقَة الزَّوْجَة الممكنة من نَفسهَا احْتَرز بِهِ عَن غير الممكنة وَعدم التَّمْكِين يحصل بِأُمُور مِنْهَا النُّشُوز فَلَا نَفَقَة لناشز وَإِن قدر الزَّوْج على ردهَا إِلَى الطَّاعَة قهرا فَلَو نشزت بعض النَّهَار فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا لَا شَيْء لَهَا
وَالثَّانِي يجب لَهَا بقسط زمن الطَّاعَة قَالَ الرَّافِعِيّ وَالْأول أوفق بِمَا سبق وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ الرَّافِعِيّ إِلَى تَرْجِيحه وَهُوَ عدم الْوُجُوب تبعه النَّوَوِيّ هُنَا ثمَّ رجح فِي آخر النِّكَاح الْقطع بِعَدَمِ الْوُجُوب ذكره فِي أول الْبَاب الْحَادِي عشر من زِيَادَته فَقَالَ قلت الصَّحِيح الْجَزْم فِي الْحرَّة بِأَنَّهُ لَا شَيْء لَهَا فِي هَذِه الْحَالة وَالله أعلم
وَلَا يشْتَرط فِي النُّشُوز الِامْتِنَاع الْكُلِّي بل لَو امْتنعت من الْوَطْء وَحده أَو من بَقِيَّة الاستمتاعات حَتَّى قبْلَة سَقَطت نَفَقَتهَا فَلَو قَالَت سلم الْمهْر لأسلم نَفسِي فَإِن جرى دُخُول أَو كَانَ الْمهْر مُؤَجّلا فَهِيَ ناشز إِذْ لَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاع وَالْحَالة هَذِه لِأَنَّهَا بِالتَّسْلِيمِ أسقطت حَقّهَا من حبس نَفسهَا فَلَو حل الْأَجَل فَهَل هُوَ كالمؤجل أَو كالحال وَجْهَان وَلم يرجح الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ هُنَا شَيْئا وَصحح فِي الرَّوْضَة والمنهاج فِي الصَدَاق تبعا للمحرر عدم الْحَبْس وَنَقله الرَّافِعِيّ فِي الصَدَاق عَن أَكثر الْأَئِمَّة لكنه صحّح فِي الشَّرْح الصَّغِير أَن لَهَا الْحَبْس وعلته أَن لَهَا الْمُطَالبَة بعد الْحُلُول كَمَا فِي الإبتداء لَكِن جزم الرَّافِعِيّ فِي نَظِيره من البيع أَنه لَا حبس للْبَائِع إِذا حل الْأَجَل وَيحْتَاج إِلَى الْفرق نعم لَو كَانَت مَرِيضَة أَو كَانَ بهَا قرح يَضرهَا الْوَطْء فَهِيَ معذورة فِي الِامْتِنَاع عَن الْوَطْء وَعَلِيهِ النَّفَقَة بِشَرْط أَن تكون عِنْده وَكَذَا لَو كَانَ الرجل عبلاً وَهُوَ كَبِير الذّكر بِحَيْثُ لَا تُطِيقهُ فَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاع عَن الزفاف بِعُذْر عبالته وَلها الِامْتِنَاع بِعُذْر الْمَرَض لِأَنَّهُ متوقع الزَّوَال وَلَو قَالَت لَا أمكنه إِلَى فِي بَيْتِي أَو فِي مَوضِع كَذَا فَهِيَ ناشر وهربها من بَيت الزَّوْج وسفرها بِلَا إِذْنه نشوز قَالَ النَّوَوِيّ وَلَو حبست ظلما أَو بِحَق فَلَا نَفَقَة كَمَا لَو وطِئت بِشُبْهَة فاعتدت وَالله أعلم
وَمِنْهَا الصغر فَإِذا كَانَت صَغِيرَة وَهُوَ كَبِير أَو صَغِير فَلَا نَفَقَة لَهَا على الْأَظْهر وَإِن كَانَت كَبِيرَة وَهُوَ صَغِير وَجَبت النَّفَقَة على الْأَظْهر إِذْ لَا عذر مِنْهَا وَمِنْهَا الْعِبَادَات فَإِذا أَحرمت بِحَجّ أَو عمْرَة فَإذْ(1/443)
أَحرمت بِإِذْنِهِ وَخرجت فقد سَافَرت فِي غَرَض نَفسهَا فَإِن سَافر الزَّوْج مَعهَا لم تسْقط نَفَقَتهَا على الْمَذْهَب وَإِلَّا سَقَطت على الْأَظْهر وَإِن أَحرمت بِغَيْر إِذْنه فَلهُ أَن يحللها من حجَّة التَّطَوُّع قطعا وَكَذَا الْفَرْض على الْأَظْهر لِأَن حَقه على الْفَوْر فَإِن لم يحللها فلهَا النَّفَقَة مَا لم تخرج لِأَنَّهَا فِي قَبضته وَهُوَ قَادر على تحليلها والاستمتاع بهَا وَقيل لَا نَفَقَة لِأَنَّهَا ناشز بالاحرام وَلَو صَامت فِي رَمَضَان فَلَا تمنع مِنْهُ وَلَا تسْقط النَّفَقَة بِحَال وَأما قَضَاء رَمَضَان فَإِن تعجل لتعديها بالافطار لم تمنع مِنْهُ وَلَا تسْقط بِهِ النَّفَقَة على الْأَصَح وَفِي جَوَاز إلزامها الْإِفْطَار إِذا شرعت فِيهِ وَجْهَان مخرجان من الْقَوْلَيْنِ فِي التَّحْلِيل من الْحَج فَإِن قُلْنَا لَا يجوز فَفِي سُقُوط النَّفَقَة وَجْهَان صحّح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة السُّقُوط وَأما صَوْم التَّطَوُّع فَلَا تشرع فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِن أذن لم تسْقط نَفَقَتهَا وَإِن شرعت فِيهِ بِغَيْر إِذْنه فَلهُ قطعه فَإِن أفطرت فلهَا النَّفَقَة وَإِن أَبَت فَلَا نَفَقَة على الْأَصَح وَقيل تجب لِأَنَّهَا فِي دَاره وقبضته قلت وَهُوَ قوي لِأَنَّهُ مُتَمَكن من وَطئهَا والاستمتاع بهَا وَإِلَّا فَمَا الْفرق بَين الصَّوْم وَالْحج إِلَّا أَن تفرض الصُّورَة فِي امتناعها من التَّمْكِين وَفِيه نظر لِأَن السُّقُوط وَالْحَالة هَذِه إِنَّمَا هُوَ لأجل عدم التَّمْكِين وَحِينَئِذٍ فَلَا مدْخل للصَّوْم وَالله أعلم
وَلَو كَانَ الصَّوْم نذرا فَإِن كَانَ نذرا مُطلقًا فَللزَّوْج منعهَا مِنْهُ على الصَّحِيح لِأَنَّهُ موسع وَإِن كَانَ أَيَّامًا مُعينَة نظر إِن نذرتها قبل النِّكَاح أَو بعده بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ منعهَا وَإِلَّا فَلهُ وَحَيْثُ قُلْنَا لَهُ الْمَنْع فشرعت فِيهِ وأبت أَن تفطر فكصوم التَّطَوُّع وَأما صَوْم الْكَفَّارَة فَهُوَ على التَّرَاخِي فَللزَّوْج منعهَا وَحَيْثُ قُلْنَا إِن الصَّوْم يسْقط فَهَل يسْقط كل النَّفَقَة أم لَا لتمكنه من الِاسْتِمْتَاع لَيْلًا وَجْهَان صحّح النَّوَوِيّ سُقُوط الْجَمِيع وَالله أعلم قَالَ
(وَإِن أعْسر بنفقتها فلهَا الْفَسْخ وَكَذَا إِن أعْسر بِالصَّدَاقِ قبل الدُّخُول)
إِذا عجز الزَّوْج عَن الْقيام بمؤن الزَّوْجِيَّة الموظفة عَلَيْهِ فَالَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي قَدِيما وجديداً أَنَّهَا بِالْخِيَارِ إِن شَاءَت صبرت وأنفقت من مَالهَا أَو اقترضت وأنفقت على نَفسهَا ونفقتها فِي ذمَّته إِلَى أَن يوسر وَإِن شَاءَت طلبت فسخ النِّكَاح وَقَالَ فِي مَوضِع آخر وَقيل لَا خِيَار لَهَا وللأصحاب خلاف فِي ذَلِك وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَذْهَب أَن لَهَا أَن تفسخ وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد رَضِي الله عَنْهُمَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سُئِلَ عَمَّن يعسر بِنَفَقَة امْرَأَته فَقَالَ يفرق بَينهمَا وَسُئِلَ ابْن الْمسيب عَن ذَلِك فَقَالَ يفرق بَينهمَا فَقيل لَهُ سنة فَقَالَ سنة قَالَ الشَّافِعِي الَّذِي يشبه قَول ابْن الْمسيب أَنه سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/444)
وَأَيْضًا فالجب أَو الْعنَّة يثبت حق الْفَسْخ فالعجز عَن النَّفَقَة أولى لِأَن الصَّبْر عَن الِاسْتِمْتَاع أسهل من الصَّبْر عَن النَّفَقَة فَرُبمَا عدم النَّفَقَة يُوقع الزَّوْجَة فِي الزِّنَا وَلَو كَانَ الرجل حَاضرا وَله مَال غَائِب فَإِن كَانَ دون مَسَافَة الْقصر فَلَا فسخ وَيُؤمر بتعجيل الاحضار وَإِن كَانَ على مَسَافَة الْقصر فَمَا فَوْقهَا فلهَا الْفَسْخ وَلَا يلْزمهَا الصَّبْر لشدَّة الضَّرَر وَإِن كَانَ لَهُ دين على زَوجته فَأمرهَا بالانفاق مِنْهُ فَإِن كَانَت موسرة فَلَا خِيَار كَمَا لَو كَانَ لَهُ دين على مُوسر حَاضر وَإِن كَانَت معسرة فلهَا الْفَسْخ لِأَنَّهَا لَا تصل إِلَى حَقّهَا والمعسر ينظر وَلَو تبرع شخص بأَدَاء النَّفَقَة عَن الْمُعسر فلهَا الْفَسْخ وَلَا يلْزمهَا الْقبُول كَمَا لَو كَانَ لَهُ دين على إِنْسَان فتبرع غَيره بِقَضَائِهِ لَا يلْزمه الْقبُول لِأَن فِيهِ منَّة للمتبرع
وَاعْلَم أَن الْقُدْرَة بِالْكَسْبِ كالقدرة بِالْمَالِ فَلَو كَانَ يكْتَسب كل يَوْم قدر النَّفَقَة فَلَا خِيَار فَلَو عجز عَن الْعَمَل لمَرض فَلَا فسخ إِن رجى زَوَاله فِي ثَلَاثَة أَيَّام وَإِن كَانَ يطول فلهَا الْفَسْخ للضَّرَر وَالله أعلم
(فرع) لَو لم يُعْطهَا الْمُوسر إِلَّا نَفَقَة الْمُعسر فَلَا فسخ وَيصير الْبَاقِي دينا عَلَيْهِ والقادر على الْكسْب إِذا امْتنع من الانفاق عَلَيْهَا فَهُوَ كالموسر إِذا امْتنع وَالأَصَح أَنَّهَا لَا تفسخ إِذا منع الْمُوسر النَّفَقَة سَوَاء كَانَ حَاضرا أَو غَائِبا والاعسار بالكسوة كالاعسار بِالنَّفَقَةِ وَكَذَا الاعسار بالمسكن وَهل لَهَا أَن تفسخ بِالْعَجزِ عَن الْأدم فِيهِ خلاف الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ نعم وَالأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ لَا فسخ لِأَنَّهُ غير ضَرُورِيّ وَالله أعلم
(فرع كثير الْوُقُوع) شَرط الْفَسْخ تحقق اعسار الزَّوْج أَو غَلَبَة الظَّن بِالْبَيِّنَةِ المقبولة شرعا سَوَاء كَانَ الزَّوْج حَاضرا أَو غَائِبا فَلَو غَابَ وَلم يعلم اعساره فَلَا فسخ فِي الْأَصَح كَمَا لَو كَانَ الزَّوْج مُوسِرًا وَهُوَ غَائِب وَلَو ضمن النَّفَقَة ضَامِن بِإِذْنِهِ فَقيل لَهَا الْفَسْخ وَجزم القَاضِي حُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ بِالْمَنْعِ إِن كَانَ مليئاً وَإِن ضمن بِغَيْر غذنه فَوَجْهَانِ وَالله أعلم
والاعسار بِالْمهْرِ فِيهِ خلاف منتشر
حَاصِل الْمَذْهَب مَا ذكره الشَّيْخ إِن كَانَ قبل الدُّخُول فلهَا الْفَسْخ وَإِلَّا فَلَا وَالْفرق أَن بِالدُّخُولِ قد تلف المعوض فَصَارَ الْعِوَض دينا فِي الذِّمَّة وَلِأَن تَسْلِيمهَا يشْعر بِرِضَاهَا بِذِمَّتِهِ بِخِلَاف مَا قبل الدُّخُول
وَاعْلَم أَنا حَيْثُ جَوَّزنَا الْفَسْخ فشرطه أَن لَا تكون الْمَرْأَة قبضت شَيْئا من الصَدَاق وَإِن قبضت شَيْئا مِنْهُ امْتنع عَلَيْهَا الْفَسْخ بِخِلَاف البَائِع إِذا قبض بعض الثّمن فَإِنَّهُ يجوز لَهُ الْفَسْخ بإفلاس المُشْتَرِي عَن بَاقِيه وَالْفرق أَن الزَّوْج باقباض بعض الْمهْر قد اسْتَقر لَهُ بعض الْبضْع فَلَو جَازَ للْمَرْأَة الْفَسْخ لعاد إِلَيْهَا الْبضْع بِكَمَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمكن فِيهِ التَّشْرِيك فَيُؤَدِّي إِلَى الْفَسْخ فِيمَا اسْتَقر بِخِلَاف البيع فَإِنَّهُ وَإِن اسْتَقر بعضه بِقَبض بعض الثّمن إِلَّا أَن الشّركَة فِيهِ مُمكنَة فجوزنا الْفَسْخ فِي الْبَاقِي خَاصَّة كَذَا ذكره ابْن الصّلاح وَتوقف ابْن الرّفْعَة فِي الْمَسْأَلَة ذكره فِي الْمطلب وَالله أعلم(1/445)
(فرع) الصَّحِيح الْمَشْهُور أَن الْمَرْأَة لَا تستقل بِالْفَسْخِ بل لَا بُد من الرّفْع إِلَى الْحَاكِم كَمَا فِي الْعنَّة لِأَنَّهُ أَمر مُجْتَهد فِيهِ وَقيل لَهَا أَن تفسخ بِنَفسِهَا كالرد بِالْعَيْبِ فعلى الصَّحِيح إِذا ثَبت عِنْده الاعسار تولى الْفَسْخ بِنَفسِهِ أَو أذن لَهَا أَن تفسخ فَلَو لم ترفع إِلَى القَاضِي وفسخت بِنَفسِهَا لعلمها بعجزه لم ينفذ فِي الظَّاهِر وَهل ينفذ بَاطِنا وَجْهَان قَالَ الإِمَام الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَام الْأَئِمَّة أَنه لَا ينفذ بَاطِنا
وَاعْلَم أَن القَاضِي إِنَّمَا يفْسخ أَو يإذن لَهَا فِيهِ بعد إمهال ثَلَاثَة أَيَّام من اعساره فِي الْأَصَح وَالله أعلم
(فرع) لَهُ أم ولد وَعجز عَن نَفَقَتهَا فَعَن أبي زيد أَنه يجْبر على عتقهَا وتزويجها إِن وجد خاطباً رَاغِبًا وَقَالَ غَيره لَا يجْبر عَلَيْهِ بل يخليها لتكسب وتنفق على نَفسهَا كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ وَصحح النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة الثَّانِي وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْحَضَانَة فصل فِي الْحَضَانَة وَإِذا فَارق الرجل زَوجته وَله مِنْهَا ولد فَهِيَ أَحَق بحضانته إِلَى سبع سِنِين ثمَّ يُخَيّر بَين أَبَوَيْهِ فَأَيّهمَا اخْتَار سلم إِلَيْهِ
الْحَضَانَة بِفَتْح الْحَاء هِيَ عبارَة عَن الْقيام بِحِفْظ من لَا يُمَيّز وَلَا يسْتَقلّ بأَمْره وتربيته بِمَا يصلحه ووقايته عَمَّا يُؤْذِيه وَهِي نوع ولَايَة إِلَّا أَنَّهَا بالاناث أليق لِأَنَّهُنَّ أشْفق وَأهْدى إِلَى التربية وأصبر على الْقيام بهَا وَأَشد مُلَازمَة للأطفال وَمؤنَة الْحَضَانَة على الْأَب لِأَنَّهَا من أَسبَاب الْكِفَايَة كَالنَّفَقَةِ فَإِذا فَارق الرّقّ الرجل زَوجته فالأم أَحَق بحضنة الْوَلَد مِنْهُ وَمن غَيره من النِّسَاء بِالشُّرُوطِ الَّتِي تَأتي وَاحْتج لتقديمها بِمَا روى عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَتْهُ امْرَأَة فَقَالَت يَا رَسُول الله إِن ابْني هَذَا كَانَ بَطْني لَهُ وعَاء وثديي لَهُ سقاء وحجري لَهُ حَوَّاء وَإِن أَبَاهُ طَلقنِي وَأَرَادَ أَن يَنْزعهُ مني فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْت أَحَق بِهِ مالم تنكحي ثمَّ إِنَّمَا يحكم بالطفل للْأُم دون الْأَب إِذا كَانَ صَغِيرا لَا يُمَيّز فَإِن ميز خير بَين الْأَبَوَيْنِ فَيكون عِنْد من اخْتَارَهُ مِنْهُمَا وَسَوَاء فِي ذَلِك الابْن وَالْبِنْت وَاحْتج للتَّخْيِير بِمَا روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير غُلَاما(1/446)
بَين أَبِيه وَأمه وَفِي رِوَايَة فَأخذ بيد أمه فَانْطَلَقت بِهِ وَاخْتلف فِي سنّ التَّمْيِيز فَالَّذِي جزم بِهِ هُنَا فِي أصل الرَّوْضَة أَنه فِي الْغَالِب ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان سِنِين تَقْرِيبًا
وَاعْلَم أَن الْمدَار على التَّمْيِيز سَوَاء حصل قبل السَّبع أَو بعْدهَا وَلَا بُد مَعَ التَّمْيِيز أَن يكون عَارِفًا بِأَسْبَاب الِاخْتِيَار وَإِلَّا أخر إِلَى حُصُول ذَلِك لِأَن التخييز غنما فوض إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أعرف بحظه لِأَنَّهُ قد يعرف من أَبَوَيْهِ مَا يَدْعُو إِلَى اخْتِيَاره وَلِلنَّاسِ عِبَارَات فِي ضبط التَّمْيِيز وَأحسن مَا ذكر أَن يصير الطِّفْل بِحَيْثُ يَأْكُل وَحده وَيشْرب وَحده ويستنجي وَحده وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن حكم أم الْأُم مَعَ الْأَب أَو الْجد حكم الْأُم وَإِذا تنَازع الاناث فِي الْحَضَانَة قدمت الْأُم ثمَّ أمهاتها تقدم الْقُرْبَى فالقربى ثمَّ أم الْأَب ثمَّ أمهاتها ثمَّ أم الْجد ثمَّ أمهاتها وَلَا حق لأم الْأَب ثمَّ الْأَخ لِلْأَبَوَيْنِ ثمَّ للْأَب ثمَّ الْأُخْت للْأُم ثمَّ الْخَالَة ثمَّ الْعمة هَذَا هُوَ الْأَظْهر إِذا تمحض الاناث فَإِن اجْتمع مَعَ النِّسَاء رجال قدمت الْأُم ثمَّ أمهاتها ثمَّ الْأَب ثمَّ أمهاته ثمَّ الْجد ثمَّ الْأَخَوَات ثمَّ الْخَالَة ثمَّ الْعمة على النَّص وَأما الْأُخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم فَإِنَّهُم كَالْأَبِ وَالْجد فِي الْحَضَانَة يقدم الْأَقْرَب مِنْهُم فَالْأَقْرَب على تَرْتِيب الْمِيرَاث على النَّص
وَاعْلَم أَن بَنَات الْأَخَوَات يقدمن على بَنَات الْإِخْوَة كَمَا قدم الْأُخْت على الْأَخ وَالأَصَح ثُبُوت الْحَضَانَة للْأُنْثَى الَّتِي لَيست بِمحرم كبنتي الْخَالَة والعمة وبنتي الْخَال وَالْعم فَإِن كَانَ الْوَلَد ذكرا استمرت حضانته حَتَّى يبلغ حدا يَشْتَهِي مثله وتتقدم بَنَات الخالات على بَنَات الأخوال وَبَنَات العمات على بَنَات الْأَعْمَام ويقدمن بَنَات الخؤولة على بَنَات العمومة وَالله أعلم قَالَ
(وشرائط الْحَضَانَة سَبْعَة الْعقل وَالْحريَّة وَالدّين والعفة وَالْأَمَانَة والخلو من زوج وَالْإِقَامَة فَإِن اخْتَلَّ شَرط سَقَطت)
قد علمت أَن الْحَضَانَة ولَايَة وسلطة وَأَن الْأُم أولى من الْأَب وَغَيره لوفور شفقتها فَإِذا رغبت فِي الْحَضَانَة فَلَا بُد لاستحقاقها من شُرُوط
الأول كَونهَا عَاقِلَة فَلَا حضَانَة لمجنونة سَوَاء كَانَ جنونها مطبقاً أَو متقطعاً نعم إِن كَانَ ينْدر وَلَا تطول مدَّته كَيَوْم فِي سِنِين فَلَا يبطل الْحق بِهِ كَمَرَض يطْرَأ وَيَزُول وَوجه سُقُوط حَقّهَا بالجنون أَنه لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا مَعَ الْجُنُون حفظ الْوَلَد صيانته بل هِيَ فِي نَفسهَا تحْتَاج إِلَى من يكفلها فَكيف تكون كافلة لغَيْرهَا وَالله أعلم(1/447)
الثَّانِي الْحُرِّيَّة فَلَا حضَانَة لرقيقة وَإِن أذن السَّيِّد وَوجه الْمَنْع أَن مَنْفَعَتهَا للسَّيِّد وَهِي مَشْغُولَة عَن الْحَضَانَة بِهِ وَلِأَن الْحَضَانَة نوع ولَايَة وَلَا ولَايَة لرقيق ثمَّ إِن كَانَ الْوَلَد حرا فالحضانة بعد الْأُم للْأَب وَغَيره وَإِن كَانَ رَقِيقا فحضانته على السَّيِّد وَهل لَهُ نَزعَة من الْأَب وتسليمه إِلَى غَيره وَجْهَان بِنَاء على الْقَوْلَيْنِ فِي جَوَاز التَّفْرِيق وَهل لَهَا حق الْحَضَانَة فِي وَلَدهَا من السَّيِّد وَجْهَان الصَّحِيح لَا حضَانَة لنقصها وَلَو كَانَ الْوَلَد نصفه حر وَنصفه رَقِيق فَنصف حضانته لسَيِّده وَنِصْفهَا لمن يَلِي حضانته من أَقَاربه الْأَحْرَار وَالله أعلم
الثَّالِث كَونهَا مسلمة إِن كَانَ الطِّفْل مُسلما بِإِسْلَام أَبِيه فَلَا حضَانَة لكافرة على مُسلم لِأَنَّهُ لَا حَظّ لَهُ فِي تربيتها لِأَنَّهَا تغشه وينشأ على مَا كَانَ يألف مِنْهَا وَلِأَنَّهُ ولَايَة وَلَا ولَايَة لكَافِر على مُسلم وَقيل تحضنه الْأُم الذِّمِّيَّة حَتَّى يُمَيّز وَالصَّحِيح الأول لما ذكرنَا والطفل الْكَافِر وَالْمَجْنُون الْكَافِر يثبت لقريبه الْمُسلم حضانته وكفالته على الصَّحِيح لِأَن فِيهِ مصلحَة لَهُ وَالله أعلم
الرَّابِع وَالْخَامِس الْعِفَّة وَالْأَمَانَة فَلَا حضَانَة لفاسقة لِأَنَّهَا ولَايَة وَلَا تأمن أَن تخون فِي حفظه وينشأ على طريقتها
وَاعْلَم أَنه لَا يشْتَرط تحقق الْعَدَالَة الْبَاطِنَة بل تَكْفِي الْعَدَالَة الظَّاهِرَة كشهود النِّكَاح قَالَه الْمَاوَرْدِيّ قَالَ فَلَو ادّعى أحد الْأَبَوَيْنِ فسق الآخر ليكفل قَوْله وَلَيْسَ لَهُ إحلافه بل هُوَ على ظَاهر الْعَدَالَة حَتَّى يُقيم مدعي الْفسق عَلَيْهِ بَيِّنَة كَذَا ذكره ابْن الرّفْعَة وَفِي فَتَاوَى النَّوَوِيّ لَا بُد من ثُبُوت أَهْلِيَّة الْأُم عِنْد القَاضِي إِذا نازعها الْأَب أَو غَيره من الْمُسْتَحقّين وَالله أعلم
السَّادِس كَونهَا فارغة خلية عَن النِّكَاح لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنْت أَحَق بِهِ مالم تنكحي وَلِأَنَّهَا مَشْغُولَة بِالزَّوْجِ فيضرر الْوَلَد وَلَا أثر لرضا الزَّوْج بذلك كَمَا لَا أثر لرضا السَّيِّد بحضانة الْأمة وَلَو رَضِي الْأَب مَعَه فَهَل يسْقط حق الْجدّة الْأَصَح فِي الْكِفَايَة لِابْنِ الرّفْعَة أَنه يسْقط حق الْجدّة وَيكون عِنْد الْأُم وَقَالَ فِي التَّهْذِيب لَا يسْقط حق الْجدّة فقد يرجعان فيتضرر الْوَلَد فَلَو تزوجت أم الطِّفْل بِعَمِّهِ فَهَل تبطل حضانتها وَجْهَان أصَحهمَا لَا تبطل لِأَن الْعم صَاحب حق فِي الْحَضَانَة وشفقته تحمله على رِعَايَة الطِّفْل فيتعاونان على كفَالَته بِخِلَاف الْأَجْنَبِيّ وَبِهَذَا قطع الامامان الْقفال وَحجَّة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ
وَاعْلَم أَن الْخلاف مطرد فِي حق كل من لَهَا الْحَضَانَة ونكحت قَرِيبا للطفل لَهُ حق فِي الْحَضَانَة بِأَن نكحت أمه ابْن عَم الطِّفْل أَو عَم أَبِيه وَكَذَا تبقى حضانتها إِذا كَانَ زَوجهَا جد الطِّفْل أَي أَب أَبِيه(1/448)
لِأَن لَهُ حَقًا فِي الْحَضَانَة وَصُورَة الْمَسْأَلَة إِذا كَانَت الحاضنة جدة أَن يتَزَوَّج رجل بِامْرَأَة وَابْنه ببنتها من غَيره ثمَّ يَجِيء للِابْن ولد ثمَّ تَمُوت الْأُم وَالْأَب فتنتقل الْحَضَانَة إِلَى أم الْأُم وَهِي زَوْجَة الْجد وَالله أعلم
السَّابِع الْإِقَامَة وَإِنَّمَا تكون الْأُم أَحَق بالطفل إِذا كَانَ الأبوان مقيمين فِي بلد وَاحِد فَأَما إِذا أَرَادَ أَحدهمَا سفرا يخْتَلف فِيهِ بلدهما نظر إِن كَانَ سفر حَاجَة كحج وتجارة وغزو لم يُسَافر بِالْوَلَدِ لما فِي السّفر من الْخطر وَالْمَشَقَّة بل يكون مَعَ الْمُقِيم إِلَى أَن يعود الْمُسَافِر سَوَاء طَالَتْ مُدَّة السّفر أم قصرت وَقيل للْأَب السّفر بِهِ إِذا طَال سَفَره وَإِن كَانَ السّفر سفر نقلة إِن كَانَ ينْتَقل إِلَى مَسَافَة الْقصر فللأب انتزاع من الْأُم ويستصحبه مَعَه سَوَاء كَانَ الْمُنْتَقل الْأَب أَو الْأُم أَو أَحدهمَا إِلَى بلد وَالْأُخْرَى إِلَى بلد آخر احْتِيَاطًا للنسب فَإِن النّسَب يتحفظ بِالْآبَاءِ وَفِيه مصلحَة للتأديب والتعليم وسهولة الْقيام بمؤنتة وَسَوَاء نَكَحَهَا فِي بَلَدهَا أَو فِي الغربة فَلَو رافقته الْأُم فِي الطَّرِيق دَامَ حَقّهَا وَكَذَا فِي الْمَقْصد وَلَو عَاد من سفر النقلَة عَاد حَقّهَا وَيشْتَرط أَمن الطَّرِيق وَأمن الْبَلَد الَّذِي ينْتَقل إِلَيْهِ فَلَو كَانَا مخوفين لغارة وَنَحْوهَا لم يكن لَهُ انْتِزَاعه مِنْهَا وَإِن كَانَت النقلَة إِلَى دون مَسَافَة الْقصر فَهَل يُؤثر ذَلِك وَجْهَان
أَحدهمَا لَا ويكونان كالمقيمين فِي دارين من بلد وأصحهما أَنه كمسافة الْقصر وَلَو قَالَت إِنَّمَا تُرِيدُ سفر التِّجَارَة فَقَالَ بل النقلَة فَهُوَ الْمُصدق بِيَمِينِهِ على الْأَصَح وَقَالَ الْقفال يصدق بِلَا يَمِين فعلى الصَّحِيح لَو نكل حَلَفت وَأَمْسَكت الْوَلَد
وَاعْلَم أَن سَائِر الْعَصَبَات من الْمَحَارِم كالجد وَالْأَخ وَالْعم بِمَنْزِلَة الْأَب فِي انتزاع الْوَلَد مِنْهَا وَنَقله إِذا أَرَادَ الِانْتِقَال احْتِيَاطًا للنسب وَكَذَا غير الْمَحَارِم كَابْن الْعم إِن كَانَ الْوَلَد ذكرا فَإِن كَانَت أُنْثَى لم تسلم إِلَيْهِ قَالَ الْمُتَوَلِي إِلَّا إِذا لم تبلغ حدا تشْتَهى وَفِي الشَّامِل لِابْنِ الصّباغ أَنه لَو كَانَ لَهُ بنت ترافقه سلمت إِلَى ابْنَته
وَاعْلَم أَن الْمحرم الَّذِي لَا عصوبة لَهُ كالخال وَالْعم للْأُم فَلَيْسَ لَهُ نقل الْوَلَد إِذا انْتقل لِأَنَّهُ لَا حق لَهُ فِي النّسَب وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ فَإِن اخْتَلَّ شَرط سَقَطت وَجه ذَلِك أَن عِلّة اسْتِحْقَاق الْحَضَانَة مركبة من هَذِه الصِّفَات وَلَا شكّ أَن الْمَاهِيّة المركبة من أَجزَاء تَنْتفِي بِانْتِفَاء جُزْء مِنْهَا أَلا ترى أَن الصَّلَاة المستجمعة للشروط تصح بِوُجُود شُرُوطهَا وَلَو انْتَفَى شَرط مِنْهَا بطلت كَذَلِك هَهُنَا وَالله أعلم
(فرع) هَل يشْتَرط مَعَ هَذِه الشُّرُوط فِي اسْتِحْقَاق الْأُم الْحَضَانَة أَن ترْضع الْوَلَد إِن كَانَ رضيعاً وَجْهَان
أَحدهمَا لَا بل لَهَا الْحَضَانَة وَإِن لم يكن لَهَا لبِنْت أَو امْتنعت من الارضاع فعلى الْأَب على(1/449)
هَذَا أَن يسْتَأْجر مُرْضِعَة ترْضِعه عِنْد الْأُم وَهَذَا مَا صَححهُ الْبَغَوِيّ وَالصَّحِيح الذب قطع بِهِ الْأَكْثَرُونَ يشْتَرط ذَلِك لعسر اسْتِئْجَار مُرْضِعَة قَالَ الاسنوي وَلم يذكرُوا من الشُّرُوط كَونهَا نصيرة وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوت الْحَضَانَة للعمياء وَهُوَ كَذَلِك وَالله أعلم قَالَ(1/450)
كتاب الْجِنَايَات
بَاب أَنْوَاع الْقَتْل
(الْقَتْل على ثَلَاثَة أضْرب عمد مَحْض وَخطأ مَحْض وَعمد خطأ فالعمد الْمَحْض أَن يعمد إِلَى ضربه بِمَا يقتل غَالِبا فيقصد قَتله بذلك فَيجب الْقود)
الْجِنَايَات جمع جِنَايَة وَالْجِنَايَة مصدر والمصدر لَا يثنى وَلَا يجمع إِلَّا إِذا قصد التنويع وَالْجِنَايَة كَذَلِك لتنوعها إِلَى عمد وَخطأ وَعمد خطأ كَمَا ذكره الشَّيْخ فالعمد الْمَحْض أَن يقْصد الْفِعْل والشخص الْمعِين بِشَيْء يقتل غَالِبا فقولنا أَن يقْصد الْفِعْل احْتِرَازًا عَمَّا إِذا لم يقْصد الْفِعْل كَمَا إِذا زلق فَسقط على غَيره فَمَاتَ فَإِنَّهُ لَا يجب الْقصاص وَقَوْلنَا أَن يقْصد الشَّخْص الْمعِين احْتِرَازًا عَمَّا إِذا لم يقْصد شخصا معينا كَمَا إِذا رمى إِلَى جمَاعَة وَلم يقْصد وَاحِدًا بِعَيْنِه فَإِنَّهُ لَا يجب الْقصاص على الرَّاجِح وَقَوْلنَا بِشَيْء يقتل غَالِبا أَعم من أَن يكون بِآلَة أَو غَيرهَا والآلة أَعم من أَن تكون محددة أَو مثقل فالآلة المحددة كالسكين وَمَا فِي مَعْنَاهَا والمثقلة كالدبوس وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَكَذَا لَو حرقه أَو غرقه أَو صلبه أَو هدم عَلَيْهِ حَائِطا أَو سقفاً أَو داسه بِدَابَّة أَو دَفنه حَيا أَو عصر خصيتيه عصراً شَدِيدا فَمَاتَ وَجب الْقصاص وَغير الْآلَة أَنْوَاع مِنْهَا لَو حَبسه وَمنعه من الطَّعَام وَالشرَاب والطلب حَتَّى مَاتَ وَجب الْقصاص وَلَو حَبسه وعراه حَتَّى مَاتَ بالبرد فَهُوَ كَمَا لَو حَبسه وَمنعه الْأكل ذكره القَاضِي حُسَيْن بِخِلَاف مَا لَو أَخذ طَعَامه وَشَرَابه أَو ثِيَابه فِي مفازة فَمَاتَ جوعا أَو عطشاً أَو بردا فَلَا ضَمَان لِأَنَّهُ لم يحدث فِيهِ صنعا وَمِنْهَا إِذا شهدُوا على رجل بِمَا يُوجب قَتله قصاصا أَو ردة أَو زنا وَهُوَ مُحصن فَحكم القَاضِي بِشَهَادَتِهِم وَقَتله بمقتضاها ثمَّ رجعُوا وَقَالُوا تعمدنا وَعلمنَا أَنه يقتل بشهادتنا لَزِمَهُم الْقصاص وَكَذَا لَو شهدُوا بِمَا يُوجب الْقطع سَوَاء كَانَ قصاصا أَو سَرقَة يجب عَلَيْهِم الْقطع وَمِنْهَا أَن يقدم إِلَى الشَّخْص طَعَاما مسموما فَأكل وَمَات وَجب الْقصاص إِن كَانَ مَجْنُونا أَو صَبيا وَكَذَا حكم الأعجمي الَّذِي يعْتَقد أَنه لَا بُد من الطَّاعَة فِي كل مَا يشار عَلَيْهِ بِهِ لِأَنَّهُ وَالْحَالة هَذِه بِمَنْزِلَة الصَّغِير وَالْمَجْنُون وَإِن كَانَ الْمُقدم إِلَيْهِ بَالغا عَاقِلا فَإِن علم حَال الطَّعَام فَلَا شَيْء على الْمُقدم والآكل هُوَ الْقَاتِل نَفسه وَإِلَّا فَفِي وجوب الْقصاص قَولَانِ جاريان فِيمَا لَو غطى رَأس بِئْر فِي دهليز وَدعَاهُ إِلَى(1/451)
دَاره ضيفاً وَكَانَ الْغَالِب أَنه يمر على ذَلِك الْموضع فَهَلَك بالبئر وَالْأَظْهَر لَا قصاص وَإِذا كَانَ لَا قصاص وَجَبت الدِّيَة على الْأَظْهر فَإِن هَذَا أقوى من حفر الْبِئْر وَقيل لَا تجب الدِّيَة تَغْلِيبًا للمباشرة وَمِنْهَا لَو سحر رجلا فَمَاتَ سألناه فَإِن قَالَ قتلته بسحري وسحري يقتل غَالِبا لزمَه الْقصاص
إِذا عرفت هَذَا فَقتل النَّفس بِغَيْر حق من أكبر الْكَبَائِر قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَقَالَ الْبَغَوِيّ هُوَ أكبر الْكَبَائِر بعد الْكفْر وَكَذَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَالله أعلم الْآيَات وَالْأَخْبَار فِي التحذير مِنْهُ كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الْآيَة فَانْظُر إِلَى جَزَاء من قتل بِغَيْر حق جعل جزاءه جَهَنَّم مَعَ الخلود وَالْغَضَب والبعد وَالْعَذَاب الْمَوْصُوف بالعظمة عَافَانَا الله من ذَلِك وَفِي صَحِيح مُسلم لَا يحل قتل امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث كفر بعد إِيمَان وزنا بعد إِحْصَان وَقتل نفس بِغَيْر حق ظلما وعدواناً وَفِي الْخَبَر لقتل مُؤمن أعظم عِنْد الله من زَوَال الدُّنْيَا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من أعَان على قتل مُسلم وَلَو بِشَطْر كلمة لَقِي الله وَهُوَ مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ آيس من رَحْمَة الله هَذَا كُله فِي الْعمد وَقد ذكره الشَّيْخ بقوله أَن يعمد إِلَى ضربه وَهُوَ قصد الْفِعْل إِلَى الشَّخْص وَالْهَاء فِي ضربه عَائِد إِلَيْهِ وَقَوله بِمَا يقتل غَالِبا مَا بِمَعْنى شَيْء وَهُوَ أَعم من الْآلَة وَغَيرهَا كالسبب كَمَا مر وَقَوله غَالِبا احْتَرز بِهِ عَمَّا لَا يقتل غَالِبا وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَوله فيقصد قَتله هَذِه الزِّيَادَة طَريقَة ضَعِيفَة شَرطهَا بعض الْأَصْحَاب وَالصَّحِيح أَن قصد الْقَتْل غير شَرط لوُجُوب الْقصاص بل الْحَد الْمُعْتَبر قصد الْفِعْل والشخص بِمَا يقتل غَالِبا وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن عَفا عَنهُ وَجَبت دِيَة مُغَلّظَة حَالَة فِي مَال الْقَاتِل)
مُسْتَحقّ الْقود وَهُوَ الْقصاص بِالْخِيَارِ بَين أَن يقْتَصّ وَبَين أَن يعْفُو لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَنْتُم معشر خُزَاعَة قد قتلتم هَذَا الْقَتِيل من هُذَيْل وَأَنا وَالله عاقله فَمن قتل بعده قَتِيلا فأهله بَين خيرتين إِن أَحبُّوا قتلوا وَإِن أَحبُّوا أخذُوا الدِّيَة وَقَوله من قتل قَتِيلا إِلَى آخِره أخرجه البُخَارِيّ وَوجه الدّلَالَة(1/452)
أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خير الْوَرَثَة بَين الدِّيَة وَالْقَتْل فَإِن اقْتصّ الْمُسْتَحق فَلَا كَلَام وَإِن عَفا على الدِّيَة وَجَبت فَتجب بقتل الْحر الْمُسلم مائَة من الْإِبِل ثمَّ إِن كَانَ الْقَتْل عمدا تغلظت من ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنَّهَا تجب على الْجَانِي وَلَا تحملهَا الْعَاقِلَة
وَالثَّانِي أَنَّهَا تجب حَالَة بِلَا تَأْجِيل
وَالثَّالِث أَنَّهَا تتغلط بِالسِّنِّ والتثليث فَتجب ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعَة خلفة والخلفة الْحَامِل وَسَوَاء كَانَ الْعمد مُوجبا للْقصَاص فَعَفَا على الدِّيَة كَمَا ذكره الشَّيْخ أم لم يُوجب الْعمد الْقود كَقَتل الْوَالِد وَلَده وَاحْتج لما ذَكرْنَاهُ بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من قتل مُتَعَمدا دفع إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول فَإِن شاؤوا قتلوا وَإِن شَاءُوا أخذُوا الدِّيَة وَهِي ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعُونَ خلفة وَمَا صَالحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم وَذَلِكَ لتشديد الْقَتْل قَالَ
(وَالْخَطَأ الْمَحْض هُوَ أَن يَرْمِي إِلَى شَيْء فَيُصِيب رجلا فيقتله وَلَا قَود عَلَيْهِ بل تجب دِيَة مُخَفّفَة على الْعَاقِلَة مُؤَجّلَة ثَلَاث سِنِين)
قد علمت أَن الْجِنَايَة على ثَلَاثَة أضْرب وَقد تقدم الْكَلَام على الْعمد وَالْكَلَام الْآن على الْخَطَأ وَله تفسيران
أَحدهمَا مَا ذكره الشَّيْخ أَن يَرْمِي إِلَى شَيْء سَوَاء كَانَ صيدا أَو رجلا أَو غَيرهمَا فَيُصِيب رجلا وَهَذَا مَا ذكره القَاضِي أَبُو الطّيب وَالْقَاضِي حُسَيْن وَقَالَ غَيرهمَا إِن الْخَطَأ هُوَ مالم يقْصد فِيهِ الْفِعْل كمن زلق فَوَقع على غَيره فَمَاتَ أَو تولد الْهَلَاك من يَد المرتعش ثمَّ الْخَطَأ لَا قصاص فِيهِ لقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} أوجب الله الدِّيَة وَلم يتَعَرَّض للْقصَاص وَفِي الْخَبَر أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كتب إِلَى أهل الْيمن إِن فِي دِيَة النَّفس مائَة من الْإِبِل ثمَّ الدِّيَة فِي الْخَطَأ تخفف إِلَى ثَلَاثَة أوجه(1/453)
أَحدهَا بإعتبار التخميس فَتجب عشرُون بنت مَخَاض وَعِشْرُونَ بنت لبون وَعِشْرُونَ ابْن لبون وَعِشْرُونَ حقة وَعِشْرُونَ جَذَعَة قَالَ الرَّافِعِيّ وَاحْتج الْأَصْحَاب بِمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى فِي دِيَة الْخَطَأ مائَة من الْإِبِل وفصلها على مَا ذكرنَا وَقَوله وفصلها أَي ابْن مَسْعُود وَلِهَذَا روى بَعضهم أَن ابْن مَسْعُود رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاعْلَم أَن جُمْهُور الصَّحَابَة على تخميسها قَالَ سُلَيْمَان بن يسَار كَانُوا يَقُولُونَ دِيَة الْخَطَأ مائَة من الْإِبِل وَذكر مَا ذَكرْنَاهُ وَسليمَان تَابِعِيّ فَدلَّ على أَنه إِجْمَاع من الصَّحَابَة
الْوَجْه الثَّانِي كَونهَا على الْعَاقِلَة فَإِذا جنى الْحر على نفس حر آخر خطأ أَو عمد خطأ وَجَبت الدِّيَة على عَاقِلَة الْجَانِي وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن امْرَأتَيْنِ من هُذَيْل اقتتلتا فرمت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بِحجر وَيرى بعمود فسطاط فقتلهتها وأسقطت جَنِينهَا فَقضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالدِّيَةِ على عَاقِلَة القاتلة وَفِي الْجَنِين بغرة عبد أَو أمة وَهَذِه صُورَة شبه الْعمد وَإِذا جرى التَّحَمُّل فَيُشبه الْعمد فَفِي بدل الْخَطَأ أولى قَالَ الْعلمَاء وتغريم غير الْجَانِي خَارج عَن الأقيسة الظَّاهِرَة إِلَّا أَن الْقَبَائِل فِي الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يقومُونَ بنصرة من جنى مِنْهُم وَيمْنَعُونَ أَوْلِيَاء الْقَتِيل من أَن يدركوا بثأرهم ويأخذوا من الْجَانِي حَقهم فَجعل الشَّارِع بدل تِلْكَ النُّصْرَة بذل المَال وخصص الْعَاقِلَة بهما لِأَن الْخَطَأ وَشبه الْعمد مِمَّا يكثر فحسنت إِعَانَة الْقَاتِل لِئَلَّا يفْتَقر بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ مَعْذُور فِيهِ بِخِلَاف الْعمد إِذْ لَا عذر لَهُ فَلَا يَلِيق بِهِ الرِّفْق وأجلت على الْعَاقِلَة لِئَلَّا يشق عَلَيْهِم الْأَدَاء وَادّعى الإِمَام الاجماع على تحمل الْعَاقِلَة فِي الْخَطَأ وَشبه الْعمد وَقيل لَا تحمل الْعَاقِلَة دِيَة شبه الْعمد وَالْمذهب الأول لوُرُود النَّص فِيهِ وَالله أعلم
الْوَجْه الثَّالِث كَون الدِّيَة فِي ثَلَاث سِنِين رُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَعلي وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم قَالَ الشَّافِعِي وَلم أعلم مُخَالفا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَة فِي ثَلَاث سِنِين فَإِن ورد النَّص بذلك كَمَا ذكره الشَّافِعِي فَلَا كَلَام وَإِلَّا فقد ضربهَا عمر وَعلي وَابْن عَبَّاس كَذَلِك وَلم يُنكر عَلَيْهِم فَكَانَ إِجْمَاعًا وَلَا يَقُولُونَ ذَلِك إِلَّا توقيفاً فَإِن قلت قَالَ ابْن الْمُنْذر وَمَا ذكره الشَّافِعِي لَا نعلم لَهُ أصلا من كتاب الله وَلَا سنة وَقَالَ الإِمَام أَحْمد لما سُئِلَ عَن ذَلِك قَالَ لَا أعرف فِيهِ شَيْئا فَالْجَوَاب أَن من عرف حجَّة على من لَا يعرف وَكَيف يرد قَول الشَّافِعِي بذلك وَهُوَ أعلم الْقَوْم بالأخبار والتاريخ بِمثل ذَلِك وَالله أعلم قَالَ(1/454)
(وَعمد الْخَطَأ أَن يقْصد ضربه بِمَا لَا يقتل غَالِبا فَيَمُوت فَلَا قَود عَلَيْهِ بل تجب دِيَة مُغَلّظَة على الْعَاقِلَة مُؤَجّلَة)
قد مر ذكر الْعمد وَالْخَطَأ وَبَقِي شبه الْعمد وَهُوَ أَن يقْصد الْفِعْل والشخص مَعًا بِمَا لَا يقتل غَالِبا كَمَا إِذا ضربه بِسَوْط أَو عَصا ضَرْبَة خَفِيفَة أَو رَمَاه بِحجر صَغِير وَلم يوال بِهِ الضَّرْب وَلم يشْتَد الْأَلَم بِسَبَب ذَلِك وَلم يكن وَقت حر وَلَا برد شديدين أَو لم يكن الْمَضْرُوب ضَعِيفا أَو صَغِيرا فَهُوَ شبه عمد وَإِن كَانَ شَيْء من ذَلِك وَجب الْقصاص لِأَنَّهُ قصد الْفِعْل والشخص بِمَا يقتل غَالِبا وَلَو ضربه الْيَوْم ضَرْبَة وَغدا ضَرْبَة وَهَكَذَا فرق الضربات حَتَّى مَاتَ فَوَجْهَانِ لِأَن الْغَالِب السَّلامَة عِنْد تَفْرِيق الضَّرْب قَالَ المَسْعُودِيّ وَلَو ضربه ضَرْبَة وَقصد أَن لَا يزِيد عَلَيْهَا فشتمه فَضَربهُ ثَانِيَة ثمَّ شَتمه فَضَربهُ ثَالِثَة حَتَّى قَتله فَلَا قصاص لعدم الْمُوَالَاة قَالَ الرَّافِعِيّ وَيَنْبَغِي أَن لَا ينظر إِلَى صُورَة الْمُوَالَاة وَلَا إِلَى قدر مُدَّة التَّفْرِيق بل يعْتَبر أثر الضَّرْبَة السَّابِقَة والألم الْحَاصِل بهَا فَإِن تَيَقّن ثمَّ ضربه أُخْرَى فَهُوَ كَمَا لَو والى وَلَو طبق كَفه ولكمه فَهُوَ كالضرب بالعصا الْخَفِيفَة فيفصل وَقَول الشَّيْخ فَلَا قَود عَلَيْهِ بل تجب دِيَة مُغَلّظَة دَلِيله حَدِيث الْمَرْأَتَيْنِ من هُذَيْل وَقَوله مُغَلّظَة يَعْنِي من وَجه وَقَوله على الْعَاقِلَة مُؤَجّلَة يَعْنِي مُخَفّفَة من وَجْهَيْن لِأَن جِنَايَة الْخَطَأ مُخَفّفَة من ثَلَاثَة وُجُوه كَونهَا على الْعَاقِلَة ومؤجلة ومخمسة وَجِنَايَة الْعمد مُغَلّظَة من ثَلَاثَة أوجه كَونهَا على الجانس حَالَة مُثَلّثَة وَجِنَايَة شبه الْعمد تنْزع إِلَى الْعمد من وَجه كَونهَا فِيهَا قصد الْفِعْل والشخص وتنزع إِلَى الْخَطَأ يكون الْآلَة لَا تقتل غَالِبا فَلهَذَا خففت بِكَوْنِهَا على الْعَاقِلَة وبالتأجيل وغلظت بِكَوْنِهَا مُثَلّثَة وَالله أعلم قَالَ
(وشرائط وجوب الْقصاص أَرْبَعَة أَن يكون الْقَاتِل بَالغا عَاقِلا وَألا يكون والدا للمقتول وَألا يكون الْمَقْتُول أنقص من الْقَاتِل بِكفْر أَو رق)
لما ذكر الشَّيْخ رَحمَه الله الْجِنَايَة ونوعها بِاعْتِبَار مَا يجب فِيهَا الْقصاص وَمَا لَا يجب شرع الْآن فِي ذكر من يجب عَلَيْهِ الْقصاص وَمن لَا يجب وَلَا شكّ أَن الْقصاص هُوَ الْمُمَاثلَة كَمَا قَالَه الْأَزْهَرِي وَهُوَ مَأْخُوذ من اقتصاص الْأَثر وَهُوَ تتبعه لِأَن تتبع الْجِنَايَة فَيَأْخُذ مثلهَا والمثلية تعْتَبر فِي الْجِنَايَة وكما تعْتَبر فِي الْجِنَايَة كَذَلِك تعْتَبر الْمُسَاوَاة بَين الْقَتِيل وَالْقَاتِل وَلَيْسَ المُرَاد الْمُسَاوَاة فِي كل خصْلَة لِأَن بعض الْخِصَال لم يَعْتَبِرهَا الشَّارِع قطعا كنضو الْخلقَة مَعَ كَبِير الضخامة وَنَحْو ذَلِك كالقوة والضعف وَغَيرهمَا ومدار ذَلِك على صِفَات تذكر فَمَتَى فضل الْقَاتِل على الْمَقْتُول بخصلة(1/455)
مِنْهَا فَلَا قَود فَمِنْهَا الْإِسْلَام وَالْحريَّة والولادة فَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَلَا حر بِعَبْد وَلَا وَالِد بِولد وَلنَا عودة إِلَى ذَلِك وَيشْتَرط مَعَ ذَلِك كَون الْقَاتِل مُكَلّفا فَلَا يجب الْقصاص على صبي وَلَا مَجْنُون لِأَنَّهُ الْقَلَم مَرْفُوع عَنْهُمَا كَمَا مر فِي الْخَبَر فَلَا يجب عَلَيْهِمَا كَمَا لَا قصاص على النَّائِم فِيمَا إِذا انْقَلب على إِنْسَان فَقتله وَلَا على الْبَهِيمَة لعدم التَّكْلِيف وَلِأَن الْقصاص عُقُوبَة فَلَا يجب عَلَيْهِمَا كالحد نعم من زَالَ عقله بِمحرم كَالسَّكْرَانِ وَمن تعدى بِشرب دَوَاء مزيل الْعقل هَل يجب عَلَيْهِ الْقصاص قيل لَا كمعتوه والمذب الْقطع بِوُجُوب الْقصاص لتعديه بِفعل مَا يحرم عَلَيْهِ كَمَا نوقع عَلَيْهِ الطَّلَاق وَغَيره من المؤاخذات ولأنا لَو لم نوجب الْقصاص بذلك لَأَدَّى إِلَى تَركه بذلك فَإِن من رام قتل شخص لَا يعجز أَن يسكر حَتَّى لَا يقْتَصّ مِنْهُ فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى سفك الدِّمَاء وَالله أعلم
(فرع) لَو قَالَ الْقَائِل كنت يَوْم الْقَتْل صَغِيرا صدق بِيَمِينِهِ بِشَرْط إِمْكَان مَا يَدعِيهِ وَلَو قَالَ أَنا الْآن صَغِير صدق بِلَا يَمِين على الْأَصَح وَلَو قَالَ كنت مَجْنُونا عِنْد الْقَتْل وعهد لَهُ جُنُون صدق على الْأَصَح وَقيل يصدق الْوَارِث لِأَن الأَصْل السَّلامَة وَالله أعلم وَيشْتَرط أَن لَا يكون الْمَقْتُول أنقص من الْقَاتِل بِصفة الْكفْر فَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر حَرْبِيّا كَانَ الْمَقْتُول أَو ذِمِّيا أَو معاهداً لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَالله أعلم وَيشْتَرط فِي وجوب الْقصاص أَيْضا أَن لَا يكون الْمَقْتُول أنقص من الْقَاتِل بِصفة الرّقّ فَلَا يقتل حر بِعَبْد قِنَا كَانَ أَو مُدبرا أَو مكَاتبا أَو أم ولد لقَوْله تَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فَظَاهره عدم قتل حر بِعَبْد وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ من السّنة أَلا يقتل حر بِعَبْد وَلِأَنَّهُ لَا يقطع طرفه بطرفه فَأولى أَلا يقتل بِهِ وَالله أعلم
(فرع) قتل الْحر الْمُسلم شخضا لَا يعلم أَنه مُسلم أَو كَافِر أَو لَا يعلم أَنه حر أَو عبد فَلَا قصاص للشُّبْهَة ذكره الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر وَالله أعلم وَيشْتَرط فِي وجوب الْقصاص أَلا يكون الْقَاتِل أَبَا أَو جدا وَإِن علا وَإِن نزل الْمَقْتُول لقَوْل عمر رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة وَقعت لَوْلَا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا يُقَاد الْأَب من ابْنه لقتلتك هَلُمَّ دِيَته فَأَتَاهُ بهَا فَدَفعهَا إِلَى ورثته وَلِأَن الْوَالِد سَبَب وجوده فَلَا يحسن أَن يصير الْوَلَد سَببا فِي إعدامه وَقيل يقْتَصّ من الأجداد(1/456)
والجدات وَالصَّحِيح الأول وَالله أعلم
(فرع) لَو حكم قَاض بقتل الْوَالِد لقتل الْوَلَد قَالَ ابْن كج ينْقض حكمه وَالله أعلم
(فرع) قتل مُسلم مُرْتَدا فَلَا قصاص عَلَيْهِ وَلَو قتل زَانيا مُحصنا فَالْأَصَحّ الْمَنْصُوص وَبِه قطع المراوزة أَنه لَا قصاص وَظَاهر كَلَام الرَّافِعِيّ أَنه لَا فرق فِي عدم وجوب الْقصاص بَين أَن يثبت زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَو بالاقرار وَقد ذكره كَذَلِك فِي حد الزِّنَا وَفِي الْأَطْعِمَة وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك لكنه صحّح فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه وجوب الْقصاص إِذا ثَبت بِالْإِقْرَارِ وَيجْرِي الْخلاف فِيمَا لَو قتل مُحَاربًا هَل فِي قصاص أم لَا وَالله أعلم قَالَ
(وَتقتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ)
إِذا اشْترك جمَاعَة فِي قتل وَاحِد قتلوا بِهِ بِشَرْط أَن يكون فعل كل وَاحِد لَو انْفَرد لقتل لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} يَعْنِي الْقصاص وَقتل عمر رَضِي الله عَنهُ سَبْعَة أَو خَمْسَة من أهل صنعاء الْيمن بِوَاحِد وَقَالَ لَو توالى عَلَيْهِ أهل صنعاء لقتلتهم بِهِ وَقتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ ثَلَاثَة بِوَاحِد وَقتل الْمُغيرَة سَبْعَة بِوَاحِد وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا قتل جمَاعَة وَاحِدًا قتلوا بِهِ وَلَو كَانُوا مائَة وَلم يُنكر عَلَيْهِم أحد فَكَانَ ذَلِك اجماعاً وَأَيْضًا فالتشفي لَا يحصل إِلَّا بقتل الْكل وَكَذَا الزّجر وَإِذا آل الْأَمر إِلَى المَال فَهَل يلْزمهُم على عدد الضربات أم بِالسَّوِيَّةِ الرَّاجِح الثَّانِي لِأَن الْجراحَة الْوَاحِدَة قد يكون لَهَا نكاية مَا لَا يكون للجراحات ثمَّ كَيفَ الِاسْتِحْقَاق قَالَ الْجُمْهُور يسْتَحق روح كل وَاحِد غذ الرّوح لَا يتَجَزَّأ وَلَو اسْتحق بَعْضهَا لم يقتل وَقَالَ الْحَلِيمِيّ إِذا كَانُوا عشرَة مثلا لم يسْتَحق إِلَّا عشر روح كل وَاحِد بِدَلِيل أَنه لَو آل الْأَمر إِلَى الدِّيَة لم يلْزمه إِلَى عشرهَا غير أَنه لَا يُمكن اسْتِيفَاء الْعشْر إِلَّا بِالْكُلِّ فاستوفى لتعذر وَصَارَ هَذَا بِمَثَابَة مَا إِذا أَدخل الْغَاصِب الْمَغْصُوب فِي مَكَان ضيق واحتيج فِي رده إِلَى قلع الْبَاب وَهدم الْجِدَار ورد الإِمَام ذَلِك بِأَنَّهُ لَو قطع يَد غَيره من نصف الساعد لَا يجْرِي الْقصاص فِيهِ خوفًا من اسْتِيفَاء الزِّيَادَة على الْجِنَايَة بِجُزْء يسير فَكيف يريق تِسْعَة أعشار الدَّم بَال اسْتِحْقَاق لِاسْتِيفَاء عشر وَاحِد وَاعْتِبَار الْقصاص بِالدِّيَةِ مَمْنُوع أَلا ترى أَن الرجل يقتل بِالْمَرْأَةِ وَإِذا آل الْأَمر إِلَى المَال لم يلْزمه إِلَّا نصف دِيَة نَفسه وَلَو ضربه كل وَاحِد بِسَوْط أَو بعصا خَفِيفَة فَمَاتَ فَفِي(1/457)
وجوب الْقصاص عَلَيْهِم أوجه أَصَحهَا ثَالِثهَا وَبِه قطع الْبَغَوِيّ وَشَيْخه القَاضِي حُسَيْن أَنه إِذا صدر ذَلِك عَن تواطئ مِنْهُم لَزِمَهُم الْقصاص وَإِلَّا فَلَا وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْقصاص فِيمَا دون النَّفس
(وكل شَخْصَيْنِ جرى الْقصاص بَينهمَا فِي النَّفس يجْرِي بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف وشرائط وجوب الْقصاص فِي الْأَطْرَاف بعد الشَّرَائِط الْمَذْكُورَة اثْنَان الِاشْتِرَاك فِي الِاسْم الْخَاص الْيُمْنَى باليمنى واليسرى باليسرى وَأَن لَا يكون بِأحد الطَّرفَيْنِ شلل)
قد علمت أَن الْقصاص هُوَ الْمُمَاثلَة وكما تعْتَبر فِي الفس كَذَلِك تعْتَبر فِي الْأَطْرَاف لِأَن الاعتداء بِهِ يُقَابل بِمثلِهِ فَمن لَا يقتل بشخص لَا يقطع طرفه بطرفه لانتقاء الْمُمَاثلَة المرعية شرعا وَإِذا تقرر هَذَا فَلَا يُقَابل طرفع بِغَيْر جنسه كَالْيَدِ بِالرجلِ وَنَحْوه وكما لَا يُقَابل الْعُضْو بِغَيْر جنسه كَذَلِك لَا يُقَابل عِنْد اخْتِلَاف الْمحل فَلَا تقطع الْيُمْنَى باليسرى وَبِالْعَكْسِ وَكَذَا بَقِيَّة الْأَعْضَاء فَلَا تُؤْخَذ الْعين الْيُمْنَى باليسرى وَبِالْعَكْسِ وَلَا السُّفْلى بالعليا من الشفتين وَبِالْعَكْسِ كَمَا لَا يُؤْخَذ خنصر بإبهام وَلَا أُنْمُلَة بِأُخْرَى لاخْتِلَاف مَحلهمَا ومنافعهما كَمَا لَا يُؤْخَذ أنف بِعَين وكما يُؤثر اخْتِلَاف الْمحل فِي منع الْقصاص لعدم الْمُمَاثلَة كَذَلِك يُؤثر تفَاوت الصِّفَات الْمُعْتَبرَة فَلَا تُؤْخَذ الْيَد الصَّحِيحَة بالشلاء وَإِن رَضِي لِأَن الشلاء مسلوبة الْمَنْفَعَة فَلَا تُؤْخَذ بهَا كَامِلَة مَا لَا تُؤْخَذ الْعين البصيرة بالعمياء بِخِلَاف الْأذن الشلاء حَيْثُ تُؤْخَذ بهَا الصَّحِيحَة على الرَّاجِح لِأَن مَنْفَعَتهَا من جمع الصَّوْت وَدفع الْهَوَام بَاقِيَة وَلِأَن الشلل موت كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فَلَا يقْتَصّ من حَيّ بحز رَقَبَة ميت وكما لَا تقطع الصَّحِيحَة بالشلاء كَذَلِك لَا تقطع الصَّحِيحَة بيد فِيهَا أصْبع شلاء نعم لَهُ لقط الْأَصَابِع الصَّحِيحَة وَأخذ الْأَرْش عَن الأشل وَهل تجب حُكُومَة جَمِيع الْكَفّ أَو حُكُومَة مَا قَابل الْأَصَابِع الصَّحِيحَة الَّتِي اقْتصّ مِنْهَا وَتسقط حُكُومَة الأشل الَّذِي أَخذ حكومته وَجْهَان جزم الْعِرَاقِيُّونَ بِالثَّانِي وَصحح ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة الأول وَبِه جزم القَاضِي حُسَيْن
وَاعْلَم أَنه إِذا اتَّحد الْجِنْس وَالْمحل وَالْمَنْفَعَة فَلَا اعْتِبَار بالتفاوت فِي الصغر وَالْكبر والطول وَالْقصر وَالْقُوَّة والضعف والضخامة والنحافة كَمَا لَا يعْتَبر مماثلة النَّفس فِي هَذِه الْأُمُور وَلِهَذَا تقطع يَد الصَّانِع بالأخرق كَمَا يقتل الْعَالم بالجاهل وَالله أعلم قَالَ
(وكل عُضْو أَخذ من مفصل فَفِيهِ الْقصاص وَلَا قصاص فِي الْجراح إِلَّا فِي الْمُوَضّحَة)
لَا شكّ فِي جَرَيَان الْقصاص فِي الْجِرَاحَات فِي الْجُمْلَة قَالَ الله تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}(1/458)
ثمَّ الْجراحَة تَارَة تحصل مَعهَا إبانة وَتارَة لَا تحصل فَإِن حصل مَعهَا إنابة فَتَارَة تكون الْإِبَانَة من مفصل وَتارَة لَا تكون فَإِن لم تكن من مفصل فَلَا قصاص لعدم الوثوق بالمماثلة كَمَا لَو قطع يَده من نصف الْكَفّ فَلَا قصاص فِي الْكَفّ وَله الْتِقَاط الْأَصَابِع وَله حُكُومَة نصف الْكَفّ على الْأَصَح وَلَو قطع من نصف الساعد قطع من الْكُوع وَأخذ حُكُومَة نصف الساعد فَلَو عَفا فَلهُ دِيَة الْكَفّ وحكومة نصف الساعد وَكَذَا لَا قصاص فِي كسر الْعِظَام لعدم الوثوق بالمماثلة وَإِن كَانَت الْإِبَانَة من مفصل وَجب الْقصاص بِشَرْط إِمْكَان الْمُمَاثلَة وَأمن اسْتِيفَاء الزِّيَادَة وَيحصل ذَلِك بِأَن يكون للعضو مفصل تُوضَع الْحَدِيد عَلَيْهِ ثمَّ اتِّصَال الْعُضْو بالعضو قد يكون بمجاورة مَحْضَة وَقد يكون مَعَ دُخُول عظم فِي عظم كالمرفق وَالركبَة فَمن المفاصل الأنامل والكوع وَالركبَة ومفصل الْقدَم فَإِذا وَقعت الْجِنَايَة على بَعْضهَا اقْتصّ من الْجَانِي لِإِمْكَان الْمُمَاثلَة بِلَا زِيَادَة وَمن المفاصل الْفَخْذ والمنكب فَإِن أمكن الْقصاص بِلَا إجافة اقْتصّ وَإِلَّا فَلَا سَوَاء كَانَ الْجَانِي أجاف أم لَا لِأَن الجوائف لَا تنضبط وَلِهَذَا لَا يجْرِي فِيهَا الْقصاص وَفِي وَجه شَاذ أَن الْقصاص يجْرِي إِذا كَانَ الْجَانِي أجاف وَقَالَ أهل الْخِبْرَة يُمكن أَن يقطع ويجاف مثل تِلْكَ الْجَائِفَة وَإِن كَانَت الْجراحَة لَا إبانة مَعهَا فَلَا قصاص فِي شَيْء إِمَّا قطعا وَإِمَّا على الرَّاجِح إِلَّا فِي الْمُوَضّحَة سَوَاء كَانَت فِي الرَّأْس أَو الْوَجْه أَو الصَّدْر أَو غَيرهَا كالساعد والأنامل وَسميت بذلك لِأَنَّهَا أوضحت الْعظم وَوَجَب الْقصاص فِيهَا لِإِمْكَان الْمُمَاثلَة بالمساحة فتذرع مُوضحَة المشجوج بخشبة أَو بخيط ويحلق ذَلِك الْموضع من رَأس الشاج إِن كَانَ عَلَيْهِ شعر ويخط عَلَيْهِ بسواد أَو حمرَة ويضبط الشاج حَتَّى لَا يضطرب ويوضح بحديدة حادة كالموسى وَلَا يُوضح بِالسَّيْفِ وَإِن كَانَ أوضح بِهِ لِأَنَّهُ لاتؤمن مَعَه الزِّيَادَة وَكَذَا لَو أوضحه بِحجر أَو دبوس أَو عَصا بل يقْتَصّ مِنْهُ بالحديد كَذَا ذكره الْقفال وَغَيره وَتردد فِيهِ الرَّوْيَانِيّ ثمَّ يفعل مَا هُوَ أسهل عَلَيْهِ من الشق دفْعَة وَاحِدَة أَو شَيْئا فَشَيْئًا وَلَا عِبْرَة بتفاوت الْجلد فِي الغلظ وَاللَّحم بَين الْجَانِي والمجني عَلَيْهِ كَمَا لَا عِبْرَة بالضخامة والنحافة فِي قصاص النَّفس والطرف وَالله أعلم وَقَوله وَلَا قصاص إِلَّا فِي الْمُوَضّحَة هَذَا اسْتَثْنَاهُ من الشجاج والمنقلة وَهِي تِسْعَة غير الْمُوَضّحَة فَمِنْهَا الخارصة وَهِي الَّتِي تشق الْجلد قَلِيلا نَحْو الخدش وفيهَا الْحُكُومَة وَلَا يبلغ بهَا أرش الْمُوَضّحَة
الثَّانِيَة الدامية وَهِي الَّتِي يدمي موضعهَا من الشق والخدش وَلَا يقطر مِنْهَا دم كَذَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَأهل اللُّغَة وَقَالَ أهل اللُّغَة إِن سَالَ مِنْهَا دم فَهِيَ الدامعة بِالْعينِ الْمُهْملَة وفيهَا حُكُومَة أَيْضا
الثَّالِثَة الباضعة وَهِي الَّتِي تقطع اللَّحْم بعد الْجلد وفيهَا حُكُومَة أَيْضا(1/459)
الرَّابِعَة المتلاحمة وَهِي الَّتِي تغوص فِي اللَّحْم وَلَا تبلغ الْجلد بَين اللَّحْم والعظم فِيهَا حُكُومَة أَيْضا
الْخَامِسَة السمحاق وَهِي الَّتِي تبلغ تِلْكَ الْجلْدَة وَتسَمى تِلْكَ الْجلْدَة السمحاق وفيهَا حُكُومَة أَيْضا كَالَّتِي قبلهَا
السَّادِسَة الهاشمة وَهِي الَّتِي تكسر الْعظم وفيهَا خمس من الْإِبِل فَإِن أوضح مَعَ الهشم وَجب عشرَة من الْإِبِل
السَّابِعَة المنقلة وَهِي الَّتِي تنقل الْعظم من مَوضِع إِلَى مَوضِع وفيهَا مَعَ الهشم والإيضاح خَمْسَة عشرَة
الثَّامِنَة المأمومة وَهِي الَّتِي تبلغ أم الرَّأْس وَهِي خريطة الدِّمَاغ المحيطة بِهِ وفيهَا ثلث الدِّيَة
التَّاسِعَة الدامغة وَهِي الَّتِي تخرق الخريطة وَتصل إِلَى أم الدِّمَاغ وفيهَا ثلث الدِّيَة
الْعَاشِرَة الْمُوَضّحَة ومحلها بعد السمحاق وَهِي الْجلْدَة لِأَن الْمُوَضّحَة تزيلها فَيظْهر الْعظم فتوضحه وفيهَا خمس من الْإِبِل عِنْد عدم وجوب الْقصاص وَقد ذكر الشَّيْخ مَا يجب فِيهَا من الدِّيَة وَفِي لجائفة ثلث الدِّيَة وَهِي الْجِنَايَة الَّتِي تصل إِلَى الْجوف وَالله أعلم قَالَ
بَاب الدِّيات فصل فِي الدِّيَة وَالدية على ضَرْبَيْنِ مُغَلّظَة ومخففة فالمغلظة من الْإِبِل ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعُونَ خلفة)
الدِّيَة هِيَ المَال الْوَاجِب بِالْجِنَايَةِ على الْحر سَوَاء كَانَت فِي نفس أَو طرف وَهِي فِي الْحر الْمُسلم مائَة من الْإِبِل كَذَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كِتَابه إِلَى الْيمن وَادّعى ابْن يُونُس الْإِجْمَاع على ذَلِك ثمَّ إِن كَانَ الْقَتْل عمدا سَوَاء أوجب الْقصاص أم لَا كَقَتل الْوَالِد الْوَلَد أَو شبه عمد وَجَبت الدِّيَة أَثلَاثًا ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا كَذَا ورد النَّص بِهِ وَالله أعلم قَالَ(1/460)
(والمخفضة مائَة من الْإِبِل عشرُون حقة وَعِشْرُونَ جَذَعَة وَعِشْرُونَ بنت لبون وَعِشْرُونَ ابْن لبون وَعِشْرُونَ بنت مَخَاض)
لما روى ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ دِيَة الْخَطَإِ أَخْمَاس وَجُمْهُور الصَّحَابَة على تخميسها وَقد مر أَن سُلَيْمَان بن يسَار قَالَ كَانُوا يَقُولُونَ دِيَة الْخَطَأ مائَة من الْإِبِل وَذكر مَا ذكره الشَّيْخ من التخميس وَسليمَان تَابِعِيّ فَدلَّ على أَنه إِجْمَاع من الصَّحَابَة وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن أعوزت الْإِبِل انْتقل إِلَى قيمتهَا وَقيل ينْتَقل إِلَى ألف دِينَار أَو اثْنَي عشر ألف دِرْهَم وَإِن غلظت زيد عَلَيْهَا الثُّلُث)
حَيْثُ وَجَبت الدِّيَة إِمَّا على الْقَاتِل أَو على الْعَاقِلَة وَله إبل وَجَبت الدِّيَة من نوعها كَمَا تجب الزَّكَاة من نوع النّصاب سَوَاء كَانَت من نوع إبل الْبَلَد أَو من فَوْقهَا أَو دونهَا هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص وَفِي وَجه تجب من غَالب إبل الْبَلَد وَرجحه الإِمَام لِأَنَّهُ عوض متْلف فعلى الصَّحِيح لَو كَانَت إبل الْجَانِي أَو الْعَاقِلَة مُخْتَلفَة الْأَنْوَاع فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا تجب من الْغَالِب فَإِن اسْتَوَت تخير
وَالثَّانِي تجب من كل نوع بِقسْطِهِ فَإِن أخرج الْكل من نوع وَاحِد وَكَانَ أَجود جَازَ كَذَا حَكَاهُ الرَّافِعِيّ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِن أخرج الْقَاتِل من الْأَغْلَب جَازَ وَإِن كَانَ أردأ وَإِن اسْتَوَى جَازَ من الْأَعْلَى دون الْأَسْفَل إِلَّا أَن يرضى الْوَلِيّ وَأما الْعَاقِلَة فَإِن كَانَ لكل مِنْهُم أَنْوَاع فَهُوَ كالقاتل لَكِن لَهُ إِخْرَاج الْأَدْنَى لِأَنَّهَا تُؤْخَذ مِنْهُ مواساة وَمن الْجَانِي استحقاقاً فَإِن لم يكن للجاني وَلَا لِلْعَاقِلَةِ إبل وَجَبت من غَالب إبل الْبَلَد فَإِن لم يكن فَمن غَالب أقرب إبل الْبِلَاد إِلَيْهِم كَزَكَاة الْفطر فَإِن لم يَكُونُوا من أهل الْبِلَاد فَمن غَالب إبل الْقَبِيلَة فَإِن لم يكن فَمن أقرب الْقَبَائِل إِلَيْهِم فَإِن أعوزت الْإِبِل(1/461)
وَجَبت قيمتهَا بَالِغَة مَا بلغت على الْأَظْهر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يقوم الْإِبِل على أهل الْقرى فَإِذا غلت رفع قيمتهَا وَإِذا هَانَتْ نقص من قيمتهَا وَلِأَن الْإِبِل بدل متْلف فَرجع إِلَى قِيمَته عِنْد إعواز أَصله هَذَا هُوَ الْجَدِيد وَفِي الْقَدِيم تجب ألف دِينَار على أهل الذَّهَب أَو اثْنَا عشر ألف دِرْهَم على أهل الْوَرق لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كتب إِلَى أهل الْيمن إِن على أهل الذَّهَب ألف دِينَار وعَلى أهل الْوَرق اثْنَا عشر ألف دِرْهَم فعلى الْقَدِيم يُزَاد فِي التَّغْلِيظ قدر الثُّلُث أَي ثلث الدِّيَة لفعل عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِن تعدد بِسَبَب التَّغْلِيظ بِأَن قتل محرما بِفَتْح الرَّاء فِي الْحرم فَفِي التَّعَدُّد خلاف الرَّاجِح لَا تعدد وَالله أعلم قَالَ
(وتغلظ دِيَة الْخَطَإِ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع إِذا قتل فِي الْحرم أَو فِي الاشهر الْحرم أَو قتل ذَا رحم)
قد تقدم أَن دِيَة الْخَطَأ مُخَفّفَة من ثَلَاثَة أوجه كَونهَا مخمسة وَكَونهَا على الْعَاقِلَة وَكَونهَا مُؤَجّلَة وَقد يطْرَأ مَا يُوجب التَّغْلِيظ فَإِذا قتل خطأ فِي حرم مَكَّة دون حرم الْمَدِينَة أَو فِي الْأَشْهر الْحرم وَهِي ذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم وَرَجَب أَو قتل ذَا رحم أَي محرم دون مَا إِذا قتل ذَا رحم غير محرم فَإِنَّهُ لَا تَغْلِيظ فِي الْأَصَح وَكَذَا بمحرمية الرَّضَاع والمصاهرة لَا تَغْلِيظ قطعا وَوَجَبَت الدِّيَة مُغَلّظَة وَالدَّلِيل على التَّغْلِيظ بِهَذِهِ الْأَسْبَاب أَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم غلظوا بهَا وَادّعى الاشتهار بذلك وَحُصُول الِاتِّفَاق أما عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ من قتل فِي الْمحرم أَو ذَا رحم أَو فِي الْأَشْهر الْحرم فَعَلَيهِ دِيَة وَثلث وَقضى عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي امْرَأَة وطِئت فِي الطّواف بديتها سِتَّة آلَاف دِرْهَم وألفين تَغْلِيظًا لأجل الْحرم وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رجلا قتل رجلا فِي الشَّهْر الْحَرَام وَفِي الْبَلَد الْحَرَام فَقَالَ دِيَته اثْنَا عشر ألف دِرْهَم وللشهر الْحَرَام أَرْبَعَة آلَاف وللبلد الْحَرَام أَرْبَعَة آلَاف وَلم يُنكر ذَلِك أحد من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فَكَانَ إِجْمَاعًا وَهَذِه الْأُمُور لَا تدْرك بِالِاجْتِهَادِ بل بالتوقيف من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاعْلَم أَن الشَّيْخ قَالَ وتغلظ وَلم يذكر كَيْفيَّة التَّغْلِيظ قَالَ الرَّافِعِيّ تكون مُغَلّظَة بِاعْتِبَار التَّثْلِيث فَتجب على الْعَاقِلَة ومؤجلة ومثلثة كدية شبه الْعمد والتغليظ بِاعْتِبَار التَّثْلِيث يرجع إِلَى الصّفة وَالسّن دون الْعدَد وَقَضَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم يرجع إِلَى الزِّيَادَة على الْقدر وَالِاسْتِدْلَال(1/462)
بِفعل الصَّحَابَة كَذَلِك يحْتَاج إِلَى تَأمل فاعرفه وَالله أعلم قَالَ
(ودية الْمَرْأَة على النّصْف من دِيَة الرجل)
لما روى عَمْرو بن حزم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ دِيَة الْمَرْأَة نصف دِيَة الرجل ويروى ذَلِك عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي وَعَن العبادلة رَضِي الله عَنْهُم وَلم يخالفهم أحد مَعَ اشتهاره فَصَارَ إِجْمَاعًا والعبادلة أَرْبَعَة آباؤهم صحابة عبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الله بن الزبير وعد ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة هُنَا العبادلة ثَلَاثَة وَأسْقط عبد الله بن الزبير وَالله أعلم قَالَ
(ودية الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ ثلث دِيَة الْمُسلم)
دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ ذِمِّيا كَانَ أَو مستأمناً أَو معاهداً ثلث دِيَة الْمُسلم رُوِيَ ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قضى فِي دِيَة الْيَهُودِيّ بأَرْبعَة آلَاف وَفِي الْمَجُوسِيّ بثمانمائة دِرْهَم وَلِأَنَّهُ أقل مَا قيل وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة فِيمَا زَاد والسامرة والصابئة إِن ألْحقُوا بهم فِي الْجِزْيَة والذبائح والمناكحة فَكَذَلِك فِي الدِّيَة وَإِلَّا فديتهم إِن كَانَ لَهُم أَمَان دِيَة الْمَجُوسِيّ وَالله أعلم قَالَ
(ودية الْمَجُوسِيّ ثلثا عشر دِيَة الْمُسلم)
شَرطه أَن يكون لَهُ أَمَان وَحِينَئِذٍ فديته ثلثا عشر دِيَة الْمُسلم لِأَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ جعل دِيَته ثَمَانمِائَة دِرْهَم وَكَذَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَابْن مَسْعُود وانتشر فِي الصَّحَابَة بِلَا نَكِير فَكَانَ إِجْمَاعًا وَمثل هَذِه التقديرات لَا تفعل إِلَّا توقيفا وَلِأَن الْيَهُود والنصار كَانَ لَهُم كتاب وَدين حق بِالْإِجْمَاع وَتحل مناكحتهم وذبائحهم ويقرون بالجزية وَلَيْسَ للمجوسي من هَذِه الْخَمْسَة إِلَّا التَّقْرِير بالجزية فَكَأَن ديتهم خمس دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصَارَى وَاعْلَم أَن الوثني كالمجوسي وَكَذَا عَبدة الشَّمْس وَالْبَقر وَالشَّجر وَالله أعلم(1/463)
(فرع) من لم تبلغه دَعْوَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الله تَعَالَى وبلغته دَعْوَة غَيره فَالَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه إِن كَانَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا فَفِيهِ ثلث الدِّيَة وَإِن كَانَ مجوسياً أَو وثنياً فَفِيهِ ثلثا عشر الدِّيَة لِأَنَّهُ ثَبت لَهُ بجهله نوع عصمَة فَألْحق بالمستأمن من أهل دينه فعلى هَذَا إِن لم يعرف دينه فَهَل تجب دِيَة ذمِّي أَو مَجُوسِيّ فِيهِ وَجْهَان قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ الْمَذْهَب مِنْهَا الثَّانِي وَالله أعلم قَالَ
(وتكمل دِيَة النَّفس فِي الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وَالْأنف والأذنين والعينين والجفون الْأَرْبَعَة وَاللِّسَان والشفتين وَذَهَاب الْكَلَام وَذَهَاب الْبَصَر وَذَهَاب السّمع وَذَهَاب الشم وَذَهَاب الْعقل وَالذكر والانثيين)
قد علمت أَن دِيَة النَّفس مائَة من الْإِبِل على الْجَدِيد أَو ألف دِينَار أَو إثنا عشر ألف دِرْهَم على الْقَدِيم وَقيل غير ذَلِك إِذا عرفت هَذَا فالجناية قد تكون على نفس وَقد تكون على غير نفس وَإِذا كَانَت على غير نفس فقد تكون على طرف وَقد تكون على غير طرف وَإِن كَانَت على غير طرف فقد يكون لَهَا أرش مُقَدّر وَقد لَا يكون لَهَا أرش فَإِن لم يكن لَهَا أرش مُقَدّر فَفِيهَا الْحُكُومَة وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهَا وَإِن كَانَ لَهَا أرش مُقَدّر فَتَارَة يكون الْفَائِت بِالْجِنَايَةِ مَنْفَعَة فَقَط كذهاب الْبَصَر مثلا وَقد تكون الْمَنْفَعَة مَعَ الجرم وَذَلِكَ مثل الْيَدَيْنِ وَفِي إبانتهما الدِّيَة كَامِلَة وَفِي إِحْدَاهمَا نصفهَا بل تكمل الدِّيَة فِي لقط الْأَصَابِع
وَالدَّلِيل على إِكْمَال الدِّيَة فيهمَا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَة كَذَا ورد فِي حَدِيث جَابر وَفِي كِتَابه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى الْيمن وَفِي الْيَد خَمْسُونَ من الْإِبِل وَلِأَنَّهُمَا أعظم نفعا من الْأُذُنَيْنِ وَالْمرَاد بِالْيَدِ الكفان وَيدل لَهُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَقطع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مفصل الْكَفّ فَدلَّ على أَنَّهَا الْيَد لُغَة وَشرعا وَلَو قطع الْأَصَابِع ثمَّ قطع الْكَفّ بعد الِانْدِمَال وَجَبت دِيَة وحكومة وَإِن كَانَ قبل الِانْدِمَال فَكَذَلِك على الْأَصَح ثمَّ هَذَا كُله إِذا كَانَت الْيَد صَحِيحَة فَإِن كَانَت شلاء فَفِيهَا الْحُكُومَة لِأَن فِي الْيَد مَنْفَعَة وجمالاً فالحكومة فِي مُقَابلَة الْجمال وَالله أعلم وَيجب فِي الرجلَيْن كَمَال الدِّيَة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِي الرجلَيْن الدِّيَة كَذَا ورد فِي خبر عَمْرو بن شُعَيْب وَفِي كتاب الْيمن وَفِي الرجل الْوَاحِدَة نصف الدِّيَة وَلَا فرق بَين الرجل العرجاء والسليمة لِأَن الْعَيْب لسي فِي نفس الْعُضْو وَإِنَّمَا العرج فِي الْفَخْذ أَو السَّاق أَو تشنج(1/464)
الأعصاب وَلَو قطّ رجلا تعطل مشيها بِكَسْر الفقار فَالصَّحِيح وجوب الدِّيَة لِأَن الرجل صَحِيحَة والخلل فِي غَيرهَا وتكمل الدِّيَة فِي لقط الْأَصَابِع والقدم كَالْكَفِّ والقدم كَالْكَفِّ وَالله أعلم وَفِي الْأنف الدِّيَة وتكمل فِي المارن مِنْهُ والمارن مَا لَان مِنْهُ وخلا من الْعظم لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِي الْأنف إِذا أوعت جذعاً الدِّيَة وَلَا فرق بَين الخشم وَغَيره والمارن ثَلَاث طَبَقَات الطرفان والوترة الحاجزة وَلَو قطع المارن وَبَعض القصبة لزمَه دِيَة وحكومة لِأَن القصبة مَعَ المارن كالذراع مَعَ الْكَفّ وَلَا يبلغ بالحكومة دِيَة الْأنف لِأَنَّهَا تبع وَلَا تنقص عَن دِيَة منقلة بل تزيد وَهَذَا مَا ذكره فِي التَّنْبِيه وَأقرهُ النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي التَّصْحِيح وَالصَّحِيح تجب دِيَة فَقَط كَالْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِع وَالله أعلم
وَتجب فِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَة إِذا قطعهمَا من أَصلهمَا وَقيل تجب فِيمَا حُكُومَة لِأَن السّمع لَا يخلهما وَلَيْسَ فيهمَا مَنْفَعَة ظَاهِرَة إِنَّمَا هما جمال وزينة فأشبها الشُّعُور قَالَ الإِمَام وَلِهَذَا لم يجر لَهما ذكر فِي كتاب عَمْرو بن حزم إِلَى الْيمن وَفِيه الْآيَات وَحجَّة الْمَذْهَب قَضَاء عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَا مُخَالف وَلِأَنَّهُمَا عُضْو فيهمَا جمال وَمَنْفَعَة فأشبها الْيَدَيْنِ ومنفعتهما جمع الصَّوْت لتأديته إِلَى الصماخ وَمحل السّمع ولمنع المَاء والهوام فَإِنَّهُ يحس بِحَسب معاطفهما وَسَوَاء فِي ذَلِك السَّمِيع والأصم لِأَن السّمع فِي الصماخ لَا فِي الْأذن وَالله أعلم
وَيجب فِي الْعَينَيْنِ الدِّيَة كَذَا ورد فِي كتاب عَمْرو بن حزم وَلِأَنَّهُمَا من أعظم الْجَوَارِح نفعا فكانتا أولى بِإِيجَاب الدِّيَة وَسَوَاء فِي ذَلِك الصَّغِيرَة والكبيرة والحادة والكليلة والصحيحة والعليلة والغشياء والعمشاء والحولاء إِذا كَانَ النّظر سليما قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَألْحق الْغَزالِيّ الْأَخْفَش وَهُوَ الَّذِي لَا يبصر نَهَارا بالأعمش وَفِي إِحْدَاهمَا نصفهَا لوروده وَلِأَن كل دِيَة وَجَبت فِي عضوين وَجب نصفهَا فِي أَحدهمَا كاليدين وَالله أعلم
وَتجب فِي الجفون الْأَرْبَعَة الدِّيَة لِأَنَّهَا من تَمام الْخلقَة وفيهَا جمال وَمَنْفَعَة ويخشى على النَّفس من سرايتها فَأَشْبَهت الْيَدَيْنِ وَسَوَاء فِي ذَلِك الْبَصِير والضرير وَفِي كل وَاحِد ربعهَا لِأَنَّهُ قَضِيَّة التَّوْزِيع وَالله أعلم
وَتجب فِي اللِّسَان الدِّيَة إِذا كَانَ سَالم الذَّوْق ناطقاً لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِي اللِّسَان الدِّيَة وَهُوَ قَول أبي بكر وَعمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُم وَلَا مُخَالف وَلِأَن فِيهِ جمالاً وَمَنْفَعَة وَأي مَنْفَعَة وَسَوَاء فِي ذَلِك الصَّغِير وَالْكَبِير والأعجمي والألكن والعجل والثقيل والأرت والألثغ وَغَيره قَالَ الرَّوْيَانِيّ وَيحْتَمل أَن يُقَال بِخِلَافِهِ وَفِي لِسَان الْأَخْرَس حُكُومَة سَوَاء كَانَ خرسه أَصْلِيًّا أم عارضاً هَذَا إِذا لم يذهب الذَّوْق بِقطع الْأَخْرَس أَو كَانَ قد ذهب ذوقه قبله فَأَما إِذا ذهب ذوقه(1/465)
بِقطع لِسَانه فَفِيهِ الدِّيَة كَذَا ذكره فِي أصل الرَّوْضَة وَالله أعلم
(فرع) إِذا كَانَ لِسَان الشَّخْص ناطقا إِلَّا أَن فَاقِد الذَّوْق فَقَطعه شخص فَفِيهِ الْحُكُومَة قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم
(فرع) لِسَان الطِّفْل إِن عرفت سَلَامَته بنطقه بِحرف من حُرُوف الْحلق لِأَنَّهَا أول مَا تظهر مِنْهُ عِنْد الْبكاء أَو بحروف الشّفة كبابا وماما أَو بحروف اللِّسَان فِي زَمَانه كملت فِيهِ الدِّيَة قَالَ ابْن الصّباغ وَيجب فِيهِ الْقصاص وَإِن لم ينْطق بذلك فِي زَمَانه فَفِيهِ حُكُومَة لِأَن الظَّاهِر خرسه وَلَو قطعه قَاطع حَال وِلَادَته فَالْأَصَحّ وجوب الدِّيَة حملا على الصِّحَّة وَقيل حُكُومَة لَو تعذر نطقه لَا لخلل فِي لِسَانه بل لِأَنَّهُ ولد أَصمّ فَلم يحسن الْكَلَام لعدم سَمَاعه إِيَّاه فَهَل تجب فِيهِ دِيَة أم حُكُومَة وَجْهَان وَالله أعلم
وَتجب فِي الشفتين الدِّيَة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذكر ذَلِك فِي كتاب عَمْرو بن حزم وَلِأَن فيهمَا جمالاً وَمَنْفَعَة فأشبها الْيَدَيْنِ وَفِي إِحْدَاهمَا نصفهَا وَفِي بَعْضهَا بِحِسَابِهِ لِأَنَّهُ قَضِيَّة التَّوْزِيع وَلَو جنى عَلَيْهِمَا فشلتا وَجَبت الدِّيَة كشلل الْيَدَيْنِ وَالله أعلم قَالَ
(وَتجب فِي ذهَاب الْكَلَام الدِّيَة)
هَذَا شُرُوع فِيمَا يتَعَلَّق بِفَوَات الْمَنَافِع فَإِذا جنى شخص على لِسَان نَاطِق فَأذْهب كَلَامه وَجَبت الدِّيَة لِأَنَّهُ سلبه أعظم مَنَافِعه فَأشبه الْبَصَر وَإِن ذهب بعض الْكَلَام وَجب بِقسْطِهِ وَإِنَّمَا تُؤْخَذ الدِّيَة إِذا قَالَ أهل الْخِبْرَة لَا يعود نطقه فَلَو أخذت ثمَّ عَاد استردت مِنْهُ وَاعْلَم أَن التَّوْزِيع على جَمِيع الْحُرُوف على ظَاهر النَّص وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حرفا فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَلَو كَانَ شخص لَا يعرف الْحُرُوف كلهَا كالأرت والألثغ الَّذِي لَا يتَكَلَّم إِلَّا بِعشْرين حرفا مثلا فَإِذا ذهب كَلَامه فَالصَّحِيح تجب دِيَة كَامِلَة لِأَنَّهُ أذهب كَلَامه فعلى هَذَا لَو ذهب بعض الْحُرُوف وزع على مَا يُحسنهُ لَا على الْجَمِيع وَالله أعلم وَتجب فِي ذهَاب الْبَصَر الدِّيَة لِأَن مَنْفَعَة الْعَينَيْنِ الْبَصَر فذهابه كشلل الْيَدَيْنِ وَالله أعلم وَيجب فِي ذهَاب السّمع كَمَال الدِّيَة لِأَن عمر قضى بذلك وَلم يُخَالف ولانه أشرف السّمع كَمَال الدِّيَة لِأَن الْحَواس فَأشبه الْبَصَر وَلَو جنى عَلَيْهِ فارتتق دَاخل الْأذن ارتتاقا لَا وُصُول إِلَى زَوَاله فَالْأَصَحّ وجوب حُكُومَة لبَقَاء السّمع وَقيل تجب الدِّيَة لفَوَات السّمع وَالله أعلم(1/466)
وَيجب فِي ذهَاب الشم كَمَال الدِّيَة لِأَنَّهُ أحد الْحَواس فَأشبه الْبَصَر وَقيل فِيهِ حُكُومَة لضعف منفعَته وَالله أعلم وَيجب فِي ذهَاب الْعقل كَمَال الدِّيَة لِأَنَّهُ كَذَلِك فِي كتاب عَمْرو بن حزم وَلِأَن عمر وزيداً رَضِي الله عَنْهُمَا قضيا بذلك وَلم يخالفا وَلِأَنَّهُ من أشرف الْحَواس فَكَانَ أَحَق بِكَمَال الدِّيَة من جَمِيع الْحَواس لِأَنَّهُ لَا يَقع التَّمْيِيز بَينه وَبَين الْبَهِيمَة إِلَّا بِهِ وَأعلم أَنه لَا يجْرِي فِيهِ قصاص للِاخْتِلَاف فِي مَحَله لِأَن مِنْهُم من يَقُول إِن مَحَله الْقلب وَهُوَ الْمُصَحح أَو الدِّمَاغ أَو مُشْتَرك بَينهمَا وَلِأَنَّهُ يتَعَذَّر اسْتِيفَاؤهُ لِأَنَّهُ قد يذهب بِقَلِيل الْجِنَايَة وَلَا يذهب بكثيرها وَاعْلَم أَن المُرَاد بِالْعقلِ الْمُوجب للدية الْعقل الغريزي الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف فَأَما المكتسب الَّذِي بِهِ حسن التَّصَرُّف فَفِيهِ حُكُومَة وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ وَتجب فِي الذّكر والأنثيين يَعْنِي الدِّيَة أَي من كل مِنْهُمَا وَكَانَ من حق الشَّيْخ أَن يقدم هذَيْن لِأَنَّهُمَا من قبيل الإجرام لَا من قبيل الْمَنَافِع وَالْأَصْل فِي وجوب الدِّيَة فيهمَا حَدِيث عَمْرو بن حزم وَلِأَن الذّكر فِيهِ مَنْفَعَة التناسل وَهِي من أعظم الْمَنَافِع فَأشبه الْأنف وَسَوَاء فِي ذَلِك ذكر الشَّيْخ والشاب وَالصَّغِير والعنين وَغَيرهم لِأَن الْعنَّة عيب فِي غير الذّكر وَفِي الْحَشَفَة الدِّيَة لِأَن مَا عَداهَا من الذّكر كالتابع لَهَا كَالْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِع وَإِن قطع بعض الْحَشَفَة وَجب بِقسْطِهِ فِي الرَّاجِح وَلَو جنى على ذكره فشل وَجَبت الدِّيَة كشلل الْيَد وَأما الأنثيان فوجوب الدِّيَة فيهمَا مَعَ ذكرهمَا فِي الْخَبَر لِأَنَّهُمَا من تَمام الْخلقَة وَمحل التناسل وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الْعنين والمجبوب والطفل وَالشَّيْخ والأنثيان هما البيضتان وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات وَفِي البيضتين الدِّيَة وَفِي إِحْدَاهمَا نصف الدِّيَة لِأَنَّهُ قَضِيَّة التَّوْزِيع كاليدين فَلَو قطعهمَا فَذهب مَاؤُهُ لزمَه ديتان وَالله أعلم قَالَ
(وَفِي الْمُوَضّحَة وَالسّن خمس من الْإِبِل)
لِأَنَّهُ الْوَارِد فِي حَدِيث عَمْرو بن حزم فَلَو أوضح موضحتين فَأكْثر تعدد الْأَرْش وَأما الْأَسْنَان فَفِي الْوَاحِدَة خمس من الْإِبِل فَلَو قلع جَمِيع الْأَسْنَان إِمَّا فِي 4 دفْعَة بضربة أَو أسقاه شَيْئا فَسَقَطت أَسْنَانه أَو والى بَين الْقلع بِحَيْثُ لم يَتَخَلَّل اندمال فَهَل تجب دِيَة نفس لِأَن الْأَسْنَان جنس ذُو عدد فَأشبه الْأَصَابِع أم يجب فِي كل سنّ خمس من الْإِبِل الْمَذْهَب أَنه يجب فِي كل سنّ خمس كَمَا أطلقهُ الشَّيْخ وَبِه قطع جمَاعَة لعُمُوم قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِي كل سنّ خمس وَلِأَنَّهَا تزيد غَالِبا(1/467)
على قدر الدِّيَة بِخِلَاف الْأَصَابِع فعلى الْمَذْهَب يجب مائَة وَسِتُّونَ بَعِيرًا إِذا كَانَ كَامِل الْأَسْنَان وَهِي اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنا أَربع ثنايا وَأَرْبع رباعيات وَأَرْبَعَة أَنْيَاب وَأَرْبع ضواحك وإثنا عشر ضرساً وَأَرْبَعَة نواجذ وَهِي آخرهَا فَلَو زَادَت على ذَلِك فَهَل يجب لكل سنّ من الزَّوَائِد خمس من الْإِبِل لظَاهِر الْخَبَر أَو حُكُومَة كالأصابع الزَّوَائِد فِيهِ وَجْهَان قَالَ
(وَفِي كل عُضْو لَا مَنْفَعَة فِيهِ حُكُومَة)
أَقُول وَكَذَا فِي كسر الْعِظَام بل فِي جَمِيع الْجِنَايَات الَّتِي لَا تَقْدِير فِيهَا لِأَن الشَّرْع لم ينص عَلَيْهَا وَلم تَنْتَهِ فِي شبهها إِلَى النُّصُوص فَوَجَبَ فِيهَا حُكُومَة وَكَذَا تجب الْحُكُومَة فِي تعويج الرَّقَبَة وَالْوَجْه وتسويده وتصغيره وَمَا أشبه ذَلِك ثمَّ الْحُكُومَة أَن يقوم الْمَجْنِي عَلَيْهِ بِتَقْدِير أَنه عبد بعد الِانْدِمَال وَيُؤْخَذ بِنِسْبَة النَّقْص من الدِّيَة وَهِي الْإِبِل على الْأَصَح وَقيل نقد الْبَلَد كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ عِنْد إفضاء الْمَرْأَة فاعرفه
مِثَاله يُسَاوِي المجنى عَلَيْهِ مائَة عِنْد السَّلامَة وَبعد الْجِنَايَة والاندمال تسعين فَتجب عشر دينه لَكِن بِشَرْط أَن ينقص عَن دِيَة الْعُضْو الْمَجْنِي عَلَيْهِ إِن كَانَ لَهُ أرش مُقَدّر فَإِن لم ينقص نقص الْحَاكِم مَا يرَاهُ وَأقله مَا جَازَ جعله ثمنا أَو صَدَاقا وَالله أعلم قَالَ
(ودية العَبْد قِيمَته عبدا كَانَ أَو أمة)
إِذا قتل شخص مِمَّن يجب عَلَيْهِ الضَّمَان عبدا أَو أمة لزمَه قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت لِأَنَّهُمَا مَال فأشبها سَائِر الْأَمْوَال المتقومة وَالله أعلم قَالَ
(ودية الْجَنِين الْمَمْلُوك عشر قيمَة أمة ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى)
لِأَنَّهُ جَنِين آدمية فَيضمن بِعشر مَا تضمن بِهِ الْأُم كَالْحرَّةِ وَفِي الْوَقْت الَّذِي يعْتَبر فِيهِ قيمتهَا وَجْهَان
أَحدهمَا حَالَة الضَّرْب لِأَن الضَّرْب سَبَب الْإِسْقَاط وَهَذَا هُوَ الْمُصَحح فِي الْمُحَرر والمنهاج وَالشَّرْح الصَّغِير وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَذكره الشَّيْخ فِي التَّنْبِيه وَأقرهُ النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي التَّصْحِيح وَقيل تعْتَبر الْقيمَة أَكثر مَا كَانَت من وَقت الضَّرْب إِلَى الْإِسْقَاط وَهَذَا مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَلَك أَلا تجْعَل بَين التصحيحين مُخَالفَة وَتقول تَصْحِيح الْمِنْهَاج جَريا على الْغَالِب لِأَن قيمَة الْأُم وَقت الْجِنَايَة فِي الْغَالِب أَكثر قيمَة مِمَّا بعْدهَا لِأَن وَقت الْجِنَايَة وَقت سَلامَة وَلَا شكّ أَن وَقت السَّلامَة تكون الْقيمَة فِيهِ أَكثر من غَيره وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ ودية الْجَنِين الْمَمْلُوك احْتَرز بِهِ عَن الْجَنِين الْحر فديَة الْجَنِين الْحر الْمُسلم إِذا انْفَصل مَيتا بِالْجِنَايَةِ غرَّة عبد أَو أمة(1/468)
ثَبت ذَلِك من قَضَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيشْتَرط بُلُوغهَا نصف عشر دِيَة الْأَب أَو عشر دِيَة الْأُم وَهِي قيمَة خمس من الْإِبِل لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ قوم الْغرَّة خمسين دِينَارا وَكَذَا عَليّ وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَا مُخَالف لَهُم وَلِأَنَّهَا دِيَة تقدرت كَسَائِر الدِّيات فقدرت بِأَقَلّ أرش ورد فِي الشَّرْع وَهُوَ الْمُوَضّحَة وَلَا ترد الْأُنْمُلَة فَإِن فِيهَا ثَلَاثَة وَثلثا فَإِن دِيَتهَا مقدرَة بالإجتهاد وَالله أعلم
(فرع) صَاح على صبي غير مُمَيّز على طرف سطح أَو نهر أَو بِئْر فارتعد وَسقط وَمَات مِنْهُ وَجَبت الدِّيَة قطعا وَلَا قصاص على الرَّاجِح وَلَو كَانَ على وَجه الأَرْض وَمَات من الصَّيْحَة فَلَا ضَمَان على الرَّاجِح لِأَن الْمَوْت بِهِ فِي غَايَة الْبعد وَالْمَجْنُون وَالْمَعْتُوه الَّذِي يَعْتَرِيه الوسواس والنائم وَالْمَرْأَة الضعيفة كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيّز وَشهر السِّلَاح والتهديد الشَّديد كالصياح وَلَو صَاح على بالع على طرف سطح وَنَحْوه فَلَا ضَمَان على الرَّاجِح والمراهق المتيقظ كَالْبَالِغِ وَإِن صَاح على صَغِير فَزَالَ عقله وَجب الضَّمَان وَالله أعلم
(فرع) اتبع شخص إنْسَانا بِسيف فهرب وَأُلْقِي نَفسه من الْخَوْف فِي نهر أَو من شَاهِق عَال أَو فِي بِئْر فَهَلَك فَلَا ضَمَان لِأَن الهارب هُوَ الَّذِي بَاشر هَلَاك نَفسه قصدا والمباشرة مُقَدّمَة على السَّبَب فَلَو لم يعلم بالمهلك فَوَقع بِلَا قصد بِأَن كَانَ أعمى أَو فِي ظلمَة أَو فِي ليل وَجب على الطَّالِب الضَّمَان وَلَو انخسف بِهِ سقف فِي هربه وَجب الضَّمَان على الرَّاجِح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي والعراقيون وَلَو كَانَ الْمَطْلُوب صَبيا أَو مَجْنُونا فَألْقى نَفسه فِي بِئْر وَنَحْوه فَهَل يضمن الطَّالِب يَبْنِي على أَن عمدهما خطأ أَو عمد إِن قُلْنَا إِن عمدهما عمد فهما كَالْبَالِغِ وَإِن قُلْنَا خطأ وَجب الضَّمَان وَالله أعلم
(فرع) سلم الصَّبِي إِلَى سباح ليعلمه السباحة فغرق وَجَبت فِيهِ دِيَة شبه الْعمد على الصَّحِيح كَمَا لَو ضرب الْمعلم الصَّبِي للتأديب فَهَلَك وَلَو ختن الْحجام فَأَخْطَأَ فَأصَاب الْحَشَفَة وَجب الضَّمَان وتحمله الْعَاقِلَة لِأَنَّهُ قطع مالم يُؤذن لَهُ فِيهِ وَالله أعلم
(فرع) كناسَة الْبَيْت وقشور الْبِطِّيخ وَنَحْوهمَا إِذا طرحها فِي موَات فَهَلَك بهَا إِنْسَان أَو تلف بهَا مَال فَلَا ضَمَان وَإِن طرحها فِي الطَّرِيق فَحصل بهَا تلف وَجب الضَّمَان على الصَّحِيح وَبِه قطع الْجُمْهُور وَقيل لَا ضَمَان للْعَادَة وَقيل إِن أَلْقَاهَا فِي متن الطَّرِيق ضمن وَإِن أَلْقَاهَا فِي منعطف لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْمَارَّة غَالِبا فَلَا ضَمَان فعلى الصَّحِيح شَرط الضَّمَان أَن يكون الَّذِي يعثر بهَا جَاهِلا أما إِذا مَشى عَلَيْهَا قصدا فَلَا ضَمَان كَمَا لَو نزل فِي الْبِئْر الْعدوان فزلق وَلَو رش المَاء فِي الطَّرِيق فزلق بِهِ إِنْسَان أَو بَهِيمَة نظر إِن رش لمصْلحَة عَامَّة كدفع الْغُبَار عَن الْمَارَّة فَلَا ضَمَان وَإِن كَانَ لمصْلحَة(1/469)
نَفسه وَجب الضَّمَان قَالَ الرَّافِعِيّ وَيَجِيء فِيهِ الْوَجْه الْمَذْكُور فِي طرح القشور وَلَو جَاوز الْقدر الْمُعْتَاد فِي الرش قَالَ الْمُتَوَلِي وَجب الضَّمَان قطعا كَمَا لَو بل الطين فِي الطَّرِيق فَإِنَّهُ يضمن مَا تلف بِهِ وَلَو بنى على بَاب دَاره دكة فَتلف بهَا إِنْسَان أَو دَابَّة وَجب الضَّمَان وَكَذَا الطّواف إِذا وضع مَتَاعه فِي الطَّرِيق فَتلف بِهِ شَيْء لزمَه الضَّمَان بِخِلَاف مَا لَو وَضعه على طرف حانوته وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْقسَامَة فصل فِي الْقسَامَة وَإِذا اقْترن بِدَعْوَى الْقَتْل لوث يَقع بِهِ صدق فِي النَّفس حلف الْمُدَّعِي خمسين يَمِينا وَاسْتحق الدِّيَة فَإِن لم يكن هُنَاكَ لوث فاليمين على الْمُدعى عَلَيْهِ
هَذَا فصل الْقسَامَة وَهِي الْأَيْمَان فِي الدِّمَاء وَصورتهَا أَن يُوجد قَتِيل بِموضع لَا يعرف من قَتله وَلَا بَيِّنَة وَيَدعِي وليه قَتله على شخص معِين أَو جمَاعَة مُعينين وتوجد قرينَة تشعر بِصَدقَة وَيُقَال لَهُ اللوث فَيحلف على مَا يَدعِيهِ خمسين يَمِينا وَلَا يشْتَرط موالاتها على الرَّاجِح فَإذْ حلف وَجَبت الدِّيَة فِي الْعمد على الْمقسم عَلَيْهِ وَفِي الْخَطَأ وَشبه الْعمد على الْعَاقِلَة
واللوث طرق مِنْهَا أَن يُوجد قَتِيل فِي قَبيلَة أَو حصن أَو قَرْيَة صَغِيرَة أَو محلّة مُنْفَصِلَة عَن الْكَبِيرَة وَبَين الْقَتِيل وَبَين أَهلهَا عَدَاوَة ظَاهِرَة فَهَذَا اللوث فِي حَقهم وَمِنْهَا أَن يتفرق جمَاعَة عَن قَتِيل فِي دَار دَخلهَا عَلَيْهِم وَهُوَ ضَعِيف أَو لحَاجَة أَو فِي مَسْجِد أَو بُسْتَان أَو طَرِيق أَو صحراء فَهُوَ لوث وَكَذَا لَو ازْدحم قوم على بِئْر أَو مضيق ثمَّ تفَرقُوا عَن قَتِيل وَلَا يشْتَرط فِي هَذَا أَن يكون بَينه وَبينهمْ عَدَاوَة وَمِنْهَا لَو شهد عدل أَن زيدا قتل فلَانا فلوث على الْمَذْهَب سَوَاء تقدّمت شَهَادَته على الدَّعْوَى أَو تَأَخَّرت وَلَو شهد عبيد ونسوة فَإِن جاؤوا مُتَفَرّقين فلوث وَلَو جاؤوا دفْعَة على الرَّاجِح وَلَو شهد من لَا يقبل رِوَايَته كصبيان وفسقة وذميين فَالصَّحِيح أَنه لوث وَمِنْهَا قَالَ الْبَغَوِيّ لَو وَقع فِي أَلْسِنَة الْخَاص وَالْعَام أَن زيدا قتل فلَانا فَهُوَ لوث فِي حَقه وَسَوَاء فِي الْقسَامَة ادّعى مُسلم على كَافِر أَو عَكسه وَالْأَصْل فِي الْقسَامَة مَا روى سهل بن أبي خَيْثَمَة قَالَ انْطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مَسْعُود إِلَى خَيْبَر وَهِي يَوْمئِذٍ صلح فتفرقا فَأتى محيصة إِلَى عبد الله بن سهل وَهُوَ يَتَشَحَّط فِي دَمه قَتِيلا فدفنه ثمَّ قدم الْمَدِينَة فَانْطَلق عبد الرَّحْمَن بن سهل وحويصة ومحيصة ابْنا مَسْعُود إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذهب عبد الرَّحْمَن يتَكَلَّم فَقَالَ كبر كبر وَهُوَ أحدث الْقَوْم فَسكت فتكلما فَقَالَ أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أَو صَاحبكُم فَقَالُوا كَيفَ نحلف وَلم نشْهد وَلم نر قَالَ فتبرئكم يهود بِخَمْسِينَ يَمِينا مِنْهُم فَقَالُوا كَيفَ نَأْخُذ بأيمان قوم كفار فعقله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْده وَهَذَا الحَدِيث(1/470)
مُخَصص لعُمُوم قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَة إِلَّا فِي الْقسَامَة وَوجه تَقْدِيم الْمُدَّعِي فِي الْقسَامَة أَن جَانِبه قوي باللوث فتحولت الْيَمين إِلَيْهِ كَمَا لَو أَقَامَ شَاهدا فِي غير الدَّم وَقَوله فَإِن لم يكن هُنَاكَ لوث فاليمين على الْمُدعى عَلَيْهِ جَريا على الْقَاعِدَة وَقَوله بِدَعْوَى الْقَتْل احْتَرز بِهِ عَن غير الْقَتْل فَلَا قسَامَة فِيمَا دون النَّفس من الْأَطْرَاف والجروح وَالْأَمْوَال بل القَوْل فِيهَا قَول الْمُدعى عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ وَإِن كَانَ هُنَاكَ لوث لِأَن النَّص ورد فِي النَّفس وَفِي وَجه تجْرِي فِي الْأَطْرَاف وَغلط قَائِله وَالله أعلم
(فرع) إِذا أنكر الْمُدَّعِي عَلَيْهِ اللوث فِي حَقه وَقَالَ لم أكن مَعَ المتفرقين عَنهُ صدق بِيَمِينِهِ وَالله أعلم قَالَ
بَاب كَفَّارَة الْقَتْل
(وعَلى قَاتل النَّفس الْمُحرمَة كَفَّارَة وَهِي عتق رَقَبَة مُؤمنَة سليمَة من الْعُيُوب فَإِن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين)
إِذا قتل من هُوَ من أهل الضَّمَان سَوَاء كَانَ الْقَاتِل مُسلما أَو كَافِرًا وَسَوَاء كَانَ حرا أَو عبدا وَسَوَاء كَانَ صَبيا أَو مَجْنُونا وَسَوَاء كَانَ مباشراً أَو بِسَبَب وَسَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو مخطئاً من يحرم قَتله لحق الله تَعَالَى وَجَبت الْكَفَّارَة وَسَوَاء كَانَ الْمَقْتُول مُسلما أَو كَافِرًا وَسَوَاء كَانَ ذِمِّيا أَو معاهداً وَسَوَاء كَانَ حرا أَو عبدا وَسَوَاء كَانَ عَبده أَو عبد غَيره وَسَوَاء كَانَ عَاقِلا أَو مَجْنُونا وَسَوَاء كَانَ صَغِيرا أَو جَنِينا وضابطه أَن يكون الْمَقْتُول آدَمِيًّا مَعْصُوما بِإِيمَان أَو أَمَان فَلَا تجب الْكَفَّارَة بقتل حَرْبِيّ ومرتد وقاطع طَرِيق زَان مُحصن وَلَا بقتل نسَاء أهل الْحَرْب وَلَا أَوْلَادهم وَإِن كَانَ قَتلهمْ محرما لِأَن تحريمهم لَيْسَ لحرمتهم بل لمصْلحَة الْمُسلمين لِئَلَّا يفوتهُمْ الارتفاق بهم وَعَن هَذَا احترزنا بقولنَا من يحرم قَتله لحق الله أما وجوب الْكَفَّارَة فِي قتل الْخَطَأ فللإجماع وَالنَّص قَالَ الله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الْآيَة وَأما فِي الْعمد فَلَمَّا روى وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ أَتَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَاحب لنا قد أوجب يَعْنِي النَّار بِالْقَتْلِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعتقوا عَنهُ وَفِي رِوَايَة فليعتق رَقَبَة يعْتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا مِنْهُ من النَّار وَالْقَاتِل لَا يسْتَوْجب النَّار إِلَّا فِي الْعمد وَلِأَنَّهُ قتل(1/471)
آدَمِيّ محقون لِحُرْمَتِهِ فَوَجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَة كالخطأ وَقَول الشَّيْخ وعَلى قَاتل النَّفس أَعم من كَونه وَاحِدًا أَو جمَاعَة فَلَو اشْترك جمَاعَة فِي قتل وَاحِد لزم كل وَاحِد مِنْهُم كَفَّارَة لِأَنَّهُ حق مُتَعَلق بِالْقَتْلِ لَا يَتَبَعَّض فَوَجَبَ أَن يكمل فِي حق كل وَاحِد كَالْقصاصِ وَلِأَن فِيهَا معنى الْعِبَادَة وَهِي لَا توزع وَقيل تجب كَفَّارَة لِأَنَّهَا مَال يجب بِالْقَتْلِ فَوَجَبَ أَن لَا تكمل فِي حق كل وَاحِد كالدية وَكَفَّارَة قتل الصَّيْد وَمن قَالَ بِالصَّحِيحِ فرق بِأَن الدِّيَة وَجَزَاء الصَّيْد بدل نفس وَهِي وَاحِدَة وَالْكَفَّارَة لتكفير إِثْم الْقَتْل لَا بَدَلا وَكَذَلِكَ لم تخْتَلف بصغر الْمَقْتُول وَكبره وَلم تجب فِي الْأَطْرَاف وَيصدق على كل مِنْهُم أَنه قَاتل وَالْكَفَّارَة عتق رَقَبَة مُؤمنَة بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم على واجدها فاضلة عَن كِفَايَته على الدَّوَام قَالَه الْمَاوَرْدِيّ والبندنيجي فَإِن لم يجدهَا صَامَ شَهْرَيْن مُتَتَابعين لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة فَإِن لم يسْتَطع فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا يطعم سِتِّينَ مِسْكينا كل مِسْكين مدا من طَعَام ككفارة الظِّهَار وَلِأَنَّهُ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الظِّهَار فَحمل الْمُطلق عَلَيْهِ هُنَا وَالْأَظْهَر لَا يطعم شَيْئا لِأَن الْإِبْدَال فِي الْكَفَّارَات مَوْقُوف على النَّص دون الْقيَاس وَلَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد إِلَّا فِي الْأَوْصَاف دون الأَصْل كَمَا حمل مُطلق الْيَد فِي التَّيَمُّم على تقييدها بالمرفق فِي الْوضُوء وَلم يحمل ترك الرَّأْس وَالرّجلَيْنِ فِيهِ على ذكرهمَا فِي الْوضُوء فعلى الصَّحِيح لَو مَاتَ قبل الصَّوْم أخرج من تركته لكل يَوْم مد طَعَام كفوات صَوْم رَمَضَان
وَاعْلَم أَن القَوْل فِي الرَّقَبَة وَالصِّيَام على مَا ذكرنَا فِي الظِّهَار وَالله أعلم
(فرع) إِذا وَجَبت الْكَفَّارَة بقتل الصَّبِي وَالْمَجْنُون أعتق الْوَلِيّ من مَالهمَا كَمَا تخرج الزَّكَاة والفطرة وَلَا يَصُوم عَنْهُمَا بِحَال فَلَو صَامَ الصَّبِي فِي صغره فَهَل يجْزِيه وَجْهَان كَمَا لَو قضى فِي صغره حجَّة أفسدها وَالله أعلم(1/472)
كتاب الْحُدُود
الْحُدُود جمع حد وَهُوَ فِي اللُّغَة الْمَنْع وَمِنْه سمي حد الدَّار لمَنعه مُشَاركَة غَيره وَسمي البواب حداداً لمَنعه الدَّاخِل وَالْخَارِج وَسميت الْحُدُود حدوداً لمنعها من ارْتِكَاب الْفَوَاحِش وَقيل لِأَن الله تَعَالَى حددها وقدرها فَلَا يُزَاد عَلَيْهَا وَلَا ينقص مِنْهَا وَكَانَت الْحُدُود فِي صدر الْإِسْلَام بالغرامات ثمَّ نسخت بِهَذِهِ الْحُدُود وَالله أعلم قَالَ
بَاب حد الزِّنَا
(الزَّانِي على ضَرْبَيْنِ مُحصن وَغير مُحصن فالمحصن حَده الرَّجْم وَغير الْمُحصن حَده مائَة جلدَة وتغريب عَام)
الزِّنَا من الْكَبَائِر وَمُوجب للحد وَهُوَ مَقْصُور وَقد يمد وَضَابِط مَا يُوجب الْحَد هُوَ إيلاج قدر الْحَشَفَة من الذّكر فِي فرج محرم مشتهى طبعا لَا شُبْهَة فِيهِ ثمَّ إِن كَانَ الزَّانِي مُحصنا فحده الرَّجْم وَلَا جلد مَعَه وَقَالَ ابْن الْمُنْذر يجلد ثمَّ يرْجم وَإِن كَانَ غير مُحصن فحده الْجلد والتغريب وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الرجل وَالْمَرْأَة لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ خطب فَقَالَ إِن الله تَعَالَى بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَقِّ وَأنزل عَلَيْهِ الْكتاب فَكَانَ فِيمَا أنزل عَلَيْهِ آيَة الرَّجْم فقرأناها ووعيناها ورجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجمنا وَإِنِّي خشيت إِن طَال زمَان أَن يَقُول قَائِل مَا نجد الرَّجْم فِي كتاب الله تَعَالَى فيضلون بترك فَرِيضَة أنزلهَا الله تَعَالَى فَالرَّجْم حق على من زنى من الرِّجَال وَالنِّسَاء إِذا كَانَ مُحصنا إِذا قَامَت الْبَيِّنَة أَو كَانَ حمل أَو اعْتِرَاف وَايْم الله لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس زَاد عمر فِي كتاب الله تَعَالَى لكتبتها وَكَانَ ذَلِك بِمحضر من الصَّحَابَة وَلم يُنكره أحد وَإِن كَانَ غير مُحصن فَإِن كَانَ حرا(1/473)
فحده جلد مائَة لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وتغريب عَام لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْبكر بالبكر جلد مائَة وَنفي سنة وَالله أعلم
وَاعْلَم أَنه لَا تَرْتِيب بَين الْجلد والتغريب فَيقدم مَا شَاءَ مِنْهُمَا نعم يشْتَرط فِي التَّغْرِيب أَن يكون إِلَى مَسَافَة تقصر فِيهَا الصَّلَاة على الصَّحِيح لِأَن الْمَقْصُود بِهِ الايحاش عَن أَهله ووطنه وَمَا دون مَسَافَة الْقصر فِي حكم الْحَضَر فَإِن رأى الإِمَام تغريبه إِلَى أَكثر من ذَلِك فعل لِأَن الصّديق رَضِي الله عَنهُ غرب إِلَى فدك والفاروق عمر رَضِي الله عَنهُ إِلَى الشَّام وَعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِلَى مصر وَعلي رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْبَصْرَة وَقَالَ الْمُتَوَلِي إِن وجد على مَسَافَة الْقصر موضعا صَالحا لم يجز إِلَى الْأَبْعَد وَهُوَ وَجه وَالصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور الأول لقضية الصَّحَابَة وَلَا تغرب الْمَرْأَة إِلَّا بِمحرم أَو زوج فَلَو لم يخرج إِلَّا بِأُجْرَة لَزِمت وَتَكون من مَالهَا على الْأَصَح فَإِذا زنى الْبَالِغ الْعَاقِل الْمُخْتَار وَهُوَ مُسلم أَو ذمِّي أَو مُرْتَد وَجب عَلَيْهِ الْحَد أما الْمُسلم فبالاجماع وَأما الذِّمِّيّ فَلِأَن أهل الْملَل مجمعون على تَحْرِيم الزِّنَا وَقد الْتزم أحكامنا فَأشبه الْمُسلم وَقد رجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهوديين زَنَيَا وَكَانَا محصنين وَأما الْمُرْتَد فَمن طَرِيق الأولى لجري أَحْكَام الْإِسْلَام عَلَيْهِ وَأما الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَلَا يجب عَلَيْهِمَا لحَدِيث رفع الْقَلَم نعم يُؤَدب الْوَلِيّ الصَّبِي بِمَا يزجره وَلَا يحد الْمُكْره رجلا كَانَ أَو امْرَأَة وَهُوَ بِنَاء على تصور الاكراه من الرجل وَهُوَ الصَّحِيح وَيتَصَوَّر الاكراه فِي حق الْمَرْأَة بِلَا خلاف وَيشْتَرط لوُجُوب الْحَد أَيْضا أَن يكون عَالما بِالتَّحْرِيمِ فَلَا حد على من جَهله كمن قرب عَهده بِالْإِسْلَامِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لماعز هَل تَدْرِي مَا الزِّنَا فَلَو لم يكن الْجَهْل مَانِعا لم يسْأَله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَن الْحَد يتبع الاثم وَهُوَ غير آثم وَلَو علم التَّحْرِيم وَجَهل وجوب الْحَد حد لِأَن من علم التَّحْرِيم كَانَ فِي حَقه أَن يكف وَالله أعلم قَالَ
(وشرائط الاحصان أَرْبَعَة أَشْيَاء الْبلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة وَوُجُود الْوَطْء فِي نِكَاح صَحِيح)
لَا بُد من التَّمْيِيز بَين من حَده الْجلد وَالرَّجم وَإِلَّا أهريق دم بِغَيْر حق وَترك من لَا دم لَهُ ثمَّ الْإِحْصَان فِي اللُّغَة الْمَنْع قَالَ الله تَعَالَى {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ}
وَاعْلَم أَنه ورد فِي الشَّرْع بمعان مِنْهَا الْإِسْلَام وَمِنْهَا الْبلُوغ وَمِنْهَا الْعقل وَقد قيل كل مِنْهَا(1/474)
فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} وَمِنْهَا أَن الاحصان ورد بِمَعْنى الْحُرِّيَّة وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وَمِنْهَا أَنه يرد بِمَعْنى الْعِفَّة وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وَمِنْهَا إِنَّه يرد بِمَعْنى التَّزْوِيج وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} وَمِنْهَا إِنَّه يرد بِمَعْنى الْوَطْء وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وَيدل على أَن المُرَاد هُنَا هُوَ الْوَطْء فِي نِكَاح صَحِيح مَا ثَبت من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يحل دم امرىء مُسلم يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث الثّيّب الزَّانِي وَالنَّفس بِالنَّفسِ والتارك لدينِهِ المفارق للْجَمَاعَة وَأَجْمعُوا على أَن المُرَاد بالثيوبة هُنَا هُوَ الْوَطْء فِي النِّكَاح الصَّحِيح وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن الشَّهْوَة مركبة فِي النُّفُوس فَإِذا وطىء فِي النِّكَاح فقد أنالها حَقّهَا فحقه أَن يمْتَنع عَن الْحَرَام وَأَيْضًا إِذا أصَاب امْرَأَته فقد أكد افتراشها فَلَو لطخ غَيره فرَاشه عظمت وحشته فَإِذا لطخ هُوَ فرَاش الْغَيْر غلظت جِنَايَته
إِذا عرفت هَذَا فَيشْتَرط فِي الْمُحصن ثَلَاث صِفَات
الأولى التَّكْلِيف فَلَا حد على صبي وَلَا مَجْنُون لَكِن يؤدبان بِمَا يزجرهما كَسَائِر الْمُحرمَات
الثَّانِيَة الْحُرِّيَّة فَلَيْسَ الرَّقِيق وَالْمكَاتب وَأم الْوَلَد والمبعض بمحصن وَإِن وطئ فِي نِكَاح صَحِيح لِأَن الْحُرِّيَّة صفة كَمَال وَشرف والشريف يصون نَفسه عَمَّا يدنس عرضه بِخِلَاف الرَّقِيق فَإِنَّهُ مبتذل مهان لَا يتحاشى عَمَّا يتحاشى مِنْهُ الْحر وَلِهَذَا قَالَت هِنْد رَضِي الله عَنْهَا عِنْد الْبيعَة أوتزني الْحرَّة
الثَّالِثَة الْوَطْء فِي نِكَاح صَحِيح وَيَكْفِي فِيهِ تغييب الْحَشَفَة وَلَا يشْتَرط كَونه مِمَّن ينزل وَيحصل الاحصان وان كَانَ بِوَطْء حرَام كَالْوَطْءِ فِي الْحيض والاحرام وعدة الشُّبْهَة وَقَول الشَّيْخ فِي نِكَاح صَحِيح احْتَرز بِهِ عَن الْفَاسِد فَإِنَّهُ لَا يحصل الاحصان بِالْوَطْءِ فِيهِ لِأَنَّهُ حرَام فَلَا يحصل بِهِ صفة كَمَال
وَاعْلَم أَنه لَا يشْتَرط الاحصان من الْجَانِبَيْنِ فَإِذا زنى الْبكر بمحصنة أَو عَكسه رجم الْمُحصن مِنْهُمَا وَجلد الآخر وَغرب وَالله أعلم(1/475)
(فرع) لَا يحصل الاحصان بِالْوَطْءِ فِي ملك الْيَمين بِلَا خلاف بل حكى بَعضهم الِاتِّفَاق على ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَالْعَبْد وَالْأمة حدهما نصف حد الْحر)
إِذا زنى الرَّقِيق جلد خمسين لقَوْله تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وَلِأَنَّهُ نَاقص بِالرّقِّ فَلْيَكُن على النّصْف من الْحر كَالنِّكَاحِ وَالْعدة وَسَوَاء فِي ذَلِك الْقِنّ وَالْمكَاتب وَأم الْوَلَد وَفِي الْمبعض خلاف الرَّاجِح أَنه كالقن وَهل يغرب العَبْد نصف سنة فِيهِ خلاف الرَّاجِح نعم لِأَنَّهُ حد يَتَبَعَّض فَأشبه الْجلد وَقيل لَا يغرب لحق السَّيِّد وَقيل يغرب سنة وَقَالَ أَبُو ثَوْر يجلد العَبْد أَيْضا مائَة وَالله أعلم قَالَ
(وَحكم اللواط وإتيان الْبَهَائِم حكم الزِّنَا)
من لَاطَ أَي من أَتَى ذكرا فِي دبره وَهُوَ من أهل حد الزِّنَا لكَونه مُكَلّفا مُخْتَارًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ مُسلم أَو ذمِّي أَو مُرْتَد فَفِيمَا ذَا يحد بِهِ خلاف الصَّحِيح أَن حَده حد الزِّنَا فيرجم إِن كَانَ مُحصنا ويجلد ويغرب غير الْمُحصن لِأَن الله تَعَالَى سمى ذَلِك فَاحِشَة فِي قَوْله تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أحد من الْعَالمين} وَقَالَ تَعَالَى {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} الْآيَة ثمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خُذُوا عني الحَدِيث فَدلَّ على أَن ذَلِك حد الْفَاحِشَة وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا أَتَى الرجل الرجل فهما زانيان وَقيل يقتل مُطلقًا مُحصنا كَانَ أَو غير مُحصن لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ وَفِي رِوَايَة فارجموا الْأَعْلَى والأسفل إِلَّا أَنه خُولِفَ وَفِي كَيْفيَّة قَتله خلاف قيل يقتل بِالسَّيْفِ كالمرتد لِأَنَّهُ السَّابِق إِلَى الْفَهم من لفظ الْقَتْل وَهَذَا مَا صَححهُ النَّوَوِيّ وَقيل يرْجم لأجل(1/476)
الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَلِأَنَّهُ قتل وَجب بِالْوَطْءِ فَكَانَ بِالرَّجمِ كَقَتل الزَّانِي وَقيل يهدم عَلَيْهِ جِدَار أَو يرْمى من شَاهِق حَتَّى يَمُوت أخذا من عَذَاب قوم لوط وَلَا فرق فِي اللواط بَين الْأَجْنَبِيّ وَغَيره وَلَا بَين مَمْلُوكه ومملوك غَيره لِأَن الدبر لَا يُبَاح بِحَال وَالله أعلم
قلت ذهبت طَائِفَة من الملحدة إِلَى عدم تَحْرِيم الْفروج وهم قوم لَهُم معرفَة بالعلوم الْعَقْلِيَّة تقع مِنْهُم مناظرة مَعَ الضعفة من المتفقة يحتجون بعمومات أَدِلَّة فيقطعونهم فيظن من لَا دراية لَهُ بالعلوم الشَّرْعِيَّة صِحَة دَعوَاهُم بذلك فَيَأْخُذ بقَوْلهمْ فليحذر ذَلِك فَإِن هَذِه الطَّائِفَة من أَخبث الخليقة اعتقاداً فَعَلَيْهِم وعَلى أتباعهم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ وَأما اتيان الْبَهَائِم فَحَرَام قطعا لِأَنَّهُ فَاحِشَة وَفِيمَا يجب بِفِعْلِهِ خلاف قيل يحد حد الزِّنَا فَيُفَرق فِيهِ بَين الْمُحصن وَغَيره لِأَنَّهُ ايلاج فِي فرج فَأشبه الْإِيلَاج فِي فرج الْمَرْأَة وَهَذَا مَا جزم بِهِ الشَّيْخ وَالثَّانِي حَده الْقَتْل مُحصنا كَانَ أَو غير مُحصن لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من أَتَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ واقتلوها مَعَه وَقيل يجب التَّعْزِير فَقَط وَهُوَ الصَّحِيح لقَوْل ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لَيْسَ على الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَة حد وَهَذَا لَا يَقُوله إِلَى عَن تَوْقِيف وَإِذا انْتَفَى الْحَد ثيت التَّعْزِير لِأَنَّهُ أَتَى مَعْصِيّة لَا حد فِيهَا وَلَا كَفَّارَة وَلِأَنَّهُ فرج لَا تميل إِلَيْهِ النَّفس فَلَا يشتهى طبعا فَلَا يحد لِأَن الْحَد إِنَّمَا شرع زجرا لما يشتهى أَلا ترى أَن الشَّخْص لَا يحد بِشرب الْبَوْل لما ذكرنَا وَهَذَا القَوْل نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَقطع بِهِ بَعضهم وَلَو أولج فِي فرج ميتَة فَلَا حد على الرَّاجِح لِأَنَّهُ لَا يشتهى طبعا وَالله أعلم قَالَ
(وَمن وطئ دون الْفرج عزّر وَلَا يحد وَلَا يبلغ بالتعزير أدنى الْحُدُود)
إِذا وطئ أَجْنَبِيَّة فِيمَا دون الْفرج عزّر وَلَا يحد لما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ جا رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِنِّي عَالَجت إمرأ من أقْصَى الْمَدِينَة فَأَصَبْت مِنْهَا دون أَن أَمسهَا فَأَنا هَذَا فأقم على مَا شِئْت فَقَالَ عمر سترك الله تَعَالَى لَو سترت نَفسك فَلم يرد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا فَانْطَلق الرجل فَاتبعهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا فَدَعَاهُ فَتلا عَلَيْهِ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الْآيَة فَقَالَ رجل من الْقَوْم يَا رَسُول الله أَله خَاصَّة للنَّاس عَامَّة فَقَالَ للنَّاس كَافَّة كَذَا لَو وطئ صَبيا أَو رجلا فِيمَا دون الْفرج وَالله أعلم وَقَوله(1/477)
وَلَا يبلغ بِهِ أدنى الْحُدُود لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يجلد أحد فَوق عشرَة أسواط إِلَّا فِي حد من حُدُود الله وَفِي رِوَايَة من ضرب حدا فِي غير حد فَهُوَ من الْمُعْتَدِينَ وَالله أعلم
(فرع) الصلج حرَام فَإِذا استمنى شخص بِيَدِهِ عزّر لِأَنَّهَا مُبَاشرَة مُحرمَة بِغَيْر إيلاج ويفضي إِلَى قطع النَّسْل فَحرم كمباشرة الْأَجْنَبِيَّة فِيمَا دون الْفرج وَقد جَاءَ مَلْعُون من نكح يَده وَالله أعلم
(فرع) تساحق النِّسَاء حرَام ويعزرن بذلك لِأَنَّهُ فعل محرم قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وإثم ذَلِك كاثم الزِّنَا لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا أَتَت الْمَرْأَة الْمَرْأَة فهما زانيتان وَالله أعلم
(فَائِدَة) لَو استمنى الرجل بيد امْرَأَته أَو أمته جَازَ لِأَنَّهَا مَحل استمتاعه وَفِي فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْن لَو غمزت الْمَرْأَة ذكر زَوجهَا أَو سَيِّدهَا بِيَدِهَا كره وَإِن كَانَ بِإِذْنِهِ إِذا أمنى لِأَنَّهُ يشبه الْعَزْل والعزل مَكْرُوه وَنسخت إِبَاحَته وَالله أعلم قَالَ
بَاب حد الْقَذْف فصل فِي الْقَذْف وَإِذا قذف غَيره بِالزِّنَا فَعَلَيهِ حد الْقَذْف
الْقَذْف الرَّمْي وَمِنْه فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ وَالْمرَاد بِهِ هُنَا الرَّمْي بِالزِّنَا على وَجه التَّعْزِير وَهُوَ من الْكَبَائِر وَيتَعَلَّق بِهِ الْحَد بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ
(وشرائطه ثَمَانِيَة ثَلَاثَة فِي الْقَاذِف أَن يكون بَالغا عَاقِلا وَأَن لَا يكون وَالِد الْمَقْذُوف)(1/478)
لَا يحد الصَّبِي وَالْمَجْنُون إِذا قذفا لحَدِيث رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة وبالقياس على الزِّنَا وَالسَّرِقَة قَالَ الرَّافِعِيّ تبعا لِلْبَغوِيِّ ويعزران إِذا كَانَ لَهما تَمْيِيز وَأطلق الْبَنْدَنِيجِيّ أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِمَا وَفِي الْحَاوِي أَنه إِن كَانَ الصَّبِي مراهقاً يُؤْذِي قذف مثله عزّر وَإِلَّا فَلَا وَيشْتَرط لوُجُوب الْحَد أَن لَا يكون الْقَاذِف أصلا كَالْأَبِ وَالأُم وَإِن عليا لِأَنَّهُ إِذا لم يقتل الأَصْل بِهِ فَعدم حَده بقذفه أولى نعم يُعَزّر لِأَن الْقَذْف أَذَى وَقَالَ أَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر يحد لظَاهِر الْقُرْآن لكنه يكره لَهُ اقامته وَيشْتَرط أَيْضا أَن يكون الْقَاذِف مُخْتَارًا فَلَو أكره على قذف الْغَيْر فَلَا حد للْحَدِيث الْمَشْهُور وَالله أعلم قَالَ
(وَخَمْسَة فِي الْمَقْذُوف أَن يكون مُسلما بَالغا عَاقِلا حرا عفيفاً)
شَرط وجوب الْحَد فِي الْقَذْف أَن يكون الْمَقْذُوف مُحصنا كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة الْكَرِيمَة فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَة وشروط الاحصان الاسلام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والعفة عَن الزِّنَا فَإِذا قذف كَافِرًا أَو صَغِيرا أَو مَجْنُونا أَو عبدا أَو فَاجِرًا يَعْنِي زَانيا فَلَا حد لعدم الاحصان الَّذِي دلّت عَلَيْهِ الْآيَة الْكَرِيمَة نعم يُعَزّر للايذاء وَالله أعلم قَالَ
(وَيحد الْحر ثَمَانِينَ سَوْطًا وَالْعَبْد أَرْبَعِينَ)
إِذا قذف الْبَالِغ الْعَاقِل الْمُخْتَار وَهُوَ مُسلم أَو ذمِّي أَو مستأمن أَو مُرْتَد مُحصنا لَيْسَ بوالد وَجب عَلَيْهِ الْحَد للنَّص وَالْإِجْمَاع ثمَّ إِن كَانَ حرا جلد ثَمَانِينَ قَالَ الله تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} وَرُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت لما نزل عذرى قَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتلا الْقُرْآن وَأمر بِالرجلَيْنِ وَالْمَرْأَة فَضربُوا وهم حسان ومسطح وَحمْنَة قَالَ الطَّحَاوِيّ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ وَلِأَن الْقَذْف بِالزِّنَا أقل من الزِّنَا فَكَانَ أقل مِنْهُ حدا وَالله أعلم(1/479)
وَإِن كَانَ الْقَاذِف رَقِيقا جلد أَرْبَعِينَ سَوَاء كَانَ قِنَا أَو مُدبرا أَو مكَاتبا أَو أم ولد أَو مبعضاً لِأَن أَبَا بكر وَعمر وعلياً رَضِي الله عَنْهُم وَمن بعدهمْ كَانَا لَا يضْربُونَ إِلَّا أَرْبَعِينَ وَلم يخالفهم أحد وَلِأَنَّهُ حد يَتَبَعَّض فَكَانَ العَبْد فِيهِ على النّصْف كَحَد الزِّنَا
فَإِن قلت الْآيَة مُطلقَة قلت فِي الْجَواب المُرَاد الْأَحْرَار بِدَلِيل قَوْله سُبْحَانَهُ {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} وَالْعَبْد لَا تقبل شَهَادَته وَإِن لم يقذف وَالله أعلم قَالَ
(وَيسْقط حد الْقَذْف بِثَلَاثَة أَشْيَاء إِقَامَة الْبَيِّنَة أَو عَفْو الْمَقْذُوف أَو اللّعان فِي حق الزَّوْجَة)
إِذا قذف الشَّخْص من يجب الْحَد بقذفه فلإسقاط الْحَد عَنهُ ثَلَاث طرق مِنْهَا إِقَامَة الْبَيِّنَة سَوَاء كَانَ الْمَقْذُوف زَوْجَة أَو أَجْنَبِيَّة أما غير الزَّوْجَة فَلقَوْله تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} أمرنَا بِالْجلدِ عِنْد عدم اقامة الْبَيِّنَة وَأما فِي الزَّوْجَة فَلِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لهِلَال بن أُميَّة لما قذف زَوجته عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشريك بن السمحاء الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك كرر ذَلِك مرَارًا ثمَّ أنزل الله تَعَالَى آيَة اللّعان فَصَارَ للزَّوْج طَرِيقَانِ فِي اسقاط حد الْقَذْف بِالْبَيِّنَةِ وَاللّعان بِالنَّصِّ وَأما السُّقُوط بِالْعَفو فَلِأَن الْحَد حق الْمَقْذُوف وَلِهَذَا لَا يسْتَوْفى إِلَّا بِإِذْنِهِ ومطالبته فَجَاز لَهُ الْعَفو عَنهُ فَإِذا عَفا سقط لِأَنَّهُ مَحْض حق كَالْقصاصِ وَالله أعلم
(فرع) قذف شخص آخر فطالبه الْمَقْذُوف بِالْحَدِّ فَقَالَ الْقَاذِف قَذَفته وَهُوَ مَجْنُون فَقَالَ بل قذفتني وَأَنا عَاقل وَعرف لَهُ حَال جُنُون فَالْقَوْل على الرَّاجِح لِأَن مَا يَدعِيهِ كل مِنْهُمَا مُمكن وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة فَإِن حلف الْقَاذِف عزّر إِن طلب الْمَقْذُوف تعزيره وَلَو قذف شخصا وَهُوَ عفيف وَلم يحد الْقَاذِف حَتَّى زنى الْمَقْذُوف لم يحد لسُقُوط حصانته وَلِأَن ظُهُور زِنَاهُ يدل على تكرره فَلم يحد الْقَاذِف وَقد رُوِيَ أَنه حمل إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ زَان فَقَالَ وَالله مَا زَنَيْت قبلهَا فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ كذبت إِن الله لَا يفضح عَبده بِأول مَعْصِيّة وَالله أعلم قَالَ(1/480)
بَاب حد الْخمر فصل وَمن شرب خمرًا أَو شرابًا مُسكرا حد أَرْبَعِينَ وَيجوز أَن يبلغ بِهِ ثَمَانِينَ على وَجه التَّعْزِير
شرب الْخمر من الْكَبَائِر وَزَوَال الْعقل بِهِ على وَجه الْمَحْظُور حرَام فِي جَمِيع الْملَل وَلَا يتعاطاه مِنْهُم إِلَّا كل فَاسق كفسقة الْمُسلمين لِأَن حفظ الْعقل من الْخمس الكليات الَّذِي اتّفق أهل الْملَل على حفظه وَقد أَمر الله تَعَالَى باجتنابه فِي كِتَابه الْعَزِيز وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مُسكر حرَام
ورد عَن أبي مَالك أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَيَكُونن من أمتِي أَقوام يسْتَحلُّونَ الْحَرِير وَالْخمر وَالْمَعَازِف وَفِي غَيره عَن أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ رَضِي الله عَنهُ أَيْضا ليشربن أنَاس من أمتِي الْخمر يسمونها بِغَيْر اسْمهَا وتضرب على رؤوسهم المعازف ويخسف الله بهم الأَرْض وَيجْعَل الله مِنْهُم القردة والخنازير وَالْمَعَازِف آلَات اللَّهْو قَالَه الْجَوْهَرِي قَالَ الْأَصْحَاب وعصير الْعِنَب الَّذِي اشْتَدَّ وَقذف بالزبد حرَام بِالْإِجْمَاع وَسَوَاء فِي ذَلِك قَلِيله وَكَثِيره ويفسق شَاربه وَيلْزمهُ الْحَد وَمن استحله كفر قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام نهى عَن قَلِيل مَا أسكر كَثِيره فَمن شرب الْمُسكر وَهُوَ مُسلم بَالغ عَاقل مُخْتَار عَالم بِأَنَّهُ مُسكر وعالم بِتَحْرِيمِهِ وَجب عَلَيْهِ الْحَد سَوَاء سكر أم لَا ثمَّ إِن كَانَ حرا جلد أَرْبَعِينَ لِأَن عبد الرَّحْمَن بن جَعْفَر جلد الْوَلِيد بَين يَدي عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنهُ يعد حَتَّى بلغ أَرْبَعِينَ فَقَالَ أمسك ثمَّ قَالَ جلد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ وَأَبُو بكر أَرْبَعِينَ وَعمر ثَمَانِينَ وَالْكل سنة وَهَذَا أحب إِلَيّ وَفِي مُسلم أَيْضا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام جلد شارباً بجريدتين أَرْبَعِينَ فَإِذا(1/481)
رأى الإِمَام أَن يبلغ بِالْحَدِّ ثَمَانِينَ فِي الْحر وَفِي العَبْد أَرْبَعِينَ فعل لما ورد أَن عمر رَضِي الله عَنهُ جعله ثَمَانِينَ وَقَالَ عَليّ لعمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا شرب سكر وَإِذا سكر هذى وَإِذا هذى افترى وحد المفتري ثَمَانُون فَأخذ بِهِ عمر وَلم يُنكره أحد وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام جلد ثَمَانِينَ إِلَّا أَنه مُرْسل فَالْعَمَل على اتِّفَاق الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقيل تمنع الزِّيَادَة على الْأَرْبَعين وَالصَّحِيح الأول فَعَلَيهِ هَل الزَّائِد عَن الْأَرْبَعين إِلَى الثَّمَانِينَ تَعْزِير أم حد وَجْهَان أصَحهمَا أَنه تَعْزِير لِأَنَّهُ لَو كَانَ حدا لما جَازَ تَركه مَعَ أَنه يجوز وَقيل فَلَو كَانَ تعزيراً لما بلغ أَرْبَعِينَ
فَالْجَوَاب أَنه تعزيرات على جنايات تصدر مِنْهُ من هذيان وافتراء وَنَحْوهمَا وَيجوز أَن يبلغ بهَا الْحَد وَفِي ذَلِك إِشْكَال من وَجْهَيْن
أَحدهمَا إِنَّمَا يُعَزّر بِهِ بِشَرْط تحَققه وَهُوَ غير مَعْلُوم
الثَّانِي أَنه لَو كَانَ تعزيرات لَكَانَ يجوز الزِّيَادَة على الثَّمَانِينَ وَقد منعُوا من ذَلِك كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَاعْلَم أَنه لَا يُقَام الْحَد حَال السكر فَإِن أقيم عَلَيْهِ فِي حَال سكره فَفِي الِاعْتِدَاد بِهِ وَجْهَان جاريان فِيمَا إِذا حد فِي حَال جُنُونه وَالله أعلم قَالَ
(وَيجب عَلَيْهِ بِأحد أَمريْن بِالْبَيِّنَةِ أَو الاقرار وَلَا يحد بالقيء والاستنكاه)
الْحَد عُقُوبَة وَإِنَّمَا يُقَام على الْمَحْدُود عِنْد ثُبُوته وثبوته يحصل بطريقين
أَحدهمَا إِقْرَاره بِغَيْر إِكْرَاه
الثَّانِيَة أَن يشْهد عَلَيْهِ رجلَانِ فَصَاعِدا من أهل الشَّهَادَة عَلَيْهِ ثمَّ صِيغَة الْإِقْرَار وَالشَّهَادَة إِن كَانَت مفصلة بِأَن قَالَ شربت الْخمر أَو قَالَ شربت مِمَّا شرب مِنْهُ غَيْرِي فَسَكِرَ مِنْهُ وَأَنا عَالم بِهِ مُخْتَار فَلَا كَلَام وَكَذَا إِن فصل الشَّاهِد فَإِن قَالَ شربت الْخمر واقتصرت على ذَلِك أَو شهد اثْنَان أَنه شرب(1/482)
الْخمر من غير تعرض للْعلم وَالِاخْتِيَار فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا لَا حد لاحْتِمَال جَهله بِأَنَّهُ خمر أَو أَنه أكره وكما لَا بُد من التَّفْصِيل فِي الزِّنَا كَذَلِك هُنَا وَالصَّحِيح أَنه يجب الْحَد لِأَن إِضَافَة الشّرْب إِلَى الْخمر قد أقربها
وَالْأَصْل عدم الْإِكْرَاه وَالظَّاهِر من حَال الشَّارِب علمه بِمَا شربه فَصَارَ كالاقرار بِالْبيعِ وَالطَّلَاق وَغَيرهمَا وَالشَّهَادَة عَلَيْهِمَا لَا يشْتَرط التَّعَرُّض فِيهَا للاختيار وَالْعلم بِخِلَاف الزِّنَا فَإِنَّهُ يُطلق على مُقَدمَات الْجِمَاع وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث العينان يزنيان وَقَوله وَلَا يحد بالقيء والاستنكاه لاحْتِمَال كَونه غالطاً أَو مكْرها وَلِأَن غير الْخمر يشاركها فِي رائحتها وَالْأَصْل بَرَاءَة الشَّخْص من الْعقُوبَة والشارع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متشوف إِلَى دَرْء الْحُدُود وَالله أعلم
(فرع) الَّذِي يزِيل الْعقل من غير الْأَشْرِبَة كالبنج وَنَحْوه والحشيش الَّذِي يتعاطاه الأراذل والسفلة حرَام لِأَن ذَلِك مُسكر وكل مُسكر حرَام وَفِي رِوَايَة أَيْضا كل مُسكر خمر وكل خمر حرَام وَهَذِه الثَّانِيَة نتيجتها الرِّوَايَة الأولى وَهِي كل مُسكر حرَام لِأَنَّك إِذا حذفت مَحْمُول الأولى وموضوع الثَّانِيَة أنتج مَا ذَكرْنَاهُ وَلَو احْتِيجَ فِي قطع يَد متأكلة وَنَحْوهَا إِلَى اسْتِعْمَال البنج وَنَحْوه لزوَال الْعقل هَل يجوز ذَلِك قَالَ الرَّافِعِيّ يخرج على الْخلاف فِي التَّدَاوِي بِالْخمرِ وَالْمَذْكُور فِي التَّدَاوِي بِالْخمرِ إِذا لم يجد غَيرهَا أَنه حرَام على الصَّحِيح الَّذِي قَالَه الْأَكْثَرُونَ وَنَصّ عَلَيْهِ إِمَام الْمَذْهَب الامام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لعُمُوم النُّصُوص الناهية عَن ذَلِك لَكِن قَالَ النَّوَوِيّ هُنَا من زِيَادَة الرَّوْضَة الْأَصَح الْجَوَاز يَعْنِي فِي البنج وَنَحْوه بِخِلَاف التَّدَاوِي فَإِنَّهُ لَا يجوز وَالله أعلم قَالَ
بَاب حد السّرقَة فصل فِي حد السَّارِق وتقطع يَد السَّارِق بست شَرَائِط أَن يكون بَالغا عَاقِلا
السّرقَة بِفَتْح السِّين وَكسر الرَّاء هِيَ أَخذ مَال الْغَيْر على وَجه الْخفية وإخراجه من حرزه وَهِي مُوجبَة للْقطع بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَالْأَخْبَار تَأتي فِي موَاضعهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
ثمَّ للْقطع شُرُوط مِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبر فِي السَّارِق وَمِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبر فِي الْمَسْرُوق أما السَّارِق(1/483)
فَيشْتَرط أَن يكون بَالغا عَاقِلا مُخْتَارًا سَوَاء كَانَ مُسلما أَو ذِمِّيا أَو مُرْتَدا فَلَا قطع على صبي وَلَا مَجْنُون وَلَا مكره للحديثين الْمَشْهُورين وَلَو سرق الْمعَاهد لم يقطع فِي الْأَصَح وَلَو سرق مُسلم مَال معاهد فَهَل يقطع فِيهِ قَولَانِ مبنيان على قطع الْمعَاهد بِسَرِقَة مَال الْمُسلم فَإِن قطع قطع وَإِلَّا فَلَا وَالله أعلم
(وَأَن يسرق نِصَابا قِيمَته ربع دِينَار من حرز مثله)
يشْتَرط فِي المَال الْمَسْرُوق أَن يكون نِصَابا وَهُوَ ربع دِينَار من الذَّهَب الْخَالِص الْمَضْرُوب فَلَا قطع فِيمَا دونه وَاحْتج لَهُ بِمَا
رَوَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تقطع يَد سَارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا وَالْمرَاد ربع دِينَار مصكوك فَلَو سرق سبيكة وَزنهَا ربع مِثْقَال وَلَا تَسَاوِي ربع دِينَار مصكوك لم يقطع على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة صَححهُ تبعا لتصحيح امام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره وَصحح جمَاعَة أَنه يقطع وَلَو سرق مصوغاً يُسَاوِي ربع دِينَار ووزنه أقل لم يقطع فِي الْأَصَح وَيجْرِي الْوَجْهَانِ فِي ربع دِينَار قراضة لَا تَسَاوِي ربع دِينَار مصكوك وَلَو سرق شَيْئا قِيمَته ربع دِينَار مصكوك قطع بِلَا خلاف قَالَه الإِمَام وَالدِّينَار يعدل اثْنَي عشر دِرْهَم وربعه ثَلَاثَة دَرَاهِم وَهُوَ نِصَاب السّرقَة وَلِهَذَا قطع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَارِقا فِي مجن قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم وَلَا فرق بَين أَن يعْتَقد السَّارِق أَنه أَخذ نِصَابا أم لَا وَكَانَ فِي نفس الْأَمر يعدل نِصَابا فَلَو سرق فُلُوسًا فِي ظَنّه أَنَّهَا لَا تعدل نِصَابا فَكَانَت دَنَانِير قطع لِأَنَّهُ سرق نِصَابا وظنه خطأ وَلَو عكس بِأَن سرق مَا يَظُنّهُ دَنَانِير فَكَانَت فُلُوسًا لَا تعدل ربع دِينَار فَلَا قطع وَلَو سرق جُبَّة لَا تعدل درهما فَكَانَ فِيهَا مَا يبلغ نِصَابا من دِينَار أَو غَيره وَلم يشْعر بِهِ قطع فِي الْأَصَح ثمَّ هَذَا كُله إِذا كَانَ الْمَسْرُوق مَالا أما مَا لَيْسَ بِمَال كَالْكَلْبِ والسرجيم وجلود الْميتَة وَنَحْوهَا لم يقطع بِهِ لِأَنَّهَا لَيست بِمَال وَالله أعلم
(فرع لَو سرق شخص آلَة لَهو كالطنبور والمزمار والرباب وَنَحْوهَا من الْآلَات الخبيثة وَكَذَا الْأَصْنَام نظر إِن لم يبلغ مفصل تِلْكَ الْآلَة نِصَابا فَلَا قطع وَإِن بلغ نِصَابا فَهَل يقطع فِيهِ خلاف الرَّاجِح فِي الرَّوْضَة أَنه يقطع لِأَنَّهُ مَال يقوم على متلفه فَأشبه مَا لَو سرق مفصلا وَقيل لَا يقطع بِحَال وَصَححهُ فِي الْمُحَرر قلت وَهُوَ قوي وَاخْتَارَهُ الإِمَام أَبُو الْفرج الرَّازِيّ وامام الْحَرَمَيْنِ لِأَنَّهُ آلَة مُحرمَة يجب اتلافها لِأَنَّهَا غير مُحْتَرمَة وَلَا محرزة كَالْخمرِ وكل أحد مَأْمُور بإفسادها وَيجوز الهجوم على المساكن لكسرها وإبطالها وَلَا يجوز امساكها وَيجب اتلافها فَهِيَ كالمغصوب سرق من حرز(1/484)
الْغَاصِب ثمَّ هَذَا إِذا كَانَ قصد السّرقَة بإخراجها أما إِذا قصد أَن يشْهد تغييرها وافسادها فَلَا قطع على الْمَذْهَب الْمَقْطُوع بِهِ وَلَو سرق آنِية ذهب أَو فضَّة فَفِي الْمُهَذّب والتهذيب أَنه يقطع قَالَ الرَّافِعِيّ وَالْوَجْه مَا قَالَه العمراني أَنه يبْنى على جَوَاز اتخاذها إِن جَوَّزنَا قطع وَإِلَّا فَلَا كالملاهي وَالله أعلم وكما يشْتَرط كَون الْمَسْرُوق نِصَابا يشْتَرط كَونه محرزا فَلَا يقطع فِيمَا لَيْسَ بمحرز للنَّص وَيخْتَلف الْحِرْز بإختلاف الْأَمْوَال لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق فِي الحَدِيث بَينهمَا وَالرُّجُوع فِي ذَلِك إِلَى الْعرف لِأَن الْحِرْز لم يرد فِيهِ ضَابِط من جِهَة الشَّرْع وَلَا لَهُ فِي اللُّغَة ضَابِط وَإِذا كَانَ لَا ضَابِط لَهُ شرعا ولغة رَجعْنَا فِيهِ إِلَى الْعرف كَمَا فِي الْقَبْض فِي البيع والاحياء فِي الْموَات وَغَيرهمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فعلى هَذَا قد يكون الشَّيْء حرْزا فِي وَقت دون وَقت لِأَن الزَّمَان لَا يبْقى على حَال قَالَ الْأَصْحَاب والإحطبل حرز للدواب وَإِن كَانَت غَالِيَة الْأَثْمَان دون الثِّيَاب
قلت وَهَذَا الاطلاق فِيهِ نظر لِأَن فِي كثير من المدن الاصطبل أحرز من كثير من الْبيُوت فَيَنْبَغِي الرُّجُوع إِلَى عرف الْمحلة وَالله أعلم قَالَ الْأَصْحَاب وَصفَة الدَّار وعرصتها حرز للأواني وَثيَاب البذلة أَي الْخدمَة دون الْحلِيّ والنقود لِأَن الْعَادة احرازها فِي المخازن وَالثيَاب النفيسة تحرز فِي الدّور وبيوت الخان والأسواق المنيعة والمتبن حرز للتبن وكل شَيْء بِحَسبِهِ حَتَّى لَو سرق الْكَفَن من الْقَبْر قطع على الْمَذْهَب الْمَقْطُوع بِهِ لِأَنَّهُ حرز مثله وَالله أعلم
(فرع) سرق شخص طَعَاما فِي وَقت الْقَحْط والمجاعة فَإِن كَانَ يُوجد عَزِيزًا بِثمن غال قطع وَإِن كَانَ لَا يُوجد وَلَا يقدر عَلَيْهِ فَلَا قطع وعَلى هَذَا يحمل مَا جَاءَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ لَا قطع فِي عَام المجاعة وَالله أعلم قَالَ
(لَا ملك لَهُ فِيهِ وَلَا شُبْهَة فِي مَال الْمَسْرُوق مِنْهُ)
يشْتَرط لوُجُوب الْقطع أَن يكون الْمَسْرُوق مَمْلُوكا لغير السَّارِق فَلَا قطع على من سرق مَال نَفسه من يَد غَيره كيد الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر وَالْمُسْتَعِير وَالْمُودع وعامل الْقَرَاض وَالْوَكِيل وَكَذَا الشَّرِيك وَهُوَ قَول الشَّيْخ لَا ملك لَهُ فِيهِ وَإِذا كَانَ لَا قطع فِي المَال الْمُشْتَرك فَلَا قطع فِيمَا هُوَ مَحْض ملكه أولى وَلَو سرق مَا اشْتَرَاهُ من يَد البَائِع فِي زمن الْخِيَار أَو بعده فَلَا قطع وَإِن سرق مَعَه مَالا آخر فَإِن كَانَ قبل أَدَاء الثّمن قطع وَإِن كَانَ بعده فَلَا قطع على الرَّاجِح كمن سرق من دَار اشْتَرَاهَا وَلَو سرق شَيْئا وهبه لَهُ بعد الْقبُول وَقبل الْقَبْض فَالصَّحِيح أَنه لَا يقطع بِخِلَاف مَا لَو أوصى لَهُ بِشَيْء فسرقه قبل موت الْمُوصي فَإِنَّهُ يقطع وَإِن سَرقه بعد موت الْمُوصي وَقبل الْقبُول بني على أَن الْملك فِي الْوَصِيَّة بِمَاذَا يحصل إِن قُلْنَا بِالْمَوْتِ لم يقطع وَإِلَّا قطع وَلَو أوصى للْفُقَرَاء بِمَال فسرقه فَقير بعد مَوته لم يقطع كسرقة مَال بَيت المَال وَأَن سَرقَة غَنِي قطع وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ لَا شُبْهَة لَهُ فِي مَال الْمَسْرُوق احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا سرق مَالا لَهُ فِيهِ شُبْهَة أَي للسارق وَفِيه صور(1/485)
مِنْهَا سرق من يسْتَحق النَّفَقَة بالبعضية كَالْأَبِ من مَال وَلَده وَبِالْعَكْسِ فَلَا قطع وَلَو سرق أحد الزَّوْجَيْنِ مَال الآخر إِن لم يكن محرزا فَلَا قطع وَإِلَّا فَثَلَاثَة أوجه الرَّاجِح الْقطع لعُمُوم الْآيَة وَالْفرق بَينه وَبَين نَفَقَة الْأَقَارِب أَنَّهَا لأجل إحْيَاء النُّفُوس فَأشبه نَفسه وَنَفَقَة الزَّوْجَة مُعَاوضَة فَأشبه الْإِجَارَة وَقيل لَا تقطع لِأَنَّهَا تسْتَحقّ النَّفَقَة من مَاله وَيقطع الزَّوْج إِذْ لَا نَفَقَة لَهُ فَلَا شُبْهَة وَقيل غير ذَلِك وَمِنْهَا إِذا سرق من مَال بَيت المَال وَفِيه تفاصيل ملخصتها وَهُوَ الصَّحِيح أَن يفصل إِن كَانَ السَّارِق صَاحب حق فِي الْمَسْرُوق بِأَن سرق فَقير من مَال الصَّدقَات أَو مَال الْمصَالح فَلَا قطع وَإِن لم يكن صَاحب حق فِيهِ كالغني فَإِن سرق من الصَّدقَات قطع وَإِن سرق من مَال الْمصَالح فَلَا قطع على الرَّاجِح لِأَنَّهُ قد يصرف ذَلِك فِي عمَارَة مَسْجِد أَو رِبَاط أَو قنطرة فينتفع بهَا الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَلَو سرق ذمِّي من مَال الْمصَالح قطع على الصَّحِيح لِأَنَّهُ مَخْصُوص بِالْمُسْلِمين وانتفاع أهل الذِّمَّة انما هُوَ تبع وَمِنْهَا إِذا سرق مُسْتَحقّ الدّين مَال الْمَدْيُون وَفِيه نَص وَاخْتِلَاف وَالصَّحِيح التَّفْصِيل فَإِن أَخذه لَا يقْصد اسْتِيفَاء الْحق أَو بِقَصْدِهِ والمديون غير جَاحد وَلَا مماطل قطع وَإِن قصد وَهُوَ جَاحد أَو مماطل فَلَا قطع وَلَا فرق بَين أَن يَأْخُذ من جنس حَقه أَو من غَيره على الصَّحِيح وَلَو أَخذ زِيَادَة على قدر حَقه فَلَا قطع على الصَّحِيح لِأَنَّهُ إِذا جَازَ لَهُ الدُّخُول وَالْأَخْذ لم يبْق المَال محرزا عَنهُ وَمِنْهَا إِذا سرق العَبْد من مَال سَيّده لِأَن لَهُ شُبْهَة اسْتِحْقَاق نَفَقَته وَقَالَ أَبُو ثَوْر يقطع لعُمُوم الْآيَة الْكَرِيمَة وَالصَّحِيح الأول وَلَا فرق بَين الْقِنّ وَالْمُدبر وَأم الْوَلَد والمبعض وَكَذَا الْمكَاتب فِي الْأَصَح وَكَذَا عبد مكَاتبه قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَمِنْهَا لَو سرق حصر الْمَسْجِد أَو الْقَنَادِيل الَّتِي تسرج فَلَا قطع لِأَنَّهَا معدة لانتفاع النَّاس بِخِلَاف مَا لَو سرق بَاب الْمَسْجِد وسواريه وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ يقطع وَكَذَا لَو سرق ستر الْكَعْبَة شرفها الله تَعَالَى وَهُوَ مُحرز بالخياطة فَالْمَذْهَب أَنه يقطع وَبِه قطع الْجُمْهُور وَهَذِه الْمَسْأَلَة وَمَسْأَلَة بَيت المَال مُلْحقَة بِمَا ذكره الشَّيْخ لأجل الشُّبْهَة وَبَقِي صور تركناها خشيَة الاطالة تعرف مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَالله أعلم قَالَ
(وتقطع يَده الْيُمْنَى من الْكُوع فَإِن سرق ثَانِيًا قطعت رجله الْيُسْرَى فَإِن سرق ثَالِثا قطعت يَده الْيُسْرَى فَإِن سرق رَابِعا قطعت رجله الْيُمْنَى فَإِن سرق بعد ذَلِك عزّر)
إِذا ثبتَتْ السّرقَة الْمُقْتَضِيَة للْقطع وَجب شَيْئَانِ
أَحدهمَا رد المَال الْمَأْخُوذ إِن كَانَ بَاقِيا أَو بدله إِن كَانَ تَالِفا يَسْتَوِي فِي ذَلِك الْغَنِيّ وَالْفَقِير
الثَّانِي وجوب الْقطع فتقطع يَده الْيُمْنَى فَأَما وجوب الْقطع فللآية وَالْأَخْبَار وَأما كَونهَا الْيُمْنَى فلقراءة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى / فَاقْطَعُوا أيمانهما / وَالْقِرَاءَة الشاذة كَخَبَر الْوَاحِد فِي وجوب الْعَمَل وَهِي مفسرة للأيدي الْمَذْكُورَة فِي الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ(1/486)
الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر بِهِ وَفعله الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة بعده رَضِي الله عَنْهُم وَمن جِهَة الْمَعْنى أَن الْيُمْنَى أقوى فالبداءة بهَا أقطع فِي الردع وَادّعى القَاضِي أَبُو الطّيب الاجماع على ذَلِك وتقطع من مفصل الْكُوع لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر بِهِ فِي قطع السَّارِق رِدَاء صَفْوَان وَادّعى الْمَاوَرْدِيّ الاجماع على ذَلِك سَوَاء كَانَ لَهُ يسرى أم لَا وَلَا يُضَاف إِلَى الْقطع التَّعْزِير وَعَن الفوراني أَنه يُعَزّر فَإِن عَاد قطعت رجله الْيُسْرَى لأَمره بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَذَا فعل أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَا مُخَالف لَهما وَقِيَاسًا على قَاطع الطَّرِيق ولأنا لَو قَطعنَا الرجل الْيُمْنَى لاستوفينا حد الْجَانِبَيْنِ فيضعف فَيكون فِيهِ ضم عُقُوبَة إِلَى عُقُوبَة وَكَذَلِكَ لم تقطع يَده الْيُسْرَى لِئَلَّا يسْتَوْفى مَنْفَعَة الْجِنْس فتزداد الْعقُوبَة وتقطع من مفصل الْقدَم كَذَا فعله عمر وَشرط قطعهَا بعد اندمال الْيَد لِئَلَّا يُفْضِي بِهِ توالي الْقطع إِلَى الْهَلَاك بِخِلَاف قطع الْمُحَاربَة لِأَن قطعهمَا هُنَاكَ حد وَاحِد فَإِن عَاد قطعت الْيُسْرَى فَإِن عَاد قطعت الْيُمْنَى لأَمره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بذلك وروى ذَلِك من فعل الصّديق فَإِنَّهُ جِيءَ بِرَجُل مَقْطُوع الْيَد وَالرجل فَقطع يَده الْيُسْرَى فَإِن عَاد بعد قطع الْأَرْبَعَة عزّر لِأَن الْقطع ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة وَلم يذكر بعده شَيْء آخر وَالسَّرِقَة مَعْصِيّة فعزر بِسَبَبِهَا قَالَ فِي الْكَافِي وَيحبس حَتَّى يَتُوب وَفِي الجيلي حَتَّى تظهر تَوْبَته وَعَن الْقَدِيم أَنه يقتل لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر بِقطع السَّارِق فِي الْأَرْبَعَة وَقَالَ فِي الْخَامِسَة اقْتُلُوهُ وَالْمذهب أَنه يُعَزّر كَمَا ذَكرْنَاهُ وَقَالَ الزُّهْرِيّ إِن الْقَتْل مَنْسُوخ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رفع إِلَيْهِ فِي الْخَامِسَة فَلم يقْتله وَقَالَ الشَّافِعِي الْقَتْل مَنْسُوخ بِلَا خلاف بَين الْعلمَاء وَلِأَن كل مَعْصِيّة أوجبت حدا لم يُوجب تكرارها الْقَتْل كَالزِّنَا وَالْقَذْف وَالله أعلم قَالَ
بَاب حد قطاع الطَّرِيق فصل فِي حد قطاع الطَّرِيق وقطاع الطَّرِيق على أَرْبَعَة أوجه إِن قتلوا وَلم يَأْخُذُوا المَال قتلوا وَإِن قتلوا وَأخذُوا المَال قتلوا وصلبوا وَإِن أخذُوا المَال وَلم يقتلُوا تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف فَإِن أخافوا وَلم يَأْخُذُوا مَالا وَلم يقتلُوا حبسوا وعزروا(1/487)
قطاع الطَّرِيق سموا بذلك لانْقِطَاع النَّاس من الْمُرُور فِيهِ خوفًا مِنْهُم وعقوبتهم نَص عَلَيْهَا الْقُرْآن الْعَظِيم قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} الْآيَة فقطاع الطَّرِيق طَائِفَة يترصدون فِي المكامن للرفقة فَإِذا رَأَوْهُمْ برزوا إِلَيْهِم قَاصِدين الْأَمْوَال معتمدين فِي ذَلِك على قُوَّة وقدرة يتغلبون بهَا وَفِيهِمْ شرعت هَذِه الْعُقُوبَات الغليظة وَاعْلَم أَنه لَا يشْتَرط فِي قطاع الطَّرِيق الذُّكُورَة وَلَا الْعدَد وَلَا كَونهم فِي غير الْعمرَان بل لَو كَانَ وَاحِد لَهُ فضل قُوَّة يغلب بهَا الْجَمَاعَة على النَّفس وَالْمَال مجاهرا بذلك فَهُوَ قَاطع طَرِيق فَإِذا علم الامام من رجل أَو من جمَاعَة أَنهم يخيفون السَّبِيل وَجب عَلَيْهِ الْمُبَادرَة إِلَى زجرهم وطلبهم ثمَّ ينظر إِن لم يَأْخُذُوا المَال وَلَا قتلوا نفسا عزرهم بِالْحَبْسِ وَغَيره فَإِن أخذُوا من المَال قدر نِصَاب السّرقَة قطعت أَيْديهم وأرجلهم الْيُسْرَى فَإِن عَادوا قطعت أَيْديهم الْيُسْرَى وأرجلهم الْيُمْنَى وَإِنَّمَا قطعُوا من خلاف لِئَلَّا يفوت جنس الْمَنْفَعَة فَإِن كَانَ المَال دون النّصاب فَلَا قطع على الرَّاجِح وَإِن قتل قَاطع الطَّرِيق قتل وَهُوَ قتل متحتم وَلَا يجوز تخليته وَلَا الْعَفو عَنهُ وَلَيْسَ سَبيله سَبِيل الْقصاص فلعنة الله على الظَّالِمين الَّذين يتربصون ويصدون عَن سَبِيل الله وَإِن جمع قَاطع الطَّرِيق بَين الْقَتْل وَأخذ المَال قتل وصلب وَقيل تقطع يَده وَرجله وَيقتل ويصلب فَإِذا صلب ترك مصلوبا ثَلَاث على الصَّحِيح الْمَنْصُوص فَإِن نزل ودكه نزل وَإِن لم ينزل فَفِيهِ خلاف الرَّاجِح أَنه لَا يبْقى وَقيل يتْرك حَتَّى ينزل صديده وَهُوَ الودك والصلب يكون على خَشَبَة وَنَحْوهَا وَقيل يطْرَح على الأَرْض حَتَّى يسيل صديده وَالله أعلم قَالَ
(وَمن تَابَ مِنْهُم قبل الْقُدْرَة عَلَيْهِ سَقَطت عِنْد الْحُدُود وَأخذ بالحقوق)
قَاطع الطَّرِيق يجب على الامام طلبه فَإِن هرب يتبعهُ إِلَى أَن يظفر بِهِ أَو يَتُوب فَإِن ظفر بِهِ قبل التَّوْبَة أَقَامَ عَلَيْهِ مَا يسْتَوْجب من الْعُقُوبَات الْمَذْكُورَة فَإِن تَابَ بعد الْقُدْرَة عَلَيْهِ لم تسْقط عَنهُ الْعُقُوبَات لمَفْهُوم الْآيَة الْكَرِيمَة هَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَإِن تَابَ قبل الْقُدْرَة عَلَيْهِ سقط عَنهُ مَا يخْتَص بِقطع الطَّرِيق من الْعُقُوبَات لقَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب فَإِن كَانَ قد قتل سقط عَنهُ انحتام الْقَتْل وللولي أَن يقْتَصّ وَيَعْفُو وَإِن كَانَ قد قتل وَأخذ المَال سقط الصلب وانحتام الْقَتْل وَبَقِي الْقصاص وَضَمان المَال وَإِن كَانَ قد أَخذ المَال سقط قطع الرجل وَكَذَا قطع الْيَد على الْمَذْهَب وَأخذ المَال وَهُوَ معنى قَول الشَّيْخ سقط عَنهُ الْحُدُود أَي انحتامها لِأَنَّهَا حُقُوق الله تَعَالَى وَبقيت حُقُوق الْآدَمِيّين من الْقصاص وَالْمَال فَإِنَّهَا لَا تسْقط إِن جعلنَا الْألف وَاللَّام فِي كَلَام الشَّيْخ للْعهد وَإِن جعلناها للْجِنْس وَكَانَ على قَاطع الطَّرِيق حُدُود أُخْرَى كَالزِّنَا وَشرب الْخمر فَهَل تسْقط عَنهُ أَيْضا فِيهِ قَولَانِ رجح جمَاعَة من(1/488)
الْعِرَاقِيّين السُّقُوط وَالْأَظْهَر أَنَّهَا لَا تسْقط لاطلاق الْأَدِلَّة وَالله أعلم قَالَ
بَاب حكم الصَّائِل فصل وَمن قصد بأذى فِي نَفسه أَو مَاله أَو حريمه فَقتل دفعا عَنهُ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
من صال على شخص مُسلم بِغَيْر حق يُرِيد قَتله جَازَ للمقصود دَفعه عَن نَفسه إِن لم يقدر على هرب أَو تحصن بمَكَان أَو غَيره فَإِن قدر على ملْجأ وَجب عَلَيْهِ ذَلِك لِأَنَّهُ مَأْمُور بتخليص نَفسه بالأهون وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح من اخْتِلَاف كثير وَقيل لَهُ الثَّبَات ومقاتلته فَإِن لم يقدر على ملْجأ فَلهُ مقاتلته بِشَرْط أَن يَأْتِي بالأخف فالأخف فَإِن أمكنه الدّفع بالْكلَام أَو الصياح أَو الاستغاثة بِالنَّاسِ لم يكن لَهُ الضَّرْب فَإِن لم ينْدَفع إِلَّا بِالضَّرْبِ فَلهُ أَن يضْربهُ ويراعى فِيهِ التَّرْتِيب فَإِن أمكن بِالْيَدِ لم يضْربهُ بِالسَّوْطِ وَإِن أمكن بِالسَّوْطِ لم يجز بالعصا وَإِن أمكن بِجرح لم يقطع عضوا وَإِن أمكن بِقطع عُضْو لم يذهب نَفسه فَإِن لم ينْدَفع إِلَّا بالاتيان على نَفسه فَلهُ ذَلِك وَلَا قصاص عَلَيْهِ وَلَا دِيَة وَلَا كَفَّارَة لقَوْله تَعَالَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} الْآيَة وَلِأَن الصَّائِل ظَالِم والظالم مُعْتَد والمعتدي مُبَاح الْقِتَال ومباح الْقِتَال لَا يجب ضَمَانه وَالله أعلم
وَهل يجب الدّفع عَن نَفسه إِذا كَانَ الصَّائِل مُسلما مُكَلّفا قيل يجب لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} وكا يجب على الْمُضْطَر إحْيَاء نَفسه بِالْأَكْلِ وَالرَّاجِح أَنه لَا يجب بل لَهُ الاستسلام لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لما وصف مَا يكون من الْفِتَن فَقَالَ حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ إِنَّه لَو أدركني ذَلِك الزَّمَان فَقَالَ ادخل بَيْتك واخمل ذكرك فَقَالَ يَا رَسُول الله أَرَأَيْت لَو دخل بَيْتِي فَقَالَ إِذا راعك بريق السَّيْف فاستر وَجهك وَكن عبد الله الْمَقْتُول وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل وَفِي بعض الْأَلْفَاظ وَكن خير بني آدم أَي الْقَائِل {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} إِلَى قَوْله تَعَالَى {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَصَحَّ أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ منع عُبَيْدَة عَنهُ وَكَانُوا أَرْبَعمِائَة فَقَالَ من ألْقى سلاحه فَهُوَ حر وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِن بَين يَدي السَّاعَة فتنا كَقطع اللَّيْل المظلم يصبح الرجل فِيهَا مُؤمنا ويمسي كَافِرًا ويمسي مُؤمنا وَيُصْبِح كَافِرًا الْقَاعِد فِيهَا خير من الْقَائِم والقائم خير من الْمَاشِي والماشي خير من السَّاعِي فاكسروا قسيكم واقطعوا أوتاركم واضربوا سُيُوفكُمْ(1/489)
بِالْحِجَارَةِ فَإِن دخل على أحد مِنْكُم فَلْيَكُن كخير ابْني آدم وَيُخَالف الْمُضْطَر فَإِن فِي الْقَتْل شَهَادَة بِخِلَاف ترك الْأكل وَالله أعلم وَإِن قصد فِي مَاله وَإِن قل كدرهم فَلهُ أَن يَدْفَعهُ عَنهُ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد وَله تَركه لِأَنَّهُ يجوز إِبَاحَته نعم إِن كَانَ المَال حَيَوَانا وَقصد اتلافه وَجب الدّفع لحُرْمَة الرّوح قَالَه الْبَغَوِيّ مَا لم يخف على نَفسه وَالله أعلم
2 - وَإِن قصد حريمه كزوجته وَأمته وَولده وَنَحْوه بقتل أَو لينال من أحدهم فَاحِشَة كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَجب عَلَيْهِ الدّفع لتَحْرِيم إِبَاحَة ذَلِك لِأَنَّهُ حق غَيره وَقد رُوِيَ أَن امْرَأَة خرجت تحتطب فتبعها رجل يراودها عَن نَفسهَا فرمته بفهر فَقتلته فَرفع ذَلِك لعمر فَقَالَ قَتِيل الله وَالله لَا يودى هَذَا أبدا وَلم يُخَالِفهُ أحد فَكَانَ إِجْمَاعًا وَقيل فِي الْوُجُوب الْخلاف فِي الدّفع عَن نَفسه وَالْمذهب الأول وَبِه جزم الْبَغَوِيّ وَالْمُتوَلِّيّ وشرطا فِي الْوُجُوب أَن لَا يخَاف على نَفسه وَإِلَيْهِ أَشَارَ الإِمَام وَالْغَزالِيّ هَل يجب الدّفع عَن الْغَيْر إِذا لم يكن من حريمه فِيهِ طرق للأصحاب أَصَحهَا أَنه كالدفع عَن نَفسه فَإِن كَانَ قَاصِدا كَافِرًا وَجب الدّفع وَكَذَا إِن كَانَ القاصد بَهِيمَة وَإِن كَانَ مُسلما بَالغا فَفِيهِ الْخلاف وَقيل يجب الدّفع هُنَا قطعا لِأَن الْحق للْغَيْر لَكِن بِشَرْط أَن لَا يغلب على ظَنّه هَلَاك نَفسه وَقيل لَا يجب قطعا وَحَكَاهُ الإِمَام عَن الْمُحَقِّقين من عُلَمَاء الْأُصُول لِأَن ذَلِك من وَظِيفَة الْوُلَاة دون الْآحَاد فعلى هَذَا فِي جَوَازه خلاف وَالله أعلم قَالَ
(وعَلى رَاكب الدَّابَّة ضَمَان مَا تتلفه)
إِذا كَانَ مَعَ الشَّخْص دَابَّة ضمن مَا تتلفه من نفس أَو مَال سَوَاء أتلفت لَيْلًا أَو نَهَارا وَسَوَاء كَانَ سائقها أَو قائدها أَو راكبها وَسَوَاء أتلفت بِيَدِهَا أَو رجلهَا أَو عضها أَو ذنبها لِأَنَّهَا تَحت يَده وَعَلِيهِ تعهدها وَسَوَاء كَانَ الَّذِي مَعَ الدَّابَّة مَالِكهَا أَو أَجِيرا أَو مُسْتَأْجرًا أَو مستعيرا أَو غصبا لشمُول الْيَد وَسَوَاء فِي ذَلِك الْبَهِيمَة الْوَاحِدَة أَو الْعدَد كَالْإِبِلِ المقطورة أَو المساقة وَفِي وَجه إِن كَانَت مِمَّا تساق كالغنم فساقها لَا يضمن وَإِن كَانَت مِمَّا تقاد فساقها ضمن وَالصَّحِيح أَنه يضمن فِي الْحَالين وَبِه قطع الجماهير
وَاعْلَم أَن ضَمَان النَّفس يكون على العقلة إِذا كَانَت الدِّيَة طَوْعًا وَقَول الشَّيْخ وعَلى رَاكب الدَّابَّة يَشْمَل مَا إِذا كَانَ وَحده وَمَا إِذا كَانَ مَعَه سائق أَو قَائِد وَهُوَ كَذَلِك لقُوَّة يَده وَلَو كَانَ مَعَ الدَّابَّة سائق وقائد فَالضَّمَان عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَلَو كَانَ يسير الدَّابَّة فنسخها إِنْسَان فرمحت وأتلفت شَيْئا فَالضَّمَان على الناخس على الصَّحِيح وَلَو أمسك اللجام فوكبت رَأسهَا فَهَل يضمن مَا تتلفه قَولَانِ(1/490)
لَيْسَ فِي الرَّوْضَة والرافعي تَرْجِيح لَو انفلتت الدَّابَّة من يَد صَاحبهَا وأتلفت شَيْئا فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ لخروجها من يَده قَالَ الإِمَام وَالدَّابَّة النزقة الَّتِي لَا تنضبط بالكبح والترديد فِي معاطف اللجام لَا تركب فِي الْأَسْوَاق وَمن ركبهَا فَهُوَ مقصر وضامن لما تتلفه وَالله أعلم
(فرع) إِذا كَانَ للدابة الَّتِي هِيَ مَعَه ولد سائب فأتلف شَيْئا ضمنه وَالله أعلم
(فرع) وَالدَّوَاب الْمُرْسلَة إِذا أتلفت زرعا أَو غَيره نظر إِن أتلفته نَهَارا فَلَا ضَمَان على صَاحبهَا وَإِن أتلفته لَيْلًا لزم صَاحبهَا الضَّمَان للْحَدِيث الصَّحِيح فِي ذَلِك وَالْفرق من حَيْثُ الْمَعْنى أَن الْعَادة أَن أَصْحَاب الزروع والبساتين يحفظونها نَهَارا وَلَا بُد من إرْسَال الدَّوَابّ للمرعى وَالْعَادَة أَن الدَّوَابّ لَا تتْرك منتشرة لَيْلًا فصاحبها مقصر فِي الْحِفْظ فَيضمن فَلَو جرت عَادَة نَاحيَة بِالْعَكْسِ الْعَكْس الْأَمر على الصَّحِيح جَريا على الْعَادة واتباعاً لِمَعْنى الْخَبَر وَالله أعلم
(فرع) دخلت بَهِيمَة مزرعة فصاح عَلَيْهَا صَاحب الزَّرْع فَخرجت إِلَى زرع الْجَار فَإِن اقْتصر على تنفيرها من زرعه لم يضمن وَإِن تبعها بعد الْخُرُوج من زرعه حَتَّى أوقعهَا فِي زرع الْغَيْر ضمن فَلَو كَانَت مزرعته محفوفة بالمزارع لم يجز لَهُ اخراجها لِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ أَن يقي مَاله بِمَال الْغَيْر فَإِن فعل ضمن فَعَلَيهِ أَن يَتْرُكهَا وَيضمن مَالِكهَا مَا أتلفته وَالله أعلم
(تَنْبِيه) جَمِيع مَا تقدم من الضَّمَان على صَاحب الدَّابَّة هُوَ فِيمَا إِذا لم يُوجد من صَاحب المَال تَقْصِير فَإِن وجد بِأَن عرضه للدابة أَو وَضعه فِي الطَّرِيق فَلَا ضَمَان على صَاحب الدَّابَّة وَالله أعلم
(مَسْأَلَة كَثِيرَة الْوُقُوع) وَهِي أَن الْمَاشِي إِذا وَقع مقدم مداسه على مُؤخر مداس غَيره وتمزق لزمَه نصف الضَّمَان لِأَنَّهُ تمزق بِفِعْلِهِ وَفعل صَاحبه وَالله أعلم
(مَسْأَلَة أُخْرَى) كَذَلِك إِذا كَانَ لشخص قطة تخطف الطُّيُور وتقلب الْقُدُور فأتلفت شَيْئا ضمنه صَاحبهَا على الصَّحِيح سَوَاء أتلفت لَيْلًا أَو نَهَارا لِأَن مثل هَذِه الْهِرَّة يَنْبَغِي أَن ترْبط ويكف شَرها وَكَذَا الحكم فِي كل حَيَوَان يولع بِالتَّعَدِّي وَلَو لم يكن للهرة وَنَحْوهَا عَادَة بذلك فَلَا ضَمَان على الرَّاجِح لِأَن الْعَادة حفظ الطَّعَام عَنْهَا لَا ربطها وَهل يجوز قتل الْهِرَّة فِي حَال سكونها إِذا كَانَت ضاربة فِيهِ وَجْهَان الرَّاجِح لَا لِأَن ضراوتها عارضة والتحرز مِنْهَا سهل بالتحفظ وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن تقتل وتلحق بالفواسق وَالله أعلم قَالَ
بَاب قتال الْبُغَاة فصل وَيُقَاتل أهل الْبَغي بِثَلَاث شَرَائِط أَن يَكُونُوا فِي مَنْعَة وَأَن يخرجُوا عَن قَبْضَة الامام وَأَن يكون لَهُم تَأْوِيل سَائِغ(1/491)
الْبَغي الظُّلم والباغي فِي اصْطِلَاح الْعلمَاء هُوَ الْمُخَالف للامام الْعدْل الْخَارِج عَن طَاعَته بامتناعه من أَدَاء مَا وَجب عَلَيْهِ أَو غَيره بِالشُّرُوطِ الْآتِيَة قَالَ الْعلمَاء وَيجب قتال الْبُغَاة وَلَا يكفرون بالبغي وَإِذا رَجَعَ إِلَى الطَّاعَة ترك قِتَاله وَقبلت تَوْبَته قَالَ النَّوَوِيّ وأجمعت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على قتال الْبُغَاة فَإِذا خرج على الامام طَائِفَة ورامت عَزله وامتنعوا من أَدَاء الْحُقُوق فَينْظر فيهم إِن وجدت فيهم شُرُوط الْبُغَاة أجْرى حكمهم عَلَيْهِم وَإِلَّا فَلَا وللبغاة صِفَات يتميزون بهَا عَن غَيرهم من الخارجين على الامام مِنْهَا أَن يَكُونُوا فِي مَنْعَة بِأَن يكون لَهُم شَوْكَة وَعدد بِحَيْثُ يحْتَاج الامام فِي ردهم إِلَى الطَّاعَة إِلَى كلفة ببذل مَال واعداد رجال أَو نصب قتال فَإِن كَانُوا أفراداً ويسهل ضبطهم فليسوا ببغاة وَلَا يشْتَرط انفرادهم بِموضع من قَرْيَة أَو صحراء على الرَّاجِح عِنْد الْمُحَقِّقين قَالَ الرَّافِعِيّ وَرُبمَا يعْتَبر خُرُوجهمْ عَن قَبْضَة الامام وَهَذَا هُوَ الشَّرْط الثَّانِي عِنْد الشَّيْخ وَمِنْهَا أَن يكون لَهُم تَأْوِيل يَعْتَقِدُونَ بِسَبَبِهِ جَوَاز الْخُرُوج على الامام أَو منع الْحق المتوجه عَلَيْهِم فَلَو خرج قوم عَن الطَّاعَة وَمنعُوا الْحق بِلَا تَأْوِيل سَوَاء كَانَ حدا أَو قصاصا أَو مَالا لله تَعَالَى أَو للآدميين عناداً وَلم يتعلقوا بِتَأْوِيل فَلَيْسَ لَهُم حكم الْبُغَاة وَكَذَا المرتدون ثمَّ التَّأْوِيل إِن كَانَ بُطْلَانه مَقْطُوعًا بِهِ فَوَجْهَانِ أفقههما لاطلاق الْأَكْثَرين أَنه لَا يعْتَبر كتأويل الْمُرْتَدين وشبههم وَإِن كَانَ بُطْلَانه مظنوناً فَهُوَ مُعْتَبر وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ تَأْوِيل سَائِغ وَمن الْأَصْحَاب من يعبر عَن ذَلِك بِتَأْوِيل مُحْتَمل وَالْكل يرجع إِلَى معنى فَمن ذَلِك تَأْوِيل الخارجين على سيدنَا عَليّ رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ تمسكوا باعتقادهم أَنه يعرف قتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَيقدر عَلَيْهِم وَلَا يقْتَصّ مِنْهُم لرضاه بقتْله ومواطأته إيَّاهُم وَمن أَمْثِلَة التَّأْوِيل الْحَامِل على منع الْحق مَا وَقع لمَانع الزَّكَاة فِي زمن الصّديق رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالُوا أمرنَا بِدفع الزَّكَاة إِلَى من صلَاته سكن لنا وَهُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وَصَلَاة غَيره لَيست سكناً لنا وَمِنْهَا أَن يكون لَهُم متبوع مُطَاع إِذْ لَا قُوَّة لمن لَا تَجْتَمِع كلمتهم على مُطَاع إِذا عرفت هَذَا فَمن لَهُ تَأْوِيل بِلَا شَوْكَة أَو شَوْكَة بِلَا تَأْوِيل لَيْسَ لَهُم حكم الْبُغَاة وَالله أعلم
(وَلَا يقتل أسيرهم وَلَا يغنم مَالهم وَلَا يذفف على جريحهم)
قد عرفت شُرُوط الْبُغَاة وَالْكَلَام الْآن فِي كَيْفيَّة قِتَالهمْ وطريقهم طَرِيق دفع الصَّائِل كَمَا مر الْآن الْمَقْصُود ردهم إِلَى الطَّاعَة وَدفع شرهم لَا الْقَتْل فَإِذا أمكن الْأسر فَلَا قتل وَإِذا أمكن الْإِثْخَان فَلَا تذفيف فَإِن التحم الْقِتَال خرج الْأَمر عَن الضَّبْط فَلَو أسر وَاحِد مِنْهُم أَو أثخن بالجراحة أَو غَيرهَا فَلَا يقتل الْأَسير وَلَا يذفف على الجريح والتذفيف تتميم الْقَتْل وتعجيل وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يقتل الْأَسير ويذفف على الجريح وَحجَّتنَا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ(1/492)
يَا ابْن أم عبد مَا حكم من بغى من أمتِي قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ لَا يتبع مدبرهم وَلَا يُجهز على جريحهم وَلَا يقتل أسيرهم وَدخل الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا على مَرْوَان فَقَالَ مَا رَأَيْت أكْرم من أَبِيك مَا إِن ولينا ظُهُورنَا يَوْم الْجمل حَتَّى نَادَى مناديه أَلا لَا يتبع مُدبر وَلَا يذفف على جريح وَلِأَن الْمَقْصُود كف شرهم لأقتلهم وَتمسك الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك بِالْآيَةِ الْكَرِيمَة فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَفسّر الْفَيْء فِي الْآيَة الْكَرِيمَة بترك الْقِتَال وبالعود إِلَى الطَّاعَة أَو الْهَزِيمَة وَقَالَ أَيْضا أَمر الله بقتالهم لَا بِقَتْلِهِم وَإِنَّمَا يُقَال قَاتلُوا لمن يُقَاتل وَيُقَال للمنهزم اقْتُلُوهُ قلت وَكَذَا يُقَال للأسير والمثخن إِذْ لَا مقاتلة فيهمَا إِذْ هَذِه الصِّيغَة مفاعلة وضعا وَالله أعلم وَقَوله وَلَا يغنم مَالهم لأَنهم مُسلمُونَ وَلَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا عَن طيب قلب والآيات الْأَخْبَار فِي ذَلِك كَثِيرَة وَالله أعلم قَالَ
بَاب الرِّدَّة وَحكم الْمُرْتَد فصل فِي الرِّدَّة وَمن ارْتَدَّ عَن الاسلام استتيب ثَلَاثًا فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَلم يغسل وَلم يصل عَلَيْهِ وَلم يدْفن فِي مَقَابِر الْمُسلمين
الرِّدَّة فِي اللُّغَة الرُّجُوع عَن الشَّيْء إِلَى غَيره وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} وَفِي الشَّرْع الرُّجُوع عَن الْإِسْلَام إِلَى الْكفْر وَقطع الْإِسْلَام وَيحصل تَارَة بالْقَوْل وَتارَة بِالْفِعْلِ وَتارَة بالاعتقاد وكل وَاحِد من هَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة فِيهِ مسَائِل لَا تكَاد تحصر فَنَذْكُر من كل نبذة مَا يعرف بهَا غَيره أما القَوْل فَكَمَا إِذْ قَالَ شخص عَن عدوه لَو كَانَ رَبِّي مَا عبدته فَإِنَّهُ يكفر وَكَذَا لَو قَالَ لَو كَانَ نَبيا مَا آمَنت بِهِ أَو قَالَ عَن وَلَده أَو زَوجته هُوَ أحب إِلَيّ من الله أَو من رَسُوله وَكَذَا لَو قَالَ مَرِيض بعد أَن شفي لقِيت فِي مرضِي هَذَا مَا لَو قتلت أَبَا بكر وَعمر لم استوجبه فَإِنَّهُ يكفر وَذهب طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَنه يتحتم قَتله لِأَنَّهُ يتَضَمَّن قَوْله نِسْبَة الله تَعَالَى إِلَى الْجور وَقَضِيَّة هَذَا التَّعْلِيل أَن يلْتَحق بِهَذِهِ الصُّورَة مَا فِي مَعْنَاهَا لأجل تضمن هَذِه النِّسْبَة عَافَانَا الله تَعَالَى من ذَلِك وَكَذَا لَو ادّعى أَنه أُوحِي إِلَيْهِ وَإِن لم يدع النُّبُوَّة أَو ادّعى أَنه يدْخل الْجنَّة وَيَأْكُل من ثمارها وَأَنه يعانق الْحور الْعين فَهُوَ كفر بِالْإِجْمَاع وَمثل هَذَا وأشباهه كَمَا يَقُوله زنادقة المتصوفة قَاتلهم الله مَا أجهلهم وأكفرهم وأبلم من اعتقدهم وَلَو سبّ نَبيا من الْأَنْبِيَاء أَو استخف بِهِ فَإِنَّهُ يكفر بِالْإِجْمَاع وَمن صور الِاسْتِهْزَاء(1/493)
مَا يصدر من الظلمَة عِنْد ضَربهمْ فيستغيث الْمَضْرُوب بِسَيِّد الْأَوَّلين والآخرين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُول خل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخلصك وَنَحْو ذَلِك وَلَو قَالَ شخص أَنا نَبِي وَقَالَ آخر صدق كفرا وَلَو قَالَ لمُسلم يَا كَافِر بِلَا تَأْوِيل كفر لِأَنَّهُ سمى الْإِسْلَام كفرا وَهَذَا اللَّفْظ كثيرا يصدر من التّرْك فليتفطن لذَلِك وَلَو قَالَ إِن مَاتَ ابْني تهودت أَو تنصرت كفر فِي الْحَال وَلَو سَأَلَهُ كَافِر يُرِيد الْإِسْلَام أَن يلقنه كلمة التَّوْحِيد فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن يثبت كفر وَكَذَا إِن لم يلقنه التَّوْحِيد كفر وَلَو أَشَارَ على مُسلم أَن يكفر كفر وَلَو قيل لَهُ قلم أظفارك أَو قصّ شواربك فَإِنَّهُ سنة فَقَالَ لَا أفعل وَإِن كَانَ سنة كفر قَالَه الرَّافِعِيّ عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة وتبعهم وَقَالَ النَّوَوِيّ الْمُخْتَار أَنه لَا يكفر إِلَّا أَن يقْصد استهزاء وَالله أعلم
وَلَو تقاول شخصان فَقَالَ أَحدهمَا لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه فَقَالَ الآخر لَا حول وَلَا قُوَّة لَا تغني من جوع كفر وَلَو سمع أَذَان الْمُؤَذّن فَقَالَ إِنَّه يكذب كفر وَلَو قَالَ لَا أَخَاف الْقِيَامَة كفر وَلَو ابتلى بمصائب فَقَالَ أَخذ مَالِي وَوَلَدي وَكَذَا وَكَذَا وماذا يَفْعَله أَيْضا وَمَا بَقِي مَا يفعل كفر وَلَو ضرب غُلَامه وَولده فَقَالَ لَهُ شخص أَلَسْت بِمُسلم فَقَالَ لَا مُتَعَمدا كفر وَلَو قَالَ لَهُ شخص يَا يَهُودِيّ أَو يَا نَصْرَانِيّ فَقَالَ لبيْك كفر كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ وَسكت عَلَيْهِ وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي هَذَا نظر إِن لم ينْو شَيْئا وَالله أعلم
وَلَو قَالَ معلم الصّبيان إِن الْيَهُود خير من الْمُسلمين بِكَثِير لأَنهم يقضون حُقُوق معلمي صبيانهم كفر كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَسكت عَلَيْهِ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ قلت وَهَذَا اللَّفْظ كثير الْوُقُوع من الصنائعية والمتعيشة وَفِي التَّكْفِير بذلك نظر ظَاهر إِذْ إِخْرَاج مُسلم عَن دينه بِلَفْظَة لَهَا محمل صَحِيح لَا سِيمَا عِنْد الْقَرِينَة الدَّالَّة على أَن المُرَاد أَن مُعَاملَة هَذَا أَجود من مُعَاملَة هَذَا لَا سِيمَا إِذا صرح بِأَن هَذَا مُرَاده فِي لفظ صَرِيح كالمسألة المنقولة وَالله أعلم
وَلَو عطس السُّلْطَان أَو نَحوه من الْجَبَابِرَة فَقَالَ رجل يَرْحَمك الله فَقَالَ آخر لَا تقل للسُّلْطَان هَذَا كفر نَقله الرَّافِعِيّ عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة وأقرهم وَقَالَ النَّوَوِيّ إِنَّه لَا يكفر بِمُجَرَّد هَذَا وَلَو قيل لرجل مَا الْإِيمَان فَقَالَ لَا أَدْرِي كفر كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة وأقرهم وَتَبعهُ النَّوَوِيّ قلت هَذِه الْمَسْأَلَة وأشباهها كَثِيرَة الْوُقُوع وَفِي التَّكْفِير بذلك نظر لَا يخفى وَلَو قَالَ مُسلم لمُسلم سلبه الله الايمان أهل يكفر أَو قَالَ لكَافِر لأرزقه الله الْإِيمَان قَالَ القَاضِي حُسَيْن عَن بعض الْأَصْحَاب فِي مَسْأَلَة سلب الْإِيمَان إِنَّه يكفر لِأَنَّهُ رَضِي بالْكفْر وَالْجُمْهُور لَا يكفر لِأَنَّهُ دَعَا بتَشْديد الْأَمر عَلَيْهِ والعقوبة بِهِ لأرضى بالْكفْر وَالله أعلم
وَأما الْكفْر بِالْفِعْلِ فكالسجود للصنم وَالشَّمْس وَالْقَمَر وإلقاء الْمُصحف فِي القاذورات وَالسحر الَّذِي فِيهِ عبَادَة الشَّمْس وَكَذَا الذّبْح للأصنام والسخرياء باسم من أَسمَاء الله تَعَالَى أَو بأَمْره أَو وعيده أَو قِرَاءَة الْقُرْآن على ضرب الدُّف وَكَذَا لَو كَانَ يتعاطى الْخمر وَالزِّنَا وَيقدم اسْم الله تَعَالَى اسْتِخْفَافًا بِهِ فَإِنَّهُ يكفر وَنقل الرَّافِعِيّ عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة أَنه لَو شدّ الزنار على وَسطه كفر قَالَ وَاخْتلفُوا(1/494)
فِيمَن وضع قلنسوة الْمَجُوس على رَأسه وَالصَّحِيح أَنه يكفر وَلَو شدّ على وَسطه حبلاً فَسئلَ عَنهُ فَقَالَ هَذَا زنار على أَنه يكفر وَسكت الرَّافِعِيّ على ذَلِك وَقَالَ النَّوَوِيّ الصَّوَاب أَنه لَا يكفر إِذا لم يكن لَهُ نِيَّة وَمَا ذكره النَّوَوِيّ ذكره الرَّافِعِيّ فِي أول الْجِنَايَات فِي الطّرف الرَّابِع مَا حَاصله مُوَافقَة النَّوَوِيّ وَإِن لبس زِيّ الْكفَّار بِمُجَرَّدِهِ لَا يكون ردة وَنقل الرَّافِعِيّ عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة أَن الْفَاسِق إِذا سقى وَلَده خمرًا فنثر أقرباؤه الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِنَّهُم يكفرون وَسكت الرَّافِعِيّ عَلَيْهِ وَقَالَ النَّوَوِيّ الصَّوَاب أَنهم لَا يكفرون وَلَو فعل فعلا أجمع الْمُسلمُونَ على أَنه لَا يصدر إِلَّا من كَافِر وَإِن كَانَ مُصَرحًا بِالْإِسْلَامِ مَعَ فعله كالسجود للصليب أَو الْمَشْي إِلَى الْكَنَائِس مَعَ أَهلهَا بزيهم من الزنانير وَغَيرهَا فَإِنَّهُ يكفر وَلَو صلى شخص بِغَيْر وضوء مُتَعَمدا أَو فِي ثوب نجس أَو إِلَى غير الْقبْلَة هَل يكفر قَالَ النَّوَوِيّ مَذْهَبنَا وَمذهب الْجُمْهُور أَنه لَا يكفر إِن لم يستحله وَالله أعلم
وَأما الْكفْر بالاعتقاد فكثير جدا فَمن اعْتقد قدم الْعَالم أَو حُدُوث الصَّانِع أَو اعْتقد نفي مَا هُوَ ثَابت لله تَعَالَى بالاجماع أَو أثبت مَا هومفي عَنهُ بالاجماع كالألوان والاتصال والانفصال كَانَ كَافِرًا أَو اسْتحلَّ مَا هُوَ حرَام بِالْإِجْمَاع أَو حرم حَلَالا بِالْإِجْمَاع أَو اعْتقد وجوب مَا لَيْسَ بِوَاجِب كفر أَو نفى وجوب شَيْء مجمع عَلَيْهِ علم من الدّين بِالضَّرُورَةِ كفر كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ هَذَا لَكِن هُنَا تَنْبِيه هُوَ أَن المجسمة ملتزمون بالألوان والاتصال والانفصال وَكَلَام الرَّافِعِيّ فِي كتاب الشَّهَادَات يَقْتَضِي أَن الْمَشْهُور أَنا لَا نكفرهم وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك إِلَّا أَن النَّوَوِيّ جزم فِي صفة الصَّلَاة من شرح الْمُهَذّب بتكفير المجسمة قلت وَهُوَ الصَّوَاب الَّذِي لَا محيد عَنهُ إِذْ فِيهِ مُخَالفَة صَرِيح الْقُرْآن قَاتل الله المجسمة والمعطله ماأجرأهم على مُخَالفَة من {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَفِي هَذِه الْآيَة رد على الْفرْقَتَيْنِ وَالله أعلم وَمن اسْتحلَّ الْخمر أَو لحم الْخِنْزِير أَو الزِّنَا أَو اللواط أَو أَن السُّلْطَان يحلل أَو يحرم ككثير من الظلمَة يعْتَقد أَن السُّلْطَان إِذا غضب على أحد وأنعم على آخر من دونه من مَاله أَنه يحل لَهُ ذَلِك وَيدخل على الْأَمْوَال والابضاع مستحلاً لَهُ بِإِذن السُّلْطَان وَكَذَا من اسْتحلَّ المكوس وَنَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ حرَام بِالْإِجْمَاع وَالرِّضَا بالْكفْر كفر والعزم على الْكفْر كفر فِي الْحَال وَكَذَا لَو تردد هَل يكفر كفر فِي الْحَال وَكَذَا تَعْلِيق الْكفْر بِأَمْر مُسْتَقْبل كفر فِي الْحَال وَلَو قَالَ شخص لخطيب أَو واعظ أُرِيد الْإِسْلَام فلقني كلمة الشَّهَادَة فَقَالَ اقعد حَتَّى أفرغ وألقنك كفر فِي الْحَال وَلَو تمنى شخص أَن لَا يحرم الله الْخمر أَو لَا يحرم المناكحة بَين الْأَخ وَالْأُخْت لَا يكفر بِخِلَاف مَا لَو تمنى أَن لَا يحرم الله الظُّلم وَالزِّنَا وَقتل النَّفس بِغَيْر حق فَإِنَّهُ يكفر وَالضَّابِط فِيهِ أَن مَا كَانَ حَلَالا فِي زمَان فتمنى حلّه لَا يكفر وَالله أعلم
(فرع) ارْتِكَاب كَبَائِر الْمُحرمَات لَيْسَ بِكفْر وَلَا يسلب اسْم الْإِيمَان وَالْفَاسِق إِذا مَاتَ وَلم يتب لَا يخلد فِي النَّار وَالله أعلم إِذا عرفت هَذَا فَمن ثبتَتْ ردته فَهُوَ مهدور الدَّم لِأَنَّهُ أَتَى بأفحش(1/495)
أَنْوَاع الْكفْر وأغلظها حكما قَالَ الله تَعَالَى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} إِلَى قَوْله {خَالِدُونَ} وَهل تسْتَحب تَوْبَته أَو تجب قَولَانِ
أَحدهمَا تسْتَحب لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ وَالصَّحِيح أَنَّهَا تجب لما رَوَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن امْرَأَة ارْتَدَّت يَوْم أحد فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تستتاب فَإِن تابت وَإِلَّا قتلت وَلِأَن الْأَغْلَب فِي الرِّدَّة أَن تكون عَن شُبْهَة عرضت فَلم يجز الْقَتْل قبل كشفها والاستتابة مِنْهَا كَأَهل الْحَرْب فَإنَّا لَا نقتلهم إِلَّا بعد بُلُوغ الدعْوَة وَإِظْهَار المعجزة وَقيل لَا يقبل اسلام الزنديق وَهُوَ الَّذِي يخفي الْكفْر وَيظْهر الْإِسْلَام قَالَ الرَّوْيَانِيّ وَالْعَمَل على هَذَا وَقيل إِن كَانَ من المتناهين فِي الخيث كدعاة الباطنية لَا تقبل تَوْبَته ورجوعه إِلَى الْإِسْلَام وَيقبل من عوامهم وَقيل إِن أَخذ ليقْتل لم تقبل تَوْبَته وَإِن جَاءَ ابْتِدَاء تَائِبًا وَظَهَرت أَمَارَات الصدْق قبلت وَقيل إِن تَكَرَّرت مِنْهُ الرِّدَّة لم تقبل تَوْبَته وَالصَّحِيح الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَبِه قطع الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهَا تقبل تَوْبَته بِكُل حَال هُوَ يُمْهل قيل نعم وَيكون ثَلَاثًا لِأَنَّهُ قدم رجل على عمر رَضِي الله عَنهُ من الشَّام فَقَالَ لَهُ هَل من معرفَة خبر قَالَ نعم رجل كفر بعد إِسْلَامه فقتلناه فَقَالَ عمر هلا حبستموه فِي بَيت ثَلَاثًا اللَّهُمَّ لم أحضر وَلم آمُرهُم وَلم أَرض إِذْ بَلغنِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأ إِلَيْك من دَمه وَالصَّحِيح أَن يُسْتَتَاب فِي الْحَال لحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَغَيره وَلِأَنَّهُ حد فَلم يُؤَخر كَسَائِر الْحُدُود فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته لقَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَغير ذَلِك من الْآيَات وَالْأَخْبَار وَإِلَّا قتل لقَوْله لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث الحَدِيث وَإِذا قتل فَلَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْهِ وَلَا يدْفن مَعَ الْمُسلمين لِأَنَّهُ كَافِر لَا حُرْمَة لَهُ وَالله أعلم قَالَ
(وتارك الصَّلَاة إِن تَركهَا غير مُعْتَقد لوُجُوبهَا فَحكمه حكم الْمُرْتَد وَإِن تَركهَا مُعْتَقدًا لوُجُوبهَا فيستتاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل حدا وَحكمه حكم الْمُسلمين)(1/496)
إِذا امْتنع شخص من فعل الصَّلَاة نظر إِن كَانَ لكَونه مُنْكرا لوُجُوبهَا وَهُوَ غير مَعْذُور لعدم إِسْلَامه ومخالطة الْمُسلمين كفر لِأَنَّهُ جحد أصلا مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا عذر لَهُ فِيهِ فتضمن جَحده تَكْذِيب الله تَعَالَى وَرَسُوله وَمن كذبهما فقد كفر وَيقتل لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ وَحكمه حكم الْمُرْتَد فِيمَا تقدم وَإِن تَركهَا وَهُوَ يعْتَقد وُجُوبهَا إِلَّا أَنه تَركهَا تكاسلاً حَتَّى خرج الْوَقْت فَهَل يكفر قيل نعم لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بَين العَبْد وَبَين الْكفْر ترك الصَّلَاة رَوَاهُ مُسلم وَأخذ بِهِ خلائق مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَالسَّيِّد الْجَلِيل عبد الله بن الْمُبَارك وَكَذَا إِسْحَق بن رَاهَوَيْه وَهُوَ رِوَايَة عَن الإِمَام أَحْمد وَالصَّحِيح وَبِه قَالَ الْجُمْهُور أَنه لَا يكفر لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث كفر بعد إِيمَان وزنا بعد إِحْصَان وَقتل نفس بِغَيْر حق وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَن عِيسَى عبد الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ وَأَن الْجنَّة حق وَأَن النَّار حق أدخلهُ الله الْجنَّة على مَا كَانَ من عمل وَلِأَن الْكفْر بالاعتقاد واعتقاده صَحِيح والْحَدِيث الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ من قَالَ بالتكفير مَحْمُول على جَاحد الْوُجُوب فعلى الصَّحِيح بيستتاب لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَسْوَأ حَالا من الْمُرْتَد فَإِن تَابَ وتوبته أَن يُصَلِّي وَإِلَّا قتل بِضَرْب عُنُقه على الْمَذْهَب لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة وَقيل يضْرب بالخشب إِلَى أَن يَمُوت وَقيل ينخس بحديدة إِلَى أَن يُصَلِّي أَو يَمُوت فَإِذا مَاتَ غسل وَصلي عَلَيْهِ وَدفن فِي مَقَابِر الْمُسلمين لِأَنَّهُ مُسلم وَقيل لَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْهِ وَلَا يرفع نعشه ويطمس قَبره اهانة لَهُ باهماله هَذَا الْفَرْض الَّذِي هُوَ شعار ظَاهر فِي الدّين وَالله أعلم
(فرع) تَارِك الْوضُوء وَالْغسْل يقتل على الصَّحِيح وَلَو ترك الْجُمُعَة وَقَالَ أَنا أُصَلِّي الظّهْر وَلَا عذر لَهُ قَالَ الْغَزالِيّ لَا يقتل لِأَن لَهَا بَدَلا وَتسقط بالأعذار وَجزم الشَّاشِي بِأَنَّهُ يقتل وَرجحه النَّوَوِيّ وَاخْتَارَهُ ابْن الصّلاح وَالله أعلم(1/497)
كتاب الْجِهَاد
الْجِهَاد فرض على الْكِفَايَة لقَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَة وَغير ذَلِك وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ فرض عين لتعطلت المعايش والمزروعات وَخَربَتْ الْبِلَاد نعم قد يعرض مَا يُوجب ذَلِك على كل أحد كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِذا قَامَ بِالْجِهَادِ من فِيهِ كِفَايَة سقط الْفَرْض عَن البَاقِينَ لِأَن هَذَا شَأْن فروض الكفايات ثمَّ الْكِفَايَة تحصل بشيئين
أَحدهمَا شحن الثغور بِجَمَاعَة يكفون من بازائهم من الْعَدو فَإِن ضعفوا وَجب على كل من وَرَاءَهُمْ من الْمُسلمين أَن يمدوهم بِمن يتقوون بِهِ على قتال عدوهم
وَالثَّانِي أَن يدْخل الإِمَام دَار الْكفَّار غازياً بِنَفسِهِ أَو يبْعَث جَيْشًا وَيُؤمر عَلَيْهِم من يصلح لذَلِك فَلَو امْتنع الْكل من الْقيام بذلك حصل الاثم لَكِن هَل يعم الْجَمِيع أم يخْتَص بالذين يدنون إِلَيْهِ فِيهِ وَجْهَان الْمَذْكُور فِي الْحَاوِي للماوردي وَتَعْلِيق القَاضِي أبي الطّيب أَنه يَأْثَم الْكل وَصحح النَّوَوِيّ أَنه يَأْثَم كل من لَا عذر لَهُ
وَاعْلَم أَنه يسْتَحبّ الاكثار من الْجِهَاد للآيات وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي ذَلِك وَأَقل مَا يجب فِي السّنة مرّة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يتْركهُ مُنْذُ أَمر بِهِ فِي كل سنة والاقتداء بِهِ وَاجِب وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ {أَو لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} قَالَ مُجَاهِد نزلت فِي الْجِهَاد وَلِأَنَّهُ فرض يتَكَرَّر وَأَقل مَا يجب التكرر فِي كل سنة مرّة كَالصَّوْمِ وَالزَّكَاة فَإِن دعت الْحَاجة إِلَى أَكثر من مرّة فِي السّنة وَجب لِأَنَّهُ فرض كِفَايَة فَيقدر بِقدر الْحَاجة وَالله أعلم قَالَ(1/498)
(وشروط وجوب الْجِهَاد سَبْعَة الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَالصِّحَّة والطاقة على الْقِتَال)
قد علمت مِمَّا مر أَن الْجِهَاد فرض كِفَايَة وَأَنه لَا يجب إِلَّا على مُسلم بَالغ عَاقل حر ذكر مستطيع فَمن اجْتمعت فِيهِ هَذِه الصِّفَات فَهُوَ من أهل فرض الْجِهَاد بالِاتِّفَاقِ أما الْكَافِر فَلَا جِهَاد عَلَيْهِ لِأَن الشَّخْص لَا يُخَاطب بقتل نَفسه وَأما الصَّبِي فَلقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} الْآيَة قيل المُرَاد بالضعفاء الصّبيان لضعف أبدانهم وَقيل المجانين لضعف عُقُولهمْ وللخبر الْمَشْهُور رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة مِنْهُم الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رد زيد بن ثَابت وَرَافِع بن خديج والبراء بن عَازِب وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم يَوْم بدر واستصغرهم ورد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ عرضت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد وَأَنا ابْن أَربع عشرَة سنة فردني وَلم يجزني فِي الْقِتَال وَعرضت عَلَيْهِ يَوْم الجندق وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة فأجازني وَأما الْحُرِّيَّة فاحتراز عَن الرّقّ فَلَا جِهَاد على رَقِيق لقَوْله تَعَالَى {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} فَلم يتَوَجَّه لَهُ الْخطاب لِأَنَّهُ لَا مَال لَهُ فَدخل فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} وروى جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن عبدا قدم فَبَايع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَايعهُ على الْإِسْلَام وَالْجهَاد فَقدم صَاحبه فَأخْبر أَنه مَمْلُوكه فَاشْتَرَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ بعبدين فَكَانَ بعد ذَلِك إِذا أَتَاهُ من لَا يعرفهُ يبايعه سَأَلَهُ أحر هُوَ أم مَمْلُوك فَإِن قَالَ حر بَايعه على الْإِسْلَام وَالْجهَاد وَإِن قَالَ عبد بَايعه على الْإِسْلَام دون الْجِهَاد وَلِأَنَّهُ لَا يُسهم لَهُ وَلَو كَانَ من أهل فرض الْجِهَاد لأسهم لَهُ وَالْمُدبر وَالْمكَاتب والمبعض كالقن
وَأما الذُّكُورَة فاحتراز عَن الْأُنُوثَة فَلَا يجب الْجِهَاد على الْمَرْأَة لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}(1/499)
واطلاق الْمُؤمنِينَ لَا يدْخل فِيهِ النِّسَاء عِنْد الشَّافِعِي إِلَّا بِدَلِيل وسئلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن الْجِهَاد فَقَالَت جهادهن الْحَج وَأما الِاسْتِطَاعَة فاحتراز عَمَّن لَا يَسْتَطِيع كَالْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى والأعرج لأَنهم لَا يقدرُونَ على الْجِهَاد وَلِهَذَا أنزل الله تَعَالَى فيهم {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} الْآيَة وَسورَة الْفَتْح نزلت فِي الْجِهَاد بالِاتِّفَاقِ وَلَا يجب على مَقْطُوع الرجل وَالْيَد فَإِن قطع بَعْضهَا فَإِن كَانَ الْأَقَل وَجب أَو الْأَكْثَر فَلَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يجب على الْفَقِير الَّذِي لَا يجد مَا ينْفق على نَفسه وَعِيَاله أَو لَا يجد مَا يحمل عَلَيْهِ وَهُوَ على مَسَافَة الْقصر وَإِن قدر على الْمَشْي لقَوْله تَعَالَى {وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} وَلَو كَانَ الْعَدو دون مَسَافَة الْقصر لم يشْتَرط وجود الرَّاحِلَة إِن قدر على الْمَشْي وَيشْتَرط فِي هَذِه الْحَالة وجدان النَّفَقَة إِلَّا أَن يكون الْعَدو بِبَاب بَلَده وَالله أعلم ثمَّ هَذَا كُله إِذا لم يطَأ الْكفَّار بلد الْمُسلمين فَإِن وطئوها وغشوا الْمُسلمين وَعلم كل وَاقِف عَلَيْهِ من الْكفَّار أَنه إِن أَخذه قَتله فَعَلَيهِ أَن يَتَحَرَّك وَيدْفَع عَن نَفسه بِمَا أمكن يَسْتَوِي فِي ذَلِك الْحر وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَالْأَعْمَى والأعرج وَالْمَرِيض وَلِأَنَّهُ قتال دفاع عَن الدّين لَا قتال غَزْو فَلَزِمَ كل مطيق وَالله أعلم قَالَ
(وَمن سبي من الْكفَّار يكون على ضَرْبَيْنِ ضرب يكون رَقِيقا بِنَفس السَّبي وهم النِّسَاء وَالصبيان وَضرب لَا يرق بِنَفس السَّبي وهم الرِّجَال البالغون والامام مُخَيّر فيهم بَين أَرْبَعَة أَشْيَاء الْقَتْل والاسترقاق والمن والفدية بِالْمَالِ أَو بِالرِّجَالِ يفعل من ذَلِك مَا فِيهِ الْمصلحَة)
يحرم قتل نسَاء الْكفَّار وصبيانهم وَكَذَا المجانين إِلَّا أَن يقاتلوا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن قَتلهمْ وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مر فِي بعض غَزَوَاته فَوجدَ امْرَأَة مقتولة فَأنْكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قتل النِّسَاء وَالصبيان فَإِذا سبي صبي رق بالأسر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يقسم السَّبي كَمَا يقسم المَال وَحكم الْمَجْنُون كَالصَّبِيِّ صرح بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَإِن كَانَ المسبي امْرَأَة رقت بالأسر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يقسم السَّبي كَمَا يقسم المَال قَالَ الْمَاوَرْدِيّ هَذَا فِي الْكِتَابِيَّة فَإِن كَانَت مِمَّا لَا كتاب لَهَا كالدهرية وَعَبدَة الْأَوْثَان فَإِن امْتنعت من(1/500)
الْإِسْلَام قتلت عِنْد الشَّافِعِي قَالَ ابْن الرّفْعَة يظْهر أَن يَجِيء فِيهَا مَا سَنذكرُهُ فِي الْأَسير وَإِن أسر حر مُكَلّف من أهل الْقِتَال فللإمام أَو أَمِير الْجَيْش كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره أَن يخْتَار مَا فِيهِ الْمصلحَة من الْقَتْل أَو الاسترقاق عَرَبيا كَانَ أَو أعجمياً مِمَّن لَهُ كتاب أَو مِمَّن لَا كتاب لَهُ والمن والمفاداة بِمَال المأسور أَو غَيره أَو بِمن أسر من الْمُسلمين
وَدَلِيل جَوَاز الْقَتْل إِذا رَآهُ مصلحَة كَكَوْنِهِ شجاعاً أَو ذَا رَأْي قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَقتل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَارِث صبرا يَوْم بدر
وَدَلِيل الاسترقاق إِذا رَآهُ مصلحَة لكَونه كثير الْعَمَل وَلَا رَأْي لَهُ وَلَا شجاعة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْترق بني قُرَيْظَة وَبني المصطلق وهوازن وَادّعى القَاضِي أَبُو الطّيب الاجماع على ذَلِك وَدَلِيل جَوَاز الْمَنّ بِكَوْنِهِ مائلاً إِلَى الْإِسْلَام أَو ذَا مَال أَو شرف قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وَمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر على أبي الْعَاصِ بن الرّبيع وَمن عَليّ أبي عز الجُمَحِي على أَن لَا يقاتله فَقلت فقاتله فِي أحد فَأسر فَقتله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ وَأسر الْمُسلمُونَ ثُمَامَة بن آثال الْحَنَفِيّ وربطوه بساربة فِي الْمَسْجِد فَأَطْلقهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفادى أهل بدر بالأموال وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن يُخَيّر فِي خصْلَة خَامِسَة وَهُوَ تخليده فِي السجْن إِلَى أَن يرى فِيهِ رَأْيه وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ المأسور عبدا فَلَا يجْرِي فِيهِ التَّخْيِير بل يتَعَيَّن استرقاقه فَلَو رأى أَن يمن عَلَيْهِ لم يجز إِلَّا بِرِضا الْغَانِمين وَفِي الْحَاوِي للماوردي أَن يفادى بِهِ أسرى من الْمُسلمين ويعوض عَنهُ(1/501)
الْغَانِمين جَازَ وَفِي الْمُهَذّب أَنه لَو رأى قَتله قَتله وَضَمنَهُ للغانمين لِأَنَّهُ مَال وَيجوز استرقاق بعض الشَّخْص على الصَّحِيح وَالله أعلم قَالَ
(وَمن أسلم قبل الْأسر أحرز مَاله وَدَمه وصغار أَوْلَاده)
من أسلم من الْكفَّار قبل أسره وَالظفر بِهِ عصم دَمه وَمَاله كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا قالوها فقد عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ سَوَاء أسلم وَهُوَ مَحْصُور وَقد قرب الْفَتْح أَو أسلم حَال أَمنه وَسَوَاء أسلم فِي دَار الْحَرْب أَو الْإِسْلَام لإِطْلَاق الْخَبَر ويعصم أَيْضا أَوْلَاده الصغار عَن السَّبي وَيحكم بِإِسْلَامِهِمْ تبعا لَهُ وَالْحمل كالمنفصل فَلَا يسترق وَيتبع أمه وَهل يعْصم إِسْلَام الْجد ولد ابْنه الصَّغِير فِيهِ أوجه الصَّحِيح نعم وَالْمَجْنُون من الْأَوْلَاد كالصغار وَإِن كَانَ بَالغ عَاقِلا ثمَّ جن عصم أَيْضا على الصَّحِيح وَكَذَا لَو أسلمت الْمَرْأَة قبل الظفر بهَا عصمت نَفسهَا وَمَالهَا وَأَوْلَادهَا الصغار وَفِي أَوْلَادهَا الْكِبَار قَول وَهُوَ شَاذ مَرْدُود وَقَول الشَّيْخ وصغار أَوْلَاده احْتَرز بِهِ عَن الْأَوْلَاد الْبَالِغين الْعُقَلَاء فَلَا يعصمهم إِسْلَام الْأَب لاستقلالهم بِالْإِسْلَامِ وَقَضِيَّة كَلَام الشَّيْخ أَن إِسْلَامه لَا يعْصم زَوجته عَن الاسترقاق وَهُوَ كَذَلِك على الْمَذْهَب وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَالله أعلم قَالَ
(وَيحكم للصَّبِيّ بِالْإِسْلَامِ عِنْد وجود ثَلَاثَة أَسبَاب أَن يسلم أحد أَبَوَيْهِ أَو يسبى مُنْفَردا عَن أَبَوَيْهِ أَو يُوجد لقيطاً فِي دَار الْإِسْلَام)
الْإِسْلَام صفة كَمَال وَشرف يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس وَيزِيد وَلَا ينقص كَمَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا كَانَ كَذَلِك ناسب أَن يحكم بِإِسْلَام الصَّبِي تبعا للسابي قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَهَذَا بِالْإِجْمَاع وعلته أَن الصَّبِي لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ إِذْ لَا حكم لكَلَامه فَيتبع السابي لِأَنَّهُ كَالْأَبِ فِي الْحَضَانَة وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ السَّبي قلبه عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قلباً كلياً فَإِنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بحريَّته وباستقلاله إِذا بلغ والآن قد اسْترق بِالسَّبْيِ حَتَّى كَأَنَّهُ عدم وافتتح لَهُ وجود وَقيل يبْقى مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ لِأَن يَده يَد مَالك فَأَشْبَهت يَد المُشْتَرِي وَالصَّحِيح الأول وعَلى هَذَا هَل يحكم بِإِسْلَامِهِ ظَاهرا فَقَط أم ظَاهرا وَبَاطنا وَجْهَان فَإِذا بلغ وَوصف بالْكفْر أقرّ على الأول دون الثَّانِي وَلَو كَانَ السابي ذِمِّيا لم يحكم بِإِسْلَام الصَّبِي المسبي على الصَّحِيح وَلَو كَانَ السابي مَجْنُونا أَو مراهقاً حكم بِإِسْلَام المسبي تبعا أَيْضا حَكَاهُ الْبَغَوِيّ هَذَا حكم السابي وَأما إِذا كَانَ أحد أَبَوَيْهِ مُسلما وَقت الْعلُوق فَهُوَ مُسلم لِأَنَّهُ بعض الأَصْل فَلَو علق بَين كَافِرين ثمَّ أسلم أَحدهمَا حكم بِإِسْلَامِهِ لِأَن الْإِسْلَام يزِيد وَلَا ينقص ويعلو وَلَا يعلى عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ إِذا تبع السابي فِي الْإِسْلَام فتبعيته لأحد أَبَوَيْهِ أولى للبعضية(1/502)
وَمن الْأَسْبَاب الَّذِي يحكم بهَا بِإِسْلَام الصَّغِير أَن يُوجد لقيطاً بدار الْإِسْلَام تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ وَالدَّار لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو ينصرَانِهِ أَو يُمَجِّسَانِهِ وَفِي لفظ أَو يشركانه فَقَالَ رجل أَرَأَيْت يَا رَسُول الله لَو مَاتَ قبل ذَلِك فَقَالَ الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين
وَاعْلَم أَن الحكم بِإِسْلَام اللَّقِيط لَا يخْتَص بدار الْإِسْلَام بل لَو كَانَت دَار كفر وفيهَا مُسلمُونَ بل مُسلم أَسِير أَو تَاجِرًا أَو وجد لَقِيط هُنَاكَ فَإنَّا نحكم بِإِسْلَامِهِ على الْأَصَح لِأَن الْإِسْلَام يزِيد وَلَا ينقص وَاعْلَم أَن من حكمنَا بِإِسْلَامِهِ بِالدَّار لَو جَاءَ ذمِّي وَأقَام بَيِّنَة مَقْبُولَة بنسبه لحقه وَتَبعهُ فِي الْكفْر لِأَن الْبَيِّنَة أقوى من الدَّار وَلَو اقْتصر على الدَّعْوَى فَالْمَذْهَب أَنه لَا يتبعهُ فِي الْكفْر وَالله أعلم وَقد يُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَن الصَّبِي لَا يَصح إِسْلَامه اسْتِقْلَالا وَهُوَ كَذَلِك على الصَّحِيح وَإِن كَانَ مُمَيّزا لِأَنَّهُ لَا عبارَة لَهُ وَلِهَذَا لَا يَصح كفره وَلَا يَقع طَلَاقه وَلَا ينفذ عتقه وَبيعه وَجَمِيع معاملاته وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْغَنِيمَة فصل وَمن قتل قَتِيلا أعطي سلبه وتقسم الْغَنِيمَة بعد ذَلِك فَيعْطى أَرْبَعَة أخماسها لمن شهد الْوَقْعَة للفارس ثَلَاثَة أسْهم وللراجل سهم
من غرر بِنَفسِهِ وَهُوَ من أهل السهْمَان فِي قتل كَافِر ممنع فِي حَال الْقِتَال اسْتحق سلبه سَوَاء شَرط لَهُ الإِمَام ذَلِك أم لَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتل قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة فَلهُ سلبه وَورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ من قتل كَافِرًا فَلهُ سلبه فَقتل أَبُو طَلْحَة يَوْمئِذٍ عشْرين رجلا وَأخذ أسلابهم وَلَا فرق بَين أَن يقْتله مبارزة أَو انغمر فِي الصَّفّ فَقتله أَو جَاءَهُ من وَرَائه وَهُوَ يُقَاتل فَقتله لِأَن أَبَا قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ خرجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر فَرَأَيْت رجلا من الْمُشْركين قد علا رجلا من الْمُسلمين فاستدرت حَتَّى أَتَيْته من وَرَائه فضربته على حَبل عَاتِقه ضَرْبَة فَأقبل عَليّ فضمني ضمة(1/503)
وجدت مِنْهَا ريح الْمَوْت ثمَّ أدْركهُ الْمَوْت فأرسلني إِلَى أَن قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتل قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة فَلهُ سلبه فَقُمْت فقصصت الْقِصَّة فَقَالَ رجل صدق يَا رَسُول الله قَالَ فأعطه فاعطانيه فابتعت بِهِ مخرفاً فِي بني سَلمَة فَإِنَّهُ أول مَال تأثلته فِي الْإِسْلَام المخرف بِفَتْح الْمِيم الْبُسْتَان وبكسرها مَا يجنى فِيهِ الثِّمَار وَفِي معنى الْقَتْل مَا إِذا أَزَال كِفَايَة شَره بِأَن أثخنه أَو أَزَال امْتِنَاعه بعمي أَو قطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ أَو يَدَيْهِ وَرجله فِي الْأَظْهر لَا قطع يَد أَو رجل وَلَو أسره اسْتحق سلبه فِي الْأَظْهر لِأَنَّهُ كفى شَره وَلَو لم يكن من أهل السهْمَان إِلَّا أَنه من أهل الرصخ كَالْعَبْدِ وَالصَّبِيّ وَالْمَرْأَة وَكَذَا الْكَافِر وَحضر بِإِذن الإِمَام فَإِنَّهُ يسْتَحق السَّلب على الْأَصَح إِلَّا الْكَافِر على الْمَذْهَب وَلَو اشْترك جمَاعَة فِي قتل وَاحِد اشْتَركُوا فِي سلبه وَالسَّلب هُوَ مَا على الْقَتِيل من ثِيَاب وخف وآلات حَرْب كدرع ومغفر وَسلَاح ومركوب يُقَاتل عَلَيْهِ أَو ماسكاً عنانه وَيُقَاتل رَاجِلا وَمَا على المركوب من سرج ولجام ومقود وَغَيرهَا وَكَذَا طوق وسوار ومنطقة وهميان وَنَفَقَة فِيهِ وجنيبة يُقَاد مَعَه فِي الْأَظْهر لَا حقيبة مشدودة على الْفرس وَمَا فِيهَا من دَرَاهِم وأمتعة على الْمَذْهَب وَلَا ثِيَاب وأمتعة خَلفه فِي الْخَيْمَة فَإِذا أَخذ السَّلب فَلَا يُخَمّس على الْمَذْهَب ثمَّ بعده يخرج الإِمَام أَو نَائِبه الْمُؤَن اللَّازِمَة كَأُجْرَة حمال وحافظ وَغَيرهمَا ثمَّ يَجْعَل الْبَاقِي خَمْسَة أَقسَام مُتَسَاوِيَة وَيَأْخُذ خمس رقاع يكْتب على وَاحِدَة لله أَو للْمصَالح وعَلى أَربع للغانمين ويدرجها فِي بَنَادِق من طين وَيخرج لكل قسم رقْعَة بعد الْخَلْط فَمن خرج عَلَيْهِ أسْهم الله تَعَالَى جعله بَين أهل الْخمس على خَمْسَة وَمِنْه يكون النَّفْل فِي الْأَصَح وَيقسم الْبَاقِي على الْغَانِمين لقَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الْآيَة فَإِذا خرج سهم الْخمس صَار الْبَاقِي للغانمين وَهَذَا الْآيَة نَظِير قَوْله تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث} أَي وَلأبي الْبَاقِي فيعطي للراجل سهم وللفارس ثَلَاثَة أسْهم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فعل ذَلِك يَوْم خَيْبَر وَفِي رِوَايَة دَاوُد أسْهم لرجل ولفرسه ثَلَاثَة أسْهم سَهْمَيْنِ لفرسه وَسَهْما لَهُ وَفِي لفظ جعل للْفرس سَهْمَيْنِ ولصاحبه سَهْما وَفِي رِوَايَة ابْن عمر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم يَوْم خَيْبَر للْفرس سَهْمَيْنِ وللراجل سَهْما وَفَسرهُ نَافِع مولى ابْن عمر فَقَالَ إِذا كَانَ مَعَ الرجل فرس(1/504)
فَلهُ ثَلَاثَة أسْهم فَإِن لم يكن لَهُ فرس فَلهُ سهم
وَالْمرَاد بالفارس هُنَا من حضر الْوَقْعَة وَهُوَ من أهل فرض الْقِتَال بفرس يُقَاتل عَلَيْهِ مهيئاً لِلْقِتَالِ سَوَاء كَانَ عتيقاً أَو برذوناً أَو هجيناً أَو مقرفاً سَوَاء قَاتل عَلَيْهِ أم لَا لعدم الْحَاجة إِلَيْهِ وَكَذَا لَو قَاتل على حِصَار حصن أسْهم لفرسه لِأَنَّهُ أعده ليلحق بِهِ أهل الْحصن لَو هربوا وَكَذَا لَو قَاتل فِي الْبَحْر يُسهم لفرسه لِأَنَّهُ رُبمَا انْتقل إِلَى الْبر فقاتل عَلَيْهِ نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم وَحمله ابْن كج على مَا إِذا قربوا من السَّاحِل وَاحْتمل أَن يخرج ويركب أما إِذا لم يحْتَمل الْحَال الرّكُوب فَلَا معنى لاعطاء الْفرس وَنَحْوه وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يُسهم إِلَّا لمن استكملت فِيهِ خمس شَرَائِط الاسلام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة فَإِن اخْتَلَّ شَرط من ذَلِك رضخ لَهُ وَلم يُسهم)
لَا سهم لهَؤُلَاء لأَنهم لَيْسُوا من أهل فرض الْجِهَاد وَأما الرضخ فلفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما الْكفَّار إِذا حَضَرُوا بِإِذن الإِمَام فَإِنَّهُ يرْضخ لَهُم إِذا لم يستأجروا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْتَعَانَ بيهود بني فينقاع فرضخ لَهُم وَلم يُسهم فَإِن حضر بِغَيْر إِذن الإِمَام لم يرْضخ لَهُ على الْأَصَح لِأَنَّهُ مُتَّهم فِي مُوالَاة أهل دينه بل للْإِمَام تعزيره إِن رأى ذَلِك وَأما الصَّبِي فَإِنَّهُ يرْضخ لَهُ سَوَاء أذن لَهُ الإِمَام أم لَا لِأَنَّهُ حصل بِهِ نفع وتكثير سَواد وَلَفظ الشَّافِعِي دَال على أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أرضخ لَهُ وَلَا يُسهم لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل فرض الْجِهَاد وَفِي الْحَاوِي للماوردي إِلْحَاق الْمَجْنُون بِالصَّبِيِّ وَادّعى أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أرضخ لَهُ وَأما العَبْد فَلَا يُسهم لَهُ ويرضخ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل فرض الْجِهَاد وَفِيه نفع قوي وتكثير وَقد رضخ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لغمير مولى أبي اللخم يَوْم خَيْبَر وَلم يُسهم لَهُ وَأما الْعقل فقد مر حكم الْمَجْنُون وَأما الْمَرْأَة فَلَا يُسهم لَهَا فَإِنَّهَا لَيست من أهل فرض الْجِهَاد نعم يرْضخ لَهَا سَوَاء كَانَ لَهَا زوج أم لَا وَسَوَاء أذن الإِمَام أم لَا لِأَن كتاب ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَى نجدة قد كن يحضرن الْحَرْب مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَما أَن يضْرب لَهُنَّ بِسَهْم فَلَا وَقد كَانَ يرْضخ لَهُنَّ وَالله أعلم قَالَ(1/505)
(وَيقسم الْخمس على خَمْسَة أسْهم سهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيصرف بعده للْمصَالح وَسَهْم لِذَوي الْقُرْبَى وهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب وَسَهْم لِلْيَتَامَى وَسَهْم للْمَسَاكِين وَسَهْم لأبناء السَّبِيل)
قد مر أَن الْغَنِيمَة تخمس وَأَن الْخمس الْوَاحِد يكْتب عَلَيْهِ لله عز وَجل أَو للْمصَالح فَهَذَا الْخمس يُخَمّس أَيْضا لقَوْله {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة فأضيف لله وَلِلرَّسُولِ ولبقية الْأَصْنَاف وَصدر بِذكر الله تَعَالَى تبركاً وَقيل ليعلم أَنه لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اختصاصاً يسْقط بِمَوْتِهِ وَقد رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يقسم الْخمس أَيْضا أَخْمَاسًا سهم لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْفق مِنْهُ على نَفسه الْكَرِيمَة وعَلى عِيَاله ومصالحه وَمَا فضل جعله فِي السِّلَاح عدَّة فِي سَبِيل الله تَعَالَى وَسَائِر الْمصَالح وَيصرف بعده للمصالخ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْخمس مَرْدُود فِيكُم وَلَا يُمكن رده إِلَى جَمِيع الْمُسلمين إِلَّا بجعله فِي الْمصَالح وأهمها سد الثغور بِالرِّجَالِ وَالْعدَد وإصلاحها لِأَن فِيهَا حفظ الْمُسلمين والثغور مَوَاضِع الْخَوْف ثمَّ الأهم فالأهم من أرزاق الْقُضَاة والمؤذنين وَغَيرهم من الْمصَالح قَاتل الله الْفُقَهَاء المؤازرين لِلْأُمَرَاءِ الجورة الَّذين لم يزَالُوا يَمْشُونَ إِلَيْهِم ويقرونهم على مُخَالفَة الشَّرِيعَة حَتَّى أماتوا الْعَمَل بِكَلَام الله وَكَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل ذَلِك وَغَيره وَالله أعلم
السهْم الثَّانِي من الْخمس لِذَوي الْقُرْبَى وهم أقرباء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب دون غَيرهم لما روى جُبَير بن مطعم رَضِي الله عَنهُ قَالَ مشيت أَنا وَعُثْمَان بن عَفَّان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا أَعْطَيْت بني هَاشم وَبني الْمطلب من خمس خَيْبَر وَتَرَكتنَا وَنحن وهم بِمَنْزِلَة وَاحِدَة مِنْك فَقَالَ إِنَّمَا بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب شَيْء وَاحِد فَقَالَ جُبَير وَلم يقسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبني عبد شمس وَبني نَوْفَل شَيْئا وَجبير من بني نَوْفَل وَعُثْمَان من بني عبد شمس وَرَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بني هَاشم وهَاشِم وَالْمطلب وَنَوْفَل وَعبد شمس هم أَوْلَاد عبد منَاف وَالله أعلم
السهْم الثَّالِث لِلْيَتَامَى الْفُقَرَاء لِأَن ذَلِك شرع إرفاقاً فَكَانَ لمن يتَوَجَّه إِلَيْهِم المعونة وَالرَّحْمَة وهم الْفُقَرَاء دون الْأَغْنِيَاء وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل يشْتَرك فِيهِ الْأَغْنِيَاء والفقراء كذوي الْقُرْبَى(1/506)
ولإطلاق الْآيَة وَلِأَنَّهُ لَو اعْتبر فيهم الْفقر لدخلوا فِي جملَة الْمَسَاكِين وَهَذَا ضَعِيف جدا لِأَن غَنِي الْيَتِيم بِالْمَالِ فَوق غناهُ بِالْأَبِ وَمَعَ الْأَب لَا يعْطى فَكَذَا مَعَ المَال فعلى الصَّحِيح لَا تجب التَّسْوِيَة بل يجوز تَفْضِيل بَعضهم على بعض بِالِاجْتِهَادِ وَلَا التَّعْمِيم بِخِلَاف بني هَاشم وَبني الْمطلب فَإِنَّهُ يجب تعميمهم وَيُعْطى الذّكر مثل حَظّ الانثيين لِأَن سهمهم مُسْتَحقّ بِالشَّرْعِ بِقرَابَة الْأَب فَأشبه الأرث واليتيم اسْم لصغير لَا أَب لَهُ عِنْد الْجُمْهُور وَقيل لَا أَب لَهُ وَلَا جد وَالله أعلم
السهْم الرَّابِع للْمَسَاكِين لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة ويندرج فِيهِ الْفُقَرَاء وَالأَصَح أَنه عَام لجَمِيع الْمَسَاكِين وَقيل يخْتَص بِهِ مَسَاكِين الْمُجَاهدين الَّذين عجزوا عَنهُ لمسكنة أَو زمانة فعلى الصَّحِيح يجوز أَن يخْتَص بِهِ الْبَعْض وَيجوز التَّفْصِيل وَيجوز لَهُم الْجمع بَينه وَبَين الزَّكَاة وَالْكَفَّارَة قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَجزم الرَّافِعِيّ بِمَنْع الِاقْتِصَار على ثَلَاثَة مِنْهُم وَكَذَا فِي بني السَّبِيل وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ الْيَتِيم مِسْكينا أعْطى بِسَهْم الْيَتِيم لِأَنَّهُ صفة لَازِمَة والمسكنة زائلة قَالَه الْمَاوَرْدِيّ قلت وَفِيه نظر لِأَن الْيُتْم صفة مُحَققَة الزَّوَال عِنْد الْحَيَاة لَا محَالة بِالْبُلُوغِ والمسكنة قد تستمر إِلَى الْمَمَات إِلَّا أَن يَزُول اللُّزُوم فِي الْحَال وَالله أعلم
السهْم الْخَامِس لِابْنِ السَّبِيل لِلْآيَةِ وَيصرف إِلَيْهِم على قدر حَاجتهم كَالزَّكَاةِ فَلَا بُد فِيهِ من الْحَاجة عِنْد الدّفع ويعم جَمِيع أَبنَاء السَّبِيل على الرَّاجِح وَقيل يخْتَص بأبناء السَّبِيل من الْمُجَاهدين قَالَ
بَاب الْفَيْء فصل وَيقسم مَال الْفَيْء على خمس فرق خمسه على من يفرق عَلَيْهِم خمس الْغَنِيمَة وَيُعْطى أَرْبَعَة أخماسه للمقاتلة وَفِي مصَالح الْمُسلمين
لما ذكر الشَّيْخ حكم الْغَنِيمَة عقبه بِحكم الْفَيْء وَلَا بُد من معرفَة كل مِنْهُمَا أما الْغَنِيمَة فَهِيَ مُشْتَقَّة من الْغنم وَهُوَ الْفَائِدَة الْحَاصِلَة بِلَا بذل وَأما الْفَيْء فَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم فَاء إِذا رَجَعَ أَي صَار للْمُسلمين هَذَا من حَيْثُ اللُّغَة
وَأما من جِهَة الشَّرْع فالغنيمة مَا أَخذ من الْكفَّار بِالْقِتَالِ وإيجاف الْخَيل والركاب والإيجاف الإعمال وَقيل الْإِسْرَاع
وَأما الْفَيْء فَهُوَ كل مَا أَخذ من الْكفَّار من غير قتال كَالْمَالِ الَّذِي تَرَكُوهُ فَزعًا من الْمُسلمين والجزية وَالْخَرَاج وَالْأَمْوَال الَّتِي يَمُوت عَنْهَا من لَا وَارِث لَهُ من أهل الذِّمَّة وَنَحْو ذَلِك كَمَال الْمُرْتَد إِذا قتل أَو مَاتَ وَعشر تِجَارَتهمْ وَفِي مَال الْفَيْء خلاف الْمَذْهَب أَنه يُخَمّس وَيصرف خمسه إِلَى(1/507)
الْأَصْنَاف الَّذين تقدم ذكرهم فِي الْغَنِيمَة وَأما الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس الْبَاقِيَة فَكَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته مَعَ خمس الْخمس لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يَسْتَحِقهَا لإرهابه الْعَدو وَأما بعده فَالْأَظْهر أَنَّهَا للمرتزقة وهم الأجناد الَّذين عينهم الإِمَام للْجِهَاد وَأثبت أَسْمَاءَهُم فِي الدِّيوَان بعد أَن تَجْتَمِع فيهم شُرُوط وَهِي الْإِسْلَام والتكليف وَالْحريَّة وَالصِّحَّة لِأَن بهم يحصل إرهاب الْعَدو وَدفع شرهم فعلى هَذَا لَو زَادَت الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس على قدر حَاجتهم صرف الْفَاضِل إِلَيْهِم أَيْضا على قدر مؤناتهم فَمن احْتَاجَ أَلفَيْنِ يعْطى من الْفَاضِل إِلَيْهِ ضعف مَا يحْتَاج ألفا وَهَذَا هُوَ الْأَصَح وَقيل يرد عَلَيْهِم بِالسَّوِيَّةِ وَهل يجوز أَن يصرف من الْفَاضِل شَيْء إِلَى إصْلَاح الْحُصُون وَإِلَى السِّلَاح والكراع وَجْهَان أصَحهمَا نعم وَالله أعلم وَقيل إِن الْأَرْبَعَة أَخْمَاس تكون للْمصَالح لِأَنَّهَا كَانَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته فتصرف بعده إِلَى الْمصَالح كخمس الْخمس وعَلى هَذَا فيعطون مِنْهَا الأجناد لِأَن إعانتهم من أهل الْمصَالح وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْجِزْيَة فصل وشرائط وجوب الجزير خمس خِصَال الْبلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَأَن يكون من أهل الْكتاب أَو مِمَّن لَهُ شبه كتاب
الجزيرة هِيَ المَال الْمَأْخُوذ بِالتَّرَاضِي لإسكاننا إيَّاهُم فِي دِيَارنَا أَو لحق دِمَائِهِمْ وذراريهم وَأَمْوَالهمْ أَو لكفنا عَن قِتَالهمْ وَاخْتَارَ القَاضِي حُسَيْن الْأَخير وَضعف الأول بِالْمَرْأَةِ فَإنَّا تسكن دَارنَا وَلَا جِزْيَة عَلَيْهَا وَضعف الثَّانِي بِأَنَّهَا تكَرر أَي الْجِزْيَة بِتَكَرُّر السنين وبذل الْحق لَا يتَكَرَّر وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْوَجْه أَن يجمع مقاصدهم وَيَقُول هِيَ أَي مقاصدهم تقَابل الْجِزْيَة
ثمَّ الأَصْل فِي الْجِزْيَة قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَي يلتزموها وَهَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} أَي التزموا ذَلِك بالنطق بِالشَّهَادَتَيْنِ المتضمنة لذَلِك وَقيل إِن آيَة الْجِزْيَة ناسخة لهَذِهِ الْآيَة وَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجِزْيَة من مجوس هجر وَمن أهل نَجْرَان وَمن أهل أَيْلَة وَالْمعْنَى فِي أَخذهَا المعونة لنا وإهانة لَهُم وَرُبمَا يحملهم ذَلِك على الْإِسْلَام وَاعْلَم أَن عقد الذِّمَّة(1/508)
لَا صَحَّ إِلَّا من الإِمَام أَو مِمَّن فوض إِلَيْهِ الإِمَام لِأَنَّهُ من الْمصَالح الْعِظَام فاختص بِمن لَهُ النّظر الْعَام إِذا عرفت هَذِه فَيشْتَرط فِي الْمَعْقُود لَهُ شُرُوط
أَحدهَا الْبلُوغ
وَالثَّانِي الْعقل فَلَا تعقد الْجِزْيَة لصبي وَلَا مَجْنُون لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ لما بَعثه إِلَى الْيمن أَن يَأْخُذ الْجِزْيَة من كل حالم أَي محتلم دِينَارا فَدلَّ مَفْهُومه على الْمَنْع فِي الصَّبِي وَمن طَرِيق الأولى الْمَجْنُون وَفِي الْمَجْنُون وَجه كَالْمَرِيضِ وَلِأَن الصَّبِي وَالْمَجْنُون محقونا الدَّم وَمَال من الْأَمْوَال بِدَلِيل ملكهمَا بِنَفس الْأسر كَمَا تقدم فَلم يجب عَلَيْهِمَا شَيْء بِالسُّكْنَى كَسَائِر الْأَمْوَال وَالله أعلم
الثَّالِث الْحُرِّيَّة فَلَا تُؤْخَذ الْجِزْيَة من عبد وَلَا على سَيّده شَيْء لقَوْله عمر رَضِي الله عَنهُ لَا جِزْيَة على مَمْلُوك وَعَزاهُ الْمَاوَرْدِيّ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَنَّهُ مَال وَالْمَال لَا جِزْيَة عَلَيْهِ وَالْمُدبر وَالْمكَاتب وَأم الْوَلَد وَولد أم الْوَلَد التَّابِع لَهَا كالقن وَكَذَا الْمبعض على الرَّاجِح وَقيل تجب بِقدر مَا فِيهِ من الْحُرِّيَّة وَالله أعلم
الرَّابِع الذُّكُورَة فَلَا تُؤْخَذ من امْرَأَة لقَوْله تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الْآيَة فَلَا تدخل الْمَرْأَة فِي ذَلِك وَلِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد أَن اضربوا الْجِزْيَة وَلَا تضربوها على النِّسَاء وَالصبيان وَلِأَن الْمَرْأَة محقونة الدَّم وَمَال من الْأَمْوَال وَلَا جِزْيَة على مَال وَلَا فرق فِي الْمَرْأَة بَين أَن تكون زَوْجَة لذِمِّيّ أَو استتبعها مَعَه فِي العقد أم لَا وَسَوَاء ولدت فِي دَارنَا أَو كَانَت فِي دَار الْحَرْب وَطلبت الذِّمَّة لتقيم بِدَارِنَا فَيجوز أَن يعْقد لَهَا بِشَرْط أَن تجْرِي عَلَيْهِمَا أحكامنا من غير جِزْيَة وَالله أعلم
الْخَامِس أَن يكون الْمَعْقُول لَهُ لَهُ كتاب أَو شبه كتاب أما من لَا كتاب لَهُ وَلَا شبه كتاب كعبدة الْأَوْثَان وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَمن فِي معناهم وَالْمُرْتَدّ فَلَا يعْقد لَهُ لِأَن الله تَعَالَى أَمر بقتل جَمِيع الْمُشْركين إِلَى أَن يسلمُوا بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَخص أهل الْكتاب بِالْآيَةِ الآخرى وَمن لَهُ شبه كتاب وَهُوَ الْمَجُوسِيّ بالْخبر فَبَقيَ الحكم فِيمَا عدا الْمَذْكُورين(1/509)
لعُمُوم الْآيَة وتعقد الْجِزْيَة لمن زعم أَنه مستمسك بصحف إِبْرَاهِيم وزبور دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمن أحد أَبَوَيْهِ كتابي وَالْآخر وَثني تعقد لَهُ الذِّمَّة أَيْضا على الْمَذْهَب وَكَذَا تعقد لأَوْلَاد من تهود أَو تنصر قبل النّسخ وشككنا فِي وقته لِأَن لهَؤُلَاء كتابا قَالَ الله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى} وَغير ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَأَقل الْجِزْيَة دِينَار فِي كل حول وَيُؤْخَذ من متوسط الْحَال دِينَارَانِ وَمن الْمُوسر أَرْبَعَة دَنَانِير اسْتِحْبَابا)
لَا يَصح عقد الذِّمَّة إِلَّا بِشَرْطَيْنِ
أَحدهمَا أَن يلتزموا أَحْكَام الْمُسلمين وَلَا يشْتَرط التَّصْرِيح بِكُل حكم قَالَه الْبَنْدَنِيجِيّ
الثَّانِي أَن يبذلوا الْجِزْيَة فَيجب التَّعَرُّض لهذين فِي نفس العقد وَيشْتَرط التَّعَرُّض أَيْضا لمقدار الْجِزْيَة وَلَا يجب التَّعَرُّض لغير ذَلِك على الصَّحِيح فَيَقُول الإِمَام أَو نَائِبه أقررتكم أَو أَذِنت لكم فِي الْإِقَامَة فِي دَار الْإِسْلَام على أَن تنقادوا لأحكام الْإِسْلَام وتبذلوا الْجِزْيَة فِي كل سنة كَذَا وَيَقُول الذِّمِّيّ قبلت أَو رضيت وَلَا يَصح عقد الذِّمَّة مؤقتاً على الرَّاجِح لِأَنَّهُ بدل عَن الْإِسْلَام وَالْإِسْلَام لَا يؤقت وَالْأولَى أَن تقسم الْجِزْيَة على الطَّبَقَات فَيجْعَل على الْفَقِير الكسوب دِينَار وعَلى الْمُتَوَسّط دِينَارَانِ وعَلى الْغَنِيّ أَرْبَعَة دَنَانِير اقْتِدَاء بعمر رَضِي الله عَنهُ لما بعث عُثْمَان بن حنيف إِلَى الْكُوفَة أمره أَن يَجْعَل على الْغَنِيّ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين درهما وعَلى المتوصل أَرْبَعَة وَعشْرين درهما وعَلى الْفَقِير اثْنَي عشر درهما وَالِاعْتِبَار فِي الْغَنِيّ وَالْفَقِير بِوَقْت الْأَخْذ لَا بِوَقْت العقد وَمن ادّعى مِنْهُم أَنه فَقير أَو متوسط قبل قَوْله إِلَّا أَن تقوم بَينه بِخِلَاف نعم أقل الْجِزْيَة دِينَار لكل سنة نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَهُوَ الْوُجُود فِي كتب الْأَصْحَاب وَحجَّة ذَلِك أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لما وَجه معَاذًا إِلَى الْيمن أَن يَأْخُذ من كل حالم دِينَارا أَو عدله من المغافر وَهِي ثِيَاب تكون بِالْيمن وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز أَن يشْتَرط عَلَيْهِم الضِّيَافَة فضلا عَن مِقْدَار الْجِزْيَة)
قَوْله وَيجوز فِيهِ تساهل فَإِن ذَلِك مُسْتَحبّ وَيسْتَحب للْإِمَام أَن يشْتَرط عَلَيْهِم بعد الدَّنَانِير ضِيَافَة من يمر بهم من الْمُسلمين وَمن الْمُجَاهدين وَغَيرهم إِذا رَضوا ذَلِك لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام(1/510)
ضرب على نَصَارَى أَيْلَة ثلثمِائة دِينَار فِي كل سنة وَكَانُوا ثلثمِائة نفر وَأَن يضيفوا من يمر بهم من الْمُسلمين ثَلَاثًا وَأَن لَا يغشوا مُسلما وَضرب عمر رَضِي الله عَنهُ الْجِزْيَة على أهل الشَّام وَشرط عَلَيْهِم ضِيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام وَلِأَن فِي مصلحَة للْمُسلمين لَا سِيمَا الْفُقَرَاء وَلَا تزاد على ثَلَاثَة أَيَّام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضِّيَافَة ثَلَاث وَمَا زَاد عَلَيْهَا صَدَقَة وَفِي رِوَايَة مكرمَة وتضرب الضِّيَافَة على الْغَنِيّ والمتوسط وَفِي ضربهَا على الْفَقِير أوجه أَصَحهَا فِي أصل الرَّوْضَة والمنهاج لَا تضرب وَهُوَ ظَاهر وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي لِأَنَّهَا تَتَكَرَّر فيعجز عَنْهَا وَالله أعلم
(فرع) لَو أَرَادَ الضَّيْف أَن يَأْخُذ مِنْهُم ثمن الطَّعَام لم يلْزمهُم وَلَو أَرَادَ أَن يَأْخُذ الطَّعَام وَيذْهب بِهِ وَلَا يَأْكُلهُ فَلهُ ذَلِك بِخِلَاف طَعَام الْوَلِيمَة وَالْفرق أَن هَذِه مَعْلُومَة وَتلك مكرمَة وَلِهَذَا يبين الطَّعَام والأدم وجنسهما فَيَقُول لكل وَاحِد كَذَا من الْخبز وَكَذَا من السّمن أَو الزَّيْت ويتعرض لعلف الدَّوَابّ وَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر قدره لَهُنَّ نعم إِن ذكر الشّعير يبين قدره بِخِلَاف التِّين والحشيش وَنَحْوهمَا وَإِطْلَاق الْعلف يقتني الشّعير نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَالله أعلم قَالَ
(ويتضمن عقد الذِّمَّة أَرْبَعَة اشياء أَن يؤدوا الْجِزْيَة وَأَن تجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام الْإِسْلَام ان لَا يذكرُوا دين الْإِسْلَام إِلَّا بِخَير وَأَن لَا يَفْعَلُوا مَا فِيهِ ضَرَر على الْمُسلمين)
الذِّمَّة الْعَهْد والإلزام فَإِذا صَحَّ عقد الذِّمَّة لزمنا شَيْء ولزمهم شَيْء أما مَا يلْزمنَا فأمران
أَحدهمَا الْكَفّ عَنْهُم بِأَن لَا نتعرض لَهُم نفسا وَلَا مَالا ويضمنهما الْمُتْلف لأَنهم إِنَّمَا بذلوا الْجِزْيَة لعصمة الدِّمَاء وَالْأَمْوَال وَلَا تتْلف خمورهم إِلَّا إِذا أظهروها وَمن أتلفهَا من غير إِظْهَار عصى وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إِذْ لَا قيمَة لَهَا وَالله أعلم
الْأَمر الثَّانِي أَنه يلْزم الإِمَام دفع من قصدهم من أهل الْحَرْب إِن كَانُوا فِي بِلَاد الْإِسْلَام فَإِن كَانُوا مستوطنين فِي دَار الْحَرْب وبذلوا الْجِزْيَة لم يجب الذب عَنْهُم وَإِن كَانُوا منفردين ببلدة فِي جوارنا وَجب الذب على الْأَصَح وَيجب دفع أهل الذِّمَّة وَالْمُسْلِمين عَنْهُم كَمَا يجب دفع أهل الْحَرْب وَالله أعلم وَأما مَا يلْزمهُم فأمور مِنْهَا أَدَاء الْجِزْيَة لِأَنَّهَا أُجْرَة قَالَ الرَّافِعِيّ وَتُؤْخَذ على وَجه الصغار والإهانة بِأَن يكون الذِّمِّيّ قَائِما وَالْمُسلم جَالِسا ويأمره أَن يخرج يَده من جيبه ويحني ظَهره ويطأطئ رَأسه وَيصب مَا مَعَه فِي كفة الْمِيزَان وَيَأْخُذ المستوفي بلحيته وَيضْرب فِي لهزمته وَهِي مجمع اللَّحْم بَين الماضغ وَالْأُذن وَهَذَا معنى الصغار عِنْد بَعضهم وَهل هَذِه الْهَيْئَة وَاجِبَة أم مُسْتَحبَّة وَجْهَان أصَحهمَا مُسْتَحبَّة قَالَ النَّوَوِيّ هَذِه الْهَيْئَة بَاطِلَة وَلَا نعلم لَهَا أصلا مُعْتَمدًا وَإِنَّمَا(1/511)
ذكرهَا بَعضهم قَالَ الْجُمْهُور تُؤْخَذ بِرِفْق كأخذ الدُّيُون فَالصَّوَاب الْجَزْم ببطلانها وردهَا على من اخترعها وَلم ينْقل أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا أحد من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فعل شَيْئا مِنْهَا قَالَ الرَّافِعِيّ وَالأَصَح عِنْد الْأَصْحَاب تَفْسِير الصغار بِالْتِزَام أَحْكَام الْإِسْلَام وجريانها عَلَيْهِم وَقَالُوا أَشد الصغار على الْمَرْء أَن يحكم عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدهُ ويضطر إِلَى احْتِمَاله وَالله أعلم
قلت ورد أَن هِشَام بن حَكِيم بن حزَام وجد رجلا وَهُوَ على حمص سمر نَاسا من القبط فِي أَدَاء الْجِزْيَة فَقَالَ مَا هَذَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله عز وَجل يعذب الَّذين يُعَذبُونَ النَّاس فِي الدُّنْيَا وَقد نَص الشَّافِعِي على ذَلِك أَي على الْأَخْذ بالرفق وَالله أعلم وَمِنْهَا الانقياد لحكم الاسلام من ضَمَان النَّفس وَالْمَال وَالْعرض بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسلمين لأَنهم يَعْتَقِدُونَ وجوب ذَلِك وَقد التزموا إِجْرَاء أَحْكَام الْإِسْلَام عَلَيْهِم فَإِن أَتَوا بِمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة أقيم عَلَيْهِم الْحَد لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أُتِي بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّة قد زَنَيَا فَأمر بهما فَرُجِمَا وَإِن أَتَوا بِمَا لَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه كشرب الْخمر وَنِكَاح الْمَجُوس والمحارم فَهَل يُقَام عَلَيْهِم الْحَد قيل نعم كَمَا يحد الْحَنَفِيّ بالنبيذ على الْأَصَح مَعَ اعْتِقَاده حلّه وَالْمذهب أَنهم لَا يحدون لأَنهم يقرونَ على الْكفْر بالجزية لأجل اعْتِقَادهم فَكَانَ إقرارهم على مَا يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَته أولى وَسَوَاء رَضوا بحكمنا عِنْد الترافع إِلَيْنَا أم لَا ويخالفون الْحَنَفِيَّة فَإِن الْمَعْنى الَّذِي لأجل حد شَارِب الْخمر مَوْجُود فِي النَّبِيذ قطعا فأطرح الْخلاف والحنفي مزجور بِالْحَدِّ بِخِلَاف الذِّمِّيّ فَإِنَّهُ يشرب الْخمر استحلالاً وتديناً وعَلى كل حَال فَلَيْسَ لَهُم إِظْهَار ذَلِك فَإِن أظهروه وعزروا وَالله أعلم
وَمِنْهَا كف اللِّسَان والامتناع من إِظْهَار الْمُنْكَرَات كإسماع الْمُسلمين شركهم وَقَوْلهمْ ثَالِث ثَلَاثَة تَعَالَى الله عَمَّا يصفونَ واعتقادهم فِي الْمَسِيح والعزير عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنَّهُمَا ابْنا الله تَعَالَى وَيمْنَعُونَ أَيْضا من إِظْهَار قراءتهم الْإِنْجِيل والتوراة والناقوس وَنَحْو ذَلِك فَإِن أظهرُوا شَيْئا من ذَلِك عزروا وَمنعُوا وَلَكِن لَا ينْتَقض الْعَهْد بذلك وَإِن شَرط عَلَيْهِم الِامْتِنَاع من ذَلِك بِخِلَاف مَا لَو قَاتلُوا وامتنعوا من الْجِزْيَة وَمن اجراء أَحْكَام الاسلام فَإِنَّهُ ينْتَقض عَهدهم وَلَو تزوج بِمسلمَة ذمِّي أَو زنى بهَا أَو دلّ أهل الْحَرْب على عَورَة الْمُسلمين أَو فتن مُسلما عَن دينه أَو طعن فِي الْإِسْلَام أَو الْقُرْآن أَو ذكر سيد الْأَوَّلين والآخرين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسوء فَالْأَصَحّ أَنه إِن شرطنا انْتِقَاض الْعَهْد بذلك انْتقض وَإِلَّا فَلَا وَلَو قطعُوا الطَّرِيق أَو أَتَوا بِالْقَتْلِ الَّذِي يُوجب الْقصاص فَالْمَذْهَب أَنه كَالزِّنَا بِمسلمَة وَقيل كالقتال وَمن الْأُمُور الَّتِي فِيهَا ضَرَر على الْمُسلمين إيواء عُيُون الْكفَّار وَهُوَ كَمَا إِذا تطلع على عَورَة(1/512)
الْمُسلمين ونقلها إِلَى دَار الْحَرْب وَالله أعلم
وَاعْلَم أَنا حَيْثُ حكمنَا بانتقاض الْعَهْد فَهَل نبلغهم المأمن فِيهِ خلاف وَالرَّاجِح لَا بل يتَخَيَّر الإِمَام فيهم بَين الْقَتْل واسترقاق والمن وَالْفِدَاء لأَنهم كفار لَا أَمَان لَهُم وَالله أعلم قَالَ
(ويؤخذون بِلبْس الغيار والزنار وَيمْنَعُونَ من ركُوب الْخَيل)
قَوْله يؤخذون بِلبْس الغيار هَذِه عبارَة الرَّوْضَة تبعا للرافعي وَلَفظ الْمِنْهَاج وَيُؤمر بالغيار أَي الذِّمِّيّ وَلم يبين أَن الْأَمر للْوُجُوب أَو للنَّدْب وَلَفظ التَّنْبِيه ويلزمهم أَن يتميزوا عَن الْمُسلمين فِي اللبَاس وَقَيده فِي الْمُهَذّب بدار الْإِسْلَام وَالْحَاصِل أَنهم يتميزون عَن الْمُسلمين ليعرفوا فيعاملوا بِمَا يَلِيق بهم وَالْأولَى أَن تلبس كل طَائِفَة مَا اعتادته قَالَ الْأَصْحَاب عَادَة الْيَهُود العسلي وَهُوَ الْأَصْفَر وَعَادَة النَّصَارَى إِلَّا كهب والأدكن وَهُوَ نوع من الفاختي قَالَ ابْن الصّباغ الدكنة السوَاد وَعَادَة الْمَجُوس الْأسود والأحمر وَيَكْفِي ذَلِك فِي بعض الثِّيَاب الظَّاهِرَة من الْعِمَامَة وَغَيرهَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن وَغَيره تَكْفِي خرقَة من الألوان تحط على أكتافهم دون الذيل وَتَبعهُ الْبَغَوِيّ قَالَ الرَّافِعِيّ الْأَشْبَه أَن لَا تخْتَص بالكتف وَاشْترط الْحَط على مَوضِع لَا يعْتَاد وكما يؤخذون بالغيار يؤخذون بشد الزنار وَهُوَ خيط غليظ على أوساطهم خَارج الثِّيَاب وَاحْتج لذَلِك بِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى أُمَرَاء الْأَمْصَار فِي أهل الْكتاب أَن يجروا نواصيهم وَأَن يربطوا الكستجات فِي أوساطهم ويروى المناطق والكستجات هِيَ الزنانير وَالْمرَاد بهَا المناطق أَيْضا وَلَا فرق فِي الْخَيط بَين الْأسود والأبيض وَغَيره من الألوان قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يَكْفِي شده بَاطِنا قَالَ القَاضِي حُسَيْن لأَنهم يتدينون بذلك قَالَ الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ فِي الرَّوْضَة تبعا للماوردي وَلَيْسَ لَهُم إِبْدَاله بالمنطقة والمنديل وَنَحْوهمَا وَإِنَّمَا جمع بَين الْعَلامَة والزنانير قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَابْن الصّباغ ليَكُون أثبت للعلامة فَإِن الْمُسلم قد يفعل أَحدهمَا وَإِذا دخلُوا الْحمام جعل فِي رقابهم طوق من رصاص أَو نُحَاس أَو جرس ليتميزوا عَن الْمُسلمين وَكَذَا الحكم حَيْثُ تجردوا من الثِّيَاب وكل هَذِه الْأُمُور حَتَّى يعاملوا بِمَا يَلِيق بهم حَتَّى لَا يتصدرون فِي الْمجَالِس إهانه لَهُم وَلَا يبدءون بِالسَّلَامِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن بداءتهم بِهِ وَقَالَ إِذا لقيتموهم فِي الطَّرِيق فاضطروهم وألجئوهم إِلَى أضيقها وَالله أعلم
وَيمْنَعُونَ من ركُوب الْخَيل لقَوْله تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله} أَمر أولياءه بإعدادها لأعدائه وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْخَيل مَعْقُود بنواصيها الْخَيْر إِلَى يَوْم(1/513)
الْقِيَامَة أَي الْغَنِيمَة وَقد رُوِيَ ظُهُورهَا عز وَقد ضربت عَلَيْهِم الذلة كَمَا قَالَ تَعَالَى {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} وَفِي وَجه لَا يمْنَعُونَ من البراذين وَلَا خلاف أَنهم يمْنَعُونَ من تَقْلِيد السيوف وَحمل السَّلَام وتختم الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يمْنَعُونَ من ركُوب الْحمير النفيسة وَكَذَا البغال إِذْ لَا شرف فِيهَا وَقيل يمْنَعُونَ من البغال النفيسة كالخيل قلت وَهُوَ قوي فِي زَمَاننَا لِأَن فِيهِ شرفاً بِدَلِيل تعاطيه قُضَاة البراطيل وَغَيرهم من أَصْحَاب الوجاهة من الْمُسلمين وَقد اخْتَار ذَلِك الإِمَام الْغَزالِيّ وَجزم بِهِ الفوراني وَهُوَ مُتَّجه وَالله أعلم قَالَ(1/514)
كتاب الصَّيْد والذبائح والضحايا والأطعمة
بَاب الزَّكَاة وَالصَّيْد فصل مَا قدر على ذَكَاته فذكاته فِي حلقه ولبته وَمَا لَا يقدر على ذَكَاته فذكاته حَيْثُ قدر عَلَيْهِ
الأَصْل فِي الصَّيْد قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَهُوَ أَمر إِبَاحَة لِأَنَّهُ أَمر بعد التَّحْرِيم إِذْ الْقَاعِدَة الْأُصُولِيَّة أَن الْأَمر بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة وَالْأَصْل فِي الذَّبَائِح قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وَلَا شكّ أَن المذكي من الطَّيِّبَات وأجمعت الْأمة عَلَيْهَا وَأما السّنة فكثيرة فِي ذَلِك وسنوردها فِي محلهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَذَا نذْكر أَمر الضَّحَايَا والأطعمة
إِذا عرفت هَذَا فالحيوان الَّذِي يحل بالذكاة تَارَة يقدر على ذَكَاته وَتارَة لَا يقدر فَإِن قدر على ذَكَاته فَلَا بُد مِنْهَا والذكاة الذّبْح وَمحله الْحُلْقُوم واللبة فَلَا بُد فِي حل الْحَيَوَان من قطع جَمِيع الْحُلْقُوم والمريء بِآلَة لَيست عظما وَلَا ظفرا وَسَيَأْتِي إِيضَاح هَذَا وَأما مَا لَا يقدر على ذبحه فِي الْمحل الْمَذْكُور فَهُوَ نَوْعَانِ
أَحدهمَا الصيود وَسَتَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
النَّوْع الثَّانِي غير الصيود بِأَن ند الْبَعِير أَو الجاموس أَو شَردت الشَّاة وَتعذر الْوُصُول إِلَيْهَا لإفضائها إِلَى مهلكة أَو مسبعَة أَو وَقعت بَهِيمَة فِي بِئْر وَنَحْوهَا وَتعذر إخْرَاجهَا حَيَّة وَلم يتَمَكَّن من ذَبحهَا فَحكمه حكم البعر المتوحش فَيحل عقر ذَلِك كُله سَوَاء أصَاب المذبح أم لَا وَصَارَت كلهَا منحرا وَقد ورد عَن أبي العشراء عَن أَبِيه أَنه قَالَ يَا رَسُول الله أما تكون الذَّكَاة إِلَّا فِي الْحلق واللبنة(1/515)
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو طعنت فِي فَخذهَا أَجْزَأَ عَنْك قَالَ أَبُو دَاوُد وَهَذَا لَا يَصح إِلَّا فِي المتردية والمتوحش وَورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أصَاب نهباً فند مِنْهَا بعير وَلم يكن مَعَهم خيل فَرَمَاهُ رجل بِسَهْم فحبسه أَي فَمَاتَ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لهَذِهِ الْبَهَائِم أوابد كأوابد الْوَحْش فَمَا فعل مِنْهَا هَكَذَا فافعلوا بِهِ مثل ذَلِك وروى وَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا والأوابد هِيَ الَّتِي تأبدت أَي توحشت وَهل يشْتَرط فِي الْجرْح الَّذِي يُفِيد الْحل فِي المتردية والناد أَن يكون مذففاً أم يَكْفِي جرح مدم يجوز وُقُوع الْقَتْل فِيهِ فِيهِ وَجْهَان وَالصَّحِيح الثَّانِي لِأَنَّهُ يحصل الْمَقْصُود بِخُرُوجِهِ عَن كَونه ميتَة وَلَو أرسل كَلْبا على الناد حل وَلَو أرْسلهُ على المتردي فَوَجْهَانِ صحّح النَّوَوِيّ التَّحْرِيم وَنقل ابْن الرّفْعَة عَن النَّوَوِيّ أَنه صحّح الْحل وَهُوَ سَهْو وَالله أعلم
(فرعان) أَحدهمَا تردى بعير فَوق بعير فغرز رمحاً فِي الأول فنفذ إِلَى الثَّانِي قَالَ القَاضِي حُسَيْن إِن كَانَ عَالما بِالثَّانِي حل وَكَذَا إِن كَانَ جَاهِلا على الْمَذْهَب كَمَا لَو رمى صيدا فنفذ مِنْهُ وَأصَاب الآخر
(فرع الثَّانِي) إِذا صال عَلَيْهِ صيد أَو بعير فَدفعهُ عَن نَفسه وجرحه فَقتله قَالَ القَاضِي حُسَيْن فَالظَّاهِر الْحل إِن أصَاب المذبح وَإِلَّا فَوَجْهَانِ وَالله أعلم قَالَ
(وَكَمَال الذَّكَاة أَرْبَعَة أَشْيَاء قطع الْحُلْقُوم والمريء والودجين والمجزئ مِنْهَا شَيْئَانِ قطع الْحُلْقُوم والمريء)
الذَّكَاة فِي اللُّغَة التَّطَيُّب من قَوْلهم رَائِحَة ذكية أَي طيبَة فَسُمي بهَا الذّبْح لتطيب أكله بِالْإِبَاحَةِ وَفِي الشَّرْع قطع مَخْصُوص قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَقَالَ النَّوَوِيّ معنى الذَّكَاة فِي اللُّغَة التتميم فَمَعْنَى ذَكَاة الشَّاة ذَبحهَا التَّام الْمُبِيح وَمِنْه فلَان ذكي أَي تَامّ الْفَهم
إِذا عرفت أَن الذَّكَاة فِي الشَّرْع قطع مَخْصُوص فَهَذَا الْمَقْطُوع تَارَة يكون مُعْتَبرا للفضيلة وَتارَة يكون مُعْتَبرا لأجل الْأَجْزَاء فَالْمُعْتَبر لأجل الْأَجْزَاء قطع جَمِيع الْحُلْقُوم والمريء فالحلقوم هُوَ مجْرى النَّفس خُرُوجًا ودخولاً والمريء مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب وَهُوَ تَحت الْحُلْقُوم وراءهما عرقان فِي صفحتي الْعُنُق يحيطان بالحلقوم وَقيل بالمرىء يُقَال لَهما الودجان فَيُسْتَحَب قطع الودجين مَعَ(1/516)
الْحُلْقُوم والمريء لِأَنَّهُ أُوحِي وَالْغَالِب أَنَّهُمَا ينقطعان بِقطع الْحُلْقُوم والمريء فَإِن تَركهمَا جَازَ وَلَو ترك شَيْئا يَسِيرا من الْحُلْقُوم أَو المريء وَمَات الْحَيَوَان فَهُوَ ميتَة وَكَذَا لَو انْتهى إِلَى حَرَكَة الْمَذْبُوح فَقطع الْمَتْرُوك فَهُوَ ميتَة وَفِي وَجه أَن الْيَسِير لَا يضر وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ وَالصَّحِيح الأول وَقَالَ الاصطخري يَكْفِي قطع الْحُلْقُوم أَو المريء لِأَن الْحَيَاة تفقد بفقد أَحدهمَا وَهُوَ ضَعِيف وَلَا بُد من قطع جَمِيعهَا كَمَا تقدم لِأَن مَا قَالَه تَعْذِيب للحيوان وَالْمَقْصُود تَعْجِيل التَّوْجِيه بِلَا تَعْذِيب وَالله أعلم
(تَنْبِيه) لَا بُد فِي الْمَذْبُوح أَن يكون فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة فَلَو انْتهى إِلَى حَرَكَة الْمَذْبُوح لم يحل وَإِن ذبح وَقطع مِنْهُ جَمِيع الْحُلْقُوم والمريء فَإِن قلت فَمَا الْحَيَاة المستقرة وَمَا حَرَكَة الْمَذْبُوح فَالْجَوَاب قَالَ النَّوَوِيّ ذكر الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَابْن الصّباغ والعمراني وَغَيرهم أَن الْحَيَاة المستقرة مَا يجوز أَن يبْقى مَعَه الْحَيَوَان الْيَوْم واليومين فَإِن ذكيت حلت وَقَالَ قبل ذَلِك إِذا جرح السَّبع شَاة أَو انْهَدم سقف على بَهِيمَة فذبحت إِن كَانَ فِيهَا حَيَاة مُسْتَقِرَّة حلت وَإِن تَيَقّن أَنَّهَا تهْلك بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ فَإِن لم تكن فِيهَا حَيَاة مُسْتَقِرَّة لم تحل على الْمَذْهَب الْمَنْصُوص الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَإِن شكّ هَل فِيهَا حَيَاة مُسْتَقِرَّة أم لَا فَالصَّحِيح التَّحْرِيم للشَّكّ فِي الذَّكَاة المبيحة وَمن العلامات الدَّالَّة على الْحَيَاة المستقرة الْحَرَكَة الشَّدِيدَة وانفجار الدَّم وتدفقه بعد الذّبْح المجزي وَصحح أَنه تَكْفِي الْحَرَكَة الشَّدِيدَة وَحدهَا
قلت قَالَ ابْن الصّباغ بِأَن الْحَيَاة المستقرة بِحَيْثُ لَو تركت لبقيت يَوْمًا أَو بعض يَوْم وَغير المستقرة أَن تَمُوت فِي الْحَال قَالَ ابْن الرّفْعَة وَقَالَ غَيره أَن لَا يَنْتَهِي إِلَى حَرَكَة المذبوحين وَقَالَ فِي المرشد يعرف بشيئين أَن يكون عِنْد وُصُول السكين إِلَى الْحُلْقُوم تطرف عينه ويتحرك ذَنبه وَأما حَرَكَة الْمَذْبُوح بِأَن يَنْتَهِي الْآدَمِيّ إِلَى حَالَة لَا يبْقى مَعهَا إبصار ونطق وحركة اختيارية لِأَن الشَّخْص قد يقد نِصْفَيْنِ وَيتَكَلَّم بِكَلَام مُنْتَظم إِلَّا أَنه غير صادر عَن روية وَاخْتِيَار وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) مَرضت شَاة وَصَارَت إِلَى أدنى الرمق وذبحت حلت قطعا لِأَنَّهُ لم يُوجد سَبَب يُحَال عَلَيْهِ الْهَلَاك وَلَو أكلت شَاة نباتاً مضراً فَصَارَت إِلَى أدنى الرمق فذبحت قَالَ القَاضِي حُسَيْن مرّة فِي حلهَا وَجْهَان وَجزم مرّة بِالتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ وجد سَبَب يُحَال عَلَيْهِ الْهَلَاك فَصَارَ كجرح السَّبع قَالَ
(وَيجوز الِاصْطِيَاد بِكُل جارحة معلمة من سِبَاع الْبَهَائِم وجوارح الطير وشرائط تعليمها أَربع أَن تكون إِذا أرْسلت استرسلت وَإِذا زجرت انزجرت وَإِذا قتلت لم تَأْكُل مِنْهُ ويتكرر ذَلِك مِنْهَا فَإِن عدمت إِحْدَى الشَّرَائِط لم يحل إِلَّا أَن يدْرك حَيا فيذكى)
يجوز الِاصْطِيَاد بجوارح السبَاع كَالْكَلْبِ والفهد والنمر وَغَيرهَا وبجوارح الطير كالصقر(1/517)
والشاهين والباز لقَوْله تَعَالَى {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الْآيَة قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الْجَوَارِح الْكلاب والطيور المعلمة مُشْتَقَّة من الْجرْح وَهُوَ الْكسْب لكسب أَهلهَا بهَا وَمِنْه {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أَي كسبتم وَقيل من الْجراحَة وَقَوله مُكَلِّبِينَ قيل من التكليب وَهُوَ الإغراء وَقيل من التضرية يُقَال تكلب إِذا ضرى ورد عَنهُ عدي بن حَاتِم قَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد صيد الباز فَقَالَ مَا أمسك عَلَيْك فَكل ورد عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أرْسلت كلبك فاذكر اسْم الله فَإِن أمسك عَلَيْك فَأَدْرَكته حَيا فاذبحه وَإِن أَدْرَكته قد قتل وَلم يَأْكُل مِنْهُ فَكل وَقيل لَا يحل صيد الْكَلْب الْأسود البهيم لأَمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتْله وَالْمذهب الأول وَالْخَبَر مَحْمُول على غير الْمعلم أَو الْعَقُور
وَاعْلَم أَن المُرَاد بِجَوَاز الِاصْطِيَاد بهَا أَن مَا أَخَذته وجرحته وأدركه صَاحبهَا مَيتا أَو فِي حَرَكَة مَذْبُوح أَنه يحل أكله وَيقوم إرْسَال الصَّائِد وجرح الْجَارِح فِي أَي مَوضِع كَانَ مقَام الذّبْح وَيشْتَرط فِي كَون الْكَلْب معلما أُمُور مِنْهَا أَن يكون بِحَيْثُ أَن يسترسل بإرساله وَمَعْنَاهُ أَنه إِذا أغراه بالصيد هاج وَمِنْهَا أَن يكون بِحَيْثُ إِذا زَجره انزجر وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَمِنْهَا أَنه إِذا أمْسكهُ لم يَأْكُل مِنْهُ على الْمَشْهُور ويحسبه على صَاحبه وَلَا يخليه
ثمَّ هَذِه الْأُمُور يشْتَرط تكررها فِي التَّعْلِيم ليغلب على الظَّن تأدب الْجَارِحَة وَالرُّجُوع فِي عدد ذَلِك إِلَى أهل الْخِبْرَة على الصَّحِيح وَقيل يشْتَرط تكَرر ذَلِك ثَلَاثًا وَقيل مرَّتَيْنِ وَلَو ظهر أَنه معلم ثمَّ أكل من صيد قبل قَتله أَو بعده فَفِي حل ذَلِك الصَّيْد قَولَانِ الْأَظْهر لَا يحل قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وددت لَو فصل مفصل بَين أَن يكف زمَان لم يَأْكُل وَبَين أَن يَأْكُل بِنَفس الْأكل لَكِن لم يتَعَرَّضُوا لَهُ كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن الإِمَام قَالَ النَّوَوِيّ وَقد فصل الجرحاني وَغَيره فَقَالُوا إِن أكل عقب الْقَتْل فَفِيهِ الْقَوْلَانِ وَإِلَّا فَيحل قطعا وَالله أعلم وَإِذا قُلْنَا بِالتَّحْرِيمِ فَلَا بُد من اسْتِئْنَاف التَّعْلِيم وَلَا يَنْعَطِف التَّحْرِيم على مَا اصطاده من قبل وَلَو أكل حَشْو الصَّيْد فَفِيهِ قَولَانِ قيل لَا يضر لِأَنَّهَا غير مَقْصُودَة وَالصَّحِيح أَنه على الْقَوْلَيْنِ فِي الْأكل من اللَّحْم وَلَو لعق الدَّم لم يضر على الْمَذْهَب وَلَو أَرَادَ الصَّائِد أَخذ الصَّيْد مِنْهُ فَامْتنعَ وَصَارَ يضارب وَيُقَاتل دونه فَهُوَ كَالْأَكْلِ قَالَه الْقفال وَالله أعلم(1/518)
وَقَوله فَإِن عدمت إِحْدَى الشَّرَائِط لم يحل لِأَن الْمَشْرُوط يفوت بِفَوَات شَرطه وَالشّرط الْمركب يفوت بِفَوَات جُزْء من أَجْزَائِهِ فَإِذا أدْركهُ حَيا وذبحه حل 2 كَسَائِر الصيود الْمَقْدُور عَلَيْهَا وَالله أعلم
(فرع) مَوضِع عض الْكَلْب من الصَّيْد نجس يجب غسله سبعا مَعَ التعفير بِالتُّرَابِ كَغَيْرِهِ فَإِذا غسل حل أكله هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الْمَشْهُور وَقيل إِنَّه نجس مَعْفُو عَنهُ وَقيل طَاهِر وَقيل نجس لَا يُمكن تَطْهِيره بل يجب تقوير ذَلِك الْموضع ورميه لِأَنَّهُ تشرب لعاب الْكَلْب فَلَا يتخلله المَاء وَقيل غير ذَلِك وَالله أعلم
(فرع يُؤْخَذ مِمَّا تقدم إِلَّا أَنا نقصد إيضاحه) إِذا قتلت الْجَارِحَة الصَّيْد بثقلها وَمَات فَفِي حلّه قَولَانِ أَحدهمَا يحرم لمَفْهُوم قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَكُلُوا وَالصَّحِيح الْحل لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَلِأَنَّهُ يعز تَعْلِيمه بِأَن لَا يقتل إِلَّا جرحا وطرد الْخلاف فِيمَا لَو عض وَلم يجرحه أَو ضمه فَمَاتَ قَالَ مجلي وطرد بَعضهم الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَو مَاتَ الصَّيْد فَزعًا من الْجَارِحَة قَالَ وَيحْتَمل أَن يكون كموته تبعا فَإِنَّهُ لَا يحل قطعا وَالله أعلم قَالَ
(وَتجوز الذَّكَاة مَا يجرح إِلَّا بِالسِّنِّ وَالظفر)
يجوز الذّبْح بِكُل مَاله حد يقطع سَوَاء كَانَ من الْحَدِيد كالسيف والسكين وَالرمْح أَو من الرصاص أَو النّحاس أَو الذَّهَب أَو الْخشب المحدد أَو الْقصب أَو الزّجاج أَو الْحجر فَيحل الذّبْح بذلك كُله وَيحل الصَّيْد الْمَقْتُول بهَا إِلَّا السن وَالظفر وَبَقِيَّة الْعِظَام فَإِنَّهُ لَا يحل بهَا سَوَاء فِي ذَلِك عظم الْآدَمِيّ أَو غَيره وَسَوَاء فِي ذَلِك الْمُنْفَصِل والمتصل وَاحْتج لذَلِك بِحَدِيث رَافع بن خديج قَالَ أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت يَا رَسُول الله إِنَّا نلقى الْعَدو غَدا وَلَيْسَ مَعنا مدى فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَكُلُوا مَا لم يكن سنا أَو ظفراً أما السن فَعظم وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة فِي حَدِيث طَوِيل وَيسْتَثْنى من ذَلِك مَا قتلته الْجَارِحَة كَلْبا كَانَ أَو غَيره بسنها أَو ظفرها فَإِنَّهُ يحل للْحَاجة وَقيل يحل الذّبْح بسن مَا يُؤْكَل لَحْمه لِأَنَّهُ لَهُ حدا يقطع وَهُوَ شَاذ ضَعِيف وَالْمذهب الأول وَالله أعلم
(فَائِدَة) اخْتلف الْعلمَاء فِي معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما السن فَعظم فَعَن الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام أَنه قَالَ للشَّرْع علل تعبدنا بهَا كَمَا أَن لَهُ أحكاماً تعبدنا بهَا وَقَالَ غَيره ورد الشَّرْع بِمَنْع الِاسْتِنْجَاء بالعظم لكَونه زَاد الْجِنّ وَمَا ذَاك إِلَّا للنَّجَاسَة وَالدَّم بِهَذِهِ المثابة وَقَالَ ابْن الرّفْعَة الَّذِي(1/519)
يظْهر أَنه كَانَ الذّبْح عِنْدهم بالعظم لَا يجوز وَأَن حكمته أَن لَا يكون موت الْحَيَوَان بِبَعْضِه مبيحاً لَهُ على أَن سِيَاق حَدِيث رَافع يدل على أَن الْمَعْهُود عِنْدهم أَنه لَا ذَكَاة إِلَّا بالمدية وَالله أعلم قَالَ
(وَيحل ذَكَاة كل مُسلم وكتابي وَلَا يحل ذَكَاة مَجُوسِيّ وَلَا وَثني)
يعْتَبر فِي الذَّابِح لحل الذَّبِيحَة إِمَّا كَونه مُسلما أَو كتابيا سَوَاء كَانَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا وَسَوَاد ذبح مَا هُوَ حَلَال عندنَا وَعِنْدهم أَو مَا هُوَ حَلَال عندنَا دونهم كَالْإِبِلِ
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَقَوله تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وَالْمرَاد بِالطَّعَامِ هُنَا الذَّبَائِح وَأما تَحْرِيم ذَبَائِح الْمَجُوس فالدليل عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سنوا بهم سنة أهل الْكتاب غير آكِلِي ذَبَائِحهم وناكحي نِسَائِهِم والوثني لَا كتاب لَهُ وَكَذَا الْمُرْتَد وَلِهَذَا لَا تعقد لَهُم الْجِزْيَة فهما أَسْوَأ حَالا من الْمَجُوس وَكَذَا لَا يحل ذبح نَصَارَى الْعَرَب وهم نَجْرَان وتنوخ وتغلب لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن ذبح نَصَارَى الْعَرَب وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَيْسَ نَصَارَى الْعَرَب بِأَهْل كتاب وَلَا تحل لنا ذَبَائِحهم وَلَا تحل لنا ذَبَائِح بني تغلب لأَنهم لم يَأْخُذُوا من دين أهل الْكتاب إِلَّا شرب الْخمر وَأكل الْخِنْزِير
وَاعْلَم أَن الزَّنَادِقَة كالمجوس وَكَذَا الدروز لَا تحل ذَبَائِحهم والقريشة المصنوعة من ذَبَائِحهم لَا تحل وَالله أعلم
(فرع) تحل ذَبِيحَة الصَّبِي الْمُمَيز على الصَّحِيح وَفِي غير الْمُمَيز وَالْمَجْنُون والسكران قَولَانِ الصَّحِيح عِنْد الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَجَمَاعَة عدم الْحل لأَنهم لَا قصد لم فأشبهوا النَّائِم إِذا كَانَت بِيَدِهِ سكين فَوَقَعت على حلقوم شَاة فَإِنَّهَا لَا تحل وَإِن قطعته مَعَ المريء وَالثَّانِي الْحل وَبِه قطع الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ كمن قطع حلق شَاة يَظُنّهُ خَشَبَة فَإِنَّهَا تحل لِأَن لَهُم قصدا وَإِرَادَة فِي الْجُمْلَة بِخِلَاف النَّائِم وَالصَّحِيح فِي الْمُحَرر وَزِيَادَة الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب الْحل والأخرس إِن كَانَ لَهُ إِشَارَة مفهمة حلت ذَبِيحَته وَإِلَّا فَفِيهِ خلاف وَالصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْأَكْثَرُونَ الْحل وَكَذَا تحل ذَكَاة الْأَعْمَى وَالْمَرْأَة وَإِن كَانَ حَائِضًا وَاحْتج لحل ذَبحهَا بِمَا ورد أَن جَارِيَة لآل كَعْب كَانَت ترعى غنما لَهُم فمرضت شَاة مِنْهَا فَكسرت مروة وذبحتها فَسَأَلَ مَوْلَاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأجَاز لَهُم أكلهَا والمروة الْحجر الْأَبْيَض وَفِيه دلَالَة على جَوَاز الذّبْح بِهِ وَالله أعلم قَالَ(1/520)
(وذكاة الْجَنِين بِذَكَاة أمه وَإِن وجد حَيا فيذكى
الْجَنِين الَّذِي يُوجد فِي بطن أمه المذكاة مَيتا أَو فِيهِ حَيَاة غير مُسْتَقِرَّة يحل وَإِن لم يذك ظَاهرا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة امهِ وَهُوَ بِرَفْع الذَّكَاة فيهمَا كَمَا هُوَ الْمَحْفُوظ فَتكون ذَكَاة أمه ذَكَاة لَهُ وَيُؤَيّد ذَلِك مَا روى مُسَدّد قَالَ كُنَّا يَا رَسُول الله نَنْحَر النَّاقة وننحر الْبَقَرَة وَالشَّاة فنجد فِي بَطنهَا الْجَنِين أنلقيه أم نأكله فَقَالَ كلوا إِن شِئْتُم فَإِن ذَكَاته ذَكَاة أمه وَهَذَا يبعد رِوَايَة نصب الذَّكَاة الثَّانِيَة يَعْنِي ذَكَاته مثل ذَكَاة أمه فَيذْبَح إِن أمكن وَإِلَّا حرم وَلَو خرج رَأس الْجَنِين مَيتا فذبحت أمه قبل انْفِصَاله حل قَالَه الْبَغَوِيّ لأَنا تحققنا أَنه لَا حَيَاة فِيهِ وَفِي كَلَام الإِمَام مَا يدل على عدم حلّه وَلَو خرج الْجَنِين وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة يَتَّسِع مَعهَا الزَّمَان لذبحه فَلم يذبح وَلَو كَانَ مَعَ فقد الْآلَة حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ لَا يحل وَإِن لم يَتَّسِع الزَّمَان للذبح حل وَلَو خرج بعضه والحياة فِيهِ فَفِي حلّه بِذبح الْأُم خلاف صحّح النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الْحل وَهُوَ مُقْتَضى تَصْحِيح الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْعدَد وَالْيَد الشلاء من الْمَأْكُول إِذا ذبح فَفِي حل أكلهَا وَجْهَان أصَحهمَا الْحل والوجهان مبنيان على أَنَّهَا كالميتة أم لَا وَالله أعلم قَالَ
(وَمَا قطع من حَيّ فَهُوَ ميت إِلَّا الشُّعُور المنتفع بهَا فِي المفارش والملابس وَغَيرهمَا)
الأَصْل فِي ذَلِك
حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن جباب أسنمة الْإِبِل وأليات الْغنم فَقَالَ مَا قطع من حَيّ فَهُوَ ميت وَفِي رِوَايَة مَا قطع من بَهِيمَة وَهِي حَيَّة فَهُوَ ميت ويستثى من عُمُوم ذَلِك شعر الْمَأْكُول وريشه وصوفه ووبره إِذا انْفَصل فِي حَيَاته بِقطع أَو قصّ فَإِنَّهُ طَاهِر وَكَذَا مَا تناثر أَو نتف فِي الْأَصَح لِأَن لنا فِي ذَلِك أثاثاً ومتاعاً إِلَى حِين وَقَول الشَّيْخ إِلَّا الشُّعُور يُؤْخَذ مِنْهُ أَن الْقرن والظلف وَالسّن والعظم إِذا انْفَصل فِي الْحَيَاة أَنه لَيْسَ كَذَلِك وَفِي ذَلِك كُله طَرِيقَانِ
أَحدهمَا أَنَّهَا كالشعور فَتكون طَاهِرَة من الْمَأْكُول نَجِسَة من غَيره وأصحهما أَنه نَجِسَة لِأَنَّهَا(1/521)
بالأعضاء أشبه وَقد قَالَ تَعَالَى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} والإحياء للْمَيت وَلِأَنَّهَا تحس وتألم فَدلَّ على أَنَّهَا تحلها الْحَيَاة فتنجس بِالْمَوْتِ بِخِلَاف الشُّعُور فَإِنَّهَا لَا تحلها الْحَيَاة وَلِهَذَا لَا تحس وَلَا تألم بِالْقطعِ وَلنَا فِي شُعُور غير الْمَأْكُول وَجه أَنَّهَا لَا تنحس لهَذِهِ الْعلَّة وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا يحل وَمَا يحرم من الْأَطْعِمَة فصل وكل حَيَوَان استطابته الْعَرَب فَهُوَ حَلَال إِلَّا مَا ورد الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ
طلب الْحَلَال فرض عين لِأَن اللَّحْم النَّابِت من الْحَرَام النَّار أولى بِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر
ثمَّ الأَصْل فِي حل الْأَطْعِمَة الْآيَات وَالْأَخْبَار قَالَ الله تَعَالَى {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وَالْمرَاد بِهِ هُنَا مَا تستطيبه النَّفس وتشتهيه وَلَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ الْحَلَال لأَنهم سَأَلُوهُ عَمَّا أحل لَهُم فَكيف يَقُول أخل لكم الْحَلَال وَقَالَ تَعَالَى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ لَا أجد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الْآيَة أَي فِيمَا أُوحِي إِلَيّ قُرْآنًا فَإِن غير ذَلِك حرمته السّنة وَقيل مَعْنَاهُ لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما فِيمَا كَانَت الْعَرَب تستطيبه إِلَّا هَذِه الثَّلَاثَة قَالَ الْأَصْحَاب مَا يُمكن أكله من الجمادات والحيوانات لَا يَتَأَتَّى حصر أَنْوَاعه لَكِن الأَصْل فِي الْأكل الْحل لِأَن الْأَعْيَان مخلوقة لمنافع الْعباد
فَإِن القَوْل مَا قَالَت حذام
وَيسْتَثْنى من ذَلِك مَا ورد الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ وَقَول الشَّيْخ استطابته الْعَرَب احْتَرز بِهِ عَن الْعَجم فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَار بهم لِأَن الله تَعَالَى لما أناط الحكم بالطيبات وَالتَّحْرِيم بالخبائث علم بِالْعقلِ أَنه لم يرد مَا تسطيبه وتستخبثه كل النَّاس لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاعهم على ذَلِك لاخْتِلَاف طباعهم فَتعين إِرَادَة بَعضهم وَالْعرب أولى بذلك لنزول الْقُرْآن بلغتهم وهم المخاطبون بِهِ
ثمَّ طبائع الْعَرَب مُخْتَلفَة فيتعذر اعْتِبَار جَمِيعهم فَيرجع إِلَى من كَانَ فِي عصره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَمَا قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَغَيره وَأبْدى الرَّافِعِيّ لنَفسِهِ احْتِمَالا فِي عدم اختصاصهم بذلك وَأَنه يرجع فِي كل زمَان إِلَى عربه(1/522)
وعَلى كل حَال فَيشْتَرط فيهم شُرُوط مِنْهَا أَن يَكُونُوا قريبين من الْبِلَاد والأرياف دون أهل الْبَوَادِي والمواضع المنقطعة فَإِنَّهُم يَأْكُلُون مَا دب ودرج وَمِنْهَا أَن يَكُونُوا ذَوي طباع سليمَة وَمِنْهَا أَن يستطيبوا الْحَيَوَان فِي حَال الرخَاء دون حَالَة الْقَحْط فَإِن استطابه الْبَعْض واستخبثه الْبَعْض اعْتبر بِالْأَكْثَرِ فَإِن اسْتَووا رجح بِقُرَيْش قَالَه الْعَبَّادِيّ وَغَيره فَإِن اخْتلفت قُرَيْش أَو لم يحكموا بِشَيْء رَجَعَ إِلَى شَبيه الْحَيَوَان فِي صورته أَو طعم لَحْمه أَو طبعه من السَّلامَة والعدوان فَإِن اسْتَوَى الشبهان أَو لم يُوجد مَا يُشبههُ فَالْأَصَحّ الْحل وَقيل يحرم وبناهما الْمَاوَرْدِيّ على الْخلاف فِي أَن الِاعْتِبَار قبل الشَّرْع فِي الْأَشْيَاء هَل هِيَ على الْإِبَاحَة أَو الْحَظْر وَلَو وجدنَا حَيَوَانا وَتعذر معرفَة حكمه من شرعنا وَثَبت تَحْرِيمه فِي شرع من قبلنَا فَهَل يستصحب تَحْرِيمه قَولَانِ الْأَزْهَر لَا وَإِنَّمَا يثبت أَنه شرع من قبلنَا بِالْكتاب أَو السّنة أَو بعد أَن أسلم مِنْهُم أنَاس عارفون بالتنزيل
إِذا عرفت هَذَا فَلَا بُد من ذكر نبذة مِمَّا يستطاب وَمِمَّا يستخبث أما المستطاب فكثير مَعَ اخْتِلَاف أَنْوَاعه وَهُوَ أنسي وَوَحْشِي فَمن الْإِنْسِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وحلها بِالْإِجْمَاع بعد قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وَقَوله {وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وَمِنْهَا الْخَيل لما روى
جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر عَن لُحُوم الْحمر وَأذن فِي لُحُوم الْخَيل وَفِي رِوَايَة نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحمير وَالْبِغَال وَلم ينهنا عَن الْخَيل وَالله أعلم
وَيحل من دَوَاب الْوَحْش الْبَقر لِأَنَّهَا من الطَّيِّبَات وَيَسْتَوِي فِي ذَلِك الْإِبِل والوعل وَكَذَا جَمِيع كباش الْجَبَل وغنمه وَكَذَا الْحمار لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أكل مِنْهُ وَلَا فرق بَين المتوحش والمستأنس كَمَا لَا يحل الْحمار الأهلي فِي الْحَالين والظبي والضبع والثعلب والأرنب واليربوع والقنفذ والوبر وَابْن عرس لِأَنَّهَا مستطابة وَفِي بَعْضهَا خلاف وَكَذَا يحل الضَّب لِأَنَّهُ أكل بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلِهَذَا تَتِمَّة تَأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما مَا يستخبث فكثير جدا مِنْهَا الْحَيَّات والعقارب والخنافس وَنَحْوهَا كالقراد وَالْقمل وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهَا من الْخَبَائِث قَالَ الله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِم الْخَبَائِث} وَالله أعلم قَالَ
(وَيحرم من السبَاع مَاله نَاب قوي يعدو بِهِ وَيحرم من الطُّيُور مَاله مخلب قوي يجرح بِهِ)(1/523)
كل مَا كَانَ من السبَاع لَهُ نَاب يعدو بِهِ على الْحَيَوَان ويتقوى بِهِ فَيحرم كالأسد والفهد والنمر وَالذِّئْب والدب والقرد والفيل والتمساح والزرافة وَابْن آوى لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع لِأَن هَذِه الْأَنْوَاع تعدو بنابها طالبة غير مَطْلُوبَة كَمَا قَالَه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق لِأَنَّهَا لَا تَأْكُل إِلَّا من فريستها وَلِهَذَا لَا يحرم الضبع والثعلب وَنَحْوهمَا لفقد هذَيْن الْمَعْنيين وَفِي وَجه يحل الْفِيل وَفِي آخر يحل التمسساح وَفِي آخر يحل ابْن آوى وَفِي آخر تحل الزرافة وَلَا يُؤْكَل الْكَلْب لِأَنَّهُ من الْخَبَائِث وَكَذَا الْخِنْزِير لِلْآيَةِ وَفِي السنور خلاف وَالصَّحِيح التَّحْرِيم وَإِن كَانَ وحشياً لِأَنَّهُ يتقوى بنابه وياكل الْجِيَف فَأشبه الْأسد ورد عَن أبي الزبير قَالَ سَأَلت جَابِرا عَن ثمن الْكَلْب والسنور فَقَالَ زجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك وروى أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ إِن الله إِذا حرم شَيْئا حرم ثمنه وَيحل السمور والسنجاب والفنك والقاقم على الْأَصَح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَالله أعلم وَكَذَا يحرم من الطُّيُور كل مَا يتقوى بمخلبه كالنسر والصقر والشاهين والبازي والحدأة بأنواعا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن أكل كل ذِي مخلب من الطُّيُور وَكَذَا يحرم مَا يَأْكُل الْجِيَف كالغراب الأبقع وَالْأسود الْكَبِير لِأَنَّهَا مستخبثان وَفِي تَحْرِيم الزاغ خلاف فَيحل مِنْهُ محمر المنقار وَالرّجلَيْنِ على الْأَصَح دون الغداف وَهُوَ رمادي صَغِير الجثة على الْأَصَح كَذَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة وَهُوَ سَهْو وَالَّذِي فِي الشَّرْح الصَّغِير الْحل فيهمَا لِأَنَّهُمَا يلقطان الْحبّ كالفواخت وَلَا يأكلان الْجِيَف بِخِلَاف الْأسود الْكَبِير وَيحل الكركي وَفِي الشقراق خلاف وَالله أعلم
(فرع) تكره الدَّابَّة الْجَلالَة سَوَاء الشَّاة وَالْبَقَرَة والدجاجة وَغَيرهَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن أكل الْجَلالَة وَأَلْبَانهَا وَالْجَلالَة هِيَ الَّتِي أَكثر أكلهَا الْعذرَة الْيَابِسَة كَذَا قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَقَالَ غَيره هِيَ الَّتِي تَأْكُل الْعذرَة وأطلقوا ذَلِك ثمَّ الْكَرَاهَة منوطة بِتَغَيُّر الرَّائِحَة وَالنَّتن فَإِن وجد فِي عرقها أَو غَيره ريح النَّجَاسَة فجلالة وَإِلَّا فَلَا كَذَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة وَهل النَّهْي عَن أكل الْجَلالَة للتَّحْرِيم أَو للكراهة وَجْهَان صحّح النَّوَوِيّ أَنَّهَا للتنزيه وعلته أَن النَّهْي إِنَّمَا كَانَ(1/524)
للنَّجَاسَة وَمَا تَأْكُله من الطاهرات ينجس فِي كرشها فَلَا تتغذى إِلَّا بالنجاسات أبدا فَأكلهَا النَّجَاسَات إِنَّمَا يُؤثر فِي تَغْيِير لَحمهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْكَرَاهَة كَمَا أَن المذكي إِذا جَاف لَا يحرم أكله على الْمَذْهَب وَصحح الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر تبعا للْإِمَام وَالْغَزالِيّ وَغَيرهمَا التَّحْرِيم لظَاهِر الْخَبَر وَلِأَنَّهَا صَارَت من الْخَبَائِث لكنه حكى فِي الشَّرْح الْكَبِير عَن الْأَكْثَرين وَمِنْهُم الْعِرَاقِيُّونَ مَا صَححهُ النَّوَوِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَيحل للْمُضْطَر فِي المخمصة أَن يَأْكُل من الْميتَة مَا يسد بِهِ رمقه)
نَص الْقُرْآن الْعَظِيم على تَحْرِيم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا كالموقودة والمتردية والنطيحة وَمَا أكل السَّبع وَهَذَا فِي غير حَالَة الضَّرُورَة وَأما الْمُضْطَر فَيُبَاح لَهُ الْأكل كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أَي فَأكل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ ثمَّ الْأكل قد يجب لدفع الْهَلَاك
وَاعْلَم أَنه لَا خلاف أَن الْجُوع الْقوي لَا يَكْفِي لأكل الْحَرَام وَلَا خلاف أَنه لَا يجب الِامْتِنَاع إِلَى أَن يشرف على الْمَوْت فَإِن الْأكل حِينَئِذٍ لَا يُفِيد بل لَو انْتهى إِلَى هَذِه الْحَالة لم يحل لَهُ أكل الْميتَة فَإِنَّهُ غير مُفِيد وَلَا خلاف فِي الْحل إِذا كَانَ يخَاف على نَفسه لَو لم يَأْكُل من جوع أَو ضف عَن الْمَشْي وَعَن الرّكُوب أَو يَنْقَطِع عَن الرّفْقَة أَو يضيع وَنَحْو ذَلِك فَلَو خَافَ حُدُوث مرض مخيف حَبسه فَهُوَ كخوف الْمَوْت وَإِن خَافَ طول الْمَرَض فَكَذَلِك على الرَّاجِح وَلَو عيل صبره وجهده الْجُوع فَهَل يحل لَهُ الْمحرم أم لَا حَتَّى يصل إِلَى أدنى الرمق قَولَانِ فَقَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة الْأَظْهر الْحل وَلَا يشْتَرط فِيمَا يخَاف مِنْهُ تَيَقّن وُقُوعه لَو لم يَأْكُل بل يَكْفِي غَلَبَة الظَّن فَإِذا انْتهى إِلَى الْحَالة الَّتِي يُبَاح لَهُ فِيهَا الْأكل فَمَاذَا يَأْكُل أما أكله مَا يسد بِهِ الرمق فَلَا خلاف فِي ذَلِك
وَلَا تحل لَهُ الزِّيَادَة على الشِّبَع بِلَا خلاف وَفِي حل الشِّبَع أَقْوَال ثَالِثهَا إِن كَانَ قَرِيبا من الْعمرَان لم يجز وَإِلَّا جَازَ وَرجح الْقفال وَكثير من الْأَصْحَاب الْمَنْع وَرجح الرَّوْيَانِيّ وَغَيره الْحل كَذَا أطلق الْخلاف أَكْثَرهم وَفصل الإِمَام وَالْغَزالِيّ تَفْصِيلًا(1/525)
حَاصله إِن كَانَ فِي بادية وَخَافَ إِن ترك الشِّبَع أَن لَا يقطعهَا وَيهْلك وَجب الْقطع بالشبع وَإِن كَانَ فِي بلد وتوقع الْحَلَال قبل عود الضَّرُورَة وَجب الْقطع بالاقتصار على سد الرمق وَإِن كَانَ لَا يظْهر حُصُول طَعَام حَلَال وَأمكنهُ الرُّجُوع إِلَى الْمحرم مرّة بعد أُخْرَى إِن لم يجد الْحَلَال فَهُوَ مَوضِع الْخلاف وَقد اخْتلف تَرْجِيح الشَّيْخَيْنِ فِي ذَلِك وَبِالْجُمْلَةِ فَالصَّحِيح أَنه يَأْكُل مَا يسد الرمق لِأَنَّهُ بعد سد الرمق غير مُضْطَر فَزَالَ الحكم بِزَوَال علته لِأَن الْقَاعِدَة المقررة أَن الحكم يَدُور مَعَ الْعلَّة وجودا وعدماً قَالَ السّديّ قَوْله تَعَالَى {وَلا عَادٍ} أَي فِي الِاسْتِيفَاء إِلَى حد الشِّبَع وَمن قَالَ بالشبع علل بِأَنَّهُ طَعَام جَازَ مِنْهُ مَا يسد الرمق فَجَاز قدر الشِّبَع كالمذكى والاضطرار عِلّة لابتداء الْأكل دون استدامته كَمَا أَن فقد طول الْحرَّة عِلّة لابتداء نِكَاح الْأمة دون استدامته وعَلى هَذَا فَلَيْسَ المُرَاد بالشبع أَن يمتلئ حَتَّى لَا يبْقى للطعام مساغ فَإِن هَذَا حرَام بِلَا خلاف وَلَكِن المُرَاد أَن يَأْكُل حَتَّى يكسر سُورَة الْجُوع بِحَيْثُ لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم جَائِع وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ جزم فِي الْمُحَرر بِمَا فَصله الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَهل لَهُ أَن يتزود من الْميتَة إِن لم يرج الْوُصُول إِلَى الْحَلَال فَلهُ التزود وَإِن رجا فَفِيهِ خلاف الْأَصَح فِي شرح الْمُهَذّب وَزِيَادَة الرَّوْضَة الْجَوَاز وَالله أعلم قَالَ
(وميتتان حلالان السّمك وَالْجَرَاد)
وَاعْلَم أَن الْحَيَوَان ثَلَاثَة أَقسَام
الأول مَا لَا يُؤْكَل فَهَذَا ميتَته وذبيحته سَوَاء
الْقسم الثَّانِي حَيَوَان مَأْكُول وَلَا تحل ميتَته فَهَذَا لَا يحل إِلَّا بالتذكية الْمُعْتَبرَة على مَا مر
الْقسم الثَّالِث حَيَوَان مَأْكُول تحل ميتَته وَهُوَ السّمك وَالْجَرَاد وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث
ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ أحلّت لنا ميتَتَانِ الْحُوت وَالْجَرَاد ويحتج للسمك بقوله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وَهل يحل أكل السّمك الصغار إِذا شويت وَلم يشق جوفها وَلم يخرج مَا فِيهِ وَجْهَان صحّح جمَاعَة التَّحْرِيم بِسَبَب مَا فِي الْجوف فَإِنَّهُ نجس وينجس مَا يقلى بِهِ وَوجه الْجَوَاز مشقة تتبعها قَالَ الرَّافِعِيّ وعَلى الْمُسَامحَة جرى الْأَولونَ وَقَالَ فِي الطَّاهِر أطبقوا على أكل المملح مِنْهُ وَلَو وجدت سَمَكَة فِي جَوف سَمَكَة فَهِيَ حَلَال كَمَا لَو مَاتَت حتف أنفها وَلَو تقطعت سَمَكَة فِي جَوف سَمَكَة وَتغَير لَوْنهَا لم تحل على الْأَصَح لِأَنَّهَا كالروث وَيكرهُ ذبح السّمك إِلَّا أَن يكون كَبِيرا تطول حَيَاته فَيُسْتَحَب ذبحه على الْأَصَح إراحة لَهُ وَلَو ابتلع سَمَكَة حَيَّة أَو قطع فلقَة مِنْهَا لم تحرم على الْأَصَح لَكِن تكره وطرد الْوَجْهَانِ فِي الْجَرَاد وَلَو ذبح(1/526)
من لَا تحل ذَكَاته سَمَكَة حلت لِأَن نهايته إِنَّهَا ميتَة وميتتها حَلَال وَيحرم القاء السّمك فِي الزَّيْت الْحَار قبل مَوته عَافَانَا الله من عَذَابه
(فرع) حَيَوَان الْبَحْر إِذا خرج مِنْهُ مَالا يعِيش إِلَّا عَيْش الْمَذْبُوح كالسمك بأنواعه فَهُوَ حَلَال وَلَا حَاجَة إِلَى ذبحه وَسَوَاء مَاتَ بِسَبَب ظَاهر كصدمة أَو ضرب الصياد أَو غَيره أَو مَاتَ حتف أَنفه وَأما مَا لَيْسَ على صُورَة السموك الْمَشْهُورَة فَفِيهِ ثَلَاث مقالات أَصَحهَا الْحل وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَاحْتج بِهِ بِعُمُوم قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحل ميتَته وَقد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ على أَنه قَالَ يُؤْكَل فار المَاء خِنْزِير المَاء قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة الْأَصَح أَن السّمك يَقع على جَمِيعهَا فعلى الصَّحِيح هَل يشْتَرط الذَّكَاة الرَّاجِح لَا وَتحل ميتَته كالسمك وَاحْتج لذَلِك بقول الصّديق رَضِي الله عَنهُ كل دَابَّة تَمُوت فِي الْبَحْر فقد ذكاها الله تَعَالَى لكم نعم قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِن كَانَ فِيهِ مَا يطول خُرُوج روحه كإبل المَاء وبقره لم يكره ذبحه إراحة لَهُ وَيسْتَثْنى من ذَلِك التمساح لِأَنَّهُ يتقوى بنابه وَالله أعلم
(فرع) يحرم الضفدع والسرطان والسلحفاة على الرَّاجِح وَالله أعلم
(فرع) صَاد سَمَكَة فِي بَطنهَا درة هَل يملك الدرة ينظر إِن كَانَت مثقوبة فالدرة لقطَة وَلَا يملكهَا إِلَّا بطريقة على مَا مر فِي اللّقطَة وَإِن كَانَت غير مثقوبة ملكهَا مَعَ السَّمَكَة وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْأُضْحِية فصل الْأُضْحِية سنة
الْأُضْحِية بتَشْديد الْيَاء هُوَ مَا ذبح من النعم تقرباً إِلَى الله يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق وَيُقَال لَهَا ضحية
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ من شَعَائِر} الْآيَة وَقَوله سُبْحَانَهُ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} على الْمَشْهُور وَغير ذَلِك وَهِي سنة مُؤَكدَة وشعار ظَاهر يَنْبَغِي لمن قدر عَلَيْهَا أَن يحافظ عَلَيْهَا وَذهب مَالك رَحمَه الله إِلَى وُجُوبهَا وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يجب(1/527)
على الْمُقِيم بِالْبَلَدِ الْمُوسر وَهَذَا الَّذِي يملك نِصَابا وَدَعوى الْوُجُوب مَمْنُوعَة بِالسنةِ الشَّرِيفَة فَفِي التِّرْمِذِيّ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ أمرت بالنحر وَهُوَ سنة لكم وأصرح من ذَلِك مَا روى الدَّارَقُطْنِيّ كتب عَليّ النَّحْر وَلَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْكُم وَورد من حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ إِذا رَأَيْتُمْ هِلَال ذِي الْحجَّة وَأَرَادَ أحدكُم أَن يُضحي فليمسك عَن شعره وأظفاره وَجه الدّلَالَة مِنْهُ أَنه علق التَّضْحِيَة على الْإِرَادَة وَمَا هُوَ وَاجِب لَيْسَ هَذَا شَأْنه والْحَدِيث الْوَارِد بِوُجُوبِهَا رِوَايَة مَجْهُول وَإِن صَحَّ حمل على الِاسْتِحْبَاب جمعا بَين الْأَدِلَّة
إِذا عرفت هَذَا فالتضحية سنة على الْكِفَايَة إِذا فعلهَا وَاحِد من أهل بَيت تأدى عَن الْكل حق السّنة وَلَو تَركهَا أهل بَيت كره لَهُم ذَلِك والمخاطب بهَا الْحر الْقَادِر قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَللْإِمَام أَن يُضحي عَن الْمُسلمين من بَيت المَال وَلَا يجوز عَن الْمَيِّت على الْأَصَح إِلَّا أَن يُوصي بهَا نعم تجوز النِّيَابَة عَنهُ فِيمَا عينه بِنذر قبل مَوته وَالله أعلم قَالَ
(وَيُجزئ فِيهَا الْجذع من الضَّأْن والثني من الْمعز وَالْإِبِل وَالْبَقر وتجزئ الْبَدنَة عَن سَبْعَة وَالْبَقَرَة عَن سَبْعَة وَالشَّاة عَن وَاحِد)
يشْتَرط فِيمَا يضحى بِهِ أُمُور
أَحدهَا الذّبْح
وَالثَّانِي الذَّابِح وَقد مر ذكرهمَا
وَالثَّالِث الْوَقْت وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى الرَّابِع أَن يكون من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم بأنواعها للآيات وَالْأَخْبَار قَالَ الله تَعَالَى {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ولفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يُجزئ من غَيرهَا بِالْإِجْمَاع وَلَا يُجزئ من الضَّأْن إِلَّا الْجذع وَهُوَ من الْغنم مَاله سنة على الْأَصَح وَفِي التَّهْذِيب وَغَيره أَنه الَّذِي لَهُ سنة أَو أسقط أَسْنَانه فَيكون كالبلوغ فَإِنَّهُ إِمَّا بِالسِّنِّ أَو الِاحْتِلَام قبله وَيشْهد لَهُ قَول القَاضِي أبي الطّيب أَن الاجذاع سُقُوط أَسْنَان اللَّبن ونبات غَيرهَا وَالَّذِي قَالَه الْجَوْهَرِي أَن الْجذع اسْم لزمنه وَلَيْسَ هُوَ سنا يسْقط وينبت وَقَالَ ابْن الرّفْعَة نقل بَعضهم عَن أهل الْبَادِيَة أَن الصوفة تكون على ظَهره قَائِمَة فَإِذا نَامَتْ علم أَنه جذع وَقيل مَاله سِتَّة أشهر وَقيل ثَمَان وَأما(1/528)
الثني من الْمعز فَمَاله سنتَانِ على الْأَصَح وخالفت الضَّأْن لِأَن لَحمهَا دون لحم الضَّأْن فجبر بِزِيَادَة السن ورسمي ثنيا لطلوع ثنيته وَقيل يُجزئ مَاله سنة وَدخل فِي الثَّانِيَة وَأما الثني من الْإِبِل فَمَاله خمس سِنِين وَدخل فِي السَّادِسَة على الْأَصَح وَقيل مَا دخل فِي السَّابِعَة وَأما من الْبَقر فَمَاله سنتَانِ وَدخل فِي الثَّالِثَة على الْأَصَح وَقيل مَا دخل فِي الرَّابِعَة
وَاعْلَم أَنه لَا فرق فِي الْأَجْزَاء بَين الْأُنْثَى وَالذكر إِذا وجد السن الْمُعْتَبر نعم الذّكر أفضل على الرَّاجِح لِأَنَّهُ أطيب لَحْمًا وَنقل عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ الْأُنْثَى أحب من الذّكر وَهُوَ مؤول على جَزَاء الصَّيْد لِأَنَّهَا أَكثر قيمَة فيشتريى بهَا طَعَاما وتجزئ الْبَدنَة عَن سَبْعَة وَكَذَا الْبَقَرَة لما روى جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ نحرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحُدَيْبِية الْبَدنَة عَن سَبْعَة وَالْبَقَرَة عَن سَبْعَة وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق تُجزئ الْبَدنَة عَن عشرَة وَفِي البُخَارِيّ مَا يشْهد لَهُ وتجزئ الشَّاة عَن وَاحِد وَكَذَا عَن أهل الْبَيْت كَمَا مر وَالله أعلم قَالَ
(وَأَرْبع لَا تُجزئ فِي الضَّحَايَا العوراء الْبَين عورها والعرجاء الْبَين عرجها والمريضة الْبَين مَرضهَا والعجفاء الَّتِي ذهب مخها من الهزال)
يشْتَرط فِي الاضحية سلامتها من عيب ينقص اللَّحْم وَيدخل فِيهِ مسَائِل مِنْهَا العوراء الَّتِي ذهبت حدقتها وَكَذَا إِن بقيت على الْأَصَح لاطلاق الْخَبَر وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة لَا تُجزئ فِي الْأَضَاحِي العوراء الْبَين عورها والمريضة الْبَين مَرضهَا والعرجاء الْبَين ضلعها والعجفاء الَّتِي لَا تنقي والنقي الشَّحْم وَقيل مخ الْعظم وَوجه عدم الْإِجْزَاء أَن الَّتِي ذهبت حدقتها فَاتَ مِنْهَا جُزْء مَأْكُول مستطاب وَإِن لم تذْهب فرعيها ينقص من جَانب العور فتهزل لَو بقيت وَمِنْهَا العرجاء للْخَبَر فَلَا تُجزئ العرجاء الَّتِي اشْتَدَّ عرجها بِحَيْثُ تسبقها الْمَاشِيَة إِلَى الْكلأ الطّيب وتتخلف عَن القطيع فَإِن كَانَ يَسِيرا لَا يخلفها عَن الْمَاشِيَة لم يضر وَلَو أضجعها ليضحي بهَا وَهِي سليمَة فاضطربت وانكسرت رجلهَا أَو عرجت تَحت السكين لم تجز على الْأَصَح لِأَنَّهَا عرجاء عِنْد الذّبْح(1/529)
فَأشبه مَا لَو انْكَسَرت رجل شَاة فبادر إِلَى التَّضْحِيَة بهَا فَإِنَّهَا لَا تُجزئ وَمِنْهَا الْمَرِيضَة للْخَبَر فالمريضة إِن كَانَ مَرضهَا يَسِيرا لم يمْنَع الْإِجْزَاء وَإِن كَانَ بَينا يظْهر بِسَبَبِهِ الهزال وَفَسَاد اللَّحْم منع الْإِجْزَاء هَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَفِي قَول أَن الْمَرَض لَا يمْنَع مُطلقًا وَالْمَرَض مَحْمُول فِي الحَدِيث على الجرب وَفِي وَجه أَن الْمَرَض يمْنَع مُطلقًا وَإِن كَانَ يَسِيرا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ قولا وَمن الْمَرَض الهيام وَهُوَ شدَّة الْعَطش فَلَا تروى من المَاء قَالَ أهل اللُّغَة هُوَ دَاء يَأْخُذهَا فتهيم فِي الأَرْض فَلَا ترعى وَمِنْهَا الْعَجْفَاء للْخَبَر فَلَا تُجزئ الْعَجْفَاء الَّتِي ذهب مخها من شدَّة هزالها لِأَنَّهُ داه مُؤثر فِي اللَّحْم فَإِن قل أَجْزَأت وَضبط الْأَصْحَاب الَّذِي يضر بِأَن يَنْتَهِي إِلَى حد تأباه نفوس المترفين فِي الرخَاء والرخص قَالَ ابْن الرّفْعَة يَنْبَغِي أَن يكون الْمرجع فِي ذَلِك إِلَى الْعرف قَالَ الْمَاوَرْدِيّ الَّتِي ذهب مخها إِن كَانَ لمَرض ضرّ وَإِن كَانَ لخلقة فَلَا يضر وَمِنْهَا الجرباء فَإِن كثر جربها ضرّ وَكَذَا إِن قل على الْأَصَح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بِأَنَّهُ دَاء يفْسد اللَّحْم والودك وَاخْتَارَ الإِمَام وَالْغَزالِيّ أَنه لَا يمْنَع الْإِجْزَاء إِلَّا الْكثير كالمرض وَكَذَا قَيده الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر بالكثير وَمِنْهَا التولاء وَهِي الَّتِي تَدور فِي المرعى وَلَا ترعى وَمِنْهَا أَي من الْعُيُوب فقد الْأَسْنَان فَإِن ذهب بعض أسنانها لم يضر وَإِن تناثرت بِالْكَسْرِ أَو غَيره جَمِيع الْأَسْنَان قَالَ الإِمَام قَالَ الْمُحَقِّقُونَ يُجزئ لِأَنَّهُ لم يفت جُزْء مَأْكُول وَأطلق الْبَغَوِيّ وَجَمَاعَة أَنَّهَا لَا تُجزئ وَصَححهُ النَّوَوِيّ وَاحْتج بِأَن الحَدِيث النَّهْي عَن المشيعة وَقَالَ بَعضهم إِن كَانَ ذَلِك لمَرض أَو أثر فِي الْعلف وَنقص اللَّحْم فَلَا تُجزئ وَإِلَّا أَجْزَأت قَالَ الرَّافِعِيّ وَهُوَ حسن وَقَالَ الشَّافِعِي لَا نَحْفَظ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَسْنَان شَيْئا وَلَا يجوز فِيهَا إِلَّا وَاحِد من قَوْلَيْنِ إِمَّا الْمَنْع لِأَنَّهُ يضر بِاللَّحْمِ وَإِن قل أَو الْإِجْزَاء كفقد الْقرن وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تُجزئ مَقْطُوعَة الْأذن أَو الذَّنب) لَا تُجزئ مَقْطُوعَة الْأذن وَكَذَا الْمَقْطُوع أَكثر أذنها بِلَا خلاف فَإِن كَانَ يَسِيرا فَفِيهِ خلاف الْأَصَح عدم الْإِجْزَاء لفَوَات جُزْء مَأْكُول وَضبط الإِمَام الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير بِأَنَّهُ إِن لَاحَ من بعد فكثير وَإِلَّا فيسير وَلَو قطعت وَبقيت متدلية أَجْزَأت على الْأَصَح وَلَو كويت أَجْزَأت على الْمَذْهَب وَقيل لَا تُجزئ لتصلب مَوضِع الكي وتجزئ صَغِيرَة الْأذن وَلَا تُجزئ الَّتِي لم تخلق لَهَا أذن على الرَّاجِح وَتسَمى السكاء وتجزئ الَّتِي خلقت بِلَا آلية أَو ضرع فِي الْأَصَح وَالْفرق أَن الْأذن عُضْو لَازم بِخِلَاف الضَّرع والألية بِدَلِيل جَوَاز التَّضْحِيَة بِالذكر من الْمعز فَلَا تُجزئ مَقْطُوعَة الآلية والضرع على الْأَصَح لفَوَات جُزْء الْمَأْكُول وَكَذَا مَقْطُوعَة الذَّنب وَالله أعلم قَالَ
(وَيُجزئ الْخصي ومكسور الْقرن)
الْخصي هُوَ مَقْطُوع الْأُنْثَيَيْنِ وَالْمذهب أَنه يُجزئ لِأَن نقصهما سَبَب لزِيَادَة اللَّحْم وطيبه وَأغْرب ابْن كج فَحكى فِيهِ قَوْلَيْنِ وَجه عدم الْإِجْزَاء لما فِيهِ من فَوَات جُزْء مَأْكُول مستطاب(1/530)
وتجزئ القصعاء وَهِي الَّتِي كسر قرناها من أَصلهمَا سَوَاء سَالَ الدَّم أم لم يسل وَكَذَا تُجزئ الْجَمَّاء وَهِي الَّتِي كسر أَحدهمَا وَكَذَا الجلحاء وَهِي الَّتِي لم يخلق لَهَا قرن وَقيل هِيَ الَّتِي ذهب بعض قرنها وَكَذَا القصماء وَهِي الَّتِي انْكَسَرَ غلاف قرنها وَكَذَا العضباء وَهِي الَّتِي انْكَسَرَ قرنها الْبَاطِن لِأَن ذَلِك كُله لَا يُؤثر فِي اللَّحْم فَأشبه الصُّوف نعم تكره التَّضْحِيَة بذلك كُله وتجزئ الَّتِي يشرب لَبنهَا وَهل تُجزئ الْحَامِل فِيهِ خلاف قَالَ ابْن الرّفْعَة الْمَشْهُور أَنَّهَا تُجزئ لِأَن نقص اللَّحْم يجْبر بالجنين وَفِيه وَجه لَا تُجزئ قَالَ ابْن النَّقِيب وَهَذَا الْوَجْه اقْتصر عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب على حكايته عَن أبي الطّيب أَنه نَقله عَن الْأَصْحَاب وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا لَا تُجزئ وَقَالَ الأسنوي وَمَا قَالَه ابْن الرّفْعَة على وَجه الضَّعِيف وَأَن الْمَشْهُور خِلَافه عَجِيب فقد صرح بِكَوْنِهِ عَيْبا يَعْنِي الْحمل خلائق مِنْهُم الْمُتَوَلِي وَجزم بِهِ شيخ الْأَصْحَاب الشَّيْخ أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ والعمراني وَالنَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب نقلا عَن الْأَصْحَاب وَفرقُوا بَين التَّضْحِيَة وَالزَّكَاة بِأَن الْمَقْصُود من الْأُضْحِية اللَّحْم وَهُوَ يهزلها وَالْمَقْصُود من الزَّكَاة الْقيمَة وَصرح بِهِ أَيْضا الْبَنْدَنِيجِيّ ورأيته فِي شرح الْمُهَذّب الْمُسَمّى بالاستقصاء وَنَقله عَن الْأَصْحَاب فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْمَذْهَب وجزموا بِهِ وَلَعَلَّ السَّبَب فِي قَول ابْن الرّفْعَة ذَلِك كَونهم ذكرُوا الْمَسْأَلَة فِي غير مظنتها
قلت يَنْبَغِي أَن يفصل فَيُقَال إِن كَانَت الْحَامِل سمينا فتجزئ قطعا للمعنى الْمَقْصُود من الْأُضْحِية وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يمْنَعهَا وَلَا هِيَ فِي معنى الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَإِن لم تكن سَمِينَة فَإِن بَان بهَا الهزال فَلَا تُجزئ وَإِلَّا أَجْزَأت كنظيرها مِمَّن لَا حمل بهَا على أَن فِي كَلَام الرَّافِعِيّ مَا يدل على إجزائها مُطلقًا وَلِهَذَا قَالَ إِنَّهَا لَو عينت عَمَّا فِي الذِّمَّة أَجْزَأت ثمَّ قَالَ فِي أثْنَاء كَلَامه وَلِهَذَا لَو عابت عَادَتْ إِلَى ملكه وَهُوَ يَقْتَضِي أَن الْحمل لَيْسَ بِعَيْب هُنَا لِأَن الْمَعِيب لَا يجوز تَعْيِينه عَمَّا فِي الذِّمَّة وَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي البيع من أَن الْحمل ينقص لَحمهَا طَريقَة وَالله أعلم قَالَ
(وَوقت الذّبْح من وَقت صَلَاة الْعِيد إِلَى غرُوب الشَّمْس من آخر أَيَّام التَّشْرِيق)
يدْخل وَقت التَّضْحِيَة إِذا طلعت الشَّمْس يَوْم النَّحْر وَمضى قدر رَكْعَتَيْنِ وخطبتين خفيفات على الْمَذْهَب هَذَا لفظ الرَّوْضَة لكنه أقرّ الشَّيْخ صَاحب التَّنْبِيه فِي التَّصْحِيح على اعْتِبَار زِيَادَة على ذَلِك وَهُوَ أَن ترْتَفع الشَّمْس قدر رمح وَهَذَا الَّذِي اعْتَبرهُ الشَّيْخ فِي التَّصْحِيح ذكره الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر وَحجَّة اعْتِبَار مُضِيّ قدر الصَّلَاة والخطبتين قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذبح قبل الصَّلَاة فَإِنَّمَا يذبح لنَفسِهِ وَمن ذبح بعد الصَّلَاة والخطبتين فقد أتم نُسكه وَأصَاب سنة الْمُسلمين قيل ظَاهر الْخَبَر يدل على اعْتِبَار الصَّلَاة فَلم عدلتم عَن ذَلِك إِلَى اعْتِبَار الْوَقْت فَالْجَوَاب أَن فعل الصَّلَاة لَيْسَ(1/531)
بِشَرْط فِي دُخُول الْوَقْت بِالنِّسْبَةِ إِلَى أهل السوَاد بالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِك فِي أهل الْأَمْصَار وَالله أعلم وَيخرج وَقت التَّضْحِيَة بِانْقِضَاء أَيَّام التَّشْرِيق لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيَّام منى كلهَا منحر وَلِأَن حكم ثَالِث أَيَّام التَّشْرِيق حكم اليوميين قبله فِي الزَّمن وَفِي تَحْرِيم الصَّوْم فَكَذَا فِي الذّبْح وَالله أعلم
(فرع) تكره التَّضْحِيَة لَيْلًا خشيَة أَن يُخطئ المذبح أَو يُصِيب نَفسه أَو يتَأَخَّر بتفريق اللَّحْم طرياً وَالله أعلم قَالَ
(وَيسْتَحب عِنْد الذّبْح خَمْسَة أَشْيَاء التَّسْمِيَة وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستقبال الْقبْلَة بالذبيحة وَالتَّكْبِير وَالدُّعَاء بِالْقبُولِ)
تسْتَحب التَّسْمِيَة لقَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْم الله عَلَيْهِ} ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حِين ذبح أضحيته قَالَ باسم الله فَلَو لم يسم حلت لِأَن الله تَعَالَى أَبَاحَ ذَبَائِح أهل الْكتاب وهم لَا يسمون غَالِبا وَورد أَن أُنَاسًا قَالُوا يَا رَسُول الله إِن قوما من الْأَعْرَاب يأتوننا بِاللَّحْمِ مَا نَدْرِي أذكروا اسْم الله عَلَيْهِ أم لَا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سموا الله تَعَالَى وكلوا فَدلَّ على أَنَّهَا غير وَاجِبَة وَغير ذَلِك من الْأَدِلَّة
وَأما الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد نَص الشَّافِعِي على استحبابها قِيَاسا على سَائِر الْمَوَاضِع وَلِأَن الله تَعَالَى رفع ذكره فَلَا يذكر إِلَّا وَيذكر مَعَه وَقد ثَبت ذكر التَّسْمِيَة وَأما تَوْجِيه الذَّبِيحَة إِلَى الْقبْلَة فَلِأَنَّهَا خير الْجِهَات وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَجه ذَبِيحَته إِلَى الْقبْلَة وَقيل يَنْبَغِي أَن يكره لِأَنَّهَا حَالَة إِخْرَاج نَجَاسَة فَهِيَ كالبول وَأجِيب بِأَنَّهَا حَالَة يسْتَحبّ فِيهَا ذكر الله تَعَالَى بِخِلَاف تِلْكَ وَفِي كَيْفيَّة التَّوْجِيه أوجه أَصَحهَا تَوْجِيه المذبح ليَكُون الذَّابِح مُسْتَقْبلا كَمَا هُوَ الْأَفْضَل وَأما التَّكْبِير فَفِي رِوَايَة أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بِيَدِهِ الْكَرِيمَة سمى وَكبر وَوضع رجله المشرفة على صفحاتهما وَأما الدُّعَاء بِالْقبُولِ فمستحب وَلَفظه اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَإِلَيْك فَتقبل مني وَمعنى ذَلِك هَذِه نعْمَة وعطية مِنْك سقتها وَتَقَرَّبت بهَا إِلَيْك وَاحْتج لذَلِك بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ عِنْد التَّضْحِيَة بذاتك الكبشين اللَّهُمَّ تقبل من(1/532)
مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يَأْكُل المضحى شَيْئا من الْأُضْحِية الْمَنْذُورَة وَيَأْكُل من المتطوع بهَا وَلَا يَبِيع مِنْهَا)
الْأُضْحِية الْمَنْذُورَة تخرج من ملك النَّاذِر بِالنذرِ كَمَا لَو أعتق عبدا حَتَّى لَو أتلفهَا لزمَه ضَمَانهَا فَإِذا نحرها لزمَه التَّصَدُّق بلحمها فَلَو أَخّرهُ حَتَّى تلف لزمَه ضَمَانه وَلَا يجوز لَهُ أَن يَأْكُل مِنْهَا شَيْئا قِيَاسا على جَزَاء الصَّيْد وَدِمَاء الجبرانات فَلَو أكل مِنْهَا شَيْئا غرم وَلَا يلْزمه إِرَاقَة دم ثَانِيًا لِأَنَّهُ قد فعله وَفِيمَا يضمن أوجه الرَّاجِح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه يغرم قِيمَته كَمَا لَو أتْلفه غَيره وَالثَّانِي يلْزمه مثل اللَّحْم وَالثَّالِث يشارط بِهِ فِي ذَبِيحَة أُخْرَى
وَأما المتطوع بهَا فَيُسْتَحَب لَهُ أَن يَأْكُل مِنْهَا بل قيل بِالْوُجُوب لقَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا} وَالصَّحِيح الِاسْتِحْبَاب لقَوْله تَعَالَى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} جعلهَا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا لَا علينا وبالقياس على الْعَقِيقَة وَالْأَفْضَل التَّصَدُّق بِالْجَمِيعِ إِلَّا اللُّقْمَة أَو اللقمتان يأكلها فَإِنَّهَا مسنونة وَقَالَ الإِمَام وَالْغَزالِيّ التَّصْدِيق بِالْكُلِّ أحسن على كل قَول فَلَو لم يرد التَّصَدُّق بِالْكُلِّ فَمَا الَّذِي يفعل قيل يَأْكُل بِالنِّصْفِ وَيتَصَدَّق بِالنِّصْفِ لقَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} فَجَعلهَا الله نِصْفَيْنِ وَهَذَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْقَدِيم وَقيل يَأْكُل الثُّلُث وَيهْدِي الثُّلُث وَيتَصَدَّق بِالثُّلثِ لقَوْله تَعَالَى {وأطعموا القانع والمعتر} فَجَعلهَا لثَلَاثَة والقانع الْجَالِس فِي بَيته والمعتر السَّائِل وَقيل غير ذَلِك وَهَذَا هُوَ الْجَدِيد الْأَصَح فعلى هَذَا فَمَا المُرَاد بِالَّذِي يهدى إِلَيْهِم قيل هم المتجملون من الْفُقَرَاء فَيرجع حَاصله إِلَى التَّصَدُّق بالثلثين وَهَذَا مَا حَكَاهُ أَبُو الطّيب عَن الْجَدِيد وَصَححهُ وَقيل هم الْأَغْنِيَاء وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد يَأْكُل الثُّلُث وَيتَصَدَّق بِالثُّلثِ وَيهْدِي الثُّلُث للأغنياء والمتجملين وَلَو تصدق بالثلثين كَانَ أحب وَنقل الْبَنْدَنِيجِيّ كَون التَّصَدُّق بالثلثين أفضل عَن النَّص وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن مَوضِع الْأُضْحِية الِانْتِفَاع فَلَا يجوز بيعهَا بل وَلَا بيع جلدهَا وَلَا يجوز جعله أُجْرَة للجزار وَإِن كَانَت تَطَوّعا بل يتَصَدَّق بِهِ المضحي أَو يتَّخذ مِنْهُ مَا ينْتَفع بِهِ من خف أَو نعل أَو دلو أَو غَيره وَلَا يؤجره والقرن كالجلد وَعند أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه يجوز بَيْعه وَيتَصَدَّق بِثمنِهِ وَأَن يَشْتَرِي بِعَيْنِه مَا ينْتَفع بِهِ فِي الْبَيْت لنا الْقيَاس على اللَّحْم وَعَن صَاحب التَّقْرِيب حِكَايَة قَول غَرِيب أَنه يجوز(1/533)
بيع الْجلد وَيصرف ثمنه مصرف الْأُضْحِية وَالله أعلم
(فرع) مَحل التَّضْحِيَة بلد المضحي وَفِي نقل الْأُضْحِية وَجْهَان تخريجاً من نقل الزَّكَاة وَالصَّحِيح هُنَا الْجَوَاز وَالله أعلم
(فرع) لَو وهب غَنِيا من الْأُضْحِية هبة تمْلِيك قَالَ الإِمَام فَالْأَظْهر أَنه مُمْتَنع فَإِن الْهِبَة لَيست صَدَقَة وَالْأُضْحِيَّة يَنْبَغِي أَن تكون مترددة بَين الصَّدَقَة وَالْإِطْعَام وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْعَقِيقَة فصل والعقيقة مُسْتَحبَّة وَهِي الذَّبِيحَة عَن الْمَوْلُود يَوْم السَّابِع ويذبح عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة شَاة
الْعَقِيقَة فِي اللُّغَة اسْم للشعر الَّذِي على رَأس الْمَوْلُود وَهِي فِي الشَّرْع اسْم لما يذبح فِي الْيَوْم السَّابِع يَوْم حلق رَأسه تَسْمِيَة لَهَا باسم مَا يقارنها وَقيل غير ذَلِك وَالْأَصْل فِي استحبابها حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَحَدِيث سَمُرَة وَغَيره قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغُلَام مُرْتَهن بعقيقته تذبح عَنهُ فِي الْيَوْم السَّابِع ويحلق رَأسه وَيُسمى ويذبح عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة شَاة وحجته حَدِيث أم كرز رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ((عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة شَاة)) وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نفق عَن الْغُلَام بشاتين وَعَن الْجَارِيَة بِشَاة وَيَوْم الْولادَة مَعْدُودَة من السَّبْعَة على الصَّحِيح وَقيل لَيْسَ مِنْهَا وَنقل عَن نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ الرَّافِعِيّ وَغَيره وَلَا تفوت بِفَوَات السَّابِع وَفِي الْعدة وَالْحَاوِي للماوردي أَنَّهَا بعد السَّابِع تكون قَضَاء وَالْمُخْتَار أَن لَا يتَجَاوَز بهَا النّفاس فَإِن تجاوزته فيختار أَن لَا يتَجَاوَز بهَا الرَّضَاع فَإِن تجَاوز فيختار أَن لَا يتَجَاوَز بهَا سبع سِنِين فَإِن تجاوزها فيختار أَن لَا يتَجَاوَز بهَا الْبلُوغ فَإِن تجاوزه سَقَطت عَن غَيره وَهُوَ الْمُخَير فِي العق عَن نَفسه فِي الْكبر وَاحْتج لَهُ الرَّافِعِيّ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ(1/534)
الصَّلَاة وَالسَّلَام عق عَن نَفسه بعد النُّبُوَّة وَاحْتج غَيره بِهِ وَزَاد بعد مَا أنزلت سُورَة الْبَقَرَة وَهَذَا الحَدِيث ضَعِيف من جَمِيع طرقه وَقد نَص الشَّافِعِي رَحمَه الله على أَنه لَا يعق عَن نَفسه قَالَ النَّوَوِيّ وَقد رَأَيْت النَّص فِي الْبُوَيْطِيّ وَاعْلَم أَن الشَّاة هُنَا كالشاة فِي الْأُضْحِية فِي السّنة والسلامة من الْعُيُوب بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا وَهَذَا هُوَ الاصح وَقيل تُجزئ هُنَا دون جَذَعَة ضَأْن وثنية معز بِخِلَاف الْأُضْحِية فَإِنَّهَا أكد لِأَنَّهَا أَعنِي الْأُضْحِية مُتَعَلقَة بِسَبَب راتب وَأمر عَام وَفِي وَجه أَنه يسامح بِالْعَيْبِ أَيْضا
وَالأَصَح أَن الْبَدنَة وَالْبَقَرَة أفضل من الْغنم وَقيل بل الْغنم أفضل أَعنِي شَاتين فِي الْغُلَام وشَاة فِي الْجَارِيَة لظَاهِر السّنة وَيسْتَحب أَن يَقُول عِنْد ذَبحهَا باسم الله اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك عقيقة فلَان وَيسْتَحب ذَبحهَا عِنْد طُلُوع الشَّمْس قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ وَحلق رَأسه يكون قبل الذّبْح وَعَن النَّص وَفِي التَّهْذِيب وَغَيره أَنه بعد وَقُوَّة لفظ الْخَبَر تعطيه قَالَ النَّوَوِيّ فَهُوَ أرجح وَيسْتَحب أَن ينْزع اللَّحْم بِلَا كسر عظم تفاؤلاً بسلامة أَعْضَاء الْمَوْلُود قَالَ ابْن الصّباغ وَلَو كَسره لم يكره فِي أصح الْوَجْهَيْنِ وَيفرق على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين لتعود الْبركَة على الْمَوْلُود وَيسْتَحب أَن لَا يتَصَدَّق بِهِ نيئاً بل مطبوخاً على الْأَصَح وَيسْتَحب طبخه بحلو على الْأَصَح تفاؤلاً بحلاوة أَخْلَاق الْمَوْلُود وَقيل يطْبخ بحامض قَالَ الرَّافِعِيّ فِي مَجْمُوع الصيدلاني مَا نَقله الإِمَام عَنهُ إِذا طبخ فَلَا يتَّخذ عَلَيْهِ دَعْوَة بل الْأَفْضَل أَن يبْعَث بِهِ مطبوخا إِلَى الْفُقَرَاء نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فَلَو دعاهم إِلَيْهِ فَلَا بَأْس وَالله أعلم
(فرع) يسْتَحبّ أَن يحنك الْمَوْلُود بِشَيْء حُلْو لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يحنك أَوْلَاد الْأَنْصَار بِالتَّمْرِ وَيسْتَحب أَن يُؤذن فِي أُذُنه الْيُمْنَى وَيُقِيم فِي الْيُسْرَى وَرُوِيَ ذَلِك عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقد أذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أذن الْحُسَيْن حِين وَلدته فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا وَلَعَلَّه الْحسن وَأذن فِي الْيُمْنَى وَأقَام فِي الْيُسْرَى عمر بن عبد الْعَزِيز فِي أَوْلَاده رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنهُ وَفِي الْبَحْر والابانة وَيسْتَحب أَن يقْرَأ فِي أُذُنه {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم} وَالله أعلم(1/535)
كتاب السَّبق وَالرَّمْي
(وَتَصِح الْمُسَابقَة على الدَّوَابّ والمناضلة بِالسِّهَامِ إِذا كَانَت الْمسَافَة مَعْلُومَة وَصفَة المناضلة مَعْلُومَة)
الْمُسَابقَة تطلق على الْمُسَابقَة بِالْخَيْلِ والسهام إِلَّا أَنَّهَا بِالْخَيْلِ تخْتَص بالرهان وبالسهام تخْتَص بالنضال وَالْأَصْل فِي ذَلِك الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الْآيَة قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي وَفِي السّنة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سَابق بَين الْخَيل الَّتِي أضمرت من الحيفاء وَكَانَ أمدها من ثنية الْوَدَاع وسابق بَين الْخَيل الَّتِي لم تضمر من الثَّنية إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق وَكَانَت نَاقَته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام العضباء لَا تسبق فجَاء أَعْرَابِي على قعُود فسبقها فشق ذَلِك على الْمُسلمين فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن حَقًا على الله أَن لَا يرفع شَيْئا من هَذِه الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه وَأما الرَّمْي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارموا بني إِسْمَاعِيل فَإِن أَبَاكُم كَانَ راميا ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ من تعلم الرَّمْي ثمَّ تَركه(1/536)
فَلَيْسَ منا أَو قد عصى الله وَيجوز شَرط المَال فِي المناضلة والمسابقة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رهان الْخَيل طلق أَي حَلَال وَقيل لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَكُنْتُم تراهنون على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نعم وَلِأَن فِيهِ حثاً على الاستعداد للْجِهَاد وَيجوز على الدَّوَابّ إِذا كَانَت الْمسَافَة مَعْلُومَة لما تقدم من الْخَبَر وَتَكون مَعْلُومَة الِابْتِدَاء والانتهاء وَيُمكن وُصُول الدابتين إِلَيْهَا غَالِبا لِأَنَّهُمَا لَو تسابقا لَا إِلَى غَايَة لم يُؤمن من أَن تعطب الْفرس لِأَن كلا يحرص على المَال وَدفع عَار السَّبق وَلِأَنَّهُ تتعذر الْبَيِّنَة على السَّبق فِي مثل ذَلِك
وَأما المناضلة فَلَا بُد من الْعلم بهَا أَيْضا إِمَّا بالمسافة وَالْعلم بهَا إِمَّا بِالشّرطِ أَو بِأَن تكون هُنَاكَ عَادَة فَلَو ذكر غَايَة لَا تبلغها السِّهَام بَطل العقد أَو بالاصابة كخمسة من عشْرين ولبينا أَيْضا صفة الاصابة من القرع وَهِي الاصابة الْمُجَرَّدَة أَو الْخرق وَهُوَ أَن يثقب الْغَرَض وَلَا يثبت فِيهِ أَو الخسق وَهُوَ أَن يثبت فِي الْغَرَض أَو الخرم وَهُوَ أَن يقطع الْغَرَض أَو المرق وَهُوَ أَن ينفذ من الْغَرَض من الْجَانِب الآخر وَإِذا أطلق العقد حمل على القرع لِأَنَّهُ الْمُتَعَارف وَالله أعلم
(فرع) تناضلا على أَن يكون المَال لأبعدهما رمياً أَو لم يقصدا غَرضا صَحَّ على الْأَصَح لِأَن الابعاد مَقْصُود أَيْضا فِي مُقَابلَة القلاع وَغَيرهَا وَحُصُول الإرعاب وامتحان شدَّة الساعد وَقَالَ امام الْحَرَمَيْنِ وَالَّذِي أرَاهُ على هَذَا أَنه يشْتَرط اسْتِوَاء القوسين فِي الشدَّة ويراعى خفَّة السهْم ورزانته لِأَنَّهُمَا يؤثران فِي الْقرب والبعد تَأْثِيرا عَظِيما وَالله أعلم قَالَ
(وَيخرج الْعِوَض أحد المتسابقين حَتَّى إِذا سبق استرده وَإِن سبق أَخذه صَاحبه فَإِن أَخْرجَاهُ مَعًا لم يجز إِلَّا أَن يدخلا محللاً بَينهمَا إِن سبق أَخذه وَإِن سبق لم يغرم)
المَال الْمخْرج للمسابقة قد يُخرجهُ أحد المتسابقين وَقد يخرجَاهُ مَعًا وَكِلَاهُمَا ذكره الشَّيْخ فَإِن أخرجه أَحدهمَا على أَن من سبق مِنْهُمَا أحرزه جَازَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مر بحزبين من الْأَنْصَار يتناضلون وَقد سبق أَحدهمَا الآخر فأقرهما على ذَلِك وَلِأَن الْمَقْصُود يحصل بذلك مَعَ خلوه عَن الْقمَار لِأَن الْمخْرج حَرِيص على أَن يسْبق لِئَلَّا يغرم وَالْآخر حَرِيص حَتَّى يَأْخُذهُ وَإِن أخرجه المتسابقان على أَن من سبق مِنْهُمَا أَخذ الْجَمِيع لم يجز لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من أَدخل فرسا بَين فرسين وَقد أَمن أَن يسبقهما فَهُوَ قمار وَإِن لم يَأْمَن أَن يسْبق فَلَيْسَ بقمار فَإِذا كَانَ قماراً عِنْد(1/537)
الْأَمْن من سبق فرس الْمُحَلّل فَعِنْدَ عدم الْمُحَلّل أولى وَلِأَن معنى الْقمَار مَوْجُود فِيهِ فَإِن كلا مِنْهُمَا دائر بَين أَن يغنم وَيغرم وَهَذَا هُوَ الْقمَار فَإِذا دخل محللا كفؤ لَهما لَا يخرج شَيْئا فَيجوز للْخَبَر وَلِأَنَّهُ خرج عَن صُورَة الْقمَار قلت إِلَّا أَن عِلّة الْقمَار مَوْجُودَة لِأَن كلا مِنْهُمَا دائر بَين أَن يغنم وَيغرم وَالله أعلم
(فرع) لَو شَرط على السَّابِق أَنه يطعم المَال أَصْحَابه بَطل العقد على الصَّحِيح وَقيل يَصح والاطعام وعد وَقيل يَصح العقد وَلَا عوض وَقيل يَصح العقد وَيجب عوض الْمثل وَالله أعلم
(فرع) تجوز الْمُسَابقَة على الْحمير على الْمَذْهَب وَلَا تجوز الْمُسَابقَة على الْبَقر على الْمَذْهَب وَلَا على مَا لَا يصلح للحرب وَإِن كَانَ من الْخَيل كالجذع وَلَا تجوز على الْكَلْب وَتجوز على الْحمام وَغَيره من الطُّيُور بِلَا عوض وَالأَصَح الْمَنْع بِالْعِوَضِ وَلَا تجوز الْمُسَابقَة باشالة الْحجر بِالْيَدِ على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْأَكْثَرُونَ
وَأما مرامات الْأَحْجَار وَهُوَ أَن يَرْمِي كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْحجرِ إِلَى صَاحبه فباطلة قطعا وَتجوز الْمُسَابقَة على الْأَقْدَام والسباحة فِي المَاء والصراع بِلَا عوض وَالأَصَح الْمَنْع بِالْعِوَضِ وَفِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تسابقت أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسبقته فلبثنا حَتَّى إِذا أرهقني اللَّحْم سابقني فَسَبَقَنِي فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام هَذِه بِتِلْكَ
(فرع) لَا تجوز الْمُسَابقَة على مناطحة الكباش ومهارشة الديكة لَا بعوض وَلَا بِغَيْرِهِ وَكَذَا لَا يجوز عقد الْمُسَابقَة على اللّعب بالشطرنج والخاتم والأكرة وَرمي البندق وَمَعْرِفَة مَا فِي الْيَد من زوج وفرد وَسَائِر أَنْوَاع اللّعب وَالله أعلم قَالَ(1/538)
كتاب الْإِيمَان وَالنُّذُور
بَاب الْيَمين
(لَا تَنْعَقِد الْيَمين إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى أَو باسم من أَسْمَائِهِ أَو صفة من صِفَات ذَاته)
الْيَمين فِي أصل اللُّغَة الْيَد الْيُمْنَى وأطلقت على الْحلف لأَنهم كَانُوا إِذا تحالفوا أَخذ كل بِيَمِين صَاحبه وَقيل لِأَن الْيَمين تحفظ الشَّيْء كَمَا تحفظه الْيَد وَالْيَمِين وَالْحلف وَالْإِيلَاء وَالْقسم أَلْفَاظ مترادفة
وَهِي فِي الشَّرْع تَحْقِيق الْأَمر أَو توكيده بِذكر الله تَعَالَى أَو صفة من صِفَاته كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ هُنَا وَقَالَ بَعضهم تَحْقِيق مَا يحْتَمل الْمُخَالفَة أَو تأكيده وَأَظنهُ ابْن الرّفْعَة وَهُوَ معنى مَا ذكرَاهُ وأوضح من هَذِه الْعبارَة مَا ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي الطَّلَاق أَن الْحلف مَا تعلق بِهِ حنث أَو منع أَو تَحْقِيق خبر
وَالْأَصْل فِي الْأَيْمَان الْآيَات وَالْأَخْبَار قَالَ الله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} وَقَوله تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَغَيرهَا وَمن السّنة أَحَادِيث كَثِيرَة جدا مِنْهَا حلفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله لأغزون قُريْشًا وَقَول ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ كثيرا(1/539)
مَا يحلف فَيَقُول لَا ومقلب الْقُلُوب وَغير ذَلِك من الْأَخْبَار ثمَّ الْيَمين لَا تَنْعَقِد إِلَّا بِمَا ذكره الشَّيْخ وَلَا شكّ أَن الْأَسْمَاء على ثَلَاثَة أَنْوَاع
أَحدهَا مَا يخْتَص بِاللَّه تَعَالَى وَلَا يُطلق فِي حق غَيره كالله وَرب الْعَالمين وَمَالك يَوْم الدّين وخالق الْخلق والحي الَّذِي لَا يَمُوت وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا تَنْعَقِد بِهِ الْيَمين سَوَاء أطلق أم نوى الله تَعَالَى أَو غَيره وَإِذا قَالَ قصدت غَيره لم يقبل ظَاهرا قطعا وَكَذَا لَا يقبل فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى على الصَّحِيح
الثَّانِي مَا يُطلق على الله تَعَالَى وعَلى غَيره إِلَّا أَن الْأَغْلَب اسْتِعْمَاله فِي حق الله تَعَالَى ويقيد فِي حق غَيره بِضَرْب من التَّقْيِيد كالجبار وَالْحق والرب والمتكبر والقادر والقاهر وَنَحْو ذَلِك فَإِذا حلف باسم مِنْهَا وَنوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَو أطلق فيمين فَإِذا نوى غير الله تَعَالَى فَلَيْسَ بِيَمِين
الثَّالِث مَا يُطلق على الله تَعَالَى وعَلى غَيره على السوَاء كالحي وَالْمَوْجُود والغني والكريم وَنَحْو ذَلِك فَإِن نوى غير الله أَو أطلق فَلَيْسَ بِيَمِين وَإِن نوى الله تَعَالَى فَفِيهِ خلاف الْأَصَح فِي الرَّافِعِيّ وَبِه أجَاب الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَابْن الصّباغ وَسَائِر الْعِرَاقِيّين وَالْإِمَام وَالْغَزالِيّ لَا يكون يَمِينا لِأَن الْيَمين إِنَّمَا تَنْعَقِد باسم مُعظم وَهَذِه الْأَسْمَاء الَّتِي تطلق فِي حق الْخَالِق والمخلوق إطلاقاً وَاحِدًا لَيْسَ لَهَا حُرْمَة وَلَا عَظمَة وَقَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح أَنه يَمِين وَبِه قطع الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر وَصَاحب التَّنْبِيه والجرجاني وَغَيرهمَا من الْعِرَاقِيّين لِأَنَّهُ اسْم يُطلق على الله تَعَالَى وعَلى غَيره وَقد نَوَاه وَقَوْلهمْ لَيْسَ لَهُ حُرْمَة مَمْنُوع وَالله أعلم قلت وَبِه قطع الْبَغَوِيّ وَصَاحب التَّقْرِيب وَأَبُو يَعْقُوب ونقلوه عَن شُيُوخ الْأَصْحَاب وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِن كثير اسْتِعْمَاله فِي الله تَعَالَى وَقل فِي غَيره فَيكون يَمِينا ظَاهرا لَا بَاطِنا وَاعْلَم أَن السَّمِيع والبصير والعليم والحكيم من هَذَا النَّوْع على الْأَصَح لَا من الثَّانِي وَالله أعلم قَالَ
(وَمن حلف بِصَدقَة مَاله فَهُوَ مُخَيّر بَين الصَّدَقَة وَالْكَفَّارَة وَلَا شَيْء فِي لَغْو الْيَمين)
هَذِه الْمَسْأَلَة لَهَا شبه بِالْيَمِينِ من حَيْثُ إِن فِيهَا حثاً أَو منعا وَلِهَذَا ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْأَيْمَان وَلها شبه بِالنذرِ من حَيْثُ الِالْتِزَام وَلِهَذَا ذكرهَا فِي الرَّوْضَة فِي بَاب النّذر وللأصحاب فِيهَا فِيمَا يلْزمه خلاف منتشر حَاصله يرجع إِلَى ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا يلْزمه الْوَفَاء بِمَا الْتزم لِأَنَّهُ الْتزم عبَادَة فِي مُقَابلَة شَرط فَيلْزمهُ عِنْد وجود الشَّرْط(1/540)
وَالثَّانِي يلْزمه كَفَّارَة يَمِين لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَفَّارَة النذور كَفَّارَة الْيَمين وَرُوِيَ أَن رجلا قَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ إِنِّي جعلت مَالِي فِي رتاج الْكَعْبَة إِن كلمت أخي فَقَالَ إِن الْكَعْبَة لغنية عَن مَالك كلم أَخَاك وَكفر عَن يَمِينك وَرُوِيَ نَحوه عَن عَائِشَة وَحَفْصَة وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُن وَكَذَا عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُم وَلم يظْهر لَهُم مُخَالف وَهَذَا مَا صَححهُ الرَّافِعِيّ وَقطع بِهِ جمَاعَة لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنى يَمِين
الْوَجْه الثَّالِث أَنه يتَخَيَّر بَين الْوَفَاء بِمَا الْتزم وَبَين أَن يكفر كَفَّارَة يَمِين لِأَنَّهُ يشبه النّذر من حَيْثُ إِنَّه الْتِزَام قربَة وَالْيَمِين من حَيْثُ إِن مَقْصُوده مَقْصُود الْيَمين فَلَا سَبِيل إِلَى الْجمع بَين موجبيهما وَلَا إِلَى تعطيلهما فَوَجَبَ التَّخْيِير وَهَذِه الْمَسْأَلَة يعبر عَنْهَا تَارَة بِنذر اللجاج وَالْغَضَب وَيُقَال لَهَا أَيْضا نذر الغلق وَيَمِين الغلق لِأَنَّهُ يغلق عَنهُ مَا يُرِيد فعله أَو تَركه وَصورتهَا كَأَن يَقُول إِن كلنت فلَانا أَو دخلت دَاره أَو إِن لم أسافر أَو إِن سَافَرت وَنَحْو ذَلِك فَللَّه عَليّ صَوْم شَهْرَيْن أَو صَلَاة أَو اعتاق رَقَبَة أَو أَتصدق بِمَال أَو أحج وَنَحْو ذَلِك ثمَّ يفعل الْمُعَلق عَلَيْهِ وَقيل يلْزمه الْحَج أَو الْعمرَة تَفْرِيعا على قَول التَّخْيِير لِأَن الْحَج أَو الْعمرَة لما كَانَا يلزمان بِالدُّخُولِ فيهمَا لقوتهما دون غَيرهمَا لزما بِالنذرِ وَهُوَ ضَعِيف جدا لِأَن الْعتْق أَيْضا يلْزم اتمامه بالتقويم وَهُوَ لَا يلْزم بِالنذرِ وَالله أعلم
(فرع) إِذا قَالَ شخص إِن فعلت كَذَا فعلي كَفَّارَة يَمِين لَزِمته بِلَا خلاف وَإِن قَالَ فَللَّه عَليّ يَمِين فَالْأَصَحّ أَنه لَغْو فَإِنَّهُ لم يَأْتِ بِنذر وَلَا بِصِيغَة يَمِين وَلَيْسَت الْيَمين مِمَّا يثبت فِي الذِّمَّة وَقيل يلْزمه كَفَّارَة يَمِين وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ وَلَا شَيْء فِي لَغْو الْيَمين صورته فِيمَن سبق لِسَانه إِلَى لفظ الْيَمين بِلَا قصد كَقَوْلِه فِي حَال غَضَبه لَا وَالله بلَى وَالله وَكَذَا فِي حَال عجلته أَو صلَة كَلَامه فَهَذَا لَا ينْعَقد يَمِينه وَلَا تتَعَلَّق بِهِ كَفَّارَة وَاحْتج لَهُ بقوله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ قَول الْإِنْسَان لَا وَالله وبلى وَالله وَفِي رِوَايَة عَنْهَا هُوَ قَول الرجل فِي بَيته كلا وَالله وبلى وَالله وروى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مثل قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَفِي معنى اللجاج وَالْغَضَب مَا لَو كَانَ يحلف على شَيْء فَسبق لِسَانه إِلَى غَيره فَكل هَذَا يُسمى لَغْو الْيَمين فَإِذا حلف وَقَالَ لم أقصد الْيَمين صدق وَفِي الطَّلَاق وَالْعتاق وَالْإِيلَاء لَا يصدق فِي الظَّاهِر قَالَ الإِمَام وَالْفرق أَن الْعَادة جَارِيَة بإجراء لفظ الْيَمين بِلَا قصد بِخِلَاف الطَّلَاق(1/541)
وَالْعتاق فدعواه فيهمَا يُخَالف الظَّاهِر فَلَا يقبل وَلَو اقْترن بِالْيَمِينِ مَا يدل على الْقَصْد لم يقبل قَوْله على خلاف الظَّاهِر وَالله أعلم
قلت قَضِيَّة هَذَا الْفرق أَن يقبل قَول أهل الْبَوَادِي من أجلاف الفلاحين وَمن نحا نحوهم فَإِن الْحلف بِالطَّلَاق عِنْدهم فِي الْكَثْرَة أَكثر من الْحلف بالأيمان وَيَنْبَغِي أَن يفرق بِأَن الْحلف بِالطَّلَاق وَالْعتاق أَمر يتَعَلَّق بالإبضاع وَالْحريَّة فاحتيط فيهمَا بِعَدَمِ الْقبُول لتأكد أَمرهمَا وَالله أعلم
(فرع) إِذا قَالَ شخص إِن فعلت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ أَو بَرِيء من الله أَو من رَسُوله أَو مستحل الْخمر وَنَحْوه لم يكن يَمِينا وَلَا كَفَّارَة فِي الْحِنْث بِهِ ثمَّ إِن قصد بذلك تبعيد نَفسه عَنهُ يَعْنِي عَن هَذَا الْيَمين لم يكفر وَإِن قصد بِهِ الرِّضَا بذلك أَو مَا فِي مَعْنَاهُ إِذا فعله فَهُوَ كَافِر فِي الْحَال وَإِذا لم يكفر فِي الصُّورَة الأولى فَلْيقل لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله ويستغفر الله تَعَالَى وَيسْتَحب لكل من تكلم بقبيح أَن يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَتجب التَّوْبَة من كل كَلَام محرم وَالله أعلم قَالَ
(وَمن حلف أَن لَا يفعل شَيْئا فَأمر غَيره بِفِعْلِهِ لم يَحْنَث وَمن حلف لَا يفعل شَيْئَيْنِ فَفعل أَحدهمَا لم يَحْنَث)
اعْلَم أَن مدَار الْبر أَو الْحِنْث رَاجع إِلَى مُقْتَضى اللَّفْظ الَّذِي تعلّقت بِهِ الْيَمين فَإِذا حلف لَا يضْرب عَبده أَو لَا يَبِيع أَو لَا يَشْتَرِي فَوكل غَيره لم يَحْنَث لِأَن مُقْتَضى اللَّفْظ أَن لَا يُبَاشر ذَلِك بِنَفسِهِ نعم إِن أَرَادَ الْمَعْنى الْمجَازِي بِأَن حلف أَن لَا يَشْتَرِي الشَّيْء الْفُلَانِيّ وَأَرَادَ عدم دُخُوله فِي ملكه فَإِنَّهُ يَحْنَث لِأَنَّهُ غلظ على نَفسه وَيُقَاس بِمَا ذكرته مَا يشابه ذَلِك وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الْحلف بِاللَّه أَو الطَّلَاق وَالله أعلم وَإِذا حلف على شَيْئَيْنِ فَفعل أَحدهمَا لم يَحْنَث لِأَنَّهُ لم يُوجد الْمَحْلُوف عَلَيْهِ كَمَا إِذا حلف لَا يَأْكُل هذَيْن الرغيفين فَأكل أَحدهمَا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث وَيُقَاس بِهَذِهِ الصُّورَة مَا شابهها وَالله أعلم
(فرع) لَو حلف شخص أَن لَا يتَزَوَّج فَوكل شخصا قبل لَهُ نِكَاح امْرَأَة فَهَل يَحْنَث فِيهِ وَجْهَان لَيْسَ فِي الرَّوْضَة والشرحين هُنَا تَصْحِيح وَفِي التَّنْبِيه أَنه لَا يَحْنَث كَالْبيع وَسكت النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي التَّصْحِيح وَالَّذِي فِي الْمُحَرر والمنهاج أَنه يَحْنَث وَهُوَ الصَّحِيح وَقد جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب النِّكَاح فِي بَاب الْأَوْلِيَاء عِنْد تَوْكِيل الْوَكِيل وَالله أعلم قَالَ
وَكَفَّارَة الْيَمين هُوَ مُخَيّر فِيهَا بَين ثَلَاثَة أَشْيَاء عتق رَقَبَة أَو إطْعَام عشرَة مَسَاكِين كل مِسْكين مدا أَو كسوتهن ثوبا ثوبا فَإِن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام)
سميت الْكَفَّارَة كَفَّارَة لِأَنَّهَا تكفر الذَّنب أَي تستره وَلِهَذَا سمي الاكار كَافِرًا أَي الْفَلاح لِأَنَّهُ(1/542)
يستر الْبذر وَمِنْه الْكَافِر لِأَنَّهُ يُغطي نعْمَة الله تَعَالَى لَا يحصي ثَنَاء على الله تَعَالَى هُوَ كَمَا أثنى على نَفسه فَإِذا حلف الشَّخْص وَحنث وَجَبت الْكَفَّارَة لقَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} إِلَى قَوْله {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أَي وحنثتم وَفِي سَبَب وُجُوبهَا خلاف الصَّحِيح أَنه الْيَمين والحنث مَعًا ثمَّ كَفَّارَة الْيَمين أَولهَا تَخْيِير وَآخِرهَا تَرْتِيب فَيتَخَيَّر أَولا بَين الْخِصَال الثَّلَاث الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ لقَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَلَا يجوز أَن يطعم خَمْسَة ويكسو خَمْسَة كَمَا لَا يجوز أَن يعْتق نصف رَقَبَة وَيطْعم خَمْسَة لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا خير بَين ثَلَاثَة أَشْيَاء فَلَو جَوَّزنَا إِخْرَاج جِنْسَيْنِ لأثبتنا تخييراً رَابِعا فَإِن أَرَادَ اعتاق رَقَبَة أعتق رَقَبَة كَمَا فِي الظِّهَار وَالْجَامِع التَّكْفِير وَإِن أَرَادَ الْإِطْعَام أطْعم كل مِسْكين رطلا وَثلثا لِأَنَّهُ سداد الرَّغِيف وكفاية المقتصد وَنِهَايَة الزهيد وَإِن أَرَادَ الْكسْوَة دفع إِلَى كل مِسْكين مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْكسْوَة من قَمِيص وَسَرَاويل ومئزر بِالْهَمْز وَهُوَ الازار الَّذِي يتزر بِهِ الْمحرم وَمثل ذَلِك الْعِمَامَة والجبة والمقنعة والخمار والكساء لِأَن الشَّرْع أطلق الْكسْوَة وَلَا عرف لَهُ فِيهَا وَلَا يجب لكل مِسْكين بدلة اتِّفَاقًا فَاكْتفى بِمَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم وَهُوَ الصَّحِيح وَقيل يَكْفِي ستر الْعَوْرَة وَهل يشْتَرط تمكن الْآخِذ من لبسه حَتَّى لَا يَجْزِي دفع ثوب طِفْل لكبير فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا لَا يشْتَرط كَمَا يجوز أَن يدْفع ثوب الرجل إِلَى الْمَرْأَة وَبِالْعَكْسِ وَلَا يشْتَرط أَن يكون مخيطاً وَالله أعلم
(فرع) أعْطى عشرَة ثوبا طَويلا هَل يَكْفِي قَالَه الْمَاوَرْدِيّ إِن أَعْطَاهُم بعد قطعه أجرأه أَو قبل فَلَا لِأَنَّهُ ثوب وَاحِد وَالله أعلم وَلَا تُجزئ القلنسوة أَي الطاقية على الْأَصَح وَلَا الْغَزل قبل النسج وَلَا الْبسط وَلَا الانطاع وَيجْزِي مَا يلبس من الْجُلُود واللبود وَلَا يجزى الْخُف والمكعب والتبان وَلَا يجزى الثَّوْب الْبَالِي كَمَا لَا يجزى الطَّعَام المسوس وَالْعَبْد الزَّمن وَالله أعلم فَإِن لم يجد المَال الَّذِي يصرفهُ فِي الْكَفَّارَة كفر بِالصَّوْمِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ والمحاملي وَالْمرَاد من يفضل عَن كِفَايَته على الْأَبَد وَقَالَ ابْن الصّباغ والرافعي المُرَاد من لَهُ الْأَخْذ من الزَّكَاة بِصفة الْفقر والمسكنة أَو من الْكَفَّارَة فَلهُ الصَّوْم حَتَّى لَو ملك نِصَابا وَلَا تحصل بِهِ الْكَفَّارَة لَزِمته الزَّكَاة لَهُ الصَّوْم لأَنا لَو أسقطنا الزَّكَاة عَنهُ لخلا النّصاب عَنْهَا وَهنا ينْتَقل إِلَى الْبَدَل وَهُوَ الصَّوْم وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوص وَفِي الْحَاوِي للماوردي لَا يَصُوم من فضلت الْكَفَّارَة عَن كِفَايَة وقته لقدرته على المَال وَإِن حل لَهُ أَخذ الزَّكَاة وَأبْدى الرَّافِعِيّ احْتِمَالا أَن يكون فَاضلا عَن كِفَايَة سنة وَهَذَا الِاحْتِمَال صرح بِهِ الْبَغَوِيّ وَيجوز صَوْم الثَّلَاثَة مُتَفَرِّقَة على الرَّاجِح لاطلاق الْآيَة الْكَرِيمَة وَوجه التَّتَابُع قِرَاءَة(1/543)
ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَات وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ الحانث كَافِرًا لم يكفر بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أَهله وَيكفر بِالْمَالِ وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) حلف شخص لَا يفعل شَيْئا كَأَن حلف لَا يدْخل هَذِه الدَّار فَدَخلَهَا نَاسِيا للْيَمِين أَو جَاهِلا أَنَّهَا الدَّار الْمَحْلُوف عَلَيْهَا هَل يَحْنَث فِيهِ قَولَانِ سَوَاء كَانَ الْحلف بِاللَّه تَعَالَى أَو بِالطَّلَاق أَو غير ذَلِك وَوجه الْحِنْث قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وَهِي عَامَّة فِي جَمِيع الْأَحْوَال وَوجه عدم الْحِنْث وَهُوَ الرَّاجِح قَوْله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} الْآيَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى تجَاوز لي عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَالْيَمِين دَاخِلَة فِي هَذَا الْعُمُوم وَالْجَوَاب عَن قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} إِن فِيهَا إضماراً أَي وحنثتم فَلَا نسلم الْحِنْث وَكَانَ الْمَاوَرْدِيّ والصيمري وَأَبُو الْفَيَّاض لَا يفتون فِي يَمِين النَّاسِي بِشَيْء وَالله أعلم قَالَ
بَاب النّذر فصل النّذر يلْزم فِي المجازاة على الْمُبَاح بِطَاعَة كَقَوْلِه إِن شفى الله مريضي فَللَّه عَليّ أَن أَتصدق أَو أَصوم وَيلْزمهُ من ذَلِك مَا يَقع عَلَيْهِ الإسم
النّذر فِي اللُّغَة الْوَعْد بِخَير أَو شَرّ
وَفِي الشَّرْع الْوَعْد بِالْخَيرِ دون الشَّرّ قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَحده بَعضهم بِأَنَّهُ الْتِزَام قربَة غير لَازِمَة بِأَصْل الشَّرْع وَقيل غَيره ذَلِك
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَهل هُوَ مَكْرُوه أم قربَة فِيهِ خلاف ثمَّ النّذر قِسْمَانِ نذر لجاج وَغَضب وَقد تقدم وَنذر تبرر وَهُوَ نَوْعَانِ(1/544)
أَحدهمَا نذر المجازاة وَهُوَ أَن يلْتَزم قربَة فِي مُقَابلَة حُدُوث نعْمَة أَو اندفاع بلية كَقَوْلِه إِن شفى الله مريضي أَو رَزَقَنِي ولدا وَنَحْو ذَلِك فَللَّه عَليّ اعتاق أَو صَوْم أَو صَلَاة فَإِذا حصل الْمُعَلق عَلَيْهِ لزمَه الْوَفَاء بِمَا الْتزم وَكَذَا لَو قَالَ فعلي وَلم يقل لله على الصَّحِيح وَحجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} وَقَوله تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} وَغير ذَلِك من الْآيَات ونذرت امْرَأَة ركبت الْبَحْر إِن نجاها الله تَعَالَى أَن تَصُوم شهرا فنجت وَلم تصم حَتَّى مَاتَت فَجَاءَت بنتهَا أَو أُخْتهَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمرهَا أَن تَصُوم عَنْهَا الثَّانِي أَن يلْتَزم ابْتِدَاء من غير تَعْلِيق على شَيْء فَيَقُول لله عَليّ أَن أُصَلِّي أَو أَصوم أَو أعتق فَقَوْلَانِ الرَّاجِح اللُّزُوم كالنوع الأول وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَاحْتج لَهُ باطلاق قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَالثَّانِي لَا يَصح وَلَا يلْزمه لعدم الْمُقَابل كَمَا أَن البيوعات لما لم يكن لَهَا عوض لم تلْزمهُ بِالْعقدِ وَلِأَن النّذر عِنْد الْعَرَب وعد بِشَرْط قَالَه ثَعْلَب وَقَول الشَّيْخ على الْمُبَاح احْتَرز بِهِ عَن الْمعْصِيَة وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَاعْلَم أَن السَّبَب الَّذِي تعلق بِهِ النّذر أَي الْمَنْذُور قد يكون مُبَاحا كشفاء الْمَرِيض وَقد يكون طَاعَة كَقَوْلِه إِن صليت أَو حججْت فَللَّه عَليّ كَذَا وَمَعْنَاهُ إِن وفقني الله تَعَالَى للصَّلَاة أَو يسر لي الْحَج فعلي كَذَا وَقد يكون مَعْصِيّة كَقَوْلِه إِن حصلت لي الْمعْصِيَة الْفُلَانِيَّة فَللَّه عَليّ كَذَا وتتمة هَذَا تَأتي وَقَول الشَّيْخ وَيلْزمهُ من ذَلِك مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم أَي من الْمَنْذُور كَمَا إِذا علق بِمُطلق الصَّدَقَة أَو الصَّوْم أَو الاعتاق فَيصح أَن يعْتق رَقَبَة وَإِن كَانَت مُعينَة غير مُؤمنَة على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ لصدق اسْم الرَّقَبَة الصَّدَقَة بِالْقَلِيلِ وَقيل لَا بُد من رَقَبَة كَفَّارَة وَالْخلاف مَبْنِيّ على أَن النّذر يسْلك بِهِ مَسْلَك جَائِز الشَّرْع أَو واجبه وَمن فروع هَذِه الْقَاعِدَة أَنه هَل يجب عَلَيْهِ التبييت فِي الصَّوْم الْمَنْذُور أم يَكْفِي بنية قبل الزَّوَال قَالَ الرَّافِعِيّ إِن قُلْنَا أَن النّذر ينزل على أقل الْوَاجِب وَهُوَ الْأَصَح أَوجَبْنَا التبييت وَإِن قُلْنَا على أقل الْجَائِز فَلَا وَوَافَقَ النَّوَوِيّ الرَّافِعِيّ هُنَا على تَصْحِيح وجوب التبييت وَأَن يسْلك بِهِ مَسْلَك وَاجِب الشَّرْع وَخَالف هَذِه الْقَاعِدَة فِي بَاب الرّجْعَة فَقَالَ من زِيَادَته الْمُخْتَار أَنه لَا يُطلق تَرْجِيح وَاحِد من الْوَجْهَيْنِ بل يخْتَلف الرَّاجِح مِنْهُمَا بِحَسب الْمسَائِل لظُهُور دَلِيل أحد الطَّرفَيْنِ فِي بَعْضهَا أَو عَكسه فِي بعض وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه الصَّوَاب وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا نذر فِي مَعْصِيّة كَقَوْلِه إِن قتلت فلَانا فَللَّه عَليّ كَذَا)(1/545)
وَلَا يَصح نذر الْمعْصِيَة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا نذر فِي مَعْصِيّة وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَقد مثل الشَّيْخ لذَلِك بِمَا ذكره وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يمثل بِغَيْر مَا ذكره بِأَن يَجْعَل الْمُلْتَزم مَعْصِيّة بِنَفسِهِ كنذر شرب الْخمر أَو الزِّنَا أَو الْقَتْل أَو الصَّلَاة فِي حَال الْحَدث أَو نذر أَن يذبح نَفسه أَو وَلَده فَإِذا نذر ذَلِك وَلم يفعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فقد أحسن وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ أَيْضا على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَحكى الرّبيع قولا أَنه تجب الْكَفَّارَة وَاخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيّ لحَدِيث لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته كَفَّارَة يَمِين قَالَ الرَّافِعِيّ قَالَ الْجُمْهُور وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ نذر اللجاج قَالُوا وَرِوَايَة الرّبيع من كيسه قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ ضَعِيف بِاتِّفَاق الْمُحدثين وَإِنَّمَا صَحَّ لَا نذر فِي مَعْصِيّة من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن وَحَدِيث عقبَة كَفَّارَة النّذر كَفَّارَة يَمِين وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يلْزم النّذر على ترك مُبَاح كَقَوْلِه لَا آكل لَحْمًا وَلَا أشْرب لَبَنًا وَمَا أشبهه)
اعْلَم أَن الْمُبَاح الَّذِي لم يرد فِيهِ ترغيب كَالْأَكْلِ وَالنَّوْم وَالْقِيَام وَالْقعُود سَوَاء كَانَ نفيا كَقَوْلِه لَا آكل كَذَا أَو اثباتاً كَقَوْلِه آكل كَذَا أَو ألبس كَذَا فَهَذَا وَمَا أشبهه لَا ينْعَقد نَذره لِأَنَّهُ لَا قربَة فِيهِ وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رآى رجلا قَائِما فِي الشَّمْس فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالَ هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نذر أَن يقوم وَلَا يقْعد وَلَا يستظل وَلَا يتَكَلَّم ويصوم فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مروه فَلْيَتَكَلَّمْ وليقعد وليتم صَوْمه وَلَو خَالف فِي الْمُبَاح وَفعله فَهَل يلْزمه كَفَّارَة يَمِين قَضِيَّة الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَن الْمَذْهَب أَنه لَا يلْزمه وَبِه صرح الرَّافِعِيّ فِي أَوَائِل الْإِيلَاء لَكِن صحّح فِي الْمُحَرر وجوب الْكَفَّارَة وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج وَالله أعلم
(فرع) قَالَ الْقفال من نذر أَن لَا يكلم الْآدَمِيّين يحْتَمل أَن يُقَال إِنَّه يلْزمه لِأَنَّهُ مِمَّا يتَقرَّب بِهِ وَيحْتَمل أَن يُقَال أَنه لَا يلْزم لما فِيهِ من التَّضْيِيق وَالتَّشْدِيد وَلَيْسَ ذَلِك من شرعنا كَمَا لَو نذر الْوُقُوف فِي الشَّمْس كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ وَصَححهُ النَّوَوِيّ أَنه لَا يلْزمه وَحَدِيث أبي إِسْرَائِيل يدل لَهُ أَن(1/546)
امْرَأَة حجت صامتة عَن الْكَلَام فَقَالَ لَهَا الصّديق رَضِي الله عَنهُ تكلمي فَإِن هَذَا لَا يحل وَالله أعلم
(فرع) إِذا نذر زيتاً أَو شمعاً أَو نَحوه ليسرج فِي مَسْجِد أَو غَيره ينظر إِن كَانَ ذَلِك فِي مَكَان بِحَيْثُ قد ينْتَفع بِهِ وَلَو على النذور مثل مصل هُنَاكَ أَو نَائِم أَو غَيرهمَا صَحَّ النّذر وَلزِمَ الْوَفَاء وَإِن كَانَ مغلوقاً وَلَا يتَمَكَّن أحد من الدُّخُول إِلَيْهِ وَلَا الِانْتِفَاع بِهِ لم يَصح وَكَذَا لَو وقف شَيْئا ليَشْتَرِي من غَلَّته زيتاً أَو غَيره ليسرج فِي مَسْجِد أَو غَيره فَحكمه فِي الصِّحَّة مَا ذَكرْنَاهُ فِي النذور وَالله أعلم قَالَ(1/547)
كتاب الْأَقْضِيَة
الْأَقْضِيَة جمع قَضَاء بِالْمدِّ كأغطية جمع الغطاء ككساء وأصل الْقَضَاء إحكام الشَّيْء وفراغه قَالَ الْجَوْهَرِي قضى بِمَعْنى أنهى وَفرغ فَالْقَاضِي يُنْهِي الْأَمر ويفرغ مِنْهُ وَقضى بِمَعْنى أوجب وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ} وَالْقَاضِي يُوجب الحكم وَقضى بِمَعْنى أتم وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} فَالْقَاضِي يتم الْأَمر بِحكمِهِ وَيكون بِمَعْنى أدّى وَبِمَعْنى قدر وَسمي الْقَضَاء حكما 4 لما فِيهِ من منع الظَّالِم مَأْخُوذ من الْحِكْمَة الَّتِي توجب وضع الشَّيْء فِي مَحَله أَو من إحكام الشَّيْء مَأْخُوذ من حِكْمَة اللجام لمنعها الدَّابَّة وَالله أعلم
ثمَّ الأَصْل فِي ذَلِك الْآيَات وَالْأَخْبَار وَالْإِجْمَاع قَالَ الله تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَالَ الله تَعَالَى {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وَغير ذَلِك وَفِي السّنة الشَّرِيفَة أَحَادِيث مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَاحِد وَإِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا جلس القَاضِي فِي مَكَانَهُ هَبَط عَلَيْهِ ملكان يسددانه ويوفقانه ويرشدانه مَا لم يجر فَإِذا جَار عرجا وتركاه وَفِي رِوَايَة مَا لم يرد غَيره أَي غير الْحق فَإِن أَرَادَ غَيره وجار مُتَعَمدا تبرآ مِنْهُ ووكلاه إِلَى نَفسه وَهَذَا كُله فِي القَاضِي الَّذِي هُوَ بِصفة الْقَضَاء وَصفَة الْقَضَاء(1/548)
تَأتي أما من لَيْسَ أَهلا لَهُ كالجهلة والفسقة كقضاة الرشا والبراطيل فهم بِشَهَادَة سيد الْأَوَّلين والآخرين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّار لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْقُضَاة ثَلَاثَة قَاض فِي الْجنَّة وقاضيان فِي النَّار قَاض عرف الْحق فَقضى بِهِ فَهُوَ فِي الْجنَّة وقاض عرف الْحق فَحكم بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّار وقاض قضى على جهل فَهُوَ فِي النَّار وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من كَانَ قَاضِيا فَقضى بِالْجَهْلِ كَانَ من أهل النَّار وَمن كَانَ قَاضِيا فَقضى بالجور كَانَ من أهل النَّار وَمن كَانَ قَاضِيا عَالما فَقضى بِحَق أَو بِعدْل يسْأَل التفلت كفافاً وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة قَالَ الْعلمَاء كل من لَيْسَ بِأَهْل للْحكم فَلَا يحل لَهُ الحكم فَإِن حكم فَهُوَ آثم وَلَا ينفذ حكمه وَسَوَاء وَافق الْحق أم لَا لِأَن إِصَابَة الْحق اتفاقية لَيست صادرة عَن أصل شَرْعِي فَهُوَ عَاص فِي جَمِيع أَحْكَامه سَوَاء وَافق الصَّوَاب أم لَا وَأَحْكَامه مَرْدُودَة كلهَا وَلَا يعْذر فِي شَيْء من ذَلِك كَذَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَالله أعلم قَالَ
بَاب شُرُوط القَاضِي
(وَلَا يجوز أَن يَلِي الْقَضَاء إِلَّا من استكملت فِيهِ خمس عشرَة خصْلَة الاسلام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة وَالْعَدَالَة والذكورة)
من لَا يصلح للْقَضَاء تحرم تَوليته وَيحرم عَلَيْهِ أَن يتَوَلَّى وَيحرم عَلَيْهِ أَن يَطْلُبهُ للْخَبَر الْمُتَقَدّم فَمن الصِّفَات الْمُعْتَبرَة لِلْإِسْلَامِ فَلَا تجوز تَوْلِيَة الْقَضَاء للْكَافِرِ لَا على الْمُسلمين وَلَا على غَيرهم لِأَنَّهُ ولَايَة السَّبِيل وَهُوَ لَيْسَ أهل لذَلِك وانتهر عمر رَضِي الله عَنهُ أَبَا مُوسَى رَضِي الله عَنهُ حِين اسْتعْمل كَاتبا نَصْرَانِيّا ثمَّ قَالَ لَا تدنوهم وَقد أَقْصَاهُم الله وَلَا تُكْرِمُوهُمْ وَقد أَهَانَهُمْ الله وَلَا تَأْمَنُوهُمْ وَقد خَوَّنَهُمْ الله وَقد نَهَيْتُكُمْ عَن إستعمال أهل الْكتاب فَإِنَّهُم يسْتَحلُّونَ الرشا وَمِنْهَا الْبلُوغ وَالْعقل لِأَن الصَّبِي وَالْمَجْنُون إِذا لم يتَعَلَّق بقولهمَا حكم على أَنفسهمَا فعلى غَيرهمَا أولى وَقد ادّعى الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فِي الْمَجْنُون قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يَكْتَفِي بِالْعقلِ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف حَتَّى يكون صَحِيح التَّمْيِيز جيد الفطنة بَعيدا من السَّهْو والغفلة ليتوصل إِلَى وضوح الشكل وَذكر الإِمَام نَحوه وَكَذَا الْغَزالِيّ نعم قَالَ الرَّافِعِيّ يسْتَحبّ كَونه وافر الْعقل متثبتاً ذَا فطنة ويقظة وَمِنْهَا الْحُرِّيَّة لِأَن(1/549)
العَبْد نَاقص عَن ولَايَة نَفسه فَعَن ولَايَة غَيره أولى وبالقياس على الشَّهَادَة وَمن لم تكمل فِيهِ الْحُرِّيَّة كالقن وَمِنْهَا الْعَدَالَة لِأَن الْفسق إِذا منع من النّظر فِي مَال الإبن مَعَ عَظِيم شفقته فَمنع ولَايَة الْقَضَاء الَّتِي بَعْضهَا حفظ مَال الْيَتِيم أولى وَسَوَاء كَانَ فسقه مِمَّا لَا شُبْهَة لَهُ فِيهِ أَو بِمَا فِيهِ شُبْهَة وَفِي وَجه لَا يضر مَاله فِيهِ شُبْهَة وَتَأْويل وَمِنْهَا الذُّكُورَة لقَوْله تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يفلح قوم وَلَو أَمرهم إمرأة وَلِأَن القَاضِي مُحْتَاج إِلَى مُخَاطبَة الرِّجَال وَالْمَرْأَة مأمورة بالتحرز عَن ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَمَعْرِفَة أَحْكَام الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَالِاخْتِلَاف وطرق الِاجْتِهَاد وطرف من لِسَان الْعَرَب)
من صِفَات القَاضِي أَن يكون أَهلا للِاجْتِهَاد فَلَا يجوز تَوْلِيَة الْجَاهِل بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة كالمقلد لقَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُضَاة ثَلَاثَة فالمقلد فِي حكمه مقتف مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم وقاضي الْجَهْل لَا يدْرِي طَرِيقه وَلِأَن لَا يصلح للْفَتْوَى فالقضاء أولى لِأَن الافتاء اخبار غير مُلْزم وَالْقَضَاء إِخْبَار مُلْزم وَإِنَّمَا تحصل أَهْلِيَّة الِاجْتِهَاد بِأُمُور
أَحدهَا أَن يعرف من الْقُرْآن آيَات الْأَحْكَام وَهِي كَمَا قيل خَمْسمِائَة فَيعرف النَّاسِخ والمنسوخ وَالْعَام وَالْخَاص وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص وَعَكسه وَالْمُطلق والمقيد والمحكم والمتشابه والمجمل والمفصل وَلَا يشْتَرط حفظه على ظهر الْقلب قَالَه الرَّوْيَانِيّ قَالَ الرَّافِعِيّ وَمِنْهُم من يُنَازع ظَاهر كَلَامه فِيهِ
الثَّانِي أَن يعرف من السّنة الْأَخْبَار الْمُتَعَلّقَة بِالْأَحْكَامِ وَيعرف مِنْهَا مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْكتاب الْعَزِيز وَيعرف الْمُتَوَاتر والآحاد والمرسل والمسند والمنقطع والمتصل وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل
الثَّالِث أَن يعرف أقاويل عُلَمَاء الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ رَضِي الله عَنْهُم إجمعا واختلافاً لِئَلَّا يحكم بِمَا أَجمعُوا على خِلَافه أَو بقول ثَالِث
الرَّابِع الْقيَاس فَيعرف جليه وخفيه وتمييز الصَّحِيح من الْفَاسِد(1/550)
الْخَامِس أَن يعرف كَلَام الْعَرَب لُغَة وإعراباً وكصيغ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار والوعد والوعيد وَغير ذَلِك مِمَّا لَا بُد مِنْهُ فِي فهم الْكتاب وَالسّنة لِأَن الشَّرْع ورد بِالْعَرَبِيَّةِ وَبهَا يعرف مَا ذَكرْنَاهُ وَيعرف إِطْلَاقه وتقييده وإجماله وَبَيَانه قَالَ الْأَصْحَاب وَلَا يشْتَرط التبحر فِي هَذِه الْعُلُوم بل يَكْفِي معرفَة جمل مِنْهَا قَالَ الْغَزالِيّ واجتماع هَذِه الشُّرُوط مُتَعَذر فِي عصرنا لخلو الْعَصْر عَن الْمُجْتَهد المستقل فَالْوَجْه تَنْفِيذ قَضَاء كل من ولاه سُلْطَان ذُو شَوْكَة وَإِن كَانَ جَاهِلا أَو فَاسِقًا لِئَلَّا تتعطل مصَالح الْمُسلمين قَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا أحسن قَالَ ابْن الصّلاح وَابْن أبي الدَّم لَا نعلم أحدا ذكر مَا ذكره الْغَزالِيّ وَالَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ والمراوزة أَن الْفَاسِق لَا تنفذ أَحْكَامه وَقد ظهر بذلك بطلَان مَا قَالَاه وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يكون سميعا بَصيرًا كَاتبا متيقظاً)
يشْتَرط فِي القَاضِي السّمع وَالْبَصَر فَإِن الْأَصَم لَا يفرق بَين الْإِقْرَار وَالْإِنْكَار وَالْأَعْمَى لَا يعرف الطَّالِب من الْمَطْلُوب وَقيل تصح ولَايَة الْأَعْمَى لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْتخْلف ابْن أم مَكْتُوم على الْمَدِينَة وَكَانَ أعمى وَالْمذهب الْقطع بِالْمَنْعِ وَالْخَبَر قيل بضعفه وَبِتَقْدِير الصِّحَّة مَحْمُول على ولَايَة الصَّلَاة دون الحكم وَفِي معنى الْأَعْمَى من يرى الأشباح وَلَا يعرف الصُّور وَلَا يشْتَرط أَن يعرف الْكِتَابَة على الْأَصَح لِأَن الْمَعْنى الْمَقْصُود من الحكم يعرف بِدُونِهَا وَيشْتَرط أَن يكون متيقظا فَلَا يَصح قَضَاء مُغفل اخْتَلَّ رَأْيه وَنَظره بِمَرَض أَو كبر وَنَحْوهمَا وَيشْتَرط أَيْضا كَونه ناطقاً متكلماً فَإِن الْأَخْرَس لَا يقدر على انفاذ الْأَحْكَام وَالله أعلم قَالَ
بَاب آدَاب الْقَضَاء
(وَيسْتَحب أَن ينزل القَاضِي فِي وسط الْبَلَد وَيجْلس فِي مَوضِع بارز للنَّاس لَا حَاجِب دونه وَلَا يقْعد للْقَضَاء فِي الْمَسْجِد)
اعْلَم أَن للْقَضَاء آداباً مِنْهَا أَن ينزل فِي وسط الْبَلَد لِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّسْوِيَة وَحُصُول الْعدْل وَهَذَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَمِنْهَا أَن يجلس فِي مَوضِع فسيح لِئَلَّا يتَأَذَّى الْحَاضِرُونَ بضيقه وَأَن يكون بارزاً لَيْسَ دونه حجاب ليهتدي إِلَيْهِ المتوطن والغريب ويصل إِلَيْهِ كل أحد وَيسْتَحب أَن يكون خَالِيا من الْحر وَالْبرد وَالْغُبَار وَالدُّخَان فَجَلَسَ فِي الصَّيف حَيْثُ يَلِيق بِهِ وَكَذَا فِي الشتَاء وَكَذَا فِي زمن الرِّيَاح وَمِنْهَا أَن لَا يتَّخذ حاجباً وَلَا بواباً لِأَنَّهُ رُبمَا قدم الْمُتَأَخر وَمنع من لَهُ ظلامة فَلَو اتَّخذهُ كره إِلَّا لحَاجَة قَالَ الْمَاوَرْدِيّ تجب فِيهِ الْعِفَّة وَالْعَدَالَة وَالْأَمَانَة وَينْدب كَونه حسن المنظر جميل الْمخبر عَارِفًا بمقادير النَّاس بَعيدا عَن الْهوى معتدل الْأَخْلَاق بَين الشراسة واللين قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ إِن كثرت الزحمة وَرَأى الْمصلحَة فِي اتِّخَاذه اتِّخَاذه وَإِلَّا فَلَا وَفِي الرَّوْضَة(1/551)
إِذا جلس للْقَضَاء وَلَا زحمة كره أَن يتَّخذ حاجباً على الْأَصَح وَلَا كَرَاهَة فِيهِ فِي أَوْقَات الْخلْوَة على الصَّحِيح وليحذر من الاحتجاب لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من ولاه الله شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين فاحتجب دون حَاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عَنهُ دون حَاجته وَخلته وَفَقره وَمِنْهَا أَن لَا يتَّخذ الْمَسْجِد مَجْلِسا للْقَضَاء فَإِن اتَّخذهُ كره لِأَنَّهُ ينزه عَن رفع الاصوات وَحُضُور الْحيض وَالْكَفَّارَة والمجانين وَغَيرهم وَقد يحْضرُون بِمَجْلِس الْقَضَاء وَقيل لَا يكره الْجُلُوس فِيهِ كَمَا لَا يكره لقِرَاءَة الْقُرْآن وَسَائِر الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والإفتاء وَلَو اتّفقت قَضِيَّة أَو قضايا وَقت حُضُوره فِي الْمَسْجِد لصَلَاة أَو غَيرهَا فَلَا بَأْس بفصلها فِيهِ وَالله أعلم قَالَ
(وَيُسَوِّي بَين الْخَصْمَيْنِ فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء فِي الْمجْلس وَاللَّفْظ واللحظ)
لَا شكّ أَن منصب الحكم مَوْضُوع للعدل وميل القَاضِي عَن ذَلِك جور وظلم فَلهَذَا يُسَوِّي بَين الْخَصْمَيْنِ مَعَ مَا ذكره الشَّيْخ فِي الدُّخُول عَلَيْهِ وَفِي الْقيام لَهما وَكَذَا فِي الْمجْلس فَلَا يقرب أَحدهمَا أَكثر من الآخر بعد أَن يُسَوِّي بَينهمَا فِي جَوَاب السَّلَام فَإِن سلما أجابهما مَعًا وَإِن سلم أَحدهمَا قَالَ الْأَصْحَاب يصبر حَتَّى يسلم الآخر فيجيبهما قَالَ الرَّافِعِيّ وَقد يتَوَقَّف فِي هَذَا عِنْد طول الْفَصْل فَإِنَّهُ يمْنَع انتظامه جَوَابا فَإِذا انتهيا إِلَى الْمجْلس أَجْلِس أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن شِمَاله وَالْأولَى على الْإِطْلَاق أَن يَكُونَا بَين يَدَيْهِ وَفِي حَدِيث ثمَّ ليقبل عَلَيْهِمَا بِمَجَامِع قلبه وَلَا يمازح أَحدهمَا وَلَا يُشِير إِلَيْهِ وَلَا يسارره وَلَا يلق الْمُدَّعِي بِأَن يَقُول ادْع عَلَيْهِ كَذَا وَلَا الْمُدعى عَلَيْهِ الْإِقْرَار أَو الْإِنْكَار
وَكَذَا يُسَوِّي بَينهمَا فِي النّظر إِلَيْهِمَا وَالِاسْتِمَاع لَهما وطلاقة الْوَجْه وَسَائِر وُجُوه الْإِكْرَام فَلَا يخص أَحدهمَا بِشَيْء من ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} الْآيَة ثمَّ هَذِه الْأُمُور التَّسْوِيَة فِيهَا وَاجِبَة على الصَّحِيح وَاقْتصر ابْن الصّباغ على الِاسْتِحْبَاب نعم يرفع الْمُسلم على الْكَافِر فِي الْمجْلس على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَقيل يُسَوِّي بَينهمَا فِيهِ قَالَ الرَّافِعِيّ وَيُشبه أَن يجْرِي الْوَجْهَانِ فِي سَائِر وُجُوه الْإِكْرَام وَمَا بَحثه الرَّافِعِيّ صرح بِهِ الفوراني وَالله أعلم
(فرع) لَا يجوز أَن يجلس الوكل إِلَى جَانب القَاضِي وَيَقُول وَكيلِي جَالس مَعَ الْخصم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز أَن يقبل هَدِيَّة من أهل عمله)(1/552)
لَا شكّ أَن الرِّشْوَة حرَام لِأَنَّهَا من قبيل الْأكل بِالْبَاطِلِ وَقد نهي الله عَنهُ وَهِي صفة الْيَهُود وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لعن الله الراشي والمرتشي فِي الحكم وَفِي لفظ لعنة الله على الراشي والمرتشي وَأما الْهَدِيَّة فَالْأولى سد بَابهَا ثمَّ إِن كَانَ للمهدي خُصُومَة فِي الْحَال حرم قبُول هديته فِي مَحل ولَايَته وَإِن كَانَ لَهُ عَادَة بالهدية لصداقة أَو قرَابَة وَكَذَا لَا يقبل هَدِيَّة من لم تكن لَهُ عَادَة قبل الْولَايَة وَإِن لم تكن لَهُ حُكُومَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدَايَا الْعمَّال غلُول ويروى سحت وَفِي الصَّحِيحَيْنِ بِمَعْنَاهُ وَاللَّفْظ مَا بَال الْعَامِل نبعثه فَيَقُول هَذَا لكم وَهَذَا أهدي لي هلا جلس فِي بَيت أَبِيه وَأمه وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ وَفِي رِوَايَة وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا يَأْتِي بِشَيْء إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة يحملهُ على رقبته إِن كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاء أَو بقرة لَهَا خوار أَو شَاة تَيْعر ثمَّ رفع يَدَيْهِ حَتَّى رَأينَا عفرتي أَلا هَل بلغت ثَلَاثًا وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْعمَّال فَالْقَاضِي أولى وَإِن كَانَ الْمهْدي لَا خُصُومَة لَهُ وَله عَادَة بالهدية وَأهْدى قدر عَادَته وَمثله جَازَ أَن يقبلهَا لخُرُوج ذَلِك عَن سَبَب الْولَايَة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص وَقيل لَا يجوز لإِطْلَاق الْأَخْبَار ولاحتمال حُدُوث محاكمة فَلَو أهْدى أَكثر من الْمُعْتَاد أَو أرفع مِنْهُ مثل إِن كَانَ يهدي المآكل فأهدى الثِّيَاب لم يجز الْقبُول صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَتَبعهُ الْبَغَوِيّ وَغَيره قَالَ الْمَاوَرْدِيّ ونزوله على أهل عمله ضيفاً كقبول هديتهم وَالله أعلم وَلَو كَانَت الْهَدِيَّة فِي غير عمله من غير أهل فَقيل يحرم وَالأَصَح الْمَنْصُوص أَنه لَا يحرم وَلَو أهْدى إِلَيْهِ فِي عمله من هُوَ من غير عمله بإرسال الْهَدِيَّة وللمهدي حُكُومَة حرم وَكَذَا إِن دخل بهَا بِنَفسِهِ وَلَا حُكُومَة لَهُ لِأَنَّهُ صَار من عمله بِالدُّخُولِ وَإِن أرسلها وَلَا حُكُومَة فَفِي جَوَاز الْقبُول وَجْهَان
قلت يَنْبَغِي أَن يكون جَوَاز الْقبُول حَيْثُ جَازَ إِذا كَانَ يَثِق من نَفسه بِعَدَمِ الْميل والجور فَإِن لم يَثِق بذلك من نَفسه فَالْوَجْه التَّحْرِيم لِأَن الْقبُول حِينَئِذٍ سَبَب حَامِل على ترك الْعدْل لَا سِيمَا فِي زَمَاننَا هَذَا الَّذِي قد ظَهرت فِيهِ الرِّشْوَة فضلا عَن الْهَدِيَّة وَاعْلَم أَن الْهَدِيَّة لغير الْحُكَّام كهدايا الرعايا بَعضهم لبَعض إِن كَانَت لطلب محرم أَو إِسْقَاط حق أَو إِعَانَة على ظلم حرم الْقبُول والشفاعة والمتوسط بَين الْمهْدي والآخذ من قَاض وَغَيره وَكَذَا بَين المرتشي والراشي حكمه حكم مُوكله(1/553)
فَإِن وكلاه مَعًا وَكَانَ الْمهْدي أَو الراشي مَعْذُورًا لأجل خلاص حَقه حرم على الْمُتَوَسّط لِأَنَّهُ وَكيل الْآخِذ وَهُوَ محرم عَلَيْهِ وَالله أعلم قَالَ
(ويجتنب الْقَضَاء فِي عشرَة مَوَاضِع عِنْد الْغَضَب وَعند الْجُوع والعطش وَشدَّة السهر والحزن والفرح المفرط وَعند الْمَرَض ومدافعة الأخبثين وَغَلَبَة النعاس وَشدَّة الْحر وَالْبرد)
الأَصْل فِي ذَلِك كُله قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يقْضِي الْحَاكِم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان مَعْلُوم أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يرد الْغَضَب نَفسه بل الِاضْطِرَاب الْحَاصِل لَهُ بِهِ المغير لِلْعَقْلِ والخلق وَهُوَ فِي هَذِه الْأَحْوَال الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ مغير لِلْعَقْلِ وَإِن تفاوتت فَلَا يتوفر الِاجْتِهَاد وَهل الْمَنْع للكراهة الَّذِي صرح بِهِ الرَّافِعِيّ وَجَمَاعَة أَنه يكره وَكَلَام الْمَاوَرْدِيّ يقْضِي أَنه الأولى فَإِن حكم فِي هَذِه الْأَحْوَال نفذ حكمه قَالَ الإِمَام الْبَغَوِيّ وَجَمَاعَة وَالْغَضَب عَن الحكم فِيهِ إِذا كَانَ لغير الله تَعَالَى أما إِذا كَانَ لله تَعَالَى فَلَيْسَ مَنْهِيّا عَنهُ وَاسْتَغْرَبَهُ الرَّوْيَانِيّ وَقَالَ الْمَحْذُور هُوَ عدم توفيره على الِاجْتِهَاد وَلَا يخْتَلف الْحَال فِيهِ بَين الغضبين وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يسْأَل الْمُدعى عَلَيْهِ إِلَّا بعد كَمَال الدَّعْوَى)
إِذا جلس الخصمان بَين يَدي القَاضِي فَلهُ أَن يسكت حَتَّى يتكلما وَله أَن يَقُول ليَتَكَلَّم الْمُدَّعِي مِنْكُمَا وَأَن يَقُول للْمُدَّعِي إِذا عرفه تكلم وخطاب الْأمين الْوَاقِف على رَأسه أولى فَإِذا ادّعى الْمُدَّعِي وَفرغ من دَعْوَاهُ سَأَلَ حِينَئِذٍ القَاضِي الْخصم أَن يُجيب وَيَقُول لَهُ مَا تَقول وَفِي وَجه لَا يُطَالِبهُ بِالْجَوَابِ حَتَّى يسْأَله الْمُدَّعِي كَمَا لَا يُطَالب بِالْمَالِ حَتَّى يسْأَل الْمُدَّعِي وَالصَّحِيح الأول لِأَن بسؤال القَاضِي تنفصل الْخُصُومَة وَيظْهر أثر الدَّعْوَى فَإِذا سَأَلَهُ نظر فِي الْجَواب إِن أقرّ بالمدعي فللمدعي أَن يطْلب من القَاضِي الحكم وَحِينَئِذٍ يحكم بِأَن يَقُول أخرج من حَقه أَو ألزمتك الْخُرُوج من حَقه وَمَا أشبه ذَلِك وَهل يثبت الْحق بِمُجَرَّد الْإِقْرَار أم لَا بُد فِي ثُبُوته من قَضَاء كالبينة وَجْهَان أصَحهمَا يثبت بِمُجَرَّد الْإِقْرَار بِخِلَاف الْبَيِّنَة وَالْفرق أَن دلَالَة الْإِقْرَار على وجوب الْحق جلية وَالْبَيِّنَة تحْتَاج إِلَى نظر واجتهاد وَإِن أنكر الْمُدعى عَلَيْهِ فللقاضي أَن يسكت وَله أَن يَقُول للْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَة هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل لَا يذكر شَيْئا لِأَنَّهُ كالتلقين فعلى الصَّحِيح إِن قَالَ الْمُدَّعِي لي بَيِّنَة حَاضِرَة وأقامها فَلَا كَلَام وَإِن قَالَ لَا أقيمها وَأُرِيد يَمِينه مكن مِنْهُ وَإِن قَالَ لَيْسَ لي بَيِّنَة حَاضِرَة فَحلف الْمُدعى عَلَيْهِ ثمَّ جَاءَ بِبَيِّنَة سَمِعت وَإِن قَالَ لَا بَيِّنَة لي لَا حَاضِرَة وَلَا غَائِبَة(1/554)
سَمِعت أَيْضا على الْأَصَح لِأَن رُبمَا لم يعرف أَو نسى ثمَّ عرف أَو تذكر وَقيل لَا تسمع للمناقضة وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يحلف إِلَّا بعد سُؤال الْمُدَّعِي)
لَا يحلف القَاضِي الْمُدَّعِي عَلَيْهِ إِلَّا بعد أَن يطْلب ذَلِك الْمُدَّعِي لِأَن اسْتِيفَاء الْيَمين حَقه فَيتَوَقَّف على إِذْنه كَالدّين فَإِن خَلفه قبل الطّلب فَلَا يعْتد بهَا على الصَّحِيح فعلى هَذَا يَقُول القَاضِي للْمُدَّعِي حلفه إِن شِئْت وَإِلَّا فاقطع طَلَبك عَنهُ وَلَو حلف الْمُدعى عَلَيْهِ بعد طلب الْمُدَّعِي يَمِينه وَقبل إحلاف القَاضِي لم يعْتد بهَا أَيْضا صرح بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَلَو فوض القَاضِي إِلَى الْحَالِف الْيَمين فاستوفاها على نَفسه فَفِي الِاعْتِدَاد بهَا وَجْهَان وَالله أعلم
(فرع) قَالَ الْمُدَّعِي أَبْرَأتك عَن الْيَمين سقط حَقه فِي هَذِه الدَّعْوَى وَله اسْتِئْنَاف الدَّعْوَى وتحليفه قَالَه فِي التَّهْذِيب والمهذب وَجزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة قَالَ ابْن الرّفْعَة وَيظْهر أَنه مَبْنِيّ على قَول الْعِرَاقِيّين أما على قَول المراوزة فَيظْهر أَن لَا تسوغ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ثَانِيًا وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يلقن خصما حجَّة وَلَا يتعنت بِالشُّهَدَاءِ)
لَيْسَ للْقَاضِي أَن يلقن خصما دَعْوَى وَلَا كَيفَ يَدعِي على الْأَصَح لما فِي ذَلِك من إِظْهَار الْميل وضابطه أَن لَا يلقن أَحدهمَا مَا يضر بِالْآخرِ وَلَا يهديه إِلَيْهِ مثل أَن يقْصد الْإِقْرَار فيلقبه الْإِنْكَار أَو يقْصد النّكُول فيجرؤه على الْيَمين أَو بِالْعَكْسِ وَفِي معنى ذَلِك أَن يتَوَقَّف الشَّاهِد فيجزؤه على الشَّهَادَة أَو بِالْعَكْسِ إِلَّا فِي الْحُدُود الَّتِي تدرأ بِالشُّبُهَاتِ وَقَول الشَّيْخ وَلَا يتعنت بِالشُّهَدَاءِ هَذَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فَقَالَ وَلَا يجوز أَن يتعنت بِالشُّهَدَاءِ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَذَلِكَ من أوجه
الأول أَن يظْهر التكبر عَلَيْهِ والاستهزاء بِهِ وَهُوَ ظَاهر السّتْر وافر الْعقل وَكَذَا ذكره أَبُو الطّيب وَابْن الصّباغ
الثَّانِي أَن يسْأَله من أَيْن علمت هَذَا أَو كَيفَ تحملت أَو لَعَلَّك سَهَوْت
الثَّالِث أَن يتبعهُ فِي أَلْفَاظه ويعارضه لِأَن فِي ذَلِك ميلًا على الْمَشْهُود لَهُ وإفضاء إِلَى ترك الشَّهَادَة وَلَا يجوز أَن يصْرخ على الشَّاهِد وَلَا نهره وَالله أعلم قَالَ
وَلَا تقبل الشَّهَادَة إِلَّا مِمَّن ثبتَتْ عَدَالَته)
الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَة مُعْتَبرَة بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم وصفتها تَأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِذا شهد عِنْد القَاضِي شُهُود فَإِن عرف فسقهم رد شَهَادَتهم وَلم يحْتَج إِلَى بحث وَإِن عرف عدالتهم قبل(1/555)
شَهَادَتهم وَلَا حَاجَة إِلَى التَّعْدِيل وَإِن طلبه الْخصم وَلم يعرف حَالهم لم يجز قبُول شَهَادَتهم وَالْحكم بهَا إِلَّا بعد الاستزكاء وَالتَّعْدِيل سَوَاء طعن الْخصم فيهم أَو سكت لِأَنَّهُ إِذا قبلهم وَسَأَلَ الحكم بِشَهَادَتِهِم لزمَه وَلَا يجوز الحكم إِلَّا بعد الْبَحْث عَن شُرُوط الشَّهَادَة وَلَا يجوز الِاكْتِفَاء بِأَن الظَّاهِر من حَال الْمُسلم الْعَدَالَة كَمَا لَا يجوز بِأَن الظَّاهِر من حَال من فِي دَار الْإِسْلَام الْإِسْلَام اكْتِفَاء بِالدَّار فَلَو أقرّ الْخصم بِعَدَالَتِهِمْ فَهَل يحكم بِلَا بحث وَجْهَان قيل نعم لِأَن الْبَحْث حَقه وَقد اعْترف بِعَدَالَتِهِمْ وَالصَّحِيح لَا بُد من الْبَحْث وَالتَّعْدِيل من أجل حق الله تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يجوز الحكم بِشَهَادَة فسق وَإِن رَضِي الْخصم وَلِأَن الحكم بِشَهَادَتِهِ يتَضَمَّن تعديله وَالتَّعْدِيل لَا يثبت بقول وَاحِد وَيَكْفِي فِي التَّعْدِيل أَن يَقُول هُوَ عدل لِأَنَّهُ أثبت الْعَدَالَة الَّتِي اقتضاها ظَاهر إِطْلَاق الْآيَة الْكَرِيمَة فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب حَرْمَلَة وَنَصّ فِي مَوضِع آخر مِنْهُ أَنه سَيَقُولُ عدل رَضِي واشترطه بعض الْأَصْحَاب وَقيل لَا بُد أَن يَقُول هُوَ عدل عَليّ ولي قَالَ الإِمَام وَهُوَ أبلغ عِبَارَات التَّزْكِيَة وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْأُم والمختصرلأن قَوْله عدل لَا يثبت الْعَدَالَة على الْإِطْلَاق لجَوَاز أَن يكون عدلا فِي شَيْء دون شَيْء فبهذه الزِّيَادَة يَزُول الِاحْتِمَال كَذَا علله أَبُو إِسْحَاق وَعلله غَيره بِأَن الْعدْل قد يكون مِمَّن لَا تقبل شَهَادَته لَهُ بِأَن يكون أَبَاهُ أَو ابْنه أَو لَا تقبل عَلَيْهِ لعداوة فَإِذا قَالَ عَليّ ولي زَالَ الِاحْتِمَال فَإِن علم أَنه لَا نسب بَينهمَا وَلَا عَدَاوَة لزم ذَلِك على التَّعْلِيل الأول دون الثَّانِي قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تقبل شَهَادَة عَدو على عدوه وَلَا شَهَادَة وَالِد لوَلَده وَلَا ولد لوالده)
يشْتَرط فِي الشَّاهِد عدم التُّهْمَة وَلها أَسبَاب مِنْهَا البعضية الَّتِي تشْتَمل على الْأُصُول وَالْفُرُوع وَمِنْهَا الْعَدَاوَة فَلَا تقبل شَهَادَة الْعَدو على عدوه إِذا كَانَت لأمر دُنْيَوِيّ لقَوْله تَعَالَى {وَأدنى أَلا ترتابوا} والعداوة أقوى من الريب وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا مجلود حدا وَلَا ذِي غمر وَلَا جنَّة وَلَا ظنين فِي قرَابَة والغمر بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة الشحناء وَقيل الْعَدَاوَة فَإِن قيل بِمَ تعرف الْعَدَاوَة فَالْجَوَاب قَالَ القَاضِي حُسَيْن الْعَدو هُنَا من يظْهر من أَقْوَاله وأفعاله(1/556)
مَا يظنّ بِهِ الْعَدَاوَة بِحَيْثُ يشمت بمصائبه ويحزن بمساره ويتمنى لَهُ كل شَرّ وَكَلَام الرَّافِعِيّ قريب مِنْهُ وعد الْمَاوَرْدِيّ من أَسبَاب الْعَدَاوَة الْقَذْف وَالْغَصْب وَالسَّرِقَة وَالْقَتْل وَقطع الطَّرِيق فَلَا تقبل شَهَادَة الْمَغْصُوب مِنْهُ على الْغَاصِب وَلَا الْمَسْرُوق مِنْهُ على السَّارِق وَلَا ولي الْمَقْتُول على الْقَاتِل وَكَذَا الْمَقْذُوف على الْقَاذِف وَمَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَالله أعلم
وَلَا تقبل شَهَادَة الْوَالِد لوَلَده وَإِن سفل وَلَا شَهَادَة الْوَلَد لوالده وَإِن علا لقَوْله تَعَالَى {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} والريبة هُنَا حَاصِلَة لشدَّة الْميل والمحبة وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاطِمَة بضعَة مني أَي قِطْعَة وَإِذا كَانَ الْوَلَد جُزْءا أشبهت الشَّهَادَة لَهُ شَهَادَة الشَّخْص لنَفسِهِ وَقد جَاءَ زِيَادَة من تَتِمَّة الحَدِيث وَلَا شَهَادَة الْوَلَد لوالده وَلَا الْوَالِد لوَلَده وَتكلم الْعلمَاء فِي هَذِه الزِّيَادَة فَإِن صحت وَإِلَّا فَفِي قَوْله وَلَا ظنين فِي قرَابَة دَلِيل عَلَيْهِ وَفِي الْقَدِيم أَنَّهَا تقبل وَبِه قَالَ الْمُزنِيّ وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر وَاحْتَجُّوا بِأَن الشَّخْص لَا يكون صَادِقا فِي شَيْء دون شَيْء وَالْمذهب الْمَعْرُوف الأول وَمَا ذَكرُوهُ بَاطِل يمْنَع شَهَادَته لنَفسِهِ وَيُؤْخَذ من قَول الشَّيْخ أَنه يقبل شَهَادَة بَعضهم على بعض وَهُوَ كَذَلِك وَفِي مقَالَة لَا تقبل شَهَادَة الْوَلَد على وَالِده مِمَّا يَقْتَضِي قصاصا أَو حد قذف لِأَنَّهُ لما لم يقتل بقتْله وَلَا يحد بقذفه لم يحد وَلم يقتل بقوله وَالْأول هُوَ الصَّحِيح وَالله أعلم
(فرع) شهد الابْن على أَبِيه أَنه طلق ضرَّة أمه فَهَل يقبل قَولَانِ قيل لَا لِأَنَّهُ مُتَّهم يجر إِلَى أمه نفعا لانفرادها بِهِ فَهِيَ شَهَادَة لأمه وَالأَصَح الْقبُول لِأَنَّهَا شَهَادَة على أَبِيه لغير أمه وَلَو شَهدا على أَبِيهِمَا أَنه قذف أمهما لم تسمع لِأَنَّهَا شَهَادَة للْأُم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يقبل كتاب قَاض فِي الْأَحْكَام إِلَّا بعد شَهَادَة شَاهِدين يَشْهَدَانِ بِمَا فِيهِ)
اعْلَم أَنه يجوز الدَّعْوَى على الْمَيِّت الَّذِي لَا وَارِث لَهُ معِين وعَلى الصَّبِي الَّذِي لَا نَائِب لَهُ بالِاتِّفَاقِ منا وَمن أبي حنيفَة رَحمَه الله وَكَذَا يجوز الدَّعْوَى على الْغَائِب الَّذِي لَا وَكيل لَهُ على الْمَشْهُور الْمَقْطُوع بِهِ وَاحْتج بقوله تَعَالَى {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وَمَا شهِدت بِهِ الْبَيِّنَة حق فَوَجَبَ الحكم وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لزوجة أبي سُفْيَان خذي مَا يَكْفِيك فَإِنَّهُ قَضَاء(1/557)
على غَائِب وَقَامَ علمه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَنَّهَا زَوجته مقَام الْبَيِّنَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خذي دَلِيل على أَنه لَيْسَ بفتوى إِلَّا لقَالَ لَا بَأْس بِهِ وَنَحْوه وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي قَضِيَّة الأسيفع من كَانَ لَهُ دين فليأتنا غَدا فَإنَّا بَايعُوا مَاله وقاسموه بَين غُرَمَائه وَكَانَ غَائِبا وَفِي آخر الْأَثر وَإِيَّاكُم وَالدّين فَإِن أَوله هم وَآخره حَرْب وَلِأَن فِي الِامْتِنَاع على الْغَائِب إِضَاعَة الْحُقُوق إِذْ لَا يعجز الْمُمْتَنع من الْوَفَاء عَن الْغَيْبَة وَألْحق القَاضِي حُسَيْن بالغيبة مَا إِذا حضر الْمجْلس فهرب قبل أَن يسمع الْحَاكِم الْبَيِّنَة أَو بعده وَقبل الحكم فَإِنَّهُ يحكم عَلَيْهِ قطعا فَإِذا حكم حَاكم على غَائِب بِشَهَادَة شَاهِدين أَو بِإِقْرَارِهِ أَو بِنُكُولِهِ وَيَمِين الْمُدَّعِي والمحكوم بِهِ حق فِي ذمَّته أَو قصاص إِن جَوَّزنَا الْقَضَاء على الْغَائِب بِهِ كَمَا هُوَ الصَّحِيح أَو عقار فِي يَده فَسَأَلَ الْمُدَّعِي أَن يكْتب إِلَى قَاض الْبَلَد الَّذِي فِيهِ الْخصم لتعذر اجْتِمَاعهمَا أَو خشيَة التَّأْخِير أَو غير ذَلِك كتب إِلَيْهِ بِمَا حكم بِهِ وَهَذَا لَا نزاع فِيهِ لِأَن حكمه لزم فَلَزِمَ كل وَاحِد تنفيذه بِخِلَاف مَا لَو ثَبت عِنْده وَلم يحكم حَيْثُ يفصل بَين قرب الْمسَافَة وَبعدهَا لِأَن مَعَ الْقرب يسهل إِحْضَار الشُّهُود ثمَّ للإنهاء طَرِيقَانِ
أَحدهمَا أَن يشْهد على حكمه عَدْلَيْنِ يخرجَانِ إِلَى ذَلِك الْبَلَد وَالْأولَى أَن يكْتب بذلك كتابا أَولا ثمَّ يشْهد
وَصُورَة الْكتاب حضر فلَان وَادّعى على فلَان الْغَائِب الْمُقِيم بِبَلَد كَذَا وَأقَام عَلَيْهِ شَاهِدين وهما فلَان وَفُلَان وعدلا عِنْدِي وَحلف الْمُدَّعِي وحكمت لَهُ بِالْمَالِ فَسَأَلَنِي أَن أكتب إِلَيْك كتابا فِي ذَلِك فأجبته وأشهدت بذلك فلَانا وَفُلَانًا وَيجوز أَن يقْتَصر على حكمت بِكَذَا لحجة أوجبت الحكم لِأَنَّهُ قد يحكم بِشَاهِد وَيَمِين أَو بِعِلْمِهِ إِن جوزناه وَهَذِه حِيلَة يدْفع بهَا القَاضِي قدح الْحَنَفِيَّة إِذا حكم بِشَاهِد وَيَمِين فَإِذا كتب فَيَنْبَغِي أَن يقْرَأ الْكتاب أَو يقْرَأ بَين يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا ثمَّ يَقُول لَهما اشهدا عَليّ بِمَا فِيهِ أَو على حكمي الْمُبين فِيهِ وَفِي الشَّامِل لِابْنِ الصّباغ أَنه لَو اقْتصر بعد الْقِرَاءَة على قَوْله هَذَا كتابي إِلَى فلَان أَجْزَأَ وَفِي وَجه يَكْفِي مُجَرّد الْقِرَاءَة عَلَيْهِمَا وَلَو لم يقْرَأ الْكتاب عَلَيْهِم وَلم يعلمَا بِمَا فِيهِ وَقَالَ القَاضِي أشهدكما على أَن هَذَا كتابي وَمَا فِيهِ خطي لم يكف وَلم يكن لَهما أَن يشهدَا على حكمه لِأَن الشَّيْء قد يكْتب بِلَا قصد تَحْقِيق وَلَو قَالَ أشهدكما على أَن مَا فِيهِ حكمي أَو على أَنِّي قضيت بمضمونه لم يكف على الصَّحِيح حَتَّى يفصل مَا حكم بِهِ
وَاعْلَم أَن التعويل على الشُّهُود وَالْمَقْصُود من الْكتاب التَّذْكِرَة وَلِهَذَا لَو ضَاعَ الْكتاب أَو انمحى وشهدا بمضمونه المضبوط عِنْدهمَا قبلت شَهَادَتهمَا وَقضى بهَا وَيشْتَرط إِشْهَاد رجلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَلَا يقبل رجل وَامْرَأَتَانِ وَقيل يقبل إِن تعلّقت بِمَال وَالصَّحِيح الأول وَالله أعلم قَالَ(1/558)
بَاب الْقِسْمَة فصل ويفتقر الْقَاسِم إِلَى سَبْعَة شَرَائِط الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَالْعَدَالَة والحساب فَإِن تراضى الشريكان بِمن يقسم بَينهمَا لم يفْتَقر إِلَى ذَلِك
الأَصْل فِي الْقِسْمَة الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم الحَدِيث وَقسم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْغَنَائِم وَكَذَا الْخُلَفَاء الراشدون رَضِي الله عَنْهُم من بعده ثمَّ الْقِسْمَة تَارَة يتولاها الشُّرَكَاء بِأَنْفسِهِم وَتارَة يتولاها مَنْصُوب القَاضِي فَإِن تولاها مَنْصُوب القَاضِي فَيشْتَرط فِيهِ الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَالْعَدَالَة لِأَنَّهَا ولَايَة وَمن لم يَتَّصِف بذلك فَلَيْسَ أَهلا للولاية وَيشْتَرط أَيْضا أَن يكون عَالما بِالْقِسْمَةِ يَعْنِي بِالْحِسَابِ والمساحة لِأَنَّهُمَا آلَة الْقِسْمَة وَاعْتبر الْمَاوَرْدِيّ وَالْبَغوِيّ مَعَ ذَلِك أَن يكون نزهاً قَلِيل الطمع وَهل يشْتَرط أَن يكون عَالما بالقيم لاحتياجه إِلَى ذَلِك أم يسْتَحبّ وَجْهَان وَلَو نصب الشُّرَكَاء من يقسم بَينهم فَإِن جَعَلُوهُ وَكيلا فَلَا يشْتَرط ذَلِك بل يجوز أَن يكون عيدا أَو فَاسِقًا صرح بِهِ جمَاعَة قَالَ الرَّافِعِيّ كَذَا أَطْلقُوهُ وَيَنْبَغِي أَن يكون فِي العَبْد الْخلاف فِي تَوْكِيله فِي البيع وَإِن نَصبه الشُّرَكَاء حكما فقد أطلق الْبَنْدَنِيجِيّ وَأَبُو الطّيب وَغَيرهمَا أَنه يعْتَبر فِيهِ صِفَات قَاسم الْحَاكِم قَالَ ابْن الصّباغ بعد ذكره ذَلِك يَنْبَغِي إِذا قُلْنَا بِاعْتِبَار الرِّضَا بعد الْقرعَة أَنه لَا يشْتَرط عَدَالَته وحريته وَقَالَ ابْن الرّفْعَة بل يَنْبَغِي اشتراطهما وَإِن اعْتبرنَا الرِّضَا بعد الْقرعَة لِأَن الْقَائِل بِهِ يَجْعَل تَمام التَّحْكِيم مَوْقُوفا على هَذَا الرِّضَا فَهِيَ حِينَئِذٍ بعد الرِّضَا قسْمَة من حَاكم فاشترطت فِيهِ صِفَات الْحَاكِم كَمَا اشترطناها فِي التَّحْكِيم فِي الْأَمْوَال وَإِن لم يلْزم حكمه فِيهَا إِلَّا بِالرِّضَا بعده عِنْد هَذَا الْقَائِل وَهَذَا كُله إِذا لم يكن فِي الْقِسْمَة تَقْوِيم فَإِن كَانَ فَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا كَانَ فِيهَا تَقْوِيم لم يقْتَصر فِيهَا على أقل من اثْنَيْنِ)
اعْلَم أَن الْأَمْلَاك الْمُشْتَركَة قسمتهَا على نَوْعَيْنِ عِنْد الْعِرَاقِيّين قسْمَة فِيهَا رد وَقِسْمَة لَا رد فِيهَا وَعند المراوزة على ثَلَاثَة أَنْوَاع قسْمَة فِيهَا رد وَقِسْمَة تَعْدِيل وَقِسْمَة إِفْرَاز فقسمة الْإِفْرَاز(1/559)
تسمى قسْمَة المتشابهات وَإِنَّمَا تجْرِي فِي الْحُبُوب وَالدَّرَاهِم والأدهان وَسَائِر الْمِثْلِيَّات وَكَذَا تجْرِي فِي الدَّار المتفقة الْأَبْنِيَة وَالْأَرْض المتشابهة الْأَجْزَاء وَمَا فِي مَعْنَاهَا فتعديل الانصباء فِي الْمكيل بِالْكَيْلِ وَفِي الْمَوْزُون بِالْوَزْنِ وَالْأَرْض المتساوية تجزأ أَجزَاء مُتَسَاوِيَة بِعَدَد الْأَنْصِبَاء إِن تَسَاوَت بِأَن كَانَت لثَلَاثَة أَثلَاثًا فَيجْعَل ثَلَاثَة أَجزَاء مُتَسَاوِيَة ثمَّ يُؤْخَذ ثَلَاث رقاع مُتَسَاوِيَة وَيكْتب على كل رقْعَة اسْم شريك أَو جُزْء من الْأَجْزَاء ويميز بَعْضهَا عَن بعض بِحَدّ أَو جِهَة أَو غَيرهمَا وتدرج فِي بَنَادِق مُتَسَاوِيَة وزنا وشكلاً من طين أَو شمع وَنَحْوهمَا وَتجْعَل فِي حجر رجل لم يحضر الْكِتَابَة والإدراج فَإِن كَانَ صَبيا أَو أعجمياً كَانَ أولى ثمَّ يُؤمر بِإِخْرَاج رقْعَة أُخْرَى على الْجُزْء الأول من كتب اسماء الشُّرَكَاء فَمن خرج اسْمه أَخذه ثمَّ يُؤمر بإخراخ رقعه أُخْرَى على الجزىء الَّذِي يَلِي الأول فَمن خرج اسْمه أَخذه وَتعين الْبَاقِي للثَّالِث وكما تجوز الْقِسْمَة بالرقاع المدرجة تجوز بالعصى والحصا وَنَحْوهمَا وَإِذا طلب أحد الشُّرَكَاء فِي هَذِه الْقِسْمَة فَامْتنعَ أجبر الْمُمْتَنع على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا ضَرَر ويتخلص من سوء الْمُشَاركَة وَتسَمى هَذِه قسْمَة إِجْبَار كَمَا تسمى قسْمَة إِفْرَاز
النَّوْع الثَّانِي قسْمَة التَّعْدِيل والمشترك الَّذِي تعدل سهامه تَارَة يكون شَيْئا وَاحِدًا وَتارَة يكون شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا فَإِن كَانَ شَيْئا وَاحِدًا كالأرض تخْتَلف أجزاؤها لاختلافها فِي قُوَّة النَّبَات والقرب من المَاء وَنَحْو ذَلِك فَيكون ثلثهَا لجودته كثلثيها بِالْقيمَةِ مثلا فَيجْعَل هَذَا سَهْما وَهَذَانِ سَهْما إِن كَانَت بَينهمَا نِصْفَيْنِ وَإِن كَانَت شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا فَإِن كَانَت عقارا كدارين أَو حانوتين متساويي الْقيمَة فَطلب أَحدهمَا الْقِسْمَة بِأَن يَجْعَل لهَذَا دَارا وَلِهَذَا دَارا لم يجْبر الْمُمْتَنع سَوَاء تجاور الحانوتان أَو الداران أم لَا لاخْتِلَاف الْأَغْرَاض باخْتلَاف الْمحَال والأبنية فَلَو كَانَت دكاكين صغَارًا متلاصقة لَا يحْتَمل آحادها الْقِسْمَة وَيُقَال لَهَا العضائد فَطلب أَحدهمَا الْقِسْمَة أعياناً فَهَل يجْبر الْمُمْتَنع وَجْهَان
أَحدهمَا لَا كالمتفرقة وكالدور وأصحهما نعم يجْبر للْحَاجة وَكَذَا حكم الخان الْمُشْتَمل على بيُوت ومساكن وَلَو كَانَت دَار بَين اثْنَيْنِ لَهَا علو وسفل فَطلب أَحدهمَا قسمتهَا علوا أَو سفلاً أجبر الآخر عِنْد الْإِمْكَان وَإِن طلب أَحدهمَا أَن يَجْعَل الْعُلُوّ لوَاحِد والسفل لآخر لَا يجْبر كَذَا أطلقهُ الْأَصْحَاب وَإِن كَانَ غير عقار كَأَن اشْتَركَا فِي دَوَاب أَو أَشجَار أَو ثِيَاب وَنَحْوهَا فَإِن كَانَت من نوع وَاحِد وَأمكن التَّسْوِيَة بَين الشَّرِيكَيْنِ عددا فَالْمَذْهَب أَنه يجْبر على قسمتهَا أعياناً لقلَّة اخْتِلَاف الْأَغْرَاض فِيهَا بِخِلَاف الدّور وَإِن لم تمكن التَّسْوِيَة كثلاثة أعبد بَين اثْنَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ إِلَّا أَن أحدهم يُسَاوِي الآخرين فِي الْقيمَة فَإِن قُلْنَا بالإجبار عِنْد اسْتِوَاء الْقيمَة وَهُوَ الْمَذْهَب فَهُنَا قَولَانِ كالأرض الْمُخْتَلفَة الْأَجْزَاء وَإِن كَانَت الشّركَة لَا ترْتَفع إِلَّا عَن بعض الْأَعْيَان كعبدين بَين اثْنَيْنِ قيمَة أَحدهمَا مائَة وَقِيمَة الآخر مِائَتَان فَطلب أَحدهمَا الْقِسْمَة ليختص من خرجت لَهُ الْقِسْمَة بالخسيس وَيكون لَهُ فِي النفيس ربعه فَفِيهِ خلاف والأرجح لَا إِجْبَار هُنَا لِأَن الشّركَة لَا ترْتَفع بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن كَانَت(1/560)
الْأَعْيَان أجناساً كدواب وَثيَاب وحنطة وشعير وَنَحْو ذَلِك أَو أنواعاً كجمل بخْتِي وعربي وضأن ومعز وثوبين كتَّان وقطن وَنَحْو ذَلِك فَطلب أَحدهمَا أَن يقسم أجناساً أَو أنواعاً لم يجْبر الآخر وَإِنَّمَا يقسم بِالتَّرَاضِي وَكَذَا لَو اخْتلطت الْأَنْوَاع وَتعذر التَّمْيِيز كتمر جيد ورديء فَلَا قسْمَة إِلَّا بِالتَّرَاضِي على مَا قطع بِهِ الْجُمْهُور وَهُوَ الْمَذْهَب
النَّوْع الثَّالِث قسْمَة الرَّد وَصورتهَا أَن يكون فِي أحد جَانِبي الأَرْض بِئْر أَو شجر أَو فِي الدَّار بَيت لَا يُمكن قسمته فتضبط قيمَة مَا اخْتصَّ ذَلِك الْجَانِب بِهِ وتقسم الأَرْض وَالدَّار على أَن يرد من يَأْخُذ ذَلِك الْجَانِب تِلْكَ الْقيمَة وَهَذِه لَا إِجْبَار عَلَيْهَا بِلَا خلاف لِأَنَّهُ دخل فِي ذَلِك مَا لَا شركَة فِيهِ وَكَذَا لَو كَانَ بَينهمَا عَبْدَانِ وَنَحْوهمَا بِالسَّوِيَّةِ وَقِيمَة أَحدهمَا ألف وَقِيمَة الآخر سِتّمائَة واقتسما على أَن يرد أحد النفيس مِائَتَيْنِ ليستويا هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الْمَشْهُور نعم لَو تَرَاضيا بقسمة الرَّد جَازَ وَبِالْجُمْلَةِ فالراجح أَن قسْمَة الرَّد وَالتَّعْدِيل بيع وَقِسْمَة الْأَجْزَاء إِفْرَاز على الرَّاجِح وَيشْتَرط الرَّد فِي الرِّضَا بعد خُرُوج الْقرعَة وَكَذَا لَو تَرَاضيا بقسمة مَا لَا إِجْبَار فِيهِ اشْترط الرِّضَا بعد الْقرعَة على الرَّاجِح كقولهما رَضِينَا بِهَذِهِ الْقِسْمَة أَو بِمَا أخرجته الْقرعَة إِذا عرفت هَذَا فَإِن لم يكن فِي الْقِسْمَة تَقْوِيم وَقد أَمر الْحَاكِم بهَا جبرا جَازَ قَاسم وَاحِد لِأَن قسمته تلْزم بِنَفس قَوْله فَأشبه الْحَاكِم وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَبِه قطع جمَاعَة وَإِن كَانَ فِي الْقِسْمَة تَقْوِيم لم يكف إِلَّا قاسمان لِأَن التَّقْوِيم لَا يثبت إِلَّا بِاثْنَيْنِ كَذَا حَكَاهُ الرَّافِعِيّ والبندنيجي وَالْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَالْبَغوِيّ وَصَاحب الْكَافِي وتبعهم النَّوَوِيّ قَالَ ابْن الرّفْعَة وَقَضيته أَن الْحَاكِم لَو فوض لوَاحِد سَماع الْبَيِّنَة بالتقويم وَأَن يحكم بِهِ لَا يَكْفِي وَقد قَالَ الإِمَام إِن ذَلِك سَائِغ وَعبارَة الرَّوْضَة إِن كَانَ تَقْوِيم اشْترط اثْنَان وَللْإِمَام أَن ينصب قاسماً يَجعله حَاكما فِي التَّقْوِيم ويعتمد فِي التَّقْوِيم على عَدْلَيْنِ وَقَالَ ابْن الرّفْعَة إِن تعلّقت بصبي أَو مَجْنُون اشْترط اثْنَان وَإِلَّا فَلَا وَقَضِيَّة كَلَام ابْن الرّفْعَة أَن ذَلِك يجْرِي فِيمَا لَا تَقْوِيم فِيهِ وَاعْلَم أَنه لَو فوض الشُّرَكَاء الْقِسْمَة إِلَى وَاحِد بِالتَّرَاضِي جَازَ بِلَا خلاف قَالَه الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا دعِي أحد الشَّرِيكَيْنِ إِلَى قسْمَة مَالا ضَرَر فِيهِ لزم الآخر إجَابَته)
الْأَعْيَان الْمُشْتَركَة إِذا طلب أحد الشَّرِيكَيْنِ أَو الشُّرَكَاء قسمتهَا وَامْتنع الآخر ينظر إِن كَانَ لَا ضَرَر فِي الْقِسْمَة أجبر الْمُمْتَنع وَذَلِكَ كالثياب الغليظة الَّتِي لَا تنقص بقطعها والأراضي والدور والحبوب وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ لَا ضَرَر وَإِن كَانَ عَلَيْهَا ضَرَر كالجواهر وَالثيَاب النفيسة الَّتِي تنقص بقطعها أَو الرَّحَى أَو الْبِئْر أَو الْحمام الصَّغِير لم يجْبر الْمُمْتَنع لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ضَرَر وَلَا ضرار(1/561)
ولنهيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن إِضَاعَة المَال فَلَو طلبوها من الْحَاكِم وَكَانَت الْمَنْفَعَة تبطل بِالْكُلِّيَّةِ لم يجبهم ويمنعهم أَن يقتسموا بِأَنْفسِهِم لِأَنَّهُ سفه وَإِن نقصت كَيفَ يكسر لم يجبهم على الْأَصَح لَكِن لَا يمنعهُم أَن يقتسموا بِأَنْفسِهِم وَإِن كَانَ على أَحدهمَا ضَرَر دون الآخر مثل أَن يكون لأَحَدهمَا عشر الأَرْض وَالْآخر تِسْعَة أعشار وَإِذا قسمت أمكن صَاحب الاعشار الِانْتِفَاع 2 بهَا دون الآخر فَإِن طلب صَاحب الْعشْر لم يجْبر الآخر على الْأَصَح وَإِن طلبَهَا الآخر أجبر صَاحب الْعشْر على الْأَصَح لِأَن صَاحب الْعشْر متعنت فِي طلبه إِذْ لَا نفع لَهُ فِيمَا يملك بعد الْقِسْمَة بِخِلَاف الآخر فَإِنَّهُ ينْتَفع فيعذر قلت يَنْبَغِي أَن يُقَال إِن كَانَ صَاحب الْعشْر لَهُ ملك ملاصق إِلَى مَا يحصل لَهُ بِالْقِسْمَةِ أَو موَات وبالإضافة إِلَى ذَلِك ينْتَفع بِهِ فَيَنْبَغِي الاجبار لدفع سوء الْمُشَاركَة وَحُصُول الِانْتِفَاع وَالله أعلم قَالَ
بَاب الدعاوي والبينات فصل فِي الْبَيِّنَة وَإِذا كَانَ مَعَ الْمُدعى بَيِّنَة سَمعهَا الْحَاكِم وَحكم لَهُ بهَا فَإِن لم تكن بَيِّنَة فَالْقَوْل قَول الْمُدعى عَلَيْهِ
الأَصْل فِي الدعاوي قَوْله لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى نَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ وَلَكِن الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَة الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ وَالْمعْنَى فِي جعل الْبَيِّنَة فِي جَانب الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا حجَّة قَوِيَّة بِانْتِفَاء التُّهْمَة لِأَنَّهَا لَا تجلب لنَفسهَا نفعا وَلَا تدفع عَنْهَا ضَرَرا وجانب الْمُدَّعِي ضَعِيف لِأَن مَا يَقُوله خلاف الظَّاهِر فكلف الْحجَّة القوية ليقوي بهَا ضعفه وَالْيَمِين حجَّة ضَعِيفَة لِأَن الْحَالِف مُتَّهم يجلب لنَفسِهِ النَّفْع وجانبه قوي إِذْ الأَصْل بَرَاءَة ذمَّته فاكتفوا مِنْهُ بِالْحجَّةِ الضعيفة وَالصَّحِيح أَن الْمُدَّعِي من يُخَالف قَوْله الظَّاهِر وَالْمُدَّعِي عَلَيْهِ من يُوَافق قَوْله الظَّاهِر فَإِذا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة قضى لَهُ بهَا وَلَو كَانَ بعد حلف الْمُدعى عَلَيْهِ لاطلاق الْخَبَر وقدمت الْبَيِّنَة على الْيَمين لِأَن الْيَمين من جِهَة الْخصم وَهُوَ قَول وَاحِد بِخِلَاف الْبَيِّنَة فِيهَا فَإِن لم تكن بَيِّنَة فَالْقَوْل قَول الْمُدعى عَلَيْهِ للْحَدِيث وَقد ورد قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْيَمِينِ على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ وَالله أعلم قَالَ(1/562)
(وَإِن نكل عَن الْيَمين ردَّتْ على الْمُدَّعِي فَيحلف وَيسْتَحق)
إِذا كَانَ الْحق الْمُدعى بِهِ لشخص معِين يُمكن تَحْلِيفه وَنكل الْمُدعى عَلَيْهِ ردَّتْ الْيَمين على الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رد الْيَمين على طَالب الْحق وَقد ردَّتْ الْيَمين على زيد بن ثَابت فَحلف وعَلى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَلم يحلف وَهُوَ مستفيض عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلم يظْهر مِنْهُم مُخَالف فَإِن لم يُمكن تَحْلِيفه الْآن كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُون فَالْمَشْهُور انْتِظَار الْبلُوغ والافاقة وَإِن كَانَ الْحق لغير معِين كالمسلمين كمن مَاتَ وَلَا وَارِث لَهُ إِذا وجد فِي دفتره مَا يدل عَلَيْهِ أَو ادّعى الْمُوصى إِلَيْهِ أَنه أوصى للْفُقَرَاء بِكَذَا فَإِنَّهُ وَالْحَالة هَذِه يحبس الْمُدعى عَلَيْهِ حَتَّى يحلف أَو يدْفع الْحق لِأَنَّهُ لَا يُمكن الْقَضَاء بِالنّكُولِ بِلَا يَمِين لِأَن الْحق يثبت بالاقرار أَو بِالْبَيِّنَةِ وَلَيْسَ النّكُول وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَا يُمكن رد الْيَمين لِأَن الْمُسْتَحق غير معِين وَلَا يُمكن تَركه لما فِيهِ من ترك الْحق فَتعين الْحَبْس لفصل الْخُصُومَة وَقيل يقْضى بِالنّكُولِ وَيُؤْخَذ مِنْهُ الْحق للضَّرُورَة وَفِي وَجه يخلى ومتولي الْمَسْجِد وَالْوَقْف هَل يحلف إِذا نكل الْمُدعى عَلَيْهِ فَفِيهِ أوجه الْمُرَجح لَا وَقيل نعم وَقيل إِن بَاشر السَّبَب بِنَفسِهِ حلف وَإِلَّا فَلَا فعلى الصَّحِيح هَل يقْضِي بِالنّكُولِ أَو يقف حَتَّى تقوم بَيِّنَة وَجْهَان وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا تداعيا فِي يَد أَحدهمَا فَالْقَوْل قَول صَاحب الْيَد وَإِن كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا تحَالفا وَيجْعَل بَينهمَا)
إِذا تداعيا اثْنَان عينا وَلَا بَيِّنَة فَإِن كَانَت فِي يَد أَحدهمَا فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه لِأَن الْأَشْعَث بن قيس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ بيني وَبَين رجل من الْيَهُود أَرض فجحدني فقدمته إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلَك بَيِّنَة قلت لَا فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِف فَقلت يَا رَسُول الله إِذن يحلف وَيذْهب بِمَالي فَأنْزل الله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا} الْآيَة وَإِن كَانَ الْمُدَّعِي فِي أَيْدِيهِمَا أَو لم يكن فِي يَد وَاحِد مِنْهُمَا حلفا وَجعل بَينهمَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قضى بِمثل ذَلِك وَالله أعلم
(فرع) تداعيا دَابَّة ولأحدهما عَلَيْهَا حمل فَالْقَوْل قَول صَاحب الْحمل مَعَ يَمِينه لانفراده فِي(1/563)
الِانْتِفَاع بالدابة فَلَو تداعيا عبدا لأَحَدهمَا عَلَيْهِ ثوب لم يحكم لَهُ بِالْعَبدِ وَالْفرق أَن كَون الْحمل على الدَّابَّة انْتِفَاع بِهِ فيده عَلَيْهَا وَالْمَنْفَعَة فِي لبس الثَّوْب للْعَبد لَا لصَاحب الثَّوْب فَلَا يدله قَالَه الْبَغَوِيّ وَلَو تداعيا دَابَّة حَامِلا واتفقا على أَن الْحمل لأَحَدهمَا فَهِيَ لصَاحب الْحمل وَلَو تداعيا دَابَّة ثَلَاثَة وَاحِد سائقها وَالْآخر آخذ بزمامها وَالْآخر راكبها فَالْقَوْل قَول الرَّاكِب لوُجُود الِانْتِفَاع فِي حَقه هَذَا هُوَ الصَّحِيح بِخِلَاف مَا إِذا تنَازع اثْنَان جداراً وَعَلِيهِ جُذُوع لأَحَدهمَا فَإِنَّهُ بَينهمَا ينتفعان بِهِ وَإِن امتاز صَاحب الْجُذُوع بِزِيَادَة كَمَا لَو كَانَ فِي دَار ولأحدهما فِيهَا مَتَاع فَإِنَّهَا بَينهمَا وَلَو تنَازع اثْنَان دَابَّة فِي اصطبل أَحدهمَا ويدهما عَلَيْهَا فَهِيَ لَهما إِن كَانَ فِيهِ دَوَاب لغير مَالِكه وَإِلَّا فَهِيَ لصَاحب الاصطبل فَلَو تنَازعا عِمَامَة فِي يَد أَحدهمَا عشرهَا وَفِي يَد الآخر بَاقِيهَا حلفا وَجعلت بَينهمَا كَمَا لَو كَانَ أَحدهمَا فِي صحن الدَّار وَالْآخر فِي دهليزها أَو على سطحها وَلَو كَانَ غير محوط فَإِنَّهَا لَهما قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَو تنَازعا شَيْئا فِي ظرف وَيَد أَحدهمَا على الشَّيْء وَيَد الآخر على الظّرْف اخْتصَّ كل مِنْهُمَا بِمَا فِي يَده لانفصال أَحدهمَا عَن الآخر بِخِلَاف مَا لَو تنَازعا عبدا وَيَد أَحدهمَا عَلَيْهِ وَيَد الآخر على ثَوْبه فَإِنَّهُ لمن يَده على العَبْد لَا لمن يَده على ثَوْبه بِخِلَاف الْعَكْس وَالله أعلم قَالَ
(وَمن حلف على فعل نَفسه حلف على قطع والبت وَمن حلف على فعل غَيره فَإِن كَانَ إِثْبَاتًا حلف على نفي الْعلم)
من حلف على فعل نَفسه حلف على الْقطع نفيا كَانَ الْمَحْلُوف عَلَيْهِ أَو إِثْبَاتًا لاحاطته بِعلم حَاله وَإِن حلف على فعل غَيره فَإِن كَانَ على نفي حلف على نفي الْعلم إِذا لم يكن عَبده أَو بهيمته فَيَقُول وَالله مَا علمت أَنه فعل كَذَا لِأَنَّهُ لَا طَرِيق لَهُ إِلَى الْقطع بنفيه فَلم يُكَلف بِهِ كَمَا لَا يُكَلف الشَّاهِد بِالْقطعِ فِيمَا لَا يُمكن فِيهِ الْقطع فَلَو حلف على الْقطع اعْتد بِهِ قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب وَغَيره وَإِن كَانَ إِثْبَاتًا حلف على الْبَتّ لامكان الاحاطة قَالَ الرَّافِعِيّ هُنَا وكل مَا يحلف فِيهِ على الْبَتّ لَا يشْتَرط فِيهِ الْيَقِين بل يَكْفِي ظن مُؤَكد ينشأ من خطه أَو خطّ أَبِيه أَو نُكُول خَصمه وَقَالَ ابْن الصّباغ إِذا وجد بِخَط أَبِيه أَو أخبرهُ بِهِ عدل جَازَ أَن يحلف عَلَيْهِ إِن غلب على ظَنّه صدق ذَلِك وَإِن وجده بِخَط أَبِيه أَو أخبرهُ بِهِ عدل جَازَ أَن يحلف عَلَيْهِ إِن غلب على ظَنّه صدق ذَلِك وَإِن وجده بِخَط نَفسه لم يُطَالب بِهِ وَلم يحلف عَلَيْهِ حَتَّى يتيقنه لِأَنَّهُ فِي خطه يُمكنهُ التَّذَكُّر بِخِلَاف خطّ أَبِيه وَاقْتصر الرَّافِعِيّ على حكايته عَنهُ عَن الْأَصْحَاب فِي كتاب الْقَضَاء قلت وَكَلَام الْمَاوَرْدِيّ يُوَافق الْمَذْكُور هُنَا وَلَفظه إِذا رَآهُ فِي جَانب يغلب على ظَنّه صِحَّته أَو أخبرهُ بِهِ عدل فَيجوز أَن يدعى بِهِ وَهل لَهُ أَن يحلف إِذا ردَّتْ الْيَمين عَلَيْهِ أَو شهد لَهُ بِهِ شَاهد فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا نعم وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ إِن كَانَ نفيا حلف على نفي الْعلم كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا وَيَنْبَغِي أَن يكون ذَلِك فِي النَّفْي الْمُطلق أما نفي الْفِعْل الْمُقَيد بِزَمن فَيكون على الْبَتّ(1/564)
الْبَتّ لامكان الاحاطة وَيشْهد لَهُ قَوْلهم إِن الشَّهَادَة على النَّفْي لَا تجوز إِلَّا أَن يكون محصوراً فَتجوز وَالله أعلم
(فرع) من لَهُ عِنْد شخص حق وَلَيْسَ لَهُ بَيِّنَة وَهُوَ مُنكر فَلهُ أَن يَأْخُذ جنس حَقه من مَاله إِن قدر وَلَا يَأْخُذ غير الْجِنْس مَعَ قدرته على الْجِنْس وَفِيه وَجه فَإِن لم يجد إِلَّا غير الْجِنْس جَازَ لَهُ الْأَخْذ على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ جُمْهُور الْأَصْحَاب وَلَو أمكن تَحْصِيل الْحق بِالْقَاضِي بِأَن كَانَ من عَلَيْهِ الْحق مقرا مماطلاً أَو مُنْكرا وَعَلِيهِ الْبَيِّنَة أَو كَانَ يَرْجُو إقرارهه لَو حضر عِنْد القَاضِي وَعرض عَلَيْهِ الْيَمين فَهَل يسْتَقلّ بِالْأَخْذِ أم يجب الرّفْع إِلَى القَاضِي فِيهِ خلاف الرَّاجِح جَوَاز الْأَخْذ وَيشْهد لَهُ قَضِيَّة هِنْد وَلِأَن فِي المرافعة مشقة وَمؤنَة وتضييع زمَان ثمَّ مَتى جَازَ لَهُ الْأَخْذ فَلم يصل إِلَى حَقه إِلَّا بِكَسْر الْبَاب ونقب الْجِدَار جَازَ لَهُ ذَلِك وَلَا يضمن مَا أتلف كمن لم يقدر على دفع الصَّائِل إِلَّا باتلاف مَاله فأتلفه لَا يضمن هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَفِي مقَالَة شَاذَّة يضمن وَالله أعلم قَالَ
بَاب الشَّهَادَة فصل فِي الشَّهَادَة وَلَا تقبل الشَّهَادَة إِلَّا مِمَّن اجْتمعت فِيهِ خَمْسَة أَوْصَاف الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة وَالْعَدَالَة
الشَّهَادَة الاخبار بِمَا شوهد
وَالْأَصْل فِيهَا الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وَهُوَ أَمر إرشاد وَسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الشَّهَادَة قَالَ ترى الشَّمْس قَالَ نعم فَقَالَ على مثلهَا فاشهد أَو دع والآيات وَالْأَخْبَار فِيهَا كَثِيرَة ثمَّ للشَّاهِد صِفَات مُعْتَبرَة فِي قبُول شَهَادَته مِنْهَا الاسلام فَلَا تقبل شَهَادَة كَافِر ذِمِّيا كَانَ أَو حَرْبِيّا سَواد شهد على مُسلم أَو كَافِر وَاحْتج لَهُ الرَّافِعِيّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقبل شَهَادَة أهل دين على غير دين أهلهم إِلَّا الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم عدُول على أنفسهم وعَلى غَيرهم ويحتج بذلك بِأَن الشَّهَادَة نُفُوذ قَول على الْغَيْر وَذَلِكَ ولَايَة وَالْكَافِر لَيْسَ من أهل الولايات وَمِنْهَا الْبلُوغ فَلَا تقبل شَهَادَة الصَّبِي وَإِن كَانَ مراهقاً
وَمِنْهَا الْعقل فَلَا تقبل شَهَادَة الْمَجْنُون لِأَن الصَّبِي وَالْمَجْنُون إِذا لم ينفذ قَوْلهمَا فِي حق(1/565)
أَنفسهمَا إِذا أقرا فَفِي حق غَيرهمَا أولى ويحتج أَيْضا بقوله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فالصبي لَيْسَ من الرِّجَال وَهُوَ الْمَجْنُون مِمَّن لَا يرضون للشَّهَادَة
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّة فَلَا تقبل شَهَادَة الرَّقِيق قِنَا كَانَ أَو مُدبرا أَو مكَاتبا أَو أم ولد لقَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَالْخطاب للأحرار لأَنهم الْمَشْهُود فِي حَقهم وَأَيْضًا فَقَوله مِنْكُمْ لَيْسَ لاخراج الْكَافِر لِأَنَّهُ خرج بقوله ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فَتعين أَنه لإِخْرَاج العَبْد وَلِأَن الشَّهَادَة صفة كَمَال وتفضيل بِدَلِيل نقص شَهَادَة النِّسَاء فَوَجَبَ أَن لَا يدْخل فِيهِ العَبْد وَلِأَنَّهَا نُفُوذ قَول على الْغَيْر فَهِيَ ولَايَة وَالْعَبْد لَيْسَ أَهلا للولايات
وَمِنْهَا الْعَدَالَة لقَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَلقَوْله تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا تقبل شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا زَان وَلَا زَانِيَة ثمَّ معرفَة الْعدْل تحْتَاج إِلَى معرفَة أُمُور بهَا يتَمَيَّز الْعدْل من غَيره فَلهَذَا ذكر الشَّيْخ لَهَا شُرُوطًا قَالَ
(وللعدالة خمس شَرَائِط أَن يكون مجتنباً للكبائر غير مصر على الصَّغَائِر)
لَا تقبل الشَّهَادَة من صَاحب كَبِيرَة وَلَا من مدمن على صَغِيرَة لِأَن المتصف بذلك فَاسق وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه فَاسق لِأَن الْفسق لُغَة الْخُرُوج وَلِهَذَا يُقَال فسقت الرّطبَة إِذا خرجت من قشرها وَالْفِسْق فِي الشَّرْع الْميل عَن الطَّرِيق وَهُوَ كَذَلِك وَالْمرَاد بإدمان الصَّغِيرَة أَن تكون الْغَالِب من أَفعاله لَا أَن يَفْعَلهَا أَحْيَانًا ثمَّ يقْلع عَنْهَا وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِذا كَانَ الْأَغْلَب الطَّاعَة والمروءة قبلت الشَّهَادَة وَإِن كَانَ الْأَغْلَب الْمعْصِيَة وَخلاف الْمُرُوءَة ردَّتْ شَهَادَته وَهل المُرَاد بالادمان السالب للعدالة المداومة على نوع وَاحِد من الصَّغَائِر أم الاكثار مِنْهَا سَوَاء كَانَت من نوع أَو أَنْوَاع قَالَ الرَّافِعِيّ مِنْهُم من يفهم كَلَامه الأول وَمِنْهُم من يفهم كَلَامه الثَّانِي وَيُوَافِقهُ قَول الْجُمْهُور من غلبت مَعَاصيه طَاعَته ردَّتْ شَهَادَته وَلَفظ الْمُخْتَصر قريب مِنْهُ قلت وَمُقْتَضى تَرْجِيحه الثَّانِي أَن المداومة على الصَّغِيرَة لَا تسلب الْعَدَالَة وَلَيْسَ كَذَلِك فقد صرح هُوَ نَفسه فِي غير مَوضِع أَن المداومة على الصَّغِيرَة تصير كَبِيرَة فاعرفه وَالله أعلم(1/566)
وللأصحاب اخْتِلَاف فِي حد الْكَبِيرَة وَلَيْسَ هَذَا الْكتاب من متعلقات الْبسط فلنذكر حَدَّيْنِ مِمَّا ذكره الرَّافِعِيّ أَحدهمَا ذكره الْبَغَوِيّ فَقَالَ الْكَبِيرَة مَا توجب الْحَد وَقَالَ غَيره مَا يلْحق صَاحبهَا وَعِيد شَدِيد بِنَصّ كتاب أَو سنة قَالَ الرَّافِعِيّ وهم إِلَى تَرْجِيح الأول أميل يَعْنِي إِلَى مَا قَالَه الْبَغَوِيّ لَكِن الثَّانِي أوفق لما ذَكرُوهُ عِنْد تَفْصِيل الْكَبَائِر قلت وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ الْكَبِيرَة مَا أوجبت الْحَد أَو توجه إِلَى الْفَاعِل الْوَعيد وَالصَّغِيرَة مَا قل فِيهَا الاثم وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يكون سليم السريرة مَأْمُونا عِنْد الْغَضَب محافظاً على مُرُوءَة مثله)
قَوْله سليم السريرة احْتَرز بِهِ عَن سيئها من أهل الْبدع والأهواء
وَلِلنَّاسِ خلاف منتشر فِي تكفيرهم وَإِن كَانُوا من أهل الْقبْلَة وَلَا شكّ أَن مِنْهُم من هُوَ كَافِر قطعا وَمِنْهُم من لَيْسَ بِكَافِر قطعا وَمِنْهُم من فِيهِ خلاف وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع بَسطه وَالْكَلَام فِيمَن تقبل شَهَادَته مِنْهُم وَمن لَا تقبل قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة من كفر من أهل الْبدع لَا تقبل شَهَادَته وَأما من لم يكفر من أهل الْبدع والأهواء فقد نَص الشَّافِعِي فِي الْأُم والمختصر على قبُول شَهَادَتهم إِلَّا الخطابية وهم قوم يرَوْنَ جَوَاز شَهَادَة أحدهم لصَاحبه إِذا سَمعه يَقُول لي عِنْد فلَان كَذَا فيصدقه بِيَمِين أَو غَيرهَا ثمَّ يشْهد لَهُ اعْتِمَادًا على أَنه لَا يكذب هَذَا نَصه
وَالْأَصْحَاب فِيهِ على ثَلَاث فرق فرقة جرت على ظَاهر نَصه وَقبلت شَهَادَة جَمِيعهم وَهَذِه طَريقَة الْجُمْهُور وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُم مصيبون فِي زعمهم وَلم يظْهر مِنْهُم مَا يسْقط الثِّقَة بقوله حَتَّى قبل هَؤُلَاءِ شَهَادَة من سبّ الصَّحَابَة وَالسَّلَف رَضِي الله عَنْهُم لِأَنَّهُ يقدم عَلَيْهِ عَن اعْتِقَاد لَا عَن عَدَاوَة وعناد قَالُوا لَو شهد خطابي وَذكر فِي شَهَادَته مَا يقطع احْتِمَال الِاعْتِمَاد على قَول الْمُدَّعِي بِأَن قَالَ سَمِعت فلَانا يقر بِكَذَا لفُلَان أَو رَأْيه أقربه قبلت شَهَادَته وَفرْقَة مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَمن تبعه حملُوا النَّص على الْمُخَالفين فِي الْفُرُوع وردوا شَهَادَة أهل الْأَهْوَاء كلهم وَقَالُوا هم بِالرَّدِّ أولى من الفسقة وَفرْقَة ثَالِثَة توسطوا فَردُّوا شَهَادَة بَعضهم دون بعض فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق من أنكر إِمَامَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ ردَّتْ شَهَادَته لمُخَالفَة الاجماع ورد الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد شَهَادَة الَّذين يسبون الصَّحَابَة ويقذفون أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَعَن الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ فَإِنَّهَا مُحصنَة كَمَا نطق بِهِ الْقُرْآن الْعَظِيم وعَلى هَذَا جرى الامام وَالْغَزالِيّ وَالْبَغوِيّ وَاسْتَحْسنهُ الرَّافِعِيّ وَفِي الرقم أَن شَهَادَة الْخَوَارِج مَرْدُودَة لتكفيرهم أهل الْقبْلَة ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ قلت الصَّوَاب مقَالَة الْفرْقَة الأولى وَهُوَ قبُول شَهَادَة الْجَمِيع فقد قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْأُم ذهب النَّاس فِي تَأْوِيل الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث إِلَى أُمُور تباينوا فِيهَا تبايناً شَدِيدا واستحل بَعضهم من بعض مَا تطول حكايته وَكَانَ ذَلِك متقادماً مِنْهُ مَا كَانَ فِي عهد السّلف وَإِلَى يَوْمنَا هَذَا وَلم نعلم أحدا من سلف الْأَئِمَّة يقْتَدى بِهِ وَلَا من بعدهمْ من التَّابِعين رد شَهَادَة أحد بتأول وَإِن خطأه وضلله وَرَآهُ اسْتحلَّ مَا حرم الله تَعَالَى(1/567)
عَلَيْهِ فَلَا ترد شَهَادَة أحد بِشَيْء من التَّأْوِيل إِذا كَانَ لَهُ وَجه يحْتَملهُ وَإِن بلغ فِيهِ استحلال المَال وَالدَّم هَذَا نَصه بِحُرُوفِهِ وَفِيه التَّصْرِيح بِمَا ذَكرْنَاهُ من تَأْوِيل تَكْفِير الْقَائِل بِخلق الْقُرْآن نعم قَاذف عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَافِر فَلَا تقبل شَهَادَته انْتهى كَلَام النَّوَوِيّ قلت كَلَام النَّوَوِيّ صَرِيح فِي قبُول شَهَادَة من يسْتَحل فِي تَأْوِيله الدَّم وَالْمَال وَقد بَالغ فِي ذَلِك فَقَالَ الصَّوَاب كَذَا وَلَا شكّ أَن الْبُغَاة نوع من الْمُخَالفين بِتَأْوِيل وَقد ذكر الرَّافِعِيّ هُنَا أَن الْبَاغِي إِن كَانَ يسْتَحل دِمَاء أهل الْعدْل وَأَمْوَالهمْ لَا ينفذ حكم حاكمهم وَلَا تقبل شَهَادَة شاهدهم وَنَقله عَن المعتبرين وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك وَعلل بِالْفِسْقِ بل جزما بذلك فِي الْمُحَرر ولمنهاج وَلَفظه وَتقبل شَهَادَة الْبُغَاة وَقَضَاء قاضيهم فِيمَا يقبل قَضَاء قاضينا إِلَّا أَن يسْتَحل دماءنا وَقد ذكر النَّوَوِيّ قبل هَذَا مَا يَقْتَضِي قبُول شَهَادَة المجسمة لكنه جزم فِي شرح الْمُهَذّب بتكفيرهم ذكره فِي صفة الْأَئِمَّة فلينتبه لَهُ والخطابية هم أَصْحَاب ابْن خطاب الْكُوفِي وهم يَعْتَقِدُونَ أَن الْكَذِب كفر وَإِن من كَانَ على مَذْهَبهم لَا يكذب فيصدقونه على مَا يَقُوله وَيشْهدُونَ لَهُ بِمُجَرَّد إخْبَاره وَهَذِه شَهَادَة زور لِأَنَّهَا شَهَادَة على غير مشهود عَلَيْهِ وَالله أعلم
وَقَول الشَّيْخ مَأْمُونا عِنْد الْغَضَب احْتَرز بِهِ عَمَّن لَا يُؤمن عِنْد غضب ككثير فِي زَمَاننَا هَذَا فَلَا تقبل شَهَادَته لِأَنَّهُ غَيره مَأْمُون فَسَقَطت الثِّقَة بِهِ وَقَول الشَّيْخ محافظاً على مُرُوءَة مثله احْتَرز بِهِ عَمَّن لَيْسَ كَذَلِك فَلَا تقبل شَهَادَة القمام وَهُوَ الَّذِي يجمع القمامة أَي الكناسة ويحملها وَكَذَا الْقيم فِي الْحمام وَمن يلْعَب بالحمام يَعْنِي يطيرها لينْظر تقلبها فِي الجو وَكَذَا الْمُغنِي سَوَاء أَتَى النَّاس أَو أَتَوْهُ وَكَذَا الرقاص كهذه الصُّوفِيَّة الَّذين يسعون إِلَى ولائم الظلمَة والمكسة ويظهرون التواجد عِنْد رقصهم وتحريك رؤوسهم وتلويح لحاهم الخسيسة صنع المجانين وَإِذا قرئَ الْقُرْآن لَا يَسْتَمِعُون لَهُ وَلَا ينصتون وَإِذا نعق مزمار الشَّيْطَان صَاح بَعضهم على بعض بالوسواس قَاتلهم الله مَا أفسقهم وأزهدهم فِي كتاب الله وأرغبهم فِي مزمار الشَّيْطَان وَقرن الشَّيْطَان عَافَانَا الله من ذَلِك
وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يَأْكُل فِي الْأَسْوَاق وَمثله لَا يعْتَاد بِخِلَاف من يَأْكُل قَلِيلا على بَاب دكانه لجوع كَمَا قَالَه الْبَنْدَنِيجِيّ أَو كَانَ مِمَّن عَادَتهم الْغذَاء فِي الْأَسْوَاق كالصباغين والسماسرة وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يمد رجله عِنْد النَّاس بِلَا مرض كَمَا قَالَه الْبَنْدَنِيجِيّ وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يلْعَب بالشطرنج على الطَّرِيق وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يكْشف عَن بدنه مَالا يعْتَاد وَإِن لم يكن عَورَة وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يكثر من الحكايات المضحكة أَو يذكر أَهله أَو زَوجته بالسخف كَمَا ذكره ابْن الصّباغ وَنَحْو ذَلِك ومدار ذَلِك كُله على حفظ الْمُرُوءَة لِأَن الأَصْل فِي ذَلِك أَن حفظ الْمُرُوءَة من الْحيَاء ووفور الْعقل وَطرح ذَلِك إِمَّا لخبل بِالْعقلِ أَو قلَّة حَيَاء أَو قلَّة مبالاته بِنَفسِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يوثق بقوله فِي حق غَيره وَهُوَ أولى لِأَن من لَا يحافظ على مَا يشينه فِي نَفسه فَغَيره(1/568)
أولى فَإِن من لَا حَيَاة فِيهِ يصنع مَا يَشَاء وَقد اخْتلفت عِبَارَات الْأَصْحَاب فِي حد الْمُرُوءَة مَعَ تقاربها فِي الْمَعْنى فَقيل أَن يصون نَفسه عَن الأدناس وَمَا يشينها بَين النَّاس وَقيل أَن يسير كسير أشكاله فِي زَمَانه ومكانه وَقيل غير ذَلِك وَالضَّابِط الْعرف وللماوردي وَغَيره من الْأَصْحَاب فِي ذَلِك أُمُور مهمة مستكثرة لَا يحتملها هَذَا الْمُخْتَصر وَالله أعلم قَالَ
بَاب أَقسَام الْمَشْهُود بِهِ فصل والحقوق ضَرْبَان حق الله وَحقّ الْآدَمِيّ فَأَما حُقُوق الْآدَمِيّين فعلى ثَلَاثَة أضْرب ضرب لَا يقبل فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ ذكران أَو رجل وَامْرَأَتَانِ أَو شَاهد وَيَمِين الْمُدَّعِي وَهُوَ مَا كَانَ الْقَصْد مِنْهُ المَال
الْمَقْصُود من هَذِه الْجُمْلَة بَيَان عدد الشُّهُود وصفتهم من الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة وَلَا شكّ أَن الْحُقُوق على ضَرْبَيْنِ حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحقّ الْآدَمِيّين أما حق الله فَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَأما حُقُوق الْآدَمِيّين فَهِيَ على ثَلَاثَة أضْرب كَمَا ذكره الشَّيْخ الأول مَا هُوَ مَال أَو كَانَ الْمَقْصُود مِنْهُ المَال أما المَال كالأعيان والديون وَأما مَا كَانَ الْمَقْصُود من المَال وَذَلِكَ كَالْبيع وَالْإِجَارَة وَالرَّهْن والاقرار وَالْغَصْب وَقتل الْخَطَأ وَنَحْو ذَلِك فَيقبل فِيهِ رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ لقَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فَكَانَ على عُمُوم إِلَّا مَا خصّه دَلِيل قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَهَذَا بِالْإِجْمَاع
ثمَّ لَا فرق بَين أَن تتقدم شَهَادَة الرجل على الْمَرْأَتَيْنِ أَو تتأخر وَسَوَاء قدر على رجلَيْنِ أَو لم يقدر وكما يقبل فِي هَذَا الضَّرْب رجل وَامْرَأَتَانِ كَذَلِك يقبل فِيهِ شَاهد وَيَمِين الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِشَاهِد وَيَمِين ورد من رِوَايَة ابْن عَبَّاس وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَرَوَاهُ من الصَّحَابَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَأبي بن كَعْب وَزيد بن ثَابت وَسعد بن عبَادَة رَضِي الله عَنْهُم
وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين أَن يتَمَكَّن من الْبَيِّنَة الْكَامِلَة أم لَا لِأَنَّهَا حجَّة تَامَّة وَفِيه وَجه نعم يشْتَرط أَن يتَعَرَّض فِي يَمِينه لصدق شَاهده فَيَقُول وَالله إِن شَاهِدي لصَادِق فِيمَا شهد بِهِ وَإِنِّي لمستحق لكذا هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل لَا يشْتَرط ذَلِك وَيَكْفِي الِاقْتِصَار على الِاسْتِحْقَاق لِأَن(1/569)
الْيَمين بِمَنْزِلَة الشَّاهِد الآخر وَوجه مُقَابلَة أَن الْيَمين مَعَ الشَّاهِد حجتان مختلفتا الْجِنْس فَوَجَبَ ربط إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى وَيجب تَأْخِير الْيَمين على الشَّاهِد وتعديله على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَالله أعلم
(فرع) هَل يقبل فِي الْوَقْف مَا يقبل فِي المَال من رجل وَامْرَأَتَيْنِ أَو رجل وَيَمِين فِيهِ خلاف الصَّحِيح أَنه يقبل وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَإِن قُلْنَا ينْتَقل إِلَى الله تَعَالَى لِأَن الْمَقْصُود من الْوَقْف تمْلِيك غلَّة الْمَوْقُوف للْمَوْقُوف عَلَيْهِ وَهِي مَنْفَعَة مَالِيَّة فَأشبه الْإِجَارَة وَلَو شهد بِالسَّرقَةِ رجل وَامْرَأَتَانِ ثَبت المَال دون الْقطع على الصَّحِيح وَكَذَا لَو شهد رجل وَامْرَأَتَانِ على صدَاق فِي نِكَاح فَإِنَّهُ يثبت الصَدَاق لِأَنَّهُ الْمَقْصُود وَالله أعلم قَالَ
(وَضرب يقبل فِيهِ شَاهِدَانِ ذكران وَهُوَ النّسَب)
هَذَا هُوَ الضَّرْب الثَّانِي وَهُوَ مَا لَيْسَ بِمَال وَلَا يقْصد مِنْهُ المَال وَهُوَ مِمَّا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال كالنسب وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعتاق وَالْوَلَاء وَالْوكَالَة وَالْوَصِيَّة وَقتل الْعمد الَّذِي يقْصد بِهِ الْقصاص وَسَائِر الْحُدُود غير حد الزِّنَا وَكَذَا الْإِسْلَام وَالرِّدَّة أعاذنا الله مِنْهَا
وَالْبُلُوغ وانقضاء الْعدة وَالْعَفو عَن الْقصاص وَالْإِيلَاء وَالظِّهَار وَالْمَوْت وَالْخلْع من جَانب الْمَرْأَة وَالتَّدْبِير وَكَذَا الْكِتَابَة فِي الْأَصَح فَلَا يقبل فِي ذَلِك إِلَّا رجلَانِ
والأاصل فِي بعض ذَلِك قَوْله تَعَالَى {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد وشاهدي عدل وَقَالَ ابْن شهَاب مَضَت السّنة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا تجوز شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود وَلَا فِي النِّكَاح وَلَا فِي الطَّلَاق وَفِيه إرْسَال وَالله أعلم
(فرع) ادّعى شخص على آخر أنغصبه مَالا فَقَالَ إِن كنت غصبته فامرأتي طَالِق فَأَقَامَ الْمُدَّعِي على الْغَاصِب شَاهدا وَحلف مَعَه أَو رجلا وَامْرَأَتَيْنِ ثَبت الْغَصْب وترتب عَلَيْهِ الضَّمَان وَلَا يَقع الطَّلَاق كَمَا لَو قَالَ إِن ولدت فَأَنت طَالِق فأقامت أَربع نسْوَة على الْولادَة ثَبت النّسَب والولادة(1/570)
وَلَا تطلق وَالله أعلم قَالَ
(وَضرب لَا يقبل فِيهِ إِلَّا أَربع نسْوَة وَهُوَ مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال)
هَذَا هُوَ الضَّرْب الثَّالِث وَهُوَ مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال وتختص النِّسَاء بمعرفته غَالِبا فَيقبل فِيهِ شَهَادَتهنَّ منفردات وَذَلِكَ كالولادة والبكارة والثيوبة والرتق والقرن وَالْحيض وَالرّضَاع وَكَذَا عُيُوب الْمَرْأَة من برص وَغَيره تَحت الْإِزَار حرَّة كَانَت أَو أمة وَكَذَا استهلال الْوَلَد على الْمَشْهُور فَكل هَذَا الضَّرْب لَا يقبل فِيهِ إِلَّا أَربع نسْوَة وَاحْتج لشهادتين منفردات بقول الزُّهْرِيّ مَضَت السّنة بِأَن تجوز شَهَادَة النِّسَاء فِي كل شَيْء لَا يَلِيهِ غَيْرهنَّ رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَنهُ بِمَعْنَاهُ ولأ الرِّجَال لَا يرَوْنَ ذَلِك غَالِبا فَلَو لم تقبل مِنْهُنَّ لتعذر إثْبَاته وَاعْتِبَار الْأَرْبَع لِأَن الله تَعَالَى أَقَامَ كل امْرَأتَيْنِ حَيْثُ قبلت شَهَادَة النِّسَاء مقَام رجل وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أما نُقْصَان عقلهن فَإِن شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ بِشَهَادَة رجل وَاحِد وَإِذا جَازَ شَهَادَة النِّسَاء الخلص جَازَ شَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ أَو رجلَيْنِ وَهُوَ أولى بِالْقبُولِ وَالله أعلم
(فرع) مَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء الخلص الْأَصَح أَنه لَا يثبت بِشَاهِد وَيَمِين وَلَا بامرأتين وَيَمِين وَقيل يثبت فِي كل ذَلِك بامرأتين وَيَمِين وكل مَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء المنفردات بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّهَادَة على الْفِعْل لَا تقبل فِيهِ شَهَادَتهنَّ على الْإِقْرَار صرح بِهِ الْمُتَوَلِي وَغَيره فِي الْإِقْرَار بِالرّضَاعِ وَالله أعلم قَالَ
(وَأما حُقُوق الله تَعَالَى فَلَا تقبل فِيهَا النِّسَاء وَهِي على ثَلَاثَة أضْرب ضرب لَا يقبل فِيهِ أقل من أَرْبَعَة وَهُوَ الزِّنَا)
لَا يقبل فِي حد الزِّنَا واللواط وإتيان الْبَهَائِم إِلَّا أَرْبَعَة من الرِّجَال وَحجَّة ذَلِك فِي الزِّنَا واللواط قَوْله تَعَالَى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَوله تَعَالَى {لَوْلَا جاؤوا عَلَيْهِ بأَرْبعَة شُهَدَاء} وَورد أَن سعد بن عبَادَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ لرَسُول الله أَو أَن السُّلْطَان يحلل أَو شُهَدَاء قَالَ نعم وَلِأَن الزِّنَا واللواط من أعظم الْفَوَاحِش فغلظ فِي الشَّهَادَة عَلَيْهِمَا ليَكُون أستر للمحارم(1/571)
وَأما إتْيَان الْبَهَائِم فَإِنَّهُ إتْيَان فرج فِي فرج يُوجب الْغسْل فَأشبه الْآدَمِيّ وَقيل إِن قُلْنَا الْوَاجِب فِي إتْيَان الْبَهَائِم التَّعْزِير وَهُوَ الرَّاجِح قيل فِيهِ شَاهِدَانِ لِخُرُوجِهِ عَن حكم الزِّنَا وَهَذَا ضَعِيف جدا لِأَن نُقْصَان الْعقُوبَة لَا يدل على نُقْصَان الشَّهَادَة بِدَلِيل زنا الْأمة فَلَو شهد ثَلَاثَة بِالزِّنَا فَهَل يجب الْحَد على الشُّهُود فِيهِ خلاف الرَّاجِح أَنهم يحدون لعدم تَمام الْحجَّة ولأنا لَو لم نوجب الْحَد لاتخذ النَّاس الشَّهَادَة ذَرِيعَة إِلَى الْقَذْف فتستباح الْأَعْرَاض بِصُورَة الشَّهَادَة وَالله أعلم قَالَ
(وَضرب يقبل فِيهِ شَاهِدَانِ وَهُوَ غير الزِّنَا من الْحُدُود)
وَهَذَا هُوَ الضَّرْب الثَّانِي من حُقُوق الله تَعَالَى وَلَا مدْخل للنِّسَاء فِيهِ وَلَا يقبل فِيهِ إِلَّا رجلَانِ كَحَد الشّرْب وَقطع الطَّرِيق وَالْقَتْل بِالرّدَّةِ وَنَحْو ذَلِك لقَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقِيَاسًا على النِّكَاح وَالْوَصِيَّة وَالله أعلم قَالَ
(وَضرب يقبل فِيهِ شَاهد وَاحِد وَهُوَ هِلَال رَمَضَان)
لَا يقبل الْوَاحِد إِلَّا فِي هِلَال رَمَضَان على الرَّاجِح وَاحْتج لَهُ بقول ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا ترَاءى النَّاس الْهلَال فَأخْبرت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنِّي رَأَيْته فصَام وَأمر النَّاس بصيامه وَيسْتَثْنى مَعَ مَسْأَلَة الْهلَال مَسْأَلَة أُخْرَى ذكرهَا الْمُتَوَلِي ونقلها عَنهُ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب فَقَالَ فرع ذكر الْمُتَوَلِي أَنه لَو مَاتَ كَافِر فَشهد وَاحِد أَن أسلم فَلَا يحكم بِأَنَّهُ مُسلم فِي الْإِرْث فيرثه الْكَافِر لَا الْمُسلم وَهل يحكم بِهِ فِي جَوَاز الصَّلَاة عَلَيْهِ قَولَانِ كَمَا فِي ثُبُوت هِلَال رَمَضَان وَاسْتثنى الشَّيْخ تَاج الدّين بن الفركاح مَسْأَلَة نقلهَا عَن الْمَاوَرْدِيّ وهم فِيهَا فَليعلم ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تقبل شَهَادَة الْأَعْمَى إِلَّا فِي خَمْسَة مَوَاضِع النّسَب وَالْمَوْت وَالْملك الْمُطلق والترجمة وعَلى المضبوط وَمَا تحمله قبل الْعَمى)
اعْلَم أَن الْمَشْهُود بِهِ قد يكون الْعلم بِهِ من جِهَة حاسة الْبَصَر وَقد يكون من جِهَة حاسة السّمع فَبِأَي الْجِهَتَيْنِ حصل الْعلم جَازَ الِاعْتِمَاد فِيهِ على قبُول الشَّهَادَة فمما يُسْتَفَاد الْعلم بِهِ بحاسة السّمع مَا طَرِيقه الاستفاضة وَذَلِكَ كالنسب وَالْمَوْت وَالْملك الْمُطلق لِأَن الشَّهَادَة وَالْحَالة هَذِه مُعْتَمدَة على السَّمَاء فالأعمى والبصير فِي ذَلِك على السوَاء هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي قَالَه الْجُمْهُور وَقيل لَا تقبل شَهَادَة الْأَعْمَى فِي ذَلِك لِأَن المخبرين لَا بُد من الْعلم بِعَدَالَتِهِمْ(1/572)
وَالْأَعْمَى لَا يشاهدهم فَلَا يعرف عدالتهم قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَهَذَا يَعْنِي الْقبُول مَحْمُول على مَا إِذا سمع ذَلِك فِي دفعات وتكرر من قوم مُخْتَلفين فِي أزمان حَتَّى يتيقنه وَيصير كالتواتر عِنْده وَلَا يجوز التَّحَمُّل إِلَّا على هَذَا الْوَجْه وكما تجوز الشَّهَادَة فِي هَذِه الْمَوَاضِع كَذَلِك تجوز شَهَادَته فِي التَّرْجَمَة على الْأَصَح وَكَذَا تجوز شَهَادَة الْأَعْمَى على المضبوط وَصُورَة الْمَسْأَلَة أَن يقر شخص فِي أُذُنه بِشَيْء فيمسكه إِمَّا بِأَن يضع يَده على رَأسه أَو بِأَن يمسك بِيَدِهِ ويحمله إِلَى القَاضِي وَيشْهد عَلَيْهِ بِمَا قَالَه فِي أُذُنه لحُصُول الْعلم بذلك هَذَا هُوَ الْأَصَح وَفِي وَجه لَا يقبل لجَوَاز أَن يكون الْمقر غَيره وَهُوَ بعيد قَالَ القَاضِي حُسَيْن وَمحل الْخلاف إِذا جَمعهمَا مَكَان خَال وألصق فَاه بِإِذْنِهِ وَضَبطه فَلَو كَانَ هُنَاكَ جمَاعَة وَأقر فِي أُذُنه لم يقبل وَكَذَلِكَ تقبل شَهَادَة الْأَعْمَى فِيمَا تحمله قبل الْعَمى بِشَرْط أَن يعرف اسْم الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَنسبه لِأَن الْأَعْمَى كالبصير فِي الْعلم بذلك والبصير لَهُ أَن يشْهد وَالْحَالة هَذِه وَإِن لم ير الْمَشْهُود عَلَيْهِ لغيبة أَو موت فَكَذَلِك الْأَعْمَى وَالله أعلم
قلت وأيد ابْن الصّلاح احْتِمَالا فِي إِلْحَاق مَوضِع سادس وَهُوَ أَن يألف شخصا وَيعرف صورته ضَرُورَة فَيَنْبَغِي أَن يجوز أَن يشْهد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقِين وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا لَهُ أَن يشْهد بالاستفاضة وَهَذَا الَّذِي قَالَه ابْن الصّباغ أوردهُ بَعضهم سؤالاً وَقَالَ يَنْبَغِي إِذا عرف صَوت شخص وألفه أَن تسمع شَهَادَته عَلَيْهِ كَمَا أَن لَهُ أَن يطَأ زَوجته بِمثل ذَلِك
وَأجِيب بِأَن وَطْء الزَّوْجَة أَحَق بِدَلِيل أَنه أُبِيح لَهُ الْوَطْء اعْتِمَادًا على اللَّمْس إِذا عرف بِهِ عَلامَة فِيهَا وَيقبل خبر الْوَاحِدَة إِذا زفتها إِلَيْهِ وَقَالَت إِنَّهَا زَوجته وَلَا تجوز الشَّهَادَة بِمثل ذَلِك وَالله أعلم
(فرع) تقبل رِوَايَة الْأَعْمَى فِيمَا تحمله قبل الْعَمى بِلَا خلاف وَكَذَا فِيمَا تحمله بعد الْعَمى على الْأَصَح إِذا حصلت الثِّقَة الظَّاهِرَة بقوله وَصحح الإِمَام مُقَابِله
فَإِن قلت مَا الْفرق بَين الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة فَالْجَوَاب قَالَ الْقَرَافِيّ بقيت زَمَانا أتطلب الْفرق بِالْحَقِيقَةِ فَلم أجد الْأَكْثَرين يفرقون بالحكم كاشتراط الْعَدَالَة وَالْحريَّة والذكورة وَحَاصِل الْفرق أَن الْمخبر عَنهُ إِن كَانَ أمرا عَاما لَا يخْتَص بِمعين فَهَذِهِ الرِّوَايَة فَإِن اخْتصَّ بِمعين فَهُوَ شَهَادَة كَقَوْل الْعدْل للْحَاكِم لهَذَا على هَذَا كَذَا وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تجوز شَهَادَة الْجَار لنَفسِهِ نفعا وَلَا الدَّافِع عَنْهَا ضَرَرا)
من شَرط الشَّهَادَة عدم التُّهْمَة وللتهمة أَسبَاب مِنْهَا أَن يجر إِلَى نَفسه نفعا وَذَلِكَ كَشَهَادَة الْوَارِث لمورثه بجراحة قبل الِانْدِمَال حَيْثُ كَانَت مِمَّا تسري لِأَن الشَّاهِد هُوَ مُسْتَحقّ مُوجب الْجراحَة فَيصير شَاهدا لنَفسِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضا لَا تصح شَهَادَة الْغُرَمَاء للْمُفلس بعد الْحجر لِأَن حُقُوقهم تتَعَلَّق بِمَا يثبتونه فَتَصِير شَهَادَة لأَنْفُسِهِمْ وَكَذَا لَا تصح شَهَادَة الْوَصِيّ للْيَتِيم وَالْوَكِيل(1/573)
للْمُوكل فِيمَا فوض إِلَيْهِمَا النّظر فِيهِ وَنَحْو ذَلِك من الصُّور الْكَثِيرَة وَاحْتج لذَلِك بقوله تَعَالَى {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} والريبة حَاصِلَة هُنَا وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقبل شَهَادَة خصم وَلَا ظنين والظنين الْمُتَّهم وَلِهَذَا لَا تقبل شَهَادَة الدَّافِع عَن نَفسه ضَرَرا كَشَهَادَة الْعَاقِلَة الْأَغْنِيَاء الْأَقْرَبين على شُهُود الْقَتْل بِالْفِسْقِ للتُّهمَةِ لأَنهم يدْفَعُونَ عَن أنفسهم التَّحَمُّل وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة الضَّامِن بِبَرَاءَة الْمَضْمُون عَنهُ قَالَ الرَّافِعِيّ وَكَذَا شَهَادَة المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا بعد الْقَبْض بِأَن الْعين الْمَبِيعَة لغير بائعة لما فِي ذَلِك من نقل الضَّمَان وَمَا أشبه ذَلِك وَالله أعلم قَالَ(1/574)
كتاب الْعتْق
الْعتْق فِي الشَّرْع عبارَة عَن إِزَالَة الْملك عَن الْآدَمِيّ لَا إِلَى مَالك تقرباً إِلَى الله تَعَالَى مَأْخُوذ من قَوْلهم عتق الْفرس إِذا سبق وَنَجَا وَعتق الفرخ إِذا طَار واستقل وَقَوي وَهُوَ قربَة مَنْدُوب إِلَيْهَا بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {فك رَقَبَة} وَورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ من أعتق رَقَبَة أعتق الله سُبْحَانَهُ بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا من أَعْضَائِهِ من النَّار حَتَّى فرجه بفرجه وَغير ذَلِك من الْأَخْبَار وخصت الرَّقَبَة بِالذكر لِأَن ملك السَّيِّد لَهُ كالحبل فِي رقبته فَهُوَ محبس بِهِ كَمَا تحبس الدَّابَّة بِحَبل فِي عُنُقهَا فَإِذا أعتق فَكَأَنَّهُ أطلق من ذَلِك لِأَن فِي الْعتْق فكاكاً من الذل وتكميلاً للْأَحْكَام وَالتَّصَرُّف فَكَانَ من أعظم الْقرب وأجزل النعم وَالله أعلم قَالَ
(وَيصِح الْعتْق من كل مَالك جَائِز الْأَمر)
شَرط صِحَة الْعتْق أَن يكون الْمُعْتق مُطلق التَّصَرُّف فِي مَاله سَوَاء كَانَ مُسلما أَو ذِمِّيا أَو حَرْبِيّا لِأَنَّهُ تصرف فِي المَال فِي حَال الْحَيَاة فَأشبه الْهِبَة أما من لَيْسَ بِمَالك وَلَا مَالك التَّصَرُّف فَلَا يَصح إِعْتَاقه لعدم سلطته على ذَلِك نعم لنا قَول فِي صِحَة عتق الْمُفلس وَيكون مَوْقُوفا على فك الْحجر وَلنَا وَجه فِي صِحَة عتق السَّفِيه وَالصَّبِيّ فِي مرض الْمَوْت إِذا جَوَّزنَا وصيتهما وَالله أعلم قَالَ
(بِصَرِيح الْعتْق وَالْكِنَايَة مَعَ النِّيَّة)
قَوْله بِصَرِيح الْبَاء مُتَعَلقَة بيصح وَالْكِنَايَة مَعْطُوف عَلَيْهِ وَتَقْدِير الْكَلَام وَيصِح الْعتْق بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَة بِالنِّيَّةِ وَوَجهه أَنَّهَا أَلْفَاظ تفِيد قطع الْملك فَأَشْبَهت الطَّلَاق ثمَّ صَرِيح الْعتْق الْعتْق(1/575)
وَالْحريَّة لِأَنَّهُ ثَبت لَهما عرف الشَّرْع والاستعمال فَإِذا قَالَ أَعتَقتك أَو أَنْت مُعتق أَو حررتك أَو أَنْت مُحَرر أَو أَنْت حر عتق وَإِن لم يقْصد بذلك إِيقَاع الْعتْق لِأَن هزله جد كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر وَالله أعلم
(فرع) لشخص أمة كَانَت تسمى حرَّة قبل الْعتْق فَقَالَ لَهَا سَيِّدهَا يَا حرَّة إِن قصد النداء لم تعْتق وَإِن أطلق فَوَجْهَانِ أشبههما لَا تعْتق كَذَا ذكره ابْن الرّفْعَة وَالَّذِي ذكره النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة إِذا لم يقْصد نداءها باسمها الْقَدِيم عتق وَإِن قصد لم تعْتق فِي الْأَصَح وَلَو كَانَ اسْمهَا فِي الْحَال حرَّة فَإِن قصّ النداء لم تعْتق وَإِن أطلق فَكَذَا لَا تعْتق فِي الْأَصَح وَالله أعلم
قلت لَو قصد توبيخها فَمَا الحكم لم أرها فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة وَهِي مَسْأَلَة كَثِيرَة الْوُقُوع وَفِي بعض الشُّرُوح عَن القَاضِي حُسَيْن أَنَّهَا لَا تعْتق وَالله أعلم
وَأما أَلْفَاظ الْكِنَايَة فكقوله لَا ملك لي عَلَيْك وَلَا سُلْطَان لي عَلَيْك وَلَا سَبِيل لي عَلَيْك وَأَنت لله وَأَنت طَالِق وَأَنت حرَام وحبلك على غاربك وَمَا أشبه ذَلِك كَقَوْلِه لَا حكم لي عَلَيْك وَلَا أمرا وَلَا يدا وَلَا خدمَة وَكَذَا لَو قَالَ أَنْت سَيِّدي فَهُوَ كِنَايَة عِنْد الإِمَام ولغو عِنْد القَاضِي حُسَيْن وكل كنايات الطَّلَاق وصرائحه كنايات فِي الْعتْق وَالْكِنَايَة كل مَا احْتمل مَعْنيين فَصَاعِدا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْأُم وَالله أعلم
(فرع) قَالَ لأمته أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي فكناية فِي الْأَصَح وَقيل لَغْو وَلَو قَالَ مَلكتك نَفسك أَو وَهبتك نَفسك فَالَّذِي جزم بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ أَنه إِن قبلت فِي الْمجْلس عتقت وَإِلَّا فَلَا وَفِي التَّتِمَّة أَن مَلكتك رقبتك كِنَايَة وَنَقله الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر عَن الإِمَام وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا أعتق بعض عبد عتق جَمِيعه)
يجوز للشَّخْص أَن يعْتق بعض العَبْد كَمَا أَن لَهُ يعْتق جَمِيعه فَإِذا عتق بعضه عتق كُله وَاحْتج لَهُ بِأَن شخصا أعتق شِقْصا من غُلَام فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَيْسَ لله شريك وَفِي رِوَايَة هُوَ حر كُله وَلِأَنَّهُ لَو ملك بعضه فَأعْتقهُ وَهُوَ مُوسر عتق عَلَيْهِ كُله كَمَا سَيَأْتِي فَإِذا ملك جَمِيعه كَانَ أولى وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن أعتق شركا لَهُ فِي عبد وَهُوَ مُوسر سرى الْعتْق إِلَى بَاقِيه وَعَلِيهِ قيمَة نصيب شَرِيكه)
إِذا أعتق شريك فِي عبد وحصت الشَّرِيك قَابِلَة لِلْعِتْقِ وَكَانَ الْمُعْتق مُوسِرًا حَالَة الْعتْق بِنَصِيب الشَّرِيك قوم عَلَيْهِ نصيب شَرِيكه ويسري الْعتْق إِلَيْهِ وَإِن كَانَ مُعسرا عتق نصِيبه ورق الْبَاقِي(1/576)
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم العَبْد عَلَيْهِ قيمَة عدل فَأعْطى شركاءه حصصهم وَأعْتق عَلَيْهِ العَبْد وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق وَفِي رِوَايَة فَإِن كَانَ مُوسِرًا قوم عَلَيْهِ ثمَّ يعْتق وَفِي رِوَايَة أَيْضا فَهُوَ عَتيق وَالله أعلم قَالَ
(وَمن ملك وَاحِدًا من وَالِديهِ أَو مولوديه عتق عَلَيْهِ)
من ملك أحدا من أُصُوله وَإِن علا أَو من فروعه وَإِن سفل عتق عَلَيْهِ
أما فِي الْآبَاء فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه وَفِي رِوَايَة فَيعتق عَلَيْهِ وَلِأَن بَين الْوَالِد وَالْولد بعضية وَلَا يجوز أَن يملك بعض الشَّخْص بعضه وَأما فِي الْأَوْلَاد فَلقَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وَقَوله تَعَالَى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فَدلَّ على امْتنَاع اجْتِمَاع الْبُنُوَّة وَالْملك وَاعْلَم أَنه لَا فرق بَين أَن يتَّفق الْوَالِد وَالْولد فِي الدّين أَو يختلفا وَلَا فرق بَين جِهَة الْأَب وجهة الْأُم وَلَا فرق بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث وَفِي الْمَنْفِيّ بِاللّعانِ وَجْهَان وَمَتى يحكم بنفوذ الْعتْق قَالَ أَبُو إِسْحَاق مَعَ دُخُوله فِي الْملك وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ يَتَرَتَّب على الْملك وَالله أعلم
(فرع) ملك ابْن أَخِيه ثمَّ مَاتَ وَهُوَ مُعسر وَعَلِيهِ دين مُسْتَغْرق ووارثه أَخُوهُ فَقَط وَقُلْنَا الدّين لَا يمْنَع الأرث وَهُوَ الْأَصَح فَإِن الْأَخ يملك ابْنه وَلَا يعْتق عَلَيْهِ وَلَو كَانَ الْوَارِث غير الْأَخ مِمَّن لَا يعْتق عَلَيْهِ العَبْد فَإِن عتقه وَالْحَالة هَذِه وَهُوَ مُعسر لم يعْتق فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ مَرْهُون بالديون وَقيل يعْتق وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْوَلَاء فصل فِي الْوَلَاء وَالْوَلَاء من حُقُوق الْعتْق وَحكمه حكم التَّعْصِيب عِنْد عَدمه وينتقل من الْمُعْتق إِلَى الذُّكُور من عصبته(1/577)
الْوَلَاء بِالْمدِّ وَفتح الْوَاو وَهُوَ مُشْتَقّ من الْمُوَالَاة وَهِي المعاونة فَكَأَن العَبْد أحد أقَارِب الْمُعْتق وَقيل غير ذَلِك وَهُوَ فِي الشَّرْع عصوبة متراخية عَن عصوبة النّسَب تَقْتَضِي للْمُعْتق الْإِرْث وَالْعقل وَولَايَة أَمر النِّكَاح وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وعصبته الذُّكُور من بعد وَاسم الْمولى يَقع على الْمُعْتق وعَلى الْعَتِيق
وَالْأَصْل فِي الْبَاب بعد السّنة وَالْإِجْمَاع وَقَول الشَّيْخ الْوَلَاء من حُقُوق الْعتْق حجَّته قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلَاء لمن أعتق وَفِي رِوَايَة لَهما الْوَلَاء لمن ولي النِّعْمَة وَقَوله وَحكمه حكم التَّعْصِيب عِنْد عَدمه أَي عِنْد عدم الْمُعْتق فَينْتَقل الْوَلَاء إِلَى عصبات الْمُعْتق دون سَائِر الْوَرَثَة أَي أَصْحَاب الْفُرُوض وَمن يعصبهم العاصب لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَلَا يُورث وَالنّسب إِلَى الْعَصَبَات دون غَيرهم فَلَو انْتقل إِلَى غَيرهم لَكَانَ موروثاً وَمعنى الحَدِيث اخْتِلَاط النّسَب ولحمة بِضَم اللَّام وَفتحهَا فَإِذا كَانَ للْعصبَةِ ابْن وَابْن ابْن فَالْولَاء للِابْن وَإِن كَانَ لَهُ أَب وَأَخ فَالْولَاء للْأَب كالارث وَإِن كَانَ لَهُ أَخ من أَب وَأم وَأَخ من أَب فَالْولَاء للْأَخ من الْأَبَوَيْنِ كَالْإِرْثِ وَقيل هما سَوَاء لِأَن الْأُم لَا تَرث بِالْوَلَاءِ وَإِن كَانَ لَهُ أَخ وجد فَقَوْلَانِ أَحدهمَا يقدم الْأَخ لِأَن تعصيبه يشبه تعصيب ابْن وَالْجد تعصيبه يشبه تعصيب الْأَب وَالِابْن مقدم على الْأَب وَكَانَ الْقيَاس تقديمهه فِي الْمِيرَاث أَيْضا إِلَّا أَن الْإِجْمَاع قَامَ على عدم التَّقْدِيم هُنَاكَ فصرفنا عَنهُ هُنَا وَلَا إِجْمَاع هُنَا وَهَذَا هُوَ الْأَصَح وَالثَّانِي أَنه بَينهمَا كَالْإِرْثِ وَإِن كَانَ لَهُ ابْن أَخ وَعم فَالْولَاء لِابْنِ الْأَخ كالميراث وَهَكَذَا فإلم يكن عصبَة انْتقل إِلَى موَالِيه لأَنهم كالعصبة ثمَّ إِلَى عصبتهم كَمَا مر وَلَا يَرث النِّسَاء بِالْوَلَاءِ إِلَّا من أعتقن لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق واعتقن من أعتقن فَإِن مَاتَت الْمَرْأَة الْمُعتقَة انْتقل حَقّهَا من الْوَلَاء إِلَى أقرب النَّاس إِلَيْهَا من الْعَصَبَات على مَا تقدم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز بيع الْوَلَاء وَلَا هِبته)
ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن بيع الْوَلَاء وَعَن هِبته قَالَ النَّوَوِيّ فِيهِ تَحْرِيم بيع الْوَلَاء وهبته وأنهما لَا يصحان وَأَنه لَا ينْتَقل الْوَلَاء عَن مُسْتَحقّه بل هُوَ لحْمَة كلحمة النّسَب وَبِهَذَا(1/578)
قَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف وَأَجَازَ بعض السّلف نَقله وَلَعَلَّه لم يبلغهم الحَدِيث وَالله أعلم قَالَ
بَاب التَّدْبِير فصل فِي الْمُدبر وَمن قَالَ لعَبْدِهِ إِذا مت فَأَنت حر فَهُوَ مُدبر يعْتق بعد وَفَاته من ثلث المَال
هَذَا فصل التَّدْبِير وَهُوَ فِي اللُّغَة النّظر فِي عواقب الْأُمُور وَفِي الشَّرْع تَعْلِيق عتق بِالْمَوْتِ وَالتَّدْبِير مَأْخُوذ من الدبر لِأَن الْمَوْت دبر الْحَيَاة وَقيل لِأَنَّهُ لم يَجْعَل تَدْبيره إِلَى غَيره وَقيل لِأَنَّهُ دبر أَمر حَيَاته باستخدامه 2 وَأمر آخرته بِعِتْقِهِ وَكَانَ مَعْرُوفا فِي الْجَاهِلِيَّة فأقره الشَّرْع قد دبر الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار ودبرت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أمة وَأجْمع الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ وَأما الْمُغَلب فِيهِ هَل هُوَ تَعْلِيق الْعتْق بِصفة لِأَن صيغته تَعْلِيق كَمَا ذكره أَو حكم الْوَصِيَّة لِأَنَّهُ من الثُّلُث فِيهِ قَولَانِ أصَحهمَا التَّعْلِيق
وَأما حجَّة اعْتَبرهُ من الثُّلُث فلقول ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا الْمُدبر من الثُّلُث وَلِأَنَّهُ تبرع بتتجز بِالْمَوْتِ كَالْوَصِيَّةِ فَإِن خرج من الثُّلُث عتق كل بِالْمَوْتِ وَإِن خرج مِنْهُ بعضه عتق بِقدر مَا خرج إِن لم تجز الْوَرَثَة وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز أَن يَبِيعهُ فِي حَال حَيَاته وَيبْطل تَدْبيره)
التَّدْبِير لَا يزِيل الْملك عَن الْمُدبر وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيق عتق بِصفة أَو فِي حكم الْوَصِيَّة وَذَلِكَ لَا يمْنَع التَّصَرُّف فِيهِ بِإِزَالَة الْملك كَمَا لَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر إِن دخلت الدَّار أَو أوصى بِهِ لزيد مثلا فَلهُ الرُّجُوع وَاحْتج لَهُ أَيْضا بِأَن جَابِرا رَضِي الله عَنهُ أخبر بِأَن رجلا دبر غُلَاما لَهُ لَيْسَ لَهُ مَال غير فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يَشْتَرِيهِ مني فَاشْتَرَاهُ نعيم بن النحام وَهُوَ حَدِيث مُتَّفق على صِحَّته وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله وَفِي لفظ البُخَارِيّ فَاشْتَرَاهُ نعيم النحام وَهُوَ الصَّوَاب لِأَن النحام وصف لنعيم والنحام بِالْحَاء الْمُهْملَة فللسيد إِزَالَة الْملك عَنهُ بِالْبيعِ وَالْهِبَة وَغَيرهمَا وَبِكُل مَا ينْقل الْملك مثله جعله صَدَاقا أَو أُجْرَة أَو رَأس مَال سلم وَالْهِبَة مَعَ الْإِقْبَاض وَنَحْو ذَلِك وَهل يجوز الرُّجُوع عَن التَّدْبِير بالْقَوْل كَقَوْلِه فسخت التَّدْبِير أَو نقضته أَو رجعت عَنهُ وَنَحْو ذَلِك فِيهِ قَولَانِ مبنيان على أَن التَّدْبِير تَعْلِيق عتق بِصفة أَو وَصِيَّة وَالصَّحِيح أَنه(1/579)
لَا يجوز الرُّجُوع بالْقَوْل لِأَن الصَّحِيح أَنه تَعْلِيق عتق بِصفة وَقيل يجوز لِأَنَّهُ وَصِيَّة وَالله أعلم قَالَ
(وَحكم الْمُدبر فِي حَيَاة السَّيِّد كَحكم عَبده الْقِنّ)
قد علمت أَن التَّدْبِير لَا يزِيل الْملك عَن العَبْد وَإِن كَانَ كَذَلِك فللسيد اكتسابه وَالْجِنَايَة عَلَيْهِ كالجناية على الْقِنّ فَإِن قتل فللسيد الْقصاص أَو الْقيمَة بِحَسب الْجِنَايَة وَلَا يلْزمه أَن يَشْتَرِي بهَا عبدا يدبره وَإِن جنى على طرفه فللسيد الْقصاص وَالْأَرْش وَيبقى التَّدْبِير بِحَالهِ وَلَو جنى الْمُدبر فَهُوَ فِي الْجِنَايَة كَالْعَبْدِ الْقِنّ أَيْضا فَإِن جنى جِنَايَة توجب الْقصاص فاقتص مِنْهُ فَاتَ التَّدْبِير لفَوَات مَحَله وَإِن جنى جِنَايَة توجب المَال أَو عفى عَن الْقصاص فللسيد أَن يفْدِيه وَأَن يُسلمهُ ليباع فِي الْجِنَايَة فَإِن فدَاه بَقِي التَّدْبِير وَإِن سلمه للْبيع فَبيع
(وَحكم الْمُدبر فِي حَيَاة السَّيِّد كَحكم عَبده الْقِنّ) قد علمت أَن التَّدْبِير لَا يزِيل الْملك عَن العَبْد وَإِن كَانَ كَذَلِك فللسيد اكتسابه وَالْجِنَايَة عَلَيْهِ كالجناية على الْقِنّ فَإِن قتل فللسيد الْقصاص أَو الْقيمَة بِحَسب الْجِنَايَة وَلَا يلْزمه أَن يَشْتَرِي بهَا عبدا يدبره وَإِن جنى على طرفه فللسيد الْقصاص وَالْأَرْش وَيبقى التَّدْبِير بِحَالهِ وَلَو جنى الْمُدبر فَهُوَ فِي الْجِنَايَة كَالْعَبْدِ الْقِنّ أَيْضا فَإِن جنى جِنَايَة توجب الْقصاص فاقتص مِنْهُ فَاتَ التَّدْبِير لفَوَات مَحَله وَإِن جنى جِنَايَة توجب المَال أَو عفى عَن الْقصاص فللسيد أَن يفْدِيه وَأَن يُسلمهُ ليباع فِي الْجِنَايَة فَإِن فدَاه بَقِي التَّدْبِير وَإِن سلمه للْبيع فَبيع فِي الْجِنَايَة بَطل التَّدْبِير وَالْحَاصِل أَن الْمُدبر قن للسَّيِّد غنمه وَعَلِيهِ غرمه وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْكِتَابَة فصل وَالْكِتَابَة مُسْتَحبَّة إِذا سَأَلَهَا العَبْد وَكَانَ مَأْمُونا مكتسباً
الْكِتَابَة تَعْلِيق عتق بِصفة ضمنت مُعَاوضَة وَهِي معدولة عَن الْقيَاس لِأَنَّهَا بيع مَاله بِمَالِه أَدَاء وَهِي مُشْتَقَّة من الْكتب وَهُوَ الضَّم لِأَن فِيهَا ضم نجم إِلَى نجم والنجم الْوَقْت الَّذِي يحل فِيهِ مَال الْكِتَابَة وَسميت بِهِ لِأَن الْعَرَب مَا كَانَت تعرف الْحساب وَالْكِتَابَة وَإِنَّمَا تعرف الْأَوْقَات بالنجوم وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ نجماً منَازِل الْقَمَر فَيَقُول أَعطيتك إِذا طلع نجم كَذَا أَو سقط نجم كَذَا فسميت باسمها مجَازًا وَقد يُطلق النَّجْم على المَال الَّذِي يحل فِي الْوَقْت وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ الْكِتَابَة إسلامية ثمَّ الْكِتَابَة مُسْتَحبَّة إِذا طلبَهَا العَبْد بِشَرْطَيْنِ أَن يكون أَمينا قَادِرًا على الْكسْب وَاحْتج(1/580)
لذَلِك بقوله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ المُرَاد بِالْخَيرِ الِاكْتِسَاب وَالْأَمَانَة فَإِن الْخَيْر ورد بِمَعْنى المَال فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وَبِمَعْنى الْعَمَل الصَّالح فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} فَحمل هُنَا عَلَيْهِمَا لجَوَاز إرادتهما لتوقف الْمَقْصُود عَلَيْهِمَا لِأَن غير المكتسب عَاجز عَن الْأَدَاء وَغير الْأمين لَا يوثق بوفائه وَفِي قَول تجب الْكِتَابَة لظَاهِر الْآيَة وَالْمَشْهُور الَّذِي قطع بِهِ الجماهير لَا تجب لِأَنَّهَا بيع مَال السَّيِّد بِمَالِه وَهُوَ حرَام لِأَنَّهُ سفه وَلِأَنَّهُ عتق بعوض فَلَا يلْزم السَّيِّد كالاستسعاء فَإِذن الْآيَة مَحْمُولَة على النّدب وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تصح إِلَّا بِمَال مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم وَأقله نجمان)
أما شَرط كَون المَال مَعْلُوما فَلِأَن الْجَهَالَة بِهِ غرر وَيُؤَدِّي إِلَى النزاع وَكِلَاهُمَا مَنْهِيّ عَنهُ وَكَذَلِكَ يشْتَرط الْعلم بِالْمحل كَمَا ذكرنَا وَأما اشْتِرَاط النجمين فَإِنَّهُ لَا يجوز على أقل مِنْهُمَا فَلفظ الْكِتَابَة يَبْنِي على ذَلِك إِذْ لَا ضم إِلَّا بَين اثْنَيْنِ فَصَاعِدا وَاحْتج لَهُ أَيْضا بِفعل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَمَا قَالَه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْبُوَيْطِيّ وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَنى الْكِتَابَة على نجمين والإيفاء من الثَّانِي وَهَذَا يَقْتَضِي أَن أقل مَا يجوز نجمان لِأَن مَا فَوْقهمَا يجوز للْإِجْمَاع وأصرح من ذَلِك فِي الدّلَالَة قَول عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لعَبْدِهِ لما غضب عَلَيْهِ لأكاتبنك على نجمين فَلَو جَازَ على ذَلِك فِي الدّلَالَة قَول عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لعَبْدِهِ لما غضب عَلَيْهِ لأكاتبنك على نجمين فَلَو جَازَ على أقل لفعله لِأَنَّهُ أَزِيد فِي الْعقُوبَة وَلم ينْقل عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنه كَاتب على أقل مِنْهُمَا فَلَو جَازَ لابتدروا إِلَيْهِ تعجيلاً للقربة وَقد رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ الْكِتَابَة على نجمين وَهَذَا نَص عَلَيْهِ إِن صَحَّ وَإِلَّا فَفِي مَا مر كِفَايَة وَالله ولي الْهِدَايَة قَالَ
(وَهِي لَازِمَة من جِهَة السَّيِّد وَمن جِهَة العَبْد جَائِزَة وَله تعجيز نَفسه وفسخها مَتى شَاءَ)
الْعُقُود مِنْهَا مَا هُوَ لَازم من الطَّرفَيْنِ كَالْبيع وَنَحْوه وَمِنْهَا مَا هُوَ جَائِز مِنْهُمَا كالقراض وَنَحْوه وَمِنْهَا مَا هُوَ لَازم من أحد الطَّرفَيْنِ دون الآخر وَمن ذَلِك الْكِتَابَة وَهِي جَائِزَة من جِهَة العَبْد فَلهُ فَسخهَا مَتى شَاءَ لِأَن عقد الْكِتَابَة لَحْظَة فَأشبه الْمُرْتَهن وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَقيل لَيْسَ لَهُ الْفَسْخ إِذْ لَا ضَرَر عَلَيْهِ فِي بَقَائِهَا قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ قَوْلهم لَا ضَرَر عَلَيْهِ مَمْنُوع فَإِنَّهُ قد يتَضَرَّر بِكَوْن النَّفَقَة على نَفسه فيستفيد بِالْفَسْخِ رَفعهَا عَنهُ وَأما من جِهَة السَّيِّد فَهِيَ لَازِمَة فَلَيْسَ لَهُ فَسخهَا لِأَن الْكِتَابَة عقدت(1/581)
لحظ الْمكَاتب لَا لحظ السَّيِّد فَكَانَ السَّيِّد فِيهَا كالراهن وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ لَهُ الْفَسْخ لم يَثِق الْمكَاتب بِبَقَائِهِ على الْكِتَابَة فيتكاسل فِي التَّحْصِيل نعم إِن عجز الْمكَاتب عَن الْأَدَاء عِنْد الْمحل فللسيد فَسخهَا كَمَا يفْسخ البَائِع البيع بعجز المُشْتَرِي عَن الثّمن وَلَو لم يعجز وَلَكِن امْتنع الْمكَاتب عَن الْأَدَاء فللسيد الْفَسْخ أَيْضا وَخَالف عقد الْكِتَابَة البيع فَإِنَّهُ لَازم من جِهَة المُشْتَرِي فَيجْبر المُشْتَرِي على الْأَدَاء فيندفع الضَّرَر بِخِلَاف الْكِتَابَة فَإِنَّهَا جَائِزَة من جِهَة الْمكَاتب فَلَا إِجْبَار وَالْخيَار فِي هَذَا على التَّرَاخِي فَلَو صرح بالإمهال ثمَّ عَن لَهُ الْفَسْخ جَازَ وَالله أعلم قَالَ
(وعَلى الْمكَاتب التَّصَرُّف بِمَا فِيهِ تنمية المَال)
الْمكَاتب يملك بِعقد الْكِتَابَة مَنَافِعه وأكسابه إِلَّا أَنه مَحْجُور عَلَيْهِ فِي استهلاكها بِغَيْر حق لحق السَّيِّد فَلهُ البيع وَالشِّرَاء والاستئجار وَنَحْوهَا لَكِن على وَجه الْغِبْطَة فَلَا يحابى وَلَا يهب وَلَا يرْهن بِلَا ضَرُورَة وَلَا ينْفق على أَقَاربه لِأَنَّهُ كالمعسر بِدَلِيل عدم نُفُوذ تبرعاته وَلَا يَبِيع بنسيئة أَي بِأَجل وَإِن ربح أَضْعَاف الثّمن وَأخذ رهنا أَو كَفِيلا وَقيل يجوز كولي الْمَحْجُور عَلَيْهِ فِي الارتهان وَالأَصَح الْمَنْصُوص الأول فَلَو أذن لَهُ السَّيِّد فِي شَيْء من ذَلِك فَهَل يجوز قَولَانِ
أَحدهمَا لَا يجوز لِأَن الْمكَاتب نَاقص الْملك وَالسَّيِّد لَا يملك مَا فِي يَده فَلَا يَصح باتفاقهما وَلِأَن لله تَعَالَى حَقًا فِي ذَلِك فَلَا يفوت بِرِضا السَّيِّد
وَالثَّانِي يَصح وَهُوَ الْأَصَح لِأَن الْمَنْع إِنَّمَا كَانَ لحقه فَزَالَ بِإِذْنِهِ كالمرتهن وَهَذَا فِيمَا عدا الْعتْق أما الْعتْق فَإِن أعتق الْمكَاتب عَن نَفسه فَالْمَذْهَب فِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي أَنه لَا ينفذ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْوَلَاء وَالْمكَاتب لَيْسَ أَهلا لَهُ وَقيل ينفذ وَهُوَ مُقْتَضى مَا فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه فَإِن أعتق عَن السَّيِّد أَو عَن أَجْنَبِي فَقَوْلَانِ أَيْضا وَالصَّحِيح النّفُوذ وَالله أعلم قَالَ
(وعَلى السَّيِّد أَن يضع عَنهُ من مَال الْكِتَابَة مَا يَسْتَعِين بِهِ وَلَا يعْتق إِلَّا بأَدَاء جَمِيع المَال بعد الْقدر الْمَوْضُوع عَنهُ)
يجب على السَّيِّد فِي الْكِتَابَة الصَّحِيحَة أَن يحط عَن الْمكَاتب بعض مَا عَلَيْهِ أَو يؤتيه شَيْئا من عِنْده يَسْتَعِين بِهِ على الْأَدَاء لقَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فَظَاهره الْوُجُوب وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ ربع الْكِتَابَة وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْآيَة ضَعُوا عَنْهُم من مكاتبتهم فَلَو لم(1/582)
يحط السَّيِّد عَنهُ شَيْئا وَجب عَلَيْهِ أَن يؤتيه مَالا من عِنْده والحط هُوَ الأَصْل والإيتاء بدل عَنهُ هَذَا هُوَ الْأَصَح الْمَنْصُوص وَقيل الإيتاء هُوَ الأَصْل فيعطيه إِذا أعْتقهُ شَيْئا ليهيئ بِهِ أَمر نَفسه والحط لَا يقوم مقَامه وَقيل يتَخَيَّر بَينهمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فَلَو أَرَادَ السَّيِّد أَن يُعْطِيهِ وَأَرَادَ العَبْد الْحَط أُجِيب العَبْد لِأَنَّهُ يروم تَعْجِيل الْعتْق ثمَّ قيل وَقت الْوُجُوب بعد الْعتْق كالمتعة وَالأَصَح قبل الْعتْق ليستعين بِهِ على الْعتْق وخالفت الْمُتْعَة لِأَنَّهَا لجبر الْكسر وَهُوَ بعد الطَّلَاق وعَلى هَذَا مَحَله النَّجْم الْأَخير وَعبارَة الرَّوْضَة وعَلى هَذَا إِنَّمَا يتَعَيَّن النَّجْم الْأَخير وَعبارَة الْمِنْهَاج والنجم الْأَخير أليق وَعبارَة بَعضهم يجب إِذا بَقِي عَلَيْهِ قدر يجب دَفعه إِلَيْهِ
وَاعْلَم أَنه لَو حط أَو أدّى من حِين العقد أَجْزَأَ على الْأَصَح وَقيل إِنَّمَا يجوز بعد أَن يَأْخُذ شَيْئا لقَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وعَلى الصَّحِيح المُرَاد من قَوْله تَعَالَى {آتَاكُمْ} أَي أوجبه لكم على نَفسه بِالْعقدِ أَو يعود الضَّمِير على الله تَعَالَى وَفِي قدر الْوَاجِب وَجْهَان
أَحدهمَا يعْتَبر بِقدر مَال الْكِتَابَة فيؤتيه من الْكثير بِقَدرِهِ وَمن الْقَلِيل بِقَدرِهِ كالمتعة تكون بِقدر يسَاره وإعساره وأصحهما وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يَكْفِي أقل مَا يتمول وَلَو حَبَّة لِأَن الله تَعَالَى لم يقدر شَيْئا بِخِلَاف الْمُتْعَة فَإِن الله تَعَالَى قدرهَا بِحَسب الْمُوسر والمعسر وَيسْتَحب حط الرّبع على الْأَصَح وَقيل الثُّلُث وَالْكِتَابَة الْفَاسِدَة لَا حط فِيهَا على الْأَصَح وَلَو قبض المَال كُله رد عَلَيْهِ بعضه لظَاهِر الْآيَة قَالَ بَعضهم والإيتاء يَقع على الْحَط وَالرَّفْع إِلَّا أَن الْحَط أولى لِأَنَّهُ أَنْفَع لَهُ وَبِه فسر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وَاعْلَم أَنه لَا يعْتق الْمكَاتب وَلَا شَيْء مِنْهُ مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ من مُكَاتبَته دِرْهَم وَلِأَنَّهُ إِن غلب فِيهِ الْعتْق بِالصّفةِ فَلَا يعْتق قبل استكمالها وَإِن غلب معنى الْمُعَاوضَة فالمبيع لَا يجب تَسْلِيمه إِلَّا بِقَبض جَمِيع الثّمن وَكَذَلِكَ هَذَا وَالله أعلم قَالَ
بَاب أَحْكَام أم الْوَلَد فصل وَإِذا أصَاب السَّيِّد أمته فَوضعت مِنْهُ مَا تبين فِيهِ شَيْء من خلق آدَمِيّ حرم عَلَيْهِ بيعهَا وهبتها وَجَاز لَهُ التَّصَرُّف فِيهَا بالاستخدام وَالْوَطْء
إِذا وطئ الْحر أمته فحبلت مِنْهُ انْعَقَد وَلَده حرا وَتصير الْأمة بِالْولادَةِ مُسْتَوْلدَة تعْتق بِمَوْت(1/583)
السَّيِّد وَيقدم عتقهَا على الدُّيُون كَمَا سَيَأْتِي وكما يثبت الِاسْتِيلَاد بِوَضْع الْوَلَد التَّام كَذَلِك يثبت بإلقائه مُضْغَة ظهر فِيهَا خلقَة الْآدَمِيّ إِمَّا لكل أحد أَو للقوابل وَأهل الْخِبْرَة من النِّسَاء فَإِن لم تظهر وقلن هُوَ أصل آدَمِيّ وَلَو بَقِي لتصور فَهَل يثبت الِاسْتِيلَاد فِيهِ خلاف قيل يثبت كَمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعدة وَالْمذهب أَنه لَا يثبت أُميَّة الْوَلَد وَإِن انْقَضتْ بِهِ الْعدة وَقد مر الْفرق فِي الْعدَد وَاحْتج لأمة الْوَلَد وحريته بِحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لما ولدت مَارِيَة أم إِبْرَاهِيم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْتقهَا وَلَدهَا وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَشْرَاط السَّاعَة أَن تَلد الْأمة ربتها أَي سيدتها فَأَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْوَلَد مقَام أَبِيه وَالْأَب حر فَكَذَا الْوَلَد وَلَا وَلَاء عَلَيْهِ لأحد لِأَن مَانع الرّقّ قَارن سَبَب الْملك فرفعه بِخِلَاف مَا لَو اشْترى زَوجته الْحَامِل مِنْهُ فَإِن الْوَلَد يعْتق عَلَيْهِ وَوَلَاؤُهُ لَهُ وَإِذا ثَبت حريَّة الْوَلَد وَأُميَّة أمه ثَبت لَهَا حق الْحُرِّيَّة وَحرم بيعهَا وهبتها ورهنها وَالْوَصِيَّة بهَا لحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَقَالَ لَا يبعن وَلَا يوهبن وَلَا يورثن ليستمتع بهَا سَيِّدهَا مَا دَامَ حَيا فَإِذا مَاتَ فَهِيَ حرَّة
فَإِن قلت فَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ كُنَّا نبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نرى بذلك بَأْسا وَورد من حَدِيث جَابر بعنا أُمَّهَات الْأَوْلَاد على عهد رَسُول الله وَأبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ نَهَانَا فَانْتَهَيْنَا وَأجِيب على تَسْلِيم صِحَة ذَلِك أَن هَذَا الْفِعْل مِنْهُم فِي زَمَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ لَا يشْعر لِأَن هَذَا الْأَمر نَادِر وَيحْتَمل أَنه كَانَ مُبَاحا ثمَّ نهى عَنهُ وَلم يعلم بذلك الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَمثل هَذَا يَعْنِي عدم الْعلم كثير وَقد وَقع لعمر رَضِي الله عَنهُ وَغَيره وَلِهَذَا كَانَ الصّديق وَغَيره إِذا وَقعت لَهُ الْوَاقِعَة وَلم يعلم فِيهَا شَيْئا سَأَلَ وَيجوز للسَّيِّد استخدامها إِجَارَتهَا ووطؤها للْحَدِيث وَفِي تَزْوِيجهَا أَقْوَال أَصَحهَا أَنه يجوز أَيْضا لِأَنَّهُ يملك رقبَتهَا ومنافعها حَتَّى الْوَطْء فَملك تَزْوِيجهَا بِرِضَاهَا وبدونه كالمدبرة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْجَدِيد وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا مَاتَ السَّيِّد عتقت من رَأس مَاله قبل الدُّيُون والوصايا)(1/584)
أما إعْتَاقهَا فَلَمَّا مر من الْأَخْبَار وَلِأَن الْوَلَد انْعَقَد حرا وَبَعضه مِنْهَا فقد صَار بَعْضهَا حرا فاستتبع بَاقِيهَا كَالْعِتْقِ إِلَّا أَن فِي الْعتْق قُوَّة فاستتبع فِي الْحَال وَهَذَا ضَعِيف فأثر فِي الْمُسْتَقْبل وَأما كَونهَا من رَأس المَال فَلِأَنَّهُ إِتْلَاف حصل بالاستمتاع فَأشبه الْإِتْلَاف بِالْأَكْلِ واللبس وبالقياس على من تزَوجهَا فِي مرض الْمَوْت وَقيل لَا تعْتق بِمَوْت السَّيِّد وخطب عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الْكُوفَة فَقَالَ أجمع رَأْيِي ورأي عمر رَضِي الله عَنهُ على أَن لَا تبَاع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَأَنا الْآن أرى بيعهنَّ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك مَعَ الْجَمَاعَة أحب ألينا من رَأْيك فِي الْفرْقَة فَأَطْرَقَ عَليّ ثمَّ قَالَ اقضوا مَا أَنْتُم قاضون فَإِنِّي أكره أَن أُخَالِف أَصْحَابِي
وَلِهَذَا اخْتلف الْأَصْحَاب هَل رَجَعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أم لَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة فَإِن قُلْنَا بِالْمذهبِ أَنه لَا يجوز بيعهَا فَقضى بِجَوَازِهِ 2 قَاض حكى الرَّوْيَانِيّ عَن الْأَصْحَاب أَنه ينْقض قَضَاؤُهُ وَمَا كَانَ فِيهِ خلاف بَين الْفرق الأول فقد انْقَطع وَصَارَ مجمعا على مَنعه وَنقل الإِمَام فِيهِ وَجْهَيْن انْتهى وَمُقْتَضَاهُ رُجْحَان النَّقْص قَالَ الرَّافِعِيّ وللأصوليين خلاف فِي أَنه هَل يشْتَرط لحُصُول الْإِجْمَاع انْقِرَاض الْعَصْر ولأصحابنا وَجْهَان فِيمَا إِذا اخْتلفت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي مَسْأَلَة ثمَّ أجمع التابعون على أحد الْقَوْلَيْنِ هَل يرْتَفع بِهِ الْخلاف الأول قَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح أَنه إِجْمَاع وَقَالَ الْغَزالِيّ وَابْن برهَان إِنَّه مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ ميل الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَيْهِ وَمن عِبَارَته الرشيقة فِي ذَلِك أَن الْمذَاهب لَا تَمُوت بِمَوْت أَصْحَابهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَوَلدهَا من غَيره بمنزلتها)
أَوْلَاد الْمُسْتَوْلدَة إِن كَانُوا من السَّيِّد فَلَا خلاف فِي حريتهم وَإِن حدثوا من نِكَاح أَو زنا فَلم حكم الْأُم لِأَن الْوَلَد يتبع الْأُم فِي الْحُرِّيَّة فَكَذَا فِي حق الْحُرِّيَّة فَلَيْسَ للسَّيِّد بيعهم ويعتقون بِمَوْتِهِ وَإِن كَانَت الْأُم قد 2 مَاتَت فِي حَيَاة السَّيِّد وَلَو أعتق السَّيِّد الْأُم لَا يعْتق الْوَلَد وَكَذَا حكم الْعَكْس كَمَا فِي التَّدْبِير بِخِلَاف مَا لَو أعتق الْمُكَاتبَة بِعِتْق وَلَدهَا وَالْفرق أَن التّبعِيَّة فِي أم الْوَلَد والمدبرة إِنَّمَا هِيَ بسراية التَّدْبِير وَأُميَّة الْوَلَد وَالصّفة موت السَّيِّد وَلَا كَذَلِك الْكِتَابَة وَلَو ولدت الْمُسْتَوْلدَة من وَطْء شُبْهَة فَإِن كَانَ الْوَاطِئ يعْتَقد أَنَّهَا زَوجته الْأمة فَالْوَلَد رَقِيق للسَّيِّد كالأم وَهُوَ كَمَا لَو أَتَت بِهِ من نِكَاح أَو زنا وَإِن كَانَ يعتقدها زوجه الحره أَو أمته الحره انْعَقَد الْوَلَد حرا وَعَلِيهِ قِيمَته للسَّيِّد وَأما الْأَوْلَاد الحاصلون قبل الاستياد بِنِكَاح أَو زنا فَلَيْسَ لَهُم حكم الْأُم بعد الِاسْتِيلَاد بل للسَّيِّد بيعهم إِذا ولدُوا فِي ملكه وَلَا يَعْتَقِدُونَ بِمَوْتِهِ لأَنهم حدثوا قبل ثُبُوت الْحُرِّيَّة للْأُم وَالله أعلم قَالَ
(وَمن أصَاب أمة غَيره فِي نِكَاح فولده مِنْهَا مَمْلُوك لسَيِّدهَا)
إِذا أولد شخص جَارِيَة أَجْنَبِي بِنِكَاح أَو زنا فَالْوَلَد مَمْلُوك لصَاحب الْجَارِيَة لِأَنَّهُ يتبع الْأُم فِي(1/585)
الرّقّ كَمَا يتبعهَا فِي الْحُرِّيَّة قَالَ
(وَإِن أَصَابَهَا بِشُبْهَة فولده مِنْهَا حر وَعَلِيهِ قِيمَته لسَيِّده فَإِن ملك الْأمة بعد ذَلِك لم تصر أم ولد لَهُ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاح وَصَارَت أم ولد لَهُ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ)
إِذا وطئ الشَّخْص أمة الْغَيْر ظَانّا أَنَّهَا زَوجته الْحرَّة أَو أمته أَو أم وَلَده فَالْوَلَد حر نظرا إِلَى ظَنّه وَعَلِيهِ قِيمَته للسَّيِّد لِأَنَّهُ فَوت رقّه بظنه وَلَا تصير الْأمة أم ولد فِي الْحَال لعدم ملكه لَهَا فَإِن ملكهَا بعد ذَلِك فَهَل تصير أم ولد لَهُ قَولَانِ
أَحدهمَا نعم تصير أم ولد لَهُ لِأَن الْعلُوق بِالْحرِّ فِي الْملك بِسَبَب الْحُرِّيَّة بعد الْمَوْت كَمَا أَن الْقَرَابَة عِنْد الْملك بِسَبَب الْعتْق فِي الْحَال فَلَمَّا كَانَ الْملك إِذا طَرَأَ على الْقَرَابَة حصل الْعتْق فِي الْحَال فَكَذَا إِذا طَرَأَ بعد انْعِقَاد الْوَلَد حرا يحصل بعد الْمَوْت
وَالثَّانِي لَا تصير وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَهُوَ مَا جزم بِهِ الشَّيْخ لِأَنَّهَا علقت مِنْهُ فِي غير ملكه فَأشبه مَا لَو علقت بِهِ فِي نِكَاح وَكَذَا لَو غر بحريّة أمة فنكحها فَإِن وَلَده مِنْهَا حر وَفِي صيرورتها أم ولد لَهُ إِذا ملكهَا هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَقَول الشَّيْخ وَصَارَت أم ولد لَهُ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ هَذَا قَول مَرْجُوح وعلته مَا قدمنَا أَن حريَّة الْوَلَد سَبَب لأمية الْأُم عِنْد الْملك وَالْمذهب أَنَّهَا لَا تصير لِأَنَّهَا علقت فِي غير ملك الْيَمين وأعدنا التَّعْلِيل للإيضاح
فنسأل الله الْعَزِيز الْقَدِير أَن يرشدنا إِلَى طرق النجاح والفلاح إِنَّه سُبْحَانَهُ فالق الْحبّ والإصباح وَقد كَانَ فِي النَّفس من الزِّيَادَة على مَا مر ولاح إِلَّا أنني عارضني فِي ذَلِك عدُول النَّفس عَن طلب الْعلم وتسريحها فِي رياض الارتياح فضربنا صفحاً عَن التَّطْوِيل والمغالاة ونادينا بِلِسَان الْحَال هلموا إِلَى هَذَا اللقحة فَإِن السماح رَبَاح وَالْحَمْد لله على مَا يسر من تَعْلِيق هَذِه الأحرف حمداً لَا يَنْقَطِع عِنْد الْمسَاء والصباح وصل الله عَليّ سيد الْأَوَّلين والآخرين وقائد الغر المحجلين رَسُول رب الْعَالمين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشرف وكرم وعَلى جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وعَلى كل الْمَلَائِكَة والمقربين وعَلى جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وعَلى آل كل وَسَائِر الصَّالِحين وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
قَالَ مُؤَلفه نفع الله بِهِ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين فرغت مِنْهُ يَوْم الْجُمُعَة فِي الْعشْر الأول من شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة وَكَانَ ذَلِك بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية بالقدس الشريف زَاده الله شرفا وكرامة إِنَّه على مَا يَشَاء قدير وبالإجابة جدير غفر الله لنا وَلمن أحبنا وَلمن قَرَأَ فِي كتَابنَا هَذَا ودعا لنا بالمغفرة وللمسلمين آمين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(1/586)