عَطاء الذّكر هُوَ مجَالِس الْحَلَال وَالْحرَام. كَيفَ تشتري كَيفَ تبيع وَتصلي، وتصوم وتحج، وَتنْكح وَتطلق وَأَشْبَاه ذَلِك، وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة. لم يُعْط أحد بعد النُّبُوَّة أفضل من الْعلم وَالْفِقْه فِي الدّين وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو ذَر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا بَاب من الْعلم نتعلمه أحب إِلَيْنَا من ألف رَكْعَة تَطَوّعا، وَقَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لمَوْت ألف عَابِد قَائِم اللَّيْل صَائِم النَّهَار أَهْون من موت الْعَالم الْبَصِير بحلال الله تَعَالَى وَحَرَامه، والآيات وَالْأَخْبَار والْآثَار فِي ذَلِك كَثِيرَة.
فَإِذا كَانَ الْفِقْه بِهَذِهِ الْمرتبَة الشَّرِيفَة. والمزايا المنيفه. كَانَ الاهتمام بِهِ فِي الدرجَة الأولى. وَصرف الْأَوْقَات النفيسة بل كل الْعُمر فِيهِ أولى، لِأَن سَبيله سَبِيل الْجنَّة. وَالْعَمَل بِهِ حرز من الْمنَار وجنة، وَهَذَا لمن طلبه للتفقه فِي الدّين على سَبِيل النجَاة لقصد الترفع على الأقران وَالْمَال والجاه، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من تعلم علما مِمَّا يبتغى بِهِ وَجه الله تَعَالَى لَا يتعلمه إِلَّا ليصيب بِهِ غَرضا من الدُّنْيَا لم يجد عرف الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة "، وَقَالَ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام: " من طلب الْعلم ليماري بِهِ السُّفَهَاء أَو يكاثر بِهِ الْعلمَاء أَو يصرف وُجُوه النَّاس إِلَيْهِ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " ورد من رِوَايَة كَعْب بن مَالك وَقَالَ: " أدخلهُ الله النَّار " عَافَانَا الله الْكَرِيم من ذَلِك.
اعْلَم أَن طلاب الْعلم مُخْتَلفُونَ باخْتلَاف مقاصدهم، وهممهم مُخْتَلفَة باخْتلَاف مَرَاتِبهمْ فَهَذَا يطْلب الغوص فِي الْبَحْر وَنَحْوه لنيل الدُّرَر الْكِبَار، وَهَذَا يقنع بِمَا يجد فِي غَايَة الِاخْتِصَار، ثمَّ هَذَا القانع صنفان: أَحدهمَا ذُو عِيَال قد غَلبه الكد، وَالْآخر مُتَوَجّه إِلَى الله تَعَالَى بِصدق وجد. فَلَا الأول يقدر على مُلَازمَة الْخلق، والسالك مَشْغُول بِمَا هُوَ بصدده لَيْلَة ونهاره مَعَ نَفسه فِي قلق، فَأَرَدْت رَاحَة كل مِنْهُمَا بِبَقَاء مَا هُوَ عَلَيْهِ وَترك سعى كل مِنْهُمَا فِيمَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ وَأَرْجُو من الله الْعَزِيز الْقَدِير. تسهيل مَا يحصل بِعْ الْإِيضَاح والتيسير. فَإِنَّهُ رَجَاء الراجين. وَجَابِر الضُّعَفَاء والمنكسرين، ووسمت كتابي هَذَا ب (كِفَايَة الأخيار، فِي حل غَايَة الإختصار) وأسأل الله الْعَظِيم الْغفار. الْعَفو عني وَعَن أحبابي من مكره وغضبه وَعَذَاب النَّار، إِن على مَا يَشَاء قدير، وبالإيجابة جدير. قَالَ الشَّيْخ {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين} [الْحَمد] هُوَ الثَّنَاء على الله تَعَالَى بجميل صِفَاته الذاتية وَغَيرهَا، وَالشَّر هُوَ الثَّنَاء عَلَيْهِ بإنعامه، وَلِهَذَا يحسن أَن تَقول حمدت فلَانا على علمه وسخائه وَلَا تَقول شكرته على علمه، فَكل شكر حمد وَلَيْسَ كل حمد شكرا، وَقيل غير ذَلِك (لله) اللَّام فِي الِاسْم الْكَرِيم للاستحقاق مَا تَقول الدَّار لزيد، وأضيف الْحَمد إِلَى هَذَا الِاسْم الْكَرِيم دون بَقِيَّة الْأَسْمَاء لِأَنَّهُ اسْم ذَات وَلَيْسَ بمشتق، والمحققون على أَنه مُشْتَقّ [رب الْعَالمين] الرب يكون(1/8)
بِمَعْنى الْمَالِك وَيكون بِمَعْنى التربية والإصلاح، لهَذَا يُقَال ربى فلَان الضَّيْعَة: أَي أصلحها فَالله تَعَالَى مَالك الْعَالمين ومربيهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْعَالمِينَ جمع عَالم لَا وَاحِد لَهُ من لفظ، وَاخْتلف الْعلمَاء فيهم فَقيل هم الْإِنْس وَالْجِنّ قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقيل جَمِيع المخلوقين. قَالَه قَتَادَة وَالْحسن وَمُجاهد. قَالَ: (وَصلى الله على مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وعَلى آله وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ)
الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار وَمن الْآدَمِيّ تضرع وَدُعَاء، وَسمي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّدًا لِكَثْرَة خصاله المحمودة، وَاخْتلف فِي الْآل فَقيل هم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَقيل هم عترته وَأهل بَيته، وَقيل آله جَمِيع أمته وَاخْتَارَهُ جمع من الْمُحَقِّقين وَمِنْهُم الْأَزْهَرِي [وَالْأَصْحَاب] جمع صَاحب، وَهُوَ كل مُسلم رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَحبه وَلَو سَاعَة، وَقيل من طَالَتْ صحبته ومجالسته، وَالْأول هُوَ الرَّاجِح عِنْد الْمُحدثين، وَالثَّانِي هُوَ الرَّاجِح عِنْد الأصولين. قَالَ الشَّيْخ: (سَأَلَني بعض أصدقائي حفظهم الله تَعَالَى أَن أعمل مُخْتَصرا فِي الْفِقْه على مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي فِي غَايَة الإختصار وَنِهَايَة الإيجاز يخف على الطَّالِب فهمه ويسهل على الْمُبْتَدِئ حفظه وَأَن أَكثر فِيهِ من التقسيمات وَحصر الْخِصَال فأجبته إِلَى ذَلِك طَالبا للثَّواب. رَاغِبًا إِلَى الله سُبْحَانَهُ فِي التَّوْفِيق للصَّوَاب. إِنَّه على مَا يَشَاء قدير. وبعبادة خَبِير بَصِير) [الْمُخْتَصر] مَا قل لَفظه وَكَثُرت مَعَانِيه، و [مَذْهَب الشَّافِعِي] طَرِيقَته، وَالشَّافِعِيّ مَنْسُوب إِلَى جده شَافِع، وكنيته أَبُو عبد الله، واسْمه مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن الْعَبَّاس بن عُثْمَان بن شَافِع بن السَّائِب بن عبيد بن يزِيد بن هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف، ويلتقي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عبد منَاف، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف، وَالنِّسْبَة الصَّحِيحَة إِلَيْهِ شَافِعِيّ، وشفعوي لحن، وَغَايَة الشَّيْء مَعْنَاهَا ترَتّب الْأَثر على ذَلِك الشَّيْء كَمَا تَقول غَايَة البيع الصَّحِيح حل الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ، و [غَايَة] الصَّلَاة الصَّحِيحَة إجزاؤها وَعدم الْقَضَاء، وَالْمرَاد هُنَا نِهَايَة وجازة اللَّفْظ، و [التَّوْفِيق] هُوَ خلق قدرَة الطَّاعَة بِخِلَاف الخذلان فَإِنَّهُ خلق قدرَة الْمعْصِيَة، و [الصَّوَاب] ضد الْخَطَأ وَالله أعلم.(1/9)
كتاب الطَّهَارَة الْكتاب مُشْتَقّ من الْكتب وَهُوَ الضَّم وَالْجمع يُقَال تكْتب بَنو فلَان إِذا اجْتَمعُوا وَمِنْه كَتِيبَة الرمل وَالطَّهَارَة فِي اللُّغَة النَّظَافَة تَقول طهرت الثَّوْب أَي نظفته وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن رفع الْحَدث أَو إِزَالَة النَّجس أَو مَا فِي مَعْنَاهُمَا أَو على صورتهما كالغسلة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة والأغسال المسنونة وتجديد الْوضُوء وَالتَّيَمُّم وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يرفع حَدثا وَلَا يزِيل نجسا وَلكنه فِي مَعْنَاهُ قَالَ
أَنْوَاع الْمِيَاه
(الْمِيَاه الَّتِي يجوز بهَا التَّطْهِير سبع مياه مَاء السَّمَاء وَمَاء الْبَحْر وَمَاء النَّهر وَمَاء الْبِئْر وَمَاء الْعين وَمَاء الثَّلج وَمَاء الْبرد) الأَصْل فِي مَاء السَّمَاء قَوْله تَعَالَى {وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ} وَغَيرهَا وَفِي مَاء الْبَحْر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سُئِلَ عَن مَاء الْبَحْر فَقَالَ
(هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته) وَفِي مَاء الْبِئْر حَدِيث سهل رَضِي الله عَنهُ (قَالُوا يَا رَسُول الله إِنَّك تتوضأ من بِئْر بضَاعَة وفيهَا مَا يُنجي النَّاس وَالْحَائِض وَالْجنب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شىء) وَمَاء(1/11)
النَّهر وَمَاء الْعين فِي مَعْنَاهُ وَأما مَاء الثَّلج وَمَاء الْبرد فَالْأَصْل فِيهِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ واسْمه عبد الرَّحْمَن بن صَخْر على الْأَصَح قَالَ
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كبر فِي الصَّلَاة سكت هنيه قبل أَن يقْرَأ فَقلت يَا رَسُول الله مَا تَقول قَالَ أَقُول اللَّهُمَّ باعد بيني وَبَين خطاياي كَمَا باعدت بَين الْمشرق وَالْمغْرب اللَّهُمَّ نقني من خطاياي كَمَا ينقى الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس اللَّهُمَّ اغسلني من خطاياي بِمَاء الثَّلج وَالْبرد) قَالَ
بَاب أَقسَام الْمِيَاه
(ثمَّ الْمِيَاه على أَرْبَعَة أَقسَام طَاهِر مطهر غير مَكْرُوه وَهُوَ المَاء الْمُطلق) المَاء الَّذِي يرفع الْحَدث ويزيل النَّجس هُوَ المَاء الْمُطلق وَاخْتلف فِي حَده فَقيل هُوَ العاري عَن الْقُيُود وَالْإِضَافَة اللَّازِمَة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الرَّوْضَة وَالْمُحَرر وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فَقَوله عَن الْقُيُود خرج بِهِ مثل قَوْله تَعَالَى {من مَاء مهين} {من مَاء دافق} وَقَوله الْإِضَافَة اللَّازِمَة خرج بِهِ مثل مَاء الْورْد وَنَحْوه وَاحْترز بِالْإِضَافَة الْإِضَافَة غير اللَّازِمَة كَمَاء النَّهر وَنَحْوه فَإِنَّهُ لَا تخرجه هَذِه الْإِضَافَة عَن كَونه يرفع الْحَدث ويزيل النَّجس لبَقَاء الْإِطْلَاق عَلَيْهِ وَقيل المَاء الْمُطلق هُوَ الْبَاقِي على وصف خلقته وَقيل مَا يُسمى مَاء وَسمي مُطلقًا لِأَن المَاء إِذا أطلق انْصَرف إِلَيْهِ وَهَذَا مَا ذكره ابْن الصّلاح وَتَبعهُ النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ
(وطاهر مطهر مَكْرُوه وَهُوَ المَاء المشمس) هَذَا هُوَ الْقسم الثَّانِي من أَقسَام المَاء وَهُوَ المشمس وَهُوَ طَاهِر فِي نَفسه لم يلق نَجَاسَة ومطهر أَي يرفع الْحَدث ويزيل النَّجس لبَقَاء إِطْلَاق اسْم المَاء عَلَيْهِ وَهل يكره فِيهِ الْخلاف الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه يكره وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ المُصَنّف وَاحْتج لَهُ الرَّافِعِيّ بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(نهى عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن المشمس وَقَالَ إِنَّه يُورث البرص وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(من اغْتسل بِمَاء مشمس فَأَصَابَهُ وضح فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه) وَكَرِهَهُ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَالَ إِنَّه يُورث البرص فعلى هَذَا إِنَّمَا يكره المشمس بِشَرْطَيْنِ(1/12)
أَحدهمَا أَن يكون التشميس فِي الْأَوَانِي المنطبعة كالنحاس وَالْحَدِيد والرصاص لِأَن الشَّمْس إِذا أثرت فِيهَا خرج مِنْهَا زهومة تعلو على وَجه المَاء وَمِنْهَا يتَوَلَّد البرص وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك فِي إِنَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة لصفاء جوهرهما لكنه يحرم استعمالهما على مَا يَأْتِي ذكره فَلَو صب المَاء المشمس من إِنَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة فِي إِنَاء مُبَاح لَا يكره لفقد الزهومة وَكَذَا لَا يكره فِي أواني الخزف وَغَيرهَا لفقد الْعلَّة الشَّرْط الثَّانِي أَن يَقع التشميس فِي الْبِلَاد الشَّدِيدَة الْحَرَارَة دون الْبَارِدَة والمعتدلة فَإِن تَأْثِير الشَّمْس فيهمَا ضَعِيف وَلَا فرق بَين أَن يقْصد التشميس أم لَا لوُجُود الْمَحْذُور وَلَا يكره المشمس فِي الْحِيَاض والبرك بِلَا خلاف وَهل الْكَرَاهَة شَرْعِيَّة أَو إرشادية فِيهَا وَجْهَان أصَحهمَا فِي شرح الْمُهَذّب أَنَّهَا شَرْعِيَّة فعلى هَذَا يُثَاب على ترك اسْتِعْمَاله وعَلى الثَّانِي وَهِي أَنَّهَا إرشادية لَا يُثَاب فِيهَا لِأَنَّهَا من وجهة الطِّبّ وَقيل إِن المشمس لَا يكره مُطلقًا وَعَزاهُ الرَّافِعِيّ إِلَى الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَهُوَ الرَّاجِع من حَيْثُ الدَّلِيل وَهُوَ مَذْهَب أَكثر الْعلمَاء وَلَيْسَ للكراهية دَلِيل يعْتَمد وَإِذا قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ فَهِيَ كَرَاهَة تَنْزِيه لَا تمنع صِحَة الطَّهَارَة وَيخْتَص اسْتِعْمَاله بِالْبدنِ وتزول بالتبريد على الْأَصَح وَفِي الثَّالِث يُرَاجع الْأَطِبَّاء وَالله أعلم انْتهى وَمَا صَححهُ من زَوَال الْكَرَاهِيَة بالتبريد قد صحّح الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير بقاءها وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب الصَّوَاب أَنه لَا يكره وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا ضَعِيف بِاتِّفَاق الْمُحدثين وَمِنْهُم من جعله مَوْضُوعا وَكَذَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن عَمْرو الْخطاب أَنه يُورث البرص ضَعِيف لِاتِّفَاق الْمُحدثين على تَضْعِيف إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد وَحَدِيث ابْن عَبَّاس غير مَعْرُوف وَالله أعلم وَمَا ذكره من أثر عمر رَضِي الله عَنهُ فَمَمْنُوع ودعواه الِاتِّفَاق على تَضْعِيف إِبْرَاهِيم أحد الروَاة غير مُسلم فَإِن الشَّافِعِي وَثَّقَهُ وَفِي تَوْثِيق الشَّافِعِي كِفَايَة وَقد وَثَّقَهُ غير وَاحِد من الْحفاظ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد آخر صَحِيح قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَيكرهُ شَدِيد الْحَرَارَة والبرودة وَالله أعلم وَالْعلَّة فِيهِ عدم الإسباغ وَقَالَ فِي آبار ثَمُود إِنَّه مَنْهِيّ عَنْهَا فَأَقل الْمَرَاتِب أَنه يكره اسْتِعْمَالهَا قَالَ
(وطاهر غير مطهر وَهُوَ المَاء الْمُسْتَعْمل)(1/13)
هَذَا هُوَ الْقسم الثَّالِث من أَقسَام المَاء وَهُوَ المَاء الْمُسْتَعْمل فِي رفع الْحَدث أَو إِزَالَة النَّجس إِذا لم يتَغَيَّر وَلَا زَاد وَزنه فَهُوَ طَاهِر لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(خلق الله المَاء طهُورا لاينجسه شَيْء إِلَّا مَا غير طعمه أَو رِيحه) وَفِي رِوَايَة
(أَو لَونه) وَهُوَ ضَعِيف وَالثَّابِت
(طعمه أَو رِيحه) فَقَط وَهل هُوَ طهُور يرفع الْحَدث ويزيل النَّجس أَيْضا فِيهِ خلاف الْمَذْهَب أَنه غير طهُور لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم مَعَ شدَّة اعتنائهم بِالدّينِ مَا كَانُوا يجمعونه ليتوضؤوا بِهِ ثَانِيًا وَلَو كَانَ ذَلِك سائغاً لفعلوه وَاخْتلف الْأَصْحَاب فِي عِلّة منع اسْتِعْمَاله ثَانِيًا وَالصَّحِيح أَنه تأدى بِهِ فرض وَقيل إِنَّه تأدى بِهِ عبَادَة وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي صُورَتَيْنِ الأولى فِيمَا اسْتعْمل فِي نفل الطَّهَارَة كتجديد الْوضُوء والأغسال المسنونة والغسلة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة فعلى الصَّحِيح يكون المَاء طهُورا لِأَنَّهُ لم يتأد بِهِ فرض وعَلى الضَّعِيف لَا يكون طهُورا لِأَنَّهُ تأدى بِهِ عبَادَة وَلَا خلاف أَن مَاء الرَّابِعَة طهُور على العلتين لِأَنَّهُ لم يتأد بِهِ فرض وَلَا هِيَ مَشْرُوعَة والغسلة الأولى غير طهُور على العلتين لتأدى الْفَرْض وَالْعِبَادَة بِمَائِهَا الصُّورَة الثَّانِيَة المَاء الَّذِي اغْتَسَلت بِهِ الْكِتَابِيَّة عَن الْحيض لتحل لزَوجهَا الْمُسلم هَل هُوَ طهُور يَنْبَنِي على أَنَّهَا لَو أسلمت هَل يلْزمهَا إِعَادَة الْغسْل فِيهِ خلاف إِن قُلْنَا لَا يلْزمهَا فَهُوَ غير طهُور وَإِن قُلْنَا يلْزمهَا إِعَادَة الْغسْل وَهُوَ الصَّحِيح فَفِي المَاء الَّذِي استعملته حَال الْكفْر وَجْهَان بينان على العلتين إِن قُلْنَا إِن الْعلَّة تأدى الْفَرْض فالماء غير طهُور وَإِن قُلْنَا إِن الْعلَّة تأدى الْعِبَادَة فَهُوَ طهُور لِأَن الْكَافِرَة لَيست من أهل الْعِبَادَة وَاعْلَم أَن الزَّوْجَة الْمَجْنُونَة إِذا حَاضَت وغسلها زَوجهَا حكمهَا حكم الْكَافِرَة فِيمَا ذَكرْنَاهُ وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي صفة الْوضُوء وأسقطها النَّوَوِيّ من الرَّوْضَة وَاعْلَم أَن المَاء الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ الصَّبِي غير طهُور وَكَذَا المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ المنتفل وَكَذَا من لَا يعْتَقد وجوب النِّيَّة على الصَّحِيح فِي الْجَمِيع ثمَّ مَا دَامَ المَاء متردداً على الْعُضْو لَا يثبت لَهُ حكم الِاسْتِعْمَال وَلَو جرى المَاء من عُضْو المتوضيء إِلَى عُضْو آخر صَار مُسْتَعْملا حَتَّى لَو انْتقل من إِحْدَى الْيَدَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى صَار مُسْتَعْملا وَلَو انْتقل المَاء الَّذِي يغلب فِيهِ الِانْتِقَال من عُضْو إِلَى مَوضِع آخر من ذَلِك الْعُضْو كالحاصل عِنْد نَقله من الْكَفّ إِلَى الساعد ورده إِلَى الْكَفّ وَنَحْوه لَا يضر انْتِقَاله وَإِن خرقه الْهَوَاء وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي آخر الْبَاب الثَّانِي من أَبْوَاب التَّيَمُّم وأهملها النَّوَوِيّ إِلَّا أَنه ذكر هُنَا من زِيَادَة الرَّوْضَة أَنه لَو انْفَصل المَاء من بعض أَعْضَاء الْجنب إِلَى بَعْضهَا وَجْهَيْن الْأَصَح عِنْد(1/14)
الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ أَنه لَا يضر وَلَا يصير مُسْتَعْملا وَالرَّاجِح عِنْد الخراسانيين أَنه يصير مُسْتَعْملا وَقَالَ الإِمَام إِن نَقله قصدا صَار مُسْتَعْملا وَإِلَّا فَلَا وَصحح النَّوَوِيّ فِي التَّحْقِيق أَنه يصير مُسْتَعْملا وَصحح ابْن الرّفْعَة أَنه لَا يصير مُسْتَعْملا وَلَو انغمس جنب فِي مَاء دون قُلَّتَيْنِ وَعم جَمِيع بجدنه ثمَّ نوى ارْتَفَعت جنابته بِلَا خلاف وَصَارَ المَاء مُسْتَعْملا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره وَلَا يصير مُسْتَعْملا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صرح بِهِ الْخَوَارِزْمِيّ حَتَّى إِنَّه قَالَ لَو أحدث حَدثا ثَانِيًا حَال انغماسه جَازَ ارتفاعه بِهِ وَإِن نوى الْجنب قبل تَمام الانغماس ارْتَفَعت جنابته عَن الْجُزْء الملاقى للْمَاء بِلَا خلاف وَلَا يصير المَاء مُسْتَعْملا بل لَهُ أَن يتم الانغماس وترتفع عَنهُ الْجَنَابَة عَن الْبَاقِي على الصَّحِيح الْمَنْصُوص وَالله أعلم قَالَ
(والمتغير بِمَا خالطه من الطاهرات) هَذَا من تَتِمَّة الْقسم الثَّالِث وَتَقْدِير الْكَلَام وَالْمَاء الْمُتَغَيّر بِشَيْء من الطاهرات طَاهِر فِي نَفسه غير مطهر كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمل وضابطه أَن كل تغير يمْنَع اسْم المَاء الْمُطلق يسلب الطّهُورِيَّة وَإِلَّا فَلَا فَلَو تغير تغيراً يَسِيرا فَالْأَصَحّ أَنه طهُور لبَقَاء الِاسْم وَقَوله بِمَا خالطه احْتِرَازًا عَمَّا إِذا تغير بِمَا يجاوره وَلَو كَانَ تغيراً كثيرا فَإِنَّهُ بَاقٍ على طهوريته كَمَا إِذا تغير بدهن أَو شمع وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح لبَقَاء اسْم المَاء وَلَا بُد أَن يكون الْوَاقِع فِي المَاء مِمَّا يسْتَغْنى عَنهُ كالزعفران والجص وَنَحْوهمَا أما إِذا كَانَ التَّغَيُّر بِمَا لَا يَسْتَغْنِي المَاء عَنهُ كالطين والطحلب والنورة والزرنيخ وَغَيرهمَا فِي مقرّ المَاء وممره والمتغير بطول الْمكْث فَإِنَّهُ طهُور للعسر وَبَقَاء اسْم المَاء وَيَكْفِي فِي التَّغَيُّر أحد الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة الطّعْم أَو اللَّوْن أَو الرَّائِحَة على الصَّحِيح وَفِي وَجه ضَعِيف يشْتَرط اجتماعها وَلَا فرق بَين التَّغَيُّر الْمشَاهد أَو التَّغَيُّر الْمَعْنَوِيّ كَمَا إِذا اخْتَلَط بِالْمَاءِ مَا يُوَافقهُ فِي صِفَاته مَاء الْورْد الْمُنْقَطع الرَّائِحَة وَمَاء الشّجر وَالْمَاء الْمُسْتَعْمل فَإنَّا نقدر أَن لَو كَانَ الْوَاقِع يُغَيِّرهُ بِمَا يدْرك بالحواس ويسلبه الطّهُورِيَّة فَإنَّا نحكم بسلب طهورية هَذَا المَاء الَّذِي وَقع فِيهِ من الْمَائِع مَا يُوَافقهُ فِي صِفَاته وَإِلَّا فَلَا يسلبه الطّهُورِيَّة وَلَو تغير المَاء بِالتُّرَابِ الْمَطْرُوح فِيهِ قصدا فَهُوَ طهُور على الصَّحِيح والمتغير بالملح فِيهِ أوجه أَصَحهَا يسلب طهوريته الْجبلي دون المائي وَلَو تغير المَاء بأوراق الْأَشْجَار المتناثرة بِنَفسِهَا إِن لم تتفتت فِي المَاء فَهُوَ طهُور على الْأَظْهر وَإِن تفتتت واختلطت فأوجه الْأَصَح أَنه بَاقٍ على طهوريته لعسر الِاحْتِرَاز عَنْهَا فَلَو طرحت الأوراق فِي المَاء قصدا وَتغَير بهَا فَالْمَذْهَب أَنه غير طهُور سَوَاء طرحها فِي المَاء صَحِيحَة أَو مدقوقة وَالله أعلم قَالَ
(وَمَاء نجس وَهُوَ الَّذِي حلت فِيهِ نجاسه وَهُوَ دون الْقلَّتَيْنِ أَو كَانَ قُلَّتَيْنِ فَتغير)
هَذَا هُوَ الْقسم الرَّابِع من الْمِيَاه وَهُوَ كَمَا ذكر يَنْقَسِم إِلَى قَلِيل وَكثير فَأَما الْقَلِيل فينجس بملاقاة لنجاسة المؤثرة سَوَاء تغير أم لَا كَمَا أطلقهُ الشَّيْخ لمَفْهُوم قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِذا بلغ المَاء(1/15)
قُلَّتَيْنِ لم يجمل خبثاً) وَفِي رِوَايَة
(نجسا) فَدلَّ الحَدِيث بمفهومه على أَنه إِذا كَانَ دون قُلَّتَيْنِ يتأثر بِالنَّجَاسَةِ وَاحْترز بِالنَّجَاسَةِ المؤثرة عَن غير المؤثرة قَالَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة كالميتة الَّتِي لَا نفس لَهَا سَائِلَة مثل الذُّبَاب والخنافس وَنَحْوهَا وكالنجاسة الَّتِي لَا يُدْرِكهَا الطّرف لعُمُوم الْبلوى بِهِ وكما إِذا وَقع الذُّبَاب على نَجَاسَة ثمَّ سقط فِي المَاء ورشاش الْبَوْل الَّذِي لَا يُدْرِكهُ الطّرف فيعفى عَنهُ وكما إِذا ولغت الْهِرَّة الَّتِي تنجس فمها ثمَّ غَابَتْ وَاحْتمل طَهَارَة فمها فَإِن المَاء الْقَلِيل لَا ينجس فِي هَذِه الصُّور وَيسْتَثْنى أَيْضا الْيَسِير من الشّعْر النَّجس فَلَا ينجس المَاء الْقَلِيل صرح بِهِ النَّوَوِيّ فِي بَاب الْأَوَانِي من زِيَادَته وَنَقله عَن الْأَصْحَاب قَالَ
(وَلَا يخْتَص بِشعر الْآدَمِيّ فِي الْأَصَح) أَي تَفْرِيعا على نَجَاسَة شعر الْآدَمِيّ ثمَّ قَالَ
(وَيعرف الْيَسِير بِالْعرْفِ)
قَالَ الإِمَام لَعَلَّه الَّذِي يغلب انتتافه لكنه قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب يُعْفَى عَن الشعرة والشعرتين وَالثَّلَاث وَيسْتَثْنى أَيْضا الْحَيَوَان إِذا كَانَ على منفذه نَجَاسَة ثمَّ وَقع فِي المَاء فَإِنَّهُ لَا يُنجسهُ على الْأَصَح لمَشَقَّة صونه ذكره الرَّافِعِيّ فِي شُرُوط الصَّلَاة بِخِلَاف لَو كَانَ مستجمراً بِحجر فَإِنَّهُ يُنجسهُ بِلَا خلاف كَمَا قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب فَإِن المستجمر بِالْحجرِ وَنَحْوه يُمكنهُ الِاحْتِرَاز وَيسْتَثْنى أَيْضا مَا إِذا أكل الصَّبِي شَيْئا نجسا ثمَّ غَابَ وَاحْتمل طَهَارَة فَمه كالهرة فَإِنَّهُ لَا ينجس المَاء الْقَلِيل ذكر ذَلِك ابْن الصّلاح وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة
وَقَالَ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى المَاء الْقَلِيل لَا ينجس إِلَّا بالتغير كالكثير وَهُوَ وَجه فِي مَذْهَبنَا وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ وَفِي قَول قديم أَن المَاء الْجَارِي لَا ينجس إِلَّا بالتغير وَاخْتَارَهُ جمَاعَة مِنْهُم الْغَزالِيّ والبيضاوي فِي كِتَابه غَايَة القصوى وَهُوَ قوي من حَيْثُ النّظر لِأَن دلَالَة
(خلق الله المَاء طهُورا) دلَالَة نطق وَهِي أرجح من دلَالَة الْمَفْهُوم فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ) الحَدِيث وَأما الْكثير وَهُوَ قلتان فَصَاعِدا فَلَا ينجس إِلَّا بالتغير بِالنَّجَاسَةِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(خلق الله المَاء طهُورا) الحَدِيث وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على نَجَاسَته بالتغير ثمَّ لَا فرق بَين التَّغَيُّر الْيَسِير وَالْكثير سَوَاء تغير الطّعْم أَو اللَّوْن أَو الرَّائِحَة وَهَذَا لَا اخْتِلَاف فِيهِ هُنَا بِخِلَاف مَا مر فِي التَّغَيُّر بالطاهر وَسَوَاء كَانَت(1/16)
النَّجَاسَة الملاقية للْمَاء مُخَالطَة أَو مجاورة فِي وَجه شَاذ أَن النَّجَاسَة الْمُجَاورَة لَا تنجسه وَقَوله حلت فِيهِ نَجَاسَة احْتَرز بِهِ عَمَّا لَو تروح المَاء بجيفة ملقاة على شط المَاء فَإِنَّهُ لَا ينجس لعدم الملاقاة وَقَوله فَتغير احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا لم يتَغَيَّر المَاء الْكثير بِالنَّجَاسَةِ وَقد تكون قَليلَة وتستهلك فِي المَاء فَإِنَّهُ لَا ينجس وَيسْتَعْمل جَمِيع المَاء على الْمَذْهَب الصَّحِيح وَفِي وَجه يبْقى قدر النَّجَاسَة وَلَو وَقع فِي الماءالكثير نَجَاسَة توافقه فِي صِفَاته كبول مُنْقَطع الرَّائِحَة فَإنَّا نقدره على مَا تقدم فِي الطهارات وَلَو وَقع فِي المَاء الْكثير نَجَاسَة جامدة فَقَوْلَانِ الْأَظْهر أَنه يجوز لَهُ أَن يغترف من أَي مَوضِع شَاءَ وَلَا يجب التباعد لِأَنَّهُ طَاهِر كُله وَالْقَوْل الآخر أَنه يتباعد عَن النَّجَاسَة قدر قُلَّتَيْنِ وَلَو تغير بعض المَاء الْكثير فَالْأَصَحّ فِي الرَّافِعِيّ الْكَبِير نَجَاسَة جَمِيع المَاء وَالأَصَح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة إِن كَانَ الْبَاقِي دون قُلَّتَيْنِ فنجس وَإِلَّا فطاهر وَرجحه الرِّفَاعِي فِي الشَّرْح الصَّغِير وَالله أعلم
(فرع) فِي زِيَادَة الرَّوْضَة إِذا وَقع فِي المَاء نَجَاسَة وَشك هَل هُوَ قلتان أم لَا فَالَّذِي جزم بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره أَنه نجس لتحَقّق النَّجَاسَة وَللْإِمَام فِيهِ احْتِمَال وَالْمُخْتَار بل الصَّوَاب الْجَزْم بِطَهَارَتِهِ لِأَن الأَصْل طَهَارَته وَلَا يلْزم من النجاية التنجس وَالله أعلم قَالَ
(والقلتان خَمْسمِائَة رَطْل بالعراقي تَقْرِيبًا فِي الْأَصَح) لما روى الْمَاوَرْدِيّ عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ بقلال هجر لَا يُنجسهُ شَيْء) قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ ابْن جريج رَأَيْت قلال هجر والقلة تسع قربتين أَو قربتين وشيئاً فاحتاط الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَجعل الشَّيْء نصفا والقربة لَا تزيد فِي الْغَالِب على مائَة رَطْل وَحِينَئِذٍ فجملة ذَلِك خمس قرب وَهِي خَمْسمِائَة رَطْل بالعراقي وَهل ذَلِك على سَبِيل التَّقْرِيب أَو التَّحْدِيد الْأَصَح أَنه على سَبِيل التَّقْرِيب فعلى هَذَا الْأَصَح أَنه لَا يضر نُقْصَان قدر لَا يظْهر بنقصه تفَاوت فِي التَّغَيُّر بِقدر من الْمُغيرَات مِثَاله لَو وَضعنَا قدر رَطْل من الْمُغيرَات فِي خَمْسمِائَة رَطْل مَا تأثرت وَلَو نقصنا من مَاء آخر قدر رطلين مثلا أَو ثَلَاثَة وَهِي خَمْسمِائَة رَطْل ووضعنا رَطْل مَا تأثرت فَهَذَا النُّقْصَان لَا يُؤثر فَلَو وَضعنَا قدر رَطْل من الْمُغيرَات فِي خَمْسمِائَة رَطْل إِلَّا خَمْسَة أَرْطَال مثلا فأثر قُلْنَا هَذَا النَّقْص يُؤثر وعَلى قَول التَّحْدِيد يضر أَي نقص كَانَ كنصب الزَّكَاة وَقيل يُعْفَى عَن نقص رطلين وَقيل ثَلَاثَة وَنَحْوهَا وَقدر الْقلَّتَيْنِ بالمساحة ذِرَاع وَربع طولا وعرضاً وعمقاً وقدرهما بالدمشقي مائَة رَطْل وَثَمَانِية أَرْطَال وثلثي رَطْل تَقْرِيبًا على قَول الرَّافِعِيّ أَن رَطْل بَغْدَاد مائَة وَثَلَاثُونَ درهما وَالله أعلم قَالَ(1/17)
بَاب جُلُود الْميتَة وعظمها
(فصل وجلود الْميتَة تطهر بالدباغ إِلَّا جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَمَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا) الْحَيَوَان الَّذِي ينجس بِالْمَوْتِ إِذا دبغ جلده يطهر بالدباغ سَوَاء فِي ذَلِك مَأْكُول اللَّحْم وَغَيره وَالْأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا حَيْثُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَاتِهَا
(لَو أَخَذْتُم إهابها فَقَالُوا إِنَّهَا ميتَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطهره المَاء والقرظ) وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا دبغ الإيهاب فقد طهر) ثمَّ إِذا دبغ الْجلد طهر ظَاهره قطعا وَكَذَا بَاطِنه على الْمَشْهُور الْجَدِيد فَيصَلي عَلَيْهِ وَفِيه وَيسْتَعْمل فِي الْأَشْيَاء الْيَابِسَة والرطبة وَيجوز بَيْعه وهبته وَالْوَصِيَّة بِهِ وَهل يجوز أكله من مَأْكُول اللَّحْم رجح الرَّافِعِيّ بِالْجَوَازِ وَرجح النَّوَوِيّ التَّحْرِيم وَيكون الدّباغ بالأشياء الحريفة كالشب والشث والقرظ وقشور الرُّمَّان والعفص وَيحصل الدّباغ بالأشياء المتنجسة والنجسة كذرق الْحمام على الْأَصَح وَلَا يَكْفِي التجميد بِالتُّرَابِ وَالشَّمْس على الصَّحِيح وَيجب غسله بعد الدّباغ إِن دبغ بِنَجس قطعا وَكَذَا إِن دبغ بطاهر على الْأَصَح قَالَ الْأَصْحَاب وَيعْتَبر فِي كَونه صَار مدبة غا ثَلَاثَة أُمُور أَحدهَا نزع فضلاته الثَّانِي أَن يطيب نفس الْجلد الثَّالِث أَن يَنْتَهِي فِي الدبغ إِلَى حَالَة بِحَيْثُ لَو نقع فِي المَاء لم يعد الْفساد وَالنَّتن وَالله أعلم وَأما جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَفرع أَحدهمَا فَلَا يطهر بالدباغ عندنَا بِلَا خلاف لِأَنَّهُمَا نجسان فِي حَال الْحَيَاة والدباغ إِنَّمَا يطهر جلدا نجس بِالْمَوْتِ لِأَن غَايَة الدّباغ نزع الفضلات وَدفع الاستحالات وَمَعْلُوم أَن الْحَيَاة أبلغ فِي ذَلِك من الدّباغ فَإِذا لم تفد الْحَيَاة الطَّهَارَة فَأولى أَن لَا يُفِيد الدّباغ
(وَعظم الْميتَة وشعرها نجس إِلَّا الْآدَمِيّ) الأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَتَحْرِيم مَا لَيْسَ بِحرَام وَلَا ضَرَر فِي(1/18)
أكله يدل على نَجَاسَته وَلَا شكّ أَن الْعظم وَالشعر من أَجزَاء الْحَيَوَان نعم فِي الشّعْر خلاف فِي أَنه ينجس بِالْمَوْتِ أم لَا وَهُوَ قَولَانِ أَحدهمَا لَا ينجس لِأَنَّهُ لَا تحله الْحَيَاة فَلَا روح فِيهِ فَلَا ينجس بِالْمَوْتِ بِدَلِيل أَنه إِذا قطع لَا يحس وَلَا يألم وأظهرهما أَنه ينجس وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ الشَّيْخ لِأَنَّهُ إِن حلته الْحَيَاة فينجس إِلَّا فينجس تبعا للجملة لِأَنَّهُ من جُمْلَتهَا كَمَا يجب غسله فِي الطَّهَارَة والجنابة
وَأما الْعظم فَفِيهِ خلاف قيل إِنَّه كالشعر وَالْمذهب الْقطع بِنَجَاسَتِهِ لِأَنَّهُ يحس ويألم بِالْقطعِ وَالصُّوف والوبر والريش كالشعر فَإِذا قُلْنَا بنجاستة الشّعْر فَفِي شعر الْآدَمِيّ قَولَانِ بِنَاء على نَجَاسَته بِالْمَوْتِ إِن قُلْنَا ينجس بِالْمَوْتِ فَكَذَا ينجس شعره وَإِن قُلْنَا لَا ينجس وَهُوَ الرَّاجِح فَلَا ينجس شعره بِالْمَوْتِ على الْأَصَح وَالله أعلم
بَاب الْآنِية
(ولايجوز اسْتِعْمَال أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة وَيجوز اسْتِعْمَال غَيرهمَا من الْأَوَانِي)
لما فِي الحَدِيث الصَّحِيح من رِوَايَة حُذَيْفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
(لاتلبسوا الْحَرِير وَلَا الديباج وَلَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِنَّهَا لَهُم فِي الدُّنْيَا وَلكم فِي الْآخِرَة وَفِي مُسلم
(الَّذِي يشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم) وَفِي رِوَايَة
(من شرب فِي إِنَاء من ذهب أَو فضَّة فَإِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَارا من جَهَنَّم) وَفِي رِوَايَة
(إِن الَّذِي يَأْكُل وَيشْرب) الحَدِيث وجيم يجرجر الثَّانِيَة مَكْسُورَة بِلَا خلاف قَالَه النَّوَوِيّ وَفِي الإقليد حِكَايَة الْخلاف وَأما النَّار فَيجوز فِيهَا الرّفْع وَالنّصب وَالنّصب هُوَ الصَّحِيح وَمَعْنَاهُ أَن الشَّارِب يلقِي النَّار فِي بَطْنه بتجرع متتابع يسمع لَهُ جرجرة وَهِي الصَّوْت لتردده فِي حلقه وعَلى رِوَايَة الرّفْع تكون النَّار فاعلة وَمَعْنَاهُ أَن النَّار تصوت فِي جَوْفه عَافَانَا الله تَعَالَى مِنْهَا وَمن فعل يقربنا إِلَيْهَا
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم قَالَ أَصْحَابنَا انْعَقَد الْإِجْمَاع على تَحْرِيم الْأكل وَالشرب وَسَائِر الِاسْتِعْمَال فِي إِنَاء ذهب أَو فضَّة إِلَّا مَا حُكيَ عَن دَاوُد وَقَول الشَّافِعِي قديم للشَّافِعِيّ إِنَّه يكره والمحققون لَا يعتدون بِخِلَاف دَاوُد وَكَلَام الشَّافِعِي مؤول كَمَا قَالَه صَاحب التَّقْرِيب مَعَ أَن الشَّافِعِي رَجَعَ عَن(1/19)
هَذَا الْقَدِيم فَحصل أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على تَحْرِيم اسْتِعْمَال إِنَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة فِي الْأكل وَالشرب وَالطَّهَارَة وَالْأكل بعلقة من أَحدهمَا والتبخر بمبخرة مِنْهَا وَجَمِيع وُجُوه الِاسْتِعْمَال وَمِنْهَا المكحلة والميل وظرف الغالية وَغير ذَلِك سَوَاء الْإِنَاء الصَّغِير وَالْكَبِير وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيم الرجل وَالْمَرْأَة بِلَا خلاف وَإِنَّمَا فرق بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي التحلي لقصد زِينَة النِّسَاء للزَّوْج وَالسَّيِّد وَيحرم اسْتِعْمَال مَاء الْورْد والأدهان فِي قماقم الذَّهَب وَالْفِضَّة هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَفِي القناني وَكَذَا يحرم تَزْيِين الحوانيت والبيوت والمجالس بأواني الذَّهَب وَالْفِضَّة هَذَا هُوَ الصَّوَاب وَجوزهُ بعض الْأَصْحَاب وَهُوَ غلط لِأَن كل شَيْء أَصله حرَام فالنظر إِلَيْهِ حرَام وَقد نَص الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب أَنه لَو تَوَضَّأ أَو اغْتسل من إِنَاء ذهب أَو فضَّة عصى وَيحرم اتِّخَاذ هَذِه الْأَوَانِي من غير اسْتِعْمَال على الصَّحِيح لِأَن مَا حرم اسْتِعْمَاله حرم اتِّخَاذه كالآت اللَّهْو عَافَانَا الله الْكَرِيم من تعَاطِي مَا هُوَ سَبَب للنار وَيحرم على الصَّائِغ صَنعته وَلَا يسْتَحق أُجْرَة لِأَن فعله مَعْصِيّة وَلَو كسر شخص هَذِه الْأَوَانِي فَلَا أرش عَلَيْهِ وَلَا يحل لأحد أَن يُطَالِبهُ بِالْأَرْشِ وَلَا رَفعه إِلَى ظَالِم من حكام زَمَاننَا لأنعم جهلة ويتعاطون هَذِه الْأَوَانِي حَتَّى يشربون الْمُسكر مَعَ آلَات اللَّهْو وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(يمسخ نَاس من أمتِي فِي آخر الزَّمَان قردة وَخَنَازِير قَالُوا يَا رَسُول الله أَلَيْسَ يشْهدُونَ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله قَالُوا بلَى وَلَكنهُمْ اتَّخذُوا المعازف والقينات فَبَاتُوا على لهوهم ولعبهم فَأَصْبحُوا وَقد مسخوا قردة وَخَنَازِير) وَفِي حَدِيث أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(من جلس إِلَى قينة يستمع مِنْهَا صب فِي أُذُنَيْهِ الآنك) والآنك بِضَم النُّون وَالْمدّ هُوَ الرصاص الْمُذَاب وَالله أعلم
وَأما أواني غير الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِن كَانَت من الْجَوَاهِر النفيسة كالياقوت والفيروزج وَنَحْوهمَا فَهَل تحرم فِيهِ خلاف قيل تحرم لما فِيهَا من الْخُيَلَاء والسرف وَكسر قُلُوب الْفُقَرَاء وَالصَّحِيح أَنَّهَا لَا تحرم وَلَا خلاف أَنه لَا يحرم الْإِنَاء الَّذِي نفاسته فِي صَنعته وَلَا يكره كلبس الْكَتَّان وَالصُّوف النفيسين
(فرع) لَو اتخذ إِنَاء من نُحَاس وَنَحْوه وموهه بِالذَّهَب أَو الْفضة إِن حصل بِالْعرضِ على النَّار مِنْهُ شَيْء حرم على الصَّحِيح وَإِن لم يحصل بِالْعرضِ على النَّار مِنْهُ شَيْء فالمرجح فِي هَذَا الْبَاب أَنه لَا يحرم والمرجح فِي بَاب زَكَاة النَّقْدَيْنِ أَنه يحرم قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَلَو موه(1/20)
السَّيْف وَغَيره من آلَات الْحَرْب أَو غَيرهَا بِذَهَب تمويهاً لَا يحصل مِنْهُ بِالْعرضِ على النَّار شَيْء فطريقان أصَحهمَا وَبِه قطع الْعِرَاقِيُّونَ التَّحْرِيم للْحَدِيث وَيدخل فِيهِ الْخَاتم والدواة والمرملة وَغَيرهَا فليجتنب ذَلِك وَالله أعلم قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب وتمويه سقف الْبَيْت وجداره بِالذَّهَب أَو الْفضة حرَام قطعا ثمَّ إِن حصل مِنْهُ شَيْء بِالْعرضِ على النَّار حرمت استدامته وَإِلَّا فَلَا وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة على الْجَزْم بذلك وَالله أعلم قَالَ:
بَاب السِّوَاك
(فصل السِّوَاك مُسْتَحبّ فِي كل حَال إِلَّا بعد الزَّوَال للصَّائِم وَهُوَ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع أَشد اسْتِحْبَابا عِنْد تغير الْفَم من أزم وَعند الْقيام من النّوم وَعند الْقيام إِلَى الصَّلَاة)
السِّوَاك سنة مُطلقًا لقَوْله صلى الله عليع وَسلم
(السِّوَاك مطهرة للفم مرضاة للرب)
و (مطهرة) بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا هِيَ كل إِنَاء يتَطَهَّر بِهِ فَشبه السِّوَاك بذلك لِأَنَّهُ يطهر الْفَم وَهل يكره للصَّائِم بعد الزَّوَال فِيهِ خلاف الرَّاجِح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه يكره لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) وَفِي رِوَايَة
(يَوْم الْقِيَامَة) والخلوف بِضَم الْخَاء وَاللَّام هُوَ التَّغْيِير وَخص بِمَا بعد الزَّوَال لِأَن تغير الْفَم بِسَبَب الصَّوْم حِينَئِذٍ يظْهر فَلَو تغير فَمه بعد الزَّوَال بِسَبَب آخر كنوم أَو غَيره فاستاك لأجل ذَلِك لَا يكره وَقيل لَا يكره الاستياك مُطلقًا وَبِه قَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَرجحه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن يكره فِي الْفَرْض دون النَّفْل خوفًا من الرِّيَاء وَقَول المُصَنّف للصَّائِم يُؤْخَذ مِنْهُ أَن الْكَرَاهَة تَزُول بغروب الشَّمْس وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي شرح الْمُهَذّب وَقيل تبقى الْكَرَاهَة إِلَى الْفطر وَالله أعلم
ثمَّ السِّوَاك يتَأَكَّد اسْتِحْبَابه فِي مَوَاضِع مِنْهَا عِنْد تغير الْفَم من أزم وَغَيره والأزم قيل السُّكُوت الطَّوِيل وَقيل هُوَ ترك الْأكل وَقَوله وَغَيره يدْخل فِيهِ مَا إِذا تغير يَأْكُل مَاله رَائِحَة كريهة كالثوم والبصل وَنَحْوهمَا وَمِنْهَا عِنْد الْقيام من النّوم
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَيْقَظَ من النّوم استاك) وَرُوِيَ
(يشوص فَاه بِالسِّوَاكِ) وَمعنى يشوص ينظف وَيغسل وَوجه تَأْكِيد الِاسْتِحْبَاب عِنْد الْقيام مِنْهُ أَن النّوم يسْتَلْزم ترك الْأكل وَالسُّكُوت وهما من أَسبَاب التَّغَيُّر وَمِنْهَا عِنْد الْقيام إِلَى(1/21)
الصَّلَاة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ ويلم
(لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة) وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(رَكْعَتَانِ بِالسِّوَاكِ أفضل من سبعين رَكْعَة بِلَا سواك) والسواك متأكد عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَإِن لم يكن الْفَم متغيراً وَلَا فرق بَين صَلَاة الْفَرْض وَالنَّفْل حَتَّى لَو صلى صَلَاة ذَات تسليمات كالضحى والتراويح والتجهد اسْتحبَّ لَهُ أَن يستاك لكل رَكْعَتَيْنِ وَكَذَا للجنازة وَالطّواف وَلَا فرق بَين الصَّلَاة بِالْوضُوءِ أَو التَّيَمُّم أَو عِنْد فقد الطهُورَيْنِ ويتأكد الِاسْتِحْبَاب أَيْضا عِنْد الْوضُوء وَإِن لم يصل لما ورد
(لَوْلَا أَن أشق أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل وضوء) وَيسْتَحب عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن وَعند اصفرار الْأَسْنَان وَإِن لم يتَغَيَّر الْفَم
وَاعْلَم أَنه يحصل الاستياك بِخرقَة وَبِكُل خشن مزيل وَالْعود أولى والأراك أولى وَالْأَفْضَل أَن يكون بيابس ندى بِالْمَاءِ وَيسْتَحب غسله ليستاك بِهِ ثَانِيًا وَلَو استاك بإصبع غَيره وَهِي خشنة أَجْزَأَ قطعا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب وَفِي إصبعه خلاف الرَّاجِح فِي الرَّوْضَة لَا يجزىء وَالرَّاجِح فِي شرح الْمُهَذّب الْأَجْزَاء وَبِه قطع القَاضِي حُسَيْن والمحاملي وَالْبَغوِيّ وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر وَلَا بَأْس أَن يستاك بسواك غَيره بِإِذْنِهِ وَيسْتَحب أَن يستاك بِيَمِينِهِ وبالجانب الْأَيْمن من فَمه وَأَن يمره على سقف حلق إمراراً لطيفاً وكراسي أَضْرَاسه وَيَنْوِي بِالسِّوَاكِ السّنة وَيسْتَحب عِنْد دُخُول الْمنزل وَعند إِرَادَة النّوم وَالله أعلم
فَرَائض الْوضُوء
(فصل وفرائض الْوضُوء سِتَّة النِّيَّة عِنْد غسل الْوَجْه)
اعْلَم أَن الْوضُوء لَهُ شُرُوط وفروض
فالشروط الْإِسْلَام وَالتَّمَيُّز وطهورية المَاء وَعدم الْمَانِع الْحسي كالوسخ وَعدم الْمَانِع الشَّرْعِيّ كالحيض وَالنّفاس وَدخُول الْوَقْت فِي حق ذَوي الضرورات كالمستحاضة وَمن بِهِ الرّيح الدَّائِم
وَأما الْفُرُوض فستة كَمَا ذكره الشَّيْخ أَحدهَا النِّيَّة لقَوْل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) وَهِي فرض فِي طهارات الْأَحْدَاث وَلَا تجب فِي إِزَالَة النَّجَاسَات على الصَّحِيح(1/22)
وَالْفَرْض أَن الْمَقْصُود من النَّجَاسَات إِزَالَتهَا وَهِي تحصل بِالْغسْلِ بِخِلَاف الْأَحْدَاث فَإِن طَهَارَتهَا عبَادَة فتفتقر إِلَى نِيَّة كَسَائِر الْعِبَادَات كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَشرط صِحَّتهَا الْإِسْلَام فَلَا يَصح وضوء الْكَافِر وَلَا غسله على الصَّحِيح لِأَن النِّيَّة عبَادَة وَالْكَافِر لَيْسَ من أَهلهَا وَلَا تصح طَهَارَة الْمُرْتَد قطعا تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَوقت النِّيَّة الْوَاجِبَة عِنْد غسل أول جُزْء من الْوَجْه لِأَن أول الْعِبَادَات الْوَاجِبَة وَلَا يُثَاب على السّنَن الْمَاضِيَة وكيفيتها إِن كَانَ المتوضيء سليما لَا عِلّة بِهِ أَن يَنْوِي أحد ثَلَاثَة أُمُور
أَحدهَا رفع الْحَدث أَو الطَّهَارَة عَن الْحَدث
الثَّانِي أَن يَنْوِي اسْتِبَاحَة الصَّلَاة أَو غَيرهَا مِمَّا لَا يُبَاح إِلَّا بِالطَّهَارَةِ
الثَّالِث أَن يَنْوِي فرض الْوضُوء أَو أَدَاء الْوضُوء وَإِن كَانَ الناوي صَبيا قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَلَو نوى الطَّهَارَة للصَّلَاة أَو الطَّهَارَة لغَيْرهَا مِمَّا يتَوَقَّف على الْوضُوء كفى وَذكره فِي التَّنْبِيه وَلَو نوى الطَّهَارَة وَلم يقل عَن الْحَدث لَا يجْزِيه على الصَّحِيح لِأَن الطَّهَارَة تكون عَن الْحَدث وَعَن النَّجس فَلَا بُد من نِيَّة تميز وَلَو نوى الْوضُوء فَقَط صَحَّ على الْأَصَح فِي التَّحْقِيق وَشرح الْمُهَذّب بِخِلَاف مَا إِذا نوى الْغسْل وَهُوَ جنب فَلَا يَكْفِي وَفرق الْمَاوَرْدِيّ بِأَن الْوضُوء لَا يُطلق على غير الْعِبَادَة بِخِلَاف الْغسْل وَلَو نوى رفع الْحَدث والاستباحة فَهُوَ نِهَايَة النِّيَّة وَأما من بِهِ عِلّة كمن بِهِ سَلس الْبَوْل أَو كَانَت مُسْتَحَاضَة فينوي الاستباحة على الصَّحِيح وَلَا يَصح أَن يَنْوِي رفع الْحَدث لِأَن الْحَدث مُسْتَمر وَلَا يتَصَوَّر رَفعه وَقيل يجب أَن يجمع بَينهمَا يَكْفِي أَحدهمَا
(فرع) شَرط النِّيَّة الْجَزْم فَلَو شكّ فِي أَنه مُحدث فَتَوَضَّأ محتاطاً ثمَّ تَيَقّن أَنه مُحدث لم يعْتد بوضوئه على الْأَصَح لِأَنَّهُ تَوَضَّأ مترددا وَلَو تَيَقّن أَنه مُحدث وَشك فِي أَنه تطهر ثمَّ بَان مُحدثا أَجزَأَهُ قطعا لِأَن الأَصْل بَقَاء الْحَدث فَلَا يضر تردده مَعَه فقوي جَانب النِّيَّة بِأَصْل الْحَدث بِخِلَاف الصُّورَة الأولى وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ يتَوَضَّأ فنسي لمْعَة فِي الْمرة الأولى فانغسلت فِي الغسلة الثَّانِيَة أَو الثَّالِثَة أَجزَأَهُ على الصَّحِيح بِخِلَاف مَا إِذا انغسلت اللمْعَة فِي تَجْدِيد الْوضُوء فَإِنَّهُ لَا يُجزئهُ على الصَّحِيح وَالْفرق أَن نِيَّة التَّجْدِيد لم تشْتَمل على نِيَّة فرض بِخِلَاف الغسلة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة فَإِن نِيَّة فرض الْوضُوء شملت الثَّلَاث فَمَا لم يتمم الأولى لَا تحصل الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَالْخَطَأ فِي الِاعْتِقَاد لَا يضر أَلا ترى أَن الْمُصَلِّي لَو ترك سَجْدَة من الأولى نَاسِيا وَسجد فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة تمت الأولى وَإِن اعْتقد خلاف ذَلِك وَالله أعلم(1/23)
قَالَ
(وَغسل الْوَجْه) الْفَرْض الثَّانِي غسل الْوَجْه وَهُوَ أول الْأَركان الظَّاهِرَة قَالَ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} وَيجب استيعابه بِالْغسْلِ وَحده من مُبْتَدأ تَسْتَطِيع الْجَبْهَة إِلَى مُنْتَهى الذقن طولا وَمن الْأذن إِلَى الْأذن عرضا وَمَوْضِع التحذيف لَيْسَ من الْوَجْه والصدغان ليسَا من الْوَجْه على الْأَصَح فِي شرح الرَّوْضَة وَرجع فِي الْمُحَرر أَنَّهُمَا من الْوَجْه ثمَّ الشّعْر النَّابِت فِي الْوَجْه قِسْمَانِ
أَحدهمَا لم يخرج عَن حد الْوَجْه
الثَّانِي خَارج عَنهُ وَالَّذِي لم يخرج عَن حد الْوَجْه قد يكون نَادِر الكثافة وَقد يكون غير نَادِر الكثافة فالنادر الكثافة كالحاجبين والأهداب والشاربين والعذارين وهما المحاذيان لللأذنين بَين الصدغ والعارض فَيجب غسل ظَاهر هَذِه الشُّعُور وباطنها مَعَ الْبشرَة تحتهَا وَإِن كثف لِأَنَّهَا من الْوَجْه وَأما شعر العارضين فَإِن كَانَ خَفِيفا وَجب غسل ظَاهره وباطنه مَعَ الْبشرَة وَإِن كَانَ كثيفاً وَجب غسل ظَاهره على الْأَظْهر وَلَو خف بعضه وكثف بعضه فالراجح أَن للخفيف حكم الْخَفِيف الْمَحْض وللكثيف حكم الكثيف الْمَحْض وَفِي ضَابِط الْخَفِيف والكثيف خلاف الصَّحِيح أَن الْخَفِيف مَا ترى الْبشرَة تَحْتَهُ فِي مجْلِس التخاطب والكثيف مَا يمْنَع الرُّؤْيَة
الْقسم الثَّانِي الشُّعُور الْخَارِجَة عَن حد الْوَجْه وَهُوَ شعر اللِّحْيَة والعارض والعذار والسبال طولا وعرضاً فالراجح وجوب غسل ظَاهرهَا فَقَط لِأَنَّهُ يحصل بِهِ المواجهة وَقيل لَا يجب لِأَنَّهَا خَارِجَة عَن حد الْوَجْه قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة يجب غسل جُزْء من رَأسه ورقبته وَمَا تَحت ذقنه مَعَ الْوَجْه ليتَحَقَّق استيعابه وَلَو قطع أَنفه أَو شفته لزمَه غسل مَا ظهر بِالْقطعِ فِي الْوضُوء وَالْغسْل على الصَّحِيح لِأَنَّهُ يبْقى وَجها وَيجب غسل مَا ظهر من حمرَة الشفتين وَيسْتَحب أَن يَأْخُذ المَاء بيدَيْهِ جَمِيعًا قَالَ
(وَغسل الْيَدَيْنِ مَعَ الْمرْفقين)
الْفَرْض الثَّالِث غسل الْيَدَيْنِ مَعَ الْمرْفقين لقَوْله تَعَالَى {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} وَلَفْظَة إِلَى ترد بعنى مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {من أَنْصَارِي إِلَى الله} أَي مَعَ الله وَيدل لذَلِك مَا روى(1/24)
جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُدِير المَاء على الْمرَافِق) وروى أَنه أدَار المَاء على مرفقيه ى وَقَالَ هَذَا وضوء لَا يقبل الله الصَّلَاة إِلَّا بِهِ) وَيجب إِيصَال المَاء إِلَى جَمِيع الشّعْر والبشرة حَتَّى لَو كَانَ تَحت أظافره وسخ يمْنَع وُصُول المَاء إِلَى الْبشرَة لم يَصح وضوؤه وَصلَاته باطله وَالله أعلم قَالَ
(وَمسح بعض الرَّأْس)
الْفَرْض الرَّابِع مسح بعض الرَّأْس لقَوْله تَعَالَى {وامسحوا برؤوسكم} وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا مسح جَمِيع الرَّأْس لحَدِيث الْمُغيرَة رَضِي الله عَنهُ
(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ وَمسح بناصيته وعَلى عمَامَته وعَلى الْخُفَّيْنِ) وَلِأَن من أَمر يَده على هَامة الْيَتِيم صَحَّ أَن يُقَال مسح بِرَأْسِهِ وَحِينَئِذٍ فَالْوَاجِب مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْمسْح وَلَو بعض شعره أَو قدره من الْبشرَة وَشرط الشّعْر الْمَمْسُوح أَن لَا يخرج عَن حد الرَّأْس لَو مده بأنى بِأَن كَانَ متجعداً وَلَا يضر مُجَاوزَة منبت الْمَمْسُوح على الصَّحِيح وَلَو غسل رَأسه بدل الْمسْح أَو ألْقى عَلَيْهِ قَطْرَة وَلم تسل أَو وضع يَده الَّتِي عَلَيْهَا المَاء على رَأس وَلم يمرها أَجزَأَهُ على الصَّحِيح قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَلَا تتَعَيَّن الْيَد للمسح بل يجوز بخشبة أَو خرقَة وَغَيرهمَا وَيجْزِي مسح غَيره لَهُ وَالْمَرْأَة كَالرّجلِ فِي الْمسْح وَالله أعلم قَالَ
(وَغسل الرجلَيْن مَعَ الْكَعْبَيْنِ)
لقَوْله تَعَالَى {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فعلى قِرَاءَة النصب يكون الْغسْل مُتَعَيّنا وَالتَّقْدِير واغسلوا أَرْجُلكُم وعَلى قِرَاءَة الْجَرّ فَالسنة بيّنت الْغسْل وَلَو كَانَ الْمسْح جَائِزا لبينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو مرّة كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَاتفقَ الْعلمَاء على أَن المُرَاد بالكعبين العظمان الناتئان بَين السَّاق والقدم وَفِي كل رجل كعبان وشذت الرافضة قبحهم الله تَعَالَى فَقَالَت فِي كل رجل كَعْب وَهُوَ الْعظم الَّذِي فِي ظهر الْقدَم وَحكى هَذَا عَن مُحَمَّد بت الْحسن وَلَا يَصح وَحجَّة الْعلمَاء فِي ذَلِك نقل أهل اللُّغَة والاشتقاق وَهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي نَحن فِيهِ يدل لذَلِك فَفِيهِ
(فَغسل رجله الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَرجله الْيُسْرَى كَذَلِك) فَأثْبت فِي كل رجل كعبين وَالله أعلم(1/25)
قلت وَحَدِيث النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صَرِيح فِي ذَلِك قَالَ
(قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقِيمُوا صفوفكم فَرَأَيْت الرجل منا يلصق مَنْكِبه بمنكب صَاحبه وكعبه بكعبه) وَمَعْلُوم أَن هَذَا فِي كَعْب الْمفصل وَلَا يَتَأَتَّى فِي الَّذِي على ظهر الْقدَم وَالله تَعَالَى أعلم
وَاعْلَم أَن الْغسْل وَاجِب إِذا لم يمسح على الْخُف وَقِرَاءَة الْجَرّ مَحْمُولَة على مسح الْخُف وَيجب غسل جَمِيع الرجلَيْن بِالْمَاءِ وينقي الْبشرَة وَالشعر حَتَّى يجب غسل مَا ظهر بالشق وَلَو وضع فِي الشق شمعة أَو حناء وَله جرم لَا يجزيء وضوؤه وَلَا تصح صلَاته وَكَذَا يجب عَلَيْهِ إِزَالَة خرء البراغيث حَيْثُ اسْتَيْقَظَ من نَومه فليحترز عَن مثل ذَلِك فَلَو تَوَضَّأ وَنسي إِزَالَته ثمَّ علم وَجب عَلَيْهِ غسل ذَلِك الْمَكَان وَمَا بعده وإعادة الصَّلَاة وَالله أعلم
(فرع) إِذا اجْتمع على الشَّخْص حدث أَصْغَر وَهُوَ الْوضُوء وَحدث أكبر وَهُوَ الْغسْل فَفِيهِ خلاف منتشر الصَّحِيح الْمُفْتى بِهِ يَكْفِيهِ غسل جَمِيع بدنه بنية الْغسْل وَلَا يجب عَلَيْهِ الْجمع بَين الْوضُوء وَالْغسْل وَلَا تَرْتِيب فِي ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(والتريب على مَا ذَكرْنَاهُ)
الْفَرْض السَّادِس التَّرْتِيب وفرضيته مستفادة من الْآيَة إِذا قُلْنَا الْوَاو للتَّرْتِيب وَإِلَّا فَمن فعله وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذْ لم ينْقل عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه تَوَضَّأ إِلَّا مُرَتبا وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ بعد أَن تَوَضَّأ مُرَتبا
(هَذَا وضوء لَا يقبل الله الصَّلَاة إِلَّا بِهِ) أَي بِمثلِهِ وَلِأَن الْوضُوء عبَادَة يرجع فِي حَالَة الْغدر إِلَى نصفهَا فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيب كَالصَّلَاةِ فَلَو نسي التَّرْتِيب لم يجزه كَمَا لَو نسي الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة أَو النَّجَاسَة على بدنه
(فرع) خرج من فرجه بَلل يجوز أَن يكون منياً وَيجوز أَن يكون مذياً واشتبه عَلَيْهِ الْحَال فَمَا الَّذِي يجب عَلَيْهِ فِيهِ خلاف منتشر علقته فِي بعض الْكتب أَكثر من ثَلَاثَة عشرَة مقَالَة الرَّاجِح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه يتَخَيَّر فَإِن شَاءَ جعله منياً واغتسل وَإِن شَاءَ جعله مذياً وَغسل مَا أَصَابَهُ من بدنه وثوبه وَتَوَضَّأ لِأَنَّهُ إِذا جعله مذياً وَتَوَضَّأ فقد أَتَى بِمَا يَقْتَضِي الْوضُوء فارتفع حَدثهُ الْأَصْغَر وَبَقِي الْحَدث الْأَكْبَر مشكوكاً فِيهِ وَالْأَصْل عَدمه وَكَذَا يُقَال إِذا اغْتسل وَقيل يجب عَلَيْهِ الْأَخْذ بالإحتياط لأَنا تحققنا(1/26)
شغل ذمَّته بِأحد الحدثين وَلَا يخرج عَن ذَلِك إِلَّا بِيَقِين بِأَن يحْتَاط كَمَا لَو لزم ذمَّته صَلَاة من صَلَاتَيْنِ وَلم يعرف عينهَا يجب عَلَيْهِ أَن يُصَلِّيهمَا وَهَذَا قوي رَجحه النَّوَوِيّ رَحمَه الله فِي شرح ى التَّنْبِيه وَفِي رُؤُوس الْمسَائِل لَهُ وَالله أعلم قَالَ
سنَن الْوضُوء
(فصل وسننه عشر خِصَال التَّسْمِيَة) للْوُضُوء سنَن مِنْهَا التَّسْمِيَة فِي ابْتِدَائه
(رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وضع يَده فِي إِنَاء وَقَالَ لأَصْحَابه توضئوا باسم الله)
(كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله فَهُوَ أَجْذم) أَي أقطع وَهِي سنة متأكدة وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد بِوُجُوبِهَا فَلَو نَسِيَهَا فِي ابْتِدَاء الْوضُوء أَتَى بهَا مَتى ذكرهَا فِي الْوضُوء كَمَا فِي تَسْمِيَة الطَّعَام وَلَو تَركهَا عمدا فَهَل يشرع تداركها فِيهِ خلاف والراجع نعم وَفِي الحَدِيث
(من تَوَضَّأ وَذكر اسْم الله كَانَ طهُورا لجَمِيع بدنه وَإِن لم يذكر اسْم الله تَعَالَى كَانَ طهُورا لأعضاء وضوئِهِ)
(وَغسل الْكَفَّيْنِ قبل إدخلهما الْإِنَاء)
من سنَن الْوضُوء غسل الْكَفَّيْنِ قبل الْوَجْه وَلَهُمَا أَحْوَال
أَحدهمَا أَن يتَيَقَّن نجاستهما فَهَذَا يكره لَهُ غمس كفيه فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا ثَلَاثًا كَرَاهَة تَحْرِيم لِأَنَّهُ يفْسد المَاء
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يشك فِي نجاستهما كمن نَام وَلَا يدْرِي أَيْن باتت يَده فَهَذَا يكره لَهُ أَيْضا غمس كفيه فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا ثَلَاثًا لقَوْل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا قَامَ أحدكُم من نَومه فليغسل يَدَيْهِ قبل أَن يدخلهما فِي الْإِنَاء ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) وَفِي رِوَايَة
(فَلَا يغمس يَدَيْهِ فِي الْإِنَاء قبل أَن يغسلهما ثَلَاثًا) وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى وجوب غسلهمَا قبل إدخالهما فِي الْإِنَاء عِنْد الاستيقاظ من النّوم لظَاهِر النَّهْي وَلم يفرق بَين نوم اللَّيْل وَالنَّهَار وَذهب(1/27)
الإِمَام أَحْمد إِلَى وجوب ذَلِك من نوم اللَّيْل دون نوم النَّهَار لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَيْن باتت يَده) وَالْمَبِيت يكون بِاللَّيْلِ دون النَّهَار وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله حمل النَّهْي على غير الْوُجُوب لقَرِينَة
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يتَيَقَّن طهارتهما فَهَذَا لَا يكره لَهُ غمس كفيه فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا وَلَكِن يسْتَحبّ وَهَذِه الْحَالة هِيَ الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ ومأخذها أَنه الْوَارِد فِي صفة وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ سلم من غير تعرض لسبق نوم وانتفت الْكَرَاهَة لفقد الْعلَّة الْوَارِدَة فِي الْخَبَر إِذْ الحكم يَدُور مَعَ الْعلَّة وجودا وعدماً وَالله أعلم قَالَ
(والمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق)
لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ اللإمام
أَحْمد بوجوبهما وَحجَّة الشَّافِعِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(عشر من السّنة وعد مِنْهَا الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق) ثمَّ أصل السّنة يحصل بإيصال المَاء إِلَى الْفَم وَالْأنف سَوَاء أداره أم لَا وَهَذَا هُوَ الرَّاجِح لَكِن نَص الشَّافِعِي على إِرَادَته فِي الْفَم وَلَا يشْتَرط فِي تَحْصِيل السّنة أَن يمج المَاء حَتَّى لَو ابتلع تأدت السّنة قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَذهب جمَاعَة إِلَى اشْتِرَاط مج المَاء فِي تَحْصِيل السّنة وَتَقْدِيم الْمَضْمَضَة على الِاسْتِنْشَاق شَرط فِي تَحْصِيل السّنة على الرَّاجِح وَقيل مُسْتَحبّ وَالله أعلم
(فرع) يسْتَحبّ الْمُبَالغَة فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق لغير الصَّائِم وَأما الصَّائِم فَقيل يحرم فِي حقة قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب وَقيل يكره قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيره وَقيل تَركهَا مُسْتَحبّ قَالَه ابْن الصّباغ وَالله أعلم قَالَ
(واستعياب الرَّأْس بِالْمَسْحِ)
من سنَن الْوضُوء اسْتِيعَاب الرَّأْس بِالْمَسْحِ لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وللخروج من الْخلاف وَالسّنة فِي كَيْفيَّة الْمسْح أَن يبْدَأ بِمقدم رَأسه ثمَّ يذهب بيدَيْهِ إِلَى قَفاهُ ثمَّ يردهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ روى ذَلِك عبد الله بن زيد رَضِي الله عَنهُ فِي وصف وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَضَع إبهاميه على صدغيه ويلصق السبابتين والذهاب وَالْعود مرّة وَهَذَا فِيمَن لَهُ شعر يَنْقَلِب بالذهاب وَالرَّدّ ليصل البلل إِلَى بَاطِن الشّعْر وَظَاهره وَأما من لَا شعر لَهُ أَو لَهُ شعر لَا يَنْقَلِب فَيقْتَصر على الذّهاب فَلَو رده لم تحسب ثَانِيَة لكَون المَاء بَقِي مُسْتَعْملا وَلَو لم يرد نزع مَا على رَأسه من عِمَامَة أَو غَيرهَا مسح على جُزْء من رَأسه وتمم على الْعِمَامَة وَالْأَفْضَل أَن لَا يقْتَصر على أقل من الناصية لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مسح بناصيته وعَلى عمَامَته وَشرط الرَّافِعِيّ أَن يعسر رفع الْعِمَامَة ذكره فِي الشرحين وَالْمُحَرر وَتَبعهُ فِي(1/28)
الْمِنْهَاج وحذفه من الرَّوْضَة وَلَا يجوز الِاقْتِصَار على مسح الْعِمَامَة قطعا فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة لِأَنَّهُ مَأْمُور بمسح الرَّأْس والماسح على الْعِمَامَة لَيْسَ بماسح لَهُ وَفِي الْبَحْر عَن مُحَمَّد بن نصر من كبار الْأَصْحَاب أَنه يَكْفِي وَالله أعلم قَالَ
(وَمسح الْأُذُنَيْنِ)
يسْتَحبّ مسح الْأُذُنَيْنِ ظَاهرهَا وباطنها بِمَاء جَدِيد وَكَذَا يسْتَحبّ مسح الصماخين بِمَاء جَدِيد قَالَ عبد الله بن زيد رَضِي الله عَنهُ
(رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ فَأخذ لأذنيه مَاء خلاف المَاء الَّذِي أَخذه لرأسه) وَكَيْفِيَّة الْمسْح أَن يدْخل مسيحتيه فِي صماخيه ويديرهما فِي المعاطف ويمر إبهاميه على ظَاهر أُذُنَيْهِ ثمَّ يلصق كفيه وهما مبلولتان بالأذنين استظهاراً وَهَذِه الْكَيْفِيَّة ذكرهَا الرَّافِعِيّ وأسقطها النَّوَوِيّ من الرَّوْضَة قَالَ
(وتخليل اللِّحْيَة الكثة وتخليل أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ)
روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
(أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ إِذا تَوَضَّأ شَبكَ لحيته الْكَرِيمَة بأصابعه من تحتهَا) وروى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخلل لحيته) قَالَ وَأما تَخْلِيل الْأَصَابِع فَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا تَوَضَّأت فخلل أَصَابِع يَديك ورجليك) وَقَالَ وَكَيْفِيَّة تَخْلِيل أَصَابِع رجلَيْهِ أَن يبْدَأ بخنصر يَده الْيُسْرَى من أَسْفَل الرجل مبتدئاً بخنصر الرجل الْيُمْنَى خَاتمًا بخنصر الْيُسْرَى وَهَذِه الْكَيْفِيَّة رجحها النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَحكى وَجها أَنه يخلل بَين كل إِصْبَع من أَصَابِع الرجلَيْن بإصبع من أَصَابِع يَده وَحكى فِي شرح الْمُهَذّب وَجها آخر أَنه يبْدَأ بخنصر الْيَد الْيُمْنَى وَأخْبر أَنَّهُمَا سَوَاء وَعَزاهُ إِلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ ثمَّ قَالَ إِن ماقاله الإِمَام هُوَ الرَّاجِح الْمُخْتَار وَكَذَا اخْتَارَهُ فِي التَّحْقِيق وتخليل الْأَصَابِع الْيَدَيْنِ بالتشبيك ثمَّ إِن كَانَت الْأَصَابِع ملتفة لَا يصل المَاء إِلَيْهَا بالتخليل وَجب وَإِن كَانَت ملتحمة قَالَ لَا يجب فتقها وَلَا يسْتَحبّ قَالَه فِي الزِّيَادَة الرَّوْضَة بل لَا يجوز وَالله أعلم قَالَ
(وَتَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى وَالطَّهَارَة ثَلَاثًا ثَلَاثًا والموالاة)(1/29)
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا توضأتم فابدءوا بميامنكم)
(وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب التَّيَامُن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره وَفِي شَأْنه كُله) وَمعنى التَّرَجُّل التسريح يبْدَأ بالشق الْأَيْمن فِي الطّهُور وَيبدأ بِالْيَدِ الْيُمْنَى وَالرجل الْيُمْنَى فِي الْوضُوء وبالشق الْأَيْمن فِي الْغسْل وَأما الأذنان والخدان فيطهران مَعًا فَإِن كَانَ أقطع قدم الْيَد الْيُمْنَى وَأما اسْتِحْبَاب كَونه ثَلَاثًا فَفِي حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
(أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الرَّأْس وَغَيره وَاسْتحبَّ بعض الْأَصْحَاب مسح الرَّأْس مرّة وَاحْتج بِأَن أَحَادِيث عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الصِّحَاح تدل على مسح الرَّأْس مرّة قَالَ وَقد جَاءَ فِي مُسلم فِي وصف عبد الله بن زيد وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه مسح رَأسه مرّة وَاحِدَة وَقد قيل إِن التِّرْمِذِيّ حَكَاهُ عَن نَص الشَّافِعِي وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي وَبِه جزم الْجُمْهُور أَنه يسْتَحبّ مَسحه ثَلَاثًا وَحجَّة ذَلِك حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد فِي حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مسح رَأسه ثَلَاثًا نعم فِي سَنَده عَامر بن شَقِيق قَالَ الْحَاكِم لَا أعلم فِي عَامر طَعنا بِوَجْه من الْوُجُوه وَفِي ابْن مَاجَه
(أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمسح رَأسه ثَلَاثًا وَقَالَ هَذَا وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله أعلم
وأهمل المُصَنّف رَحمَه الله سنناً مِنْهَا مسح الرَّقَبَة وَصحح الرَّافِعِيّ فِي شرح الصَّغِير أَنَّهَا سنة وَاحْتج فِي الشَّرْح الْكَبِير بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(مسح الرَّقَبَة أَمَان من الغل) وَاعْترض النَّوَوِيّ فَقَالَ لَا يمسح لِأَنَّهُ لم يثبت فِيهَا شَيْء وَلِهَذَا لم يذكرهُ الشَّافِعِي ومتقدموا الْأَصْحَاب وَهُوَ الصَّوَاب قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب والْحَدِيث مَوْضُوع قَالَ الْحَمَوِيّ شَارِح التبنيه الْجَدِيد أَن مسح الرَّقَبَة لَيْسَ بِسنة وَمُقْتَضَاهُ أَن فِي ذَلِك قَوْلَيْنِ وَالله أعلم وَمِنْهَا الدَّعْوَات على أَعْضَاء الْوضُوء قَالَه الرَّافِعِيّ قَالَ النَّوَوِيّ هَذِه الْأَدْعِيَة لَا أصل لَهَا وَلم يذكرهَا إِلَّا الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور وَمِنْهَا الِاسْتِعَانَة هَل تكره وَجْهَان قَالَ النَّوَوِيّ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذا اسْتَعَانَ بِمن يصب عَلَيْهِ وأصحهما لَا يكره أما إِذا اسْتَعَانَ بِمن يغسل أعضاءه فمكروه قطعا وَإِن كَانَ بإختصار المَاء فَلَا بَأْس وَلَا يُقَال خلاف الأولى وَحَيْثُ كَانَ لَهُ عذر فَلَا بَأْس بالإستعانة مُطلقًا وَمِنْهَا هَل يسْتَحبّ ترك التنشيف فِيهِ أوجه الصَّحِيح أَن تَركه(1/30)
مُسْتَحبّ كَذَا صَححهُ فِي أصل الرَّوْضَة وَقيل إِنَّه مُبَاح فعله وَتَركه سَوَاء وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَقيل مُسْتَحبّ مُطلقًا وَقيل يكره التنشيف مُطلقًا وَقيل يكره فِي الصَّيف دون الشتَاء قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب مَحل الْخلاف إِذا لم تكن حَاجَة إِلَى التنشيف لحر أَو برد أَو التصاق نَجَاسَة فَإِن كَانَ فَلَا كَرَاهَة قطعا وَلَا يُقَال إِنَّه خلاف الْمُسْتَحبّ وَمِنْهَا يسْتَحبّ أَن لَا ينفض يَدَيْهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا توضأتم فَلَا تنفضوا أَيْدِيكُم فَإِنَّهَا مراوح الشَّيْطَان) وَغَيره فَلَو خَالف ونفض فَالَّذِي جزم بِهِ الرَّافِعِيّ أَنه يكره وَخَالف النَّوَوِيّ فرجح أَنه لَا يكره بل هُوَ مُبَاح فعله وَتَركه سَوَاء وَقَالَ فِي التَّحْقِيق لِأَنَّهُ خلاف الأولى والْحَدِيث قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه ضَعِيف لَا يعرف وَمِنْهَا الْمُوَالَاة وَهِي واجبه فِي الْقَدِيم وَأَن يَقُول بعد التَّسْمِيَة الْحَمد لله الَّذِي جعل المَاء طهُورا ويخلل الْخَاتم ويتعهد مَا يحْتَاج إِلَى الِاحْتِيَاط وَيبدأ بِأَعْلَى وَجهه وبمقدم الرَّأْس وَفِي الْيَد وَالرجل بأطراف الْأَصَابِع إِن صب على نَفسه وَإِن صب عَلَيْهِ غَيره بَدَأَ بالمرفقين وَالْكَفَّيْنِ وَأَن لَا ينقص مَاء الْوضُوء عَن مد وَلَا يسرف وَلَا يزِيد على ثَلَاث مَرَّات وَلَا يتَكَلَّم فِي أثْنَاء الْوضُوء وَلَا يلطم وَجهه بِالْمَاءِ وَأَن يَقُول بعد الْوضُوء
(أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك) وَبقيت سنَن أخر مَذْكُورَة فِي الْكتب المطولة تركناها خشيَة الإطالة وَالله أعلم
(فرع) لَو شكّ فِي غسل بعض أَعْضَائِهِ فِي أثْنَاء الطَّهَارَة لم يسحب لَهُ وَبعد الْفَرَاغ لايضر الشَّك على الرَّاجِح لِكَثْرَة الشَّك مَعَ أَن الظَّاهِر كَمَال الطَّهَارَة وَيشْتَرط فِي غسل الْأَعْضَاء جَرَيَان المَاء على الْعُضْو المغسول بِلَا خلاف وَالله تَعَالَى أعلم قَالَ
بَاب الِاسْتِنْجَاء وآداب التخلي
(فصل والاستنجاء وَاجِب من الْبَوْل وَالْغَائِط) احْتج لَهُ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار) وَهُوَ أَمر وَظَاهره الْوُجُوب وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه ثَلَاثَة أَحْجَار يَسْتَطِيب(1/31)
بِهن فَإِنَّهَا تجزيء عَنهُ) وَقَوله
(من الْبَوْل وَالْغَائِط) يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لَا يجب من الرّيح بل قَالَ الْأَصْحَاب لَا يسْتَحبّ بل قَالَ الْجِرْجَانِيّ إِنَّه مَكْرُوه قَالَ الشَّيْخ نصر إِنَّه بِدعَة وَيَأْثَم بِهِ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أما قَوْله بِدعَة فَصَحِيح وَأما الْإِثْم فَلَا إِلَّا أَن يعْتَقد وُجُوبه مَعَ علمه بِعَدَمِهِ وَقَالَ ابْن الرّفْعَة إِذا كَانَ الْمحل رطبا يَنْبَغِي أَن يَجِيء فِي وجوب الِاسْتِنْجَاء مِنْهُ خلاف بِنَاء على نَجَاسَة دُخان النَّجَاسَة كَمَا قيل بِمثلِهِ فِي تنجس الثَّوْب الَّذِي يُصِيبهُ وَهُوَ رطب ثمَّ قَالَ وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ لايزيد على الْبَاقِي على الْمحل بعد الِاسْتِجْمَار
(وَالْأَفْضَل أَن يستجمر بالأحجار ثمَّ يتبعهَا بِالْمَاءِ وَيجوز أَن يقْتَصر على المَاء أَو على ثَلَاثَة أَحْجَار ينقي يهن الْمحل وَإِذا أَرَادَ الِاقْتِصَار على أَحدهمَا فالماء أفضل)
الْأَفْضَل فِي الِاسْتِنْجَاء أَن يجمع بَين المَاء وَالْحجر أَو مَا فِي مَعْنَاهُ لِأَن الله تَعَالَى أثنى على أهل قبَاء بذلك وَأنزل فيهم قَوْله تَعَالَى وَهُوَ أصدق الْقَائِلين {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين} وَفِيه من طَرِيق الْمَعْنى أَن الْعين تَزُول بِالْحجرِ والأثر يَزُول بِالْمَاءِ فَلَا يحْتَاج إِلَى ملاطخة النَّجَاسَة لهَذَا يقدم الْحجر أَولا ثمَّ إِن قَضِيَّة التَّعْلِيل أَنه لَا يشْتَرط طَهَارَة الْحجر وَبِه صرح الْعجلِيّ وَنَقله عَن الغزالى وَاعْلَم أَن الحَدِيث ضَعَّفُوهُ وَلَفظه
(فَسَأَلَهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالُوا نتبع الْحِجَارَة المَاء) وَأنكر النَّوَوِيّ هَذِه الرِّوَايَة فِي شرح الْمُهَذّب فَقَالَ كَذَا رَوَاهَا الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ وَلَيْسَ لَهُ أصل فِي كتب الحَدِيث بل الْمَذْكُور فِيهَا
(كُنَّا نستنجي بِالْمَاءِ) وَلَيْسَ فِيهَا مَعَ الْحجر وَلَو أقتصر على المَاء أَجزَأَهُ لِأَنَّهُ يزِيل الْعين والأثر وَهُوَ الْأَفْضَل عِنْد الِاقْتِصَار على أَحدهمَا وَيجوز أَن يقْتَصر على ثَلَاثَة أَحْجَار أَو على حجر لَهُ ثَلَاثَة أحرف وَالْوَاجِب ثَلَاثَة مسحات فَإِن حصل الإنقاء بهَا وَإِلَّا وَجَبت الزِّيَادَة إِلَى الإنقاء وَيسْتَحب الإيتار
وَاعْلَم أَن كل ماهو فِي معنى الْحجر يجوز الِاسْتِنْجَاء بِهِ وَله شُرُوط أَحدهَا أَن يكون طَاهِرا فَلَو استنجى بِنَجس تعين المَاء بعده على الصَّحِيح الشَّرْط الثَّانِي أَن يكون مَا يستنجي بِهِ قالعاً للنَّجَاسَة منشفاً فَلَا يجزىء الزّجاج وَلَا الْقصب(1/32)
وَلَا التُّرَاب المتناثر وَيجوز الصلب فَلَو استنجى بِمَا لايقلع لم يجزه وَلَو استنجى برطب من حجر أَو غَيره لم يجزه على الصَّحِيح
الشَّرْط الثَّالِث أَن يكون مُحْتَرما فَلَا يجوز الِاسْتِنْجَاء بمطعوم كالخبز والعظم وَلَا بِجُزْء مِنْهُ كَيده وَيَد غَيره وَلَا بِجُزْء حَيَوَان مُتَّصِل بِهِ كذنب الْبَعِير لِأَنَّهُ مُحْتَرم وَإِذا استنجى بمحترم عصى وَلَا يجْزِيه على الصَّحِيح نعم يجوز الْحجر بعده بِشَرْط أَن لَا تنْتَقل النَّجَاسَة وَأما الْجلد فَالْأَظْهر أَنه إِن كَانَ مدبوغاً جَازَ الِاسْتِنْجَاء بِهِ وَإِلَّا فَلَا ثمَّ يشْتَرط مَعَ ذَلِك أَن يجِف الْخَارِج فَإِن جف تعين المَاء لِأَنَّهُ لَا يُمكن إِزَالَته إِلَّا بذلك قَالَ
(ويجتنب اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها فِي الصَّحرَاء)
إِذا أَرَادَ قَضَاء الْحَاجة فِي الصَّحرَاء حرم عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَال والاستدبار إِذا لم يسْتَتر بِشَيْء ستْرَة مُعْتَبرَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا أتيتم الْغَائِط فَلَا تستقبلوا الْقبْلَة وَلَا تستدبروها ببول وَلَا غَائِط وَلَكِن شرقوا أَو غربوا) نهى عَن ذَلِك وَظَاهره التَّحْرِيم وَاخْتلف فِي عِلّة ذَلِك فَقيل لِأَن الصَّحرَاء لَا تَخْلُو عَن مصل من ملك أَو جني أَو إنسي فَرُبمَا وَقع بَصَره على فرجه فَيَتَأَذَّى بِهِ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح التَّنْبِيه هَذَا التَّعْلِيل ضَعِيف وَالتَّعْلِيل الصَّحِيح مَا ذكره القَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ وَالرُّويَانِيّ وَغَيرهم أَن جِهَة الْقبْلَة معظمة فَوَجَبَ صيانتها فِي الصَّحرَاء وَرخّص فِي الْبُنيان للْمَشَقَّة وَالله أعلم
(قلت) وقوى هَذَا التَّعْلِيل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث سراقَة بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
(إِذا أَتَى أحدكُم الْبَوْل فَليُكرم قبْلَة الله عز وَجل فَلَا يستفبل الْقبْلَة) قَالَ وَهَذَا ظَاهر قوي فِي التَّعْلِيل بِمَا ذَكرْنَاهُ وَالله أعلم قَالَ النَّوَوِيّ إِن كَانَ بَين يَدَيْهِ سَاتِر مُرْتَفع قدر ثُلثي ذِرَاع وَقرب مِنْهُ على ثَلَاثَة أَذْرع جَازَ الِاسْتِقْبَال سَوَاء كَانَ فِي الْبُنيان أَو الصَّحرَاء هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَمِنْهُم من جزم فِي الصَّحرَاء مُطلقًا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب وَالله أعلم وَقَوله فِي
(الصَّحرَاء) احْتَرز بهَا عَن غَيرهَا فَلَا يحرم اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها فِي الْبُنيان قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
(ارتقيت على ظهر بَيت لنا فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على لبنتين مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ
(فرأيته مستدبر الْقبْلَة مُسْتَقْبل الشَّام) وَالله أعلم قَالَ(1/33)
(وَالْبَوْل فِي المَاء الراكد)
تَقْدِير كَلَام الشَّيْخ ويجتنب الْبَوْل فِي المَاء الراكد وَقد عد الرَّافِعِيّ عدم الْبَوْل فِيهِ من الْآدَاب وَتَبعهُ فِي الرَّوْضَة وَاحْتج لذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم) وَفِي رِوَايَة
(الراكد) قَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا الْمَنْع يَشْمَل الْقَلِيل وَالْكثير لما فِيهِ من الاستقذار وَالنَّهْي فِي الْقَلِيل أَشد لما فِيهِ من تنجس المَاء وَفِي اللَّيْل أَشد لما قيل إِن المَاء للجن فِي اللَّيْل فَلَا يَنْبَغِي أَن يبال فِيهِ وَلَا يغْتَسل فِيهِ خوفًا من آفَة تصيبه مِنْهُم هَذَا كُله فِي الراكد وَأما المَاء الْجَارِي فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ جمَاعَة إِن كَانَ قَلِيل كره وَإِن كَانَ كثير فَلَا وَفِيه نظر وَيَنْبَغِي أَن يحرم الْبَوْل الْقَلِيل قطعا لِأَن فِيهِ إتلافاً عَلَيْهِ وعَلى غَيره وَأما الْكثير فَالْأولى اجتنابه لَكِن جزم ابْن الرّفْعَة بِالْكَرَاهَةِ فِي المَاء الْكثير الْجَارِي لَيْلًا لأجل الجان وَالله أعلم قَالَ
(وَتَحْت الشَّجَرَة المثمرة) أَي ويجتنب الْبَوْل تَحت الشَّجَرَة المثمرة وَالْغَائِط أولى وَالْحكمَة فِي ذَلِك حَتَّى لَا تنجس الثَّمَرَة فتغسل أَو تعافها الْأَنْفس وَالْمرَاد بالثمرة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تثمر قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَلِهَذَا تكون الْكَرَاهَة فِي غير وَقت الثَّمَرَة أخف قَالَ
(وَفِي الطَّرِيق)
أَي ويجتنب الْبَوْل فِي الطَّرِيق وَالْغَائِط أولى لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(اتَّقوا اللعانين قَالُوا وَمَا اللعانان يَا رَسُول الله قَالَ الَّذِي يتخلى فِي طَرِيق النَّاس أَو فِي ظلهم) قَالَ
(والثقب)
أَي ويجتنب أَن يَبُول فِي ثقب وَهُوَ مَا اسْتَدَارَ ويعبر عَنهُ بالبخش لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نهى أَن يبال فِي الْجُحر لِأَنَّهَا مسَاكِن الْجِنّ) قَالَ
(والظل)
أَي ويجتنب الْبَوْل وَالْغَائِط أولى فِي ظلّ النَّاس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(اتَّقوا الْملَاعن الثَّلَاث البرَاز فِي(1/34)
الْمَوَارِد وقارعة الطَّرِيق والظل) والموارد قيل الْمَوَاضِع الَّتِي يرد النَّاس إِلَيْهَا وَقيل طرق المَاء وقارعة الطَّرِيق أَعْلَاهُ وَقيل صَدره وَقيل مَا برز مِنْهُ ومواضع الشَّمْس فِي الشتَاء كمواضع الظل فِي الصَّيف وَيحرم الْبَوْل على الْقَبْر كَمَا يحرم الْجُلُوس عَلَيْهِ وَكَذَا يحرم الْبَوْل فِي الْمَسْجِد وَإِن كَانَ فِي إِنَاء على الرَّاجِح الْمُفْتى بِهِ وَيكرهُ الْبَوْل قَائِما إِلَّا لعذر لِأَنَّهُ فعله لعذر قَالَ
(وَلَا يتَكَلَّم على الْبَوْل وَالْغَائِط)
أَي ندبا قَالَ أَبُو سعيد رَضِي الله عَنهُ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
(لَا يخرج الرّجلَانِ يضربان الْغَائِط كاشفي عورتيهما يتحدثان فَإِن الله تَعَالَى يمقت على ذَلِك) والمقت أَشد البغض والْحَدِيث مَكْرُوه وَلم يفض إِلَى التَّحْرِيم كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أبْغض الْحَلَال إِلَى الله تَعَالَى الطَّلَاق) وَفِي معنى الْكَلَام رد السَّلَام وتشميت الْعَاطِس والتحميد فَلَو عطس حمد الله تَعَالَى بِقَلْبِه وَلَا يُحَرك لِسَانه قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ وَيَنْبَغِي أَن لَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَيَنْبَغِي أَن لَا ينظر مَا يخرج مِنْهُ وَلَا إِلَى فرجه وَلَا إِلَى السَّمَاء وَلَا يعبث بِيَدِهِ وَيكرهُ إطالة الْقعُود فِي الْخَلَاء وَيكرهُ أَن يكون مَعَه شَيْء فِيهِ اسْم الله تَعَالَى كالخاتم وَالدَّرَاهِم وَكَذَا مَا كَانَ فِيهِ قُرْآن وَألْحق باسم الله تَعَالَى اسْم رَسُوله تَعْظِيمًا لَهُ (كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا دخل الْخَلَاء وضع خَاتمه لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَاعْلَم أَن كل اسْم مُعظم مُلْحق بِمَا ذكرنَا فِي النزع صرح بِهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة فَيدْخل فِيهِ أَسمَاء جَمِيع الرُّسُل والأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(وَلَا يسْتَقْبل الشَّمْس وَالْقَمَر وَلَا يستدبرهما)
اسْتِقْبَال الشَّمْس وَالْقَمَر فِي حَال قَضَاء الْحَاجة مَكْرُوه سَوَاء فِي الصَّحرَاء والبنيان للأنهما من آيَات الله تَعَالَى الباهرة وَفِيه حَدِيث وَهل يكره استدبارهما قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الصَّحِيح الْمَشْهُور وَبِه قطع الْجُمْهُور أَن لَا يكره لَكِن جزم الرَّافِعِيّ فِي التذنيب أَنه يكره كالاستقبال وَوَافَقَهُ النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصر التذنيب ثمَّ إِن النَّوَوِيّ خَالف الْأَمريْنِ فِي شرح الْوَسِيط فَقَالَ لم يذكر الشَّافِعِي وَالْأَكْثَرُونَ أَن قَاضِي الْحَاجة يتْرك اسْتِقْبَال الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْمُخْتَار أَنه مُبَاح فعله(1/35)
وَتَركه سَوَاء وَقَالَ فِي التَّحْقِيق إِن الْكَرَاهَة لَا أصل لَهَا وَالله أعلم
(فرع) قَالَ فِي التَّنْبِيه وَلَا يرفع ثَوْبه حَتَّى يدنو من الأَرْض يَعْنِي عَن عَوْرَته لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَفْعَله وَهُوَ ندب قَالَ ابْن الرّفْعَة وَكَونه ندبا فِيهِ نظر لِأَن الصَّحِيح أَن كشف الْعَوْرَة فِي الْخلْوَة بِلَا حَاجَة حرَام لِأَن الله تَعَالَى أَحَق أَن يستحيا مِنْهُ وَلَا حَاجَة قبل الدنو وَمَا بَحثه ابْن الرّفْعَة خرجه النَّوَوِيّ فِي شرح التَّنْبِيه على ذَلِك لكنه قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِن هَذَا مُسْتَحبّ بالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ بِوَاجِب صرح بِهِ أَبُو حَامِد وَابْن الصّباغ وَالْمُتوَلِّيّ وَغَيرهم وَالله أعلم قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَيسْتَحب إِذا فرغ أَن يسبل ثَوْبه قبل انتصابه قَائِما قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَمَا قَالَه حسن إِذا لم يخف تنجيس ثَوْبه فَإِن خَافَ رَفعه قدر حَاجته وَمن آدَاب قَضَاء الْحَاجة أَن لَا يَبُول فِي مهب الرّيح وَأَن يعْتَمد على رجله الْيُسْرَى وقدمها عِنْد مَحل الْبَوْل وَأَن يهيىء أَحْجَار الِاسْتِجْمَار قبل جُلُوسه وَأَن لَا يستنجي بِالْمَاءِ فِي مَوضِع قَضَاء الْحَاجة إِلَّا فِي الميض وَأَن يَقُول عِنْد الدُّخُول بِسم الله اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث وَعند الْفَرَاغ الْحَمد لله الَّذِي أذهب عني الْأَذَى وعافاني وَأَن يبعد عَن النَّاس وَأَن يتَّخذ موضعا لينًا للبول وَأَن ينضح فرجه وسراويله بعد الِاسْتِنْجَاء دفعا للوسواس وَلَو غلب على ظَنّه زَوَال النَّجَاسَة ثمَّ شم من يَده ريحًا فَهَل يدل على بَقَاء النَّجَاسَة فِي الْمحل كَالْيَدِ الْأَصَح لَا وَالله أعلم قَالَ
نواقض الْوضُوء
(فصل وَالَّذِي ينْقض الْوضُوء خَمْسَة أَشْيَاء مَا خرج من السَّبِيلَيْنِ)
وينقض الْوضُوء أَيْضا شِفَاء دَائِم الْحَدث كمن بِهِ سَلس من الْبَوْل أَو غَيره وشفاء الْمُسْتَحَاضَة وينقضه أَيْضا انْقِضَاء مُدَّة الْمسْح وَقد ذكره الشَّيْخ فِي فصل مسح الْخُف وينقضه أَيْضا أكل لحم الْجَزُور على مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيّ وَقواهُ وَقَالَ إِن فِيهِ حديثين صَحِيحَيْنِ لَيْسَ عَنْهُمَا جَوَاب شاف وَقد اخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا الْمُحدثين وَقَالَ وَهُوَ مِمَّا يعْتَقد رجحانه وَالله أعلم وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْأَصْحَاب أَنه لَا ينْقض الْوضُوء وأجتبوا عَن هَذَا بِمَا روى جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار إِذا عرفت هَذَا فالخارج من السَّبِيلَيْنِ وهما(1/36)
الْقبل والدبر نَاقض للْوُضُوء عينا كَانَ أَو ريحًا مُعْتَادا أَو نَادرا كَالدَّمِ والحصى نجس الْعين كَانَ أَو طَاهِرا كالدود وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط} وَسُئِلَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن الْحَدث فَقَالَ
(فسَاء أَو ضراط) وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
(كنت رجلا مذاء فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَكَان ابْنَته فَأمرت الْمِقْدَاد بن الْأسود الْكِنْدِيّ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ) وَيسْتَثْنى مِمَّا خرج من السَّبِيلَيْنِ الْمَنِيّ على الْمَذْهَب فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة وَوجه بِأَن مَا أوجب أعظم الْأَمريْنِ بِخُصُوص فَلَا يُوجب أدونهما بِعُمُومِهِ كزنا الْمُحصن لما أوجب أعظم الحدين وَهُوَ الرَّجْم لكَونه زنا مُحصن لَا يُوجب أدونهما وَهُوَ الْجلد والتغريب لكَونه زنا وَقيل إِن خُرُوج الْمَنِيّ ينْقض الْوضُوء أَيْضا وَيُوجب الْغسْل كَمَا أطلقهُ الشَّيْخ وَكَذَا لفظ التَّنْبِيه وَبِه قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَأَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَجَمَاعَة مِنْهُم الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَصرح بِهِ ابْن شُرَيْح بِأَنَّهُ ينْقض وَإِطْلَاق الشَّافِعِي يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ قَالَ دلّت السّنة على الْوضُوء من الْمَذْي وَالْبَوْل وَالرِّيح وكل مَا خرج من وَاحِد من الْفرج وسخ فَفِيهِ الْوضُوء قَالَ ابْن عطيه فِي تَفْسِيره الْإِجْمَاع على أَن الْمَنِيّ نَاقض للْوُضُوء وَمَا اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ من أَن الشَّيْء إِذا أوجب أعظم الْأَمريْنِ إِلَى آخِره نقضه الْمَاوَرْدِيّ بِالْحيضِ وَقَالَ إِنَّه ينْقض الْوضُوء بالإتفاق وَوَافَقَ ابْن الرّفْعَة على أَنه ينْقض الْوضُوء وَالله أعلم قلت وَرَأَيْت بِخَط الجاربردي أَن الْحيض فِي نقضه للْوُضُوء خلاف وَعَزاهُ إِلَى بعض الْعِرَاقِيّين وَقَوله
(مَا خرج من السَّبِيلَيْنِ) احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا خرج من غَيرهمَا كالفصد والحجامة والقيء وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ لَا ينْقض الْوضُوء لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم وَصلى وَلم يتَوَضَّأ وَلم يزدْ على غسل محاجمه وَلِأَن النَّقْض بِمثل مَا وَردت بِهِ السّنة غير مَعْقُول الْمَعْنى فَلَا يَصح الْقيَاس عَلَيْهِ وَلِأَن الْخُرُوج من السَّبِيلَيْنِ لَهُ خُصُوصِيَّة لَا تُوجد فِي غَيرهمَا وَالله أعلم قَالَ
(وَالنَّوْم على غير هَيْئَة المتمكن من الأَرْض مقعدة وَزَوَال الْعقل بسكر أَو مرض)
الناقض الثَّانِي زَوَال الْعقل وَله أَسبَاب مِنْهَا النّوم وَحَقِيقَته استرخاء الْبدن وَزَوَال شعوره وخفاء كَلَام من عِنْده وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ النعاس فَإِنَّهُ لَا ينْقض الْوضُوء بِكُل حَال وَدَلِيل النَّقْض بِالنَّوْمِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(العينان وكاء السه فَإِذا نَامَتْ العينان انْطلق الوكاء فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ)(1/37)
وَمعنى الحَدِيث الْيَقَظَة وكاء الدبر فَإِذا نَام زَالَ الضَّبْط وَيسْتَثْنى مَا إِذا نَام مُمكنا مَقْعَده من الأَرْض على الصَّحِيح وَلَو كَانَ مُسْتَندا إِلَى شَيْء بِحَيْثُ لَو زَالَ لسقط لما روى أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ
(كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينامون ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ) زَاد أَبُو دَاوُد
(حَتَّى تخفق رُءُوسهم وَكَانَ ذَلِك على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَمِنْهَا أَي أَسبَاب زَوَال الْعقل الْإِغْمَاء وَالْجُنُون وَالسكر وَهَذِه نواقض للْوُضُوء بِكُل حَال لِأَن النّوم إِذا كَانَ ناقضا فَهَذِهِ أولى الذهول عِنْد هَذِه الْأَسْبَاب أبلغ من النّوم
(فرع) إِذا نَام مُمكنا مَقْعَده من الأَرْض فَزَالَتْ إِحْدَى أليتيه عَن الأَرْض فَإِن كَانَ قبل انتباهه انْتقض وضوؤه وَإِن كَانَ بعده فَلَا ينْتَقض وَكَذَا إِذا كَانَ الزَّوَال مَعَه أَو شكّ فَلَا ينْتَقض وضوؤه لِأَن الأَصْل بَقَاء الطَّهَارَة وَلَو نَام على قَفاهُ مُلْصقًا مقْعد بِالْأَرْضِ انْتقض وَلَو كَانَ مستثفراً بِشَيْء أَي مستجمراً بِخرقَة كَمَا تستجمر الْمُسْتَحَاضَة بِشَيْء انْتقض أَيْضا على الْمَذْهَب وَاعْلَم أَن الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب قَالُوا يسْتَحبّ الْوضُوء من النّوم وَإِن كَانَ مُمكنا مَقْعَده من الأَرْض لِلْخُرُوجِ من الْخلاف وَالله أعلم قَالَ
(ولمس الرجل الْمَرْأَة من غير حَائِل بَينهمَا غير محرم فِي الْأَصَح)
من نواقض الْوضُوء لمس رجل بشرة امراءة مشتهاة غير محرم لقَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} عطف اللَّمْس على الْمَجِيء من الْغَائِط ورتب عَلَيْهِمَا الْأَمر بِالتَّيَمُّمِ عِنْد فقد المَاء فَدلَّ على أَنه حدث كالمجيء من الْغَائِط والبشرة ظَاهر الْجلد وَلَا فرق فِي الرجل بَين أَن يكون شَيخا فاقداً للشهوة أم لَا وَلَا بَين الْخصي والعنين فَإِنَّهُ ينْتَقض وضوؤه وَكَذَا الْمُرَاهق فَإِنَّهُ بنتقض وضوؤه وَلَا فرق فِي الْمَرْأَة بَين الشَّابَّة والعجوز الَّتِي تشْتَهى وَفِي الْميتَة خلاف صحّح النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الْقطع بالانتقاض وَصحح فِي كِتَابه رُؤُوس الْمسَائِل عدم النَّقْض وَالْخلاف مَبْنِيّ على اللَّفْظ وَالْمعْنَى كالمحارم فعلى مَا فِي شرج الْمُهَذّب وَهُوَ النَّقْض مَا الْفرق بَين الْمَحَارِم وَالْميتَة وَفِي الْفرق عسر وَقد يفرق بِإِمْكَان عود الْحَيَاة فِي الْميتَة بِخِلَاف الْمَحَارِم وَالله أعلم
وَلَو كَانَ الْعُضْو الملموس أشل أَو زَائِدا أَو وَقع اللَّمْس بِغَيْر قصد وَبِغير شَهْوَة فينقض الْوضُوء فِي كل ذَلِك لِأَن اللَّمْس حدث لظَاهِر الْآيَة الْكَرِيمَة
وَلَا ينْقض لمس الشّعْر وَالظفر وَالسّن على الرَّاجِح لِأَن مُعظم الالتذاذ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء بِالنّظرِ فَلَيْسَتْ فِي مَظَنَّة الشَّهْوَة باللمس وَلَو لمس عضوا مباناً من امْرَأَة أَو لمس صَغِيرَة لم تبلغ حد الشَّهْوَة لم(1/38)
ينْتَقض الْوضُوء على الرَّاجِح لِأَن ذَلِك فِي مَظَنَّة الشَّهْوَة كالمحرم وَإِن لمس محرما بِنسَب أَو رضَاع أَو مصاهرة فَهَل ينْتَقض الْوضُوء قَولَانِ
أَحدهمَا ينْتَقض لعُمُوم الْآيَة وَالرَّاجِح أَنه لَا ينْتَقض لِأَن الْمحرم لَيست فِي مَظَنَّة الشَّهْوَة وَيجوز أَن يستنبط من النَّص معنى يخصص عُمُومه وَالْمعْنَى فِي نقض الْوضُوء كَون غير الْمحرم فِي مَظَنَّة الشَّهْوَة وَهَذَا مَفْقُود فِي الْمحرم
قَوْله ولمس الرجل الْمَرْأَة احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا لمس صَغِيرَة لَا تشْتَهى وَقد مر وَعَما إِذا لمس أَمْرَد لَا ينْتَقض وَهُوَ الرَّاجِح وَلنَا وَجه أَن لمسه ينْقض كَالْمَرْأَةِ قَوْله من غير حَائِل احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا كَانَ بَينهمَا حَائِل فَإِنَّهُ لَا ينْقض وَالله أعلم قَالَ
(وَمَسّ الْفرج بِبَطن الْكَفّ)
من نواقض الْوضُوء مس فرج الْآدَمِيّ سَوَاء كَانَ من نَفسه أَو من غَيره من ذكر أَو أُنْثَى من صَغِير أَو كَبِير من حَيّ أَو ميت قبلا كَانَ الملموس أَو دبراً لصدق الْفرج على الْكل وَمَسّ الذّكر الْمَقْطُوع والأشل واللمس بِالْيَدِ الشلاء نَاقض أَيْضا على الرَّاجِح وَلَو مس بإصبع زَائِدَة إِن كَانَت على اسْتِوَاء الْأَصَابِع نقضت وَإِلَّا فَلَا على الرَّاجِح وَهَذَا كُله فِي الْمس بباطن الْكَفّ فَإِن مس بِظهْر الْكَفّ فَلَا وَكَذَا الْمس بِحرف الْكَفّ أَو برؤوس الْأَصَابِع أَو بِمَا بَينهمَا فَلَا ينْتَقض وضؤوه على الرَّاجِح وَقَالَ الإِمَام أَحْمد تنْتَقض الطَّهَارَة بالمس بباطن الْكَفّ وَظَاهره لإِطْلَاق الْمس فِي الْأَخْبَار ورد الشَّافِعِي ذَلِك بِأَن فِي بعض الْأَخْبَار لفظ الْإِفْضَاء وَمَعْلُوم أَن المُرَاد من الْأَخْبَار وَاحِد والإفضاء فِي الْكَفّ هُوَ الْمس بِبَطن الْكَفّ وَقَول الشَّافِعِي فِي اللُّغَة حجَّة مَعَ أَن ذَلِك مَشْهُور فِي اللُّغَة قَالَ فِي الْمُجْمل الْإِفْضَاء لُغَة إِذا أضيف إِلَى الْيَد كَانَ عبارَة عَن الْمس بباطن الْكَفّ تَقول الْعَرَب أفضيت بيَدي إِلَى الْأَمِير مبايعاً وَإِلَى الأَرْض سَاجِدا إِذا مَسهَا بباطنها وَكَذَا ذكره الْجَوْهَرِي وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْمس لَا ينْقض محتجاً بِحَدِيث طلق وَحجَّة الشَّافِعِيَّة حَدِيث بسرة بنت صَفْوَان رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
(من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ) وَلَا ينْقض مس دبر الْبَهِيمَة قَالَ الرَّافِعِيّ بِلَا خلاف وَفِيه خلاف وَفِي مس قبلهَا قَولَانِ الْقَدِيم أَنه ينْقض لِأَنَّهُ يجب الْغسْل بالإيلاج فِيهِ فينقض كفرج الْمَرْأَة والجديد الْأَظْهر أَنه لَا ينْقض مس لِأَنَّهُ لَا يجب ستره وَلَا يحرم النّظر إِلَيْهِ فعلى الْأَظْهر لَو أَدخل يَده فِيهِ لم ينْتَقض وضوؤه على الرَّاجِح وَالله أعلم(1/39)
(فرع) من الْقَوَاعِد المقررة الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كثير من أَحْكَام الشَّرِيعَة اسْتِصْحَاب الأَصْل وَطرح الشَّك وَبَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ وَقد أجمع النَّاس على أَن الشَّخْص لَو شكّ هَل طلق زوجنه أم لَا أَنه يجوز لَهُ وَطْؤُهَا كَمَا لَو شكّ فِي امْرَأَة هَل تزَوجهَا أم لَا لَا يجوز لَهُ وَطْؤُهَا وَمن ذَلِك مَا إِذا تَيَقّن الطَّهَارَة وَشك فِي الْحَدث فَالْأَصْل بَقَاء الطَّهَارَة وَعدم الْحَدث وَلَو تَيَقّن الْحَدث وَشك فِي الطَّهَارَة فَالْأَصْل بَقَاء الْحَدث وَعدم الطَّهَارَة وَلَو تَيَقّن الطَّهَارَة وَالْحَدَث جَمِيعًا بِأَن تَيَقّن أَنه بعد طُلُوع الشَّمْس مثلا أَنه تطهر وأحدث وَلم يعلم السَّابِق مِنْهُمَا فبماذا يَأْخُذ بِهِ فِيهِ خلاف الرَّاجِح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه ينظر إِن كَانَ قبل طُلُوع الشَّمْس يَقِينا وَالْحَدَث بعد طُلُوع الشَّمْس يحْتَمل أَن يكون قبل الطَّهَارَة وَبعدهَا فَصَارَت الطَّهَارَة أصلا بِهَذَا الِاعْتِبَار وَإِن كَانَ قبل طُلُوع الشَّمْس متطهراً فَهُوَ الْآن مُحدث لِأَن يَقِين الطَّهَارَة قبل طُلُوع الشَّمْس رَفعه يَقِين الْحَدث بعد الطُّلُوع وَيجوز أَن تتقدم الطَّهَارَة على الْحَدث وتتأخر فَبَقيَ الْحَدث أصلا وعَلى ذَلِك جرى فِي الْمِنْهَاج وَقَالَ فِي الرَّوْضَة هَذَا يَعْنِي أَنه يَأْخُذ بضد مَا قبلهمَا إِذا كَانَ مِمَّن يعْتَاد تَجْدِيد الْوضُوء وَإِلَّا فَهُوَ الْآن متطهر لِأَن الظَّاهِر تَأَخّر طهارنه وَقيل لانظر إِلَى مَا قبل طُلُوع الشَّمْس وَيجب الْوضُوء بِكُل حَال قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَشرح الْوَسِيط وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر الْمُخْتَار قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَهُوَ قَول عَامَّة أَصْحَابنَا وَالله أعلم وَلَو لم يعلم مَا قبل طُلُوع الشَّمْس تَوَضَّأ بِكُل حَال وَمن هَذِه الْقَاعِدَة مَا إِذا شكّ من نَام قَاعِدا مُمكنا ثمَّ مَال وانتبه أَيهمَا أسبق أَو شكّ هَل مَا رَآهُ رُؤْيا أَو حَدِيث نفس أَو هَل لمس الشّعْر أَو الْبشرَة وَنَحْو ذَلِك فَلَا ينْتَقض الْوضُوء فِي جَمِيع ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
مُوجبَات الْغسْل
(فصل وَالَّذِي يُوجب الْغسْل سِتَّة أَشْيَاء تشترك فِيهَا الرِّجَال وَالنِّسَاء وَهِي التقاء الختانين وإنزال الْمَنِيّ وَالْمَوْت)
الْغسْل بِفَتْح الْغَيْن وَضمّهَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي التَّحْرِير وَقَالَ الْجَوْهَرِي هُوَ بِالْفَتْح اسْم للْفِعْل وبالضم اسْم للدلك وَالله أعلم وَأما الْوضُوء بِفَتْح الْوَاو فاسم للْمَاء وَبِضَمِّهَا اسْم للْفِعْل على الْأَكْثَر إِذا عرفت هَذَا فللغسل أَسبَاب مِنْهَا التقاء الختانين ويعبر عَنهُ أَيْضا بِالْجِمَاعِ وَهُوَ عبارَة عَن تغييب الْحَشَفَة أَو قدرهَا فِي أَي فرج كَانَ سَوَاء غيب فِي قبل امْرَأَة أَو بَهِيمَة أَو دبرهما أَو دبر رجل صَغِير أَو كَبِير حَيّ أَو ميت وَيجب أَيْضا على الْمَرْأَة بِأَيّ ذكر دخل فِي فرجهَا حَتَّى ذكر الْبَهِيمَة وَالْمَيِّت وَالصَّبِيّ وعَلى الذّكر المولج فِي دبره وَلَا يجب إِعَادَة غسل الْمَيِّت المولج فِيهِ على الْأَصَح وَيصير الصَّبِي وَالْمَجْنُون المولج فيهمَا جنبين بِلَا خلاف فَإِن اغْتسل الصَّبِي وَهُوَ مُمَيّز صَحَّ غسله(1/40)
وَلَا يجب عَلَيْهِ إِعَادَته إِذا بلغ وعَلى الْوَلِيّ أَن يَأْمر الصَّبِي الْمُمَيز بِالْغسْلِ فِي الْحَال كَمَا يَأْمُرهُ بِالْوضُوءِ ثمَّ لَا فرق فِي ذَلِك بَين أَن ينزل مِنْهُ مني أم لَا وَالْأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا التقى الختانان أَو مس الْخِتَان الْخِتَان وَجب الْغسْل فعلته أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا) وَالْمرَاد بالإلتقاء التحاذي لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر تصادمهما لِأَن ختان الْمَرْأَة أَعلَى من مدْخل الذّكر وَيُقَال التقى الفارسان إِذا تحاذيا
وَمِنْهَا إِنْزَال الْمَنِيّ فَمَتَى خرج الْمَنِيّ وَجب الْغسْل سَوَاء خرج من الْمخْرج الْمُعْتَاد أَو من ثقبه فِي الصلب أَو الخصية على الْمَذْهَب وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِنَّمَا المَاء من المَاء) وَسَوَاء خرج فِي الْيَقَظَة أَو النّوم وَسَوَاء كَانَ بِشَهْوَة أَو غَيرهَا لإِطْلَاق الْخَبَر ثمَّ للمني ثَلَاث خَواص يتَمَيَّز بهَا عَن الْمَذْي والودي أَحدهَا لَهُ رَائِحَة كرائحة الْعَجِين والطلع مَا دَامَ رطبا فإذاجف أشبهت رائحتة رَائِحَة الْبيض الثَّانِيَة التدفق دفعات قَالَ الله تَعَالَى {من مَاء دافق} الثَّالِثَة التَّلَذُّذ بِخُرُوجِهِ واستعقابه فتور الذّكر وانكسار الشَّهْوَة وَلَا يشْتَرط اجْتِمَاع الْخَواص بل تَكْفِي وَاحِدَة فِي كَونه منياً بِلَا خلاف وَالْمَرْأَة كَالرّجلِ فِي ذَلِك على الرَّاجِح وَالرَّوْضَة وَقَالَ فِي شرح مُسلم لَا يشْتَرط التدفق فِي حَقّهَا وَتبع فِيهِ ابْن الصّلاح
(فرع) لَو تنبه من نَومه فَلم يجد إِلَّا الثخانة وَالْبَيَاض فَلَا غسل لِأَن الودي شَارك الْمَنِيّ فِي الثخانة وَالْبَيَاض بل يتَخَيَّر بَين جعله ودياً أَو منياً على الْمَذْهَب وَلَو اغْتسل ثمَّ خرجت مِنْهُ بَقِيَّة وَجب الْغسْل ثَانِيًا بِلَا خلاف سَوَاء خرجت قبل الْبَوْل أَو بعده وَلَو رأى الْمَنِيّ فِي ثَوْبه أَو فِي فرَاش لَا ينَام فِيهِ غَيره وَلم يذكر احتلاماً لزمَه الْغسْل على الصَّحِيح الْمَنْصُوص الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ لهَذَا إِذا كَانَ الْمَنِيّ فِي بَاطِن الثَّوْب فَإِن كَانَ فِي ظَاهره فَلَا غسل عَلَيْهِ لاحْتِمَال إِصَابَته من غَيره وَلَو أحس بانتقال الْمَنِيّ ونزوله فَأمْسك ذكره فَلم يخرج مِنْهُ شَيْء فِي الْحَال وَلَا علم خُرُوجه بعده فَلَا غسل عَلَيْهِ وَالله أعلم وَمِنْهَا الْمَوْت وَهُوَ يجب الْغسْل لما رُوِيَ
(عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته اغسلوه بِمَاء وَسدر) وَظَاهره الْوُجُوب والوقص كسر الْعُنُق قَالَ
(وَثَلَاثَة تخْتَص بهَا النِّسَاء وَهِي الْحيض وَالنّفاس والولادة)(1/41)
من الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للْغسْل الْحيض قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن فَإِذا تطهرن فاتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} نهى عَن قربانهن إِلَى الْغَايَة وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة فَإِذا ذهب قدرهَا فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي وَفِي رِوَايَة
(ثمَّ اغْتَسِلِي وَصلي) وَالنّفاس كالحيض فِي ذَلِك وَفِي مُعظم الْأَحْكَام وَمن الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للْغسْل الْولادَة وَله عِلَّتَانِ إحدهما أَن الْولادَة وظنة خُرُوج الدَّم وَالْحكم يتَعَلَّق بالمظان أَلا ترى أَن النّوم ينْقض الْوضُوء لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْحَدث وَالْعلَّة الثَّانِيَة وَهِي الَّتِي قَالَهَا الْجُمْهُور أَن الْوَلَد مني مُنْعَقد وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِيمَا إِذا ولدت ولدا وَلم تَرَ بللاً فعلى الأول لَا يجب الْغسْل وعَلى الْعلَّة الثَّانِيَة وَهُوَ أَنه مني مُنْعَقد يجب الْغسْل وَهُوَ الرَّاجِح وَكَذَا يجب الْغسْل بِوَضْع الْعلقَة والمضغة على الرَّاجِح وَمِنْهُم من قطع بِالْوُجُوب بِوَضْع المضغة وَالله أعلم قَالَ
فَرَائض الْغسْل
(فصل
وفرائض الْغسْل ثَلَاثَة أَشْيَاء النِّيَّة وَإِزَالَة النَّجَاسَة إِن كَانَت على بدنه) نِيَّة الْغسْل وَاجِبَة كَمَا فِي الْوضُوء لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) وَمحل النِّيَّة أول جُزْء مغسول من الْبدن وكيفيتها أَن يَنْوِي الْجنب رفع الْجَنَابَة أَو رفع الْحَدث الْأَكْبَر عَن جَمِيع الْبدن وَلَو نوى رفع الْحَدث وَلم يتَعَرَّض للجنابة وَلَا غَيرهَا صَحَّ غسله على الْأَصَح لِأَن الْحَدث عبارَة عَن الْمَانِع من الصَّلَاة وَغَيرهَا على أَي وَجه فرض وَقد نَوَاه وَلَو نوى رفع الْحَدث الأضغر مُتَعَمدا لم يَصح فِي الْأَصَح لتلاعبه وَإِن غلط فَظن أَن حَدثهُ أَصْغَر لم ترْتَفع الْجَنَابَة عَن غير أَعْضَاء الْوضُوء وَفِي أَعْضَاء الْوضُوء وَجْهَان الرَّاجِح ترْتَفع عَن الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ لِأَن غسل هَذِه الْأَعْضَاء وَاجِب فِي الحدثين فَإِذا غسلهمَا بنية غسل وَاجِب كفي دون الرَّأْس على الرَّاجِح لِأَن الَّذِي نَوَاه فِي الرَّأْس الْمسْح وَالْمسح لَا يُغني عَن الْغسْل وَلَو نوى الْجنب اسْتِبَاحَة مَا يتَوَقَّف الْغسْل عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَالطّواف وَقِرَاءَة الْقُرْآن أَجزَأَهُ وَإِن نوى مَا يسْتَحبّ لَهُ كَغسْل الْجُمُعَة وَنَحْوه لم يجزه لِأَنَّهُ لم ينْو أمرا وَاجِبا وَلَو نوى الْغسْل الْمَفْرُوض أَو فَرِيضَة الْغسْل أَجزَأَهُ قطعا قَالَه فِي الرَّوْضَة وتنوي الْحَائِض رفع حدث الْحيض فَلَو نَوَت رفع الْجَنَابَة متعمدة لم يَصح مَا لَو نوى الْجنب رفع الْحيض وَإِن غَلطت صَحَّ(1/42)
غسلهَا ذكره فِي شرح الْمُهَذّب وتنوي النُّفَسَاء رفع حدث النّفاس فَلَو نَوَت رفع حدث الْحيض قَالَ ايْنَ الرّفْعَة لَا يَصح وَقَالَ الإسنائي يَنْبَغِي أَن يَصح
وَاعْلَم أَن تَقْدِيم إِزَالَة النَّجَاسَة شَرط لصِحَّة الْغسْل فَلَو كَانَ على بدنه نَجَاسَة فَغسل بدنه بنية رفع الْحَدث زإزالة النَّجس طهر عَن النَّجس وَهل يرْتَفع حَدثهُ أَيْضا فِيهِ خلاف الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه لَا يرْتَفع حَدثهُ وَالرَّاجِح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة أَنه يرْتَفع حَدثهُ ومنشأ الْخلاف أَن المَاء هَل لَهُ قُوَّة رفع الْحَدث وَإِزَالَة النَّجس مَعًا أم لَا ثمَّ إِن النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَافق الرَّافِعِيّ على أَن الغسلة لَا تَكْفِي وَالله أعلم قَالَ
(وإيصال المَاء إِلَى أصُول الشّعْر والبشرة)
يجب اسْتِيعَاب الْبدن بِالْغسْلِ شعرًا وبشراً سَوَاء قل أَو كثر وَسَوَاء خف أَو كثف وَسَوَاء شعر الرَّأْس وَالْبدن وَسَوَاء أُصُوله أَو مَا استرسل مِنْهُ قَالَ الرَّافِعِيّ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(تَحت كل شَعْرَة جَنَابَة فبلوا الشُّعُور وأنقوا الْبشرَة) وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف بِاتِّفَاق الْحفاظ مِنْهُم الشَّافِعِي وَالْبُخَارِيّ حَتَّى النَّوَوِيّ نعم يحْتَج لذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من ترك مَوضِع شَعْرَة من جَنَابَة لم يغسلهُ يفعل بِهِ كَذَا من النَّار قَالَ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه فَمن ثمَّ عاديت شعر رَأْسِي وَكَانَ يجز شعره)
وَاعْلَم أَنه يجب نقض الضفائر إِن لم يصل المَاء إِلَى بَاطِنهَا إِلَّا بِالنَّقْضِ وَلَا يجب إِن وصل وَحَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ فِي صَحِيح مُسلم
(قلت يَا رَسُول الله إِنِّي إمرأة أَشد ضفر رَأْسِي فأنقضه لغسل الْجَنَابَة قَالَ إِنَّمَا يَكْفِيك أَن تحثي على رَأسك ثَلَاث حثيات ثمَّ تفيضي عَلَيْهِ المَاء فتطهرين) مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ الشّعْر خَفِيفا والشد لَا يمْنَع من وُصُول المَاء إِلَيْهِ وَإِلَى الْبشرَة جمعا بَين الْأَدِلَّة وَهل يسامح بباطن العقد على الشعرات فِيهِ خلاف الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه يسامح بِهِ للسر وَالرَّاجِح عِنْد النَّوَوِيّ أَنه لَا يُعْفَى عَنهُ لِأَنَّهُ يُمكن قطعهَا بِلَا ضَرَر وَلَا ألم قَالَ وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور وَالله أعلم وَأما الْبشرَة وَهِي الْجلد فَيجب غسل مَا ظهر مِنْهَا حَتَّى مَا ظهر من صماخي الْأُذُنَيْنِ قطعا والشقوق فِي الْبدن وَكَذَا يجب غسل مَا تَحت القلفة من الأقلف وَكَذَا مَا أظهر من أنف المجدوع وَكَذَا مَا يَبْدُو من الثّيّب إِذا قعدت لقَضَاء الْحَاجة على الرَّاجِح وَلَا تجب الْمَضْمَضَة وَلَا الِاسْتِنْشَاق فِي الْأَصَح وَالله أعلم قَالَ(1/43)
سنَن الْغسْل
(وسننه خَمْسَة أَشْيَاء التَّسْمِيَة وَغسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء وَالْوُضُوء قبله)
للْغسْل سنَن كَمَا فِي الْوضُوء فَمِنْهَا التَّسْمِيَة وَغسل كفيه قبل إدخالهما الْإِنَاء وَقد ذكرنَا ذَلِك وَاضحا فِي الْوضُوء وَالْغسْل مثله قَالَ فِي الرَّوْضَة وَاعْلَم أَن مُعظم السّنَن يَعْنِي فِي الْوضُوء يَجِيء مثلهَا فِي الْغسْل وَفِي وَجه أَن التَّسْمِيَة لَا تسْتَحب فِي الْغسْل وَأما الْوضُوء فَهَل هُوَ سنة أَو وَاجِب فِيهِ خلاف مَبْنِيّ على أَن خُرُوج الْمَنِيّ نَاقض أم لَا إِن قُلْنَا ينْقض الْوضُوء فَلَيْسَ من سنَن الْغسْل وعَلى هَذَا فيندرج فِي الْغسْل على الْمَذْهَب وَلَا بُد من أَفْرَاد بِالنِّيَّةِ قَالَ الرَّافِعِيّ إِذْ لَا قَائِل إِلَى أَنه يَأْتِي بِوضُوء مُفْرد وبوضوء آخر لرعاية كَمَال الْغسْل وَإِن قُلْنَا أَن الْمَنِيّ لَا ينْقض الْوضُوء وَهُوَ مَا رجح الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فالوضوء من سنَن الْغسْل وَلَا يحْتَاج إِلَى إِفْرَاده بنية وَتحصل سنَنه سَوَاء قدمه على الْغسْل أَو أَخّرهُ أَو قدم بعضه وَأخر الْبَعْض وأيها أفضل فِيهِ قَولَانِ الرَّاجِح أَن تَقْدِيم الْوضُوء بِكَمَالِهِ أفضل لقَوْل عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة) وَالْقَوْل الآخر يسْتَحبّ أَن يُؤَخر غسل قَدَمَيْهِ إِلَى بعد الْفَرَاغ من الْغسْل لحَدِيث مَيْمُونَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ يُؤَخر غسل قَدَمَيْهِ) وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن بتخير لصِحَّة الرِّوَايَتَيْنِ
(فَائِدَة) إِذا فرعنا على الصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي أَن الْمَنِيّ لَا ينْقض الْوضُوء فيتصور تجرد الْجَنَابَة عَن الحَدِيث الْأَصْغَر فِي صور مِنْهَا إِذا لف على ذكره خرقَة وأولج وَمِنْهَا إِذْ نزل الْمَنِيّ وَهُوَ نَائِم مُمكن مَقْعَده من الأَرْض وَكَذَا إِذا نزل بِنَظَر أَو فكر لشدَّة غلمته وَمِنْهَا إِذا أولج فِي دبر بَهِيمَة أَو دبر ذكر عَافَانَا الله من ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وإمرار الْيَد على الْجَسَد والموالاة وَتَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى)
من سنَن الْغسْل ذَلِك الْجَسَد ليحصل إنقاء الْبشرَة وبل الشُّعُور ويتعهد مَوَاضِع الانعطاف والالتواء كالأذنين وغضون الْبَطن وكل ذَلِك قبل إفَاضَة المَاء على رَأسه وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك ليَكُون أبعد عَن الْإِسْرَاف فِي المَاء وَأقرب إِلَى الثِّقَة بوصول المَاء وَمن سنَن الْغسْل الْمُوَالَاة وَتَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى لِأَنَّهُ عبَادَة فَيُسْتَحَب ذَلِك فِيهَا كَمَا فِي الْوضُوء وَمن سنَن الْغسْل اسْتِصْحَاب النِّيَّة إِلَى آخر الْغسْل والبداءة بأعضاء الْوضُوء ثمَّ الرَّأْس ثمَّ بشقه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر وَيكون غسل جَمِيع الْبدن ثَلَاثًا كَالْوضُوءِ فَإِن اغْتسل فِي نهر وَنَحْوه انغمس ثَلَاثًا ويدلك فِي كل مرّة وَيسْتَحب أَن(1/44)
لَا ينقص مَاء الْغسْل عَن صَاع وَالْوُضُوء عَن مد وَالْمدّ رَطْل وَثلث بالبغدادي هَذَا على الْمَذْهَب وَقيل رطلان والصاع أَرْبَعَة أَمْدَاد وَيسْتَحب أَلا يغْتَسل فِي المَاء الراكد وَأَن يَقُول بعد الْفَرَاغ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَالله أعلم
(فرع) يحرم على الشَّخْص أَن يغْتَسل بِحَضْرَة النَّاس مَكْشُوف الْعَوْرَة وَيُعَزر على ذَلِك تعزيراً يَلِيق بِحَالهِ وَيحرم على الْحَاضِرين إِقْرَاره على ذَلِك وَيجب عَلَيْهِم الْإِنْكَار عَلَيْهِ فَإِن سكتوا أثموا وعزروا وَيجوز ذَلِك فِي الْخلْوَة والستر أفضل لِأَن الله سُبْحَانَهُ أَحَق أَن يستحيا مِنْهُ وَلَا يجب غسل دَاخل الْعين وَلَا يسْتَحبّ تَجْدِيد الْغسْل على الرَّاجِح بِخِلَاف تَجْدِيد الْوضُوء وَالله أعلم
(فرع) لَو أحدث فِي أثْنَاء غسله جَازَ أَن يتم غسله وَلَا يمْنَع الْحَدث صِحَّته لَكِن لَا يُصَلِّي حَتَّى يتَوَضَّأ وَالله أعلم قَالَ
(الأغسال المسنونة)
(فصل والأغسال المسنونة سَبْعَة عشر غسلا الْجُمُعَة والعيدان وَالِاسْتِسْقَاء والكسوف والخسوف)
يسن الْغسْل لأمور مِنْهَا الْجُمُعَة وَاحْتج لَهُ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من أَتَى مِنْكُم الْجُمُعَة فليغتسل) وَاحْتج بَعضهم على وجوب الْغسْل بِهَذَا الحَدِيث وَقَالَ الْأَمر للْوُجُوب وَقد جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي حَدِيث آخر وَلَفظه
(غسل الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم) وبوجوبه قَالَ طَائِفَة من السّلف وحكوه عَن بعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَهُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مَالك والخطابي عَنهُ وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَمذهب الشَّافِعِي أَنه سنة وَبِه قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف وَهُوَ الْمَعْرُوف من مَذْهَب مَالك وَحجَّة الْجُمْهُور أَحَادِيث صَحِيحَة مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة فبها ونعمت وَمن اغْتسل فالغسل أفضل) قَالَ النَّوَوِيّ حَدِيث(1/45)
صَحِيح وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَو اغتسلتم يَوْم الْجُمُعَة) وَمِنْهَا حَدِيث عُثْمَان لما دخل وَعمر يخْطب وَقد ترك الْغسْل ذكره مُسلم فأقره عمر رَضِي الله عَنهُ وَمن حضر الْجُمُعَة وهم أهل الْحل وَالْعقد وَلَو كَانَ وَاجِبا لما تَركه لألزمه بِهِ الْحَاضِرُونَ فَإِذن يحمل الْأَمر على الِاسْتِحْبَاب جمعا بَين الْأَدِلَّة وَيحمل لَفْظَة وَاجِب على التَّأْكِيد كَمَا يُقَال حَقك وَاجِب عَليّ أَي متأكد وكيفيته كَمَا مر وَيدخل وقته بِطُلُوع الْفجْر على الْمَذْهَب وَفِي وَجه شَاذ مُنكر قبل الْفجْر كَغسْل الْعِيد وَيسْتَحب تقريبه من الرواح إِلَى الْجُمُعَة لِأَن الْمَقْصُود من الْغسْل قطع الرَّائِحَة الكريهة الَّتِي تحدث عِنْد الزحمة من وسخ غَيره وَهل يسْتَحبّ لكل أحد كَيَوْم الْعِيد أم لَا الصَّحِيح أَنه إِنَّمَا يسْتَحبّ لمن يحضر الْجُمُعَة وَسَوَاء فِي ذَلِك من تجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة أم لَا وَلَو أجنب بجماع أَو غَيره لَا يبطل غسله فيغتسل للجنابة وَلَو عجز عَن الْغسْل لعدم المَاء أَو لقرح فِي بدنه تيَمّم وَحَازَ الفضيله قَالَ جُمْهُور الْأَصْحَاب وَهُوَ الصَّحِيح قِيَاسا على سَائِر الأغسال إِذا عجز عَنْهَا وَالله أعلم وَمِنْهَا العيدان فَيُسْتَحَب أَن يغْتَسل لَهما لقَوْل ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل يَوْم الْفطر وَيَوْم الْأَضْحَى) وَكَانَ عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا يفعلانه وَكَذَا ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لِأَنَّهُ أَمر يجْتَمع لَهُ النَّاس فَيُسْتَحَب أَن يغْتَسل لَهُ قِيَاسا على الْجُمُعَة وَيجوز بعد الْفجْر بِلَا خلاف وَقَبله على الرَّاجِح وَيخْتَص بِالنِّصْفِ الْأَخير على الرَّاجِح وَقيل يجوز فِي جَمِيع اللَّيْل وَالله أعلم وَمِنْهَا الاسْتِسْقَاء فَيُسْتَحَب أَن يغْتَسل لَهُ لأجل قطع الروائح لِأَنَّهُ مَحل يشرع فِيهِ الِاجْتِمَاع فَأشبه الْجُمُعَة وَمِنْهَا الْكُسُوف للشمس والخسوف وَيُقَال فيهمَا كسوف وخسوف إِذا ذهب ضوء الشَّمْس وَالْقَمَر وَقيل الْكُسُوف للشمس والخسوف للقمر قَالَه الْجَوْهَرِي مَعَ أَنه قَالَ إِن الْكُسُوف والخسوف يُطلق عَلَيْهِمَا مَعًا وَالسّنة أَن يغْتَسل لَهما لِأَنَّهُمَا صَلَاة يشرع الِاجْتِمَاع لَهَا فَيُسْتَحَب الِاغْتِسَال لَهَا كَالْجُمُعَةِ وَالله أعلم قَالَ
(وَالْغسْل من غسل الْمَيِّت وَالْكَافِر إِذا أسلم وَالْمَجْنُون إِذا أَفَاق والمغمى عَلَيْهِ إِذا أَفَاق)
الْغسْل من غسل الْمَيِّت هَل هُوَ وَاجِب أَو مُسْتَحبّ قَولَانِ الْقَدِيم أَنه وَاجِب والجديد وَهُوَ الرَّاجِح أَنه مُسْتَحبّ وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من غسل مَيتا فليغتسل وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ) قَالَ الإِمَام أَحْمد إِنَّه مَوْقُوف على أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ وَلذَلِك لم يقل بِوُجُوبِهِ وَقَالَ الشَّافِعِي لَو(1/46)
صَحَّ الحَدِيث لَقلت بِوُجُوبِهِ وَمن الأغسال المسنونة غسل الْكَافِر إِذا أسلم وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر قيس بن عَاصِم وثمامة بن أَثَال أَن يغتسلا لما أسلما وَلم يُوجِبهُ لِأَن جمَاعَة أَسْلمُوا فَلم يَأْمُرهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ وَلِأَن الْإِسْلَام تَوْبَة من مَعْصِيّة فَلم يجب الْغسْل مِنْهُ كَسَائِر الْمعاصِي وَهَذَا فِي كَافِر لم يجنب فِي كفره فَإِن أجنب فَالْمَذْهَب أَنه يلْزمه الْغسْل بعد الْإِسْلَام لعدم صِحَة النِّيَّة مِنْهُ حَال كفره وَمن الأغسال المسنونة غسل الْمَجْنُون إِذا أَفَاق كَذَا الْمغمى عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك مَظَنَّة إِنْزَال الْمَنِيّ قَالَ الشَّافِعِي مَا جن إِنْسَان إِلَّا أنزل قَالَ بَعضهم إِذا كَانَ الْمَجْنُون ينزل غَالِبا فَيَنْبَغِي أَن يجب الْغسْل كالنوم ينْقض الْوضُوء لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْحَدث وَأجَاب الْجُمْهُور الَّذين قَالُوا بالاستحباب بِأَن النّوم مَظَنَّة لَا عَلامَة فِيهَا على الْحَدث بعد الْإِفَاقَة والمني عين يُمكن رؤيتها وَالله أعلم قَالَ
(وَالْغسْل عِنْد الْإِحْرَام وَدخُول مَكَّة وللوقوف بِعَرَفَة ولرمي الْجمار الثَّلَاث وللطواف)
يَتَعَدَّد الْغسْل الْمُتَعَلّق بِالْحَجِّ لأمور مِنْهَا الْإِحْرَام
(عَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تجرد لإهلاله واغتسل) وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابه الرجل وَالصَّبِيّ وَالْمَرْأَة وَإِن كَانَت حَائِضًا أَو نفسَاء لِأَن أَسمَاء بنت عُمَيْس زَوْجَة الصّديق رَضِي الله عَنْهُمَا نفست بِذِي الحليفة فَأمرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَن تَغْتَسِل للْإِحْرَام) وَلَا فرق فِي الرجل بَين الْعَاقِل وَالْمَجْنُون ة لَا بَين الصَّبِي الْمُمَيز وَغَيره فَإِن لم يجد الْمحرم المَاء تيَمّم فَإِن وجد مَاء يَكْفِيهِ تَوَضَّأ بِهِ قَالَه الْبَغَوِيّ والمحاملي قَالَ النَّوَوِيّ إِن تيَمّم مَعَ الْوضُوء فَحسن وَإِن اقْتصر على الْوضُوء فَلَيْسَ بجيد لِأَن الْمَطْلُوب الْغسْل وَالتَّيَمُّم يقوم مقامة دون الْوضُوء قَالَ الإسنائي نَص الشَّافِعِي على الِاسْتِحْبَاب فِي الْوضُوء والاقتصار عَلَيْهِ دون التَّيَمُّم وَعَزاهُ إِلَى نقل الْمحَامِلِي وَالْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم
وَمِنْهَا دُخُول مَكَّة
(كَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَا يقدم مَكَّة إِلَّا بَات بِذِي طوى حَتَّى يصبح ويغتسل ثمَّ يدْخل مَكَّة نَهَارا وَيذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَفْعَله) ثمَّ لَا فرق فِي اسْتِحْبَاب(1/47)
الْغسْل لمن دخل مَكَّة بَين من أحرم بِالْحَجِّ أَو الْعمرَة أَو يحرم الْبَتَّةَ وَقد نَص الشَّافِعِي فِي الْأُم أَن من لم يحرم يغْتَسل وَاحْتج بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَام الْفَتْح اغْتسل لدُخُول مَكَّة وَهُوَ حَلَال يُصِيب الطّيب نعم قَالَ الْمَاوَرْدِيّ الْمُعْتَمِر إِذا خرج من مَكَّة فَأحْرم واغتسل لإحرامه ثمَّ أَرَادَ دُخُول مَكَّة نظر إِن كَانَ أحرم من مَكَان بعيد كالجعرانة وَالْحُدَيْبِيَة اسْتحبَّ الْغسْل لدُخُول مَكَّة وَإِن أحرم من التَّنْعِيم فَلَا لقُرْبه قَالَ ابْن الرّفْعَة وَيظْهر أَن يُقَال بِمثلِهِ فِي الْحَج وَالله أعلم
وَمِنْهَا الْوُقُوف بِعَرَفَة وَيسْتَحب أَن يغْتَسل لِأَن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ يَفْعَله وَحكى ابْن الْخلّ ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَنَّهُ مَوضِع اجْتِمَاع فَيسنّ فِيهِ الإغتسال كَالْجُمُعَةِ وَمِنْهَا الرَّمْي أَيَّام التَّشْرِيق يغْتَسل لكل يَوْم غسلا فَتكون الأغسال ثَلَاثَة لِأَنَّهُ مَوضِع يجْتَمع فِيهِ النَّاس فَيسنّ فِيهِ الْغسْل كَالْجُمُعَةِ وَلَا يسْتَحبّ الْغسْل لرمي جَمْرَة الْعقبَة لقربة من غسل الْوُقُوف بِخِلَاف بَقِيَّة الجمرات لبعدها وَأَيْضًا فوقت الجمرات الثَّلَاث بعد الزَّوَال وَهُوَ وَقت تهجر وَلِهَذَا يكون الْغسْل لَهُنَّ بعد الزَّوَال وَالله أعلم
وَمِنْهَا يسن الْغسْل للطَّواف وَلَفظ الشَّيْخ يَشْمَل طواف الْقدوم وَطواف الْإِفَاضَة وَطواف الْوَدَاع وَقد نَص الشَّافِعِي على اسْتِحْبَاب الْغسْل لهَذِهِ الثَّلَاثَة فِي الْقَدِيم لِأَن النَّاس يَجْتَمعُونَ لَهُ فَيُسْتَحَب لَهُ الِاغْتِسَال والجديد أَنه لَا يسْتَحبّ لِأَن وقته موسع فَلَا تغلب فِيهِ الزحمة بِخِلَاف سَائِر المواطن كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام الْمِنْهَاج لِأَنَّهُ لم يعد إِلَّا أَنه فِي الْمَنَاسِك قَالَ يسْتَحبّ الْغسْل للثَّلَاثَة وَيشْهد للجديد وَهُوَ عدم الِاسْتِحْبَاب مَا رَوَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم مَكَّة أَنه تَوَضَّأ ثمَّ طَاف بِالْبَيْتِ وَكَذَا التَّعْلِيل وَالله أعلم
وأهمل الشَّيْخ أغسالاً مِنْهَا الْغسْل من الْحجامَة وَالْحمام قَالَ الرَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ لم يذكروهما قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة الْمُخْتَار الْجَزْم باستحبابهما وَقد نقل صَاحب جمع الْجَوَامِع فِي منصوصات الشَّافِعِي أَنه قَالَ أحب الْغسْل من الْحجامَة وَالْحمام وكل أَمر يُغير الْجَسَد وَأَشَارَ الشَّافِعِي بذلك إِلَى أَن حكمته أَن ذَلِك يُغير الْجَسَد ويضعفه وَالْغسْل يشد وينعشه وَالله أعلم وَيسن الِاغْتِسَال للاعتكاف نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَيسن الْغسْل لكل لَيْلَة من رَمَضَان نَقله الْعَبَّادِيّ عَن الْحَلِيمِيّ وَيسن الْغسْل لحلق العانه قَالَ الْخفاف فِي الصال وَيسن الْغسْل لدُخُول مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه النَّوَوِيّ فِي الْمَنَاسِك وَأما الْغسْل لدُخُول الْكَعْبَة فقد نَقله ابْن الرّفْعَة عَن صَاحب التَّلْخِيص وَهَذَا النَّقْل غلط وَالله أعلم قَالَ(1/48)
بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ
(فصل وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ جَائِز بِثَلَاث شَرَائِط أَن يبتدىء لبسهما بعد كَمَال الطَّهَارَة وَأَن يَكُونَا ساترين لمحل الْغسْل من الْقَدَمَيْنِ وَأَن يَكُونَا مِمَّا يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِمَا)
الأَصْل فِي جَوَاز الْمسْح مَا ورد عَن جرير قَالَ
(رَأَيْت رَسُول الله بَال ثمَّ تَوَضَّأ وَمسح على خفيه) وَكَانَ يعجبهم هَذَا الحَدِيث لِأَن إِسْلَام جرير كَانَ بعد نزُول الْمَائِدَة فَلَا تكون آيَة الْمَائِدَة الدَّالَّة على غسل الرجلَيْن ناسخة للمسح قَالَ النَّوَوِيّ وَغَيره وَأجْمع من يعْتد بِهِ فِي لإِجْمَاع على جَوَاز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَر وَالسّفر سَوَاء كَانَ لحَاجَة أَو لغَيْرهَا حَتَّى يجوز للْمَرْأَة الْمُلَازمَة بَيتهَا الزَّمن الَّذِي لَا يمشي وَالله أعلم وَأنكر الرافضة وَمن تَبِعَهُمْ الْجَوَاز وَكَذَلِكَ الشِّيعَة والخوارج قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ حَدثنِي سَبْعُونَ من الصَّحَابَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلائق لَا يُحصونَ نعم هَل الْغسْل أفضل لِأَنَّهُ الأَصْل وَبِه قَالَت الشَّافِعِيَّة وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنْهُم أم الْمسْح أفضل وَبِه قَالَ جمع من التَّابِعين مِنْهُم الشّعبِيّ وَحَمَّاد وَالْحكم فِيهِ من خلاف وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ وَالرَّاجِح مِنْهُمَا الْمسْح أفضل وَالثَّانيَِة هما سَوَاء وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَالله أعلم وَفِيه أَحَادِيث سنوردها فِي محلهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
إِذا عرفت هَذَا فلجواز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ شَرْطَانِ
أَحدهمَا أَن يلبس الْخُفَّيْنِ جَمِيعًا على طَهَارَة كَامِلَة فَلَو غسل رجلا ثمَّ لبس خفها ثمَّ غسل الْأُخْرَى وَلبس خفها لم يجز الْمسْح لِأَنَّهُ لَو يدخلهما بعد طَهَارَة كَامِلَة وَلَو ابْتَدَأَ اللّبْس وَهُوَ متطهر ثمَّ أحدث قبل أَن وصلت الرجل إِلَى قدم الْخُف لم يجز الْمسْح نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم لِأَن الِاعْتِبَار بقرار الْخُف لَا بالساق وَاحْتج لذَلِك بِأَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث الْمُغيرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ
(سكبت الْوضُوء لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا انتهين إِلَى رجلَيْهِ أهويت إِلَى الْخُفَّيْنِ لأنزعهما قَالَ دعهما فَإِنِّي أدخلتهما طاهرتين) وَالْوُضُوء بِفَتْح الْوَاو فعلل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام جَوَاز الْمسْح بطهارتهما عِنْد اللّبْس وَالْحكم يَدُور مَعَ الْعلَّة وأصرح من هَذَا مَا ورد عَن الْمُغيرَة قَالَ
(قلت يَا رَسُول الله أَمسَح على الْخُفَّيْنِ قَالَ نعم إِذا أدخلتهما طاهرتين) وَلَفْظَة إِذا شَرط وَإِن كَانَت ظرفا وَالله أعلم(1/49)
الشَّرْط الثَّانِي أَن يكون الْخُف صَالحا للمسح ولصلاحيته أُمُور
الأول أَن يستر الْخُف جَمِيع مَحل الْغسْل من الرجلَيْن فَلَو قصر عَن مَحل الْفَرْض لم يجز الْمسْح عَلَيْهِ بِلَا خلاف لِأَن مَا ظهر واجبه الْغسْل وَفرض الْمُسْتَتر الْمسْح وَلَا قَائِل بِالْجمعِ بَينهمَا فيغلب الْغسْل لِأَن الأَصْل وَفِي جَوَاز الْمسْح على المخرق قَولَانِ للشَّافِعِيّ الْقَدِيم الْجَوَاز مَا لم يتفاحش لِأَن الْمسْح رخصَة والتخرق يغلب فِي الْأَسْفَار وَهِي مَحل يتَعَذَّر الْإِصْلَاح فِيهِ غَالِبا فَلَو منعنَا الْمسْح لضاق بَاب الرُّخْصَة وَالْأَظْهَر أَنه لَا يجوز لما قُلْنَا لِأَن مَا ظهر يجب غسله وَلَو تخرقت الظهارة أَو البطانة جَازَ الْمسْح إِن كَانَ الْبَاقِي صفبقا وَإِلَّا فَلَا على الصَّحِيح وَيُقَاس على هَذَا مَا إِذا تخرق من الظهارة مَوضِع وَمن البطانة مَوضِع لَا يحاذيه وَلَو كَانَ الْخُف مشقوق الْقدَم وَشد بالعرى مَحل الشق فَإِن ظهر مَعَ الشد شَيْء لم يجز الْمسْح وَإِن لم يظْهر جَازَ على الصَّحِيح الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فَلَو انْفَتح مِنْهُ شَيْء فِي مَحل الْفَرْض بَطل الْمسْح فِي الْحَال وَإِن لم يظْهر شَيْء لِأَنَّهُ إِذا مَشى ظَهرت وَالله أعلم
الْأَمر الثَّانِي أَن يكون الْخُف قَوِيا بِحَيْثُ يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِ بِقدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُسَافِر فِي حَوَائِجه عِنْد الْحَط والترحال لِأَن الْمسْح رخص لما يَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة فِي لبسه مِمَّا يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِك وَمَا لَا فَلَا قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد وَأَقل حد الْمُتَابَعَة على التَّقْرِيب لَا التَّحْدِيد مَسَافَة الْقصر وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد يقدر بِثَلَاث أَمْيَال وَالْأول الْمُعْتَمد وَلَا فرق فِيمَا يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِ بَين أَن يكون من جلد وَمن شعر أَو من قطن أَو لبد أما مَا لَا يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِ إِمَّا لضَعْفه كالمتخذ من الْخرق الْخَفِيفَة وَنَحْوهَا وَكَذَا جوارب الصُّوفِيَّة الَّتِي لَا تمنع نُفُوذ المَاء فَلَا يجوز الْمسْح عَلَيْهَا وَإِمَّا لقُوته كالمتخذ من الْحَدِيد وَنَحْوه فَلَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِ وَقَول الشَّيْخ على الْخُفَّيْنِ يُؤْخَذ مِنْهُ أَن مَا لَا يُسمى خفاً لَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِ حَتَّى لَو شدّ على رجله قِطْعَة جلد بِحَيْثُ لَا ترى الْبشرَة وَأمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهَا لم يجز الْمسْح على الْمَذْهَب وَقطع بِهِ فِي الرَّوْضَة وَالله أعلم
الْأَمر الثَّالِث أَن يمْنَع نُفُوذ المَاء فَإِن لم يمْنَع فَلَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِ على الرَّاجِح لِأَن الْغَالِب فِي الْخفاف كَونهَا تمنع نُفُوذ المَاء فتنصرف النُّصُوص إِلَيْهِ
الْأَمر الرَّابِع أَن يكون الْخُف طَاهِرا قَالَ ابْن الرّفْعَة اتّفق الْأَصْحَاب كَافَّة على اشْتِرَاط كَونه طَاهِرا فَلَا يجوز على خف متخذ من جلد ميتَة لم يدبغ قَالَ فِي الذَّخَائِر أَو دبغ وتنجس مَا لم يطهر لِامْتِنَاع الصَّلَاة بِهِ وَكَذَا صرح بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَالله أعلم
(فرع) لَو لبس خفاً فَوق خف لشدَّة الْبرد نظر إِن كَانَ الْأَعْلَى صَالحا للمسح عَلَيْهِ دون(1/50)
الْأَسْفَل لضعف أَو لتخرقة جَازَ الْمسْح على الْأَعْلَى دون الْأَسْفَل وَإِن كَانَ الْأَسْفَل صَالحا دون الْأَعْلَى فالمسح على الْأَسْفَل جَائِز فَلَو مسح الْأَعْلَى فوصل المَاء إِلَى الْأَسْفَل فَإِن قصد مسح الْأَسْفَل جَازَ وَكَذَا إِن قصدهما على الرَّاجِح وَإِن قصد الْأَعْلَى فَقَط لم يجز وَإِن لم يقْصد وَاحِدًا مِنْهُمَا بل قصد الْمسْح فِي الْجُمْلَة أَجْزَأَ على الرَّاجِح لقصد إِسْقَاط فرض الرجل بِالْمَسْحِ وَإِن 2 كَانَ كل من الْخُفَّيْنِ لَا يصلح للمسح تعذر الْمسْح وَإِن كَانَ كل من الْخُفَّيْنِ صَالحا للمسح فَفِي جَوَاز الْمسْح على الْأَعْلَى وَحده قَولَانِ الْقَدِيم الْجَوَاز لِأَن الْحَاجة قد تَدْعُو إِلَيْهِ كَمَا تَدْعُو إِلَى الْخُف الْوَاحِد والجديد وَهُوَ الْأَظْهر عِنْد الْجُمْهُور أَنه لَا يَصح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم لِأَن غسل الرجل أصل وَالْمسح رخصَة عَامَّة وَردت فِي الْخُف لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ وَالْحَاجة إِلَى خف فَوق خف خَاصَّة فَلَا تتعدى الرُّخْصَة إِلَيْهِ وَلِأَن الْأَعْلَى سَاتِر للمسوح فَلم يقم فِي إِسْقَاط الْفَرْض الْمَمْسُوح كالعمامة وَالله أعلم
(فرع) لَو لبس الْخُف فَوق الْجَبِيرَة فَالْأَصَحّ أَنه يجوز الْمسْح عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ملبوس فَوق مَمْسُوح فَلم يجزىء الْمسْح عَلَيْهِ كمسح الْعِمَامَة بدل الرَّأْس وَالله أعلم قَالَ
(وَيمْسَح الْمُقِيم يَوْمًا وَلَيْلَة وَالْمُسَافر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن)
الأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث أبي بكرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أرخص للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة إِذا تطهر وَلبس خفيه أَن يمسح عَلَيْهِمَا) وَعَن صَفْوَان بن عَسَّال رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا إِذا كُنَّا سفرا أَن لَا ننزع خفافنا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن إِلَّا من جَنَابَة وَلَكِن من بَوْل أَو غَائِط أَو نوم فَلَا) وَللشَّافِعِيّ قَول قديم أَنه لَا يتأقت لِأَنَّهُ مسح على حَائِل فَلَا يتَقَدَّر كالمسح على الْجَبِيرَة وَبِه قَالَ مَالك وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث أبي بن عمَارَة وَاتفقَ الْحفاظ على أَنه ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ وَالْقِيَاس ملغي مَعَ وجود النَّص قَالَ
(وَابْتِدَاء الْمدَّة من حِين يحدث بعد لبس الْخُفَّيْنِ)
إِذا فرعنا على الصَّحِيح وَهُوَ تَقْدِير الْمدَّة بِيَوْم وَلَيْلَة للمقيم وَثَلَاثَة أَيَّام للْمُسَافِر فابتداء الْمدَّة من الْحَدث بعد لبس الْخُف لِأَن الْمسْح عبَادَة مُؤَقَّتَة فَكَانَ أول وَقتهَا من وَقت جَوَاز فعلهَا كَالصَّلَاةِ وَمُقْتَضى هَذَا التَّعْلِيل أَن ماسح الْخُف لَا يجوز لَهُ تَجْدِيد الْوضُوء لَكِن قَالَ ابْن الرّفْعَة إِنَّه مَكْرُوه بِلَا شكّ وَقد جزم النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب بِأَن تجديده مُسْتَحبّ وَحكى الرَّافِعِيّ عَن دَاوُد أَن(1/51)
ابْتِدَاء الْمدَّة من اللّبْس وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب عَن ابْن الْمُنْذر وَأبي ثَوْر ثمَّ قَالَ إِنَّه الْمُخْتَار لِأَنَّهُ مُقْتَضى أَحَادِيث الْبَاب الصَّحِيحَة وَالله أعلم وَاعْلَم أَن الْمُسَافِر إِنَّمَا يمسح ثَلَاثَة أَيَّام إِذا كَانَ سَفَره طَويلا فَإِن قصر مسح يَوْمًا وَلَيْلَة وَيشْتَرط أَيْضا أَن لَا يكون سَفَره مَعْصِيّة فَإِن كَانَ مَعْصِيّة كمن سَافر لأخذ المكس أَو بَعثه ظَالِم لأخذ الرشا والبراطيل والمصادرة وَنَحْو ذَلِك أَو كَانَ عَلَيْهِ حق لآدَمِيّ يجب عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ فَلَا يترخص الْبَتَّةَ لِأَن الْمسْح رخصَة فَلَا يتَعَلَّق بِالْمَعَاصِي وَالرَّاجِح أَنه يترخص يَوْمًا وَلَيْلَة وَالْخلاف جَار فِي الْمعاصِي بِالْإِقَامَةِ كالمقيم بِبَلَد يطْرَح على النَّاس السّلع واتباعه وكالعبد الْآبِق وَنَحْوهمَا وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن 4 مسح فِي السّفر ثمَّ أَقَامَ أَو مسح فِي الْحَضَر ثمَّ سَافر أتم مسح مُقيم)
لِأَن الْمسْح عبَادَة اجْتمع فِيهَا الْحَضَر وَالسّفر فغلب حكم الْحَضَر كَمَا كَانَ مُقيما فِي أحد طرفِي الصَّلَاة لَا يجوز لَهُ الْقصر وَقَوله
(فَإِن مسح فِي السّفر ثمَّ أَقَامَ) أَي إِذا لم يمض يَوْم وَلَيْلَة فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يتم مسح مُقيم أما إِذا مضى يَوْم وَلَيْلَة فَأكْثر فِي السّفر فَإِنَّهُ يسْتَأْنف الْمسْح وَقَوله فَإِن مسح هَل المُرَاد أَنه مسح كلا الْخُفَّيْنِ ثمَّ سَافر أم مسح فِي الْجُمْلَة وَتظهر فَائِدَة ذَلِك فِيمَا إِذا مسح إِحْدَى رجلَيْهِ فِي الْحَضَر ثمَّ مسح الْأُخْرَى فِي السّفر هَل يمسح مسح مُقيم أم مسح مُسَافر وَالَّذِي جزم بِهِ الرَّافِعِيّ أَنه يمسح مسح مُسَافر قَالَ لِأَن الِاعْتِبَار بِتمَام الْمسْح وَقد وَقع فِي السّفر وَقَالَ النَّوَوِيّ الصَّحِيح الْمُخْتَار أَنه يمسح مسح مُقيم لتلبسه بِالْعبَادَة فِي الْحَضَر وَالله أعلم
(فرع) لَو شكّ الْمُسَافِر هَل ابْتَدَأَ الْمسْح فِي الْحَضَر أَو فِي السّفر أَخذ بالحضر ويقتصر على يَوْم وَلَيْلَة كَمَا لَو شكّ الماسح فِي السّفر أَو فِي الْحَضَر فِي انْقِضَاء الْمدَّة فَإِنَّهُ يجب الْأَخْذ بانقضائها وَالله أعلم
(فرع) أقل الْمسْح مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْمسْح من مَحل فرض الْغسْل فِي الرجل من أَعلَى الْخُف فَلَا يجوز الِاقْتِصَار على الْمسْح على أَسْفَله وَلَا على عقب الْخُف وَلَا على حرفه ويجزىء الْمسْح بِخرقَة وخشبة وَنَحْوهمَا وَلَو قطر المَاء على الْخُف أَجزَأَهُ مَا فِي مسح الرَّأْس وَالسّنة أَن يمسح أَعْلَاهُ وأسفله وَلَو كَانَ عِنْد الْمسْح على أَسْفَل خفه نَجَاسَة لم يجز الْمسْح عَلَيْهِ قَالَ
(وَيبْطل الْمسْح بِثَلَاثَة أَشْيَاء بخلعهما وانقضاء الْمدَّة وَمَا يُوجب الْغسْل)
لجَوَاز الْمسْح غايات فَإِذا وجد أَحدهَا بَطل الْمسْح مِنْهَا إِذا خلع خفيه أَو أحداهما أَو انخلع الْخُف بِنَفسِهِ أَو خرج الْخُف عَن صَلَاحِية الْمسْح عَلَيْهِ لتخرقه أَو ضعفه أَو غير ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يمسح(1/52)
والحلة هَذِه إِذا كَانَ على طَهَارَة الْمسْح لِأَنَّهُ بِوُجُود ذَلِك وَجب الأَصْل وَهُوَ الْغسْل وَهل يلْزمه اسْتِئْنَاف الْوضُوء أَو غسل الرجلَيْن فَقَط قَولَانِ الرَّاجِح غسل الْقَدَمَيْنِ فَقَط وَمِنْهَا انْقِضَاء مُدَّة الْمسْح فَإِذا مضى يَوْم وَلَيْلَة للمقيم أَو ثَلَاثَة أَيَّام للْمُسَافِر بَطل مَسحه واستأنف لبساً جَدِيدا كَمَا فِي الإبتداء لحَدِيث أبي بكرَة وَصَفوَان رَضِي الله عَنْهُمَا وَمِنْهَا أَن يلْزم الماسح الْغسْل لحَدِيث صَفْوَان
(أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا تنْزع خفافنا إِلَّا من جَنَابَة) وَلَو تنجست رجل فِي الْخُف وَلم يُمكن غسلهَا فِيهِ وَجب النزع لغسلها فَإِن أمكن غسلهَا فِي الْخُف فغسلها فِيهِ لم يبطل الْمسْح
(فرع) إِذا كَانَ الشَّخْص سليم الرجلَيْن وَلبس خفاً فِي أَحدهمَا لَا يَصح مَسحه فَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا رجل جَازَ الْمسْح على خفها وَلَو كَانَت إِحْدَى رجلَيْهِ عليلة بِحَيْثُ لَا يجب غسلهَا فَلبس الْخُف فِي الصَّحِيحَة قطع الدَّارمِيّ بِأَنَّهُ يَصح الْمسْح عَلَيْهَا وَقطع الْغَزالِيّ بِالْمَنْعِ وَالله أعلم
بَاب التَّيَمُّم
(فصل وشرائط التَّيَمُّم خنسة أَشْيَاء وجود الْعذر بسفر أَو مرض)
التَّيَمُّم لُغَة هُوَ الْقَصْد يُقَال يممك فلَان بِالْخَيرِ إِذا قصدك وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن إِيصَال التُّرَاب إِلَى الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ بشرائط مَخْصُوصَة وَالْأَصْل فِي جَوَازه الْكتاب وَالسّنة وسنورد الْأَدِلَّة فِي موَاضعهَا ثمَّ ضَابِط جَوَاز التَّيَمُّم الْعَجز عَن اسْتِعْمَال المَاء إِمَّا لتعذره أَو لعسره لخوف ضَرَر ظَاهر وللعجز أَسبَاب مِنْهَا السّفر وَالْمَرَض وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الْمَعْنى وَإِن كُنْتُم مرضى فَتَيَمَّمُوا وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا
ثمَّ المَاء فِي حق الْمُسَافِر لَهُ أَرْبَعَة أَحْوَال
أَحدهَا أَن يتَيَقَّن عدم المَاء حواليه بِأَن يكون فِي بعض رمال الْبَوَادِي فَهَذَا يتَيَمَّم وَلَا يحْتَاج إِلَى الطّلب على الرَّاجِح لِأَن الطّلب وَالْحَالة هَذِه عَبث
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يجوز وجود المَاء حوله تجويزاً قَرِيبا أَو بَعيدا فَهَذَا يجب عَلَيْهِ الطّلب بِلَا خلاف لِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة ضَرُورَة مَعَ إِمْكَان الطَّهَارَة بِالْمَاءِ
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يتَيَقَّن وجود المَاء حواليه وَهَذَا لَهُ ثَلَاث مَرَاتِب(1/53)
الأولى أَن يكون المَاء على مَسَافَة ينتشر إِلَيْهَا النازلون للحطب والحشيش والرعي فَيجب السَّعْي إِلَى المَاء وَلَا يجوز التَّيَمُّم قَالَ مُحَمَّد بن يحيى لَعَلَّه يقرب من نصف فَرسَخ وَهَذِه الْمسَافَة فسرت فَوق الْمسَافَة عِنْد التَّوَهُّم
الْمرتبَة الثَّانِيَة أَن يكون بَعيدا بِحَيْثُ لَو سعى إِلَيْهِ خرج الْوَقْت فَهَذَا يتَيَمَّم على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ فَاقِد للْمَاء فِي الْحَال وَلَو وَجب انْتِظَار المَاء مَعَ خُرُوج الْوَقْت لما سَاغَ التَّيَمُّم أصلا بِخِلَاف مَا لَو كَانَ المَاء مَعَه وَخَافَ فَوت الْوَقْت لَو تَوَضَّأ فَإِنَّهُ لَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ لَيْسَ بفاقد للْمَاء فِي الْحَال ثمَّ هَذِه الْمسَافَة تعْتَبر بِوَقْت الصَّلَاة الْحَاضِرَة بكمالها حَتَّى لَو وصل إِلَى منزله فِي آخر الْوَقْت وَجب قصد المَاء وَالْوُضُوء وَإِن فَاتَ الْوَقْت أَو الِاعْتِبَار بِوَقْت الطّلب وَلَا نظر إِلَى أول الْوَقْت الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ الأول وَهُوَ الِاعْتِبَار بِكُل وَقت تِلْكَ الْفَرِيضَة وَرجح النَّوَوِيّ الثَّانِي وَهُوَ أَن الِاعْتِبَار بِوَقْت الطّلب
المرنبة الثَّالِثَة أم يكون المَاء بَين المرتبتين بِأَن زيد مسافته على مَا ينتشر إِلَيْهِ النازلون وتقصر عَن خُرُوج الْوَقْت وَفِي ذَلِك خلاف منتشر وَالْمذهب جَوَاز التَّيَمُّم لِأَنَّهُ فَاقِد للْمَاء فِي الْحَال وَفِي السَّعْي زِيَادَة مشقة
الْحَالة الرَّابِعَة أَن يكون المَاء حَاضرا لَكِن تقع عَلَيْهِ زحمة الْمُسَافِرين بِأَن يكون فِي بِئْر وَلَا يُمكن الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَّا بِآلَة وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا آله وَاحِدَة أَو لِأَن موقف الاستقاء لَا يسع إِلَّا وَاحِدًا وَفِي ذَلِك خلاف وَالرَّاجِح أَنه يتَيَمَّم للعجز الْحسي وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ على هَذَا الْمَذْهَب وَالله أعلم
وَأما الْمَرَض فَهُوَ على ثَلَاثَة أَقسَام
الأول أَن يخَاف مَعَه بِالْوضُوءِ فَوت الرّوح أَو فَوت عُضْو أَو فَوت مَنْفَعَة الْعُضْو وَيلْحق بذلك مَا إِذا كَانَ بِهِ مرض غير مخوف إِلَّا أَنه يخَاف من اسنعمال المَاء أَن يصير مَرضا مخوفا فَيُبَاح لَهُ التَّيَمُّم وَالْحَالة هَذِه على الْمَذْهَب
الْقسم الثَّانِي أَن يخَاف زِيَادَة الْعلَّة وَهُوَ كَثْرَة الْأَلَم وَإِن لم تزد الْمدَّة أَو يخَاف بطء الْبُرْء وَهُوَ طول مُدَّة الْمَرَض وَإِن لم يزدْ الْأَلَم أَو يخَاف شدَّة الضنى وَهُوَ الْمَرَض المدنف الَّذِي يَجعله ضنى أَو يخَاف حُصُول شين قَبِيح كالسواد على عُضْو ظَاهر كالوجه وَغَيره مِمَّا يَبْدُو عِنْد المهنة وَهِي الْخدمَة(1/54)
وَفِي جَمِيع هَذِه الصُّور خلاف منتشر وَالرَّاجِح جَوَاز التَّيَمُّم وَعلة الشين الْفَاحِش أَنه يشوه الْخلقَة ويدوم ضَرَره فَأشبه تلف الْعُضْو
الْقسم الثَّالِث أَن يخَاف شينا يَسِيرا كأثر الجدري أَو سواداً قَلِيلا أَو يخَاف شينا قبيحاً على غير الْأَعْضَاء الظَّاهِرَة أَو يكون بِهِ مرض لَا يخَاف من اسْتِعْمَال المَاء مَعَه محذوراً فِي الْعَاقِبَة وَإِن تألم فِي الْحَال كجراحة أَو برد أَو حر فَلَا يجوز التَّيَمُّم لشَيْء من هَذَا بِلَا خلاف وَالله أعلم
(فرع) للْمَرِيض أَن يعْتَمد على معرفَة نَفسه فِي كَون الْمَرَض مخوفا إِذا كَانَ عَارِفًا وَيجوز لَهُ أَن يعْتَمد على قَول طَبِيب حاذق فَلَا يقبل قَول غير الحاذق وَيشْتَرط مَعَ حذقه الْإِسْلَام فَلَا يقبل قَول الْكَافِر لِأَن الله تَعَالَى فسقه فيلغي مَا ألغاه الله وَلَا يغتر بصنيع فُقَهَاء الرجس وَيشْتَرط فِيهِ أَيْضا الْبلُوغ فَلَا يقبل قَول الصَّبِي وَيشْتَرط فِيهِ الْعَدَالَة أَيْضا فَلَا يقبل قَول الْفَاسِق لِأَن الله تَعَالَى أوجب الْوضُوء فَلَا يعدل عَنهُ إِلَّا بقول من يقبل قَوْله وَقد ألغى الله تَعَالَى قَول الْفَاسِق فَيلْزم من قبُول قَول الْفَاسِق مُخَالفَة الرب فِيمَا أَمر بِهِ وَيقبل قَول العَبْد وَالْمَرْأَة وَيَكْفِي وَاحِد على الْمَشْهُور وَقيل لَا بُد من اثْنَيْنِ كَمَا فِي الْمَرَض الْمخوف فِي الْوَصِيَّة فَإِن الْمَذْهَب الْجَزْم بِاشْتِرَاط الْعدَد هُنَاكَ وَكَانَ الْفرق أَن فِي الْوَصِيَّة يتَعَلَّق ذَلِك بِحُقُوق الْآدَمِيّين من الْوَرَثَة وَالْمُوصى لَهُم فَاشْترط الْعدَد وَفِي التَّيَمُّم الْحق لله تَعَالَى وَحقه مَبْنِيّ على الْمُسَامحَة وَلِأَن الْوضُوء لَهُ بدل وَهُوَ التَّيَمُّم وَلَا كَذَلِك فِي الْوَصِيَّة وَلَو لم يُوجد طَبِيب بِشُرُوطِهِ قَالَ الرَّوْيَانِيّ قَالَ السنجي لَا يتَيَمَّم قَالَ النَّوَوِيّ وَلم أر لغيره مَا يُخَالِفهُ وَلَا مَا يُوَافقهُ قَالَ الإسنائي وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ الْجَزْم بِأَنَّهُ يتَيَمَّم فتعارض الجوابان وَإِيجَاب الْوضُوء وَالْغسْل مَعَ الْجَهْل بِحَال الْعلَّة الَّتِي هِيَ مَظَنَّة الْهَلَاك بعيد عَن محَاسِن الشَّرِيعَة فنستخير الله تَعَالَى ونفتي بِمَا قَالَه الْبَغَوِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَدخُول وَقت الصَّلَاة وَطلب المَاء وَتعذر اسْتِعْمَاله)
يشْتَرط لصِحَّة التَّيَمُّم دُخُول وَقت الصَّلَاة لقَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا} الْآيَة وَالْقِيَام إِلَيْهَا لَا يكون إِلَّا بعد دُخُول الْوَقْت خرج الْوضُوء بِدَلِيل وَبَقِي التَّيَمُّم على ظَاهر الْآيَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وترابها طهُورا أَيْنَمَا أدركتني الصَّلَاة تيممت وَصليت) وَلِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة ضَرُورَة وَلَا ضَرُورَة إِلَيْهِ قبل دُخُول وَقت الصَّلَاة وَالله أعلم وَيشْتَرط لصِحَّة التَّيَمُّم(1/55)
طلب المَاء لقَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} أمرنَا بِالتَّيَمُّمِ عِنْد عدم الوجدان وَلَا يعلم عَدمه إِلَّا بِالطَّلَبِ وَيشْتَرط فِي الطّلب أَن يكون بعد دُخُول ى الْوَقْت لِأَنَّهُ وَقت الضَّرُورَة وَله أَن يطْلب بِنَفسِهِ وَكَذَا يَكْفِيهِ طلب من أذن لَهُ على الصَّحِيح قلت أَن يشْتَرط أَن يكون موثوقاً بِهِ فِي الطّلب وَالله أعلم وَلَا يَكْفِي طلب من لم يَأْذَن لَهُ بِلَا خلاف وَكَيْفِيَّة الطّلب أَن يفتش رَحْله لاحْتِمَال أَن يكون فِي الرحل مَاء وَهُوَ لَا يشْعر بِهِ فَإِن لم يجد نظر يَمِينا وَشمَالًا وأماماً وخلفاً إِن اسْتَوَى مَوْضِعه ويخص مَوَاضِع الخضرة واجتماع الطير بمزيد احْتِيَاط فَإِن لم يستو الْموضع نظر إِن خَافَ على نَفسه أَو مَاله لَو تردد لم يجب التَّرَدُّد لِأَن هَذَا الْخَوْف يُبِيح لَهُ التَّيَمُّم عِنْد تَيَقّن المَاء فَعِنْدَ التَّوَهُّم أولى فَإِن لم يخف وَجب عَلَيْهِ التَّرَدُّد إِلَى حد يلْحق غوث الرفاق مَعَ مَا هم عَلَيْهِ من التشاغل بشغلهم والتفاوض فِي أَقْوَالهم وَيخْتَلف ذَلِك باستواء الأَرْض واختلافها صعُودًا وهبوطاً فَإِن كَانَ مَعَه رفْقَة وَجب سُؤَالهمْ إِلَى أَن يستوعبهم أَو يضيق الْوَقْت فَلَا يبْقى إِلَّا مَا يسع الصَّلَاة على الرَّاجِح وَقيل يسوعبهم وَلَو خرج الْوَقْت وَلَا يجب أَن يطْلب من كل وَاحِد من الرّفْقَة بِعَيْنِه بل يَكْفِي أَن يُنَادي فيهم من مَعَه مَاء من يجود بِالْمَاءِ وَنَحْوه وَلَو بعث النازلون ثِقَة يطْلب لَهُم كفاهم كلهم ثمَّ مَتى عرف مَعَهم مَاء وَجب عَلَيْهِ طلبه وَلَو كَانَ على وَجه الْهِبَة على الرَّاجِح وَلَو أعير الدَّلْو وَجب قبُوله وَلَو أقْرض المَاء وَجب قبُوله على الصَّحِيح وَيجب عَلَيْهِ أَن يَشْتَرِي مَاء الْوضُوء وَالْغسْل وَيصرف إِلَيْهِ أَي نوع كَانَ مَعَه من المَاء إِلَّا أَن يحْتَاج إِلَى الثّمن لمؤنة من مُؤَن سَفَره فِي ذهَاب وإيابه فَلَا يجب الشِّرَاء حِينَئِذٍ وَلَا يجب عَلَيْهِ أَن يَشْتَرِيهِ بِزِيَادَة على ثمن مثله وَإِن قلت الزِّيَادَة على الرَّاجِح وَلَو لم يعره أحد آلَة الاستقاء إِلَّا بِالْأُجْرَةِ وَجب عَلَيْهِ إِجَارَتهَا بِأُجْرَة الْمثل وَلَو قدر على أَن يُدْلِي عمَامَته فِي الْبِئْر ويعصرها وَجب عَلَيْهِ ذَلِك فَلَو لم تصل إِلَى المَاء وَأمكن شقها شقها وَشد بَعْضهَا بِبَعْض لتصل لزمَه ذَلِك إِذا لم يحصل فِي الثَّوْب نقص يزِيد على ثمن المَاء أَو أُجْرَة الْحَبل وَفِي ضبط ثمن الْمثل أوجه الرَّاجِح ثمنه فِي ذَلِك الْموضع وَتلك الْحَالة وَقَوله وَتعذر اسْتِعْمَاله يَشْمَل أَنْوَاع أَسبَاب إِبَاحَة التَّيَمُّم وَقد مر ذكر السّفر وَالْمَرَض وَمن أَسبَاب الْإِبَاحَة أَيْضا مَا إِذا كَانَ بِقُرْبِهِ مَاء وَيخَاف لَو سعى إِلَيْهِ على نَفسه من سبع أَو عَدو عِنْد المَاء أَو يخَاف على مَاله الَّذِي مَعَه أَو المخلف فِي رَحْله من غَاصِب أَو سَارِق وَإِن كَانَ فِي سفينة لَو استقى اسْتلْقى فِي الْبَحْر فَلهُ التَّيَمُّم فِي ذَلِك كُله وَلَو خَافَ الِانْقِطَاع عَن الرّفْقَة إِن كَانَ عَلَيْهِ ضَرَر لَو قصد المَاء فَلهُ التَّيَمُّم قطعا وَإِن لم يكن عَلَيْهِ ضَرَر فخلاف الرَّاجِح أَن لَهُ أَن يتَيَمَّم للوحشة وَمن أَسبَاب إِبَاحَة التَّيَمُّم الْحَاجة إِلَى الْعَطش إِمَّا لعطشه أَو عَطش رَفِيقه أَو عَطش حَيَوَان مُحْتَرم فِي الْحَال أَو فِي الْمُسْتَقْبل وَلَو مَاتَ رجل وَله مَاء ورفقته عطاش شربوه ويمموه وَوَجَب عَلَيْهِم ثمنه وَجعله فِي مِيرَاثه وثمنه قِيمَته فِي مَوضِع الْإِتْلَاف فِي وقته وَمن الْأَسْبَاب عدم اسْتِعْمَاله لأجل(1/56)
الْجراحَة وَفِي مَعْنَاهَا كالدمامل وَنَحْوهَا سَوَاء كَانَ ثمَّ جبيرَة أم لَا وَقد ذكرهَا الشَّيْخ بعد ذَلِك لأجل حكم الْقَضَاء وللعطشان أَن يَأْخُذ المَاء من صَاحبه قهرا إِذا لم يبذله بِشَرْط عدم احْتِيَاجه اليه وَعَلِيهِ قِيمَته وَالله أعلم قَالَ
(وَالتُّرَاب الطَّاهِر)
لَا يَصح التَّيَمُّم الا بِتُرَاب طَاهِر خَالص غير مُسْتَعْمل فالتراب مُتَعَيّن سَوَاء كَانَ أَحْمَر أَو اسود أَو أصفر وَسَوَاء فِي الأرمني أَو غَيره لصدق اسْم التُّرَاب على ذَلِك كُله وَلَا يَصح بالنورة والجص وَسَائِر الْمَعَادِن وَلَا بالأحجار المدقوقة والقوارير المسحوقة وَشبه ذَلِك وَفِي وَجه يجوز بِجَمِيعِ ذَلِك وَهُوَ غلط وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِهِ بقوله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} وَهُوَ يَقع على التُّرَاب وعَلى كل مَا على وَجه الأَرْض وَنسب ذَلِك إِلَى مَالك وَأبي حنيفَة أَيْضا وَقَالا إِنَّه يجوز بِجَمِيعِ أَنْوَاع الأَرْض حَتَّى بالصخرة المغسولة وَنقل الرَّافِعِيّ عَن مَالك أَنه قَالَ يجوز أَيْضا أَيْضا بِمَا هُوَ مُتَّصِل بِالْأَرْضِ كالشجر وَالزَّرْع وَنقل النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ أَنه يجوز بِكُل مَا على وَجه الارض حَتَّى بالثلج وَمذهب الشَّافِعِي وَجُمْهُور الْفُقَهَاء وَبِه قَالَ الإِمَام أَحْمد وَابْن الْمُنْذر وَدَاوُد أَنه لَا يجوز التَّيَمُّم الا بِتُرَاب طَاهِر لَهُ غُبَار يعلق بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لِأَن الصَّعِيد يصدق على التُّرَاب وعَلى وَجه الأَرْض وعَلى الطَّرِيق فَهُوَ مُجمل بَينه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(التُّرَاب كافيك) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وتربتها طهُورا إِذا لم تَجِد المَاء) عدل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى ذكر التُّرَاب بعد ذكر الأَرْض وَلَوْلَا اخْتِصَاص الطّهُورِيَّة بِهِ لقَالَ جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وتربتهاا أَي ترابها لِأَنَّهُ جَاءَ مُبينًا وترابها طهُورا وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الصَّعِيد هُوَ تُرَاب الْحَرْث وَعَن عَليّ وَابْن مَسْعُود أَنه التُّرَاب الَّذِي يغبر وَقَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كل تُرَاب ذِي غُبَار وَقَوله حجَّة فِي اللُّغَة
ثمَّ شَرط التُّرَاب أَن لَا يخرج عَن حَاله إِلَى أُخْرَى تمنع الِاسْم حَتَّى لَو أحرق التُّرَاب حَتَّى صَار رَمَادا أَو سحق الخزف لم يجز التَّيَمُّم بِهِ وَلَو شوى الطين وسحقه فَفِي جَوَاز التَّيَمُّم بِهِ وَجْهَان وَلم يرجح الرَّافِعِيّ فِي هَذِه الصُّورَة شَيْئا وَلَا النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَلَو أصَاب التُّرَاب نَار فاسود وَلم يَحْتَرِق فَفِيهِ الْوَجْهَانِ صحّح النَّوَوِيّ فِي هَذِه الصُّورَة الْقطع بِالْجَوَازِ(1/57)
وَهل يجوز التَّيَمُّم بالرمل وَإِن كَانَ خشناً لم يرْتَفع مِنْهُ غُبَار بِالضَّرْبِ لم يجز وَإِن ارْتَفع كفى وان كَانَ نَاعِمًا جَازَ لانه من جنس التُّرَاب قَالَه الرَّافِعِيّ وَجزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ لكنه قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب وَشرح الْوَسِيط وَتَصْحِيح التَّنْبِيه إِنَّه لَو تيَمّم بِتُرَاب مخلوط برمل ناعم لَا يجوز فالرمل الصّرْف أولى بِالْمَنْعِ ثمَّ شَرط التُّرَاب أَن يكون طَاهِرا لقَوْله تَعَالَى {صَعِيدا طيبا} وَالطّيب هُنَا الطَّاهِر لِأَن الطّيب يُطلق على مَا تستلذ بِهِ النَّفس وعَلى الْحَلَال وعَلى الطَّاهِر والأولان لَا يَلِيق وصف التُّرَاب بهما فَتعين الثَّالِث وَفِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وتربتها طهُورا) مَا يدل عَلَيْهِ وَلِأَن المَاء النَّجس لَا يجوز الْوضُوء بِهِ وَكَذَا التُّرَاب النَّجس وَقَوله طَاهِر يُؤْخَذ مِنْهُ أَن لَو تيَمّم بِتُرَاب طَاهِر على شَيْء نجس فانه يجزىء وَهُوَ كَذَلِك ثمَّ لَا بُد فِي التُّرَاب من كَونه خَالِصا فَلَا يَصح التَّيَمُّم بِتُرَاب مخلوط بدقيق وزعفران وَنَحْوه بِلَا خلاف وَكَذَا لَو كَانَ الخليط قَلِيلا على الصَّحِيح وَالْكثير مَا يرى والقليل مَا لَا يظْهر قَالَه الامام
ثمَّ لَا بُد فِي التُّرَاب أَيْضا أَن لَا يكون مُسْتَعْملا كَالْمَاءِ على الصَّحِيح لانه أُبِيح بِهِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ والمستعمل مَا لصق بالعضو وَكَذَا مَا تناثر مِنْهُ على الرَّاجِح وَشرط المتناثر أَن يكون مس الْعُضْو والا فَهُوَ غير مُسْتَعْمل قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ
(وفرائضه أَرْبَعَة أَشْيَاء النِّيَّة)
النِّيَّة وَاجِبَة فِي التَّيَمُّم للْخَبَر الْمَشْهُور
(إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) وَلِأَنَّهُ عبَادَة فافتقر إِلَى النِّيَّة كَالصَّلَاةِ وَالْوُضُوء
وكيفيتها أَن يَنْوِي اسْتِبَاحَة الصَّلَاة وَلَا يَكْفِي أَن يَنْوِي رفع الْحَدث لِأَن الْمُتَيَمم لَا يرفع حَدثهُ بِدَلِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَمْرو بن الْعَاصِ إِن أَصَابَته جَنَابَة فَتَيَمم وَصلى بأصحاب فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(أصليت بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب) وَلِأَنَّهُ لَو رَفعه لما بَطل بِرُؤْيَة المَاء كَالْوضُوءِ بِالْمَاءِ(1/58)
وَلَا تَكْفِي نِيَّة الطَّهَارَة عَن الْحَدث على الصَّحِيح وَلَو نوى أَدَاء فرض التَّيَمُّم أَو فَرِيضَة التَّيَمُّم فَوَجْهَانِ أَحدهمَا يَكْفِي كَالْوضُوءِ وأصحهما لَا يَكْفِي وَالْفرق أَن الْوضُوء قربَة مَقْصُودَة فِي نَفسهَا وَلِهَذَا ينْدب تجديده بِخِلَاف التَّيَمُّم فَإِنَّهُ لَا ينْدب تجديده وَلَو اقْتصر على نِيَّة التَّيَمُّم لم يجزه قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَاعْلَم أَنه لَا يجوز أَن تتأخر النِّيَّة عَن أول مَفْرُوض وَأول أَفعاله الْمَفْرُوضَة نقل التُّرَاب وَالْمرَاد بِالنَّقْلِ الضَّرْب فَلَا بُد من النِّيَّة قبل رفع يَدَيْهِ من التُّرَاب فَإِذا قارنت وعزبت قبل مسح وَجهه أَجزَأَهُ على الرَّاجِح فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة قَالَ ابْن الرّفْعَة أصَحهمَا لَا يجزىء لِأَن النَّقْل وان وَجب الا أَنه غير مَقْصُود فِي نَفسه
ثمَّ إِذا نوى الاستباحة فَلهُ أَرْبَعَة أَحْوَال
أَحدهمَا أَن يَنْوِي اسْتِبَاحَة الْفَرْض وَالنَّفْل مَعًا فيتسبيحهما وَله التَّنَفُّل قبل الْفَرِيضَة وَبعدهَا وَفِي الْوَقْت وخارجه وَلَا يشْتَرط تعْيين الْفَرِيضَة على الرَّاجِح وَيَكْفِي نِيَّة الْفَرْض مُطلقًا وَيُصلي أَي فَرِيضَة شَاءَ وان نوى معينه فَلهُ أَن يُصَلِّي غَيرهَا
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يَنْوِي الْفَرِيضَة سَوَاء كَانَت إِحْدَى الْخمس أَو منذورة وَلَا تخطر لَهُ النَّافِلَة فَيُبَاح لَهُ الْفَرِيضَة لِأَنَّهُ وَكَذَا النَّافِلَة قبلهَا وَبعدهَا وَبعد الْوَقْت على الرَّاجِح لِأَن النَّفْل تبع للفريضة لِأَنَّهُ نَوَاهَا وَكَذَا النَّافِلَة قبلهَا وَبعدهَا وَبعد الْوَقْت على الرَّاجِح لِأَن النَّفْل تبع للفريضة
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يَنْوِي النَّفْل وَحده فَلَا يستبيح الْفَرْض على الرَّاجِح لَان النَّفْل تبع للْفَرض وَالْفَرْض متبوع فَلَا يَصح أَن يكون تَابعا وَلم يُنَوّه وَلَو نوى مس الْمُصحف أَو الْجنب الِاعْتِكَاف فَهُوَ كنية النَّفْل فَلَا يستبيح الْفَرْض على الْمَذْهَب ويستبيح مَا نوى على الصَّحِيح وَلَو نوى التَّيَمُّم لصَلَاة الْجِنَازَة فَهُوَ كالتيمم للنفل على الصَّحِيح لِأَنَّهَا وان تعيّنت عَلَيْهِ فَهِيَ كالنوافل من حَيْثُ انها غير متوجهة عَلَيْهِ بِعَيْنِه أَلا ترى أَنَّهَا تسْقط بِفعل غَيره
الْحَالة الرَّابِعَة أَن يَنْوِي الصَّلَاة فَقَط فَهُوَ كمن نوى النَّفْل على الرَّاجِح وَالله أعلم
(فرع) لَو تيَمّم بنية اسْتِبَاحَة الصَّلَاة ظَانّا أَن حَدثهُ أَصْغَر فَكَانَ أكبر أَو ظن أَن حَدثهُ أكبر فَكَانَ أَصْغَر صَحَّ بِلَا خلاف لِأَن مُوجب الحدثين وَاحِد وَالله أعلم قَالَ
(وَمسح الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين وَالتَّرْتِيب)(1/59)
من فَرَائض التَّيَمُّم مسح الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ لقَوْله تَعَالَى {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} ولفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أما الْوَجْه فَيجب استيعابه كَالْوضُوءِ نعم لَا يجب ايصال التُّرَاب إِلَى منابت الشّعْر الَّذِي يجب إِيصَال المَاء إِلَيْهَا على الْمَذْهَب للْمَشَقَّة قَالَ القَاضِي حُسَيْن لَا يسن أَيْضا وَيجب إِيصَال التُّرَاب إِلَى ظَاهر مَا استرسل من اللِّحْيَة على الْأَظْهر كَالْوضُوءِ وَأما الْيَدَيْنِ فَيجب استيعابهما بِالتُّرَابِ مَعَ الْمرْفقين وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة وَاحْتج لَهُ بقول ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين) بِالْقِيَاسِ على الْوضُوء وَفِي قَول قديم يمسح الْكَفَّيْنِ فَقَط وَاحْتج لَهُ بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمَّار
(إِنَّمَا يَكْفِيك أَن تَقول بيديك هَكَذَا ثمَّ ضرب بيدَيْهِ الأَرْض ضَرْبَة وَاحِدَة ثمَّ مسح الشمَال على الْيَمين وَظَاهر كفيه وَوَجهه) وَقد علق الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم الِاقْتِصَار على الْكَفَّيْنِ على صِحَة حَدِيث عمار وَقد صَحَّ فَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي لهَذَا وَلقَوْله إِذا صَحَّ الحَدِيث فَاتَّبعُوهُ وَاعْلَمُوا أَنه مذهبي وَهَذَا مَذْهَب الامام أَحْمد وَمَالك وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيّ وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب انه أقوى فِي الدَّلِيل وَأقرب إِلَى ظَاهر السّنة الصَّحِيحَة وَالله أعلم وَقَالَ ابْن الرّفْعَة بعد كَلَام ذكره الامام يتَعَيَّن تَرْجِيح الْقَدِيم وَالله أعلم قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة وَاعْلَم أَنه تكَرر لفظ الضربتين فِي الْأَخْبَار فجرت طَائِفَة من الْأَصْحَاب على الظَّاهِر وَقَالُوا لَا يجوز النَّقْص عَن ضربتين وَتجوز الزِّيَادَة وَالأَصَح مَا قَالَه الْآخرُونَ ان الْوَاجِب إِيصَال التُّرَاب سَوَاء حصل ضَرْبَة أَو أَكثر لَكِن يسْتَحبّ أَن لايزيد على ضربتين وَلَا ينقص وَسَوَاء حصل بيد أَو خرقَة أَو خَشَبَة وَلَا يشْتَرط امرار الْيَد على الْعُضْو على الرَّاجِح وَلَا يشْتَرط الضَّرْب أَيْضا حَتَّى لَو وضع يَده على تُرَاب ناعم فعلق غُبَار بهَا كفى وَلَو كَانَ يمسح بِيَدِهِ فَرَفعهَا فِي أثْنَاء الْعُضْو ثمَّ ردهَا جَازَ وَلَا يفْتَقر إِلَى أَخذ تُرَاب جَدِيد على الْأَصَح وَالله أعلم
وَمن فَرَائض التَّيَمُّم التَّرْتِيب فَيجب تَقْدِيم الْوَجْه على الْيَدَيْنِ سَوَاء فِي ذَلِك تيَمّم للْوُضُوء أَو للجنابة لِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة فِي عضوين فَأشبه الْوضُوء لحَدِيث عمار رَضِي الله عَنهُ فَلَو تَركه نَاسِيا لم يَصح على الْمَذْهَب كَالْوضُوءِ وَلَا يشْتَرط التَّرْتِيب فِي أَخذ التُّرَاب للعضوين على الْأَصَح حَتَّى لَو ضرب بيدَيْهِ على الأَرْض وَأمكنهُ مسح الْوَجْه بِيَمِينِهِ وَمسح يَمِينه بيساره جَازَ وَكَذَا لَو ضرب بِخرقَة(1/60)
وَمسح بِبَعْضِهَا وَجهه وبالأخرى الْيَدَيْنِ كفي وَيجب عَلَيْهِ نزع الْخَاتم فِي الضَّرْبَة الثَّانِيَة وَلَا يَكْفِي تحريكه بِخِلَاف الْوضُوء لِأَن التُّرَاب لَا يدْخل تَحْتَهُ وَالله أعلم
(فرع) لَو تيَمّم وعَلى يَده نَجَاسَة وَضرب بهَا تُرَاب طَاهِر وَمسح وَجهه جَازَ على الْأَصَح وَلَا يجوز مسح النَّجِسَة بِلَا خلاف كَمَا لَا يَصح غسلهَا عَن الْوضُوء مَعَ بَقَاء النَّجَاسَة وَلَو تيَمّم وَوَقع عَلَيْهِ نَجَاسَة لم يبطل تيَمّمه على الْمَذْهَب وَلَو تيَمّم قبل الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة فَفِي صِحَة تيَمّمه وَجْهَان كَمَا لَو كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَة وَالله أعلم قَالَ
(وسننه ثَلَاثَة أَشْيَاء التَّسْمِيَة وَتَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى والموالاة قِيَاسا على الْوضُوء)
وَمن سنَنه أَيْضا تَخْفيف التُّرَاب الْمَأْخُوذ إِذا كَانَ كثيرا وَأَن ينْزع خَاتمه فِي الضَّرْبَة الأولى وَأَن يسْتَقْبل الْقبْلَة كَالْوضُوءِ وَأَن يشبك أَصَابِعه بعد الضربتين قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة وَيَنْبَغِي اسْتِحْبَاب الشَّهَادَتَيْنِ بعد التَّيَمُّم كَالْوضُوءِ وَالْغسْل وَالله أعلم قَالَ
(فصل وَالَّذِي يبطل التَّيَمُّم ثَلَاثَة أَشْيَاء مَا يبطل الْوضُوء ورؤية المَاء فِي غير الصَّلَاة وَالرِّدَّة)
إِذا صَحَّ التَّيَمُّم بِشُرُوطِهِ ثمَّ أحدث بَطل تيَمّمه لِأَنَّهُ طَهَارَة تبيح الصَّلَاة فَيبْطل بِالْحَدَثِ كَالْوضُوءِ وَلَا فرق فِي هَذَا بَين التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء أَو مَعَ وجوده كتيمم الْمَرِيض فَلَو تيَمّم لفقد المَاء ثمَّ رأى المَاء قبل الدُّخُول فِي الصَّلَاة بَطل تيَمّمه لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الصَّعِيد الطّيب طهُور الْمُسلم وَلَو لم يجد المَاء عشر سِنِين فَإِذا وجد المَاء فليمسه بَشرته) لِأَن المَاء أصل وَالتَّيَمُّم بدل فَأشبه رُؤْيَة المَاء فِي أثْنَاء التَّيَمُّم فَإِنَّهُ يُبطلهُ قَالَ ابْن الرّفْعَة بِالْإِجْمَاع
وَاعْلَم أَن توهم وجود المَاء كرؤيته كَمَا إِذا رأى سراباً فَظَنهُ مَاء أَو أطبقت بِقُرْبِهِ غمامة أَو طلع عَلَيْهِ جمَاعَة يجوز أَن يكون مَعَهم مَاء وَهَذَا كُله إِذا لم يقارن المَاء مَا يمْنَع الْقُدْرَة على اسْتِعْمَاله فَإِن كَانَ هُنَاكَ مَا يمْنَع اسْتِعْمَاله كَمَا إِذا رأى مَاء وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ لعطش كَمَا مر أَو كَانَ دون المَاء حَائِل من سبع أَو عَدو أَو رَآهُ فِي قَعْر بِئْر وَهُوَ يعلم حَال رُؤْيَته تعذر اسْتِعْمَاله فَلَا يبطل تيَمّمه لِأَن هَذِه الْأَسْبَاب لَا تمنع صِحَة التَّيَمُّم ابْتِدَاء فَلَا تبطله أولى أم إِذا رأى المَاء فِي أثْنَاء الصَّلَاة نظر إِن كَانَت الصَّلَاة(1/61)
تغنيه عَن الْقَضَاء كَصَلَاة الْمُسَافِر فَظَاهر الْمَذْهَب وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي أَنه لَا تبطل صلَاته وَلَا تيَمّمه لِأَنَّهُ متيمم دخل فِي الصَّلَاة لَا يُعِيدهَا فَأشبه مَا لَو رَآهُ بعد الْفَرَاغ مِنْهَا وَلِأَن فِيهِ إبِْطَال عبَادَة مجزئة وَلِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاة قد تلبس بِالْمَقْصُودِ وَوجد أَن الأَصْل بعد التَّلَبُّس بمقصود الْبَدَل لَا يبطل حكم الْبَدَل كَمَا لَو شرع الْمُكَفّر فِي الصّيام ثمَّ وجد الرَّقَبَة لَا يلْزمه إِخْرَاج الرَّقَبَة وَإِن كَانَت الصَّلَاة لَا تغنيه عَن الْقَضَاء كَصَلَاة الْحَاضِر بِالتَّيَمُّمِ بطلت على الصَّحِيح لِأَنَّهَا لَا يعْتد بهَا إِذا تمت وَيجب قَضَاؤُهَا فَلَا حَاجَة إِلَى اتمامها وإعادتها وَقيل يُتمهَا وَيُعِيدهَا وَالله أعلم
(فرع) اعْلَم أَن الْمُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي مَوضِع يغلب فِيهِ عدم المَاء لَا قَضَاء عَلَيْهِ مُطلقًا سَوَاء كَانَ مُسَافِرًا أَو مُقيما وَإِن كَانَ فِي مَوضِع يغلب فِيهِ وجود المَاء يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء مُطلقًا سَوَاء كَانَ مُسَافِرًا أَو مُقيما كَذَا ذكره النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَقد ذكره ذَلِك الرَّافِعِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي آخر بَاب التَّيَمُّم فِي فصل الْقَضَاء بالأعذار وَحِينَئِذٍ تمثيلهم عدم الْقَضَاء بِالسَّفرِ جَريا على الْغَالِب فِي أَن السّفر يغلب فِيهِ عدم المَاء بِخِلَاف الْحَضَر فَإِنَّهُ يغلب فِيهِ وجود المَاء فاعرف ذَلِك فَإِنَّهُ مُهِمّ حسن منتج وَالله أعلم وَاعْلَم أَن قَول الشَّيْخ وَالرِّدَّة يَعْنِي أَن الرِّدَّة تبطل التَّيَمُّم وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح على الْمَشْهُور وَفِيه مَعَ الْوضُوء ثَلَاثَة أوجه الصَّحِيح يبطل تيَمّمه دون وضوئِهِ وَالْفرق أَن التَّيَمُّم مُبِيح وَلَا إِبَاحَة مَعَ الرِّدَّة بِخِلَاف الْوضُوء فَإِنَّهُ رَافع فَلهُ قُوَّة اسْتِدَامَة حكمه وَلِهَذَا لَا يبطل غسله بِالرّدَّةِ على الْمَشْهُور وَقيل هُوَ كَالْوضُوءِ وَالله أعلم
(وَصَاحب الجبائر يمسح عَلَيْهَا وَيتَيَمَّم وَيُصلي وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ إِن وَضعهَا على طهر)
اعْلَم أَن وضع الجبائر يكون لكسر أَو انخلاع وَصَاحب ذَلِك قد يحْتَاج إِلَى وضع الْجَبِيرَة وَقد لَا يحْتَاج فَإِن احْتَاجَ إِلَى وَضعهَا بِأَن خَافَ على نَفسه أَو عضوه على مَا مر فِي الْمَرَض وَضعهَا ثمَّ ينظر إِن قدر على نَزعهَا عِنْد الطَّهَارَة من غير ضَرَر من الْأُمُور الْمُتَقَدّمَة فِي الْمَرَض وَجب النزع وَغسل الصَّحِيح وَغسل مَوضِع الْعلَّة إِن أمكن وَألا مَسحه بِالتُّرَابِ إِن كَانَ مَوضِع التَّيَمُّم وَإِن لم يقدر على نزع الْجَبِيرَة إِلَّا بِضَرَر من الْأُمُور الْمُتَقَدّمَة فِي الْمَرَض كخوف فَوَات النَّفس أَو الْعُضْو أَو منفعَته أَو حُصُول شين فَاحش فِي عُضْو ظَاهر فَلَا يُكَلف نزع الْجَبِيرَة لَكِن يجب عَلَيْهِ أُمُور مِنْهَا غسل الصَّحِيح على الْمَذْهَب وَيجب غسل مَا يُمكن غسله حَتَّى تَحت أَطْرَاف الْجَبِيرَة من الصَّحِيح بِأَن يضع خرقه مبلوله ويعصرها لتغسل تِلْكَ الْمَوَاضِع بالمتقاطر وَمِنْهَا مسح الْجَبِيرَة بِالْمَاءِ على الْمَشْهُور كَمَا ذكره الشَّيْخ لأجل مَا أخذت الْجَبِيرَة من الصَّحِيح وَيجب مسح كل الْجَبِيرَة على الصَّحِيح وَمِنْهَا أَنه يجب التَّيَمُّم مَعَ ذَلِك على الْمَشْهُور ثمَّ إِن كَانَ جنبا فَالْأَصَحّ أَنه مُخَيّر إِن شَاءَ قدم غسل الصَّحِيح على التَّيَمُّم وَإِن شَاءَ أَخّرهُ وَإِن كَانَ مُحدثا الْحَدث الْأَصْغَر فَالصَّحِيح أَنه لَا ينْتَقل من(1/62)
عُضْو إِلَى عُضْو حَتَّى يتم طَهَارَته فَإِن كَانَت الْجَبِيرَة على الْيَد مثلا وَجب تَقْدِيم التَّيَمُّم على مسح الرَّأْس وَلَو كَانَت الجبائر على عضوين أَو ثَلَاثَة تعدد التَّيَمُّم قَالَ النَّوَوِيّ وَلَو عَمت الْجِرَاحَات أعضاءه الْأَرْبَعَة قَالَ الْأَصْحَاب يَكْفِي تيَمّم وَاحِد عَن الْجَمِيع لِأَنَّهُ سقط التَّرْتِيب لسُقُوط الْغسْل وَالله أعلم
ثمَّ مَا ذكرنَا من وجوب غسل الصَّحِيح وَمسح الْجَبِيرَة وَالتَّيَمُّم إِنَّمَا يَكْفِي بِشَرْطَيْنِ
أَحدهمَا أَن لايحصل تَحت الْجَبِيرَة من الصَّحِيح إِلَّا مَا لَا بُد مِنْهُ للإمساك
وَالثَّانِي أَن يَضَعهَا على طهر فَإِن لم يكن كَذَلِك وَجب النَّوْع واستئناف الْوَضع على طهر إِن أمكن وَإِلَّا فَتتْرك الْجَبِيرَة وَيجب الْقَضَاء عِنْد الْبُرْء قَالَ فِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي بِلَا خلاف فَأَما إِذا لم يحْتَج إِلَى وضع الْجَبِيرَة لَكِن يخَاف من إِيصَال المَاء فَيغسل الصَّحِيح بِقدر الْإِمْكَان بِأَن يتلطف بِوَضْع خرقَة مبلولة ويتحامل عَلَيْهَا لينغسل بالمتقاطر بَاقِي الصَّحِيح وَيجب التَّيَمُّم وَالْحَالة هَذِه بِلَا خلاف كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ لِئَلَّا يبْقى مَوضِع الْكسر بِلَا طَهَارَة وَلَا يجب مسح مَوضِع الْعلَّة بِالْمَاءِ وَإِن كَانَ لَا يخَاف مِنْهُ كَذَا قَالَه الْأَصْحَاب ثمَّ إِذا تيَمّم وَالْعلَّة فِي مَحل التَّيَمُّم أَمر التُّرَاب عَلَيْهَا وَكَذَا لَو كَانَ للجراحة أَفْوَاه مفتحة وَأمكن إمرار التُّرَاب عَلَيْهَا وَجب وَاعْلَم أَن الْجراحَة قد تحْتَاج إِلَى أَن تلزق عَلَيْهَا خرقَة أَو قطناً أَو نَحْوهمَا فلهَا حكم الْجَبِيرَة فِي كل مَا سبق وَقد لَا تحْتَاج إِلَى وضع لزقة فَيجب غسل الصَّحِيح وَالتَّيَمُّم عَن الجريح وَلَا يجب مسح الجريح بِالْمَاءِ وَلَا يجب عَلَيْهِ وضع اللزقة والجبيرة لأجل أَن يمسح على مَا قَالَه الْجُمْهُور وَهُوَ الصَّحِيح ثمَّ إِذا غسل الصَّحِيح وَتيَمّم لكسر أَو جرح مَعَ الْمسْح على حَائِل أَو دونه وَصلى فَرِيضَة ثمَّ حضرت فَرِيضَة أُخْرَى لم يجب إِعَادَة الْغسْل إِن كَانَ جنبا وَلَا إِعَادَة الْوضُوء إِن كَانَ مُحدثا على الصَّحِيح وَلَيْسَ على الْجنب إِلَّا التَّيَمُّم وَفِي الْمُحدث وَجْهَان أصَحهمَا عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يغسل مَا بعد العليل لأجل التَّرْتِيب لِأَنَّهُ إِذْ بطلت الطَّهَارَة فِي العليل بَطل مَا بعده وأصحهما عِنْد النَّوَوِيّ أَنه يجب إِلَّا التَّيَمُّم فَقَط كالجنب لِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة مُسْتَقلَّة فِي الْجُمْلَة فَلَا يلْزم من ارْتِفَاع حكمهَا بطلَان طَهَارَة أُخْرَى وَقَوله وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ إِن وَضعهَا على طهر مَفْهُومه أَنه إِذا وَضعهَا على غير طهر أَنه يُعِيد وَهُوَ كَذَلِك على الصَّحِيح الْمَنْصُوص لِأَنَّهُ عذر نَادِر وَلَا يفعل غَالِبا وَالله أعلم قَالَ
(وَيتَيَمَّم لكل فَرِيضَة وَيُصلي بِتَيَمُّم وَاحِد مَا شَاءَ من النَّوَافِل)
لَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِد إِلَّا فَرِيضَة وَاحِدَة وَاحْتج لَهُ الرَّافِعِيّ بقول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(من السّنة أَن لَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا مَكْتُوبَة وَاحِدَة) وَالسّنة فِي كَلَام الصَّحَابِيّ تَنْصَرِف إِلَى سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي إِسْنَاده شَيْء وَاضح نعم روى الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ(1/63)
يتَيَمَّم لكل صَلَاة وَإِن لم يحدث) وَأحسن مَا يحْتَج بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} إِلَى قَوْله {فَتَيَمَّمُوا} أوجب الْوضُوء وَالتَّيَمُّم لكل صَلَاة وَكَانَ ذَلِك ثَابتا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام ثمَّ خرج الْوضُوء بِفِعْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(فَإِنَّهُ صلى يَوْم الْفَتْح خمس صلوَات بِوضُوء وَاحِد) فَبَقيَ التَّيَمُّم بِمُقْتَضى الْآيَة وَلَا يُمكن أَن يُقَاس التَّيَمُّم على الْوضُوء لِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة ضَرُورَة لَا يرفع الْحَدث لما مر من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَمْرو بن الْعَاصِ
(أصليت بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب) وَذهب الْمُزنِيّ إِلَى أَنه يجمع بِتَيَمُّم وَاحِد فَرَائض ونوافل وَهُوَ بِنَاء مِنْهُ على أَصله وَهُوَ أَن التَّيَمُّم يرفع الْحَدث وَهُوَ مَرْدُود بِمَا مر فعلى الصَّحِيح لَا يجمع بَين فريضتين سَوَاء كَانَت الفريضتان متفقين كصلاتين أَو مختلفتين كَصَلَاة وَطواف وَسَوَاء كَانَتَا مقضيتين أَو حَاضِرَة ومقضية وَسَوَاء كَانَتَا مَكْتُوبَة ومنذورة أَو منذورتين وَفِي وَجه يجمع بَين منذورة ومقضية وَفِي آخر بَين منذورتين وَفِي وَجه شَاذ يجوز فِي فوائت وفائتة ومؤداة وَالصَّبِيّ كَالْبَالِغِ على الْمَذْهَب لِأَن مَا يُؤَدِّيه حكمه حكم الْفَرْض أَلا ترى أَنه يَنْوِي بِصَلَاتِهِ الْمَفْرُوضَة وَكَذَا لَا يجمع بَين خطْبَة الْجُمُعَة وصلاتها نعم صَلَاة الْجِنَازَة لَهَا حكم النَّافِلَة على الرَّاجِح من طرق فَيجوز الْجمع بَين صلوَات الْجَنَائِز وَبَين صَلَاة جَنَازَة ومكتوبة وَبَين جنائز ومكتوبة لِأَن صَلَاة الْجِنَازَة فرض كِفَايَة وفروض الْكِفَايَة مُلْحقَة بالنوافل فِي جَوَاز التّرْك وَعدم الانحصار بِخِلَاف فرض الْعين وَيجوز أَن يُصَلِّي بِتَيَمُّم وَاحِد مَا شَاءَ من النَّوَافِل لِأَن النَّوَافِل فِي حكم صَلَاة وَاحِدَة أَلا ترى أَنه إِذا تحرم بِرَكْعَة لَهُ أَن يَجْعَلهَا مائَة رَكْعَة وَبِالْعَكْسِ وَلِأَن فِي تَكْلِيف التَّيَمُّم لكل نَافِلَة مشقة فَرُبمَا أدّى إِلَى تَركهَا وَالشَّرْع خفف فِيهَا فجوزها قَاعِدا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام وعَلى الرَّاحِلَة ولغير الْقبْلَة فِي السّفر لتكثر وَلَا يَنْقَطِع الشَّخْص عَنْهَا وَالله أعلم
(فرع) لَو لم يجد الْجنب أَو الْمُحدث إِلَّا مَاء لَا يَكْفِيهِ وَجب عَلَيْهِ اسْتِعْمَاله على الصَّحِيح وَيجب التَّيَمُّم للْبَاقِي وَلَو لم يجد إِلَّا تُرَابا لَا يَكْفِيهِ وَجب اسْتِعْمَاله على الْمَذْهَب وَكَذَا لَو كَانَ عَلَيْهِ نجاسات فَوجدَ من المَاء مَا يغسل بَعْضهَا وَجب غسله على الْمَذْهَب فَلَو كَانَ مُحدثا أَو جنبا أَو عَلَيْهِ نَجَاسَة وَوجد مَا يَكْفِي أَحدهمَا غسل النَّجَاسَة ثمَّ تيَمّم لِأَن النَّجَاسَة لَا بدل لَهَا وَلَو جَازَ الْمُسَافِر بِمَاء فِي الْوَقْت فَلم يتَوَضَّأ مِنْهُ فَلَمَّا بعد عَنهُ تيَمّم وَصلى جَازَ وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ على الْمَذْهَب وَلَو لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا فَالصَّحِيح أَنه يُصَلِّي لحُرْمَة الْوَقْت وَيُعِيد وَصلَاته تُوصَف بِالصِّحَّةِ فَإِذا قدر على المَاء أعَاد وَإِن قدر على التُّرَاب فَهَل يُعِيد نظر إِن قدر عَلَيْهِ فِي مَوضِع يسْقط بِهِ الْقَضَاء أعَاد وَإِلَّا فَلَا يُعِيد إِذْ(1/64)
لَا فَائِدَة فِي صَلَاة بِالتَّيَمُّمِ تُعَاد بل فِي كَلَام بَعضهم مَا يقْضِي عدم الْجَوَاز
ثمَّ فَاقِد المَاء وَالتُّرَاب إِذا صلى فَهَل يقْرَأ الْفَاتِحَة إِذا كَانَ جنبا مُقْتَضى كَلَام الرَّافِعِيّ فِي هَذَا فِي بَاب التَّيَمُّم أَنه يقْرؤهَا وَيَأْتِي بِالذكر وَتَبعهُ النَّوَوِيّ لَكِن صحّح النَّوَوِيّ فِي بَاب الْغسْل أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يَقْرَأها وَلَو تيَمّم عَن جَنَابَة ثمَّ أحدث حرم عَلَيْهِ مَا يحرم على الْمُحدث وَلَا تحرم الْقِرَاءَة وَلَا اللّّبْث فِي الْمَسْجِد ثمَّ بِرُؤْيَة المَاء تحرم الْقِرَاءَة وكل مَا كَانَ حَرَامًا حَتَّى يغْتَسل مَا لم يقْتَرن بمانع إِمَّا شَرْعِي كالعطش أَو حسي كسبع أَو عَدو كَمَا تقدم وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) وجد الْمُسَافِر على الطَّرِيق خابية مسبلة للشُّرْب لَا يجوز لَهُ أَن يتَوَضَّأ مِنْهَا وَيتَيَمَّم لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُوضَع للشُّرْب كَذَا ذكره المتولى وَالرُّويَانِيّ وَنَقله عَن الْأَصْحَاب وَالله أعلم قَالَ
بَاب إِزَالَة النَّجَاسَة
(فصل وكل مَائِع خرج من السبيلسن نجس إِلَّا الْمَنِيّ)
لَا يَد من معرفَة النَّجَاسَة أَولا لِأَن مَا خرج من السَّبِيلَيْنِ هُوَ أحد أَنْوَاع النَّجَاسَة
ثمَّ النَّجَاسَة لُغَة هِيَ كل مستقذر وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن كل عين حرم تنَاولهَا على الْإِطْلَاق مَعَ إِمْكَانه لَا لحرمتها أَو استقذارها أَو ضررها فِي الْبدن أَو عقل فَقَوله على الْإِطْلَاق احْتَرز بِهِ عَن النباتات السمية فَإِنَّهُ يُبَاح مِنْهَا الْقَلِيل دون الْكثير وَقَوله مَعَ إِمْكَانه احْتَرز بِهِ عَن الْأَحْجَار والأشياء الصلبة فَإِنَّهُ لَا يُمكن تنَاولهَا أَي أكلهَا على الْإِطْلَاق وَقَوله لَا لحرمتها احْتَرز بِهِ عَن الْمُحْتَرَم كالآدمي وَقَوله أَو استقذارها احْتَرز بِهِ عَن المخاط وَنَحْوه وَبَقِيَّة مَا ذكرنَا فِي الْحَد احْتَرز بِهِ عَن التُّرَاب فَإِنَّهُ يضر بِالْبدنِ وَالْعقل وَيَنْبَغِي أَن يزِيد فِي الْحَد فِي حَال الاختبار ليدْخل فِي الْحَد الْميتَة فَإِنَّهُ يُبَاح أكلهَا عِنْد الضَّرُورَة مَعَ النَّجَاسَة فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى إِنَّه يجب عَلَيْهِ غسل فَمه إِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن الْمُنْفَصِل عَن بَاطِن الْحَيَوَان نَوْعَانِ
أَحدهمَا مَا لَيْسَ لَهُ اجْتِمَاع واستحالة فِي الْبَاطِن وَإِنَّمَا يرشح رشحاً كاللعاب والعرق وَنَحْوهمَا فَلهُ حكم الْحَيَوَان المترشخ مِنْهُ إِن كَانَ نجسا فنجس وَإِلَّا فطاهر
النَّوْع الثَّانِي مَا لَهُ اسْتِحَالَة كالبول والعذرة وَالدَّم والقيء فَهَذِهِ الْأَشْيَاء كلهَا نَجِسَة من جَمِيع الْحَيَوَانَات المأكولة وَغَيرهَا وَلنَا وَجه أَن بَوْل مَا يَأْكُل لَحْمه وروثه طاهران وَبِه قَالَ الأصطخري وَالرُّويَانِيّ وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأحمد رَضِي الله عَنْهُمَا وتمسكوا بِأَحَادِيث هِيَ مُعَارضَة وَقد وَقع الْإِجْمَاع على نَجَاسَة هَذِه الْأَشْيَاء من غير الْمَأْكُول وَيُقَاس الْمَأْكُول على غَيره لِأَنَّهَا متغيرة مستحيلة مستقذرة وَاحْتج لنجاسة الْبَوْل بِحَدِيث الْأَعرَابِي الَّذِي بَال فِي الْمَسْجِد حَيْثُ أَمر رَسُول الله بصب(1/65)
ذنُوب من مَاء عَلَيْهِ فصب والذنُوب بِفَتْح الذَّال الدَّلْو المملوء قَالَ النَّوَوِيّ وَفِيه إِثْبَات نَجَاسَة بَوْل الْآدَمِيّ وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ وَلَا فرق بَين بَوْل الصَّغِير وَالْكَبِير بِإِجْمَاع من يعْتد بإجماعه نعم يَكْفِي فِي بَوْل الصَّغِير النَّضْح وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(مر بقبرين فَقَالَ إنَّهُمَا يعذبان فَكَانَ أَحدهمَا يمشي بالنميمة وَأما الآخر فَكَانَ لَا يسْتَتر من الْبَوْل) وَفِي رِوَايَة
(لَا يستنزه) وَفِي رِوَايَة
(لَا يستبرىء) ومعناهن لَا يجتنبه ويحترز مِنْهُ وَأما نَجَاسَة الْغَائِط فحجته مَعَ الْإِجْمَاع قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمَّار
(إِنَّمَا تغسل ثَوْبك من الْبَوْل وَالْغَائِط والمذي والقيء) وبدخل فِي قَول الشَّيْخ الْمَذْي لِأَنَّهُ خَارج من أحد السَّبِيلَيْنِ وَحجَّة نَجَاسَته حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله
0 - كنت رجلا مذاء فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَهُ فَقَالَ يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ والمذي أَبيض رَقِيق لزج يخرج بِلَا شَهْوَة عِنْد الملاعبة وَالنَّظَر وَيدخل فِي كَلَام الشَّيْخ أَيْضا الودي وَهُوَ أَبيض كدر ثخين يخرج عقب الْبَوْل من مخرج الْبَوْل وَلَا فرق فِي نَجَاسَة مَا خرج من السَّبِيلَيْنِ بَين أَن يكون مُعْتَادا كالبول وَالْغَائِط أَولا كَالدَّمِ والقيح نعم يسْتَثْنى من ذَلِك الدُّود والحصى وكل متصلب لم تحله الْمعدة فَهُوَ مُتَنَجّس لَا نجس وَعنهُ احْتَرز الشَّيْخ بقول مَائِع وَأما الْمَنِيّ فَهَل هُوَ نجس أم طَاهِر ينظر إِن كَانَ من الْآدَمِيّ فَفِيهِ خلاف بَين الْأَئِمَّة فِي مَذْهَبنَا طَاهِر وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ مَالك وَأَبُو حنيفَة أَنه نجس وحجتهما رِوَايَة الْغسْل ولفظها
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ مُسلم يغسل الْمَنِيّ ثمَّ يخرج إِلَى الصَّلَاة فِي ذَلِك الثَّوْب) وَمذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَاب الحَدِيث وَذهب إِلَيْهِ خلق مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ أَنه طَاهِر وَهُوَ أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن الإِمَام أَحْمد وَبِه قَالَ دَاوُد وَدَلِيل هَؤُلَاءِ رِوَايَة الفرك ولفظها قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنَّا
(لقد رَأَيْتنِي أفرك من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَنِيّ فركاً فَيصَلي فِيهِ) وَلَو كَانَ نجسا لم يكف فركه كَالدَّمِ وَغَيره وَرِوَايَة الْغسْل مَحْمُولَة على النّدب وَاخْتِيَار(1/66)
النَّظَافَة جمعا بَين الْأَدِلَّة وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين مني الرجل وَالْمَرْأَة على الْمَذْهَب
وَأما مني غير الْآدَمِيّ فَإِن كَانَ مني كلب أَو خِنْزِير أَو فرع أَحدهمَا فَهُوَ نجس بِلَا خلاف كأصلهما وَأما مَا عداهما من بَقِيَّة الْحَيَوَانَات فَفِي خلاف الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه نجس لِأَنَّهُ مُسْتَحِيل فِي الْبَاطِن كَالدَّمِ وَاسْتثنى مِنْهُ مني الْآدَمِيّ تكريماً لَهُ وَالرَّاجِح عِنْد النَّوَوِيّ أَنه طَاهِر وَقَالَ إِنَّه الْأَصَح عِنْد الْمُحَقِّقين والأكثرين لِأَنَّهُ أصل حَيَوَان طَاهِر فَكَانَ طَاهِر كالآدمي وَفِي وَجه أَنه نجس من غير الْمَأْكُول طَاهِر مِنْهُ كاللبن وَالله أعلم قَالَ
(وَغسل جَمِيع الأبوال والأرواث وَاجِب إِلَّا بَوْل الصَّبِي الَّذِي لم يَأْكُل الطَّعَام فَإِنَّهُ يطهر برش المَاء عَلَيْهِ) حجَّة الْوُجُوب حَدِيث الْأَعرَابِي وَغَيره وَأما كَيْفيَّة الْغسْل فالنجاسة تَارَة وَتَكون عَيْنِيَّة أَي تشاهد بِالْعينِ وَتارَة تكون حكمِيَّة أَي حكمنَا على الْمحل بِنَجَاسَتِهِ من غير أَن ترى عين النَّجَاسَة فَإِن كَانَت النَّجَاسَة عَيْنِيَّة فَلَا بُد مَعَ إِزَالَة الْعين من محاولة إِزَالَة مَا وجد مِنْهَا من طعم ولون وريح فَإِن بَقِي طعم النَّجَاسَة لم يطهر الْمحل الْمُتَنَجس لِأَن بَقَاء الطّعْم يدل على بَقَاء النَّجَاسَة وَصورته فِيمَا إِذا تنجس فَمه وَإِن بَقِي الْأَثر مَعَ الرَّائِحَة لم يطهر أَيْضا وَإِن بَقِي لون النَّجَاسَة وَحده وَهُوَ غير عسر الْإِزَالَة لم يطهر وَإِن عسر كَدم الْحيض يُصِيب الثَّوْب وَرُبمَا لَا تَزُول بعد الْمُبَالغَة فَالصَّحِيح أَنه يطهر للعسر وَإِن بقيت الرَّائِحَة وَحدهَا وَهِي عسرة الْإِزَالَة كرائحة الْخمر مثلا فيطهر الْمحل أَيْضا على الْأَظْهر ثمَّ الْبَاقِي من اللَّوْن والرائحة مَعَ الْعسر طَاهِر على الصَّحِيح وَقيل نجس مَعْفُو عَنهُ وَلَا يشْتَرط فِي حُصُول الطَّهَارَة عصر الثَّوْب على الرَّاجِح
ثمَّ شَرط الطَّهَارَة أَن يسْكب المَاء على الْمحل النَّجس فَلَو غمس الثَّوْب وَنَحْوه فِي طست فِيهِ مَاء دون قُلَّتَيْنِ فَالصَّحِيح الَّذِي قَالَه جُمْهُور الْأَصْحَاب أَنه لَا يطهر لِأَنَّهُ بوصوله إِلَى المَاء تنجس لقلته وَيَكْفِي أَن يكون المَاء غامراً للنَّجَاسَة على الصَّحِيح وَقيل يشْتَرط أَن يكون سَبْعَة أَضْعَاف الْبَوْل
وَأما النَّجَاسَة الْحكمِيَّة فَيشْتَرط فِيهَا الْغسْل أَيْضا
وَالْحَاصِل أَن الْوَاجِب فِي إِزَالَة النَّجَاسَة غسلهَا الْمُعْتَاد بِحَيْثُ ينزل المَاء بعد الحت والتحامل صافياً إِلَّا فِي بَوْل الصَّبِي الَّذِي لم يطعم وَلم يشرب سوى اللَّبن فَيَكْفِي فِيهِ الرش وَلَا بُد فِي الرش من إِصَابَة المَاء جَمِيع مَوضِع الْبَوْل وَأَن يغلب المَاء على الْبَوْل وَلَا يشْتَرط فِي ذَلِك السيلان قطعا والسيلان والتقاطر هُوَ الْفَارِق بَين الْغسْل والرش وَاعْلَم أَنه لَا يشْتَرط فِي الْغسْل الْقَصْد كَمَا لَو صب المَاء على ثوب لَا يقْصد فَإِنَّهُ يطهر وَكَذَا إِذا أصَاب مطر أَو سيل وَادّعى بَعضهم الْإِجْمَاع على ذَلِك لَكِن ابْن شُرَيْح والقفال من أَصْحَابنَا اشْترطَا النِّيَّة فِي غسل النَّجَاسَة كالحدث وَقد مر الْفرق وَقَول(1/67)
الشَّيْخ إِلَّا بَوْل الصَّبِي احْتَرز بِهِ عَن الصبية فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي فِي غسل بولها النَّضْح بل يتَعَيَّن الْغسْل على الْمَذْهَب وَدَلِيل الْفرق حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَتَى بصبي يرضع فَبَال فِي حجره فَدَعَا بِمَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَلم يغسلهُ وَفِي رِوَايَة
(فَلم يزِيد على أَن نضح بِالْمَاءِ وَفِي رِوَايَة فرشه وَفِي رِوَايَة فنضح عَلَيْهِ وَلم يغسلهُ وَفِي رِوَايَة
(ينضح من بَوْل الْغُلَام ويرش من بَوْل الْجَارِيَة) وَفرق بَينهمَا من جِهَة الْمَعْنى بِوُجُوه مِنْهَا أَن بَوْل الْجَارِيَة يترشش فاحتيج فِيهِ إِلَى الْغسْل بِخِلَاف بَوْل الصَّبِي فَإِنَّهُ يَقع فِي مَحل وَاحِد وَمِنْهَا أَن بَوْل الْجَارِيَة ثخين أصفر منتن يلصق بِالْمحل بِخِلَاف بَوْل الصَّبِي قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد وَفرق بَينهمَا بِوُجُودِهِ مِنْهَا مَا هُوَ ركيل جدا لَا يسْتَحق أَن يذكر وَأقوى مَا قيل إِن النُّفُوس أعلق بالذكور من الْإِنَاث فيكثر حمل الصَّبِي فَنَاسَبَ التَّخْفِيف بالنضح دفعا للعسر وَهَذَا الْمَعْنى مَفْقُود فِي الْإِنَاث فَجرى الْغسْل فِيهِنَّ على الْقيَاس وَالله أعلم قلت وَفِيه نظر من جِهَة أَنه لَو كَانَ كَذَلِك لوقع الْفرق بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْغسْل فيرش من بولهما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَة وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ لم يَأْكُل الطَّعَام أَي مَا لم يطعم مَا يسْتَقلّ بِهِ كالخبز وَنَحْوه قَالَه ابْن الرّفْعَة وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم النَّضْح إِنَّمَا يَجْزِي مَا دَامَ الصَّبِي يقْتَصر على الرَّضَاع وَأما إِذا أكل الطَّعَام على جِهَة التغذية فَإِنَّهُ يجب الْغسْل بِلَا خلاف وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يُعْفَى عَن شَيْء من النَّجَاسَات إِلَّا الْيَسِير من الدَّم والقيح وَمَا لَا نفس لَهُ سَائِلَة إِذا وَقع فِي الْإِنَاء وَمَات فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُنجسهُ)
الْقَلِيل من الدَّم والقيح مَعْفُو عَنهُ فِي الثَّوْب وَالْبدن وَتَصِح الصَّلَاة مَعَه وَظَاهر إِطْلَاق الشَّيْخ يَقْتَضِي أَنه لَا فرق بَين أَن يكون مِنْهُ أَو من غَيره وَمَسْأَلَة الْعَفو عَن النَّجَاسَات المعفو عَنْهَا نذكرها فيي محلهَا وَهُوَ عِنْد ذكر شُرُوط الصَّلَاة وَتَأْتِي فِي كَلَام الشَّيْخ هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما الْميتَة الَّتِي لَا نفس لَهَا سَائِلَة أَي لَا دم لَهَا يسيل كالذباب والبعوض والعقارب والخنافس والوزغ على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ دون الْحَيَّات والضفادع لَيْسَ من ذَلِك إِذا وَقعت فِي إِنَاء فِيهِ مَائِع سَوَاء كَانَ مَاء أَو غَيره من الأدهان كالزيت وَالسمن أَو غَيره كالطعام وَمَاتَتْ فِيهِ فَهَل تنجسه فِيهِ خلاف وَالْمذهب عدم التَّنْجِيس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم فليغمسه كُله ثمَّ لينزعه فَإِن فِي أحد جناحيه(1/68)
دَاء وَفِي الآخر شِفَاء) وَأَنه يَتَّقِي بجناحيه الَّذِي فِيهِ الدَّاء وَوجه الِاسْتِدْلَال أَن الغمس قد يُفْضِي إِلَى الْمَوْت لَا سِيمَا إِذْ كَانَ الطَّعَام حاراً فَلَو كَانَ ينجس لم يَأْمر بِهِ وَأَيْضًا فصون الْأَوَانِي عَن هَذِه الْحَيَوَانَات فِيهِ عسر ومشقة فيعفى عَن تنجيسها لذَلِك وَقيل نجس لِأَنَّهَا ميتَة كَسَائِر النَّجَاسَات قَالَ ابْن الْمُنْذر وَلَا أعلم أحدا قَالَ هَذَا القَوْل غير الشَّافِعِي وَفِي قَول آخر إِن كَانَ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى كالذباب وَنَحْوه فَلَا ينجس وَإِن لم تعم كالخنافس والعقارب نجست وَبِهَذَا جزم الْقفال وَهُوَ وَجه قوي لِأَن مَحل النَّص وَهُوَ الذُّبَاب فِيهِ مَعْنيانِ مشقة الِاحْتِرَاز وَعدم الدَّم السَّائِل وَهِي عِلّة مركبة فَإِذا فقد أَحدهمَا انعدمت الْعلَّة إِذْ الْعلَّة المركبة تنعدم بِعَدَمِ أحد جزأيها وَهنا فقدت مشقة الِاحْتِرَاز
وَأعلم أَن مَحل الْخلاف فِيمَا إِذا لم يتَغَيَّر الْمَائِع فَإِن تغير بِكَثْرَة الْميتَة نجسته على الْأَصَح وَمحل الْخلاف أَيْضا فِيمَا إِذا لم ينشأ فِي الْمَائِع فَإِن نَشأ فِيهِ كدود الْخلّ وَنَحْوه فَإِنَّهُ لَا يُنجسهُ بِلَا خلاف قَالَ الشَّيْخَانِ فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة وَيحل أكل مَعَه لَا مُنْفَردا ذكره النَّوَوِيّ فِي بَاب الْأَطْعِمَة ثمَّ مَحل الْخلاف أَيْضا فِيمَا إِذا وَقعت الْميتَة الَّتِي لَا نفس لَهَا سَائِلَة بِنَفسِهَا فِي الْمَائِع أما إِذا طرحت فَإِنَّهُ يضر جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير وَبِه أجَاب فِي الْحَاوِي الصَّغِير
وَاعْلَم أَن كل رطب فِي معنى الْإِنَاء حَتَّى لَو كَانَ ثوبا رطبا أَو فَاكِهَة فَهِيَ كالمائع فِي ذَلِك
وَاعْلَم أَيْضا أَن النَّجَاسَة الَّتِي لَا يُدْرِكهَا الطّرف أَي لَا نشاهد بالبصر لقلتهَا كنقطة الْبَوْل وَمَا يعلق بِرَجُل الذبابة من النَّجَاسَة حكمه فِي عدم التنجس حكم الْميتَة الَّتِي لَا نفس لَهَا سَائِلَة على الرَّاجِح عِنْد النَّوَوِيّ لِأَنَّهُ يتَعَذَّر الِاحْتِرَاز عَن ذَلِك فَأشبه دم البراغيث وَقَالَ الرَّافِعِيّ إِنَّهَا تنجس وَيسْتَثْنى مَعَ ذَلِك مسَائِل ذَكرنَاهَا فِي كتاب الطَّهَارَة وَالله أعلم قَالَ
(وَالْحَيَوَان كُله طَاهِر إِلَّا الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَمَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا)
الأَصْل فِي الْحَيَوَانَات الطَّهَارَة لِأَنَّهَا مخلوقة لمنافع الْعباد وَلَا يحصل الِانْتِفَاع الْكَامِل إِلَّا بِالطَّهَارَةِ وَاسْتمرّ مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على ذَلِك وَاسْتثنى الشَّافِعِي وَمن نحا نَحوه الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَفرع أَحدهمَا وَاحْتج لَهُ بِمَفْهُوم حَدِيث الْهِرَّة وَأَنَّهَا لَيست بنجسة وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب أَن يغسل سبع مَرَّات أولَاهُنَّ(1/69)
بِالتُّرَابِ) وَجه الدّلَالَة أَن الطّهُور مَعْنَاهُ المطهر والتطهير لَا يكون إِلَّا عَن حدث أَو نجس وَلَا حدث على الْإِنَاء فَتعين النَّجس وَأما نَجَاسَة الْخِنْزِير فاحتج لنجاسته بِأَنَّهُ أَسْوَأ حَالا من الْكَلْب لِأَنَّهُ لَا يجوز الِانْتِفَاع بِهِ وَهَذَا غير مُسلم لِأَن الحشرات كَذَلِك وَهِي طَاهِرَة وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على نَجَاسَته وَفِيه نظر لِأَنَّهُ حكى عَن مَالك وَأحمد طَهَارَته لهَذَا قَالَ النَّوَوِيّ إِن دلَالَة نَجَاسَته ضَعِيفَة وَاحْتج الْمَاوَرْدِيّ بقوله تَعَالَى
(أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس) وَالْمرَاد جملَة الْخِنْزِير لِأَن لَحْمه دخل فِي عُمُوم الْميتَة وَأما مَا ولد مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا أَصله أَو من أَحدهمَا بَين حَيَوَان طَاهِر فنجس تَغْلِيبًا للنَّجَاسَة وَكَلَام الشَّيْخ يَشْمَل طَهَارَة بَقِيَّة الْحَيَوَانَات حَتَّى الدُّود الْمُتَوَلد من النَّجَاسَة وَهُوَ كَذَلِك وَفِي وَجه أَنه نجس كَأَصْلِهِ قَالَه الرَّافِعِيّ وَهُوَ سَاقِط وَالله أعلم قَالَ
(وَالْميتَة كلهَا نَجِسَة إِلَّا السّمك وَالْجَرَاد وَابْن آدم)
الميتات كلهَا نَجِسَة لقَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَتَحْرِيم مَا لَا حُرْمَة لَهُ وَلَا ضَرُورَة فِي أكل يدل على نَجَاسَته لِأَن الشَّيْء إِنَّمَا يحرم إِمَّا لِحُرْمَتِهِ أَو لضرره أَو نَجَاسَته وَالْميتَة كل من مَاتَ حتف أَنفه واختل فِيهِ شَرط من شُرُوط التذكيه كذبيحة الْمَجُوسِيّ وَالْمحرم وَمَا ذبح بِعظم أَو نَحوه وَكَذَا ذبح مَا لَا يُؤْكَل وَضَابِط أَن تَقول الْميتَة مَا زَالَت حَيَاته بِغَيْر ذَكَاة شَرْعِيَّة
وَيسْتَثْنى من الميتات السّمك وَالْجَرَاد أما السّمك فَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْبَحْر
(هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته) وَأما الْجَرَاد فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أحلّت لنا ميتَتَانِ السّمك وَالْجَرَاد وَيسْتَثْنى الْآدَمِيّ أَيْضا فَإِنَّهُ لَا ينجس بِالْمَوْتِ على الرَّاجِح مُسلما كَانَ أَو كَافِرًا لقَوْله تَعَالَى {وَلَقَد كرمنا بني آدم} وَقَضِيَّة التكريم أَن لَا يحكم بِنَجَاسَتِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا تنجسوا مَوْتَاكُم فَإِن الْمُؤمن لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا) وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ وَهُوَ جنب(1/70)
(سُبْحَانَ الله إِن الْمُؤمن لَا ينجس) وَهُوَ يعم الْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَقيل ينجس بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ حَيَوَان طَاهِر فِي الْحَيَاة غير مَأْكُول بعد الْمَوْت فينجس كَغَيْرِهِ وَاسْتثنى أَيْضا الْجَنِين الَّذِي يُوجد مَيتا عِنْد ذبح أمه فَإِنَّهُ طَاهِر حَلَال وَكَذَا الصَّيْد أَيْضا إِذا مَاتَ بالضغطة أَي باللطمة فَإِنَّهُ يحل فِي أصح الْقَوْلَيْنِ وَكَذَا الْبَعِير الناد إِذا مَاتَ بِالسَّهْمِ فِي غير المنحر فَإِنَّهُ يحل وَالْجَوَاب أَن هَذِه ذَكَاة شَرْعِيَّة قَالَ
(وَيغسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب وَالْخِنْزِير سبع مَرَّات إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَيغسل من سَائِر النَّجَاسَات مرّة وَاحِدَة تَأتي عَلَيْهِ وَالثَّلَاث أفضل)
أما الْكَلْب فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليرقه ثمَّ ليغسله سبع مَرَّات) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ
(طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب أَن يغسلهُ سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) وَفِي رِوَايَة
(فاغسلوه سبع مَرَّات وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ) والولوغ فِي اللُّغَة الشّرْب بأطراف اللِّسَان وَجه الدّلَالَة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر بِالْغسْلِ وَظَاهره الْوُجُوب وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(طهُور) يدل على التَّطْهِير وَالطَّهَارَة تكن عَن حدث وَعَن نجس وَلَا حدث هُنَا فَتعين النَّجس فَإِن قيل المُرَاد هُنَا الطَّهَارَة اللُّغَوِيَّة فَالْجَوَاب أَن حمل اللَّفْظ على الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة مَعَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث لبَيَان الشرعيات وَفِي الحَدِيث دلَالَة على نَجَاسَة مَا ولغَ فِيهِ الْكَلْب وَإِن كَانَ طَعَاما مَائِعا حرم أكله لِأَن إراقته إِضَاعَة مَال فَلَو كَانَ طَاهِرا لم يُؤمر بإراقته مَعَ أَنا قد نهينَا عَن إِضَاعَة المَال
ثمَّ لَا فرق بَين أَن يَتَنَجَّس بولوغه أَو بَوْله أَو دَمه أَو عرقه أَو شعره أَو غير ذَلِك من جَمِيع أَجْزَائِهِ وفضلاته فَإِنَّهُ يغسل سبعا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ قَالَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَفِي وَجه شَاذ أَنه يَكْفِي فِي غسل مَا سوى الولوغ مرّة كَغسْل سَائِر النَّجَاسَات وَهَذَا الْوَجْه قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه مُتَّجه وَقَوي من حَيْثُ الدَّلِيل لِأَن الْأَمر بِالْغسْلِ سبعا إِنَّمَا كَانَ لينفرهم عَن مؤاكلة الْكلاب وَهل يغسل من الْخِنْزِير كَالْكَلْبِ أم لَا قَولَانِ الْجَدِيد وَبِه قطع بَعضهم نعم لِأَنَّهُ نجس الْعين فَكَانَ كَالْكَلْبِ بل أولى لِأَنَّهُ لَا يجوز اقتناؤه بِحَال وَقَالَ فِي الْقَدِيم إِنَّه يغسل مرّة كَسَائِر النَّجَاسَات لِأَن التَّغْلِيظ فِي الْكلاب إِنَّمَا ورد قطعا لَهُم عَمَّا يعتادونه من مخالطتها وزجراً كالحد فِي الْخمر وَهَذَا القَوْل رَجحه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَلَفظه الرَّاجِح من حَيْثُ الدَّلِيل أَنه يَكْفِي غسله وَاحِدَة بِلَا تُرَاب وَبِه قطع أَكثر الْعلمَاء الَّذين قَالُوا بِنَجَاسَة الْخِنْزِير وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار لِأَن الأَصْل عدم الْوُجُوب حَتَّى يرد الشَّرْع لَا سِيمَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة المبنية على التَّعَبُّد وَذكر مثل هَذَا فِي شرح الْوَسِيط أَيْضا(1/71)
وَهل يقوم الصابون والأشنان مقَام التُّرَاب فِيهِ أَقْوَال أَحدهَا نعم كَمَا يقوم غير الْحجر مقَامه فِي الإستنجاء وكما يقوم غير الشب والقرظ فِي الدّباغ مقَام وَهَذَا مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي كِتَابه روؤس الْمسَائِل وَالْأَظْهَر فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب أَنه لَا يقوم لِأَنَّهَا طَهَارَة مُتَعَلقَة بِالتُّرَابِ فَلَا يقوم غَيره مقَامه كاليتيم وَالْقَوْل الثَّالِث إِن وجد التُّرَاب لم يقم وَإِلَّا قَامَ وَقيل يقوم فِيمَا يُفْسِدهُ التُّرَاب كالثياب دون الْأَوَانِي وَشرط التُّرَاب أَن يكون طَاهِرا فَلَا يَكْفِي النَّجس على الرَّاجِح كالتيمم نعم الأَرْض الترابية يَكْفِي فِيهَا المَاء على الرَّاجِح إِذْ لَا معنى لتعفير التُّرَاب وَلَا يَكْفِي فِي اسْتِعْمَال التُّرَاب ذره على الْمحل بل لَا بُد من مزجه بِالْمَاءِ ليصل التُّرَاب بِوَاسِطَة المزج إِلَى جَمِيع أَجزَاء الْمحل النَّجس
(فرع) هَل يَكْفِي الرمل الناعم قَالَ الإسنائي أَدخل الْأَصْحَاب الرمل الناعم فِي اسْم التُّرَاب وجوزوا التَّيَمُّم بِهِ قَالَ النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ لَو سحق الرمل وَتيَمّم بِهِ جَازَ وَمُقْتَضَاهُ اجزاؤه فِي التعفير لِأَن التُّرَاب إِمَّا للاستظهار أَو للْجمع بَين نَوْعي الطّهُور أَو للتعبد بِإِطْلَاق الِاسْم وكل ذَلِك مَوْجُود هُنَا وَالله أعلم
(فرع) لَو ولغَ فِي الْإِنَاء كلاب أَو كلب مَرَّات فَفِيهِ خلاف الرَّاجِح يَكْفِي سبع وَلَو وَقعت نَجَاسَة أُخْرَى فِي الْإِنَاء الَّذِي ولغَ فِيهِ الْكَلْب كفى سبع وَلَو كَانَت نَجَاسَة الْكَلْب عَيْنِيَّة فَلم تزل إِلَّا بِثَلَاث غسلات مثلا حسبت وَاحِدَة على الصَّحِيح وَلَو ولغَ فِي شَيْء نجسه فَأصَاب ذَلِك شَيْئا آخر نجسه وَوَجَب غسل ذَلِك الآخر سبعا
وَلَو ولغَ فِي طَعَام جامد ألقِي مَا أصَاب وَمَا حوله وَبَقِي الْبَاقِي على طَهَارَته
وَلَو أَدخل كلب رَأسه فِي إِنَاء فِيهِ مَاء وَلم يعلم هَل ولغَ فِيهِ أم لَا فَإِن أخرج فَمه يَابسا لم يحكم بِالنَّجَاسَةِ وَكَذَا إِن أخرجه رطبا على الرَّاجِح لِأَن الأَصْل عدم الولوغ وَبَقَاء المَاء على الطَّهَارَة ورطوبة فَمه يحْتَمل أَنَّهَا من لعابه فَلَا يطْرَح الأَصْل بِالشَّكِّ وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ يقْضِي الإكتفاء فِي التعفير بِغَيْر الأولى والأخيرة قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة وَيسْتَحب أَن يكون التُّرَاب فِي غير السَّابِعَة وَالْأولَى أولى قَالَ الإسنائي وَجَوَاز التعفير فِي غير الأولى والأخيرة مَرْدُود دَلِيلا ونقلاً أما الدَّلِيل فَلِأَن الرِّوَايَات أَربع أولَاهُنَّ وَهِي فِي مُسلم وَالثَّانيَِة وَالسَّابِعَة بِالتُّرَابِ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَهِي معنى رِوَايَة مُسلم وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ وَسميت ثامنة بِاعْتِبَار اسْتِعْمَال التُّرَاب وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة أولَاهُنَّ أَو أخراهن بِالتُّرَابِ رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح كَمَا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب وَالرَّابِعَة إِحْدَاهُنَّ قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب وَلم تثبت وَقَالَ فِي فَتَاوِيهِ إِنَّهَا ثَابِتَة فعلى تَقْدِير ثُبُوتهَا هِيَ مُطلقَة وقيدت بِالْأولَى أَو الْأُخْرَى فَلَا يجوز الْعُدُول إِلَى غَيرهمَا لِاتِّفَاق القيدين على نَفيهَا وَالله أعلم
وَأما النَّقْل فقد نَص الشَّافِعِي على تعْيين الأولى أَو الْأَخِيرَة فِي الْبُوَيْطِيّ وَكَذَا فِي الْأُم وَأخذ بِهَذَا(1/72)
النَّص جمَاعَة من الْأَصْحَاب مِنْهُم الزبيدِيّ والمرعشي وَابْن جَابر فَثَبت أَن هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَأَنه الصَّوَاب من جِهَة الدَّلِيل وَالنَّقْل فَتعين الْأَخْذ بِهِ وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ وَيغسل من سَائِر النَّجَاسَات مرّة قد مر دَلِيله وَكَيْفِيَّة الْغسْل وَقَوله وَالثَّلَاث أفضل لِأَن ذَلِك إِزَالَة نجس فَيُسْتَحَب التَّثْلِيث فِيهَا كالأحداث وَلِأَن ذَلِك مُسْتَحبّ عِنْد الشَّك فِي النَّجَاسَة فَعِنْدَ تحققها أولى هَذَا فِيمَا إِذا زَالَت النَّجَاسَة بالغسلة الْوَاحِدَة على مَا مر أما إِذا لم تزل إِلَّا بِالثَّلَاثَةِ وَجَبت الثَّلَاثَة وَيسْتَحب بعد ذَلِك ثَانِيَة وثالثة وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) المَاء الَّذِي يغسل بِهِ النَّجَاسَة ويعبر عَنهُ بالغسالة هَل هُوَ طَاهِر أم نجس أم كَيفَ الْحَال ينظر إِن تغير بعض أوصافها بِالنَّجَاسَةِ فنجسه قطعا وَإِن لم تَتَغَيَّر فَإِن كَانَت قُلَّتَيْنِ قَالَ الرَّافِعِيّ فطاهرة بِلَا خلاف قَالَ النَّوَوِيّ طَاهِرَة ومطهرة على الْمَذْهَب وَإِن كَانَت دون قُلَّتَيْنِ فَفِيهِ خلاف والجديد الْأَظْهر أَن حكمهَا حكم الْمحل بعد الْغسْل إِن كَانَ نجسا فنجسه وَإِن كَانَ طَاهِرا فطاهرة غير مطهرة فَلَو وَقع من غسالة الْكَلْب شَيْء على شَيْء فَإِن كَانَ من الغسلة الأولى غسل مَا وَقع عَلَيْهِ سِتا ويعفر إِن لم يكن التُّرَاب فِي الأولى وَإِن وَقع من السَّابِعَة شَيْء لم يغسل وَلَو لم تَتَغَيَّر الغسالة وَلَكِن زَاد وَزنهَا فطريقان أَحدهمَا الْقطع بِالنَّجَاسَةِ وَالثَّانيَِة على الْخلاف وَهَذَا كُله فِي غسالة اسْتعْملت فِي وَاجِب الطَّهَارَة أما المَاء الْمُسْتَعْمل فِي مندوبها كالثانية وَالثَّالِثَة فطاهر قطعا ومطهر على الْمَذْهَب وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا تخللت الْخمْرَة بِنَفسِهَا طهرت وَإِن خللت بطرح شَيْء فِيهَا لم تطهر)
اعْلَم أَن تَطْهِير الْأَشْيَاء تَارَة يكون بِالْغسْلِ وَقد مر وَقد يكون بالإستحالة وَمعنى الاستحالة انقلاب الشَّيْء من صفة إِلَى أُخْرَى
فَإِذا تخللت الْخمْرَة أَي انقلبت بِنَفسِهَا سَوَاء كَانَت مُحْتَرمَة أم غير مُحْتَرمَة طهرت لِأَن النَّجَاسَة وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا كَانَا لأجل الْإِسْكَار وَقد زَالَ وَلِأَن الْعصير لَا يَتَخَلَّل إِلَّا بعد التخمر فَلَو لم نقل بِالطَّهَارَةِ لتعذر اتِّخَاذ الْخلّ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَأَجْمعُوا على أَنَّهَا إِذا انقلبت بِنَفسِهَا خلا طهرت وَحكي عَن سَحْنُون أَنَّهَا لَا تطهر فَإِن صَحَّ عَنهُ فَهُوَ محجوج بِإِجْمَاع من قبله وَإِن خللت بطرح شَيْء فِيهَا من بصل أَو خميرة أَو غير ذَلِك لم تطهر وَلَا يطهر هَذَا الْخلّ بعده أبدا لَا بِغسْل وَلَا بِغَيْرِهِ وَاحْتج لذَلِك بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(سُئِلَ عَن الْخمر يتَّخذ خلا فَقَالَ لَا) وَاحْتج لتَحْرِيم التَّخْلِيل أَيْضا بِأَن طَلْحَة رَضِي الله عَنهُ أسلم وَعِنْده خمر لأيتام
(فَقَالَ يَا رَسُول الله أخللها(1/73)
قَالَ لَا أهرقها) وَلِأَنَّهُ استعجل الْخلّ بِفعل محرم فَحرم كَمَا لَو قتل مُوَرِثه لاستعجال الْإِرْث فَإِنَّهُ لَا يَرِثهُ مُعَاملَة لَهُ بنقيض مَقْصُوده وَإِن خللت لَا بطرح شَيْء فِيهَا بِأَن نقلت من شمس إِلَى ظلّ أَو عَكسه فَإِنَّهَا تطهر على الرَّاجِح وَكَذَا لَو فتح الْوِعَاء حَتَّى دخل الْهَوَاء وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين مَا إِذا طرح فِيهَا شَيْء أَو وَقع بِنَفسِهِ أَن الْوَاقِع ينجس بالخمرة فَإِذا استحالت خلا تنجست بِالْعينِ الْحَاصِلَة فِيهَا وَلَا يطهر النَّجس إِلَّا بِالْمَاءِ وَالله أعلم
(فَائِدَة) الْخمر اسْم للمسكر من مَاء الْعِنَب عِنْد الْأَكْثَرين وَلَا يُطلق على غَيره إِلَّا مجَازًا كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي بَاب حد الْخمر وَمُقْتَضَاهُ أَن التنبيذ لَا يطهر بالتخلل وَبِه صرح القَاضِي أَبُو الطّيب وَنَقله عِنْد ابْن الرّفْعَة أقره على ذَلِك لَكِن الْبَغَوِيّ أَنه لَو ألْقى المَاء فِي عصير الْعِنَب حَالَة عصره لم يضرّهُ بِلَا خلاف البصل وَنَحْوه وَمَا ذكره يدل على طَهَارَة النَّبِيذ بطرِيق الأولى وَالله أعلم
وَقد ألحق بَعضهم بِالْخمرِ الْعلقَة إِذا استحالت فَصَارَت آدَمِيًّا والبيضة المذرة إِذا صَارَت فرخاً وَدم الظبية إِذا صَارَت مسكاً وَالْميتَة إِذا صَارَت دوداً وَفِي الْإِلْحَاق نظر وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْحيض وَالنّفاس
0 - فصل وَيخرج من الْفرج ثَلَاثَة دِمَاء دم الْحيض وَدم النّفاس وَدم الِاسْتِحَاضَة فالحيض هُوَ الدَّم الْخَارِج من فرج الْمَرْأَة على سَبِيل الصِّحَّة من غير الْولادَة وَالنّفاس هُوَ الدَّم الْخَارِج عقب الْولادَة والإستحاضة هُوَ الدَّم سَبَب الْخَارِج فِي غير أَيَّام الْحيض وَالنّفاس)
الدَّم الْخَارِج من الرَّحِم إِن كَانَ خُرُوجه بِلَا عِلّة بل جبله أَي تَقْتَضِيه الطباع السليمة فَهُوَ دم حيض وَهُوَ شَيْء كتبه الله تَعَالَى على بَنَات آدم كَمَا جَاءَت بِهِ السّنة الشَّرِيفَة
وَهُوَ فِي اللُّغَة السيلان يُقَال حاض الْوَادي إِذا سَالَ وَفِي الشَّرْع دم يخرج بعد بُلُوغ الْمَرْأَة من أقْصَى رَحمهَا بِشُرُوط مَعْرُوفَة وَله أَسمَاء الْحيض والعراك والضحك والإكبار والإعصار والطمث والدراس قَالَ الإِمَام وَسمي نفاساً لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
(أنفست) وَالَّذِي يحيض(1/74)
من الْحَيَوَان أَرْبَعَة الْمَرْأَة والضبع والأرنب والخفاش
وَأما دم النّفاس فَهُوَ الْخَارِج عقيب ولادَة مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعدة سَوَاء وَضعته حَيا أَو مَيتا كَامِلا كَانَ أَو نَاقِصا وَكَذَا لَو وضعت علقَة أَو مُضْغَة جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة وَسَوَاء كَانَ أَحْمَر أَو أصفر مُبتَدأَة كَانَت فِي الْولادَة أَولا وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَن الدَّم الْخَارِج مَعَ الْوَلَد أَو قبله لَا يكون نفاساً وَهُوَ كَذَلِك على الرَّاجِح
وَالنّفاس فِي اللُّغَة هُوَ الْولادَة
وَفِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء كَمَا ذكره الشَّيْخ وَيُسمى هَذَا الدَّم نفاساً لِأَنَّهُ يخرج عقب نفس وَأما الدَّم الْخَارِج وَلَيْسَ بحيض وَلَا بعد الْولادَة فَإِن كَانَ فِي زمن يُمكن فِيهِ الْحيض إِلَّا أَنه خرج فِي غير أَوْقَات الْحيض لمَرض أَو فَسَاد من عرق فَمه فِي أدنى الرَّحِم يمسى العاذل بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَيُقَال بِالْمُهْمَلَةِ فَهُوَ اسْتِحَاضَة وَمَا عدا هَذِه الدِّمَاء إِذا خرج من الْفرج فَهُوَ دم فَسَاد كالخارج قبل سنّ الْبلُوغ وَالله أعلم قَالَ
(وَأَقل الْحيض يَوْم وَلَيْلَة وغالبه سته أَو سبعه وَأَكْثَره جمسة عشر يَوْمًا) أقل الْحيض يَوْم وَلَيْلَة للاستقراء وَهُوَ التتبع رُوِيَ ذَلِك عَن على بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَنَصّ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ على ذَلِك فِي عَامَّة كتبه وَنَصّ فِي مَوضِع آخر أَن أَقَله يَوْم وَمُرَاد الشَّافِعِي بليلته وغالبه سِتّ أَو سبع لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحمنة بنت جحش
(تحيضين سِتَّة أَيَّام أَو سَبْعَة فِي علم الله تَعَالَى ثمَّ اغْتَسِلِي وَإِذا رَأَيْت أَنَّك قد طهرت واستنقأت فَصلي أَرْبعا وَعشْرين أَو ثَلَاثًا وَعشْرين لَيْلَة وأيامهن وصومي فَإِن ذَلِك يجْزِيك وَكَذَلِكَ فافعلي فِي كل شهر كَمَا يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن) وَأَكْثَره خَمْسَة عشر يَوْمًا بلياليهن للاستقراء وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَيْضا قَالَ الشَّافِعِي رَأَيْت نسَاء أثبت لي عَنْهُن أَنَّهُنَّ لم يزلن يحضن خمس عشر يَوْمًا وَعَن شريك وَعَطَاء نَحوه وَالْمُعْتَمد فِي ذَلِك الاستقراء وَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث
(تمكث إِحْدَاهُنَّ شطر دهرها لَا تصلي) لِأَنَّهُ حَدِيث بَاطِل لَا يعرف قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ(1/75)
وَأَقل النّفاس لَحْظَة زأكثره سِتُّونَ يَوْمًا وغالبه أَرْبَعُونَ يَوْمًا) أقل النّفاس لَحْظَة وَهِي عبارَة الْمِنْهَاج وَفِي التَّنْبِيه أَقَله مجة وَقَالَ فِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي لَا حد لأقله بل يُوجد حكم النّفاس بِمَا وجد بِهِ وَحجَّة ذَلِك الاستقراء وَأَكْثَره سِتُّونَ يَوْمًا للاستقراء قَالَ الْأَوْزَاعِيّ عندنَا امْرَأَة ترى النّفاس شَهْرَيْن وَقَالَ ربيعَة شيخ مَالك أدْركْت النَّاس يَقُولُونَ أَكثر مَا تنفس الْمَرْأَة سِتُّونَ يَوْمًا وغالبه أَرْبَعُونَ لما رَوَت أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت
(كَانَت النُّفَسَاء على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقعد بعد نفَاسهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا) وَاحْتج بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث على أَكْثَره أَرْبَعُونَ وَالْمذهب الأول للوجود والْحَدِيث مَحْمُول على الْغَالِب جمعا بَينه وَبَين الاستقراء قَالَ
(وَأَقل الطُّهْر بَين الحيضتين خَمْسَة عشر يَوْمًا وَلَا حد لأكثره)
احْتج لَهُ بالاستقراء وَلِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْحيض خَمْسَة عشر يَوْمًا لزم فِي الطُّهْر مَا ذكرنَا وَلَا حد لأكْثر الطُّهْر لِأَن من النِّسَاء من تحيض فِي السّنة مرّة بل فِي عمرها مرّة وَقَوله بَين الحيضتين احْتَرز بِهِ عَن الطُّهْر الْفَاصِل بَين الْحيض وَالنّفاس فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون أقل من خَمْسَة عشر يَوْمًا كَمَا إِذا رَأَتْ الْحَامِل دَمًا وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ أَن الْحَامِل تحيض فَولدت بعده مثلا بِعشْرَة أَيَّام فَإِن هَذَا طهر فاصل لَكِن بَين حيض ونفاس قَالَ ابْن الرّفْعَة احْتَرز بِهِ عَن طهر المبتدأة والآيسة قَالَ
(وَأَقل زمَان تحيض فِيهِ الْجَارِيَة تسع سِنِين وَلَا حد لأكثره) دَلِيل الْوُجُود قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أعجب مَا سَمِعت من النِّسَاء تحيضن نسَاء تهَامَة تحضن لتسْع سِنِين وَفِيه حَدِيث ورد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لِأَن كل مَا لَا ضَابِط لَهُ فِي الشَّرْع وَلَا فِي اللُّغَة يرجع فِيهِ إِلَى الْوُجُود وَقد وجده الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ثمَّ المُرَاد بِالتسْعِ استكمالها(1/76)
على الصَّحِيح وَقيل نصف التَّاسِعَة وَقيل الطعْن فِيهَا فعلى الصَّحِيح المُرَاد التَّقْرِيب لَا التَّحْدِيد على الصَّحِيح فعلى هَذَا لَو رَأَتْ الدَّم قبل استكمال التَّاسِعَة فِي زمن لَا يسع طهرا وحيضا كَانَ وحيضا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَإِن كَانَ يسعهما لَا يكون حيضا وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِن تقدم بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ كَانَ حيضا وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ الدَّارمِيّ لَا يضر نُقْصَان شهر وشهرين وَالله أعلم قَالَ
(وَأَقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر ولحظتان وَأَكْثَره أَربع سِنِين وغالبه تِسْعَة أشهر)
أما كَون أقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر فَلِأَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَتَى بِامْرَأَة قد ولدت لسِتَّة أشهر فَشَاور الْقَوْم فِي رَجمهَا فَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَأنزل الله تَعَالَى {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} وَأنزل {وفصاله فِي عَاميْنِ} فالفصل فِي عَاميْنِ وَالْحمل فِي سِتَّة أشهر فَرَجَعُوا إِلَى قَوْله فَصَارَ إِجْمَاعًا وَأما كَون أَكثر مُدَّة الْحمل أَربع سِنِين فدليله الاستقراء قَالَ مَالك هَذِه جارتنا امْرَأَة مُحَمَّد بن عجلَان امْرَأَة صدق وَزوجهَا رجل صدق وحملت ثَلَاثَة أبطن فِي اثْنَتَيْ عشرَة سنة كل بطن أَربع سِنِين وَرَوَاهُ مُجَاهِد أَيْضا وَجَاء رجل إِلَى مَالك بن دِينَار فَقَالَ يَا أَبَا يحيى ادْع لامْرَأَة حُبْلَى مُنْذُ أَربع سِنِين فِي كرب شَدِيد فَدَعَا لَهَا فجَاء رجل إِلَى الرجل فَقَالَ اِدَّرَكَ امْرَأَتك فَذهب الرجل ثمَّ جَاءَ وعَلى رقبته غُلَام ابْن أَربع سِنِين قد اسْتَوَت أَسْنَانه وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا يحرم بِالْحيضِ وَالنّفاس
(وَيحرم بِالْحيضِ وَالنّفاس ثَمَانِيَة أَشْيَاء الصَّلَاة وَالصَّوْم)
يحرم على الْحَائِض الصَّلَاة وَكَذَا سُجُود التِّلَاوَة وَالشُّكْر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة) الحَدِيث وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على التَّحْرِيم وَلَا تقضيها أَيْضا لما رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت
(كُنَّا نحيض عِنْد رَسُول الله ثمَّ نطهر فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا تُؤمر بِقَضَاء(1/77)
الصَّلَاة وكما يحرم على الْحَائِض الصَّلَاة يحرم عَلَيْهَا الصَّوْم لمَفْهُوم هَذَا الحَدِيث وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على تَحْرِيم الصَّوْم وَلَكِن تقضي الْحَائِض الصَّوْم لحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ
(وقراة الْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف وَحمله)
وَاحْتج للْقِرَاءَة بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يقْرَأ الْجنب وَلَا الْحَائِض شَيْئا من الْقُرْآن) قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب وَاحْتج لمس الْمُصحف بقوله تَعَالَى {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر) ورد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَإِذا حرم مس فَحَمله أولى إِلَّا أَن يكون فِي أَمْتعَة وَلم يقْصد حمله بِخُصُوصِهِ فَإِن فرض أَنه الْمَقْصُود حرم جزم بِهِ الرَّافِعِيّ قَالَ
(وَدخُول الْمَسْجِد)
دُخُولهَا الْمَسْجِد إِن حصل مَعَه جُلُوس أَو لبث وَلَو قَائِمَة أَو ترددت حرم عَلَيْهَا ذَلِك لِأَن الْجنب يحرم عَلَيْهِ ذَلِك وَلَا شكّ أَن حدثها أَشد من الْجَنَابَة وَإِن دخلت مارة فَالصَّحِيح الْجَوَاز كالجنب وَمحل الْخلاف إِذا أمنت تلويث الْمَسْجِد بِأَن تلجمت واستثفرت فَإِن خَافت التلويث حرم بِلَا خلاف قَالَ الرَّافِعِيّ وَغَيره وَلَيْسَ هَذَا من خاصية الْحيض بل من بِهِ سَلس الْبَوْل أَو بِهِ جِرَاحَة نضاحة ويخشى من مروره التلويث لَيْسَ لَهُ العبور وَلَو كَانَ نعل الدَّاخِل متنجساً ويتنجس مِنْهُ الْمَسْجِد لرطوبة النَّجَاسَة فليدلكه ثمَّ ليدْخل وَهَذَا الدَّلْك وَاجِب يحرم تَركه قَالَ
(وَالطّواف) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَقد حَاضَت فِي الْحَج
(افعلي مَا يفعل الْحَاج غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ حَتَّى تطهري) وَقد اتّفق الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة على منعهَا مِنْهُ لهَذَا الحَدِيث ونتبرع بِزِيَادَة محلهَا الْحَج وَهِي أَن الْحَائِض إِذا خَالف وَطَاف طواف الرُّكْن لم يَصح طوافها وَيجْبر بِدَم عِنْد غير الْحَنَفِيَّة وَتبقى على إحرامها وَقَالَت الْحَنَفِيَّة يَصح طوافها ويلزمها بَدَنَة وَلَا يص سعيها بعده لكنه(1/78)
يجْبر بِشَاة وَقَالَ الْمُغيرَة من أَصْحَاب مَالك لَا تشْتَرط الطَّهَارَة بل هِيَ سنة فَإِن طَاف مُحدثا فَعَلَيهِ شَاة وَإِن طَاف جنبا فَعَلَيهِ بَدَنَة قَالَ
(وَالْوَطْء والاستمتاع فِيمَا بَين السُّرَّة وَالركبَة)
حجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} وَقَالَ عبد الله ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا يحل لي من امْرَأَتي وَهِي حَائِض فَقَالَ
(لَك مَا فَوق الْإِزَار) وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
(أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر إحدانا إِذا كَانَت حَائِضًا أَن تأتزر ويباشرها فَوق الْإِزَار) وَورد عَن مَيْمُونَة نَحوه وَالْمعْنَى فِي تَحْرِيم مَا تَحت الازار أَنه حَرِيم الْفرج وَقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(من حام حول الْحمى يُوشك أَن يرتع فِيهِ) وَقيل إِنَّمَا يحرم الْوَطْء فِي الْفرج وَحده وَهَذَا قَول قديم للشَّافِعِيّ وحجت مَا رَوَاهُ أنس أَن الْيَهُود كَانُوا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة فيهم لم يواكلوها وَلم يجامعوها فِي الْبيُوت فَسَأَلت الصَّحَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله تَعَالَى {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(اصنعوا كل شَيْء إِلَّا النِّكَاح) قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَهُوَ أقوى دَلِيلا فَهُوَ الْمُخْتَار وَكَذَا اخْتَارَهُ فِي التَّحْقِيق وَشرح التَّنْبِيه والوسيط فعلى الأول هَل يجوز الِاسْتِمْتَاع بالسرة وَالركبَة وَمَا حاذاهما قَالَ النَّوَوِيّ لم أر لِأَصْحَابِنَا فِيهِ نقلا وَالْمُخْتَار الْجَزْم بِالْجَوَازِ وَالله أعلم قل الإسنائي وَقد سكت الْأَصْحَاب عَن مُبَاشرَة الْمَرْأَة للرجل وَالْقِيَاس أَنَّهَا كَهُوَ حَتَّى لَا تمس ذكره
وَأعلم أَنه لَو خَالف فاستمتع بهَا بِغَيْر الْجِمَاع لم يلْزمه شَيْء بِلَا خلاف قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَإِن جَامع مُتَعَمدا عَالما بِالتَّحْرِيمِ فقد ارْتكب كَبِيرَة وَنَقله فِي الرَّوْضَة عَن النَّص وَلَا غرم عَلَيْهِ فِي الْجَدِيد بل يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَيَتُوب إِلَيْهِ لَكِن إِن وطىء فِي إقبال الدَّم وَهُوَ أَوله وشدته فَيُسْتَحَب أَن يتَصَدَّق بِدِينَار وَإِن جَامع فِي إدباره وَضَعفه يتَصَدَّق بِنصْف دِينَار وَنقل الداوودي عَن نَص الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي الْجَدِيد أَنه يلْزمه ذَلِك وَهِي فَائِدَة مهمة وعَلى الْقَوْلَيْنِ لَا يجب على الْمَرْأَة شَيْء وَيجوز صرف ذَلِك إِلَى وَاحِد وَالله تَعَالَى أعلم(1/79)
(فرع) إِذا ادَّعَت الْمَرْأَة أَنَّهَا حَاضَت فَإِن لم يتهمها بِالْكَذِبِ حرم الْوَطْء وَإِن كذبهَا لم يحرم فَلَو اتفقَا على الْحيض وَاخْتلفَا فِي انْقِطَاعه فَالْقَوْل قَوْلهَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَالله تَعَالَى أعلم وَاعْلَم أَن تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع مُسْتَمر حَتَّى يقطع الدَّم وتغتسل لقَوْله تَعَالَى {حَتَّى يطهرن فَإِذا تطهرن فاتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} وَلَا فرق فِي الْغسْل بَين الْمسلمَة والذمية فَإِذا اغْتَسَلت ثمَّ أسلمت أعادت الْغسْل على الصَّحِيح وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا يحرم على الْجنب والمحدث
(وَيحرم على الْجنب خَمْسَة أشباء الصَّلَاة وقرءة الْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف وَالطّواف واللبث فِي الْمَسْجِد) سمى الْجنب بذلك لِأَنَّهُ يبعد بالجنابة عَن هَذِه الْأَشْيَاء أما تَحْرِيم الصَّلَاة فبالاجماع وَفِي مَعْنَاهَا سُجُود التِّلَاوَة وَالشُّكْر وَأما تَحْرِيم الْقِرَاءَة وَلَو آيَة أَو حرفا سَوَاء أسر أَو جهر إِذا نطق بِلِسَانِهِ فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تقْرَأ الْحَائِض وَلَا الْجنب شَيْئا من الْقُرْآن) وَاحْتج للتَّحْرِيم بقول عَليّ رَضِي الله عَنهُ
(لم يكن يحجب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقُرْآن شَيْء سوى الْجَنَابَة) وَرُوِيَ يحجز وَقد كَانَ منع الْجنب القراة مَشْهُورا بَين الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وَلَو لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا وَصلى فَهَل تحرم الْفَاتِحَة أم لَا وَجْهَان أصَحهمَا عِنْد الرَّافِعِيّ بَقَاء التَّحْرِيم ويعدل إِلَى الذّكر وَصحح النَّوَوِيّ وجوب الْقِرَاءَة
وَأما تَحْرِيم مس الْمُصحف فَإِذا حرم على الْمُحدث فالجنب أولى وَإِذا حرم الْمس فالحمل أولى بِالتَّحْرِيمِ وَأما تَحْرِيم الطّواف فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة) وروى أَيْضا
(الطّواف بِمَنْزِلَة الصَّلَاة إِلَّا أَن تَعَالَى أحل فِيهِ النُّطْق فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير) وَأما تَحْرِيم اللّّبْث فِي الْمَسْجِد فَلقَوْله تَعَالَى {وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} أَي لَا تقربُوا مَوَاضِع الصَّلَاة(1/80)
وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِنِّي لَا أحل الْمَسْجِد لحائض وَلَا جنب)
وَاعْلَم أَن التَّرَدُّد فِي الْمَسْجِد بِمَنْزِلَة اللّّبْث وَلَا فرق فِي اللّّبْث بَين الْقعُود وَالْقِيَام وَاحْترز الشَّيْخ بِالْمَسْجِدِ عَن غَيره كالمدارس والربط وَنَحْوهمَا ثمَّ هَذَا إِذا لم يكن عذر فَإِن كَانَ كَمَا لَو احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِد وَلم يتَمَكَّن من الْخُرُوج لإغلاق الْبَاب أَو لخوف على نَفسه أَو مَاله قَالَ الرَّافِعِيّ وليتيمم بِغَيْر تُرَاب الْمَسْجِد قَالَ النَّوَوِيّ يجب التَّيَمُّم وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير إِنَّه مُسْتَحبّ وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب إِن التَّيَمُّم بِتُرَاب الْمَسْجِد حرَام وَيجوز التَّيَمُّم بِمَا حَملته الرّيح إِلَيْهِ وَقَوله واللبث يَقْتَضِي أَنه لَا يحرم الْمُرُور فِيهِ وَهُوَ كَذَلِك لِلْآيَةِ وكما يحرم لَا يكره إِن كَانَ لَهُ غَرَض مثل كَون الْمَسْجِد أقرب فِي الطَّرِيق وَإِن لم يكن لَهُ غَرَض كره قَالَه فِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه لَا يكره وَالْأولَى أَن لَا يفعل وَقيل يحرم العبور إِن وجد طَرِيقا غَيره وَحَيْثُ عبر لَا يُكَلف الاسراع وَيَمْشي على الْعَادة قَالَه الإِمَام
(فرع) إِذا تلفظ الْجنب بِشَيْء من أذكار الْقُرْآن كَقَوْلِه فِي ابْتِدَاء أكله باسم الله وَفِي آخِره الْحَمد لله وَعند الكرب
(سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين) أَي مطيقين وَنَحْوه إِن قصد الذّكر فَقَط يحرم وَإِن قصد الْقُرْآن حرم وَإِن قصدهما حرم وَإِن لم يقْصد شَيْئا فَجزم الرَّافِعِيّ بِأَنَّهُ لَا يحرم قَالَ الإِمَام وَهُوَ مَقْطُوع بِهِ لِأَن الْمحرم الْقُرْآن وَعند عدم الْقَصْد لَا يُسمى قُرْآنًا وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أَشَارَ الْعِرَاقِيُّونَ إِلَى التَّحْرِيم قَالَ ابْن الرّفْعَة وَهُوَ الظَّاهِر قَالَ الطَّبَرِيّ فِي شرح التَّنْبِيه الْوَجْه الْقطع بِالتَّحْرِيمِ لوضع اللَّفْظ للتلاوة وَالله أعلم قَالَ
(وَيحرم على الْمُحدث ثَلَاثَة أَشْيَاء الصَّلَاة وَالطّواف وَمَسّ الْمُصحف وَحمله)
تحرم الصَّلَاة ذَات الرُّكُوع وَالسُّجُود على الْمُحدث بِالْإِجْمَاع وَسُجُود الشُّكْر والتلاوة كَالصَّلَاةِ وَكَذَا صَلَاة الْجِنَازَة وَفِي الحَدِيث
(لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول) والغلول بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة الْحَرَام وَأما تَحْرِيم الطّواف فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة) كَمَا مر وَأما مس الْمُصحف فَلقَوْله تَعَالَى {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} وَالْقُرْآن لَا يَصح مَسّه فَعلم بِالضَّرُورَةِ أَن المُرَاد الْكتاب وَهُوَ أقرب مَذْكُور وَعوده إِلَى اللَّوْح الْمَحْفُوظ مَمْنُوع لِأَنَّهُ غير منزل وَلَا يُمكن أَن يُرَاد بالمطهرين الْمَلَائِكَة لِأَنَّهُ نفى وَإِثْبَات وَالسَّمَاء لَيْسَ فِيهَا مطهر فَعلم أَنه أَرَادَ(1/81)
الْآدَمِيّين وَكتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتابا إِلَى أهل الْيمن وَفِيه
(لَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر) وَيحرم مس الصندوق والخريطة الَّتِي فيهمَا الْمُصحف لِأَنَّهُمَا منسوبان إِلَيْهِ والعلاقة كالخريطة إِن قصد بذلك حمل الْمُصحف وَإِن لم يَقْصِدهُ بل قصد حمل الصندوق أَو الخريطة أَو قصد مسهما فَلَا صَححهُ النَّوَوِيّ وَلَو لف كمه على يَده وقلب الأوراق بهَا حرم قطع بِهِ الْجُمْهُور لِأَن الْكمّ مُتَّصِل بِهِ وَله حكم أَجْزَائِهِ كَمَا فِي السُّجُود على ذَلِك وَأما تَحْرِيم الْحمل فَلِأَنَّهُ أفحش من الْمس نعم لَو خَافَ عَلَيْهِ من غرق أَو حرق أَو نَجَاسَة أَو كَافِر وَلم يتَمَكَّن من الطَّهَارَة وَالتَّيَمُّم أَخذه مَعَ الْحَدث للضَّرُورَة فالأخذ وَالْحَالة هَذِه وَاجِب قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَالتَّحْقِيق وَالله أعلم(1/82)
كتاب الصَّلَاة
بَاب الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة وأوقاتها
(الصَّلَوَات المفروضات خمس الظّهْر وَأول وَقتهَا زَوَال الشَّمْس وَآخره إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله بعد ظلّ الزَّوَال)
الصَّلَاة فِي اللُّغَة الدُّعَاء قَالَ الله تَعَالَى {وصل عَلَيْهِم} أَي ادْع لَهُم
وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن أَقْوَال وأفعال مفتتحة بِالتَّكْبِيرِ مختتمة بِالتَّسْلِيمِ بِشُرُوط وَالْأَصْل فِي وُجُوبهَا قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة} أَي حَافظُوا عَلَيْهَا وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة جدا وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على ذَلِك وَبَدَأَ بِذكر أَوْقَاتهَا لِأَن أهم أُمُور الصَّلَاة معرفَة أَوْقَاتهَا لِأَن بِدُخُول الْوَقْت تجب وبخروجه تفوت وَالْأَصْل فِي التَّوْقِيت الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتاً} أَي مَكْتُوبَة موقتة وروى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أمني جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد الْبَيْت مرَّتَيْنِ فصلى بِي الظّهْر حِين زَالَت الشَّمْس وَكَانَ قدر شِرَاك النَّعْل وَصلى بِي الْعَصْر حِين كَانَ ظله مثله وَصلى بِي الْمغرب حِين أفطر الصَّائِم وَصلى بِي الْعشَاء حِين غَابَ الشَّفق الْأَحْمَر وَصلى بِي الْفجْر حِين حرم الطَّعَام وَالشرَاب للصَّائِم فَلَمَّا كَانَ الْغَد صلى بِي الظّهْر حِين كَانَ ظله مثله وَصلى بِي الْعَصْر حِين كَانَ ظله مثلَيْهِ وَصلى بِي الْمغرب حِين أفطر الصَّائِم وَصلى بِي الْعشَاء إِلَى ثلث اللَّيْل الأول وَصلى بِي الْفجْر باسفار ثمَّ الْتفت إِلَيّ وَقَالَ يامحمد هَذَا وَقت الْأَنْبِيَاء من قبلك وَالْوَقْت مَا بَين هذَيْن الْوَقْتَيْنِ)(1/83)
والشراك بشين مُعْجمَة مَكْسُورَة أحد سيور النَّعْل والظل فِي اللُّغَة السّتْر تَقول أَنا فِي ظلك وَفِي ظلّ اللَّيْل وَهُوَ يكون من أول النَّهَار إِلَى آخِره والفيء يخْتَص بِمَا بعد الزَّوَال
(وَقَوله زَوَال الشَّمْس) أَي فِيمَا يظْهر لنا لَا مَا فِي نفس الْأَمر لِأَن الشَّمْس إِذا انْتَهَت إِلَى وسط السَّمَاء وَهِي حَالَة الاسْتوَاء يبْقى للشاخص ظلّ فِي أغلب الْبِلَاد وَيخْتَلف مِقْدَاره باخْتلَاف الْأَمْكِنَة والفصول فَإِذا مَالَتْ الشَّمْس إِلَى جَانب الْمغرب حدث الظل فِي جَانب الْمشرق فحدوثه فِي مَكَان لَا ظلّ للشاخص فِيهِ كمكة وَصَنْعَاء الْيمن هُوَ الزَّوَال وزيادته فِي مَكَان للشاخص فِيهِ ظلّ هُوَ الزَّوَال الَّذِي بِهِ يدْخل وَقت الظّهْر فَإِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله غير ظلّ الزَّوَال حَالَة الاسْتوَاء فَهُوَ آخر وَقت الظّهْر قَالَ
(وَالْعصر وَأول وَقتهَا الزِّيَادَة على ظلّ الْمثل وَآخره فِي الإختيار إِلَى ظلّ المثلين وَفِي الْجَوَاز إِلَى غرُوب الشَّمْس)
إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله فَهُوَ آخر وَقت الظّهْر وَأول وَقت الْعَصْر للْخَبَر لَكِن لَا بُد من زِيَادَة ظلّ وَإِن قلت لِأَن خُرُوج وَقت الظّهْر لَا يكَاد يعرف إِلَّا بِتِلْكَ الزِّيَادَة فَإِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ خرج وَقت الِاخْتِيَار وَسمي بذلك لِأَن الْمُخْتَار هُوَ الرَّاجِح وَقيل لِأَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام اخْتَارَهُ وَقَوله الْجَوَاز إِلَى غرُوب الشَّمْس حجَّته قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(وَقت الْعَصْر مَا لم تغرب الشَّمْس) وَاعْلَم أَن للعصر أَرْبَعَة أَوْقَات وَقت فَضِيلَة وَهُوَ إِلَى أَن يصير الظل مثل الشاخص وَوقت جَوَاز بِلَا كَرَاهَة وَهُوَ من مصير الظل مثلَيْهِ إِلَى الاصفرار وَوقت كَرَاهَة يَعْنِي يكره التَّأْخِير إِلَيْهِ وَهُوَ من الاصفرار إِلَى قبيل الْغُرُوب وَوقت تَحْرِيم وَهُوَ تَأْخِير الصَّلَاة إِلَى وَقت لَا يَسعهَا وَإِن قُلْنَا كلهَا أَدَاء قَالَ
(وَالْمغْرب وَقتهَا وَاحِد وَهُوَ غرُوب الشَّمْس)
دَلِيل ذَلِك حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ أم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَقت وَاحِد فِي الْيَوْمَيْنِ وَمَتى يخرج وَقت الْمغرب فِيهِ قَولَانِ الْجَدِيد الْأَظْهر أَنه يخرج بِمِقْدَار طَهَارَة وَستر عَورَة وأذان وَإِقَامَة وَخمْس رَكْعَات وَالِاعْتِبَار فِي ذَلِك بالوسط المعتدل وَالْقَدِيم لَا يخرج حَتَّى يغيب الشَّفق الْأَحْمَر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وَوقت الْمغرب إِذا غَابَتْ الشَّمْس مَا لم يسْقط الشَّفق) وَعَن بُرَيْدَة رَضِي الله(1/84)
عَنهُ
(أَن سَائِلًا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَوَاقِيت الصَّلَاة فصلى بِهِ يَوْمَيْنِ فصلى بِهِ الْمغرب فِي الْيَوْم الأول حِين غَابَتْ الشَّمْس وصلاها فِي الْيَوْم الثَّانِي قبل أَن يغيب الشَّفق ثمَّ قَالَ أَيْن السَّائِل عَن وَقت الصَّلَاة فَقَالَ الرجل هَا أَنا يَا رَسُول الله فَقَالَ
(وَقت صَلَاتكُمْ بَين مَا رَأَيْتُمْ) وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة قَالَ الرَّافِعِيّ وَاخْتَارَ طَائِفَة من الْأَصْحَاب الْقَدِيم ورجحوه قَالَ النَّوَوِيّ الْأَحَادِيث الصحيجة مصرحة بِمَا قَالَه فِي الْقَدِيم وَتَأْويل بَعْضهَا مُتَعَذر فَهُوَ الصَّوَاب وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا ابْن خُزَيْمَة والخطابي وَالْبَيْهَقِيّ وَالْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء وَالْبَغوِيّ فِي التَّهْذِيب وَغَيرهم وَالله أعلم قَالَ
(وَالْعشَاء وَأول وَقتهَا إِذا غَابَ الشَّفق الْأَحْمَر وَآخره فِي الإختيار إِلَى ثلث اللَّيْل وَفِي الْجَوَاز إِلَى طُلُوع الْفجْر الثَّانِي)
وَيدخل وَقت الْعشَاء بغيبوبة الشَّفق للأحاديث قَالَ ابْن الرّفْعَة وَهُوَ بِالْإِجْمَاع وَالِاخْتِيَار أَن لَا يُؤَخر عَن ثلث اللَّيْل لحَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَغَيره وَفِي قَول حَتَّى يذهب نصف اللَّيْل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وَقت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل) قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب إِن كَلَام الْأَكْثَرين يَقْتَضِي تَرْجِيح هَذَا وَصرح فِي شرح مُسلم بِتَصْحِيحِهِ فَقَالَ إِنَّه الْأَصَح وَوقت الْجَوَاز إِلَى طُلُوع الْفجْر الثَّانِي للْأَخْبَار وَذكر الشَّيْخ أَبُو حَامِد أَن لَهَا وَقت كَرَاهَة وَهُوَ مَا بَين الفجرين وَالله أعلم قَالَ
(وَالصُّبْح وَأول وَقتهَا طُلُوع الْفجْر آخِره فِي الِاخْتِيَار إِلَى الاسفار وَفِي الْجَوَاز إِلَى طُلُوع الشَّمْس)
أول وَقت الصُّبْح طُلُوع الْفجْر الصَّادِق وَهُوَ الْمُنْتَشِر ضوؤه مُعْتَرضًا بالأفق وَهُوَ الثَّانِي دَلِيل حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أما الْفجْر الأول فَلَا وَهُوَ أَزْرَق مستطيل وَيُسمى الْكَاذِب لِأَنَّهُ ينور ثمَّ يسود وَوقت الِاخْتِيَار إِلَى الاسفار لبَيَان جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ يبْقى وَقت الْجَوَاز إِلَى طُلُوع الشَّمْس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أم تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح)
وَاعْلَم أَن الْجَوَاز بِلَا كَرَاهَة إِلَى طُلُوع الْحمرَة فَإِذا طلعت يبْقى وَقت الْكَرَاهَة إِلَى طُلُوع الشَّمْس إِذا لم يكن عذر(1/85)
(مَسْأَلَة) يكره النّوم قبل صَلَاة الْعشَاء والْحَدِيث بعْدهَا إِلَّا فِي خير كمذاكرة الْعلم وترتيب أُمُور يعود نَفعهَا على الدّين والخلق لقَوْل أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ يكره النّوم قبل صَلَاة الْعشَاء والْحَدِيث بعْدهَا) وَلَا فرق بَين الحَدِيث الْمَكْرُوه والمباح وَالْمعْنَى فِي كَرَاهَة النّوم قبلهَا مَخَافَة استمراره إِلَى خُرُوج الْوَقْت وَلِهَذَا قَالَ ابْن الصّلاح إِن هَذِه الْكَرَاهَة تعم سَائِر الصَّلَوَات وَأما الحَدِيث بعْدهَا فَلِأَنَّهُ يخَاف من ذَلِك أَن تفوته الصُّبْح عَن وَقتهَا أَو عَن أَوله أَو تفوته صَلَاة اللَّيْل إِن كَانَ لَهُ تهجد وَقيل لِأَن الصَّلَاة الَّتِي هِيَ أفضل تكون خَاتِمَة عمله لاحْتِمَال مَوته فِي نَومه وَقيل لِأَن الله تَعَالَى جعل اللَّيْل سكناً والْحَدِيث يُخرجهُ عَن ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
بَاب شَرَائِط وجوب الصَّلَاة
(فصل وشرائط وجوب الصَّلَاة ثَلَاثَة أَشْيَاء الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل)
من اجْتمع فِيهِ الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالطَّهَارَة عَن الْحيض وَالنّفاس فَلَا شكّ فِي وجوب الصَّلَاة عَلَيْهِ فَأَما الْكَافِر فَإِن كَانَ كفره أَصْلِيًّا لم تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة لِأَنَّهَا لَا تصح مِنْهُ فِي الْكفْر وَلَا يجب عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا إِذا أسلم بِلَا خلاف تَخْفِيفًا فَلَا يجوز أَن يُخَاطب بهَا كالحائض وَهَذَا ظَاهر نَص الشَّافِعِي وَبِه قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وطرده فِي جَمِيع فروع الشَّرِيعَة وَحكي عَن العراقين كَذَا قَالَ الْفُقَهَاء لَكِن الصَّحِيح فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا أَن الْكَافِر الْأَصْلِيّ مُخَاطب بِالصَّلَاةِ وَغَيرهَا من فروع الشَّرِيعَة وَوجه الْجمع أَن الْفُقَهَاء يَقُولُونَ إِنَّه غير مُخَاطب حَال كفره وَالَّذِي قَالُوا إِنَّه مُخَاطب قَالُوا شَرط خطابه أَن يسلم فَمن لم يسلم فَلَا يُخَاطب فاعرفه وَأما الْمُرْتَد فَتجب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالْقَضَاء بِلَا خلاف إِذا أسلم لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ الْتزم ذَلِك فَلَا تسْقط عَنهُ بِالرّدَّةِ من أقرّ بِمَال ثمَّ ارْتَدَّ لَا يسْقط عَنهُ وَأما الصَّبِي وَمن زَالَ عقله بجنون أَو مرض وَنَحْوهمَا فَلَا تجب عَلَيْهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل) وَدَلِيل عدم الْوُجُوب فِي حق الْحَائِض وَالنُّفَسَاء يعلم من الْحيض قَالَ(1/86)
بَاب الصَّلَوَات المسنونة
(والصلوات المسنونة خمس العيدان والكسوفان وَالِاسْتِسْقَاء)
مُرَاده بالمسنونة الَّتِي تسن لَهَا الْجَمَاعَة وَسَتَأْتِي فِي موَاضعهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ
(وَالسّنَن التابعة للفرائض سبع عشرَة رَكْعَة رَكعَتَا الْفجْر وَأَرْبع قبل الظّهْر وركعتان بعْدهَا وَأَرْبع قبل الْعَصْر وركعتان بعد الْمغرب وَثَلَاث بعد الْعشَاء يُوتر بِوَاحِدَة مِنْهُنَّ)
اخْتلف الْأَصْحَاب فِي عدد الرَّكْعَات التابعة للفرائض فالأكثرون على أَنَّهَا عشر رَكْعَات وَالْمرَاد الرَّاتِبَة الْمُؤَكّدَة وَإِلَّا فَمَا ذكره الشَّيْخ سنة وسنورد أدلته وَهِي رَكْعَتَانِ قبل الصُّبْح وركعتان قبل الظّهْر وركعتان بعْدهَا وركعتان بعد الْمغرب وركعتان بعد الْعشَاء وَحجَّة ذَلِك حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ
(صليت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ قبل الظّهْر وَرَكْعَتَيْنِ بعْدهَا وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء) وحدثتني حَفْصَة بنت عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خفيفتين بَعْدَمَا يطلع الْفجْر) وَمن ذكر أَرْبعا قبل الظّهْر فحجته ورد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ لَا يدع أَرْبعا قبل الظّهْر) وَمن ذكر أَرْبعا قبل الْعَصْر فحجته مَا ورد عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ يُصَلِّي قبل الْعَصْر أَربع رَكْعَات يفصل بَينهُنَّ) وَرُوِيَ
(رحم الله امْرأ صلى قبل الْعَصْر أَرْبعا) والركعتان بعد الْعشَاء مذكورتان فِي حَدِيث ابْن عمر ثمَّ المُرَاد بالمؤكد مَا واظب عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهل يسْتَحبّ رَكْعَتَانِ قبل صَلَاة الْمغرب وَجْهَان قَالَ النَّوَوِيّ الصَّحِيح استحبابهما فقد ورد
(صلوا قبل الْمغرب قَالَ فِي الثَّالِثَة لمن شَاءَ) وَفِي رِوَايَة
(كَانُوا يبتدرون السَّوَارِي لَهما إِذا أذن الْمغرب حَتَّى إِن الرجل ليدْخل الْمَسْجِد فيحسب أَن الصَّلَاة قد صليت لِكَثْرَة من بصليهما) وَالثَّانِي لَا يستحبان لما روى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ
(مَا رَأَيْت أحدا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَالله أعلم قَالَ(1/87)
(وَثَلَاث نوافل مؤكدات صَلَاة اللَّيْل وَصَلَاة الضُّحَى وَصَلَاة التَّرَاوِيح)
لَا شكّ فِي اسْتِحْبَاب قيام اللَّيْل وَقد أَجمعت الْأَئِمَّة على اسْتِحْبَابه قَالَ الله تَعَالَى {وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك} وَقَالَ تَعَالَى {كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون} وَكَانَ وَاجِبا ثمَّ نسخ وَفِي الحَدِيث
(عَلَيْكُم بِقِيَام اللَّيْل فَإِنَّهُ دأب الصَّالِحين قبلكُمْ وقربة لكم إِلَى ربكُم ومكفرة للسيئات ومنهاة عَن الْإِثْم) وَفِي الْخَبَر أَيْضا
(من صلى فِي لَيْلَة بِمِائَة آيَة لم يكْتب من الغافلين وَمن صلى بِمِائَتي آيَة فَإِنَّهُ يكْتب من القانتين المخلصين) وَاعْلَم أَن وسط اللَّيْل أفضل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لما سُئِلَ أَي الصَّلَاة أفضل بعد الْمَكْتُوبَة فَقَالَ صَلَاة جَوف اللَّيْل) وَلِأَن الْعِبَادَة فِيهِ أثقل والغفلة فِيهِ أَكثر وَالنّصف الْأَخير أفضل من الأول لمن أَرَادَ قيام نصفه لقَوْله تَعَالَى {وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ} وَلِأَنَّهُ وَقت نزُول الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ نزُول قدرَة لَا حُلُول وَلَا تجسيم {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} وَأفضل من ذَلِك كَمَا قَالَ فِي الرَّوْضَة السُّدس الرَّابِع وَالْخَامِس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أحب الصَّلَاة إِلَى الله تَعَالَى صَلَاة دَاوُد كَانَ ينَام نصف اللَّيْل وَيقوم ثلثه وينام سدسه) وَيكرهُ قيام اللَّيْل كُله قَالَ فِي الرَّوْضَة إِذا داوم عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُضر للعينين والجسد كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فَإِن لم يجد بذلك مشقة اسْتحبَّ لَا سِيمَا للتلذذ بمناجاة الله سُبْحَانَهُ فَإِن وجد بذلك مشقة ومحذوراً كره وَإِلَّا لم يكره ورفقه بِنَفسِهِ أولى وَترك قيام اللَّيْل مَكْرُوه لمن اعتاده لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
(يَا عبد الله لَا تكن مثل فلَان كَانَ يقوم اللَّيْل ثمَّ تَركه) وَالله أعلم
وَمن سنَن صَلَاة الضُّحَى قَالَ الله تَعَالَى {يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الْإِشْرَاق صَلَاة الضُّحَى وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي - هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ(1/88)
(أَوْصَانِي خليلي بِثَلَاث صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر وركعتي الضُّحَى وَأَن أوتر قبل أَن انام) ثمَّ أقل الضُّحَى رَكْعَتَانِ وَأما أَكْثَرهَا فَالَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر وَالشَّرْح الصَّغِير وَنَقله فِي الشَّرْح الْكَبِير عَن الرَّوْيَانِيّ وَأقرهُ أَنَّهَا اثْنَتَا عشرَة رَكْعَة وَاحْتج لَهُ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي ذَر رَضِي الله عَنهُ
(إِن صليت الضُّحَى اثْنَتَيْ عشرَة رَكْعَة بنى الله لَك بَيْتا فِي الْجنَّة) وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أَكْثَرهَا ثَمَان رَكْعَات قَالَه الْأَكْثَرُونَ وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث أم هَانِيء وَذكر مثله فِي التَّحْقِيق قَالَ الرَّافِعِيّ ووقتها من حِين ترْتَفع الشَّمْس أَي قدر رمح إِلَى الاسْتوَاء وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك فِي شرح الْمُهَذّب وَكَذَا ابْن الرّفْعَة لَكِن قَالَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة الَّذِي قَالَه الْأَصْحَاب إِن وَقتهَا يدْخل بِطُلُوع الشَّمْس لَكِن يسْتَحبّ تَأْخِيرهَا إِلَى الِارْتفَاع وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَقتهَا الْمُخْتَار إِذا مضى ربع النَّهَار وَجزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي التَّحْقِيق قَالَ الْغَزالِيّ وَالْمعْنَى فِيهِ حَتَّى لَا يَخْلُو ربع النَّهَار عَن عبَادَة وَالله أعلم
وَأما صَلَاة التَّرَاوِيح فَلَا شكّ فِي سنيتها وانعقد الْإِجْمَاع على ذَلِك قَالَه غير وَاحِد وَلَا عِبْرَة بشواذ الْأَقْوَال وَقد ورد
(من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتساباً غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) وَفِيهِمَا من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(صلاهَا ليَالِي فصلوها مَعَه ثمَّ صلى فِي بَيته بَقِيَّة الشَّهْر وَقَالَ إِنِّي خشيت أَن تفرض عَلَيْكُم فتعجزوا عَنْهَا) ثمَّ إِنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْتمرّ على ذَلِك وَكَذَلِكَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ وصدراً من خلَافَة الْفَارُوق رَضِي الله عَنهُ ثمَّ رأى النَّاس يصلونها فِي الْمَسْجِد فُرَادَى واثنين اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة ثَلَاثَة فَجَمعهُمْ على أبي رَضِي الله عَنهُ ووضب لَهُم عشْرين رَكْعَة وَأجْمع الصَّحَابَة مَعَه على ذَلِك وَفعل عمر ذَلِك لأمنه الافتراض وَسميت بالتراويح لأَنهم كَانُوا يستريحون بعد كل تسليمتين وَيَنْوِي فِي كل رَكْعَتَيْنِ التَّرَاوِيح أَو قيام رَمَضَان وَلَو صلاهَا أَرْبعا بِتَسْلِيمَة لم يَصح بِخِلَاف مَا لَو صلى سنة الظّهْر أَرْبعا بِتَسْلِيمَة فَإِنَّهُ يَصح وَالْفرق أَن التَّرَاوِيح شرعت فِيهَا الْجَمَاعَة فَأَشْبَهت الْفَرَائِض فَلَا تغير عَمَّا وَردت ووقتها مَا بَين صَلَاة الْعشَاء وطلوع الْفجْر الثَّانِي وفعلها فِي الْجَمَاعَة أفضل لما مر وَقيل الِانْفِرَاد أفضل كَسَائِر النَّوَافِل وَقيل إِن كَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ أمنا من الكسل وَلم تختل الْجَمَاعَة بتخلفه فالانفراد أفضل وَإِلَّا فالجماعة وَالله أعلم قَالَ(1/89)
بَاب شَرَائِط صِحَة الصَّلَاة
(فصل وشرائط الصَّلَاة قبل الدُّخُول فِيهَا خَمْسَة أَشْيَاء)
اعْلَم أَن الشَّرْط فِي اللُّغَة الْعَلامَة وَمِنْه أَشْرَاط السَّاعَة وَفِي الِاصْطِلَاح مَا يلْزم من عَدمه عدم الصِّحَّة وَلَيْسَ بِرُكْن هَذَا هُوَ المُرَاد هُنَا كَذَا ذكره بعض الشُّرَّاح وَهُوَ صَحِيح إِن عددنا المبطلات شُرُوطًا وَأما مَا ذكره الشَّيْخ فَلَيْسَ كَذَلِك ثمَّ إِن الصَّلَاة لَهَا شُرُوط وأركان وأبعاض وهيئات فالشروط كَمَا ذكره الشَّيْخ خَمْسَة وعدها النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج أَيْضا خَمْسَة إِلَّا أَنَّهُمَا اخْتلفَا فِي الْكَيْفِيَّة وَاحْترز الشَّيْخ بقبل الدُّخُول فِيهَا عَمَّا وجد فِيهَا وَهُوَ مُبْطل فَإِنَّهُ لَا يعد شرطا بل يعد مَانِعا وَهُوَ اصْطِلَاح جمَاعَة مِنْهُم النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب والوسيط وَقَالَ الصَّوَاب أَنَّهَا مبطلات لَا شُرُوط وعد فِي الرَّوْضَة المبطلات شُرُوطًا فَذكر خَمْسَة ثمَّ قَالَ السَّادِس السُّكُوت عَن الْكَلَام السَّابِع الْكَفّ عَن الْأَفْعَال الْكَثِيرَة الثَّامِن الْإِمْسَاك عَن الْأكل فَصَارَت ثَمَانِيَة وَلِهَذَا قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة شُرُوطهَا ثَمَانِيَة وَاعْلَم أَن الشَّرْط والركن لَا بُد مِنْهُمَا فِي صِحَة الصَّلَاة وَلَكِن يفترقان بِأَن الشَّرْط مَا كَانَ خَارِجا عَن مَا هية الصَّلَاة والركن مَا كَانَ داخلها وَأما الأبعاض فتجبر بسجود السَّهْو بِخِلَاف الهيئات وَسَيَأْتِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ
(طَهَارَة الْأَعْضَاء من الْحَدث وَالنَّجس)
يشْتَرط لصِحَّة الصَّلَاة الطَّهَارَة عَن الْحَدث سَوَاء فِي ذَلِك الْأَصْغَر والأكبر عِنْد الْقُدْرَة لِأَن فَاقِد الطهُورَيْنِ يجب أَن يُصَلِّي على حسب حَاله وَتجب الْإِعَادَة وتوصف صلَاته بِالصِّحَّةِ على الصَّحِيح وَالدَّلِيل على اشْتِرَاط الطَّهَارَة الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} الْآيَة وَغَيرهَا وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور) الْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة جدا فَلَو صلى بِغَيْر طَهَارَة وَكَانَ مُحدثا عِنْد إِحْرَامه لم تَنْعَقِد صلَاته عَامِدًا كَانَ أَو نَاسِيا وَإِن أحرم متطهراً ثمَّ أحدث بِاخْتِيَارِهِ بطلت صلَاته سَوَاء علم أَنه فِي الصَّلَاة أم لَا وَإِن أحدث لَا بِاخْتِيَارِهِ بطلت طَهَارَته بِلَا خلاف وَتبطل صلَاته أَيْضا على الْمَشْهُور الْجَدِيد لانْتِفَاء شَرطهَا وَفِيه حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَحسنه التِّرْمِذِيّ وَفِي قَول قديم يَبْنِي إِذا تطهر وَاحْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيث ضَعِيف الشَّرْط الثَّانِي الطَّهَارَة عَن النَّجَاسَة فِي الْبدن وَالثَّوْب وَالْمَكَان أما الْبدن فَلقَوْله تَعَالَى {وَالرجز فاهجر} وَالرجز النَّجس وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيث مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة رَضِي(1/90)
الله عَنْهَا
(إِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة وَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي) وَمِنْهَا حَدِيث القبرين
(إنَّهُمَا ليعذبان أما أَحدهمَا فَكَانَ لَا يسْتَتر من الْبَوْل) وَفِي إِضَافَة عَذَاب الْقَبْر إِلَى الْبَوْل خُصُوصِيَّة تخص دون بَقِيَّة الْمعاصِي وَقد جَاءَ
(تنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ) عَافَانَا الله الْحَلِيم من عَذَابه وَأما الثَّوْب فللآية الْكَرِيمَة وَفِي الحَدِيث فِي دم الْحيض يُصِيب الثَّوْب قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ) وَأما الْمَكَان فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بَال الْأَعرَابِي فِي الْمَسْجِد
(صبوا عَلَيْهِ ذنوبا من مَاء) إِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن النَّجَاسَة قِسْمَانِ نَجَاسَة وَاقعَة فِي مَظَنَّة الْعَفو ونجاسة لَا يُعْفَى عَنْهَا فالنجاسة غير المعفو عَنْهَا يجب اجتنابها فِي الثَّوْب وَالْبدن وَالْمَكَان فَلَو أصَاب الثَّوْب نَجَاسَة وَعرف موضعهَا غسلهَا فَلَو قطع موضعهَا أَجزَأَهُ وَيلْزم ذَلِك إِذا عجز عَن الْغسْل وَكَانَ الْبَاقِي يستر الْعَوْرَة بِشَرْط أَن لَا ينقص من قِيمَته بِالْقطعِ أَكثر من أُجْرَة الثَّوْب وَإِن لم يعرف موضعهَا من الْبدن وَالثَّوْب وَجب غسله كُله وَلَا يجْزِيه الِاجْتِهَاد وَلَو أصَاب طرف ثَوْبه أَو عمَامَته نَجَاسَة بطلت صلَاته سَوَاء كَانَ الصائب يَتَحَرَّك بحركته أم لَا وَلَو قبض طرف حَبل أَو شدَّة فِي وَسطه وطرفه الآخر نجس أَو ملقى على نَجَاسَة فَفِيهِ خلاف الرَّاجِح فِي الشَّرْح الْكَبِير وَالرَّوْضَة الْبطلَان كالعمامة وَالثَّانِي لَا تبطل وَالله أعلم قَالَ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير وَهُوَ أوجه الْوَجْهَيْنِ وَلَو كَانَ الْحَبل فِي يَده أَو شده فِي وَسطه وطرفه الآخر مربوط فِي عنق حمَار وعَلى الْحمار حمل نَجَاسَة فَفِيهِ الْخلاف وَالْأولَى عدم الْبطلَان لِأَن بَين الْحَبل والنجاسة وَاسِطَة وَلَو صلى على بِسَاط تَحْتَهُ نَجَاسَة أَو على طرفه نجاسه أَعلَى سَرِير قوائمه على نَجَاسَة لم يضر وَلَو كَانَت نَجَاسَة تحاذي صَدره فِي حَال سُجُوده أَو غَيره فَوَجْهَانِ الْأَصَح لَا تبطل صلَاته لِأَنَّهُ غير حَامِل للنَّجَاسَة وَلَا مصل عَلَيْهَا وَلَو صلى وَهُوَ حَامِل نشاباً لم تصح صلَاته لأجل الريش وَكَذَا لَو كَانَ فِي إبهامه كشتوان غير طَاهِر وَمَا أشبه ذَلِك وَالله أعلم
الْقسم الثَّانِي من النَّجَاسَة الْوَاقِعَة فِي مَظَنَّة الْعَفو وَهِي أَنْوَاع مِنْهَا الْأَثر الْبَاقِي على مَحل(1/91)
الِاسْتِنْجَاء بعد الِاسْتِنْجَاء بِالْحجرِ يُعْفَى عَنهُ وَلَو حمل ثوبا عَلَيْهِ نَجَاسَة مَعْفُو عَنْهَا لم تصح صلَاته كَمَا لَو حمل مستجمراً بِالْحجرِ وَلَو انتشرت بالعرق عَن مَحل الِاسْتِنْجَاء فَالْأَصَحّ الْعَفو لعسر الِاحْتِرَاز وَلَو حمل حَيَوَانا تنجس منفذه بالخارج مِنْهُ فَفِي بطلَان صلَاته وَجْهَان الْأَصَح عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْبطلَان وَقطع بِهِ الْمُتَوَلِي وَالأَصَح عِنْد الْغَزالِيّ صِحَة صلَاته وَلَو حمل بَيْضَة مذرة حشوها دم وظاهرها طَاهِر فَالْأَصَحّ بطلَان الصَّلَاة وَمِنْهَا طين الشوارع الْمُتَيَقن النَّجَاسَة يُعْفَى عَمَّا يتَعَذَّر الِاحْتِرَاز مِنْهُ غَالِبا وَيخْتَلف بِالْوَقْتِ فيعفى فِي الشتَاء دون الصَّيف وبموضع النَّجَاسَة من الْبدن فيعفى عَن الأذيال دون الاكمام والاكتاف وَالرَّأْس وكل ذَلِك فِي الْقَلِيل دون الْكثير فالقليل مَا لَا ينْسب صَاحبه فِيهِ إِلَى قلَّة تحفظ بِخِلَاف الْكثير فَإِنَّهُ ينْسب صَاحبه فِيهِ إِلَى قلَّة الْحِفْظ وَلَو أصَاب أَسْفَل الْخُف أَو النَّعْل نَجَاسَة فدلكه بِالْأَرْضِ حَتَّى ذهب أجزاؤها فَفِي صِحَة صلَاته قَولَانِ الصَّحِيح لَا تصح مُطلقًا لِأَن النَّجَاسَة لَا يطهرها إِلَّا المَاء كَمَا مر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَمِنْهَا دم البراغيث فيعفى عَن قَلِيله فِي الثَّوْب وَالْبدن لمَشَقَّة الِاحْتِرَاز وَكَذَا يُعْفَى عَن كَثِيره فِي الْأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ وَالأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ لَا يُعْفَى وَالْقمل كالبراغيث وبل الذُّبَاب كالبراغيث وَكَذَا بَوْل الخفاش وَفِي ضبط الْقَلِيل وَالْكثير خلاف وَالأَصَح الرُّجُوع فِيهِ إِلَى الْعرف وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف الْأَوْقَات والبلاد وَلَو شكّ هَل هُوَ قَلِيل أَو كثير فالراجح أَنه قَلِيل لِأَن الأَصْل عدم الْكَثْرَة وَلَو قتل قمله أَو برغوثاً فِي ثَوْبه أَو بدنه أَو بَين أَصَابِعه فتلوث بِهِ أَو بسط الثَّوْب الَّذِي عَلَيْهِ الدَّم المعفو عَنهُ وَصلى عَلَيْهِ أَو حمله فَإِن كَانَ كثيرا لم تصح صلَاته وَإِن كَانَ قَلِيلا فَالْأَصَحّ فِي التَّحْقِيق الْعَفو وَنَقله فِي شرح الْمُهَذّب عَن الْمُتَوَلِي وَأقرهُ وَلَو كَانَ الثَّوْب زَائِدا على لِبَاسه لم تصح صلَاته لِأَنَّهُ غير مُضْطَر إِلَيْهِ وَالله أعلم وَمِنْهَا دم البثرات وقيحها وصديدها كَدم البراغيث فيعفى عَن قَلِيله وَعَن كَثِيره فِي الْأَصَح وَلَو عصره على الرَّاجِح والبثرات جمع بثرة وَهُوَ خراج صَغِير وَلَو أَصَابَهُ شَيْء من دم نَفسه لَا من البثرات بل من الدماميل والقروح وَمَوْضِع الفصد والحجامة فَفِيهِ خلاف وَالأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ أَنه كَدم البثرات ثمَّ مَاء القروح والنفاطات إِن كَانَ لَهُ رَائِحَة فَهُوَ نجس وَإِلَّا فَالْمَذْهَب أَنه طَاهِر وَلَو أَصَابَهُ دم من غَيره فَإِن كَانَ كثيرا لم يعف عَنهُ لِأَنَّهُ لَا يشق الِاحْتِرَاز مِنْهُ وَإِن كَانَ قَلِيلا فَقَوْلَانِ الْأَحْسَن عِنْد الرَّافِعِيّ عدم الْعَفو وَالأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ الْعَفو وَيسْتَثْنى دم الْكَلْب وَالْخِنْزِير لغلظ نجاستهما
(فرع) إِذا صلى بِنَجَاسَة لَا يُعْفَى عَنْهَا وَهُوَ جَاهِل بهَا حَال الصَّلَاة سَوَاء كَانَت فِي بدنه أَو ثَوْبه أَو مَوضِع صلَاته فَإِن لم يعلم بهَا أَلْبَتَّة فَقَوْلَانِ الْجَدِيد الْأَظْهر يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء لِأَنَّهَا طَهَارَة وَاجِبَة فَلَا تسْقط بِالْجَهْلِ كطهارة الْحَدث وَالْقَدِيم أَنه لَا يجب وَنَقله ابْن الْمُنْذر عَن خلائق وَاخْتَارَهُ وَكَذَا النَّوَوِيّ اخْتَارَهُ فِي شرح الْمُهَذّب وَإِن علم بِالنَّجَاسَةِ ثمَّ نَسِيَهَا فطريقان
أَحدهمَا على الْقَوْلَيْنِ وَالْمذهب الْقطع بِوُجُوب الْقَضَاء لتَقْصِيره ثمَّ إِذا أَوجَبْنَا الْإِعَادَة(1/92)
فَيجب عَلَيْهِ إِعَادَة كل صَلَاة صلاهَا مَعَ النَّجَاسَة يَقِينا فَإِن احْتمل حدوثها بعد الصَّلَاة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَن الأَصْل عدم وجدانها فِي ذَلِك الزَّمن وَلَو رأى شخصا يُرِيد الصَّلَاة وَفِي ثَوْبه نَجَاسَة وَالْمُصَلي لَا يعلم بهَا لزم الْعَالم إِعْلَامه بذلك لِأَن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ لَا يتَوَقَّف على الْعِصْيَان بل هُوَ لزوَال الْمفْسدَة قَالَه الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة وَالله أعلم قَالَ
(وَستر الْعَوْرَة بلباس طَاهِر وَالْوُقُوف على مَكَان طَاهِر)
أما طَهَارَة اللبَاس وَالْمَكَان عَن النَّجَاسَة فقد مر وَأما ستر الْعَوْرَة فَوَاجِب مُطلقًا حَتَّى فِي الْخلْوَة والظلمة على الرَّاجِح لِأَن الله تَعَالَى أَحَق أَن يستحيا مِنْهُ سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا والعورة فِي اللُّغَة النَّقْص والخلل وَمَا يستحيا مِنْهُ وَهِي هُنَا مَا يجب ستره فِي الصَّلَاة وَالدَّلِيل على أَن سترهَا شَرط لصِحَّة الصَّلَاة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يقبل الله صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار) وَالْمرَاد بالحائض الْبَالِغ وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على ذَلِك عِنْد الْقُدْرَة فَإِن عجز عَن الستْرَة صلى عُريَانا وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ على الرَّاجِح لِأَنَّهُ عذر عَام وَرُبمَا يَدُوم فَلَو أَوجَبْنَا الْإِعَادَة لشق ثمَّ شَرط الستْرَة أَن تمنع لون الْبشرَة سَوَاء كَانَ من ثِيَاب أَو جُلُود أَو ورق أَو حشيش وَنَحْو ذَلِك حَتَّى الطين وَالْمَاء الكدر وَصُورَة الصَّلَاة فِي المَاء على الْجِنَازَة وَالأَصَح وجوب التطين لِأَنَّهُ قَادر على الستْرَة وَلَا يَكْفِي الثَّوْب الرَّقِيق مثل غزل الْبَنَات وَنَحْوه لِأَنَّهُ لَا يمْنَع لون الْبشرَة وَكَذَا الكرباس الَّذِي لَهُ أبخاش وَلَو كَانَت عَوْرَته ترى من جيبه فِي رُكُوعه أَو سُجُوده لم يكف فَيجب إِمَّا زره أَو وضع شدّ عَلَيْهِ وَنَحْوه وَلَو لم يجد إِلَّا ثوبا نجسا وَلَا يجد مَاء يغسلهُ بِهِ فَقَوْلَانِ الْأَظْهر أَنه يُصَلِّي عُريَانا وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَالثَّانِي يُصَلِّي فِيهِ وَيُعِيد وَلَو كَانَ مَحْبُوسًا فِي مَوضِع نجس وَمَعَهُ ثوب وَاحِد لَا يَكْفِي للعورة والنجاسة فَقَوْلَانِ أَيْضا أظهرهمَا يبسطه للنَّجَاسَة وَيُصلي عَارِيا بِلَا إِعَادَة وَالثَّانِي يُصَلِّي فِيهِ على النَّجَاسَة وَيُعِيد وَلَو لم يجد العاري إِلَّا ثوبا لغيره حرم عَلَيْهِ لبسه بلَى يُصَلِّي عَارِيا وَلَا يُعِيد وَلَيْسَ لَهُ أَخذه مِنْهُ قهرا وَلَو وهبه لم يلْزمه قبُوله فِي الْأَصَح للمنة وَلَو أَعَارَهُ لزمَه قبُوله لضعف الْمِنَّة فَإِن لم يقبل وَصلى عَارِيا لم تصح صلَاته لقدرته على الستْرَة وَلَو بَاعه إِيَّاه أَو أجره فَهُوَ كَالْمَاءِ فِي التَّيَمُّم وَيكرهُ أَن يُصَلِّي فِي ثوب فِيهِ صُورَة وتمثيل وَالْمَرْأَة متنقبة إِلَّا أَن تكون فِي مَسْجِد وَهُنَاكَ أجانب لَا يحترزون عَن النّظر فَإِن خيف من النّظر إِلَيْهَا مَا يجر إِلَى الْفساد حرم عَلَيْهَا رفع النقاب وَهَذَا كثير فِي مَوَاضِع الزِّيَارَة كبيت الْمُقَدّس زَاده الله تَعَالَى شرفاً فليجتنب ذَلِك وَيسْتَحب أَن يُصَلِّي الشَّخْص فِي أحسن ثِيَابه وَالله أعلم قَالَ(1/93)
(وَالْعلم بِدُخُول الْوَقْت)
لَا شكّ أَن دُخُول الْوَقْت شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة فَإِن علم ذَلِك فَلَا كَلَام وَإِن جَهله وَجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ وَلَا فرق فِي الْجَهْل بَين أَن يكون لغيم أَو حبس فِي مَوضِع مظلم أَو غير ذَلِك فَلَو قدر على الْخُرُوج من الْبَيْت المظلم لرؤية الشَّمْس فَهَل يلْزمه ذَلِك فَوَجْهَانِ أصَحهمَا فِي شرح الْمُهَذّب لَهُ الإجتهاد وَلَو أخبرهُ عدل عَن مُعَاينَة بِأَن قَالَ رَأَيْت الْفجْر طالعاً والشفق غارباً أَو أَخْبرنِي فلَان بِرُؤْيَتِهِ امْتنع عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد كَمَا لَو أخبرهُ شخص بِنَصّ من كتاب أَو سنة فِي مَسْأَلَة لَا يجوز الِاجْتِهَاد مَعَ وجود النَّص ثمَّ الِاجْتِهَاد يكون بورد من قِرَاءَة أَو درس علم وَبِنَاء وَنسخ وَنَحْو ذَلِك وَسَوَاء كَانَ مِنْهُ أَو من غَيره كَمَا قَالَه ابْن الرّفْعَة وَمن الأمارات صياح الديك المجرب والمؤذن الْوَاحِد إِن لم يكن ثِقَة فَلَا يَأْخُذ أحد بأذانه وَإِن كَانَ ثِقَة وَهُوَ غير عَالم بِالْوَقْتِ فَكَذَا وَإِن كَانَ ثِقَة عَالما بِالْوَقْتِ فَوَجْهَانِ قَالَ الرَّافِعِيّ لَا يُؤْخَذ بقوله لِأَنَّهُ يخبر عَن اجْتِهَاده والمجتهد لَا يُقَلّد مُجْتَهدا بِخِلَاف مَا إِذا أذن فِي يَوْم الصحو فَإِنَّهُ يخبر عَن مُشَاهدَة وَقَالَ النَّوَوِيّ يَأْخُذ بقوله وَنَقله عَن نَص الشَّافِعِي فَإِنَّهُ لَا يتقاعد عَن صياح الديك ثمَّ حَيْثُ أمرناه بِالِاجْتِهَادِ نظر إِن كَانَ عَاجِزا عَن الْأَدِلَّة فَالْأَصَحّ فِي شرح الْمُهَذّب أَنه يُقَلّد وَإِن كَانَ يحسنها نظر إِن صلى بِلَا اجْتِهَاد لم تصح صلَاته وَوَجَب عَلَيْهِ أَن يُعِيد وَإِن صلى فِي الْوَقْت وَإِن اجْتهد نظر إِن لم يغلب على ظَنّه شَيْء أخر إِلَى حُصُول الظَّن وَالِاحْتِيَاط أَن يُؤَخر إِلَى زمن يغلب على ظَنّه أَنه لَو أخر لخرج الْوَقْت وَإِن غلب على ظَنّه دُخُول الْوَقْت صلى ثمَّ إِن لم يتَبَيَّن لَهُ الْحَال فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَإِن بَان وُقُوعهَا فِي الْوَقْت فَلَا كَلَام وَإِن بَان بعده صحت وَإِن نوى الْأَدَاء صرح بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الصّيام وَإِن بَان أَنَّهَا قبل الْوَقْت قضى على الْمَذْهَب وَلَو علم المنجم دُخُول الْوَقْت بِالْحِسَابِ قَالَ فِي الْبَيَان الْمَذْهَب أَنه يعْمل بِهِ بِنَفسِهِ وَلَا يعْمل بِهِ غَيره والمنجم الموقت لَا المنجم فِي عرف النَّاس كهؤلاء الَّذين يضْربُونَ بالرمل فَإِنَّهُم فسقة وَمِنْهُم من يكون سيء الِاعْتِقَاد وَهُوَ زنديق كَافِر وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ
(من أَتَى عرافاً لم تقبل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا) وَرِوَايَة مُسلم
(من أَتَى عرافاً فَسَأَلَهُ عَن شَيْء فَصدقهُ) وَلَو أخبرهُ مخبر بِأَن صلَاته وَقعت قبل الْوَقْت نظر إِن أخبرهُ عَن علم أَو مُشَاهدَة وَجَبت الْإِعَادَة وَإِن أخبرهُ عَن اجْتِهَاد فَلَا وَالله أعلم قَالَ
(واستقبال الْقبْلَة)
هِيَ الْكَعْبَة وَسميت قبْلَة لِأَن الْمُصَلِّي يقابلها وكعبة لارتفاعها واستقبالها شَرط لصِحَّة(1/94)
الصَّلَاة فِي حق الْقَادِر لَا فِي شدَّة الْخَوْف وَفِي نفل السّفر الْمُبَاح لقَوْله تَعَالَى {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} والاستقبال لَا يجب فِي غير الصَّلَاة فَتعين أَن يكون فِي الصَّلَاة وَلقَوْله للمسيء صلَاته
(واستقبل الْقبْلَة وَكبر) ثمَّ الْفَرْض فِي خق الْقَرِيب من الْقبْلَة اصابة عينهَا بِأَن يحاذيها بِجَمِيعِ بدنه فَلَو خرج بعض بدنه عَن مسامتتها فَلَا تصح صلَاته على الْأَصَح وَأما الْبعيد فَفِي الْفَرْض فِي حَقه قَولَانِ أظهرهمَا أَيْضا إِصَابَة الْعين لِلْآيَةِ لَكِن يَكْفِي غَلَبَة الظَّن بِخِلَاف الْقَرِيب فَإِنَّهُ يلْزمه ذَلِك بِيَقِين لقدرته عَلَيْهِ بِخِلَاف الْبعيد
وَالْقَوْل الثَّانِي أَن الْفَرْض فِي حق الْبعيد الْجِهَة
وَاعْلَم أَن يشْتَرط أَيْضا أَن يكون مصلي الْفَرْض مُسْتَقرًّا فَلَا يَصح من الْمَاشِي وان اسْتقْبل الْقبْلَة وَلَا من الرَّاكِب الَّذِي تسير بِهِ دَابَّته لعدم استقراره فَلَو كَانَت الدَّابَّة واقفة واستقبل وَلم يخل بِالْقيامِ صحت على الْأَصَح وَقطع بِهِ الْجُمْهُور نعم تصح فِي السَّفِينَة السائرة بِخِلَاف الدَّابَّة وَالْفرق أَن الْخُرُوج من السَّفِينَة فِي أَوْقَات الصَّلَاة إِلَى الْبر مُتَعَذر أَو متعسر بِخِلَاف الدَّابَّة وَلَو خَافَ من النُّزُول عَن الدَّابَّة انْقِطَاعًا عَن رفقته أَو كَانَ يخَاف على نَفسه أَو مَاله صلى عَلَيْهَا وَأعَاد
وَاعْلَم أَن الْقَادِر على يَقِين الْقبْلَة لَا يجوز لَهُ الِاجْتِهَاد وَأما غير الْقَادِر على الْيَقِين فَإِن وجد من يُخبرهُ عَنْهَا عَن علم اعْتَمدهُ وَلم يجْتَهد بِشَرْط عَدَالَة الْمخبر فيستوي فِي ذَلِك الرجل وَالْمَرْأَة وَالْحر وَالْعَبْد فَلَا يقبل قَول الْكَافِر قطعا وَكَذَا الْفَاسِق كقضاة الرشا وأئمة الظُّلم وشهود قسم الْجور وَكَذَا لَا يقبل قَول الصَّبِي الْمُمَيز على الصَّحِيح ثمَّ الْمخبر قد يكون بِاللَّفْظِ وَقد يكون دلَالَة كالمحراب الْمُعْتَمد وَسَوَاء فِي الْعَمَل بالْخبر أهل الِاجْتِهَاد وَغَيرهم حَتَّى إِن الْأَعْمَى يعْتَمد الْمِحْرَاب بالمس حَيْثُ يعْتَمد الْبَصِير وَكَذَا الْبَصِير فِي الظلمَة وَلَو اشْتبهَ عَلَيْهِ مَوَاضِع فَلَا شكّ أَنه يصبر حَتَّى يُخبرهُ غَيره صَرِيحًا فَإِن خَافَ فَوَات الْوَقْت صلى على حسب حَاله وَأعَاد هَذَا كُله إِذا وجد من يُخبرهُ عَن علم وَهُوَ مِمَّن يعْتَمد قَوْله أما إِذا لم يجد الْعَاجِز من يُخبرهُ فَتَارَة يقدر على الِاجْتِهَاد وَتارَة لَا يقدر فَإِن قدر لزمَه الِاجْتِهَاد واستقبل مَا ظَنّه الْقبْلَة وَلَا يَصح الِاجْتِهَاد إِلَّا بأدلة(1/95)
الْقبْلَة وَهِي كَثِيرَة وأضعفها الرِّيَاح لاختلافها وأقوالها القطب وَهُوَ نجم صَغِير فِي بَنَات نعش الصُّغْرَى بَين الفرقدين والجدي إِذا جعله الْوَاقِف خلف أُذُنه الْيُمْنَى كَانَ مُسْتَقْبل الْقبْلَة إِن كَانَ بِنَاحِيَة الْكُوفَة وبغداد وهمدان وجرجان وَمَا والاها وَيكون على عَاتِقه الْأَيْسَر بأقليم مصر وَيكون خلف ظَهره بِدِمَشْق وَلَيْسَ للقادر على الإجتهاد تَقْلِيد غَيره فَإِن فعل وَجب قَضَاء الصَّلَاة وَسَوَاء خَافَ خُرُوج الْوَقْت أم لَا فَإِن ضَاقَ الْوَقْت صلى كَيفَ كَانَ وَتجب الْإِعَادَة هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل يُقَلّد عِنْد خوف الْفَوات وَلَو خفيت الْأَدِلَّة على الْمُجْتَهد لغيم أَو ظلمَة أَو تَعَارَضَت الْأَدِلَّة فَفِيهِ خلاف منتشر ملخصه قَولَانِ أظهرهمَا لَا يُقَلّد قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَمحل الْخلاف عِنْد ضيق الْوَقْت أما إِذا لم يضق فَلَا يُقَلّد قطعا لعدم الْحَاجة هَذَا فِي الْقَادِر أما إِذا لم يقدر على الِاجْتِهَاد بِأَن كَانَ عَاجِزا عَن أَدِلَّة الْقبْلَة كالأعمى والبصير الَّذِي لَا يعرف الْأَدِلَّة وَلَا لَهُ أَهْلِيَّة مَعْرفَتهَا وَجب عَلَيْهِ تَقْلِيد مُسلم عدل عَارِف بالأدلة سَوَاء فِيهِ الرجل وَالْمَرْأَة وَالْحر وَالْعَبْد
وَاعْلَم أَن التَّقْلِيد هُوَ قبُول قَول الْمُسْتَند إِلَى الِاجْتِهَاد فَلَو قَالَ بَصِير رَأَيْت القطب أَو رأين الْخلق الْكثير من الْمُسلمين يصلونَ إِلَى هُنَا كَانَ الْأَخْذ بِهِ قبُول خبرلا تَقْلِيد لِأَنَّهُ لم يسْتَند إِلَى اجْتِهَاد بل إِلَى الرُّؤْيَة وَلَو اخْتلف عَلَيْهِ اجْتِهَاد مجتهدين قلد من شَاءَ مِنْهُمَا على الصَّحِيح وَالْأولَى تَقْلِيد الأوثق الأعلم وَقيل يجب ذَلِك وَرجحه الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير قَالَه ابْن الرّفْعَة وَنَقله القَاضِي أَبُو الطّيب عَن نَص الشَّافِعِي فِي الْأُم قَالَ ابْن الرّفْعَة لَكِن الْأَكْثَرُونَ على التَّخْيِير
وَاعْلَم أَن الْمُصَلِّي بِالِاجْتِهَادِ إِذا ظهر الْخَطَأ فِي الإجتهاد فَإِن كَانَ قبل الشُّرُوع فِي الصَّلَاة أعرض عَنهُ وَاعْتمد الْجِهَة الَّتِي يعلمهَا أَو يَظُنهَا فَإِن تَسَاوَت عِنْده جهتان فَلهُ الْخِيَار فيهمَا على الْأَصَح وَلَو تَيَقّن الْخَطَأ بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة وَجَبت الْإِعَادَة على الْأَظْهر لفَوَات الِاسْتِقْبَال وَقيل لَا يُعِيد اعْتِبَارا بِمَا ظَنّه وَقت الْفِعْل لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالصَّلَاةِ بِهِ وَالْأول مَذْهَب الْفُقَهَاء وَالثَّانِي مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين وَلَو تَيَقّن الْخَطَأ وَلم يتَيَقَّن الصَّوَاب بل ظَنّه فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ لِأَن الأول مُجْتَهد فِيهِ وَالثَّانِي مُجْتَهد فِيهِ وَلَا ينْقض الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى لَو صلى أَربع رَكْعَات إِلَى أَربع جِهَات باجتهادات فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ على الأصيح وَلَو تَيَقّن الجظأ فِي أثْنَاء الصَّلَاة بطلت على الْأَظْهر أَو ظن الْخَطَأ فَالْأَصَحّ أَنه ينحرف وَيَبْنِي على صلَاته حَتَّى لَو صلى أَربع رَكْعَات إِلَى أَربع جِهَات باجتهادات فَلَا قَضَاء وَلَو صلى بِاجْتِهَاد ثمَّ أَرَادَ صَلَاة فَرِيضَة أُخْرَى حَاضِرَة أَو فَائِتَة وَجب الِاجْتِهَاد على الْأَصَح سعياً فِي إِصَابَة الْحق وَلَا يحْتَاج إِلَى إِعَادَة الِاجْتِهَاد للنافلة قطعا قَالَ فِي الرَّوْضَة وَلَو اجْتهد اثْنَان وَأدّى اجْتِهَاد كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى جِهَة عمل كل مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِهِ وَلَا يَقْتَدِي بِصَاحِبِهِ لِأَن كلا مِنْهُمَا يعْتَقد خطأ صَاحبه كَمَا لَو اخْتلف اجتهادهما فِي الإناءين أَو الثَّوْبَيْنِ الْمُتَنَجس أَحدهمَا وَلَو شرع فِي الصَّلَاة بالتقليد فَقَالَ لَهُ عدل أَخطَأ بك فلَان فَإِن كَانَ يخبر عَن علم ومعاينة وَجب الرُّجُوع إِلَى قَوْله وَإِن كَانَ يخبر عَن اجْتِهَاد فَإِن كَانَ قَول الأول عِنْده أرجح لزِيَادَة عَدَالَته أَو هدايته للأدلة أَو هُوَ(1/96)
مثله أَو لم يعرف أَنه مثله أم لَا لم يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بقول الثَّانِي وَلَا يجوز على الصَّحِيح وَإِن كَانَ الثَّانِي أرجح تحول وَبنى على الصَّحِيح كتغير اجْتِهَاده وَلَو قَالَ لَهُ الْمُجْتَهد الثَّانِي ذَلِك بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة لم تلْزمهُ الاعادة قطعا وَإِن كَانَ الثَّانِي أرجح كَمَا لَو تغير اجْتِهَاده بعد الْفَرَاغ وَلَو قَالَ لَهُ الثَّانِي أَنْت على الْخَطَأ قطعا وَجب قبُوله قطعا سَوَاء أخبرهُ هَذَا الْقَاطِع بالْخَطَأ عَن الصَّوَاب متيقناً أَو مُجْتَهدا يجب قبُوله لِأَن تَقْلِيد الأول بَطل بِقطع هَذَا وَالله أعلم
الشَّرْط السَّادِس السُّكُوت عَن الْكَلَام فالمتكلم إِن كَانَ غير مَعْذُور ونطق بِحرف مفهم مثل ق وش تبطل وَإِن نطق بحرفين بطلت أفهم كقم أَو لَا كمن وَعَن وبطلانها بِالثَّلَاثَةِ فَصَاعِدا أولى وَلَا فرق فِي الْبطلَان بَين أَن يكون لمصْلحَة الصَّلَاة كَقَوْلِه للْإِمَام قُم أم لَا وَلَو نطق بِحرف بعده مُدَّة فَالْأَصَحّ بُطْلَانهَا لِأَن الْمدَّة حرف وَفِي التنحنح خلاف الرَّاجِح أَنه إِن بَان مِنْهُ حرفان بطلت وَإِلَّا فَلَا هَذَا إِذا كَانَ بِغَيْر عذر فَإِن كَانَ مَغْلُوبًا فَلَا بَأْس وَلَو تَعَذَّرَتْ الْقِرَاءَة الْوَاجِبَة إِلَّا بالتنحنح تنحنح وَهُوَ مَعْذُور وَإِن تعذر الْجَهْر فالراجح أَنه لَيْسَ بِعُذْر وَلَو تنحنح الامام وَظهر مِنْهُ حرفان فَهَل للْمَأْمُوم أَن يَدُوم على مُتَابَعَته وَجْهَان الرَّاجِح نعم وَالظَّاهِر أَنه مَعْذُور وَأما الضحك والبكاء والأنين فَإِن بَان مِنْهُ حرفان بطلت وَإِلَّا فَلَا وَسَوَاء كَانَ الْبكاء للدنيا أَو للآخررة وَإِن تكلم الْمُصَلِّي وَهُوَ مَعْذُور كمن سبق لِسَانه إِلَى الْكَلَام بِلَا قصد أَو غَلبه السعال أَو الضحك وَبَان مِنْهُ حرفان أَو تكلم نَاسِيا أَو جَاهِلا بِتَحْرِيم الْكَلَام وَهُوَ قريب عهد بِالْإِسْلَامِ فَإِن كَانَ يَسِيرا لم تبطل صلَاته وَإِن كثر بطلت على الْأَصَح والقلة وَالْكَثْرَة يرجع فيهمَا إِلَى الْعرف وَضم إِلَى ذَلِك فِي شرح الْمُهَذّب كَثْرَة العطاس وَقَالَ إِنَّه يبطل وَلَو جهل كَون التنحنح مُبْطلًا فَهُوَ مَعْذُور لخفاء حكمه على الْعَوام وَلَو أكره على الْكَلَام بطلت صلَاته على الْأَظْهر لِأَنَّهُ نَادِر كَمَا لَو أكره على الصَّلَاة بِلَا طَهَارَة أَو على أَن يُصَلِّي وَهُوَ قَاعد فَإِنَّهُ يجب الاعادة وَلَو أشرف إِنْسَان على الْهَلَاك فَأَرَادَ انذاره وَلم يحصل إِلَّا بالْكلَام وَجب وَتبطل صلَاته على الْأَصَح لوُجُود الْكَلَام وَلَو قَالَ الْمُصَلِّي آه من خوف النَّار بطلت صلَاته على الصَّحِيح
الشَّرْط السَّابِع الْكَفّ عَن الْأَفْعَال اعْلَم أَن الْفِعْل الزَّائِد على الصَّلَاة إِن كَانَ من جِنْسهَا كالركوع وَالسُّجُود وَزِيَادَة رَكْعَة إِن تعمد ذَلِك بطلت سَوَاء قل الزَّائِد أَو كثر وَإِن كَانَ الْفِعْل من غير جنس الصَّلَاة فاتفق الْأَصْحَاب على أَن الْقَلِيل لَا يبطل وَالْكثير يبطل وَفِي ضبط الْقَلِيل وَالْكثير أوجه الصَّحِيح الرُّجُوع فِيهِ إِلَى الْعَادة فَلَا يضر مَا عده ى النَّاس قَلِيلا كالإشارة برد السَّلَام وخلع النَّعْل وَنَحْوهمَا ثمَّ قَالُوا الفعلة الْوَاحِدَة كالخطوة والصربة قَلِيل قطعا وَالثَّلَاث كَثِيرَة قطعا والاثنتان قَلِيل على الْأَصَح وَاتفقَ الْأَصْحَاب على أَن الْكثير إِنَّمَا يبطل إِذا توالى فَإِن تفرق بِأَن خطا خطْوَة ثمَّ بعد زمن خطْوَة أُخْرَى وَكرر ذَلِك مَرَّات فَلَا يضر قطعا قَالَه فِي الرَّوْضَة وَيشْهد لَهُ حَدِيث أَمَامه رَضِي الله عَنْهَا فَلَو تردد فِي فعل هَل وصل إِلَى حد الْكَثْرَة أم لَا قَالَ الإِمَام الْأَظْهر أَنه لَا يُؤثر لِأَن الأَصْل(1/97)
عدم الْكَثْرَة وَعدم بطلَان الصَّلَاة ثمَّ حد التَّفْرِيق أَن يعد الثَّانِي مُنْقَطِعًا عَن الأول
وَاعْلَم أَن شَرط الفعلة الْوَاحِدَة الَّتِي لَا تبطل أَن لَا تتفاحش فَإِن أفرطت كالوثبة الْفَاحِشَة أبطلت قطعا قَالَه فِي الرَّوْضَة لِأَنَّهَا مُنَافِيَة للصَّلَاة
وَاعْلَم أَن الحركات الْخَفِيفَة كتحريك الْأَصَابِع فِي حكة لَا تضر على الْأَصَح وَإِن كثرت وتوالت لِأَنَّهَا لَا تخل بهيئة تَعْظِيم الصَّلَاة وَلَا بالخشوع أما لَو حرك كَفه ثَلَاثًا على بدنه يهترش فَإِن صلَاته تبطل قَالَ فِي الْكَافِي إِلَّا أَن يكون بِهِ جرب لَا يقدر مَعَه على عدم الحك فيعذر
وَاعْلَم أَن كثير الْفِعْل حَيْثُ أبطل عِنْد الْعمد فَكَذَا يبطل عِنْد فعله سَهوا على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ يقطع نظم الصَّلَاة وَالله أعلم
الشَّرْط الثَّامِن الامساك عَن الْأكل فَإِن أكل الْمُصَلِّي شَيْئا بطلت صلَاته وَإِن قل لِأَنَّهُ يُنَافِي الْخُشُوع وَفِي وَجه لَا تبطل بِالْقَلِيلِ وَهُوَ غلط وَلَو كَانَ بَين أَسْنَانه شَيْء فابتلعه أَو نزلت من رَأسه نخامة فابتلعها عَامِدًا بطلت صلَاته فَإِن كَانَ مَغْلُوبًا بِأَن جرى الرِّيق بباقي الطَّعَام أَو نزلت المخامة وَلم يُمكنهُ إِِمْسَاكهَا لم تبطل صلَاته لِأَنَّهُ مَعْذُور وَإِن أكل نَاسِيا أَو جَاهِلا بِالتَّحْرِيمِ فَإِن قل لم تبطل وَإِن كثر بطلت صلَاته على الْأَصَح
وَاعْلَم أَن المضغ وَحده فعل يبطل كَثِيره الصَّلَاة إِن لم يصل شَيْء إِلَى الْجوف وَلَو كَانَ بفمه عقيدة فذابت وَنزل إِلَى جَوْفه مِنْهَا شَيْء بطلت صلَاته وَإِن لم يحصل مِنْهُ فعل الْوُصُول الْمُفطر إِلَى جَوْفه ويعبر عَن هَذَا بِأَن الامساك شَرط فِي الصَّلَاة ليَكُون حَاضر الذِّهْن تَارِكًا للأمور العادية فعلى هَذَا تبطل الصَّلَاة بِكُل مَا يبطل بِهِ الصَّوْم فَلَو نكش أُذُنه بِشَيْء وَأدْخلهُ بَاطِن أُذُنه بطلت صلَاته وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز ترك الِاسْتِقْبَال فِي حالتين فِي شدَّة الْخَوْف)
إِذا التحم الْقِتَال وَلم يتمكنوا من تَركه بِحَال لقلتهم وَكَثْرَة الْعَدو أَو اشْتَدَّ الْخَوْف وَلم يلتحم الْقِتَال وَلم يأمنوا أَن يركب الْعَدو أكتافهم وَلَو ولوا انقسموا وصلوا بِحَسب الامكان وَلَيْسَ لَهُم التَّأْخِير عَن الْوَقْت لِلْآيَةِ الشَّرِيفَة الدَّالَّة على إِقَامَة الصَّلَاة فِي وَقتهَا ويصلن ركباناً وَمُشَاة مستقبلي الْقبْلَة وَغير مستقبليها لقَوْله تَعَالَى {خِفْتُمْ فرجالاً أَو ركباناً} قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرهَا مستقبلي الْقبْلَة وَغير مستقبليها كَذَا رَوَاهُ مَالك عَن نَافِع قَالَ نَافِع لَا أرَاهُ قَالَ ذَلِك إِلَّا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَقد رَوَاهُ الشَّافِعِي بِسَنَدِهِ عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَن الضَّرُورَة(1/98)
قد تَدْعُو إِلَى الصَّلَاة على هَذِه الْحَالة وَلَا يجب الِاسْتِقْبَال لَا فِي حَال التَّحْرِيم وَلَا فِي غَيره وَإِن كَانَ رَاجِلا قَالَه الْبَغَوِيّ وَغَيره وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا يُعْفَى عَن ترك الِاسْتِقْبَال إِذا كَانَ بِسَبَب الْعَدو فَلَو انحرف عَن الْقبْلَة لجماح الدَّابَّة وَطَالَ الزَّمن بطلت الصَّلَاة وَلَو لم يتَمَكَّن من اتمام الرُّكُوع وَالسُّجُود اقْتصر على الْإِيمَاء وَيجْعَل السُّجُود أَخفض من الرُّكُوع وَيجب الِاحْتِرَاز عَن الصياح بِكُل حَال لعدم الْحَاجة إِلَيْهِ وَلَو احْتَاجَ إِلَى الفعلات الْكَثِيرَة كالطعنات والضربات المتوالية فعل وَلَا تبطل صلَاته على الصَّحِيح كَمَا لَو اضْطر إِلَى الْمَشْي وَقيل تبطل وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَقَوله
(فِي شدَّة الْخَوْف) يَشْمَل كل مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة من أَنْوَاع الْقِتَال فَيجوز فِي قتال الْكفَّار وَلأَهل الْعدْل فِي قتال الْبُغَاة وَفِي قتال قطاع الطَّرِيق وَلَا يجوز للبغاة وَلَا لقطاع الطَّرِيق ذَلِك لعصيانهم فَلَا يُخَفف عَنْهُم وَلَو قصد شخص نفس شخص أَو حريمه أَو نفس غَيره أَو حريمه واشتغل بِالدفع عَن ذَلِك صلى على هَذِه الْحَالة وَلَو قصد مَاله نظر إِن كَانَ حَيَوَانا صلى كَذَلِك وَإِن لم يكن حَيَوَانا فَقَوْلَانِ وَالْأَظْهَر الْجَوَاز ويشمل مُطلق الْخَوْف مَا لَو هرب من سيل أَو حريق وَلم يجد معدلاً عَنهُ وَلَو كَانَ على شخص دين وَهُوَ مُعسر وعاجز عَن بَيِّنَة الاعسار وَلَا يصدقهُ الْمُسْتَحق وَلَو ظفر بِهِ حَبسه فَلهُ أَن يُصَلِّي هَارِبا على الْمَذْهَب وَلَو كَانَ عَلَيْهِ قصاص ويرجو الْعَفو إِذا سكن الْغَضَب قَالَ الْأَصْحَاب لَهُ الْهَرَب وَله أَن يُصَلِّي صَلَاة شدَّة الْخَوْف فِي هربه واستبعد الامام جَوَاز هربه بِهَذَا التوقع وَلَو ضَاقَ الْوَقْت على الْمحرم وَخَافَ إِن صلى مُسْتَقرًّا فَاتَ الْوُقُوف بِعَرَفَة فَفِيهِ أوجه الَّذِي رَجحه الرَّافِعِيّ أَن يُصَلِّي مُسْتَقرًّا وَإِن فَاتَ الْوُقُوف
وَالثَّانِي يُصَلِّي صَلَاة شدَّة الْخَوْف جمعا بَيْنَمَا
وَالثَّالِث يُؤَخر الصَّلَاة وَيحصل الْوُقُوف لِأَن قَضَاء الْحَج صَعب قَالَ النَّوَوِيّ إِن الثَّالِث هُوَ الصَّوَاب وَمَا رَجحه الرَّافِعِيّ ضَعِيف وَالله أعلم قَالَ
(وَفِي النَّافِلَة فِي السّفر على الرَّاحِلَة)
يجوز للْمُسَافِر التنقل رَاكِبًا وماشياً إِلَى جِهَة مقْصده فِي السّفر الطَّوِيل والقصير على الْمَذْهَب أما فِي الرَّاكِب فَلَمَّا ورد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(يُصَلِّي على رَاحِلَته فِي السّفر حَيْثُمَا تَوَجَّهت بِهِ) وَفِي رِوَايَة
(يُصَلِّي على ظهر رَاحِلَته حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ) وَإِذا أَرَادَ الْفَرِيضَة نزل عَن رَاحِلَته فَاسْتقْبل وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن النَّاس محتاجون إِلَى الْأَسْفَار وَلَهُم أوراد وَقصد فِي النَّافِلَة فَلَو شَرط الِاسْتِقْبَال فِي التَّنَفُّل لَأَدَّى إِلَى ترك أورادهم أَو ترك مصَالح مَعَايشهمْ وَأما الْمَاشِي فبالقياس على الرَّاكِب لوُجُود الْمَعْنى ثمَّ هَذَا فِي الرَّاكِب الَّذِي لَا يُمكنهُ إتْمَام الرُّكُوع وَالسُّجُود فَإِن أمكن بِأَن كَانَ فِي مرقد كالمحارة وَنَحْوهَا لزمَه ذَلِك لِأَنَّهُ لَا مشقة عَلَيْهِ(1/99)
كراكب السَّفِينَة وَأما من لَا يُمكنهُ ذَلِك فَفِي وجوب الِاسْتِقْبَال وَقت التَّحَرُّم أوجه الصَّحِيح إِن سهل عَلَيْهِ ذَلِك بِأَن كَانَ الزِّمَام فِي يَده وَهِي سهلة الانقياد أَو كَانَت قَائِمَة وَأمن انحرافه عَلَيْهَا أَو تحريفها لزمَه ذَلِك وَغير السهلة بِأَن تكون مقطورة أَو صعبة الانقياد وَاحْتج لذَلِك بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(كَانَ إِذا سَافر وَأَرَادَ أَن يتَطَوَّع اسْتقْبل بناقته الْقبْلَة وَكبر وَصلى حَيْثُ وَجه ركابه) وَالْمعْنَى فِيهِ وُقُوع أول الْعِبَادَة بِالشُّرُوطِ وَالْبَاقِي يَقع تبعا كالنية يجب ذكرهَا فِي أول الصَّلَاة وَيَكْفِي دوامها حكما لَا ذكرا للعسر وَإِذا شرطنا الِاسْتِقْبَال عِنْد الاحرام لم يشْتَرط عِنْد السَّلَام على الرَّاجِح مَا فِي سَائِر الْأَركان ثمَّ مهما أمكنه الِاسْتِقْبَال فِي الصَّلَاة وَجب بِأَن وقفت الدَّابَّة لحَاجَة سَوَاء فِي ذَلِك وَقت التَّحَرُّم أَو غَيره فاعرفه
وَاعْلَم أَن صوب مقصد الْمُسَافِر هُوَ قبلته فَلَو انحرف عَنهُ بطلت صلَاته لِأَنَّهُ لَا حَاجَة لَهُ فِي ذَلِك وَإِن انحرف نَاسِيا وَعَاد عَن قرب لم تبطل صلَاته وَكَذَا لَو غلط فِي الطَّرِيق وَلَو انحرف بجماح الدَّابَّة وَطَالَ الزَّمَان بطلت صلَاته على الصَّحِيح كَمَا لَو أماله شخص عَن صوب مقْصده وَإِن قصر لم تبطل صلَاته لعُمُوم الجماح وَإِذا لم تبطل فِي صُورَة النسْيَان فَإِن طَال الزَّمَان سد للسَّهْو وَإِلَّا فَلَا
وَاعْلَم أَنه لَا يجب على الرَّاكِب وضع جَبهته على عرف الدَّابَّة وَلَا على السرج وإلاكاف بل ينحني للرُّكُوع وَالسُّجُود وَيكون السُّجُود أَخفض ليحصل التَّمْيِيز بَينهمَا وَهُوَ وَاجِب عِنْد التَّمَكُّن نعم الرَّاكِب فِي مرقد وَنَحْوه مِمَّا يسهل فِيهِ الِاسْتِقْبَال وَكَذَا إتْمَام الْأَركان فَيجب عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَال فِي جَمِيع الصَّلَاة وَكَذَا اتمام الْأَركان لقدرته هَذَا فِي الرَّاكِب أما الْمَاشِي فَفِيهِ أَقْوَال أظهرها أَنه يرْكَع وَيسْجد على الأَرْض وَله التَّشَهُّد مَاشِيا لطوله كالقيام وَيشْتَرط أَن يكون مَا يلاقي بطن الْمُصَلِّي على الرَّاحِلَة طَاهِرا فَلَو وطِئت الدَّابَّة النَّجَاسَة لم يضر وَكَذَا لَو أَوْطَأَهَا على الْأَصَح وَلَو وطىء الْمَاشِي نَجَاسَة عمدا بطلت صلَاته نعم لَا يُكَلف التحفظ وَالِاحْتِيَاط فِي الْمَشْي للْمَشَقَّة وَاعْلَم أَنه يشْتَرط فِي جَوَاز التَّنَفُّل رَاكِبًا وماشياً دوَام السّفر وَالسير فَلَو وصل الْمنزل فِي خلال الصَّلَاة اشْترط اتمامها إِلَى الْقبْلَة مُتَمَكنًا وَينزل إِن كَانَ رَاكِبًا وَكَذَا لَو وصل مَكَان اقامته وَجب عَلَيْهِ النُّزُول واتمام الصَّلَاة مُسْتَقْبلا بِأول دُخُول الْبُنيان وَحكم نِيَّة الاقامة كَحكم من وصل منزل اقامته وَالله أعلم
(فرع) يشْتَرط فِي حق الرَّاكِب والماشي الِاحْتِرَاز عَن الْأَفْعَال الَّتِي لَا يحْتَاج إِلَيْهَا فَلَو ركض الدَّابَّة لحَاجَة فَلَا بَأْس وَلَو أجراها بِلَا عذر أَو مَاشِيا فَقعدَ بِلَا عذر بطلت على الرَّاجِح وَالله أعلم
(فرع) رَاكب التعاسيف وَهُوَ الهائم الَّذِي لَيْسَ لَهُ مقْعد معِين بل يسْتَقْبل الْقبْلَة مرّة(1/100)
ويستدبرها أُخْرَى لَيْسَ لَهُ ترك الِاسْتِقْبَال فِي شَيْء من نافلته
(فرع) رَاكب السَّفِينَة لَا يجوز لَهُ التَّنَفُّل فِيهَا إِلَى غير الْقبْلَة لتمكنه من ذَلِك نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي كالراكب فِي المحفة وَهل يسْتَثْنى الملاح ويتنفل حَيْثُ توجه لِحَاجَتِهِ إِلَى ذَلِك رجح الرَّافِعِيّ عدم استثنائه صرح بذلك فِي الشَّرْح الصَّغِير وَقَالَ لَا فرق بَينه وَبَين غَيره وَرجح النَّوَوِيّ بِأَنَّهُ يسْتَثْنى قَالَ وَلَا بُد من استثنائه لِحَاجَتِهِ لأمر السَّفِينَة وَالله أعلم قَالَ
بَاب أَرْكَان الصَّلَاة
(فصل وأركان الصَّلَاة ثَمَانِيَة عشر ركنا النِّيَّة)
قد علمت أَن الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة تشْتَمل على أَرْكَان وأبعاض وهيئات فَمن الْأَركان النِّيَّة لِأَنَّهَا وَاجِبَة فِي بعض الصَّلَاة يَعْنِي ذكرا وَهُوَ أَولهَا فَكَانَت ركنا كالتكبيرة وَالرُّكُوع وَغَيرهمَا وَمِنْهُم من عدهَا شرطا قَالَ الْغَزالِيّ هِيَ بِالشّرطِ أشبه وَوَجهه أَنه يعْتَبر دوامها حكما إِلَى آخر الصَّلَاة فَأَشْبَهت الْوضُوء والاستقبال وَهُوَ قوي
ثمَّ النِّيَّة الْقَصْد فَلَا بُد من قصد أُمُور
أَحدهَا قصد فعل الصَّلَاة لتمتاز عَن سَائِر الْأَفْعَال
وَالثَّانِي تعين الصَّلَاة المأتي بهَا من كَونهَا ظهرا أَو عصرا أَو جُمُعَة وَهَذَانِ لَا بُد مِنْهُمَا بِلَا خلاف فَلَو نوى فرض الْوَقْت بدل الظّهْر أَو الْعَصْر لم تصح على الْأَصَح لِأَن الْفَائِتَة تشاركها فِي كَونهَا فَرِيضَة الْوَقْت
الثَّالِث أَن يَنْوِي الْفَرِيضَة على الْأَصَح عِنْد الْأَكْثَرين سَوَاء كَانَ الناوي بَالغا أَو صَبيا وَسَوَاء كَانَت الصَّلَاة قَضَاء أَو أَدَاء وَفِي شرح الْمُهَذّب أَن الصَّوَاب فِي الصَّبِي أَنه لَا يَنْوِي الْفَرْض وَفِي اشْتِرَاط الْإِضَافَة إِلَى الله تَعَالَى بِأَن يَقُول لله وَجْهَان الْأَصَح أَنه لَا يشْتَرط
الرَّابِع هَل لَا يشْتَرط تَمْيِيز الْأَدَاء من الْقَضَاء وَجْهَان أصَحهمَا فِي الرَّافِعِيّ لَا يشْتَرط لِأَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد ولهذذا يُقَال أدّيت الدّين وقضيت الدّين وَالَّذِي قَالَ النَّوَوِيّ إِن هَذَا فِيمَن جهل خُرُوج الْوَقْت لغيم وَنَحْوه قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب صرح الْأَصْحَاب بِأَنَّهُ إِذا نوى الْأَدَاء فِي وَقت الْقَضَاء أَو عَكسه لم تصح قطعا وَالله أعلم وَلَا يشْتَرط التَّعَرُّض لعدد الرَّكْعَات وَلَا للاستقبال على الصَّحِيح نعم لَو نوى الظّهْر خمْسا أَو ثَلَاثًا لم تَنْعَقِد
وَاعْلَم أَن النِّيَّة فِي جَمِيع الْعِبَادَات مُعْتَبرَة بِالْقَلْبِ فَلَا يَكْفِي نطق للسان مَعَ غَفلَة الْقلب نعم(1/101)
لَا يضر مُخَالفَة اللِّسَان من قصد بِقَلْبِه الظّهْر وَجرى على لِسَانه الْعَصْر فَإِنَّهَا تَنْعَقِد ظَهره وَاعْلَم أَن شَرط النِّيَّة الْجَزْم ودوامه فَلَو نوى فِي أثْنَاء الصَّلَاة الْخُرُوج مِنْهَا بطلت وَكَذَا لَو تردد فِي أَن يخرج أَو يسْتَمر بطلت وَلَو علق الْخُرُوج مِنْهَا على شَيْء فَإِن قَالَ إِن عيط لي فلَان أَو دق الْبَاب خرجت مِنْهَا بطلت فِي الْحَال على الرَّاجِح كَمَا لَو دخل فِي الصَّلَاة على ذَلِك فَإِنَّهَا لَا تَنْعَقِد بِلَا خلاف لفَوَات الْجَزْم كَمَا لَو علق الْخُرُوج من الاسلام فَإِنَّهُ يكفر فِي الْحَال بِلَا خلاف وَلَو شكّ فِي صلَاته هَل أَتَى بِكَمَال النِّيَّة أَو تَركهَا أَو ترك بعض شُرُوطهَا نظر إِن تذكر أَنه أَتَى بكمالها قبل أَن يَأْتِي بِشَيْء على الشَّك وَقصر الزَّمَان لم تبطل صلَاته لِأَن عرُوض الشَّك وزواله كثير فيعفى عَنهُ وَإِن طَال الزَّمَان فَالْأَصَحّ الْبطلَان لانْقِطَاع نظم الصَّلَاة وندور مثل ذَلِك وَإِن تذكر بعد مَا أَتَى على الشَّك بِرُكْن فعلي كالركوع وَالسُّجُود بطلت وَإِن أَتَى بِقَوْلِي كالقراءة وَالتَّشَهُّد بطلت أَيْضا على الْأَصَح الْمَنْصُوص الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور قَالَ النَّوَوِيّ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَو شكّ هَل نوى ظهرا أَو عصراً لم يجزه عَن وَاحِدَة مِنْهُمَا فَإِن تيقنهما فعلى التَّفْصِيل الْمَذْكُور وَالله أعلم
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط أَن تقارن النِّيَّة لتكبيرة الاحرام يَعْنِي ذكرا وَمَا معنى الْمُقَارنَة فِيهِ أوجه أَصَحهَا فِي الرَّوْضَة هُنَا أَنه يجب ذكرهَا من أول التَّكْبِيرَة إِلَى فراغها
وَالثَّانِي أَن الْوَاجِب استحضارها لأوّل التَّكْبِيرَة فَقَط قَالَ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الطَّلَاق وَهُوَ الْأَظْهر
وَالثَّالِث تَكْفِي الْمُقَارنَة الْعُرْفِيَّة عِنْد الْعَوام بِحَيْثُ يعد مستحضراً للصَّلَاة وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الامام وَالْغَزالِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَالله أعلم قَالَ
(وَالْقِيَام مَعَ الْقُدْرَة)
اعْلَم أَن الْقيام أَو مَا يقوم مقَامه عِنْد الْعَجز كالقعود والاضطجاع ركن فِي صَلَاة الْفَرْض لما روى عمرَان بن حُصَيْن رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(كَانَت بِي بواسير فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة فَقَالَ صل قَائِما فَإِن لم تستطع فقاعداً فَإِن لم تستطع فعلى جنب) وَزَاد النَّسَائِيّ
(فَإِن لم تستطع فمستلقياً لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا) وَيشْتَرط فِي الْقيام الانتصاب فَلَو انحنى متخشعاً وَكَانَ قَرِيبا إِلَى حد الرُّكُوع لم تصح صلَاته وَلَو لم يقدر على الْقيام إِلَّا بِمعين ثمَّ لَا يتَأَذَّى بِالْقيامِ لزمَه أَن يَسْتَعِين بِمن يقيمه فَإِن لم يجد مُتَبَرعا لزمَه أَن يستأجره بأجره الْمثل إِن وجدهَا وَلَو قدر(1/102)
على الْقيام دون الرُّكُوع وَالسُّجُود لعِلَّة بظهره لزم ذَلِك لقدرته على الْقيام وَلَو احْتَاجَ فِي الْقيام إِلَى شَيْء يعْتَمد عَلَيْهِ لزمَه وَلَو كَانَ قَادِرًا على الْقيام واستند إِلَى شَيْء بِحَيْثُ لَو انحنى سقط صحت صلَاته مَعَ الْكَرَاهَة وَمن عجز عَن الانتصاب وَصَارَ فِي حد الراكعين كمن تقوس ظَهره لكبر أَو زمانة الْقيام على تِلْكَ الْحَالة فَإِذا أَرَادَ الرُّكُوع زَاد فِي الانحناء بِهِ إِن قدر عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَبِه قطع الْعِرَاقِيُّونَ وَالْمُتوَلِّيّ وَالْبَغوِيّ وَعَلِيهِ نَص الشَّافِعِي وَالله أعلم قَالَ
(وَتَكْبِيرَة الاحرام)
التَّكْبِيرَة ركن من أَرْكَان الصَّلَاة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(مِفْتَاح الصَّلَاة الْوضُوء وتحريمها التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم) وَورد فِي حَدِيث الْمُسِيء صلَاته
(إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فأسبغ الْوضُوء ثمَّ اسْتقْبل الْقبْلَة وَكبر) قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ أحسن الْأَدِلَّة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يذكر لَهُ فِي الحَدِيث إِلَّا الْفَرْض وَاعْلَم أَن تَكْبِيرَة الاحرام يعْتَبر فِيهَا أُمُور فَلَو فقد وَاحِد مِنْهَا لم يجز وَلم تصح صلَاته
أَحدهَا أَنه يَأْتِي بِصِيغَة الله أكبر بِالْعَرَبِيَّةِ إِذا كَانَ قَادِرًا لما رَوَاهُ أَبُو حميد السَّاعِدِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا استفتح الصَّلَاة اسْتقْبل الْقبْلَة وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ الله أكبر) فَلَو قَالَ الرَّحْمَن الرَّحِيم أكبر أَو أجل أَو قَالَ الرب أعظم وَنَحْو ذَلِك لم يجز وَلَو قَالَ الله الْأَكْبَر أَجزَأَهُ على الْمَشْهُور لِأَنَّهُ لفظ يدل على التَّكْبِير وَهَذِه الزِّيَادَة تدل على التَّعْظِيم فَصَارَ كَمَا لَو قَالَ الله أكبر من كل شَيْء فَإِنَّهُ يجزىء وَلَو عكس وَقَالَ أكبر الله لم يجز على الصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي لِأَنَّهُ لَا يُسمى تَكْبِيرا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ عِنْد الْخُرُوج من الصَّلَاة عَلَيْكُم السَّلَام فَإِنَّهُ يجزىء لِأَنَّهُ يُسمى سَلاما كَذَا قَالُوا وَلَو حصل بَين الِاسْم الْكَرِيم وَلَفظه أكبر فصل نظر إِن قل لم يضر كَمَا لَو قَالَ الله الْجَلِيل أكبر وَإِن طَال الْفَصْل كَمَا لَو قَالَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك القدوس أكبر لم يجز قطعا لِخُرُوجِهِ عَن اسْم التَّكْبِير وَمِنْهَا أَن يحصل بَين الِاسْم الْكَرِيم وَلَفظه أكبر وَقْفَة وَمِنْهَا أَن لَا يزِيد مَا يخل بِالْمَعْنَى بِأَن يمد الْهمزَة من الله لِأَنَّهُ يخرج بِهِ إِلَى الِاسْتِفْهَام أَو بِأَن يشْبع حَرَكَة الْبَاء فِي أكبر فَتبقى أكبار وَهُوَ اسْم للْحيض أَو يزِيد فِي إشباع الْهَاء فتتولد وَاو سَوَاء كَانَت سَاكِنة أَو متحركة وَمِنْهَا أَن(1/103)
يَأْتِي بالتكبيرة بكمالها وَهُوَ منتصب فَلَو أَتَى بِبَعْضِهَا وَهُوَ فِي الْهَوِي وَقد وصل إِلَى حد أقل الرُّكُوع فَلَا تَنْعَقِد فرضا وَهل تَنْعَقِد نفلا الْأَصَح إِن كَانَ جَاهِلا انْعَقَدت وَإِلَّا فَلَا وَمِنْهَا أَن يَنْوِي بهَا تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح وَهَذَا يَقع كثيرا فِيمَن أدْرك الامام رَاكِعا نَحوه فَلَو نوى بهَا تَكْبِيرَة الاحرام وَالرُّكُوع لم تَنْعَقِد صلَاته فرضا وَلَا نفلا على الصَّحِيح للتشريك وَلَو لم ينْو تَكْبِيرَة الاحرام وَلَا تَكْبِيرَة الرُّكُوع بل أطلق فَالصَّحِيح الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَقطع بِهِ جُمْهُور الْأَصْحَاب لَا تَنْعَقِد صلَاته لِأَنَّهُ لم يقْصد تَكْبِيرَة الاحرام وَقيل تَنْعَقِد لقَرِينَة الِافْتِتَاح وَمَال إِلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَيَردهُ قرينَة الرُّكُوع وَهَذَا كل فِي الْقَادِر على النُّطْق بِالْعَرَبِيَّةِ أما الْعَاجِز فَإِن كَانَ لَا يقدر على التَّعَلُّم إِمَّا لخرس أَو بِأَن لَا يطاوعه لِسَانه أَتَى بالترجمة وَلَا يعدل إِلَى ذكر آخر وَجَمِيع اللُّغَات فِي التَّرْجَمَة سَوَاء على الصَّحِيح وَأما الْقَادِر على التَّعَلُّم فَيجب عَلَيْهِ ذَلِك حَتَّى لَو كَانَ بِنَاحِيَة لَا يجد من يُعلمهُ فِيهَا لزمَه السّفر إِلَى مَوضِع يتَعَلَّم فِيهِ على الصَّحِيح لِأَن السّفر وَسِيلَة إِلَى وَاجِب وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب وَلَا تجوز التَّرْجَمَة فِي أول الْوَقْت لمن أمكنه التَّعَلُّم فِي آخِره فَلَو صلى بالترجمة من لَا يحسسن التَّعَلُّم بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَأما من قدر على التَّعَلُّم وَلَكِن ضَاقَ الْوَقْت عَن تعلمه لبلاده ذهنه أَو قلَّة مَا أدْركهُ من الْوَقْت فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ أَيْضا وَإِن أخر التَّعَلُّم مَعَ التَّمَكُّن وضاق الْوَقْت صلى بالترجمة لحُرْمَة الْوَقْت وَتجب الاعادة على الصَّحِيح الصَّوَاب لتَقْصِيره وَهُوَ آثم وَلَو كبر تَكْبِيرَات دخل بالأوتار فِي الصَّلَاة وَخرج مِنْهَا بالأشفاع لِأَن نِيَّة الِافْتِتَاح تَتَضَمَّن قطع الصَّلَاة وَلَو لم ينْو بِغَيْر الأولى الِافْتِتَاح وَلَا الْخُرُوج من الصَّلَاة صَحَّ دُخُوله بِالْأولَى وَبَاقِي التَّكْبِيرَات ذكر لَا تبطل الصَّلَاة والوسوسة عِنْد تَكْبِيرَة الاحرام من تلاعب الشَّيْطَان وَهِي تدل على خبل بِالْعقلِ أَو الْجَهْل فِي الدّين وَالله أعلم
(وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة وبسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة مِنْهَا)
من أَرْكَان الصَّلَاة قِرَاءَة الْفَاتِحَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب) وَفِي رِوَايَة
(لَا تجزيء صَلَاة لَا يقْرَأ الرجل فِيهَا بِفَاتِحَة الْكتاب) وَفِي رِوَايَة
(أم الْقُرْآن عوض عَن غَيرهَا وَلَيْسَ غَيرهَا مِنْهَا عوضا) وَورد فِي حَدِيث الْمُسِيء صلَاته أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(فَكبر ثمَّ اقْرَأ بِأم الْكتاب) وَهَذَا ظَاهر فِي دلَالَة الْوُجُوب قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة وبسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة كَامِلَة من أول الْفَاتِحَة بِلَا خلاف وَحجَّة ذَلِك أَن عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(عد(1/104)
الْفَاتِحَة سبع آيَات وعد الْبَسْمَلَة آيَة مِنْهَا) وَعَزاهُ الإِمَام وَالْغَزالِيّ إِلَى البُخَارِيّ وَلَيْسَ فِي صَحِيحه نعم ذكره فِي تَارِيخه وروى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا قَرَأْتُمْ الْحَمد فاقرءوا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِنَّهَا أم الْقُرْآن وَأم الْكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة مِنْهَا أَو قَالَ هِيَ إِحْدَى آياتها) وَعَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(عد الْبَسْمَلَة آيَة من الْفَاتِحَة) وَقَالَ أَبُو نصر الْمُؤَدب اتّفق قراء الْكُوفَة وفقهاء الْمَدِينَة على أَنَّهَا آيَة مِنْهَا فَإِن قلت فَفِي صَحِيح مُسلم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ يستفتح الصَّلَاة بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين) فَالْجَوَاب أَن المُرَاد قِرَاءَة السُّورَة الملقبة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قيل هَذَا خلاف الظَّاهِر فَالْجَوَاب تعْيين ذَلِك جمعا بَين الْأَدِلَّة
(فَائِدَة) هَل ثُبُوت الْبَسْمَلَة قُرْآنًا بِالْقطعِ أم بِالظَّنِّ قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب الْأَصَح أَن ثُبُوتهَا بِالظَّنِّ حَتَّى يَكْفِي فِيهَا أَخْبَار الْآحَاد لَا بِالْقطعِ وَلِهَذَا لَا يكفر نافيها باجماع الْمُسلمين قَالَ ابْن الرّفْعَة حكى العمراني أَن صَاحب الْفُرُوع قَالَ بتكفير جاحدها وتفسيق تاركها وَالله أعلم قلت قد حُكيَ الْمَاوَرْدِيّ والمحاملي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَجْهَيْن فِي الْبَسْمَلَة هَل هِيَ فِي الْفَاتِحَة قُرْآن على سَبِيل الْقطع كَسَائِر الْقُرْآن أم على سَبِيل الحكم وَمعنى الحكم أَن الصَّلَاة لَا تصح إِلَّا بهَا فِي أول الْفَاتِحَة قَالَ الْمَاوَرْدِيّ قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا هِيَ آيَة حكما لَا قطعا فعلى قَول الْجُمْهُور يقبل فِي إِثْبَاتهَا خبر الْوَاحِد كَسَائِر الْأَحْكَام وعَلى الآخر لَا يقبل كَسَائِر الْقُرْآن وَإِنَّمَا ثبتَتْ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر عَن الصَّحَابَة فِي إِثْبَاتهَا فِي الْمُصحف وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن الْقَادِر على قِرَاءَة الْفَاتِحَة يتَعَيَّن عَلَيْهِ قرَاءَتهَا فِي حَال الْقيام وَمَا يقوم مقَامه وَلَا يقوم غَيرهَا مقَامهَا لما مر من الْأَدِلَّة وَلَا يجوز ترجمتها عِنْد الْعَجز للإعجاز يَسْتَوِي فِي تَعْيِينهَا الامام وَالْمَأْمُوم وَالْمُنْفَرد فِي السّريَّة وَكَذَا فِي الجهرية وَفِي قَول لَا تجب على الْمَأْمُوم فِي الجهرية بِشَرْط أَن يكون يسمع الْقِرَاءَة فَلَو كَانَ أَصمّ أَو بَعيدا لَا يسمع الْقِرَاءَة لزمَه الرَّاجِح وَتجب قِرَاءَة الْفَاتِحَة بِجَمِيعِ حروفها وتشديداتها فَلَو أسقط حرفا أَو خفف مشدداً أَو بدل حرفا بِحرف سَوَاء فِي ذَلِك الضَّاد وَغَيره لم تصح قِرَاءَته وَلَا صلَاته وَلَو لحن لحنا بِغَيْر الْمَعْنى كضم تَاء أَنْعَمت أَو كسرهَا أَو كسر كَاف إياك لم يُجزئهُ وَتبطل صلَاته إِن تعمد وَتجب اعادة الْقِرَاءَة إِن لم يتَعَمَّد وَيجب تَرْتِيب قرَاءَتهَا فَلَو قدم مُؤَخرا إِن تعمد بطلت قِرَاءَته وَعَلِيهِ استئنافها وَإِن سَهَا لم يعْتد بالمؤخر وَيَبْنِي على الْمُرَتّب إِلَّا أَن يطول فيستأنف الْقِرَاءَة وَتجب الْمُوَالَاة بَين كَلِمَات الْفَاتِحَة فَإِن أخل بالموالاة نظر إِن سكت وطالت مُدَّة السُّكُوت بِأَن أشعر بِقطع الْقِرَاءَة أَو(1/105)
إعراضه عَنْهَا بطلت قِرَاءَته وَلَزِمَه استئنافها فَإِن قصرت مُدَّة السُّكُوت لم يُؤثر فَلَو قصد مَعَ السُّكُوت الْيَسِير قطع الْقِرَاءَة بطلت قِرَاءَته على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَلَو تخللها ذكر أَو قِرَاءَة آيَة أُخْرَى أَو إِجَابَة مُؤذن أَو فتح على غير الإِمَام يَعْنِي غلط شخص فِي الْقِرَاءَة فَرد عَلَيْهِ وَكَذَا لَو جمد لعطاس بطلت قِرَاءَته وَإِن كَانَ مل تخَلّل مَنْدُوبًا فِي صلَاته كتأمينه لقِرَاءَة إِمَامه وَفتح عَلَيْهِ وسؤاله الرَّحْمَة والتعوذ من الْعَذَاب عِنْد قِرَاءَته آيهما فَلَا تبطل قِرَاءَته على الْأَصَح هَذَا كُله فِي الْقَادِر على قِرَاءَة الْفَاتِحَة أما من لَا يحسن الْفَاتِحَة حفظا لزمَه تعلمهَا أَو قرَاءَتهَا من مصحف وَلَو بشرَاء أَو اجارة أَو اعارة وَيلْزمهُ تَحْصِيل الضَّوْء فِي الظلمَة وَكَذَا يلْزمه أَن يتلقنها من شخص وَهُوَ فِي الصَّلَاة وَلَا يجوز لَهُ ترك هَذِه الْأُمُور إِلَّا عِنْد التَّعَذُّر فَإِن عجز عَن ذَلِك إِمَّا لضيق الْوَقْت أَو بلادة ذهنه أَو عدم الْمعلم أَو الْمُصحف أَو غَيره قَرَأَ سبع آيَات وَلَا يترجم عَنْهَا وَلَا ينْتَقل إِلَى الذّكر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ للمسيء صلَاته
(فَإِن كَانَ مَعَك قُرْآن فاقرأ وَإِلَّا فاحمد الله تَعَالَى وَهَلله وَكبره) وَالْمعْنَى أَن الْقِرَاءَة بِالْقُرْآنِ أشبه وَاشْتِرَاط سبع آيَات لِأَنَّهَا بدل وَهل يشْتَرط أَن تكون الْآيَات الَّتِي بدل الْفَاتِحَة مُتَوَالِيَات فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا عِنْد الرَّافِعِيّ نعم لِأَن المتوالية أشبه بِالْفَاتِحَةِ وَالأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ وَهُوَ الْمَنْصُوص أَن يجوز المتفرقة مَعَ الْقُدْرَة على المتوالية كَمَا فِي قَضَاء رَمَضَان فَإِن عجز أَتَى بِذكر للْحَدِيث
(أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أتعلم الْقُرْآن فعلمني مَا يجزيني من الْقُرْآن فَقَالَ سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم) وَهل يشْتَرط أَن يَأْتِي بسبعة أَنْوَاع من الذّكر وَجْهَان قَالَ الرَّافِعِيّ أقربهما نعم وَلَا يجوز نقص حُرُوف الْبَدَل عَن حُرُوف الْفَاتِحَة سَوَاء كَانَ الْبَدَل قُرْآنًا أَو غَيره كالأصل وَلَو كَانَ يحسن آيَة من الْفَاتِحَة أَتَى بهَا ويبدل الْبَاقِي إِن أحسن وَإِلَّا كررها وَلَا بُد من مُرَاعَاة التَّرْتِيب فَإِن كَانَت الْآيَة من أول الْفَاتِحَة أَتَى بهَا أَولا ثمَّ أَتَى بِالْبَدَلِ وَإِن كَانَت من آخر الْفَاتِحَة أَتَى بِالْبَدَلِ ثمَّ بِالْآيَةِ فَإِن لم يحسن شَيْئا وقف بِقدر قِرَاءَة الْفَاتِحَة لِأَن قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَاجِبَة الْوُقُوف بِقَدرِهَا وَاجِب فَإِذا تعذر أَحدهمَا بَقِي الآخر وَمثله التَّشَهُّد الْأَخير قَالَ ابْن الرّفْعَة وَمثله التَّشَهُّد الأول والقنوت وَقَالَ فِي الاقليد وَلَا يقف وَقْفَة الْقُنُوت لِأَن قِيَامه مَشْرُوع لغيره وَيجْلس فِي التَّشَهُّد الأول لِأَن جُلُوسه مَقْصُود فِي نَفسه وَالله أعلم قَالَ
(وَالرُّكُوع والطمأنينة فِيهِ)
فَرِيضَة الرُّكُوع ثَابِتَة بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَوُجُوب الطُّمَأْنِينَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمسىء(1/106)
صلَاته
(ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا) وَأَقل الرُّكُوع أَن ينحني الْقَادِر المعتدل الْخلقَة حَتَّى تبلغ راحتاه رُكْبَتَيْهِ يَعْنِي لَو أَرَادَ ذَلِك بِدُونِ إِخْرَاج رُكْبَتَيْهِ أَو انخناس لبلغتا رُكْبَتَيْهِ لِأَن دون ذَلِك يُسمى رُكُوعًا حَقِيقَة وَلَو لم يقدر على الانحناء إِلَى هَذَا الْحَد الْمَذْكُور إِلَّا بِمعين لزمَه وَكَذَا يلْزم الِاعْتِمَاد على شَيْء فَإِن لم يقدر انحنى الْقدر الْمُمكن فَإِن عجز أَوْمَأ بطرفه من قيام هَذَا فِي الْقَائِم وَأما الْقَاعِد فَأَقل رُكُوعه أَن ينحني قدر مَا يُحَاذِي وَجهه مَا وَرَاء رُكْبَتَيْهِ من الأَرْض وَلَا يجزبه غير ذَلِك وأكمله أَن ينحني بِحَيْثُ تحاذي جَبهته مَوضِع سُجُوده ثمَّ أقل الطُّمَأْنِينَة أَن يصبر حَتَّى تَسْتَقِر أعضاؤه فِي هَيْئَة الرُّكُوع وينفصل هويه عَن رَفعه فَلَو وصل إِلَى حد الرُّكُوع وَزَاد فِي الْهَوِي ثمَّ ارْتَفع والحركات مُتَّصِلَة لم تحصل الطُّمَأْنِينَة وَيشْتَرط أَن يقْصد بهوية غير الرُّكُوع حَتَّى لَو هوى لسجود تِلَاوَة وَصَارَ فِي حد الرُّكُوع وَأَرَادَ جعله رُكُوعًا لَا يعْتد بذلك الْهَوِي لِأَنَّهُ صرفه عَن هوي الرُّكُوع إِلَى هوي سُجُود التِّلَاوَة وَاعْلَم أَن أكمل الرُّكُوع أَن ينحني بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهره وعنقه ويمدهما كالصفيحة وَينصب سَاقيه وَيَأْخُذ رُكْبَتَيْهِ بكفيه وَيفرق أَصَابِعه ويوجههما نَحْو الْقبْلَة جَاءَت السّنة بذلك قَالَ
(والإعتد الوالطمأنين فِيهِ)
الإعتدال ركن لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمسيء صلاتته
(ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تعتدل قَائِما) وَأما وجوب الطُّمَأْنِينَة فلحديث صَحِيح رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَابْن حَيَّان فِي صَحِيحه وَقِيَاسًا على الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ ثمَّ الِاعْتِدَال الْوَاجِب أَن يعود بعد رُكُوعه إِلَى الْهَيْئَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قبل الرُّكُوع سَوَاء صلاهَا قَائِما أَو قَاعِدا وَلَو رفع الرَّاكِع رَأسه ثمَّ سجد وَشك هَل أتم اعتداله وَجب أَن يعتدل قَائِما وَيُعِيد السُّجُود وَيجب أَن لَا يقْصد بِرَفْعِهِ غير الِاعْتِدَال فَلَو رأى فِي رُكُوعه حَيَّة فَرفع فَزعًا مِنْهَا لم يعْتد بِهِ السُّجُود وَيجب أَن لَا يقْصد بِرَفْعِهِ غير الِاعْتِدَال فَلَو رأى فِي رُكُوعه حَيَّة فَرفع فَزعًا مِنْهَا لم يعْتد بِهِ وَيجب أَن لَا لايطول الِاعْتِدَال فَإِن طوله عمدا فَفِي بطلَان صلَاته ثَلَاثَة أوجه أَصَحهَا عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَقطع بِهِ الْبَغَوِيّ تبطل إِلَّا مَا ورد الشَّرْع بتطويله فِي الْقُنُوت أَو صَلَاة التَّسْبِيح
وَالثَّانِي لَا تبطل مُطلقًا
وَالثَّالِث إِن طول بِذكر آخر لَا بِقصد الْقُنُوت لز تبطل وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيّ وَقَالَ إِنَّه الْأَرْجَح وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه الْأَقْوَى إِلَّا أَنه صحّح فِي أصل الْمِنْهَاج أَن تطويله مُبْطل فِي(1/107)
الْأَصَح فعلى مَا صَححهُ فِي الْمِنْهَاج حد التَّطْوِيل أَن يلْحق الِاعْتِدَال بِالْقيامِ فِي القرءة نَقله الْخَوَارِزْمِيّ عَن الْأَصْحَاب وَيلْحق الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ بالتشهد إِذا قُلْنَا إِنَّه قصير وَالله أعلم قَالَ
(وَالسُّجُود والطمأنينة فِيهِ)
السُّجُود ركن فِي الصَّلَاة بِالْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} وَأما الطُّمَأْنِينَة فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمسيء صلَاته
(ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا) ثمَّ أقل السُّجُود أَن يضع على الأَرْض من الْجَبْهَة مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم وَلَا بُد من تحامل فَلَا يَكْفِي الْوَضع حَتَّى تَسْتَقِر جَبهته فَلَو سجد على حشيش أَو شَيْء محشو وَجب أَن يتحامل حَتَّى ينكبس وَيظْهر أَثَره وَحجَّة ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا سجدت فمكن جبهتك من الأَرْض وَلَا تنقر نقرا) فَلَو سجد على جَبينه أَو أَنفه لم يكف أَو عمَامَته لم يكف أَو على شدّ على كَتفيهِ أَو على كمه لم يكف فِي كل ذَلِك إِن تحرّك بحركته فَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن حبَان
(شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فَلم يشكنا) وَفِي رِوَايَة
(فِي جباهنا وأكفنا) وَهل يجب وضع يَدَيْهِ وركبتيه وقدميه مَعَ جَبهته فِيهِ قَولَانِ الْأَظْهر عِنْد الرَّافِعِيّ لَا يجب ولأظهر عِنْد النَّوَوِيّ الْوُجُوب فعلى مَا صَححهُ النَّوَوِيّ الِاعْتِبَار بباطن الْكَفّ وَظهر الْأَصَابِع وَيشْتَرط فِي السُّجُود أَن ترْتَفع أسافله على أعاليه فِي الْأَصَح لِأَن الْبَراء بن عَازِب رفع عجيزته وَقَالَ
(هَكَذَا كَانَ يفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالثَّانِي تجوز الْمُسَاوَاة وَنَقله الرَّافِعِيّ فِي شرح الْمسند عَن نَص الشَّافِعِي وَلَو ارْتَفَعت الأعالي على الأسافل لم يجز جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَلَو تَعَذَّرَتْ هَيْئَة رفع الأسافل على الأعالي لعِلَّة فَهَل يجب وضع وسَادَة ليضع جَبهته عَلَيْهَا فِيهِ وَجْهَان الرَّاجِح فِي الشَّرْح الْكَبِير لَا يجب وَصحح فِي الشَّرْح الصَّغِير الْوُجُوب وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ على جَبهته جِرَاحَة وعصبها وَسجد على الْعِصَابَة أَجزَأَهُ وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ إِذا سَقَطت الْإِعَادَة مَعَ الْإِيمَاء بِالسُّجُود فَهُنَا أولى وَلَو عجز عَن السُّجُود لعِلَّة أَوْمَأ بِرَأْسِهِ فَإِن عجز فبطرفه وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَالله أعلم قَالَ
(وَالْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ والطمأنينة فِيهِ)(1/108)
من أَرْكَان الصَّلَاة الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمسيء صلَاته
(ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تعتدل جَالِسا) وَفِي رِوَايَة
(حَتَّى تطمئِن جَالِسا ثمَّ افْعَل ذَلِك فِي صَلَاتك كلهَا) وَقد ورد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا رفع رَأسه لم يسْجد حَتَّى يَسْتَوِي جَالِسا) وَالله أعلم قَالَ
(وَالْجُلُوس الْأَخير وَالتَّشَهُّد فِيهِ وَالصَّلَاة على النَّبِي فِيهِ)
الْقعُود الَّذِي يعقبه السَّلَام وَالتَّشَهُّد فِيهِ وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ كل وَاجِب وَالْمرَاد بالتشهد التَّحِيَّات وأقلها
(التَّحِيَّات لله سَلام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته سَلام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله) كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَقَالَ النَّوَوِيّ لَا يشْتَرط لفظ أشهد بل يَكْفِي وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله إِذا عرف هَذَا فالدليل على وجوب ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنَّا نقُول قبل أَن يفْرض علينا التَّشَهُّد السَّلَام على الله السَّلَام على فلَان فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قُولُوا التَّحِيَّات لله) إِلَى آخِره فَقَوله قبل أَن يفْرض وَقُولُوا ظاهران فِي الْوُجُوب وَفِي الصَّحِيحَيْنِ الْأَمر بِهِ وَإِذا ثَبت وجوب التَّشَهُّد وَجب الْقعُود لَهُ لِأَن كل من أوجب التَّشَهُّد أوجب الْقعُود لَهُ وَأما وجوب الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا رَوَاهُ كَعْب بن عجْرَة قَالَ خرج علينا النَّبِي
0 - (فَقُلْنَا قد عرفنَا كَيفَ نسلم عَلَيْك فَكيف نصلي عَلَيْك فَقَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد) إِلَى آخِره وَفِي رِوَايَة
(كَيفَ نصلي عَلَيْك إِذا صلينَا عَلَيْك فِي صَلَاتنَا فَقَالَ قُولُوا) إِلَى آخِره وَفِي رِوَايَة
(إِذا صلى أحدكُم فليبدأ بتحميد ربه والثنا عَلَيْهِ ثمَّ يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقد أَمر الله تَعَالَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وأجمعنا على أَنَّهَا لَا تجب خَارج الصَّلَاة فَتعين أَن تكون فِي الصَّلَاة كَذَا قَرَّرَهُ بَعضهم قلت فِي دَعْوَى الْإِجْمَاع نظر فَفِي الْمَسْأَلَة أَقْوَال مِنْهُم من أوجبهَا فِي الْعُمر مرّة وَمِنْهُم من أوجبهَا فِي كل مجْلِس مرّة وَمِنْهُم من أوجبهَا كلما ذكر وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيّ من أَصْحَابنَا وَمِنْهُم من أوجبهَا فِي أول كل دُعَاء وَفِي آخِره وَالله أعلم(1/109)
وَقَول السيخ وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤْخَذ مِنْهُ أَن الصَّلَاة على الْآل لَا تجب وَهُوَ كَذَلِك بل الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّهَا سنة وَالله أعلم وَاعْلَم أَن التَّحِيَّات جمع تَحِيَّة وَهِي الْملك وَقيل الْبَقَاء وَقيل الْحَيَاة وَإِنَّمَا جمعت لِأَن مُلُوك الأَرْض كَانَ كل وَاحِد مِنْهُم يحييه أَصْحَابه بِتَحِيَّة مَخْصُوصَة فَقيل جَمِيع تحياتهم لله وَهُوَ الْمُسْتَحق لذَلِك حَقِيقَة والبركات كَثْرَة الْخَيْر وَقيل النَّمَاء والصلوات هِيَ الصَّلَوَات الْمَعْرُوفَة وَقيل الدَّعْوَات والتضرع وَقيل الرَّحْمَة أَي لله تَعَالَى المتفضل بهَا والطيبات أَي الْكَلِمَات الطَّيِّبَات وَالله أعلم
(فرع) من عرف التَّشَهُّد وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعَرَبِيَّةِ لَا يجوز لَهُ أَن يعدل إِلَى ترجمتها كتكبيرة الْإِحْرَام فَإِن عجز ترجمتها وَالله أعلم قَالَ
(والتسليمة الأولى وَنِيَّة الْخُرُوج من الصَّلَاة)
من أَرْكَان الصَّلَاة التَّسْلِيم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم) وَيجب إِيقَاع التسليمة الأولى فِي حَال الْقعُود ثمَّ أَقَله السَّلَام عَلَيْكُم فَلَا يَجْزِي سَلام عَلَيْكُم وَلَا سلامي عَلَيْكُم وَلَا سَلام الله عَلَيْكُم وَلَا السَّلَام عَلَيْهِم قَالَ النَّوَوِيّ لِأَن الْأَحَادِيث قد صحت بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول السَّلَام عَلَيْكُم وَلم ينْقل عَنهُ خِلَافه فَلَو قَالَ شَيْئا من ذَلِك مُتَعَمدا بطلت صلَاته إِلَّا قَوْله سَلام عَلَيْهِم لِأَنَّهُ دُعَاء لَا كَلَام وَهل يجوز سَلام عَلَيْكُم بِالتَّنْوِينِ فِيهِ وَجْهَان الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ الْجَوَاز قِيَاسا على التَّشَهُّد لِأَن التَّنْوِين يقوم مقَام الْألف وَاللَّام وَقَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح الْمَنْصُوص لَا يَجْزِي لعدم وُرُوده هُنَا فَلَو لم ينون لم يجز بِاتِّفَاق الشَّيْخَيْنِ وَهل تجب نِيَّة الْخُرُوج من الصَّلَاة فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا تجب وَهُوَ اخْتِيَار الشَّيْخ لِأَن السَّلَام ذكر وَاجِب فِي أحد طرفِي الصَّلَاة فَتجب فِيهِ النِّيَّة كتكبيرة الْإِحْرَام وَلِأَن السَّلَام لفظ آدَمِيّ يُنَاقض الصَّلَاة فِي وَضعه فَلَا بُد فِيهِ من نِيَّة تميزه وأصحهما أَنَّهَا لَا تجب قِيَاسا على سَائِر الْعِبَادَات وَلَيْسَ السَّلَام كتكبيرة الْإِحْرَام لِأَن التَّكْبِير فعل تلِيق بِهِ النِّيَّة وَالسَّلَام ترك وَالله أعلم قَالَ
بَاب سنَن الصَّلَاة
(وسننها قبل الدُّخُول فِيهَا شَيْئَانِ الْأَذَان والاقامة) الْأَذَان فِي اللُّغَة الْإِعْلَام وَفِي الشَّرْع ذكر مَخْصُوص شرع للإعلام بِصَلَاة مَفْرُوضَة وَالْأَذَان(1/110)
وَالْإِقَامَة مشروعان بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {إِذا نُودي للصَّلَاة} والإخبار فِي ذَلِك كَثِيرَة مِنْهُمَا حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا حضرت الصَّلَاة فليؤذن لكم أحدكُم وليؤمكم أكبركم) وَفِي رِوَايَة
(فأذنا ثمَّ أقيما) وهما سنة على الصَّحِيح وَقيل فرض كِفَايَة وَقيل هما سنة فِي غير الْجُمُعَة وَفرض كِفَايَة فِيهَا وَقَضِيَّة كَلَام الشَّيْخ أَنَّهُمَا ليسَا بِسنة فِي غير الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة وَهُوَ كَذَلِك فَلَا يشرعان فِي الْمَنْذُورَة والجنازة وَلَا السّنَن وَإِن شرعت فِيهَا الْجَمَاعَة كالعيد والكسوف وَالِاسْتِسْقَاء والتراويح لعدم ورودهما فِي ذَلِك ثمَّ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة إِن كَانَت مَكْتُوبَة فِي جمَاعَة رجال فَلَا خلاف فِي اسْتِحْبَاب الْأَذَان لَهَا وَأما الْمُنْفَرد فِي الصَّحرَاء وَكَذَا فب الْبَلَد فَيُؤذن أَيْضا على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ لأبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ
(إِنِّي أَرَاك تحب الْبَادِيَة وَالْغنم فَإِذا كنت فِي باديتك أَو غنمك للصَّلَاة فارفع صَوْتك بالنداء فَإِنَّهُ لَا يسمع مدى صَوت الْمُؤَذّن جن وَلَا إنس وَلَا شَيْء إِلَّا شهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة) وَالْقَدِيم لَا يُؤذن لانْتِفَاء الْإِعْلَام وَيَنْبَغِي أَن يُؤذن وَيُقِيم قَائِما مُسْتَقْبل الْقبْلَة فَلَو تَركهمَا مَعَ الْقُدْرَة صَحَّ أَذَانه وإقامته على الْأَصَح لَكِن يكره إِلَّا إِذا كَانَ مُسَافِرًا فَلَا بَأْس بأذانه رَاكِبًا وأذان المضطجع كالقاعد إِلَّا أَنه أَشد كَرَاهَة وَلَا يقطع الْأَذَان بِكَلَام وَلَا غَيره فَلَو سلم عَلَيْهِ إِنْسَان أَو عطس لم يجبهُ حَتَّى يفرغ فَإِن أَجَابَهُ أَو تكلم لمصْلحَة لم يكره وَكَانَ تَارِكًا للمستحب نعم لَو رأى أعمى يخَاف وُقُوعه فِي بِئْر وَنَحْوه وَجب إنذاره وَيسْتَحب أَن يكون الْمُؤَذّن متطهرا فَإِن أذن وَأقَام وَهُوَ مُحدث أَو جنب كره وَيسْتَحب أَن يكون صيتًا وَحسن الصَّوْت وَأَن يُؤذن على مَوضِع عَال وَشرط الْأَذَان أَن يكون الْمُؤَذّن مُسلما عَاقِلا ذكرا وَهل الْأَذَان أفضل من الْإِمَامَة أم لَا فِيهِ خلاف الصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي أم الْإِمَامَة أفضل وَالأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ قَالَ وَهُوَ قَول أَكثر أَصْحَابنَا إِن الْأَذَان أفضل وَنَصّ الشَّافِعِي على كَرَاهَة الْإِمَامَة وَاعْلَم أَن الْأَذَان مُتَعَلق بِنَظَر الْمُؤَذّن لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى مُرَاجعَة الإِمَام وَأما الْإِقَامَة فتتعلق بِإِذن الْأَمَام وَالله أعلم قَالَ
(وَبعد الدُّخُول فِيهَا شَيْئَانِ التَّشَهُّد الأول والقنوت فِي الصُّبْح وَفِي الْوتر فِي النّصْف الْأَخير من شهر رَمَضَان)(1/111)
التَّشَهُّد الأول سنة فِي الصَّلَاة لما رَوَاهُ عبد الله بن بُحَيْنَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قَامَ فِي صَلَاة الظّهْر وَعَلِيهِ جُلُوس فَلَمَّا أتم صلَاته سجد سَجْدَتَيْنِ) وَلَو كَانَ وَاجِبا لما تَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما مشروعيته فالإجماع مُنْعَقد بعد السّنة الشَّرِيفَة على ذَلِك وَكَيف قعد جَازَ بِلَا خلاف بِالْإِجْمَاع لَكِن الإفتراش أفضل فيجلس على الكعب يسراه وَينصب يمناه وَيَضَع أَطْرَاف أَصَابِعه الْيُمْنَى للْقبْلَة وَأما الْقُنُوت فَيُسْتَحَب فِي اعْتِدَال الثَّانِيَة فِي الصُّبْح لما رَوَاهُ أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(مَا زَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت فِي الصُّبْح حَتَّى فَارق الدُّنْيَا) وَكَون الْقُنُوت فِي الثَّانِيَة رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَكَونه بعد رفع الرَّأْس من الرُّكُوع فَلَمَّا ورد عَن بِي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لما قنت فِي قصَّة قَتْلَى بِئْر مَعُونَة قنت بعد الرُّكُوع فقسنا عَلَيْهِ قنوت الصُّبْح) نعم فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ يقنت قبل الرّفْع من الرُّكُوع) قَالَ الْبَيْهَقِيّ لَكِن رُوَاة الْقُنُوت بعد الرّفْع أَكثر وأحفظ فَهَذَا أولى فَلَو قنت قبل الرُّكُوع قَالَ فِي الرَّوْضَة لم يُجزئهُ على الصَّحِيح وَيسْجد للسَّهْو على الْأَصَح وَلَفظ الْقُنُوت
(اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت وَعَافنِي فِيمَن عافيت وتولني فِيمَن توليت وَبَارك لي فِيمَا أَعْطَيْت وقني شَرّ مَا قضيت فَإنَّك تقضي وَلَا يقْضى عَلَيْك وَإنَّهُ لَا يذل من واليت تَبَارَكت رَبنَا وَتَعَالَيْت) قَالَ الرَّافِعِيّ وَزَاد الْعلمَاء وَلَا يعز من عاديت قبل تَبَارَكت رَبنَا وَتَعَالَيْت وَقد جَاءَت فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ وَبعده فلك الْحَمد على مَا قضيت أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك وَاعْلَم أَن الصَّحِيح أَن هَذَا الدُّعَاء لَا يتَعَيَّن حَتَّى لَو قنت بِآيَة تَتَضَمَّن دُعَاء وَقصد الْقُنُوت تأدت السّنة بذلك ويقنت الإِمَام بِلَفْظ الْجمع بل يكره تَخْصِيص نَفسه بِالدُّعَاءِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يؤم عبد قوما فيخص نَفسه بدعوة دونهم فَإِن فعل فقد خَانَهُمْ) ثمَّ سَائِر الْأَدْعِيَة فِي حق الإِمَام كَذَلِك أَي يكره لَهُ إِفْرَاد نَفسه صرح بِهِ الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الْأَذْكَار للنووي وَالسّنة أَن يرفع يَدَيْهِ وَلَا يمسح وَجهه لِأَنَّهُ لم يثبت قَالَه الْبَيْهَقِيّ وَلَا يسْتَحبّ مسح الصَّدْر بِلَا خلاف بل نَص جمَاعَة على كَرَاهَته قَالَه فِي الرَّوْضَة وَيسْتَحب الْقُنُوت فِي آخر وتره فِي النّصْف الثَّانِي من رَمَضَان كَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَأَبُو دَاوُد عَن أبي بن كَعْب وَقيل يقنت كل السّنة فِي الْوتر قَالَه النَّوَوِيّ فِي التَّحْقِيق فَقَالَ إِنَّه مُسْتَحبّ فِي جَمِيع السنه وَقيل يقنت فِي جَمِيع(1/112)
رَمَضَان وَيسْتَحب فِيهِ قنوت عمر رَضِي الله عَنهُ وَيكون قبل قنوت الصُّبْح قَالَه الرَّافِعِيّ وَقَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح بعده لِأَن قنوت الصُّبْح ثَابت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْوتر فَكَانَ تَقْدِيمه أولى وَالله أعلم قَالَ
بَاب هيئات الصَّلَاة
(وهيئاتها خَمْسَة عشر شَيْئا رفع الْيَدَيْنِ عِنْد تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَعند الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ)
رفع الْيَدَيْنِ سنة فِيمَا ذكره الشَّيْخ لِأَنَّهُ صَحَّ عَن فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَوَاء فِي ذَلِك من صلى قَائِما أَو قَاعِدا أَو مُضْطَجعا وَسَوَاء فِي ذَلِك الْفَرْض وَالنَّفْل وَسَوَاء فِي ذَلِك الرجل وَالْمَرْأَة وَسَوَاء فِي ذَلِك الإِمَام وَالْمَأْمُوم وَكَيْفِيَّة الرّفْع أَن يرفعهما بِحَيْثُ يُحَاذِي أَطْرَاف أَصَابِعه أَعلَى أُذُنَيْهِ وإبهامهاه شحمتي أُذُنَيْهِ وَكَفاهُ مَنْكِبَيْه وَهَذَا معنى قَول الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب يرفعهما حَذْو مَنْكِبَيْه وَحجَّة ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام
(كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه إِذا افْتتح الصَّلَاة) وَكَذَا يسْتَحبّ رفع يَدَيْهِ إِذا قَامَ من التَّشَهُّد الأول وَلَو كَانَ بكفيه عِلّة رفع الْمُمكن أَو كَانَ أقطع رفع الساعد وَيسْتَحب أَن يكون كَفه إِلَى الْقبْلَة وَيسْتَحب كشف الْيَدَيْنِ وَنشر الْأَصَابِع وَالله أعلم قَالَ
(وَوضع الْيَمين على الشمَال والتوجه والاستعاذة)
يسْتَحبّ أَن يضع كَفه الْيَمين على الْيُسْرَى وَيقبض بكف الْيُمْنَى كوع الْيُسْرَى ثَبت ذَلِك عَن فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيكون الْقَبْض على رسغ الْكَفّ وَأول ساعد الْيُسْرَى وَقَالَ الْقفال هُوَ بِالْخِيَارِ بَين بسط أَصَابِع الْيُمْنَى فِي عرض الْمفصل وَبَين نشرها فِي صوب الساعد وَيسْتَحب جَعلهمَا تَحت صَدره رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه وَقيل يجعلهما تَحت السُّرَّة وَقَالَ ابْن الْمُنْذر هما سَوَاء لِأَنَّهُ لم يثبت فِيهِ حَدِيث وَلَو أرسل يَدَيْهِ وَلم يقبض كره ذَلِك قَالَه الْبَغَوِيّ وَقَالَ الْمُتَوَلِي إِنَّه ظَاهر الْمَذْهَب لَكِن نقل ابْن الصّباغ عَن الشَّافِعِي أَنه إِن أرسلهما وَلم يعبث فَلَا يأس وَعلله الشَّافِعِي بِأَن الْمَقْصُود تسكين يَدَيْهِ بل نقل الطَّبَرِيّ قولا أَنه يسْتَحبّ وَالله أعلم وَيسْتَحب أَن يَقُول عقب تَكْبِيرَة الْإِحْرَام
(وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا مُسلما وَمَا أَنا من الْمُشْركين إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين) رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(كَانَ إِذا استفتح الصَّلَاة كبر ثمَّ(1/113)
قَالَ وجهت وَجْهي) إِلَى آخِره وَمعنى وجهت وَجْهي قصدت بعبادتي وَقيل أَقبلت بوجهي وحنيفاً يُطلق على المائل والمستقيم فعلى الأول يكن مَعْنَاهُ مائلاً إِلَى الْحق والنسك الْعِبَادَة وَلَو ترك دُعَاء الاقتتاح وتعوذ لم يعد إِلَيْهِ سَوَاء تعمد أَو نسي لفَوَات مَحَله وَلَو أدْرك الْمَسْبُوق الإِمَام فِي التَّشَهُّد الْأَخير فَسلم عقب تحرمه نظر إِن لم يقْعد استفتح وَإِن قعد فَسلم الإِمَام فَلَا يَأْتِي بِهِ لفَوَات مَحَله وَلَو أَنه بِمُجَرَّد مَا أحرم فرغ الإِمَام من الْفَاتِحَة فَقَالَ آمين أَتَى بِدُعَاء الاقتتاح لِأَن التَّأْمِين يسير لَا يقوم مقَامه نَقله فِي الرَّوْضَة عَن الْبَغَوِيّ وَأقرهُ قلت وَجزم بِهِ شيخ الْبَغَوِيّ القَاضِي حُسَيْن وَالله أعلم وَيسْتَحب أَيْضا التَّعَوُّذ لقَوْل تَعَالَى {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم} أَي إِذا أردْت الْقِرَاءَة وَعَن جُبَير بن مطعم رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ إِذا افْتتح الصَّلَاة قَالَ الله أكبر كَبِيرا وَالْحَمْد لله كثيرا وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا ثَلَاثًا اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الشَّيْطَان الرَّجِيم من همزه ونفخه ونفثه) وهمزه هُوَ الْجُنُون ونفخة الْكبر ونفثة الشّعْر وَكَذَا ورد تَفْسِيره فِي الحَدِيث قَالَ الشَّافِعِي وَتحصل الِاسْتِعَاذَة بِكُل لفظ يشْتَمل عَلَيْهَا والأحب أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَقيل أعوذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَيسْتَحب التَّعَوُّذ لكل رَكْعَة لوُقُوع الْفَصْل بَين الْقِرَاءَتَيْن بِالرُّكُوعِ وَغَيره وَقيل يخْتَص بالركعة الأولى قَالَ
(والجهر فِي مَوْضِعه والاسرار فِي مَوْضِعه والتأمين)
الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْح والأولتين من الْمغرب وَالْعشَاء مُسْتَحبّ للْإِمَام بِالْإِجْمَاع الْمُسْتَفَاد من نقل الْخلف عَن السّلف وَأما الْمُنْفَرد فَيُسْتَحَب لَهُ أَيْضا لِأَنَّهُ غير مَأْمُور بالإنصات فَأشبه الإِمَام وَيسن الْجَهْر بالبسملة فِيمَا يجْهر فِيهِ لِأَنَّهُ صَحَّ من رِوَايَة عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ يجْهر بهَا فِي الْحَاضِرَة) فَلَو صلى فَائِتَة فَإِن قضى فَائِتَة اللَّيْل بِاللَّيْلِ جهر وَإِن قضى فَائِتَة النَّهَار بِالنَّهَارِ أسر وَإِن قضى فَائِتَة النَّهَار بِاللَّيْلِ أَو بِالْعَكْسِ فأوجه الْأَصَح أَن الِاعْتِبَار بِوَقْت الْقَضَاء فيسر فِي الْعشَاء نَهَارا ويجهر فِي الظّهْر لَيْلًا وَلَا يسْتَحبّ فِي الصَّلَاة الجهرية الْجَهْر بِدُعَاء الاستفتاح قطعا وَفِي التَّعَوُّذ خلاف الْمَذْهَب أَنه(1/114)
لَا يجْهر كدعاء الاستفتاح وَيسْتَحب عقب الْفَاتِحَة لَفْظَة آمين خَفِيفَة لقَوْل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا قَالَ الإِمَام غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين فَقولُوا آمين فَإِنَّهُ من وَافق قَوْله قَول الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) وَمعنى آمين استجب ثمَّ إِن التَّأْمِين يُؤْتى بِهِ سرا فِي الصَّلَاة السّريَّة وَأما فِي الجهرية فيجهر بِهِ الإِمَام وَالْمُنْفَرد فَفِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا فرغ من أم الْقُرْآن رفع صَوته وَقَالَ آمين) وَفِي الْمَأْمُوم طرق الرَّاجِح أَنه يجْهر قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأُم أخبرنَا مُسلم بن خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ كنت أسمع الْأَئِمَّة ابْن الزبير وَمن بعده يَقُولُونَ آمين وَمن خَلفهم يَقُولُونَ آمين حَتَّى إِن لِلْمَسْجِدِ للجة وَذكر البُخَارِيّ ذَلِك عَن ابْن الزبير تَعْلِيقا وَقد مر أَن تعليقات البُخَارِيّ بِصِيغَة الْجَزْم هَكَذَا تكون صَحِيحَة عِنْده وَعند غَيره واللجة اخْتِلَاف الْأَصْوَات وَالله أعلم قَالَ
(وَقِرَاءَة سُورَة بعد سُورَة الْفَاتِحَة)
يسن للْإِمَام وَالْمُنْفَرد قِرَاءَة شَيْء من الْقُرْآن الْعَظِيم بعد قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي صَلَاة الصُّبْح وَفِي الأولتين من سَائِر الصَّلَوَات وَالْأَصْل فِي مَشْرُوعِيَّة ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ يقْرَأ فِي الظّهْر فِي الأولتين بِأم الْقُرْآن وسورتين وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بِأم الْكتاب ويسمعنا الْآيَة أَحْيَانًا وَيطول فِي الرَّكْعَة الأولى مَا لَا يطول فِي الثَّانِيَة وَكَذَا فِي الْعَصْر) وَاعْلَم أَنه يحصل الِاسْتِحْبَاب بِأَيّ شَيْء قَرَأَ لَكِن السُّورَة الْكَامِلَة وَإِن قصرت أحب من بعض السُّورَة وَإِن طَالَتْ صرح بِهِ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير وَالَّذِي قَالَه النَّوَوِيّ إِن ذَلِك عِنْد التَّسَاوِي أما بعض السُّورَة الطَّوِيلَة إِذا كَانَ أطول من القصيرة فَهُوَ أولى ذكره فِي شرح الْمُهَذّب وَغَيره قلت قَول الرَّافِعِيّ أفقه إِلَّا أَن يكون الطَّوِيلَة قد اشْتَمَل على معَان تَامَّة الِابْتِدَاء والانتهاء وَالْمعْنَى فَلَا شكّ حِينَئِذٍ فِي تَفْضِيل ذَلِك على السُّورَة القصيرة وَالله أعلم وَلَا يسْتَحبّ السُّورَة فِي الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة على الرَّاجِح إِلَّا أَن يكون مَسْبُوقا فَيَقْرَؤُهَا فيهمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَأما الْمَأْمُوم الَّذِي لم يسْبق فَيُسْتَحَب لَهُ الْإِنْصَات لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} الْآيَة وَجَاء فِي الحَدِيث النَّهْي عَن قِرَاءَة الْمَأْمُوم وَقَالَ
(لَا تَفعلُوا إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب)(1/115)
وَهَذَا إِذا كَانَت الصَّلَاة جهرية وَكَانَ الْمَأْمُوم يسمع إِمَّا إِذا لم يسمع لصمم أَو بعد أَو كَانَت الصَّلَاة سَرِيَّة أَو أسر الإِمَام بالجهرية فَإِنَّهُ يقْرَأ فِي ذَلِك لانْتِفَاء الْمَعْنى نعم الْجنب إِذا فقد الطهُورَيْنِ لَا يجوز لَهُ قِرَاءَة السُّورَة وَقَوله بعد سُورَة الْفَاتِحَة يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لَو قَرَأَ السُّورَة قبل الْفَاتِحَة لَا تحصل السّنة وَهُوَ كَذَلِك على الْمَذْهَب وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي يجوز فِيهَا الْهَمْز وَتَركه وَالله أعلم قَالَ
(والتكبيرات عِنْد الْخَفْض وَالرَّفْع وَقَوله سمع الله لمن حَمده رَبنَا لَك الْحَمد وَالتَّسْبِيح فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود)
الأَصْل فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة يكبر حِين يقوم وَيكبر حِين يرْكَع ثمَّ يَقُول سمع الله لمن حَمده حِين يرفع صلبه من الرُّكُوع وَيَقُول وَهُوَ قَائِم رَبنَا لَك الْحَمد ثمَّ يكبر حِين يهوي للسُّجُود ثمَّ يكبر حِين يرفع رَأسه يفعل ذَلِك فِي صلَاته كلهَا وَكَانَ يكبر حِين يقوم لإثنتين من الْجُلُوس) وَسمع الله لمن حَمده ذكر الرّفْع وربنا لَك الْحَمد ذكر الِاعْتِدَال وَقَوله رَبنَا لَك الْحَمد جَاءَ فِي الصَّحِيح هَكَذَا بِلَا وَاو وَمعنى سمع الله لمن حَمده أَي تقبله مِنْهُ وجازاه عَلَيْهِ وَأما التَّسْبِيح فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود فقد ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لما نزل قَوْله تَعَالَى {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} قَالَ
(اجهلوها فِي ركوعكم) وَلما نزل {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} قَالَ
(اجْعَلُوهَا فِي سُجُودكُمْ) وروى مُسلم من حَدِيث حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يَقُول ذَلِك وَيسْتَحب أَن يَقُول ذَلِك ثَلَاثًا وَقد جَاءَ فِي حَدِيث حُذَيْفَة وَفِيه أَحَادِيث وَهُوَ أدنى الْكَمَال وأكمله من تسع تسبيحات إِلَى إِحْدَى عشرَة تَسْبِيحَة قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَفِي الإفصاح يسبح فِي الأولتين إِحْدَى عشرَة تَسْبِيحَة وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ سبعا سبعا وَهل يسْتَحبّ أَن يضيف وَبِحَمْدِهِ قَالَ الرَّافِعِيّ استحبه بَعضهم قَالَ النَّوَوِيّ استحبه الْأَكْثَرُونَ وَجزم بِهِ فِي التَّحْقِيق وَالله أعلم قَالَ
(وَوضع الْيَدَيْنِ على الفخذين فِي الْجُلُوس يبسط الْيُسْرَى وَيقبض الْيُمْنَى إِلَّا المسبحة فَإِنَّهُ يُشِير بهَا متشهداً)(1/116)
فِي الْجُلُوس الأول وَالثَّانِي يسْتَحبّ للْمُصَلِّي أَن يضع يَده فيهمَا على فَخذيهِ ويبسط الْيُسْرَى بِحَيْثُ يسامت رؤوسها الرّكْبَة وَيقبض من الْيُمْنَى الْخِنْصر والبنصر وَالْوُسْطَى والإبهام وَيُرْسل المسبحة رَوَاهُ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسميت المسبحة لِأَنَّهَا تنزه الرب سُبْحَانَهُ إِذْ التَّسْبِيح التَّنْزِيه ويرفعها عِنْد قَوْله إِلَّا الله لِأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى التَّوْحِيد فَيجمع فِي ذَلِك بَين القَوْل وَالْفِعْل وَيسْتَحب أَن يميلها قَلِيلا عِنْد رَفعهَا وَفِيه حَدِيث رَوَاهُ ابْن حَيَّان رَضِي الله عَنهُ وَصَححهُ وَلَا يحركها لعدم وُرُوده وَقيل يسْتَحبّ تحريكها وَفِيهِمَا حديثان صَحِيحَانِ قَالَه الْبَيْهَقِيّ وَفِي وَجه أَنه حرَام مُبْطل للصَّلَاة حَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَالله أعلم قَالَ
(والافتراش فِي جَمِيع الجلسات والتورك فِي الجلسة الْأَخِيرَة والتسليمة الثَّانِيَة)
اعْلَم أَنه لَا يتَعَيَّن فِي الصَّلَاة جُلُوس بل كَيفَ قعد الْمُصَلِّي جَازَ وَهَذَا إِجْمَاع سَوَاء فِي ذَلِك جلْسَة الاسْتِرَاحَة وَالْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ وَالْجُلُوس لمتابعة الإِمَام نعم يسن فِي غير الْأَخير جُلُوس التَّشَهُّد الأول الافتراش فيجلس على كَعْب يسراه بعد فرشها وَينصب رجله الْيُمْنَى وَيجْعَل أَطْرَاف أصابعها للْقبْلَة وَفِي الْأَخير التورك وَهُوَ مثل الافتراش إِلَّا أَنه يُفْضِي بوركه إِلَى الأَرْض وَيجْعَل يسراه من جِهَة يمناه وَهَذِه الْكَيْفِيَّة قد ثبتَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَوجه الْفرق بَين الْجُلُوس الْأَخير وَغَيره أَن الْجُلُوس الأول خَفِيف وللمصلي بعده حَرَكَة فَنَاسَبَ أَن يكون على هَيْئَة المستوفز بِخِلَاف الْأَخير فَلَيْسَ بعده عمل فَنَاسَبَ أَن يكون على هَيْئَة المستقر وَاعْلَم أَن الْمَسْبُوق يجلس مفترشاً وَكَذَا الساهي لِأَن بعد جلوسهما حَرَكَة وتستحب التسليمة الثَّانِيَة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(كَانَ يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره) ورد من رِوَايَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا تخَالف فِيهِ الْمَرْأَة الرجل
(فصل وَالْمَرْأَة تخَالف الرجل فِي أَرْبَعَة أَشْيَاء فالرجل يُجَافِي مرفقيه عَن جَنْبَيْهِ ويقل بَطْنه عَن فَخذيهِ فِي السُّجُود وَالرُّكُوع ويجهر فِي مَوضِع الْجَهْر وَإِذا نابه شَيْء فِي صلَاته سبح)
يسْتَحبّ للراكع أَولا أَن يمد ظَهره وعنقة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يمد ظَهره وعنقه حَتَّى لَو صب على ظَهره مَاء لركد قَالَ الشَّافِعِي وَيجْعَل رَأسه وعنقه حِيَال ظَهره محدودباً وَيسْتَحب(1/117)
نصب سَاقيه وَيكرهُ أَن يطأطىء رَأس لِأَنَّهُ دلح كدلح الْحمار كَمَا ورد فِي الْخَبَر الْمنْهِي عَنهُ وَيسْتَحب أَن يُجَافِي مرفقيه عَن جَنْبَيْهِ لِأَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا رَوَت أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يَفْعَله وَالْمَرْأَة تضم بَعْضهَا إِلَى بعض لِأَنَّهُ أستر لَهَا وَالْمُسْتَحب للرجل أَن يباعد مرفقيه عَن جَنْبَيْهِ فِي سُجُوده فَفِي الصَّحِيحَيْنِ
(أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ إِذا سجد فرج بَين يَدي حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ) وَيسْتَحب أَيْضا أَن يقل بَطْنه عَن فَخذيهِ لما رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(كَانَ إِذا سجد فرج) وَفِي رِوَايَة
(كَانَ إِذا سجد لَو أَرَادَت بَهِيمَة لنفذت) والبهيمة الْأُنْثَى من صغَار الْمعز وَالْمَرْأَة تضم بَعْضهَا إِلَى بعض لِأَنَّهُ أستر لَهَا وَأما الْجَهْر فقد مر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرجل وَأما الْمَرْأَة إِذا أمت أوصلت مُنْفَرِدَة فَإِنَّهَا تجْهر إِن لم يكن بِحَضْرَة الرِّجَال الْأَجَانِب لَكِن دون جهر الرجل وتسر إِن كَانَ هُنَاكَ أجانب وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن السّنة أَن تخْفض صَوتهَا سَوَاء قُلْنَا صَوتهَا عَورَة أم لَا فَإِن جهرت وَقُلْنَا إِن صَوتهَا عَورَة بطلت صلَاتهَا وَالرجل إِذا نابه شَيْء فِي صلَاته كتنبيه إِمَامه وإنذاره أعمى وَنَحْوه كغافل وَكَمن قَصده ظَالِم أَو سبع وَنَحْو ذَلِك يسْتَحبّ لَهُ أَن يسبح وَالْمَرْأَة تصفق لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من نابه شَيْء فِي صلَاته فليسبح فَإِنَّهُ إِذا سبح الْتفت إِلَيْهِ وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء) وَفِي رِوَايَة
(من نابه شَيْء فِي صلَاته فَلْيقل سُبْحَانَ الله) وَإِذا سبح فَيَنْبَغِي لَهُ قصد الذّكر والإعلام
(فَائِدَة) التَّسْبِيح والتصفيق تبع للمنبه عَلَيْهِ إِن كَانَ التَّنْبِيه قربَة فالتسبيح والتصفيق قربتان وَإِن كَانَ مُبَاحا فمباحان وَلَو صفق الرجل وسبحت الْمَرْأَة لم يضر وَلكنه خلاف السّنة وَفِي وَجه أَن تصفيق الرجل يضر وَلَو تكَرر تصفيق الْمَرْأَة لم يضر بِلَا خلاف قَالَه ابْن الرّفْعَة وَفِي كَيْفيَّة تصفيق الْمَرْأَة أوجه الصَّحِيح أَنَّهَا تضرب بطن كفها الْأَيْمن على ظهر الْأَيْسَر فَلَو ضربت بطن كفها على بطن الآخر على وَجه اللّعب عَالِمَة بِالتَّحْرِيمِ بطلت صلَاتهَا وَإِن قل قَالَه الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وَالله أعلم قَالَ
(وعورة الرجل مَا بَين سرته وركبته)(1/118)
أَي حرا كَانَ أَو عبدا مُسلما كَانَ أَو ذِمِّيا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجرهد وَهُوَ بجيم وهاء مفتوحين ودال مُهْملَة
(غط فخذك فَإِن الْفَخْذ عَورَة) وَقَوله مَا بَين سرته وركبته يُؤْخَذ مِنْهُ أَن السُّرَّة وَالركبَة ليستا من الْعَوْرَة وَهُوَ كَذَلِك على الصَّحِيح الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَأما الْحرَّة فعورتها فِي الصَّلَاة جَمِيع بدنهَا إِلَّا الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ ظهرا وبطناً إِلَى الكوعين لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم هُوَ الْوَجْه والكفان وَلِأَنَّهُمَا لَو كَانَا من الْعَوْرَة لما كشفتهما فِي حَال الْإِحْرَام وَقَالَ الْمُزنِيّ القدمان ليسَا من الْعَوْرَة مُطلقًا وَأما الْأمة فَفِيهَا وَجْهَان الْأَصَح أَنَّهَا كَالرّجلِ سَوَاء كَانَت قنة أَو مُسْتَوْلدَة أَو مُكَاتبَة أَو مُدبرَة لِأَن رَأسهَا لَيْسَ بِعَوْرَة بِالْإِجْمَاع فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ ضرب أمة لآل أنس رَآهَا قد سترت رَأسهَا فَقَالَ لَهَا تتشبهين بالحرائر وَمن لَا يكون رَأسه عَورَة تكون عَوْرَته مَا بَين سرته وركبته كَالرّجلِ وَقيل مَا يَبْدُو مِنْهَا فِي حَال الْخدمَة لَيْسَ بِعَوْرَة وَهُوَ الرَّأْس والرقبة والساعد وطرف السَّاق لَيْسَ بِعَوْرَة لِأَنَّهَا محتاجة إِلَى كشفه ويعسر عَلَيْهَا ستره وَمَا عدا ذَلِك عَورَة وَالله أعلم قَالَ
بَاب مبطلات الصَّلَاة
(فصل وَالَّذِي تبطل بِهِ الصَّلَاة أحد عشر شَيْئا الْكَلَام الْعمد وَالْعَمَل الْكثير) إِذا تكلم الْمُصَلِّي عَامِدًا بِمَا يصلح لخطاب الْآدَمِيّين بطلت صلَاته سَوَاء كَانَ يتَعَلَّق بمصلحة الصَّلَاة أَو غَيرهَا وَلَو كلمة لما رُوِيَ عَن زيد بن أَرقم رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنَّا نتكلم فِي الصَّلَاة حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} فَأمرنَا بِالسُّكُوتِ ونهينا عَن الْكَلَام وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لمعاوية بن الحكم السّلمِيّ وَقد شمت عاطساً فِي الصَّلَاة
(إِن هَذِه الصَّلَاة لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) وَقَوله عمدا احْتَرز بِهِ عَن النسْيَان وَفِي مَعْنَاهُ الْجَاهِل بِالتَّحْرِيمِ لقرب عَهده بِالْإِسْلَامِ وَفِي مَعْنَاهُ من بدره الْكَلَام بِلَا قصد وَلم يطلّ وَكَذَا غَلبه الضحك لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(رفع عَن أمتِي الْخَطَأ(1/119)
وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ) نعم لَو أكره على الْكَلَام بطلت صلَاته على الْأَصَح لِأَنَّهُ نَادِر وَلِهَذَا تَتِمَّة مهمة ذَكرنَاهَا فِي شُرُوط الصَّلَاة وَأما الْعَمَل الْكثير كالخطوات الثَّلَاث المتواليات وَكَذَا الضربات تبطل الصَّلَاة وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الْعمد وَالنِّسْيَان كَمَا أطلقهُ الشَّيْخ وَالْأَصْل فِي ذَلِك الْإِجْمَاع لِأَن الْعَمَل الْكثير يُغير نظمها وَيذْهب الْخُشُوع وَهُوَ مقصودها وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَن الْعَمَل الْقَلِيل لَا يبطل وَوَجهه بِأَن الْقَلِيل فيمحل الْحَاجة وَأَيْضًا فَلِأَن مُلَازمَة حَالَة مِمَّا يسعر بِخِلَاف الْكَلَام فَإِنَّهُ لَا يعسر فَلهَذَا بطلت بِالْكَلِمَةِ دون الخطوة وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مس الحصي
(إِن كنت فَاعِلا فَمرَّة وَاحِدَة) وَأمر بِدفع الْمَار وبقتل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب وأدار ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من يسَاره الى يَمِينه وغمز رجل فِي السُّجُود وَأَشَارَ لجَابِر رَضِي الله عَنهُ وكل ذَلِك فِي الصَّحِيح وَلِهَذَا تَتِمَّة مرت فِي شُرُوط الصَّلَاة قَالَ
(وَالْحَدَث) الْحَدث فِي الصَّلَاة يُبْطِلهَا عمدا كَانَ أَو سَهوا وَسَوَاء سبقه أم لَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وَإِذا فسا أحدكُم فِي صلَاته فلينصرف فَليَتَوَضَّأ وليعد صلَاته) وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على ذَلِك فِي غير صُورَة السَّبق وَلِهَذَا تَتِمَّة مرت فِي شُرُوط الصَّلَاة قَالَ
(وحدوث النَّجَاسَة وانكشاف الْعَوْرَة) إِذا تعمد إِصَابَة النَّجَاسَة الَّتِي غير مَعْفُو عَنْهَا بطلت صلَاته كَمَا لَو تعمد الْحَدث وَأما المعفو عَنْهَا مثل أم قتل قملة وَنَحْوهَا فَلَا تبطل لِأَن دَمهَا مَعْفُو عَنهُ كَذَا قَالَه الْبَنْدَنِيجِيّ وَإِن وَقعت عَلَيْهِ نَجَاسَة نظر إِن نحاها فِي الْحَال بِأَن نفضها لَو تبطل لتعذر الِاحْتِرَاز عَن ذَلِك مَعَ أَنه لَا تَقْصِير مِنْهُ وَفَارَقت هَذِه الصُّورَة الْخَاصَّة سبق الْحَدث لِأَن زمن الطَّهَارَة يطول وَأما انكشاف الْعَوْرَة فَإِن كشفها عمدا بطلت صلَاته وَإِن أَعَادَهَا فِي الْحَال لِأَن السّتْر شَرط وَقد أزاله بِفِعْلِهِ فَأشبه لَو أحدث وَإِن كشفها الرّيح فاستتر فِي الْحَال فَلَا تبطل وَكَذَا لَو انحل الْإِزَار أَو تكة اللبَاس فَأَعَادَهُ عَن قرب فَلَا تبطل كَمَا ذكرنَا فِي النَّجَاسَة قَالَ الإِمَام وحد الطول مكث محسوس وَالله أعلم قَالَ(1/120)
(وتغيير النِّيَّة) فِيهِ مسَائِل
الأولى إِذا قطع النِّيَّة مثل إِن نوى الْخُرُوج من الصَّلَاة بطلت بِلَا خلاف لِأَن من شَرط النِّيَّة بقاءها وَقد زَالَت وَهَذَا بِخِلَاف مَا لَو نوى الْخُرُوج من الصَّوْم حَيْثُ لَا يبطل على الْأَصَح وَالْفرق أَن الصَّوْم إمْسَاك فَهُوَ من بَاب التروك فَلم تُؤثر النِّيَّة فِي إِبْطَاله بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِنَّهَا أَفعَال مُخْتَلفَة لَا يربطها إِلَّا النِّيَّة فَإِذا زَالَت زَالَ الرابط
الثَّانِيَة لَو نقل النِّيَّة من فرض إِلَى آخر أَو من فرض إِلَى نفل فَالْأَصَحّ الْبطلَان وَمِنْهُم من قطع ببطلانها
الثَّالِثَة إِذا عزم على قطعهَا مثل أَن جزم من الرَّكْعَة الأولى أَن يقطعهَا فِي الثَّانِيَة بطلت فِي الْحَال لقطعه مُوجب النِّيَّة وَهُوَ الِاسْتِمْرَار إِلَى الْفَرَاغ
الرَّابِعَة إِذا شكّ هَل يقطعهَا مثل أَن تردد فِي أَنه هَل يخرج مِنْهَا أَو يسْتَمر بطلت لِأَن الِاسْتِمْرَار الَّذِي اكْتفى بِهِ فِي الدَّوَام قد زَالَ بِهَذَا التَّرَدُّد قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَلم أر فِيهِ خلافًا قَالَ الإِمَام وَلَيْسَ من شكّ عرُوض التَّرَدُّد بالبال كَمَا يجْرِي للموسوس فَإِنَّهُ قد يعرض بالذهن تصور الشَّك وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَهَذَا لَا يبطل قَالَ
(واستدبار الْقبْلَة)
إِذا استدبر الْقبْلَة بطلت صلَاته كَمَا لَو أحدث إِذْ الْمَشْرُوط يفوت بِفَوَات شَرطه وَقد تقدم فِي فصل اسْتِقْبَال الْقبْلَة فروع مهمة فلتراجع قَالَ
(وَالْأكل وَالشرب والقهقهة وَالرِّدَّة)
من مبطلات الصَّلَاة الْأكل وَالشرب لِأَنَّهُ إِذا بَطل الصَّوْم بِهِ وَهُوَ لَا يبطل بالأفعال فَالصَّلَاة أولى وَلِأَنَّهُ يعد معرضًا عَن الصَّلَاة إِذْ الْمَقْصُود من الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة تَجْدِيد الايمان ومحادثة الْقلب بالمعرفة وَالرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى وَالْأكل يُنَاقض ذَلِك وَهَذَا إِذا كَانَ عَامِدًا فَإِن أكل نَاسِيا أَو جَاهِلا بِالتَّحْرِيمِ لقرب عَهده بِالْإِسْلَامِ وَنَحْوه كَمَا مر فِي شُرُوط الصَّلَاة فَلَا تبطل كَالصَّوْمِ وَهَذَا إِذا كَانَ قَلِيلا فَإِن كثر فَالْأَصَحّ الْبطلَان قَالَ القَاضِي حُسَيْن إِن أكل أقل من سمسمة لَا تبطل وَفِي السمسمة أَو قدرهَا وَجْهَان الصَّحِيح الْبطلَان وَالشرب كَالْأَكْلِ وَأما القهقهة وَهِي الضحك فَإِن تعمد ذَلِك بطلت صلَاته لِأَنَّهُ يُنَافِي الْعِبَادَة وَهَذَا إِذا بَان مِنْهُ حرفان فَإِن لم يبن فَلَا تبطل لِأَنَّهُ لَيْسَ(1/121)
بِكَلَام وَقد مر لهَذَا تَتِمَّة فِي شُرُوط الصَّلَاة وَأما الرِّدَّة وَهِي قطع الْإِسْلَام إِمَّا بِفعل كَأَن سجد فِي الصَّلَاة لصنم أَو للشمس أَو قَول كَأَن ثلث أَو اعْتِقَاد كَأَن فكر فِي الصَّلَاة فِي هَذَا الْعَالم بِفَتْح اللَّام فَاعْتقد قدمه وَمَا أشبه ذَلِك كفر فِي الْحَال قطعا وَتبطل صلَاته وَكَذَا لَو اعْتقد عدم وجوب الصَّلَاة لاختلال النِّيَّة وَمَا أشبه ذَلِك وَالله أعلم
بَاب الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة
(فصل وركعات الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة سبع عشرَة رَكْعَة)
هَذَا إِذْ كَانَت الصَّلَاة فِي الْحَضَر وَفِي غير يَوْم الْجُمُعَة فَإِن كَانَ فِيهَا جُمُعَة نقصت رَكْعَتَانِ وَإِن كَانَت مَقْصُورَة نقصت أَرْبعا أَو سِتا قَوْله فِيهَا سبع عشرَة رَكْعَة إِلَى آخِره يعرف بِالتَّأَمُّلِ وَلَا يَتَرَتَّب على ذَلِك كثير فَائِدَة وَالله أعلم قَالَ
(وَمن عجز عَن الْقيام فِي الْفَرِيضَة صلى جَالِسا فَإِن عجز عَن الْجُلُوس صلى مُضْطَجعا) إِذا عجز الْمُصَلِّي عَن الْقيام فِي صَلَاة الْفَرْض صلى قَاعِدا وَلَا ينقص ثَوَابه لِأَنَّهُ مَعْذُور قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمران بن حُصَيْن
(صل قَائِما فَإِن لم تستطع فقاعداً فَإِن لم تستطع فعلى جنب) زَاد النَّسَائِيّ
(فَإِن لم تستطع فمستلقياً لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا) وَنقل الاجماع على ذَلِك
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالْعَجزِ عدم الامكان بل خوف الْهَلَاك أَو زِيَادَة الْمَرَض أَو لُحُوق مشقة شَدِيدَة أَو خوف الْغَرق ودوران الرَّأْس فِي حق رَاكب السَّفِينَة وَقَالَ الامام ضبط الْعَجز أَن تلْحقهُ مشقة تذْهب خشوعه كَذَا نَقله عَنهُ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَأقرهُ إلاأنه فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ الْمَذْهَب خِلَافه وَقَالَ الشَّافِعِي هُوَ أَن لَا يُطيق الْقيام إِلَّا بِمَشَقَّة غير مُحْتَملَة قَالَ ابْن الرّفْعَة أَي مشقة غَلِيظَة وَاعْلَم أَنه لَا يتَعَيَّن لقعوده هَيْئَة وَكَيف قعد جَازَ وَفِي الْأَفْضَل قَولَانِ أصَحهمَا الافتراش لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْقيام وَلِأَن التربع نوع ترفه
وَالثَّانِي التربع أفضل ليتميز قعُود الْبَدَل عَن قعُود الأَصْل فَإِن عجز عَن الْقعُود صلى(1/122)
مُضْطَجعا للْخَبَر السَّابِق وَيكون على جنبه الْأَيْمن على الْمَذْهَب الْمَنْصُوص وَيجب أَن يسْتَقْبل الْقبْلَة فَإِن لم يسْتَطع صلى على قَفاهُ وَيكون إيماؤه بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود إِلَى الْقبْلَة إِن عجز عَن الاتيان بهما وَيكون سُجُوده أَخفض من رُكُوعه فَإِن عجز عَن ذَلِك أَوْمَأ بطرفه لِأَنَّهُ حد طاقته فَإِن عجز عَن ذَلِك أجْرى أَفعَال الصَّلَاة على قلبه ثمَّ إِن قدر فِي هَذِه الْحَالة على النُّطْق بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَة وَالتَّشَهُّد وَالسَّلَام أَتَى بِهِ وَإِلَّا أجراه على قلبه وَلَا ينقص ثَوَابه وَلَا يتْرك الصَّلَاة مَا دَامَ عقله ثَابتا وَإِذا صلى فِي هَذِه الْحَالة لَا إِعَادَة عَلَيْهِ عَلَيْهِ وَاحْتج الْغَزالِيّ لذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم) ونازعه الرَّافِعِيّ فِي ذَلِك الِاسْتِدْلَال وَلنَا وَجه أَنه فِي هَذِه الْحَالة لَا يُصَلِّي وَيُعِيد وَاعْلَم أَن المصلوب يلْزمه أَن يُصَلِّي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَكَذَا الغريق على لوح قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَغَيره
(فرع) إِذا كَانَ يُمكنهُ الْقيام لَو صلى مُنْفَردا وَلَو صلى فِي جمَاعَة قعد فِي بَعْضهَا نَص الشَّافِعِي على جَوَاز الْأَمريْنِ وَأَن الأول أفضل مُحَافظَة على الرُّكْن وَجرى على ذَلِك القَاضِي حُسَيْن وتلميذاه الْبَغَوِيّ وَالْمُتوَلِّيّ وَهُوَ الْأَصَح وَقَالُوا لَو أمكنه الْقيام بِالْفَاتِحَةِ فَقَط وَلَو قَرَأَ سُورَة عجز فَالْأَفْضَل الْقيام بِالْفَاتِحَةِ فَقَط وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة أفضل وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا يتْرك سَهوا من الصَّلَاة
(فصل والمتروك من الصَّلَاة ثَلَاثَة أَشْيَاء فرض وَسنة وهيئة فالفرض لَا يَنُوب عَنهُ سُجُود السَّهْو بل إِن ذكره وَالزَّمَان قريب أَتَى بِهِ وَبنى عَلَيْهِ وَسجد للسَّهْو)
سُجُود السَّهْو مَشْرُوع للخلل الْحَاصِل فِي الصَّلَاة سَوَاء فِي ذَلِك صَلَاة الْفَرْض أَو النَّفْل وَفِي قَول لَا يشرع فِي النَّفْل ثمَّ ضَابِط سُجُود السَّهْو إِمَّا بارتكاب شَيْء مَنْهِيّ عَنهُ فِي الصَّلَاة كزيادة قيام أَو رُكُوع أَو سُجُود أَو قعُود فِي غير مَحَله على وَجه السَّهْو أَو ترك مَأْمُور بِهِ كَتَرْكِ رُكُوع أَو(1/123)
سُجُود أَو قيام أَو قعُود وَاجِب أَو ترك قِرَاءَة وَاجِبَة أَو تشهد وَاجِب وَقد فَاتَ مَحَله فَإِنَّهُ يسْجد للسَّهْو بعد تدارك مَا تَركه ثمَّ إِن تذكر ذَلِك وَهُوَ فِي الصَّلَاة أَتَى بِهِ وتمت صلَاته وَإِن تذكره بعد السَّلَام نظر إِن لم يطلّ الزَّمَان تدارك مَا فَاتَهُ وَسجد للسَّهْو وَإِن طَال اسْتَأْنف الصَّلَاة من أَولهَا وَلَا يجوز الْبناء لتغير نظم الصَّلَاة بطول الْفَصْل
وَفِي ضبط طول الْفَصْل قَولَانِ للشَّافِعِيّ الْأَظْهر وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْأُم أَنه يرجع فِيهِ إِلَى الْعرف وَالْقَوْل الآخر وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ أَن الطَّوِيل مَا يزِيد على قدر رَكْعَة ثمَّ حَيْثُ جَازَ الْبناء فَلَا فرق بَين أَن يتَكَلَّم بعد السَّلَام وَيخرج من الْمَسْجِد ويستدبر الْقبْلَة وَبَين أَن لَا يفعل ذَلِك هَذَا هُوَ الصَّحِيح ثمَّ هَذَا عِنْد تَيَقّن الْمَتْرُوك أما إِذا سلم من الصَّلَاة وَشك هَل ترك ركنا أَو رَكْعَة فَالْمَذْهَب الصَّحِيح أَنه لَا يلْزمه شَيْء وَصلَاته مَاضِيَة على الصِّحَّة لِأَن الظَّاهِر أَنه أَتَى بهَا بكمالها وعروض الشَّك كثير لَا سِيمَا عِنْد طول الزَّمَان فَلَو قُلْنَا بتأثير الشَّك لَأَدَّى إِلَى حرج ومشقة وَلَا حرج فِي الدّين وَهَذَا بِخِلَاف عرُوض الشَّك فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ يَبْنِي على الْيَقِين وَيعْمل بِالْأَصْلِ كَمَا ذكره الشَّيْخ من بعده فَإِذا شكّ فِي أثْنَاء الصَّلَاة هَل صلى ثَلَاثًا أَو أَرْبعا أَخذ بِالْيَقِينِ وأتى بِرَكْعَة وَلَا يَنْفَعهُ غَلَبَة الظَّن أَنه صلى أَرْبعا وَلَا أثر للإجتهاد فِي هَذَا الْبَاب وَلَا يجوز الْعَمَل فِيهِ بقول الْغَيْر وَلَو كَانَ المخبرون كثيرين وثقات بل يجب عَلَيْهِ أَن يَأْتِي بِمَا شكّ فِيهِ حَتَّى لَو قَالُوا لَهُ صليت أَرْبعا يَقِينا وَهُوَ شَاك فِي نَفسه لَا يرجع إِلَيْهِم
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته فَلم يدر كم صلى أَثلَاثًا أم أَرْبعا فليطرح الشَّك وليبن على مَا استيقن ثمَّ يسْجد سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم فَإِن كَانَ صلى خمْسا شفعن لَهُ صلَاته وَإِن كَانَ صلى تَمام الْأَرْبَع كَانَتَا ترغيماً للشَّيْطَان) ثمَّ هَذَا فِي حق الامام وَالْمُنْفَرد أما الْمَأْمُوم فَلَا يسْجد إِذا سَهَا خلف امامه ويتحمل الامام سَهْوه حَتَّى لَو ظن أَن الامام سلم فَسلم ثمَّ بَان لَهُ أَنه لم يسلم فَسلم مَعَه فَلَا سُجُود عَلَيْهِ لِأَنَّهُ سَهَا فِي حَال اقتدائه وَلَو تَيَقّن الْمَأْمُوم فِي تشهده أَنه ترك الرُّكُوع أَو الْفَاتِحَة مثلا من رَكْعَة نَاسِيا أَو شكّ فِي ذَلِك فَإِذا سلم الإِمَام لزمَه أَن يَأْتِي بِرَكْعَة وَلَا يسْجد للسَّهْو لِأَنَّهُ شكّ فِي حَال الِاقْتِدَاء وَلَو سمع الْمَأْمُوم الْمَسْبُوق صَوتا فَظَنهُ سَلام الإِمَام فَقَالَ ليتدارك مَا عَلَيْهِ وَكَانَ عَلَيْهِ رَكْعَة مثلا فَأتى بهَا وَجلسَ ثمَّ علم أَن الامام لم يسلم وَتبين خطأ نَفسه لم يعْتد بِتِلْكَ الرَّكْعَة لِأَنَّهَا مفعولة فِي غير محلهَا لِأَن وَقت التَّدَارُك بعد انْقِطَاع الْقدْوَة فَإِذا سلم الامام قَامَ وأتى بالركعة وَلَا يسْجد للسَّهْو لبَقَاء حكم الْقدْوَة وَلَو سلم الإِمَام(1/124)
بعد مَا قَامَ فَهَل يجب عَلَيْهِ أَن يعود إِلَى الْقعُود لِأَن قِيَامه غير مَأْذُون فِيهِ أم يجوز أَن يمْضِي فِي صلَاته وَجْهَان أصَحهمَا فِي شرح الْمُهَذّب وَالتَّحْقِيق وجوب الْعود وَالله أعلم قَالَ
(والمسنون لَا يعود إِلَيْهِ بعد التَّلَبُّس بِغَيْرِهِ لكنه يسْجد للسَّهْو)
وَقد تقدم أَن الصَّلَاة تشْتَمل على أَرْكَان وأبعاض وهيئات فالأركان مَا لَا بُد منا وَلَا تصح الصَّلَاة بِدُونِهَا جَمِيعهَا وَأما الأبعاض وَهِي الَّتِي سَمَّاهَا الشَّيْخ سنناً وَلَيْسَت من صلب الصَّلَاة فتجبر بسجود السَّهْو عِنْد تَركهَا سَهوا بِلَا خلاف وَكَذَا عِنْد الْعمد على الرَّاجِح لوُجُود الْخلَل الْحَاصِل فِي الصَّلَاة بِسَبَب تَركهَا بل الْعمد أَشد خللاً فَهُوَ أولى بِالسُّجُود وَهَذِه الأبعاض سِتَّة
التَّشَهُّد الأول وَالْقعُود لَهُ والقنوت فِي الصُّبْح وَفِي النّصْف الْأَخير من شهر رَمَضَان وَالْقِيَام لَهُ وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّشَهُّد الأول وَالصَّلَاة على الْآل فِي التَّشَهُّد الْأَخير
وَالْأَصْل فِي التَّشَهُّد الأول مَا ورد من حَدِيث عبد الله بن بُحَيْنَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(ترك التَّشَهُّد الأول نَاسِيا فَسجدَ قبل أَن يسلم) وَإِذا شرع السُّجُود لَهُ شرع لقعوده لِأَنَّهُ مَقْصُود ثمَّ قسنا عَلَيْهِمَا الْقُنُوت وقيامه لِأَن الْقُنُوت ذكر مَقْصُود فِي نَفسه شرع لَهُ مَحل مَخْصُوص وَهَذَا فِي قنوت الصُّبْح ورمضان أما قنوت النَّازِلَة فَلَا يسْجد لَهُ على الْأَصَح فِي التَّحْقِيق وَالْفرق تَأَكد ذَيْنك بِدَلِيل الِاتِّفَاق على أَنَّهُمَا مشروعان بِخِلَاف النَّازِلَة وَأما الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّشَهُّد الأول فَلِأَنَّهُ ذكر يجب الاتيان بِهِ فِي الْجُلُوس الْأَخير فَيسْجد لتَركه فِي التَّشَهُّد الأول قِيَاسا على التَّشَهُّد وَعلل الْغَزالِيّ اخْتِصَاص السُّجُود بِهَذِهِ المور لِأَنَّهَا من الشعائر الظَّاهِرَة الْمَخْصُوصَة بِالصَّلَاةِ
وَقَوله والمسنون لَا يعود إِلَيْهِ بعد التَّلَبُّس بِغَيْرِهِ كَمَا إِذا قَامَ من التَّشَهُّد الأول أَو ترك الْقُنُوت وَسجد فَلَو ترك التَّشَهُّد الأول وتلبس بِالْقيامِ نَاسِيا لم يجز لَهُ الْعود إِلَى الْقعُود فَإِن عَاد عَامِدًا عَالما بِتَحْرِيمِهِ بطلت صلَاته لِأَنَّهُ زَاد قعُودا وَإِن عَاد نَاسِيا لم تبطل وَعَلِيهِ أَن يقوم عِنْد تذكره وَيسْجد للسَّهْو وَإِن كَانَ جَاهِلا بِتَحْرِيمِهِ فَالْأَصَحّ أَنه كالناسي هَذَا حكم الْمُنْفَرد والامام وَأما الْمَأْمُوم فَإِذا تلبس إِمَامه بِالْقيامِ فَلَا يجوز لَهُ التَّخَلُّف عَنهُ لأجل التَّشَهُّد فَإِن فعل بطلت صلَاته وَلَو انتصب مَعَ الامام ثمَّ عَاد الامام إِلَى الْقعُود لم يجز للْمَأْمُوم أَن يعود مَعَه فَإِن عَاد الامام عَامِدًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ بطلت صلَاته وَإِن كَانَ نَاسِيا أَو جَاهِلا لم تبطل وَلَو قعد الْمَأْمُوم فانتصب الامام ثمَّ عَاد الامام إِلَى الْقعُود لزم الْمَأْمُوم الْقيام لِأَنَّهُ توجه على الْمَأْمُوم الْقيام بانتصاب الامام وَلَو قعد الامام للتَّشَهُّد الأول وَقَامَ الْمَأْمُوم نَاسِيا فَالصَّحِيح وجوب الْعود إِلَى مُتَابعَة الامام فَإِن لم يعد بطلت صلَاته هَذَا كُله فِيمَن انتصب قَائِما أما إِذا انتهض نَاسِيا وتذكر قبل الانتصاب فَقَالَ الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب يرجع إِلَى التَّشَهُّد(1/125)
وَالْمرَاد من الانتصاب الِاعْتِدَال والاستواء هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور ثمَّ إِذا عَاد قبل الانتصاب فَهَل يسْجد للسَّهْو قَولَانِ الاظهر فِي أصل الرَّوْضَة أَنه لَا يسْجد وَإِن صَار إِلَى الْقيام أقرب وَصَححهُ فِي التَّحْقِيق وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه الْأَصَح عِنْد الْجُمْهُور وَالَّذِي فِي الْمُحَرر أَنه إِذا صَار إِلَى الْقيام أقرب سجد وَإِلَّا فَلَا وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير إِن طَريقَة التَّفْصِيل أظهر قَالَ الإسنائي الْفَتْوَى على مَا فِي شرح الْمُهَذّب لموافقته الْأَكْثَرين هَذَا كُله إِذا ترك التَّشَهُّد الأول ونهض نَاسِيا أما إِذا تعمد ذَلِك ثمَّ عَاد قبل الانتصاب والاعتدال فَإِن عَاد بعد مَا صَار إِلَى الْقيام أقرب بطلت صلَاته وَإِن عَاد قبله لم تبطل وَالله أعلم وَلَو ترك الامام الْقُنُوت إِمَّا لكَونه لَا يرَاهُ كالحنفي أَو نسي فَإِن علم الْمَأْمُوم أَنه لَا يلْحقهُ فِي السُّجُود فَلَا يقنت وَإِن علم أَنه لَا يسْبقهُ قنت وَقد أطلق الرَّافِعِيّ وَالْغَزالِيّ أَنه لَا بَأْس بِمَا يَقْرَؤُهُ من الْقُنُوت إِذا لحقه عَن قرب وَأطلق القَاضِي حُسَيْن أَن من صلى الصُّبْح خلف من صلى الظّهْر وقنت تبطل صلَاته قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلعلَّة مُصَور بِحَالَة الْمُخَالفَة وَهُوَ الظَّاهِر وَالله أعلم قَالَ
(والهيئة لَا يعود إِلَيْهَا بعد تَركهَا وَلَا يسْجد للسَّهْو عَنْهَا وَإِذا شكّ فِي عدد مَا أَتَى بِهِ من الرَّكْعَات بنى على الْيَقِين وَهُوَ الْأَقَل وَيسْجد لَهُ سُجُود السَّهْو وَمحله قبل السَّلَام وَهُوَ سنة)
الهيئات هِيَ الْأُمُور المسنونة غير الأبعاض كالتسبيح وتكبير الِانْتِقَالَات والتعوذ وَنَحْوه فَلَا يسْجد لَهَا بِحَال سَوَاء تَركهَا عمدا أَو سَهوا لِأَنَّهَا لَيست أصلا فَلَا تشبه الأَصْل بِخِلَاف الأبعاض وَوجه ذَلِك أَن سُجُود السَّهْو زِيَادَة فِي الصَّلَاة فَلَا يجوز إِلَّا بتوقيف وَورد فِي بعض الأبعاض وقسنا عَلَيْهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ لتأكده وَبَقِي مَا عداهُ على الأَصْل فَلَو فعله ظَانّا جَوَازه بطلت صلَاته إِلَّا أَن يكون قريب عهد باسلام أَو نَشأ ببادية قَالَه الْبَغَوِيّ وَقيل يسْجد لترك التَّسْبِيح فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَقيل يسْجد لترك السُّورَة وَقيل يسْجد لكل مسنون وَأما إِذا شكّ فِي عدد الرَّكْعَات فقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ
وَأما كَون السُّجُود قبل السَّلَام وَبعد التَّشَهُّد فللاخبار وَلِأَن سَببه وَقع فِي الصَّلَاة فَأشبه سُجُود التِّلَاوَة وَأما كَونه سنة فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَت الرَّكْعَة والسجدتان نَافِلَة) وَلِأَنَّهُ بدل مَا لَيْسَ بِوَاجِب وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْأَوْقَات الَّتِي يكره فِيهَا الصَّلَاة
(فصل وَخَمْسَة أَوْقَات لَا يصلى فِيهَا إِلَّا صَلَاة لَهَا سَبَب بعد صَلَاة الصُّبْح حَتَّى تطلع(1/126)
الشَّمْس وَعند طُلُوعهَا حَتَّى تتكامل وترتفع قدر رمح وَإِذا اسْتَوَت حَتَّى تَزُول وَبعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس وَعند الْغُرُوب حَتَّى يتكامل غُرُوبهَا)
الْأَوْقَات الَّتِي تكره الصَّلَاة الَّتِي لَا سَبَب لَهَا فِيهَا خَمْسَة ثَلَاث تتَعَلَّق بِالزَّمَانِ وَهِي وَقت طُلُوع الشَّمْس حَتَّى ترْتَفع قد رمح هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَعْرُوف وَفِي وَجه تَزُول الْكَرَاهَة بِطُلُوع قرص الشَّمْس بِتَمَامِهِ وَوقت الاسْتوَاء حَتَّى تَزُول الشَّمْس وَعند الاصفرار حَتَّى يتم غُرُوبهَا وَحجَّة ذَلِك مَا ورد عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(ثَلَاث سَاعَات كَانَ ينهانا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نصلي فِيهِنَّ أَو نقبر فِيهِنَّ أمواتنا حِين تطلع الشَّمْس بازغة حَتَّى ترْتَفع وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل الشَّمْس وَحين تضيف الشَّمْس للغروب) وَمعنى تضيف تميل وَمِنْه الضَّيْف لِأَن المضيف يميله إِلَيْهِ وتضيف بتاء مَفْتُوحَة بنقطتين من فَوق وياء بنقطتين من تَحت بعد الضَّاد الْمُعْجَمَة وَالْمرَاد بالدفن فِي هَذِه الْأَوْقَات أَن يترقب الشَّخْص هَذِه الْأَوْقَات لأجل دفن الْمَوْتَى فِيهِ سَبَب الْكَرَاهَة كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(إِن الشَّمْس تطلع وَمَعَهَا قرن الشَّيْطَان فَإِذا ارْتَفَعت فَارقهَا فَإِذا اسْتَوَت قارنها فَإِذا زَالَت فَارقهَا فَإِذا دنت للغروب قارنها فَإِذا غربت فَارقهَا) وَاخْتلفُوا فِي المُرَاد بقرن الشَّيْطَان فَقيل قومه وهم عباد الشَّمْس يَسْجُدُونَ لَهَا فِي هَذِه الْأَوْقَات وَقيل إِن الشَّيْطَان يدني رَأسه من الشَّمْس فِي هَذِه الْأَوْقَات ليَكُون الساجد لَهَا سَاجِدا لَهُ وَقيل غير ذَلِك
وَأما الوقتان الْآخرَانِ فيتعلقان بِالْفِعْلِ بِأَن يُصَلِّي الصُّبْح أَو الْعَصْر فَإِذا قدم الصُّبْح أَو الْعَصْر طَال وَقت الْكَرَاهَة وَإِذا أخر قصر وَحجَّة ذَلِك مَا ورد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(نهى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس وَبعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس) وَمُقْتَضى كَلَامهم أَن من جمع جمع تَقْدِيم وَصلى الْعَصْر مَجْمُوعَة فِي وَقت الظّهْر إِمَّا(1/127)
لسفر أَو مرض أَو مطر أَنه يكره لَهُ وَهُوَ كَذَلِك وَقد صرح بِهِ الْبَنْدَنِيجِيّ عَن الْأَصْحَاب وَنَقله عَن الشَّافِعِي نعم ذكر الْعِمَاد بن يُونُس أَنه يكره وَتَبعهُ بعض شرَّاح الْوَسِيط قَالَ الاسنائي وَهُوَ مَرْدُود بِنَصّ الشَّافِعِي
فَإِن قلت لَا تَنْحَصِر الْكَرَاهَة فِيمَا ذكرنَا بل تَركه الصَّلَاة أَيْضا فِي وَقت صعُود الإِمَام لخطبة الْجُمُعَة وَعند اقامة الصَّلَاة فَالْجَوَاب إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْقَات الْأَصْلِيَّة وَهل الْكَرَاهَة كَرَاهَة تَحْرِيم أَو تَنْزِيه فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا فِي الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب فِي هَذَا الْبَاب التَّحْرِيم وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الرسَالَة وَصَححهُ فِي التَّحْقِيق هُنَا وَفِي كتاب الطَّهَارَة وَفِي كتاب الاشارات أَن الْكَرَاهَة كَرَاهَة تَنْزِيه ثمَّ صحّح مَعَ تَصْحِيحه كَرَاهَة التَّنْزِيه أَن الصَّلَاة لَا تَنْعَقِد على الْأَصَح وَهُوَ مُشكل لِأَن الْمَكْرُوه جَائِز الْفِعْل ثمَّ إِذا قُلْنَا بِمَنْع الصَّلَاة فِي هَذِه الْأَوْقَات فيستثنى زمَان وَمَكَان أما الزَّمَان فَعِنْدَ الاسْتوَاء يَوْم الْجُمُعَة وَفِيه حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد رَضِي الله عَنهُ إِلَّا أَنه مُرْسل وَعلل عدم الْكَرَاهَة بِأَن النعاس يغلب فِي هَذِه الْأَوْقَات فيطرده بالتنفل خوفًا من انْتِقَاض الْوضُوء واحتياجه إِلَى تخطي النَّاس وَقيل غير ذَلِك وَلَا يلْحق بَقِيَّة الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة بِوَقْت الزَّوَال يَوْم الْجُمُعَة على الصَّحِيح لانْتِفَاء هَذَا الْمَعْنى ويعم عدم الْكَرَاهَة وَقت الزَّوَال لكل أحد وَإِن لم يحضر الْجُمُعَة على الصَّحِيح وَأما الْمَكَان فمكة زَادهَا الله تَعَالَى شرفاً وتعظيماً فَلَا تكره الصَّلَاة فِيهَا فِي شَيْء من هَذِه الْأَوْقَات سَوَاء صَلَاة الطّواف وَغَيرهَا على الصَّحِيح وَفِي وَجه إِنَّمَا يُبَاح رَكعَتَا الطّواف وَالصَّوَاب الأول وَفِيه حَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن صَحِيح وَالْمرَاد بِمَكَّة جَمِيع الْحرم على الصَّحِيح وَقبل مَكَّة فَقَط وَقيل يخْتَص بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَهَذَا كُله فِي صَلَاة لَا سَبَب لَهَا وَأما مَا لَهَا سَبَب فَلَا تكره وَالْمرَاد بِالسَّبَبِ السَّبَب الْمُتَقَدّم أَو الْمُقَارن فَمن ذَوَات الْأَسْبَاب قَضَاء الْفَوَائِت كالفرائض وَالسّنَن والنوافل الَّتِي اتخذها الانسان وردا وَتجوز صَلَاة الْجِنَازَة وَسُجُود التِّلَاوَة وَالشُّكْر وَصَلَاة الْكُسُوف وَلَا تكره صَلَاة الاسْتِسْقَاء فِي هَذِه الْأَوْقَات على الْأَصَح وَقيل تكره كَصَلَاة الاستخارة لِأَن صَلَاة الاستخارة سَببهَا مُتَأَخّر وَكَذَا تكره رَكعَتَا الاحرام على الْأَصَح لتأخر سَببهَا وَهُوَ الاحرام وَأما تَحِيَّة الْمَسْجِد فَإِن اتّفق دُخُوله فِي هَذِه الْأَوْقَات لغَرَض كاعتكاف أَو درس علم أَو انْتِظَار صَلَاة وَنَحْو ذَلِك لم يكره على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور لوُجُود السَّبَب الْمُقَارن وَإِن دخل لَا لحَاجَة بل ليصليها فَوَجْهَانِ أقيسهما فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة الْكَرَاهَة كَمَا لَو أخر الْفَائِتَة ليقضيها فِي هَذِه الْأَوْقَات وَالله أعلم وَاعْلَم أَن من جملَة الْأَسْبَاب إِعَادَة الصَّلَاة حَيْثُ شرعت كَصَلَاة الْمُنْفَرد والمتيمم وَنَحْوهمَا وَالله أعلم قَالَ(1/128)
بَاب صَلَاة الْجَمَاعَة
(فصل وَصَلَاة الْجَمَاعَة مُؤَكدَة وعَلى الْمَأْمُوم أَن يَنْوِي الْجَمَاعَة دون الإِمَام)
الأَصْل فِي مَشْرُوعِيَّة الْجَمَاعَة الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ تَعَالَى {وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة فلتقم طَائِفَة مِنْهُم مَعَك} الْآيَة أَمر بِالْجَمَاعَة فِي قَوْله فلتقم فَعِنْدَ الْأَمْن أولى وَهِي فرض عين فِي الْجُمُعَة وَأما فِي غَيرهَا فَفِيهِ خلاف الصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنَّهَا سنة وَقيل فرض كِفَايَة وَصَححهُ النَّوَوِيّ وَقيل فرض عين وَصَححهُ ابْن الْمُنْذر وَابْن خُزَيْمَة وَحجَّة من قَالَ إِنَّهَا سنة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(صَلَاة الْجَمَاعَة أفضل من صَلَاة الْفَذ بِسبع وَعشْرين دَرَجَة) وروى البُخَارِيّ بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة من رِوَايَة أبي سعيد فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل يَقْتَضِي جَوَاز الْأَمريْنِ إِذْ المفاضلة تَقْتَضِي ذَلِك فَلَو كَانَ أحد الامرين مَمْنُوعًا لما جَاءَت هَذِه الصِّيغَة وَحجَّة من قَالَ بِفَرْض الْكِفَايَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(مَا من ثَلَاثَة فِي قَرْيَة أَو بَدو لَا تُقَام فيهم الصَّلَاة إِلَّا استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان فَعَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة فَإِنَّمَا يَأْكُل الذِّئْب من الْغنم القاصية) وَحجَّة من قَالَ إِنَّهَا فرض عين أَحَادِيث مِنْهُمَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لقد هَمَمْت أَن آمُر بِالصَّلَاةِ فتقام ثمَّ آمُر رجلا فَيصَلي بِالنَّاسِ ثمَّ انْطلق مَعَ رجال مَعَهم حزم من حطب إِلَى قوم لَا يشْهدُونَ الصَّلَاة فَأحرق عَلَيْهِم بُيُوتهم بالنَّار) وَجَوَابه أَنه لم يحرق وَإِن هَذَا كَانَ فِي الْمُنَافِقين وَاعْلَم أَن الْجَمَاعَة تحصل بِصَلَاة الرجل فِي بَيته مَعَ زَوجته وَغَيرهَا لَكِنَّهَا فِي الْمَسْجِد أفضل وَحَيْثُ كَانَ الْجمع من الْمَسَاجِد أَكثر فَهُوَ أفضل فَلَو كَانَ بِقُرْبِهِ مَسْجِد قَلِيل الْجمع وبالبعيد مَسْجِد كثير الْجمع فالبعيد أفضل إِلَّا فِي حالتين
أَحدهمَا أَن تتعطل جمَاعَة الْقَرِيب لعدوله عَنهُ
الثَّانِيَة أَن يكون إِمَام الْبعيد مبتدعا كالمعتزلي غَيره وَكَذَا لَو كَانَ حنفياً لِأَنَّهُ لَا يعْتَقد وجوب بعض الْأَركان وَكَذَا الْمَالِكِي وَغَيره وَالْفَاسِق كالمبتدع وَأَشد الْفُسَّاق قُضَاة الظلمَة والرشا بل قَالَ أَبُو إِسْحَاق رَضِي الله عَنهُ إِن الصَّلَاة مُنْفَردا أفضل من الصَّلَاة خلف الْحَنَفِيّ وَلَو أدْرك الْمَسْبُوق الامام قبل أَن يسلم أدْرك فَضِيلَة الْجَمَاعَة على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور لقَوْله(1/129)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا جَاءَ أحدكُم الصَّلَاة وَنحن سُجُود فاسجدوا وَلَا تعدوها شَيْئا وَمن أدْرك الرُّكُوع فقد أدْرك الرَّكْعَة) وَقَالَ الْغَزالِيّ لَا تدْرك الْجَمَاعَة إِلَّا بِإِدْرَاك رَكْعَة قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة وَهُوَ شَاذ ضَعِيف قلت وَمَا قَالَه الْغَزالِيّ جزم بِهِ الفوراني وَنَقله الجيلي عَن المراوزة وَنَقله القَاضِي حُسَيْن عَن عَامَّة الْأَصْحَاب إِلَّا أَنه قَالَ فِي مَوضِع آخر وَلَو دخل جمَاعَة فوجدوا الامام فِي الْقعدَة الْأَخِيرَة فالمستحب أَن يقتدوا بِهِ لِأَن هَذِه فَضِيلَة مُحَققَة فَلَا يتْركُوا الِاقْتِدَاء بِهِ فيصلون جمَاعَة ثَانِيًا لِأَنَّهَا فَضِيلَة موهومة وَالله أعلم
وَلَو أدْرك الْمَسْبُوق الامام فِي الرُّكُوع فَهَل يدْرك الرَّكْعَة الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ النَّاس وأطبق عَلَيْهِ الْأَئِمَّة كَمَا قَالَه فِي أصل الرَّوْضَة أَنه يكون مدْركا لَهَا قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ وَدَعوى الاجماع مَمْنُوع فقد قَالَ ابْن خُزَيْمَة والصبغي من أَصْحَابنَا لَا يدْرك الرَّكْعَة وَنَقله عَنْهُمَا الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ قلت كَذَا ابْن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ البُخَارِيّ إِنَّمَا أجَاز ذَلِك من الصَّحَابَة من لم ير الْقِرَاءَة خلف الإِمَام وَأما من رَآهَا فَلَا وَحكى ابْن الرّفْعَة عَن بعض شُرُوح الْمُهَذّب أَنه إِذا قصر فِي التَّكْبِير حَتَّى ركع الامام لَا يكون مدْركا للركعة وَحكى الرَّوْيَانِيّ عَن بَعضهم أَنه يكون مدْركا للركعة بِإِدْرَاك الرُّكُوع إِذا كَانَ الامام بَالغا لَا صَبيا وزيفه وَالله أعلم
فَإِذا فرعنا على الادراك فَلهُ شَرْطَانِ
أَحدهمَا أَن يكون رُكُوع الامام معتداً بِهِ أما إِذا لم يكن فَلَا يدْرك الرَّكْعَة وَذَلِكَ كَمَا إِذا كَانَ الإِمَام مُحدثا أَو جنبا أَو نسي سَجْدَة من رَكْعَة قبل هَذِه الرَّكْعَة لِأَن الرُّكُوع إِذا لم يحْسب للامام فَأولى أَن لَا يحْسب للْمَأْمُوم
الشَّرْط الثَّانِي أَن يطمئن قبل أَن يرْتَفع الامام عَن أقل الرُّكُوع لِأَن الرُّكُوع بِدُونِ الطُّمَأْنِينَة لَا يعْتد بِهِ فانتفاء الطُّمَأْنِينَة كانتفاء الرُّكُوع وَهَذَا مَا ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ لَكِن قَالَ ابْن الرّفْعَة ظَاهر كَلَام الْأَئِمَّة أَنه لَا يشْتَرط وَلَو شكّ هَل أدْرك الرُّكُوع مَعَ الطُّمَأْنِينَة قبل رفع الامام فَالْأَظْهر أَنه لَا يدْرك الرَّكْعَة ن الأَصْل عدم ادراكها وَلَو أدْرك الامام بعد رَفعه من الرُّكُوع فَلَا يكون مدْركا لَهَا بِلَا خلاف وَيجب على الْمَأْمُوم أَن يُتَابع الامام فِي الرُّكْن الَّذِي أدْركهُ فِيهِ وَإِن لم يحْسب وَلَو أدْرك الامام فِي التَّشَهُّد الْأَخير وَجب عَلَيْهِ أَن يُتَابِعه فِي الْجُلُوس وَلَا يلْزمه أَن يَأْتِي بالتشهد قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة قطعا وَيسن لَهُ ذَلِك على الصَّحِيح الْمَنْصُوص وَالله أعلم قلت وَدَعوى الْقطع مَمْنُوع فقد قَالَ الْمَاوَرْدِيّ بِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يتَشَهَّد كَمَا يجب عَلَيْهِ الْقعُود لِأَنَّهُ بالاقتداء الْتزم اتِّبَاعه وَالله أعلم ثمَّ شَرط حُصُول الْجَمَاعَة أَن يَنْوِي الْمَأْمُوم الائتمام مَعَ التَّكْبِير لِأَن التّبعِيَّة عمل(1/130)
فافتقرت إِلَى النِّيَّة فَدخلت فِي عُمُوم الحَدِيث ويكفيه أَن يَنْوِي الائتمام بالمتقدم وَإِن لم يعرف عينه فَلَو نوى الِاقْتِدَاء بزيد مثلا فَبَان أَنه عَمْرو لم تصح كَمَا لَو عين الْمَيِّت فِي صَلَاة جَنَازَة وَأَخْطَأ لَا تصح صلَاته وَهَذَا إِذا لم يشر فَلَو أَشَارَ كَمَا لَو قَالَ أُصَلِّي خلف زيد هَذَا فَوَجْهَانِ قَالَ الامام وَابْن الرّفْعَة الْمَنْقُول الْبطلَان وَصحح النَّوَوِيّ الصِّحَّة تَغْلِيبًا للاشارة وَلَو لم ينْو الِاقْتِدَاء انْعَقَدت صلَاته مُنْفَردا ثمَّ إِن تَابع الامام فِي أَفعاله بطلت صلَاته على الْأَصَح فَلَو شكّ فِي أثْنَاء الصَّلَاة فِي نِيَّة الِاقْتِدَاء نظر إِن تذكر قبل أَن يحدث فعلا على مُتَابعَة الامام لم يضر وَإِن تذكر بعد أَن احدث فعلا على مُتَابَعَته بطلت صلَاته لِأَنَّهُ فِي حَال الشَّك حكمه حكم الْمُنْفَرد وَلَيْسَ لَهُ الْمُتَابَعَة حَتَّى لَو عرض لَهُ الشَّك فِي التَّشَهُّد الْأَخير لَا يجوز لَهُ أَن يُوقف سَلَامه على سَلام الامام وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز أَن يأتم الْحر بِالْعَبدِ والبالغ بالمراهق)
يجوز للْحرّ الْبَالِغ أَن يَقْتَدِي بِالْعَبدِ وَالصَّبِيّ أما جَوَاز الِاقْتِدَاء بِالْعَبدِ فَلَمَّا ورد أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
(كَانَ يؤمها عَبدهَا ذكْوَان) نعم الْحر أولى من العَبْد لِأَن الامامة منصب جليل فَهِيَ بالأحرار أولى وَأما جَوَاز الِاقْتِدَاء بِالصَّبِيِّ فَلِأَن عَمْرو بن سَلمَة رَضِي الله عَنهُ كَانَ يؤم قومه على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن سِتّ أَو سبع سِنِين نعم الْبَالِغ أولى من الصَّبِي وَإِن كَانَ الصَّبِي أفقه وأقرأ للاجماع على صِحَة الِاقْتِدَاء بِهِ بِخِلَاف الصَّبِي وَلِأَن الْبَالِغ صلَاته وَاجِبَة عَلَيْهِ فَهُوَ أحرص بالمحافظة على حُدُودهَا وَكَلَام الرَّافِعِيّ يشْعر بِعَدَمِ كَرَاهَة إِمَامَة الصَّبِي لَكِن فِي الْبُوَيْطِيّ التَّصْرِيح بِالْكَرَاهَةِ وَهَذَا كُله فِي الصَّبِي الْمُمَيز أما غير الْمُمَيز فَصلَاته بَاطِلَة لفقدان النِّيَّة قَالَ
(وَلَا يأتم رجل بِامْرَأَة وَلَا قارىء بأمي)
لَا يَصح اقْتِدَاء الرجل بِالْمَرْأَةِ لقَوْله تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أخروهن من حَيْثُ أخرهن الله) وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَلا لَا يُؤمن إمرأة رجلا) وَاحْتج بَعضهم بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لن يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة) وَلِأَن الْمَرْأَة عَورَة وَفِي إمامتها بِالرِّجَالِ فتْنَة وَأما اقْتِدَاء(1/131)
القارىء وَهُوَ هُنَا من يحسن الْفَاتِحَة بالأمي وَهُوَ هُنَا من لَا يحفظها فَفِي صِحَة اقتدائه بِهِ قَولَانِ الْجَدِيد الْأَظْهر لَا تصح لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(يؤم الْقَوْم أقرؤهم) فَلَا يجوز مُخَالفَته بجعلهه مَأْمُوما وَلِأَن الامام بصدد أَن يتَحَمَّل عَن الْمَأْمُوم الْقِرَاءَة لَو أدْركهُ رَاكِعا والأمي لَيْسَ من أهل التَّحَمُّل وَيدخل فِي الْأُمِّي الْأَرَت الَّذِي يدغم حرفا فِي حرف فِي غير مَوضِع الادغام والألثغ وَهُوَ الَّذِي يُبدل حرفا بِحرف كالراء بالغين وَالْكَاف بِالْهَمْزَةِ وَكَذَا لَا يَصح الِاقْتِدَاء بِمن بِلِسَانِهِ رخاوة تَمنعهُ من التَّشْدِيد ثمَّ مَحل الْخلاف هُوَ فِي من لم يطاوعه لِسَانه أَو طاوعه وَلم يمض زمن يُمكن التَّعَلُّم فِيهِ أما إِذا مضى زمن يُمكن أَن يتَعَلَّم فِي وَقصر بترك التَّعْلِيم فَلَا يَصح الِاقْتِدَاء بِهِ بِلَا خلاف لِأَن صلَاته حِينَئِذٍ مقضية كَصَلَاة من لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا وَيصِح اقْتِدَاء أُمِّي بأمي مثله كاقتداء الْمَرْأَة بِالْمَرْأَةِ
(فرع) لَو اقْتدى فِي صَلَاة سَرِيَّة بِمن لَا يعرف هَل هُوَ أُمِّي أم لَا تصح وَلَا يجب الْبَحْث بل يجوز حمل أمره على الْغَالِب فِي أَنه قارىء كَمَا يجوز حمل الْأَمر على أَنه متطهر وَإِن اقْتدى بِهِ فِي صَلَاة جهرية فَأسر وَجَبت الاعادة حَكَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَن نَص الشَّافِعِي لِأَن الظَّاهِر أَنه لَو كَانَ قَارِئًا لجهر فَلَو قَالَ إِنَّمَا أسررت نِسْيَانا أَو لكَونه جَائِزا لم تجب الاعادة وَالله أعلم قَالَ
(وَأي مَوضِع صلى فِي الْمَسْجِد بِصَلَاة الامام فِيهِ وَهُوَ عَالم بِصَلَاتِهِ أَجزَأَهُ مَا لم يتَقَدَّم عَلَيْهِ)
اعْلَم أَن لصِحَّة الِاقْتِدَاء شُرُوطًا
أَحدهَا الْعلم بِصَلَاة الامام أَي الْعلم بأفعاله الظَّاهِرَة وَهَذَا لَا بُد مِنْهُ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَاتفقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَاب ثمَّ الْعلم قد يكون بمشاهدة الإِمَام بعض الصُّفُوف وَقد يكون بِسَمَاع صَوت الامام أَو بِسَمَاع صَوت الْمبلغ فو كَانَ الْمبلغ صَبيا هَل يَكْفِي قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد فِي الفروق وَابْن الاستاذ فِي شرح الْوَسِيط شَرط الْمبلغ كَونه ثِقَة وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَا يقبل خَبره لَكِن قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب فِي بَاب الْأَذَان ان الْجُمْهُور قَالُوا يقبل خبر الصَّبِي فِيمَا طَرِيقه الْمُشَاهدَة كدلالة الْأَعْمَى على الْقبْلَة وَنَحْوهَا وَهِي قَاعِدَة ومسألتنا فَرد من أفرادها مَسْأَلَة حَسَنَة
الشَّرْط الثَّانِي أَن لَا يتَقَدَّم الْمَأْمُوم على الامام فِي الْموقف لِأَن المقتدين بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ لم ينْقل عَنْهُم التَّقَدُّم عَلَيْهِ وَكَذَا المقتدون بالخلفاء الرَّاشِدين لم ينْقل عَن أحد مِنْهُم ذَلِك فَلَو تقدم الْمَأْمُوم على الامام بطلت صلَاته على الْجَدِيد كَمَا لَو تقدم عَلَيْهِ فِي أَفعاله وإحرامه بل هَذَا أفحش فِي الْمُخَالفَة وَلَو تقدم عَلَيْهِ فِي أثْنَاء صلَاته بطلت أَيْضا لوُجُود الْمُخَالفَة وَلَو(1/132)
شكّ هَل تقدم فَالصَّحِيح صِحَة صلَاته مُطلقًا كَذَا قطع بِهِ الْمُحَقِّقُونَ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم لِأَن الأَصْل عدم التَّقَدُّم وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن إِن جَاءَ من وَرَاء الامام صحت وَإِن جَاءَ من قدامه فَلَا تصح عملا بِالْأَصْلِ قَالَ ابْن الرّفْعَة وَهَذَا هُوَ الْأَوْجه وَلَا تضر الْمُسَاوَاة لعدم التَّقَدُّم ثمَّ الِاعْتِبَار فِي التَّقَدُّم بالعقب وَهُوَ مُؤخر الرجل وَمحل ذَلِك فِي الْقيام فَإِن كَانَ قَاعِدا فالاعتبار بالألية وَإِن صلى مُضْطَجعا فالاعتبار بالجنب قَالَه الْبَغَوِيّ ثمَّ هَذَا فِي غير المستديرين بِالْكَعْبَةِ أما المستديرون بهَا فَلَا يضر كَون الْمَأْمُوم أقرب إِلَى الْقبْلَة فِي غير جِهَة الامام على الرَّاجِح الْمَقْطُوع بِهِ
إِذا عرفت هَذَا فللامام وَالْمَأْمُوم ثَلَاثَة أَحْوَال
أَحدهَا أَن يَكُونَا خَارج الْمَسْجِد
الثَّانِيَة أَن يكون الامام دَاخل الْمَسْجِد وَالْمَأْمُوم خَارجه وَهَذِه تَأتي فِي كَلَام الشَّيْخ
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يكون الامام وَالْمَأْمُوم فِي الْمَسْجِد وَهِي الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ بقوله وَأي مَوضِع صلى فِي الْمَسْجِد بِصَلَاة الامام فِيهِ جَازَ وَذكر الشَّرْطَيْنِ اللَّذين ذكرناهما بقوله وَهُوَ عَالم بِصَلَاة الامام مَا لم يتَقَدَّم عَلَيْهِ فَإِذا جَمعهمَا مَسْجِد أَو جَامع صَحَّ الِاقْتِدَاء سَوَاء انْقَطَعت الصُّفُوف بَينهمَا أَو اتَّصَلت وَسَوَاء حَال بَينهمَا حَائِل أم لَا وَسَوَاء جَمعهمَا مَكَان وَاحِد أم لَا حَتَّى لَو كَانَ الامام فِي مَنَارَة وَهِي المئذنة وَالْمَأْمُوم فِي بِئْر أَو بِالْعَكْسِ صَحَّ لِأَنَّهُ كُله مَكَان وَاحِد وَهُوَ مبْنى للصَّلَاة وَلَو كَانَ فِي الْمَسْجِد نهر لَا يخوضه إِلَّا السابح فَهَل يمْنَع قَالَ الرَّوْيَانِيّ لَا يمْنَع قطعا وَإِن جرى فِي مثل ذَلِك خلاف فِي الْموَات وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن إِن حفر بعد جعله مَسْجِدا لم يمْنَع وحفره حِينَئِذٍ لَا يجوز وَإِن حفر قبل ذَلِك فَوَجْهَانِ قَالَ الرَّافِعِيّ وَفِي كَلَام أبي مُحَمَّد أَنه لَو كَانَ فِي جوَار الْمَسْجِد مَسْجِد آخر مُنْفَرد بامام وَجَمَاعَة ومؤذن فَيكون حكم كل مِنْهُمَا بِالْإِضَافَة إِلَى الثَّانِي كالملك الْمُتَّصِل بِالْمَسْجِدِ قَالَ الرَّافِعِيّ وَظَاهره يَقْتَضِي تغاير الحكم إِذا انْفَرد بالأمور الْمَذْكُورَة وَإِن كَانَ بَاب أَحدهمَا نَافِذا إِلَى الآخر وَمَا نَقله عَن أبي مُحَمَّد جزم بِهِ فِي الشَّرْح الصَّغِير وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب الصَّوَاب الَّذِي صرح بِهِ كَثِيرُونَ مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَصَاحب الشَّامِل والتنبيه وَغَيرهم أَن الْمَسَاجِد الَّتِي يفتح بَعْضهَا إِلَى بعض لَهَا حكم مَسْجِد وَاحِد ورحبة الْمَسْجِد مِنْهُ عِنْد الْأَكْثَرين والرحبة هِيَ الْخَارِجَة عَنهُ مُتَّصِلَة بِهِ محجراً عَلَيْهَا قَالَه ابْن عبد السَّلَام وَصَححهُ النَّوَوِيّ قَالَ
(وَإِن صلى الامام فِي الْمَسْجِد وَالْمَأْمُوم خَارج الْمَسْجِد قَرِيبا مِنْهُ وَهُوَ عَالم بِصَلَاتِهِ وَلَا حَائِل هُنَاكَ جَازَ)
الْحَالة الثَّانِيَة إِذا كَانَ الامام فِي الْمَسْجِد وَالْمَأْمُوم خَارج الْمَسْجِد وَلَيْسَ بَينهمَا حَائِل صَحَّ(1/133)
الِاقْتِدَاء إِذا لم تزد الْمسَافَة على ثلثمِائة ذِرَاع وَتعْتَبر الْمسَافَة من آخر الْمَسْجِد على الْأَصَح لِأَن الْمَسْجِد مَبْنِيّ للصَّلَاة فَلَا يدْخل فِي الْحَد الْفَاصِل وصورت الْمَسْأَلَة فِي أصل الرَّوْضَة بِأَن يقف الْمَأْمُوم فِي موَات مُتَّصِل بِالْمَسْجِدِ وصورها فِي الْمِنْهَاج بالموات وَلم يشْتَرط الِاتِّصَال وعَلى عدم الِاشْتِرَاط جرى ابْن الرّفْعَة قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة وَلَو وقف الْمَأْمُوم فِي شَارِع مُتَّصِل بِالْمَسْجِدِ فَهُوَ كالموات على الصَّحِيح وَلَو كَانَ الفضاء الَّذِي وقف فِيهِ الْمَأْمُوم مُتَّصِلا بِالْمَسْجِدِ وَهُوَ مَمْلُوك فَهَل حكمه حكم الْموَات أم لَا نقل فِي الرَّوْضَة عَن الْبَغَوِيّ أَنه لَا يَصح الِاقْتِدَاء حَتَّى تتصل الصُّفُوف وَكَذَا لَو وقف على سطح مَمْلُوك مُتَّصِل بسطح الْمَسْجِد لَا يَصح الِاقْتِدَاء بِهِ حَتَّى تتصل الصُّفُوف بِأَن لَا يبْقى بَين الواقفين مَوضِع يسع وَاقِفًا كَمَا لَو كَانَ فِي دَار مَمْلُوكَة مُتَّصِلَة بِالْمَسْجِدِ يشْتَرط الِاتِّصَال بِأَن يقف وَاحِد فِي آخر الْمَسْجِد مُتَّصِلا بِعتبَة الدَّار وَآخر فِي الدَّار مُتَّصِل بالعتبة بِحَيْثُ لَا يكون بَينهمَا موقف رجل قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة وَمَا ذكره فِي الدَّار فَهُوَ صَحِيح وَأما مَا ذكره فِي الفضاء فمشكل وَيَنْبَغِي أَن يكون كالموات هَذَا كُله إِذا لم يكن حَائِل فَإِن كَانَ لِلْمَسْجِدِ جِدَار نظر إِن كَانَ لَهُ بَاب مَفْتُوح ووقف مُقَابِله جَازَ حَتَّى لَو اتَّصل صف بالمحاذي وَخَرجُوا عَن الْمُحَاذَاة جَازَ وَإِن لم يكن فِي الْجِدَار بَاب أَو كَانَ وَلم يقف بحذائه فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه لَا يَصح الِاقْتِدَاء بِهِ وَإِن كَانَ الْحَائِل غير جِدَار الْمَسْجِد لم يَصح الِاقْتِدَاء بِلَا خلاف وَلَو كَانَ بَاب الْمَسْجِد مغلقاً أَي مُسكرا إِمَّا بسكره ويعبر عَنْهَا بالضبة فِي بعض الْبِلَاد أَو بغال أَو قفل وَنَحْو ذَلِك فَحكمه حكم الْجِدَار فَلَا يَصح الِاقْتِدَاء على الصَّحِيح وَإِن كَانَ بَاب الْمَسْجِد مردوداً فَقَط أَو كَانَ بَينهمَا شباك وَالْمَأْمُوم يعلم انتقالات الامام فَوَجْهَانِ الْأَصَح لَا يَصح الِاقْتِدَاء لِأَن الْبَاب يمْنَع الْمُشَاهدَة والشباك يمْنَع الاستطراق نعم قَالَ الْبَغَوِيّ لَو كَانَ الْبَاب مَفْتُوحًا حَالَة التَّحَرُّم بِالصَّلَاةِ فانغلق فِي أثْنَاء الصَّلَاة لم يضر كَذَا ذكره فِي فَتَاوِيهِ وَالله أعلم
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يكون الامام وَالْمَأْمُوم فِي غير الْمَسْجِد فَتَارَة يكونَانِ فِي الفضاء وَتارَة يكونَانِ فِي غير فضاء
الضَّرْب الأول أَن يَكُونَا فِي الفضاء فَيجوز الِاقْتِدَاء بِشَرْط أَن لَا يزِيد مَا بَينهمَا على ثلثوائة ذِرَاع تَقْرِيبًا فِي الْأَصَح لِأَن الواقفين فِي الفضاء هَكَذَا يعدَّانِ فِي الْعَادة مُجْتَمعين وَلِأَن صَوت الامام عِنْد الْجَهْر الْمُعْتَاد يبلغ الْمَأْمُوم غَالِبا فِي هَذِه الْمسَافَة فَلَو تلاحقت الصُّفُوف فالاعتبار بالصف الْأَخير على الصَّحِيح وَقيل بالامام وَاعْلَم أَنه لَا فرق فِي ذَلِك بَين الفضاء الْموَات أَو الْمَمْلُوك أَو الْمَوْقُوف(1/134)
أَو الَّذِي بعضه مَوْقُوف وَبَعضه مَمْلُوك سَوَاء كَانَ الفضاء محوطاً أَو غير محوط وَلَو حَال بَين الامام وَالْمَأْمُوم أَو بَين الصفين نهر يُمكن العبور بِلَا سباحة إِمَّا بالوثوب أَو بالخوض أَو العبور على الجسر صَحَّ الِاقْتِدَاء وَإِن كَانَ يحْتَاج إِلَى سباحة لم يضر على الصَّحِيح وَكَذَا الشَّارِع المطروق وَالله أعلم
الضَّرْب الثَّانِي أَن يَكُونَا فِي غير فضاء كَمَا إِذا وقف الامام فِي صحن دَار وَالْمَأْمُوم على ضفة مِنْهَا أَو فِي بَيت آخر مِنْهَا أَو كَانَا فِي مدرسة أَو رِبَاط مُشْتَمل على بيُوت وأروقة ووقف الامام فِي الرواق أَو محراب الرواق وصف خَلفه فِي الرواق الْمَأْمُومين فَإِن كَانَ موقف الْمَأْمُوم فِي بَيت أَو رواق آخر عَن يَمِين الامام أَو عَن يسَاره أَو خَلفه فَفِي كَيْفيَّة الِاقْتِدَاء طَرِيقَانِ
أَحدهمَا وَهِي طَريقَة المراوزة وصححها الرَّافِعِيّ إِن كَانَ بِنَاء الْمَأْمُوم عَن يَمِين الامام أَو يسَاره اشْترط الِاتِّصَال بِحَيْثُ لَا يبْقى فرجه تسع وَاقِفًا بَين الْمَأْمُوم والامام أَو الصَّفّ الَّذِي يحصل بِهِ الِاتِّصَال فَإِن بقيت فرجه لَا تسع وَاقِفًا لم يضر على الصَّحِيح لَو كَانَ بَين الْمَأْمُوم وَبَين الامام مَا يشْتَرط الِاتِّصَال بِهِ عتبَة عريضة تسع وَاقِفًا اشْترط أَن يقف فِيهَا مصل وَإِن كَانَت لاتسع وَاقِفًا لم يضر على الصَّحِيح وَوجه وجوب الِاتِّصَال على هَذِه الْكَيْفِيَّة أَن اخْتِلَاف الْأَبْنِيَة يُوجب الِافْتِرَاق فاشترطنا الِاتِّصَال ليحصل الرَّبْط بالاجتماع وَإِن كَانَ بِنَاء الْمَأْمُوم خلف بِنَاء الامام فَالصَّحِيح صِحَة الِاقْتِدَاء للْحَاجة إِلَى الِاقْتِدَاء خلف الامام كَمَا يحْتَاج إِلَى الِاقْتِدَاء عَن يَمِينه ويساره فعلى هَذَا يشْتَرط الِاتِّصَال وَهُوَ هُنَا أَن لَا يكون بَين الصفين أَكثر من ثَلَاثَة أذراع تَقْرِيبًا فَلَا يضر زِيَادَة مَا لَا يتَبَيَّن فِي الْحس بِلَا ذرع وَقيل لَا يَصح الِاقْتِدَاء هُنَا لِأَن اخْتِلَاف الْبناء يُوجب الِافْتِرَاق وَلَا ينجبر ذَلِك بالاتصال المحسوس بتواصل المناكب بِخِلَاف الِاتِّصَال عَن الْيَمين واليسار فقد حصل حسا
والطريقة الثَّانِيَة وَهِي طَريقَة الْعِرَاقِيّين وصححها النَّوَوِيّ أَنه لَا يشْتَرط الِاتِّصَال الَّذِي ذَكرْنَاهُ بل الْمُعْتَبر الْقرب والبعد الْمَذْكُور فِي الفضاء ثمَّ هَذَا كُله إِذا لم يكن حَائِل أصلا أَو كَانَ هُنَاكَ بَاب نَافِذ فَوقف بحذائه رجل أَو صف فَإِنَّهُ يَصح فَلَو حَال حَائِل يمْنَع الاستطراق والمشاهدة لم يَصح الِاقْتِدَاء بِلَا خلاف وَإِن منع الاستطراق دون الْمُشَاهدَة كالشباك فَالصَّحِيح عدم الصِّحَّة
(تَنْبِيه) لَو كَانَ الشباك فِي جِدَار الْمَسْجِد ككثير من الترب والربط والمدارس ووقف الْمَأْمُوم فِي نفس الْجِدَار صحت الصَّلَاة لِأَن جِدَار الْمَسْجِد من الْمَسْجِد والحيلولة فِي الْمَسْجِد بَين الْمَأْمُوم وَالْإِمَام لَا تضر كَذَا قَالَه الإسنائي فِي شرح الْمِنْهَاج وَفِي فَتَاوِيهِ وَهُوَ سَهْو وَالْمَنْقُول فِي(1/135)
الرَّافِعِيّ أَنه لايصح فَرَاجعه وَالله أعلم ثمَّ إِذا صَحَّ الِاقْتِدَاء صحت صَلَاة الصُّفُوف الَّتِي خلف الْمَأْمُوم وَإِن حَال بَين هَذِه الصُّفُوف وَبَين الإِمَام أبنية وَذَلِكَ بطرِيق التبع والصفوف مَعَ الْمَأْمُوم كالمؤتمين بِهِ حَتَّى لَا يجوز تقدمهم عَلَيْهِ فِي الْموقف وَإِن كَانُوا متأخرين عَن الإِمَام قَالَ القَاضِي حُسَيْن وَلَا يجوز تقدم تكبيرهم على تكبيره نعم لَو أحدث هَذَا الْمَأْمُوم الْمَتْبُوع أَو ترك الصَّلَاة لَا تبطل قدوة الصُّفُوف التَّابِعين لَهُ لِأَنَّهُ لَا يغْتَفر ذَلِك دواماً دون الِابْتِدَاء قَالَه الْبَغَوِيّ ثمَّ شَرط صِحَة ذَلِك مَا إِذا حصل بَين الْمَأْمُوم وَالْإِمَام محاذاة كَمَا إِذا صلى الإِمَام على صفة عالية وَصلى الْمَأْمُوم على صحن أَو عَكسه فَلَا بُد من محاذاة بَينهمَا وَلَو كَانَ يُحَاذِي رَأس الْأَسْفَل قدم الْأَعْلَى وَقيل يشْتَرط محاذاة الرَّأْس للركبة وَلَو كَانَا فِي الْبَحْر وَالْإِمَام فِي سفينة وَالْمَأْمُوم فِي أُخْرَى وهما مكشوفتان فَالصَّحِيح أَنه يَصح الِاقْتِدَاء إِذا لم يزدْ مَا بَينهمَا على ثلثمِائة ذِرَاع كالصحراء قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَكَذَا لَو كَانَ أَحدهمَا فِي سفينة وَالْآخر على الشط وَإِن كَانَتَا مسقفتين فهما كالدارين والسفينة الَّتِي فِيهَا بيُوت كَالدَّارِ ذَات الْبيُوت والخيام كالبيوت وَالله أعلم قَالَ
بَاب قصر الصَّلَاة وَجَمعهَا
(فصل وَيجوز للْمُسَافِر قصر الصَّلَاة الرّبَاعِيّة بِأَرْبَع شَرَائِط أَن يكون سَفَره فِي غير مَعْصِيّة) لَا شكّ أَن السّفر غَالِبا وَسِيلَة إِلَى الْخَلَاص من مهروب أَو الْوُصُول إِلَى مَطْلُوب وَالسّفر مَظَنَّة الْمَشَقَّة وَهِي تجلب التَّيْسِير فَلهَذَا حط من الصَّلَاة الرّبَاعِيّة رَكْعَتَانِ وَالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة على جَوَاز الْقصر فِي السّفر الْمُبَاح الطَّوِيل وَفِي قصر المقضية خلاف وتفصيل بأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} الْآيَة وَالضَّرْب فِي الأَرْض السّفر وَورد عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ أبي بكر رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ عمر رَكْعَتَيْنِ) وَقَالَ ابْن عمر
(سَافَرت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر وَكَانُوا يصلونَ الظّهْر وَالْعصر رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ)(1/136)
ثمَّ شَرط السّفر أَن يكون فِي غير مَعْصِيّة فَيشْمَل الْوَاجِب كسفر الْحَج وَقَضَاء الدُّيُون وَنَحْوهمَا ويشمل الْمَنْدُوب كحج التَّطَوُّع وصلَة الرَّحِم وَنَحْوهمَا ويشمل الْمُبَاح كسفر التِّجَارَة والتنزه ويشمل الْمَكْرُوه كسفر الْمُنْفَرد عَن رَفِيقه قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْأَغْرَاض الْفَاسِدَة طواف الصُّوفِيَّة لرؤية الْبِلَاد والأقاليم قَالَ الإِمَام وَلَا يشْتَرط كَون السّفر طَاعَة بِاتِّفَاق وَعَن صَاحب التَّلْخِيص اشْتِرَاط الطَّاعَة وَاحْترز الشَّيْخ بقوله فِي غير مَعْصِيّة عَن سفر الْمعْصِيَة كالسفر لقطع الطَّرِيق وَأخذ المكوس وجلب الْخمر والحشيش وَمن تبعثه الظلمَة فِي أَخذ الرشا والجبايات وسفر الْمَرْأَة بِغَيْر إِذن زَوجهَا وسفر العَبْد الْآبِق وسفر الْمَدْيُون الْقَادِر على الْوَفَاء بِغَيْر إِذن صَاحب الدّين وَنَحْو ذَلِك فَهَؤُلَاءِ وأشباههم لَا يترخصون بِالْقصرِ لِأَن الْقصر رخصَة وَهَذَا السّفر مَعْصِيّة والرخص لَا تناط بِالْمَعَاصِي وكما لَا يقصر العَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ وَلَا يتَنَفَّل على الرَّاحِلَة وَلَا يمسح ثَلَاثَة أَيَّام وَلَا يَأْكُل الْميتَة عِنْد الِاضْطِرَار قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب بِلَا خلاف وَفِي الرَّوْضَة حِكَايَة خلاف فِي أكل الْميتَة وَلَا معول عَلَيْهِ وَلَو وجد ظَالِما فِي مفازة فَلَا يسْقِيه وَإِن مَاتَ أفتى بذلك سُفْيَان الثَّوْريّ لتستريح مِنْهُ الْبِلَاد والعباد وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَهُوَ مَسْأَلَة مهمة نفيسة وَاحْترز الشَّيْخ بِالصَّلَاةِ الرّبَاعِيّة عَن الْمغرب وَالصُّبْح فَإِنَّهُمَا لَا يقصران قَالَ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ بِالْإِجْمَاع لَكِن نقل الْعَبَّادِيّ عَن مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي من أَصْحَابنَا أَنه يجوز قصر الصُّبْح إِلَى رَكْعَة فِي الْخَوْف كمذهب ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن تكون مسافته سِتَّة عشر فرسخاً)
يشْتَرط فِي جَوَاز الْقصر كَون السّفر طَويلا وَهُوَ سِتَّة عشر فرسخاً كَمَا ذكره الشَّيْخ وَهُوَ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ ميلًا بالهاشمي وَهِي أَرْبَعَة برد وَلَو حَبسه الرّيح قَالَ الدَّارمِيّ هُوَ كالإقامة فِي الْبَلَد من غير نِيَّة وَاعْلَم أَن مَسَافَة الرُّجُوع لَا تحسب فَلَو قصد موضعا على مرحلة بنية أَن يُقيم فَلَيْسَ لَهُ أَن يقصر لَا ذَهَابًا وَلَا إياباً وَإِن ناله مشقة مرحلَتَيْنِ لَا يُسمى طَويلا
وَاعْلَم أَيْضا أَنه لَا بُد للْمُسَافِر من ربط قَصده بِموضع مَعْلُوم فَلَا يقصر الهائم وَإِن طَال سَفَره وَيُسمى هَذَا أَيْضا رَاكب التعاسيف
(فرع) نوى مَسَافَة الْقصر ثمَّ نوى بعد خُرُوجه أَنه إِن وجد فلَانا رَجَعَ وَإِلَّا مضى فَالْأَصَحّ أَنه يترخص مَا لم يلقه فَإِذا لقِيه خرج عَن السّفر وَصَارَ مُقيما وَلَو نوى مَسَافَة الْقصر ثمَّ نوى بعد خُرُوجه أَنه إِذا وصل بلد كَذَا والبلد وسط الطَّرِيق أَقَامَ أَرْبَعَة أَيَّام فَأكْثر فَإِن كَانَ من مَوضِع خُرُوجه إِلَى الْمَقْصد الثَّانِي مَسَافَة الْقصر ترخص وَإِن كَانَ أقل ترخص أَيْضا على الْأَصَح وَالله أعلم قَالَ(1/137)
(وَأَن يكون مُؤديا للصَّلَاة الرّبَاعِيّة وَأَن يَنْوِي الْقصر مَعَ الْإِحْرَام)
حجَّة كَون الصَّلَاة الَّتِي تقصر أَن تكون مُؤَدَّاة لما مر من الْأَدِلَّة أما المقضية فَإِن فَاتَت فِي الْحَضَر وقضاها فِي السّفر وَجب عَلَيْهِ الْإِتْمَام لِأَنَّهَا ترتبت فِي ذمَّته أَرْبعا وَادّعى ابْن الْمُنْذر وَالْإِمَام أَحْمد الْإِجْمَاع على ذَلِك وَقَالَ الْمُزنِيّ وَله قصرهَا وَحكى الْمَاوَرْدِيّ وَجها مثله لِأَن الِاعْتِبَار بِوَقْت الْقَضَاء كَمَا لَو ترك صَلَاة فِي الصِّحَّة لَهُ قَضَاؤُهَا فِي الْمَرَض قَاعِدا والقائلون بِالْمذهبِ فرقوا بِأَن الْمَرَض حَالَة ضَرُورَة فَيحْتَمل فِيهِ مَا لايحتمل فِي السّفر لِأَنَّهُ رخصَة أَلا ترى أَنه لَو شرع فِي الصَّلَاة قَائِما ثمَّ طَرَأَ الْمَرَض لَهُ أَن يقْعد وَلَو شرع فِي الصَّلَاة فِي الْحَضَر ثمَّ سَافَرت بِهِ السَّفِينَة لم يكن لَهُ أَن يقصر وَإِن فَاتَت الصَّلَاة فِي السّفر قَضَاهَا فِي السّفر أَو فِي الْحَضَر فَهَل يقصرها فِيهِ أَقْوَال أظرهاإن قصاها فِي السّفر قصر وغن تخللت إِقَامَته وَإِن قَضَاهَا فِي الْحَضَر أتم هَذَا مَا صَححهُ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَصحح ابْن الرّفْعَة الْإِتْمَام مُطلقًا وَلَو شكّ هَل فَاتَت فِي الْحَضَر أَو فِي السّفر لم يقصر وَاعْلَم أَن شَرط الْقصر أَن ينويه لِأَن الأَصْل الْإِتْمَام فَإِذا لم ينْو الْقصر انْعَقَد إِحْرَامه على الأَصْل وَيشْتَرط أَن تكون نِيَّة الْقصر وَقت التَّحْرِيم بِالصَّلَاةِ كنيته وَلَا يشْتَرط دوَام ذكرهَا للْمَشَقَّة نعم يشْتَرط الانفكاك عَمَّا يُخَالف الْجَزْم بِالنِّيَّةِ فَلَو نوى الْقصر ثمَّ نوى الْإِتْمَام وَكَذَا لَو تردد بَين أَن يقصر أَو يتم أتم وَلَو شكّ هَل نوى الْقصر أم لَا لزمَه الإِمَام وَإِن تذكر فِي الْحَال أَنه نوى الْقصر لِأَنَّهُ بالتردد لزمَه الْإِتْمَام
وَاعْلَم أَن للقصر أَرْبَعَة شُرُوط
أَحدهَا النِّيَّة كَمَا ذكره الشَّيْخ
الثَّانِي أَن يكون مُسَافِرًا من أول الصَّلَاة إِلَى آخرهَا فَلَو نوى الْإِقَامَة فِي أَثْنَائِهَا أَو انْتَهَت بِهِ السَّفِينَة إِلَى دَار الْإِقَامَة لزمَه الْإِتْمَام
الثَّالِث أَن يعلم بِجَوَاز الْقصر فَلَو جهل جَوَازه فقصر لم تصح صلَاته لتلاعبه نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم قَالَ النَّوَوِيّ وَيلْزمهُ إِعَادَة هَذِه الصَّلَاة أَرْبعا الشَّرْط الرَّابِع
أَن لَا يَقْتَدِي بمقيم أَو بمتم فِي جُزْء من صلَاته فَإِن فعل لزمَه الْإِتْمَام وَلَو صلى الظّهْر خلف من يُصَلِّي الصُّبْح مُسَافِرًا كَانَ أَو مُقيما لم يجز لَهُ الْقصر على الْأَصَح لِأَنَّهَا صَلَاة لَا تقصر وَلَو صلى الظّهْر خلف من يُصَلِّي الْجُمُعَة فَالْمَذْهَب أَنه لَا يجوز لَهُ الْقصر وَيلْزمهُ الْإِتْمَام وَسَوَاء كَانَ إِمَام الْجُمُعَة مُسَافِرًا أَو مُقيما وَلَو نوى الظّهْر مَقْصُورَة خلف من يُصَلِّي الْعَصْر مَقْصُورَة جَازَ وَالله أعلم
(فرع) اقْتدى الْمُسَافِر بِمن علمه أَو ظَنّه مُقيما لزم الْإِتْمَام وَكَذَا لَو شكّ هَل هُوَ مُسَافر أَو(1/138)
مُقيم يلْزمه الْإِتْمَام وَإِن اقْتدى بِمن علمه أَو ظَنّه مُسَافِرًا أَو علم أَو ظن أَنه قصر جَازَ لَهُ أَن يقصر خَلفه وَكَذَا لَو لم يدر أَنه نوى الْقصر فَلَا يلْزمه الْإِتْمَام بِهَذَا التَّرَدُّد لِأَن الظَّاهِر من حَال الْمُسَافِر أَنه يَنْوِي الْقصر وَكَذَا لَو عرض لَهُ هَذَا التَّرَدُّد فِي أثْنَاء الصَّلَاة لَا يلْزمه الْإِتْمَام وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز للْمُسَافِر أَن يجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء فِي وَقت أَيهمَا شَاءَ)
يجوز الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء جمع تَقْدِيم فِي وَقت الأولى وَجمع تَأْخِير فِي وَقت الثَّانِيَة فِي السّفر الطَّوِيل وَلَا تجمع الصُّبْح إِلَى غَيرهَا وَلَا الْعَصْر إِلَى الْمغرب
وَالْأَصْل فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك فَكَانَ يجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء فَأخر الصَّلَاة يَوْمًا ثمَّ خرج فصلى الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا ثمَّ دخل ثمَّ خرج فصلى الْمغرب وَالْعشَاء جَمِيعًا)
ثمَّ لجمع التَّقْدِيم ثَلَاثَة شُرُوط أَحدهَا أَن يبْدَأ بِالْأولَى بِأَن يُصَلِّي الظّهْر قبل الْعَصْر وَالْمغْرب قبل الْعشَاء لِأَن الْوَقْت للأولى وَالثَّانيَِة تبع لَهَا وَالتَّابِع لَا يتَقَدَّم على الْمَتْبُوع فَلَو بَدَأَ بِالثَّانِيَةِ لم تصح وَيُعِيدهَا بعد الأولى
الشَّرْط الثَّانِي نِيَّة الْجمع عِنْد تحرم الأولى أَو فِي أَثْنَائِهَا على الْأَظْهر فَلَا يجوز بعد سَلام الأولى
الشَّرْط الثَّالِث الْمُوَالَاة بَين الأولى وَالثَّانيَِة لِأَن الثَّانِيَة تَابِعَة وَالتَّابِع لَا يفصل عَن متبوعه وَلِأَنَّهُ الْوَارِد عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلِهَذَا يتْرك الرَّوَاتِب بَينهمَا فَلَو وَقع الْفَصْل الطَّوِيل بَينهمَا امْتنع ضم الثَّانِيَة إِلَى الأولى وَيتَعَيَّن تَأْخِيرهَا إِلَى وَقتهَا سَوَاء طَال بِعُذْر كالسهو وَالْإِغْمَاء وَغَيره أم لَا وَلَا يضر الْفَصْل الْقصير وَاحْتج لَهُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لما جمع بنمرة أَمر بِالْإِقَامَةِ بَينهمَا ثمَّ جُمْهُور الْأَصْحَاب جوزوا الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ وَفِيه فصل مَعَ نوع طلب للْمَاء بِشَرْط أَن يكون خَفِيفا وَالصَّحِيح أَن الرُّجُوع فِي الْفَصْل إِلَى الْعرف هَذَا فِي جمع التَّقْدِيم أما جمع التَّأْخِير فَلَا يشْتَرط التَّرْتِيب بَين الصَّلَاتَيْنِ وَلَا نِيَّة الْجمع حَال الصَّلَاة على الصَّحِيح وَلَا الْمُوَالَاة نعم يجب أَن يَنْوِي فِي وَقت الأولى كَون التَّأْخِير لأجل الْجمع تمييزاً عَن التَّأْخِير مُتَعَدِّيا وَلِئَلَّا يَخْلُو الْوَقْت عَن الْفِعْل أَو الْعَزْم فَإِن لم ينْو عصى وَصَارَت الأولى قَضَاء وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز للحاضر فِي الْمَطَر أَن يجمع بَينهمَا فِي وَقت الأولى مِنْهُمَا)(1/139)
يجوز للمقيم الْجمع بالمطر فِي وَقت الأولى من الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء على الصَّحِيح وَقيل يخْتَص ذَلِك بالمغرب وَالْعشَاء للْمَشَقَّة وَهَذَا بِشَرْط أَن تقع الصَّلَاة فِي مَوضِع لَو سعى إِلَيْهِ أَصَابَهُ الْمَطَر وتبتل ثِيَابه وَاقْتصر الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ على ذَلِك وَإِن كَانَ الْمَطَر قَلِيلا إِذا بل الثَّوْب وَاشْترط القَاضِي حُسَيْن مَعَ ذَلِك أَن يبتل النَّعْل كَالثَّوْبِ وَذكر الْمُتَوَلِي فِي التَّتِمَّة مثله وَاحْتج للْجمع بِمَا ورد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(صلى بِالْمَدِينَةِ ثمانياً جَمِيعًا وَسبعا جَمِيعًا الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء) وَفِي رِوَايَة مُسلم من غير خوف وَلَا سفر وكما يجوز الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر يجوز الْجمع بَين الْجُمُعَة وَالْعصر ثمَّ إِذا جمع بالتقديم فَيشْتَرط فِي ذَلِك مَا شَرط فِي جمع السّفر وَيشْتَرط تحقق وجود الْمَطَر فِي أول الأولى وَأول الثَّانِيَة وَكَذَا يشْتَرط أَيْضا وجوده عِنْد السَّلَام من الأولى على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَقيل لَا يشْتَرط وَنَقله الإِمَام عَن مُعظم الْأَصْحَاب وَلَا يشْتَرط وجوده فِي غير هَذِه الْأَحْوَال الثَّلَاثَة هَذَا هُوَ الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَقطع بِهِ الْأَصْحَاب وَقَول الشَّيْخ فِي وَقت الأولى يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لَا يجوز الْجمع بالمطر فِي وَقت الثَّانِيَة وَهُوَ كَذَلِك على الْأَظْهر وَفِي قَول يجوز قِيَاسا على جمع السّفر والقائلون بالأظهر فرقوا بِأَن السّفر إِلَيْهِ فَيمكن أَن يستديمه بِخِلَاف الْمَطَر فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهِ فقد يَنْقَطِع قبل الْجمع وَالله أعلم
(فرع) الْمَعْرُوف من الْمَذْهَب أَنه لَا يجوز الْجمع بِالْمرضِ وَلَا الوحل وَلَا الْخَوْف وَادّعى إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاع على امْتِنَاعه بِالْمرضِ وكذاادعى إِجْمَاع الْأمة على ذَلِك التِّرْمِذِيّ وَدَعوى الْإِجْمَاع مِنْهُمَا مَمْنُوع فقد ذهب جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم إِلَى جَوَاز الْجمع بِالْمرضِ مِنْهُم القَاضِي حُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ وَالرُّويَانِيّ والخطابي وَالْإِمَام أَحْمد وَمن تبعه على ذَلِك وَفعله ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَأنكرهُ رجل من بني تَمِيم فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أتعلمني السّنة لَا أم لَك وَذكر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله قَالَ ابْن شَقِيق فحاك فِي صَدْرِي من ذَلِك شَيْء فَأتيت أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلته عَن ذَلِك فَصدق مقَالَته وقصة ابْن عَبَّاس وسؤال ابْن شَقِيق ثابتان فِي صَحِيح مُسلم قَالَ النَّوَوِيّ القَوْل بِجَوَاز الْجمع بِالْمرضِ ظَاهر مُخْتَار فقد ثَبت فِي صَحِيح مُسلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(جمع بِالْمَدِينَةِ من غير خوف وَلَا مطر) قَالَ الأسنائي وَمَا اخْتَار النَّوَوِيّ نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي مُخْتَصر الْمُزنِيّ وَيُؤَيِّدهُ الْمَعْنى أَيْضا فَإِن الْمَرَض يجوز الْفطر كالسفر فالجمع أولى بل ذهب جمَاعَة من الْعلمَاء إِلَى جَوَاز الْجمع فِي الْحَضَر للْحَاجة لمن لَا يَتَّخِذهُ عَادَة وَبِه قَالَ أَبُو(1/140)
إِسْحَاق الْمروزِي وَنَقله عَن الْقفال وَحَكَاهُ الْخطابِيّ عَن جمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر من أَصْحَابنَا وَبِه قَالَ أَشهب من أَصْحَاب مَالك وَهُوَ قَول ابْن سِرين وَيشْهد لَهُ قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَرَادَ أَن لَا يحرج أمته حِين ذكر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(جمع بِالْمَدِينَةِ بَين الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء من غير خوف وَلَا مطر) فَقَالَ سعيد بن جُبَير لم فعل ذَلِك فَقَالَ لِئَلَّا يحرج أمته فَلم يعلله بِمَرَض وَلَا غَيره وَاخْتَارَ الْخطابِيّ من أَصْحَابنَا أَنه يجوز الْجمع بالوحل فَقَط وَالله أعلم قَالَ
بَاب صَلَاة الْجُمُعَة
(فصل وشرائط وجوب الْجُمُعَة سَبْعَة أَشْيَاء الْإِسْلَام)
الْجُمُعَة لَهَا شُرُوط بِاعْتِبَار الْوُجُوب وشروط بِاعْتِبَار صِحَة الْفِعْل وَسَيَأْتِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَسميت الْجُمُعَة جُمُعَة لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهَا أَو لما جمع فِيهَا من الْخَيْر
وَالْأَصْل فِي وُجُوبهَا الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} الآيه وَفِي صَحِيح مُسلم أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(لقد هَمَمْت أَن آمُر رجلا فَيصَلي بِالنَّاسِ ثمَّ أحرق على رجال يتخلفون عَن الْجُمُعَة بُيُوتهم) وَفِي رِوَايَة
(لينتهين أَقوام عَن ودعهم الْجُمُعَة أَو ليختمن الله على قُلُوبهم ثمَّ لَيَكُونن الغافلين) وَفِي الحَدِيث
(من ترك ثَلَاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه) إِذا عرفت هَذَا فَمن شُرُوط وُجُوبهَا الْإِسْلَام لما تقدم فِي كتاب الصَّلَاة قَالَ
(وَالْحريَّة وَالْبُلُوغ وَالْعقل)
أما وُجُوبهَا على الْحر الْبَالِغ الْعَاقِل فللأدلة الْمُتَقَدّمَة وَاحْترز الشَّيْخ بِالْحرِّ عَن العَبْد وبالبالغ عَن الصَّبِي وبالعاقل عَن غير الْعَاقِل فَلَا تجب الْجُمُعَة عَن عبد وَصبي وَمَجْنُون وَكَذَا(1/141)
الْمغمى عَلَيْهِ بِخِلَاف السَّكْرَان قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْجُمُعَة وَاجِبَة على كل مُسلم إِلَّا على أَرْبَعَة عبد مَمْلُوك وَامْرَأَة وَصبي ومريض) وَأما الْمَجْنُون فَلِأَنَّهُ غير مُكَلّف قَالَ
(والذكورة وَالصِّحَّة والاستيطان)
احترزنا بالذكورة عَن الْأُنُوثَة فَلَا تجب الْجُمُعَة على الْمَرْأَة للْحَدِيث الْمُتَقَدّم وَلِأَن فِي خُرُوجهَا إِلَى الْجُمُعَة تكليفاً لَهَا وَنَوع مُخَالطَة بِالرِّجَالِ وَلَا تأمن الْمفْسدَة فِي ذَلِك وَقد تحققت الْآن الْمَفَاسِد لَا سِيمَا فِي مَوَاضِع الزِّيَارَة كبيت الْمُقَدّس شرفه الله وَغَيره فَالَّذِي يجب الْقطع بِهِ مَنعهنَّ فِي هَذَا الزَّمَان الْفَاسِد لِئَلَّا يتَّخذ أشرف الْبِقَاع مَوَاضِع الْفساد وَاحْترز الشَّيْخ بِالصِّحَّةِ عَن الْمَرَض فَلَا تجب الْجُمُعَة على مَرِيض وَمن فِي مَعْنَاهُ كالجوع والعطش والعري وَالْخَوْف من الظلمَة وأتباعهم قَاتلهم الله مَا أفسدهم للشريعة وَحجَّة عدم الْوُجُوب على الْمَرِيض الحَدِيث السَّابِق وَالْبَاقِي بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَفِي معنى الْمَرِيض من بِهِ إسهال وَلَا يقدر على ضبط نَفسه ويخشى تلويث الْمَسْجِد ودخوله الْمَسْجِد وَالْحَالة هَذِه حرَام صرح بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الشَّهَادَة وَقد صرح الْمُتَوَلِي بِسُقُوط الْجُمُعَة عَنهُ وَلَو خشِي على الْمَيِّت الانفجار أَو تغيره كَانَ عذرا فِي ترك الْجُمُعَة فليبادر إِلَى تَجْهِيزه وَدَفنه وَقد صرح بذلك الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة وَقَوله الاستيطان احْتَرز بِهِ عَن غير المستوطن كالمسافر وَنَحْوه فَلَا جمعه عَلَيْهِم كالمقيم فِي مَوضِع لَا يسمع النداء من الْموضع الَّذِي تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة إِذْ لم ينْقل عَنهُ أَنه صلى الْجُمُعَة فِي سفر وَقد رُوِيَ
(لَا جُمُعَة على مُسَافر) قَالَ
(وشرائط فعلهَا ثَلَاثَة أَن تكون الْبَلَد مصرا أَو قَرْيَة وَأَن يكون الْعدَد أَرْبَعِينَ من أهل الْجُمُعَة وَأَن يكون الْوَقْت بَاقِيا فَإِن خرج الْوَقْت أَو عدمت الشُّرُوط صليت ظهرا)
لصِحَّة الْجُمُعَة شُرُوط بَقِيَّة شُرُوط الصَّلَاة مِنْهَا دَار الْإِقَامَة وَهِي عبارَة عَن الْأَبْنِيَة الَّتِي يستوطنها الْعدَد الَّذين يصلونَ الْجُمُعَة سَوَاء فِي ذَلِك المدن والقرى والمغر الَّتِي تتَّخذ وطناً وَسَوَاء فِيهَا الْبناء من حجر أَو طين أَو خشب وَنَحْوه وَوجه اشْتِرَاط ذَلِك أَنه لم ينْقل إِقَامَتهَا فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِلَّا كَذَلِك وَلَو جَازَت فِي غير ذَلِك لفَعَلت وَلَو مرّة وَلَو فعلت لنقل(1/142)
وَيشْتَرط فِي الْأَبْنِيَة أَن تكون مجتمعة فَلَو تَفَرَّقت لم يكف وَيعرف التَّفْرِيق بِالْعرْفِ وَلَا جُمُعَة على أهل الْخيام وَإِن لازموا مَكَانا وَاحِدًا صيفاً وشتاء لأَنهم على هَيْئَة المستوفزين وَمِنْهَا أَن تُقَام فِي جمَاعَة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين فَمن بعدهمْ لم ينْقل عَنْهُم وَلَا عَن غَيرهم فعلهَا فُرَادَى ثمَّ شَرط الْجَمَاعَة أَن تكون أَرْبَعِينَ وَبِه قَالَ الإِمَام أَحْمد رَضِي الله عَنهُ رِوَايَتَانِ أَحدهمَا مثل مَذْهَبنَا وَالْأُخْرَى أَن الِاعْتِبَار بِعَدَد يعد بهم الْموضع قَرْيَة وتمكنهم الْإِقَامَة فِيهِ وَيكون بَينهم البيع وَالشِّرَاء وَنقل صَاحب التَّلْخِيص من أَصْحَابنَا قولا عَن الْقَدِيم أَنَّهَا تَنْعَقِد بِثَلَاثَة وَلم يُثبتهُ عَامَّة الْأَصْحَاب وَالْمذهب الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنه لَا بُد من أَرْبَعِينَ وَاحْتج لَهُ بِأَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ
(مَضَت السّنة أَن فِي كل أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقهَا جُمُعَة) وَقَول الصَّحَابِيّ مَضَت السّنة كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْهَا حَدِيث كَعْب بن مَالك قَالَ أول من صلى بِنَا الْجُمُعَة فِي بَقِيع الْخضمات أسعد بن زُرَارَة وَكُنَّا أَرْبَعِينَ وَجه الدّلَالَة أَن الْغَالِب على أَحْوَال الْجُمُعَة التَّعَبُّد وَالْأَرْبَعُونَ أقل مَا ورد وَمِنْهَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام جمع بِالْمَدِينَةِ وَلم ينْقل أَنه جمع بِأَقَلّ من أَرْبَعِينَ واتفقنا على اقامتها بالأربعين فَمن ادّعى إِقَامَتهَا بِدُونِ ذَلِك فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَنقل عَن الإِمَام أَحْمد أَنه يشْتَرط خمسين وَاحْتج بِحَدِيث وَالْجَوَاب أَن الحَدِيث فِي رِجَاله جَعْفَر بن الزبير وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث
وَاعْلَم أَن شَرط الْأَرْبَعين الذُّكُورَة والتكليف وَالْحريَّة وَالْإِقَامَة على سَبِيل التوطن لَا يظعنون شتاء وَلَا صيفاً إِلَّا لحَاجَة فَلَا تَنْعَقِد بالإناث وَلَا بالصبيان وَلَا بالعبيد وَلَا بالمسافرين وَلَا بالمستوطنين شتاء دون صيف وَعَكسه والغريب إِذا أَقَامَ بِبَلَد واتخذه وطنا صَار لَهُ حكم أَهله فِي وجوب الْجُمُعَة وَإِن لم يتَّخذ بل عزمه الرُّجُوع إِلَى بَلَده بعد مُدَّة يخرج بهَا عَن كَونه مُسَافِرًا قَصِيرَة كَانَت أَو طَوِيلَة كالتاجر والمتفقة وَالَّذِي يرحل من بَلَده من قلَّة المَاء أَو خوف الظلمَة قَاتلهم الله ثمَّ عزمه يعود إِذا انفرج أمره فَهَؤُلَاءِ لَا تلزمهم الْجُمُعَة وَلَا تَنْعَقِد بهم على الْأَصَح
(فرع) إِذا تقَارب قَرْيَتَانِ فِي كل مِنْهُمَا دون أَرْبَعِينَ بِصفة الْكَمَال وَلَو اجْتَمعُوا لبلغوا أَرْبَعِينَ لم تَنْعَقِد بهم الْجُمُعَة وَإِن سَمِعت كل قَرْيَة نِدَاء الْأُخْرَى لِأَن الْأَرْبَعين غير مقيمين فِي مَوضِع الْجُمُعَة وَالله أعلم
وَمِنْهَا أَي من شُرُوط صِحَة الْجُمُعَة أَن تقع فِي الْوَقْت ووقتها وَقت الظّهْر فَلَا تقضى على صورتهَا بالِاتِّفَاقِ وَقَالَ الإِمَام أَحْمد تجوز قبل الزَّوَال وَحجَّتنَا مَا ورد عَن أنس(1/143)
رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(يُصَلِّي الْجُمُعَة حِين تَزُول الشَّمْس) وروى مُسلم عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(كُنَّا نصلي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجُمُعَة إِذا زَالَت الشَّمْس ثمَّ نرْجِع فنتتبع الْفَيْء أَي ظلّ الْحِيطَان) وَلَو ضَاقَ الْوَقْت عَن الْجُمُعَة صلوا ظهرا وَلَا يجوز الشُّرُوع فِي الْجُمُعَة نَص الشَّافِعِي فِي الْأُم وَلَو خرج الْوَقْت وهم فِيهَا أتموها ظهرا وَإِن صلو رَكْعَة فِي الْوَقْت وَلَو شكوا هَل خرج الْوَقْت أم لَا لم يشرعوا فِي الْجُمُعَة وصلوا ظهرا فَإِن الْوَقْت شَرط لَا بُد من تَحْقِيق وجوده وَقد شككنا فِيهِ نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم وَالله أعلم قَالَ
(وفرائضها ثَلَاثَة أَشْيَاء خطبتان يقوم فيهمَا وَيجْلس بَينهمَا وَأَن تصلى رَكْعَتَيْنِ فِي جمَاعَة)
من شُرُوط صِحَة الْجُمُعَة أَن يتقدمها خطبتان فِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر بن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(كَانَ يخْطب خطبتين يجلس بَينهمَا وَكَانَ يخْطب قَائِما) وَفِي رِوَايَة
(أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يخْطب خطبتين يقْرَأ الْقُرْآن وَيذكر النَّاس) وللخطبة خَمْسَة أَرْكَان
أَحدهَا حمد لله تَعَالَى وَيتَعَيَّن لفظ الْحَمد
وَالثَّانِي الصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيتَعَيَّن لفظ الصَّلَاة
الثَّالِث الْوَصِيَّة بتقوى الله تَعَالَى قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَار على التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها فَإِن ذَلِك قد يتواصى بِهِ مُنكر والشرائع بل لَا بُد من الْحمل على طَاعَة الله تَعَالَى وَالْمَنْع من الْمعاصِي بِلَا خلاف وَلَو قَالَ أطِيعُوا الله كفى
الرَّابِع الدُّعَاء للْمُؤْمِنين وَهُوَ ركن على الصَّحِيح وَلَا تصح الْخطْبَة بِدُونِهِ وَهُوَ مَخْصُوص بِالثَّانِيَةِ وَيَكْفِي مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الدُّعَاء
الْخَامِس قِرَاءَة شَيْء من الْقُرْآن وَأقله آيَة وَاحِدَة نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي سَوَاء كَانَت وَعدا أَو وعيداً أَو حكما أَو قصَّة وَيشْتَرط كَون الْآيَة مفهمة فَلَا يَكْفِي {ثمَّ نظر} وَإِن كَانَت آيَة وَاخْتلف فِي مَحل الْقِرَاءَة وَالصَّحِيح الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم أَنَّهَا تجب فِي إِحْدَى الْخطْبَتَيْنِ لَا بِعَينهَا وَالله أعلم(1/144)
هَذِه أَرْكَان الْخطْبَة أما شُرُوطهَا فستة
أَحدهَا الْوَقْت وَهُوَ بعد الزَّوَال فَلَا يَصح تَقْدِيم شَيْء مِنْهَا عَلَيْهِ
الثَّانِي تَقْدِيم الْخطْبَتَيْنِ على الصَّلَاة
الثَّالِث الْقيام فيهمَا مَعَ الْقُدْرَة
الرَّابِع الْجُلُوس بَينهمَا وَتجب الطُّمَأْنِينَة فِيهِ فَلَو كَانَ عَاجِزا عَن الْقيام وخطب جَالِسا وَجب أَن يفصل بَينهمَا بسكتة على الْأَصَح
الْخَامِس الطَّهَارَة عَن الْحَدث وَالنَّجس فِي الْبدن وَالثَّوْب وَالْمَكَان وَكَذَا يجب ستر الْعَوْرَة على الْجَدِيد
السَّادِس رفع الصَّوْت بِحَيْثُ يسمع أَرْبَعِينَ من أهل الْكَمَال وَإِلَّا لما يحصل الْمَقْصُود من مَشْرُوعِيَّة الْخطْبَة وَهل يشْتَرط كَونهَا عَرَبِيَّة الصَّحِيح نعم لنقل الْخلف عَن السّلف ذَلِك وَقيل لَا يجب لحُصُول الْمَعْنى فعلى الصَّحِيح لَو لم يكن فيهم من يحسن الْعَرَبيَّة جَازَ بغَيْرهَا وَيجب على كل وَاحِد أَن يتعلمها بِالْعَرَبِيَّةِ كالعاجز عَن التَّكْبِير بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِن مَضَت مُدَّة إِمْكَان التَّعْلِيم وَلم يتَعَلَّم أحد مِنْهُم عصوا كلهم وَلَا جُمُعَة لَهُم بل يصلونَ الظّهْر كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَوُجُوب تعلم الْخطْبَة على كل وَاحِد ذكره فِي التَّتِمَّة وَذكره غَيره وَجزم بِهِ ابْن الرّفْعَة وَعبارَة الرَّوْضَة وَيجب أَن يتَعَلَّم كل وَاحِد مِنْهُم الْخطْبَة قَالَ الأسنوي وَهُوَ غلط قَالَ القَاضِي حُسَيْن وَإِذا لم يعرف الْقَوْم الْعَرَبيَّة فَمَا فَائِدَة الْخطْبَة وَأجَاب بِأَن فَائِدَة الْخطْبَة الْعلم بالوعظ من حَيْثُ الْجُمْلَة وَقَول الشَّيْخ وَأَن تصلى رَكْعَتَيْنِ فِي جمَاعَة لقَوْل عمر رَضِي الله عَنهُ الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ تَمام من غير قصر على لِسَان مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَا نقلهَا الْخلف عَن السّلف قَالَ ابْن الْمُنْذر وَهَذَا بِالْإِجْمَاع وَكَونهَا فِي جمَاعَة قد مر وَالله أعلم قَالَ
(وهيئاتها أَربع الْغسْل وتنظيف الْجَسَد وَلبس الثِّيَاب الْبيض وَأخذ الظفر وَالطّيب)
السّنة لمن أَرَادَ الْجُمُعَة أَن يغْتَسل لَهَا بل يكره تَركه فِي أصح الْوَجْهَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ
(إِذا أَتَى أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا
(حق على كل مُسلم أَن يغْتَسل فِي كل سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا) زَاد النَّسَائِيّ وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة ولغسل الْجُمُعَة تَتِمَّة مهمة مرت فِي فصل الأغسال المسنونة وَالْغسْل وَإِن صدق بسكب المَاء على جَمِيع الْجَسَد إِلَّا أَن الْمَقْصُود مِنْهُ تنظيف الْجَسَد من الأوساخ الَّتِي يحصل بِسَبَبِهَا رَائِحَة كريهة فَلهَذَا ذكر الشَّيْخ تنظيف الْجَسَد وَمن السّنة أَيْضا أَن يتزين ويلبس من أحسن ثِيَاب ويتطيب لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة وَلبس من(1/145)
أحسن ثِيَابه وَمَسّ من طيب بَيته إِن كَانَ عِنْده ثمَّ أَتَى الجمعه فَلم يتخط أَعْنَاق النَّاس ثمَّ صلى مَا كتب لَهُ أنصت إِذا خرج إِمَامه حَتَّى يفرغ من صلَاته كَانَت كَفَّارَة بَينهَا وَبَين جمعته الَّتِي قبلهَا) والأبيض من الثِّيَاب أفضل وكما يسْتَحبّ الْغسْل وَالطّيب يسْتَحبّ إِزَالَة الظفر وَالشعر الْمُسْتَحبّ إزالتهما وَالْحكمَة فِي الْغسْل أَن لَا يجد الجليس من جليسه مَا يكره فَيَتَأَذَّى قَالَ الْعلمَاء وَيُؤْخَذ من هَذَا أَن الجليس لَا يتعاطى مَا يتَأَذَّى مِنْهُ جليسه من كَلَام سيء وَغَيره ومشروعية الطّيب حَتَّى يجد الجليس من جليسه مَا ينْتَفع بِهِ من طيب الرَّائِحَة وَحسن الثِّيَاب لأجل النّظر فَلَا يجد مَا يتَأَذَّى بِهِ بَصَره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على من شرع لنا هَذَا الْخَيْر وَالله أعلم قَالَ
0 - وَيسْتَحب الْإِنْصَات فِي حَال الْخطْبَة)
هَل يحرم الْكَلَام وَقت الْخطْبَة فِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم أَنه يحرم وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد فِي أرجح الرِّوَايَتَيْنِ عِنْده لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين نزلت فِي الْخطْبَة قُرْآنًا لاشتمالها على الْقُرْآن الَّذِي يُتْلَى فِيهَا وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا قلت لصاحبك يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب أنصت فقد لغوت) واللغو الاثم قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذين هم عَن اللَّغْو معرضون} والجديد أَن الْكَلَام لَيْسَ بِحرَام والإنصات سنة لما رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
(أَن عُثْمَان دخل وَعمر يخْطب فَقَالَ عمر مَا بَال رجال يتأخرون عَن النداء فَقَالَ عُثْمَان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا زِدْت حِين سَمِعت النداء أَن تَوَضَّأت) وَرُوِيَ
(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل عَلَيْهِ رجل وَهُوَ يخْطب الْجُمُعَة فَقَالَ مَتى السَّاعَة فَأَوْمأ النَّاس إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ فَلم يفعل وَأعَاد الْكَلَام فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بعد الثَّانِيَة وَيحك مَا أَعدَدْت لَهَا قَالَ حب الله وَرَسُوله فَقَالَ إِنَّك مَعَ من أَحْبَبْت) وَجه الدّلَالَة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يُنكر عَلَيْهِم ذَلِك وَلَو كَانَ حَرَامًا لأنكره(1/146)
وَيجوز الْكَلَام قبل الشُّرُوع فِي الْخطْبَة وَبعد الْفَرَاغ مِنْهَا وَقبل الصَّلَاة قَالَ فِي المرشد حَتَّى فِي حَال الدُّعَاء لِلْأُمَرَاءِ أَو فِيمَا بَين الْخطْبَتَيْنِ خلاف وَظَاهر كَلَام الشَّيْخ أَنه لَا يحرم وَبِه جزم فِي الْمُهَذّب وَالْغَزالِيّ فِي الْوَسِيط نعم فِي الشَّامِل وَغَيره إِجْرَاء الْقَوْلَيْنِ ثمَّ هَذَا فِي الْكَلَام الَّذِي لَا يتَعَلَّق بِهِ غَرَض مُهِمّ ناجز فَأَما إِذا رأى أعمى يَقع فِي بِئْر أَو عقربا ندب على إِنْسَان فأنذره أَو علم ظَالِما يتطلب شخصا بِغَيْر حق كعريف الْأَسْوَاق ورسل قُضَاة الرشا فَلَا يحرم بِلَا خلاف وَكَذَا لَو أَمر بِمَعْرُوف أَو نهى عَن مُنكر فَإِنَّهُ لَا يحرم قطعا وَقد نَص على ذَلِك الشَّافِعِي وَاتفقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَاب
(فرع) لَو سلم الدَّاخِل حَال الْخطْبَة فَإِن قُلْنَا بالقديم يحرم الْكَلَام حرمت إجَابَته بِاللَّفْظِ وَيسْتَحب بِالْإِشَارَةِ كَمَا فِي حَال الصَّلَاة وَلَو عطس شخص فَيحرم تشميته على الصَّحِيح كرد السَّلَام وَإِن قُلْنَا بالجديد إِنَّه لَا يحرم الْكَلَام فَيجوز رد السَّلَام والتشميت بِلَا خلاف وَهل يجب رد السَّلَام فِيهِ خلاف الصَّحِيح فِي الشَّرْح الصَّغِير اسْتِحْبَابه أَيْضا لَا وُجُوبه وَكَذَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وأصل الرَّوْضَة وَالله أعلم قَالَ
(وَمن دخل وَالْإِمَام يخْطب صلى رَكْعَتَيْنِ خفيفتين ثمَّ يجلس)
إِذا حضر شخص وَالْإِمَام يخْطب لم يتخط رِقَاب النَّاس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من تخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة اتخذ جِسْرًا إِلَى جَهَنَّم) وَيسْتَثْنى من ذَلِك الإِمَام وَمن بَين يَدَيْهِ فُرْجَة وَلَا طَرِيق إِلَيْهَا إِلَّا بالتخطي لأَنهم قصروا بِعَدَمِ سدها ثن الْمَنْع من التخطي لَا يخْتَص بِحَال الْخطْبَة بل الحكم قبلهَا كَذَلِك ثمَّ الدَّاخِل هَل يُصَلِّي التَّحِيَّة اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَقَالَ القَاضِي عِيَاض قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَجُمْهُور السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَا يُصَلِّيهمَا ويروى عَن عمر وَعُثْمَان وعَلى رَضِي الله عَنْهُم وحجتهم الْأَمر بالإنصات وتأولوا الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي قَضِيَّة سليك على أَنه كَانَ عُريَانا فآمره بِالْقيامِ ليراه النَّاس ويتصدقوا عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِي وَالْإِمَام أَحْمد وَإِسْحَاق وفقهاء الْمُحدثين إِنَّه يسْتَحبّ أَن يُصَلِّي تَحِيَّة الْمَسْجِد رَكْعَتَيْنِ خفيفتين وَيكرهُ أَن يجلس قبل أَن يُصَلِّيهمَا وَحكى هَذَا الْمَذْهَب عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره من الْمُتَقَدِّمين وَاحْتج هَؤُلَاءِ بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسليك حِين جَاءَ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة وَقد جلس
(أصليت يَا فلَان قَالَ لَا قَالَ قُم فاركع) وَفِي رِوَايَة
(قُم فَصلي الرَّكْعَتَيْنِ) وَفِي رِوَايَة
(صل رَكْعَتَيْنِ) وَفِي رِوَايَة
(إِذا(1/147)
جَاءَ أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة وَقد خرج الإِمَام فَليصل رَكْعَتَيْنِ) وَفِي رِوَايَة
(وَالْإِمَام يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ وليتجوز فيهمَا) قَالَ النَّوَوِيّ وَهَذِه الْأَحَادِيث كلهَا صَرِيحَة فِي الدّلَالَة لمَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَتَأْويل من قَالَ إِن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسليك بِالْقيامِ ليتصدق عَلَيْهِ بَاطِل يردهُ صَرِيح قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا جَاءَ أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ وليتجوز فيهمَا) فَهَذَا نَص صَرِيح لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ تَأْوِيل وَلَا أَظن عَالما يبلغهُ هَذَا اللَّفْظ صَحِيحا فيخالفه وَالله أعلم
وَقَول الشَّيْخ وَمن دخل وَالْإِمَام يخْطب يَقْتَضِي أَن الْحَاضِر لَا يفْتَتح صَلَاة وَلم يبين أَنه مَكْرُوه أم لَا وَعبارَة الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة يَنْبَغِي لمن لَيْسَ فِي الصَّلَاة من الْحَاضِرين أَن لَا يستفتحها سَوَاء صلى السّنة أم لَا وَفِي الْحَاوِي الصَّغِير الْكَرَاهَة وَالَّذِي ذكره النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أَنه حرَام وَنقل الْإِجْمَاع على ذَلِك وَلَفظه قَالَ أَصْحَابنَا إِذا جلس الإِمَام على الْمِنْبَر حرم على من فِي الْمَسْجِد أَن يبتدىء صَلَاة وَإِن كَانَ فِي صَلَاة خففها وَهَذَا إِجْمَاع قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَكَذَا ذكره الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالله أعلم قلت هَذِه مَسْأَلَة حَسَنَة نفيسة قل من يعرفهَا على وَجههَا فَيَنْبَغِي الاعتناء بهَا وَلَا يغتر بِفعل ضعفاء الطّلبَة وجهلة المتصوفة فَإِن الشَّيْطَان يتلاعب بصوفية زملننا كتلاعب الصّبيان بالكرة وَأَكْثَرهم صدهم عَن الْعلم مشقة الطّلب فاستدرجهم الشَّيْطَان قَالَ السَّيِّد الْجَلِيل أبوزيد قعدت ثَلَاثِينَ سنه فِي المجاهدة فَلم أر أصعب عَليّ من الْعلم وَقَالَ السَّيِّد الْجَلِيل أَبُو بكر الشبلي إِن فِي الطَّاعَة من الْآفَات مَا يغنيكم أَن تَطْلُبُوا الْمعاصِي فِي غَيرهَا وَقَالَ السَّيِّد الْجَلِيل ضرار بن عَمْرو إِن قوما تركُوا الْعلم ومجالسة الْعلمَاء وَاتَّخذُوا محاريب وصلوا وصاموا حَتَّى يبس جلد أحدهم على عظمه خالفوا فهلكوا وَالَّذِي لَا اله غَيره مَا عمل عَامل على جهل إِلَّا كَانَ مَا يفْسد أَكثر مِمَّا يصلح وَهَذِه زِيَادَة خَارجه عَن الْفَنّ الَّذِي نَحن فِيهِ فَمن أَرَادَ من هَذِه المناداة فَعَلَيهِ بِكِتَاب سير السالك فِي أَسْنَى المسالك وَالله أعلم قَالَ
بَاب صَلَاة الْعِيدَيْنِ
(فصل وَصَلَاة الْعِيدَيْنِ سنة مُؤَكدَة وَهِي رَكْعَتَانِ يكبر فِي الأولى سبعا سوى تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَفِي الثَّانِيَة خمْسا سوى تَكْبِيرَة الْقيام ويخطب بعْدهَا خطبتين)
الْعِيد مُشْتَقّ من الْعود لِأَنَّهُ يعود فِي السنين أَو يعود السرُور بعوده أَو لِكَثْرَة عوائد الله تَعَالَى(1/148)
على عباده فِيهِ أَي أفضاله ثمَّ صَلَاة الْعِيد مَطْلُوبَة بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {فصل لِرَبِّك وانحر} قيل المُرَاد بِالصَّلَاةِ هُنَا صَلَاة عيد النَّحْر وَلَا خَفَاء فِي أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يُصَلِّيهمَا هُوَ وَالصَّحَابَة مَعَه وَمن بعده وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أول عيد صلاه الْفطر فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة وفيهَا فرضت زَكَاة الْفطر قَالَه الْمَاوَرْدِيّ ثمَّ الصَّلَاة سنة لقَوْل الْأَعرَابِي هَل عَليّ غَيرهَا أَي غير الصَّلَوَات الْخمس قَالَ لَا إِلَّا أَن تطوع وَهَذَا مَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَقيل إِنَّهَا فرض كِفَايَة لِأَنَّهَا من شَعَائِر الْإِسْلَام فَتَركهَا تهاون فِي الدّين وتشرع جمَاعَة بِالْإِجْمَاع وَالْمذهب أَنَّهَا تشرع للنفرد وَالْمُسَافر وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة لِأَنَّهَا نَافِلَة فَأَشْبَهت الاسْتِسْقَاء والكسوف نعم يكره للشابة الجميلة وَذَوَات الْهَيْئَة الْحُضُور وَيسْتَحب للعجوز الْحُضُور فِي ثِيَاب بذلتها بِلَا طيب
قلت يَنْبَغِي الْقطع فِي زَمَاننَا بِتَحْرِيم خُرُوج الشابات وَذَوَات الهيئات لِكَثْرَة الْفساد وَحَدِيث أم عَطِيَّة وَإِن دلّ على الْخُرُوج إِلَّا أَن الْمَعْنى الَّذِي كَانَ فِي خير الْقُرُون قد زَالَ وَالْمعْنَى أَنه كَانَ فِي الْمُسلمين قلَّة فَأذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُنَّ فِي الْخُرُوج ليحصل بِهن الْكَثْرَة وَلِهَذَا أذن للْحيض مَعَ أَن الصَّلَاة مفقودة فِي حقهن وتعليله بشهودهن الْخَيْر ودعوة الْمُسلمين لَا يُنَافِي مَا قُلْنَا وَأَيْضًا فَكَانَ الزَّمَان زمَان أَمن فَكُن لَا يبدين زينتهن ويغضضن أبصارهن وَكَذَا الرِّجَال يَغُضُّونَ من أَبْصَارهم وَأما زَمَاننَا فخروجهن لأجل إبداء زينتهن وَلَا يغضضن أبصارهن وَلَا يغض الرِّجَال من أَبْصَارهم ومفاسد خروجهن مُحَققَة وَقد صَحَّ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت
(لَو رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أحدث النِّسَاء لمنعهن الْمَسَاجِد كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل) فَهَذِهِ فَتْوَى أم الْمُؤمنِينَ فِي خير الْقُرُون فَكيف بزماننا هَذَا الْفَاسِد وَقد قَالَ بِمَنْع النِّسَاء من الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد خلق غير عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مِنْهُم عُرْوَة بن الزبير رَضِي الله عَنهُ وَالقَاسِم وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَأَبُو حنيفَة مرّة وَمرَّة أجَازه وَكَذَا مَنعه أَبُو يُوسُف وَهَذَا فِي ذَلِك الزَّمَان وَأما فِي زَمَاننَا هَذَا فَلَا يتَوَقَّف أحد من الْمُسلمين فِي مَنعهنَّ إِلَّا غبي قَلِيل البضاعة فِي معرفَة أسرار الشَّرِيعَة قد تمسك بِظَاهِر دَلِيل حمل على ظَاهره دون فهم مَعْنَاهُ مَعَ إهماله فهم عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَمن نحا نَحْوهَا وَمَعَ إهمال الْآيَات الدَّالَّة على تَحْرِيم إِظْهَار الزِّينَة وعَلى وجوب غض الْبَصَر فَالصَّوَاب الْجَزْم بِالتَّحْرِيمِ وَالْفَتْوَى بِهِ وَالله أعلم
ثمَّ وَقتهَا مَا بَين طُلُوع الشَّمْس والزوال وَقيل لَا يدْخل وَقتهَا إِلَّا بارتفاع الشَّمْس قدر رمح وَالصَّحِيح الأول والارتفاع قدر رمح مُسْتَحبّ ليزول وَقت الْكَرَاهَة وكيفيتها رَكْعَتَانِ للادلة وَإِجْمَاع الْأمة وَيَنْوِي صَلَاة عيد الْفطر أَو الْأَضْحَى وَيكبر فِي الأولى سبع(1/149)
تَكْبِيرَات غير تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَفِي الثَّانِيَة خمْسا سوى تَكْبِيرَة الْقيام من السُّجُود
(رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يكبر فِي الْفطر والأضحى فِي الأولى سبعا قبل الْقِرَاءَة وَفِي الثَّانِيَة خمْسا قبل الْقِرَاءَة) وَيقف بَين كل تكبيرتين قدر آيَة معتلة يهلل وَيكبر ويحمد ورد عَن ابْن مَسْعُود قولا وفعلاً وَمعنى يهلل يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله والتحميد التَّعْظِيم وَهَذَا إِشَارَة إِلَى التَّسْبِيح والتحميد وَيحسن سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر لِأَنَّهُ اللَّائِق بِالْحَال وجامع للأنواع الْمَشْرُوعَة للصَّلَاة وَهِي الْبَاقِيَات الصَّالِحَات كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَجَمَاعَة وَلَو نسي التَّكْبِيرَات وَشرع فِي الْقِرَاءَة فَاتَت وَيقْرَأ بعد الْفَاتِحَة فِي الأولى ق وَفِي الثَّانِيَة اقْتَرَبت بكمالها رَوَاهُ مُسلم وَتَكون الْقِرَاءَة جَهرا للسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَكَذَا يجْهر بالتكبيرات ثمَّ يسن بعد الصَّلَاة خطبتان ورد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا
(كَانُوا يصلونَ الْعِيد قبل الْخطْبَة) فَلَو خطب قبل الصَّلَاة لم يعْتد بهَا على الصَّحِيح الصَّوَاب الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وتكرير الْخطْبَة هُوَ بِالْقِيَاسِ على الْجُمُعَة وَلَو يثبت فِيهِ حَدِيث قَالَه النَّوَوِيّ فِي الْخُلَاصَة وَيسْتَحب أَن يفْتَتح الأولى بتسع تَكْبِيرَات وَالثَّانيَِة بِسبع تَكْبِيرَات وَاعْلَم أَن الصَّلَاة تجوز فِي الصَّحرَاء فَإِن كَانَ بِمَكَّة فالمسجد الْحَرَام أفضل وَإِن لم يكن عذر فَإِن ضَاقَ الْمَسْجِد فالصحراء أولى بل يكره فعلهَا فِي الْمَسْجِد وَإِن كَانَ الْمَسْجِد وَاسِعًا فَالصَّحِيح أَن الْمَسْجِد أولى وَالله أعلم قَالَ
(وَيكبر من غرُوب الشَّمْس لَيْلَة الْعِيد إِلَى أَن يدْخل الإِمَام فِي الصَّلَاة وَفِي الْأَضْحَى خلف الصَّلَوَات الْفَرَائِض من صبح يَوْم عَرَفَة إِلَى الْعَصْر من آخر أَيَّام التَّشْرِيق)
يسْتَحبّ التَّكْبِير بغروب الشَّمْس لَيْلَتي الْعِيد الْفطر والأضحى وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الْمَسَاجِد والبيوت والأسواق وَلَا بَين اللَّيْل وَالنَّهَار وَعند ازدحام النَّاس ليوافقوه على ذَلِك وَلَا فرق(1/150)
بَين الْحَاضِر وَالْمُسَافر دَلِيله فِي عيد الْفطر قَوْله تَعَالَى {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} وَفِي عيد الْأَضْحَى بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ ويغني عَنهُ ورد عَن أم عَطِيَّة قَالَت
(كُنَّا نؤمر فِي الْعِيدَيْنِ بِالْخرُوجِ حَتَّى تخرج الْحيض فيكُن خلف النَّاس يكبرن بتكبيرهم) وَأما آخر وَقت التَّكْبِير فَفِي عيد الْفطر حَتَّى يحرم الإِمَام بِصَلَاة الْعِيد هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَأما فِي الْأَضْحَى فَالصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ أَن آخر عقيب الصُّبْح من آخر أَيَّام التَّشْرِيق وَعند النَّوَوِيّ الصَّحِيح أَنه عقيب الْعَصْر آخر أَيَّام التَّشْرِيق قَالَ وَهُوَ الْأَظْهر عِنْد الْمُحَقِّقين للْحَدِيث وابتداؤه بصبح يَوْم عَرَفَة ويشرع فِي الْأَضْحَى خلف الْفَرَائِض الْحَاضِرَة والفائتة وَكَذَا فِي كل صَلَاة نَافِلَة كَانَت ذَات سَبَب أَو مُطلقَة أَو فرض كِفَايَة كَصَلَاة جَنَازَة وَهل يسْتَحبّ عقب الصَّلَوَات فِي عيد الْفطر فِيهِ خلاف وَالأَصَح فِي أصل الرَّوْضَة أَنه لَا يسْتَحبّ لعدم نَقله وَصحح النَّوَوِيّ فِي الْأَذْكَار أَنه يسْتَحبّ عقب الصَّلَوَات كالأضحى وَيسْتَحب رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ للرِّجَال دون النِّسَاء وَالتَّكْبِير فِي وقته أفضل من غَيره من الْأَذْكَار لِأَنَّهُ شعار الْيَوْم وَالله أعلم (فرع) : الْحَاج يكبر من ظهر يَوْم النَّحْر وَهُوَ يَوْم الْعِيد وَيخْتم بيصح آخر أَيَّام التَّشْرِيق وَالصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ أَن غير الْحَاج كالحاج وَالله أعلم قَالَ:
بَاب صَلَاة الْكُسُوف والخسوف
(فصل وَيصلى لكسوف الشَّمْس وخسوف الْقَمَر رَكْعَتَيْنِ فِي كل رَكْعَة قيامان يُطِيل الْقِرَاءَة فيهمَا وركوعان يُطِيل التَّسْبِيح فيهمَا دون السُّجُود)
اعْلَم أَن الْكُسُوف والخسوف يُطلق على الشَّمْس وَالْقَمَر جَمِيعًا نعم الأجود كَمَا قَالَه الْجَوْهَرِي أَن الْكُسُوف للشمس والخسوف للقمر وَالصَّلَاة لَهما سنة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِن الشَّمْس وَالْقَمَر لَا ينكسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فصلوا وَادعوا الله تَعَالَى) وَفِي رِوَايَة
(أدعوا الله وصلوا حَتَّى ينْكَشف مَا بكم) ثمَّ أقلهَا أَن يحرم بنية صَلَاة الْكُسُوف وَيقْرَأ الْفَاتِحَة ويركع ثمَّ يرفع فَيقْرَأ الْفَاتِحَة ثمَّ يرْكَع ثَانِيًا ثمَّ يرفع ويطمئن ثمَّ يسْجد فَهَذِهِ رَكْعَة ثمَّ يُصَلِّي ثَانِيَة كَذَلِك فَهِيَ رَكْعَتَانِ فِي كل رَكْعَة قيامان وركوعان وَيقْرَأ الْفَاتِحَة فِي كل قيام فَلَو اسْتمرّ الْكُسُوف فَهَل يزِيد رُكُوعًا ثَالِثا وَجْهَان الصَّحِيح لَا يجوز كَسَائِر الصَّلَوَات وكما لَا يجوز زِيَادَة رُكُوع ثَالِث لَا يجوز(1/151)
نقص رُكُوع لَو حصل الانجلاء وَلَو سلم من الصَّلَاة والكسوف بَاقٍ فَلَيْسَ لَهُ أَن يستفتح صَلَاة أُخْرَى على الْمَذْهَب والأكمل فِي هَذِه أَن يقْرَأ فِي الْقيام الأول بعد الْفَاتِحَة وَمَا يسْتَحبّ من الاستفتاح وَغَيره سُورَة الْبَقَرَة فَإِن لم يحسنها قَرَأَ بِقَدرِهَا وَفِي الْقيام الثَّانِي كمائتي آيَة مِنْهَا وَفِي الْقيام الثَّالِث يقْرَأ قدر مائَة وَخمسين آيَة وَفِي الرَّابِع قدر مائَة كَذَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَيسْتَحب أَن يطول فِي الرُّكُوع الأول بالتسبيح قدر مائَة آيَة من الْبَقَرَة وَفِي الثَّانِي ثَمَانِينَ آيَة وَفِي الثَّالِث سبعين آيَة وَفِي الرَّابِع قدر خمسين آيَة لمجيئه فِي الْخَبَر وَلَا يطول السُّجُود على الصَّحِيح كالاعتدال قَالَه الرَّافِعِيّ وَصحح النَّوَوِيّ التَّطْوِيل قَالَ وَثَبت فِي الصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْبُوَيْطِيّ وتستحب الْجَمَاعَة فِي صَلَاة الْكُسُوف وينادى لَهَا الصَّلَاة جَامِعَة وَلَو أدْرك الْمَسْبُوق الإِمَام فِي الرُّكُوع الثَّانِي لم يدْرك الرَّكْعَة على الْمَذْهَب لِأَن الرُّكُوع الثَّانِي يتبع الأول وَالله أعلم قَالَ
(ويخطب بعْدهَا خطبتين وَيسر فِي كسوف الشَّمْس ويجهر فِي خُسُوف الْقَمَر)
يسن أَن يخْطب بعد الصَّلَاة خطبتين كخطبتي الْجُمُعَة لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ورد وَفِيه
(قَامَ فَخَطب فَأثْنى على الله تَعَالَى) إِلَى أَن قَالَ
(يَا أمة مُحَمَّد هَل من أحد أغير من الله أَن يرى عَبده أَو أمته يزنيان يَا أمة مُحَمَّد وَالله لَو تعلمُونَ مَا أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قَلِيلا أَلا هَل بلغت) وروى الْخطْبَة جمع من الصَّحَابَة فِي الصَّحِيح وَيَنْبَغِي أَن يحرضهم على الْإِعْتَاق وَالصَّدَََقَة ويحذرهم الْغَفْلَة والاغترار وَقد ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(أَمر بالعتاقة فِي كسوف الْقَمَر) وَمن صلى مُنْفَردا لم يخْطب وَيسْتَحب الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي خُسُوف الْقَمَر والإسرار فَفِي التِّرْمِذِيّ وَقَالَ إِنَّه حسن صَحِيح وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم وَقَالَ إِنَّه على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَالله أعلم قَالَ
بَاب صَلَاة الاسْتِسْقَاء
(فصل وَصَلَاة الاسْتِسْقَاء مسنونة فيأمرهم الإِمَام بِالتَّوْبَةِ وَالصَّدَََقَة وَالْخُرُوج من الْمَظَالِم(1/152)
وَمُصَالَحَة الْأَعْدَاء وَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ يخرج بهم فِي الْيَوْم الرَّابِع فِي ثِيَاب بذلة واستكانة وتضرع وَيُصلي بهم رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاة الْعِيد) الاسْتِسْقَاء طلب السقيا من الله تَعَالَى عِنْد الْحَاجة وَصلَاته سنة مُؤَكدَة
(خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي فَجعل إِلَى النَّاس ظَهره واستقبل الْقبْلَة وحول رِدَاءَهُ) وَفِي رِوَايَة جهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة ثمَّ قبل الْخُرُوج يَعِظهُمْ الْأَمَام ويخوفهم عَذَاب الله وَيذكرهُمْ بالعواقب وَيَأْمُرهُمْ بِالصَّدَقَةِ وأنواع الْبر وبالخروج من الْمَظَالِم وَالتَّوْبَة من الْمعاصِي فَإِن هَذِه الْأُمُور سَبَب انْقِطَاع الْغَيْث والأعين وحرمان الرزق وَسبب الْغَضَب وإرسال الْعُقُوبَات من الْخَوْف والجوع وَنقص الْأَمْوَال والزروع والثمرات بل سَبَب تدمير أهل ذَلِك الإقليم قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل فدمرناها تدميراً} وَيَأْمُرهُمْ بصيام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات ثمَّ يخرج بهم فِي الْيَوْم الرَّابِع وهم صِيَام لِأَن دُعَاء الصّيام أقرب إِلَى الْإِجَابَة وَيَكُونُونَ فِي ثِيَاب البذلة وَهِي الْخدمَة ليكونوا على هَيْئَة السَّائِل وَعَلَيْهِم السكينَة فِي مشيتهم وَكَلَامهم وجلوسهم فقد ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(خرج متبذلاً متواضعاً متضرعاً حَتَّى أَتَى الْمصلى) وَلَا يتطيب لِأَنَّهُ من السرُور وَيَنْبَغِي أَن يكون الاسْتِسْقَاء بالمشايخ المنكسرين والعاجزين والمحزونات وَالصغَار لِأَن دُعَاء هَؤُلَاءِ أقرب إِلَى الْإِجَابَة والحذر أَن يَقع الاسْتِسْقَاء بقضاة الرشا وفقراء الزوايا الَّذين يَأْكُلُون من أَمْوَال الظلمَة ويتعبدون بآلات اللَّهْو فَإِنَّهُم فسقة ومعتقدون أَن مزمار الشَّيْطَان قربَة وزنادقة فَلَا يُؤمن على النَّاس بسؤالهم أَن يزْدَاد غضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على تِلْكَ النَّاحِيَة فَإِذا خرج الإِمَام بهم صلى رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاة الْعِيد ويستغفر فِي الأولى سبعا وَفِي الثَّانِيَة خمْسا ويجهر بِالْقِرَاءَةِ للْحَدِيث وَيسْتَحب أَن يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِسُورَة نوح عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهَا لائقة بِالْحَال وَقَالَ الشَّافِعِي يقْرَأ فيهمَا مَا يقْرَأ فِي الْعِيد ووقتها وَقت الْعِيد قَالَه الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْبَغَوِيّ وَذكر الرَّوْيَانِيّ وَآخَرُونَ أَنه يبْقى بعد الزَّوَال مَا لم يصل الْعَصْر وَقَالَ الْمُتَوَلِي لَا يخْتَص بِوَقْت قَالَ النَّوَوِيّ الصَّحِيح الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَقطع بِهِ الْأَكْثَرُونَ وَصَححهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهَا لَا تخْتَص بِوَقْت كَمَا لَا تخْتَص بِيَوْم وَالله أعلم قَالَ(1/153)
(ثمَّ يخْطب بعْدهَا خطبتين ويحول رِدَاءَهُ وَيجْعَل أَعْلَاهُ أَسْفَله وَيكثر من الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار)
إِذا فرغ من الصَّلَاة اسْتحبَّ لَهُ أَن يخْطب على شَيْء عَال خطبتين لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(خطب للاستسقاء على مِنْبَر) ويستغفر الله الْكَرِيم فِي افْتِتَاح الأولى تسعا وَالثَّانيَِة سبعا لِأَن الاسْتِغْفَار لَائِق بِالْحَال وليحذر كل الحذر أَن يسْتَغْفر بِلِسَانِهِ وَقَلبه مصر على بَقَائِهِ على الظُّلم والجور وَعدم إِقَامَة الْحُدُود وبقائه على الْغِشّ للرعية فيبوء بغضب من الله سُبْحَانَهُ فَإِنَّهَا صفة الْيَهُود وَقد ذمهم الله تَعَالَى على ذَلِك وَلِأَنَّهُ نوع استهزاء وَقد صرح الْعلمَاء بِأَن هَذَا الاسْتِغْفَار ذَنْب قد ذكر أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما استسقى لم يزدْ على الاسْتِغْفَار فَقَالُوا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا نرَاك اسْتَسْقَيْت فَقَالَ قد طلبت الْغَيْث بِمَجَادِيح السَّمَاء الَّتِي يسْتَنْزل بهَا الْمَطَر ثمَّ قَرَأَ {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} الْآيَات والمجاديح نُجُوم كَانَت الْعَرَب تزْعم أَنَّهَا تمطر فَأخْبر عمر رَضِي الله عَنهُ أَن المجاديح الَّتِي يستمطر بهَا هُوَ الاسْتِغْفَار لَا النُّجُوم ويحول رداءة كَمَا ذكره الشَّيْخ وَيفْعل النَّاس مثل الْخَطِيب فِي التَّحْوِيل وَفِيه إِشَارَة إِلَى تَحْويل الْحَال من الشدَّة إِلَى الرخَاء وَمن الْعسر إِلَى الْيُسْر وَمن الْغَضَب إِلَى الرأفة وَيرْفَع يَدَيْهِ وَيَدْعُو رَوَاهُ مُسلم ثمَّ يَدْعُو بِدُعَاء رَسُول الله صلى اللخ عَلَيْهِ وَسلم ويبالغ فِي الدُّعَاء سرا وجهراً لقَوْله تَعَالَى {ادعوا ربكُم تضرعا وخفية} فَإِذا أسر دَعَا النَّاس وَإِذا جهر أمنُوا وَمن جملَة الْأَدْعِيَة اللَّهُمَّ إِن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك مَا لَا يشتكي إِلَّا إِلَيْك اللَّهُمَّ انبت لنا الزَّرْع وأدر لنا الضَّرع واسقنا من بَرَكَات السَّمَاء وَأنْبت لنا من بَرَكَات الأَرْض اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجهد والجوع والعرى واكشف عَنَّا من الْبلَاء مَا لَا يكشفه غَيْرك اللَّهُمَّ إِنَّا نستغفرك إِنَّك كنت بِنَا غفارًا فَأرْسل السَّمَاء علينا مدرارا وَالله أعلم قَالَ
بَاب صَلَاة الْخَوْف
(فصل وَصَلَاة الْخَوْف على ثَلَاثَة أضْرب
أَحدهَا أَن يكون الْعَدو فِي غير جِهَة الْقبْلَة فيفرقهم الإِمَام فرْقَتَيْن فرقة تقف فِي وَجه الْعَدو وَفرْقَة تقف خَلفه فَيصَلي بالفرقة الَّتِي خَلفه رَكْعَة ثمَّ لنَفسهَا وتمضي إِلَى وَجه الْعَدو(1/154)
وتجيء الطَّائِفَة الْأُخْرَى وَيُصلي بهَا رَكْعَة ثمَّ تتمّ لنَفسهَا ثمَّ يسلم بهَا)
صَلَاة الْخَوْف مَشْرُوعَة فِي حَقنا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد صلاهَا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعده وَلِأَن سَببهَا بَاقٍ فتفعل كالقصر
قَالَ الشَّيْخ وَهِي ثَلَاثَة أضْرب
الأول أَن يكون الْعَدو فِي غير جِهَة الْقبْلَة فيفرقهم الإِمَام كَمَا قَالَ الشَّيْخ فرْقَتَيْن وَفرض الْمَسْأَلَة أَن يكون الْعَدو فِي غير جِهَة الْقبْلَة بِحَيْثُ لَا تمكن مشاهدتنا لَهُم فِي الصَّلَاة وَلم نَأْمَن أَن يكبسونا فِي الصَّلَاة وَأَن يكون فِي الْمُسلمين كَثْرَة بِحَيْثُ تكون كل فرقة تقاوم الْعَدو وَحِينَئِذٍ فتذهب فرقة إِلَى وَجه الْعَدو ويتأخر بفرقة إِلَى حَيْثُ لَا تبلغهم سِهَام الْعَدو فيفتتح بهم الصَّلَاة وَيُصلي بهم رَكْعَة فَإِذا قَامَ إِلَى الثَّانِيَة خرج المقتدون عَن مُتَابَعَته بنية الْمُفَارقَة فَإِن لم ينووا الْمُفَارقَة بطلت صلَاتهم فَإِذا فارقوه أَتموا لأَنْفُسِهِمْ الرَّكْعَة الثَّانِيَة وتشهدوا وسلموا وذهبوا إِلَى وَجه الْعَدو وَجَاءَت الطَّائِفَة الَّتِي فِي وَجه الْعَدو فاقتدوا بِالْإِمَامِ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة ويطيل الإِمَام الْقيام إِلَى لحوقهم فَإِذا لحقوه صلى بهم الثَّانِيَة فَإِذا جلس الإِمَام للتَّشَهُّد قَامُوا وَأَتمُّوا الثَّانِيَة وَالْإِمَام ينتظرهم فِي التَّشَهُّد فَإِذا لحقوه سلم بهم وَهَذِه الصَّلَاة على هَذِه الْكَيْفِيَّة هِيَ الَّتِي فعلهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذَات الرّقاع وَذَات الرّقاع مَوضِع بِنَجْد وَسميت الْوَقْعَة بذلك لَان الْوَقْعَة كَانَت عِنْد شَجَرَة تسمى بذلك وَقيل لأَنهم لفوا على بواطن أَقْدَامهم الْخرق لِأَنَّهَا كَانَت قد تمزقت وَهَذَا أصح لِأَنَّهُ ثَبت فِي الصَّحِيح وَقيل غير ذَلِك قَالَ
(الثَّانِي أَن يكون الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة فيصفهم الإِمَام صفّين وَيحرم بِهِ فَإِذا سجد سجد مَعَه أحد الصفين ووقف الصَّفّ يحرسهم فَإِذا رفع سجدوا ولحقوه)
هَذَا هُوَ الضَّرْب الثَّانِي وَهُوَ أَن يكون الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة فيرتب الإِمَام النَّاس صفّين وَيحرم بِالْجمعِ فيصلون مَعَه حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الِاعْتِدَال عَن رُكُوع الرَّكْعَة الأولى فَإِذا سجد سجد مَعَه أحج الصفين إِمَّا الأول أَو الثَّانِي هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الصَّحِيح وَلَا يتَعَيَّن صف للحراسة فَإِذا قَامَ الإِمَام وَمن مَعَه إِلَى الثَّانِيَة سجد الصَّفّ الآخر ولحقوه وَقَرَأَ بِالْجَمِيعِ وَركع بِالْجَمِيعِ فَإِذا اعتدل(1/155)
حرس الصَّفّ الَّذِي سجد فِي الأولى وَسجد الصَّفّ الآخر فَإِذا رفعوا رؤوسهم يسْجد الصَّفّ الحارس وَهَذِه صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعسفان كَمَا رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَغَيره وَإِن كَانَ فِي رِوَايَة مُسلم أَن الصَّفّ الَّذِي يَلِيهِ هُوَ الَّذِي يسْجد أَولا وَقَامَ الصَّفّ الآخر فِي نحر الْعَدو وَقَالَ الْأَصْحَاب ولهذه الصَّلَاة ثَلَاثَة شُرُوط أَن يكون الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة وَأَن يكون على جبل أَو مستو من الأَرْض لَا يسترهم شَيْء عَن أبصار الْمُسلمين وَأَن يكون فِي الْمُسلمين كَثْرَة تسْجد طَائِفَة وتحرس أُخْرَى وَاعْلَم أَنه لَو رتبهم صُفُوفا جَازَ وَكَذَا لَو حرس بعض صف وَالله أعلم قَالَ الْحَال
(الثَّالِث أَن يَكُونُوا فِي شدَّة الْخَوْف والتحام الْحَرْب فَيصَلي كَيفَ أمكنه رَاجِلا أَو رَاكِبًا مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَغير مُسْتَقْبل لَهَا)
الضَّرْب الثَّالِث صَلَاة شدَّة الْخَوْف فَإِذا اشْتَدَّ الْخَوْف وَلم يُمكن قسْمَة الْقَوْم لِكَثْرَة الْعَدو وَنَحْو ذَلِك والتحم الْقِتَال فَلم يقدروا على النُّزُول حَيْثُ كَانُوا ركباناً وَلَا على الانحراف إِن كَانُوا رجالة صلوا رجَالًا أَو ركباناً إِلَى الْقبْلَة وَإِلَى غَيرهَا قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ فرجالاً أَو ركباناً} قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ مستقبلي الْقبْلَة وَغير مستقبليها وَكَذَا رَوَاهُ مَالك عَن نَافِع مولى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ مَا أرَاهُ إِلَّا ذكره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمَاوَرْدِيّ رَوَاهُ الشَّافِعِي بِسَنَدِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْأَصْحَاب يصلونَ بِحَسب الْإِمْكَان وَلَيْسَ لَهُم تَأْخِير الصَّلَاة عَن الْوَقْت وَإِذا صلوها على هَذِه الْكَيْفِيَّة فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِم وَلِهَذَا تَتِمَّة مرت فِي فصل الِاسْتِقْبَال وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا يحرم على الرِّجَال من لِبَاس وَغَيره
(فصل وَيحرم على الرِّجَال لبس الْحَرِير والتختم بِالذَّهَب وَيحل للنِّسَاء ويسير الذَّهَب وَكَثِيره سَوَاء)
يحرم على الرِّجَال لبس الْحَرِير وَكَذَا التغطية بِهِ والاستناد إِلَيْهِ وافتراشه والتدثر بِهِ وَكَذَا اتِّخَاذه بطانة وستراً وَسَائِر وُجُوه الِاسْتِعْمَال وَحجَّة ذَلِك نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك وَفِي رِوَايَة
(نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن لبس الْحَرِير والديباج وَأَن نجلس عَلَيْهِ) وَعلة النَّهْي أَن فِيهِ خُيَلَاء وخنوثة(1/156)
لَا تلِيق بشهامة الرِّجَال وَلِهَذَا لَا يلْبسهُ إِلَّا الأرذال الَّذين يتشبهون بِالنسَاء الملعونون على لِسَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحل لبسه للنِّسَاء لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أحل الذَّهَب وَالْحَرِير لإناث أمتِي وَحرم على ذكورها) وَفِيه لَطِيفَة شَرْعِيَّة وَهُوَ أَن لبسه يمِيل الطَّبْع إِلَى وَطْء النِّسَاء فَيُؤَدِّي إِلَى مَا طلبه سيد الْأَوَّلين والآخرين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ كَثْرَة النَّسْل وَهل يحرم على النِّسَاء افتراش الْحَرِير فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا عِنْد الرَّافِعِيّ يحرم لما فِيهِ من السَّرف وَالْخُيَلَاء أَلا ترى أَنه يجوز لَهُنَّ لبس الذَّهَب دون الْأكل فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلِأَن الْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا فِي اللّبْس بِتَمَامِهِ مَفْقُود فِي الافتراش وَالأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ الْجَوَاز وَقَوله يحرم على الرِّجَال يُؤْخَذ مِنْهُ أَن لَا يحرم على الصّبيان حَتَّى أَنه يجوز لوَلِيّ الصَّبِي أَن يلْبسهُ وَهُوَ كَذَلِك على الصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الْكَبِير بِشَرْط أَن يكون دون سبع سِنِين وَالصَّحِيح فِي الْمُحَرر وَعند النَّوَوِيّ الْجَوَاز مُطلقًا وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الشَّيْخ وَقَول الشَّيْخ ويسير الذَّهَب وَكَثِيره سَوَاء يَعْنِي فِي التَّحْرِيم وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تلبسوا الْحَرِير والديباج وَلَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِنَّهَا لَهُم فِي الدُّنْيَا وَلكم فِي الْآخِرَة) لهَذَا تَتِمَّة مهمة مرت فِي أول الْكتاب وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا كَانَ بعض الثَّوْب إبْريسَمًا وَبَعضه قطنا أَو كتانا جَازَ لبسه مَا لم يكن الابريسم غَالِبا)
حرم مَا حرم اسْتِعْمَاله من الْحَرِير الصّرْف وَإِذا ركب مَعَ غَيره مِمَّا يُبَاح اسْتِعْمَاله كالكتان وَغَيره مَا حكمه ينظر إِن كَانَ الْأَغْلَب الْحَرِير حرم وَإِن كَانَ الْأَغْلَب غَيره حل تَغْلِيبًا لجَانب الْأَكْثَر إِذْ الْكَثْرَة من أَسبَاب التَّرْجِيح فَإِن اسْتَويَا فَوَجْهَانِ الْأَصَح الْحل لِأَنَّهُ لَا يُسمى ثوب حَرِير وَالْأَصْل فِي الْمَنَافِع الْإِبَاحَة وَقيل يحرم تَغْلِيبًا لجَانب التَّحْرِيم وَهُوَ الْقيَاس لِأَن الْقَاعِدَة التَّحْرِيم عِنْد اجْتِمَاع الْحَلَال وَالْحرَام وَالصَّحِيح أَن الِاعْتِبَار بِالْوَزْنِ فِي الْكَثْرَة والقلة وَقيل الِاعْتِبَار بالظهور وَهُوَ قوي لوُجُود الْمَعْنى من الْخُيَلَاء وميل النَّفس وَاعْلَم أَنه يحل الثَّوْب الْمُطَرز والمطرف الَّذِي جعل طرفه حَرِيرًا كالطوق والفرج ورؤوس الأكمام والذيل ظَاهرا كَانَ التطريف أَو بَاطِنا وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَحَادِيث مِنْهَا مَا ورد عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن لبس الْحَرِير إِلَّا فِي مَوضِع أصْبع أَو أصبعين أَو ثَلَاث أَو أَربع وَهَذَا فِي التطريف والتطريز بالحرير(1/157)
أما الذَّهَب فَإِنَّهُ حرَام لشدَّة السَّرف وَقد صرح بذلك الْبَغَوِيّ وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة يَنْبَغِي أَن يتَنَبَّه لَهَا فَإِن كثيرا من الأرذال من أَبنَاء الدُّنْيَا يدْفع إِلَيْهِ فِي وَقت الْوضُوء أَو الْحمام شَمله أَو منشفة مطرفة بِالذَّهَب فيستعملها وَرُبمَا جَاءَ إِلَى الْمَسْجِد ووضعها تَحت جَبهته فِي وَقت الصَّلَاة قَالَ الله تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} قَالَ بعض الْعلمَاء الْفِتْنَة الْكفْر عَافَانَا الله تَعَالَى من ذَلِك وَالله أعلم قَالَ(1/158)
كتاب الْجَنَائِز
بَاب مَا يلْزم الْمَيِّت
(فصل وَيلْزم فِي الْمَيِّت أَرْبَعَة أَشْيَاء غسله وتكفينه وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَدَفنه)
لَا خلاف أَن الْمَيِّت الْمُسلم يلْزم النَّاس الْقيام بأَمْره فِي هَذِه الْأَرْبَعَة وَالْقِيَام بِهَذِهِ الْأَرْبَعَة فرض كِفَايَة بِالْإِجْمَاع ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا وَفِيه شَيْء وَالْفرق بَين فرض الْعين والكفاية أَن الْخطاب فِي فرض الْعين يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد بِعَيْنِه كالصلوات الْخمس وَأما فرض الْكِفَايَة فَهُوَ الَّذِي يتَنَاوَل بَعْضًا غير معِين كالجهاد وَسمي فرض كِفَايَة لِأَن فعل الْبَعْض كَاف فِي تَحْصِيل الْمَقْصُود إِذا عرفت هَذَا فَمَتَى تحقق موت الْمُسلم اسْتحبَّ الْمُبَادرَة إِلَى تَجْهِيزه وَأَقل الْغسْل اسْتِيعَاب بدنه بِالْغسْلِ بعد إِزَالَة النَّجَاسَة لِأَن ذَلِك هُوَ الْوَاجِب فِي حق الْحَيّ فِي غسل الْجَنَابَة وَهل تشْتَرط نِيَّة الْغَاسِل فِي غسل الْمَيِّت وَجْهَان الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر لَا يجب لِأَن الْمَقْصُود من غسل الْمَيِّت النَّظَافَة وَهِي تحصل بِلَا نِيَّة وَلِأَن الْمَيِّت لَيْسَ من أهل النِّيَّة بِخِلَاف الْحَيّ فعلى هَذَا يَكْفِي غسل الْكَافِر وَلَا الغريق لحُصُول النَّظَافَة وَالثَّانِي أَنه يشْتَرط النِّيَّة فعلى هَذَا لايكفي غسل الْكَافِر وَلَا الغريق وَعلل بِأَنا مأمورون بِغسْلِهِ وَصحح النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج وجوب غسل الغريق بعد تَصْحِيحه عدم اشْتِرَاط النِّيَّة وَالْعجب أَن الرَّافِعِيّ رجح فِي شرحيه وجوب غسل الغريق وَيسْتَحب أَن يوضئه الْغَاسِل كوضوء الْحَيّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَلَو خرج مِنْهُ شَيْء بعد الْغسْل وَجب إِزَالَته فَقَط دون الْوضُوء وَالْغسْل على الصَّحِيح وَلَو تحرق بِحَيْثُ لَو غسل تهري يمم وَإِن كَانَ بِهِ قُرُوح وَخيف من تغسيله تسارع البلى بعد الدّفن غسل لأَنا صائرون إِلَيْهِ وَلَا يختتن الْمَيِّت على الْمَذْهَب وَالله أعلم
وَأما الْكَفَن فأقله ثوب وَاحِد فِي حق الرجل وَالْمَرْأَة لقصة مُصعب بن عُمَيْر وَهِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحكم الصَّلَاة يَأْتِي وَأما الدّفن فأقله حُفْرَة تكْتم رَائِحَة الْمَيِّت وتحرسه عَن السبَاع(1/159)
بِحَيْثُ يتَعَذَّر نبش مثلهَا غَالِبا وَالله أعلم قَالَ
(وَاثْنَانِ لَا يغسلان وَلَا يصلى عَلَيْهِمَا الشَّهِيد فِي معركة الْكفَّار والسقط الَّذِي لم يستهل) وَيصلى عَلَيْهِ إِن اختلج اعْلَم أَن الشَّهِيد يصدق على كل من قتل ظلما أَو مَاتَ بغرق أَو حرق أَو هدم أَو مَاتَ مبطوناً أَو مطعوناً أَو مَاتَ عشقاً أَو كَانَت امْرَأَة وَمَاتَتْ فِي الطلق وَنَحْو ذَلِك وَكَذَا من مَاتَ فَجْأَة أَو فِي دَار الْحَرْب قَالَه ابْن الرّفْعَة وَمَعَ صَدَقَة أَنهم شُهَدَاء فَهَؤُلَاءِ يغسلون وَيصلى عَلَيْهِم كَسَائِر الْمَوْتَى وَمعنى الشَّهَادَة لَهُم أَنهم أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ وَأما من مَاتَ فِي قتال الْكفَّار مُدبرا غير متحرف لقِتَال أَو متحيزاً إِلَى الفئة أَو كَانَ يُقَاتل رِيَاء وَسُمْعَة فَهَذَا شَهِيد فِي الحكم بِمَعْنى أَنه لَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْهِ وَهُوَ شَهِيد فِي الدُّنْيَا دون الْآخِرَة وَأما من مَاتَ فِي قتال الْكفَّار بِسَبَب الْقِتَال على الْوَجْه المرضي فَهَذَا شَهِيد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة كمن قتل مُشْرك أَو أَصَابَهُ سلَاح مُسلم خطأ أَو عَاد عَلَيْهِ سلَاح نَفسه أَو سقط عَن فرسه أَو رمحته دَابَّته أَو تردى فِي وهدة فَمَاتَ وَكَذَا لَو وجدنَا قَتِيلا عِنْد انكشاف الْحَرْب وَلم يعلم سَبَب مَوته سَوَاء كَانَ عَلَيْهِ أثر دم أم لَا لِأَن الظَّاهِر أَنه مَاتَ بِسَبَب الْقِتَال فَهَذَا لَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْهِ سَوَاء فِي ذَلِك الْبَالِغ وَالصَّبِيّ وَالْحر وَالْعَبْد وَالرجل وَالْمَرْأَة كَمَا ورد عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لم يغسل قَتْلَى أحد وَلم يُصَلِّي عَلَيْهِم) وَأما من مَاتَ حَال معركة الْكفَّار لَا بِسَبَب الْقِتَال بل بِمَرَض أَو فَجْأَة فَالْمَذْهَب أَنه لَيْسَ بِشَهِيد وَلَو جرح فِي الْقِتَال وَمَات بعد الْقِتَال وَمَات بعد الْقِتَال فَإِن قطع بوته من تِلْكَ الْجراحَة وَبَقِي فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة بعد انْقِضَاء الْحَرْب فَفِيهِ خلاف وَالصَّحِيح أَنه لَيْسَ بِشَهِيد وَإِن قصر الزَّمَان وَإِن بَقِي أَيَّامًا فَلَيْسَ بِشَهِيد بِلَا خلاف وَاعْلَم أَن ظَاهر إِطْلَاق الشَّيْخ يَشْمَل الشَّهِيد الْجنب وَهُوَ كَذَلِك فَلَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْهِ وَحجَّة ذَلِك أَن حَنْظَلَة قتل يَوْم أحد فَلم يغسلهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ
(رَأَيْت الْمَلَائِكَة تغسله) فَلَو كَانَ وَاجِبا لم يسْقط إِلَّا بفعلنا وَالله أعلم
وَأما السقط حالتان
الأولى أَن يستهل أَي يرفع صَوته بالبكاء أَو لم يستهل وَلَكِن شرب اللَّبن أَو نظر أَو تحرّك حَرَكَة كَبِيرَة تدل على الْحَيَاة ثمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يغسل وَيصلى عَلَيْهِ بِلَا خلاف لأَنا تَيَقنا حَيَاته وَفِي الحَدِيث
(إِذا اسْتهلّ الصَّبِي ورث وَصلى عَلَيْهِ) قَالَ ابْن الْمُنْذر إِن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على الصَّلَاة(1/160)
على مثل هَذَا وعَلى تغسيله وَفِي دَعْوَى الْإِجْمَاع شَيْء بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاة
الْحَالة الثَّانِيَة أَن لَا يتَيَقَّن حَيَاته بِأَن لَا يستهل وَلَا ينظر وَلَا يمتص وَنَحْوه فَينْظر إِن عرى عَن أَمارَة الْحَيَاة كالاختلاج وَنَحْوه فَينْظر أَيْضا إِن لم يبلغ حدا ينْفخ فِيهِ الرّوح وَهُوَ أَرْبَعَة أشهر فَصَاعِدا لم يصل عَلَيْهِ بِلَا خلاف فِي الرَّوْضَة وَلَا يغسل على الْمَذْهَب لِأَن الْغسْل أخف من الصَّلَاة وَلِهَذَا يغسل الذِّمِّيّ وَلَا يصلى عَلَيْهِ وَإِن بلغ أَرْبَعَة أشهر فَقَوْلَانِ الْأَظْهر أَنه أَيْضا لَا يصلى عَلَيْهِ لَكِن يغسل على الْمَذْهَب وَأما إِذا اختلج أَو تحرّك فيصلى عَلَيْهِ على الْأَظْهر وَيغسل على الْمَذْهَب وَاعْلَم أَن مَا لم تظهر فِيهِ خلقَة آدَمِيّ يَكْفِي فِيهِ المواراة كَيفَ كَانَ وَبعد ظُهُور خلقَة الْآدَمِيّ حكم التَّكْفِين حكم الْغسْل وَالله أعلم قَالَ
(وَيغسل الْمَيِّت وترا وَيكون فِي أول غسله سدر وَفِي آخِره شَيْء يسير من الكافور)
قد مر ذكر أقل الْغسْل وَأما أكمله فأمور كَثِيرَة مِنْهَا مَا ذكره الشَّيْخ فَيغسل بعد توضئته رَأسه ثمَّ لحيته بسدر وخطمي وَنَحْوهمَا وَيغسل الشق الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثَلَاثًا لما روى البُخَارِيّ عَن أم عَطِيَّة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت دخل علينا رَسُول الله وَنحن نغسل ابْنَته فَقَالَ
(اغسلنها ثَلَاثًا أَو خمْسا أَو أَكثر من ذَلِك إِن رأيتن ذَلِك بِمَاء وَسدر واجعلن فِي الْآخِرَة كافوراً أَو شَيْئا من كافور وابدأن بميامنها ومواضع الْوضُوء مِنْهَا قَالَت فضفرنا شعرهَا ثَلَاثَة أَثلَاث قرنيها وناصيتها) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ
(وألقيناها خلفهَا) وَيسْتَحب تَسْرِيح لحيته وَرَأسه إِن كَانَ عَلَيْهِمَا شعر بِمشْط وَاسع الْأَسْنَان وَيكون بِرِفْق لِئَلَّا ينتف فَإِن انتتف شَيْء رده بعد غسله إِلَيْهِ وَوَضعه مَعَه فِي الْكَفَن إِكْرَاما لأجل الْآيَة كَذَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَعَن القَاضِي حُسَيْن أَنه يردهُ وَعنهُ أَنه يردهُ إِلَيْهِ
وَاعْلَم أَنه يجب الِاحْتِرَاز عَن كَبه على وَجهه فَإِذا غسله بالسدر وَنَحْوه أَزَال ذَلِك ثمَّ بعد زَوَاله يغسل بِالْمَاءِ القراح ثَلَاثًا وَيجْعَل فِي كل غسلة كافورا وَفِي غسلته الْأَخِيرَة آكِد وَليكن الكافور قَلِيلا لِئَلَّا يتَغَيَّر بِهِ المَاء فيلبه الطّهُورِيَّة فَلَا يَكْفِي ذَلِك فِي الْغسْل كَمَا لَا يَكْفِي المَاء الْمَخْلُوط بالسدر وَنَحْوه فليتنبه لذَلِك وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَة بقول الشَّيْخ شَيْء يسير من كافور وَالله أعلم قَالَ
(ويكفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة)(1/161)
تقدم أقل الْكَفَن وَيسْتَحب أَن يُكفن الرجل فِي ثَلَاثَة أَثوَاب وأفضلها الْبيَاض وَلَا يكون فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة بل إِزَار ولفافتان فالإزار من سرته إِلَى ركبته وَالثَّانِي من عُنُقه إِلَى كَعبه وَالثَّالِث يستر جَمِيع بدنه وَأما الْمَرْأَة فَفِي خَمْسَة أَثوَاب إِزَار وخمار وقميص ولفافتان وَهَذِه الْأُمُور ثَابِتَة بِالسنةِ وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن كل شخص يُكفن بِمَا يجوز لَهُ لبسه فِي حَيَاته فَيجوز تكفين الْمَرْأَة فِي الْحَرِير لَكِن يكره وَيحرم ذَلِك فِي حق الرجل وَيكرهُ المزعفر والمعصفر ثمَّ الْجَوْدَة والرداءة تتَعَلَّق بِحَال الْمَيِّت فَإِن كَانَ مكثراً فَمن جِيَاد الثِّيَاب وَإِن كَانَ متوسطاً فَمن وَسطهَا وَإِن كَانَ مقلا فَمن أخشن الثِّيَاب وَتكره المغالاة فِي الْكَفَن والمغسول أولى لِأَن الْجَدِيد أليق بالحي وَيكون صفيقاً غير رَقِيق لِأَن الْمَقْصُود بَقَاؤُهُ دون الزِّينَة وَالله أعلم قَالَ
(وَيكبر عَلَيْهِ أَربع تَكْبِيرَات يقْرَأ الْفَاتِحَة بعد الأولى وَيصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الثَّانِيَة وَيَدْعُو للْمَيت بعد الثَّالِثَة وَيسلم بعد الرَّابِعَة)
قد علمت أَن الصَّلَاة على الْمَيِّت فرض كِفَايَة فَيشْتَرط فِيمَن يُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَة أُمُور أَن يكون مَيتا مُسلما غير شَهِيد كَمَا مر
إِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن للصَّلَاة على الْمَيِّت سَبْعَة أَرْكَان
الأولى النِّيَّة وَيشْتَرط التَّعَرُّض لذكر الْفَرْضِيَّة على الصَّحِيح ثمَّ إِن كَانَ الْمَيِّت وَاحِدًا نوى الصَّلَاة عَلَيْهِ وَإِن حضر موتى نوى الصَّلَاة عَلَيْهِم وَلَا يشْتَرط تعين الْمَيِّت بل لَو نوى الصَّلَاة على من صلى عَلَيْهِ الإِمَام كفى نعم لَو عين الْمَيِّت وَأَخْطَأ لم تصح وَتجب نِيَّة الِاقْتِدَاء
الْفَرْض الثَّانِي الْقيام عِنْد الْقُدْرَة
الرُّكْن الثَّالِث التَّكْبِيرَات وَهِي أَربع فَلَو كبر خمْسا لم تبطل صلَاته لثُبُوت ذَلِك فِي الصَّحِيح مُسلم وَلِأَنَّهُ ذكر
الرُّكْن الرَّابِع: السَّلَام
الْخَامِس قرائة الفاتحه بعد الأولى لما روى النَّسَائِيّ على شَرط الصَّحِيح عَن سهل قَالَ السّنة فِي الصَّلَاة على الْجِنَازَة أَن يقْرَأ فِي التكبيره الاولى بِأم الْقُرْآن مَخَافَة السِّرّ كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي التِّبْيَان إِنَّهَا تجب بعد التَّكْبِيرَة الأولى وَخَالف ذَلِك فِي الرَّوْضَة فَقَالَ تبعا للرافعي فِي الشَّرْح إِنَّه يجوز تَأْخِيرهَا إِلَى الثَّانِيَة وَخَالف ذَلِك فِي الْمِنْهَاج فَقَالَ(1/162)
تجزيء بعد غير الأولى وَذكر نَحوه فِي شرح الْمُهَذّب وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا تجوز بعد الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة وَالله أعلم
الرُّكْن السَّادِس الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الثَّانِيَة لوروده فِي الحَدِيث الصَّحِيح وَالصَّحِيح أَن الصَّلَاة على الْآل لَا تجب لِأَن صَلَاة الْجِنَازَة مَبْنِيَّة على التَّخْفِيف
الرُّكْن السَّابِع الدُّعَاء للْمَيت بعد التَّكْبِيرَة الثَّالِثَة وَالْوَاجِب مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الدُّعَاء وَأما الْأَكْمَل فأدعيه كَثِيرَة جَامِعَة فأحسنها مَا رَوَاهُ مُسلم عَن عَوْف بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جَنَازَة فَسَمعته يَقُول
(اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وارحمه وعافه واعف عَنهُ وَأكْرم نزله ووسع مدخله واغسله بِمَاء الثَّلج وَالْبرد ونقه من الْخَطَايَا كَمَا ينقى الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس وأبدله دَار خيرا من دَاره وَأهلا خيرا من أَهله وزوجا خير من زوجه وقه فتْنَة الْقَبْر وَعَذَاب النَّار) قَالَ عَوْف فتمنيت أَن أكون أَنا الْمَيِّت وَيَقُول فِي الطِّفْل
(اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فرطا لِأَبَوَيْهِ وسلفاً وذخراً وعظةً واعتباراً وشفيعاً وَثقل بِهِ موازينهما وأفرغ الصَّبْر الْجَمِيل على قلوبهما) وَهُوَ مُنَاسِب لَائِق بِالْحَال وَيسن مَعَه
(وَلَا تفتنهما بعده وَلَا تحرمهما أُجْرَة) قَالَ النَّوَوِيّ وَيَقُول بعد الرَّابِعَة اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنَا أجره وَلَا تفتنا بعده نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَصَحَّ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يَدْعُو بِهِ وَيسن أَن يزِيد واغفر لنا وَله وَالله أعلم
(فرع) الْمَأْمُوم الْمُوَافق إِذا تخلف عَن الإِمَام بِلَا عذر فَلم يكبر حَتَّى كبر الإِمَام أُخْرَى بطلت صلَاته لِأَن التَّخَلُّف بالتكبيرة كالتخلف بِرَكْعَة فِي غير صَلَاة الْجِنَازَة وَأما الْمَسْبُوق فيكبر وَيقْرَأ الْفَاتِحَة وَإِن كَانَ الإِمَام فِي الصَّلَاة عِنْد الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو الدُّعَاء بل يُرَاعِي نظم صَلَاة نَفسه فَلَو كبر الإِمَام أُخْرَى قبل شُرُوعه فِي الْفَاتِحَة كبر مَعَه سَقَطت الْقِرَاءَة كَمَا لَو ركع الإِمَام فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ يرْكَع مَعَه وَلَا يقْرَأ وان كبر الإِمَام والمسبوق فِي الْفَاتِحَة ترك الْبَقِيَّة وَتَابعه على الْمَذْهَب مُحَافظَة على الْمُتَابَعَة فَإِذا سلم الإِمَام تدارك الْمَأْمُوم بَاقِي الصَّلَاة بتكبيراتها وأذكارها وَيسْتَحب أَن لَا ترفع الْجِنَازَة حَتَّى يتم المقتدون صلَاتهم وَلَا يضر رَفعهَا قبله وَيُصلي على الْغَائِب عَن الْبَلَد لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام صلى على النَّجَاشِيّ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ وَلَو صلى على من مَاتَ فِي يَوْمه وَغسل(1/163)
صَحَّ قَالَه الرَّوْيَانِيّ وَلَو صلى على من دفن صحت صلَاته لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام صلى على قبر بعد مَا دفن رَوَاهُ الشَّيْخَانِ زَاد الدَّارَقُطْنِيّ بعد شهر وَالله أعلم قَالَ
(ويدفن فِي لحد مُسْتَقْبل الْقبْلَة ويسطح الْقَبْر بعد أَن يعمق وَلَا يبْنى عَلَيْهِ وَلَا يجصص)
تقدم أَن الدّفن فرض كِفَايَة وَأَن أَقَله حُفْرَة تمنع الرَّائِحَة وَالسِّبَاع وَيسْتَحب أَن يدْفن فِي اللَّحْد وَهُوَ أفضل من الشق لما ورد عَن سعد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ
(اتَّخذُوا لي لحداً وانصبوا عَليّ اللَّبن نصبا كَمَا فعل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة
(اللَّحْد لنا والشق لغيرنا) وَلَو كَانَت الأَرْض رخوة تعين الشق وَقَالَ الْمُتَوَلِي يلْحد بِالْبِنَاءِ واللحد أَن يحْفر فِي أَسْفَل الْقَبْر مِمَّا يَلِي الْقبْلَة حُفْرَة تسع الْمَيِّت والشق أَن يحْفر فِي وسط الْقَبْر كالنهر ويبنى جانباه وَيُوضَع الْمَيِّت بَينهمَا ويسقف بِاللَّبنِ وَيجب أَن يدْفن الْمَيِّت مُسْتَقْبل الْقبْلَة حَتَّى لَو دفن مستدبراً أَو مُسْتَلْقِيا فَإِنَّهُ ينبش وَيُوجه إِلَى الْقبْلَة مَا لم يتَغَيَّر وَيسْتَحب أَن يُوسع الْقَبْر ويعمق قدر قامة وبسطة لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ أوصى بذلك وَالزِّيَادَة على هَذَا التعميق غير مأثورة وَالْمرَاد قامة رجل معتدل يقوم ويبسط يَدَيْهِ مرفوعتين وَذَلِكَ ثَلَاثَة أَذْرع وَنصف قَالَه الرَّافِعِيّ وَقيل أَرْبَعَة وَنصف وَصَوَّبَهُ فِي الرَّوْضَة وَنَقله عَن الْجُمْهُور وَقَالَ فِي الدقائق الأول غلط وَقيل الْمُسْتَحبّ قدر قامة فَقَط وَهُوَ ثَلَاثَة أَذْرع وَيرْفَع الْقَبْر قدر شبر فَقَط ليعرف فيزار ويحترم روى ابْن حبَان فِي صَحِيحه أَن قبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك وَالصَّحِيح أَن تسطيحه أفضل من تسنيمه رُوِيَ أَن قَبره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وقبر أبي بكر الصّديق والفاروق رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِن قلت روى البُخَارِيّ عَن سُفْيَان التمار أَنه رأى قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسنماً فَالْجَوَاب كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ أَنه كَانَ أَولا مسطحًا فَلَمَّا سقط الْجِدَار فِي زمن الْوَلِيد وَقيل فِي زمن ابْن عبد الْعَزِيز جعل مسنما وَالْمُسْتَحب أَن لَا يُزَاد فِي الْقَبْر على ترابه الَّذِي خرج مِنْهُ وَيكرهُ تجصيصه وَالْكِتَابَة عَلَيْهِ وَكَذَا الْبناء عَلَيْهِ فَلَو بنى عَلَيْهِ إِمَّا قبَّة أَو محوطاً وَنَحْوه نظر إِن كَانَ فِي مَقْبرَة مسْلبَةٌ هدم لِأَن الْبناء وَالْحَالة هَذِه حرَام قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا بِلَا خلاف وَهل يطين الْقَبْر قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ لَا وَلم يذكر جُمْهُور الْأَصْحَاب وَنقل التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ لَا بَأْس بالتطيين وَيسْتَحب أَن يرش على الْقَبْر مَاء وَأَن يوضع عَلَيْهِ حَصى وَأَن يوضع عِنْد رَأسه صَخْرَة أَو خَشَبَة وَنَحْوهَا وَيكرهُ أَن يضْرب عَلَيْهِ خيمة وَلَا بَأْس بِالْمَشْيِ بالنعل بَين الْقُبُور وَلَا يسْتَند أحد إِلَى قبر وَلَا يجلس عَلَيْهِ وَلَا يُوطأ لما ورد
(لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا عَلَيْهَا) وَفِي التِّرْمِذِيّ(1/164)
النَّهْي عَن وَطئهَا وكل ذَلِك حرَام صرح بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَجزم بِهِ فِي آخر كتاب الْجَنَائِز وَإِن كَانَ فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه مَكْرُوه وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا بَأْس بالبكاء على الْمَيِّت من غير نوح وَلَا شقّ جيب وَلَا ضرب خد)
يجوز الْبكاء على الْمَيِّت قبل الْمَوْت وَبعده أما قبله فلرواية أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(دَخَلنَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِبْرَاهِيم وَلَده يجود بِنَفسِهِ فَجعلت عينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَذْرِفَانِ) يَعْنِي تسيلان وَأما بعده فَلَمَّا رَوَاهُ أنس أَيْضا قَالَ شَهِدنَا دفن بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ وَهُوَ جَالس على قبرها) وَورد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(زار قبر أمه فَبكى وأبكى من حوله) وَاعْلَم أَن الأولى عدم الْبكاء بعد الْمَوْت وَقد قَالَ بَعضهم بِالْكَرَاهَةِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا وَجَبت فَلَا تبكين باكية) إِسْنَاده صَحِيح وَمعنى وَجَبت خرجت والبكا بِالْقصرِ الدمع وبالمد رفع الصَّوْت وَتحرم النِّيَاحَة على الْمَيِّت ولصاحبها عُقُوبَة عَظِيمَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(النائحة إِذا لم تتب تُقَام يَوْم الْقِيَامَة وَعَلَيْهَا سربال من قطران وَدرع من جرب) وَالنوح رفع الصَّوْت بالندب وَالنَّدْب أَن تَقول الخاسرة واسنداه واقوة ظهراه واعزاه واظريف الشَّمَائِل وَنَحْو ذَلِك قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(مَا من ميت يَمُوت فَيقوم باكيهم فَيَقُول واجبلاه واسنداه وَنَحْو ذَلِك إِلَّا وكل بِهِ ملكان يلهزانه أهكذا كنت) واللهز ضرب الصَّدْر بِالْيَدِ وَهِي مَقْبُوضَة وَأما شقّ الجيب وَضرب الصَّدْر والخد ونثر الشّعْر وَالدُّعَاء بِالْوَيْلِ وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا كُله حرَام وَأمر جاهلي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَيْسَ منا من ضرب الخدود وشق الْجُيُوب ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
(برىء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصالقة والحالقة والشاقة) والصلق رفع الصَّوْت عِنْد الْمُصِيبَة وَالْمعْنَى فِي تَحْرِيم ذَلِك أَنه يشبه التظلم مِمَّن ظلمه والاستغاثة من ذَلِك وَذَلِكَ عدل من(1/165)
الله سُبْحَانَهُ الْعَزِيز الْحَكِيم وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح
(إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ) فَلَو وَقعت هَذِه الْأُمُور هَل يعذب الْمَيِّت بِهَذِهِ الْأَفْعَال الْجَاهِلِيَّة ينظر إِن أوصى بذلك كَمَا يَفْعَله بعض أهل الثروة وَبَعض أهل الْبَوَادِي بِأَن يوصيهم بذلك وَيَقُول إِذا مت فنوحوا عَليّ يحزنهم بذلك فَهَذَا يعذب لِأَنَّهُ أوصى بِمَا جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَرْكِهِ وإماتته وَإِن لم يوص بل فعل أَهله ذَلِك لَا بِرِضَاهُ وَلَا بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يعذب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالله أعلم قَالَ
(ويعزى أَهله إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام من دَفنه)
التَّعْزِيَة فِي اللُّغَة التسلية عَمَّن يعزى عَلَيْهِ وَعند حمله الشَّرِيعَة الْحمل على الصَّبْر على الْمَيِّت بِذكر مَا وعد الله تَعَالَى من الثَّوَاب والتحذير من الْجزع الْمَذْهَب لِلْأجرِ والمكسب للوزر وَالدُّعَاء للْمَيت بالمغفرة وَلِصَاحِب الْمُصِيبَة بجبر مصيبته وَهِي سنة لما ورد عَن أُسَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(أرْسلت إِحْدَى بَنَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَدعُوهُ وَتُخْبِرهُ أَن ابْنا لَهَا فِي الْمَوْت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للرسول ارْجع إِلَيْهَا فَأَخْبرهَا أَن لله مَا أَخذ وَله مَا أعْطى وكل شَيْء عِنْده بِأَجل مُسَمّى فَمُرْهَا فَلتَصْبِر ولتحتسب) وَفِي هَذَا الحَدِيث فَائِدَتَانِ جليلتان من استعملهما بِإِيمَان قلبِي فقد ذاق حلاوة الْإِيمَان وَذَلِكَ أَن الشَّخْص إِذا ذاق طعم أَن لله مَا أعْطى وَله مَا أَخذ فَلَا ملك لَهُ فَلَا يشق عَلَيْهِ أَمر مصيبته فَإِن فَاتَهُ ذَلِك وَغلب عَلَيْهِ الْوَازِع الطبيعي دَفعه الْوَازِع الشَّرْعِيّ بِالصبرِ والاحتساب فَإِن فَاتَهُ ذَلِك تعدّدت مصيبته وَهَذَا إِنَّمَا ينشاً من فرَاغ النَّفس عَن الله تَعَالَى بِخِلَاف العامر بِهِ فَإِنَّهُ يرى الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد فتْنَة وبعداً عَن بغيته وَلِهَذَا لما تعجب أَصْحَاب ابْن مَسْعُود من حسن أَوْلَاده قَالَ لَهُم لَعَلَّكُمْ تتعجبون من حسنهم وَالله لفراغ يَدي من تربيتهم أحب إِلَيّ من بقائهم علم أَنهم مَظَنَّة قطعه عَن محبوبه فتآلى على ذَلِك خشيَة الشّغل بهم عَنهُ فيفوته الْمقَام الْأَسْنَى رَضِي الله عَنهُ وَيسْتَحب أَن يعم بالتعزية أهل الْمَيِّت صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ ذكرهم وأنثاهم نعم لَا يعزي الشَّابَّة إِلَّا محارمها وَالْأولَى أَن تكون قبل الدّفن لِأَنَّهُ وَقت شدَّة الْحزن وَتَكون فِي ثَلَاثَة أَيَّام لِأَن قُوَّة الْحزن لَا تزيد عَلَيْهَا فِي الْغَالِب وَبعد الثَّلَاثَة مَكْرُوه لِأَنَّهَا تجدّد الْحزن وَقد جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِهَايَة الْحزن ثَلَاثًا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ
(لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت فَوق ثَلَاث إِلَّا على زوج أَرْبَعَة أشهر وَعشرا) وَابْتِدَاء الثَّلَاثَة من(1/166)
الدّفن جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَنَقله عَن الْأَصْحَاب نعم جزم الْمَاوَرْدِيّ أَنَّهَا من الْمَوْت وَبِه جزم ابْن الرّفْعَة وَصَححهُ الْخَوَارِزْمِيّ وَيسْتَثْنى مَا إِذا كَانَ المعزى أَو المعزي غَائِبا فَإِنَّهَا تمتد إِلَى قدوم الْغَائِب فَإِذا قدم هَل تمتد ثَلَاثَة أَيَّام أم تخْتَص بِحَالَة الْحُضُور قَالَ الإسنائي كَلَام الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ يُوهم مَشْرُوعِيَّة الثَّلَاث عِنْد قدوم الْغَائِب وَهُوَ كَذَلِك أم تخْتَص بِحَالَة الْحُضُور قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ شيخ مَكَّة لم أر فِيهِ نقلا وَالظَّاهِر مَشْرُوعِيَّة الثَّلَاثَة بعد الْحُضُور وَالله أعلم(1/167)
كتاب الزَّكَاة
بَاب مَا تجب فِيهِ الزَّكَاة وشرائط وُجُوبهَا فِيهِ
(تجب الزَّكَاة فِي خَمْسَة أَشْيَاء الْمَوَاشِي والأثمان والزروع وَالثِّمَار وعروض التِّجَارَة)
الزَّكَاة فِي اللُّغَة النمو وَالْبركَة وَكَثْرَة الْخَيْر يُقَال زكا الزَّرْع إِذا نما وزكا فلَان أَي كَثْرَة بره وخيره
وَهِي فِي الشَّرْع اسْم لقدر من المَال مَخْصُوص يصرف لأصناف مَخْصُوصَة بشرائط وَسميت بذلك لِأَن المَال يَنْمُو ببركة إخْرَاجهَا ودعا الْآخِذ قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا آتيتم من زَكَاة تُرِيدُونَ وَجه الله فَأُولَئِك هم المضعفون}
ثمَّ وجوب الزَّكَاة ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَآتوا الزَّكَاة} وَمن السّنة حَدِيث
(بني الْإِسْلَام على خمس) وَمِنْهَا الزَّكَاة وَلِهَذَا كَانَت أحد أَرْكَان الْإِسْلَام
فَمن جَحدهَا كفر إِلَّا أَن يكون قريب عهد بِالْإِسْلَامِ فَيعرف وَمن منعهَا وَهُوَ يعْتَقد وُجُوبهَا أخذت مِنْهُ قهرا
ثمَّ الزَّكَاة نَوْعَانِ
أَحدهَا يتَعَلَّق بِالْبدنِ وَهِي زَكَاة الْفطر وَسَتَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي محلهَا(1/168)
وَالثَّانِي يتَعَلَّق بِالْمَالِ وَهِي هَذِه الْأُمُور الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ وَسَتَأْتِي مفصلة فِي محلهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالله أعلم قَالَ
(فَأَما الْمَوَاشِي فَتجب الزَّكَاة فِي ثَلَاثَة أَجنَاس مِنْهَا وَهِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم)
دَلِيل وُجُوبهَا فِي هَذِه الثَّلَاثَة الاجماع وَغَيره وَالْمعْنَى فِي تخصيصها كثرتها وَكَثْرَة نمائها وَكَثْرَة الِانْتِفَاع بهَا مَعَ كَونهَا مأكولة فاحتملت الْمُوَاسَاة بِخِلَاف غَيرهَا وَبِأَن الأَصْل عدم وُجُوبهَا فِي غَيرهَا إِلَّا مَا ثَبت بِدَلِيل خَاص قَالَ
(وشرائط وُجُوبهَا سِتَّة أَشْيَاء الْإِسْلَام وَالْحريَّة وَالْملك التَّام والنصاب والحول والسوم)
مَتى اجْتمعت هَذِه الشُّرُوط فَلَا نزاع فِي وجوب الزَّكَاة وَلَعَلَّ الاجماع مُنْعَقد على ذَلِك
وَاحْترز الشَّيْخ بِالْإِسْلَامِ عَن الْكفْر فالكافر إِن كَانَ أَصْلِيًّا فَلَا زَكَاة عَلَيْهِ لمَفْهُوم قَول الصّديق رَضِي الله عَنهُ هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُسلمين وَلِأَن الْكَافِر لَا يُطَالب بهَا فِي حَال الْكفْر وَلَا بعد الْإِسْلَام فَأَشْبَهت الصَّلَاة وَأما الْمُرْتَد فَلَا يسْقط عَنهُ مَا وَجب عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَام وَإِن حَال الْحول على مَاله وَهُوَ مُرْتَد فَفِيهِ خلاف الصَّحِيح أَنه يَبْنِي على أَقْوَال ملكه وَالصَّحِيح أَن مَاله مَوْقُوف فَإِن عَاد إِلَى الْإِسْلَام وَجَبت وَإِلَّا فَلَا
وَاحْترز الشَّيْخ بِالْحُرِّيَّةِ عَن الرّقّ فَلَا تجب الزَّكَاة على العَبْد لِأَنَّهُ لَا ملك لَهُ وَلَو ملكه السَّيِّد أَو غَيره مَالا لَا يمكلكه
على الصَّحِيح وَالْمُدبر وَأم الْوَلَد كالقن وَأما الْمكَاتب فَلَا زَكَاة عَلَيْهِ أَيْضا لِأَن ملكه ضَعِيف وَلَا على السَّيِّد لِأَن الْمكَاتب مَعَ قدرته على التَّصَرُّف فِي المَال لَا تجب عَلَيْهِ الزَّكَاة فَلِأَن لَا تجب على السَّيِّد أولى فَإِن عتق وَفِي يَده مَال ابْتَدَأَ الْحول فَإِن عجز نَفسه وَصَارَ مَاله لسَيِّده ابْتَدَأَ السَّيِّد الْحول عَلَيْهِ
وَاحْترز الشَّيْخ بِالْملكِ التَّام عَن الْملك الضَّعِيف فَلَا تجب فِيهِ الزَّكَاة
وَيظْهر ذَلِك بِذكر صور فَإِذا وَقع مَاله فِي مضيعة أَو سرق أَو غصب أَو أودعهُ عِنْد شخص فجحده فَهَل تجب الزَّكَاة فِيهِ خلاف الْقَدِيم لَا تجب فِيهِ الزَّكَاة لضعف الْملك بِمَنْع التَّصَرُّف فَأشبه مَال الْمكَاتب والجديد الْأَظْهر أَنَّهَا تجب لِأَن ملكه مُسْتَقر عَلَيْهِ فعلى هَذَا لَا تجب إِخْرَاج الزَّكَاة قبل عود المَال حَتَّى لَو تلف فِي زمَان الْحَيْلُولَة بعد مُضِيّ أَحْوَال سَقَطت الزَّكَاة وَمن الصُّور الدّين الثَّابِت على الْغَيْر وَله أَحْوَال أَحدهَا أَن لَا يكون لَازِما كَمَال الْمُكَاتبَة فَلَا زَكَاة فِيهِ لضعف الْملك(1/169)
الْحَالة
الثَّانِيَة أَن يكون لَازِما وَهُوَ مَاشِيَة بِأَن أقْرضهُ أَرْبَعِينَ شَاة أَو أسلم إِلَيْهِ فِيهَا وَكَذَا النّصاب فِي الْإِبِل وَالْبَقر وَمضى عَلَيْهِ حول قبل قَبضه فَلَا زَكَاة لِأَن السّوم شَرط وَمَا فِي الذِّمَّة لَا يَتَّصِف بالسوم وَلِأَن الزَّكَاة إِنَّمَا تجب فِي المَال النامي والماشية فِي الذِّمَّة لَا تنمو بِخِلَاف الدَّرَاهِم الثَّابِتَة فِي الذِّمَّة فَإِن سَبَب الزَّكَاة فِيهَا كَونهَا معدة للصرف
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يكون الدّين دَرَاهِم أَو دَنَانِير أَو عرُوض تِجَارَة فَفِي وجوب الزَّكَاة قَولَانِ الْقَدِيم لَا زَكَاة فِي الدّين بِحَال لضعف التَّصَرُّف فِيهِ فَأشبه مَال الْكِتَابَة وَالْمذهب الصَّحِيح الْمَشْهُور وجوب الزَّكَاة فِيهِ فِي الْجُمْلَة وتفصيلة إِن كَانَ مُتَعَذر الِاسْتِيفَاء لإعسار من عَلَيْهِ أَو جحوده وَلَا بَيِّنَة لَهُ عَلَيْهِ أَو مطله أَو غيبته فَهُوَ كالمغصوب وَقد مر وَإِن لم يتَعَذَّر الِاسْتِيفَاء بِأَن كَانَ على ملىء باذل أَو على جَاحد عَلَيْهِ بَيِّنَة فَإِن كَانَ حَالا وَجَبت الزَّكَاة وَوَجَب إخْرَاجهَا فِي الْحَال لِأَنَّهُ مَال حَاضر وَإِن كَانَ مُؤَجّلا فَهُوَ كالمغصوب وَلَا يجب الْإِخْرَاج حَتَّى يقبضهُ على الْأَصَح
(فرع) قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب لَو اشْترى مَالا زكوياً فَلم يقبضهُ حَتَّى مضى الْحول وَهُوَ فِي يَد البَائِع فَالْمَذْهَب وجوب الزَّكَاة على المُشْتَرِي وَبِه قطع الْجُمْهُور لتَمام الْملك وَقيل لَا تجب قطعا لضَعْفه وتعرضه للإنفساخ وَمنع تفرقه وَقيل فِيهِ الْخلاف فِي الْمَغْصُوب
وَمن الصُّور المَال الْمُلْتَقط فِي السّنة الأولى بَاقٍ على ملك الْمَالِك فَلَا زَكَاة فِيهِ على الْمُلْتَقط وَفِي وُجُوبهَا على الْمَالِك الْخلاف فِي الْمَغْصُوب والضال وَهَذَا إِذا لم يعرفهَا فَإِن عرفهَا وَمضى الْحول وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ إِن الْمُلْتَقط لَا بُد من اخْتِيَاره للتَّمَلُّك بعد التَّعْرِيف نظر إِن لم يتملكها فَهِيَ بَاقِيَة على ملك الْمَالِك وَفِي وجوب الزَّكَاة عَلَيْهِ طَرِيقَانِ أصَحهمَا على الْقَوْلَيْنِ كالسنة الأولى وَالثَّانِي لَا زَكَاة قطعا لتسلط الْمُلْتَقط عَلَيْهَا فِي التَّمَلُّك
وَمن صور الدّين وَنَذْكُر مَا يَتَّضِح بِهِ عدم الْملك التَّام ونشير إِلَيْهِ فَإِذا كَانَ شخص لَهُ مَال تجب فِيهِ الزَّكَاة وَعَلِيهِ دُيُون قدر مَاله أَو أَكثر فَهَل يمْنَع الدّين أَو لَا ولوجوب الزَّكَاة فِيهِ أَقْوَال أظهرها وَهُوَ الْمَذْهَب الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي أَكثر كتبه الجديدة أَنه لَا يمْنَع وُجُوبهَا سَوَاء كَانَ الدّين مُؤَجّلا أَو حَالا وَسَوَاء كَانَ من جنس المَال أم لَا فعلى هَذَا لَو حجر عَلَيْهِ القَاضِي فِي مَاله وَحَال الْحول فِي الزَّمن الْحجر فَهُوَ كالمغصوب فَفِيهِ الْخلاف وَهَذَا إِذا لم يعين القَاضِي لكل غَرِيم شَيْئا فَإِن عين وسلطه على أَخذه فَلم يتَّفق الْآخِذ حَتَّى حَال الْحول فَالْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور أَنه لَا زَكَاة عَلَيْهِ لضعف ملكه بتسلط الْغُرَمَاء وَقيل فِيهِ خلاف الْمَغْصُوب وَهنا صور كَثِيرَة لَا نطول بذكرها إِذْ الْكتاب مَوْضُوع على افيجاز وَإِلَّا فَفِي الْقلب شَيْء من عدم الْبسط هُنَا وَفِي غَيره وَالله أعلم(1/170)
وَأما النّصاب فَفِيهِ احْتِرَاز عَمَّا إِذا ملك دون النّصاب فَهَذَا لَا زَكَاة فِيهِ فَلَا تجب الزَّكَاة فِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم حَتَّى يكمل النّصاب من كل نوع على مَا يَأْتِي
وَأما الْحول فَفِيهِ احْتِرَاز عَمَّا إِذا ملك نِصَابا أَو أَكثر وَلم يحل عَلَيْهِ الْحول فَإِنَّهُ لَا تجب أَيْضا الزَّكَاة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول) وَأجْمع عَلَيْهِ التابعون وَالْفُقَهَاء قَالَ الماوري وَإِن خَالف فِيهِ بعض الْأَصْحَاب وَسمي حولا لِأَنَّهُ ذهب وأتى غَيره
الشَّرْط السَّادِس السّوم وَهُوَ الرَّعْي فِي الْكلأ الْمُبَاح وَاحْتج لَهُ بِكِتَاب أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ
(فِي صَدَقَة الْغنم وَفِي سَائِمَة الْغنم إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ إِلَى عشْرين وَمِائَة شَاة) فَدلَّ بمفهومه على أَنه لَا زَكَاة فِي المعلوفة وَوجه الْوُجُوب فِي السَّائِمَة أَن مؤنتها لما توفرت بالسوم احتملت الْمُوَاسَاة بِخِلَاف المعلوفة ثمَّ إِن علفت مُعظم الْحول فَلَا زَكَاة لِكَثْرَة الْمُؤْنَة وَإِن علفت النصق فَمَا دونه فَالصَّحِيح إِن علفت قدرا تعيش بِدُونِهِ بِلَا ضَرَر بَين وَجَبت الزَّكَاة لحلفة الْمُؤْنَة وَإِن كَانَت لَا تعيش بِدُونِهِ أَو تعيش وَلَكِن بِضَرَر بَين فَلَا زَكَاة لظُهُور الْمُؤْنَة ثمَّ مَحل الْخلاف إِذا علفت بِلَا قصد فَإِن علفت على قصد قطع السّوم فَيَنْقَطِع بِهِ بِلَا خلاف وَإِن قل وَقد نَص على ذَلِك الشَّافِعِي وَلَو اعتلفت السَّائِمَة الْقدر الْمُؤثر من الْعلف فَلَا زَكَاة لحُصُول الْمُؤثر وَقيل تجب لِأَنَّهُ لم يَقْصِدهُ
وَاعْلَم أَن الصَّحِيح اشْتِرَاط قصد السّوم دون الْعلف فاعرفه وَلَو علف سَائِمَة لِامْتِنَاع الرَّعْي بالثلج وَنَحْوه وَقصد الاسامة عِنْد الْإِمْكَان فَلَا زَكَاة على الْأَصَح لحُصُول الْمُؤْنَة والسائمة العاملة فِي حرث أَو نضح أَو نقل أَمْتعَة أَو نَحْو ذَلِك لَا زَكَاة فِيهَا لِأَنَّهَا معدة لاستعمال مُبَاح فَأَشْبَهت ثِيَاب الْبدن وَلَا فرق بَين أَن تعْمل للْمَالِك أَو بِالْأُجْرَةِ وَالله أعلم قَالَ
(وَأما الأثملن فشيئان الذَّهَب وَالْفِضَّة وشرائط وجوب الزَّكَاة فيهمَا خمس الْإِسْلَام وَالْحريَّة وَالْملك التَّام والنصاب والحول) من ملك نِصَابا من الْفضة أَو الذَّهَب حولا كَامِلا وَجَبت عَلَيْهِ الزَّكَاة عِنْد وجود هَذِه الشُّرُوط وَنصب الْفضة مِائَتَا دِرْهَم قَالَ ابْن الْمُنْذر بِالْإِجْمَاع وَقد ورد
(لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ(1/171)
صَدَقَة وَكَانَت الْأُوقِيَّة فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ وَقد جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي حَدِيث وَلَا فرق فِي الْفضة بَين المضروبة وَغَيرهَا كالقراضة والتبر والسبائك وَبَعض الْحل على مَا يَأْتِي وَالله أعلم وَأما الذَّهَب فنصابه عشرُون مِثْقَالا وَيَأْتِي تَتِمَّة هَذَا عِنْد الْموضع الَّذِي يذكرهُ الشَّيْخ قَالَ
(وَأما الزروع فَتجب فِيهَا الزَّكَاة بِثَلَاثَة شَرَائِط أَن يكون مِمَّا يزرعه الآدميون وَأَن يكون قوتاً مدخراً وَأَن يكون نِصَابا)
تجب الزَّكَاة فِي الْحُبُوب بِشَرْط أَن تكون مِمَّا يقتات فِي حَال الِاخْتِيَار والقوت عبارَة عَمَّا يسْتَمْسك فِي الْمعدة وَأَن يكون مِمَّا ينبته الآدميون أَي يزرع جنسه الآدميون وَكَذَا الَّذِي ينْبت بِنَفسِهِ كَمَا إِذا تناثر حب لمن تلْزمهُ الزَّكَاة أَو حمله المَاء أَو الْهَوَاء وَإِن لم يزرعه الْآدَمِيّ ذَلِك كالحنطة وَالشعِير والذرة والدخن والأرز والماش والعدس وَمَا أشبه ذَلِك وَكَذَا القطنية أَي القطاني كالعدس والحمص والماش والباقلاء وَهِي الفول واللوبيا والهريظان وَهُوَ الجلبان وَقد ثَبت وجوب الزَّكَاة فِي بعض هَذَا وقسنا عَلَيْهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَعُمُوم قَوْله تَعَالَى {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} وَوجه اخْتِصَاص وُجُوبهَا بِمَا يقتات لِأَن الاقتيات ضَرُورِيّ لَا حَيَاة بِدُونِهِ فَلذَلِك أوجب الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا شَيْئَيْنِ لأرباب الضرورات بِخِلَاف مَا لَا يقتات من الإبزار كالكمون والكراويا وَكَذَا الخضروات كالقثاء والبطيخ وَنَحْو ذَلِك فَلَا ضَرُورَة تَدْعُو إِلَيْهِ لِأَن أكله تتمات وَلَا بُد مَعَ ذَلِك من وجوب النّصاب وَقدر النّصاب يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَول الشَّيْخ مدخراً كَذَا شَرطه الْعِرَاقِيُّونَ وَالله أعلم قَالَ
(وَأما الثِّمَار فَتجب الزَّكَاة شَيْئَيْنِ مِنْهَا ثَمَر النّخل وثمر الْكَرم وشرائط وجوب الزَّكَاة فِيهَا أَرْبَعَة أَشْيَاء الْإِسْلَام وَالْحريَّة وَالْملك التَّام والنصاب)
من ملك من ثَمَر النّخل وَالْكَرم مَا تجب فِيهِ الزَّكَاة وَهُوَ متصف بِهَذِهِ الشُّرُوط وَجَبت الزَّكَاة عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاع قَالَ بعض الشُّرَّاح وَفِي الحَدِيث
(أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخرص الْعِنَب كَمَا يخرص النّخل وَتُؤْخَذ زَكَاته زبيباً كَمَا تُؤْخَذ صَدَقَة النّخل تَمرا) وَقدر النّصاب سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَوجه اخْتِصَاص التَّمْر وَالزَّبِيب أَنَّهُمَا يقتاتان فأشبها الْحبّ بِخِلَاف غَيرهمَا من الثِّمَار فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُؤْكَل تلذذاً أَو تنعماً أَو تأدماً فَلَيْسَ بضروري فَلَا تلِيق بِهِ الْمُسَاوَاة الْوَاجِبَة وَذَلِكَ كالكمثرى(1/172)
وَالرُّمَّان والخوخ والسفرجل والتين قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة لَا تجب فِي التِّين بِلَا خلاف
قلت الْجَزْم بِعَدَمِ الْوُجُوب فِي التِّين مَمْنُوع فَفِيهِ مقَالَة بِالْوُجُوب بل هُوَ فِي معنى الزَّبِيب بل أولى لِأَنَّهُ قوت أَكثر من الزَّبِيب فَإِن صَحَّ الحَدِيث فِي الْعِنَب فالتين فِي مَعْنَاهُ وَإِن لم يَصح وَهُوَ الَّذِي ادّعى غير التِّرْمِذِيّ أَنه مُنْقَطع بل قَالَ البُخَارِيّ إِنَّه غير مَحْفُوظ لِأَنَّهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيقين وَفِي كل مِنْهُمَا قَادِح وَحِينَئِذٍ فَإِن ألحق الْعِنَب بِالنَّخْلِ فالتين مثله وَأولى وَلَا يمْتَنع ذَلِك أَلا ترى أَنا ألحقنا بِالْحِنْطَةِ الشّعير وَمَا اشْترك مَعَهُمَا فِي القوتية وَإِن لم يكن فِيهِ قُوَّة الاقتيات الَّتِي فيهمَا وَقد يُجَاب بِأَن التِّين لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْخرص وَالله أعلم وَلَا تجب فِي الْجَوْز واللوز والموز والمشمش وَكَذَا الزَّيْتُون على الْجَدِيد الصَّحِيح وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَأما عرُوض التِّجَارَة فَتجب الزَّكَاة فِيهَا بالشرائط الْمَذْكُورَة فِي الْأَثْمَان)
الْعرُوض مَا عدا النَّقْدَيْنِ فَكل عرض أعد للتِّجَارَة بشروطها وَجَبت فِيهِ الزَّكَاة وَاحْتج لوُجُوب الزَّكَاة بقوله تَعَالَى {أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} قَالَ مُجَاهِد نزلت فِي التِّجَارَة وَفِي السّنة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(فِي الْبَز صدقتها) والبز يُطلق على الثِّيَاب الْمعدة للْبيع عِنْد البزازين وَزَكَاة الْعين لَا تجب فِي الثِّيَاب فَتعين الْحمل على زَكَاة التِّجَارَة وَالله أعلم
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط مَعَ مَا ذكره الشَّيْخ من الشُّرُوط أَنه لَا بُد من كَون الْعرُوض تصير مَال تِجَارَة وَأَن يقْصد الاتجار عِنْد اكْتِسَاب ملك الْعرُوض وَلَا بُد أَن يكون الْملك بمعاوضة مَحْضَة فَلَو كَانَ فِي ملكه عرُوض قنية فَجَعلهَا فِي التِّجَارَة لم تصر عرُوض تِجَارَة على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الجماهير سَوَاء دخلت فِي ملكه بِإِرْث أَو هبة أَو شِرَاء وَقَوْلنَا بمعاوضة مَحْضَة يَشْمَل مَا إِذا دخل فِي ملكه بِالشِّرَاءِ سَوَاء اشْترى بِعرْض أَو نقد أَو دين حَال مُؤَجل وَإِذا ثَبت حكم التِّجَارَة لَا يحْتَاج فِي كل مُعَاملَة إِلَى نِيَّة جَدِيدَة وَفِي معنى الشِّرَاء لَو صَالح على دين لَهُ فِي ذمَّة إِنْسَان على عرُوض بنية التِّجَارَة فَإِنَّهُ يصير مَال تِجَارَة لقصد التِّجَارَة وَقت دُخُوله فِي ملكه بمعاوضة مَحْضَة بِخِلَاف الْهِبَة الْمَحْضَة الَّتِي لَا ثَوَاب فِيهَا وَكَذَا الاحتطاب والاحتشاش والاصطياد وَالْإِرْث فَلَيْسَتْ من أَسبَاب التِّجَارَة وَلَا أثر لاقتران النِّيَّة بذلك وَكَذَلِكَ الرَّد بِالْغَيْبِ والاسترداد حَتَّى لَو بَاعَ عرضا للْقنية بِعرْض للْقنية ثمَّ وجد بِمَا أَخذه عَيْبا فَرده وَقصد الْمَرْدُود عَلَيْهِ بِأَخْذِهِ للتِّجَارَة لم يصر مَال تِجَارَة وَكَذَا لَو كَانَ عِنْده ثوب للْقنية فَاشْترى بِهِ عبدا للتِّجَارَة ثمَّ رد عَلَيْهِ الثَّوْب بِالْعَيْبِ انْقَطع حول التِّجَارَة وَلم يكن الثَّوْب الْمَرْدُود مَال تِجَارَة بِخِلَاف مَا لَو كَانَ للتِّجَارَة فَإِنَّهُ يبْقى حكم التِّجَارَة وَكَذَا لَو تبَايع(1/173)
تاجران ثمَّ تَقَايلا يسْتَمر حكم التِّجَارَة فِي الْحَالين وَلَو كَانَ عِنْده ثوب للتِّجَارَة فَبَاعَهُ بِعَبْد للْقنية فَرد عَلَيْهِ الثَّوْب بِالْعَيْبِ لم يعد حكم التِّجَارَة لِأَن قصد الْقنية قطع حول التِّجَارَة وَالرَّدّ والاسترداد ليسَا من التِّجَارَة وَلَو خَالع زَوجته وَقصد بعوض الْخلْع التِّجَارَة أَو تزوجت امْرَأَة وقصدت بصداقها التِّجَارَة فَالصَّحِيح أَن عوض الْخلْع وَالصَّدَاق يصيران مَال تِجَارَة لوُجُود الْمُعَاوضَة وَقصد التِّجَارَة وَقت دخولهما فِي ملك الزَّوْج وَالزَّوْجَة وَلَو أجر الشَّخْص مَاله أَو نَفسه وَقصد بِالْأُجْرَةِ إِذا كَانَت عرضا للتِّجَارَة تصير مَال تِجَارَة لِأَن الاجارة مُعَاوضَة وَكَذَا الحكم فِيمَا إِذا كَانَ تصرفه فِي الْمَنَافِع بِأَن كَانَ يسْتَأْجر المستغلات ويؤجرها على قصد التِّجَارَة فَإِذا أردْت معرفَة مَا يصير مَال تِجَارَة وَمَا لايصير فاحفظ الضَّابِط وَقل كل عرض ملك بمعاوضة مَحْضَة بِقصد التِّجَارَة فَهُوَ مَال تِجَارَة فَإِن لم يكن مُعَاوضَة أَو كَانَت وَلكنهَا غير مَحْضَة فَلَا تصير الْعرُوض مَال تِجَارَة وَإِن قصد التِّجَارَة وَلِهَذَا تَتِمَّة تَأتي عِنْد كَلَام الشَّيْخ وَتقوم عرُوض التِّجَارَة عِنْد آخر الْحول بِمَا اشْتريت بِهِ وَالله أعلم قَالَ
بَاب أنصبة مَا يجب فِيهِ الزَّكَاة
(وَأول نِصَاب الْإِبِل خمس وفيهَا شَاة وَفِي عشر شَاتَان وَفِي خمس عشرَة ثَلَاث شِيَاه وَفِي عشْرين أَربع شِيَاه وَفِي خمس وَعشْرين بنت مَخَاض من الْإِبِل وَفِي سِتّ وَثَلَاثِينَ بنت لبون وَفِي سِتّ وَأَرْبَعين حقة وَفِي إِحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَة وَفِي سِتّ وَسبعين بِنْتا لبون وَفِي إِحْدَى وَتِسْعين حقتان وَفِي مائَة وَإِحْدَى وَعشْرين ثَلَاث بَنَات لبون ثمَّ فِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون وَفِي كل خمسين حقة)
الدَّلِيل على أَن أول نِصَاب الْإِبِل خمس قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود من الْإِبِل صَدَقَة) ثمَّ ايجاب الشَّاة فِي الْإِبِل على خلاف الأَصْل لِأَنَّهَا من غير الْجِنْس لَكِن فِي مَشْرُوعِيَّة ذَلِك رفق بالجانبين إِذْ إِخْرَاج بعير فِي خَمْسَة أَبْعِرَة فِيهِ إجحاف بالمالك وَفِي عدم إِيجَاب الزَّكَاة إجحاف بالفقراء فانضمت الْمصلحَة لَهما بِالشَّاة وَأما كَون الزَّكَاة فِي عشر شَاتَان إِلَى آخر كَلَام الشَّيْخ وَهُوَ فِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون وَفِي كل خمسين حقة فَالْأَصْل فِي ذَلِك كتاب أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ الَّذِي بَعثه إِلَى الْبَحْرين وَفِي أَوله
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُسلمين فَمن سَأَلَهَا من الْمُسلمين على وَجههَا فليعطها وَمن سَأَلَ فَوْقهَا فَلَا يُعْط) إِلَى آخِره(1/174)
وَاعْلَم أَن الشَّاة الْوَاجِبَة فِيمَا دون خمس وَعشْرين من الْإِبِل هِيَ الْجَذعَة من الضَّأْن وَهِي مَا لَهَا سنة على الصَّحِيح وَمن الْمعز مَاله سنتَانِ على الصَّحِيح إِذْ الشَّاة تصدق على الْغنم والمعز وَالأَصَح أَنه يتَخَيَّر بَينهمَا وَلَا يتَعَيَّن غَالب غنم الْبَلَد نعم لَا يجوز أَن ينْتَقل إِلَى غنم بلد آخر إِلَّا إِذا كَانَت مُسَاوِيَة لَهَا فِي الْقيمَة أَو أَعلَى مِنْهَا وَلَا يشْتَرط فِي الشَّاة أَن تكون نَاقِصَة الْقيمَة عَن الْبَعِير بل يجوز أَن تكون قيمَة الشَّاة أَكثر من قيمَة الْبَعِير ثمَّ بنت الْمَخَاض الْمَأْخُوذَة فِي خمس وَعشْرين مَا لَهَا سنة وَدخلت فِي الثَّانِيَة وَسميت بذلك لِأَنَّهُ قد آن لأمها أَن تحمل مرّة أُخْرَى فَتَصِير من ذَوَات الْمَخَاض وَهِي الْحَوَامِل والمخاض ألم الْولادَة وَأما بنت اللَّبُون فلهَا سنتَانِ وَسميت بذلك لِأَن أمهَا قد آن لَهَا أَن تضع ثَانِيًا وَيصير لَهَا لبن وَأما الحقة فلهَا ثَلَاث سِنِين سميت بذلك لِأَنَّهَا اسْتحقَّت أَن تركب وَيحمل عَلَيْهَا وَقيل لِأَنَّهَا اسْتحقَّت أَن يطرقها الْفَحْل وَأما الجدعة فلهَا أَربع سِنِين وطعنت فِي الْخَامِسَة وَكَذَا جَمِيع الْأَسْنَان السَّابِقَة وَسميت جَذَعَة لِأَنَّهَا تجذع مقدم أسنانها أَي تسقطه وَقَالَ الْأَصْمَعِي لِأَن أسنانها بعد ذَلِك لَا تسْقط وَهَذَا السن هُوَ أحد أَسْنَان الزَّكَاة وَالله أعلم قَالَ
(وَأول نِصَاب الْبَقر ثَلَاثُونَ وفيهَا تبيع وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنَّة)
وعَلى هَذَا لَا يجب فِي الْبَقر شَيْء حَتَّى يبلغ ثَلَاثِينَ فَهُوَ أول نِصَاب الْبَقر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بعث معَاذًا إِلَى الْيمن وَأمره أَن يَأْخُذ من الْبَقر من كل ثَلَاثِينَ تبيعاً وَمن كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّة) وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ هَذَا مجمع عَلَيْهِ والتبيع ابْن سنة وَدخل فِي الثَّانِيَة وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ يتبع أمه فِي المرعى وَقيل لِأَن قرنه يتبع أُذُنه أَي يساويها وَلَو أخرج تبيعاً فقد زَاد خيرا ثمَّ يسْتَقرّ الْأَمر فِي كل ثَلَاثِينَ تبيع وَفِي كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّة وَهَكَذَا أبدا وَلَو أخرج عَنْهَا تبعين جَازَ على الصَّحِيح وَسميت مُسِنَّة لتكامل أسنانها وَقَالَ الْأَزْهَرِي لطلوع سنّهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَأول نِصَاب الْغنم أَرْبَعُونَ وفيهَا شَاة جَذَعَة من الضَّأْن أَو ثنية من الْمعز وَفِي مائَة وَإِحْدَى وَعشْرين شَاتَان وَفِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَة ثَلَاث شِيَاه ثمَّ فِي كل مائَة شَاة)
لَا يجب فِي الْغنم شَيْء حَتَّى تبلغ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاة لما ورد فِي كتاب أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَفِيه
(وَفِي صَدَقَة الْغنم فِي سائمتها إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ إِلَى عشْرين وَمِائَة شَاة فَإِذا زَادَت على عشْرين وَمِائَة شَاة فَفِيهَا شَاتَان فَإِذا زَادَت على مِائَتَيْنِ إِلَى ثلثمِائة فَفِيهَا ثَلَاث شياة فَإِذا زَادَت(1/175)
على ثلثمِائة فَفِي كل مائَة شَاة) اعْلَم أَن الْجَذعَة من الضَّأْن مَا لَهَا سنة والثنية من الْمعز مَا لَهَا سنتَانِ وهما المأخوذتان لقَوْل عمر رَضِي الله عَنهُ للساعي
(لَا تَأْخُذ الأكولة وَلَا الربي وَلَا فَحل الْغنم وَخذ الْجَذعَة والثنية) وَقَول الشَّيْخ ثمَّ فِي كل مائَة شَاة يَعْنِي إِذا بلغت أَرْبَعمِائَة لِأَنَّهَا إِذا بلغت مِائَتَيْنِ وَجب أَربع شِيَاه ثمَّ يسْتَقرّ الْحساب فِي كل مائَة شَاة وَاعْلَم أَنه لَو اتَّحد نوع الْمَاشِيَة أَخذ الْفَرْض مِنْهُ لِأَنَّهَا المَال مِثَاله كَانَت الْإِبِل كلهَا عراباً وَهِي إبل الْعَرَب أَو كلهَا بَخَاتِي وَهِي إبل التّرْك لَهَا سنامان وَكَذَا الْبَقر لَو كَانَت كلهَا جواميس أَو كلهَا عراباً وَهُوَ النَّوْع الْغَالِب أَو كَانَت غنمه كلهَا ضأناً أَو جَمِيعهَا معزاً فتؤخذ من النَّوْع فَلَو اخْتلفت الصّفة مَعَ اتِّحَاد النَّوْع وَلَا نقص فعامة الْأَصْحَاب على أَن السَّاعِي يَأْخُذ أنفعهما للْمَسَاكِين فَلَو أَخذ عَن ضَأْن ومعز أَو عَكسه فَهَل يجوز الصَّحِيح نعم بِشَرْط رِعَايَة الْقيمَة لِاتِّحَاد الْجِنْس فَإِن اخْتلفت كضأن ومعز فَالْأَظْهر أَنه يخرج مَا شَاءَ مقسطاً عَلَيْهِمَا بِالْقيمَةِ رِعَايَة للجانبين مِثَاله كَانَت ثَلَاثُونَ عَنْزًا وَعشر نعجات أَخذ عَنْزًا أَو نعجة بِقِيمَة ثَلَاثَة أَربَاع عنز وَربع نعجة فَإِذا قيل مثلا قيمَة عنز تجزى بِدِينَار وَقِيمَة النعجة المجزية دِينَارَانِ أخرج عَنْزًا أَو نعجة قيمتهَا دِينَار وَربع وعَلى هَذَا الْقيَاس وَلَو كَانَت مَاشِيَته صحاحاً ومراضاً لم تجز الْمَرِيضَة وَكَذَا المعيبة لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} وَفِي الحَدِيث
(وَلَا تُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة هرمة وَلَا ذَات عوار) والهرمة العاجزة عَن كَمَال الْحَرَكَة بِسَبَب كبرها والعوار الْعَيْب رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ الْعَيْب وَقَالَ إِنَّه حسن وَيجب أَن يخرج صَحِيحه لائقة بِالْحَال مِثَاله لَهُ أَرْبَعُونَ شَاة نصفهَا صِحَاح وَنِصْفهَا مراض قيمَة كل صَحِيحَة دِينَارَانِ وَقِيمَة كل مَرِيضَة دِينَار فَعَلَيهِ صَحِيحَة بِقِيمَة نصف صَحِيحَة وَنصف مَرِيضَة وَذَلِكَ دِينَار وَنصف وَربع وعَلى هَذَا الْقيَاس وَلَو كَانَت مَاشِيَته كلهَا مَرِيضَة أَو كلهَا مَعِيبَة أخذت الزَّكَاة مِنْهَا لِأَنَّهَا مَاله قَالَ الله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} وَلِأَن الْفُقَرَاء إِنَّمَا ملكوا مِنْهُ فَهُوَ كَسَائِر الشُّرَكَاء ثمَّ إِنَّا لَو كلفنا الْمَالِك غير الَّذِي عِنْده لأجحفنا بِهِ وَكَذَا لَو تمخضت كلهَا ذُكُورا أَخذ الذّكر كَمَا تُؤْخَذ الْمَرِيضَة عَن المراض وَقيل لَا يَجْزِي الذّكر لِأَن التَّنْصِيص جَاءَ فِي الْإِنَاث وَكَذَا تُؤْخَذ الصَّغِيرَة أَي فِي الصغار فِي الْجَدِيد كَمَا تُؤْخَذ الْمَرِيضَة فِي المراض وَقد ورد فِي قصَّة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ حِين قَالَ فِي أهل الرِّدَّة
(وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا كَانُوا يؤدونها إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/176)
لقاتلتهم عَلَيْهِ) والعناق هِيَ الصَّغِيرَة من الْغنم مَا لم تجذع وَصُورَة كَون الْمَأْخُوذ من الصغار بِأَن تَمُوت الْأُمَّهَات فِي أثْنَاء الْحول أَو بِأَن يملك أَرْبَعِينَ من صغَار الْبَقر أَو الْمعز فَإِن واجبها مَاله سنتَانِ وَلَا تُؤْخَذ الأكولة المسمنة بِالْأَكْلِ وَلَا الربي وَهِي حَدِيثَة الْعَهْد بالنتاج لِأَنَّهَا من كرائم الْأَمْوَال وَلَا حَامِل لنَهْيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن ذَلِك وَنقل ابْن الرّفْعَة عَن الْأَصْحَاب أَن الَّتِي طرقها الْفَحْل كالحامل لِأَن الْغَالِب فِي الْبَهَائِم الْعلُوق من مرّة بِخِلَاف الآدميات فَلَو كَانَت مَاشِيَته كلهَا كرائم طالبناه بِوَاحِدَة مِنْهَا بِخِلَاف مَا لَو كَانَت كلهَا حوامل لَا نطالبه بحامل لِأَن الْأَرْبَعين فِيهَا شَاة وَالْحَامِل شَاتَان كَذَا نَقله الإِمَام عَن صَاحب التَّقْرِيب وَاسْتَحْسنهُ نعم لَو رَضِي الْمَالِك باعطاء الأكولة وَالْحَامِل فَإِنَّهَا تُؤْخَذ مِنْهُ وَكَذَا الربي وَسميت بذلك لِأَنَّهَا تربي وَلَدهَا وَهَذَا الِاسْم يُطلق عَلَيْهَا إِلَى خَمْسَة عشر يَوْمًا من وِلَادَتهَا قَالَه الْأَزْهَرِي وَقَالَ الْجَوْهَرِي إِلَى تَمام شَهْرَيْن وَالله أعلم قَالَ
(فصل والخليطان يزكيان زَكَاة الْوَاحِد بشرائط سَبْعَة إِذا كَانَ المراح وَاحِدًا والمسرح وَاحِدًا والراعي وَاحِدًا والفحل وَاحِدًا وَالْمشْرَب وَاحِدًا والحالب وَاحِدًا وَمَوْضِع الْحَلب وَاحِدًا)
اعْلَم أَن الْخلطَة على نَوْعَيْنِ
أَحدهمَا خلْطَة اشْتِرَاك وَتسَمى خلْطَة الشُّيُوع وَالْمرَاد بهَا أَنَّهَا لَا يتَمَيَّز نصيب أحد الرجلَيْن أَو الرِّجَال عَن نصيب غَيره
وَالثَّانِي خلْطَة الْجوَار بِأَن يكون مَال كل وَاحِد معينا مُمَيّزا عَن مَال غَيره وَلَكِن يجاوره بمجاورة المَال الْوَاحِد على مَا ذكره الشَّيْخ وَلكُل وَاحِد من الخليطين أثر فِي الزَّكَاة فَيجْعَل مَال الشخصين أَو الْأَشْخَاص بِمَنْزِلَة الشَّخْص الْوَاحِد ثمَّ الْخلطَة قد توجب الزَّكَاة وَإِن كَانَ عِنْد الِانْفِرَاد لَا تجب كَمَا لَو كَانَ لوَاحِد عشرُون شَاة وَلآخر عشرُون شَاة فخلطا وَجب شَاة وَلَو انْفَرد كل وَاحِد لم يجب شَيْء وَقد تقلل الْخلطَة الزَّكَاة كرجلين خلطاً أَرْبَعِينَ شَاة يجب عَلَيْهِمَا شَاة وَلَو إنفراد وَجب على كل وَاحِد شاه وَقد تكْثر الخلطه الزكاه كَمَا لَو خلطا مائَة شاه وشاه لمثلهَا فَإِنَّهَا توجب على كل وَاحِد شَاة وَنصف شَاة وَلَو انْفَرد كل وَاحِد وَجب عَلَيْهِ شَاة إِذا عرفت هَذَا فَالْأَصْل فِي خلْطَة الْجوَار قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع خشيَة الصَّدَقَة وَمَا كَانَ(1/177)
من خليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ) ثمَّ خلط الْجوَار لَا بُد فِيهَا من شُرُوط
أَحدهَا الِاتِّحَاد فِي المراح بِضَم الْمِيم وَهُوَ مأوى الْمَاشِيَة لَيْلًا
الثَّانِي الِاتِّحَاد فِي المسرح وَهُوَ المرعى وَمِنْهُم من يُفَسر المسرح بِالْمَكَانِ الَّتِي تَجْتَمِع فِيهِ قبل سوقها إِلَى المرعى وَلَا بُد مِنْهُ أَيْضا بالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَكَذَا لَا بُد من الِاتِّحَاد فِي الْمَمَر من المسرح إِلَى المرعى قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب
الثَّالِث الِاتِّحَاد فِي الرَّاعِي وَفِيه خلاف وَالأَصَح أَنه يشْتَرط وَمعنى الِاتِّحَاد أَن لَا يخْتَص أحدهم براع وَلَا بَأْس بِتَعَدُّد الرُّعَاة بِلَا خلاف
الرَّابِع الِاتِّحَاد فِي الْفَحْل وَفِيه خلاف أَيْضا وَالْمذهب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور أَنه يشْتَرط وَفِي الحَدِيث
(والخليطان مهما اجْتمعَا فِي الْفَحْل والحوض والراعي) وَالْمرَاد بالفحل الْجِنْس وَالشّرط أَن تكون مُرْسلَة بَين الْمَاشِيَة لَا يخْتَص وَاحِد بفحل سَوَاء كَانَت الفحول مُشْتَركَة أَو لأَحَدهمَا أَو مستعارة
الْخَامِس الِاتِّحَاد فِي المشرب وَيُقَال لَهُ المشرع أَيْضا بِأَن تشرب الْمَاشِيَة من نهر أَو عين أَو بِئْر أَو حَوْض أَو مياه مُتعَدِّدَة بِحَيْثُ لَا تخْتَص غنم أحد بالمشرب من مَوضِع دون غَيره وَقَالَ فِي التَّتِمَّة وَيشْتَرط أَيْضا الِاتِّحَاد فِي الْموضع الَّذِي تَجْتَمِع فِيهِ للسقي والموضع الَّذِي تتنحى إِلَيْهِ إِذا شربت ليشْرب غَيرهَا
السَّادِس الِاتِّحَاد فِي الحالب وَهَذَا لَيْسَ بِشَرْط وَكَذَا لَا يشْتَرط اتِّحَاد الْإِنَاء الَّذِي تحلب فِيهِ وَلَا خلط اللَّبن وَلَا نِيَّة الْخَلْط على الصَّحِيح الْمَنْصُوص فِي الْأَرْبَعَة
السَّابِع الِاتِّحَاد فِي الْحَلب بِفَتْح اللَّام وَهُوَ وضع الْحَلب وَحكي إسكانها وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص وَالله أعلم
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ كَون الْمَجْمُوع نِصَابا فَلَو ملك زيد عشْرين وَآخر عشْرين وخلطا وَبَقِي لأَحَدهمَا شَاة بِلَا خلْطَة فَلَا زَكَاة أصلا وَيشْتَرط أَيْضا أَن يكون الخليطان من أهل الزَّكَاة فَلَو كَانَ أَحدهمَا ذِمِّيا أَو مكَاتبا فَلَا زَكَاة وَلَا أثر للخطة بل إِن كَانَ نصيب الْمُسلم الْحر نِصَابا وَزَكَاة زَكَاة الِانْفِرَاد وَإِلَّا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَيشْتَرط أَيْضا دوَام الْخلطَة فِي جَمِيع السّنة فَلَو فرقا فِي شَيْء من ذَلِك تَنْقَطِع الْخلطَة وَإِن كَانَ يَسِيرا نعم لَو وَقع التَّفْرِيق الْيَسِير بِلَا قصد فَلَا يُؤثر وَيَقَع(1/178)
ذَلِك مغتفراً نعم لَو اطلعا عَلَيْهِ فأقرا على ذَلِك ارْتَفَعت الْخلطَة وَاعْلَم أَن الْخلطَة تُؤثر فِي الْمَوَاشِي بِلَا خلاف وَهل يُؤثر فِي الثِّمَار والزروع والنقدين وأموال التِّجَارَة فِي قَولَانِ اصحهما نعم لِأَن الارتفاق الْحَاصِل فِي الْمَاشِيَة يحصل أَيْضا فِي هَذِه الْأَنْوَاع وَأَيْضًا فعموم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يفرق بَين مُجْتَمع) الحَدِيث وَهُوَ يتَنَاوَل هَذِه الْأَنْوَاع فَيشْتَرط فِي المعشرات اتِّحَاد الناطور والأكار وَهُوَ الْفَلاح والعمال والملقح واللقاط وَالنّهر والجرين وَهُوَ البيدر وَفِي غير ذَلِك اتِّحَاد الْحَانُوت والحارس وَالْمِيزَان والوزان والناقد والمنادي والمتقاضي قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ وَالْجمال قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَإِن كَانَ فِي الدَّرَاهِم وَلكُل وَاحِد كيس فيتحدا فِي الصندوق وَفِي أَمْتعَة التِّجَارَة بِأَن يَكُونَا فِي مخزن وَاحِد وَلم يُمَيّز أَحدهمَا عَن الآخر فِي شَيْء مِمَّا سبق وَحِينَئِذٍ تثبت الْخلطَة وَالله أعلم قَالَ
(فصل وَأول نِصَاب الذَّهَب عشرُون مِثْقَالا وَفِيه ربع الْعشْر وَهُوَ نصف مِثْقَال وَفِيمَا زَاد فبحسابه ونصاب الْوَرق مِائَتَا دِرْهَم وفيهَا ربع الْعشْر وَهُوَ خَمْسَة دَرَاهِم وَفِيمَا زَاد فبحسابه)
زَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة ثَابِتَة بِالْكتاب وَالسّنة واجماع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} وَالْمرَاد بالكنز هُنَا مَا لم تُؤَد زَكَاته وَفِي صَحِيح مُسلم
(مَا من صَاحب ذهب وَلَا فضَّة لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا إِلَّا إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة صفحت لَهُ صَفَائِح من نَار فأحمي عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فتكوى بهَا جَبهته وجنبه وظهره كلما بردت أُعِيدَت لَهُ) الحَدِيث وحقها زَكَاتهَا وَأما نصابها فَكَمَا ذكره الشَّيْخ وَفِي الحَدِيث
(فِي الرقة ربع الْعشْر) والرقة الْفضة وَالذَّهَب وَادّعى ابْن الْمُنْذر أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن نِصَاب الْفضة مِائَتَا دِرْهَم وعَلى أَن نِصَاب الذَّهَب عشرُون مِثْقَالا إِذا بلغت قيمَة الذَّهَب مِائَتي دِرْهَم لِأَن الدِّينَار كَانَ فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإثني عشر وَنصف فَقَط ينحط سعره وَقد يغلو أَي هَذَا مَحل الْإِجْمَاع وَدون الْمِائَتَيْنِ وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الْمَضْرُوب وَغَيره كَمَا مر والمثقال لم يخْتَلف قدره فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام وَأما الدَّرَاهِم فَهُوَ سِتَّة دوانق وكل عشرَة دَرَاهِم سَبْعَة مَثَاقِيل(1/179)
ذهب وَهَذَا التَّقْدِير على سَبِيل التَّحْدِيد حَتَّى لَو نقص حَبَّة أَو بعض حَبَّة فَلَا زَكَاة وَإِن راج رواج النّصاب التَّام أَو زَاد على التَّام لجودة نَوعه وَلَو نقص فِي بعض الموازين وَتمّ فِي بَعْضهَا فَالصَّحِيح أَنه لَا زَكَاة وَقطع بِهِ جمَاعَة وَيشْتَرط أَن يملك النّصاب حولا كَامِلا وَأَن يكون الذَّهَب وَالْفِضَّة خالصين فَلَا زَكَاة فِي الْمَغْشُوش مِنْهُمَا حَتَّى يبلغ الْخَالِص من الذَّهَب عشْرين مِثْقَالا وَمن الْفضة مِائَتي دِرْهَم وَحِينَئِذٍ فَتجب الزَّكَاة وَتخرج من الْخَالِص فَلَو أخرج من الْمَغْشُوش فَالشَّرْط أَن يبلغ الْخَالِص مِنْهُمَا قدر الْوَاجِب وَلَو أخرج خَمْسَة مغشوشة عَن مِائَتي دِرْهَم خَالِصَة لم يُجزئهُ وَلَو ملك مِائَتي دِرْهَم مغشوشة فَلَا زَكَاة فَإِذا بلغت قدرا يكون الْخَالِص قدر نِصَاب وَجَبت وَإِذا أخرج مِنْهَا فَيجب أَن يكون الْمخْرج فِيهِ من الْخَالِص قدر ربع الْعشْر وَقَوله وَفِيمَا زَاد فبحسابه وَلَو قل بِخِلَاف الزَّائِد على النّصاب فِي الْمَوَاشِي حَيْثُ كَانَت الأوقاص عفوا وَالْفرق ضَرَر الْمُشَاركَة فِي الْمَوَاشِي وَهنا لَا مُشَاركَة وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تجب فِي الْحلِيّ الْمُبَاح زَكَاة) هَل تجب الزَّكَاة فِي الْحلِيّ الْمُبَاح فِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا تجب فِيهِ الزَّكَاة
(لِأَن امراةً أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي يَد ابْنَتهَا سلسلتان غليظتان من ذهب فَقَالَ لَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتقضين زَكَاة هَذَا فَقَالَت لَا فَقَالَ لَهَا أَيَسُرُّك أَن يسورك الله بهما يَوْم الْقِيَامَة سِوَارَيْنِ من نَار فخلعتهما وألقتهما ألى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَت هما لله وَلِرَسُولِهِ)
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهر وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ الشَّيْخ أَنه لَا تجب لِأَنَّهُ معد لاستعمال مُبَاح فَأشبه العوامل من الْإِبِل وَالْبَقر رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح إِلَى ابْن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم وَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تحلي بَنَات أَخِيهَا أيتاماً فِي حجرها فَلَا تخرج مِنْهَا الزَّكَاة وَأجِيب عَن الحَدِيث الأول بِأَن الْحلِيّ كَانَ فِي أول الْإِسْلَام محرما على النِّسَاء قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب وَكَذَا نَقله الْبَيْهَقِيّ وَغَيره وَأجِيب أَيْضا بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يحكم على الْحلِيّ مُطلقًا بِالْوُجُوب إِنَّمَا حكم على فَرد خَاص مِنْهُ وَهُوَ قَوْله هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ سرف بِدَلِيل قَوْله غليظتان(1/180)
وَنحن نسلم أَن مَا فِيهِ سرف يحرم لبسه وَتجب فِيهِ الزَّكَاة وَفِي هَذَا الحَدِيث فَائِدَة وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا الْأُصُولِيِّينَ إِن وقائع الْأَعْيَان لَا تعم ثمَّ إِذا وَجَبت الزَّكَاة فِي الحلى إِمَّا على قَول الَّذِي يُوجب الزَّكَاة أَو فِيمَا فِيهِ السَّرف كالخلخال أَو السوار الثمين الَّذِي زنته مِائَتَا دِينَار أَو اخْتلفت قِيمَته ووزنه بِأَن كَانَ وَزنه مِائَتَيْنِ وَقِيمَته ثلثمِائة اعْتبرت الْقيمَة على الصَّحِيح فنسلم للْفُقَرَاء نصِيبهم مِنْهُ مشَاعا ثمَّ يَشْتَرِيهِ مِنْهُم إِن أَرَادَ وَقيل يجوز أَن يعطيهم خَمْسَة دَرَاهِم
وَقَوله فِي الْحلِيّ الْمُبَاح احْتَرز بِهِ عَن الْمحرم فَإِنَّهُ تجب فِيهِ الزَّكَاة بِالْإِجْمَاع قَالَه النَّوَوِيّ فَمن ذَلِك مَا هُوَ محرم لعَينه كالأواني والملاعق والمجامر والمكاحل وَنَحْو ذَلِك من الذَّهَب أَو الْفضة على مَا مر فِي الْأَوَانِي أَو كَانَ محرما بِالْقَصْدِ بِأَن يقْصد الرجل بحلي النِّسَاء الَّذِي يملكهُ كالسوار والخلخال والطوق أَن يلْبسهُ أَو يلْبسهُ غلمانه أَو قصدت الْمَرْأَة بحلي الرجل كالسيف وَنَحْوه أَن تلبسه أَو تلبسه جواريها أَو غَيْرهنَّ من النِّسَاء أَو أعد الرجل حلي الرِّجَال لنسائه وجواريه أَو أعدت الْمَرْأَة حلي النِّسَاء لزَوجهَا أَو غلمانها فَكل ذَلِك حرَام وَتجب فِيهِ الزَّكَاة وَلَو اتخذ حليا وَقصد كنزه فَقَط فَالْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وجوب الزَّكَاة فِيهِ وَإِن قصد إِجَارَته لمن لَهُ اسْتِعْمَاله فَلَا زَكَاة فِيهِ على الْأَصَح كَمَا لَو اتَّخذهُ لغيره وَالِاعْتِبَار بِقصد الْأُجْرَة كَأَجر العوامل من الْبَقر وَالْإِبِل
وَاعْلَم أَن حكم الْقَصْد الطارىء كالمقارن فِي جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ فَلَو اتَّخذهُ قَاصِدا اسْتِعْمَالا محرما ثمَّ غير قَصده إِلَى مُبَاح بَطل حكمه فَلَو عَاد الْقَصْد الْمحرم ابْتِدَاء الْحول وَكَذَا لَو قصد الْكَنْز ابْتِدَاء الْحول وَكَذَا نَظَائِره وَإِذا قُلْنَا لَا زَكَاة فِي الْحلِيّ فانكسر فَلهُ أَحْوَال
أَحدهَا أَن ينكسر بِحَيْثُ لَا يمْنَع الِاسْتِعْمَال فَلَا تَأْثِير لانكساره
الثَّانِيَة أَن يمْتَنع الِاسْتِعْمَال وَيحْتَاج إِلَى سبك وصوغ فَهَذَا تجب الزَّكَاة فِيهِ وَأول حوله من الانكسار
الْحَالة الثَّالِثَة أم يمْتَنع اسْتِعْمَاله إِلَّا أَنه لَا يحْتَاج إِلَى صوغ وَيقبل الْإِصْلَاح بالإلحام فَإِن قصد جعله تبراً أَو دَرَاهِم أَو قصد كنزه انْعَقَد الْحول عَلَيْهِ من يَوْم الانكسار وَإِن قصد اصلاحه فَلَا تجب الزَّكَاة على الصَّحِيح لدوام صُورَة الْحلِيّ وَقصد الْإِصْلَاح وَإِن لم يقْصد شَيْئا فَالصَّحِيح وجوب الزَّكَاة وَالله أعلم
(فرغ) يجوز للنِّسَاء لبس أَنْوَاع الْحلِيّ من الذَّهَب وَالْفِضَّة كالطوق والسوار والخلخال والتعاويذ وَهِي الحروز وَفِي جَوَاز اتخاذهن النِّعَال من الذَّهَب وَالْفِضَّة خلاف وَالصَّحِيح الْجَوَاز وَقيل لَا للإسراف وَقد تقدم فِي جَوَاب الحَدِيث أَن مَا فِيهِ السَّرف أَمر نسبي وَفِي جَوَاز التحلي بِالدَّرَاهِمِ(1/181)
وَالدَّنَانِير المثقوبة الَّتِي تجْعَل فِي القلادة وَجْهَان أصَحهمَا فِي أصل الرَّوْضَة التَّحْرِيم وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب فِي بَاب مَا يجوز لبسه صحّح الرَّافِعِيّ أَن ذَلِك لَا يجوز وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالَه بل الْأَصَح الْجَوَاز قَالَ الاسنائي وَمَا فِي الرَّوْضَة سَهْو وحكاية الْخلاف مَمْنُوع بل يجوز لبس ذَلِك للنِّسَاء قطعا بِلَا كَرَاهَة وَصرح بِهِ فِي الْبَحْر وَالله أعلم قَالَ
(فصل ونصاب الزروع وَالثِّمَار خَمْسَة أوسق قدرهَا ألف وسِتمِائَة رَطْل بالبغدادي وَفِيمَا زَاد فبحسابه) وَقد ورد
(لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) وَفِي رِوَايَة مُسلم
(لَيْسَ فِي حب وَلَا ثَمَر صَدَقَة حَتَّى يبلغ خَمْسَة أوسق) والوسق سِتُّونَ صَاعا وَالِاعْتِبَار بِمِكْيَال الْمَدِينَة قَالَ الحناطي وقدرها بِالْوَزْنِ ألف وسِتمِائَة رَطْل بالبغدادي لِأَن الوسق سِتُّونَ صَاعا وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على ذَلِك فَتكون الْخَمْسَة الأوسق ثلثمِائة صَاع والصاع أَرْبَعَة أَمْدَاد وَذَلِكَ ألف وَمِائَتَا مد وَالْمدّ رَطْل وَثلث فَيكون الْحَاصِل مَا ذكره الشَّيْخ وَهُوَ ألف وسِتمِائَة رَطْل وَإِنَّمَا قدر بالبغدادي لِأَنَّهُ الرطل الشَّرْعِيّ ووزنها بالدمشقي ثلثمِائة وَسِتَّة وَأَرْبَعُونَ رطلا وَثلثا رَطْل وَهَذَا تَفْرِيع على مَا يَقُوله الرَّافِعِيّ أَن رَطْل بَغْدَاد مائَة وَثَلَاثُونَ درهما وَأما عِنْد النَّوَوِيّ فرطل بَغْدَاد مائَة وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ درهما وَأَرْبَعَة أَسْبَاع دِرْهَم فعلى هَذَا تكون الأوسق ثلثمِائة واثنين وَأَرْبَعين رطلا وَسِتَّة أَسْبَاع رَطْل كَمَا قَالَه فِي الْمِنْهَاج وَأما فِي الرَّوْضَة فَقَالَ إِنَّه بالدمشقي ثلثمِائة وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رطلا وَنصف رَطْل وَثلث رَطْل وَسبعا أُوقِيَّة وَاعْلَم أَن الِاعْتِبَار فِي الأوسق بِالْكَيْلِ على الصَّحِيح لَا بِالْوَزْنِ وَإِنَّمَا قدرُوا ذَلِك بِالْوَزْنِ استظهاراً وَهل ذَلِك على سَبِيل التَّحْدِيد أَو التَّقْرِيب قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة الْأَصَح عِنْد الْأَكْثَرين أَنه تَحْدِيد وَقيل تقريب وَصحح فِي شرح مُسلم وَفِي كتاب الظِّهَار من شرح الْمُهَذّب عكس ذَلِك وَقَالَ الصَّحِيح أَنه تقريب وَالثَّانِي أَنه تَحْدِيد وَكَذَا صَححهُ فِي كِتَابه رُؤُوس الْمسَائِل وَعلله بِأَنَّهُ مُجْتَهد فِيهِ وَاعْلَم أَن الِاعْتِبَار فِي ذَلِك الْمِقْدَار فِي الرطب إِذا صَار تَمرا جافاً وَفِي الْعِنَب إِذا صَار زبيباً هَذَا إِذا تتمر أَو تزبب وَإِلَّا أخذت الزَّكَاة مِنْهُمَا فِي الْحَال كَونهمَا رطبا وَعِنَبًا لِأَن ذَلِك هُوَ أكمل أحوالهما فالاعتبار بِهِ أما فِي الْحُبُوب فوقت الْإِخْرَاج حَال تصفيتها من تبنها وقشرها إِلَّا إِذا كَانَ يدّخر فِيهِ ويؤكل مَعَه كالذرة تطحن مَعَ قشرها(1/182)
غَالِبا فَيدْخل القشر فِي الْحساب لِأَنَّهُ طَعَام وَإِن كَانَ يزَال تنعماً كَمَا يزَال قشر الْحِنْطَة وَفِي دُخُول القشرة السُّفْلى من الفول وَجْهَان الْمَذْهَب أَنَّهَا لَا تدخل فِي الْحساب كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن صَاحب الْعدة وَأقرهُ وَتَبعهُ فِي الرَّوْضَة لَكِن قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب بعد نَقله إِنَّه غَرِيب وَقَول الشَّيْخ وَفِيمَا زَاد فبحسابه يَعْنِي الزَّائِد على النّصاب تجب الزَّكَاة فِيهِ كالنقد وَالله أعلم
(فرع) غلَّة الْقرْيَة وثمار الْبُسْتَان الموقوفين على الْمَسَاجِد والرباطات أَو الْمدَارِس أَو على القناطر أَو على الْفُقَرَاء أَو على الْمَسَاكِين لَا زَكَاة فيهمَا إِذْ لَيْسَ لَهما مَالك معِين وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح بل الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَأما الْمَوْقُوف على مُعينين فَتجب فِيهِ الزَّكَاة كَمَا إِذا وقف نخل بُسْتَان فأثمرت خَمْسَة أوسق نعم لَو وقف أَرْبَعِينَ شَاة على جمَاعَة مُعينين فَإِن قُلْنَا الْملك فِي الْمَوْقُوف لَا ينْتَقل فَلَا زَكَاة وَإِن قُلْنَا يملكونه فَلَا زَكَاة أَيْضا على الصَّحِيح لضعف ملكهم وَالله أعلم قَالَ
(وفيهَا إِن سقيت بِمَاء السَّمَاء أَو السيح الْعشْر وَإِن سقيت بدواليب أوغرب نصف الْعشْر)
يجب فِيمَا سقِِي بِمَاء السَّمَاء وَنَحْوه كالثلج والسيح وَهُوَ المَاء الْجَارِي على وَجه الأَرْض بِسَبَب سد النَّهر الْعَظِيم من الزروع وَالثِّمَار الْعشْر وَكَذَا البعل وَهُوَ الَّذِي يشرب من النَّهر بعروقه لقُرْبه من المَاء وَأما مَا يشرب بالنواضح وَهِي مَا يَسْتَقِي عَلَيْهَا من الْحَيَوَانَات أَو الدواليب أَو اشْتَرَاهُ أَو أسقاه بالغرب وَهُوَ الدَّلْو الْكَبِير فَفِيهِ نصف الْعشْر وَالْمعْنَى من جِهَة الْفرق عدم الْمُؤْنَة فِي الأول وَحُصُول الْمُؤْنَة فِي الثَّانِي وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو كَانَ عثرياً الْعشْر وَفِيمَا يسقى بالنضح نصف الْعشْر) وَفِي رِوَايَة
(فِيمَا سقت الْأَنْهَار والغيم الْعشْر وَفِيمَا سقِِي بالساقية نصف الْعشْر) وَفِي رِوَايَة
(فِي البعل الْعشْر) وانعقد الْإِجْمَاع على مَا ذَكرْنَاهُ قَالَه الْبَيْهَقِيّ وَغَيره والعثري بِعَين مُهْملَة وثاء مثلثلة مَفْتُوحَة وَرَاء مُهْملَة هُوَ الَّذِي لَا يشرب إِلَّا من الْمَطَر بِأَن تحفر حفيرة يجْرِي فِيهَا المَاء من السَّيْل إِلَى أصُول الشّجر وَتسَمى تِلْكَ الحفرة عاثوراً لِأَن الْمَار يتعثر فِيهَا إِذا لم يشْعر بهَا وَلَو سقيت الثِّمَار والزروع بِمَا يُوجب الْعشْر وَبِمَا يُوجب نصف الْعشْر على السوَاء وَجب ثَلَاثَة أَربَاع الْعشْر عملا بالتقسيط وَإِن غلب أَحدهمَا فيقسط أَيْضا على الْأَظْهر وَإِن جهل الْأَمر فَلم يدر بِمَا سقِِي أَكثر(1/183)
جَعَلْنَاهُ نِصْفَيْنِ لِأَن الأَصْل فِي كل وَاحِد عدم الزِّيَادَة على صَاحبه وَحِينَئِذٍ فَيجب ثَلَاثَة أَربَاع الْعشْر وَلَو علمنَا أَن أَحدهمَا أَكثر وجهلنا عينه فقد تحققنا أَن الْوَاجِب ينقص عَن الْعشْر وَيزِيد على نصف الْعشْر فَيَأْخُذ قدر الْيَقِين إِلَى أَن يتَبَيَّن الْحَال قَالَه الْمَاوَرْدِيّ قَالَ
(فصل وَتقوم عرُوض التِّجَارَة عِنْد آخر الْحول بِمَا اشْتريت بِهِ وَيخرج من ذَلِك ربع الْعشْر)
قد علمت أَن النّصاب والحول معتبران فِي زَكَاة التِّجَارَة وَهَذَا لَا خلاف فِي اشْتِرَاطه لعُمُوم الْأَخْبَار لَكِن فِي وَقت الِاعْتِبَار فِي الْحول خلاف الصَّحِيح أَن الِاعْتِبَار بآخر الْحول لِأَن الْوُجُوب يتَعَلَّق بالقيمه لَا بِالْعينِ وتقويم الْعرُوض فِي كل لَحْظَة يشق ويحوج إِلَى مداومة الْأَسْوَاق ومراقبة ذَلِك فَاعْتبر وَقت الْوُجُوب وَهُوَ آخر الْحول وَقيل يعْتَبر بِجَمِيعِهِ وَقيل بطرفيه فعلى الصَّحِيح إِن كَانَ مَال التِّجَارَة اشْتَرَاهُ بِدَرَاهِم أَو دَنَانِير وَكَانَ النَّقْد نِصَابا قوم بِهِ فِي آخر الْحول فَإِن بلغت قِيمَته نِصَابا زَكَاة وَإِلَّا فَلَا وَإِن كَانَ رَأس المَال نَقْدا وَلكنه دون النّصاب قوم بِالنَّقْدِ أَيْضا على الصَّحِيح وَهَذَا ينطبق على كَلَام الشَّيْخ بِمَا اشْتريت بِهِ سَوَاء كَانَ ثمن مَال التِّجَارَة نِصَابا أم لَا أما لَو كَانَ رَأس المَال عرضا بِأَن ملك مَال التِّجَارَة بِعرْض للْقنية أَو غَيره فَيقوم بغالب نقد الْبَلَد من الدَّرَاهِم أَو الدَّنَانِير فَإِن بلغ بِهِ نِصَابا زَكَاة وَإِلَّا فَلَا وَإِن كَانَ يبلغ بِغَيْرِهِ نِصَابا وَلَو كَانَ فِي الْبَلَد نقدان متساويان فَإِن بلغ بِأَحَدِهِمَا قوم بِهِ وَإِن بلغ بهما فَالصَّحِيح أَن الْمَالِك يتَخَيَّر فَيقوم بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا وَقيل يُرَاعِي الأغبط للْمَسَاكِين والنقد هُوَ الْمَضْرُوب من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَو ملك مَال التِّجَارَة بِنَقْد وَغَيره من الْعرُوض فَمَا قَابل الدَّرَاهِم قوم بهَا وَمَا قَابل الْعرُوض قوم بِنَقْد الْبَلَد وَلَو لم يعلم مَا اشْتَرَاهُ بِهِ قوم بِنَقْد الْبَلَد قَالَه الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر هَذَا مَا يتَعَلَّق بآخر الْحول أما ابْتِدَاء الْحول فَينْظر فِي رَأس المَال إِن كَانَ نَقْدا وَهُوَ نِصَاب بِأَن اشْترى بِمِائَتي دِرْهَم أَو عشْرين دِينَارا مَال تِجَارَة فابتداء الْحول من حِين ملك النّصاب وَيَبْنِي حول التِّجَارَة عَلَيْهِ أَي على حول النّصاب وَهَذَا إِذا اشْترى بِعَين النّصاب أما إِذا اشْترى بنصاب فِي الذِّمَّة ثمَّ نَقده فِي ثمنه فَيَنْقَطِع حول النَّقْد ويبتدىء حول التِّجَارَة من وَقت الشِّرَاء وَإِن كَانَ رَأس المَال دَرَاهِم أَو دَنَانِير إِلَّا أَنَّهَا دون النّصاب فابتداء الْحول من حِين ملك عرض التِّجَارَة هَذَا كُله إِذا ملك مَال التِّجَارَة بِنَقْد أما إِذا ملكه بِغَيْر نقد فَينْظر إِن ملكه بِعرْض لَا زَكَاة فِيهِ كالثياب وَالْعَبِيد فابتداء الْحول من وَقت ملك التِّجَارَة وَإِن كَانَ رَأس مَال التِّجَارَة مِمَّا تجب فِيهِ الزَّكَاة بِأَن ملك مَال التِّجَارَة بنصاب من السَّائِمَة فَقيل يَبْنِي على حول الْمَاشِيَة كَمَا لَو ملك بنصاب من الدَّرَاهِم أَو الدَّنَانِير وَالصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور أَن حول الْمَاشِيَة يَنْقَطِع ويبتدىء حول التِّجَارَة من حِين ملك مَال التِّجَارَة لاخْتِلَاف زَكَاة الْمَاشِيَة وَالتِّجَارَة قدرا ووقتاً بِخِلَاف زَكَاة النَّقْد مَعَ التِّجَارَة(1/184)
(فرع) إِذا فرعنا على الْأَظْهر أَن الِاعْتِبَار بآخر الْحول فَلَو بَاعَ الْعرض فِي أثْنَاء الْحول بِنَقْد وَهُوَ دون النّصاب ثمَّ اشْترى بِهِ سلْعَة فَالصَّحِيح أَنه يَنْقَطِع الْحول ويبتدىء حول التِّجَارَة من حِين اشْتَرَاهَا لِأَن النُّقْصَان عَن النّصاب قد تحقق بالتنضيض وَهُوَ الثّمن الْحَاصِل الناض وَأما قبل ذَلِك فَإِن النُّقْصَان كَانَ مظنوناً وَقيل لَا يَنْقَطِع الْحول كَمَا لَو بادل بسلعة نَاقِصَة عَن النّصاب فَإِن الْحول لَا يَنْقَطِع على الصَّحِيح لِأَن الْمُبَادلَة مَعْدُودَة من التِّجَارَة وَالله أعلم قَالَ
(وَمَا استخرج من معادن الذَّهَب وَالْفِضَّة يخرج مِنْهُ ربع الْعشْر فِي الْحَال)
الْمَعَادِن جمع مَعْدن بِفَتْح الْمِيم وَكسر الدَّال وَهُوَ اسْم للمكان الَّذِي خلق الله تَعَالَى فِيهِ الْجَوَاهِر من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والنحاس وَنَحْو ذَلِك وَسمي بذلك لإِقَامَة مَا أَنْبَتَهُ الله فِيهِ تَقول عدن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ وَمِنْه جنَّات عدن قَالَ النَّوَوِيّ وَقد أَجمعت الْأمة على وجوب الزَّكَاة فِي الْمَعْدن وَلَا زَكَاة فِي الْمَعْدن إِلَّا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْأَصْحَاب وَقيل تجب فِي كل مَعْدن كالحديد وَنَحْوه فَإِذا استخرج شخص نِصَابا من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَجَبت عَلَيْهِ الزَّكَاة وَيشْتَرط النّصاب دون الْحول أما النّصاب فلعموم الْأَدِلَّة وَوجه عدم وجوب الْحول أَن وُجُوبه فِي غير الْمَعْدن لأجل تَكَامل النَّمَاء والمستخرج من الْمَعْدن نَمَاء فِي نَفسه فَأشبه الثِّمَار والزروع وَلَو استخرج اثْنَان من مَعْدن مَمْلُوك لَهما أَو مُبَاح وَجَبت عَلَيْهِمَا الزَّكَاة على الْأَصَح وَزَكَاة الْمَعْدن ربع الْعشْر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(فِي الرقة الْعشْر) وَالله أعلم قَالَ
(وَمَا يُوجد من الرِّكَاز فَفِيهِ الْخمس)
الرِّكَاز دَفِين الْجَاهِلِيَّة وَيجب فِيهِ الْخمس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وَفِي الرِّكَاز الْخمس) وَيصرف مصرف الزَّكَاة على الْمَذْهَب وَلَا يشْتَرط فِيهِ الْحول بِلَا خلاف وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ بِالْإِجْمَاع لِأَن الْحول يُرَاد للإستنماء وَهُوَ كُله نَمَاء وَلَا مشقة فِيهِ غَالِبا نعم يشْتَرط النّصاب والنقد على الْمَذْهَب لِأَن مُسْتَفَاد من الأَرْض فاختص بِمَا يجب فِيهِ الزَّكَاة قدرا ونوعاً كالمعدن وَالثَّانِي لَا يشترطان فِيهِ وَبِه قَالَ الإِمَام مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد لعُمُوم قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(وَفِي الرِّكَاز الْخمس) وَاعْلَم أَن هَذَا فِي الْمَوْجُود الَّذِي هُوَ جاهلي يَعْنِي وجد على ضرب الجاهليه الَّذين هم قبل الْإِسْلَام وَسموا بالجاهلية لِكَثْرَة جهالتهم وَيعرف ضَربهمْ بِأَن يكون عَلَيْهِ اسْم ملك من مُلُوكهمْ أَو صَلِيب(1/185)
كَمَا نَقله ابْن الرّفْعَة عَن الْأَصْحَاب قَالَ الرَّافِعِيّ وَفِيه اشكال إِذْ لَا يلْزم من كَونه على ضَربهمْ أَن يكون من دفنهم لجَوَاز أَن يكون أَخذ مُسلم ثمَّ دَفنه وَالْعبْرَة إِنَّمَا هِيَ بدفنهم وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة على هَذَا الاشكال وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن الأَصْل وَالظَّاهِر عدم الْأَخْذ ثمَّ الدّفن وَلَو فتحنا هَذَا الْبَاب لم يكن لنا ركاز أَلْبَتَّة وَلَو كَانَ الْمَوْجُود عَلَيْهِ ضرب الْإِسْلَام بِأَن كَانَ عَلَيْهِ شبء من الْقُرْآن أَو اسْم ملك من مُلُوك الْإِسْلَام لم يملكهُ الْوَاجِد بِمُجَرَّد الْأَخْذ بل يجب عَلَيْهِ أَن يردهُ إِلَى مَالِكه إِن علمه فَإِن آخِره وَلَو لَحْظَة مَعَ الْعلم عصى فَإِن لم يعلم الْوَاجِد صَاحبه فَالصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور أَنه لقطَة يعرفهُ الْوَاجِد سنة وَقَالَ أَبُو عَليّ هُوَ مَال ضائع يمسِكهُ الْوَاجِد للْمَالِك أبدا أَو يحفظه الإِمَام فِي بَيت المَال وَلَا يملك بِحَال
قلت هَذَا فِي غير زَمَاننَا الْفَاسِد حِين كَانَ بَيت المَال منتظماً أما فِي زَمَاننَا فإمام النَّاس هُوَ وَأَتْبَاعه ظلمَة غشمة وَكَذَا قُضَاة الرشا الَّذين يَأْخُذُونَ أَمْوَال الْأَصْنَاف الَّذين جعلهَا الله تَعَالَى لَهُم بِنَصّ الْقُرْآن يدفعونها إِلَى الظلمَة ليعينوهم على الْفساد فَيحرم دفع ذَلِك وأشباهه إِلَيْهِم وَمن دفع شَيْئا من ذَلِك إِلَيْهِم عصى لإعانته لَهُم على تَضْييع مَال من جعله الله لَهُ وَهَذَا لَا نزاع فِيهِ وَلَا يتَوَقَّف فِي ذَلِك إِلَّا غبي أَو معاند عَافَانَا الله من ذَلِك وَالله أعلم وَلَو لم يعرف أَن الْمَوْجُود جاهلي أَو إسلامي كالتبر والحلي وَمَا يضْرب مثله فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام فَفِيهِ قَولَانِ الْأَشْهر الْأَظْهر أَنه لقطَة تَغْلِيبًا لحكم الْإِسْلَام وَالله أعلم قَالَ
بَاب زَكَاة الْفطر
(فصل وَتجب زَكَاة الْفطر بِثَلَاثَة أَشْيَاء الْإِسْلَام وغروب الشَّمْس من آخر يَوْم من رَمَضَان)
يُقَال لَهَا زَكَاة الْفطر لِأَنَّهَا تجب بِالْفطرِ وَيُقَال لَهَا زَكَاة الْفطْرَة أَي الْخلقَة يَعْنِي زَكَاة الْبدن لِأَنَّهَا تزكي النَّفس أَي تطهرها وتنمي عَملهَا ثمَّ الأَصْل فِي وُجُوبهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ
(فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر على النَّاس صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير على كل حر أَو عبد ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين) وَادّعى ابْن الْمُنْذر أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على وُجُوبهَا
ثمَّ شَرط وجوبا الْإِسْلَام لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(من الْمُسلمين) وَادّعى الْمَاوَرْدِيّ(1/186)
الْإِجْمَاع على ذَلِك فَلَا فطْرَة على كَافِر عَن نَفسه وَهل تجب إِذا ملك عبدا مُسلما فِيهِ خلاف يَأْتِي عِنْد قَول الشَّيْخ وَعَمن تلْزمهُ نَفَقَته من الْمُسلمين وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَصَحّ أَنَّهَا تجب عَلَيْهِ لأجل عَبده الْمُسلم وَفِي وَقت وُجُوبهَا أَقْوَال أظهرها وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد أَنَّهَا تجب بغروب الشَّمْس لِأَنَّهَا مُضَافَة إِلَى الْفطر كَمَا مر فِي لفظ الحَدِيث وَالثَّانِي أَنَّهَا تجب بِطُلُوع الْفجْر يَوْم الْعِيد لِأَنَّهَا قربَة تتَعَلَّق بالعيد فَلَا تتقدم عَلَيْهِ كالأضحية وَالثَّالِث تتَعَلَّق بالأمرين فَلَو ملك عبدا بعد الْغُرُوب فَلَا تجب فطرته على المُشْتَرِي على القَوْل الْأَظْهر وَكَذَا لَو ولد لَهُ ولد بعد الْغُرُوب أَو تزوج فَلَا فطْرَة عَلَيْهِ لعدم إِدْرَاك وَقت الْوُجُوب وَالله أعلم قَالَ
(وَوُجُود الْفضل عَن قوته وقوت عِيَاله فِي ذَلِك الْيَوْم ويزكي عَن نَفسه وَعَمن تلْزمهُ نَفَقَته من السلمين)
هَذَا هُوَ السَّبَب الثَّالِث لوُجُوب زَكَاة الْفطر وَهُوَ الْيَسَار فالمعسر لَا زَكَاة عَلَيْهِ قَالَ ابْن الْمُنْذر بِالْإِجْمَاع وَلَا بُد من معرفَة الْمُعسر وَهُوَ كل من لم يفضل عَن قوته وقوت من تلْزمهُ نَفَقَته آدَمِيًّا كَانَ أَو غَيره لَيْلَة الْعِيد ويومه مَا يُخرجهُ فِي الْفطْرَة فَهُوَ مُعسر وَهل يشْتَرط كَون الصَّاع الْمخْرج فَاضلا عَن مَسْكَنه وخادمه الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ للْخدمَة فِيهِ وَجْهَان فِي الرَّوْضَة بِلَا تَرْجِيح وَرجح الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر وَالشَّرْح الصَّغِير أَنه يشْتَرط ذَلِك وَكَذَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج وَشرح الْمُهَذّب وَكَذَا يشْتَرط أَن يكون الصَّاع الْمخْرج فَاضلا عَمَّا ذكرنَا وَعَن دست ثوب يَلِيق بِهِ صرح بِهِ الإِمَام وَالْمُتوَلِّيّ وَالنَّوَوِيّ فِي نكت التَّنْبِيه وَهل يمْنَع الدّين وجوب الْفطْرَة لَيْسَ فِي الشَّرْح الْكَبِير وَالرَّوْضَة تَرْجِيح بل نقلا عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ الِاتِّفَاق على أَنه يمْنَع وُجُوبهَا كَمَا أَن الْحَاجة إِلَى نَفَقَة الْقَرِيب تمنع وُجُوبهَا إِلَّا أَن الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير رجح أَن الدّين لَا يمْنَع وجوب زَكَاة الْفطر كَمَا يمْنَع وحوب زَكَاة المَال قَالَ وَفِي كَلَام الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب مَا يدل على أَن الدّين لَا يمْنَع الْوُجُوب لَكِن رجح صَاحب الْحَاوِي الصَّغِير أَن الدّين يمْنَع الْوُجُوب وَبِه جزم النَّوَوِيّ فِي نكت التَّنْبِيه وَنَقله عَن الْأَصْحَاب وَقَول الشَّيْخ وَعَمن تلْزمهُ نَفَقَته
اعْلَم أَن الْجِهَات الَّتِي تتحمل زَكَاة الْفطر ثَلَاثَة الْملك وَالنِّكَاح والقرابة فَمن تلْزمهُ نَفَقَته بِسَبَب مِنْهَا لزمَه فطْرَة الْمُنفق عَلَيْهِ وَيسْتَثْنى من ذَلِك مسَائِل يلْزمه نَفَقَة ذَلِك الشَّخْص وَلَا تجب فطرته مِنْهَا الابْن تلْزمهُ نَفَقَة زَوْجَة أَبِيه وَفِي وجوب زَكَاة افطر عَلَيْهِ بسبها وَجْهَان أصَحهمَا عِنْد الْغَزالِيّ فِي جمَاعَة أَنَّهَا تجب عَلَيْهِ كَالنَّفَقَةِ وأصحهما عِنْد الْبَغَوِيّ وَغَيره لَا تجب وَصَححهُ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وصححناه فِي الْمُحَرر والمنهاج وَيجْرِي الْوَجْهَانِ فِي مُسْتَوْلدَة الْأَب وَمِنْهَا لَو كَانَ للْأَب ابْن بَالغ وَالْوَالِد فِي نَفَقَة أَبِيه فَوجدَ قوت الْوَلَد يَوْم الْعِيد وَلَيْلَته لم تجب فطرته على الْأَب وَكَذَا الابْن الصَّغِير إِذا كَانَت الْمَسْأَلَة بِحَالِهَا كالكبير وَمِنْهَا الْقَرِيب الْكَافِر الَّذِي تجب(1/187)
نَفَقَته وَكَذَا العَبْد الْكَافِر وَالْأمة الْكَافِرَة تجب نَفَقَتهم دون فطرتهم وَكَذَا زَوجته الْكَافِرَة وَعَن هَؤُلَاءِ احْتَرز الشَّيْخ بقوله من الْمُسلمين وَمِنْهَا زَوْجَة الْمُعسر أَو العَبْد إِذا كَانَت موسرة فَإِن نَفَقَتهَا مُسْتَقِرَّة فِي ذمَّته وَلَا تجب فطرتها بل تجب عَلَيْهَا على الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ وَخَالفهُ النَّوَوِيّ فصحح عدم الْوُجُوب وَكَذَا الْأمة الْمُزَوجَة بِعَبْد أَو مُعسر تجب فطرتها على سَيِّدهَا على الْأَصَح دون نَفَقَتهَا فَإِنَّهَا وَاجِبَة على الزَّوْج وَمِنْهَا إِذا كَانَ لَهُ عبد لَا مَال لَهُ غَيره بعد قوت يَوْم الْعِيد وَلَيْلَته وَبعد صَاع يُخرجهُ عَن فطْرَة نَفسه وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ إِنَّه فِي هَذِه الصُّورَة أَنه يبْدَأ بِنَفسِهِ حكى الإِمَام فِيهِ ثَلَاثَة أوجه الْأَصَح أَنه إِن كَانَ مُحْتَاجا إِلَيْهِ لخدمته فَهُوَ كَسَائِر الْأَمْوَال
وَالثَّانِي يُبَاع مِنْهُ بِقدر الْفطْرَة
وَالثَّالِث لَا تجب الزَّكَاة أصلا فعلى الصَّحِيح فِي معنى خدمته خدمَة من تلْزمهُ خدمته من قريب وَزَوْجَة وَلَو كَانَ مُحْتَاجا إِلَى العَبْد لعمله فِي أرضه أَو مَاشِيَته فَإِن الْفطْرَة تجب قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَأطلق فِي الْمِنْهَاج وَلم يذكر التَّقْيِيد بِالْخدمَةِ وَالله أعلم قَالَ
(فَيخرج صَاعا من قوت بَلَده وَقدره خَمْسَة أَرْطَال وَثلث بالعراقي)
من وَجَبت عَلَيْهِ زَكَاة الْفطر يلْزمه أَن يخرج صَاعا من قوته لحَدِيث ابْن عمر الْمُتَقَدّم وَهُوَ خَمْسَة أَرْطَال وَثلث بالعراقي ووزنه سِتّمائَة دِرْهَم وَثَلَاثَة وَتسْعُونَ درهما وَثلث دِرْهَم وَهَذَا عِنْد الرَّافِعِيّ لِأَنَّهُ يَقُول إِن رَطْل بَغْدَاد مائَة وَثَلَاثُونَ درهما وَقَالَ النَّوَوِيّ إِن الرطل مائَة وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ درهما وَأَرْبَعَة أَسْبَاع دِرْهَم وَالِاعْتِبَار فِي الصَّاع بِالْكَيْلِ وَإِنَّمَا قدر الْعلمَاء الصَّاع بِالْوَزْنِ استظهاراً قَالَ النَّوَوِيّ قد يسْتَشْكل ضبط الصَّاع بالأرطال فَإِن الصَّاع الْمخْرج بِهِ فِي زَمَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مكيال مَعْرُوف وَيخْتَلف قدره وزنا باخْتلَاف جنس مَا يخرج كالذرة والحمص وَغَيرهمَا فَالصَّوَاب الِاعْتِمَاد على الْكَيْل دون الْوَزْن فَالْوَاجِب أَن يخرج بِصَاع معاير بالصاع الَّذِي كَانَ يخرج بِهِ فِي من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن لم يجد وَجب عَلَيْهِ أَن يخرج قدرا يتَيَقَّن أَنه لَا ينقص عَنهُ وعَلى هَذَا فالتقدير بِخَمْسَة أَرْطَال وَثلث تقريب وَقَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء إِنَّه قدر أَربع حفنات بكفي رجل معتدل الْكَفَّيْنِ وَالله أعلم
إِذا عرفت هَذَا فَكل مَا يجب فِيهِ الْعشْر فَهُوَ صَالح لإِخْرَاج الْفطْرَة مِنْهُ هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الْمَشْهُور وَفِي قَول لَا يجزىء الحمص والعدس ويجزىء الأقط على الصَّحِيح وَقَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي الْقطع بِجَوَازِهِ لصِحَّة الحَدِيث فِيهِ وَالأَصَح أَن الْجُبْن وَاللَّبن فِي مَعْنَاهُ وَهَذَا فِيمَن ذَلِك قوته(1/188)
وَإِلَّا فَلَا يجزىء وَلَا خلاف أَنه لَا يجزىء السّمن وَلَا الْجُبْن المنزوع الزّبد وَلَا يجزىء التِّين وَلَا لحم الصَّيْد وَإِن كَانَ يقتات بهما فِي بعض الجزائر لِأَن النَّص ورد فِي بعض المعشرات وقسنا عَلَيْهِ الْبَاقِي بِجَامِع الاقتيات
وَاعْلَم أَن شَرط الْمخْرج أَن لَا يكون مسوساً وَلَا معيبا كَالَّذي لحقه مَاء أَو نداوة الأَرْض وَنَحْو ذَلِك كالعتيق الْمُتَغَيّر اللَّوْن والرائحة وَكَذَا المدود وَشرط الْمخْرج أَن يكون حبا فَلَا تجزىء الْقيمَة بِلَا خلاف وَكَذَا لَا يجزىء الدَّقِيق وَلَا السويق وَلَا الْخبز لِأَن الْحبّ يصلح لما لَا يصلح لَهُ هَذِه الثَّلَاثَة وَهُوَ مورد النَّص فَلَا يَصح إِلْحَاق هَذِه الْأُمُور بالحب لِأَنَّهَا لَيست فِي معنى الْحبّ فاعرفه ثمَّ الْوَاجِب غَالب قوت بَلَده لِأَن نفوس الْفُقَرَاء متشوقة إِلَيْهِ وَقيل الْوَاجِب قوت نَفسه فعلى الصَّحِيح وَهُوَ أَن الْوَاجِب غَالب قوت بَلَده لِأَن نفوس الْفُقَرَاء متشوفه إِلَيْهِ وَقيل الْوَاجِب قوت نَفسه فعلى الصَّحِيح وَهُوَ أَن الْوَاجِب غَالب قوت الْبَلَد لَو كَانُوا يقتاتون أجناساً لَا غَالب فِيهَا أخرج مَا شَاءَ وَقيل يجب الْأَعْلَى احْتِيَاطًا ثمَّ مَا المُرَاد بالغالب قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة قَالَ الْغَزالِيّ فِي الْوَسِيط الْمُعْتَبر غَالب قوت الْبَلَد وَقت وجوب الْفطْرَة لَا فِي جَمِيع السّنة وَقَالَ فِي الْوَجِيز غَالب قوت الْبَلَد يَوْم الْفطْرَة وَالله أعلم
وَمَا فِي الْوَسِيط صرح بِهِ صَاحب الذَّخَائِر وَكَلَام شرح الْمُهَذّب قَالَ الاسنائي يَقْتَضِي أَن المُرَاد بقوت الْبَلَد إِنَّمَا هُوَ فِي وَقت من الْأَوْقَات قَالَ فتفطن لَهُ وَصُورَة مَسْأَلَة شرح الْمُهَذّب الَّتِي ذكرهَا الاسنائي فِيمَا إِذا كَانُوا يقتاتون أجناساً لَا غَالب فِيهَا وَلَو كَانُوا يقتاتون قمحاً مخلوطاً بشعير أَو بذرة أَو بحمص وَنَحْو ذَلِك فَإِن كَانَ على السوَاء تخير وَإِلَّا وَجب الْإِخْرَاج من الْأَكْثَر وَيحرم تَأْخِير الزَّكَاة عَن يَوْم الْعِيد وَيسْتَحب إخْرَاجهَا قبل صَلَاة الْعِيد وَيجوز تَعْجِيلهَا من أول رَمَضَان وَالله أعلم
(فرع) لَو أخرج من مَاله فطْرَة وَلَده الصَّغِير جَازَ وَإِن كَانَ الصَّغِير غَنِيا فَلِأَنَّهُ يسْتَقلّ بتمليكه فَكَأَنَّهُ ملكه ثمَّ أخرج عَنهُ وَالْجد فِي معنى الْأَب وَهَذَا بِخِلَاف الْوَلَد الْكَبِير فَإِنَّهُ لَا يخرج عَنهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ نعم لَو كَانَ الابْن الْكَبِير مَجْنُونا جَازَ أَن يخرج عَنهُ لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يملكهُ لِأَنَّهُ كالصغير
وَاعْلَم أَن التَّقْيِيد بالوالد يخرج الْوَصِيّ والقيم فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن يخرج عَنهُ من مَاله إِلَّا بِإِذن القَاضِي كَذَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب لِأَن اتِّحَاد الْمُوجب والقابض يخْتَص بِالْأَبِ وَالْجد وَالْأَفْضَل صرف الْفطْرَة إِلَى أَقَاربه الَّذين لَا تلْزمهُ نَفَقَتهم وَالْأولَى أَن يبْدَأ بِذِي الرَّحِم الْمحرم كالأخوات والأخوة والأعمام والأخوال وَيقدم الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب ثمَّ الْقَرَابَة الَّذين لَيْسُوا بمحرمين عَليّ كأولاد الْعم وَالْخَال ثمَّ بالجار وَالله أعلم قَالَ(1/189)
بَاب أهل الزَّكَاة
(فصل وتدفع الزَّكَاة إِلَى الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي كِتَابه بقوله سُبْحَانَهُ {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبهم وَفِي الرّقاب والغارمين وَفِي سَبِيل الله وَابْن السَّبِيل} أَو إِلَى من يُوجد مِنْهُم)
قد علمت الْأَمْوَال الَّتِي تجب فِيهَا الزَّكَاة وَقدر الزَّكَاة وَهَذَا الْفَصْل مَعْقُود لمن يَسْتَحِقهَا فَإِن دفع زَكَاته لغير مستحقيها لفقد الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة لم تَبرأ ذمَّته مِنْهَا والمستحقون لَهَا هم الْأَصْنَاف الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْعَظِيم وهم ثَمَانِيَة
الصِّنْف الأول الْفُقَرَاء وحد الْفَقِير هُوَ الَّذِي لَا مَال لَهُ وَلَا كسب أَو لَهُ مَال أَو كسب وَلَكِن لَا يَقع موقعاً من حَاجته كمن يحْتَاج إِلَى عشرَة مثلا وَلَا يملك إِلَّا دِرْهَمَيْنِ وَهَذَا لَا يسلبه اسْم الْفقر وَكَذَا ملك الدَّار الَّتِي يسكنهَا وَالثَّوْب الَّذِي يتجمل بِهِ لَا يسلبه اسْم الْفقر وَكَذَا العَبْد الَّذِي يَخْدمه قَالَ ابْن كج وَلَو كَانَ لَهُ مَال على مَسَافَة الْقصر يجوز لَهُ الْأَخْذ إِلَى أَن يصل إِلَى مَاله وَلَو كَانَ لَهُ دين مُؤَجل فَلهُ أَخذ كِفَايَته إِلَى حُلُول الدّين وَلَو قدر على الْكسْب فَلَا يعْطى لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا حَظّ فِيهَا لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي وَهِي الْقُوَّة) وَفِي رِوَايَة
(وَلَا لذِي قُوَّة مكتسب) وَلَو قدر على الْكسْب إِلَّا أَنه مشتغل بالعلوم الشَّرْعِيَّة وَلَو أقبل على الْكسْب لانقطع عَن التَّحْصِيل حلت لَهُ الزَّكَاة على الصَّحِيح الْمَعْرُوف وَقيل لَا يعْطى مُطلقًا ويكتسب وَقيل إِن كَانَ نجيباً يُرْجَى تفقهه ونفعه اسْتحق وَإِلَّا فَلَا وَكَثِيرًا مَا يسكن الْمدَارِس من لَا يأتى مِنْهُ التَّحْصِيل بل هُوَ معطل نَفسه فَهَذَا لَا يعْطى بِلَا خلاف وَلَو كَانَ مُقبلا على الْعِبَادَة لَكِن الْكسْب يمنعهُ عَنْهَا وَعَن أوراده الَّتِي استغرق بهَا الْوَقْت فَهَذَا لَا تحل لَهُ الزَّكَاة لِأَن الِاسْتِغْنَاء عَن النَّاس أولى
وَاعْلَم أَن الْفَقِير المكفي بِنَفَقَة من تلْزمهُ نَفَقَته وَكَذَا الزَّوْجَة المكفية بِنَفَقَة زَوجهَا لَا يعطيان كَمَا لَو وقف على الْفُقَرَاء أَو أوصى لَهُم فَإِنَّهُمَا لَا يعطيان هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَمحل الْخلاف فِي مَسْأَلَة الْقَرِيب إِذا أعطَاهُ غير من تلْزمهُ النَّفَقَة من سهم الْفُقَرَاء أَو الْمَسَاكِين أما من تلْزمهُ النَّفَقَة(1/190)
فَلَا يجوز لَهُ دَفعهَا إِلَيْهِ قطعا لِأَنَّهُ بذلك يدْفع عَن نَفسه النَّفَقَة فترجع فَائِدَة ذَلِك إِلَيْهِ وَالله أعلم
الصِّنْف الثَّانِي الْمَسَاكِين لِلْآيَةِ والمسكين هُوَ الَّذِي يملك مَا يَقع موقعاً من كِفَايَته وَلَا يَكْفِيهِ بِأَن كَانَ مثلا مُحْتَاجا إِلَى عشرَة وَعِنْده سَبْعَة وَكَذَا من يقدر أَن يكْتَسب كَذَلِك حَتَّى لَو كَانَ تَاجِرًا أَو كَانَ مَعَه رَأس مَال تِجَارَة وَهُوَ النّصاب جَازَ لَهُ أَن يَأْخُذ وَوَجَب عَلَيْهِ أَن يدْفع زَكَاة رَأس مَاله نظرا إِلَى الْجَانِبَيْنِ
وَاعْلَم أَن الْمُعْتَبر من قَوْلنَا يَقع موقعاً من كِفَايَته الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس وَسَائِر مَا لَا بُد لَهُ مِنْهُ على مَا يَلِيق بِالْحَال من غير إِسْرَاف وَلَا تقتير
قلت قد كثر الْجَهْل بَين النَّاس لَا سِيمَا فِي التُّجَّار الَّذين قد شغفوا بتحصيل هَذِه المزبلة للتلذذ بِأَكْل الطّيب وَلبس الناعم والتمتع بِالنسَاء الحسان والسراري إِلَى غير ذَلِك وَبَقِي لَهُم بِكَثْرَة مَالهم عَظمَة فِي قُلُوب الأراذل من المتصوفة الَّذين قد اشْتهر عَنْهُم أَنهم من أهل الصّلاح المنقطين لعبادة رَبهم قد اتخذ كل مِنْهُم زَاوِيَة أَو مَكَانا يظْهر فِيهِ نوعا من الذّكر وَقد لف عَلَيْهِم من لَهُ زِيّ الْقَوْم وَرُبمَا انْتَمَى أحدهم إِلَى أحد رجال الْقَوْم كالأحمدية والقادرية وَقد كذبُوا فِي الانتماء فَهَؤُلَاءِ لَا يسْتَحقُّونَ شَيْئا من الزكوات وَلَا يحل دفع الزَّكَاة إِلَيْهِم وَمن دَفعهَا إِلَيْهِم لم يَقع الْموقع وَهِي بَاقِيَة فِي ذمَّته وَأما بَقِيَّة الطوائف وهم كَثِيرُونَ كالقلندرية والحيدرية فهم أَيْضا على اخْتِلَاف فرقهم فيهم الحلولية والملحدة وهم أكفر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَمن دفع إِلَيْهِم شَيْئا من الزكوات أَو من التطوعات فَهُوَ عَاص بذلك ثمَّ يلْحقهُ بذلك من الله الْعقُوبَة إِن شَاءَ وَيجب على كل من يقدر على الْإِنْكَار أَن يُنكر عَلَيْهِم وإثمهم مُتَعَلق بالحكام الَّذين جعلهم الله تَعَالَى فِي مناصبهم لإِظْهَار الْحق وقمع الْبَاطِل وإماتة مَا جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإماتته وَالله أعلم
(فرع) الصَّغِير إِذا لم يكن لَهُ من ينْفق عَلَيْهِ فَقيل لَا يعْطى لاستغنائه بِمَال الْيَتَامَى من الْغَنِيمَة وَالأَصَح أَنه يعْطى فَيدْفَع إِلَى قيمه لِأَنَّهُ قد لَا يكون فِي نَفَقَته غَيره وَلَا يسْتَحق سهم الْيَتَامَى لِأَن أَبَاهُ فَقير قلت أَمر الْغَنِيمَة فِي زَمَاننَا هَذَا قد تعطل فِي بعض النواحي لجور الْحُكَّام فَيَنْبَغِي الْقطع بِجَوَاز إِعْطَاء الْيَتِيم إِلَّا أَن يكون شريفاً فَلَا يعْطى وَإِن منع من خمس الْخمس على الصَّحِيح وَالله أعلم
الصِّنْف الثَّالِث الْعَامِل وَهُوَ الَّذِي اسْتَعْملهُ الإِمَام على أَخذ الزكوات ليدفعها إِلَى مستحقيها كَمَا أمره الله تَعَالَى فَيجوز لَهُ أَخذ الزَّكَاة بِشَرْطِهِ لِأَنَّهُ من جملَة الْأَصْنَاف فِي الْآيَة الْكَرِيمَة وَلَا حق للسُّلْطَان فِي الزَّكَاة وَلَا لوالي الاقليم وَكَذَا القَاضِي بل رزقهم إِذا لم يتطوعوا من خمس الْخمس المرصد لمصَالح الْعَامَّة وَمن شَرط الْعَامِل أَن يكون فَقِيها فِي بَاب الزَّكَاة حَتَّى يعرف مَا يجب من المَال وَقدر الْوَاجِب والمستحق من غَيره وَأَن يكون أَمينا حرا لِأَنَّهَا ولَايَة(1/191)
فَلَا يجوز أَن يكون الْعَامِل مَمْلُوكا وَلَا فَاسِقًا كشربه الْخمر والمكسة وَأَعْوَان الظلمَة قَاتل الله من أهْدر دين الله الَّذِي شَرعه لنَفسِهِ وَأرْسل بِهِ رَسُوله وَأنزل بِهِ كِتَابه وَيشْتَرط أَن يكون مُسلما لقَوْله تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم} وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ
(لَا تَأْمَنُوهُمْ وَقد خَوَّنَهُمْ الله وَلَا تقربوهم وَقد أبعدهم الله) وَقد ذكرت تَتِمَّة كَلَام عمر وَمَا سَببه فِي كتابي
(قمع النُّفُوس) وَهُوَ مِمَّا لَا يسْتَغْنى عَنهُ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِذا عين لَهُ الإِمَام شَيْئا يَأْخُذهُ لم يشْتَرط الْإِسْلَام قَالَ النَّوَوِيّ وَفِي ذَلِك نظر قل وَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ ضَعِيف جدا وَلم يذكرهُ فِيمَا أعلم غَيره وَكَيف يَقُول بذلك حَتَّى يكون للْكَافِرِ على الْمُسلم سَبِيل وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} لَا سِيمَا فِي زَمَاننَا هَذَا الْفَاسِد وَقد رَأَيْت بعض الظلمَة قد سلط بعض أهل الذِّمَّة على أَخذ شَيْء بِالْبَاطِلِ من مُسلم فأوقفه موقف الذلة وَالصغَار فَالصَّوَاب الْجَزْم بِعَدَمِ جَوَاز ذَلِك وَلَا خلاف أَن يصنعه هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاء من تَرْتِيب ديوَان ذمِّي على أقطاعه ليضبط لَهُ مَاله ويتسلط على الفلاحين وَغَيرهم فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن الله تَعَالَى قد فسقهم فَمن ائتمنهم فقد خَالف الله وَرَسُوله وَقد وثق بِمن خونه الله تَعَالَى وَالله أعلم
الصِّنْف الرَّابِع الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة يَعْنِي عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِم فيعطون لاستمالة قُلُوبهم والمؤلفة قُلُوبهم ضَرْبَان مُسلمُونَ وكفار فَلَا يعْطى الْكَافِر من الزَّكَاة بِلَا خلاف لكفرهم وَهل يُعْطون من خمس الْخمس قيل نعم لِأَنَّهُ مرصد للْمصَالح وَهَذَا مِنْهَا وَالصَّحِيح أَنهم لَا يُعْطون شَيْئا أَلْبَتَّة لِأَن الله تَعَالَى قد أعز الْإِسْلَام وَأَهله عَن تألف الْكفَّار وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَعْطَاهُم حِين كَانَ الْإِسْلَام ضَعِيفا وَقد زَالَ ذَلِك وَالله أعلم
وَأما مؤلفة الْإِسْلَام فصنف دخلُوا فِي الْإِسْلَام ونيتهم ضَعِيفَة فيعطون تألفاً ليثبتوا وصنف آخر لَهُم شرف فِي قَومهمْ نطلب بتأليفهم إِسْلَام نظائرهم وصنف إِن أعْطوا جاهدوا من يليهم أَو يقبضوا الزَّكَاة من مانعيها وَالْمذهب أَنهم يُعْطون وَالله أعلم
الصِّنْف الْخَامِس الرّقاب لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة وهم المكاتبون لِأَن غَيرهم من الأرقاء لَا يملكُونَ فَيدْفَع إِلَيْهِم مَا يعينهم على الْعتْق بِشَرْط أَن يكون مَعَه مَا يَفِي بنجومه وَيشْتَرط كَون الْكِتَابَة صَحِيحَة وَيجوز صرف الزَّكَاة إِلَيْهِم قبل حُلُول النَّجْم على الْأَصَح وَلَا يجوز صرف ذَلِك إِلَى سَيّده إِلَّا بِإِذن الْمكَاتب لَكِن إِن دفع إِلَى السَّيِّد سقط عَن الْمكَاتب بِقدر المصروف إِلَى السَّيِّد لِأَن من أدّى دين غَيره بِغَيْر إِذْنه بَرِئت ذمَّته وَالله أعلم
الصِّنْف السَّادِس الغارمون لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة وَالدّين على ثَلَاثَة أضْرب(1/192)
الأول الدّين الَّذِي لزمَه لمصْلحَة نَفسه فَيعْطى من الزَّكَاة مَا يقْضِي بِهِ دينه إِن كَانَ دينه فِي غير مَعْصِيّة والإسراف فِي النَّفَقَة حرَام ذكره الرَّافِعِيّ هُنَا وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَقَالا فِي بَاب الْحجر إِنَّه مُبَاح وَيشْتَرط أَن يكون عِنْده مَا يقْضِي مِنْهُ دينه فَلَو وجد مَا يقْضِي مِنْهُ من نقد أَو عرض فَلَا يعْطى على الْأَظْهر لقدرته على الْوَفَاء وَلَو وجد مَا يقْضِي بعض الدّين أعْطى الْبَقِيَّة وَلَو كَانَ يقدر على الِاكْتِسَاب فَالْأَصَحّ أَنه يعْطى لِأَنَّهُ لَا يقدر على الْوَفَاء إِلَّا بعد زمن وَفِيه ضَرَر لَهُ وَلِصَاحِب الدّين وَهل يشْتَرط أَن يكون الدّين حَالا فِيهِ خلاف صحّح الرَّافِعِيّ أَنه يشْتَرط حُلُوله وَصحح النَّوَوِيّ اشْتِرَاط الْحُلُول
الضَّرْب الثَّانِي الدّين الَّذِي لزمَه لاصلاح ذَات الْبَين يَعْنِي تبَاين طَائِفَتَانِ أَو شخصان أَو خَافَ من ذَلِك فاستدان طلبا للإصلاح وَإِسْكَان الْفِتَن وَذَلِكَ بِأَن تمارى طَائِفَتَانِ فِي قَتِيل وَلم يظْهر الْقَاتِل فَتحمل الدِّيَة لذَلِك قضى دينه من سهم الغارمين إِن كَانَ فَقِيرا أَو غَنِيا بعقار قطعا وَكَذَا بعروض وَكَذَا إِن كَانَ غَنِيا بِنَقْد على الصَّحِيح
الضَّرْب الثَّالِث الدّين الَّذِي لزمَه بِضَمَان وَله أَحْوَال
أَحدهَا أَن يكون الضَّامِن والمضمون عَنهُ معسرين فَيعْطى الضَّامِن مَا يقْضِي بِهِ الدّين
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يَكُونَا موسرين فَلَا يعْطى
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يكون الْمَضْمُون عَنهُ مُوسِرًا والضامن مُعسرا فَإِن ضمن بِإِذْنِهِ لم يُعْط وَإِن ضمن بِغَيْر إِذْنه أعطي على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا يرجع عَلَيْهِ
الْحَالة الرَّابِعَة أَن يكون الْمَضْمُون عَنهُ مُعسرا فَيعْطى الْمَضْمُون عَنهُ وَلَا يعْطى الضَّامِن على الْأَصَح
وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا يعْطى الْغَارِم عِنْد بَقَاء الدّين فَأَما إِذا أَدَّاهُ من مَاله فَلَا يعْطى لِأَنَّهُ لم يبْق غارماً وَكَذَا لَو بذل مَاله ابْتِدَاء لم يُعْط لِأَنَّهُ لَيْسَ بغارم وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ شخص عَلَيْهِ دين فَقَالَ الْمَدِين لصَاحب الدّين ادْفَعْ عَن زكاتك حَتَّى أقضيك دينك فَفعل أَجزَأَهُ عَن الزَّكَاة وَلَا يلْزم الْمَدِين الدّفع إِلَيْهِ عَن دينه وَلَو قَالَ صَاحب الدّين اقبض مَا عَلَيْك لأرده عَلَيْك من زكاتي فَفعل صَحَّ الْقَضَاء وَلَا يلْزم رده فَلَو دفع إِلَيْهِ وَشرط أَن يَقْضِيه ذَلِك عَن دينه لم يُجزئهُ وَلَا يَصح قَضَاؤُهُ بهَا وَلَو نوياه بِلَا شَرط جَازَ وَلَو كَانَ عَلَيْهِ دين فَقَالَ جعلته عَن زكاتي لَا يُجزئهُ على الصَّحِيح حَتَّى يقبضهُ ثمَّ يردهُ إِلَيْهِ وَقيل يُجزئهُ كَمَا لَو كَانَ وَدِيعَة وَلَو كَانَ لَهُ عِنْد الْفَقِير حِنْطَة وَدِيعَة فَقَالَ كل لنَفسك كَذَا وَكَذَا وَنوى زَكَاة فَفِي إجزائه عَن الزَّكَاة وَجْهَان وَجه الْمَنْع أَن الْمَالِك لم يُوكله فَلَو كَانَ الْفَقِير وَكيلا بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَاهُ وَقَبضه فَقَالَ الْمُوكل خُذْهُ لنَفسك ونواه عَن الزَّكَاة أَجزَأَهُ وَلَا يحْتَاج إِلَى وَكيله وَالله أعلم(1/193)
الصِّنْف السَّابِع فِي سَبِيل الله للآيه الْكَرِيمَة وهم الْغُزَاة الَّذين لَا رزق لَهُم فِي الفىء وَأَصْحَاب الفىء يسمون المرتزقة وَلَا يصرف شَيْء من الصَّدقَات إِلَى الْغُزَاة المرتزقة كَمَا لَا يصرف شَيْء من الْفَيْء إِلَى المتطوعة وَلَو عدم الْفَيْء لم يُعْط المرتزقة من الصَّدقَات فِي الْأَصَح وَالله أعلم
الصِّنْف الثَّامِن ابْن السَّبِيل لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة وَهُوَ الْمُسَافِر وَسمي بِهِ لملازمته السَّبِيل وَهُوَ الطَّرِيق وَيشْتَرط أَن لَا يكون سَفَره مَعْصِيّة فَيعْطى فِي سفر الطَّاعَة قطعا وَكَذَا فِي الْمُبَاح كَطَلَب الضَّالة على الصَّحِيح وَيشْتَرط أَن لَا يكون مَعَه مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَيعْطى من لَا مَال لَهُ أصلا وَكَذَا من لَهُ مَال فِي غير الْبَلَد الْمُنْتَقل مِنْهُ وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يقْتَصر على أقل من ثَلَاثَة من كل صنف إِلَّا الْعَامِل)
اعْلَم أَنه يجب اسْتِيعَاب الْأَصْنَاف الثَّمَانِية عِنْد الْقُدْرَة عَلَيْهِم فَإِن فرق بِنَفسِهِ أَو فرق الإِمَام وَلَيْسَ هُنَاكَ عَامل فرق على سَبْعَة وَأَقل مَا يجزىء أَن يدْفع إِلَى ثَلَاثَة من كل صنف لِأَن الله تَعَالَى ذكرهم بِلَفْظ الْجمع إِلَّا الْعَامِل فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون وَاحِدًا يَعْنِي إِذا حصلت بِهِ الْكِفَايَة فَلَو صرف إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ الْقُدْرَة على الثَّالِث غرم للثَّالِث وَلَو لم يجد إِلَّا دون الثَّلَاثَة من كل صنف أعطي من وجد وَهل يصرف بَاقِي السهْم إِلَيْهِ إِن كَانَ مُسْتَحقّا أم يَنْقُلهُ إِلَى بلد آخر قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة الْأَصَح أَنه يصرف إِلَيْهِ وَمِمَّنْ صَححهُ الشَّيْخ نصر الْمَقْدِسِي وَنَقله هُوَ وَغَيره عَن الشَّافِعِي وَدَلِيله ظَاهر وَالله أعلم قَالَ
(وَخَمْسَة لَا يجوز دَفعهَا إِلَيْهِم الْغَنِيّ بِمَال أَو كسب)
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وَلَا حَظّ فِيهَا لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي وَهِي الْقُوَّة) نعم لَو لم يجد من يستكسبه أعْطى فَلَا يعْطى هَؤُلَاءِ الحرافشة وَلَا أهل البطالات من المتصوفة كمن بسط لَهُ جلدا فِي زَاوِيَة من زَوَايَا الْجَامِع وَلبس مِرْطًا دلّس بِهِ على الْأَغْنِيَاء من أهل الدُّنْيَا الَّذين لَا حَظّ لَهُم فِي الْعلم يُعْطون بجهالتهم من لَا يسْتَحق ويذرون الْمُسْتَحق وَالله أعلم قَالَ
(وَالْعَبْد) أَي لَا يجوز صرف الزَّكَاة إِلَى العبيد لأَنهم أَغْنِيَاء بِنَفَقَة مواليهم أَو لأَنهم لَا يملكُونَ قَالَ
(وَبَنُو هَاشم وَبَنُو الْمطلب)(1/194)
أَي لَا يجوز دفع الزَّكَاة إِلَى بني هَاشم وَبني الْمطلب لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِن هَذِه الصَّدَقَة أوساخ النَّاس وَإِنَّهَا لَا تحل لمُحَمد وَلَا لآل مُحَمَّد) وَوضع الْحسن فِي فِيهِ تَمْرَة فنزعها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلعابه وَقَالَ
(كخ كخ إِنَّا آل مُحَمَّد لَا تحل لنا الصَّدقَات) وَفِي موَالِي بني هَاشم وَبني الْمطلب خلاف قيل يجوز الدّفع إِلَيْهِم لِأَن منع ذَوي الْقُرْبَى لشرفهم وَهُوَ مَفْقُود فيهم وَالأَصَح أَنَّهَا لَا تحل لَهُم أَيْضا لِأَن مولى الْقَوْم مِنْهُم قَالَ
(وَمن تلْزم الْمُزَكي نَفَقَته لَا تدفع إِلَيْهِم باسم الْفُقَرَاء أَو الْمَسَاكِين)
لأَنهم مستغنون بنفقتهم فَأشبه من يكْتَسب كل يَوْم مَا يَكْفِيهِ لَا يعْطى وَهَذَا هُوَ الْأَصَح وَقيل يُعْطون لِأَن اسْم الفقرا صَادِق عَلَيْهِم وَهَذَا فِيمَا إِذا حصل لَهُم الْكِفَايَة بنفقتهم أما من لَا يَكْتَفِي فَلهُ الْأَخْذ حَتَّى لَو كَانَت الزَّوْجَة لَا تكتفي بِنَفَقَة الزَّوْج قَالَ الْقفال بِأَن كَانَت مَرِيضَة أَو كَثِيرَة الْأكل أَو كَانَ لَهَا من يلْزمهَا نَفَقَته فلهَا أَخذ الزَّكَاة قَالَ ابْن الرّفْعَة وَيَنْبَغِي أَن تَأْخُذ باسم المسكنة وَقَوله باسم الْفُقَرَاء أَو الْمَسَاكِين يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه يَأْخُذ بِغَيْرِهِ كاسم العاملين والغارمين وَغَيرهم وَهُوَ كَذَلِك إِذا كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَات وَالله أعلم قَالَ
(وَالْكَافِر) أَي لَا يجوز دفع الزَّكَاة إِلَى كَافِر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ رَضِي الله عَنهُ
(فأعلمهم أَن عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد على فقرائهم) فَإِذا لم تُؤْخَذ إِلَّا من غَنِي مُسلم لم تعط إِلَّا لفقير مُسلم وَسَوَاء فِي ذَلِك زَكَاة الْفطر وَالْمَال لعُمُوم الْخَبَر وَقد تمسك الْأَصْحَاب بِمَنْع نقل الزَّكَاة عَن بلد المَال بِهَذَا الحَدِيث وَفِي التَّمَسُّك بِهِ نظر ظَاهر قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله فِي شرح مُسلم وَهَذَا الِاسْتِدْلَال لَيْسَ بِظَاهِر لِأَن الظَّاهِر أَن الضَّمِير فِي فقرائهم مُحْتَمل لفقراء الْمُسلمين ولفقراء تِلْكَ الْبَلدة ولفقراء تِلْكَ النَّاحِيَة وَهَذَا الِاحْتِمَال أظهر وَالله أعلم وَأَيْضًا فَإِن الآيه فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} الْآيَة هِيَ عَامَّة وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد فِي فقرائهم) دلَالَة ظَاهِرَة فِي أهل الْيمن فتقييده بِكُل قَرْيَة من أَيْن ذَلِك على أَن(1/195)
الْأَصْحَاب مَعَ القَوْل بِعَدَمِ جَوَاز النَّقْل فِي الِاعْتِدَاد بدفعها إِلَى فُقَرَاء غير بلد المَال طَرِيقَانِ وَقيل قَولَانِ وَقيل يجزىء قطعا بل قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر يجوز النَّقْل قطعا وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنه يجوز النَّقْل إِلَى الْقَرَابَة إِن كَانَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَة جزما لوُجُود الْمَعْنى الَّذِي علل بِهِ من منع النَّقْل فَإنَّا شاهدنا تشوف الْقَرَابَة إِلَى ذَلِك بِشَرْط أَن لَا يكون فِي بلد المَال من اشتدت حَاجته فَإِن اضْطر إِلَى الْأَخْذ دفع إِلَيْهِ فَإِن تساوى الْقَرَابَة وفقير الْبَلَد شرك بَينهم وَالله أعلم قَالَ
بَاب صَدَقَة التَّطَوُّع
(فصل صَدَقَة التَّطَوُّع سنة وَهِي فِي شهر رَمَضَان آكِد وَيسْتَحب التَّوسعَة فِيهِ)
وَكَذَا عِنْد الْأُمُور المهمة وَعند الْمَرَض وَالسّفر وبمكة وَالْمَدينَة شرفهما الله تَعَالَى تَعَالَى وَفِي الْغَزْو وَالْحج وَفِي الْأَوْقَات الفاضلة كعشر ذِي الْحجَّة وَأَيَّام الْعِيد وَيسْتَحب أَن يحسن إِلَى ذَوي رَحمَه وجيرانه وصرفها إِلَيْهِم أفضل من غَيرهم وَكَذَا زَكَاة الْفَرْض وَالْكَفَّارَة وَأَشد الْقَرَابَة عَدَاوَة أفضل وصرفها سرا أفضل والقرابة الْبَعِيدَة الدَّار مُقَدّمَة على الْجَار الْأَجْنَبِيّ لِأَنَّهَا صَدَقَة وصلَة وَيكرهُ التَّصَدُّق بالردىء
والحذر من أَخذ مَال فِيهِ شُبْهَة ليتصدق بِهِ قَالَ عبد الله بن عمر لِأَن أرد درهما من حرَام أحب إِلَيّ من أَن أَتصدق بِمِائَة ألف دِرْهَم ثمَّ بِمِائَة ألف حَتَّى بلغ سِتّمائَة ألف وَمن عِنْده نَفَقَة عِيَاله وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لِعِيَالِهِ وَدينه لَا يجوز لَهُ أَن يتَصَدَّق بِهِ وَإِن فضل عَن ذَلِك شَيْء فَهَل يسْتَحبّ أَن يتَصَدَّق بِجَمِيعِ الْفَاضِل فِيهِ أوجه أَصَحهَا إِن صَبر على الضّيق فَنعم وَإِلَّا فَلَا وَلَا يحل للغني أَخذ صَدَقَة التَّطَوُّع مظْهرا للفاقة قَالَه العمراني وَاسْتَحْسنهُ النَّوَوِيّ وَاسْتدلَّ لَهُ بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الَّذِي مَاتَ من أهل الصّفة فوجدوا لَهُ دينارين فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَيَّتَانِ من نَار) وَمن يحسن الصَّنْعَة يحرم عَلَيْهِ السُّؤَال وَمَا يَأْخُذهُ حرَام قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره وَيسْتَحب التَّصَدُّق وَلَو بِشَيْء نزر قَالَ الله تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح
(اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) وَيسْتَحب أَن يخص بِنَفَقَتِهِ أهل الْخَيْر والمحتاجين وَمن تصدق بِشَيْء كره لَهُ أَن يَتَمَلَّكهُ من جِهَة من دفْعَة إِلَيْهِ بمعاوضة أَو هبة وَيحرم الْمَنّ بِالصَّدَقَةِ وَإِذا من بَطل ثَوَابهَا وَيسْتَحب أَن يتَصَدَّق بِمَا يُحِبهُ قَالَ الله تَعَالَى {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} وَالله أعلم قَالَ(1/196)
كتاب الصّيام
(وشرائط وجوب الصَّوْم ثَلَاثَة أَشْيَاء الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل)
الصَّوْم فِي اللُّغَة الْإِمْسَاك عَن الشَّيْء قَالَ الله تَعَالَى {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} أَي إمساكاً
وَهُوَ فِي الشَّرْع إمْسَاك مَخْصُوص من شخص مَخْصُوص فِي وَقت مَخْصُوص بشرائط ثمَّ وجوب الصَّوْم ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح
(بني الْإِسْلَام على خمس) وَذكر صَوْم رَمَضَان وانعقد الْإِجْمَاع على وُجُوبه ثمَّ وُجُوبه يتَعَلَّق بِالْمُسلمِ الْبَالِغ الْعَاقِل الْقَادِر فَلَا يجب على الْكَافِر الْأَصْلِيّ لِأَنَّهُ لَا يَصح مِنْهُ إِذْ لَيْسَ هُوَ من أهل الْعِبَادَة وَكَذَا لَا يجب على الصَّبِي وَالْمَجْنُون لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة مِنْهُم الصَّبِي وَالْمَجْنُون والنائم) وَأما من لايقدر على الصَّوْم أصلا أَو لَو صَامَ لأضر بِهِ ضَرَرا غير مُحْتَمل لكبر أَو مرض لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ فَلَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم نعم يلْزمه عَن كل يَوْم مد من طَعَام فِي الْأَصَح إِن كَانَ مُوسِرًا فَلَو كَانَ مُعسرا فَحِينَئِذٍ ثمَّ أيسر فَهَل يلْزمه فِيهِ قَولَانِ ككفارة الْجِمَاع إِذا كَانَ مُعسرا ثمَّ أيسر وَالله أعلم قَالَ(1/197)
بَاب فَرَائض الصَّوْم
(وفرائض الصَّوْم خَمْسَة أَشْيَاء النِّيَّة والإمساك عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع)
لَا يَصح الصَّوْم إِلَّا بِالنِّيَّةِ للخير ومحلها الْقلب وَلَا يشْتَرط النُّطْق بهَا بِلَا خلاف وَتجب النِّيَّة لكل لَيْلَة لِأَن كل يَوْم عبَادَة مُسْتَقلَّة أَلا ترى أَنه لَا يفْسد بَقِيَّة الْأَيَّام بِفساد يَوْم مِنْهُ فَلَو نوى صَوْم الشَّهْر كُله صَحَّ لَهُ الْيَوْم الأول على الْمَذْهَب وَيجب تعْيين النِّيَّة فِي صَوْم الْفَرْض وَكَذَا يجب أَن يَنْوِي لَيْلًا وَلَا يضر النّوم وَالْأكل وَالْجِمَاع بعد النِّيَّة وَلَو نوى مَعَ طُلُوع الْفجْر لَا تصح لَهُ لِأَنَّهُ لم يبيت وأكمل النِّيَّة أَن يَنْوِي صَوْم غَد عَن أَدَاء فرض رَمَضَان هَذِه السّنة لله تَعَالَى
وَاعْلَم أَن نِيَّة الْأَدَاء أَو الْقَضَاء وَنَحْو ذَلِك على الْخلاف الْمَذْكُور فِي الصَّلَاة وَقد مر وَيجب أَن تكون النِّيَّة جازمة فَلَو نوى الْخُرُوج من الصَّوْم لَا يبطل على الصَّحِيح وَاعْلَم أَنه لَا بُد للصَّائِم من الْإِمْسَاك عَن المفطرات وَهُوَ أَنْوَاع مِنْهَا الْأكل وَالشرب وَإِن قل عَن الْعمد وَكَذَا مَا فِي معنى الْأكل وَالضَّابِط أَنه يفْطر بِكُل عين وصلت من الظَّاهِر إِلَى الْبَاطِن فِي منفذ مَفْتُوح عَن قصد مَعَ ذكر الصَّوْم
وَشرط الْبَاطِن أَن يكون جوفاً وَإِن كَانَ لَا يحِيل وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح حَتَّى أَنه لَو قطر فِي أُذُنه شَيْئا أَو أَدخل ميلًا أَو قشة فِيهَا أفطر أَو حَشا فِي ذكره قطناً أفطر على الْأَصَح بِخِلَاف الاكتحال وَإِن وجد طعم الْكحل لِأَن الْعين لَيست بجوف وَلَا منفذ لَهَا إِلَى الْجوف وَكَذَا لَو غرز سكيناً فِي لحم السَّاق لَا يفْطر لِأَنَّهُ لَا يعد جوفاً بِخِلَاف مَا لَو طعن فِي بَطْنه فَإِنَّهُ جَوف وابتلاع الرِّيق لَا يفْطر فَلَو اخْتَلَط بِغَيْرِهِ سَوَاء كَانَ طَاهِرا كمن فتل خيطاً مصبوغاً أَو نجسا كمن دميت لثته وَهِي لحم أَسْنَانه وَتغَير الرِّيق بِالدَّمِ فَإِنَّهُ يفْطر بِلَا خلاف فَلَو ذهب الدَّم وابيض الرِّيق فَالصَّحِيح أَنه يفْطر أَيْضا وينجس فَمه وَلَا يطهره إِلَّا المَاء فيتمضمض وَلَو خرج الرِّيق إِلَى شفته فَرده بِلِسَانِهِ وابتلعه أفطر وَكَذَا لَو فتل خيطاً كَمَا لَو بله بريقه ثمَّ أدخلهُ فَمه وَهُوَ رطب وَحصل من ريق الْخَيط مَعَ رِيقه الَّذِي فِي فَمه فابتلعه فَإِنَّهُ يفْطر بِخِلَاف مَا لَو أخرج لِسَانه وعَلى رَأسه ريق وَلم ينْفَصل وابتلعه فَإِنَّهُ لَا يفْطر على الْأَصَح وَلَو نزلت نخامة مت رَأسه وَصَارَت فَوق الْحُلْقُوم نظر إِن لم يقدر على إخْرَاجهَا ثمَّ نزلت إِلَى الْجوف لم يفْطر وَإِن قدر على إخْرَاجهَا وَتركهَا حَتَّى نزلت بِنَفسِهَا أفطر أَيْضا لتَقْصِيره وَلَو تمضمض واستنشق فَإِن بَالغ أفطر وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا إِذا كَانَ ذَاكِرًا للصَّوْم فَإِن كَانَ نَاسِيا فَلَا وَسبق المَاء عِنْد غسل النَّجَاسَة كالمضمضة
(فرع) أصبح شخص وَلَو ينْو صوما فَتَمَضْمَض وَلم يُبَالغ فَسبق المَاء إِلَى جَوْفه ثمَّ نوى صَوْم تطوع صَحَّ على الْأَصَح قَالَ النَّوَوِيّ وَهِي مَسْأَلَة نفيسة وَقد تطلبتها سِنِين حَتَّى وَجدتهَا وَللَّه(1/198)
الْحَمد وَالله أعلم وَلَو أكل نَاسِيا للصَّوْم لم يفْطر وَقد ورد
(من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل أَو شرب فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه) فَلَو كثر ذَلِك فَوَجْهَانِ الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ يفْطر لِأَن النسْيَان مَعَ الْكَثْرَة نَادِر وَلِهَذَا قُلْنَا تبطل الصَّلَاة بالْكلَام الْكثير وَإِن كَانَ نَاسِيا وَالأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ أَنه لَا يفْطر لعُمُوم الأخيار وَلَيْسَ الصَّوْم كَالصَّلَاةِ وَالْفرق أَن للصَّلَاة أفعالاً وأقوالاً تذكره الصَّلَاة فيندر وُقُوع ذَلِك مِنْهُ وَبِخِلَاف الصَّوْم وَلَو أكل جَاهِلا بِتَحْرِيم الْأكل نظر إِن كَانَ قريب عهد بِالْإِسْلَامِ أَو نَشأ فِي بادية بعيدَة لم يفْطر وَإِلَّا أفطر وَمِنْهَا أَي من المفطرات الْجِمَاع وَهُوَ بِالْإِجْمَاع وَكَذَا الاستمناء بِالْيَدِ وَغَيرهَا وَحكمه عِنْد النسْيَان كَالْأَكْلِ وَالله أعلم قَالَ
(وتعمد القىء وَكَذَا عدم الْمعرفَة بطرفي النَّهَار) وَمن أَسبَاب المفطرات الاستفراغ فَمن تقيأ عمدا أفطر وَإِن غَلبه الْقَيْء لم يفْطر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من ذرعه الْقَيْء وَهُوَ صَائِم فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء وَمن استقاء فليقض) وذرعه غَلبه وَهُوَ بِالذَّالِ المنقوطة
وَأما معرفَة طرفِي النَّهَار فَلَا بُد من ذَلِك فِي الْجُمْلَة لصِحَّة الصَّوْم حَتَّى لَو نوى بعد طُلُوع الْفجْر لَا يَصح صَوْمه أَو أكل مُعْتَقدًا أَنه ليل وَكَانَ قد طلع الْفجْر لزمَه الْقَضَاء وَكَذَا لَو أكل مُعْتَقدًا أَنه قد دخل اللَّيْل ثمَّ بَان خِلَافه لزمَه الْقَضَاء حَتَّى لَو أكل آخر النَّهَار هجماً بِلَا ظن فَهُوَ حرَام بِلَا خلاف نعم إِذا غلب على ظَنّه الْغُرُوب بِالِاجْتِهَادِ بورد وَنَحْوه جَازَ لَهُ الْأكل على الصَّحِيح وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق لَا يجوز لقدرته على الْيَقِين بِالصبرِ والأحوط للصَّائِم أَن لَا يَأْكُل حَتَّى يتَيَقَّن غرُوب الشَّمْس وَالله أعلم قَالَ
بَاب مفسدات الصَّوْم
(وَالَّذِي يفْطر بِهِ الصَّائِم عشرَة أَشْيَاء مَا وصل عمدا إِلَى الْجوف أَو الرَّأْس والحقنة من أحد السَّبِيلَيْنِ والقيء عَامِدًا وَالْوَطْء فِي الْفرج والإنزال عَن مُبَاشرَة وَالْحيض وَالنّفاس وَالْجُنُون وَالرِّدَّة)(1/199)
إِذا صَحَّ الصَّوْم بِشُرُوطِهِ وأركانه فلبطلانه أَسبَاب مِنْهَا إِدْخَال عين من الظَّاهِر إِلَى الْجوف وَأَرَادَ الشَّيْخ بالجوف الْبَطن وَلِهَذَا ذكره مُعَرفا فَلهَذَا سَاغَ لَهُ بعد ذَلِك ذكر الرَّأْس والحقنه الْقَيْء عَامِدًا فَإِنَّهُ مُبْطل وَفِيه احْتِرَاز عَن غير الْعَامِد وَقد مر دَلِيله وَمِنْهَا الْوَطْء فِي الْفرج كَمَا تقدم وَكَذَا الْإِنْزَال يَعْنِي خُرُوج الْمَنِيّ بِالْإِجْمَاع وَقَوله عَن مُبَاشرَة يَعْنِي سَوَاء كَانَ حَرَامًا كإخراجه بِيَدِهِ أَو غير محرم كإخراجه بيد زَوجته أَو جَارِيَته كَذَا قَالَه بعض الشُّرَّاح وَجه الْإِفْطَار أَن الْمَقْصُود الْأَعْظَم من الْجِمَاع الْإِنْزَال فَإِذا حرم الْجِمَاع وَأفْطر بِلَا إِنْزَال كَانَ الْإِنْزَال أولى بذلك وَاحْترز الشَّيْخ بِالْمُبَاشرَةِ عَمَّا إِذا أنزل بالفكر أَو الِاحْتِلَام وَلَا خلاف أَنه لَا يفْطر بذلك وَادّعى بَعضهم الْإِجْمَاع على ذَلِك وَأما النَّقَاء من الْحيض وَالنّفاس فقد نقل النَّوَوِيّ الاجماع على أَن صِحَة الصَّوْم متوقفة على فقدهما فَلَو طَرَأَ فِي أثْنَاء الصَّوْم بَطل وَكَذَا لَو طَرَأَ جُنُون أوردة بَطل الصَّوْم لِلْخُرُوجِ عَن أَهْلِيَّة الْعِبَادَة وَلَو طَرَأَ إِغْمَاء نظر إِن استغرق جَمِيع النَّهَار فَهَل يَصح صَوْمه أم لَا الْأَظْهر أَنه إِن أَفَاق فِي لَحْظَة من النَّهَار صَحَّ وَإِلَّا فَلَا وَلَو نَام جَمِيع النَّهَار فَهَل يَصح صَوْمه قيل لَا كالاغماء وَالصَّحِيح أَنه لَا يضر لبَقَاء أَهْلِيَّة الْخطاب وَلَو نَام جَمِيع النَّهَار إِلَّا لَحْظَة فانه لَا يضر بالِاتِّفَاقِ وطرو الرِّدَّة مُبْطل لِلْخُرُوجِ عَن أَهْلِيَّة الْعِبَادَة وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا يسْتَحبّ فِي الصَّوْم
(وَيسْتَحب فِي الصَّوْم ثَلَاثَة أَشْيَاء تَعْجِيل الْفطر وَتَأْخِير السّحُور وَترك الهجر من الْكَلَام)
يسن للصَّائِم أَن يعجل الْفطر عِنْد تحقق غرُوب الشَّمْس لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا يزَال النَّاس بِخَير مَا عجلوا الْفطر) وَيكرهُ لَهُ التَّأْخِير إِن قصد ذَلِك وَرَأى أَن فِيهِ فَضِيلَة قَالَه الشَّافِعِي فِي الْأُم وَإِلَّا فَلَا بَأْس بِهِ وَلَا يسْتَحبّ وَقد ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(كَانَ إِذا كَانَ صَائِما لم يصل حَتَّى يُؤْتى برطب أَو مَاء فيأكل أَو يشرب وَإِذا كَانَ فِي الشتَاء لم يصل حَتَّى نأتيه بِتَمْر أَو مَاء) وَيسْتَحب أَن يفْطر على تمر وَإِلَّا فعلى مَاء للْحَدِيث وَلِأَن الحلو يُقَوي وَالْمَاء يطهر وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ إِن لم يجد التَّمْر فعلى حُلْو لِأَن الصَّوْم ينقص الْبَصَر وَالتَّمْر يردهُ فالحلو فِي مَعْنَاهُ وَإِن كَانَ بِمَكَّة فعلى مَاء زَمْزَم وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن الأولى فِي زَمَاننَا أَن يفْطر على مَاء يَأْخُذهُ بكفه من النَّهر لِأَن أبعد عَن الشُّبْهَة وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَمَا قَالَاه شَاذ مُخَالف للْحَدِيث وَأما اسْتِحْبَاب تَأْخِير السّحُور فَفِي الحَدِيث
(إِن تَأْخِير السّحُور من سنَن الْمُرْسلين) وَفِي(1/200)
الحَدِيث أَيْضا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(لَا تزَال أمتِي بِخَير مَا عجلوا الْفطر وأخروا السّحُور) وَلِأَن فِي التَّأْخِير حِكْمَة مشروعيته وَهِي التقوي على الْعِبَادَة وَالله أعلم وَاعْلَم أَن اسْتِحْبَاب السّحُور مجمع عَلَيْهِ وَيحصل بِقَلِيل الْأكل وبالماء فِي صَحِيح ابْن حبَان
(تسحرُوا وَلَو بجرعة مَاء) وَذكر ذَلِك النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَيدخل وَقت السّحُور بِنصْف اللَّيْل ذكره الرَّافِعِيّ فِي آخر كتاب الْإِيمَان وَاعْلَم أَن الصَّائِم يتَأَكَّد فِي حَقه صون لِسَانه عَن الْكَذِب والغيبة وَغير ذَلِك من الْأُمُور الْمُحرمَة فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ
(من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه) وَفِي الحَدِيث
(رب صَائِم لَيْسَ لَهُ من صِيَامه إِلَّا الْجُوع وَرب قَائِم لَيْسَ لَهُ من قِيَامه إِلَّا السهر) وَلِأَن الْكَلَام الهجر أَي الْفُحْش يحبط الثَّوَاب وَقد صرح بذلك الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ
قلت وَمن المصائب الْعَظِيمَة مَا يصنعه الظلمَة من تَقْلِيد الظَّالِم وَأخذ الْأَمْوَال بِالْبَاطِلِ ثمَّ يصنعون بذلك شَيْئا من الْأَطْعِمَة يتصدقون بِهِ فيتعدى شؤمهم إِلَى الْفُقَرَاء وَأعظم من ذَلِك مُصِيبَة تردد فُقَهَاء السوء وصوفية الرجس إِلَى أسمطة هَؤُلَاءِ الظلمَة ثمَّ يَقُولُونَ هُوَ يشترى فِي الذِّمَّة وايضا تكره مُعَاملَة من أَكثر مَاله حرَام وَالَّذِي فِي شرح مُسلم أَنه حرَام وَفرض الْمَسْأَلَة فِي جَائِزَة الْأُمَرَاء وَلَا فرق فِي الْمَعْنى فاعرفه وَلَا يعلم هَؤُلَاءِ الحمقى أَن فِي ذَلِك إغراء على تعَاطِي الْمُحرمَات ويتضمن مجالسة الفسقة وَهِي حرَام على وَجه المؤانسة بِلَا خلاف وَقد عدهَا جمع من الْعلمَاء من الْكَبَائِر وَنسبه القَاضِي عِيَاض إِلَى الْمُحَقِّقين وهم على ارْتِكَاب ذَلِك لَا ينهونهم عَن مُنكر وَذَلِكَ سَبَب إرْسَال المصائب على الْأُمَم بل سَبَب هلاكهم ولعنهم على لِسَان الْأَنْبِيَاء وَقد نَص على ذَلِك الْقُرْآن الْعَظِيم وَلِهَذَا تَتِمَّة مهمة فِي كتَابنَا
(قمع النُّفُوس) وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا نهي عَن صَوْمه
(وَيحرم صِيَام خَمْسَة أَيَّام الْعِيدَيْنِ وَأَيَّام التَّشْرِيق الثَّلَاثَة)
لَا يَصح صَوْم عيد الْفطر والأضحى بالاجماع وَيحرم عَلَيْهِ ذَلِك وَهُوَ آثم لِأَن نفس الْعِبَادَة(1/201)
عين الْمعْصِيَة وَقد ورد
(نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صِيَام يَوْمَيْنِ يَوْم الْفطر وَيَوْم الْأَضْحَى) وَلَا فرق بَين أَن يصومهما تَطَوّعا أَو عَن وَاجِب أَو عَن نذر وَلَو نذر صومهما لم ينْعَقد نَذره حَتَّى نقل الامام عَن الْقفال أَن الْأَوْقَات الْمنْهِي عَنْهَا لَا بُد أَن يَأْتِي فِيهَا بمناف للصَّوْم وكما يحرم صَوْم الْعِيدَيْنِ يحرم صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر وَهَذَا هُوَ الْجَدِيد الصَّحِيح لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(نهى عَن صيامهما) وَقد ورد
(إِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وَذكر الله تَعَالَى) وَفِي الْقَدِيم أَنه يجوز للمتمتع العادم للهدي أَن يَصُوم أَيَّام التَّشْرِيق وَهِي الْمشَار إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى
(فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج)
(ورد عَن عَائِشَة وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَ لم يرخص فِي أَيَّام التَّشْرِيق أَن يصمن إِلَّا لمن لم يجد الْهدى) وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ هَذَا القَوْل وَصَححهُ ابْن الصّلاح قبله وَالْمذهب أَنه لَا يجوز فَإِن قُلْنَا بالْقَوْل الْقَدِيم فَهَل يجوز لغير الْمُتَمَتّع صَومهَا فِيهِ وَجْهَان الصَّحِيح التَّحْرِيم وَالله أعلم قَالَ
(وَيكرهُ صَوْم يَوْم الشَّك إِلَّا أَن يُوَافق عَادَة لَهُ أَو يصله بِمَا قبله)
يحرم صَوْم الشَّك تَطَوّعا بِلَا سَبَب وَكَذَا يحرم صَوْمه تحرياً لأجل رَمَضَان قَالَه الْبَنْدَنِيجِيّ لقَوْل عمار بن يَاسر رَضِي الله عَنهُ
(من صَامَ يَوْم الشَّك فقد عصى أَبَا الْقَاسِم) وَلَو صَامَ يَوْم الشَّك لم يَصح فِي الْأَصَح قِيَاسا على صَوْم يَوْم الْعِيد بِجَامِع التَّحْرِيم وَقيل يَصح لِأَنَّهُ قَابل للصَّوْم فِي الْجُمْلَة بِخِلَاف يَوْم الْعِيد وَلَو نذر صَوْم يَوْم الشَّك لم يَصح على الْأَصَح وَيسْتَثْنى مَا ذكره الشَّيْخ وَهُوَ أَن يُوَافق يَوْم الشَّك مَا يعْتَاد صَوْمه تَطَوّعا بِأَن كَانَ يسْرد الصَّوْم أَو يَصُوم يَوْمًا معينا كالاثنين وَالْخَمِيس أَو يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وحجته قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تقدمُوا رَمَضَان بِصَوْم يَوْم(1/202)
وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصمه) وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا تقدمُوا) هُوَ بِفَتْح التَّاء لِأَنَّهُ مضارع أَصله تتقدموا وَلَكِن حذف مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَيسْتَثْنى مَا إِذا وَصله بِمَا قبله لِأَنَّهُ بالوصل يَنْتَفِي التَّحَرِّي لرمضان وَقَول الشَّيْخ أَو يصله بِمَا قبله يصدق ذَلِك على مَا لَو وَصله بِيَوْم وَفِيه نظر من جِهَة الحَدِيث وَيَنْبَغِي أَن يحمل كَلَام الشَّيْخ على مَا إِذا وَصله بِأَكْثَرَ من يَوْم وَقد صرح بذلك الْبَنْدَنِيجِيّ فَقَالَ وَلَا يتَقَدَّم الشَّهْر بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ إِلَّا إِ يُوَافق مَا كَانَ أبدا يَصُومهُ أَو كَانَ يسْرد الصَّوْم وَيسْتَثْنى أَيْضا مَا إِذا صَامَهُ عَن نذر أَو قَضَاء مسارعة إِلَى بَرَاءَة الذِّمَّة أَو كَانَ لَهُ سَبَب فَجَاز كَنَظِيرِهِ من الصَّلَوَات فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة وَلَيْسَ من الْأَسْبَاب الِاحْتِيَاط لرمضان بِلَا خلاف وَالله أعلم قَالَ
(وَمن وطيء عَامِدًا فِي الْفرج فَعَلَيهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة وَالْكَفَّارَة عتق رَقَبَة مُؤمنَة فَإِن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين فَإِن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا)
قَول الشَّيْخ وَمن وطىء أَي وَهُوَ مُكَلّف بِالصَّوْمِ وَقد نوى من اللَّيْل وَكَانَ الْوَطْء فِي النَّهَار من رَمَضَان من غير عذر وَالشَّيْخ رَحمَه الله لم يسْتَوْف الْحَد وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول تجب الْكَفَّارَة على من أفسد يَوْمًا من رَمَضَان بجماع تَامّ آثم بِهِ لأجل الصَّوْم وَفِي هَذَا الضَّابِط قيود مِنْهَا الافساد فَمن جَامع نَاسِيا لم يفْطر على الْمَذْهَب فَلَا كَفَّارَة حِينَئِذٍ وَهَذَا هُوَ الَّذِي احْتَرز الشَّيْخ عَنهُ بقوله عَامِدًا وَقَوْلنَا بجماع احْتَرز بِهِ عَن الْأكل وَالشرب وَغَيرهمَا فَإِنَّهُ لَا يلْزمه الْكَفَّارَة وَقَوْلنَا تَامّ وَقد ذكره الْغَزالِيّ احْتِرَازًا عَن الْمَرْأَة فَإِنَّهَا لَا يلْزمهَا الْكَفَّارَة لِأَنَّهَا تفطر بِمُجَرَّد دُخُول بعض الْحَشَفَة وَقَوْلنَا آثم بِهِ احْتِرَازًا عَن الْمُسَافِر فِيمَا إِذا جَامع نِيَّة التَّرَخُّص فَإِنَّهُ لَا يَأْثَم وَكَذَا بِغَيْر نِيَّة التَّرَخُّص على الصَّحِيح لِأَن الْإِفْطَار مُبَاح لَهُ فَيصير شُبْهَة فِي دَرْء الْكَفَّارَة وَكَذَا لَا كَفَّارَة على من ظن بَقَاء اللَّيْل فَبَان نَهَارا لانْتِفَاء الاثم وَقَوْلنَا لأجل الصَّوْم احْتِرَاز عَن مُسَافر أفطر بِالزِّنَا مترخصاً فَإِن الْفطر جَائِز وإثمه بِسَبَب الزِّنَا لَا بِسَبَب الصَّوْم فَإِذا وجدت الْقُيُود كلهَا وَجَبت الْكَفَّارَة وَحجَّة ذَلِك مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
(أَن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ هَلَكت فَقَالَ وَمَا أهْلكك فَقَالَ وَقعت على امْرَأَتي فِي رَمَضَان فَقَالَ هَل تَجِد مَا تعْتق رَقَبَة قَالَ لَا فَقَالَ هَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين قَالَ لَا فَقَالَ هَل تَجِد مَا تطعم سِتِّينَ مِسْكينا قَالَ لَا ثمَّ جلس فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعرق فِيهِ تمر فَقَالَ تصدق بِهَذَا فَقَالَ على أفقر منا فوَاللَّه مَا بَين لابتيها أهل بَيت أحْوج إِلَيْهِ منا فَضَحِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت أنيابه ثمَّ قَالَ اذْهَبْ فأطعمه أهلك) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ
(فَأعتق رَقَبَة) على الْأَمر وَفِي رِوَايَة لأبي(1/203)
دَاوُد
(فَأتى بعرق فِيهِ تمر قدر خَمْسَة عشر صَاعا) قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَهُوَ أصح من رِوَايَة فِيهِ عشرُون صَاعا وَاعْلَم أَنه كَمَا تجب الْكَفَّارَة يجب التَّعْزِير أَيْضا وَادّعى الْبَغَوِيّ الاجماع على ذَلِك وَالْكَفَّارَة مَا ذكره وَهِي كَفَّارَة تَرْتِيب فَإِن عجز عَن الْجَمِيع اسْتَقَرَّتْ فِي ذمَّته وَلَو شرع فِي الصَّوْم أَو الاطعام ثمَّ قدر على الْمرتبَة الْمُقدمَة لم تلْزمهُ على الْأَصَح وَلَو كَانَ من من تلْزمهُ الْكَفَّارَة فَقِيرا فَهَل يجوز لَهُ صرفهَا إِلَى أَهله فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم للْحَدِيث وَالصَّحِيح أَنه يجوز كَالزَّكَاةِ وَسَائِر الْكَفَّارَات وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث من أوجه
أَحدهَا أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على وُقُوع التَّمْلِيك وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يملكهُ ليكفر بِهِ فَلَمَّا أخبر بِحَالهِ تصدق بِهِ عَلَيْهِ
الثَّانِي يحْتَمل أَنه ملكه أَيَّاهُ أَي أمره أَن يتَصَدَّق بِهِ فَلَمَّا أخبرهُ بحاجته أذن لَهُ فِي إطعامه لأَهله لِأَن الْكَفَّارَة بِالْمَالِ إِنَّمَا تكون بعد الْكِفَايَة
الثَّالِث يحْتَمل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تطوع بالتكفير عَنهُ وسوغ لَهُ صرفه إِلَى أَهله وَتَكون فَائِدَة الْخَبَر أَنه يجوز للْغَيْر التَّطَوُّع بِالْكَفَّارَةِ عَن الْغَيْر بِإِذْنِهِ وَأَنه يجوز للمتطوع صرفهَا إِلَى أهل الْمُكَفّر وَهَذِه الْأَجْوِبَة ذكرهَا الشَّافِعِي فِي الْأُم وَالله أعلم قَالَ
بَاب كَفَّارَة الْإِفْطَار وَمن يجوز لَهُ
(وَمن مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم من رَمَضَان أطْعم عَنهُ لكل يَوْم مد وَالشَّيْخ الفاني إِن عجز عَن الصَّوْم بفطر وَيطْعم عَن كل يَوْم مد)
من فَاتَهُ صِيَام من رَمَضَان وَمَات نظر إِن مَاتَ قبل تمكنه من الْقَضَاء بِأَن مَاتَ وعذره قَائِم كاستمرار الْمَرَض فَلَا قَضَاء وَلَا فديَة وَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَإِن مَاتَ بعد التَّمَكُّن وَجب تدارك مَا فَاتَهُ وَفِي كَيْفيَّة التَّدَارُك قَولَانِ الْجَدِيد وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي أَكثر كتبه الْقَدِيمَة أَنه يخرج من تركته لكل يَوْم مد من طَعَام أفتت بذلك عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِي حَدِيث رَوَاهُ(1/204)
التِّرْمِذِيّ وَالصَّحِيح وَقْفَة على ابْن عمر وَالْمدّ ربع صَاع الْفطْرَة وَهُوَ رَطْل وَثلث بالعراقي وَالْقَوْل الآخر وينسب إِلَى الْقَدِيم وَنَصّ عَلَيْهِ أَيْضا فِي الأمالي فَقَالَ إِن صَحَّ الحَدِيث قلت بِهِ والأمالي من كتبه الجديدة بل قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم يجب أَن يصام عَنهُ وَأَنه لَا يتَعَيَّن الْإِطْعَام بل يجوز للْوَلِيّ أَن يَصُوم عَنهُ بل يسْتَحبّ لَهُ ذَلِك كَمَا نَقله النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم قَالَ النَّوَوِيّ الْقَدِيم هُنَا أظهر بل الصَّوَاب الَّذِي يَنْبَغِي الْجَزْم بِهِ لصِحَّة الْأَحَادِيث فِيهِ وَلَيْسَ للجديد حجَّة والْحَدِيث الْوَارِد فِي الْإِطْعَام ضَعِيف وَالله أعلم فعلى الْقَدِيم لَو أَمر الْوَلِيّ أَجْنَبِيّا فصَام عَنهُ بِأُجْرَة أَو بغَيْرهَا جَازَ كَالْحَجِّ وَلَو اسْتَقل الْأَجْنَبِيّ لم يجز على الْأَصَح وَهل الْمُعْتَبر على الْقَدِيم الْقَرِيب الْوَارِث أم الْعصبَة أم مُطلق الْقَرَابَة قَالَ الرَّافِعِيّ الْأَشْبَه اعْتِبَار الارث وَقَالَ النَّوَوِيّ الْمُخْتَار مُطلق الْقَرَابَة قَالَ فقد ورد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(لإمرأة تَصُوم عَن أمهَا) وَهَذَا يبطل احْتِمَال الْعُصُوبَة ويضعف قَول الارث فَإِنَّهَا غير مستغرقة لِلْمَالِ وَلم يستفسر مِنْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك وَالله أعلم وَأما الشَّيْخ الْهَرم الَّذِي لَا يُطيق الصَّوْم أَو يلْحقهُ بِهِ مشقة شَدِيدَة فَلَا صَوْم عَلَيْهِ وَتجب عَلَيْهِ الْفِدْيَة على الْأَظْهر وَيجْرِي الْقَوْلَانِ فِي الْمَرِيض الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَال مَرضه وَالله أعلم قَالَ
(وَالْحَامِل والمرضع إِن خافتا على أَنفسهمَا أفطرتا وَعَلَيْهَا الْقَضَاء وَإِن خافتا على ولديهما أفطرتا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة عَن كل يَوْم مد)
إِذا خَافت الْحَامِل أَو الْمُرْضع على أَنفسهمَا ضَرَرا بَينا من الصَّوْم مثل الضَّرَر الناشىء للْمَرِيض من الْمَرَض أفطرتا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاء كَالْمَرِيضِ وَسَوَاء تضرر الْوَلَد أم لَا كَمَا قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَلَا فديَة كَالْمَرِيضِ وَإِن خافتا على ولديهما بِسَبَب إِسْقَاط الْوَلَد فِي الْحَامِل وَقلة اللَّبن فِي الْمُرْضع أفطرتا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاء للإفطار والفدية على أظهر الْأَقْوَال لكل يَوْم مد من طَعَام لقَوْله(1/205)
تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَبِذَلِك قَالَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَا مُخَالف لَهما وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن يجب الافطار إِن أضرّ الصَّوْم بالرضيع وَلَو أَرَادَت وَاحِدَة أَن ترْضع صَبيا تقرباً إِلَى الله جَازَ الْفطر لَهَا ثمَّ هَذَا فِيمَا إِذا كَانَتَا مقيمتين صحيحتين أما لَو كَانَتَا مسافرتين وأفطرتا بنية التَّرَخُّص بِالسَّفرِ أَو الْمَرَض فَلَا فديَة عَلَيْهِمَا وَإِن لم تنويا التَّرَخُّص فَفِي وجوب الْفِدْيَة وَجْهَان كالوجهين فِي فطر الْمُسَافِر بالاجماع وَالأَصَح أَنه لَا كَفَّارَة هُنَاكَ قَالَ
(وَالْمَرِيض وَالْمُسَافر سفرا طَويلا يفطران ويقضيان)
يُبَاح للْمَرِيض وَالْمُسَافر الافطار فِي رَمَضَان قَالَ الله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} تَقْدِير الْآيَة فَأفْطر فَعدَّة من أَيَّام أخر ثمَّ يشْتَرط فِي الْمَرِيض أَن يجب ألماً شَدِيدا ثمَّ إِن كَانَ الْمَرَض مطبقاً فَلهُ ترك النِّيَّة من اللَّيْل وَإِن كَانَ متقطعاً كمن يحم وقتا دون وَقت نظر إِن كَانَ محموماً وَقت الشُّرُوع جَازَ أَن يتْرك النِّيَّة من اللَّيْل وَإِلَّا فَعَلَيهِ أَن يَنْوِي من اللَّيْل فَإِن احْتَاجَ إِلَى الْإِفْطَار أفطر ثمَّ هَذَا إِذا لم يخْش الْهَلَاك فَإِن خشيَة وَجب عَلَيْهِ الْفطر قَالَه الْجِرْجَانِيّ وَالْغَزالِيّ فَإِن صَامَ فَفِي انْعِقَاده احتمالات قَالَه الْغَزالِيّ وَاعْلَم أَن غَلَبَة الْجُوع والعطش كالمرض
وَأما الْمُسَافِر فَشرط الْإِبَاحَة لَهُ أَن يكون سَفَره طَويلا مُبَاحا فَلَا يترخص فِي الْقصير لعدم الْمُبِيح وَلَا فِي السّفر بالمعصية لِأَن الرُّخص لَا تناط بِالْمَعَاصِي فَلَو أصبح مُقيما ثمَّ سَافر فَلَا يفْطر لِأَنَّهَا عبَادَة اجْتمع فِيهَا السّفر والحضر فغلبنا الْحَضَر وَقَالَ الْمُزنِيّ يجوز لَهُ الْفطر قِيَاسا على من أصبح صَائِما فَمَرض نعم لَو أصبح الْمُسَافِر وَالْمَرِيض صَائِمين فَلَهُمَا الْفطر لِأَن السَّبَب المرخص مَوْجُود وَقيل لَا يجوز وَلَو أَقَامَ الْمُسَافِر أَو شفي الْمَرِيض حرم الْفطر على الصَّحِيح لزوَال سَبَب الاباحة ثمَّ إِن الْأَفْضَل فِي حق الْمُسَافِر ينظر إِن لم يتَضَرَّر فالصوم أفضل وَإِن تضرر فالفطر أفضل وَقَالَ فِي التَّتِمَّة وَلَو لم يتَضَرَّر فِي الْحَال لكنه يخَاف الضعْف لَو صَامَ وَكَانَ فِي سفر حج أَو غَزْو فالفطر أولى وَالله أعلم قَالَ(1/206)
بَاب صَوْم التَّطَوُّع
(فصل يسْتَحبّ الْإِكْثَار من صَوْم التَّطَوُّع)
وَهل يكره صَوْم الدَّهْر قَالَ الْبَغَوِيّ نعم وَقَالَ الْغَزالِيّ هُوَ مسنون وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِن خَافَ مِنْهُ ضَرَرا أَو فَوت حق كره وَإِلَّا فَلَا وَيسْتَحب صَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس وَأَيَّام الْبيض من كل شهر وَهِي الثَّالِث عشر وَالرَّابِع عشر وَالْخَامِس عشر وَمِنْهُم من عد الثَّانِي عشر فالاحتياط صَوْمه أَيْضا وَيسْتَحب صَوْم سِتَّة أَيَّام من شَوَّال وَالْأَفْضَل صَومهَا متتابعة مُتَّصِلَة بالعيد وَيسْتَحب صَوْم تاسوعاء وعاشوراء من الْمحرم وَيسْتَحب صَوْم يَوْم عَرَفَة لغير الْحَاج وَأطلق كَثِيرُونَ كَرَاهَة صَوْمه للْحَاج لأجل الدُّعَاء وأعمال الْحَج فَإِن كَانَ شخص لَا يضعف عَن ذَلِك قَالَ الْمُتَوَلِي الأولى لَهُ الصَّوْم وَقَالَ غَيره الأولى لَهُ أَن لَا يَصُوم وَيَوْم عَرَفَة أفضل أَيَّام السّنة قَالَه الْبَغَوِيّ وَغَيره وَيسْتَحب صَوْم عشر ذِي الْحجَّة وَالصَّوْم من آخر كل شهر وَأفضل الْأَشْهر للصَّوْم بعد رَمَضَان الْأَشْهر الْحرم وَهِي ذِي الْقعدَة وَذُو الْحجَّة وَرَجَب وَالْمحرم وأفضلها الْمحرم ويليه فِي الْفَضِيلَة شعْبَان وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ رَجَب قَالَ النَّوَوِيّ وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالَ وَالله أعلم
(فرع) قَالَ الْأَصْحَاب يحرم على الْمَرْأَة أَن تَصُوم تَطَوّعا وَزوجهَا حَاضر إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمن شرع فِي صَوْم الْقَضَاء فَإِن كَانَ على الْفَوْر لم يجز الْخُرُوج مِنْهُ وَإِن كَانَ على التَّرَاخِي فَالصَّحِيح وَنَصّ الشَّافِعِي فِي الْأُم أَنه لَا يجوز لِأَنَّهُ تلبس بِفَرْض وَلَا عذر فَلَزِمَهُ إِتْمَامه كَمَا لَو شرع فِي الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت لَا يجوز لَهُ قطعهَا وَالْقَضَاء الَّذِي على الْفَوْر هُوَ الَّذِي تعدى فِيهِ بالإفطار فَيحرم تَأْخِير قَضَائِهِ وَالَّذِي على التَّرَاخِي مَا لم يَتَعَدَّ فِيهِ كالفطر بِالْمرضِ وَالسّفر وقضاؤه على التَّرَاخِي مَا لم(1/207)
يحضر رَمَضَان آخر وَمن شرع فِي صَوْم تطوع لم يلْزمه إِتْمَامه وَيسْتَحب لَهُ الاتمام فَلَو خرج مِنْهُ فَلَا قَضَاء لَكِن يسْتَحبّ وَهل يكره أَن يخرج مِنْهُ نظر إِن خرج لعذر لم يكره وَإِلَّا كره وَمن الْعذر أَن يعز على من يضيفه امْتِنَاعه من الْأكل وَيكرهُ صَوْم يَوْم الْجُمُعَة وَحده تَطَوّعا وَكَذَا إِفْرَاد يَوْم السبت وَكَذَا إِفْرَاد يَوْم الْأَحَد وَالله أعلم قَالَ
بَاب الِاعْتِكَاف
(فصل الِاعْتِكَاف مُسْتَحبّ وَله شَرْطَانِ النِّيَّة واللبث فِي الْمَسْجِد)
الِاعْتِكَاف فِي اللُّغَة الاقامة على الشَّيْء خيرا كَانَ أَو شرا وَفِي الشَّرْع إِقَامَة مَخْصُوصَة وَالْأَصْل فِي اسْتِحْبَابه الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} وَقد ثَبت اعْتِكَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ سنة مُؤَكدَة يَنْبَغِي الاعتناء بهَا وَيسْتَحب فِي جَمِيع الْأَوْقَات وَفِي الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان آكِد اقْتِدَاء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وطلباً لليلة الْقدر وَلَيْلَة الْقدر أفضل ليَالِي السّنة وَهِي بَاقِيَة بِفضل الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وكذهب جُمْهُور الْعلمَاء أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان وَفِي أوتاره أَرْجَى وميل الشَّافِعِي إِلَى أَنَّهَا لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين قَالَ ابْن خُزَيْمَة وتنتقل فِي كل سنة إِلَى لَيْلَة جمعا بَين الْأَدِلَّة قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ مَنْقُول عَن الْمُزنِيّ أَيْضا وَهُوَ قوي وَمذهب الشَّافِعِي أَنَّهَا تلْزم لَيْلَة بِعَينهَا وَالله أعلم
وأركانه أَرْبَعَة النِّيَّة لِأَنَّهُ عبَادَة فافتقر إِلَى النِّيَّة كَسَائِر الْعِبَادَات
الثَّانِي اللّّبْث فِي الْمَسْجِد أما اللّّبْث فِي الْمَسْجِد فَلَا بُد مِنْهُ على الصَّحِيح وَلَا يكفى قدر الطُّمَأْنِينَة فِي الصَّلَاة بل لَا بُد من زِيَادَة عَلَيْهِ بِمَا يُسمى عكوفاً وَإِقَامَة وَلَا يشْتَرط السّكُون بل يَصح الِاعْتِكَاف مَعَ التَّرَدُّد فِي أَطْرَاف الْمَسْجِد كَمَا يحرم ذَلِك على الْجنب وَكَذَا يَصح الِاعْتِكَاف قَائِما وَاسْتحبَّ الشَّافِعِي أَن يعْتَكف يَوْمًا لِلْخُرُوجِ من الْخلاف فَإِن أَبَا حنيفَة ومالكاً لَا يجوزان الِاعْتِكَاف أقل من يَوْم وَهُوَ وَجه فِي مَذْهَبنَا وَلَو كَانَ كلما دخل وَخرج نوى الِاعْتِكَاف صَحَّ على الْمَذْهَب وَلنَا وَجه أَنه يشْتَرط اللّّبْث وَيَكْفِي الْحُضُور كَمَا يَكْفِي مُجَرّد الْحُضُور فِي عَرَفَة وَأما اشْتِرَاط الْمَسْجِد فَلِأَنَّهُ الْمَنْقُول عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَعَن أَصْحَابه ونسائه(1/208)
الرُّكْن الثَّالِث الْمُعْتَكف وَشَرطه الْإِسْلَام وَالْعقل والنقاء من الْحيض وَالنّفاس والجنابة وَيصِح اعْتِكَاف العَبْد وَالْمَرْأَة بِإِذن السَّيِّد وَالزَّوْج فَإِن اعتكفا بِغَيْر إذنهما فَلَهُمَا إخراجهما وَلَا يَصح اعْتِكَاف السَّكْرَان لعدم النِّيَّة
الرُّكْن الرَّابِع الْمُعْتَكف فِيهِ وَشَرطه الْمَسْجِد كَمَا مر وَالْجَامِع أولى لِئَلَّا يحْتَاج إِلَى الْخُرُوج إِلَى الْجُمُعَة وَلِأَن الْجَمَاعَة فِيهِ أَكثر وَقد اشْترط ذَلِك الزُّهْرِيّ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يخرج الْمُعْتَكف من الِاعْتِكَاف الْمَنْذُور إِلَّا لحَاجَة الْإِنْسَان أَو عذر من حيض أَو نِفَاس أَو مرض لَا يُمكن الْمقَام مَعَه وَيبْطل بِالْوَطْءِ)
قد علمت أَن الِاعْتِكَاف قربَة فَإِذا نَذره صَحَّ ثمَّ إِن نذر مُدَّة مُعينَة وقدرها بِأَن نذر اعْتِكَاف عشرَة أَيَّام من الْآن أَو هَذِه الْعشْرَة أَو شهر رَمَضَان أَو هَذَا الشَّهْر فَعَلَيهِ الْوَفَاء بذلك فَلَو أفسد آخِره بِعُذْر أَو غير عذر بِالْخرُوجِ لم يجب الِاسْتِئْنَاف وَلَو فَاتَهُ الْجَمِيع لم يجب التَّتَابُع فِي الْقَضَاء كقضاء رَمَضَان وَهَذَا كُله إِذا لم يُصَرح بالتتابع فَلَو صرح بِهِ فَقَالَ أعنكف هَذِه الْعشْرَة أَيَّام متتابعة وَجب الِاسْتِئْنَاف على الصَّحِيح لتصريحه بالتتابع ثمَّ إِذا نذر اعتكافاً مُتَتَابِعًا وَشرط الْخُرُوج إِن عرض عَارض صَحَّ شَرطه على الْمَذْهَب وَبِه قطع الْجُمْهُور وَلَو شَرط الْخُرُوج للجماع لم يَصح نَذره ثمَّ إِذا صَحَّ نَذره فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوج إِلَّا لعذر وَهُوَ أَنْوَاع مِنْهَا الْخُرُوج لقَضَاء الْحَاجة وَالْمرَاد بهَا الْبَوْل وَالْغَائِط وَفِي مَعْنَاهُ الْغسْل من الِاحْتِلَام وَذَلِكَ لَا يضر قطعا وَمِنْهَا الْجُوع فَيجوز الْخُرُوج للْأَكْل على الأَصْل الْمَنْصُوص وَلَو عَطش فَإِن وجد المَاء فِي الْمَسْجِد فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوج وَالْفرق بَين الْأكل وَالشرب أَن الْأكل فِي الْجَامِع يستحيا مِنْهُ بِخِلَاف الشّرْب فَإِن لم يجده لَهُ الْخُرُوج وَاعْلَم أَنه فِي حَال خُرُوجه لقَضَاء الْحَاجة هُوَ معتكف فَلَو جَامع فِي ذَلِك الْوَقْت بَطل اعْتِكَافه على الْأَصَح
وَاعْلَم أَنه لَا يشْتَرط فِي جَوَاز الْخُرُوج شدَّة الْحَاجة وَإِذا خرج لَا يُكَلف الْإِسْرَاع بل يمشي على مشيته الْمَعْهُودَة فَلَو تأنى أَكثر من عَادَته بَطل اعْتِكَافه على الْمَذْهَب وَلَا يجوز الْخُرُوج لعيادة الْمَرِيض وَلَا لصَلَاة الْجِنَازَة وَإِذا خرج لقَضَاء الْحَاجة فَلهُ أَن يتَوَضَّأ خَارج الْمَسْجِد لِأَن ذَلِك يَقع تبعا بِخِلَاف مَا لَو احْتَاجَ إِلَى الْوضُوء من غير قَضَاء الْحَاجة فَإِنَّهُ لَا يجوز الْخُرُوج على الْأَصَح إِذا أمكن الْوضُوء فِي الْمَسْجِد وَمن الْأَعْذَار مَا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة يلْزمهَا الْخُرُوج وَهل يَنْقَطِع التَّتَابُع نظر إِن كَانَت الْمدَّة الَّتِي نذرتها طَوِيلَة لَا تنفك عَن الْحيض غَالِبا لم يَنْقَطِع وَإِن كَانَت تنفك فالراجح أَنَّهَا تَنْقَطِع وَمِنْهَا أَي الْأَعْذَار الْمَرَض فَإِن كَانَ يشق مَعَه الْمقَام كحاجته إِلَى الْفراش وَالْخَادِم وَتردد الطَّبِيب فَيُبَاح لَهُ الْخُرُوج وَلَا يبطل بِهِ التَّتَابُع على الْأَظْهر وَكَذَا لَو خَافَ تلويث الْمَسْجِد كإدرار(1/209)
الْبَوْل والإسهال وَالْمذهب أَنه يَنْقَطِع التَّتَابُع وَاحْترز الشَّيْخ بقوله لَا يُمكن الْمقَام مَعَه عَن الْمَرَض الْخَفِيف كالصداع والحمى الْخَفِيفَة فَلَا يجوز لَهُ الْخُرُوج بِسَبَب ذَلِك فَإِن خرج بَطل التَّتَابُع وَلَو خرج نَاسِيا أَو مكْرها لم يَنْقَطِع تتابعه على الْمَذْهَب وَمن أخرجه الظلمَة ظلما للمصادرة أَو غَيرهَا أَو خَافَ من ظَالِم فَخرج واستتر فكالمكره وَإِن خرج لحق وَجب عَلَيْهِ وَهُوَ مماطل بَطل لتَقْصِيره وَإِن حمل وَأخرج لم يبطل وَلَو دعِي لأَدَاء شَهَادَة فَإِن لم يتَعَيَّن عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا بَطل اعْتِكَافه سَوَاء كَانَ التَّحَمُّل مُتَعَيّنا أم لَا لحُصُول الِاسْتِغْنَاء عَنهُ وَإِن تعين عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا نظر إِن لم يتَعَيَّن التَّحَمُّل بَطل تتابعه على الْمَذْهَب وَإِن تعين فَوَجْهَانِ أصَحهمَا من زِيَادَة الرَّوْضَة لَا يبطل وَلَو خرج لصَلَاة الْجُمُعَة بَطل اعْتِكَافه على الْأَظْهر لِإِمْكَان الِاعْتِكَاف فِي الْجَامِع وَلَو خَافَ فَوَات الْحَج خرج إِلَيْهِ وَبَطل اعْتِكَافه وَلَو جَامع بَطل اعْتِكَافه لِأَنَّهُ منَاف للاعتكاف وَهَذَا بِشَرْط كَونه مُخْتَارًا ذَاكِرًا للاعتكاف عَالما بِالتَّحْرِيمِ قَالَ الله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَاعْلَم أَنه لَو بَاشر بلمس أَو قبْلَة بِشَهْوَة فَأنْزل بَطل اعْتِكَافه والاستمناء بِيَدِهِ مُرَتّب على الْمُبَاشرَة وَلَو بَاشر نَاسِيا فكجماع الصَّائِم وَلَو جَامع جَاهِلا بِتَحْرِيمِهِ فكنظيره من الصَّوْم وَيصِح اعْتِكَاف اللَّيْل وَحده وَالله أعلم(1/210)
كتاب الْحَج
بَاب شَرَائِط وجوب الْحَج
(وشرائط وجوب الْحَج سَبْعَة الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة) الْحَج فِي اللُّغَة الْقَصْد وَقَالَ الْخَلِيل كَثْرَة الْقَصْد
وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن قصد الْبَيْت للأفعال قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَهُوَ وَاجِب بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح
(بني الْإِسْلَام على خمس) وَمِنْهَا الْحَج ثمَّ لوُجُوب الْحَج شُرُوط مِنْهَا الْإِسْلَام لِأَنَّهُ عبَادَة فَيشْتَرط لوُجُوبهَا الْإِسْلَام كَالصَّلَاةِ وَفِي حَدِيث معَاذ
(أدعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِن أطاعوك فأعلمهم أَن عَلَيْهِم كَذَا) وَذكر الْحَج وَمِنْهَا الْبلُوغ فالصبي لَا يجب عَلَيْهِ لخَبر
(رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة وَمِنْهُم الصَّبِي وَقِيَاسًا على سَائِر الْعِبَادَات وَمِنْهَا الْعقل فَلَا تجب على الْمَجْنُون لحَدِيث
(رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة) وَمِنْهُم الْمَجْنُون وكسائر الْعِبَادَات وَمِنْهَا الْحُرِّيَّة فَلَا يجب على العَبْد لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(أَيّمَا(1/211)
عبد حج ثمَّ أعتق فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى) وَلِأَن الْجُمُعَة لَا تجب عَلَيْهِ مَعَ قرب مسافتها مُرَاعَاة لحق السَّيِّد فالحج أولى قَالَ
(وَوُجُود الرَّاحِلَة والزاد وتخلية الطَّرِيق وَإِمْكَان الْمسير) هَذِه الْأُمُور تَفْسِير للاستطاعة فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فَلَا بُد لوُجُوب الْحَج من هَذِه الْأُمُور فَمِنْهَا الرَّاحِلَة فَلَا يلْزمه الْحَج إِلَّا إِذا قدر عَلَيْهَا بِملك أَو اسْتِئْجَار سَوَاء قدر على الْمَشْي أم لَا وَهل يحجّ ماشياأفضل أم رَاكِبًا فِيهِ خلاف الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ الْمَشْي أفضل لِأَنَّهُ أشق وَالْمذهب عِنْد النَّوَوِيّ أَن الرّكُوب أفضل لفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلِأَنَّهُ أعون لَكِن يسْتَحبّ أَن يركب على القتب والرحل دون الْمحمل وَنَحْوه اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ إِن كَانَ يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة من غير محمل وَلَا تلْحقهُ مشقة شَدِيدَة لم يعْتَبر فِي حَقه إِلَّا وجدان الرَّاحِلَة وَإِلَّا فَيعْتَبر مَعَ وجدان الرَّاحِلَة وجدان الْمحمل وَهَذَا فِيمَن بَينه وَبَين مَكَّة مَسَافَة الْقصر فَأكْثر أما مَا بَينه وَبَينهَا دون ذَلِك فَإِن كَانَ قَوِيا على الْمَشْي لزمَه الْحَج وَلَا تعْتَبر الرَّاحِلَة وَإِن كَانَ ضَعِيفا لَا يقوى على الْمَشْي أَو يَنَالهُ بِهِ ضَرَر ظَاهر اشْترطت الرَّاحِلَة والمحمل أَيْضا إِن لم يُمكنهُ الرّكُوب بِدُونِهِ وَمِنْهَا الزَّاد وَيشْتَرط لوُجُوب الْحَج أَن يجد الزَّاد وأوعيته وَيكون ذَلِك يَكْفِيهِ لذهابه وَعوده
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط كَون الزَّاد وَالرَّاحِلَة فاضلين عَن نَفَقَته وَنَفَقَة من تلْزمهُ نَفَقَته وكسوتهم مُدَّة ذَهَابه ورجوعه وَكَذَا يشْتَرط كَونهمَا فاضلين عَن مسكن وخادم يليقان بِهِ وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لزمانته أَو منصبه على الصَّحِيح كَمَا يشْتَرط ذَلِك فِي الْكَفَّارَة عَن دينه وَلَو كَانَ لَهُ رَأس مَال يتجر فِيهِ أَو كَانَت لَهُ مستغلات يحصل مِنْهَا نَفَقَته فَهَل يُكَلف بيعهَا فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا يُكَلف كَمَا يُكَلف فِي الدّين بِخِلَاف الْمسكن وَالْخَادِم لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِمَا فِي الْحَال وَمَا نَحن فِيهِ يَتَّخِذهُ ذخيرة وَلَو قدر على مُؤَن الْحَج لكنه مُحْتَاج إِلَى النِّكَاح لخوف الْعَنَت وَهُوَ الزِّنَا فَصَرفهُ إِلَى النِّكَاح أهم من صرفه إِلَى الْحَج لِأَن حَاجَة النِّكَاح ناجزة وَالْحج على التَّرَاخِي وَإِن لم يخف الْعَنَت فتقديم الْحَج أفضل وَإِلَّا فَالنِّكَاح أفضل وَمِنْهَا تخلية الطَّرِيق وَمَعْنَاهُ أَن يكون آمنا فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء فِي النَّفس والبضع وَالْمَال وَسَوَاء قل المَال أَو كثر لحُصُول الضَّرَر عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَسَوَاء كَانَ الْخَوْف عَلَيْهِ من مُسلمين أَو كفار وَلَو كَانَ فِي طَرِيقه بَحر لَا معدل عَنهُ فَإِن غلب الْهَلَاك لخصوصية ذَلِك الْبَحْر أَو لهيجان(1/212)
الأمواج فَلَا يجب الْحَج وَإِن غلبت السَّلامَة وَجب وَإِن اسْتَويَا فخلاف الْأَصَح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب عدم الْوُجُوب بل يحرم
وَاعْلَم أَنه كَمَا يشْتَرط لوُجُوب الْحَج الزَّاد يشْتَرط وجود المَاء فِي الْمَوَاضِع الَّتِي اطردت الْعَادة بِوُجُودِهِ فِيهَا فَلَو كَانَت سنة جَدب وخلا بعض تِلْكَ الْمنَازل من المَاء لم يجب الْحَج وَمِنْهَا إِمْكَان الْمسير وَهُوَ أَن يبْقى من الزَّمَان عِنْد وجود الزَّاد وَالرَّاحِلَة مَا يُمكن السّير فِيهِ إِلَى الْحَج وَالْمرَاد السّير الْمَعْهُود وَإِن قدر إِلَّا أَنه يحْتَاج إِلَى قطع مرحلَتَيْنِ فِي بعض الْأَيَّام لم يلْزمه الْحَج لوُجُود الضَّرَر وَالله أعلم قَالَ
بَاب أَرْكَان الْحَج
(وأركان الْحَج خَمْسَة الاحرام وَالنِّيَّة وَالْوُقُوف بِعَرَفَة)
لما ذكر الشَّيْخ شُرُوط وجوب الْحَج شرع فِي ذكر أَرْكَانه فَمِنْهَا الْإِحْرَام وَهُوَ عبارَة عَن نِيَّة الدُّخُول فِي حج أَو عمْرَة قَالَه النَّوَوِيّ وَزَاد ابْن الرّفْعَة أَو فِيمَا يصلح لَهما أَو لأَحَدهمَا وَهُوَ الْإِحْرَام الْمُطلق وَسمي إحراماً لِأَنَّهُ يمْنَع من الْمُحرمَات وَسَيَأْتِي ذكرهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَحجَّة وُجُوبه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) وَهُوَ مبدأ الدُّخُول فِي النّسك والنسك الْعِبَادَة وكل عبَادَة لَهَا إِحْرَام وتحلل فالإحرام ركن فِيهَا كَالصَّلَاةِ وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ
وَاعْلَم أَن الْإِحْرَام لَهُ ثَلَاثَة وُجُوه الْإِفْرَاد والتمتع وَالْقرَان وَلَا خلاف فِي جَوَاز كل وَاحِد مِنْهُمَا لَكِن مَا الْأَفْضَل فِيهِ خلاف الْمَذْهَب الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي عَامَّة كتبه أَن الْإِفْرَاد أفضل ويليه التَّمَتُّع ثمَّ الْقرَان وَصُورَة الْإِفْرَاد أَن يحرم بِالْحَجِّ وَحده ويفرغ مِنْهُ ثمَّ يحرم بِالْعُمْرَةِ ثمَّ شَرط كَون الْإِفْرَاد أفضل مِنْهُمَا أَن يعْتَمر فِي تِلْكَ السّنة فَلَو أخر الْعمرَة عَن سنته فَكل من التَّمَتُّع وَالْقرَان أفضل من الْإِفْرَاد لِأَن تَأْخِير الْعمرَة عَن سنة الْحَج مَكْرُوه وَصُورَة التَّمَتُّع أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ من مِيقَات بَلَده ويفرغ مِنْهَا ثمَّ يحرم بِالْحَجِّ من مَكَّة وَهَذِه الْكَيْفِيَّة مجمع عَلَيْهَا قَالَه ابْن الْمُنْذر وَسمي مُتَمَتِّعا لِأَنَّهُ يتمتع بَين الْحَج وَالْعمْرَة بِمَا كَانَ محرما عَلَيْهِ وَصُورَة الْقرَان الْأَصْلِيَّة أَن يحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة مَعًا فتندرج أَعمال الْعمرَة فِي أَعمال الْحَج ويتحد الْمِيقَات وَالْفِعْل وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على صِحَة الْإِحْرَام بهما وَلَو أحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج ثمَّ أَدخل الْحَج عَلَيْهَا فِي أشهره فَإِن لم يكن شرع فِي طواف الْعمرَة صَحَّ وَصَارَ قَارنا وَإِلَّا لم يَصح إِدْخَاله(1/213)
عَلَيْهَا لِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ فِي الطّواف شرع فِي أَسبَاب التَّحَلُّل وَقيل غير ذَلِك وَلَو عكس فَأحْرم بِالْحَجِّ ثمَّ أَرَادَ ادخال الْعمرَة فَقَوْلَانِ الْجَدِيد أَن لَا يَصح وَقَول الشَّيْخ وَالنِّيَّة يَقْتَضِي أَن النِّيَّة غير الْإِحْرَام وَهُوَ مَمْنُوع لما قد عرفت وَمِنْهَا أَي من أَرْكَان الْحَج الْوُقُوف بِعَرَفَة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر منادياً يُنَادي
(الْحَج عَرَفَة) وَمعنى الْحَج عَرَفَة أَي مُعظم أَرْكَانه كَمَا تَقول مُعظم الرَّكْعَة الرُّكُوع وَيحصل الْوُقُوف بِحُضُور بِجُزْء من عَرَفَات وَلَو كَانَ ماراً فِي طلب آبق أَو ضَالَّة أَو غير ذَلِك وَلَو حضر عَرَفَة وَهُوَ نَائِم حَتَّى لَو دخل عَرَفَات قبل الْوُقُوف ونام حَتَّى خرج الْوَقْت أَجزَأَهُ على الصَّحِيح لبَقَاء التَّكْلِيف عَلَيْهِ بِخِلَاف الْمَجْنُون وَلَو حضر وَهُوَ مغمى عَلَيْهِ قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة أَجزَأَهُ وَهُوَ سَهْو فَإِن الرَّافِعِيّ صحّح عدم الاجزاء فِي الشرحين كالمحرر ثمَّ إِن النَّوَوِيّ قَالَ فِي زِيَادَته قلت الْأَصَح عِنْد الْجُمْهُور أَنه لَا يَصح وقُوف الْمغمى عَلَيْهِ
وَالْحَاصِل أَن شَرط إِجْزَاء الْوُقُوف أَن يكون الْوَاقِف أَهلا لِلْعِبَادَةِ ثمَّ فِي أَي مَوضِع وقف مِنْهَا جَازَ لِأَن الْكل عَرَفَة وَوقت الْوُقُوف من زَوَال الشَّمْس يَوْم عَرَفَة إِلَى طُلُوع الْفجْر وَلَا يشْتَرط الْجمع بَين اللَّيْل وَالنَّهَار حَتَّى لَو أَفَاضَ قبل الْغُرُوب صَحَّ وُقُوفه وَلَا يلْزمه الدَّم على الصَّحِيح وَقيل يجب فعلى هَذَا لَو عَاد لَيْلًا سقط وَلَو اقْتصر على الْوُقُوف لَيْلًا صَحَّ حجه على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَالله أعلم قَالَ
(وَالطّواف بِالْبَيْتِ وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة)
من أَرْكَان الْحَج الطّواف بِالْبَيْتِ أَي طواف الْإِفَاضَة للْإِجْمَاع على أَنه المُرَاد فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَلِحَدِيث حيض صَفِيَّة قَالَ القَاضِي وَلَيْسَ بَين الْمُسلمين خلاف فِي وُجُوبه ثمَّ للطَّواف وَاجِبَات لَا بُد مِنْهَا مِنْهَا الطَّهَارَة عَن الْحَدث وَالنَّجس فِي الْبدن وَالثيَاب(1/214)
وَالْمَكَان فَلَو أحدث فِي أثْنَاء طَوَافه لزمَه الْوضُوء وَيَبْنِي على الصَّحِيح وَقيل يجب الِاسْتِئْنَاف وَمِنْهَا التَّرْتِيب بِأَن يبتدىء من الْحجر الْأسود وَأَن يَجْعَل الْبَيْت عَن يسَاره وَيَنْبَغِي أَن يمر فِي الِابْتِدَاء بِجَمِيعِ بدنه على جَمِيع الْحجر الْأسود بِحَيْثُ يصير جَمِيع الْحجر الْأسود عَن يَمِينه ثمَّ يَنْوِي حِينَئِذٍ الطّواف وَنِيَّة الطّواف غير وَاجِبَة على الصَّحِيح لشمُول الْحَج لَهَا فَلَو حَاذَى الْحجر بِبَعْض بدنه وَكَانَ بعضه مجاوزاً إِلَى جَانب الْبَاب فالجديد أَنه لَا يعْتد بِتِلْكَ الطوفة وَمِنْهَا أَن يكون خَارِجا بِجَمِيعِ بدنه عَن جَمِيع الْبَيْت حَتَّى لَو مَشى على شاذروان الْكَعْبَة لم يَصح طَوَافه لِأَنَّهُ جُزْء من الْبَيْت وَكَذَا لَو طَاف وَكَانَت يَده تحاذي الشاذروان لم يَصح وَهِي دقيقة قل من ينتبه لَهَا فاعرفها وَعرفهَا وَأما الْحجر بِكَسْر الْحَاء فَهَل يشْتَرط أَن يطوف بِهِ أَو الشَّرْط أَن يتْرك مِنْهُ قدر سَبْعَة أَذْرع فِيهِ خلاف قَالَ الرَّافِعِيّ يَصح وَقَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح أَنه لَا يَصح الطّواف فِي شَيْء من الْحجر وَهُوَ ظَاهر النُّصُوص وَبِه قطع مُعظم الْأَصْحَاب تَصْرِيحًا وتلويحاً وَدَلِيله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف خَارج الْحجر وَالله أعلم
وَمِنْهَا أَن يَقع الطّواف فِي الْمَسْجِد وَلَا يضر الْحَائِل بَين الطَّائِف وَالْبَيْت كالسقاية حَتَّى لَو طَاف فِي الأورقة جَازَ وَمِنْهَا الْعدَد وَهُوَ أَن يطوف سبعا وَلَا تجب الْمُوَالَاة بَين الطوفات على الصَّحِيح وَقيل تجب فَيبْطل التَّفْرِيق الْكثير بِلَا عذر وعَلى الصَّحِيح لَا يضر وَيَبْنِي على طَوَافه وَالله أعلم
وَمن أَرْكَان الْحَج السَّعْي لفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ يسْعَى
(اسعو فَإِن الله تَعَالَى كتب عَلَيْكُم السَّعْي) وَلِأَنَّهُ نسك يفعل فِي الْحَج وَالْعمْرَة فَكَانَ ركنا كالطواف وَيشْتَرط وُقُوعه بعد طواف صَحِيح سَوَاء كَانَ طواف الافاضة أَو طواف الْقدوم فَلَو سعى بعد طواف الْقدوم أَجزَأَهُ وَلَا يسْتَحبّ لَهُ أَن يسْعَى بعد طواف الافاضة بل قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد يكره وَيشْتَرط التَّرْتِيب بِأَن يبْدَأ بالصفا فَإِذا وصل إِلَى الْمَرْوَة فَهِيَ مرّة وَيشْتَرط فِي الثَّانِيَة أَن يبْدَأ بالمروة فَإِذا وصل إِلَى الصَّفَا فَهِيَ مرّة ثَانِيَة وَيجب أَن يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة سبعا لفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا يشْتَرط فِيهِ الطَّهَارَة وَلَا ستر الْعَوْرَة وَلَا سَائِر شُرُوط الصَّلَاة وَيجوز رَاكِبًا وَالْأَفْضَل الْمَشْي لَو شكّ هَل سعى سبعا أَو سِتا أَخذ بِالْأَقَلِّ كالطواف ثمَّ السَّعْي لَا يجْبر بِدَم كَبَقِيَّة الْأَركان وَلَا يتَحَلَّل بِدُونِهِ كَمَا فِي بَقِيَّة الْأَركان وَالله أعلم
وَقد أهمل الشَّيْخ رَحمَه الله تَعَالَى الْحلق أَو التَّقْصِير وَهُوَ ركن على الْمَذْهَب وَادّعى الإِمَام(1/215)
الِاتِّفَاق على أَنه ركن وَلَيْسَ كَمَا قَالَ وَالله أعلم قَالَ
بَاب وَاجِبَات الْحَج
(وواجبات الْحَج غير الْأَركان ثَلَاثَة الْإِحْرَام من الْمِيقَات وَرمي الْجمار ثَلَاثًا وَالْحلق)
اعْلَم أَن الْمِيقَات ميقاتان زماني ومكاني فالميقات الزماني بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَج شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر لَيَال من ذِي الْحجَّة آخرهَا لَيْلَة النَّحْر على الصَّحِيح وَأما الْعمرَة فَجَمِيع السّنة وَقت لَهَا وَلَا تكره فِي وَقت مِنْهَا وَلَو أحرم بِالْحَجِّ فِي غير أشهره لم ينْعَقد حجا وانعقد عمره على الْمَذْهَب
وَأما الْمِيقَات المكاني وَهُوَ الَّذِي ذكره الشَّيْخ فالشخص إِمَّا مكي أَو غَيره فالمكي أَي الْمُقِيم بهَا سَوَاء كَانَ من أَهلهَا أَو من غَيرهم فميقاته نفس مَكَّة على الرَّاجِح وَقيل مَكَّة وَسَائِر الْحرم فعلى الْأَظْهر لَو أحرم من خَارج مَكَّة وَلَو فِي الْحرم فقد أَسَاءَ وَعَلِيهِ دم لتعديه إِن لم يعد إِلَيْهِ وإحرام الْمَكِّيّ من بَاب دَاره أفضل وَأما الْمُقِيم بِمَكَّة فَإِن كَانَ منزله بَين مَكَّة والمواقيت الشَّرْعِيَّة فميقاته الْقرْيَة الَّتِي يسكنهَا أَو الْحلَّة الَّتِي ينزلها البدوي وَإِن كَانَ منزله وَرَاء الْمَوَاقِيت فميقاته الْمِيقَات الَّذِي يمر عَلَيْهِ والمواقيت خَمْسَة
أَحدهَا ذُو الحليفة وَهُوَ مِيقَات من توجه من الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَهُوَ على عشر مراحل من مَكَّة
وَالثَّانِي الْجحْفَة وَهُوَ مِيقَات المتوجهين من الشَّام ومصر وَالْمغْرب
وَالثَّالِث يَلَمْلَم وَهُوَ مِيقَات أهل الْيمن
وَالرَّابِع قرن بِإِسْكَان الرَّاء المهمله وَهُوَ مِيقَات المتوجهين من نجد نجد الْحجاز وَهَذِه الْأَرْبَعَة نَص عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة بِلَا خلاف والميقات
الْخَامِس ذَات عرق وَهُوَ مِيقَات المتوجهين من الْعرَاق وخراسان وَهَذَا أَيْضا مَنْصُوص عَلَيْهِ كالأربعة عِنْد الْأَكْثَرين وَقيل بِاجْتِهَاد عمر رَضِي الله عَنهُ إِذا عرفت هَذَا فَمن جَاوز(1/216)
مِيقَاته وَهُوَ مُرِيد للنسك وَأحرم دونه حرم عَلَيْهِ وَلَزِمَه دم وَهُوَ شَاة جَذَعَة ضَأْن أَو ثنية معز لِأَنَّهُ كَانَ يلْزمه الْإِحْرَام من الْمِيقَات فَلَزِمَهُ بِتَرْكِهِ دم وَلما رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(من ترك نسكا فَعَلَيهِ دم) وَسَوَاء ترك الاحرام عمدا أَو نِسْيَانا وَيلْزمهُ الْعود إِلَى الْمِيقَات إِلَّا لعذر من خوف الطَّرِيق أَو فَوت الْحَج فَإِن عَاد إِلَى الْمِيقَات سقط عَنهُ الدَّم بِشَرْط أَن لَا يكون تلبس بنسك فَإِن تلبس بِنَفْسِك لم يسْقط عَنهُ الدَّم التأدى ذَلِك النّسك بِإِحْرَام نَاقص وَلَا فرق فِي ذَلِك النّسك بَين الْفَرْض كالوقوف وَبَين السّنة كطواف الْقدوم
وَقَول الشَّيْخ وَرمي الْجمار ثَلَاثًا أَي ثَلَاث مَرَّات يَعْنِي غير جَمْرَة الْعقبَة وَهِي الَّتِي ترمى يَوْم النَّحْر يَعْنِي يَوْم الْعِيد وَيَرْمِي إِلَيْهَا سبع حَصَيَات فَقَط فَإِن أَرَادَ أَن يتعجل سقط عَنهُ رمي الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام التَّشْرِيق فَيبقى ثَلَاث يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة ثمَّ الْيَوْم الأول من أَيَّام التَّشْرِيق يُسمى يَوْم القر لأَنهم يقرونَ فِيهِ بمنى وَالْيَوْم الثَّانِي النَّفر الأول وَالثَّالِث النَّفر الثَّانِي وَهِي أَيَّام الرَّمْي ثمَّ عدد حَصى كل يَوْم من هَذِه الْأَيَّام إِحْدَى وَعِشْرُونَ حَصَاة لكل جَمْرَة سبع حَصَيَات وَيشْتَرط فِي رمي الجمرات التَّرْتِيب فِيهِنَّ بِأَن يَرْمِي أَولا الْجَمْرَة الَّتِي تلِي مَسْجِد الْخيف ثمَّ الْوُسْطَى ثمَّ جَمْرَة الْعقبَة وَهِي الْأَخِيرَة وَلَا يعْتد برمي الثَّانِيَة قبل الأولى وَلَا بالثالثة قبل الْأَوليين وَلَو ترك حَصَاة وَلم يدر من أَيهَا من الثَّلَاثَة جعلهَا من الأولى وَأعَاد رمي الْجَمْرَة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة هَذَا مَا يتَعَلَّق بالجمرات وَأما نفس الرَّمْي فَالْوَاجِب مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الرَّمْي فَلَو وضع الْحجر فِي المرمى لم يعْتد بِهِ على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا يُسمى رمياً وَيشْتَرط قصد الرَّمْي فَلَو رمى فِي الْهَوَاء فَوَقع المرمي بِهِ فِي المرمى لم يعْتد بِهِ وَلَا يشْتَرط بَقَاء الْحجر فِي المرمى فَلَا يضر تدحرجه بعد ذَلِك وَيَنْبَغِي أَن تقع الحصيات فِي المرمى فَلَو شكّ فِي وُقُوع الْحَصَى فِيهِ لم يعْتد بِهِ على الْجَدِيد وَيشْتَرط حُصُول الْحَصَاة المرماة بِفِعْلِهِ حَتَّى لَو رمى فَوَقَعت الْحَصَاة على رَأس آدَمِيّ أَو غَيره فحركتها وَوَقعت فِي المرمى فَلَا يعْتد بِهِ لِأَنَّهَا لم تحصل فِي المرمى بِفِعْلِهِ وَلَو وَقعت على الأَرْض وتدحرجت فَوَقَعت فِي المرمى أَجْزَأَ لحصولها فِيهِ بِفِعْلِهِ وَيشْتَرط أَن يرميها بِيَدِهِ فَلَو دَفعهَا بِرَجُل أَو رمى بقوس لم يجز وَيشْتَرط أَن يَرْمِي السَّبع حَصَيَات فِي سبع مَرَّات فَلَو رمى حصاتين دفْعَة ووقعتا فِي المرمى فَهِيَ حَصَاة حَتَّى لَو رمى السَّبع مرّة فَهِيَ حَصَاة وَلَو رمى وَاحِدَة وأتبعها بِأُخْرَى وسبقت الثَّانِيَة الأولى فرميتان وَلَا يشْتَرط كَون الْحَصَى لم يرم بِهِ حَتَّى لَو رمى بِحجر رمى هُوَ بِهِ أَو غَيره أَجْزَأَ هَذَا مَا يتَعَلَّق بِالرَّمْي وَأما المرمي بِهِ فَيشْتَرط كَونه حجرا فيجزى سَائِر أَنْوَاع الْحجر وَلَا يَجْزِي غَيره ومدار هَذَا الْبَاب على التَّوْقِيف لِأَن فِي مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ فَيجب الِاتِّبَاع وَالله أعلم(1/217)
(فرع) إِذا عجز عَن الرَّمْي بِنَفسِهِ إِمَّا لمَرض أَو حبس أَو عذر لَهُ أَن يَسْتَنِيب من يَرْمِي عَنهُ لَكِن لَا يَصح رمي النَّائِب عَن المستنيب إِلَّا بعد رمي النَّائِب عَن نَفسه وَيشْتَرط فِي جَوَاز النِّيَابَة أَن يكون الْعذر مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَاله قبل خُرُوج وَقت الرَّمْي فَإِذا وجد الشَّرْط ثمَّ زَالَ الْعذر عَن المستنيب وَالْوَقْت بَاقٍ أَجْزَأَ على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْأَكْثَرُونَ وَالله أعلم وَأما عد الشَّيْخ الْحلق من الْوَاجِبَات فَهِيَ طَريقَة وَقد تقدم أَنه ركن وعَلى كل حَال فَلَا بُد من الْإِتْيَان بِهِ أَو بالتقصير وَأقله ثَلَاث شَعرَات وَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر أَصْحَابه أم بحلقوا أَو يقصروا نعم الْأَفْضَل للرِّجَال الْحلق لفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع رَوَاهُ مُسلم وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين) وَفِي الثَّالِثَة للمقصرين نعم لَو نذر الْحلق قَالَ الْغَزالِيّ لزمَه بِلَا خلاف قَالَ الإِمَام وَنَصّ عَلَيْهِ فَلَا يقوم التَّقْصِير حِينَئِذٍ مقَام الْحلق وللرافعي فِيهِ أشكال وَالله أعلم قَالَ
بَاب سنَن الْحَج
(وَسنَن الْحَج سبع الافراد وَهُوَ تَقْدِيم الْحَج على الْعمرَة والتلبية وَطواف الْقدوم)
قد تقدم أَن الْحَج على ثَلَاثَة أَنْوَاع وَأَن أفضلهَا الافراد وَأما التَّلْبِيَة فتستحب حَال الاحرام لنقل الْخلف عَن السّلف وَالسّنة أَن يكثر مِنْهَا فِي دوَام الاحرام وتستحب قَائِما وَقَاعِدا وراكباً وماشياً وجنباً وحائضاً ويتأكد استحبابها فِي كل صعُود وهبوط وَعند حُدُوث أَمر من ركُوب أَو نزُول وَعند اجْتِمَاع الرفاق وَعند اقبال اللَّيْل وَالنَّهَار وَفِي مَسْجِد الْخيف وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَلَا تسْتَحب فِي طواف الْقدوم وَلَا فِي السَّعْي على الْجَدِيد لِأَن لَهما أذكارا تخصهما وَلَا يُلَبِّي فِي طواف الْإِفَاضَة والوداع بِلَا خلاف لخُرُوج وَقت التَّلْبِيَة لِأَنَّهُ يخرج بِالرَّمْي إِلَى جَمْرَة الْعقبَة فيقطعه مَعَ أول حَصَاة وَيسْتَحب للرجل رفع الصَّوْت بهَا دون الْمَرْأَة بل تقتصر على اسماع نَفسهَا فَإِن رفعت كره وَقيل يحرم وَيسْتَحب أَن يكون صَوت الرجل بِالصَّلَاةِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عقيبها دون صَوته بِالتَّلْبِيَةِ
وَيسْتَحب أَن يقْتَصر على تَلْبِيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لبيْك لَا شريك لَك لبيْك إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك لَا شريك لَك والهمزة من ان الْحَمد يجوز فتحهَا وَكسرهَا وَهُوَ أفْصح وَيسْتَحب إِذا فرغ مِنْهَا أَن يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن يسْأَله رضوانه وَالْجنَّة وَأَن يستعيذه(1/218)
من النَّار ثمَّ يَدْعُو بِمَا أحب وَلَا يتَكَلَّم فِي أثْنَاء التَّلْبِيَة وَيكرهُ السَّلَام عَلَيْهِ لَكِن لَو سلم عَلَيْهِ رد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَالله أعلم
وَأما الطّواف فَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع طواف الافاضة وَهُوَ ركن لَا بُد مِنْهُ وَلَا يَصح الْحَج بِدُونِهِ وَطواف الْوَدَاع وَهُوَ وَاجِب وَقيل سنة وَهُوَ الَّذِي اقْتصر عَلَيْهِ الشَّيْخ وَطواف الْقدوم وَهُوَ سنة وَيُسمى أَيْضا طواف الْوُرُود وَطواف التَّحِيَّة لِأَنَّهُ تَحِيَّة الْبقْعَة وَفِي صَحِيح مُسلم أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام طَاف حِين قدم مَكَّة فَلَو دخل وَوجد النَّاس يصلونَ فِي صَلَاة مَكْتُوبَة صلاهَا مَعَهم أَولا وَكَذَا لَو أُقِيمَت الْجَمَاعَة وَهُوَ فِي أثْنَاء الطّواف قطعه وَكَذَا لَو خَافَ فَوت فَرِيضَة أَو سنة مُؤَكدَة وَالطّواف تَحِيَّة الْبَيْت لَا تَحِيَّة الْمَسْجِد
وَاعْلَم أَن الْمَرْأَة الجميلة أَو الشَّرِيفَة الَّتِي تبرز للرِّجَال تُؤخر الطّواف إِلَى اللَّيْل وَلَو كَانَ الشَّخْص مُعْتَمِرًا فَطَافَ للْعُمْرَة أَجزَأَهُ عَن طواف الْقدوم كَمَا تجزىء الْفَرِيضَة عَن تَحِيَّة الْمَسْجِد وَالله أعلم قَالَ
(وَالْمَبِيت بِمُزْدَلِفَة وركعتا الطّواف)
الْمبيت بِمُزْدَلِفَة مُخْتَلف فِيهِ فَقيل إِنَّه ركن وَبِه قَالَ ابْن بنت الشَّافِعِي وَابْن خُزَيْمَة وَمَال إِلَيْهِ ابْن الْمُنْذر وَقواهُ السُّبْكِيّ والاسنائي وَقيل إِنَّه سنة وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام الرَّافِعِيّ والمنهاج وَهُوَ الَّذِي قَالَه الشَّيْخ وَقيل إِنَّه وَاجِب وَصَححهُ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب فعلى هَذَا لَو لم يبت بهَا لزمَه دم وَبِمَ يحصل الْمبيت فِي طرق الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ بمعظم اللَّيْل كَمَا لَو حلف ليبيتن فَإِنَّهُ لَا يبرأ إِلَّا بذلك وَالرَّاجِح عِنْد النَّوَوِيّ أَنه يحصل بلحظة من النّصْف الثَّانِي وَالله أعلم
وَاخْتلف فِي رَكْعَتي الطّواف يَعْنِي طواف الْفَرْض فَقيل بوجوبهما وَالصَّحِيح عدم وجوبهما لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(خمس صلوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَقَالَ هَل عَليّ غَيرهَا قَالَ لَا إِلَّا أَن تطوع) وَالله أعلم قَالَ
(وَالْمَبِيت بمنى وَطواف الْوَدَاع)
اخْتلف فِي مبيت ليَالِي منى فَقيل بِوُجُوبِهِ وَصَححهُ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بَات بهَا وَقَالَ
(خُذُوا عني مَنَاسِككُم) وَقيل أَنه يسْتَحبّ وَهُوَ الَّذِي ذكره الشَّيْخ(1/219)
وَصَححهُ الرَّافِعِيّ وَبِه قطع بَعضهم كالمبيت بمنى لَيْلَة عَرَفَة ثمَّ فِي الْقدر الَّذِي يحصل بِهِ الْمبيت خلاف الرَّاجِح مُعظم اللَّيْل فعلى مَا صَححهُ النَّوَوِيّ لَو ترك الْمبيت ليَالِي منى لزمَه دم على الصَّحِيح وَقيل يجب لكل لَيْلَة دم وَإِن تَركه لَيْلَة فأقوال أظهرها يجْبر بِمد وَقيل بدرهم وَقيل بِثلث دم
ثمَّ هَذَا فِي حق غير المعذورين أما من ترك الْمبيت بِمُزْدَلِفَة وَمنى لعذر كمن وصل إِلَى عَرَفَة لَيْلَة النَّحْر واشتغل بِالْوُقُوفِ عَن مبيت مُزْدَلِفَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَكَذَا لَو أَفَاضَ من عَرَفَة إِلَى مَكَّة وَطَاف للافاضة بعد نصف اللَّيْل ففاته الْمبيت فَقَالَ الْقفال لَا شَيْء عَلَيْهِ لاشتغاله بِالطّوافِ وَمن المعذورين من لَهُ مَال يخَاف ضيَاعه لَو اشْتغل بالمبيت أَو من لَهُ مَرِيض يحْتَاج إِلَى تعهده أَو طلب ضَالَّة أَو آبق فَالصَّحِيح فِي هَؤُلَاءِ وَنَحْوهم أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِم بترك الْمبيت وَلَهُم أَن ينفروا بعد الْغُرُوب وَالله أعلم قَالَ
(ويتجرد عِنْد الاحرام ويلبس إزاراً ورداءً أبيضين)
إِذا أَرَادَ الرجل الْإِحْرَام نزع الْمخيط وَهل نزع ذَلِك أدب كَمَا ذكره الشَّيْخ أَو وَاجِب الَّذِي جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي آخر كَلَامه أَنه يجب التجرد عَن الْمخيط قَالَ لِئَلَّا يصير لابساً للمخيط فِي حَال إِحْرَامه وَبِه جزم النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب نعم كَلَام الْمُحَرر والمنهاج يقْضِي اسْتِحْبَابه وَبِه صرح النَّوَوِيّ فِي مَنَاسِكه وَجعله من الْآدَاب قَالَ الاسنائي وَهُوَ الْمُتَّجه لِأَنَّهُ قبل الْإِحْرَام لم يحصل سَبَب وجوب النزع وَلِهَذَا لَا يجب إرْسَال الصَّيْد قبل الْإِحْرَام بِلَا خلاف وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا أَنه لَو علق الطَّلَاق على الْوَطْء فَإِن الْمَشْهُور أَن لَا يمْتَنع عَلَيْهِ فَإِذا تجرد فَيُسْتَحَب أَن يلبس إزاراً ورداء أبيضين ونعلين لقَوْل ابْن الْمُنْذر ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(ليحرم أحدكُم فِي إِزَار ورداء أبيضين ونعلين) وَقد ورد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(أحرم فِي إِزَار ورداء) وَكَذَا أَصْحَابه رَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن جَابر وَأما الْبيض فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إلبسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا خير ثيابكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم) وَيسْتَحب أَن يَكُونَا جديدين فَإِن لم يكن فنظيفين وَيكرهُ الْمَصْبُوغ وَالله أعلم وَيسْتَحب أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يقْرَأ فِي الأولى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَتكره هَذِه الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة على الصَّحِيح وَلَو صلى(1/220)
الْفَرِيضَة أغنت عَن رَكْعَتي الْإِحْرَام وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن إِن السّنة الرَّاتِبَة تغني عَنْهُمَا أَيْضا وَالله أعلم قَالَ
بَاب مُحرمَات الاحرام
(فصل وَيحرم على الْمحرم عشرَة أَشْيَاء لبس الْمخيط وتغطية الرَّأْس من الرجل وَالْوَجْه من الْمَرْأَة)
إِذا أحرم الرجل حرم عَلَيْهِ أَنْوَاع
الأول اللّبْس فِي جَمِيع بدنه وَرَأسه بِمَا يعد لبساً سَوَاء كَانَ مخيطاً كالقميص والسراويل أَو غَيره كالعمامة والإزار لما ورد
(أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب فَقَالَ لَا تلبسوا من الثِّيَاب الْقَمِيص وَلَا الْعِمَامَة وَلَا السراويلات وَلَا البرانس وَلَا الْخفاف إِلَّا أَن لَا يجد النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ وليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ وَلَا تلبسوا من الثِّيَاب مَا مَسّه ورس أَو زعفران) وَأما فِي الرَّأْس الْخُفَّيْنِ فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمحرم الَّذِي خر عَن بعيره مَيتا
0 - لَا تخمروا رَأسه فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبياً) وَلَا فرق بَين الْمُتَّخذ من الْقطن والكتان والجلود واللبود وَالضَّابِط أَنه تجب الْفِدْيَة بستر مَا يعد ساتراً حَتَّى أَنه لَو طلى رَأسه بطين ثخين أَو حناء أَو مرهم ثخين وَجَبت الْفِدْيَة وَلَا يضر وضع الْيَد على الرَّأْس وَلَا حمل الزنبيل وَنَحْوه وَلَا يشْتَرط لوُجُوب الْفِدْيَة ستر جَمِيع الرَّأْس كَمَا لَا يشْتَرط فِي فديَة الْحلق اسْتِيعَاب الرَّأْس بل يجب بستر قدر يقْصد بستره لغَرَض كستر عصابته ولزقه لجرح وَنَحْوه وَالضَّابِط أَنه تجب الْفِدْيَة بِمَا يُسمى ساتراً سَوَاء ستر كل الرَّأْس أَو بعضه وَلَا تجب الْفِدْيَة بتغطيته بيد الْغَيْر على الْمَذْهَب وَلَو ألْقى القباء أَو الفرجية على كَتفيهِ لَزِمته(1/221)
الْفِدْيَة وَإِن لم يخرج أكمامه لصدق اسْم اللّبْس بذلك سَوَاء طَال الزَّمَان أم قصر وَلَو ارتدى بالفرجية أَو التحف بذلك وَنَحْوه فَلَا وَكَذَا لَو ائتزر بسراويل فَلَا فديَة كَمَا لَو ائتزر بإزار لفقه من رقاع وَيجوز أَن يعْقد الْإِزَار وَهُوَ الَّذِي يشده ليستر عَوْرَته وَيجوز أَن يشد عَلَيْهِ خيطاً وَيجوز أَن يَجْعَل لَهُ مثل مَوضِع التكة وَيدخل فِيهِ خيطاً وَأما الرِّدَاء وَهُوَ الَّذِي يوضع على الأكتاف فَلَا يجوز عقده وَلَا تخليله بخلال وَلَا بمسلة وَلَا ربط طرفه بطرفه الآخر بخيط كَمَا يَفْعَله الْعَوام يضع أحدهم حَصَاة صَغِيرَة ويعقدها بخيط والطرف الآخر كَذَلِك فَهَذَا حرَام وَتجب فِيهِ الْفِدْيَة وَله أَن يتقلد السَّيْف ويشد الهيمان على وَسطه هَذَا كُله فِي الرجل
وَأما الْمَرْأَة فَالْوَجْه فِي حَقّهَا كرأس الرجل وتستر جَمِيع رَأسهَا وبدنها بالمخيط وَلها أَن تستر وَجههَا بِثَوْب أَو خرقَة بِشَرْط أَلا يمس وَجههَا سَوَاء كَانَ لحَاجَة أَو لغير حَاجَة من حر أَو برد أَو خوف فتْنَة وَنَحْو ذَلِك فَلَو أصَاب السَّاتِر وَجههَا باختيارها لَزِمَهَا الْفِدْيَة وَإِن كَانَ بِغَيْر اخْتِيَارهَا فَإِن إِزَالَته فِي الْحَال فَلَا فديَة وَإِلَّا وَجَبت الْفِدْيَة ثمَّ هَذَا كُله حَيْثُ لَا عذر أما الْمَعْذُور كمن احْتَاجَ إِلَى ستر رَأس أَو لبس ثِيَابه لحر أَو برد أَو مداواة ستر وَجَبت الْفِدْيَة وَالله أعلم
(فرع) إِذا لبس الْمحرم وَطيب وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يحرم عَلَيْهِ تعدّدت الْفِدْيَة سَوَاء كَانَ ذَلِك متوالياً أَو مُتَفَرقًا لاخْتِلَاف جنس ذَلِك كَمَا لَو زنى وسرق فَإِنَّهُ يقطع وَيحد وَإِن اتَّحد بِأَن لبس ثمَّ لبس وتكرر ذَلِك مِنْهُ أَو تطيب مرَارًا لزمَه لكل مرّة كَفَّارَة على الصَّحِيح سَوَاء كَانَ بِغَيْر عذر أَو بِعُذْر هَذَا إِذا فعله فِي أَوْقَات مُتَفَرِّقَة أما لَو والى بَين اللّبْس مرَارًا أَو التَّطَيُّب بِحَيْثُ يعد فِي الْعرف متوالياً لزمَه فديَة وَاحِدَة وَالله أعلم قَالَ
(وترجيل الشّعْر وَحلق الشّعْر وتقليم الْأَظْفَار)
ترجيل الشّعْر تسريحه وَهُوَ مَكْرُوه وَكَذَا حكه بالظفر قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب فَلَو فعل فانتتفت شَعرَات لزمَه الْفِدْيَة فَلَو شكّ هَل كَانَ منتتفاً أَو انتتف بالمشط فالراجح أَنه لَا فديَة عَلَيْهِ لِأَن الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة وَيُمكن حمل كَلَام الشَّيْخ على مَا إِذا علم أَن التسريح ينتف الشّعْر لتلبد وَنَحْوه وَأما إِزَالَة الشّعْر بِالْحلقِ فَحَرَام لقَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحَله} وَلَا فرق بَين شعر الرَّأْس وَشعر سَائِر الْبدن وَلَا فرق بَين الْحلق والنتف والقص والاحراق وَكَذَا الْإِزَالَة بالنورة وَنَحْو ذَلِك وَلَو عبر الشَّيْخ بالإزالة لشمل ذَلِك وَإِزَالَة الظفر كالشعر وَلَا فرق بَين القص وَالْقطع بِالسِّنِّ وَالْكَسْر وَغير ذَلِك وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الظفر الْوَاحِد وَغَيره كَمَا فِي الشّعْر وَالله أعلم قَالَ(1/222)
(وَالطّيب)
من الْأَنْوَاع الْمُحرمَة على الْمحرم اسْتِعْمَال الطّيب فِي الثَّوْب وَالْبدن لِأَن ترفه والحاج أَشْعَث أغبر كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر وَلَا فرق بَين اسْتِعْمَاله فِي الظَّاهِر أَو الْبَاطِن كَمَا لَو استنشقه أَو احتقن بِهِ وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الأخشم وَغَيره كَمَا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب ثمَّ الطّيب هُوَ مَا ظهر فِيهِ غَرَض التَّطَيُّب كالورد والياسمين والبنفسج وَالريحَان الْفَارِسِي وَأما اسْتِعْمَاله فَهُوَ أَن يلصق الطّيب بِيَدِهِ أَو ثِيَابه على الْوَجْه الْمُعْتَاد فِي ذَلِك فَلَو احتوى على مبخرة أَو حمل فَأْرَة مسك مشقوقة أَو مَفْتُوحَة أَو جلس على فرَاش مُطيب أَو أَرض مطيبة أَو شده فِي طرف ثَوْبه أَو جعله فِي جيبه أَو لبست الْمَرْأَة الْحلِيّ المحشو بِهِ حرم وَلَو حمل مسكاً أَو غَيره فِي كيس أَو خرقه مشدودة لم يحرم شمه أم لَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَلَو وطئ بنعله طيبا حرم عَلَيْهِ كَذَا أطلقهُ الرَّافِعِيّ وَشرط الْمَاوَرْدِيّ أَن يعلق بِهِ شَيْء مِنْهُ وَنَقله عَن نَص الشَّافِعِي وَالله أعلم وكما يحرم عَلَيْهِ التَّطَيُّب يحرم عَلَيْهِ أكل مَا فِيهِ طيب ظَاهر الطّعْم واللون والرائحة لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل للطيب والترفه فَلَو ظهر طعمه وريحه حرم أَيْضا وَكَذَا الطّعْم مَعَ اللَّوْن وَكَذَا الرّيح وَحده وَالله أعلم قَالَ
(وَقتل الصَّيْد)
أجمع النَّاس على تَحْرِيم قتل الصَّيْد على الْمحرم وَالصَّيْد كل متوحش طبعا لَا يُمكن أَخذه إِلَّا بحيلة وَالْمرَاد بالمتوحش الْجِنْس فَلَا فرق فِيهِ بَين أَن يسْتَأْنس أم لَا وَلَا فرق فِي الصَّيْد بَين الْوَحْش وَالطير لصدق الإسم عَلَيْهِ وكما يحرم الْقَتْل يحرم الِاصْطِيَاد وَهَذَا بالاجماع وَقد نَص الْقُرْآن على مَنعه قَالَ الله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وكما يحرم قَتله يحرم التَّعَرُّض لَهُ بالإيذاء لأجزائه بِالْجرْحِ وَغَيره وكما يشْتَرط أَن يكون وحشياً وَإِن استأنس فَيشْتَرط أَيْضا أَن يكون مَأْكُولا أَو فِي أَصله مَأْكُولا فَلَا يحرم الأنسي وَإِن توحش لِأَنَّهُ لَيْسَ بصيد
وَأما غير الْمَأْكُول إِذا لم يكن فِي أَصله مَأْكُولا فَلَا يحرم التَّعَرُّض لَهُ وَلَا فدَاء على الْمحرم فِي قَتله بل فِي هَذَا النَّوْع يسْتَحبّ قَتله للْمحرمِ وَغَيره وَهِي المؤذيات بل فِي كَلَام الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْأَطْعِمَة مَا يَقْتَضِي الْوُجُوب كالحية وَالْعَقْرَب والفأر وَالْكَلب الْعَقُور والغراب والشوحة وَالذِّئْب والأسد وَالنُّمُور والدب والنسر وَالْعِقَاب والبرغوث والبق والزنبور وَلَو ظهر الْقمل على الْمحرم لم يكره تنحيته وَلَو قَتله لم يلْزمه شَيْء نعم يكره أَن يفلي رَأسه ولحيته فَإِن فعل وَأخرج قملة وقتلها تصدق وَلَو بلقمة نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَهَذَا التَّصَدُّق مُسْتَحبّ وَقيل(1/223)
وَاجِب لما فِيهِ من إِزَالَة الْأَذَى عَن الرَّأْس والصبئان وَهُوَ بيض الْقمل كالقمل نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَالله أعلم قَالَ
(وَعقد النِّكَاح وَالْوَطْء والمباشرة بِشَهْوَة)
يحرم على الْمحرم أَن يتَزَوَّج أَو يُزَوّج سَوَاء كَانَ ذَلِك بِالْوكَالَةِ أَو بِالْولَايَةِ سَوَاء فِي ذَلِك الْولَايَة الْخَاصَّة أَو الْعَامَّة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا ينْكح الْمحرم وَلَا ينْكح) وَفِي رِوَايَة
(لَا يخْطب)
(لَا يتَزَوَّج الْمحرم وَلَا يُزَوّج) فَإِن فعل ذَلِك فَالْعقد بَاطِل لِأَن النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم وَالْفساد وَهُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة وكما يحرم عقد النِّكَاح يحرم الْجِمَاع وَهُوَ تغييب الْحَشَفَة فِي فرج قبلا كَانَ أَو دبراً ذكرا كَانَ المولج فِيهِ أَو أُنْثَى آدَمِيًّا كَانَ أَو بَهِيمَة لقَوْله تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} والرفث الْجِمَاع وَمعنى لَا رفث لَا ترفثوا لَفظه خبر وَمَعْنَاهُ النَّهْي وكما يحرم الْجِمَاع تحرم الْمُبَاشرَة فِيمَا دون الْفرج بِشَهْوَة وَكَذَا الاستمناء لِأَنَّهُ إِذا حرم دواعي الْوَطْء كالطيب وَالْعقد فَلِأَن تحرم هَذِه الْأَشْيَاء أولى وَلِأَنَّهَا تحرم على الْمُعْتَكف وَلَا شكّ أَن الأحرام أكد مِنْهُ وَالله أعلم قَالَ
(وَفِي جَمِيع ذَلِك الْفِدْيَة إِلَّا عقد النِّكَاح فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد وَلَا يُفْسِدهُ إِلَّا الْوَطْء فِي الْفرج وَلَا يخرج مِنْهُ بِالْفَسَادِ)
هَذِه الْمُحرمَات الَّتِي ذكرت من الطّيب وَغَيره من فعلهَا أَو فعل نوعا مِنْهَا بِشَرْطِهِ وَجَبت عَلَيْهِ الْفِدْيَة إِلَّا عقد النِّكَاح لعدم حُصُول الْمَقْصُود مِنْهُ وَهُوَ الإنعقاد بِخِلَاف بَاقِي الْمُحرمَات لِأَنَّهُ استمتع بِمَا هُوَ محرم عَلَيْهِ وَيشْتَرط لوُجُوب الْفِدْيَة فِي الْمُبَاشرَة فِيمَا دون الْفرج الْإِنْزَال صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَإِذا جَامع فسد حجه إِن كَانَ قبل التَّحَلُّل الأول فَإِن كَانَ قبل الْوُقُوف فبالإجماع قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَالْمَاوَرْدِيّ وَإِن كَانَ بعده فقد خَالف فِيهِ أَبُو حنيفَة حجتنا عَلَيْهِ أَنه وَطْء صَادف إحراماً صَحِيحا لم يحصل فِيهِ التَّحَلُّل الأول فَأشبه مَا قبل الْوُقُوف وَإِن وَقع بعد التَّحَلُّل لم يفْسد على الْمَذْهَب وكما يفْسد الْحَج يفْسد الْعمرَة إِلَّا تحلل وَاحِد وَقَوله وَلَا يخرج مِنْهُ بِالْفَسَادِ يَعْنِي يجب عَلَيْهِ أَن يمْضِي فِي حجه ويتمه وَإِن كَانَ فَاسِدا لقَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعمْرَة لله}(1/224)
وكل مَا كَانَ يجب عَلَيْهِ أَن يفعل ويجتنبه فِي الصَّحِيح يجب فِي الْفَاسِد وَيجب مَعَ ذَلِك الْقَضَاء سَوَاء كَانَ الْحَج فرضا أَو تَطَوّعا وَيَقَع الْقَضَاء من الْمُفْسد إِن كَانَ فرضا وَقع عَنهُ فرضا وَإِن كَانَ تَطَوّعا فَعَنْهُ وَيجب الْقَضَاء على الْفَوْر على الْأَصَح وَيجب عَلَيْهِ أَن يحرم فِي الْقَضَاء من الْموضع الَّذِي أحرم مِنْهُ حَتَّى لَو كَانَ أحرم من دويرة أَهله لزمَه وَإِن كَانَ أحرم من الْمِيقَات أحرم مِنْهُ وَإِن كَانَ أحرم بعد مُجَاوزَة الْمِيقَات فَإِن كَانَ جَاوز مسيئاً أحرم من الْمِيقَات الشَّرْعِيّ قطعا وَكَذَا إِن كَانَ غير مسييء على الصَّحِيح بِأَن جاوزه غير مُرِيد للنسك ثمَّ بدا لَهُ فَأحْرم وَأما الْمَرْأَة فَإِن جَامعهَا مُكْرَهَة أَو نَائِمَة لم يفْسد حَجهَا وَإِن كَانَت طَائِعَة عَالِمَة فسد حَجهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَمن فَاتَهُ الْوُقُوف بِعَرَفَة تحلل بِعَمَل عمْرَة وَعَلِيهِ الْقَضَاء وَالْهَدْي وَمن ترك ركنا لم يحل من إِحْرَامه حَتَّى يَأْتِي بِهِ)
إِذا فَاتَ الشَّخْص وَهُوَ حَاج الْوُقُوف بِعَرَفَة بِأَن طلع الْفجْر يَوْم النَّحْر وَلم يحصل بِعَرَفَات فقد فَاتَهُ الْحَج لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(من أدْرك عَرَفَة لَيْلًا فقد أدْرك الْحَج وَمن فَاتَهُ عَرَفَة لَيْلًا فقد فَاتَهُ الْحَج فليهل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل) وَلِأَنَّهُ ركن فقيد بِوَقْت ففات بفواته كَالْجُمُعَةِ ويتحلل على الْفَوْر بِعَمَل عمْرَة وَهُوَ الطّواف وَالسَّعْي وَالْحلق وَلَا بُد من الطّواف بِلَا خلاف وَكَذَا السَّعْي على الْمَذْهَب إِن لم يكن سعى عقيب طواف الْقدوم وَأما الْحلق فَيجب إِن جَعَلْنَاهُ نسكا وَهُوَ الرَّاجِح وَإِلَّا فَلَا وَلَا يجب الرَّمْي بمنى وَكَذَا الْمبيت بهَا وَإِن بفي وقتهما وكما يجب الْقَضَاء يجب الْهَدْي جَاءَ هَبَّار بن الْأسود يَوْم النَّحْر إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَخْطَأنَا الْعدَد فَقَالَ لَهُ عمر اذْهَبْ إِلَى مَكَّة فَطُفْ بِالْبَيْتِ أَنْت وَمن مَعَك واسعوا بَين الصَّفَا والمروة وانحروا هَديا إِن كَانَ مَعكُمْ ثمَّ احْلقُوا أَو قصروا ثمَّ ارْجعُوا فَإِذا كَانَ عَام قَابل فحجوا وأهدوا فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب واشتهر ذَلِك فَلم يُنكره أحد فَكَانَ إِجْمَاعًا
وَاعْلَم أَنه لَا فرق فِي الْفَوات بَين أَن يكون بتقصير كالفوات بأشغال الدُّنْيَا أَو بِلَا تَقْصِير كالنوم وَالله أعلم وَقَوله
(وَمن ترك ركنا لم يحل من إِحْرَامه حَتَّى يَأْتِي بِهِ) يَعْنِي أَنه لَا يجْبر بِدَم بل(1/225)
يتَوَقَّف الْحَج عَلَيْهِ لِأَن مَاهِيَّة الْحَج لَا تحصل إِلَّا بِجَمِيعِ أَرْكَانه والماهية تفوت بِفَوَات جزئها وكما لَو تَمَادى فِي الصَّلَاة قبل الاتيان بِتمَام أَرْكَانهَا فَإِنَّهُ لَا يخرج مِنْهَا إِلَّا بِجَمِيعِ ماهيتها وَالله أعلم
بَاب الدِّمَاء الْوَاجِبَة فِي الْإِحْرَام
فصل والدماء الْوَاجِبَة فِي الْإِحْرَام خَمْسَة أَشْيَاء أَحدهَا الدَّم الْوَاجِب بترك نسك وَهُوَ على التَّرْتِيب شَاة فَإِن لم يجد فَصِيَام عشرَة أَيَّام ثَلَاثَة فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله
اعْلَم أَن الدِّمَاء الْوَاجِبَة فِي الْمَنَاسِك سَوَاء تعلّقت بترك وَاجِب أَو ارْتِكَاب مَنْهِيّ أَي فعل حرَام فواجبها شَاة إِلَّا فِي الْجِمَاع فَالْوَاجِب بَدَنَة وَلَا يُجزئ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَّا مَا يُجزئ فِي الْأُضْحِية إِلَّا فِي جَزَاء الصَّيْد فَإِنَّهُ يجب فِيهِ الْمثل فِي الصَّغِير صَغِير وَفِي الْكَبِير كَبِير ثمَّ هَذِه الْكَفَّارَات قد يكون فِيهَا مَا يجب فِيهِ التَّرْتِيب وَقد يكون فِيهَا مَا يجب فِيهِ التَّخْيِير وَمعنى التَّرْتِيب أَنه يجب عَلَيْهِ الذّبْح وَلَا يجوز الْعُدُول عَنهُ إِلَى غَيره إِلَّا إِذا عجز عَنهُ وَمعنى التخييز أَنه يجوز لَهُ الْعُدُول عَنهُ إِلَى غَيره مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ ثمَّ إِن الدَّم قد يجب على سَبِيل التَّقْدِير مَعَ ذَلِك يَعْنِي أَن الشَّرْع قدر الْبَدَل المعدول إِلَيْهِ ترتيباً كَانَ أَو تخييراً لَا يزِيد وَلَا ينقص وَقد يجب الدَّم على سَبِيل التَّعْدِيل وَمعنى التَّعْدِيل أَنه أَمر فِيهِ بالتقويم والعدول إِلَى غَيره بِحَسب الْقيمَة إِذا عرفت هَذَا فالدم الْمُتَعَلّق بترك المأمورات وَهُوَ معنى قَول الشَّيْخ بترك نسك كَتَرْكِ الْإِحْرَام من الْمِيقَات وَترك الرَّمْي وَالْمَبِيت بِمُزْدَلِفَة لَيْلَة الْعِيد وكذل ترك الْمبيت بمنى ليَالِي التَّشْرِيق وَطواف الْوَدَاع وَفِي هَذَا الدَّم أَرْبَعَة أوجه الصَّحِيح وَبِه قطع الْعِرَاقِيُّونَ وَكثير من غَيرهم أَنه دم تَرْتِيب وَتَقْدِير كَدم التَّمَتُّع وَالْقرَان وَالتَّرْتِيب كَمَا ذكره الشَّيْخ أَنه يجب عَلَيْهِ شَاة فَإِن لم يجدهَا أَلْبَتَّة أَو وجدهَا بِثمن غال عدل إِلَى الصَّوْم وَهُوَ عشرَة أَيَّام ثَلَاثَة فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله وَالْمرَاد الرُّجُوع إِلَى الوطن والأهل فَإِن توطن بِمَكَّة بعد فَرَاغه من الْحَج صَامَ بهَا وَإِن لم يتوطنها لم يجز صَوْمه بهَا وَلَا يجوز صَومهَا فِي الطَّرِيق على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَلَا يَصح صَوْم شَيْء من السَّبْعَة فِي أَيَّام التَّشْرِيق بِلَا خلاف وَإِن قُلْنَا إِنَّهَا قَابِلَة للصَّوْم لِأَنَّهُ يعد فِي الْحَج وَلَو لم يتَّفق أَنه صَامَ الثَّلَاثَة فَرجع لزمَه صَوْم الْعشْرَة وَيجب التَّفْرِيق أَيْضا على الصَّحِيح وَفِي قدره أَقْوَال الرَّاجِح أَنه يفرق بأَرْبعَة أَيَّام وَمُدَّة إِمْكَان السّير إِلَى أَرض الوطن فَلَو لم يصم وَكَانَ قد تمكن مِنْهُ حَتَّى مَاتَ فَقَوْلَانِ الْقَدِيم يَصُوم عَنهُ وليه كَصَوْم رَمَضَان والجديد يطعم عَنهُ من تركته لكل يَوْم مدا فَإِن كَانَ تمكن من الْعشْرَة أَيَّام فعشرة أَمْدَاد وَإِلَّا فبالقسط وَهَذَا معنى التَّقْدِير وَلَا يتَعَيَّن صرف الأمداد إِلَى فُقَرَاء الْحرم على الْأَظْهر وَقد صحّح فِي الْمُحَرر وَتَبعهُ فِي الْمِنْهَاج أَن هَذَا الدَّم دم تَرْتِيب وتعديل فَتجب الشَّاة فَإِن عجز اشْترى بِقِيمَة الشَّاة طَعَاما وَتصدق بِهِ فَإِن عجز صَامَ عَن كل مد يَوْمًا(1/226)
وَهَذَا خلاف مَا فِي الشرحين وَالرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب فاعرفه وَالله أعلم قَالَ
(وَالثَّانِي الدَّم الْوَاجِب بِالْحلقِ والترفه وَهُوَ على التَّخْيِير شَاة أَو صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام أَو التَّصَدُّق بِثَلَاثَة آصَع على سِتَّة مَسَاكِين)
من حلق جَمِيع رَأسه أَو ثَلَاث شَعرَات أَو فعل فِي الْأَظْفَار مثل ذَلِك لزمَه الْفِدْيَة بِدَم وَهُوَ دم تَخْيِير وَتَقْدِير فَيتَخَيَّر بَين أَن يذبح شَاة وَبَين أَن يتَصَدَّق بِثَلَاثَة آصَع على سِتَّة مَسَاكِين لكل مِسْكين نصف صَاع من طَعَام وَبَين أَن يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام
هَذَا هُوَ الْمَذْهَب فِي وَجه لَا يتَقَدَّر مَا يعْطى كل مِسْكين وَالْأَصْل فِي التَّخْيِير قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} التَّقْدِير فحلق شعر رَأسه ففدية ثمَّ إِن كل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة قد ورد بَيَانه فِي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ لَهُ
(أَيُؤْذِيك هوَام رَأسك قَالَ نعم قَالَ انسك شَاة أَو صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أطْعم فرقا من الطَّعَام على سِتَّة مَسَاكِين) وَالْفرق بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء الْمُهْملَة ثَلَاثَة آصَع فقد ورد النَّص فِي الشّعْر والقلم فِي مَعْنَاهُ وَكَذَا بَقِيَّة الاستمتاعات كالطيب والادهان واللبس ومقدمات الْجِمَاع على الْأَصَح لإشتراك الْكل فِي الترفه وَالله أعلم قَالَ
وَالثَّالِث الدَّم الْوَاجِب بالإحصار فيتحلل وَيهْدِي شَاة)
الْحَاج أَو الْمُعْتَمِر إِذا حصر أَي منع من إتْمَام نُسكه كَانَ فِي الْحل أَو الْحرم وَلم يجد طَرِيقا غَيره وَسَوَاء كَانَ الْمَانِع مُسلما أَو كَافِرًا تحلل وَيشْتَرط نِيَّة التَّحَلُّل ويذبح هَديا حَيْثُ أحْصر وَأقله شَاة تُجزئ فِي الْأُضْحِية لقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} تَقْدِير الْآيَة فَإِن أحصرتم فلكم التَّحَلُّل وَعَلَيْكُم مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تحلل بِالْحُدَيْبِية لما صده الْمُشْركُونَ وَكَانَ محرما بِالْعُمْرَةِ وكما يشْتَرط نِيَّة التَّحَلُّل فِي ذبح الْهدى فَكَذَا الْحلق إِذا جَعَلْنَاهُ نسكا وَهُوَ الْأَصَح وَلَا بُد من تَقْدِيم الذّبْح على الْحلق لقَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَقد صرح بذلك الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره وَالله أعلم قَالَ
(وَالرَّابِع الدَّم الْوَاجِب بقتل الصَّيْد وَهُوَ على التَّخْيِير إِن كَانَ الصَّيْد مِمَّا لَهُ مثل أخرج مثله(1/227)
من النعم وَالْغنم وَإِن لم يكن لَهُ مثل قومه وَأخرج بِقِيمَتِه طَعَاما وَيتَصَدَّق بِهِ فَإِن لم يجد صَامَ عَن كل مد يَوْمًا)
الصَّيْد إِذا قَتله الْمحرم وَكَانَ مثلِيا تخير بَين ذبح مثله وَالتَّصَدُّق بِهِ على مَسَاكِين الْحرم وَبَين أَن يقوم الْمثل دَرَاهِم وَيَشْتَرِي بهَا طَعَاما لَهُم أَو يَصُوم عَن كل مد يَوْمًا لقَوْله تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} وَهَذَا فِي الَّذِي يُسمى دم تَخْيِير وتعديل أما التَّخْيِير فَوَاضِح وَأما التَّعْدِيل فَقَوله تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} هَذَا فِي الْمثْلِيّ
أما غير الْمثْلِيّ فَهُوَ مُخَيّر بَين أَن يتَصَدَّق بِقِيمَتِه طَعَاما أَو يَصُوم عَن كل مد يَوْمًا كالمثلي فتخييره بَين هَاتين الخصلتين وَالْعبْرَة فِي هَذِه الْقيمَة بِموضع الْإِتْلَاف لَا بِمَكَّة على الْأَصَح قِيَاسا على كل متْلف بِخِلَاف الصَّيْد الْمثْلِيّ فَإِن الْأَصَح فِيهِ إعتبار الْقيمَة بِمَكَّة يَوْم الْإِخْرَاج لِأَنَّهَا مَحل الذّبْح فَإِذا عدل عَنهُ إِلَى الْقيمَة إعتبرنا مَكَانَهُ فِي ذَلِك الْوَقْت وَقَول الشَّيْخ من النعم وَالْغنم المُرَاد بِالنعَم الْبدن وَإِن كَانَ اسْم النعم يصدق عَلَيْهَا وعَلى الْبَقر وَالْغنم كَمَا مر فِي الزَّكَاة وَفِي الغزال غزال وَيدل لذَلِك الْآيَة الْكَرِيمَة وَفعل الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ أَلا ترى قَوْله تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فَلَمَّا قيد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالنعَم انْصَرف عَن الْجِنْس إِلَى الصُّورَة من النعم وَقد حكم جمع من الصَّحَابَة فِي غير مرّة فِي النعامة ببدنة وَفِي حمَار الْوَحْش وبقرة ببقرة وَقد قضى بذلك الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَقيل إِنَّمَا قضوا بِهِ فِي الْحمار وقيست الْبَقَرَة عَلَيْهِ وَفِي الضبع كَبْش أخبر بِهِ جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن قَضَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَا قضى بِهِ جمع من الصَّحَابَة والضبع الْأُنْثَى وَلَا يُقَال ضبعة وَالذكر ضبعان بِكَسْر الضَّاد وَإِسْكَان الْبَاء وقضت الصَّحَابَة فِي الغزال بعنز وَفِي الأرنب عنَاق حكم بذلك عمر رَضِي الله عَنهُ وَعَطَاء والعناق الانثى من الْمعز إِذا لم يكمل سنة وَالذكر جدي وَفِي(1/228)
الصَّغِير صَغِير وَفِي الْكَبِير كَبِير وَفِي الذّكر ذكر وَفِي الأثنى أُنْثَى وَفِي الصَّحِيح صَحِيح وَفِي المكسور مكسور رِعَايَة فِي كل ذَلِك للمماثلة الَّتِي اقتضتها الْآيَة وَالله أعلم قَالَ
(وَالْخَامِس الدَّم الْوَاجِب بِالْوَطْءِ وَهُوَ على التَّرْتِيب بَدَنَة فَإِن لم يجد فبقرة فَإِن لم يجد فسبع من الْغنم فَإِن لم يجد قوم الْبَدنَة وَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهَا طَعَاما وَيتَصَدَّق بِهِ فَإِن لم يجد صَامَ عَن كل مد يَوْمًا)
هَذَا هُوَ الدَّم الْخَامِس وَهُوَ دم الْجِمَاع وَفِيه اخْتِلَاف كثير جدا للأصحاب وَالْمذهب أَنه دم تَرْتِيب وتعديل فَتجب الْبَدنَة أَولا فَإِن عجز عَنْهَا فبقرة فَإِن عجز عَنْهَا فسبع من الْغنم فَإِن عجز قوم الْبَدنَة بِدَرَاهِم وَالدَّرَاهِم بِطَعَام وَتصدق بِهِ فَإِن عجز صَامَ عَن كل مد يَوْمًا وَاحْتج لوُجُوب الْبَدنَة بِأَن عمر وَابْنه عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا أفتيا بذلك وَكَذَا ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَأما الرُّجُوع إِلَى الْبَقَرَة والسبع من الْغنم لِأَنَّهُمَا فِي الْأُضْحِية كالبدنة وَأما الرُّجُوع إِلَى الْإِطْعَام فَلِأَن الشَّرْع عدل فِي جَزَاء الصَّيْد من الْحَيَوَان إِلَى الْإِطْعَام فَرجع إِلَيْهِ هُنَا عِنْد الْعذر فَلَو تصدق بِالدَّرَاهِمِ لم يجزه وَبِأَيِّ مَوضِع تعْتَبر الْقيمَة فِيهِ أوجه قيل بمنى وَقيل بِمَكَّة فِي أغلب الْأَوْقَات وَالثَّالِث بِموضع مُبَاشرَة السَّبَب وَالَّذِي جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أَنه بِسعْر مَكَّة فِي حَال الْوُجُوب وَأما الَّذِي يدْفع إِلَى كل مِسْكين فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا فِي الرَّوْضَة أَنه غير مُقَدّر كَاللَّحْمِ
وَاعْلَم أَن وجوب الْبَدنَة مَحَله فِي الْجِمَاع الْمُفْسد لِلْحَجِّ أَو الْعمرَة أما إِذا جَامع بَين التحللين وَقُلْنَا لَا يفْسد الْحَج بذلك فَإِنَّهُ لَا يلْزمه بَدَنَة بل شَاة لِأَنَّهُ محرم لم يحصل بِهِ إِفْسَاد فَأشبه الاستمتاعات وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يُجزئهُ الْهَدْي وَلَا الْإِطْعَام إِلَّا فِي الْحرم وَيجزئهُ أَن يَصُوم حَيْثُ شَاءَ)
اعْلَم أَن الْهَدْي قد يكون عَن إحصار وَقد يكون عَن غَيره فَإِن كَانَ عَن إحصار فَلَا يشْتَرط بعث الدَّم الْوَاجِب بِسَبَبِهِ إِلَى الْحرم بل يذبحه حَيْثُ أحْصر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذبح بِالْحُدَيْبِية وَهُوَ من الْحل وَمَا سَاقه من الْهَدْي حكمه حكم دم الاحصار وَأما الدَّم الْوَاجِب بِفعل حرَام أَو ترك وَاجِب فَيخْتَص ذبحه بِالْحرم فِي الْأَظْهر لقَوْله تَعَالَى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}(1/229)
وَيجب صرف لَحْمه إِلَى مَسَاكِين الْحرم لِأَن الْمَقْصُود اللَّحْم إِذا لاحظ لَهُم فِي إِرَاقَة الدَّم وَلَا فرق فِي الْمَسَاكِين بَين المقيمين والطارئين نعم الصّرْف إِلَى المتوطنين أفضل فَلَو ذبح فِي الْحرم وسرق اللَّحْم سقط حكم الذّبْح وَبَقِي اللَّحْم فإمَّا أَن يذبح شَاة ثَانِيًا وَإِمَّا أَن يَشْتَرِي اللَّحْم وَلَو كَانَ يتَصَدَّق بالاطعام بَدَلا عَن الذّبْح وَجب تَخْصِيصه أَيْضا بمساكين الْحرم لِأَنَّهُ بدل اللَّحْم بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِ حَيْثُ شَاءَ وَالْفرق أَنه لَا غَرَض للْمَسَاكِين فِي الصّيام فِي الْحرم بِخِلَاف الاطعام
وَأَقل مَا يَجْزِي أَن يدْفع الْوَاجِب إِلَى ثَلَاثَة من مَسَاكِين الْحرم إِن قدر فَإِن دفع إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ الْقُدْرَة على ثَالِث ضمن وَفِي قدر الضَّمَان وَجْهَان قيل الثُّلُث وَقيل مَا يَقع عَلَيْهِ الإسم وَتلْزَمهُ النِّيَّة عِنْد التَّفْرِقَة فَإِن فرق الطَّعَام فَهَل يتَعَيَّن لكل مِسْكين مد الرَّاجِح أَنه لَا يتَعَيَّن بل يجوز الزِّيَادَة على مد وَالنَّقْص مِنْهُ وَالله أعلم
(تَنْبِيه) كثير من المتفقهة وغالب المتصوفة وَجل الْعَوام يَعْتَقِدُونَ أَن عَرَفَات يجوز الذّبْح بهَا فَيذبحُونَ دم الْحَيَوَانَات بهَا وَكَذَا دم الْمُتَمَتّع وَالْقُرْآن ثمَّ ينقلون اللَّحْم إِلَى الْحرم وَهَذَا الذّبْح غير جَائِز فَلَا يَجْزِي فَليعلم ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز قتل صيد الْحرم وَلَا قطع شَجَره للمحل وَالْمحرم مَعًا)
صيد حرم مَكَّة على الْمحرم والحلال وَكَذَا يحرم قطع نَبَاته كاصطياد صَيْده فَيحرم التَّعَرُّض لشجره بِالْقطعِ أَو الْقلع إِذا كَانَ رطبا غير مؤذ واحترزنا بالرطب عَن الْيَابِس فَإِنَّهُ لَا يحرم وَلَا جَزَاء فِيهِ كَمَا لَو قد صيدا مَيتا نِصْفَيْنِ واحترزنا بِقَيْد غير مؤذ عَن كل شَجَرَة ذَات شوك فَإِنَّهُ يجوز كالحيوان المؤذي فَلَا يتَعَلَّق بِقطع ضَمَان على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَالْحجّة على ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة
(إِن هَذَا الْبَلَد حرَام بِحرْمَة الله لَا يعضد شَجَره وَلَا ينفر صَيْده وَلَا تلْتَقط لقطته إِلَّا من عرفهَا وَلَا يخْتَلى خلاه قَالَ الْعَبَّاس يَا رَسُول اله إِلَّا الأذخر فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِم وَبُيُوتهمْ قَالَ إِلَّا الْإِذْخر) قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا يعضد) مَعْنَاهُ لَا يقطع وَقَوله
(وَلَا يخْتَلى خلاه) مَعْنَاهُ لَا ينتزع بِالْأَيْدِي وَغَيرهَا كالمناجل والقين الْحداد وَمعنى كَونه لبيوتهم أَنهم يسقفونها بذلك فَوق الْخشب وَذَلِكَ يحث على فضل سكناهَا وَقَول الشَّيْخ وَلَا قطع شَجَره يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه يجوز أَخذ الْوَرق وَهُوَ كَذَلِك لَكِن لَا يخبطها مَخَافَة أَن يُصِيب قشورها وَلَو(1/230)
أَخذ غصنا وَلم يخلق فَعَلَيهِ الضَّمَان وَإِن أخلف فِي تِلْكَ السّنة لكَون الْغُصْن لطيفاً كالسواك وَغَيره فَلَا ضَمَان كالأوراق وكما يحرم قطع الشّجر كَذَا يحرم قطع نَبَات الْحرم الَّذِي لَا يستنبت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وَلَا يخْتَلى خلاه) والخلا هُوَ الرطب من الْحَشِيش وَإِذا حرم الْقطع حرم الْقلع من بَاب أولى نعم يجوز تَسْرِيح الْبَهَائِم فِيهِ لترعى فَلَو أَخذه لعلف الْبَهَائِم جَازَ على الْأَصَح كَمَا يجوز تسريحها فِيهِ وَقيل لَا يجوز لظَاهِر الحَدِيث فعلى الْأَصَح لَو قطعه شخص ليَبِيعهُ مِمَّن يعلفه لم يجز قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَيسْتَثْنى مَا إِذا أَخذه للدواء أَيْضا على الْأَصَح لِأَن هَذِه الْحَاجة أهم من الْحَاجة إِلَى الأذخر وَيجوز قطع الغذخر لحَاجَة السقوف وَغَيرهَا للْحَدِيث الصَّحِيح وَهل يلْحق بَقِيَّة الْحَشِيش بالأذخر لأجل السّقف وَنَحْوه قَالَ الْغَزالِيّ فِيهِ الْخلاف فِي قطعه للدواء وَمُقْتَضَاهُ رُجْحَان الْجَوَاز وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام الْحَاوِي الصَّغِير فَإِنَّهُ جوز الْقطع للْحَاجة مُطلقًا وَلم يَخُصُّهُ بالدواء وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة قل من تعرض لَهَا وَالله أعلم
(فرع) الْأَصَح أَنه يحرم نقل تُرَاب الْحرم وأحجاره إِلَى الْحل وَكَذَا حرم الْمَدِينَة قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب فِي أَوَاخِر صفة الْحَج وَجزم بِهِ إِلَّا أَنه نقل عَن الْأَكْثَرين فِي مَحْظُورَات الْإِحْرَام أَنه يكره يَعْنِي تُرَاب الْمَدِينَة وأحجارها قَالَ الأسنائي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم على الْمَسْأَلَة وَقَالَ إِنَّه يحرم فالفتوى بِهِ وَالله أعلم قَالَ(1/231)
كتاب الْبيُوع وَغَيرهَا من الْمُعَامَلَات
بَاب أَنْوَاع الْبيُوع
(الْبيُوع ثَلَاثَة اشياء بيع عين مُشَاهدَة فَجَائِز)
البيع فِي اللُّغَة إِعْطَاء شَيْء فِي مُقَابلَة شَيْء وَفِي الشَّرْع مُقَابلَة مَال بِمَال قابلين للتَّصَرُّف بِإِيجَاب وَقبُول على الْوَجْه الْمَأْذُون فِيهِ
وَالْأَصْل فِي مَشْرُوعِيَّة البيه الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} وَمن السّنة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(البيعان بِالْخِيَارِ) وَغير ذَلِك وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على ذَلِك
ثمَّ إِن البيع قد يكون على عين حَاضِرَة وَقد يكون على شَيْء فِي الذِّمَّة وَهُوَ السّلم وَقد يكون على عين غَائِبَة وَحكم السّلم وَالْعين الغائبة يَأْتِي وَأما الْعين الْحَاضِرَة فَإِن وَقع العقد عَلَيْهَا بِمَا يعْتَبر فِيهِ وفيهَا صَحَّ العقد وَإِلَّا فَلَا أما الْمُعْتَبر فِي الْعين فقد ذكر الشَّيْخ بعضه وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما العقد فأركانه ثَلَاثَة قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الْعَاقِد ويشمل البَائِع وَالْمُشْتَرِي والصيغة وَهِي الْإِيجَاب وَالْقَبُول والمعقود عَلَيْهِ وَله شُرُوط ستأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَيشْتَرط مَعَ هَذَا أَهْلِيَّة البَائِع وَالْمُشْتَرِي فَلَا يَصح بيع الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالسَّفِيه وَيشْتَرط أَيْضا فيهمَا الإختيار فَلَا يَصح بيع الْمُكْره إِلَّا إِذا أكره بِحَق بِأَن توجه عَلَيْهِ بيع مَاله لوفاء دين أَو شِرَاء مَال أسلم(1/232)
فِيهِ فأكرهه الْحَاكِم على بَيْعه وشرائه لِأَنَّهُ إِكْرَاه بِحَق وَيصِح بيع السَّكْرَان وشراؤه على الْمَذْهَب وَأما الصِّيغَة فكقوله بِعْت وملكت وَنَحْوهَا وَيَقُول المُشْتَرِي قبلت أَو ابتعت وَلَا يشْتَرط توَافق اللَّفْظَيْنِ فَلَو قَالَ مَلكتك هَذَا الْعين بِكَذَا فَقَالَ اشْتريت أَو عَكسه صَحَّ وكما يشْتَرط الْإِيجَاب وَالْقَبُول يشْتَرط أَن لَا يطول الْفَصْل بَينهمَا إِمَّا بِأَن لَا تنفصل النِّيَّة أَو يفصل بِزَمَان قصير فَإِن طَال ضرّ لِأَن الطول يخرج الثَّانِي عَن أَن يكون جَوَابا والطويل مَا أشعر بإعراضه عَن الْقبُول كَذَا ذكره النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة فِي كتاب النِّكَاح وَلَو لم يُوجد إِيجَاب وَقبُول بِاللَّفْظِ وَلَكِن وَقعت معاطاة كعادات النَّاس بِأَن يُعْطي المُشْتَرِي البَائِع الثّمن فيعطيه فِي مُقَابلَة البضاعة الَّتِي يذكرهَا المُشْتَرِي فَهَل يَكْفِي ذَلِك الْمَذْهَب فِي أصل الرَّوْضَة أَنه لَا يَكْفِي لعدم وجود الصِّيغَة وَخرج ابْن سُرَيج قولا أَن ذَلِك يَكْفِي فِي المحقرات وَبِه أفتى الرَّوْيَانِيّ وَغَيره والمحقر كرطل خبز وَنَحْوه مِمَّا يعْتَاد فِيهِ المعاطاة وَقَالَ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى ووسع عَلَيْهِ ينْعَقد البيع بِكُل مَا يعده النَّاس بيعا وَاسْتَحْسنهُ الإِمَام البارع ابْن الصّباغ وَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام الزَّاهِد أَبُو زَكَرِيَّا محيي الدّين النَّوَوِيّ قلت هَذَا الَّذِي استحسنه ابْن الصّباغ هُوَ الرَّاجِح دَلِيلا وَهُوَ الْمُخْتَار لِأَنَّهُ لم يَصح فِي الشَّرْع اشْتِرَاط اللَّفْظ فَوَجَبَ الرُّجُوع إِلَى الْعرف كَغَيْرِهِ وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ الْمُتَوَلِي وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا وَالله أعلم
قلت وَمِمَّا عَمت بِهِ الْبلوى بعثان الصغار لشراء الْحَوَائِج وأطردت فِيهِ الْعَادة فِي سَائِر الْبِلَاد وَقد تَدْعُو الضَّرُورَة إِلَى ذَلِك فَيَنْبَغِي إِلْحَاق ذَلِك بالمعاطاة إِذا كَانَ الحكم دائراً مَعَ الْعرف مَعَ أَن الْمُعْتَبر فِي ذَلِك التَّرَاضِي ليخرج بالصيغة عَن أكل مَال الْغَيْر بِالْبَاطِلِ فَإِنَّهَا دَالَّة على الرِّضَا فَإِذا وجد الْمَعْنى الَّذِي اشْترطت الصِّيغَة لأَجله فَيَنْبَغِي أَن يكون هُوَ الْمُعْتَمد بِشَرْط أَن يكون الْمَأْخُوذ يعدل الثّمن وَقد كَانَت المغيبات يبْعَثْنَ الْجَوَارِي والغلمان فِي زمن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لشراء الْحَوَائِج فَلَا يُنكره وَكَذَا فِي زمن غَيره من السّلف وَالْخلف وَالله أعلم قَالَ
(وَبيع شَيْء مَوْصُوف فِي الذِّمَّة فَجَائِز وَبيع عين غَائِبَة لم تشاهد فَلَا يجوز)
البيع إِن كَانَ سلما فَسَيَأْتِي وَإِن كَانَ على عين غَائِبَة لم يرهَا المُشْتَرِي وَلَا البَائِع أَو لم يرهَا أحد الْمُتَعَاقدين وَفِي معنى الغائبة الْحَاضِرَة الَّتِي لم تَرَ وَفِي صِحَة بيع ذَلِك قَولَانِ
أَحدهمَا وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيم والجديد أَنه لَا يَصح وَبِه قَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَطَائِفَة من أَئِمَّتنَا وأفتوا بِهِ مِنْهُم الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيّ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَهَذَا القَوْل قَالَه جُمْهُور الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالله أعلم قلت وَنَقله الْمَاوَرْدِيّ عَن جُمْهُور أَصْحَابنَا قَالَ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي سِتَّة مَوَاضِع وَاحْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيث إِلَّا أَنه ضَعِيف ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَالله أعلم والجديد الْأَظْهر وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي سِتَّة مَوَاضِع أَنه لَا يَصح لِأَنَّهُ غرر وَقد نهى(1/233)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْغرَر وَقَوله لم تشاهد يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه إِذا شوهدت وَلكنهَا كَانَت وَقت العقد غَائِبَة أَنه يجوز وَهَذَا فِيهِ تَفْصِيل وَهُوَ أَنه إِن كَانَت الْعين مِمَّا لَا تَتَغَيَّر غَالِبا كالأواني وَنَحْوهمَا أَو كَانَت لَا تَتَغَيَّر فِي الْمدَّة المتخللة بَين الرُّؤْيَة وَالشِّرَاء صَحَّ العقد لحُصُول الْعلم الْمَقْصُود ثمَّ إِن وجدهَا كَمَا رَآهَا فَلَا خِيَار لَهُ إِذْ لَا ضَرَر وَإِن وجدهَا متغيرة فَالْمَذْهَب أَن العقد صَحِيح وَله الْخِيَار وَإِن كَانَت الْعين مِمَّا تَتَغَيَّر فِي تِلْكَ الْمدَّة غَالِبا بِأَن رأى مَا يسْرع فَسَاده من الْأَطْعِمَة فَالْبيع بَاطِل وَإِن مَضَت مُدَّة يحْتَمل أَن تَتَغَيَّر فِيهَا وَألا تَتَغَيَّر أَو كَانَ حَيَوَانا فَالْأَصَحّ الصِّحَّة لِأَن الأَصْل عدم التَّغَيُّر فَإِن وجدهَا متغيرة فَلهُ الْخِيَار فَلَو اخْتلفَا فَقَالَ المُشْتَرِي تَغَيَّرت وَقَالَ البَائِع هِيَ بِحَالِهَا فَالْأَصَحّ الْمَنْصُوص أَن القَوْل قَول المُشْتَرِي مَعَ يَمِينه لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ الْعلم بِهَذِهِ الصّفة فَلم يقبل كَمَا لَو ادّعى عَلَيْهِ أَنه اطلع على الْعَيْب وَالله أعلم قَالَ
(وَيصِح بيع كل طَاهِر منتفع بِهِ مَمْلُوك وَلَا يَصح بيع عين نَجِسَة وَمَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ)
اعْلَم أَن الْمَبِيع لَا بُد أَن يكون صَالحا لِأَن يعْقد عَلَيْهِ ولصلاحيته شُرُوط خَمْسَة
أَحدهَا كَونه طَاهِرا
الثَّانِي أَن يكون مُنْتَفعا بِهِ
الثَّالِث أَن يكون الْمَبِيع مَمْلُوكا لمن يَقع العقد لَهُ وَهَذِه الثَّلَاثَة ذكرهَا الشَّيْخ
الشَّرْط الرَّابِع الْقُدْرَة على تَسْلِيم الْمَبِيع
الْخَامِس كَون الْمَبِيع مَعْلُوما فَإِذا وجدت هَذِه الشُّرُوط صَحَّ البيع وَاحْترز بالطاهر عَن نجس الْعين وَقد ذكره فَلَا يَصح بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير وَالْكَلب والأصنام لقَوْل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِن الله تَعَالَى حرم بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير والاصنام) وَورد أَيْضا أَنه نهى عَن ثمن الْكَلْب وَجه الدَّلِيل أَن فِيهَا مَنَافِع الْخمْرَة تطفى بهَا النَّار وَالْميتَة تطعم للجوارح ويوقد شحمها وودكها يطلى بِهِ السفن وَالْكَلب يصيد ويحرس فَدلَّ على أَن الْعلَّة النَّجَاسَة فَأَما الْمُتَنَجس فَإِن أمكن تَطْهِيره كَالثَّوْبِ وَنَحْوه صَحَّ لِأَن جوهره طَاهِر وَإِن لم يُمكن تَطْهِيره كالدبس وَاللَّبن وَنَحْوهمَا فَلَا يَصح لانمحاقه بِالْغسْلِ وَوُجُود النَّجَاسَة وَنقل النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الْإِجْمَاع على(1/234)
الِامْتِنَاع وَأما الادهان المتنجسة كالزيت وَنَحْوه فَهَل يُمكن تطهيرها فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا لَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(سُئِلَ عَن الْفَأْرَة تَمُوت فِي السّمن فَقَالَ إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وَإِن كَانَ ذائباً فأريقوه) فَلَو أمكن تَطْهِيره لم يجز إراقته لِأَن إِضَاعَة مَال مَعَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن إِضَاعَة المَال
وَهل يجوز هبة الزَّيْت الْمُتَنَجس وَنَحْوه وَالصَّدَََقَة بِهِ عَن القَاضِي أبي الطّيب منعهما قَالَ الرَّافِعِيّ وَيُشبه أَن يكون فِيهَا مَا فِي هبة الْكَلْب من الْخلاف قَالَ النَّوَوِيّ وَيَنْبَغِي أَن يقطع بِصِحَّة الصَّدَقَة بِهِ للاستصباح وَنَحْوه وَقد جزم الْمُتَوَلِي بِأَن يجوز نقل الْيَد فِيهِ بِالْوَصِيَّةِ وَغَيرهَا وَالله أعلم
وَأما الشَّرْط الثَّانِي وَهُوَ أَن يكون مُنْتَفعا بِهِ فاحترز بِهِ عَمَّا لَا مَنْفَعَة فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَصح بَيْعه وَلَا شِرَاؤُهُ وَأخذ المَال فِي مُقَابلَته من بَاب أكل المَال بِالْبَاطِلِ وَقد نهى الله تَعَالَى عَنهُ فَمن ذَلِك بيع العقارب والحيات والنمل وَنَحْو ذَلِك وَلَا نظر إِلَى مَنَافِعهَا المعدودة من خواصها وَفِي معنى هَذِه السبَاع الَّتِي لَا تصلح للاصطياد والقتال عَلَيْهَا كالأسد وَالذِّئْب والنمر وَلَا نظر الى اعتناء الْمُلُوك السفلة المشغولين باللهو بهَا وَكَذَا لَا يجوز بيع الْغُرَاب وَنَحْوه وَلَا نظر إِلَى الريش لأجل النبل لِأَنَّهُ ينجس بالانفصال وَكَذَا لَا يجوز بيع السمُوم وَلَا نظر إِلَى دسه فِي طَعَام للْكفَّار وَأما مَا يَفْعَله الْمُلُوك فِي دس طَعَام الْمُسلمين فَهُوَ من الْأَفْعَال الخبيثة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} الْآيَة
وَأما آلَات اللَّهْو المشغلة عَن ذكر الله فَإِن كَانَت بعد كسرهَا لَا تعد مَالا كالمتخذة من الْخشب وَنَحْوه فبيعها بَاطِل لِأَن مَنْفَعَتهَا مَعْدُومَة شرعا وَلَا يفعل ذَلِك إِلَّا أهل الْمعاصِي وَذَلِكَ كالطنبور والمزمار والرباب وَغَيرهَا وَإِن كَانَت بعد كسرهَا ورضها تعد مَالا كالمتخذة من الْفضة وَالذَّهَب وَكَذَا الصُّور وَبيع الْأَصْنَام فَالْمَذْهَب الْقطع بِالْمَنْعِ الْمُطلق وَبِه أجَاب عَامَّة الْأَصْحَاب لِأَنَّهَا على هيئتها آلَة الْفسق وَلَا يقْصد مِنْهَا غَيره وَأما الْجَارِيَة الْمُغنيَة الَّتِي تَسَاوِي ألفا بِلَا غناء إِذا إشتراها بِأَلفَيْنِ هَل يَصح قَالَ الأودني يَصح وَقَالَ المحمودي بِالْبُطْلَانِ وَقَالَ أَبُو زيد إِن قصد الْغناء بَطل وَإِلَّا فَلَا
قلت فِي حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ
(من جلس إِلَى قينة يستمع مِنْهَا صب فِي أُذُنَيْهِ الآنك)(1/235)
ولآنك بِالْمدِّ وَضم النُّون هُوَ الرصاص الْمُذَاب رَوَاهُ ابْن قُتَيْبَة وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(يمسح أنَاس من أمتِي فِي آخر الزَّمَان قردة وَخَنَازِير قَالُوا يَا رَسُول الله أَلَيْسَ يشْهدُونَ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله قَالَ بلَى وَلَكنهُمْ اتَّخذُوا المعازف والقينات والدفوف فَبَاتُوا على لهوهم ولعبهم فَأَصْبحُوا وَقد مسخوا قردة وَخَنَازِير) وَأخرج البُخَارِيّ نَحوه وَالله أعلم وَيجْرِي الْخلاف الْمَذْكُور فِي الْجَارِيَة الْمُغنيَة وَفِي كَبْش النطاح والديك للهراش وَالله أعلم
وَأما الشَّرْط الثَّالِث وَهُوَ أَن يكون الْمَبِيع مَمْلُوكا لمن يَقع عَلَيْهِ العقد لَهُ فَإِن بَاشر العقد لنَفسِهِ فَلْيَكُن لَهُ وَإِن بَاشرهُ لغيره إِمَّا بِولَايَة أَو بوكالة فَلْيَكُن لذَلِك الْغَيْر فَلَو بَاعَ مَال غَيره بِلَا ولَايَة وَلَا وكَالَة فالجديد الْأَظْهر بطلَان البيه لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا طَلَاق إِلَّا فِيمَا يملك وَلَا عتاق إِلَّا فِيمَا يملك وَلَا بيع إِلَّا فِيمَا يملك وَلَا وَفَاء بِنذر إِلَّا فِيمَا يملك) وَالْقَدِيم أَنه مَوْقُوف إِن جَازَ مَالِكه نفذ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْجَدِيد أَيْضا وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث عُرْوَة فَإِنَّهُ قَالَ
(دفع إِلَيّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دِينَارا لأشتري لَهُ شَاة فاشتريت لَهُ شَاتين فَبِعْت إِحْدَاهمَا بِدِينَار وَجئْت بِالشَّاة وَالدِّينَار إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت لَهُ مَا كَانَ من أَمْرِي فَقَالَ بَارك الله لَك فِي صَفْقَة يَمِينك) قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ قوي وَذكره الْمحَامِلِي والشاشي والعمراني وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ وَالله أعلم
قلت وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْأُم فِي بَاب الْغَضَب وَالله أعلم
وَشَرطه إجَازَة من يملك التَّصَرُّف وَقت العقد حَتَّى لَو بَاعَ مَال الطِّفْل وَبلغ وَأَجَازَ لم ينفذ وَكَذَا لَو بَاعَ مَال الْغَيْر ثمَّ ملكه وَأَجَازَ لم ينفذ صرح بِهِ الرَّافِعِيّ قَالَ وَالْقَوْلَان جاريان فِيمَا لَو زوج أمة الْغَيْر أَو ابْنَته أَو طلق منكوحته أَو أعتق عَبده أَو أجر دَاره أَو وَقفهَا بِغَيْر إِذْنه وَضبط الإِمَام مَحل الْقَوْلَيْنِ بِأَن يكون العقد يقبل الاستبانة وَالله أعلم
وَأما الشَّرْط الرَّابِع وَهُوَ الْقُدْرَة على التَّسْلِيم فَلَا بُد مِنْهُ سَوَاء الْقُدْرَة الحسية أَو الشَّرْعِيَّة فَلَو لم يقدر على التَّسْلِيم حسيا كَبيع الضال والآبق فَلَا يَصح لِأَن الْمَقْصُود الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ وَهُوَ مَفْقُود(1/236)
وَلَو بَاعَ الْعين الْمَغْصُوبَة مِمَّا لَا يقدر على انتزاعها من الْغَاصِب فَلَا يَصح وَإِن قدر فَالْأَصَحّ الصِّحَّة لحُصُول الْمَقْصُود بِالْمَبِيعِ ثمَّ إِن علم المُشْتَرِي الْحَال فَلَا خِيَار لَهُ وَلَو عجز المُشْتَرِي عنالانتزاع من الْغَاصِب لضعف عرض لَهُ أَو قُوَّة عرضت للْغَاصِب فَلهُ الْخِيَار على الصَّحِيح وَإِن كَانَ جَاهِلا حَال العقد فَلهُ الْخِيَار على الصَّحِيح وَلَو بَاعَ الْآبِق مِمَّن سهل عَلَيْهِ رده فَفِيهِ الْوَجْهَانِ فِي الْمَغْصُوب وَيجوز تَزْوِيج الآبقة والمغصوبة واعتاقهما وَلَا يجوز بيع الطير فِي الْهَوَاء والسمك فِي المَاء للغرر وَلَو بَاعَ الْحمام طائراً اعْتِمَادًا على عوده لَيْلًا فَوَجْهَانِ كَمَا فِي النَّحْل أصَحهمَا عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ الصِّحَّة كَالْعَبْدِ الْمَبْعُوث فِي شغل وأصحهما عِنْد الْجُمْهُور الْمَنْع إِذْ لَا وثوق بعودها لعدم عقلهَا وَصحح النَّوَوِيّ فِي النَّحْل الصِّحَّة وَلَو بَاعَ نصف سيف وَنَحْوه معينا لم يَصح لِأَن تَسْلِيمه لَا يَصح إِلَّا بكسره وَفِيه نقص وتضييع لِلْمَالِ وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ بِخِلَاف مَا لَو بَاعه جُزْءا مشَاعا فَإِنَّهُ يَصح وَيصير شَرِيكا وَكَذَا حكم الثَّوْب النفيس الَّذِي ينقص بِالْقطعِ وَلَو كَانَ الثَّوْب غليظاً لَا ينقص بِالْقطعِ صَحَّ البيع على الصَّحِيح إِذْ لَا مَحْذُور وَالله أعلم هَذَا كُله فِي الْمَانِع الْحسي أما الْمَانِع الشَّرْعِيّ فكبيع الشَّيْء الْمَرْهُون إِذن الْمُرْتَهن إِذا كَانَ الْمَرْهُون مَقْبُوضا لِأَنَّهُ مَمْنُوع من تَسْلِيمه شرعا إِذْ لَو جَازَ ذَلِك لبطلت فَائِدَة الرَّهْن وَالله أعلم
وَأما الشَّرْط الْخَامِس وَهُوَ كَون الْمَبِيع مَعْلُوما فَلَا بُد مِنْهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نهي عَن بيع الْغرَر) نعم لَا يشْتَرط الْعلم بِهِ من كل وَجه بل يشْتَرط الْعلم بِعَيْنِه وَقدره وَصفته أما الْمعِين فَمَعْنَاه أَن يَقُول بِعْتُك هَذَا وَنَحْوه بِخِلَاف مَا لَو قَالَ بِعْتُك عبدا من عَبِيدِي أَو شَاة من هَذِه الْغنم فَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ غير معِين وَهُوَ غرر وَكَذَا لَو قَالَ بِعْتُك هَذَا القطيع إِلَّا وَاحِدَة لَا يَصح وَسَوَاء تَسَاوَت الْقيمَة فِي العبيد وَالْغنم أم لَا وَأما الْقدر فَلَا بُد من مَعْرفَته حَتَّى لَو قَالَ بِعْتُك ملْء هَذِه الغرارة حِنْطَة أَو بزنة هَذِه الصَّخْرَة زبيباً لم يَصح البيع وَكَذَا لَو قَالَ بِعْتُك بِمثل مَا بَاعَ فلَان سلْعَته أَو قَالَ بِعْتُك بالسعر الَّذِي يُسَاوِي فِي السُّوق فَلَا يَصح لوُجُود الْغرَر بِخِلَاف مَا لَو قَالَ بِعْتُك هَذَا الْقَمْح كل كيل بِكَذَا فَإِنَّهُ يَصح وَإِن كَانَت جملَة الْقَمْح مَجْهُولَة فِي الْحَال لِأَن الْجَهَالَة انْتَفَت بِذكر الْكَيْل وَلَو قَالَ بِعْتُك من هَذِه الصُّبْرَة كل صَاع بدرهم لم يَصح على الصَّحِيح لِأَن الْمَبِيع مَجْهُول وَذكر مُقَابِله كل كيل بدرهم لَا يُخرجهُ عَن الْجَهَالَة
وَاعْلَم أَن قَوْلنَا ملْء هَذِه الغرارة حِنْطَة أَو بزنة هَذِه الصَّخْرَة زبيباً مَحَله إِذا كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ فِي الذِّمَّة أما إِذا كَانَ حَاضرا بِأَن قَالَ بِعْتُك ملْء هَذِه الغرارة من هَذِه الْحِنْطَة أَو بزنة هَذِه الصَّخْرَة من هَذَا الزَّبِيب فَإِنَّهُ يَصح على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا غرر وَلَا مَكَان الشُّرُوع فِي الْوَفَاء عِنْد العقد وَقد صرح الرَّافِعِيّ فِي بَاب السّلم بِهَذَا الحكم وَالتَّعْلِيل وَالله أعلم(1/237)
وَأما الصّفة فَفِيهَا مسَائِل مِنْهَا أَن استقصاء الْأَوْصَاف على الْحَد الْمُعْتَبر فِي السّلم يقوم مقَام الرُّؤْيَة وَكَذَا سَماع وَصفه بطرِيق التَّوَاتُر فِيهِ خلاف الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ أَنه لَا يَصح إِذْ الْوَصْف فِي مثل هَذَا لَا يقوم مقَام الرُّؤْيَة وَمِنْهَا رُؤْيَة بعض الْمَبِيع دون بعض فَإِن كَانَ مِمَّا يسْتَدلّ بِرُؤْيَة بعضه على الْبَاقِي صَحَّ البيع مثل رُؤْيَة ظَاهر صبرَة الْقَمْح وَنَحْوهَا وَلَا خِيَار لَهُ إِذا رأى بَاطِنهَا إِلَّا إِذا خَالف ظَاهرهَا وَفِي معنى الْحِنْطَة وَالشعِير صبرَة الْجَوْز واللوز وَنَحْوهمَا والدقيق فَلَو كَانَ مِنْهَا شَيْء فِي وعَاء فَرَأى أَعْلَاهُ وَلم ير أَسْفَله أَو رأى السّمن وَالزَّبِيب وَبَقِيَّة الْمَائِعَات فِي ظروفها كفى وَلَا يَكْفِي رُؤْيَة ظَاهر حَبَّة الرُّمَّان والبطيخ والسفرجل بل لَا بُد من رُؤْيَة كل وَاحِدَة مِنْهَا لاختلافها وَأما التَّمْر فَإِن لم يلزق حباته فحبته كحبة الْجَوْز واللوز وَإِن التزقت القوصرة كفى رُؤْيَة أَعْلَاهَا على الصَّحِيح وَأما الْقطن فِي الْعدْل فَهَل يَكْفِي رُؤْيَة أَعْلَاهُ أم لَا بُد من رُؤْيَة جَمِيعه فِيهِ خلاف حَكَاهُ الصَّيْمَرِيّ وَقَالَ الْأَشْبَه عِنْدِي أَنه كقوصرة التَّمْر وَمِنْهَا مَسْأَلَة الْعين كَمَا إِذا كَانَ عِنْده قَمح فَأخذ شَيْئا مِنْهُ وَأرَاهُ لغيره كَمَا يَفْعَله النَّاس فَإِن اعْتمد فِي الشِّرَاء على رؤيتها نظر إِن قَالَ بِعْتُك من هَذَا النَّوْع كَذَا فَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يُمكن انْعِقَاده بيعا لِأَنَّهُ لم يتَعَيَّن بيعا وَلَا سلما لعدم الْوَصْف وَإِن قَالَ بِعْتُك الْحِنْطَة الَّتِي فِي هَذَا الْبَيْت وَهَذِه الْعين مِنْهَا نظر إِن لم تدخل الْعين فِي البيع لم يَصح على اأصح لِأَنَّهُ لم ير الْمَبِيع وَلَا شَيْئا مِنْهُ وَإِن أدخلها فِيهِ صَحَّ ثمَّ شَرطه أَن يرد الْعين إِلَى الصُّبْرَة قبل البيع فَإِن أَدخل الْعين من غير رد فَإِنَّهُ يكون كَمَا بَاعَ عينين رأى أَحدهمَا لِأَن المرئي متميز عَن غير المرئي كَذَا قَالَه الْبَغَوِيّ وَمِنْهَا الرُّؤْيَة فِي كل شَيْء بِحَسب اللَّائِق بِهِ فَفِي شِرَاء الدّور لَا بُد من رُؤْيَة الْبيُوت والسقف والسطوح والجدران دَاخِلا وخارجاً والمستحم والبالوعة وَفِي الْبُسْتَان يشْتَرط رُؤْيَة مسايل المَاء وَفِي اشْتِرَاط رُؤْيَة طَرِيق الدَّار ومجرى المَاء الَّذِي تَدور بِهِ الرَّحَى وَجْهَان الْأَصَح فِي شرح الْمُهَذّب الِاشْتِرَاط لاخْتِلَاف الْغَرَض بِهِ وَيشْتَرط فِي رُؤْيَة العَبْد رُؤْيَة الْوَجْه والأطراف وَلَا يجوز رُؤْيَة الْعَوْرَة وَفِي بَاقِي الْبدن وَجْهَان أصَحهمَا الِاشْتِرَاط وَفِي الْجَارِيَة أوجه أَصَحهَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة أَنَّهَا كَالْعَبْدِ وَكَذَا يشْتَرط رُؤْيَة الشّعْر على الْأَصَح وَيشْتَرط فِي الدَّوَابّ رُؤْيَة مقدم الدَّابَّة ومؤخرها وقوائمها وَيشْتَرط رفع السرج والأكاف والجل وَلَا يشْتَرط جري الْفرس على الصَّحِيح وَيشْتَرط فِي الثَّوْب المطوي نشره ثمَّ إِذا نشر الثَّوْب وَكَانَ صفيقاً كالديباج المنقوش والبسط الزرابي وَنَحْوه فَلَا بُد من رُؤْيَة وجهيه مَعًا وَإِن كَانَ لَا يخْتَلف وجهاه كالكرباس كفى رُؤْيَة أحد وجهيه فِي الْأَصَح وَلَا بُد فِي شِرَاء الْمُصحف والكتب من تقليب الأوراق ورؤية جَمِيعهَا وَفِي الْوَرق الْأَبْيَض لَا بُد من رُؤْيَة جَمِيع الطاقات وَأما الفقاع فَقَالَ الْعَبَّادِيّ يفت رَأسه وَينظر فِيهِ بِقدر الْإِمْكَان ليَصِح بَيْعه وَأطلق الْغَزالِيّ فِي الْأَحْيَاء الْمُسَامحَة بِهِ قَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح قَول الْغَزالِيّ وَالله أعلم قَالَ(1/238)
بَاب الرِّبَا فصل وَيحرم الرِّبَا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة والمطعومات وَلَا يجوز بيع الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْفضة بِالْفِضَّةِ إِلَّا متماثلاً نَقْدا
الرِّبَا بِالْقصرِ وَهُوَ فِي اللُّغَة الزِّيَادَة وَفِي الشَّرْع هُوَ الزِّيَادَة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة وَسَائِر المطعومات قَالَه ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة وَفِيه نظر وَقَالَ فِي الْمطلب هُوَ أَخذ مَال مَخْصُوص بِغَيْر مَال وَفِيه نظر أَيْضا
وَهُوَ حرَام بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة لقَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لعن الله آكل الرِّبَا وموكله وَشَاهده وكاتبه) ثمَّ الرِّبَا لَا يحرم إِلَّا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة والمطعومات قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْوَرق بالورق وَلَا الْبر بِالْبرِّ وَلَا الشّعير بِالشَّعِيرِ وَلَا التَّمْر بِالتَّمْرِ وَلَا الْملح بالملح إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء عينا بِعَين يدا بيد وَلَكِن بيعوا الذَّهَب بالورق وَالْوَرق بِالذَّهَب وَالْبر بِالشَّعِيرِ وَالشعِير بِالْبرِّ وَالتَّمْر بالملح وَالْملح بِالتَّمْرِ كَيفَ شِئْتُم فَمن زَاد أَو اسْتَزَادَ فقد أربى) فَدلَّ الحَدِيث على مَا ذكره الشَّيْخ فِي بيع الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ من اشْتِرَاط التَّمَاثُل والحلول وَالْقَبْض فِي الْمجْلس وكما تشرط هَذِه الثَّلَاثَة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة كَذَلِك تشْتَرط فِي المتماثلات من الْأَطْعِمَة فَيشْتَرط فِي بيع الْقَمْح بالقمح وَنَحْوه التَّمَاثُل كمد بِمد والحلول لَا يجوز التَّأْجِيل والتقابض فِي الْمجْلس وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا بيع مَا ابتاعه حَتَّى يقبضهُ)
تَقْدِير الْكَلَام وَلَا يجوز بيع الَّذِي ابتاعه حَتَّى يقبضهُ سَوَاء كَانَ عقارا أَو غَيره أذن فِيهِ البَائِع أم لَا وَسَوَاء أعطي المُشْتَرِي الثّمن أم لَا وَحجَّة ذَلِك مَا روى حَكِيم بِمَ حزَام بالزاي المنقوطة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قلت يَا رَسُول الله إِنِّي أبتاع هَذِه الْبيُوع فَمَا يحل لي وَمَا يحرم عَليّ قَالَ يَا ابْن أخي
(لَا تبيعنن شَيْئا حَتَّى تقبضه وَفِيه أَحَادِيث آخر وَذكر(1/239)
الْعلمَاء لَهُ علتين إِحْدَاهمَا ضعف الْملك بِدَلِيل أَن البيع يَنْفَسِخ بِتَلف الْمَبِيع الْعلَّة الثَّانِيَة توالي الضمانين على شَيْء وَاحِد فِي زمن وَاحِد فَإِنَّهُ لَو صَحَّ بَيْعه لَكَانَ مَضْمُونا للْمُشْتَرِي ومضموناً عَلَيْهِ وَيلْزمهُ أَيْضا أَن يكون الْمَبِيع مَمْلُوكا للشخصين فِي زمن وَاحِد كَذَا قَالُوهُ وَلَا فرق بَين بَيْعه لغير البَائِع أَو للْبَائِع لعُمُوم الْخَبَر وكما لَا يجوز بيع الْمَبِيع قبل قَبضه لَا يجوز غَيره من الْمُعَاوَضَات كجعله صَدَاقا أَو أُجْرَة أَو رَأس مَال سلم أَو صلح وَكَذَا لَا يجوز هِبته وإجارته وَرَهنه نعم يَصح إِعْتَاقه على الْأَصَح لقُوَّة الْعتْق وَكَذَا الِاسْتِيلَاد وَأما وَقفه قَالَ الْمُتَوَلِي إِن اشترطنا فِيهِ الْقبُول فَهُوَ كَالْبيع وَإِلَّا فَهُوَ كَالْعِتْقِ وَصحح النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أَنه كالإعتاق وتزويج الْأمة كَالْعِتْقِ وَقَالَ ابْن خيران يجوز قَضَاء الدّين بِهِ وَاعْلَم أَن الثّمن كَالْمَبِيعِ فَلَا يَبِيعهُ البَائِع قبل قَبضه وَبَقِيَّة مَا ذَكرْنَاهُ يعلم مِمَّا تقدم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ)
يحرم بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ من جنسه لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نهى عَن أَن تبَاع الشَّاة بِاللَّحْمِ) وَقيل يجوز وَإِن كَانَ من غير جنسه فَإِن كَانَ من مَأْكُول فَقَوْلَانِ الْأَظْهر أَنه لَا يجوز أَيْضا لعُمُوم الْخَبَر وَقيل يجوز قِيَاسا على بيع اللَّحْم بِاللَّحْمِ وَإِن كَانَ غير مَأْكُول فَفِيهِ خلاف أَيْضا وَالرَّاجِح التَّحْرِيم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهي عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد لكنه مُرْسل والمرسل مَقْبُول عِنْد الشَّافِعِي إِذا اعتضد بِأحد سَبْعَة أَشْيَاء إِمَّا بِالْقِيَاسِ أَو قَول صَحَابِيّ أَو فعله أَو قَول الْأَكْثَرين أَو ينتشر من غير دَافع أَو يعْمل بِهِ أهل الْعَصْر أَولا تُوجد دلَالَة سواهُ أَو بمرسل آخر أَو مُسْند وَقد أسْندهُ التِّرْمِذِيّ وَالْبَزَّار وَلَا فرق فِي ذَلِك الْمسند بَين أَن يكون صَحِيحا أم لَا وَقيل يجوز لِأَن التَّحْرِيم فِي الْمَأْكُول لأجل بيع مَال الرِّبَا بِأَصْلِهِ الْمُشْتَمل عَلَيْهِ وَلم يُوجد هُنَا وَمن هَذَا الْمَعْنى استنبط تَحْرِيم بيع الْحِنْطَة بدقيقها والسمسم بِكَسْبِهِ وَنَحْو ذَلِك وَفِي إِلْحَاق الشَّحْم والآلية وَالْقلب والكلية والرئة بالحم وَجْهَان أصَحهمَا نعم وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَنه يجوز بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ سَوَاء كَانَ من جنسه أم لَا وَسَوَاء تَسَاويا كبعير بِبَعِير أَو تفاضلا كَبيع بَعِيرَيْنِ بِبَعِير وَهُوَ كَذَلِك وَهَذَا إِذا لم يشْتَمل الْحَيَوَان على مَا فِيهِ الرِّبَا كشاة فِي ضرْعهَا لبن إِذا بِيعَتْ بِشَاة لَيْسَ فِي ضرْعهَا لبن فِي جَوَاز ذَلِك وَجْهَان أرجحهما التَّحْرِيم وَلَو بَاعَ بدجاجة فِيهَا بيض فَهُوَ كَبيع الشَّاة بِالشَّاة وَفِي ضرْعهَا لبن وَجزم القَاضِي أَبُو الطّيب بِالْمَنْعِ فِي الدَّجَاجَة وَالله أعلم قَالَ(1/240)
(وَيجوز بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضلا نَقْدا وَكَذَا المطعومات لَا يجوز بيع الْجِنْس مِنْهَا بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا وَيجوز بيع الْجِنْس مِنْهَا بِغَيْرِهِ مُتَفَاضلا نَقْدا)
إِذا اشْتَمَل عقد البيع على شَيْئَيْنِ نظر فَإِن اتحدا فِي الْجِنْس وَالْعلَّة كالذهب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالْبر بِالْبرِّ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ اشْترط لصِحَّة العقد وَخُرُوجه عَن كَونه رَبًّا ثَلَاثَة أُمُور التَّمَاثُل والحلول والتقايض الْحَقِيقِيّ فِي الْمجْلس فَلَو اخْتَلَّ وَاحِد مِنْهُمَا بَطل العقد فَلَو بَاعَ درهما بدرهم ودانق حرم وَيُسمى هَذَا رَبًّا الْفضل قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْوَرق بالورق إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء) وَالْعلَّة كَونهمَا قيم الْأَشْيَاء غَالِبا وَكَذَا المطعوم فَلَا يجوز بيع مد قَمح وحفنة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(الطَّعَام بِالطَّعَامِ مثلا بِمثل) وَالْعلَّة فِي ذَلِك الطّعْم وَإِن اخْتلف الْجِنْس وَلَكِن اتّحدت عِلّة الرِّبَا كالذهب وَالْفِضَّة وَالْحِنْطَة وَالشعِير جَازَ التَّفَاضُل وَاشْترط الْحُلُول والتقايض لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِذا اخْتلفت هَذِه الْأَصْنَاف فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد) وَإِن اخْتلف الْجِنْس وَالْعلَّة كالفضة وَالْبر فَلَا حجر فِي شَيْء وَلَا يشْتَرط شَيْء من هَذِه الْأُمُور ثمَّ الْمُمَاثلَة تعْتَبر فِي الْمكيل كَيْلا وَفِي الْمَوْزُون وزنا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْوَرق بالورق إِلَّا وزنا بِوَزْن) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(مَا وزن مثل بِمثل إِذا كَانَ نوعا وَاحِدًا وَمَا كيل فَمثل ذَلِك فَإِذا اخْتلف النوعان فَلَا بَأْس) فَلَو بَاعَ الْمكيل بِالْوَزْنِ أَو عَكسه لم يَصح وَالْمرَاد بِالْكَيْلِ المتماثل سَوَاء كَانَ مُعْتَادا أَو غير مُعْتَاد كقصعة غير معيرة وَكَذَا الْمِيزَان كالطيار والقبان وَغَيرهمَا فَلَو جهلنا كَونه مَكِيلًا أَو مَوْزُونا فَفِيهِ أوجه الصَّحِيح الرُّجُوع فِيهِ إِلَى عَادَة الْبَلَد لِأَن الشَّيْء إِذا لم يكن محدوداً فِي الشَّرْع كَانَ الرُّجُوع فِيهِ إِلَى الْعَادة كالقبوض والحروز وَغَيرهمَا وَقيل يعْتَبر الْكَيْل لِأَنَّهُ أَعم وَقيل الْوَزْن لِأَنَّهُ أقل تَفَاوتا وَقيل بالتخيير للتساوي(1/241)
(فرع) الْفُلُوس إِذا راجت رواج الذَّهَب وَالْفِضَّة هَل يجْرِي فِيهَا الرِّبَا الصَّحِيح أَنه لَا رَبًّا فِيهَا لانْتِفَاء الثمنية الْغَالِبَة فِيهَا وَلَا يتَعَدَّى الرِّبَا إِلَى غير الْفُلُوس من الْحَدِيد والنحاس والرصاص وَغَيرهمَا بِلَا خلاف وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز بيع الْغرَر)
الأَصْل فِي ذَلِك أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نهى عَن بيع الْغرَر) وَالْغرر مَا انطوى عَنَّا عاقبته ثمَّ الْغرَر تَحْتَهُ صور لَا تكَاد تَنْحَصِر فَنَذْكُر نبذة مِنْهَا لتعرف بهَا غَيرهَا فَمن ذَلِك بيع الْبَعِير الناد وَكَذَا الجاموس المتوحش وَالْعَبْد الْمُنْقَطع الْخَبَر والسمك فِي المَاء الْكثير وكبيع الثَّمَرَة الَّتِي لم تخلق وَالزَّرْع فِي سنبله وَكَذَا بيع اللَّحْم قبل سلخ الْجلد وَكَذَا بيع الْقطن فِي جوزه بَاطِل وَإِن كَانَ بعد التشقق فِي جوزه وَإِن كَانَ على الأَرْض عِنْد أبي حَامِد وَكَذَا لَا يَصح بيع اللَّبن فِي الضَّرع لِأَنَّهُ مَجْهُول الْمِقْدَار لاخْتِلَاف الضَّرع رقة وغلظاً وَكَذَا لَا يجوز بيع الْحمل فِي الْبَطن وَكَذَا لَا يَصح بيع الْمسك فِي الْفَأْرَة قبل فتقها فَلَو فتح رَأسهَا وَرَأى الْمسك قَالَ الْمَاوَرْدِيّ يَصح جزَافا وبالوزن وَقَالَ الْمُتَوَلِي إِن لم يتَفَاوَت ثخن الْفَأْرَة وَرَأى جوانبها صَحَّ وَإِلَّا فَلَا وَالَّذِي صدر بِهِ الرَّافِعِيّ أَن بيع الْمسك فِي الْفَأْرَة بَاطِل مُطلقًا سَوَاء بيع مَعهَا أَو بِدُونِهَا وَسَوَاء فتح رَأسهَا أم لَا وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك وَشبهه بِاللَّحْمِ فِي الْجلد قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَته قَالَ أَصْحَابنَا لَو بَاعَ السّمك الْمُخْتَلط بِغَيْرِهِ لم يَصح لِأَن المقصودمجهول كَمَا لَا يَصح بيع اللَّبن الْمَخْلُوط بِالْمَاءِ وَالله أعلم
وكما يضر الْجَهْل بِالْمَبِيعِ كَذَا يضر الْجَهْل بِقدر الثّمن وبالمثمن إِذا كَانَ فِي الْبَلَد نقدان فَأكْثر وَهِي رائجة وَيُقَاس بِمَا ذكرنَا بَاقِي صور الْغرَر وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْخِيَار فصل والمتبايعان بِالْخِيَارِ مالم يَتَفَرَّقَا وَلَهُمَا أَن يشترطا الْخِيَار إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام
الْخِيَار كَمَا ذكره الشَّيْخ نَوْعَانِ خِيَار مجْلِس وَخيَار شَرط ثمَّ خِيَار الْمجْلس يثبت فِي أَنْوَاع البيع حَتَّى فِي الْمصرف وَبيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ وَالسّلم وَالتَّوْلِيَة والاشتراك وَصلح الْمُعَاوَضَات لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(البيعان بِالْخِيَارِ مالم يَتَفَرَّقَا أَو يَقُول أَحدهمَا للْآخر اختر) وَلَا خِيَار فِي الْحِوَالَة وَكَذَا فِي(1/242)
الْقِسْمَة وَلَو اشْترى العَبْد نَفسه من سَيّده صَحَّ وَهل يثبت لَهُ الْخِيَار فِي الرَّافِعِيّ الْكَبِير وَالرَّوْضَة وَجْهَان بِلَا تَرْجِيح وَالأَصَح فِي الشَّرْح الصَّغِير وَشرح الْمُهَذّب أَنه لَا خِيَار وَأما عقد النِّكَاح فَلَا خِيَار فِيهِ وَالْفرق بَينه وَبَين عقد البيع أَن البيع عقد مُعَاوضَة بَين النَّاس كثيرا فَأثْبت الْخِيَار فِيهِ للتروي بِخِلَاف النِّكَاح فَإِنَّهُ لَا يَقع غَالِبا إِلَّا عَن ترو وَكَذَا لَا خِيَار فِي الْهِبَة بِلَا ثَوَاب لِأَنَّهُ وَطن نَفسه على فقد الْعِوَض فَلَا غبن وَكَذَا ذَات الثَّوَاب على الْأَصَح لِأَنَّهَا لَا تسمى بيعا وَكَلَام الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْهِبَة يثبت فِي ذَات الثَّوَاب الْمَعْلُوم الْخِيَار وَلَا خِيَار فِي الرَّهْن وَالْوَقْف وَالْعِتْق وَالطَّلَاق وَفِي كل عقد جَائِز من الطَّرفَيْنِ كَالْوكَالَةِ وَالشَّرِكَة وَكَذَا الضَّمَان وَفِي ثُبُوت الْخِيَار للشَّفِيع فِي الْأَخْذ بِالشُّفْعَة وَجْهَان أصَحهمَا فِي الشَّرْح الْكَبِير فِي كتاب الشُّفْعَة أَنه يثبت لَهُ الْخِيَار لِأَن الْأَخْذ بِالشُّفْعَة مُلْحق بالمعاوضات بِدَلِيل الرَّد بِالْعَيْبِ وَالرُّجُوع بالعهد وَصحح فِي الْمُحَرر هُنَا أَنه لَا يثبت الْخِيَار واستدركه النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَصحح عدم ثُبُوت الْخِيَار وَنَقله عَن الْأَكْثَرين فِي كتاب الشُّفْعَة
وَاعْلَم أَن الشَّفِيع لَا يملك بِمُجَرَّد قَوْله أَخذ الْمَبِيع بِالشُّفْعَة بل لَا بُد مَعَ اللَّفْظ من بذل الثّمن أَو رضى المُشْتَرِي بِذِمَّة الشَّفِيع لِأَنَّهُ من المُشْتَرِي يَأْخُذ أَو حكم الْحَاكِم بِثُبُوت الشُّفْعَة وَأما الْإِجَارَة فَهَل يثبت فِيهَا الْخِيَار فِيهِ خلاف صحّح النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه ثُبُوت الْخِيَار فِيهَا وَصحح فِي أَكثر كتبه وَكَذَا الرَّافِعِيّ أَنه لَا يثبت وَالْمُسَاقَاة كَالْإِجَارَةِ وَهل يثبت الْخِيَار فِي عقد النِّكَاح الصَدَاق وَجْهَان الْأَصَح لَا يثبت وَقَوله
(مَا لم يَتَفَرَّقَا) يَعْنِي بأبدنهما عَن مجْلِس العقد فَلَو قاما فِي ذَلِك الْمجْلس مُدَّة متطاولة أَو قاما وتماشيا مراحل فهما على خيارهما على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور فَإِن تفَرقا بَطل الْخِيَار للْخَبَر وَالرُّجُوع فِي التَّفَرُّق إِلَى الْعَادة فَمَا عده النَّاس تفَرقا لزم العقد بِهِ وَإِلَّا فَلَا فَلَو كَانَا فِي دَار صَغِيرَة فالتفرق أَن يخرج أَحدهمَا مِنْهَا أَو يصعد السَّطْح فَإِن كَانَت الدَّار كَبِيرَة فبأن يخرج أَحدهمَا من الْبَيْت إِلَى الصحن أَو عَكسه وَإِن كَانَا فِي سوق أَو صحراء فبأن يولي أَحدهمَا ظَهره وَيَمْشي قَلِيلا هَذَا هُوَ الصَّحِيح وكما يَنْقَطِع الْخِيَار بالتفرق كَذَا يَنْقَطِع بالتخاير بِأَن يَقُولَا اخترنا إِمْضَاء البيع أَو أجزناه أَو ألزمناه وَمَا أشبه ذَلِك فَإِن قَالَ أَحدهمَا اخْتَرْت إِمْضَاء العقد أَو أجزته انْقَطع خِيَاره وَبَقِي خِيَار الآخر وَلَو قَالَ أَحدهمَا للْآخر اختر أَو خيرتك انْقَطع خِيَار الْقَائِل لِأَنَّهُ دَلِيل الرضى وَلَا يَنْقَطِع خِيَار الآخر إِن سكت وَلَو أجَاز وَاحِد وَفسخ قدم الْفَسْخ وَلَو تبَايعا الْعِوَضَيْنِ بعد قبضهما فِي الْمجْلس بيعا ثَابتا صَحَّ البيع الثَّانِي على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور لِأَنَّهُ رَضِي بِلُزُوم الأول وَالله أعلم
وَأما خِيَار الشَّرْط فَإِنَّهُ يَصح بِالسنةِ وَالْإِجْمَاع بِشَرْط أَلا يزِيد على ثَلَاثَة أَيَّام فَإِن زَاد بَطل البيع وَيجوز دون الثَّلَاث روى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَمِعت رجلا يشكو إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يزَال يغبن فِي البيع فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا بَايَعت فَقل لَا خلابة ثمَّ أَنْت(1/243)
بِالْخِيَارِ فِي كل سلْعَة بتعتها ثَلَاث لَيَال) وَلَو شَرط الْخِيَار لأَحَدهمَا صَحَّ وَكَذَا الْأَجْنَبِيّ فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ لِأَن الْحَاجة قد تَدْعُو إِلَى ذَلِك لكَونه أعرف بالمعقود عَلَيْهِ نعم لَو كَانَ مُتَوَلِّي العقد وَكيلا جَازَ أَن يشْتَرط الْخِيَار لَهُ ولملوكه وَلَا يجوز لأَجْنَبِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا خرج بِالْمَبِيعِ عيب فَلِلْمُشْتَرِي رده)
إِذا ظهر بِالْمَبِيعِ عيب قديم جَازَ لَهُ الرَّد سَوَاء كَانَ الْعَيْب مَوْجُودا وَقت العقد أَو حدث بعد العقد وَقبل الْقَبْض أما جَوَاز الرَّد لَهُ بِالْعَيْبِ الْمَوْجُود وَقت العقد فبالإجماع وروت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
(أَن رجلا ابْتَاعَ فَأَقَامَ عِنْده مَا شَاءَ الله ثمَّ وجد بِهِ عَيْبا فخاصمه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرده عَلَيْهِ) وقسنا مَا حدث بعد العقد وَقبل الْقَبْض على الْمُقَارن لِأَنَّهُ من ضَمَان البَائِع وَلِأَن المُشْتَرِي إِنَّمَا بذل الثّمن فِي مُقَابلَة مَبِيع سليم فَإِذا وجد على خلاف ذَلِك جَوَّزنَا لَهُ التَّدَارُك للضَّرَر
وَاعْلَم أَن الْعُيُوب كَثِيرَة جدا فَمِنْهَا كَون العَبْد سَارِقا أَو زَانيا أَو آبقا أَو بِهِ بخر ينشأ من الْمعدة دون مَا يكون من قلح الْأَسْنَان وَكَذَا الصنان المستحكم دون الْعَارِض بحركة أَو اجْتِمَاع وسخ وَكَذَا كَون الدَّابَّة جموحا أَو عضاضة أَو رفاسة وَكَذَا كَون العَبْد ساحراً أَو قَاذِفا للمحصنات أَو مقامراً أَو تَارِكًا للصَّلَاة وَكَون الْجَارِيَة لَا تحيض فِي سنّ الْحيض غَالِبا وَكَون الْمَكَان ثقيل الْخراج أَو منزل الظلمَة أَو يخزنون بِهِ غلتهم أَو ظهر متكوب يَقْتَضِي وقف الْمَبِيع وَعَلِيهِ خطوط الْمُتَقَدِّمين وَلَيْسَ فِي الْحَال من يشْهد بِهِ قَالَه الورياني وَنَقله ابْن الرّفْعَة عَن الْعدة وَضَابِط ذَلِك أَن كل مَا نقص الْعين أَو الْقيمَة نُقْصَانا يفوت بِهِ غَرَض صَحِيح إِذا غلب فِي جنس الْمَبِيع عَدمه فقولنا نقص الْعين ككون الرَّقِيق خَصيا أَو مَقْطُوع أُنْمُلَة وَنَحْوهَا بِخِلَاف مَا لَو قطع من فَخذه قِطْعَة يسيرَة فَإِنَّهُ لَا يفوت بِسَبَب ذَلِك غَرَض صَحِيح وَقَوْلنَا إِذا غلب فِي جنس الْمَبِيع عَدمه رَاجع إِلَى الْقيمَة أَو الْعين أما الْقيمَة وَهُوَ الَّذِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ فاحتراز عَن الثيوبة فِي الْأمة الْكَبِيرَة فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي الرَّد فَإِنَّهُ لَيْسَ الْغَالِب فِيهَا عدم الثيوبة وَأما الْعين فاحترز بِهِ عَن قلع الْأَسْنَان فِي الْكَبِير فَإِنَّهُ لَا رد بِهِ بِلَا شكّ وَقد جزم ابْن الرّفْعَة بِمَنْع الرَّد ببياض الشّعْر فِي الْكَبِير وَالله أعلم
(فرع) لَو بَاعَ شخص عينا وَشرط الْبَرَاءَة من الْعُيُوب فَفِيهِ خلاف الصَّحِيح أَنه يبرأ من كل(1/244)
عيب بَاطِن فِي الْحَيَوَان لم يعلم بِهِ البَائِع دون غَيره لِأَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا بَاعَ غُلَاما بثمانمائة وَبَاعه بِالْبَرَاءَةِ فَقَالَ المُشْتَرِي لِابْنِ عمر بِالْعَبدِ دَاء لم تسمه لي فاختصما إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَقضى عُثْمَان على ابْن عمر أَنه يحلف لقد بَاعه العَبْد وَمَا بِهِ دَاء يُعلمهُ فَأبى عبد الله أَن يحلف وارتجع العَبْد فَبَاعَهُ بِأَلف وَخَمْسمِائة فَدلَّ قَضَاء عُثْمَان أَنه يبرأ من عيب الْحَيَوَان الَّذِي لم يعلم بِهِ وَالْفرق بَين الْحَيَوَان وَغَيره مَا قَالَه الشَّافِعِي أَن الْحَيَوَان يَأْكُل فِي حالتي صِحَّته وسقمه وتتبدل أَحْوَاله سَرِيعا فَقل أَن يَنْفَكّ عَن عيب خَفِي أَو ظَاهر فَيحْتَاج البَائِع إِلَى هَذَا الشَّرْط ليثق بِلُزُوم العقد وَالْفرق بَين الْعَيْب الْمَعْلُوم وَغَيره أَن كتمان الْمَعْلُوم تلبيس وغش فَلَا يبرأ مِنْهُ وَالْفرق بَين الظَّاهِر وَالْبَاطِن أَن الظَّاهِر يسهل الِاطِّلَاع عَلَيْهِ وَيعلم فِي الْغَالِب فأعطيناه حكم الْمَعْلُوم وَإِن كَانَ قد يخفى على ندور فَيرجع الْأَمر إِلَى أَنه لَا يبرأ عَن غير الْبَاطِن فِي الْحَيَوَان وَلَا عَن غَيره من غير الْحَيَوَان مُطلقًا سَوَاء كَانَ ظَاهرا أَو بَاطِنا سَوَاء فِي ذَلِك الثِّيَاب وَالْعَقار وَنَحْوهمَا وَالله أعلم
(فرع) شَرط رد الْمَبِيع بِالْعَيْبِ الْقَدِيم أَن يتَمَكَّن المُشْتَرِي من الرَّد أما إِذا لم يتَمَكَّن بِأَن تلف الْمَبِيع أَو مَاتَت الدَّابَّة أَو أعتق العَبْد أَو وقف الْمَكَان ثمَّ علم بِالْعَيْبِ فَلَا رد وَله أرش الْعَيْب وَالْأَرْش جُزْء من ثمن الْمَبِيع نسبته إِلَيْهِ نِسْبَة مَا نقص الْعَيْب من الْقيمَة عِنْد السَّلامَة مِثَاله قيمَة مائَة بِلَا عيب وَتسْعُونَ مَعَ الْعَيْب فالأرش عشر الثّمن وَلَو كَانَت ثَمَانِينَ فالأرش خمس الثّمن وعَلى هَذَا لَو زَالَ ملك المُشْتَرِي عَن الْمَبِيع بِبيع فَلَا رد لَهُ فِي الْحَال وَلَا أرش على الْأَصَح لِأَنَّهُ لم ييأس المُشْتَرِي من الرَّد لِأَنَّهُ رُبمَا يعود إِلَيْهِ ويتمكن من رده بِخِلَاف الْمَوْت وَالْوَقْف وَكَذَا استيلاد الْجَارِيَة لِأَنَّهُ تعذر الرَّد فَيرجع بأرشها وَاعْلَم أَن الرَّد على الْفَوْر لِأَن الأَصْل فِي الْمَبِيع اللُّزُوم فَإِذا أمكنه الرَّد وَقصر لزمَه حكم وَمحل الْفَوْر فِي العقد على الْأَعْيَان أما الْوَاجِب فِي الذِّمَّة بِبيع أَو سلم فَلَا يشْتَرط الْفَوْر لِأَن رد مَا فِي الذِّمَّة لَا يَقْتَضِي رفع العقد بِخِلَاف الْمَبِيع الْمعِين كَذَا قَالَه الإِمَام وَأقرهُ عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْكِتَابَة وَابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب فاعرفه ثمَّ حَيْثُ كَانَ لَهُ الرَّد واعتبرنا الْفَوْر فليبادر بِالرَّدِّ على الْعَادة فَلَو علم الْعَيْب وَهُوَ يُصَلِّي أَو يَأْكُل فَلهُ التَّأْخِير حَتَّى يفرغ لِأَنَّهُ لَا يعد مقصراً وَكَذَا لَو كَانَ يقْضِي حَاجته وَكَذَا لَو كَانَ فِي الْحمام أَو كَانَ لَيْلًا فحين يصبح لعدم التَّقْصِير فِي ذَلِك بِاعْتِبَار الْعَادة وَلَا يُكَلف الْعَدو وَلَا ركض الْفرس وَنَحْو ذَلِك ثمَّ إِن كَانَ البَائِع حَاضرا رده عَلَيْهِ فَلَو رفع الْأَمر إِلَى الْحَاكِم فَهُوَ آكِد فَلَو رد(1/245)
وَكيله كفى وَكَذَا الرَّد على الْوَكِيل وَإِن كَانَ البَائِع غَائِبا رفع الْأَمر إِلَى الْحَاكِم وَلَا يُؤَخر لقدومه وَلَا للمسافرة إِلَيْهِ وَالأَصَح أَنه يلْزمه الْإِشْهَاد على الْفَسْخ إِن أمكنه حَتَّى ينهيه إِلَى البَائِع أَو الْحَاكِم لِأَنَّهُ الْمُمكن
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط ترك اسْتِعْمَال الْمَبِيع فَلَو استخدم العَبْد أَو ترك على الدَّابَّة سرجها أَو برذعتها بَطل حَقه من الرَّد لِأَنَّهُ يشْعر بالرضى قلت فِي هَذَا نظر لَا يخفى لِأَن مثل هَذَا لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص من الْفُقَهَاء فضلا عَن أجلاف الْقرى لَا سِيمَا إِذا كَانَ رَحل الدَّابَّة مَبِيعًا مَعهَا فَيَنْبَغِي فِي مثل ذَلِك أَنه لَا يبطل بِهِ الرَّد وَيُؤَيّد ذَلِك أَنه لَو أخر الرَّد مَعَ الْعلم بِالْعَيْبِ ثمَّ قَالَ أخرت لِأَنِّي لَا أعلم أَن لي الرَّد فَإِن كَانَ قريب الْعَهْد بِالْإِسْلَامِ أَو نَشأ فِي بَريَّة لَا يعْرفُونَ الْأَحْكَام فَإِنَّهُ يقبل قَوْله وَله الرَّد وَإِلَّا فَلَا بل لَو قَالَ لم أعلم أَنه يبطل بِالتَّأْخِيرِ قبل قَوْله وَعلله الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ بِأَنَّهُ يخفى على الْعَوام وَالله أعلم ثمَّ حَيْثُ بَطل الرَّد بالتقصير بَطل الْأَرْش أَيْضا وَلَو تَرَاضيا على ترك الرَّد بِجُزْء من الثّمن أَو مَال آخر فَالصَّحِيح أَن هَذِه مصالحة لَا تصح وَيجب على المُشْتَرِي رد مَا أَخذه وَلَا يبطل حَقه من الرَّد على الصَّحِيح وَهَذَا إِذا ظن صِحَة الْمُصَالحَة فَإِن علم بُطْلَانهَا بَطل حَقه من الرَّد بِلَا خلاف وَلَو اشْترى بَعِيرًا أَو عبدا فَضَاعَ الْبَعِير أَو أبق العَبْد قبل الْقَبْض فَأجَاز المُشْتَرِي البيع ثمَّ أَرَادَ الْفَسْخ فَلهُ ذَلِك مَا لم يعد الْبَعِير أَو العَبْد إِلَيْهِ وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا بيع الثَّمَرَة مُطلقًا إِلَّا بعد بَدو صَلَاحهَا)
هَذَا مَعْطُوف على قَوْله وَلَا يجوز بيع الْغرَر وَتَقْدِيره وَلَا يجوز بيع الثَّمَرَة مُطلقًا إِلَّا بعد بَدو صَلَاحهَا وبدو الصّلاح ظُهُور الصّلاح فَإِذا بدا صَلَاح الثَّمَرَة بِأَن ظَهرت مبادئ النضج أَو بَدَت الْحَلَاوَة وزالت العفوصة أَو الحموضة المفرطتان وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتلون أَو فِي المتلون بِأَن يحمر أَو يصفر أَو يسود جَازَ بيعهَا مُطلقًا وَيشْتَرط الْقطع بِالْإِجْمَاع وَيشْتَرط التبقية لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا تبَاع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا) وَإِذا بَاعَ مُطلقًا يَعْنِي بِلَا شَرط اسْتحق المُشْتَرِي الْإِبْقَاء إِلَى أَوَان الْجذاذ للْعَادَة وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَنه إِذا لم يبد الصّلاح أَنه لَا يجوز مُطلقًا وَهُوَ كَذَلِك وَيشْتَرط لصِحَّة البيع أَن يشْتَرط قطع الثَّمَرَة الصَّالِحَة للِانْتِفَاع وَهَذَا جَائِز بِالْإِجْمَاع وَلَو جرت الْعَادة بِقطعِهِ لَا يَكْفِي بل لَا بُد من شَرط الْقطع وَإِن بِيعَتْ الثَّمَرَة قبل بَدو الصّلاح مَعَ الْأَشْجَار جَازَ بِلَا شَرط لِأَنَّهَا تبع الْأَشْجَار وَالْأَصْل غير معترض للعاهة بِخِلَاف مَا إِذا أفردت الثَّمَرَة وَلَو شَرط الْقطع ورضى البَائِع بالإبقاء على الشّجر جَازَ وَالله أعلم وكما يحرم بيع الثَّمَرَة(1/246)
قبل بَدو الصّلاح إِلَّا بِشَرْط الْقطع كَذَلِك يحرم بيع الزَّرْع الْأَخْضَر إِلَّا بِشَرْط قطعه لما ورد
(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع ثَمَرَة النّخل حَتَّى تزهي وَعَن السبل وَالزَّرْع حَتَّى يبيض وتؤمن العاهة) وَلَو بيع الزَّرْع مَعَ الأَرْض فَهُوَ كَبيع الثَّمَرَة مَعَ الشّجر وَالله أعلم
(فرع) إِذا بَاعَ شخص ثمراً أَو زرعا بدا صَلَاحه لزمَه سقيه قدر مَا يَنْمُو بِهِ وَيسلم من التّلف وَالْفساد سَوَاء كَانَ ذَلِك قبل أَن يخلي بَين المُشْتَرِي وَبَين الْمَبِيع أَو بعد التَّخْلِيَة حَتَّى لَو شَرطه على المُشْتَرِي بَطل العقد لِأَنَّهُ مُخَالف لمقْتَضى العقد وَلَا يلْزمه ذَلِك عِنْد شَرط الْقطع وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا بيع مَا فِيهِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ رطبا إِلَّا اللَّبن)
تَقْدِير الْكَلَام وَلَا يجوز بيع شَيْء فِيهِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ حَال كَون الْمَبِيع رطبا كالرطب بالرطب وَالْعِنَب بالعنب وَوجه الْبطلَان أَن الْمُمَاثلَة مرعية فِي الربويات وَفِي حَال الرُّطُوبَة الْمُمَاثلَة غير مُحَققَة وَالْقَاعِدَة أَن الْجَهْل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة وَقَوله إِلَّا اللَّبن أَي فَإِنَّهُ يجوز بيع بعضه بِبَعْض وَإِن لم يجبن لِأَنَّهُ حَالَة كَمَال وَلَا فرق فِي اللَّبن بَين الحليب والرايب والمخيض وَلَا بَين الحامض وَغَيره والمعيار فِيهِ الْكَيْل حَتَّى يُبَاع الرايب بالحليب وَإِن تَفَاوتا فِي الْوَزْن لِأَن الِاعْتِبَار بِالْكَيْلِ كالحنطة الصلبة بالرخوة وَشَرطه أَن لَا يغلي فَإِن غلى امْتنع لتأثير النَّار كَمَا لَا يجوز بيع الْخبز بعضه بِبَعْض لاخْتِلَاف النَّار وَكَذَا كل مَا أثرت فِيهِ النَّار تَأْثِيرا بَينا كالشوي وَالله أعلم قَالَ
بَاب السّلم فصل وَيصِح السّلم حَالا ومؤجلاً فِيمَا تكاملت فِي خَمْسَة شُرُوط أَن يكون مضبوطاً بِالصّفةِ
السّلم وَالسَّلَف بِمَعْنى وَاحِد وَسمي بذلك لتسليم رَأس المَال فِي الْمجْلس وسلفاً لتقديم رَأس المَال وَحده عقد على مَوْصُوف فِي الذِّمَّة بِبَدَل عَاجل بِأحد اللَّفْظَيْنِ
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه}(1/247)
الْآيَة قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَرَادَ بِهِ السَّلَام وَورد
(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم الْمَدِينَة وَهُوَ يسلفون فِي التَّمْر السّنة والسنتين وَرُبمَا قَالَ السنتين وَالثَّلَاث فَقَالَ من أسلف فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم) وَفِيه من جِهَة الْمَعْنى الرِّفْق بالمتعاقدين لِأَن أَصْحَاب الْحَرْف قد يَحْتَاجُونَ إِلَى مَا يُنْفقُونَ على حرفهم من الغلال وَلَا مَال مَعَهم وأرباب النُّقُود يَنْتَفِعُونَ بالرخص فجوز ذَلِك رفقا بهما وَإِن كَانَ فِيهِ غرر كَالْإِجَارَةِ على الْمَنَافِع المعدومة لمسيس الْحَاجة إِلَى ذَلِك ثمَّ عقد السّلم إِن كَانَ مُؤَجّلا فَلَا نزاع فِي صِحَّته وَفِي بعض الشُّرُوح حِكَايَة الِاتِّفَاق على صِحَّته وَلِأَن مورد النَّص وَإِن كَانَ حَالا فَهَل يَصح قَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة لَا يَصح ومذهبنا أَنه يَصح وَحجَّتنَا أَنه إِذا جَازَ فِي الْمُؤَجل مَعَ الْغرَر فَهُوَ فِي الْحَال أجوز لِأَنَّهُ أبعد عَن الْغرَر ثمَّ إِذا عقد لَا بُد من وجوب شُرُوط لصِحَّة العقد مِنْهَا ضَبطه بِالصّفةِ الَّتِي تَنْفِي الْجَهَالَة على مَا يَأْتِي فِي كَلَام الشَّيْخ لِأَن السّلم عقد غرر وَعدم الضَّبْط بِمَا يَنْفِي الْجَهَالَة غرر ثَان وغرران على شَيْء وَاحِد غير مُحْتَمل فَلهَذَا لَا يَصح وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يكون جِنْسا لم يخْتَلط بِغَيْرِهِ وَلم تدخله نَار لاحالته)
شَرط صِحَة عقد السّلم أَن يكون الْمُسلم فِيهِ منضبطاً سَوَاء اتَّحد جنسه أَو تعدد كَمَا لَو أسلم فِي ثوب قطن سداه إبريسم وكل مِنْهُمَا مَعْلُوم لانْتِفَاء الْغرَر فِي ذَلِك وَنَحْوه وَإِن تعدد الْمُخْتَلط وَجَهل مقادير المختلطات فَلَا يَصح كَمَا إِذا أسلم فِي الغالية والأدهان المطيبة الثِّيَاب المصبوغة على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ وَقَالَ فِي الْمُحَرر الأقيس الْجَوَاز وَكَذَا لَا يَصح السّلم فِي الأقواس العجمية لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَة على أَجنَاس مَقْصُودَة وكل مِنْهَا غير مَعْلُوم وَكَذَا لَا يَصح السّلم فِي الترياق الْمَخْلُوط كالغالية
وَاعْلَم أَن الِاخْتِلَاط لَيْسَ من شَرطه التَّرْكِيب من الْآدَمِيّ كَمَا مثلناه بل لَو كَانَ خلقياً فَإِنَّهُ أَيْضا لَا يَصح فَلَو أسلم فِي الرؤوس فَإِن كَانَ قبل التنقية من الشّعْر فَلَا يَصح جزما وَإِن كَانَ بعد(1/248)
التنقية من الشّعْر فَفِيهِ خلاف وَالصَّحِيح أَنه لَا يَصح أَيْضا لاشتمالها على المناخر والمشافر وَغَيرهمَا وَهِي لَا تنضبط وَلِأَن معظمها عظم وَهُوَ غير مَقْصُود فيكثر الْغرَر وَحكم الأكارع حكم الرؤوس ثمَّ من قَالَ بِالْجَوَازِ قَالَ يكون بِالْوَزْنِ واتقصر عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ هُوَ بِالْوَزْنِ وَالْعد وَلَا يَكْفِي أَحدهمَا وَيُقَاس غير مَا ذَكرْنَاهُ بِمَا ذَكرْنَاهُ وَالله أعلم
وَأما مَا دخله النَّار لغير التَّمْيِيز كالنار القوية فَلَا يَصح السّلم فِيهِ كالخبز والشواء وَمَا أشبه ذَلِك لِأَن تَأْثِير النَّار فِيهَا لَا يَنْضَبِط وَفِي وَجه يجوز السّلم فِي الْخبز وَصَححهُ الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَحَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ عَن مَشَايِخ خُرَاسَان وَفِي الْعَسَل الْمُصَفّى وَالسكر والفانيذ والدبس وَجْهَان فِي أصل الرَّوْضَة بِلَا تَرْجِيح واستبعد الإِمَام عدم الصِّحَّة فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَاخْتَارَ الْغَزالِيّ وَالْمُتوَلِّيّ الصِّحَّة وَحكى الرَّافِعِيّ طَريقَة قَاطِعَة بِالصِّحَّةِ فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَقَضِيَّة كَلَام الرَّافِعِيّ عدم الصِّحَّة لَكِن النَّوَوِيّ صحّح فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه الصِّحَّة فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَعلله بِأَن نَار هَذِه الْأَشْيَاء لينَة وَجعل هَذِه الْعلَّة ضابطاً قلت وَفِي كَون نَار هَذِه الْأَشْيَاء لينَة نظر ظَاهر والحس يَدْفَعهُ إِذْ نَار السكر فِي غَايَة الْقُوَّة وَلَعَلَّ الْعلَّة الصَّحِيحَة كَون نَار هَذِه الْأَشْيَاء منضبطة وَلِهَذَا تردد صَاحب التَّقْرِيب فِي صِحَة السّلم فِي المارودي وَلم يصحح الرَّافِعِيّ وَلَا النَّوَوِيّ فِي شَيْئا قَالَ الأسنائي وَالرَّاجِح الْجَوَاز فقد قَالَ الرَّوْيَانِيّ إِنَّه لَا يَصح عِنْدِي وَعند عَامَّة الْأَصْحَاب وَتَصْحِيح الصِّحَّة فِي هَذِه الْأَشْيَاء يُقَوي تَصْحِيح جَوَاز السّلم فِي الْخبز بل هُوَ أولى لِأَن ناره أَلين من نَار هَذِه الْأَشْيَاء بِلَا شكّ
فَإِن علل صِحَة هَذِه الْأَشْيَاء يكون النَّار لَهَا حد مضبوط عِنْد أَرْبَابهَا قُلْنَا كَذَا الْخبز وَالله أعلم قَالَ
(وَألا يكون معينا وَلَا من معِين)
من شُرُوط صِحَة عقد السّلم أَن يكون الْمُسلم فِيهِ دينا أَي فِي الذِّمَّة لِأَن وضع السّلم إِنَّمَا هُوَ على مَا فِي الذمم فَلَو قَالَ أسلمت إِلَيْك هَذَا فِي هَذَا الثَّوْب أَو فِي هَذَا الْحَيَوَان وَنَحْو ذَلِك لم ينْعَقد سلما لانْتِفَاء الدِّينِيَّة وَهل ينْعَقد بيعا قَولَانِ الْأَظْهر لَا ينْعَقد لاختلال اللَّفْظ وَمعنى الاختلال أَن السّلم يَقْتَضِي الدِّينِيَّة مَعَ التَّعْيِين يتناقضان وَلَو قَالَ اشْتريت مِنْك ثوبا صفته كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِم فَقَالَ بِعْتُك انْعَقَد بيعا على الرَّاجِح نظرا إِلَى اللَّفْظ وَهَذَا إِذا لم يذكر بعده لفظ السّلم فَإِن ذكره فَقَالَ اشْتَرَيْته سلما كَانَ سلما ذكره الرَّافِعِيّ فِي تَفْرِيق الصَّفْقَة عِنْد ذكر الْجمع بَين عقدين مختلفي الحكم فاعرفه وَلَو قَالَ أسلمت اليك هَذَا الدِّرْهَم فِي مَكِيل من هَذَا الْقَمْح لَا يَصح أَيْضا لما ذَكرْنَاهُ وَهَذَا معنى قَول الشَّيْخ وَلَا من معِين وَالله أعلم قَالَ(1/249)
(ثمَّ لصِحَّة السّلم ثَمَانِيَة شُرُوط أَن يصفه بعد ذكر جنسه ونوعه بِالصِّفَاتِ الَّتِي يخْتَلف بهَا الثّمن وَيذكر بِمَا يَنْفِي الْجَهَالَة عَنهُ)
قد علمت أَن السّلم عقد غرر جوز للْحَاجة وأنواع الْمُسلم فِيهِ وَصِفَاته بعد ذكر الْجِنْس مُخْتَلفَة بِحَسب ذَلِك الْجِنْس والأغراض تخْتَلف فِي ذَلِك بِاعْتِبَار الْمَقَاصِد وَلِهَذَا اخْتلفت الْقيمَة باخْتلَاف الصِّفَات الْمَقْصُودَة فَلَا بُد من ذكر تِلْكَ الصِّفَات لينتفي الْغرَر وَيَنْقَطِع النزاع وصور الْمُسلم فِيهِ كَثِيرَة فَنَذْكُر مِنْهَا مَا يسْتَدلّ بِهِ على غَيره
مِنْهَا إِذا أسلم فِي الثِّيَاب فيذكر بعد ذكر الْجِنْس وَالْجِنْس الْقطن أَو الْكَتَّان النَّوْع والبلد الَّذِي ينسج فِيهِ إِن اخْتلف بِهِ الْغَرَض وَيذكر الطول وَالْعرض وهما من صِفَات الثَّوْب والرقة والغلظ وهما من صِفَات الْغَزل وَيذكر الصفاقة وَهِي صفة الصَّنْعَة وَيذكر النعومة والخشونة لِأَن الْأَغْرَاض تخْتَلف بذلك وَيجوز السّلم فِي الْمَقْصُور كالخام فَإِن أطلق العقد حمل على الخام لِأَن القصارة صفة زَائِدَة فَلَا بُد من ذكرهَا وَلَا يجوز السّلم فِي الملبوس لِأَنَّهُ لَا يَنْضَبِط وَيجوز فِي الثِّيَاب الَّتِي صبغ غزلها قبل النسج كالبرود بِخِلَاف المصبوغة بعد النسج فَإِن الْمَعْرُوف أَنه لَا يَصح السّلم فِيهَا لعدم الضَّبْط وَمِنْهَا إِذا أسلم فِي الرَّقِيق فَلَا بُد من ذكر نَوعه كتركي وَكَذَا يذكر صفة النَّوْع إِن اخْتلف كَونه أَبيض ويصف بياضه بسمرة أَو شقرة ويصف السوَاد إِن ذكره بالصفاء والكدورة وَهَذَا إِذا اخْتلف لون الصِّنْف فَإِن لم يخْتَلف كالزنج لم يجب التَّعَرُّض لألوانهم وَلَا بُد مَعَ هَذَا من ذكر الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة وَالسّن فِي الْكبر والصغر والطول وَالْقصر وَلَو ضَبطه بالأشبار صَحَّ وكل ذَلِك على التَّقْرِيب حَتَّى لَو شَرط كَونه ابْن عشْرين لَا يزِيد وَلَا ينقص لَا يَصح السّلم لندوره وَهل يشْتَرط مَعَ ذَلِك التَّعَرُّض للكحل وَالسمن وَنَحْو ذَلِك وَجْهَان الْأَصَح لَا لتسامح النَّاس بإهمال ذَلِك
وَالثَّانِي يجب لِأَن الْأَغْرَاض تخْتَلف بذلك
قلت وَهُوَ قوي لِأَن هَذِه الْأَوْصَاف مَطْلُوبَة مَقْصُودَة وتختلف الْقيمَة باختلافها لِأَن كثيرا من النَّاس يهوون السمان وتمج أنفسهم الرقَاق وَهُوَ لَا يتقاعد عَن ذكر بعض الصِّفَات الْمُتَقَدّمَة وَقد اشْترط ذَلِك الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي وَالله أعلم وَيجب ذكر الثيوبة والبكارة فِي الْأَصَح وَلَو أسلم فِي جَارِيَة مغنية فَإِن كَانَ غنَاؤُهَا بِغَيْر آلَة مُحرمَة صَحَّ وَإِن كَانَ بِعُود أَو زمر فَلَا يَصح وَلَو أسلم فِي جَارِيَة زَانِيَة فَوَجْهَانِ وَلَو شَرط كَونهَا فوادة لم يَصح وَمِنْهَا التَّمْر فيذكر لَونه ونوعه وبلده وَصغر الجرم وَكبره وَكَونه عتيقاً أَو جَدِيدا وَالْحِنْطَة وَسَائِر الْحُبُوب كالتمر وَمِنْهَا الْعَسَل فيذكر كَونه جبلياً أَي لِأَن الْجبلي أطيب أَو بلدياً أَو أَنه صَيْفِي لِأَن الخريفي أَجود أَو خريفي أَبيض أَو أصفر وَلَا يشْتَرط ذكر الْعتَاقَة والحداثة لِأَنَّهُ لَا غَرَض مَقْصُود فِيهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَا بُد من بَيَان مُرَاعَاة(1/250)
قوته ورقته وَإِذا أطلق الْعَسَل حمل على عسل النَّحْل
قلت هَذَا صَحِيح إِذا لم يغلب اسْتِعْمَال عسل الْقصب فِي نَاحيَة فَإِن غلب فَالْمُعْتَبر عرف تِلْكَ النَّاحِيَة وَقد شاهدت ذَلِك فِي نَاحيَة فَكَانُوا إِذا أطْلقُوا الْعَسَل لَا يعْرفُونَ غير عسل الْقصب فإمَّا إِن يحمل العقد عَلَيْهِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَإِلَّا فَلَا بُد من الْبَيَان لصِحَّة العقد وَإِلَّا فَلَا يَصح لِأَن الْإِطْلَاق يُؤَدِّي إِلَى النزاع لِكَثْرَة التَّفَاوُت فِي الْقيمَة بَينهمَا وَالله أعلم
وَمِنْهَا اللَّحْم فيذكر أَنه لحم ضَأْن أَو معز ذكر خصي أَو غَيره معلوف أَو ضد وَلَا بُد فِي الْعلف أَن يبلغ إِلَى حد يتأثر بِهِ اللَّحْم فَلَا يَكْفِي الْمرة والمرات الَّتِي لَا تُؤثر وَيذكر أَنه من فَخذ أَو ضلع وَغير ذَلِك لاخْتِلَاف الْغَرَض فِي ذَلِك وَيقبل عظم على الْعَادة عِنْد الاطلاق فَإِن شَرط نزع الْعظم جَازَ وَيجب قبُول الْجلد فِيمَا يُؤْكَل مَعَه على الْعَادة كالجدي الصَّغِير وَيُقَاس بَقِيَّة الْمسَائِل بِمَا ذكرنَا وَالضَّابِط كَمَا ذكره الشَّيْخ أَن يذكر مَا يَنْفِي الْجَهَالَة وَالله أعلم قَالَ
(وَإِن كَانَ مُؤَجّلا ذكر وَقت مَحَله وَأَن يكون مَوْجُودا عِنْد الِاسْتِحْقَاق فِي الْغَالِب وَأَن يذكر مَوضِع قَبضه)
بيع السّلم إِذا عقد مُؤَجّلا فَيشْتَرط لصِحَّته معرفَة الْأَجَل الَّذِي لَا غرر فِيهِ بِأَن يعين فِيهِ مستهل رَمَضَان أَو سلخه وَنَحْو ذَلِك فَلَو أقت بقدوم زيد فَلَا يَصح وَكَذَا لَو وَقت بِوَقْت البيدر أَو الْفَرَاغ من الدراس وَنَحْو ذَلِك فَلَا يَصح للغرر وَلَو أقتا العقد بالميسرة وَنَحْوهَا قَالَ ابْن خُزَيْمَة من أَصْحَابنَا يَصح وَاحْتج بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(بعث إِلَى يَهُودِيّ أَن ابْعَثْ لي بثوبين إِلَى الميسرة فَامْتنعَ) وَهَذَا مَرْدُود من وَجْهَيْن
أَحدهمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ بِأَن هَذَا لَيْسَ بِعقد وَإِنَّمَا هُوَ استدعاء فَإِذا جَاءَ بِهِ عقد بِشَرْط وَلِهَذَا لم يصف الثَّوْبَيْنِ
وَالثَّانِي أَن الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} والْحَدِيث هُوَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى أجل مَعْلُوم يردانه وَأَيْضًا فَفِي التَّأْقِيت بِمثل هَذَا غرر وَقد
(نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن(1/251)
الْغرَر) وَأَيْضًا فَلَا يَصح ذَلِك بِالْقِيَاسِ على مَجِيء الْمَطَر وقدوم زيد وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لَا يَصح اتِّفَاقًا وَالله أعلم
وكما يشْتَرط تعْيين الْأَجَل كَذَلِك يشْتَرط أَن يكون الْمُسلم فِيهِ مَوْجُودا عِنْد الِاسْتِحْقَاق غَالِبا وَهَذَا الشَّرْط يعبر عَنهُ بِالْقُدْرَةِ على تَسْلِيم الْمُسلم فِيهِ فَلَو أسلم فِيمَا لَا يُوجد عِنْد الْمحل كالرطب فِي الشتَاء أَو فِيمَا يعز وجوده لم يَصح لِأَنَّهُ غرر أَو فِيمَا يحصل بِمَشَقَّة عَظِيمَة كالسلم فِي قدر كثير من الباكورة فَوَجْهَانِ أقربهما إِلَى كَلَام الْأَكْثَرين الْبطلَان وَلَو أسلم فِيمَا يعم وجوده فَانْقَطع عِنْد الْمحل لحَاجَة فَقَوْلَانِ أظهرهمَا لَا يَنْفَسِخ العقد بل يتَخَيَّر الْمُسلم إِن شَاءَ فسخ العقد وَإِن شَاءَ صَبر إِلَى وجود الْمُسلم فِيهِ فَلَو قَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ لَا تصبر وَخذ رَأس مَالك لم يلْزمه على الصَّحِيح
وَاعْلَم أَن الِاعْتِيَاض عَن الْمُسلم فِيهِ لَا يجوز كَمَا لَا يجوز بَيْعه لِأَن الِاعْتِيَاض بيع قبل الْقَبْض وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ وَالله أعلم
وكما يشْتَرط الْقُدْرَة على التَّسْلِيم كَذَلِك يشْتَرط بَيَان مَوضِع التَّسْلِيم إِن كَانَ الْموضع لَا يصلح للتسليم أَو كَانَ صلح للتسليم وَلَكِن لنقل الْمُسلم فِيهِ مُؤنَة لِأَن الْأَغْرَاض تخْتَلف بذلك وعَلى ذَلِك يحمل قَول الشَّيْخ وَأَن يذكر مَوضِع قَبضه فَإِن كَانَ الْموضع يصلح للقبض وَلَا مُؤنَة فَلَا يشْتَرط ذكره وَيحمل العقد عَلَيْهِ للْعُرْف وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ الصَّحِيح من خلاف منتشر وَلَيْسَ المُرَاد الْمَكَان الَّذِي صدر فِيهِ العقد بل المُرَاد الْمحلة فاعرفه وَالله أعلم
(فرع) أحضر الْمُسلمُونَ إِلَيْهِ الْمُسلم فِيهِ قبل الْمحل فَهَل يجْبر الْمُسلم على قبُوله ينظر إِن كَانَ لَهُ غَرَض صَحِيح فِي الِامْتِنَاع لم يجْبر وَإِلَّا أجبر فَمن الْأَغْرَاض أَن يكون الْمُسلم فِيهِ حَيَوَانا وَيحْتَاج إِلَى مُؤنَة إِلَى وَقت الْمحل فَلَا يجْبر على الْقَبْض للضَّرَر وَمن الْأَغْرَاض أَن يكون وَقت غَارة وَنهب فَلَا يجْبر على الْقَبْض وَمن الْأَغْرَاض أَن يكون الْمُسلم فِيهِ ثَمَرَة أَو لَحْمًا وَهُوَ يُرِيد أكله طرياً فِي وَقت الْمحل فَلَا يجْبر وَمن الْأَغْرَاض أَن يكون الْمُسلم فِيهِ كثيرا وَيحْتَاج إِلَى مُؤنَة فِي الخزن وَغَيره فَإِن لم يكن غَرَض وَكَانَ للْمُسلمِ إِلَيْهِ غَرَض صَحِيح كفك الرَّهْن أجبر الْمُسلم على الْقبُول لِأَن امْتِنَاعه وَلَا غَرَض تعنت وَفِي معنى غَرَض فك الرَّهْن غَرَض بَرَاءَة ذمَّة الْمُسلم إِلَيْهِ فِي الْأَظْهر وَكَذَا قصد بَرَاءَة ذمَّة الضَّامِن وَفِي غَرَض خوف انْقِطَاع الْجِنْس عِنْد الْحُلُول وَجْهَان أصَحهمَا فِي الرَّوْضَة أَنه غَرَض صَحِيح فَلَو اجْتمع غَرَض الْمُسلم وَالْمُسلم إِلَيْهِ(1/252)
فَوَجْهَانِ صَحَّ تَقْدِيم غَرَض الْمُسْتَحق وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يكون الثّمن مَعْلُوما وَأَن يتقابضاه قبل التَّفَرُّق وَأَن يكون العقد ناجزا لَا يدْخلهُ خِيَار شَرط)
يشْتَرط أَن يكون الثّمن مَعْلُوما إِمَّا بِالْقدرِ أَو بِالْمُشَاهَدَةِ على الْأَظْهر فَلَا يَصح بِالْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ غرر وَيشْتَرط أَيْضا لصِحَّة عقد السّلم تَسْلِيم رَأس المَال فِي الْمجْلس العقد لِأَنَّهُ لَو لم يقبض فِي الْمجْلس لَكَانَ فِي معنى بيع الدّين بِالدّينِ وَهُوَ بَاطِل للنَّهْي عَنهُ وَلِأَن السّلم عقد غرر احْتمل للْحَاجة فجبر بتأكذ قبض الْعِوَض الآخر وَهُوَ الثّمن فَلَو تفَرقا قبل الْقَبْض بَطل العقد وَلَو قبض الْمُسلم إِلَيْهِ بعض الثّمن وتفرقا بَطل العقد فِيمَا لم يقبض وَسقط بِقسْطِهِ من الْمُسلم فِيهِ وَلَا يشْتَرط تعْيين الثّمن فِي العقد حَتَّى لَو قَالَ أسلمت إِلَيْك دِينَارا فِي كَذَا وَوَصفه بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبرَة ثمَّ أحضر الدِّينَار فِي الْمجْلس وَسلمهُ إِلَى الْمُسلم إِلَيْهِ صَحَّ لِأَن الْمجْلس هُوَ تَحْرِيم العقد وَلِهَذَا يَصح فِي الطّرف وَبيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ مَعَ أَنه رِبَوِيّ وَاعْلَم أَنه لَا بُد من الْقَبْض الْحَقِيقِيّ فَلَو أحَال الْمُسلم الْمُسلم إِلَيْهِ فَلَا يَصح العقد وَإِن قبض الْمُسلم إِلَيْهِ من الْمحَال عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَبض حَقِيقِيّ لِأَن الْمحَال عَلَيْهِ يُؤَدِّي عَن نَفسه لَا عَن الْمُحِيل بل الطَّرِيق فِي صِحَة العقد أَن يقبضهُ الْمُسلم ثمَّ يُسلمهُ إِلَى الْمُسلم إِلَيْهِ كَذَا قَالَ بعض الشُّرَّاح وَلَو أحَال الْمُسلم إِلَيْهِ أَجْنَبِيّا بِرَأْس المَال على الْمُسلم فَهُوَ بَاطِل أَيْضا فَلَو أحضر الْمُسلم رَأس المَال فَقَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ سلمه فَفعل صَحَّ وَيكون الْمُحْتَال وَكيلا عَن الْمُسلم إِلَيْهِ فِي الْقَبْض وَلَو صَالح عَن رَأس المَال على مَال لم يَصح وَإِن قبض مَا صَالح عَلَيْهِ وَلَو قبض الْمُسلم إِلَيْهِ رَأس المَال وأودعه الْمُسلم جَازَ وَلَو قبض الْمُسلم إِلَيْهِ ورده إِلَى الْمُسلم عَن دين عَلَيْهِ فَنقل الرَّافِعِيّ عَن الرَّوْيَانِيّ أَنه لَا يَصح وَأقرهُ قَالَ الاسنائي وَلَيْسَ الحكم كَذَلِك بل يَصح العقد لِأَن التَّصَرُّف فِي الثّمن مَعَ البَائِع فِي مُدَّة الْخِيَار صَحِيح على الْأَصَح وَيكون إجَازَة وَكَذَا تصرف المُشْتَرِي فِي الْمَبِيع صَحِيح فَيكون إقباضه عَن الدّين صَحِيحا وإلزاماً للْعقد وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ وَأَن يكون ناجزاً لَا يدْخلهُ خِيَار شَرط وَذَلِكَ لِأَن الشَّرْع اعْتبر فِيهِ قبض رَأس المَال ليتَمَكَّن الْمُسلم إِلَيْهِ من الصّرْف وَيلْزم العقد مَا فِي بَاب الرِّبَا وَشرط الْخِيَار يُنَافِي ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
بَاب الرَّهْن فصل وكل مَا جَازَ بَيْعه جَازَ رَهنه فِي الدُّيُون إِذا اسْتَقر ثُبُوتهَا فِي الذِّمَّة
الرَّهْن فِي اللُّغَة الثُّبُوت وَقيل الاحتباس وَمِنْه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وَفِي(1/253)
الشَّرْع جعل المَال وَثِيقَة بدين
وَالْأَصْل فِيهِ الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَفِي السّنة مَا ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(رهن درعاً عِنْد يَهُودِيّ على شعير لأَهله) ثمَّ الْمَقْصُود من الرَّهْن بيع الْعين الْمَرْهُونَة عِنْد الِاسْتِحْقَاق وَاسْتِيفَاء الْحق مِنْهَا وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ كل مَا جَازَ بَيْعه جَازَ رَهنه وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَا يجوز رهن مَالا يجوز بَيْعه وَذَلِكَ كرهن الْمَوْقُوف وَرهن أم الْوَلَد وَمَا أشبه ذَلِك فَلَا يَصح رَهنه وَهُوَ كَذَلِك لفَوَات الْمَقْصُود مِنْهُ
ثمَّ شَرط الْمَرْهُون كَونه عينا على الرَّاجِح فَلَا يَصح رهن الدّين لِأَن شَرط الْمَرْهُون أَن يكون مِمَّا يقبض وَالدّين لَا يُمكن قَبضه وَإِذا قَبضه خرج عَن كَونه دينا وَيشْتَرط فِي الْمَرْهُون بِهِ أَن يكون دينا مُسْتَقرًّا وَاحْترز الشَّيْخ بِالدّينِ عَن الْعين فَلَا يَصح الرَّهْن على الْعين كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَة والمتسعارة وَجَمِيع الْأَعْيَان الْمَضْمُونَة لِأَن الْمَقْصُود اسْتِيفَاء الدّين من الْعين الْمَرْهُونَة وَلَا يتَصَوَّر اسْتِيفَاء الْعين من الْعين وَقيل يجوز كَمَا يجوز ضَمَانهَا وَقَوله إِذا اسْتَقر ثُبُوتهَا يَقْتَضِي أَن الدّين قبل استقراره وَذَلِكَ كَدين السّلم وَكَذَلِكَ يَصح بِمَا يؤول إِلَى اللُّزُوم كَالثّمنِ فِي زمن الْخِيَار وَيشْتَرط فِي الدّين أَن يكون مَعْلُوما لَهما قَالَه ابْن عَبْدَانِ وَصَاحب الِاسْتِقْصَاء وَأَبُو خلف الطَّبَرِيّ وَجزم بِهِ ابْن الرّفْعَة وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة مهمة وَلم أرها فِي الشَّرْح وَلَا فِي الرَّوْضَة وَالله أعلم قَالَ
(وللراهن الرُّجُوع فِيهِ مالم يقبضهُ)
قبض الْمَرْهُون أحد أَرْكَان الرَّهْن فِي لُزُومه فَلَا يلْزم إِلَّا بِقَبْضِهِ قَالَ الله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَصفه بِالْقَبْضِ فَكَانَ شرطا فِيهِ كوصفه الرَّقَبَة بِالْإِيمَان وَالشَّهَادَة بِالْعَدَالَةِ فَلَو رهن وَلم يقبض فَلهُ فسخ ذَلِك لِأَنَّهُ قبل الْإِقْبَاض عقد جَائِز من جِهَة الرَّاهِن فَلهُ الرُّجُوع فِيهِ كزمن الْخِيَار فِي البيع فَإِذا قَبضه لزم وَلَيْسَ لَهُ حينئد الرُّجُوع للُزُوم العقد ثمَّ الرُّجُوع قد يكون بالْقَوْل وَقد(1/254)
يكون بِالْفِعْلِ فَإِذا تصرف الرَّاهِن فِي الْمَرْهُون بِمَا يزِيل الْملك بَطل الرَّهْن كَالْبيع وَالْإِعْتَاق وَجعله صَدَاقا أَو أُجْرَة أَو رَهنه عِنْد آخر وأقبضه أَو وهبه وأقبضه فَكل ذَلِك رُجُوع وَلَو أجر الْمَرْهُون فَهَل هُوَ رُجُوع ينظر إِن كَانَت الْإِجَارَة تَنْقَضِي قبل مَحل الدّين فَلَيْسَ بِرُجُوع قطعا عِنْد الْعِرَاقِيّين وَالْمُتوَلِّيّ وَقطع بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالْبَغوِيّ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي كَذَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَإِن كَانَ الدّين يحل قبل انْقِضَاء الْإِجَازَة فَإِن جَوَّزنَا رهن الْمَأْجُور وَبيعه وَهُوَ الْأَصَح فَلَيْسَ بِرُجُوع وَلَو وطئ الْجَارِيَة الْمَرْهُونَة فَإِن أحبلها فَهُوَ رُجُوع وَإِن لم تحبل أَو زَوجهَا فَلَيْسَ بِرُجُوع وَقَول الشَّيْخ وللراهن الرُّجُوع فِيهِ يَعْنِي فِي الْمَرْهُون وَيجوز رُجُوعه إِلَى عقد الرَّهْن وَقَوله مَا لم يقبضهُ رَاجع إِلَى الْمَرْهُون لَيْسَ إِلَّا للاستقرار وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يضمنهُ الْمُرْتَهن إِلَّا بِالتَّعَدِّي)
الْمَرْهُون أَمَانَة فِي يَد الْمُرْتَهن لِأَن قَبضه بِإِذن الرَّاهِن فَكَانَ كَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجرَة فَلَا يضمنهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي كَسَائِر الْأَمَانَات فَلَو تلف الْمَرْهُون بِغَيْر تعد لم يضمنهُ وَلم يسْقط من الدّين شَيْء لِأَنَّهُ وَثِيقَة فِي دين فَلَا يسْقط الدّين بتلفه كموت الضَّامِن وَالشَّاهِد
وَاعْلَم أَن الْمَرْهُون بعد زَوَال الرَّاهِن أَمَانَة فِي يَد الْمُرْتَهن لَا يضمنهُ إِذا تلف إِلَّا بِالتَّعَدِّي وَلَو ادّعى الْمُرْتَهن تلف الْمَرْهُون صدق بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ أَمِين وَهَذَا إِذا لم يذكر سَببا أَو ذكر سَببا خفِيا فَإِذا ذكر سَببا ظَاهرا لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة لِإِمْكَان إِقَامَة الْبَيِّنَة على السَّبَب الظَّاهِر بِخِلَاف الْخَفي فَإِنَّهُ يتَعَذَّر أَو يتعسر وَلَو ادّعى الرَّد لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة لِأَنَّهُ لَا تعسر للبينة وَلِأَنَّهُ قَبضه لغَرَض نَفسه فَلَا يقبل كالمستعير وَقَول الشَّيْخ إِلَّا بِالتَّعَدِّي بِأَن يتَصَرَّف فِيهِ تَصرفا هُوَ مَمْنُوع مِنْهُ وأنواع التَّعَدِّي كَثِيرَة وَهِي مَذْكُورَة فِي الْوَدِيعَة وَمن جُمْلَتهَا الِانْتِفَاع بالمرهون بِأَن كَانَت دَابَّة فركبها أَو حمل عَلَيْهَا أَو آنِية فاستعملها وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا قضى بعض الْحق لم يخرج شَيْء من الرَّهْن حَتَّى يقْضِي جَمِيعه)
جَمِيع الْعين الْمَرْهُونَة وَثِيقَة بِكُل الدّين وَبِكُل جُزْء مِنْهُ فَلَا يَنْفَكّ حَتَّى يقْضِي جَمِيع الدّين وَفَاء بِمُقْتَضى الرَّهْن كَالْمكَاتبِ لَا يعْتق إِلَّا بأَدَاء جَمِيع نُجُوم الْكِتَابَة وَادّعى ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على ذَلِك وَالله أعلم
(فرع) يَصح رهن الْمشَاع من الشَّرِيك وَغَيره وَقَبضه بِقَبض جَمِيعه كَالْبيع وَيجوز أَن يستعير شَيْئا ليرهنه بِدِينِهِ لِأَن الرَّهْن وَثِيقَة فَيجوز بِمَا لَا يملكهُ كالضمان فَإِذا لزم الرَّهْن فَلَا رُجُوع للْمَالِك وَلَو أذن الرَّاهِن للْمُرْتَهن فِي بيع الْمَرْهُون وَاسْتِيفَاء الْحق فَإِن بَاعه بِحَضْرَة الرَّاهِن صَحَّ وَإِلَّا فَلَا لِأَن بَيْعه لغَرَض نَفسه فاتهم فِي بيعَته لغيبته فَلَو قدر الثّمن انْتَفَت التُّهْمَة وَلَو شَرط كَون(1/255)
الْمَرْهُون مَبِيعًا للْمُرْتَهن عِنْد حُلُول الدّين فسد عقد الرَّهْن لتأقيته وَلَا يَصح البيع لتعليقه وَلَو أتلف الْمَرْهُون وَقبض بدله صَار رهنا مَكَانا لِأَنَّهُ بدله وَيجْعَل فِي يَد من كَانَ الأَصْل فِيهِ يَده والخصم فِي دَعْوَى التّلف الرَّاهِن لِأَنَّهُ الْمَالِك وَلَو قَالَ الرَّاهِن زِدْنِي دينا وأرهن الْعين الْمَرْهُونَة على الدينَيْنِ لم يَصح على الرَّاجِح وطريقته أَن يفك الرَّهْن ويرهن بالدينين وَلَو اخْتلفَا فِي أصل الرَّهْن أَو فِي قدره بِأَن قَالَ رهنتني هذَيْن الشَّيْئَيْنِ فَقَالَ لَا بل أَحدهمَا صدق الرَّاهِن وَلَو اخْتلفَا فِي قبض الْمَرْهُون فَإِن كَانَ فِي يَد الرَّاهِن فَهُوَ الْمُصدق وَإِن كَانَ فِي يَد الْمُرْتَهن صدق وَإِن ادّعى الرَّاهِن أَنه غصبه وَلم يَأْذَن لَهُ فِي الْقَبْض فَالْقَوْل قَول الرَّاهِن لِأَن الأَصْل عدم الْإِذْن وَعدم اللُّزُوم وَكَذَا لَو قَالَ الرَّاهِن اقبضه عَن جِهَة الْإِجَارَة أَو الْإِعَارَة أَو الْإِيدَاع فَإِنَّهُ الْمُصدق على الْأَصَح الْمَنْصُوص فَلَو قَالَ الرَّاهِن نعم أَذِنت لَك فِي الْقَبْض وَلَكِن رجعت قبل قبضك فَالْقَوْل قَول الْمُرْتَهن وَلَو أقرّ الرَّاهِن بِأَنَّهُ أقرّ بِقَبْضِهِ ثمَّ قَالَ لم يكن إقراري عَن حَقِيقَته فَلهُ تَحْلِيف الْمُرْتَهن على مَا يَدعِيهِ لِكَثْرَة دوران ذَلِك بَين النَّاس وَلَو أذن الْمُرْتَهن فِي بيع الْمَرْهُون فَبيع وَرجع عَن الْإِذْن وَقَالَ رجعت قبل البيع وَقَالَ الرَّاهِن بعده فَالْأَصَحّ تَصْدِيق الْمُرْتَهن فَلَو أنكر الرَّاهِن أصل الرُّجُوع فَالْقَوْل قَوْله وَمن عَلَيْهِ دينان بِأَحَدِهِمَا رهن فَأدى أحد الدينَيْنِ وَقَالَ أديته عَن دين الرَّهْن فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه لِأَنَّهُ أعرف بنيته وَالصَّحِيح أَن تعلق الدّين بِالتَّرِكَةِ لَا يمْنَع الْإِرْث فَتكون الزَّوَائِد من التَّرِكَة للْوَارِث وَلَا يتَعَلَّق بهَا الدّين وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْحجر فصل وَالْحجر على سِتَّة الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالسَّفِيه المبذر لمَاله
الْحجر فِي اللُّغَة الْمَنْع وَلِهَذَا يُقَال للدَّار المحوطة محجرة لِأَن بناءها يمْنَع
وَفِي الِاصْطِلَاح الْمَنْع من التَّصَرُّف فِي المَال
وَهُوَ نَوْعَانِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ حجر لمصْلحَة الْمَحْجُور عَلَيْهِ وَحجر لمصْلحَة الْغَيْر
النَّوْع الأول الْحجر لمصْلحَة الشَّخْص نَفسه فَمن ذَلِك الصَّبِي وَألْحق بِهِ من لَهُ أدنى تَمْيِيز وَلم يكمل عِنْده وَمِنْه الْمَجْنُون وَألْحق بِهِ النَّائِم فَإِن تصرفه بَاطِل وَمِنْه حجر السَّفِيه وَألْحق بِهِ السَّكْرَان
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها} أَي مبذرا ولوكان كَبِيرا {أَوْ ضَعِيفاً} أَي صَغِيرا أَو كَبِيرا مختلاً {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} أَي مَجْنُونا {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ}(1/256)
أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن هَؤُلَاءِ تنوب عَنْهُم الْأَوْلِيَاء وَقل الله تَعَالَى {وابتلوا الْيَتَامَى} قَالَ
(والمفلس الَّذِي ارتكبته الدُّيُون وَالْمَرِيض الْمخوف عَلَيْهِ فِيمَا زَاد على الثُّلُث وَالْعَبْد الَّذِي لم يُؤذن لَهُ فِي التِّجَارَة)
هَذَا هُوَ النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الْحجر لمصْلحَة الْغَيْر فحجر الْمُفلس لحق أَصْحَاب الدُّيُون فَلَا يَصح بَيْعه وإعتاقه وكتابته وهبته على الْأَظْهر وَكَذَا جَمِيع التَّصَرُّفَات المفوتة المَال الْمَوْجُود حَال التَّصَرُّف لِأَنَّهُ تصرف يفوت حق الْغَيْر فَلَا ينفذ فِيهِ تصرف وَإِلَّا لأبطل فَائِدَة الْحجر
وَأما حجر الْمَرِيض فَإِنَّهُ لحق الْوَرَثَة فِيمَا زَاد على الثُّلُث بعد الدُّيُون وَلَا حجر عَلَيْهِ فِي ثلث مَاله وَالِاعْتِبَار بِحَالَة الْمَوْت على الصَّحِيح لَا بِوَقْت الْوَصِيَّة فَلَو أوصى بِأَكْثَرَ من ثلث مَاله وَلَا واث لَهُ فَهِيَ بَاطِلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّائِد على الثُّلُث وَتَصِح فِي الثُّلُث لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِن الله أَعْطَاكُم عِنْد وفاتكم ثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة فِي أَعمالكُم) وَإِن كَانَ لَهُ وَارِث فَسَيَأْتِي فِي مَحَله إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما كَون الْمَرَض مخوفا فَلَا بُد مِنْهُ وَبَيَانه يَأْتِي فِي الْوَصِيَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما الْحجر فِي العَبْد فلسيده فَلَا يَصح مِنْهُ بِغَيْر إِذن مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ لَا مَال لَهُ وَلَا ولَايَة فَلهَذَا لَا يَصح تصرفه وأهمل الشَّيْخ أَشْيَاء مِنْهَا حجر الْمُرْتَد لأجل الْمُسلمين وَمِنْهَا حجر الرَّهْن لأجل الْمُرْتَهن وَمِنْهَا الْحجر على السَّيِّد فِي العَبْد الْجَانِي لحق الْمَجْنِي عَلَيْهِ وَمِنْهَا الْحجر على الْوَرَثَة فِي التَّرِكَة لحق الْمَيِّت وَحقّ أَصْحَاب الْحُقُوق وَمِنْهَا الْحجر على الْمُمْتَنع من إِعْطَاء الدُّيُون إِذا كَانَ مَاله زَائِدا على قدر الدُّيُون وَطَلَبه المستحقون ذكره الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْفلس
وَمِنْهَا إِذا فسخ المُشْتَرِي بِعَيْب كَانَ لَهُ حبس الْمَبِيع إِلَى قبض الثّمن ويحجر على البَائِع فِي بَيْعه وَالْحَالة هَذِه ذكره الرَّافِعِيّ فِي حكم الْمَبِيع قبل الْقَبْض عَن الْمُتَوَلِي وَأقرهُ وَمِنْهَا الدَّار الَّتِي اسْتحقَّت الْمُعْتَدَّة أَن تَعْتَد فِيهَا لَا يجوز بيعهَا لتَعلق حق الْمَرْأَة بهَا إِذا كَانَت عدتهَا بِالْحملِ أَو الْأَقْرَاء لِأَن الْمدَّة غير مَعْلُومَة قَالَه الْأَصْحَاب
وَمِنْهَا الْحجر على من اشْترى عبدا بِشَرْط الْإِعْتَاق فَإِنَّهُ لَا يَصح بَيْعه لِأَن الْعتْق مُسْتَحقّ عَلَيْهِ وَمِنْهَا الْحجر على الْمُسْتَأْجر فِي الْعين الَّتِي اسْتَأْجر شخصا على الْعَمَل فِيهَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي(1/257)
حكم الْمَبِيع قبل الْقَبْض وَبَقِي غير ذَلِك ذكره غير لَائِق بِالْكتاب وَالله أعلم قَالَ
(وَتصرف الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالسَّفِيه غير صَحِيح)
قلت لَا يجوز تصرف الصَّبِي وَمن فِي مَعْنَاهُ وَالْمَجْنُون وَمن فِي مَعْنَاهُ فِي مَالهم لِأَن عدم صِحَة التَّصَرُّف هُوَ فَائِدَة الْحجر نعم يَصح تَدْبِير الصَّبِي ووصيته فِي وَجه لِأَنَّهُ يعود فَائِدَة ذَلِك عَلَيْهِ بعد الْمَوْت وَأما السَّفِيه فَكَذَلِك لَا يَصح تصرفه وَإِلَّا لبطلت فَائِدَة الْحجر فَلَا يَصح بَيْعه وَلَا هِبته وَكَذَا إنكاحه بِغَيْر إِذن الْوَلِيّ وَكَذَا لَا يَصح عتقه وكتابته وَفِي وَجه ينفذ عتقه فِي مرض مَوته تَغْلِيبًا لحجر الْمَرَض وَفِي وَجه أَنه ينفذ تصرفه فِي مَوضِع لَا ولي فِيهِ وَلَا وَصِيّ وَلَا حَاكم إِلَّا أَن يلْحقهُ نظر وَال فَيضْرب عَلَيْهِ الْحجر وَلَو اشْترى بِثمن فِي ذمَّته لم يَصح على الصَّحِيح وَلَو طلق أَو خَالع صَحَّ أما الطَّلَاق فَلِأَن الْحجر لم يتَنَاوَلهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال وَفِيه نظر من جِهَة مَا يلْحقهُ من تَفْوِيت الِاسْتِمْتَاع وتجديد الْمهْر وَأجَاب القَاضِي أَبُو الطّيب عَن هَذَا بِأَنَّهُ يتسرى وَلَا ينفذ عتقه وَفِيه نظر أَيْضا وَأما الْخلْع فَلِأَنَّهُ إِذا صَحَّ الطَّلَاق مِنْهُ مجَّانا فصحته بتحصيل عوض أولى وَإِذا امْتنع تصرف هَؤُلَاءِ تصرف الْأَوْلِيَاء لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة وأولاهم الْأَب بِالْإِجْمَاع ثمَّ الْجد وَإِن علا لِأَنَّهُ كَالْأَبِ فِي التَّزْوِيج فَكَذَا فِي المَال ثمَّ الْوَصِيّ ثمَّ وَصِيّ الْوَصِيّ ثمَّ الْحَاكِم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(السُّلْطَان ولي من لَا ولي لَهُ)
وَهل يشْتَرط فِي الْأَب وَالْجد الْعَدَالَة قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لَا بُد من الْعَدَالَة الظَّاهِرَة وَفِي اشْتِرَاط الْعَدَالَة الْبَاطِنَة وَجْهَان قَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي أَن يكون أرجحهما عدم الْوُجُوب وَالله أعلم
قلت نقل الإِمَام عَن المنتمين إِلَى التَّحْقِيق أَنه كولاية النِّكَاح وَالْمذهب فِي النِّكَاح أَنه لَا يَلِي وَفِي التَّتِمَّة أَن الْعَدَالَة مُعْتَبرَة فِي حفظ المَال بِلَا خلاف فَلَا يُمكن الفاسف من حفظه وَقد قَالَ الرَّافِعِيّ لَو فسقا نزع المَال مِنْهُمَا ذكره فِي بَاب الْوَصِيَّة وَهَذَا كُله فِي الْأَب وَالْجد وَأما الْحُكَّام فشرطهم الْعَدَالَة بِلَا نزاع فَلَا يَلِي قُضَاة الرشا أَمْوَال الْمَذْكُورين وَمن قدر على مَال يَتِيم وَجب عَلَيْهِ حفظه بطريقه فَلَو دَفعه إِلَى قَاض من هَؤُلَاءِ قُضَاة الرشا الَّذين قد تحقق مِنْهُم دفع أَمْوَال الضُّعَفَاء إِلَى أُمَرَاء الْجور فَهُوَ عَاص آثم ضَامِن لِأَنَّهُ سلط هَؤُلَاءِ الفسقة على إِتْلَافه وَالله أعلم قَالَ
(وَتصرف الْمُفلس يَصح فِي ذمَّته دون أَعْيَان مَاله)
الْمُفلس من عَلَيْهِ دُيُون حَالَة زَائِدَة على قدر مَاله وَحجر عَلَيْهِ الْحَاكِم بطريقه وَمِنْهُم من يَقُول بسؤال الْغُرَمَاء فَإِذا حجر عَلَيْهِ لتَعلق حق الْغُرَمَاء بِمَالِه سَوَاء كَانَ المَال دينا أَو عينا أَو مَنْفَعَة(1/258)
فَلَا يَصح تصرفه فِي المَال وَإِلَّا بطلت فَائِدَة الْحجر فَإِذا بَاعَ سلما أَو اشْترى فِي ذمَّته فَهَل يَصح قيل لَا كالسفيه وَالصَّحِيح الصِّحَّة إِذْ لَا ضَرَر على الْغُرَمَاء فِي ذَلِك وَكَذَا يَصح طَلَاقه وخلعه أولى لِأَنَّهُ تَحْصِيل وَيصِح نِكَاحه واقتصاصه وإسقاطه الْقصاص لِأَنَّهُ لَا تعلق لذَلِك بِمَال فَلَا تَفْوِيت على الْغُرَمَاء وَلَو أقرّ الْمُفلس بِعَين أَو دين قبل الْحجر فَالْأَظْهر قبُوله فِي حق الْغُرَمَاء قِيَاسا على الْمَرِيض وَلِأَن ضَرَره فِي حَقه أَكثر مِنْهُ فِي حق الْغُرَمَاء فَلَا يتهم فعلى هَذَا لَو طلب الْغُرَمَاء تَحْلِيفه على ذَلِك يحلف لِأَنَّهُ لَو امْتنع لم يفد امْتِنَاعه شَيْئا إِذْ لَا يقبل رُجُوعه وَقيل لَا يقبل إِقْرَاره فِي حق الْغُرَمَاء لِأَن فِيهِ ضَرَرا بهم وَلِأَنَّهُ رُبمَا واطأ الْمقر لَهُ
قلت هَذَا القَوْل قوي وَيُؤَيِّدهُ أَنه لَو رهن عينا ثمَّ أقرّ بهَا فَإِنَّهُ لَا يقبل فِي حق الْمُرْتَهن وَإِلَّا فَمَا الْفرق وَالْفرق بتعاطيه ضَعِيف وَالْأَحْسَن أَن يُقَال إِن كَانَ الْمَحْجُور عَلَيْهِ موثقًا بِدِينِهِ قبل وَإِن كَانَ غير موثق بِهِ وَقد عرف مِنْهُ الخديعة وَأكل الْأَمْوَال بهَا فَالْمُتَّجه عدم قبُوله وَتبقى الْقَرِينَة مرجحة وَالله أعلم قَالَ
(وَتصرف الْمَرِيض فِيمَا زَاد على الثُّلُث مَوْقُوف على إجَازَة الْوَرَثَة من بعده)
تصرف الْمَرِيض فِي ثلثه جَائِز نَافِذ لِأَن الْبَراء بن معْرور رَضِي الله عَنهُ أوصى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاله فَقبله ورده على ورثته قيل إِنَّه أول من أوصى بِالثُّلثِ فَلَو زَاد على الثُّلُث وَله وَرَثَة فَهَل تبطل الْوَصِيَّة فِي الْقدر الزَّائِد على الثُّلُث أَو لَا تبطل فِيهِ خلاف الرَّاجِح لَا تبطل وَتوقف على إجَازَة الْوَرَثَة فَإِن أَجَازُوا صحت وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهَا وَصِيَّة صادفت ملكه وَإِنَّمَا تعلق بهَا حق الْغُرَمَاء فَأشبه بيع الشّقص الْمَشْفُوع وَقَول الشي من بعده يَعْنِي مَوته وَلَا تصح الْإِجَازَة وَالرَّدّ إِلَّا بعد الْمَوْت إِذْ لَا حق للْوَرَثَة قبل الْمَوْت فَأشبه عَفْو الشَّفِيع قبل البيع وَأَيْضًا فَيجوز أَن يصير الْوَارِث الْآن غير وَارِث عِنْد الْمَوْت وَالله أعلم
(فرع حسن كثير الْوُقُوع) إِذا أجَاز الْوَارِث ثمَّ قَالَ أجزت لِأَنِّي ظَنَنْت أَن المَال قَلِيل وَقد بَان خِلَافه فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه أَنه لم يعلم إِذْ الأَصْل عدم الْعلم بالمقدار مِثَاله أَن يُوصي بِالنِّصْفِ فيجيز الْوَارِث ثمَّ يَقُول ظَنَنْت أَن التَّرِكَة سِتَّة آلَاف فمسحت بِالْألف فَبَان أَنَّهَا سِتُّونَ ألفا فَلم أسمح بِعشْرَة آلَاف فَإِذا حلف نفذت الْإِجَازَة فِيمَا علمه وَهُوَ ألف فَيَأْخذهُ الْمُوصي لَهُ مَعَ الثُّلُث وَالْبَاقِي للْوَارِث وَوَجهه أَنه إِسْقَاط حق عَن عين فَلم يَصح مَعَ الْجَهَالَة كَالْهِبَةِ فَلَو أَقَامَ الْمُوصي لَهُ بَيِّنَة بِعلم الْوَارِث بِقدر التَّرِكَة لَزِمت الْإِجَازَة وَلَو قَالَ ظَنَنْت أَن المَال كثير وَقد بَان(1/259)
خِلَافه فَقَوْلَانِ وَصُورَة الْمَسْأَلَة أَن يُوصي بِعَبْد لزيد من الثُّلُث فيجيز الْوَارِث ثمَّ يَقُول ظَنَنْت أَن المَال كثير فَيكون الزَّائِد من قِيمَته على الثُّلُث يَسِيرا فَبَان المَال قَلِيلا وَأَن العَبْد أَكثر من التَّرِكَة وَلم أَرض بذلك أَو قَالَ ظهر دين لم أعلمهُ فَفِي قَول يقبل قَوْله كالمسألة الأولى فَينفذ فِي الثُّلُث وَفِي الْقدر الْيَسِير الَّذِي اعتقده وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل هُنَا وَتلْزم الْوَصِيَّة فِي جَمِيع العَبْد لِأَن الْإِجَازَة هُنَا وَقعت بِمِقْدَار مَعْلُوم وَإِنَّمَا جعل الْجَهْل فِي غَيره فَلم يقْدَح فِي الْإِجَازَة وَفِي الْمَسْأَلَة الأولى الْجَهْل حصل فِيمَا حصلت فِي الْإِجَازَة فأثر فِيهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَتصرف العَبْد يكون فِي ذمَّته يتبع بِهِ إِذا عتق)
العَبْد إِذا لم يَأْذَن لَهُ سَيّده فِي الْمُعَامَلَة لَا يَصح شِرَاؤُهُ على الرَّاجِح وَلِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ ثُبُوت الْملك لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا للْملك وَلَا لسَيِّده بعوض فِي ذمَّته لِأَنَّهُ لم يرض بِهِ وَلَا فِي ذمَّة العَبْد لما فِيهِ من حُصُول أحد الْعِوَضَيْنِ لغير من يلْزمه الْأَخْذ وَقيل يَصح لِأَنَّهُ مُتَعَلق بِذِمَّة العَبْد وَلَا حجر للسَّيِّد على ذمَّته قَالَ الإِمَام لَا احتكام للسادات على ذمم عبيدهم حَتَّى لَو أجبر عَبده على ضَمَان أَو شِرَاء مَتَاع فِي ذمَّته لم يَصح وَهَذَا القَوْل نسبه الْمَاوَرْدِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب إِلَى الْجُمْهُور فعلى الرَّاجِح يسْتَردّ البَائِع الْمَبِيع سَوَاء كَانَ فِي يَده أَو فِي يَد السَّيِّد أَو بَاعه العَبْد لزمَه الضَّمَان وَتعلق الضَّمَان بِذِمَّتِهِ حَتَّى لَا يُطَالب إِلَّا بعد الْعتْق لِأَنَّهُ وَجب برضى صَاحب الْحق وَلم يَأْذَن فِيهِ السَّيِّد وَالْقَاعِدَة المقررة فِيمَا يتلفه العَبْد أَو يتْلف تَحت يَده أَن مَا يلْزمه بِغَيْر رضى مُسْتَحقّه كالمغصوب يتَعَلَّق بِرَقَبَتِهِ وَلَا يتَعَلَّق بِذِمَّتِهِ فِي الاظهر وَمَا لزمَه برضى الْمُسْتَحق فَإِن أذن فِيهِ السَّيِّد كالصداق تعلق بِالذِّمةِ وَالْكَسْب وَإِن لم يَأْذَن فِيهِ السَّيِّد كَمَسْأَلَة الشِّرَاء تعلق بِذِمَّتِهِ فَقَط لَا بِالْكَسْبِ وَلَا بِالرَّقَبَةِ وعَلى هَذَا يحمل كَلَام الشَّيْخ واقتراض العَبْد كشرائه فِي جَمِيع مَا مر لِأَنَّهُ عقد مُعَاوضَة مَالِيَّة فَكَانَ كالشراء وَلَو أذن لَهُ السَّيِّد فِي التِّجَارَة صَحَّ بِالْإِجْمَاع قَالَه الرَّافِعِيّ وَيكون التَّصَرُّف على حسب الْإِذْن وَالله أعلم قَالَ
بَاب الصُّلْح فصل وَيصِح الصُّلْح مَعَ الْإِقْرَار فِي الْأَمْوَال وَمَا أفْضى إِلَيْهَا وَهُوَ نَوْعَانِ إِبْرَاء ومعاوضة فالإبراء اقْتِصَاره من حَقه على بعضه وَلَا يجوز على شَرط والمعاوضة عدوله عَن حَقه إِلَى غَيره وَيجْرِي عَلَيْهِ حكم البيع
الصُّلْح فِي اللُّغَة قطع الْمُنَازعَة وَفِي الِاصْطِلَاح هُوَ العقد الَّذِي يَنْقَطِع بِهِ خُصُومَة المتخاصمين(1/260)
وَالْأَصْل فِيهِ الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وَفِي السّنة المطهرة قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين) وَفِي رِوَايَة
(إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا)
إِذا عرفت هَذَا فَالصُّلْح تَارَة يَقع مَعَ الْإِنْكَار وَتارَة مَعَ الْإِقْرَار فَالصُّلْح مَعَ الْإِنْكَار بَاطِل وَمَعَ الْإِقْرَار صَحِيح وَهُوَ كَمَا ذكره الشَّيْخ نَوْعَانِ إِبْرَاء ومعاوضة وَصُورَة الْإِبْرَاء بِلَفْظ الصُّلْح وَيُسمى صلح الحطيطة بِأَن يَقُول صالحتك على الْألف الَّذِي لي عَلَيْك على خَمْسمِائَة فَهُوَ إِبْرَاء عَن بعض الدّين بِلَفْظ الصُّلْح وَفِيه وَجْهَان الْأَصَح الصِّحَّة وَفِي اشْتِرَاط الْقبُول وَجْهَان كالوجهين فِيمَا لَو قَالَ من عَلَيْهِ دين وهبته لَك وَالأَصَح الِاشْتِرَاط لِأَن اللَّفْظ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِيهِ وَلَو صَالح من ألف على خَمْسمِائَة مُعينَة جرى الْوَجْهَانِ وَرَأى إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْفساد هُنَا أظهر وَيشْتَرط قبض الْخَمْسمِائَةِ فِي الْمجْلس هَذَا وهم فَإِن الْأَصَح أَنه لَا يشْتَرط الْقَبْض فِي الْمجْلس كَمَا فِي الْمِنْهَاج وَغَيره وَلَا يشْتَرط تَعْيِينهَا فِي نفس الصُّلْح على الْأَصَح وَلَو صَالح من ألف حَال على ألف مُؤَجل أَو عسكه فَبَاطِل لِأَن لأجل لَا يلْحق وَلَا يسْقط وَلَا يَصح تَعْلِيق هَذَا الصُّلْح على شَرط لِأَنَّهُ إِبْرَاء وتعليف الْإِبْرَاء لَا يَصح وَالله أعلم
النَّوْع الثَّانِي صلح الْمُعَاوضَة وَهُوَ الَّذِي يجْرِي على غير الْعين المدعاة بِأَن ادّعى عَلَيْهِ دَارا مثلا فاقر بهَا وَصَالَحَهُ مِنْهَا على عبد أَو على دَابَّة أَو ثوب فَهَذَا حكمه كَمَا قَالَه الشَّيْخ حكم الْمَبِيع وَإِن عقد بِلَفْظ الصُّلْح نظر إِلَى الْمَعْنى وَيتَعَلَّق بِهِ جَمِيع أَحْكَام البيع كالرد بِالْعَيْبِ وَالْأَخْذ بِالشُّفْعَة وَالْمَنْع من التَّصَرُّف قبل الْقَبْض وَالْقَبْض فِي الْمجْلس إِن كَانَ الْمصَالح عَلَيْهِ والمصالح عَنهُ ربوياً متفقين فِي عِلّة الرِّبَا وَاشْتِرَاط التَّسَاوِي فِي معيار الشَّرْع إِن كَانَا جِنْسا وَاحِدًا وَيفْسد بالغرر وَالْجهل وبالشروط الْفَاسِدَة كفساد البيع وَلَو صَالحه منا على مَنْفَعَة دَار أَو دَابَّة مُدَّة مَعْلُومَة جَازَ وَيكون هَذَا الصُّلْح إجَازَة فَيثبت فِيهِ أَحْكَام الْإِجَارَة وَلَو صَالحه على بعض الْعين المدعاة كمن صَالح من الدَّار المدعاة على نصفهَا أوثلثها أَو من الْعَبْدَيْنِ على أَحدهمَا أَو من الغنيمتين كَذَلِك فَهَذَا هبة بعض الْمُدَّعِي لمن هُوَ فِي يَده فَيشْتَرط لصِحَّة الْهِبَة الْقبُول ومضي زمَان يُمكن فِيهِ(1/261)
الْقَبْض وَيصِح هذابلفظ العبة وماهو فِي مَعْنَاهُ وَفِي صِحَّته بِلَفْظ الصُّلْح وَجْهَان الصَّحِيح الصِّحَّة وَلَا يَصح هَذَا الصُّلْح بِلَفْظ البيع وَقَول الشَّيْخ فِي الْأَمْوَال هُوَ كَمَا ذكرنَا وَقَوله وَفِيمَا أفْضى إِلَيْهِمَا كَمَا إِذا ثَبت لَهُ قصاص فَصَالح عَلَيْهِ بِلَفْظ الصُّلْح صَحَّ وَإِن صَالح بِلَفْظ البيع فَلَا وَأما مَا لَيْسَ بِمَال يؤول إِلَى المَال كَحَد الْقَذْف فَلَا يَصح الصُّلْح عَلَيْهِ بعوض وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز للْإنْسَان أَن يشرع روشناً فِي طَرِيق نَافِذ لَا يتَضَرَّر الْمَارَّة بِهِ وَلَا يجوز فِي الدَّرْب الْمُشْتَرك إِلَّا بِإِذن أهل الدَّرْب وَيجوز تَقْدِيم الْبَاب فِي الدَّرْب الْمُشْتَرك وَلَا يجوز تَأْخِيره إِلَّا بِإِذن الشُّرَكَاء)
اعْلَم أَن الطَّرِيق قِسْمَانِ نَافِذ وَغَيره فالنافذ لَا يخْتَص بأحذ بل كل النَّاس يسْتَحقُّونَ الْمُرُور فِيهِ فَلَيْسَ لأحد أَن يتَصَرَّف فِيهِ بِمَا يضر الْمَارَّة كإشراع جنَاح وَبِنَاء ساباط لِأَن الْحق لَيْسَ لَهُ فَإِن فعل فَهَل لكل أحد أَن يهدمه وَجْهَان حَكَاهُمَا ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وبشرط أَن يعليه بِحَيْثُ يمر الْمَاشِي منتصباً قَالَ المارودي وعَلى رَأسه مَا يحملهُ قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وَهُوَ الْأَشْبَه هَذَا إِذا اخْتصَّ بالمشاة فَإِن كَانَ يمر فِيهِ الفرسان والقوافل فيرفعه بِحَيْثُ يمر فِيهِ الْبَعِير وَعَلِيهِ المحارة وَنَحْوهَا
والاصل فِي جَوَاز الإشراع أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نصب بِيَدِهِ الْكَرِيمَة ميزاباً فِي دَار عَمه الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ) وَكَانَ شَارِعا إِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا ورد النَّص فِي الْمِيزَاب قسنا عَلَيْهِ الْبَاقِي
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط فِي المشرع أَن يكون مُسلما فَإِن كَانَ ذِمِّيا لم يجز لَهُ الْإِخْرَاج إِلَى شوارع الْمُسلمين على الْأَصَح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة لِأَنَّهُ كإعلاء الْبناء على الْمُسلمين أَو أبلغ قَالَ ابْن الرّفْعَة وسلوكهم طَرِيق الْمُسلمين لَيْسَ عَن اسْتِحْقَاق بل بطرِيق التبع للْمُسلمين وَلَو كَانَ الشَّارِع مَوْقُوفا فَمَا حكمه هَل هُوَ كالمملوك أم لَا توقف فِيهِ ابْن الرّفْعَة وَقَضِيَّة إِطْلَاق الشَّيْخ أَنه لَا فرق وَقَول الشَّيْخ وَيجوز أَن يشرع أَي يخرج جنَاحا وَحذف ذَلِك للْعلم بِهِ وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لَا يجوز غَيره كبناء دكة وغرس شجر وَهُوَ كَذَلِك إِن ضرّ بِلَا خلاف وَكَذَا إِن لم يضر على الرَّاجِح نعم يجوز أَن يفتح الْأَبْوَاب فِي الشوارع كَيْفَمَا شَاءَ الفاتح وَالله أعلم
(فرع) يحرم على الإِمَام أَو غَيره أَن يُصَالح على إشراع الْجنَاح لِأَن الْهَوَاء لَا يفرد بِالْعقدِ(1/262)
وَإِنَّمَا يتبع الْقَرار وَلِأَنَّهُ إِن ضرّ لم يجز فعله وَإِن لم يضر فالمخرج يسْتَحقّهُ وَمَا يسْتَحقّهُ الْإِنْسَان فِي الطَّرِيق لَا يجوز أَخذ الْعِوَض عَنهُ كالمرور وَأما الدَّرْب المسدود إِذا كَانَ مُشْتَركا فَيحرم على غير أَهله أَن يشرع إِلَيْهِ جنَاحا بِغَيْر إذْنهمْ لِأَنَّهُ ملكهم كَذَا علله الْأَصْحَاب
قلت وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَا يجوز لغير أهل الدَّرْب الدُّخُول فِيهِ بِغَيْر إذْنهمْ وَأجَاب الإِمَام أَن الدُّخُول للْغَيْر مُسْتَفَاد من قَرَائِن الْأَحْوَال قَالَ الأسنائي وَمُقْتَضى هَذَا الْجَواب أَنه لَا يجوز الدُّخُول إِذا كَانَ فِي الْمُسْتَحقّين مَحْجُور عَلَيْهِ لِأَن الْإِجَابَة ممتنعة مِنْهُ وَمن وليه وَقد توقف ابْن عبد السَّلَام أَيْضا فِي الشّرْب من أنهارهم وَغَيرهَا وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن لَيْسَ لأحد أَن يجلس فِي دربهم بِغَيْر إذْنهمْ وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ إِلَّا بِإِذن أهل الدَّرْب هُوَ أَعم من الْأَجَانِب وَمن أَصْحَابه وَهُوَ كَذَلِك لِأَن الْأَمْلَاك الْمُشْتَركَة هَذَا شَأْنهَا لَا يجوز التَّصَرُّف فِيهَا إِلَّا بِإِذن بَقِيَّة الشُّرَكَاء وَلِهَذَا يحرم على الشَّرِيك أَن يترب الْكتاب من الْحَائِط الْمُشْتَرك إِلَّا بِإِذن الشَّرِيك وَاعْلَم أَن أهل الدَّرْب المسدود من لَهُ فِيهِ بَاب نَافِذ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يسْتَحق الِانْتِفَاع وَيسْتَحق كل وَاحِد من بَاب دَاره إِلَى رَأس الدَّرْب دون مَا يَلِي آخر الدَّرْب على الصَّحِيح لِأَن ذَلِك الْقدر هُوَ مَحل تردده وَمَا عدا ذَلِك هُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِيهِ فَإِذا أَرَادَ أَن يفتح بَابا إِلَى دَاخله منع إِلَّا برضاهم وَإِن أَرَادَ أَن يُؤَخر بَابه إِلَى رَأس الدَّرْب فَلهُ دلك لِأَنَّهُ ترك بعض حَقه بِشَرْط أَن يسد الأول وَاعْلَم أَن وضع الْمِيزَاب كفتح الْبَاب ثمَّ حَيْثُ منع الشَّخْص من فتح بَاب فَصَالح أهل الدَّرْب بِمَال صَحَّ لِأَنَّهُ انْتِفَاع بِالْأَرْضِ بِخِلَاف إشراع الْجنَاح كَمَا مر الْفُرُوع وَالله أعلم
(فرع) للشَّخْص فتح طاقات فِي ملكه كَيفَ شَاءَ إِذْ لَا حجر عَلَيْهِ وَلَو أَرَادَ أَن يفتح بَابا فِي الدَّرْب المسدود ويسمره فَهَل لَهُ ذَلِك بِغَيْر رضى أَهله وَجْهَان
أَحدهمَا لَا كَمَا لَو قَالَ أَنا أَتَّخِذ آنِية من ذهب أَو فضَّة وَلَا أستعملها فَإِنَّهُ يمْنَع من ذَلِك وَالرَّاجِح فِي الْبَاب الْجَوَاز دون الْأَوَانِي لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ رفع حَائِطه بِكَمَالِهِ كَانَ لَهُ ذَلِك فَهَذَا أولى وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْحِوَالَة فصل وشرائط الْحِوَالَة أَرْبَعَة رضى الْمُحِيل وَقبُول الْمُحْتَال وَكَون الْحق مُسْتَقرًّا فِي الذِّمَّة واتفاق مَا فِي ذمَّة الْمُحِيل والمحال عَلَيْهِ فِي الْجِنْس وَالنَّوْع والحلول والتأجيل وتبرأ بهَا ذمَّة الْمُحِيل
الْحِوَالَة بِفَتْح الْحَاء وَحكي كسرهَا وَهِي فِي اللُّغَة الإنتقال من قَوْلهم حَال عَن الْعَهْد أَي انْتقل(1/263)
وَهِي فِي الِاصْطِلَاح انْتِقَال الدّين من ذمَّة إِلَى ذمَّة وحقيقتها بيع دين بدين على الْأَصَح واستثنيت من بيع الدّين بِالدّينِ لمسيس الْحَاجة والاصل فِيهَا الْإِجْمَاع مَا ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(مطل الْغَنِيّ ظلم وَإِذا أتبع أحدكُم على ملئ فَليتبعْ) وَفِي رِوَايَة
(وَإِذا أُحِيل أحدكُم على ملئ فَليَحْتَلْ) وَقَوله أتبع بِضَم الْهمزَة وَسُكُون التَّاء وَقَوله فَليتبعْ قَالَ بعض الْمُحدثين إِن تاءه مُشَدّدَة وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم الصَّوَاب الْمَعْرُوف تخفيفها وَقَوله على ملئ هُوَ بِالْهَمْزَةِ والمطل إطالة المدافعة وَاشْترط الشَّيْخ لصحتها هَذِه الْأَرْبَعَة وَهِي ثَلَاثَة لِأَن رضى الْمُحِيل والمحتال شَرط وَاحِد وَوجه اشْتِرَاط رضى الْمُحِيل أَن الْحق الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ قَضَاؤُهُ من حَيْثُ شَاءَ وَوجه رَضِي الْمُحْتَال أَن حَقه فِي ذمَّة الْمُحِيل فَلَا ينْتَقل إِلَّا بِرِضَاهُ كَمَا أَن الْأَعْيَان لَا تبدل إِلَّا بِالتَّرَاضِي وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَن رضى الْمحَال عَلَيْهِ لَا يشْتَرط وَهُوَ كَذَلِك على الْأَصَح لِأَنَّهُ مَحل التَّصَرُّف فَأشبه العَبْد الْمَبِيع وَلِأَن الْحق للْمُحِيل فَلهُ أَن يَسْتَوْفِيه بِنَفسِهِ وَبِغَيْرِهِ وَالله أعلم
الشَّرْط الثَّانِي أَن يكون الدّين مُسْتَقرًّا على مَا ذكره الشَّيْخ وَاشْتِرَاط الِاسْتِقْرَار ذكره الرَّافِعِيّ عِنْد مَا إِذا أحَال المُشْتَرِي البَائِع بِالثّمن وَقَالَ لَا يَكْفِي لصِحَّة الْحِوَالَة لُزُوم الدّين بل لَا بُد من الِاسْتِقْرَار وَلِأَن دين السّلم لَازم مَعَ أَن الْأَصَح لَا تصح الْحِوَالَة بِهِ وَلَا عَلَيْهِ لكنه قَالَه هُنَا الْقسم الثَّانِي الدّين اللَّازِم فَتَصِح الْحِوَالَة بِهِ وَعَلِيهِ قَالَ النَّوَوِيّ بعده أطلق الرَّافِعِيّ صِحَة الْحِوَالَة بِالدّينِ اللَّازِم وَعَلِيهِ اقْتِدَاء بالغزالي وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن دين السّلم لَازم وَلَا تصح الْحِوَالَة بِهِ وَلَا عَلَيْهِ على الصَّحِيح وَبِه قطع الْأَكْثَرُونَ قلت قد اتفقَا على تَصْحِيح الْحِوَالَة بِثمن فِي زمن الْخِيَار وَعَلِيهِ مَعَ أَنه غير لَازم فضلا عَن الِاسْتِقْرَار إِلَّا أَنه يؤول إِلَى اللُّزُوم وَأما بعد مُضِيّ الْخِيَار وَقبل قبض الْمَبِيع فَالْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور أَنه تصح الْحِوَالَة بِهِ وَعَلِيهِ مَعَ أَنه غير مُسْتَقر لجَوَاز تلف الْمَبِيع فَلَا يسْتَقرّ إِلَّا بِقَبض الْمَبِيع وَكَذَا تجوز الْحِوَالَة بِالْأُجْرَةِ وَكَذَا الصَدَاق قبل الدُّخُول وَالْمَوْت وَنَحْو ذَلِك بل صدر فِي أصل الرَّوْضَة فِي أول الشَّرْط فَقَالَ الثَّانِي كَون الدّين لَازِما أَو يصير إِلَى اللُّزُوم وَالله أعلم
(فرع) إِذا اشْترى شخص شَيْئا ثمَّ أحَال البَائِع بِالثّمن على رجل ثمَّ وجد المُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبا قَدِيما فَرده بِهِ أَو تَقَايلا وَنَحْوهمَا فَفِي بطلَان الْحِوَالَة خلاف منتشر وَالْمذهب الْبطلَان وَسَوَاء فِي ذَلِك بعد قبض الْمُحْتَال الْحِوَالَة أم لَا على الْأَصَح وَلَو أحَال البَائِع على المُشْتَرِي بِالثّمن لشخص فَالْمَذْهَب أَنَّهَا لَا تبطل سَوَاء قبض الْمُحْتَال مَال الْحِوَالَة من المُشْتَرِي أم لَا وَالْفرق بَين الصُّورَتَيْنِ أَن فِي هَذِه الصُّورَة الثَّانِيَة تعلق الْحق بثالث وَالله أعلم(1/264)
الشَّرْط الثَّالِث اتِّفَاق الدينَيْنِ يَعْنِي الْمحَال بِهِ والمحال عَلَيْهِ فِي الْجِنْس وَالْقدر والحلول والتأجيل وَالصِّحَّة والتكسير والجودة والرداءة على الصَّحِيح وَضبط ابْن الرّفْعَة ذَلِك بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبرَة فِي السّلم وَوجه اشْتِرَاط ذَلِك حَتَّى يعلم لِأَن الْمَجْهُول لَا يَصح بَيْعه وَلَا اسْتِيفَاؤهُ وَالْحوالَة إِمَّا بيع على الصَّحِيح أَو اسْتِيفَاء فَإِذا وَقعت الْحِوَالَة صَحِيحَة بَرِيء الْمُحِيل عَن دين الْمُحْتَال وَبرئ الْمحَال عَلَيْهِ من دين الْمُحِيل ويتحول حق الْمُحْتَال إِلَى ذمَّة الْمحَال عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك فَائِدَة الْحِوَالَة وَالله أعلم
(فرع) إِذا كَانَ بِالدّينِ الْمحَال عَلَيْهِ ضَامِن لم ينْتَقل بِصفة الضَّمَان بل يبرأ الضَّمَان صرح بِهِ الرَّافِعِيّ فِي أول الْبَاب الثَّانِي من أَبْوَاب الضَّمَان وَكَذَا لَو كَانَ بِهِ رهن فَإِنَّهُ لَا ينْتَقل الرَّهْن صرح بِهِ الْمُتَوَلِي وَغَيره بِخِلَاف الْوَارِث فَإِنَّهُ ينْتَقل الدّين إِلَيْهِ بِصفتِهِ من الضَّمَان وَالرَّهْن وَالْفرق أَن الْوَارِث خَليفَة الْمَوْرُوث فِيمَا يثبت لَهُ من الْحُقُوق وَالله أعلم
(فرع) احتال شخص ثمَّ إِن الْمُحْتَال عَلَيْهِ أنكر الدّين وَحلف وَلَا بَيِّنَة أَو أفلس الْمحَال عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِك حَيْثُ يتَعَذَّر الِاسْتِيفَاء فَلَيْسَ للمحتال أَن يرجع على الْمُحِيل لِأَن الْحِوَالَة إِمَّا بيع أَو اسْتِيفَاء وَكِلَاهُمَا يمْنَع الرُّجُوع وَالله أعلم قَالَ
بَاب الضَّمَان فصل وَيصِح ضَمَان الدُّيُون المستقرة إِذا علم قدرهَا وَلِصَاحِب الْحق مُطَالبَة من شَاءَ من الضَّامِن والمضمون عَنهُ إِذا كَانَ الضَّمَان على مَا بَيناهُ
الضَّمَان ضم ذمَّة إِلَى ذمَّة وَالْأَحْسَن أَن يُقَال الِالْتِزَام حَتَّى يَشْمَل إِحْضَار من عَلَيْهِ الْحق إِذا ضمنه وَيُقَال أَنا ضَامِن وضمين وكفيل وزعيم وحميل
وَالْأَصْل فِي مشروعيته الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(الْعَارِية مُؤَدَّاة والزعيم غَارِم) وَورد
(أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أُتِي بِجنَازَة فَقَالُوا يَا رَسُول الله صل عَلَيْهَا قَالَ هَل ترك شَيْئا قَالُوا لَا قَالَ هَل عَلَيْهِ دين قَالُوا ثَلَاثَة دنيانير قَالَ صلوا على صَاحبكُم فَقَالَ أَبُو قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ صل عَلَيْهِ يَا(1/265)
رَسُول الله وَعلي دينه فصلى عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَة قَالَ أَبُو قَتَادَة أَنا الْكَفِيل بِهِ ثمَّ شَرط صِحَة الضَّمَان أَن يعرف الضَّامِن الْمَضْمُون لَهُ على الْأَصَح لِأَن النَّاس يتفاوتون فِي الْمُطَالبَة تسهيلاً وتشديداً والأغراض تخْتَلف بذلك فَيكون الضَّمَان بِدُونِهِ غرراً وَلَا يشْتَرط معرفَة الْمَضْمُون عَنهُ فِي الْأَصَح وَلَا حَيَاته بِلَا خلاف كَمَا لَا يشْتَرط رِضَاهُ قطعا وَأما الدّين فشرطه كَونه ثَابتا وَقت ضَمَانه فَلَا يَصح ضَمَان مالم يجب وَإِن جرى سَبَب وُجُوبه كضمان نَفَقَة الْمَرْأَة غَدا وَيشْتَرط كَونه لَازِما أَو يؤول إِلَى اللُّزُوم لَا يشْتَرط الِاسْتِقْرَار مِثَال مَا يؤول إِلَى اللُّزُوم كَالثّمنِ فِي زمن الْخِيَار وَأما مَال الْجعَالَة قبل الْفَرَاغ من الْعَمَل قيل يَصح لِأَنَّهُ يؤول إِلَى اللُّزُوم وَالصَّحِيح أَنه لَا يَصح لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِم فِي الْحَال وَلَا يؤول لِأَنَّهُ لَيْسَ للجاعل إِلْزَام الْعَامِل الْعَمَل وإتمامه فَأشبه الْكِتَابَة كَذَا علله القَاضِي أَبُو الطّيب وَهُوَ تَعْلِيل ضَعِيف وَأما الثّمن بعد مُضِيّ الْخِيَار فَهُوَ لَازم وَغير مُسْتَقر فَيصح ضَمَانه وَكَذَا الصَدَاق قبل الدُّخُول وَلَا نظر إِلَى احْتِمَال سُقُوطه كَمَا لَا نظر إِلَى احْتِمَال سُقُوط المستقر بِالْإِبْرَاءِ وَالرَّدّ بِالْعَيْبِ وَنَحْوهمَا وَيشْتَرط فِي الدّين أَيْضا أَن يكون مَعْلُوما فَلَا يَصح ضَمَان الْمَجْهُول كَمَا إِذا قَالَت ضمنت ثمن مَا بِعته فلَانا وَهُوَ جَاهِل بِهِ فَإِن مَعْرفَته متيسرة وَقيل يَصح أما لَو قَالَ ضمنت لَك شَيْئا مِمَّا لَك على فلَان فَلَا يَصح بِلَا خلاف
وَاعْلَم أَن الْخلاف فِي صِحَة ضَمَان الْمَجْهُول جَار فِي صِحَة الْبَرَاءَة من الْمَجْهُول وَالْخلاف مَبْنِيّ على أَن الْبَرَاءَة تمْلِيك أَو إِسْقَاط فَإِن قُلْنَا تمْلِيك وَهُوَ الصَّحِيح فَلَا تصح الْبَرَاءَة من الْمَجْهُول وَإِن قُلْنَا إِسْقَاط صَحَّ الْإِبْرَاء من الْمَجْهُول وَتظهر ثَمَرَة الْخلاف فِيمَا لَو اغتاب شخص لآخر ثمَّ قَالَ لَهُ اغتبتك فَاجْعَلْنِي فِي حل فَفعل وَهُوَ لَا يدْرِي بِمَا اغتابه بِهِ فَهَل يبرأ فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم لِأَنَّهُ إِسْقَاط
الثَّانِي لَا لِأَن الْمَقْصُود رِضَاهُ وَلَا يُمكن الرضى بِالْمَجْهُولِ
وَاعْلَم أَنا إِذا لم نصحح ضَمَان الْمَجْهُول فَقَالَ ضمنت مِمَّا لَك على فلَان من دِرْهَم إِلَى عشرَة فَفِيهِ خلاف وَالصَّحِيح الصِّحَّة لانْتِفَاء الْغرَر بِذكر الْقدر فعلى هَذَا مَاذَا يلْزمه فِيهِ أوجه الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ عشرَة وَالأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ تِسْعَة وَقيل يلْزمه ثَمَانِيَة وَإِذا عرفت هَذَا فَيشْتَرط فِي ضَمَان الدّين كَونه ثَابتا لَازِما مَعْلُوما كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وأهملا رَابِعا ذكره الْغَزالِيّ وَهُوَ أَن يكون قَابلا لِأَن يتَبَرَّع الْإِنْسَان بِهِ على غَيره فَيخرج حد الْقصاص وحد الْقَذْف وَنَحْوهمَا وَالله(1/266)
أعلم وَقَول الشَّيْخ وَيصِح ضَمَان الدُّيُون أَعم من أَن يكون الدّين نَقْدا أَو مَنْفَعَة وَهُوَ كَذَلِك فَيصح ضَمَان الْمَنَافِع الثَّابِتَة فِي الذِّمَّة كَمَا يَصح ضَمَان الْأَمْوَال كَذَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَإِذا صَحَّ الضَّمَان بِشُرُوطِهِ فللمستحق أَن يُطَالب الْأَصِيل والضامن أما الْأَصِيل فَلِأَن الدّين بَاقٍ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ حِين وفى دين الْمَيِّت
(الْآن قد بردت جلدته وَإِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون مِمَّا اكتسبناه فِي ذممنا) وَأما الضَّامِن فلقول شَفِيع المذنبين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الزعيم غَارِم) وَلنَا وَجه كمذهب مَالك أَنه لَا يُطَالب الضَّامِن إِلَّا بعد عجز الْمَضْمُون عَنهُ وَله مُطَالبَة هَذَا بِبَعْض الدّين وَذَلِكَ بِبَعْضِه الآخر وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا غرم الضَّامِن رَجَعَ على الْمَضْمُون عَنهُ إِذا كَانَ الضَّمَان وَالْقَضَاء بِإِذْنِهِ)
إِذا ضمن شخص دين آخر وَأَدَّاهُ الضَّامِن هَل يرجع على الْمَضْمُون عَنهُ ينظر إِن ضمن بِالْإِذْنِ وَأدّى بِالْإِذْنِ رَجَعَ لِأَنَّهُ صرف مَاله إِلَى منفعَته بِإِذْنِهِ فَأشبه مَا لَو قَالَ اعلف دَابَّتي فعلفها وَفِي الْحَاوِي أَنه لَا يرجع إِلَّا إِذا شَرط الرُّجُوع وَذكر الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْإِجَارَة أَنه لَو قَالَ أَطْعمنِي رغيفا فأطعمه أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ وَإِذا انْتَفَى الْإِذْن فِي الضَّمَان وَفِي الْأَدَاء فَلَا رُجُوع لِأَنَّهُ تبرع مَحْض وَإِن أذن فِي الضَّمَان فَقَط رَجَعَ على الرَّاجِح لِأَن الضَّمَان يُوجب الْأَدَاء فَكَانَ الْإِذْن فِيهِ إِذْنا لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ وَإِن ضمن بِغَيْر إِذْنه وَأدّى بِإِذْنِهِ فالراجح أَنه لَا يرجع لِأَن وجوب الْأَدَاء سَببه الضَّمَان وَلم يَأْذَن فِيهِ فعلى هَذَا لَو قَالَ أد دينيي بِشَرْط الرُّجُوع فَالْأَصَحّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة أَنه لَا يرجع وَجزم بِهِ الْمَاوَرْدِيّ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم) وَلَو أذن شخص لشخص بأَدَاء دينه من غير ضَمَان بِشَرْط أَن يرجع عَلَيْهِ رَجَعَ للْحَدِيث وَكَذَا إِن أطلق على الرَّاجِح لِأَنَّهُ الْمُعْتَاد
فَإِن قيل مَا الْفرق بَين هَذِه وَبَين مَا إِذا قَالَ لشخص اغسل ثوبي وَنَحْو ذَلِك بِلَا شَرط فَإِن الرَّاجِح هُنَاكَ أَنه لَا يسْتَحق أُجْرَة فَالْفرق أَن الْمُسَامحَة فِي الْمَنَافِع أَكثر من الْأَعْيَان وَالله أعلم
وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا يرجع الضَّامِن والمؤدي إِذا أشهدا بِالْأَدَاءِ رجلَيْنِ أَو رجلا وَامْرَأَتَيْنِ وَكَذَا يَكْفِي وَاحِد ليحلف مَعَه فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ يَكْفِي لإِثْبَات الْأَدَاء فَإِن لم يشْهد فَلَا رُجُوع إِن أدّى فِي غيبَة الْأَصِيل وَكذبه أَعنِي الْأَصِيل وَكَذَا إِن صدقه الْأَصِيل على الْأَصَح لِأَنَّهُ لم يؤد مَا ينْتَفع بِهِ(1/267)
الْأَصِيل أَلا ترى أَن الْمُطَالبَة بَاقِيَة وَمحل الْخلاف إِذا سكت الْأَصِيل عَن قَوْله أشهد فَإِن أمره بِهِ وَتَركه لم يرجع بِلَا خلاف وَإِن أذن لَهُ فِي ترك الْإِشْهَاد رَجَعَ قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر فَلَو صدق الضَّامِن فِي أَدَاء الْمَضْمُون لَهُ أَو أدّى بِحَضْرَة الْأَصِيل رَجَعَ على الْمَذْهَب أما فِي الأولى فلسقوط الطّلب بِإِقْرَار صَاحب الدّين وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَن التَّقْصِير من الْأَصِيل لِأَنَّهُ لم يحتط لنَفسِهِ بِخِلَاف غيبته وَالله أعلم
(فرع) إِذا طَالب الْمَضْمُون لَهُ الضَّامِن فَهَل للضامن مُطَالبَة الْمَضْمُون عَنهُ ليخلصه نظر إِن ضمن بِإِذْنِهِ فَلهُ ذَلِك قِيَاسا على رُجُوعه وَمعنى تخليصه أَن يُؤْذِي دين الْمَضْمُون لَهُ ليبرأ الضَّامِن فَلَو لم يؤد فَهَل للضامن حَبسه وَجْهَان أصَحهمَا فِي الرَّافِعِيّ لَا يحْبسهُ وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة على ذَلِك وَزَاد أَنه لَا يرسم عَلَيْهِ أَيْضا قَالَ الإسنائي فِيهِ نظر وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يَصح ضَمَان الْمَجْهُول وَلَا ضَمَان مالم يجب إِلَّا دَرك الْمَبِيع)
أما ضَمَان الْمَجْهُول فَلِأَنَّهُ غرر وَالْغرر مَنْهِيّ عَنهُ وَأما ضَمَان مالم يجب فَلِأَن الضَّمَان توثقه بِالْحَقِّ فَلَا يسْبق وجوب الْحق كَالشَّهَادَةِ وَصُورَة ذَلِك وَنَحْوه كَمَا إِذا قَالَ بِعْ لفُلَان وَعلي ضَمَان الثّمن أَو أقْرضهُ وَعلي ضَمَان بدله وَيسْتَثْنى من ذَلِك ضَمَان دَرك الْمَبِيع على الْمَذْهَب لِأَن الْحَاجة دَاعِيَة إِلَى ذَلِك لِأَن الْمُعَامَلَة مَعَ من لَا يعرف كَثِيرَة وَيخَاف المُشْتَرِي أَن يخرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا وَلَا يظفر بالبائع فَيفوت عَلَيْهِ مَا بدله فَاحْتَاجَ إِلَى التوثيق بذلك وَقيل لَا يَصح لِأَنَّهُ ضَمَان مَا لم يجب وَجَوَابه أَنا نشترط فِي صِحَّته قبض الثّمن فَيضمن الثّمن إِن خرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا فَيَقُول ضمنت لَك عُهْدَة الثّمن أَو دركه أَو خلاصك مِنْهُ فَلَو قَالَ ضمنت خلاص الْمَبِيع لم يَصح لِأَنَّهُ لَا يسْتَقلّ بخلاصه بعد ظُهُور الِاسْتِحْقَاق نعم لَو ضمن عُهْدَة الْمَبِيع إِن أَخذ بِالشُّفْعَة لأجل بيع سَابق صَحَّ قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب والمضمون فِي هَذَا الْفَصْل لَيْسَ هُوَ رد الْعين وَإِلَّا فَكَانَ يلْزم أَن لَا تجب قِيمَته عِنْد التّلف بل الْمَضْمُون إِنَّمَا هُوَ مَالِيَّته عِنْد تعذر رده حَتَّى لَو بَان الِاسْتِحْقَاق وَالثمن فِي يَد البَائِع لَا يُطَالب الضَّامِن بِقِيمَتِه قَالَ وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْكفَالَة بِالْبدنِ فصل وَالْكَفَالَة بِالْبدنِ جَائِزَة إِذا كَانَ على الْمَكْفُول بِهِ حق لآدَمِيّ
الْمَذْهَب صِحَة كَفَالَة الْبدن لإطباف النَّاس على ذَلِك لأجل مَسِيس الْحَاجة إِلَيْهَا وَلَا يشْتَرط الْعلم بِقدر مَا على الْمَكْفُول لِأَنَّهُ تكفل بِالْبدنِ لَا بِالْمَالِ وَيشْتَرط كَون الدّين مِمَّا يَصح ضَمَانه وَالْمذهب صِحَة كَفَالَة بدن من عَلَيْهِ عُقُوبَة لآدَمِيّ كقصاص وحد قذف لِأَنَّهُ حق لَازم فَأشبه المَال(1/268)
وَأما إِن كَانَ عَلَيْهِ حد الله تَعَالَى فَلَا تصح الْكفَالَة بِبدنِهِ وَعَن هَذَا احْتَرز الشَّيْخ بقوله حق آدَمِيّ وَوجه عدم الصِّحَّة أَنا مأمورون بسترها وَالسَّعْي فِي إِسْقَاطهَا مَا أمكن وَالْقَوْل بِالصِّحَّةِ يُنَافِي ذَلِك وكما يَصح الْكفَالَة ببدن شخص كَذَا تصح كَفَالَة الْكَفِيل بل كل من وَجب عَلَيْهِ حُضُور مجْلِس الحكم عِنْد الطّلب لحق آدَمِيّ أَو وَجب على غَيره إِحْضَاره صحت كفَالَته حَتَّى تصح كَفَالَة بدن غَائِب ومحبوس وميت ليحضر وَيشْهد على صورته إِذا لم يعرف نسبه وَمحل هَذَا إِذا لم يدْفن فَلَا تصح كفَالَته سَوَاء تغير أم لَا ثمَّ إِن عين مَكَان التَّسْلِيم تعين وَإِلَّا وَجب التَّسْلِيم فِي مَكَان الْكفَالَة لِأَن الْعرف يَقْتَضِي ذَلِك وَإِذا سلم الْمَكْفُول فِي مَكَان التَّسْلِيم برِئ من الْكفَالَة بِشَرْط أَن لَا يمْنَع مَانع بِأَن لَا يكون هُنَاكَ ظَالِم بغلبه عَلَيْهِ وَيَأْخُذهُ بالقهر وَلَو حضر الْمَكْفُول فَلَا يبرأ الكافل حَتَّى يَقُول الْمَكْفُول سلمت نَفسِي عَن جِهَة الْكفَالَة وَلَو غَابَ الْمَكْفُول وَجَهل الكافل مَكَانَهُ لم يلْزمه إِحْضَاره لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ ذَلِك {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وسعهَا} وَإِلَّا يلْزمه ويمهل قدر الْحَاجة فَلَو مَاتَ الْمَكْفُول لَهُ لم يُطَالب الْكَفِيل بِالْمَالِ لِأَنَّهُ لم يضمنهُ حَتَّى لَو شَرط فِي الْكفَالَة أَنه يغرم المَال إِن فَاتَ تَسْلِيمه بطلت الْكفَالَة وَصُورَة الْمَسْأَلَة أَن يَقُول كفلت بدنه بِشَرْط الْغرم أَو على أَنِّي أغرم وَالله أعلم قَالَ
بَاب الشّركَة فصل وللشركة خمس شَرَائِط أَن تكون على ناض من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَأَن يتَّفقَا فِي الْجِنْس وَالنَّوْع وَأَن يخلطا الْمَالَيْنِ وَأَن يَأْذَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه فِي التَّصَرُّف وَأَن يكون الرِّبْح والخسران على قدر الْمَالَيْنِ
الشّركَة فِي اللُّغَة الِاخْتِلَاط وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن ثُبُوت الْحق فِي الشَّيْء الْوَاحِد لشخصين فَصَاعِدا على جِهَة الشُّيُوع
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(يَقُول الله تَعَالَى أَنا ثَالِث الشَّرِيكَيْنِ مَا لم يخن أَحدهمَا صَاحبه فَإِذا خانه خرجت من بَينهم) وَمَعْنَاهُ تنْزع الْبركَة من مَالهمَا ثمَّ الشّركَة أَنْوَاع نذْكر نَوْعَيْنِ
أَحدهمَا شركَة الابدان وَهِي بَاطِلَة كشركة الحمالين وَسَائِر المحترفين ليَكُون كسبهما بَينهمَا سَوَاء كَانَ مُتَسَاوِيا أَو متفاوتاً وَسَوَاء اتّفق السَّبَب كالدلالين والحطابين أَو اخْتلفَا كالخياط(1/269)
والرفا وَوجه بُطْلَانهَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا متميز بِبدنِهِ ومنافعه فَيخْتَص بفوائده كَمَا لَو اشْتَركَا فِي ماشيتهما وَهِي متميزة ليَكُون الدّرّ والنسل بَينهمَا وَجوز شركَة الْأَبدَان عِنْد اتِّحَاد الصَّنْعَة مَالك رَحمَه الله وجوزها أَبُو حنيفَة مُطلقًا وَدَلِيلنَا عَلَيْهَا مَا سلماه من الِامْتِنَاع فِي الِاصْطِيَاد والاحتطاب
النَّوْع الثَّانِي شركَة الْعَنَان وَهِي صَحِيحَة للْحَدِيث السَّابِق وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على صِحَّتهَا وَهِي مَأْخُوذَة من عنان الدَّابَّة لِاسْتِوَاء الشَّرِيكَيْنِ فِي ولَايَة الْفَسْخ وَالتَّصَرُّف وَاسْتِحْقَاق الرِّبْح على قدر المَال كاستواء طرفِي الْعَنَان ثمَّ لصحتها شُرُوط
أَحدهَا أَن تكون على ناض من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على صِحَّتهَا فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير نعم فِي جَوَازهَا على المغشوشة وَجْهَان أصَحهمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة الْجَوَاز أَيْضا
الثَّانِي لَا كالقراض ثمَّ هَذَا لَا يخْتَص بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِير بل يجوز عقد الشّركَة على مثلي فَتَصِح فِي الْقَمْح وَالشعِير وَنَحْوهمَا لِأَن الْمثْلِيّ إِذا اخْتَلَط بِجِنْسِهِ ارْتَفع التَّمْيِيز فَأشبه النَّقْدَيْنِ وَلِهَذَا لَا تجوز الشّركَة فِي المتقومات لعدم تصور الْخَلْط النَّافِي للتمييز وَلِهَذَا لَو تلف أحد المتقومين أَو بعضه عرف فامتنعت الشّركَة لذَلِك وَإِلَّا لأخذ أحد الشَّرِيكَيْنِ من مَال الآخر بِلَا حق لَو صححنا الشّركَة فِي الْمُتَقَوم
الشَّرْط الثَّانِي أَن يتَّفقَا فِي الْجِنْس فَلَا تصح الشّركَة فِي الدَّرَاهِم وَالذَّهَب وَكَذَا فِي الصّفة فَلَا تصح فِي الصِّحَاح والمكسرة للتمييز فيهمَا
الشَّرْط الثَّالِث الْخَلْط لِأَن المَال قبل التَّمْيِيز فِيهِ حَاص وَيشْتَرط فِي الْخَلْط أَن لَا يبْقى مَعَه تَمْيِيز وَيَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم الْخَلْط على العقد وَالْإِذْن فَلَو اشْتَركَا فِي ثَوْبَيْنِ من غزل وَاحِد والصانع وَاحِد لم تصح الشّركَة لتمييز أَحدهمَا عَن الآخر وَعدم معرفَة كل مِنْهُمَا ثوب يُقَال لَهُ اشْتِبَاه وَيُقَاس بِهَذَا أَمْثَاله ثمَّ هَذَا الْخَلْط إِنَّمَا يعْتَبر عِنْد انْفِرَاد الْمَالَيْنِ أما لَو كَانَ مشَاعا بِأَن اشترياه مَعًا على الشُّيُوع أَو ورثاه فَإِنَّهُ كَاف لحُصُول الْمَقْصُود وَهُوَ عدم التَّمْيِيز
الشَّرْط الرَّابِع الْإِذْن مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّف فَإِذا وجد من الطَّرفَيْنِ تسلط كل وَاحِد مِنْهُمَا على التَّصَرُّف وَاعْلَم أَن تصرف الشَّرِيك كتصرف الْوَكِيل فَلَا يَبِيع بِغَيْر نقد الْبَلَد وَلَا يَبِيع بالأجل وَلَا يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي بِغَبن فَاحش وَكَذَا لَا يُسَافر إِلَّا بِإِذن الشَّرِيك
الشَّرْط الْخَامِس أَن يكون الرِّبْح على قدر الْمَالَيْنِ سَوَاء تَسَاويا فِي الْعَمَل أَو تَفَاوتا لِأَنَّهُ لَو جعلنَا شَيْئا من الرِّبْح فِي مُقَابلَة الْعَمَل لاختلط عقد الْقَرَاض بِعقد الشّركَة وَهُوَ مَمْنُوع فَلَو شرطا التَّسَاوِي فِي الرِّبْح مَعَ تفاضل الْمَالَيْنِ فسد العقد لِأَنَّهُ مُخَالف لوضع الشّركَة وَيرجع كل وَاحِد(1/270)
مِنْهُمَا على صَاحبه بِأُجْرَة عمله كالقراض إِذا فسد فَإِنَّهُ يرجع الْعَامِل بِأُجْرَة عمله وَالتَّصَرُّف نَافِذ لوُجُود الْأذن وَالرِّبْح يكون على قدر الْمَالَيْنِ وَكَذَا الخسران كالربح وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَنه لَا يشْتَرط تَسَاوِي الْمَالَيْنِ وَهُوَ كَذَلِك على الصَّحِيح وَقَالَ الْأنمَاطِي يشْتَرط تساويهما لصِحَّة الشّركَة وَهُوَ ضَعِيف وَالله أعلم
(فرع) الْحِيلَة فِي الشّركَة فِي غير الْمِثْلِيَّات من المتقومات أَن يَبِيع كل وَاحِد مِنْهُمَا بعض عرضه بِبَعْض عرض الآخر ويتقابضا ثمَّ يَأْذَن كل مِنْهُمَا للْآخر فِي التَّصَرُّف وَالله أعلم قَالَ
وَلكُل مِنْهُمَا فَسخهَا مَتى شَاءَ وَمَتى مَاتَ أَحدهمَا بطلت)
عقد الشّركَة جَائِز من الطَّرفَيْنِ وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا فَسخه مَتى شَاءَ لِأَنَّهُ عقد إرفاق فَكَانَ جَائِزا كَالْوكَالَةِ وكما أَنه لكل مِنْهُمَا فَسخه فَلِكُل مِنْهُمَا عزل نَفسه وعزل صَاحبه فَلَو قَالَ أَحدهمَا للْآخر عزلتك انْعَزل وَبَقِي العازل على حَاله وَلَو مَاتَ أَحدهمَا انْفَسَخت كَالْوكَالَةِ وَالْجُنُون وَالْإِغْمَاء كالموت لِخُرُوجِهِ عَن أَهْلِيَّة التَّصَرُّف وَالله أعلم
(فرع) لشخص دَابَّة وَللْآخر بَيت وَللْآخر طاحون وَآخر لَا شَيْء لَهُ فَقَالُوا نشْرك هَذَا بدابته وَهَذَا ببيته وَهَذَا بحجره وَهَذَا بِعَمَلِهِ على أَن مَا فتح الله من الطحين شركَة فَهِيَ فَاسِدَة وَالله أعلم
(فرع) يَد كل من الشَّرِيكَيْنِ يَد أَمَانَة كالمستودع فَإِذا ادّعى رد المَال إِلَى شَرِيكه قبل وَكَذَا لَو ادّعى تلفاً أَو خسارة صدق فَإِن أسْند التّلف إِلَى سَبَب ظَاهر طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ فَإِذا أَقَامَهَا على السَّبَب صدق فِي دَعْوَى التّلف بِهِ وَلَو ادّعى أَحدهمَا خِيَانَة صَاحبه لم يسمع حَتَّى يبين قدر مَا خَان بِهِ وَالْقَوْل قَول الْمُنكر مَعَ يَمِينه وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْوكَالَة فصل وكل مَا جَازَ للْإنْسَان أَن يتَصَرَّف فِيهِ بِنَفسِهِ جَازَ أَن يُوكل فِيهِ أَو يتوكل
الْوكَالَة بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا وَهِي فِي اللُّغَة تطلق على التَّفْوِيض وعَلى الْحِفْظ وَمِنْه حَسْبُنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَفِي الِاصْطِلَاح تَفْوِيض مَاله فعله مِمَّا يقبل النِّيَابَة إِلَى غَيره ليحفظه فِي حَال حَيَاته
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {فَابْعَثُوا أحدكُم بورقكم} الْآيَة وَغَيرهَا وَمن السّنة(1/271)
حَدِيث عُرْوَة الْبَارِقي الْمُتَقَدّم وَحَدِيث عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي لما وَكله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قبُول نِكَاح أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان وَغير ذَلِك وَأجْمع الْمُسلمُونَ على جَوَازهَا بل قَالَ القَاضِي حُسَيْن وَغَيره إِنَّهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا لقَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَفِي الحَدِيث
(وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه) واشتداد الْحَاجة إِلَى التَّوْكِيل مِمَّا لَا يخفى إِذا عرفت هَذَا فَشرط الْوكَالَة أَن يكون الْمُوكل بِكَسْر الْكَاف تصح مِنْهُ مُبَاشرَة مَا وكل فِيهِ إِمَّا بِملك أَو ولَايَة كَالْأَبِ وَالْجد فَإِن لَهما أَن يوكلا فَإِن كَانَ لَا يَصح مِنْهُ ذَلِك فَلَا تصح الْوكَالَة فَلَا تصح وكَالَة الصَّبِي وَلَا الْمَجْنُون وَلَا الْمَرْأَة وَلَا الْمحرم فِي النِّكَاح وَكَذَا لَا يَصح تَوْكِيل الْفَاسِق فِي تَزْوِيج ابْنَته فَإِنَّهُ لَا يَلِي نِكَاحهَا بِنَفسِهِ فَلَا يُوكل كَمَا أَن الْمحرم لَا يجوز أَن يعْقد نِكَاحه فَلَا يُوكل من يعْقد نِكَاحه فِي حَالَة الْإِحْرَام فَلَو وكل من يعْقد لَهُ بعد التَّحَلُّل أَو أطلق الْوكَالَة صحت كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي كتاب النِّكَاح فَلَو قَالَ إِذا تحللت فقد وَكلتك فَهُوَ تَعْلِيق وكَالَة وَالصَّحِيح عدم صِحَّتهَا وَالضَّابِط فِي صِحَّتهَا كَمَا قَالَه الشَّيْخ لِأَنَّهُ إِذا لم يَصح تصرفه لنَفسِهِ وَهُوَ أقوى من التَّصَرُّف للْغَيْر فَلِأَن لَا يَصح التَّوْكِيل أولى لِأَنَّهُ أَضْعَف وكما يشْتَرط فِي صِحَة التَّوْكِيل صِحَة مُبَاشرَة الْمُوكل كَذَلِك الْوَكِيل يشْتَرط أَن يكون مِمَّن يَصح تصرفه فِيهِ لنَفسِهِ فَلَا يَصح تَوْكِيل الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَمن فِي مَعْنَاهُمَا أَن يتوكلا فِي البيع وَالشِّرَاء لِامْتِنَاع مباشرتهما العقد لأنفسهما فلغيرهما أولى وَفِي مَعْنَاهُمَا وَالْمَعْتُوه والمبرسم والنائم والمغمى عَلَيْهِ وَمن شرب مَا يزِيل عقله لحَاجَة نعم يسْتَثْنى مَا إِذا وكل شخص عبدا فِي قبُول نِكَاح امْرَأَة فَإِنَّهُ يَصح على الرَّاجِح سَوَاء أذن السَّيِّد أم لَا إِذْ لَا ضَرَر على السَّيِّد فِي ذَلِك وَقيل لَا بُد من إِذن السَّيِّد كَمَا لَا يقبل العقد لنَفسِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالسَّفِيه كَالْعَبْدِ وَالله أعلم
(فرع) يشْتَرط فِي الْوَكِيل أَن يكون معينا فَلَو قَالَ أَذِنت لكل من أَرَادَ بيع دَابَّتي أَن يَبِيعهَا لم يَصح وَالله أعلم
(فرع) لَا يَصح التَّوْكِيل فِي الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا الِابْتِلَاء والاختبار وَهُوَ لَا يحصل بِفعل الْغَيْر وَيسْتَثْنى من ذَلِك مسَائِل الْحَج وَذبح الْأَضَاحِي وتفرقة الزَّكَاة وَصَوْم الْكَفَّارَات وركعات الطّواف الْأَخير إِذا صلاهَا تبعا لطواف الْحَج إِمَّا إِذا وكل فيهمَا فَقَط(1/272)
فَلَا تصح الْوكَالَة قطعا صرح بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْوَصِيَّة وَألْحق بالعبادات الشَّهَادَات والأيمان وَمن الْأَيْمَان الْإِيلَاء وَاللّعان فَلَا يَصح التَّوْكِيل فِي شَيْء مِنْهُمَا بِلَا خلاف وَفِي الظِّهَار وَجْهَان الْأَصَح فِي الرَّوْضَة فِي بَاب الْوكَالَة أَن لَا يَصح تَغْلِيبًا لشبه الْيَمين لَكِن صحّح الرَّافِعِيّ فِي كتاب الظِّهَار أَن الْمُغَلب فِي الظِّهَار شبه الطَّلَاق وَمُقْتَضَاهُ صِحَة التَّوْكِيل وَفِي معنى الْأَيْمَان النّذر وَتَعْلِيق الطَّلَاق وَالْعِتْق وَكَذَا التَّدْبِير على الْمَذْهَب فَلَا يَصح التَّوْكِيل فِي هَذِه الْأُمُور كلهَا وَالله أعلم
(فرع) يشْتَرط فِي الْمُوكل فِيهِ أَن يكون مَعْلُوما من بعض الْوُجُوه وَلَا يشْتَرط علمه من كل وَجه لِأَن الْوكَالَة جوزت للْحَاجة فسومح فِيهَا فَلَو قَالَ وَكلتك فِي كل قَلِيل وَكثير لم يَصح أَو فِي كل أموري فَكَذَلِك لَا يَصح أَو فوضت إِلَيْك كل شَيْء لِأَنَّهُ غرر عَظِيم وَإِن قَالَ وَكلتك فِي بيع أَمْوَالِي وَعتق أرقائي صَحَّ لقلَّة الْغرَر بِالتَّعْيِينِ وَفِي معنى ذَلِك فِي قَضَاء ديوني واسترداد الودائع وَنَحْو ذَلِك وَلَا يشْتَرط أَن تكون أَمْوَاله مَعْلُومَة وَلَو قَالَ فِي بعض أَمْوَالِي وَنَحْوه لم يَصح بِخِلَاف مَا لَو قَالَ أبرئ فلَانا بِشَيْء من مَالِي فَإِنَّهُ يَصح ويبرئه عَن قَلِيل مِنْهُ وَالله أعلم قَالَ (وَالْوكَالَة عقد جَائِز لكل وَاحِد مِنْهُمَا فَسخهَا مَتى شَاءَ وتنفسخ بِمَوْت أَحدهمَا)
الْوكَالَة عقد جَائِز من الطَّرفَيْنِ لِأَنَّهُ عقد إرفاق وَمن تتمته جَوَازه من الطَّرفَيْنِ وَلِأَن الْمُوكل قد يرى الْمصلحَة فِي عَزله لِأَن غَيره أحذق مِنْهُ أَو بِأَن يَبْدُو لَهُ أَن لَا يَبِيع أَو لَا يَشْتَرِي مَا وكل فِيهِ الْوَكِيل وَكَذَا الْوَكِيل قد لَا يتفرغ لما وكل فِيهِ فإلزام كل مِنْهُمَا بذلك فِيهِ ضَرَر ظَاهر
(وَلَا ضَرَر وَلَا ضرار) كَمَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيفْسخ عقد الْوكَالَة بِمَوْت أَحدهمَا لِأَن هَذَا شَأْن الْعُقُود الْجَائِزَة وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ خرج عَن أَهْلِيَّة التَّصَرُّف فبطلت وَلِهَذَا لَو جن أَحدهمَا بطلت وَالْإِغْمَاء كالجنون على الْأَصَح لعدم الْأَهْلِيَّة وكما تبطل الْوكَالَة بِالْمَوْتِ وَنَحْوه كَذَلِك تبطل بِخُرُوج الْمُوكل فِيهِ عَن ملك الْمُوكل كَبَيْعِهِ أَو إِعْتَاقه أَو وَقفه أَو استولد الْجَارِيَة وَلَو جزوها كَانَ عزلاً وَكَذَا لَو أجرهَا وَإِن جَوَّزنَا بيع الْمُسْتَأْجر وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن من يُرِيد البيع لَا يُؤجر غَالِبا لقلَّة الرغبات فِي الْعين الْمُسْتَأْجرَة كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن الْمُتَوَلِي وَأقرهُ وَالله أعلم قلت فِي هَذَا نظر ظَاهر لِأَن كثيرا من النَّاس يوكلون فِي بيع دُورهمْ ودوابهم ويؤجرونها لِئَلَّا تتعطل عَلَيْهِم مَنَافِع أَمْوَالهم وَالتَّعْلِيل بِمَنْع الرَّغْبَة وَإِن سلم إِلَّا أَنه لَيْسَ بمطرد فَالصَّوَاب الرُّجُوع إِلَى عَادَة البيع وَالله أعلم قَالَ
(وَالْوَكِيل أَمِين فِيهَا لَا يضمن إِلَّا بالتفريط)(1/273)
الْوَكِيل أَمِين فِيمَا وكل فِيهِ فَلَا يضمن الْمُوكل فِيهِ إِذا تلف إِلَّا أَن يفرط لِأَن الْمُوكل استأمنه فتضمينه يُنَافِي تأمينه كَالْمُودعِ وكما لَا يضمن بالتلف بِلَا تَفْرِيط كَذَلِك يقبل قَوْله فِي التّلف كَسَائِر الْأُمَنَاء وَكَذَا يقبل قَوْله فِي دَعْوَى الرَّد لِأَنَّهُ إِن كَانَ وَكيلا بِلَا جعل فقد أَخذ المَال بمحض غَرَض الْمَالِك فَأشبه الْمُودع وَإِن كَانَ وَكيلا بِجعْل فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخذ المَال لمَنْفَعَة الْمَالِك فانتفاع الْوَكِيل إِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ فِي الْعين لَا بِالْعينِ نَفسهَا ثمَّ هَل من شَرط قبُول الْوَكِيل فِي الرَّد بَقَاء الْوكَالَة قَضِيَّة إِطْلَاق الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه لَا فرق فِي قبُوله بَينهمَا قبل الْعَزْل وَبعده لَكِن قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب إِن قبُول قَوْله مَحَله فِي قيام الْوكَالَة فَإِن كَانَ بعد الْعَزْل فَلَا يقبل قَوْله فِي الرَّد لَكِن صَرَّحُوا فِي الْمُودع أَنه يقبل قَوْله فِي الرَّد بعد الْعَزْل وَهُوَ نَظِير مَسْأَلَتنَا كَذَا قَالَه الاسنائي وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن من صور التَّفْرِيط أَن يَبِيع الْعين ويسلمها قبل قبض الثّمن وَأَن يسْتَعْمل الْعين وَأَن يَضَعهَا فِي غير حرز وَهل يضمن بِتَأْخِير بيع وَمَا وكل فِيهِ بِالْبيعِ فِيهِ وَجْهَان وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز أَن يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا بِثَلَاثَة شُرُوط بمثن الْمثل وَأَن يكون نَقْدا وبنقد الْبَلَد أَيْضا)
تجوز الْوكَالَة بِالْبيعِ مُطلقًا وَكَذَا الشِّرَاء فَلَيْسَ للْوَكِيل بِالْبيعِ مُطلقًا أَن يَبِيع بِدُونِ ثمن الْمثل وَلَا بِغَيْر نقد حَال وَلَا بِغَبن فَاحش وَهُوَ مَا لَا يحْتَمل فِي الْغَالِب لِأَن الْعرف يدل على ذَلِك فَهُوَ بِمَنْزِلَة التَّنْصِيص عَلَيْهِ أَلا ترى أَن الْمُتَبَايعين إِذا أطلقا العقد حمل على الثّمن وعَلى نقد الْبَلَد وَالله أعلم قَالَ (وَلَا يجوز أَن يَبِيع لنَفسِهِ وَلَا يقر على مُوكله)
لَيْسَ للْوَكِيل فِي البيع أَن يَبِيع لنَفسِهِ وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَن يَبِيع لوَلَده الصَّغِير لِأَن الْعرف يَقْتَضِي ذَلِك وَسَببه أَن الشَّخْص حَرِيص بطبعه على أَن يَشْتَرِي لنَفسِهِ رخيصاً وغرض الْمُوكل الِاجْتِهَاد فِي الزِّيَادَة وَبَين الغرضين مضادة وَلَو بَاعَ لِأَبِيهِ أَو ابْنه الْبَالِغ فَهَل يجوز وَجْهَان
أَحدهمَا لَا خشيَة الْميل وَالأَصَح الصِّحَّة لِأَنَّهُ لَا يَبِيع مِنْهُمَا إِلَّا بِالثّمن الَّذِي لَو بَاعه لأَجْنَبِيّ لصَحَّ فَلَا مَحْذُور قَالَ ابْن الرّفْعَة وَمحل الْمَنْع فِي بَيْعه لنَفسِهِ فِيمَا إِذا لم ينص على ذَلِك أما إِذا نَص دلّ على البيع من نَفسه وَقدر الثّمن وَنَهَاهُ عَن الزِّيَادَة فَإِنَّهُ يَصح البيع واتحاد الْمُوجب والقابل إِنَّمَا يمْنَع لأجل التُّهْمَة بِدَلِيل الْجَوَاز فِي حق الْأَب وَالْجد وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن الشِّرَاء فِيمَا ذَكرْنَاهُ حكمه حكم البيع وَأما مَنعه الْإِقْرَار فَلِأَنَّهُ إِقْرَار فِيمَا لَا يملكهُ وَالله أعلم قَالَ(1/274)
بَاب الْإِقْرَار فصل فِي الْإِقْرَار وَالْمقر بِهِ ضَرْبَان حق الله تَعَالَى وَحقّ الْآدَمِيّ فَحق الله تَعَالَى يجوز الرُّجُوع فِيهِ عَن الْإِقْرَار بِهِ وَحقّ الْآدَمِيّ لَا يَصح الرُّجُوع عَنهُ
الْإِقْرَار فِي اللُّغَة الْإِثْبَات من قَوْلهم قر الشَّيْء يقر وَفِي الِاصْطِلَاح الِاعْتِرَاف بِالْحَقِّ وَالْأَصْل فِي الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَالشَّهَادَة على النَّفس هِيَ الْإِقْرَار وَفِي السنه الشريفه ((واغد ياأنيس على إمرأة هَذَا فَإِن اعْترفت فارجمها)) وَلِأَن الشَّهَادَة على الْإِقْرَار صَحِيحَة فالإقرار أولى إِذا عرفت هَذَا فَإِذا أقرّ من يقبل إِقْرَاره بِمَا يُوجب حد الله تَعَالَى كَالزِّنَا وَشرب الْخمر والمحاربة بِشَهْر السِّلَاح فِي الطَّرِيق وَالسَّرِقَة الْمُوجبَة للْقطع ثمَّ رَجَعَ قبل رُجُوعه حَتَّى لَو كَانَ قد استوفى بعض الْحَد ترك الْبَاقِي لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(ادرءوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ) وَهَذِه شُبْهَة لجَوَاز صدقه وَمن أحسن مَا يسْتَدلّ بِهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لماعز لما اعْترف بِالزِّنَا لَعَلَّك قبلت) فلولا أَن الرُّجُوع مَقْبُول لم يكن للتعريض بِعْ فَائِدَة وَاعْلَم أَن فَائِدَة الرُّجُوع فِي الْمُحَاربَة سُقُوط تحتم الْقَتْل لَا أصل الْقَتْل وَفِي السّرقَة سُقُوط الْقطع لَا سُقُوط المَال لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ وَلِهَذَا لَو أقرّ أَنه أكره امْرَأَة على الزِّنَا ثمَّ رَجَعَ لم يسْقط الْمهْر وَيسْقط الْحَد على الْمَذْهَب وَلَو قَالَ زَنَيْت بفلانة ثمَّ رَجَعَ سقط حد الزِّنَا وَالأَصَح أَن حد الْقَذْف لَا يسْقط لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ وَالْفرق بَين حق الله وَحقّ الْآدَمِيّ أَن حق الله الْكَرِيم مَبْنِيّ على الْمُسَامحَة بِخِلَاف الْآدَمِيّ فَإِن حَقه مَبْنِيّ على المشاححة ثمَّ كَيْفيَّة الرُّجُوع فِي الْإِقْرَار أَن يَقُول كذبت فِي إقراري أَو رجعت عَنهُ أَو لم أزن أَو لَا حد عَليّ وَلَو قَالَ لَا تحدوني فَلَيْسَ بروجوع على الرَّاجِح لاحْتِمَال أَن يُرِيد أَن يُعْفَى عَنهُ أَو يقْضِي دينه أَو غير ذَلِك وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ يسْأَل فَإِذا بَين عمل بمراده وَلَو قَالَ بعد شَهَادَة الشُّهُود على إِقْرَاره مَا أَقرَرت فَقيل هُوَ كَقَوْلِه رجعت وَالأَصَح أَنه لَيْسَ بِرُجُوع وطرد الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْله هما كاذبان وَالله أعلم
(فرع) هَل يسْتَحبّ للْمقر الرُّجُوع وَجْهَان رجح النَّوَوِيّ الِاسْتِحْبَاب كَمَا يسْتَحبّ لَهُ أَن لَا يقر وَمِنْهُم من قَالَ إِن تَابَ ندب لَهُ الكتمان وَإِلَّا ندب لَهُ الْإِقْرَار وَالله أعلم(1/275)
(فرع) أقرّ بِالزِّنَا ثمَّ قَالَ حددت فَفِي قبُول قَوْله فِي الْحَد احْتِمَالَانِ فِي الْبَحْر للروياني وَلَو أقرّ بِالزِّنَا ثمَّ قَامَت الْبَيِّنَة بزناه ثمَّ رَجَعَ فَفِي سُقُوط الْحَد وَجْهَان وَلَو قَامَت الْبَيِّنَة ثمَّ أقرّ ثمَّ رَجَعَ عَن الْإِقْرَار لم يسْقط وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق يسْقط وَالله أعلم
(فرع) أقرّ بِالزِّنَا وَهُوَ مِمَّن يرْجم ثمَّ رَجَعَ فَقتله شخص بعد الرُّجُوع عَن الْإِقْرَار فَهَل يجب عَلَيْهِ الْقصاص فِيهِ وَجْهَان نقلهما ابْن كج وَصحح عدم الْوُجُوب لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِي سُقُوط الْحَد بِالرُّجُوعِ وَالله أعلم قَالَ
(وتفتقر صِحَة الْإِقْرَار إِلَى ثَلَاث شَرَائِط الْبلُوغ وَالْعقل وَالِاخْتِيَار وَإِن كَانَ بِمَال اعْتبر فِيهِ الرشد وَهُوَ شَرط رَابِع)
إِقْرَار الصَّبِي وَالْمَجْنُون لَا يَصح لِامْتِنَاع تصرفهما وَسُقُوط أقوالهما وَفِي معنى الْمَجْنُون الْمغمى عَلَيْهِ وَمن زَالَ عقله بِسَبَب يعْذر فِيهِ وَفِي السَّكْرَان خلاف كطلاقه وَالْمذهب وُقُوع الطَّلَاق عَلَيْهِ إِذا طلق وَأما الْإِقْرَار الْمُكْره فَلَا يَصح كَمَا يصنعه الْوُلَاة والظلمة من الضَّرْب وَغَيره مِمَّا يكون الشَّخْص بِهِ مكْرها لِأَن الْإِكْرَاه على الْكفْر مَعَ طمأنينة الْقلب بِالْإِيمَان لَا يضر كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} فَغَيره أولى وَلَو ضربه فَأقر قَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِن ضربه لِيُقِر لم يَصح وَإِن ضربه ليصدق صَحَّ لِأَن الصدْق لم ينْحَصر فِي الْإِقْرَار كَذَا نَقله النَّوَوِيّ عَنهُ وَتوقف فِيهِ وَأما السَّفِيه فَإِن أقرّ بدين أَو بِإِتْلَاف مَال فَلَا يقبل كَالصَّبِيِّ وَإِلَّا لأبطل فَائِدَة الْحجر وَقيل يقبل فِي الْإِقْرَار بِإِتْلَاف كَمَا لَو أتلف وَالصَّحِيح الأول وَإِذا لم يَصح لَا يُطَالب وَلَو بعد فك الْحجر وَالْمرَاد الْمُطَالبَة فِي ظَاهر الحكم وَأما فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَيجب عَلَيْهِ الْوَفَاء بعد فك الْحجر إِن كَانَ صَادِقا وَقد نَص على ذَلِك الشَّافِعِي فِي الْأُم قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلم يخْتَلف فِيهِ الْأَصْحَاب قَول الشَّيْخ وَإِن كَانَ بِمَال يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه إِذا أقرّ بِغَيْر مَال يقبل إِقْرَاره من السَّفِيه وَهُوَ كَذَلِك فَيصح إِقْرَاره بِمَا يُوجب الْحَد وَالْقصاص وَكَذَا يقبل إِقْرَاره بِالطَّلَاق وَالْخلْع وَالظِّهَار لِأَن هَذِه الْأُمُور لَا تعلق لَهَا بِالْمَالِ وَحكمه فِي الْعِبَادَات كلهَا كالرشيد لِاجْتِمَاع الشُّرُوط فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ تَفْرِقَة الزَّكَاة لِأَنَّهُ ولَايَة وَتصرف مَال وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا أقرّ بِمَجْهُول رَجَعَ إِلَيْهِ فِي بَيَانه)
يَصح الْإِقْرَار بِالْمَجْهُولِ لِأَن الْإِقْرَار إِخْبَار عَن حق سَابق وَالشَّيْء يخبر عَنهُ مفصلا تَارَة ومجملاً أُخْرَى إِمَّا للْجَهْل بِهِ أَو لثُبُوته مَجْهُولا كوصية الْوَارِث وَغَيرهَا فَإِذا قَالَ لَهُ عَليّ شَيْء رَجَعَ(1/276)
إِلَيْهِ فِي تَفْسِيره وَيقبل تَفْسِيره بِكُل مَا يتمول وَإِن قل لِأَن اسْم الشَّيْء صَادِق عَلَيْهِ وَلَو فسره بِمَا لَا يتمول لكنه من جنسه كحبة حِنْطَة أَو بِمَا يحل اقتناؤه ككلب معلم وزبل قبل لِأَنَّهُ يحرم أَخذه وَيجب رده على من غصبه وَلَا يقبل تَفْسِيره بِمَا لَا يقتني كخنزير وكلب لَا ينفع فِي صيد وَلَا فِي زرع وَنَحْوهمَا لِأَن قَوْله عَليّ يَقْتَضِي ثُبُوت حق على الْمقر للْمقر لَهُ وَمَا لَا يقتني لَيْسَ فِيهِ حق وَلَا اخْتِصَاص وَلَا يلْزمه رده وَقيل يَصح التَّفْسِير بِهِ لِأَنَّهُ شَيْء لَو فسره بِحَق الشُّفْعَة قبل جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة وَفِي حد الْقَذْف وَجْهَان أصَحهمَا فِي التَّنْبِيه وزوائد الرَّوْضَة يقبل وَلَا يقبل تَفْسِيره بِالْعبَادَة ورد السَّلَام بِخِلَاف مَا لَو قَالَ لَهُ حق فَإِنَّهُ يقبل تَفْسِيره بِالْعبَادَة ورد السَّلَام قَالَه الْبَغَوِيّ وَتوقف فِيهِ الرَّافِعِيّ وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن لَا يَصح تَفْسِيره بهما وَالله أعلم
(فرع) قَالَ الْمَدْيُون لصَاحب الْحق أَلَيْسَ قد أوفيتك فَقَالَ بلَى ثمَّ ادّعى صَاحب الْحق أَنه أوفى الْبَعْض صدق ذكره الرَّافِعِيّ فِي الْكِتَابَة فِي الحكم الثَّانِي وَالله أعلم قَالَ
(وَيصِح الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِقْرَار إِذا وَصله بِهِ)
يَصح الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِقْرَار وَغَيره لِكَثْرَة وُرُوده فِي الْقُرْآن الْعَظِيم واللغة ثمَّ الِاسْتِثْنَاء تَارَة يرفع الْإِقْرَار من أَصله وَتارَة يرفع بعضه فَإِن كَانَ الأول وَهُوَ بِلَفْظ إِن شَاءَ الله فَلَا يكون مقرا كَقَوْلِه لَهُ عَليّ مائَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَوَجهه أَنه لم يجْزم بِالْإِقْرَارِ وَأَيْضًا فَإِن هَذِه الصِّيغَة تدل على الْإِلْزَام فِي الْمُسْتَقْبل وَالْإِقْرَار إِخْبَار عَن أَمر سَابق فبينهما مُنَافَاة وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة وَشرط هَذَا الِاسْتِثْنَاء أَن يتَّصل على الْعَادة فَلَا تضر سكتة التنفس والعي بطول الْكَلَام والسعال والاشتغال بالعطاس وَنَحْو ذَلِك لِأَن كل ذَلِك يعد مُتَّصِلا عَادَة وَلَو كَانَ بِالرجلِ سكتة بَين الْكَلَامَيْنِ فَهُوَ كسكتة التنفس فَلَا تمنع الِاتِّصَال فَلَو لم تتصل على الْعَادة بِأَن اشْتغل بِكَلَام آخر أَو أعرض عَن الِاسْتِثْنَاء ثمَّ اسْتَلْحقهُ فَلَا يَصح اسْتِثْنَاؤُهُ وَيُؤْخَذ بِإِقْرَارِهِ وَلَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء فِي بعض الْمقر بِهِ كَمَا لَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة صَحَّ أَيْضا بِشَرْط الِاتِّصَال على الْعَادة وَأَن لَا يسْتَغْرق كَمَا مثلناه وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا عشرَة بَطل الِاسْتِثْنَاء لاستغراقه وَلَزِمَه الْعشْرَة وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَة لَهُ عَلَيْهِ عَليّ عشرَة لَا تلزمني وَالله أعلم
(فرع) إِذا قَالَ شخص إِذا جَاءَ رَأس الشَّهْر أَو قدم زيد فلفلان عَليّ مائَة فَالْمَذْهَب أَنه لَا يلْزمه شَيْء لِأَن الشَّرْط لَا أثر لَهُ فِي إِيجَاب المَال وَالْوَاقِع لَا يعلق بِشَرْط وَهَذَا إِذا أطلق أَو قَالَ قصدت التَّعْلِيق فَإِن قصد التَّأْجِيل قبل وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ كَذَا من ثمن كلب أَو ثمن خمر أَو ثمن آلَة لَهُم أَو ثمن زبل وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يَصح بَيْعه فَهَل يلْزمه شَيْء أم لَا قَولَانِ
أَحدهمَا لَا يلْزمه شَيْء لِأَن الْكَلَام كَلَام وَاحِد وَمثله يُطلق فِي الْعرف وَالْأَظْهَر أَنه يلْزمه مَا أقرّ بِهِ لِأَن أول الْكَلَام إِقْرَار صَحِيح وَآخره يرفع فَلَا يقبل مِنْهُ كَمَا لَو قَالَ لَهُ على ألف لَا يلْزَمنِي(1/277)
وَيجْرِي الْقَوْلَانِ فِي كل مَا يَنْتَظِم عَادَة وَيبْطل حكمه شرعا كَمَا لَو أضَاف ذَلِك إِلَى بيع أَو إِجَارَة أَو كَفَالَة وَوَصفه بِالْفَسَادِ فَلَو ذكر هَذِه الْأُمُور مفصولة عَن الْإِقْرَار ألزمناه بِلَا خلاف وَالله أعلم
قلت تَرْجِيح اللُّزُوم عِنْد عدم الْقَرِينَة مُتَّجه أما إِذا اعتضد الْإِقْرَار بِقَرِينَة دَالَّة على صدق الْمقر فَالْمُتَّجه عدم إِلْزَامه بِمَا أقرّ بِهِ لانعضاد أصل بَرَاءَة الذِّمَّة بِالْعرْفِ العادي فِي الْإِقْرَار مَعَ الْقَرِينَة كَمَا لَو كَانَ النزاع بَين الكلابرية والخمارين والمتخذين الْآلَات اللهوية سَببا لِأَن بيع ذَلِك عِنْدهم مَعْلُوم فَقَوله ألف من ثمن الْكَلْب فِيهِ عرف مَعْهُود بِخِلَاف قَوْله عَليّ ألف لَا يلْزَمنِي فَإِنَّهُ لَا عرف فِي ذَلِك فَكيف يَصح إِلْحَاق مَا فِيهِ عرف على مَا لَا عرف فِيهِ أَلْبَتَّة وللقاضي اللبيب فِي مثل ذَلِك نظر ظَاهر وَالله أعلم
(فرع) أقرّ شخص أَنه طلق امْرَأَة وَاسْتثنى فَهَل يَقع عَلَيْهِ الطَّلَاق لِأَنَّهُ أقرّ بِالطَّلَاق وَادّعى رَفعه بِالِاسْتِثْنَاءِ أم لَا يَقع نظرا إِلَى جملَة كَلَامه أفتى بعض فقهائنا بِقبُول قَوْله وَلم يُوقع عَلَيْهِ طَلَاقا وَفِي فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْن مَا يشْهد لَهُ وَلَو قيل بتخريجها على تعقيب الْإِقْرَار بِمَا يرفعهُ لم يبعد وَالله أعلم قَالَ
(وَهُوَ فِي حَال الصِّحَّة وَالْمَرَض سَوَاء)
قَوْله وَهُوَ أَي الْإِقْرَار اعْلَم أَن إِقْرَار الصَّحِيح صَحِيح حَيْثُ لَا مَانع لوُجُود شُرُوط الصِّحَّة وَأما إِقْرَار الْمَرِيض فِي مرض الْمَوْت فَهَل يَصح ينظر إِن أقرّ لأَجْنَبِيّ فَفِيهِ قَولَانِ سَوَاء كَانَ الْمقر بِهِ عينا أَو دينا الرَّاجِح الصِّحَّة قِيَاسا على الصَّحِيح وَقيل بل هُوَ مَحْسُوب من الثُّلُث وَأما الْإِقْرَار للموارث فَفِيهِ طَرِيقَانِ
أَحدهمَا على الْقَوْلَيْنِ وَالْمذهب الصِّحَّة لِأَن الْمقر انْتهى إِلَى حَالَة يصدق فِيهَا الْكَاذِب وَيَتُوب فِيهَا الْفَاجِر فَالظَّاهِر أَنه لَا يقر إِلَّا عَن تَحْقِيق وَلَا يقْصد حرماناً وَقيل لَا يَصح لِأَنَّهُ قد يقْصد حرمَان بعض الْوَرَثَة وَلَو أقرّ فِي صِحَّته بدين ثمَّ أقرّ لآخر فِي مَرضه تقاسما وَلَا يقدم الأول وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْعَارِية فصل فِي الْعَارِية وكل مَا أمكن الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه جَازَت إعارته إِذا كَانَت مَنَافِعه آثاراً
الْعَارِية بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها قَالَ ابْن الرّفْعَة وحقيقتها شرعا إِبَاحَة الِانْتِفَاع بِمَا يحل الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه ليَرُدهُ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ هبة الْمَنَافِع(1/278)
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وَالْمرَاد مَا يستعيره الْجِيرَان بَعضهم من بعض وَكَانَ ذَلِك وَاجِبا فِي أول الْإِسْلَام قَالَه الرَّوْيَانِيّ وَقَالَ البُخَارِيّ هُوَ كل مَعْرُوف وَفِي السّنة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(اسْتعَار يَوْم خَيْبَر من صَفْوَان بن أُميَّة درعاً فَقَالَ لَهُ غصبا يَا مُحَمَّد فَقَالَ لَا بل عَارِية مَضْمُونَة) وَنقل ابْن الصّباغ الْإِجْمَاع على استحبابها إِذا عرفت هَذَا فَشرط الْمُعير أَن يكون أَهلا للتبرع فَلَا تصح من الْمَحْجُور عَلَيْهِ وَيشْتَرط أَن تكون مَنْفَعَة الْعين المعارة ملكا للْمُعِير فَتَصِح إِعَارَة الْمُسْتَأْجر لِأَنَّهُ ملك للمنفعة وَلَا يعير الْمُسْتَعِير لِأَنَّهُ غير مَالك للمنفعة وَإِنَّمَا أُبِيح لَهُ الِانْتِفَاع والمستبيح لَا يملك نقل الْإِبَاحَة بِدَلِيل أَن الضَّيْف لَا يُبِيح لغيره مَا قدم إِلَيْهِ وَلَا يطعم الْهِرَّة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة والمنهاج وَالْمُحَرر وَقيل للْمُسْتَعِير أَن يعير قَالَ الإسنائي فِي شرح الْمِنْهَاج كَمَا أَن لَهُ أَن يُؤجر وَاعْتمد فِي الْإِجَارَة على نقل ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب أَن أَبَا عَليّ الدبيلي نقل عَن الشَّافِعِي أَنه جوز الْإِجَارَة للْمُسْتَعِير قَالَ وَيكون رُجُوع الْمُعير بِمَنْزِلَة الإنهدام فِي الدَّار حَتَّى تَنْفَسِخ الْإِجَارَة وَيسْتَحق الْمُسْتَعِير بِالْقِسْطِ وَفِي وَجه حَكَاهُ الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْإِجَارَة أَنه يجوز أَن يستعير ليؤجر ثمَّ شَرط الْمُسْتَعَار كَونه مُنْتَفعا بِهِ فَلَا تصح إِعَارَة الْحمار الزَّمن وَنَحْوه لفَوَات الْمَقْصُود من الْعَارِية وَيشْتَرط أَيْضا بَقَاء الْعين بعد الِانْتِفَاع كإعارة الدَّوَابّ وَالثيَاب بِخِلَاف إِعَارَة الْأَطْعِمَة والشموع والصابون وَمَا فِي مَعْنَاهَا لِأَن مَنْفَعَتهَا فِي استهلاكها ثمَّ شَرط الْمَنْفَعَة أَن يكون لَهَا وَقع فِي الانتفاعات الحاجية وَلِهَذَا لَا يَصح اعارة الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير ليتزين بهَا على الصَّحِيح لِأَنَّهَا مَنْفَعَة ضَعِيفَة ومعظم مَنَافِعهَا فِي الانفاق وَقيل تصح إعارتها لِأَنَّهَا ينْتَفع بهَا مَعَ بَقَاء عينهَا قَالَ الرَّافِعِيّ وَمحل الْخلاف عِنْد إِطْلَاق الْعَارِية أما إِذا اسْتعَار الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير للتزين فَالْمُتَّجه الْقطع بِالصِّحَّةِ وبصحته أجَاب فِي التَّتِمَّة وَقَول الشَّيْخ إِذا كَانَت مَنَافِعه آثاراً احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا كَانَت الْمَنْفَعَة عينا كاستعارة الشَّاة للبنها والشجرة لثمرها وَنَحْو ذَلِك وَفِي جَوَاز إِعَارَة ذَلِك خلاف إِذا كَانَ بِصِيغَة الْإِبَاحَة كَقَوْلِه خُذ هَذِه الشَّاة فقد أبحتك درها ونسلها فأحد الْوَجْهَيْنِ أَنَّهَا كَقَوْلِه خُذ هَذِه الشَّاة فقد وَهبتك درها ونسلها وَهَذِه الْهِبَة فَاسِدَة فَيكون الدّرّ والنسل مَقْبُوضا بِهِبَة فَاسِدَة وَالشَّاة مَضْمُونَة بالعارية الْفَاسِدَة وَالثَّانِي أَنَّهَا إِبَاحَة صَحِيحَة وَالشَّاة عَارِية صَحِيحَة وَبِه قطع الْمُتَوَلِي وَمَا قطع بِهِ الْمُتَوَلِي صَححهُ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة ثمَّ نقل عَنهُ أَنه حكم بِالصِّحَّةِ أَيْضا فِيمَا إِذا دفع إِلَيْهِ شَاة وَقَالَ أعرتكها لدرها ونسلها فعلى مَا ذكره الْمُتَوَلِي وَصَححهُ النَّوَوِيّ تجوز الْعَارِية لاستعارة عين وَلَيْسَ من شَرطهَا أَن يكون الْمَقْصد مُجَرّد الْمَنْفَعَة بِخِلَاف الْإِجَارَة وَالله أعلم(1/279)
(فرع) أَخذ كوزاً من سقاء بِلَا ثمن كَانَ الْكوز عَارِية فَلَو سقط من يَده ضمنه وَلَو دفع إِلَيْهِ أَولا فلسًا فَأخذ الْكوز فَسقط من يَده فانكسر فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي الْكوز لِأَنَّهَا إِجَارَة فَاسِدَة وَحكم فَاسد العقد حكم صَحِيحَة فِي الضَّمَان وَعَدَمه وَلَو كَانَ لَهُ عَادَة أَن يشرب من السقاء وَيدْفَع إِلَيْهِ بعد كل حِين شَيْئا فَأخذ الْكوز فَسقط مِنْهُ وانكسر فَلَا ضَمَان أَيْضا قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَالله أعلم
(فرع) قَالَ أعرتك هَذِه الدَّابَّة لتعلفها أَو لتعيرني فرسك فَهِيَ إِجَارَة فَاسِدَة تجب فِيهَا أُجْرَة الْمثل وَلَو تلفت الدَّابَّة فَلَا يضمنهَا كَمَا فِي الْإِجَارَة الصَّحِيحَة وَوَجهه أَن الْأُجْرَة وَهِي الْعلف مَجْهُولَة وَكَذَا مُدَّة الْعَمَل فِي الصُّورَة الثَّانِيَة وَقيل عَارِية فَاسِدَة نظرا إِلَى اللَّفْظ وَالله أعلم قَالَ
(وَتجوز الْعَارِية مُطلقًا ومقيدة بِمدَّة)
قد علمت أَن الْعَارِية إِبَاحَة الِانْتِفَاع فللمبيح أَن يُطلق الْإِبَاحَة وَله أَن يؤقتها ثمَّ لَهُ الرُّجُوع مَتى شَاءَ لِأَن الْعَارِية عقد جَائِز فَلهُ رَفعه مَتى شَاءَ فَلَو منعنَا الْمَالِك من الرُّجُوع لامتنع النَّاس من هَذِه المكرمة
وَاعْلَم أَن الْعَارِية كَمَا ترْتَفع بِالرُّجُوعِ كَذَلِك ترْتَفع بِمَوْت الْمُعير وبجنونه وإغمائه وبالحجر عَلَيْهِ وَكَذَا بِمَوْت الْمُسْتَعِير فَإِذا مَاتَ الْمُسْتَعِير وَجب على ورثته رد الْعين المستعارة لَهُ وَإِن لم يطالبهم الْمُعير وهم عصاة بِالتَّأْخِيرِ وَلَيْسَ للْوَرَثَة اسْتِعْمَال الْعين المستعارة فَلَو استعملوها لزمتهم الْأُجْرَة مَعَ عصيانهم وَمؤنَة الرَّد فِي تَرِكَة الْمَيِّت وَيسْتَثْنى من جَوَاز الرُّجُوع مَا إِذا أعَار أَرضًا لدفن ميت فَدفن فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوع حَتَّى يبْلى الْمَيِّت ويندرس أَثَره لِأَنَّهُ دفن بِحَق والنبش لغير ضَرُورَة حرَام لما فِيهِ من هتك حُرْمَة الْمَيِّت وَإِذا امْتنع عَلَيْهِ الرُّجُوع فَلَا أُجْرَة لَهُ صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا لِأَن الْعرف يَقْتَضِي بِخِلَاف مَا إِذا أذن لَهُ أَن يضع جذعاً على جِدَاره ثمَّ رَجَعَ فَإِن لَهُ الْأُجْرَة إِذا اخْتَارَهَا على الصَّحِيح وَيسْتَثْنى أَيْضا مَا إِذا قَالَ أعيروا دَابَّتي لفُلَان أَو دَاري بعد موتِي سنة فَإِن الْإِعَارَة تكون لَازِمَة لَا يجوز للْوَارِث الرُّجُوع فِيهَا قبل الْمدَّة صرح الرَّافِعِيّ بذلك أَيْضا فِي كتاب التَّدْبِير وَيسْتَثْنى مَا لَو أعَار شخصا ثوبا ليكفن فِيهِ مَيتا فَكفن وَقُلْنَا إِن الْكَفَن بَاقٍ على ملك الْمُعير وَهُوَ الْأَصَح كَمَا ذكره النَّوَوِيّ فِي كتاب السّرقَة من زيادات فَإِنَّهُ يكون من العواري اللَّازِمَة وَالله أعلم وَيسْتَثْنى من جِهَة الْمُسْتَعِير مَا إِذا اسْتعَار دَارا لسكنى الْمُعْتَدَّة فَإِنَّهُ لَا يجوز للْمُسْتَعِير الرُّجُوع فِيهَا وَتلْزم من جِهَته صرح الْأَصْحَاب بذلك فِي كتاب الْعدَد وَالله أعلم قَالَ
(وَهِي مَضْمُونَة على الْمُسْتَعِير بِقِيمَتِهَا يَوْم تلفهَا)
الْعين المستعارة إِذا تلفت لَا بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُون فِيهِ ضمنهَا الْمُسْتَعِير وَإِن لم يفرط لحَدِيث(1/280)
صَفْوَان بل عَارِية مَضْمُونَة وَلِأَنَّهُ مَال يجب رده فَتجب قِيمَته عِنْد تلفه كَالْعَيْنِ الْمَأْخُوذَة على وَجه السّوم وبقيمه أَي يَوْم تلفه يعْتَبر فِيهِ خلاف الْأَصَح بِقِيمَتِه يَوْم التّلف لِأَن الأَصْل رد الْعين وَإِنَّمَا تجب الْقيمَة بالفوات وَهَذَا إِنَّمَا يتَحَقَّق بالتلف فعلى هَذَا لَو حصل فِي الدَّابَّة زِيَادَة كالسمن وَغَيره ثمَّ زَالَ فِي يَد الْمُسْتَعِير لَا يضمن تِلْكَ الزِّيَادَة كَمَا دلّ عَلَيْهِ كَلَام القَاضِي أبي الطّيب فَإِنَّهُ ذكر هَذَا الحكم فِي البيع الْفَاسِد وقاسه على الْعَارِية كَذَا نَقله ابْن الرّفْعَة وَيسْتَثْنى من ذَلِك مَا إِذا اسعتار من الْمُسْتَأْجر الْعين الْمُسْتَأْجرَة وَتَلفت بِلَا تعد فَإِنَّهُ لَا يضمنهَا لِأَن يَده يَد الْمُسْتَأْجر وَلَو تلفت فِي يَد الْمُسْتَأْجر بِلَا تعد فَلَا يضمن فَكَذَا نَائِبه نعم لَو كَانَت الْإِجَارَة فَاسِدَة ضمنا مَعًا والقرار على الْمُسْتَعِير من الْمُسْتَأْجر وَمؤنَة الرَّد على الْمُسْتَعِير إِن رد على الْمُسْتَأْجر فَإِن رد على الْمَالِك كَانَت على الْمَالِك كَمَا لَو رد على الْمُسْتَأْجر
وَاعْلَم أَن الْمُسْتَعِير من الْمُوصى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ وَمن الْمَوْقُوف عَلَيْهِ حكمهمَا حكم الْمُسْتَعِير من الْمُسْتَأْجر وَالله أعلم وَهَذَا كُله إِذا تلفت لَا بِالِاسْتِعْمَالِ فَإِن تلفت بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُون فِيهِ بِأَن انمحق الثَّوْب باللبس فَلَا ضَمَان على الصَّحِيح كالأجزاء فَإِن الْأَجْزَاء إِذا تلفت بِسَبَب الِاسْتِعْمَال الْمَأْذُون فِيهِ فَلَا ضَمَان على الصَّحِيح وَلَو تلفت الدَّابَّة بِسَبَب الرّكُوب وَالْحمل الْمُعْتَاد فَهِيَ كانمحاق الثَّوْب وتعيبها بِالِاسْتِعْمَالِ كانسحاق الثَّوْب وَلَا ضَمَان فِيهَا على الْأَصَح وَالْفرق بَين الانمحاق والانسحاق أَن الانمحاق هُوَ تلف الثَّوْب بِالْكُلِّيَّةِ بِأَن يلْبسهُ حَتَّى يبْلى والانسحاق هُوَ النُّقْصَان وعقر الدَّابَّة وعرجها كالانسحاق وَالله أعلم
(فرع) قطع شخص غصناً وَوَصله بشجرة غَيره فثمرة الْغُصْن لمَالِكه لَا لمَالِك الشَّجَرَة كَمَا لَو غرسه فِي أَرض غَيره وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْغَصْب فصل وَمن غصب مَالا أَخذ برده وَأرش نَقصه وَأُجْرَة مثله
الْغَصْب من الْكَبَائِر أجارنا الله تَعَالَى مِنْهُ وَمن سَبَب غَضَبه
وَالْأَصْل فِي تَحْرِيمه آيَات كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الْآيَة وَمِنْهَا {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} وَالدّلَالَة مِنْهَا فِي غَايَة الْمُبَالغَة وَأما السّنة الشَّرِيفَة فالأخبار فِي ذَلِك كَثِيرَة جدا وَيَكْفِي مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خطبَته بمنى
(إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ(1/281)
حرَام عَلَيْكُم كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا فِي شهركم هَذَا فِي بلدكم هَذَا)
وحد الْغَصْب فِي اللُّغَة اخذ الشَّيْء ظلما مجاهرة فَإِن أَخذه سرا من حرز مثله سمي سَرقَة وَإِن أَخذه مُكَابَرَة سمى محاربة وَإِن أَخذه اسْتِيلَاء سمي اختلاساً وَإِن أَخذه مِمَّا كَانَ مؤتمناً عَلَيْهِ سمي خِيَانَة
وَحده فِي الشَّرْع هُوَ الِاسْتِيلَاء على مَال الْغَيْر على وَجه التَّعَدِّي كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَفِيه شَيْء وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيّ هُوَ الِاسْتِيلَاء على حق الْغَيْر عُدْوانًا عدل عَن قَول الرَّافِعِيّ مَال الْغَيْر إِلَى قَوْله حق الْغَيْر لِأَن الْحق يَشْمَل مَا لَيْسَ بِمَال كَالْكَلْبِ والزبل وَجلد الْميتَة وَالْمَنَافِع والحقوق كإقامة شخص من مَكَان مُبَاح كالطريق وَالْمَسْجِد وَاحْترز بالعدوان عَمَّا إِذا انتزع مَال الْمُسلم من الْحَرْبِيّ ليَرُدهُ على الْمُسلم أَو من غَاصِب مُسلم على وَجه ثمَّ الِاسْتِيلَاء بِحَسب الْمَأْخُوذ وَالرُّجُوع فِيهِ إِلَى تَسْمِيَته غصبا فَلَو جلس على بِسَاط الْغَيْر أَو اغترف بآنية الْغَيْر بِلَا إِذن فغاصب وَإِن لم يقْصد الِاسْتِيلَاء لِأَن غَايَة الْغَصْب أَن ينْتَفع بالمغصوب وَقد وجد وَلَو دخل دَارا وَأخرج صَاحبهَا أَو أخرجه وَإِن لم يدخلهَا فغاصب وَكَذَا لَو ركب دَابَّة الْغَيْر أَو حَال بَينه وَبَينهَا وَلَو دخل دَار الْغَيْر وَلم يكن صَاحبهَا فِيهَا وَقصد الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا فغاصب بِخِلَاف من دَخلهَا لينْظر هَل تصلح لَهُ أم لَا وَنَحْو ذَلِك وَلَو دفع إِلَى عبد غَيره شَيْئا ليوصله إِلَى منزله بِلَا إِذن مَالِكه قَالَ القَاضِي حُسَيْن يكون غَاصبا وطرده فِيمَا إِذا بَعثه فِي شغل وَقَالَ الْبَغَوِيّ لَا يضمن إِلَّا إِذا اعْتقد طَاعَة الْأَمر كالصغير والأعجمي وَعبد الْمَرْأَة ثمَّ مَتى ثَبت الْغَصْب وَجب عَلَيْهِ رد مَا غصبه إِلَى مَالِكه وَهُوَ معنى قَول الشَّيْخ أَخذ برده للأحاديث الْوَارِدَة فِي ذَلِك وَلَو غرم فِي الرَّد أَضْعَاف قيمَة الْمَغْصُوب كَمَا لَو غصبه شَيْئا بِمَكَّة ثمَّ لقِيه بمَكَان آخر بعيد يجب على الْغَاصِب أَن يحضر الْمَغْصُوب وَأَن يتَكَلَّف مُؤنَة نَقله وَهَذَا لَا يُنَازع فِيهِ وكما يخرج عَن الْعهْدَة بِالرَّدِّ إِلَى الْمَالِك كَذَلِك يخرج بِالرَّدِّ إِلَى وَكيله وَلَو غصب الْعين المودوعة من الْمُودع أَو من الْمُسْتَأْجر أَو من الْمَرْهُون عِنْده ثمَّ رد إِلَيْهِم برِئ على الرَّاجِح لِأَن يدهم كيد الْمَالِك وَقيل لَا يبرأ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى الْمَالِك وَلَو غصب من الْمُسْتَعِير أَو من الْآخِذ على وَجه السّوم ثمَّ رده إِلَيْهِ هَل يبرأ وَجْهَان ذكرهمَا الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب الثَّالِث من أَبْوَاب الرَّهْن وَلَو رد الدَّابَّة إِلَى الإسطبل أَو الدَّار فِي حق أهل الْقرى وَنَحْوهم إِن علم الْمَالِك بذلك إِمَّا بِأَن رَآهَا أَو أخبرهُ ثِقَة برِئ وَإِن لم يعلم حَتَّى شَردت لم يبرأ كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن الْمُتَوَلِي فِي آخر الْبَاب وَأقرهُ وَاعْلَم أَنه كَمَا يجب رد الْمَغْصُوب كَذَلِك يجب أرش نَقصه وَلَا فرق بَين نقص الصّفة وَنقص الْعين مِثَال نقص الصّفة بِأَن غصب دَابَّة سَمِينَة فهزلت ثمَّ سمنت فَإِنَّهُ يردهَا وَأرش السّمن الأول لِأَن الثَّانِي غير الأول حَتَّى لَو هزلت مرّة(1/282)
أُخْرَى ردهَا ورد أرش السمنتين جَمِيعًا وَيُقَاس بِهَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ وَأما نقص الْعين بِأَن غصب زَوجي خف قيمتهمَا عشرَة دَرَاهِم فَضَاعَ أَحدهمَا وَصَارَ قيمَة الْبَاقِي دِرْهَمَيْنِ لزمَه قيمَة التَّالِف وَهُوَ خَمْسَة وَأرش النَّقْص وَهُوَ ثَلَاثَة فَيلْزمهُ ثَمَانِيَة لِأَن الْأَرْش حصل بِالتَّفْرِيقِ الْحَاصِل عِنْده وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَقَول الشَّيْخ لزمَه أرش نَقصه يُؤْخَذ مِنْهُ أَن نقص قيمَة الأسعار لَا يضمنهَا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا نقص فِي ذَات الْمَغْصُوب وَلَا فِي صِفَاته وَالَّذِي فَاتَ إِنَّمَا هُوَ رغبات النَّاس وَفِي وَجه يلْزمه ذَلِك وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ قَالَ الإِمَام أَبُو ثَوْر وَهُوَ منقاس
قلت وَهُوَ قوي لِأَن الْغَاصِب مطَالب بِالرَّدِّ فِي كل لَحْظَة والسعر الْمُرْتَفع بِمَنْزِلَة المَال العتيد أَلا ترى أَنه لَو بَاعَ الْوَلِيّ وَالْوَكِيل أَو عَامل الْقَرَاض وَنَحْو ذَلِك بِثمن الْمثل وَهُنَاكَ رَاغِب بِالزِّيَادَةِ لَا يَصح لِأَنَّهُ تَفْوِيت مَال وَالله أعلم فَكَمَا يلْزم الرَّد وَأرش النَّقْص يلْزم الْغَاصِب أُجْرَة الْمثل لاخْتِلَاف السَّبَب لِأَن سَبَب الْأَرْش النَّقْص وَالْأُجْرَة بِسَبَب تَفْوِيت الْمَنَافِع الله أعلم
(فرع) فتح بَاب قفص فِيهِ طير ونفره ضمن بِالْإِجْمَاع قَالَه الْمَاوَرْدِيّ لِأَنَّهُ نفر بِفِعْلِهِ وَإِذا اقْتصر على الْفَتْح فالراجح أَنه إِن طَار فِي الْحَال ضمن لِأَن الطَّائِر ينفر مِمَّن يقرب مِنْهُ فطيرانه فِي الْحَال مَنْسُوب إِلَيْهِ كتهييجه وَإِن وقف الطَّائِر ثمَّ طَار فَلَا ضَمَان لِأَن للحيوان اخْتِيَارا فينسب الطيران إِلَيْهِ أَلا ترى أَن الْحَيَوَان يقْصد مَا يَنْفَعهُ ويتوقى المهالك فالفاتح متسبب والطائر مبَاشر والمباشر مقدم على المتسبب وَالله أعلم قَالَ
وَإِن تلف ضمنه بِمثلِهِ إِن كَانَ لَهُ مثل أَو بِقِيمَتِه إِن لم يكن لَهُ مثل أَكثر مَا كَانَت من يَوْم الْغَصْب إِلَى يَوْم التّلف)
إِذا تلف الْمَغْصُوب سَوَاء كَانَ بِفِعْلِهِ أَو بِآفَة سَمَاوِيَّة بِأَن وَقع عَلَيْهِ شَيْء أَو احْتَرَقَ أَو غرق أَو أَخذه أحد وَتحقّق تلفه فَإِن كَانَ مثلِيا ضمنه بِمثلِهِ لقَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَلِأَنَّهُ أقرب إِلَى حَقه لِأَن الْمثْلِيّ كالنص لِأَنَّهُ محسوس وَالْقيمَة كالاجتهاد وَلَا يُصَار إِلَى الِاجْتِهَاد إِلَّا عِنْد فقد النَّص وَلَو غضب مثلِيا فِي وَقت الرُّخص فَلهُ طلبه فِي وَقت الغلاء
ثمَّ ضَابِط الْمثْلِيّ مَا حصره كيل أَو وزن وَجَاز السّلم فِيهِ وَيسْتَثْنى من هَذَا مَا إِذا أتلف عَلَيْهِ مَاء فِي مفازة ثمَّ لقِيه على شط نهر أَو أتلف عَلَيْهِ الثَّلج فِي الصَّيف ثمَّ لقِيه فِي الشتَاء فَالْوَاجِب قيمَة الْمثل فِي تِلْكَ الْمَفَازَة وَقِيمَة الثَّلج فِي وَقت الْغَضَب وَالله أعلم(1/283)
وَلَو كَانَ الْمَغْصُوب من ذَوَات الْقيم كالحيوان وَغَيره من غير الْمثْلِيّ لزمَه أقْصَى قيم الْمَغْصُوب من وَقت الْغَصْب إِلَى وَقت التّلف لِأَنَّهُ فِي حَال زِيَادَة الْقيمَة غَاصِب مطَالب بِالرَّدِّ فَلَمَّا لم يرد فِي تِلْكَ الْحَالة ضمن الزِّيَادَة لتعديه وَتجب قِيمَته من نقد الْبَلَد الَّذِي حصل فِيهِ التّلف قَالَه الرَّافِعِيّ وَكَلَام الرَّافِعِيّ مَحْمُول على مَا إِذا لم ينْقل الْمَغْصُوب فَإِن نَقله قَالَ ابْن الرّفْعَة فَيتَّجه أَن يعْتَبر نقد الْبَلَد الَّذِي تعْتَبر الْقيمَة فِيهِ وَهُوَ أَكثر البلدين قيمَة قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْبَحْر عَن وَالِده مَا يُقَارِبه وَالْعبْرَة بِالنَّقْدِ الْغَالِب فَإِن غلب نقدان وتساويا عين القَاضِي وَاحِدًا مَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي كتاب البيع وَالله أعلم
(فرع) لَو ظفر بالغاصب فِي بلد التّلف والمغصب مثلي وَهُوَ مَوْجُود فَالصَّحِيح أَنه إِن كَانَ لَا مُؤنَة لنقله كالنقد فَلهُ مُطَالبَته بِالْمثلِ وَإِلَّا فَلَا يُطَالِبهُ ويغرمه قيمَة بلد التّلف لِأَنَّهُ تعذر على الْمَالِك الرُّجُوع إِلَى الْمثل وَالله أعلم قَالَ
بَاب الشُّفْعَة فصل وَالشُّفْعَة وَاجِبَة بالخلطة دون الْجوَار فِيمَا يَنْقَسِم دون مَالا يَنْقَسِم وَفِي كل مَا لَا ينْقل من الأَرْض كالعقار وَنَحْوه
الشُّفْعَة من شفعت الشَّيْء وثنيته وَقيل من التَّسْوِيَة والاعانة لِأَنَّهُ يتقوى بِمَا يَأْخُذهُ
وَهِي فِي الشَّرْع حق تملك قهري يثبت للشَّرِيك الْقَدِيم على الْحَادِث بِسَبَب الشّركَة بِمَا يملك بِهِ لدفع الضَّرَر وَاخْتلف فِي الْمَعْنى الَّذِي شرعت لأَجله فَالَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِي أَنه ضَرَر مُؤنَة الْقِسْمَة واستحداث الْمرَافِق وَغَيرهَا وَالْقَوْل الثَّانِي ضَرَر سوء الْمُشَاركَة
وَالْأَصْل فِي ثُبُوتهَا ورد
(قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشُّفْعَة فِي كل مَا لَا يقسم فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شُفْعَة) وَفِي رِوَايَة فِي
(أَرض أَو ربع أَو حَائِط) وَالرّبع الْمنزل والحائط الْبُسْتَان وَنقل ابْن الْمُنْذر الاجماع على إِثْبَات الشُّفْعَة وَهُوَ مَمْنُوع فقد خَالف فِي ذَلِك جَابر بن زيد من كبار التَّابِعين وَغَيره إِذا عرفت هَذَا فَقَوْل الشَّيْخ وَاجِبَة أَي ثَابِتَة يَعْنِي(1/284)
تثبت للشَّرِيك المخالط خلْطَة الشُّيُوع دون الشَّرِيك الْجَار للْحَدِيث السَّابِق وَقَوله فِيمَا يَنْقَسِم دون مَا لَا يَنْقَسِم فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْعلَّة فِي ثُبُوت الشُّفْعَة ضَرَر مُؤنَة الْقِسْمَة فَلهَذَا تثبت فِيمَا يقبل الْقِسْمَة وَيجْبر الشَّرِيك فِيهِ على الْقِسْمَة بِشَرْط أَن ينْتَفع بالمقسوم على الْوَجْه الَّذِي كَانَ ينْتَفع بِهِ قبل الْقِسْمَة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَلِهَذَا لَا تثبت الشُّفْعَة فِي الشَّيْء الَّذِي لَو قسم لبطلت منفعَته الْمَقْصُودَة مِنْهُ قبل الْقِسْمَة كالحمام الصَّغِير فَإِنَّهُ لَا يُمكن جعله حمامين وَإِن أمكن كحمام كَبِير ثبتَتْ الشُّفْعَة لِأَن الشَّرِيك يجْبر على قسمته وَكَذَا لَا شُفْعَة فِي الطَّرِيق الضّيق وَنَحْو ذَلِك وَقَوله وَفِي كل مَا لَا ينْقل احْتَرز بِهِ عَن المنقولات أَي لَا تثبت الشُّفْعَة فِي الْمَنْقُول لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا شُفْعَة إِلَّا فِي ربع أَو حَائِط) وَتثبت فِي كل مَالا ينْقل كالأرض والربوع وَإِذا ثبتَتْ فِي الأَرْض تبِعت الْأَشْجَار والأبنية فِيهَا لِأَن الحَدِيث فِيهِ لفظ الرّبع وَهُوَ يتَنَاوَل الْأَبْنِيَة وَلَفظ الْحَائِط يتَنَاوَل الْأَشْجَار
وَاعْلَم أَنه كَمَا تتبع الْأَشْجَار الأَرْض كَذَلِك تتبع الْأَبْوَاب والرفوف المسمرة للْبِنَاء وكل مَا يتبع فِي البيع عِنْد الاطلاق كَذَلِك هُنَا
وَاعْلَم أَن الْأَبْنِيَة وَالْأَشْجَار إِذا بِيعَتْ وَحدهَا فَلَا شُفْعَة فِيهَا على الصَّحِيح لِأَنَّهَا منقولة وَإِن أريدت للدوام فَإِذا عرفت هَذَا فَلَا شُفْعَة فِي الْأَبْنِيَة وَفِي الأَرْض الْمَوْقُوفَة كالأشجار لِأَن الأَرْض لَا تستتبع وَالْحَالة هَذِه وَكَذَلِكَ الْأَرَاضِي المحتكرة فاعرفه وَالله أعلم قَالَ
(بِالثّمن الَّذِي وَقع عَلَيْهِ البيع وَهِي على الْفَوْر فَإِن أَخّرهَا مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا بطلت)
قَوْله بِالثّمن مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِير الْكَلَام أَخذ الشَّفِيع الْمَبِيع بِالثّمن وَالْمعْنَى أَخذ بِمثل الثّمن إِن كَانَ الثّمن مثلِيا أَو بِقِيمَتِه إِن كَانَ مُتَقَوّما وَيُمكن حمل اللَّفْظ على ظَاهره حَيْثُ صَار الثّمن إِلَى الشَّفِيع وَالِاعْتِبَار بِوَقْت البيع لِأَنَّهُ وَقت اسْتِحْقَاق الشُّفْعَة كَذَا علله الرَّافِعِيّ وَنَقله الْبَنْدَنِيجِيّ عَن نَص الشَّافِعِي وَلَو كَانَ الثّمن مُؤَجّلا فَالْأَظْهر أَن الشَّفِيع مُخَيّر بَين أَن يعجل وَيَأْخُذ فِي الْحَال أَو يصبر إِلَى مَحل الثّمن وَيَأْخُذ لأَنا إِذا جَوَّزنَا الْأَخْذ بالمؤجل أضررنا بالمشتري لِأَن الذمم تخْتَلف وَإِن ألزمناه الاخذ بِالْحَال أضررنا بالشفيع لأجل يُقَابله قسط من الثّمن فَكَانَ مَا قُلْنَا دفعا للضررين ثمَّ الشُّفْعَة على الْفَوْر على الْأَظْهر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الشُّفْعَة كحل العقال) مَعْنَاهُ أَنَّهَا تفوت عِنْد عدم الْمُبَادرَة كَمَا يفوت الْبَعِير الشرود إِذا حل عقاله وَلم يبتدر إِلَيْهِ وروى
(الشُّفْعَة(1/285)
لمن واثبها) وَلِأَنَّهُ حق ثَبت لدفع الضَّرَر فَكَانَ على الْفَوْر كالرد بِالْعَيْبِ وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن المُرَاد بِكَوْنِهَا على الْفَوْر طلبَهَا لَا تَملكهَا نبه عَلَيْهِ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب فاعرفه وَقيل تمتد ثَلَاثَة أَيَّام وَقيل غير ذَلِك فَإِذا علم الشَّفِيع بِالْمَبِيعِ فليبادر على الْعَادة وَقد مر ذَلِك فِي رد الْمَبِيع بِالْعَيْبِ فَلَو كَانَ مَرِيضا أَو غَائِبا عَن بلد المُشْتَرِي أَو خَائفًا من عَدو فليوكل إِن قدر وَإِلَّا فليشهد على الطّلب فَإِن ترك الْمَقْدُور عَلَيْهِ بَطل حَقه على الرَّاجِح لِأَنَّهُ مشْعر بِالتّرْكِ وَهَذَا فِي الْمَرَض الثقيل فَإِن كَانَ مَرضا خَفِيفا لَا يمنعهُ من الْمُطَالبَة كالصداع الْيَسِير كَانَ كَالصَّحِيحِ قَالَه ابْن الرّفْعَة وَلَو كَانَ مَحْبُوسًا ظلما فَهُوَ كالمرض الثقيل وَلَو خرج للطلب حَاضرا كَانَ أَو غَائِبا فَهَل يجب الْإِشْهَاد أَنه على الطّلب الصَّحِيح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه إِذا لم يشْهد لَا يبطل حَقه وَصحح النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه أَنه فِي الْغَالِب يبطل إِذا لم يشْهد وَالْمُعْتَمد الأول كَمَا لَو بعث وَكيلا فَإِنَّهُ يَكْفِي وَلَو قَالَ الشَّفِيع لم أعلم أَن الشُّفْعَة على الْفَوْر وَهُوَ مِمَّن يخفي عَلَيْهِ صدق وَلَو اخْتَلَفْنَا فِي السّفر لأجل الشُّفْعَة صدق الشَّفِيع قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَو رفع الشَّفِيع الْأَمر إِلَى القَاضِي وَترك مُطَالبَة المُشْتَرِي مَعَ حُضُوره جَازَ وَلَو أشهد على الطّلب وَلم يُرَاجع المُشْتَرِي وَلَا القَاضِي لم يكف وَإِن كَانَ المُشْتَرِي غَائِبا رفع الْأَمر إِلَى القَاضِي وَأخذ وَلَو أخر الطّلب وَقَالَ لم أصدق الْمخبر لم يعْذر إِن أخبرهُ ثِقَة سَوَاء كَانَ عدلا أَو عبدا أَو امْرَأَة لِأَن خبر الثِّقَة مَقْبُول وَمن لَا يوثق بِهِ كالكافر وَالْفَاسِق وَالصَّبِيّ والمغفل وَنَحْوهم قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وَهَذَا فِي الظَّاهِر أما فِي الْبَاطِن فالاعتبار بِمَا يَقع فِي نَفسه من صدق الْمخبر كَافِرًا كَانَ أَو فَاسِقًا أَو غَيرهمَا وَقد صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَعلله بِأَن مَا يتَعَلَّق بالمعاملات يَسْتَوِي فِيهَا خبر الْمُسلم وَغَيره إِذا وَقع فِي النَّفس صدقه وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا تزوج امْرَأَة على شقص أَخذه الشَّفِيع بِمهْر الْمثل)
مَكَان بَين اثْنَيْنِ نكح وَاحِد مِنْهُمَا امْرَأَة وَأصْدقهَا نصِيبه من ذَلِك الْمَكَان وَهُوَ مِمَّا يثبت فِيهِ الشُّفْعَة فلشريكه أَن يَأْخُذ ذَلِك المهمور بِالشُّفْعَة وَكَذَا لَو كَانَ ذَلِك الْمَكَان ملك امْرَأَة وَملك شخص آخر فَقَالَت للزَّوْج خالعني على نَصِيبي من ذَلِك الْمَكَان أَو طَلقنِي عَلَيْهِ فَفعل بَانَتْ مِنْهُ وَاسْتحق الزَّوْج ذَلِك الشّقص وللشفيع أَخذه من الزَّوْج كَمَا أَن لَهُ أَخذه من المرا فِي صُورَة الاصداق وَيَأْخُذهُ بِمهْر الْمثل لَا بِقِيمَة الشّقص على الرَّاجِح وَوَجهه أَن الْبضْع مُتَقَوّم وَقِيمَته بِمهْر الْمثل لِأَنَّهُ بدل الشّقص فالبضع هُوَ ثمن الشّقص وَالله أعلم قَالَ(1/286)
(وَإِن كَانَ الشفعاء جمَاعَة استحقوها على قدر الْأَمْلَاك)
إِذا كَانَ مَا يجب فِيهِ الشُّفْعَة ملكا لجَماعَة وهم متفاوتون فِي قدر الْملك وَبَاعَ أحدهم حِصَّته فَهَل يَأْخُذُونَ على عدد رؤوسهم أم على قدر أملاكهم فِيهِ خلاف الْأَصَح أَخذ كل وَاحِد مِنْهُم على قدر حِصَّته وَوَجهه أَن الْأَخْذ حق يسْتَحق بِالْملكِ فقسط على قدره كالأجرة وَالثَّمَرَة فَإِن كَانَ وَاحِد من الْملاك يَأْخُذ على قدر ملكه من الْأُجْرَة وَالثَّمَرَة وَقيل يَأْخُذُونَ على عدد ؤوسهم نظرا إِلَى أصل الْملك أَلا ترى أَن الْوَاحِد إِذا انْفَرد أَخذ الْكل وَالله أعلم
(فرع) ثَبت لشخص الشُّفْعَة فِي شَيْء فَقَالَ أسقطت حَقي من الصّفة وَأخذت الْبَاقِي سقط حَقه كُله من الشُّفْعَة لِأَن الشُّفْعَة خصْلَة وَاحِدَة لَا يُمكن تبعضها فَأشبه مَا إِذا أسقط بعض الْقصاص فَإِنَّهُ يسْقط كُله وَالله أعلم
(فرع) إِذا تصرف المُشْتَرِي فِي الشّقص بِالْبيعِ وَالْإِجَارَة وَالْوَقْف فَهُوَ صَحِيح لِأَنَّهُ تصرف صَادف ملكه كتصرف الْوَلَد فِيمَا وهبه لَهُ أَبوهُ وَقَالَ ابْن شُرَيْح هُوَ بَاطِل فعلى الصَّحِيح للشَّفِيع نقص الْوَقْف وَالْإِجَارَة لِأَن حَقه بَاقٍ وَهُوَ فِي الْمَبِيع وَهُوَ مُخَيّر بَين أَن يَأْخُذ بِالْبيعِ الثَّانِي أَو ينْقضه وَيَأْخُذ بِالْأولِ لِأَن كلا مِنْهُمَا صَحِيح وَقد يكون الثّمن فِي أَحدهمَا أقل أَو من جنس هُوَ عَلَيْهِ أيسر
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالنَّقْضِ احتياله إِلَى انشاء نقض قبل الْأَخْذ بل المُرَاد أَن لَهُ نقضه بِالْأَخْذِ نبه على ذَلِك ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْقَرَاض فصل وللقراض أَرْبَعَة شَرَائِط أَن يكون على ناض من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَأَن يَأْذَن رب المَال لِلْعَامِلِ فِي التَّصَرُّف مُطلقًا فِيمَا لَا يَنْقَطِع غَالِبا
الْقَرَاض وَالْمُضَاربَة بِمَعْنى وَاحِد والقراض مُشْتَقّ من الْقَرْض وَهُوَ الْقطع لِأَن المَال قطع قِطْعَة من مَاله ليتجر فِيهَا وَقطعَة من ربحه
وَحده فِي الشَّرْع عقد على نقد ليتصرف فِيهِ الْعَامِل بِالتِّجَارَة فَيكون الرِّبْح بَينهمَا على حسب الشَّرْط من مُسَاوَاة أَو مفاضلة
وَالْأَصْل فِيهِ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ضَارب لِخَدِيجَة بمالها إِلَى الشَّام وَغير ذَلِك وأجمعت(1/287)
الصَّحَابَة عَلَيْهِ وَمِنْهُم من قاسه على الْمُسَاقَاة بِجَامِع الْحَاجة إِذْ قد يكون للشَّخْص نخل وَمَال وَلَا يحسن الْعَمَل وَآخر عَكسه مَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(ثَلَاثَة فِيهِنَّ الْبركَة البيع إِلَى أجل والمقارضة واختلاط الْبر بِالشَّعِيرِ لَا للْبيع) إِذا عرفت هَذَا فلعقد الْقَرَاض شُرُوط
أَحدهَا اشترطوا لصِحَّته كَون المَال دَرَاهِم أَو دَنَانِير فَلَا يجوز على حلي وَلَا على تبر وَلَا على عرُوض وَهل يجوز على الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير المغشوشة فِيهِ خلاف الصَّحِيح أَن لَا يَصح لِأَن عقد الْقَرَاض مُشْتَمل على غرر لِأَن الْعَمَل غير مضبوط وَالرِّبْح غير موثوق بِهِ وَهُوَ عقد يعْقد لينفسخ ومبنى الْقَرَاض على رد رَأس المَال وَهُوَ مَعَ الْجَهْل مُتَعَذر بِخِلَاف رَأس السّلم فَإِنَّهُ عقد وضع للُزُوم وَقيل يجوز إِذا راج رواج الْخَالِص قَالَ الإِمَام مَحَله إِذا كَانَت قِيمَته قريبَة من المَال الْخَالِص
قلت الْعَمَل على هَذَا إِذْ الْمَعْنى الْمَقْصُود من الْقَرَاض يحصل بِهِ لَا سِيمَا وَقد تعذر الْخَالِص فِي أغلب الْبِلَاد فَلَو اشترطنا ذَلِك لَأَدَّى إِلَى إبِْطَال هَذَا الْبَاب فِي غَالب النواحي وَهُوَ حرج فَالْمُتَّجه الصِّحَّة لعمل النَّاس عَلَيْهِ بِلَا نَكِير وَيُؤَيِّدهُ أَن الشّركَة تجوز على الْمَغْشُوش على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَته مَعَ أَنه عقد فِيهِ غرر من الْوُجُوه الْمَذْكُورَة فِي الْقَرَاض من جِهَة أَن عمل كل من الشَّرِيكَيْنِ غير مضبوط وَالرِّبْح غير موثوق بِهِ وَهُوَ عقد عقد لينفسخ وَعلة الْحَاجة مَوْجُودَة وَالله أعلم
الشَّرْط الثَّانِي أَن لَا يكون الْعَامِل مضيقاً عَلَيْهِ ثمَّ التَّضْيِيق تَارَة يكون بِمَنْع التَّصَرُّف مُطلقًا بِأَن يَقُول لَا تشتر شَيْئا حَتَّى تشاورني وَكَذَلِكَ لَا تبع إِلَّا بمشورتي لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى فَوَات مَقْصُود العقد فقد يجد شَيْئا يربح وَلَو رَاجعه لفات وَكَذَا البيع فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَات مَقْصُود الْقَرَاض وَهُوَ الرِّبْح وَتارَة يكون التَّضْيِيق بِأَن يشْتَرط عَلَيْهِ شِرَاء مَتَاع معِين كهذه الْحِنْطَة أَو هَذِه الثِّيَاب أَو يشْتَرط عَلَيْهِ شِرَاء نوع ينْدر وجوده كالخيل الْعتاق أَو البلق وَنَحْو ذَلِك أَو فِيمَا لَا يُوجد صيفاً وشتاء كالفواكه الرّطبَة وَنَحْو ذَلِك أَو يشْتَرط عَلَيْهِ مُعَاملَة شخص معِين أَن لَا تشتر إِلَّا من فلَان أَو لَا تبع إِلَّا مِنْهُ فَهَذِهِ الشُّرُوط كلهَا مفْسدَة لعقد الْقَرَاض لِأَن الْمَتَاع الْمعِين قد لَا يَبِيعهُ مَالِكه وعَلى تَقْدِير بَيْعه قد لَا يربح وَأما الشَّخْص الْمعِين فقد لَا يعامله وَقد لَا يجد عِنْده مَا يظنّ فِيهِ ربحا وَقد(1/288)
لَا يَبِيع إِلَّا بِثمن غال وكل هَذِه الْأُمُور تفوت مَقْصُود عقد الْقَرَاض فَلَا بُد من عدم اشْتِرَاطهَا حَتَّى لَو شَرط رب المَال أَن يكون رَأس المَال مَعَه ويوفي الثّمن إِذا اشْترى الْعَامِل فسد الْقَرَاض لوُجُود التَّضْيِيق الْمنَافِي لعقد الْقَرَاض نعم لَو شَرط عَلَيْهِ أَن لَا يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا فِي سوق صَحَّ بِخِلَاف الدّكان الْمعِين لِأَن السُّوق الْمعِين كالنوع الْعَام الْمَوْجُود بِخِلَاف الْحَانُوت فَإِنَّهُ كالشخص الْمعِين كَذَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يشْتَرط بَيَان مُدَّة الْقَرَاض بِخِلَاف الْمُسَاقَاة لِأَن الرِّبْح لَيْسَ لَهُ وَقت مَعْلُوم بِخِلَاف الثَّمَرَة وَأَيْضًا فهما قادران على فسخ الْقَرَاض مَتى شَاءَ لِأَنَّهُ عقد جَائِز فَلَو ذكر مُدَّة وَمنعه التَّصَرُّف بعْدهَا فسد العقد لِأَنَّهُ يخل بِالْمَقْصُودِ وَإِن مَنعه الشِّرَاء بعْدهَا فَلَا يضر على الْأَصَح لِأَن الْمَالِك مُتَمَكن من مَنعه من الشِّرَاء فِي كل وَقت فَجَاز أَن يتَعَرَّض لَهُ فِي العقد وَالله أعلم
(فرع) قارض شخصا على أَن يَشْتَرِي حِنْطَة فيطحن ويخبز أَو يغزل غزلاً فينسجه ويبيعه فسد الْقَرَاض لِأَن الْقَرَاض رخصَة شرع للْحَاجة وَهَذِه الْأَعْمَال مضبوطة يُمكن الِاسْتِئْجَار عَلَيْهَا فَلم تكن الرُّخْصَة شَامِلَة لَهَا فَلَو فعل الْعَامِل ذَلِك بِلَا شَرط لم يفْسد الْقَرَاض على الرَّاجِح وَيُقَاس بَاقِي الْأُمُور بِمَا ذكرنَا وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يشْتَرط لَهُ جُزْءا مَعْلُوما من الرِّبْح وَأَن لَا يقدره بِمدَّة)
من شُرُوط عقد الْقَرَاض اشْتِرَاك رب المَال وَالْعَامِل فِي الرِّبْح ليَأْخُذ هَذَا بِمَالِه وَذَاكَ بِعَمَلِهِ فَلَو قَالَ قارضتك على أَن الرِّبْح كُله لي أَو كُله لَك فسد العقد لِأَنَّهُ على خلاف مُقْتَضى العقد وكما يشْتَرط أَن يكون الرِّبْح بَينهمَا يشْتَرط أَن يكون مَعْلُوما بالجزئية ككون الرِّبْح بَيْننَا نِصْفَيْنِ أَو أَثلَاثًا وَنَحْو ذَلِك فَلَو قَالَ على أَن لَك نَصِيبا أَو جُزْءا فَهُوَ فَاسد للْجَهْل بِالْعِوَضِ فَلَو قَالَ على أَن الرِّبْح بَيْننَا صَحَّ وَيكون نِصْفَيْنِ وَلَو اشْترط لِلْعَامِلِ قدرا مَعْلُوما كمائة مثلا أَو ربح نوع كربح هَذِه البضاعة فسد لِأَن الرِّبْح قد ينْحَصر فِي الْمِائَة أَو فِي ذَلِك النَّوْع فَيُؤَدِّي إِلَى اخْتِصَاص الْعَامِل بِالرِّبْحِ وَقد لَا يربح ذَلِك النَّوْع ويربح غَيره فَيُؤَدِّي إِلَى أَن عمله يضيع وَهُوَ خلاف مَقْصُود العقد وَلَو شَرط أَن يلبس الثَّوْب الَّذِي يَشْتَرِيهِ فسد لِأَنَّهُ دَاخل فِي الْعِوَض مَا لَيْسَ من الرِّبْح وَقِيَاسه أَنه لَو اشْترط عَلَيْهِ أَن ينْفق من رَأس المَال أَنه لَا يَصح وَهَذَا النَّوْع كثير الْوُقُوع وَالله أعلم وَقَوله وَأَن لَا يقدره بِمدَّة يجوز أَن يُرَاد بِهِ العقد وَقد تقدم حكمه وَيجوز أَن يُرِيد أَن يقدر الرِّبْح بِمدَّة بِأَن يَقُول كَمَا يَفْعَله كثير من النَّاس اتّجر وَربح هَذِه السّنة بَيْننَا وَربح السّنة الْآتِيَة أختص بهَا دُونك أَو عَكسه وَالْأول أقرب وَالله أعلم
(فرع) لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَن ينْفق على نَفسه من رَأس المَال حضرا للْعُرْف وَلَا سفرا على الرَّاجِح لِأَن النَّفَقَة قد تكون قدر الرِّبْح فيفوز بِالرِّبْحِ دون رب المَال وَلِأَن لَهُ جعلا مَعْلُوما فَلَا يسْتَحق مَعَه(1/289)
شَيْئا آخر وَلَيْسَ لَهُ أَن يُسَافر بِغَيْر إِذن رب المَال فَإِن أذن لَهُ فسافر وَمَعَهُ مَال لنَفسِهِ وَقُلْنَا لَهُ أَن ينْفق فِي السّفر كَمَا رَوَاهُ الْمُزنِيّ لِأَنَّهُ بِالسَّفرِ قد سلم نَفسه فَأشبه الزَّوْجَة فتتوزع النَّفَقَة على قدر الْمَالَيْنِ وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا ضَمَان على الْعَامِل إِلَّا بالعدوان)
الْعَامِل أَمِين لِأَنَّهُ قبض المَال بِإِذن مَالِكه فَأشبه سَائِر الْأُمَنَاء فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّعَدِّي لتَقْصِيره كالأمناء فَلَو ادّعى عَلَيْهِ رب المَال الْخِيَانَة فَالْقَوْل قَول الْعَامِل لِأَن الأَصْل عدمهَا وَكَذَا يصدق فِي قدر رَأس المَال لِأَن الأَصْل عدم الزِّيَادَة وَكَذَا يصدق فِي قَوْله لم أربح أَو لم أربح إِلَّا كَذَا أَو اشْتريت للقراض أَو اشْتريت لي لِأَنَّهُ أعرف بنيته وَكَذَا لَو ادّعى عَلَيْهِ أَنه نَهَاهُ عَن كَذَا فَالْقَوْل قَول الْعَامِل لِأَن الأَصْل عدم النَّهْي وَيقبل قَوْله فِي دَعْوَى التّلف كَالْوَكِيلِ وَالْمُودع إِلَّا أَن يذكر شَيْئا ظَاهرا فَلَا يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة لِأَن إِقَامَة الْبَيِّنَة على السَّبَب الظَّاهِر غير متعذرة وَلَو ادّعى رد رَأس المَال فَهَل يقبل وَجْهَان الْأَصَح نعم لِأَنَّهُ أَمِين فَأشبه الْمُودع وَلَو اخْتلفَا فِي جنس رَأس المَال صدق الْعَامِل وَالله أعلم
(فرع) اخْتلف رب المَال وَالْعَامِل فِي الْقدر الْمَشْرُوط تحَالفا وللعامل أُجْرَة الْمثل ويفوز الْمَالِك بِالرِّبْحِ كُله وبمجرد التَّحَالُف يَنْفَسِخ العقد صرح بِهِ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة عَن الْبَيَان بِلَا مُخَالفَة وَكَلَام الْمِنْهَاج يَقْتَضِيهِ وَصرح بِهِ الرَّوْيَانِيّ أَيْضا وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن حصل خسران وَربح جبر الخسران بِالرِّبْحِ)
الْقَاعِدَة المقررة فِي الْقَرَاض أَن الرِّبْح وقاية لرأس المَال ثمَّ الخسران تَارَة يكون برخص السّعر فِي البضاعة وَتارَة يكون بِنَقص جُزْء من مَال التِّجَارَة بِأَن يتْلف بعضه وَقد يكون بِتَلف بعض رَأس المَال فَإِذا دفع إِلَيْهِ مِائَتَيْنِ مثلا وَقَالَ اتّجر بهما فَتلفت إِحْدَاهمَا فَتَارَة تتْلف قبل التَّصَرُّف وَتارَة بعْدهَا فَإِذا تلفت قبل التَّصَرُّف فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَنَّهَا خسران وَرَأس المَال مِائَتَان لِأَن الْمِائَتَيْنِ بِقَبض الْعَامِل صارتا مَال قِرَاض فتجبر الْمِائَة التالفة بِالرِّبْحِ وأصحهما تتْلف من رَأس المَال وَيكون رَأس المَال مائَة لِأَن العقد لم يتَأَكَّد بِالْعَمَلِ فَلَو اشْترى بالمائتين شَيْئَيْنِ فَتلف أَحدهمَا فَقيل يتْلف من رَأس المَال لِأَنَّهُ لم يتَصَرَّف بِالْبيعِ لِأَن بِهِ يظْهر الرِّبْح فَهُوَ الْمَقْصُود الْأَعْظَم وَالْمذهب أَنه يجْبر من الرِّبْح لِأَنَّهُ تصرف فِي مَال الْقَرَاض بِالشِّرَاءِ فَلَا يَأْخُذ شَيْئا حَتَّى يرد مَا تصرف فِيهِ إِلَى مَالِكه فَلَو أتلف أَجْنَبِي جَمِيعه أَو بعضه أَخذ مِنْهُ بدله وَاسْتمرّ الْقَرَاض وَالله أعلم(1/290)
(فرع) عقد الْقَرَاض جَائِز من الطَّرفَيْنِ لِأَن أَوله وكَالَة وَبعد ظُهُور الرح شركَة وَكِلَاهُمَا عقد جَائِز فَلِكُل من الْمَالِك وَالْعَامِل الْفَسْخ فَإِذا فسخ أَحدهمَا ارْتَفع الْقَرَاض وَإِن لم يحضر صَاحبه وَلَو مَاتَ أَحدهمَا أَو جن أَو أغمى عَلَيْهِ انْفَسَخ أَيْضا فَإِذا انْفَسَخ لم يكن لِلْعَامِلِ أَن يَشْتَرِي ثمَّ ينظر إِن كَانَ المَال دينا لزم الْعَامِل اسْتِيفَاؤهُ سَوَاء ظهر الرِّبْح أم لَا لِأَن الدّين ملك نَاقص وَقد أَخذ من رب المَال ملكا تَاما فليرد مثل مَا أَخذ وَإِن لم يكن دينا نظر إِن كَانَ نَقْدا من جنس رَأس المَال وَلَا ربح أَخذه رب المَال وَإِن كَانَ هُنَاكَ ربح اقتسماه بِحَسب الشَّرْط فَإِن كَانَ نَقْدا من غير جنس رَأس المَال أَو عرضا نظر إِن كَانَ هُنَاكَ ربح لزم الْعَامِل بَيْعه إِن طلبه الْمَالِك وللعامل بَيْعه وَإِن أَبى الْمَالِك لأجل الرِّبْح وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ تَأْخِير البيع إِلَى موسم رواج الْمَتَاع لِأَن حق الْمَالِك معجل فَلَو قَالَ الْعَامِل تركت حَقي لَك فَلَا تكلفني البيع لم تلْزمهُ الْإِجَابَة على الْأَصَح لِأَن التنضيض كلفة فَلَا تسْقط عَن الْعَامِل وَلَو قَالَ رب المَال لَا تبع ونقتسم الْعرُوض أَو قَالَ أُعْطِيك قدر نصيبك ناضاً فَفِي تمكن الْعَامِل من البيع وَجْهَان وَالَّذِي قطع بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب أَنه لَا يُمكن لِأَنَّهُ إِذا جَازَ للْمُعِير أَن يتَمَلَّك غراس الْمُسْتَعِير بِقِيمَتِه لدفع الضَّرَر فالمالك هُنَاكَ أولى لِأَنَّهُ شريك هَذَا إِذا كَانَ فِي المَال ربح فَإِن لم يكن ربح فَهَل للْمَالِك تَكْلِيف الْعَامِل البيع وَجْهَان الرَّاجِح نعم ليرد كَمَا أَخذ وَلِأَنَّهُ لَا يلْزم الْمَالِك مشقة البيع هَل لِلْعَامِلِ البيع إِن رَضِي الْمَالِك بامساكها وَجْهَان الصَّحِيح أَن لَهُ ذَلِك إِذا توقع ربحا بِأَن ظفر براغب أَو بسوق يتَوَقَّع فِيهِ الرِّبْح وَاعْلَم أَنه حَيْثُ لزم البيع لِلْعَامِلِ قَالَ الامام فَالَّذِي قطع بِهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن الَّذِي يلْزمه بَيْعه وتنضيضه قدر رَأس المَال وَأما الزَّائِد فَحكمه حكم عرض مُشْتَرك بَين اثْنَيْنِ فَلَا يُكَلف وَاحِد مِنْهُمَا بَيْعه وَمَا ذكره الامام سكت عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح وَالنَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وجزما بذلك فِي الْمُحَرر والمنهاج نعم كَلَام التَّنْبِيه يَقْتَضِي بيع الْجَمِيع وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْمُسَاقَاة فصل وَالْمُسَاقَاة جَائِزَة على النّخل وَالْكَرم وَلها شَرَائِط أَن يقدرها بِمدَّة مَعْلُومَة وَأَن ينْفَرد الْعَامِل بِعَمَلِهِ وَألا يشْتَرط مُشَاركَة الْمَالِك فِي الْعَمَل وَيشْتَرط لِلْعَامِلِ جُزْء مَعْلُوم من الثَّمَرَة
الْمُسَاقَاة هِيَ أَن يُعَامل إِنْسَان على شجر ليتعهدها بالسقي والتربية على أَن مَا رزق الله تَعَالَى من ثَمَر يكون بَينهمَا وَلما كَانَ السَّقْي أَنْفَع الْأَعْمَال اشتق مِنْهُ اسْم العقد
وَاتفقَ على جَوَازهَا الصَّحَابَة والتابعون وَقبل الِاتِّفَاق حجَّة الْجَوَاز مَا ورد عَن ابْن عمر(1/291)
رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(اعطى خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر أَو زرع) وَفِي رِوَايَة
(دفع إِلَى يهود خَيْبَر نخل خَيْبَر وأرضها على أَن يعملوها من أَمْوَالهم وَأَن لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شطرها) وَغير ذَلِك من الْأَخْبَار وَلَا شكّ فِي جَوَازهَا على النّخل لِأَنَّهُ مورد النَّص وَهل الْعِنَب مَنْصُوص عَلَيْهِ أم مقاس قيل إِن الشَّافِعِي قاسه على النّخل بِجَامِع وجوب الزَّكَاة وامكان الْخرص وَقيل إِن الشَّافِعِي أَخذه من النَّص وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامل أهل خَيْبَر على الشّطْر مِمَّا يخرج من النّخل وَالْكَرم وَهل يجوز على غير النّخل وَالْعِنَب من الْأَشْجَار المثمرة كالتين والمشمش وَغَيرهمَا من الْأَشْجَار قَولَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ بِلَا تَرْجِيح والجديد الْمَنْع لِأَنَّهَا أَشجَار لَا زَكَاة فِيهَا فَلم تجز الْمُسَاقَاة عَلَيْهَا كالموز والصوبر وَهَذَا مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَالْقَدِيم أَنه يجوز لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَامل أهل خَيْبَر بالشطر مِمَّا يخرج من النّخل وَالشَّجر وَبِهَذَا قَالَ الإمامان مَالك وَأحمد رَضِي الله عَنْهُمَا وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه وَأجَاب الْقَائِلُونَ بالجديد بِأَن الشّجر المُرَاد بهَا النّخل لِأَنَّهَا الْمَوْجُودَة فِي خَيْبَر وَفرقُوا بَين النّخل وَالْعِنَب وَغَيرهمَا من الْأَشْجَار بِأَن النّخل وَالْكَرم لَا يَنْمُو إِلَّا بِالْعَمَلِ فِيهَا لِأَن النّخل يحْتَاج إِلَى اللقَاح وَالْكَرم إِلَى الكساح وَبَقِيَّة الْأَشْجَار تنمو من غير تعهد نعم التعهد يزيدها فِي كبر الثَّمر وطيبه
وَاعْلَم أَن مَحل الْخلاف فِيمَا إِذا أفردت بالمساقاة أما إِذا ساقاه عَلَيْهَا تبعا لنخل أَو عِنَب فَفِيهِ وَجْهَان حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ فِي آخر الْمُزَارعَة بِلَا تَرْجِيح قَالَ النَّوَوِيّ أصَحهمَا أَنه يجوز قِيَاسا على الْمُزَارعَة
إِذا عرفت هَذِه فللمساقاة شُرُوط
أَحدهمَا التَّوْقِيت لِأَنَّهَا عقد لَازم فَأشبه الْإِجَارَة وَنَحْوهَا بِخِلَاف الْقَرَاض وَالْفرق أَن لخُرُوج الثِّمَار غَايَة مَعْلُومَة سهل ضَبطهَا بِخِلَاف الْقَرَاض فَإِن الرِّبْح لَيْسَ لَهُ وَقت مضبوط فقد لَا يحصل الرِّبْح فِي الْمدَّة الْمقدرَة وَلَو وَقت بالإدراك لم يَصح على الرَّاجِح لجهل الْمدَّة
الشَّرْط الثَّانِي أَن ينْفَرد الْعَامِل بِالْعَمَلِ لِأَنَّهُ وضع الْبَاب فَلَو شَرط أَن يعْمل مَعَه مَالك الْأَشْجَار فسخ العقد لِأَنَّهُ مُخَالف لوضع الْمُسَاقَاة وَالْقَاعِدَة أَن كل مَا يجب على الْعَامِل إِذا شَرط على الْمَالِك يفْسد العقد على الْأَصَح وَقيل يفْسد الشَّرْط فَقَط نعم يسْتَثْنى مَسْأَلَة ذكرهَا ابْن الرّفْعَة عَن نَص الشَّافِعِي فِي الْبُوَيْطِيّ وَهُوَ أَنه إِذا شَرط على الْمَالِك السَّقْي جَازَ حَكَاهُ(1/292)
الْبَنْدَنِيجِيّ عَن النَّص وَالنَّص مَفْرُوض فِيمَا إِذا كَانَ يشرب بعروقه لَكِن حكى الْمَاوَرْدِيّ فِيمَا يشرب بعروقه فِيمَا يشرب بعروقه كنخل الْبَصْرَة أوجهاً
أَحدهَا أَن سقيها على الْعَامِل
وَالثَّانِي على الْمَالِك حَتَّى لَو شَرطهَا على الْعَامِل بَطل العقد
وَالثَّالِث يجوز اشْتِرَاطهَا على الْمَالِك وعَلى الْعَامِل فَإِن أطلق لم تلْزم وَاحِدًا مِنْهُمَا
الشَّرْط الثَّالِث أَن يكون لِلْعَامِلِ جُزْء مَعْلُوم من الثَّمَرَة وَيكون الْجُزْء مَعْلُوما بالجزئية كالنصف وَالثلث للنَّص فَلَو شَرط لَهُ ثَمَر نخلات مُعينَة لم تصح لِأَنَّهُ خَالف النَّص وَلِأَنَّهُ قد لَا تثمر هَذِه النخلات فيضيع عمله أَو لَا يُثمر غَيرهَا فيضيع الْمَالِك وَهَذَا غرر وَعقد الْمُسَاقَاة غرر لِأَنَّهُ عقد على مَعْدُوم جوز للْحَاجة وغرران على شَيْء يمنعان صِحَّته وَلَو قَالَ على أَن مَا فتح الله بَيْننَا صَحَّ وَحمل على النّصْف وَلَو قَالَ أَنا أرضيك وَنَحْو ذَلِك لم يَصح العقد وَلَو ساقاه ثَلَاث سِنِين مثلا جَازَ أَن يَجْعَل لَهُ فِي الأولى النّصْف وَفِي الثَّانِيَة الثُّلُث وَفِي الثَّالِثَة السُّدس وَبِالْعَكْسِ لانْتِفَاء الْغرَر وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَالله أعلم
(فرع) لَو شَرط فِي العقد أَن يكون سواقط النّخل من السعف والليف وَنَحْوهمَا لِلْعَامِلِ بَطل العقد لِأَنَّهَا لرب النّخل وَهِي غير مَقْصُودَة فَلَو شَرط لَهما فَوَجْهَانِ وَيشْتَرط رُؤْيَة الْأَشْجَار لصِحَّة الْمُسَاقَاة على الْمَذْهَب وَالله أعلم قَالَ
(ثمَّ الْعَمَل فِيهَا على ضَرْبَيْنِ عمل يعود نَفعه على الثَّمَرَة فَهُوَ على الْعَامِل وَعمل يعود نَفعه على الأَصْل فَهُوَ على رب المَال)
على الْعَامِل كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ الثِّمَار لزِيَادَة أَو اصلاح من عمل بِشَرْط أَن يتَكَرَّر كل سنة وَإِنَّمَا اعْتبرنَا التكرر لِأَن مَا لَا يتَكَرَّر كل سنة يبْقى أَثَره بعد الْفَرَاغ من الْمُسَاقَاة وتكليف الْعَامِل مثل ذَلِك إجحاف بِهِ فَيجب على الْعَامِل السَّقْي وتوابعه من اصلاح طرق المَاء والمواضع الَّتِي يقف فِيهَا المَاء وسمل الْآبَار والأنهار وإدارة الدواليب وَفتح رَأس الساقية وسدها بِحَسب قدر الْحَاجة وكل مَا اطردت بِهِ الْعَادة قَالَ الْمُتَوَلِي عَلَيْهِ وضع حشيش فَوق العناقيد إِن احْتَاجَت إِلَيْهِ صونا لَهَا وَهل يجب عَلَيْهِ حفظ الثِّمَار وَجْهَان أصَحهمَا على الْعَامِل كحفظ مَال الْقَرَاض وَقيل على الْمَالِك قَالَ الرَّافِعِيّ وَهُوَ أَقيس بعد تَصْحِيح الأول وَيلْزم الْعَامِل قطف الثَّمَرَة على الصَّحِيح لِأَنَّهُ من الاصلاح وَكَذَا يلْزمه تحفيف الثَّمَرَة على الصَّحِيح إِن اضطردت بِهِ عَادَة أَو شَرط وَإِذا وَجب التجفيف عَلَيْهِ وَجب توابعه وَهِي تهيئة مَوضِع الْجَفَاف ونقلها إِلَيْهِ وتقليب الثَّمَرَة فِي الشَّمْس وَالله أعلم وَأما مَا لَا يتَكَرَّر كل سنة ويقصد بِهِ حفظ الْأُصُول فَمن وَظِيفَة الْمَالِك كحفر الْأَنْهَار والآبار الجديدة وَبِنَاء الْحِيطَان وَنصب الْأَبْوَاب والدولاب وَنَحْو ذَلِك وَفِي سد(1/293)
ثلم يسيرَة تقع فِي الجدران وَوضع شوك على الْحِيطَان وَجْهَان الْأَصَح اتِّبَاع الْعرف وكما تجب هَذِه الْأُمُور على الْمَالِك كَذَلِك تجب عَلَيْهِ الْآلَات الَّتِي يتوفر بهَا الْعَمَل كالفأس والمعول والمنجل والمسحاة وَكَذَا الثور الَّذِي يُدِير الدولاب وَالصَّحِيح أَنه على الْمَالِك وخراج الأَرْض على الْمَالِك بِلَا خلاف وَكَذَا يجب على الْمَالِك كل عين تلفت فِي الْعَمَل قَالَ فِي الرَّوْضَة قطعا والدولاب يجوز فتح داله وَضمّهَا وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْإِجَارَة فصل فِي الْإِجَارَة وكل مَا أمكن الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه صحت إِجَارَته إِذا قدرت منفعَته بِأحد أَمريْن مُدَّة أَو عمل
الْقيَاس عدم صِحَة الْإِجَارَة لِأَن الْإِجَارَة مَوْضُوعَة للمنافع وَهِي مَعْدُومَة وَالْعقد على الْمَعْدُوم غرر لَكِن الْحَاجة الماسة دَاعِيَة إِلَى ذَلِك بل الضَّرُورَة المحققة دَاعِيَة إِلَى الْإِجَارَة فَإِنَّهُ لَيْسَ لكل أحد مسكن وَلَا مركوب وَلَا خَادِم وَلَا آلَة يحْتَاج إِلَيْهَا فجوزت لذَلِك كَمَا جوز السّلم وَغَيره من عُقُود الْغرَر وَقد أَجمعت الصَّحَابَة والتابعون على جَوَازهَا وَقبل الْإِجْمَاع جَاءَ بهَا الْقُرْآن وَالسّنة المطهرة قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(ثَلَاثَة أَنا خصمهم يَوْم الْقِيَامَة رجل أعْطى بِي ثمَّ غدر وَرجل بَاعَ حرا فَأكل ثمنه وَرجل اسْتَأْجر أَجِيرا فاستوفى مِنْهُ وَلم يُعْطه أجره) وروى أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(أعْطوا الْأَجِير أجره قبل أَن يجِف عرقه)
وحد عقد الْإِجَارَة عقد على مَنْفَعَة مَقْصُودَة مَعْلُومَة قَابِلَة للبدل وَالْإِبَاحَة بعوض مَعْلُوم وَفِيه قيود فاحترزنا بِالْمَنْفَعَةِ عَن الْإِجَارَة المعقودة على مَا يتَضَمَّن إِتْلَاف عين فَمن ذَلِك اسْتِئْجَار الْبُسْتَان للثمار وَالشَّاة للبنها وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا وَكَذَا لصوفها ولولدها فَهَذِهِ الاجارة بَاطِلَة نعم قد تقع الْعين تبعا كَمَا إِذا اسْتَأْجر امْرَأَة للرضاع فَإِنَّهُ جَائِز وَالْقِيَاس فِيهِ الْبطلَان إِلَّا أَن النَّص ورد فِيهِ فَلَا معدل عَنهُ ثمَّ هَل للمعقود عَلَيْهِ الْقيام بأَمْره من وضع الصَّبِي فِي حجرها وتلقيمه الثدي وعصره بِقدر الْحَاجة أم تنَاول هَذِه الاشياء مَعَ اللَّبن وَجْهَان أصَحهمَا أَن الْمَعْقُود عَلَيْهِ الْفِعْل وَاللَّبن(1/294)
يسْتَحق تبعا قَالَ الله تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} علق الْأُجْرَة بِفعل الْإِرْضَاع لَا بِاللَّبنِ وَهَذَا كَمَا إِذا اسْتَأْجر دَارا وفيهَا بِئْر مَاء يجوز الشّرْب مِنْهَا تبعا لَو اسْتَأْجر للارضاع وَنفى الْحَضَانَة فَهَل يجوز وَجْهَان أَحدهمَا لَا كَمَا إِذا اسْتَأْجر شَاة لارضاع سخلة لِأَنَّهُ عقد على اسْتِيفَاء عين وأصحهما الصِّحَّة كَمَا يجوز الاستجئار لمُجَرّد الْحَضَانَة وَكَذَا لَا يجوز اسْتِئْجَار الْفَحْل للنزوان على الاناث للنَّهْي عَن ذَلِك وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عسب الْفَحْل وَفِي مُسلم عَن بيع ضراب الْفَحْل وروى عَن الشَّافِعِي عَن ثمن عسب الْفَحْل وَالله أعلم وَقَوْلنَا مَقْصُودَة احْتِرَاز عَن مَنْفَعَة تافهة كاستئجار تفاحة وَنَحْوهَا للشم نعم إِذا كثر التفاح قَالَ الرَّافِعِيّ فَالْوَجْه الصِّحَّة كاستئجار الرياحين للشم وَمن الْمَنَافِع التافهة اسْتِئْجَار الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِن أطلق العقد فَبَاطِل وَإِن صرح باستئجارها للتزيين فَالْأَصَحّ الْبطلَان أَيْضا وَكَذَا لَا يجوز اسْتِئْجَار الطَّعَام لتزيين الحوانيت على الْمَذْهَب وَالله أعلم وَقَوْلنَا مَعْلُومَة احْتِرَاز عَن الْمَنْفَعَة المجهولة فَإِنَّهَا لَا تصح للغرر فَلَا بُد من الْعلم بِالْمَنْفَعَةِ قدرا ووصفاً وَقَوْلنَا قَابِلَة للبذل وَالْإِبَاحَة فِيهِ احْتِرَاز عَن اسْتِئْجَار آلَات اللَّهْو كالطنبور والمزمار والرباب وَنَحْوهَا فَإِن استئجارها حرَام وَيحرم بذل الْأُجْرَة فِي مقابلتها وَيحرم أَخذ الْأُجْرَة لِأَنَّهُ من قبيل أكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ وَكَذَا لَا يجوز اسْتِئْجَار المغاني وَلَا اسْتِئْجَار شخص لحمل خمر وَنَحْوه وَلَا لجبي المكوس والرشا وَجَمِيع الْمُحرمَات عَافَانَا الله تَعَالَى مِنْهَا
وَقَوْلنَا بعوض مَعْلُوم احترزنا بِهِ عَن الْأُجْرَة المجهولة فَإِنَّهُ لَا يَصح جعلهَا أُجْرَة فَإِنَّهَا ثمن الْمَنْفَعَة وَشرط الثّمن أَن يكون مَعْلُوما وَلِأَن الْجَهْل بِهِ غرر إِذا عرفت هَذَا فَكل عين وجد فِي مَنْفَعَتهَا شُرُوط الصِّحَّة صَحَّ استئجارها كاستئجار الدَّار للسُّكْنَى وَالدَّوَاب للرُّكُوب والرحل لِلْحَجِّ وللبيع وَالشِّرَاء وَالْأَرْض للزَّرْع وَشبهه وَيشْتَرط فِي الْعين الْمُسْتَأْجرَة الْقُدْرَة على تَسْلِيمهَا فَلَا يجوز إِيجَار عبد آبق وَلَا دَابَّة شاردة ومغصوب لَا يقدر على انْتِزَاعه وَكَذَا لَا يجوز اسْتِئْجَار أعمى للْحِفْظ لِأَنَّهُ يعجز عَن تَسْلِيم منفعَته كَمَا لَا يجوز اسْتِئْجَار دَابَّة زمنة للرُّكُوب وَالْحمل وَأَرْض لَا مَاء لَهَا وَلَا يكفيها الْمَطَر ونداوة الأَرْض وَمَا أشبه ذَلِك لِأَن الْأُجْرَة فِي مُقَابلَة الْمَنْفَعَة وَهِي مَعْدُومَة فَلَا يَصح إيجارها كَمَا لَا يَصح بيع الْعين المعدومة أَو الَّتِي لَا مَنْفَعَة فِيهَا وَقَول الشَّيْخ إِذا قدرت منفعَته أَي الْمُسْتَأْجرَة بِفَتْح الْجِيم بِمدَّة أَو عمل إِشَارَة إِلَى قَاعِدَة وَهِي أَن الْمَنْفَعَة المقعود عَلَيْهَا إِن كَانَت لَا تنقدر إِلَّا بِالزَّمَانِ فَالشَّرْط فِي صِحَة الْإِجَارَة فِيهَا أَن تقدر بِمدَّة وَذَلِكَ كَالْإِجَارَةِ للسُّكْنَى وَالرّضَاع وَنَحْو ذَلِك لتعينه طَرِيقا لِأَن تعْيين ذَلِك قد يعسر كالرضاع وَقد يتَعَذَّر وَإِن كَانَت لَا تتقدر إِلَّا بِالْعَمَلِ قدرت بِهِ وَإِن ورد العقد فِيهِ على الذِّمَّة كالركوب وَالْحج وَنَحْو ذَلِك وَإِن كَانَ يتَقَدَّر بالمدة وَالْعَمَل كالخياطة وَالْبناء قدر(1/295)
بِأَحَدِهِمَا قَوْله استأجرتك لتخيط هَذَا الثَّوْب أَو قَالَ استأجرتك لتخيط لي يَوْمًا وَنَحْوه من الْأَعْمَال فَإِن قدر بهما لم تصح على الرَّاجِح بِأَن قَالَ لتخيط هَذَا الثَّوْب فِي هَذَا الْيَوْم لِأَنَّهُ إِن فرغ فِي بعض الْيَوْم فَإِن طَالبه بِالْعَمَلِ فِي بَقِيَّة الْيَوْم فقد أخل بِشَرْط الْعَمَل وَإِلَّا أخل بِشَرْط الْمدَّة وَالله أعلم قَالَ
(وإطلاقها يَقْتَضِي تَعْجِيل الْأُجْرَة إِلَّا أَن يشْتَرط التَّأْجِيل)
تجب الْأُجْرَة بِنَفس العقد كَمَا يملك الْمُسْتَأْجر بِالْعقدِ الْمَنْفَعَة وَلِأَن الْإِجَارَة عقد لَو شَرط فِي عوضه التَّعْجِيل أَو التَّأْجِيل اتبع فَكَانَ مطلقه حَالا كَالثّمنِ فِي البيع نعم إِن شَرط فِيهِ التَّأْجِيل اتبع لِأَن الْمُؤمنِينَ عِنْد شروطهم فَإِذا حل الْأَجَل وَجَبت الْأُجْرَة كَالثّمنِ فِي البيع وَهَذَا فِي إِجَارَة الْعين كَقَوْلِه اسْتَأْجَرت مِنْك هَذِه الدَّابَّة وَنَحْو ذَلِك أما فِي إِجَارَة الذِّمَّة فَإِن عقد بِلَفْظ السّلم فَيشْتَرط قبض رَأس المَال فِي الْمجْلس وَكَذَا إِن عقد بِلَفْظ الْإِجَارَة على الْأَصَح نظرا إِلَى الْمَعْنى فَيشْتَرط أَن تكون الْأُجْرَة حَالَة فِي إِجَارَة الذِّمَّة وَلَا يجوز تأجيلها لِئَلَّا يلْزم بيع الكالئ بالكالئ وَهُوَ بيع الدّين بِالدّينِ وَقد نهى عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تبطل الْإِجَارَة بِمَوْت أحد الْمُتَعَاقدين وَتبطل بِتَلف الْعين الْمُسْتَأْجرَة)
إِذا مَاتَ أحد المستأجرين وَالْعين الْمُسْتَأْجرَة بَاقِيَة لم يبطل العقد لِأَن الْإِجَارَة عقد مُعَاوضَة على شَيْء يقبل النَّقْل وَلَيْسَ لأحد الْمُتَعَاقدين فَسخه بِلَا عذر فَلَا تبطل بِمَوْت أحد الْمُتَعَاقدين كَالْبيع فَإِذا مَاتَ الْمُسْتَأْجر قَامَ وَارثه مقَامه فِي اسْتِيفَاء الْمَعْقُود عَلَيْهِ وَإِن مَاتَ الْمُؤَجّر ترك الْمَأْجُور فِي يَد الْمُسْتَأْجر إِلَى إنقضاء الْمدَّة وَالله أعلم وَلَو تلفت الْعين الْمُسْتَأْجرَة بِأَن كَانَت دَابَّة فَمَاتَتْ أَو كَانَت أَرضًا فغرقت أَو ثوبا فَاحْتَرَقَ نظر إِن كَانَ ذَلِك قبل الْقَبْض أَو بعده وَلم تمض مُدَّة لمثلهَا أُجْرَة انْفَسَخت الْإِجَارَة وَإِن تلفت بعد الْقَبْض وَبعد مُضِيّ مُدَّة لمثلهَا أُجْرَة انْفَسَخت الْإِجَارَة فِي الْمُسْتَقْبل لفَوَات المعقد عَلَيْهِ وَفِي الْمَاضِي خلاف وَالأَصَح أَنه لَا يَنْفَسِخ لاستقراره بِالْقَبْضِ وَهَذَا كُله فِي إِجَارَة الْعين كَقَوْلِه اسْتَأْجَرت مِنْك هَذِه الدَّابَّة أما إِذا وَقعت الْإِجَارَة على الذِّمَّة كَمَا إِذا قَالَ ألزمت ذِمَّتك حمل كَذَا إِلَى مَوضِع كَذَا فسلمه دَابَّة ليستوفي مِنْهَا حَقّهَا فَهَلَكت لم تَنْفَسِخ الْإِجَارَة بل يُطَالب الْمُؤَجّر بإبدالها لِأَن الْمَعْقُود عَلَيْهِ بَاقٍ فِي الذِّمَّة بِخِلَاف إِجَارَة الْعين فَإِن الْمَعْقُود عَلَيْهِ نَفسه قد فَاتَ بِفَوَات الْعين الْمُسْتَوْفى مِنْهَا
وَاعْلَم أَن الْعين الْمسلمَة عَن هَذِه الْإِجَارَة وَإِن لم يَنْفَسِخ العقد بتلفها فَإِن للْمُسْتَأْجر اختصاصاً بهَا حَتَّى يجوز لَهُ إِجَارَة الْعين وَلَو أَرَادَ الْمُؤَجّر ابدالها دون رضى الْمُسْتَأْجر لَا يُمكن على الْأَصَح وَالله أعلم(1/296)
(فرع) لَو أَرَادَ الْمُسْتَأْجر أَن يعتاض عَن حَقه فِي إِجَارَة الذِّمَّة قَالَ الرَّافِعِيّ إِن كَانَ بعد تَسْلِيم الدَّابَّة جَازَ وَإِن كَانَ قبله فَلَا وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا ضَمَان على الْأَجِير إِلَّا بعدوان)
الْأَجِير أَمِين فِيمَا فِي يَده لِأَنَّهُ يعْمل فِيهِ كَمَا إِذا اسْتَأْجرهُ لقصارة ثوب وَنَحْوه وَتلف فَإِنَّهُ لَا يضمنهُ لِأَنَّهُ أَمِين وَلَا تعدى مِنْهُ فَأشبه عَامل الْقَرَاض فَإِن تعدى لزمَه الضَّمَان كَمَا إِذا اسْتَأْجرهُ للْخَبَر فأسرف فِي الإيقاد أَو تَركه حَتَّى احْتَرَقَ أَو ألصقه قبل وقته وَأَشْبَاه ذَلِك فَإِنَّهُ تَقْصِير فَلَزِمَهُ الضَّمَان وكما لَا يضمن الْأَجِير كَذَلِك لَا يضمن الْمُسْتَأْجر الْعين الْمُسْتَأْجرَة إِلَّا بِالتَّعَدِّي لِأَنَّهَا عين قبضهَا ليستوفي مِنْهَا مَا ملكه بِعقد الْإِجَارَة فَلم يضمنهَا بِالْقَبْضِ كالنخلة إِذا اشْترى ثَمَرهَا وَلَيْسَ هَذَا كَمَا إِذا اشْترى سمناً فِي ظرف فَقَبضهُ فِيهِ فَإِنَّهُ يضمن الظّرْف فِي أصح الْوَجْهَيْنِ فِي الْكِفَايَة لِأَن قَبضه بِدُونِ الظّرْف مُمكن
وَاعْلَم أَن الْمرجع فِي الْعدوان إِلَى الْعرف فَلَو ربط الدَّابَّة فِي الإسطبل فَمَاتَتْ لم يضمن وَإِن انْهَدم عَلَيْهَا فَمَاتَتْ أطلق الْغَزالِيّ النَّقْل عَن الْأَصْحَاب أَنه يضمن وَقَالَ غَيره إِن انْهَدم فِي وَقت لَا يعْهَد أَن يكون فِيهِ الِانْتِفَاع كالليل فِي الشتَاء والمطر الشَّديد فِي النَّهَار فَلَا ضَمَان وَإِلَّا ضمن وَجزم بِهَذَا التَّفْصِيل فِي الرَّوْضَة وَفِي الْمِنْهَاج وَلَو ربط دَابَّة أكتراها لحمل أَو ركُوب وَلم ينْتَفع بهَا لم يضمن إِلَّا إِذا انْهَدم عَلَيْهَا الإسطبل فِي وَقت لَو انْتفع بهَا لم يصبهَا الْهدم فاعرف ذَلِك وَمن تعدِي الْمُسْتَأْجر أَن يكبح الدَّابَّة باللجام أَو يضْربهَا بِرجلِهِ أَو يعدو بهَا فِي غير مَحل الْعَدو على خلاف الْعَادة فِي هَذِه الْأُمُور فَإِنَّهُ يضمنهَا بِخِلَاف مَا إِذا فعل ذَلِك على الْعَادة وَالله أعلم
(فرع حسن) غصبت الدَّابَّة الْمُسْتَأْجرَة مَعَ دَوَاب الرّفْقَة فَذهب بَعضهم فِي طلب دَابَّته وَلم يذهب الْمُسْتَأْجر فَإِن لم يلْزمه الرَّد عِنْد انْقِضَاء الْمدَّة لم يضمن وَإِلَّا فَإِن اسْتردَّ الذاهبون بِلَا مشقة وَلَا غَرَامَة ضمن المتخلف وَإِن كَانَ بِمَشَقَّة وغرامة فَلَا ضَمَان قَالَه الْعَبَّادِيّ وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْجعَالَة فصل والجعالة جَائِزَة وَهِي أَن يشْتَرط على رد ضالته عوضا مَعْلُوما فَإِذا ردهَا اسْتحق ذَلِك الْعِوَض الْمَشْرُوط
الْجعَالَة بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير}(1/297)
وَكَانَ مَعْلُوما وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث اللديغ الَّذِي رقاه الصَّحَابِيّ على قطيع غنم وَغير ذَلِك وَلِأَن الْحَاجة تَدْعُو إِلَى الْجعَالَة بل الْحَاجة دَاعِيَة إِلَيْهَا وَلَا بُد فِي اسْتِحْقَاق الْأُجْرَة من إِذن وَيجوز أَن يكون المعجول لَهُ معينا كَقَوْلِه لزيد مثلا إِن رددت عَبدِي أَو دَابَّتي فلك كَذَا وَيجوز أَن لَا يكون معينا كَقَوْلِه من رد ضالتي فَلهُ كَذَا فَإِذا رد المجعول لَهُ ذَلِك اسْتحق الْجعل وَلَو لم يسمع الرَّاد ذَلِك من الْجَاعِل بل سَمعه مِمَّن يوثق بِخَبَرِهِ فَرده اسْتحق وَلَا يشْتَرط أَيْضا أَن يكون الْجعل من مَالك الْمَتَاع بل لَو قَالَ بعض آحَاد النَّاس من رد ضَالَّة فلَان فَلهُ عَليّ كَذَا فَرد من سَمعه أَو من بلغه ذَلِك بطريقة اسْتحق الْجعل
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم) وَيشْتَرط فِي الْجعل أَن يكون مَعْلُوما لِأَنَّهُ عوض فَلَا بُد من الْعلم بِهِ كالأجرة فِي الْإِجَارَة فَلَو كَانَ مَجْهُولا كَقَوْلِه من رد آبقي أَو ضالتي فَلهُ ثوب أَو عَليّ رِضَاهُ وَنَحْو ذَلِك كَقَوْلِه أعْطِيه شَيْئا فَهُوَ فَاسد فَإِذا رد اسْتحق أُجْرَة الْمثل وَكَذَا لَو جعل لَهُ ثِيَاب العَبْد وَهِي مَجْهُولَة فَكَذَلِك وَلَو جعل مَالك الدَّابَّة الضَّالة ربعهَا أَو ثلثهَا لمن ردهَا قَالَ السَّرخسِيّ لَا يَصح وَقَالَ الْمُتَوَلِي يَصح قَالَ الرَّافِعِيّ هَذَا قريب من اسْتِئْجَار الْمُرضعَة بِجُزْء من الرَّضِيع بعد الْفِطَام وَالْحكم فِي مَسْأَلَة الرَّضِيع أَنه فَاسد كَمَا لَو اسْتَأْجرهُ على سلخ الدَّابَّة بجلدها بعد الْفَرَاغ أَو أَن لَهُ ربع الثَّوْب بعد النسج وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ فَاسد وَقَالَ ابْن الرّفْعَة لَيْسَ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ فَإِن فِي الرَّضِيع جعل جُزْءا مِنْهُ ملكا لَهَا بعد الْفِطَام والجزء عين والأعيان لَا تؤجل وَهنا إِن كَانَ مَوضِع الدَّابَّة مَعْلُوما وَالْعَبْد مرئياً فَالْوَجْه الصِّحَّة وَإِلَّا فَيظْهر أَنه مَوضِع الْخلاف
وَاعْلَم أَنه لَو اشْترك جمَاعَة فِي الرَّد اشْتَركُوا فِي الْجعل لأَنهم اشْتَركُوا فِي السَّبَب وَيقسم بَينهم بِالسَّوِيَّةِ وَإِن تفاوتت أَعْمَالهم لِأَن الْعَمَل فِي أَصله مَجْهُول فَلَا يُمكن رِعَايَة مِقْدَاره فِي التقسيط وَللْإِمَام احْتِمَال فِي توزيع الْجعل على قدر أَعْمَالهم لِأَن الْعَمَل بعد تَمَامه قد انضبط وَالله أعلم
(فرع) قَالَ مَالك الْمَتَاع لزيد مثلا إِن رددت ضالتي فلك دِينَار فساعده غَيره فِي الرَّد نظر إِن قصد مساعدة زيد اسْتحق زيد الدِّينَار وَإِلَّا اسْتحق نصفه فَقَط وَإِن رده غير زيد لم يسْتَحق شَيْئا قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَقَالَ الرَّافِعِيّ إِن رده غير زيد اتجه تَخْرِيجه على أَن الْوَكِيل هَل يُوكل وَالله أعلم قَالَ(1/298)
بَاب الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة فصل فِي الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة وَإِذا دفع إِلَى رجل أَرضًا ليزرعها شَرط لَهُ جُزْءا مَعْلُوما من زَرعهَا لم يجز وَإِن اكتراه بِذَهَب أَو فضَّة أَو شَرط لَهُ طَعَاما مَعْلُوما فِي ذمَّته جَازَ
الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة هَل هما بِمَعْنى أم لَا قَالَ الرَّافِعِيّ الصَّحِيح وَظَاهر نَص الشَّافِعِي أَنَّهُمَا عقدان مُخْتَلِفَانِ فالمخابرة هِيَ الْمُعَامَلَة على الأَرْض بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا والمزارعة هِيَ اكتراء الْعَامِل ليزرع الأَرْض بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا وَالْمعْنَى لَا يخْتَلف قَالَ النَّوَوِيّ وَمَا صَححهُ الرَّافِعِيّ هُوَ الصَّوَاب وَقَول العمراني إِن أَكثر أَصْحَابنَا قَالُوا هما بِمَعْنى لم يُوَافق عَلَيْهِ نبهت عَلَيْهِ لِئَلَّا يغتر بِهِ وَالله أعلم قلت لم ينْفَرد بذلك العمراني بل نقل صَاحب التموية أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد عَن أَكثر الْأَصْحَاب وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ هما بِمَعْنى وَلَا يعرف فِي اللُّغَة بَينهمَا فرق وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب هما بِمَعْنى وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي وَقَالَ الْجَوْهَرِي الْمُزَارعَة المخابرة وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ قَالَا إِن الْمُزَارعَة يكون النّذر فِيهَا من الْمَالِك وَالْمُخَابَرَة يكون النّذر فِيهَا من الْعَامِل وَبِالْجُمْلَةِ فالمزارعة وَالْمُخَابَرَة باطلان فَفِي الصَّحِيحَيْنِ النَّهْي عَن المخابرة فَإِن كَانَتَا بِمَعْنى فَلَا كَلَام وَإِلَّا قسنا الْمُزَارعَة على المخابرة مَعَ أَنه رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن الْمُزَارعَة وَأمر بالمؤاجرة وَقَالَ لَا بَأْس بهَا وسر النَّهْي أَن تَحْصِيل مَنْفَعَة الأَرْض مُمكنَة بِالْإِجَارَة فَلم يجز الْعَمَل عَلَيْهَا بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا كالمواشي بِخِلَاف الشّجر وَقَالَ ابْن سُرَيج يجوز الْمُزَارعَة وَقَالَ النَّوَوِيّ قَالَ بِجَوَاز الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة من كبار أَصْحَابنَا أَيْضا ابْن خُزَيْمَة وَابْن الْمُنْذر والخطابي وصنف فِيهَا ابْن خُزَيْمَة جُزْءا وَبَين فِيهِ علل الْأَحَادِيث الْوَارِدَة بِالنَّهْي عَنْهَا وَجمع بَين أَحَادِيث الْبَاب ثمَّ تَابعه الْخطابِيّ وَقد ضعف أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى حَدِيث النَّهْي وَقَالَ هُوَ مُضْطَرب كثير الألوان قَالَ الْخطابِيّ وأبطلها مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رَحِمهم الله تَعَالَى لأَنهم لم يقفوا على علته قَالَ والمزارعة جَائِزَة وَهِي من عمل الْمُسلمين فِي جَمِيع الْأَمْصَار لَا يبطل الْعَمَل بهَا أحد هَذَا كَلَام الْخطابِيّ وَالْمُخْتَار جَوَاز الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة وَتَأْويل الْأَحَادِيث على مَا إِذا اشْترط لوَاحِد زرع قِطْعَة مُعينَة وَلآخر آخرى وَالْمَعْرُوف فِي الْمَذْهَب إبِْطَال هَذِه الْمُعَامَلَة وَالله أعلم هَذَا كَلَام الرَّوْضَة وَقَالَ فِي شرح مُسلم إِن الْجَوَاز هُوَ الظَّاهِر الْمُخْتَار لحَدِيث خَيْبَر وَلَا يقبل دَعْوَى كَون الْمُزَارعَة فِي خَيْبَر إِنَّمَا جَازَت تبعا للمساقاة بل جَازَت مُسْتَقلَّة لِأَن الْمَعْنى المجوز للمساقاة مَوْجُود فِي الْمُزَارعَة وَقِيَاسًا على الْقَرَاض فَإِنَّهُ جَائِز بِالْإِجْمَاع وَهُوَ(1/299)
كالمزارعة فِي كل شَيْء والمسلمون فِي جَمِيع الْأَمْصَار والأعصار مستمرون على الْعَمَل بالمزارعة وَقد قَالَ بِجَوَاز الْمُزَارعَة أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن أبي ليلى وَسَائِر الْكُوفِيّين والمحدثين وَالله أعلم
فَإِذا فرعنا على الْبطلَان فالطريق كَمَا قَالَه الشَّيْخ أَن يستأجره بِأُجْرَة مَعْلُومَة نَقْدا كَانَ أَو غَيره وَمَا قَالَه الشَّيْخ فَحَمله كَمَا ذكره فِي الأَرْض خَاصَّة أما لَو دفع إِلَيْهِ أَرضًا فِيهَا أَشجَار فساقاه على النّخل وزارعه على الأَرْض فَإِنَّهُ يجوز وَتَكون الْمُزَارعَة تبعا للمساقاة بِشَرْط أَن يكون الْبذر من صَاحب الأَرْض على الْأَصَح وَلَا فرق بَين كَثْرَة الْأَشْجَار وقلتها وَعكس على الرَّاجِح لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعْطى أهل خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر أَو زرع وَإِنَّمَا اشْترط كَون الْبذر من الْمَالِك ليَكُون العقدان أَعنِي الْمُسَاقَاة والمزارعة واردين على الْمَنْفَعَة فتتحقق التّبعِيَّة وَلِهَذَا لَو أمكن سقِِي النخيل بِدُونِ سقِِي الأَرْض لم تجز الْمُزَارعَة وَالله أعلم
فَإِن قلت مَا الْحِيلَة فِي تَصْحِيح عقد يحصل بِهِ مَقْصُود الْمُزَارعَة إِذا لم يكن ثمَّ نخل
فَالْجَوَاب ذكر الْأَصْحَاب لذَلِك طرقاً فنقتصر مِنْهَا على مَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَصُورَة ذَلِك أَن يكتري صَاحب الأَرْض نصفهَا بِنصْف عمل الْعَامِل وَنصف عمل الْآلَة وَيكون الْبذر مُشْتَركا بَينهمَا فيشتركان فِي الزَّرْع على حسب الِاشْتِرَاك فِي الْبذر وَالله أعلم قَالَ
بَاب احياء الْموَات فصل وإحياء الْموَات جَائِز بِشَرْطَيْنِ أَن يكون المحيي مُسلما وَأَن تكون الأَرْض حرَّة لم يجر عَلَيْهَا ملك لمُسلم
الْموَات هِيَ الأَرْض الَّتِي لم تعمر قطّ
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق) وَرَوَاهُ الْعرق مُضَافا ومنوناً
(فَائِدَة) الْعرق أَرْبَعَة الْغِرَاس وَالْبناء وَالنّهر والبئر(1/300)
اعْلَم أَن الْإِحْيَاء مُسْتَحبّ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
(أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَلهُ أجر وَمَا أكله العوافي فَهُوَ لَهُ صَدَقَة) والعوافي الطير والوحش وَالسِّبَاع ثمَّ كل من جَازَ لَهُ أَن يتَمَلَّك الْأَمْوَال جَازَ لَهُ الْإِحْيَاء وَيملك بِهِ الْمحيا لِأَنَّهُ ملك بِفعل فَأشبه الِاصْطِيَاد والاحتطاب وَنَحْوهمَا وَلَا فرق فِي حُصُول الْملك لَهُ بَين أَن يَأْذَن الإِمَام أم لَا اكْتِفَاء بِإِذن سيد السَّابِقين واللاحقين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيشْتَرط كَمَا ذكره الشَّيْخ أَنه لم يجر على الأَرْض ملك مُسلم فَإِن جرى ذَلِك حرم التَّعَرُّض لَهَا بالأحياء وَغَيره إِلَّا بِإِذن شَرْعِي فَفِي الْخَبَر عَن سيد الْبشر
(من أَخذ شبْرًا من الأَرْض ظلما فَإِنَّهُ يطوق بِهِ يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين) ثمَّ حَرِيم الْمَعْمُور لَا يملك بِالْإِحْيَاءِ لِأَن مَالك الْمَعْمُور يسْتَحق مرافقه وَهل تملك تِلْكَ الْمَوَاضِع وَجْهَان
أَحدهمَا لَا لِأَن لم يُحْيِيهَا وَالصَّحِيح نعم كَمَا يملك عَرصَة الدَّار بِبِنَاء الدَّار والحريم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ لتَمام الِانْتِفَاع كطريق ومسيل المَاء وَنَحْوهمَا كموضع إِلْقَاء الرماد والزبالة وكما يشْتَرط أَن يكون الَّذِي يقْصد إحياءه مواتاً كَذَلِك يشْتَرط أَن يكون المحيي مُسلما فَلَا يجوز إحْيَاء الْكَافِر الذِّمِّيّ الَّذِي فِي دَار الْإِسْلَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(عادي الأَرْض وروى موتان الأَرْض لله وَلِرَسُولِهِ ثمَّ هِيَ لكم مني) وَيُؤَيِّدهُ أَنه فِي رِوَايَة
(هِيَ لكم مني أَيهَا الْمُسلمُونَ) وَلِأَنَّهُ نوع تمْلِيك يُنَافِيهِ كفر الْحَرْبِيّ فنافاه كفر الذِّمِّيّ كَالْإِرْثِ من الْمُسلم وَيُخَالف الْإِحْيَاء الاحتطاب والاحتشاش حَيْثُ يجوز للذِّمِّيّ ذَلِك بِأَن يسْتَخْلف فَلَا يتَضَرَّر بِهِ الْمُسلمُونَ بِخِلَاف الْموَات فَلَو أَحْيَا الذِّمِّيّ فجَاء مُسلم فَوجدَ أثر عمَارَة فأحياه بِإِذن الإِمَام ملكه وَإِن كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَوَجْهَانِ صحّح النَّوَوِيّ أَنه يملكهُ أَيْضا وَإِن ترك الْعِمَارَة الذِّمِّيّ مُتَبَرعا صرفهَا الإِمَام فِي الْمصَالح وَلَيْسَ لأحد تَملكهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَصفَة الْإِحْيَاء مَا كَانَ فِي الْعَادة عمَارَة للمحيي)
الْإِحْيَاء عبارَة عَن تهيئة الشَّيْء لما يُرِيد بِهِ المحيي لِأَن الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أطلقهُ وَلَا حد لَهُ فِي(1/301)
اللُّغَة فَرجع فِيهِ إِلَى الْعرف كالاحراز فِي السّرقَة وَالْقَبْض فِي الْبيُوع وَبَيَانه بصور مِنْهَا إِذا أَرَادَ الْمسكن فَيشْتَرط التحويط إِمَّا بحجارة أَو آجر أَو طين أَو خشب أَو قصب بسب الْعَادة وَيشْتَرط أَيْضا تسقيف الْبَعْض وَنصب الْبَاب على الصَّحِيح فيهمَا وَلَا يشْتَرط السُّكْنَى بِحَال وَقَالَ الْمحَامِلِي الإيواء إِلَيْهَا شَرط
قلت نصب الْأَبْوَاب مَفْقُود فِي كثير من قرى الْبَوَادِي وَقد اطردت عَادَتهم بتعريض خَشَبَة فَقَط فَالْمُتَّجه فِي مثل ذَلِك اتِّبَاع عَادَتهم وَلَعَلَّ من اشْترط نصب الْأَبْوَاب كَلَامه مَحْمُول على من اطردت ناحيتهم بذلك وَالله أعلم وَمِنْهَا إِذا أَرَادَ بستاناً أَو كرماً فَلَا بُد من تحويطه وَيرجع فِي تحويطه إِلَى الْعَادة قَالَ ابْن كج فَإِن كَانَت عَادَة تِلْكَ الْبَلَد بِنَاء الجدران اشْترط وَإِن كَانَ التحويط بقصب أَو شوك وَرُبمَا تَرَكُوهُ اعْتبرت عَادَتهم وَيعْتَبر غرس الْأَشْجَار على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ مُلْحق بالأبنية وَكَذَا بَقِيَّة الصُّور يعْتَبر فِيهَا الْعرف وَالله أعلم قَالَ
(وَيجب بذل المَاء بِثَلَاثَة شَرَائِط أَن يفضل عَن حَاجته وَأَن يحْتَاج إِلَيْهِ غَيره لنَفسِهِ أَو لبهيمته وَأَن يكون مِمَّا يسْتَخْلف فِي بِئْر أَو عين وَنَحْوه)
اعْلَم أَن المَاء على قسمَيْنِ
أَحدهمَا مَا نبع فِي مَوضِع لَا يخْتَص بأحذ وَلَا صنع لآدَمِيّ فِي انباطه واجرائه كالفرات وجيحون وعيون الْجبَال وسيول الأمطار فَالنَّاس فِيهَا سَوَاء نعم إِن قل المَاء أَو ضَاقَ المشرع قدم السَّابِق وَإِن كَانَ ضَعِيفا لقَضَاء الشَّرْع بذلك فَإِن جاؤوا مَعًا أَقرع فَإِن جَاءَ وَاحِد يُرِيد السَّقْي وَهُنَاكَ مُحْتَاج للشُّرْب فَالَّذِي يشرب أولى قَالَه الْمُتَوَلِي وَمن أَخذ مِنْهُ شَيْئا فِي إِنَاء أَو حَوْض ملكه وَلم يكن لغيره مزاحمته فِيهِ كَمَا لَو احتطب هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَالله أعلم
الْقسم الثَّانِي الْمِيَاه المختصة كالآبار والقنوات فَإِذا حفر الشَّخْص بِئْرا فِي ملكه فَهَل يكون مَاؤُهَا ملكا وَجْهَان أصَحهمَا نعم لِأَنَّهُ نَمَاء ملكه فَأشبه ثَمَرَة شجرته وكمعدن ذهب أَو فضَّة خرج فِي ملكه وَقد نَص الشَّافِعِي على هَذَا فِي غير مَوضِع فعلى هَذَا لَيْسَ لأحد أَن يَأْخُذهُ لَو خرج عَن ملكه وَقد نَص لِأَنَّهُ ملكه فَأشبه لبن شاته وَقيل إِن المَاء لَا يملك لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاث المَاء والكلأ وَالنَّار) وَالْمذهب الأول والْحَدِيث وعَلى الْوَجْهَيْنِ لَا يجب على صَاحب الْبِئْر بذل مَا فضل عَن حَاجته لزرع غَيره على الصَّحِيح وَيجب بذله للماشية على الصَّحِيح لما روى(1/302)
الشَّافِعِي عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ
(من منع فضل المَاء ليمنع بِهِ فضل الْكلأ مَنعه الله فضل رَحمته يَوْم الْقِيَامَة) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
(لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ الْكلأ) وَالْفرق بَين الْمَاشِيَة وَالزَّرْع وَنَحْوه حُرْمَة الرّوح بِدَلِيل وجوب سقيها بخلاق الزَّرْع ثمَّ لوُجُوب الْبَذْل شُرُوط
أَحدهَا أَن يفضل عَن حَاجته فَإِن لم يفضل لم يجب وَيبدأ بِنَفسِهِ
الثَّانِي أَن يحْتَاج إِلَه صَاحب الْمَاشِيَة بِأَن لَا يجد مَاء مُبَاحا
الثَّالِث أَن يكون هُنَاكَ كلأ يرْعَى وَلَا يُمكن رعيه إِلَّا بسقي المَاء
الرَّابِع أَن يكون المَاء فِي مستقره وَهُوَ مِمَّا يسْتَخْلف فَأَما إِذا أَخذه فِي الْإِنَاء فَلَا يجب بذله على الصَّحِيح وَإِذا وَجب الْبَدَل مكن الْمَاشِيَة من حُضُور الْبِئْر بِشَرْط أَن لَا يتَضَرَّر صَاحب الْمَار فِي زرع وَلَا مَاشِيَة فَإِن تضرر بورودها منعت ويستقي الرُّعَاة لَهَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَإِذا وَجب الْبَذْل فَهَل يجوز لَهُ أَن يَأْخُذ عَلَيْهِ عوضا كطعام الْمُضْطَر وَجْهَان الصَّحِيح لَا للْحَدِيث الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(نهى عَن بيع فضل المَاء) فَلَو لم يجب بذل فضل المَاء جَازَ بَيْعه بكيل أَو وزن وَلَا يجوز بري الْمَاشِيَة أَو الزَّرْع لِأَنَّهُ مَجْهُول وَهُوَ غرر وَالله أعلم
(فرع) من حفر بِئْرا فِي موَات فَالصَّحِيح أَنه لَيْسَ لغيره أَن يحْفر بِئْرا يحصل بِسَبَبِهَا نقص مَاء الْبِئْر الأولى وَيكون ذَلِك الْموضع من حَرِيم الْبِئْر الأولى وَهَذَا بِخِلَاف مَا إِذا حفر بِئْرا فِي ملكه فنقص مَاء بِئْر جَاره فَإِنَّهُ لَا يمْنَع لِأَنَّهُ تصرف فِي عين ملكه وَفِي الْموَات ابْتِدَاء تملك فَيمْنَع مِنْهُ إِذا أضرّ بِالْغَيْر وَحكم غرس الْأَشْجَار كالبئر قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب وَالله أعلم
بَاب الْوَقْف فصل وَالْوَقْف جَائِز بِثَلَاث شَرَائِط أَن يكون مِمَّا ينْتَفع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه
يُقَال وقفت وأوقفت لُغَة رَدِيئَة
وَحده فِي الشَّرْع حبس مَال يُمكن الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه مَمْنُوع من التَّصَرُّف فِي عينه(1/303)
تصرف مَنَافِعه فِي الْبر تقرباً إِلَى الله تَعَالَى وَلَو قيل حبس مَا يُمكن الإنتفاع بِهِ إِلَى آخِره فَهُوَ أحسن ليشْمل الْكَلْب الْمعلم على وَجه وَالرَّاجِح أَنه لَا يَصح وَقفه وَقيل لَا يَصح قطعا لِأَنَّهُ لَا يملك وَهُوَ قربَة مَنْدُوب إِلَيْهَا
قَالَ الله تَعَالَى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِذا مَاتَ العَبْد انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاثَة أَشْيَاء من صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ) وَحمل عُلَمَاء الصَّدَقَة الْجَارِيَة على الْوَقْف قَالَ جَابر رَضِي الله عَنهُ مَا بَقِي أحد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ مقدرَة إِلَّا وقف وَقَول الشَّيْخ أَن ينْتَفع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه دخل فِيهِ العقاء وَغَيره مُفردا كَانَ أَو مشَاعا حَيَوَانا كَانَ أَو غَيره وَاحْترز بِهِ عَمَّا لَا ينْتَفع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه كالأثمار وَالطَّعَام وَكَذَا المشموم لِأَن الأثمار ينْتَفع بإخراجها وَالطَّعَام بِأَكْلِهِ والمشموم لَا يَدُوم وَاعْلَم أَنه يجوز وقف الْأَشْجَار لثمارها والماشية للبنها وصوفها وَكَذَا الْفَحْل ليقفز على شِيَاه الْبَلَد لِأَن الْمَوْقُوف ذواتها وَهَذِه الْأُمُور هِيَ مَنَافِعهَا وَلَيْسَ من شَرط الْمَوْقُوف أَن ينْتَفع بِهِ فِي الْحَال فَيصح وقف الأَرْض الجدبة لتصلح وَيُمكن زَرعهَا وَكَذَا يَصح وقف العَبْد والجحش الصغيرين وَكَذَا يَصح وقف الأَرْض الْمُؤجرَة كَمَا يَصح وقف الْعين الْمَغْصُوبَة وَالله أعلم قَالَ (وَأَن يكون على أصل مَوْجُود وَفرع لَا يَنْقَطِع)
لَا شكّ أَن الْوَقْف صَدَقَة يُرَاد بهَا الدَّوَام
وَحَقِيقَة الْوَقْف نقل ملك الْمَنَافِع إِلَى الْمَوْقُوف عَلَيْهِ وتمليك الْمَعْدُوم بَاطِل وَكَذَا تمْلِيك من لَا يملك مِثَال الأول مَا إِذا وقف على من سيولد ثمَّ على الْفُقَرَاء أَو وقف على وَلَده ثمَّ على الْفُقَرَاء وَلَا ولد لَهُ وَفِي معنى ذَلِك مَا إِذا وقف على مَسْجِد سيبنى ثمَّ على الْفُقَرَاء وَمِثَال الثَّانِي الْوَقْف على الْحمل وَكَذَا على عبد إِذا قصد نَفسه دون سَيّده وفرعنا على الصَّحِيح أَن العَبْد لَا يملك بالتمليك فَهَذَا وأشباهه بَاطِل على الْمَذْهَب لِأَن الْوَقْف تمْلِيك منجر فَلَا يَصح على من لَا يملك كَالْبيع وَسَائِر التمليكات وَإِلَى مَا ذكرنَا أَشَارَ الشَّيْخ بقوله على أصل مَوْجُود وَالله أعلم
(فرع) الْوَقْف على الْمَيِّت لَا يَصح وَقيل يَصح وَيصرف على الْفُقَرَاء وَهَذَا النَّوْع يعبر عَنهُ الْفُقَهَاء بقَوْلهمْ مُنْقَطع الأول وَقَوله وَفرع لَا يَنْقَطِع احْتَرز بِهِ الشَّيْخ عَن غير مُنْقَطع الأول وَهُوَ الَّذِي يعبرون عَن بقَوْلهمْ مُنْقَطع الآخر وَهل هُوَ بَاطِل كالنوع الأول وَهُوَ مُنْقَطع الأول أم هُوَ(1/304)
صَحِيح يخْتَلف التَّرْجِيح فِيهِ باخْتلَاف صيفة الْوَقْف فَإِن قَالَ وقفت على أَوْلَادِي ثمَّ سكت أَو على الْفَقِير فلَان ثمَّ سكت وَلم يذكر مصرفاً لَهُ دوَام فَفِي هَذِه الصِّيغَة خلاف منتشر وَالرَّاجِح الصِّحَّة وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم القَاضِي أَبُو حَامِد وَالْقَاضِي الطَّبَرِيّ وَالرُّويَانِيّ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر وَبِه قَالَ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى لِأَن مَقْصُود الْوَقْف الْقرْبَة وَالثَّوَاب فَإِذا بَين مصرفه فِي الْحَال سهل إدامته على سَبِيل الْخَيْر فعلى هَذَا إِذا انقرض الْمَوْقُوف عَلَيْهِ لَا يبطل الْوَقْف على الرَّاجِح فعلى هَذَا إِلَى من يصرفهُ الصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر إِلَى أقرب النَّاس إِلَى الْوَاقِف إِلَى يَوْم انْقِرَاض الْمَوْقُوف عَلَيْهِم فعلى هَذَا هَل الْمُعْتَبر الْإِرْث أم لَا الصَّحِيح إعتبار قرب الرَّحِم فعلى هَذَا يقدم ابْن الْبِنْت وَإِن لم يَرث على ابْن الْعم وَهل يشْتَرط الْكل أم يخْتَص بِهِ الْفُقَرَاء الرَّاجِح اخْتِصَاص الْفُقَرَاء لِأَن مصرفه مصرف الصَّدَقَة وَهل ذَلِك على سَبِيل الْوُجُوب أم الِاسْتِحْبَاب فِيهِ خلاف لم يرجح الشَّيْخَانِ فِي ذَلِك شَيْئا فَلَو انقرض الْفُقَرَاء فالمنصوص أَن الإِمَام يَجْعَل الْوَقْف حسبا على الْمُسلمين يصرف غَلَّته فِي مصالحهم وَرجحه الطَّبَرِيّ وَفِي الشَّامِل لِابْنِ الصّباغ يصرف للْفُقَرَاء أَو الْمَسَاكِين وَالله أعلم أما إِذا قَالَ وقفت هَذَا سنة فَالصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور بطلَان الْوَقْف لفساد الشَّرْط لِأَن الْمَقْصُود دوَام الثَّوَاب هُوَ مَفْقُود وَالله أعلم
(فرع) هَل يشْتَرط الْقبُول فِي الْوَقْف ينظر إِن كَانَ الْوَقْف على جِهَة عَامَّة كالفقراء أَو الرَّبْط والمساجد فَلَا يشْتَرط لتعذره وَإِن كَانَ على معِين وَاحِدًا كَانَ أَو جمَاعَة فَفِيهِ خلاف الرَّاجِح فِي الْمُحَرر والمنهاج اشْتِرَاط الْقبُول فعلى هَذَا يكون الْقبُول مُتَّصِلا بِالْإِيجَابِ كَمَا فِي البيع وَالْهِبَة وَخص الْمُتَوَلِي الْخلاف بِمَا إِذا قُلْنَا الْملك فِي الْمَوْقُوف ينْتَقل إِلَى الْمَوْقُوف عَلَيْهِ أما إِذا قُلْنَا ينْتَقل إِلَى الله تَعَالَى فَلَا يشْتَرط الْقبُول قطعا
وَاعْلَم أَن مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج من اشْتِرَاط الْقبُول فِي بَاب الْوَقْف خَالفه فِي الرَّوْضَة فِي كتاب السّرقَة فَقَالَ فِي زياده الْمُخْتَار أَنه لَا يشْتَرط وَالْمُخْتَار فِي الرَّوْضَة بِمَعْنى الصَّحِيح وَكَلَام التَّنْبِيه يقتضضيه فَإِنَّهُ ذكر الْإِيجَاب وَلم يشْتَرط الْقبُول وَكَذَا فِي الْمُهَذّب وَمِمَّنْ قَالَ بِعَدَمِ اشْتِرَاط الْقبُول خلائق تَشْبِيها لَهُ بِالْعِتْقِ مِنْهُم الْمَاوَرْدِيّ بل قطع بِهِ الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيّ بل نَص الشَّافِعِي على أَنه لَا يشْتَرط وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن لَا يكون فِي مَحْظُور)
الْمَحْظُور الْحَرَام فَيشْتَرط فِي صِحَة الْوَقْف انْتِفَاء الْمعْصِيَة لِأَن الْوَقْف مَعْرُوف وبر وَالْمَعْصِيَة عكس ذَلِك فَيحرم الْوَقْف على شِرَاء آلَة لقطع الطَّرِيق وَكَذَا الْآلَات الْمُحرمَة كَسَائِر آلَات الْمعاصِي كَمَا يصنعه أهل الْبدع من صوفية الزوايا بِأَن يوقفوا آلَة لَهو لأجل السماع وَيَقُولُونَ(1/305)
لَا سَماع إِلَّا من تَحت قناع وَلَا يَأْبَى ذَلِك إِلَّا فَاسد الطباع وَهَؤُلَاء قد نَص الْقُرْآن على إلحادهم وَلَيْسَ فِي كفرهم نزاع وَكَذَا لَا يجوز الْوَقْف على البيع وَالْكَنَائِس وَكتب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل لِأَنَّهَا مُحرمَة وَلَو كَانَ الْوَقْف ذِمِّيا حَتَّى لَو ترافعوا إِلَيْنَا فِي ذَلِك أبطلناه هَذَا إِذا كَانَ الْوَقْف على جِهَة أما إِذا وقف على ذمِّي بِعَيْنِه فَإِنَّهُ يَصح لِأَن الْوَقْف كصدقة التَّطَوُّع وَهِي عَلَيْهِ جَائِزَة بِخِلَاف الْوَقْف على الْحَرْبِيّ وَالْمُرْتَدّ فَإِنَّهُ لَا يَصح على الرَّاجِح لِأَنَّهُمَا مقتولان فَهُوَ وقف على من لَا دوَام لَهُ فَأشبه وقف شَيْء لَا دوَام لَهُ وَلَو وقف على الْأَغْنِيَاء فَفِيهِ خلاف مَبْنِيّ على أَن المرعي فِي الْوَقْف جِهَة التَّمْلِيك أم جِهَة الْقرْبَة وَكَذَا لَو وقف على الْفُسَّاق فِيهِ هَذَا الْخلاف قَالَ الرَّافِعِيّ وَالْأَشْبَه بِكَلَام الْأَكْثَرين تَرْجِيح كَونه تَمْلِيكًا وَتَصْحِيح الْوَقْف على هَؤُلَاءِ وَصرح بِتَصْحِيحِهِ فِي الْمُحَرر وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على التَّصْحِيح فِي الْمِنْهَاج إِلَّا أَن الرَّافِعِيّ قَالَ فِي الشَّرْح بعد ذَلِك وَتَبعهُ فِي الرَّوْضَة الْأَحْسَن تَصْحِيح الْوَقْف على الْأَغْنِيَاء دون الْفُسَّاق لتَضَمّنه الْإِعَانَة على الْمعْصِيَة وَالله أعلم قَالَ
(وَهُوَ على مَا شَرط الْوَاقِف من تَقْدِيم وَتَأْخِير وتسوية وتفضيل)
إِذا صَحَّ الْوَقْف لزم كَالْعِتْقِ وَاسْتحق الْمَوْقُوف عَلَيْهِ غَلَّته مَنْفَعَة كَانَت كالسكنى أَو عينا كالثمرة وَالصُّوف وَاللَّبن وَكَذَا الْوَلَد على الْأَصَح لِأَنَّهَا نَمَاء الْمَوْقُوف وَيجب صرف ذَلِك بِحَسب الشَّرْط من التقييم كوقفت على أَوْلَادِي بِشَرْط تَقْدِيم الأعلم أَو الأورع أَو المزوج وَنَحْو ذَلِك أَو التَّأْخِير بِأَن يَقُول وقفت على أَوْلَادِي فَإِن انقرضوا فلأولادهم وَنَحْو ذَلِك أَو على أَن ريع السّنة الأولى للإناث وَالثَّانيَِة للذكور أَو التَّسْوِيَة كَمَا إِذا وقف على أَوْلَاده بِشَرْط أَن لَا يفضل أحدا على أحد فِي قدر النَّصِيب وَنَحْو ذَلِك والتفضيل كَمَا إِذا قَالَ وقفت على أَوْلَادِي على أَن للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَنَحْو ذَلِك وَوجه ذَلِك كُله على أَن الْوَقْف تمْلِيك مَنَافِع الْمَوْقُوف فَاعْتبر قَول المملك كَالْهِبَةِ وَالله أعلم
(فرع) إِذا جهل شَرط الْوَاقِف فِي الْمَقَادِير أَو فِي كَيْفيَّة التَّرْتِيب لِانْعِدَامِ كتاب الْوَقْف وَعدم الشُّهُود قَالَ الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة تقسم الْغلَّة بَينهم بِالسَّوِيَّةِ وَحكى بَعضهم أَن الْأَوْجه الْوَقْف حَتَّى يصطلحوا وَهُوَ الْقيَاس وَالْقَائِل بِهَذَا هُوَ الإِمَام وَمحل الْقِسْمَة بَينهم بِالسَّوِيَّةِ إِذا كَانَ الْمَوْقُوف فِي أَيْديهم فَإِن كَانَ فِي بُد بَعضهم فَالْقَوْل قَوْله وَلَو كَانَ الْوَاقِف حَيا رَجَعَ إِلَى قَوْله ذكره الْبَغَوِيّ وَصَاحب الْمُهَذّب قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَو قيل لَا رُجُوع إِلَيْهِ كالبائع إِذا اخْتلف المشتريان مِنْهُ لم يبعد قَالَ النَّوَوِيّ الصَّوَاب الرُّجُوع إِلَيْهِ وَالْفرق ظَاهر قلت وَمَا قَالَه النَّوَوِيّ ذكره الرَّوْيَانِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وصرحا بِأَنَّهُ يقبل قَوْله بِلَا يَمِين وَزَاد بِأَنَّهُ إِذا مَاتَ الْوَاقِف يرجع إِلَى ورثته فَإِن لم يكن لَهُ وَرَثَة وَكَانَ لَهُ نَاظر من جِهَة الْوَاقِف رَجَعَ إِلَيْهِ وَلَا يرجع إِلَى الْمَنْصُوب من جِهَة الْوَارِث فَلَو اخْتلف النَّاظر والواقف فَهَل يرجع إِلَى النَّاظر أَو الْوَاقِف فِيهِ قَولَانِ وَلَو اخْتلف النَّاظر وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ فَفِيهِ(1/306)
الْوَجْهَانِ قَالَ النَّوَوِيّ وَيرجع إِلَى عَادَة من تقدم النَّاظر من النظار إِن اتّفقت عَادَتهم وَلَو عرفنَا الْوَقْف وَلم نَعْرِف أَرْبَاب الْوَقْف قَالَ الْغَزالِيّ وَغَيره جعل كوقف لم يذكر مصرفه فَيكون كوقف مُطلق كَذَا نَقله النَّوَوِيّ عَن الْغَزالِيّ وَهُوَ سَهْو وَإِنَّمَا قَالَ الْغَزالِيّ إِنَّه كمنقطع آخر فَيكون الْوَقْف صَحِيحا والحاقه بِالْوَقْفِ الْمُطلق يَقْتَضِي عدم الصِّحَّة لِأَن الْأَصَح فِي الْوَقْف الْمُطلق أَنه لَا يَصح وَالله أعلم
(فرع) هَل يَصح أَن يُوقف الشَّخْص على نَفسه وَإِن ذكر بعده مصرفاً قَالَ جمَاعَة من الْأَصْحَاب بِالصِّحَّةِ مِنْهُم الزبيرِي وَابْن سُرَيج وَاسْتَحْسنهُ الرَّوْيَانِيّ وَاحْتَجُّوا لذَلِك بِأَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما وقف بِئْر رومة قَالَ دلوي فِيهَا كدلاء الْمُسلمين وَالصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي أَنه لَا يجوز لِأَن معنى الْوَقْف تمْلِيك الْمَنْفَعَة قطعا والشخص لَا يملك نَفسه بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء وَلِهَذَا لَا يَصح أَن يَبِيع من نَفسه وَالْجَوَاب أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لم يقل ذَلِك شرطا وَلَكِن أخبر أَن للْوَاقِف أَن ينْتَفع بالأوقاف الْعَامَّة كَالصَّلَاةِ فِي الْبقْعَة الَّتِي جعلهَا مَسْجِدا وَالْفرق بَين الْأَوْقَاف الْعَامَّة والخاصة الْعَامَّة عَادَة إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من الْإِبَاحَة بِخِلَاف الْخَاصَّة وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْهِبَة فصل فِي الْهِبَة وكل مَا جَازَ بَيْعه جَازَت هِبته
اعْلَم أَن التَّمْلِيك بِغَيْر عوض أَن تمحض فِيهِ طلب الثَّوَاب فَهُوَ صَدَقَة وَإِن حمل إِلَى المملك إِكْرَاما وتودداً فَهُوَ هَدِيَّة وَإِلَّا فَهُوَ هبة وَهل من شرك الْهَدِيَّة أَن يكون بَين الْمهْدي وَالْمهْدِي إِلَيْهِ رَسُول وَجْهَان الرَّاجِح لَا وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِيمَا لَو حلف لَا يهدي إِلَيْهِ فوهبه شَيْئا يدا بيد فَفِي الْحِنْث وَجْهَان
وَالْهِبَة مَنْدُوبَة بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَالْهِبَة بر ومعروف وَأما السّنة الْكَرِيمَة فكثيرة مِنْهَا حَدِيث بَرِيرَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(هُوَ لَهَا صَدَقَة وَلنَا هَدِيَّة) وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(كَانَ إِذا أُتِي بِطَعَام سَأَلَ عَنهُ فَإِن قيل هَدِيَّة أكل مِنْهَا وَإِن قيل صَدَقَة لم يَأْكُل مِنْهُ)(1/307)
وَاعْلَم أَن كل صَدَقَة وهدية هبة وَلَا تنعكس إِذا عرفت هَذَا فالشيء الْمَوْهُوب هُوَ أحد أَرْكَان الْهِبَة وَهُوَ مُعْتَبر بِالْبيعِ فَإِن الْهِبَة تمْلِيك ناجز كَالْبيع فَمَا جَازَ بَيْعه جَازَت هِبته وَمَا لَا يجوز بَيْعه كالمجهول كَقَوْلِه وَهبتك أحد عَبِيدِي لَا يَصح وَكَذَا لَا تصح هبة الْآبِق والضال كَمَا لَا يَصح بيعهمَا وَيجوز هبة الْمَغْصُوب لغير الْغَاصِب إِن قدر على الانتزاع وَإِلَّا فَلَا وَتجوز هبة الْمشَاع للشَّرِيك وَغَيره وَكَذَا تجوز هبة أَرض يَزْرَعهَا وكل مَا يَصح بَيْعه فَلَا تجوز هبة الْمَرْهُون وَالْكَلب وَجلد الْميتَة قبل دبغه كَذَا الدّهن النَّجس وَالصَّدَََقَة بِهِ وَقَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي الْقطع بِصِحَّة الصَّدَقَة بِهِ
وَاعْلَم أَن هبة الدّين للْمَدِين إِبْرَاء وَلَا يحْتَاج إِلَى قبُول على الْمَذْهَب وَلغيره بَاطِل على الْمَذْهَب وَلَو وهب لفقير دينا عَلَيْهِ بنية الزَّكَاة لم يَقع عَنْهَا وَلَو قَالَ تَصَدَّقت بِمَالي عَلَيْك برِئ قَالَه ابْن سُرَيج وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالله أعلم
(فرع) إِذا ختن شخص وَلَده وَعمل وَلِيمَة فَحملت إِلَيْهِ الْهَدَايَا وَلم يسم أَصْحَابهَا الْأَب وَلَا الابْن فَهَل هِيَ للْأَب أَو للِابْن وَجْهَان صحّح النَّوَوِيّ أَنَّهَا للْأَب وَأجَاب القَاضِي حُسَيْن أَنَّهَا للإبن وَتقبل للْأَب قلت يَنْبَغِي أَمر ثَالِث وَهُوَ أَنه إِن كَانَ الْمهْدي مِمَّا يصلح للصَّبِيّ دون أَبِيه كشيء من ملبوس الصغار فَهُوَ للصَّبِيّ وَإِن كَانَ لَا يصلح للصَّغِير فَهُوَ للْأَب وَإِن احتملهما فَهُوَ مَوضِع التَّرَدُّد لعدم الْقَرِينَة المرجحة وَالله أعلم
(الْمَسْأَلَة) كتب شخص إِلَى آخر كتابا فَهَل يملك الْمَكْتُوب إِلَيْهِ القرطاس قَالَ الْمُتَوَلِي إِن استدعى مِنْهُ الْجَواب على ظَهره لم يملكهُ وَعَلِيهِ رده وَإِلَّا فَهُوَ هَدِيَّة يملكهَا الْمَكْتُوب إِلَيْهِ وَصحح النَّوَوِيّ هَذَا وَقَالَ غير الْمُتَوَلِي إِنَّه يبْقى على ملك الْكَاتِب وللمكتوب إِلَيْهِ الِانْتِفَاع بِهِ إِبَاحَة وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تلْزم إِلَّا بِالْقَبْضِ وَإِذا قبضهَا الْمَوْهُوب لَهُ لم يكن للْوَاهِب أَن يرجع فِيهَا إِلَّا أَن يكون والداً)
لَا تلْزم الْهِبَة وَلَا تملك إِلَّا بِالْقَبْضِ لِأَن الصّديق رَضِي الله عَنهُ نحل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا جذاذ عشْرين وسْقا فَلَمَّا مرض قَالَ ودتت أَنَّك حُزْتِيهِ أَو قبضتيه وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال الْوَارِث فلولا توقف الْملك على الْقَبْض لما قَالَ إِنَّه ملك الْوَارِث وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا تتمّ النحلة حَتَّى(1/308)
يجوزها المنحول وروى مثل ذَلِك عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَلَا يعرف لَهُم مُخَالف وَلِأَنَّهُ عقد إرفاق يَقْتَضِي الْقبُول فافتقر إِلَى الْقَبْض كالقرض وَسَائِر الهبات حَتَّى لَو أرسل هَدِيَّة ثمَّ استرجعها قبل أَن تصل أَو مَاتَ لم يملكهَا الْمهْدي إِلَيْهِ وَلَا يشْتَرط فِي الْقَبْض الْفَوْر نعم لَا يَصح الْقَبْض إِلَّا بِإِذن الْوَاهِب لِأَنَّهُ سَبَب نقل الْملك فَلَا يجوز من غير رضى الْمَالِك وبالقياس على الرَّهْن فَمَتَى أذن لَهُ فِي الْقَبْض فَقبض كفى صرح بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَغَيره وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ لَا بُد من إقباض من الْوَاهِب أَو وَكيله وَلَا يَكْفِي الْإِذْن وَفِي قَول قديم إِن الْملك فِي الْمَوْهُوب يحصل بِنَفس العقد وَإِن لم يَقع قبض وَفِي قَول ثَالِث أَنه مَوْقُوف فَإِذا قبض بَان أَنه ملكه من وَقت العقد وَقد جزم الرَّافِعِيّ فِي بَاب الِاسْتِبْرَاء بِمَا حَاصله القَوْل الثَّالِث وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي فَوَائِد الْمَوْهُوب من الثَّمَرَة وَاللَّبن وَغَيرهمَا وَكَذَا فِي الْمُؤَن من نَفَقَة وَغَيرهَا وَكَيْفِيَّة الْقَبْض مُعْتَبرَة بِالْعرْفِ كقبض الْمَبِيع والمرهون وَلَو مَاتَ الْوَاهِب قبل الْقَبْض لم يبطل العقد لِأَنَّهُ عقد يؤول إِلَى اللُّزُوم فَلم يَنْفَسِخ بِالْمَوْتِ كَالْبيع الْمَشْرُوط فِيهِ الْخِيَار وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص وَالْوَارِث بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ قبض وَإِن شَاءَ لم يقبض لِأَنَّهُ قَائِم مقَام مُوَرِثه وَالله أعلم ثمَّ إِذا حصل الْقَبْض الْمُعْتَبر لَزِمت الْهِبَة وَلَيْسَ للْوَاهِب الرُّجُوع فِيهَا كَسَائِر الْعُقُود اللَّازِمَة إِلَّا أَن يكون الْوَاهِب أَبَا أَو أما أَو جدا وَإِن علا وَكَذَا الْجدّة بِشَرْط أَن يكون الْمَوْهُوب خَالِيا عَن حق الْغَيْر كَمَا إِذا رهن وأقبض وَغير ذَلِك وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل لرجل أَن يُعْطي عَطِيَّة أَو يهب هبة فَيرجع فِيهَا إِلَّا الْوَالِد فِيمَا يُعْطي لوَلَده فَإِذا دخل الْجد فِي اسْم الْأَب فَلَا كَلَام وَإِلَّا فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ وَكَذَا الْجدَّات لِأَنَّهُنَّ كَالْأَبِ فِي الْعتْق وَوُجُوب النَّفَقَة وَسُقُوط الْقصاص فِي قَتله وَقيل لَا رُجُوع إِلَّا للْأَب فَقَط لِأَنَّهُ مورد النَّص وَقيل للْأَب وَالأُم فَقَط
وَاعْلَم أَن الْهَدِيَّة كَالْهِبَةِ وَلَو تصدق على ابْنه فَهَل لَهُ الرُّجُوع وَجْهَان صَحَّ الرَّافِعِيّ فِي هَذَا الْبَاب أَن لَهُ الرُّجُوع فِي الشَّرْح الْكَبِير وَصحح فِي الشَّرْح الصَّغِير أَنه لَا يرجع وبعدم الرُّجُوع جزم فِي الشَّرْح الْكَبِير فِي بَاب الْعَارِية وَكَأن الْفرق أَن الْمَقْصُود من الصَّدَقَة ثَوَاب الْآخِرَة وَقد حصل فَلَا رُجُوع لَهُ مَعَ الثَّوَاب بِخِلَاف الْهِبَة وَلَو كَانَ لَهُ على وَلَده دين فَأَبْرَأهُ فَهَل لَهُ أَن يرجع قَالَ الرَّافِعِيّ إِن قُلْنَا إِن الْإِبْرَاء تمْلِيك رَجَعَ وَإِن قُلْنَا إِسْقَاط فَلَا يرجع قَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي أَن لَا يرجع على التَّقْدِيرَيْنِ وَالله أعلم
(فرع) وهب لأبنه شَيْئا فوهبه الابْن لِابْنِهِ فَهَل للْجدّ الرُّجُوع فِيهِ وَجْهَان فَلَو مَاتَ الابْن الموهب بعد مَا وهبه من ابْنه أَو بَاعه لَهُ فَهَل للْجدّ أَيْضا الرُّجُوع فِيهِ خلاف وَالأَصَح فِي الْكل(1/309)
الْمَنْع وَلَو وهب الابْن لِأَخِيهِ الْعين الْمَوْهُوبَة فَهَل للْأَب الرُّجُوع قَالَ العمراني يَنْبَغِي أَنه لَا يجوز للْأَب الرُّجُوع قطعا لِأَن الْوَاهِب وَهُوَ الْأَخ لَا يملك الرُّجُوع فالأب أولى وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا أعمر شَيْئا أَو أرقبه كَانَ للمعمر أَو المرقب ولورثته من بعده)
إِذا قَالَ شخص لآخر أعمرتك هَذِه الدَّار مثلا حياتك أَو مَا حييت أَو مَا عِشْت ولعقبك من بعْدك صَحَّ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(أَيّمَا رجل أعمر عمرى لَهُ ولعقبه فَقَالَ أعطيتكها وَعَقِبك مَا بقى مِنْكُم أحد فَهِيَ لمن أَعْطَاهَا وعقبه لَا ترجع إِلَى صَاحبهَا من أجل أَنه أعْطى عَطاء وَقعت فِيهِ الْمَوَارِيث) وَلِأَن هَذَا معنى الْهِبَة وَإِن لم يذكر الْعقب بل قَالَ أعمرتكها حياتك صَحَّ أَيْضا فِي حَيَاته ولعقبه من بعده على الْجَدِيد لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْعمريّ جَائِزَة) وَلَو قَالَ أعمرتكها حياتك فَإِذا مت عَادَتْ إِلَيّ فَهُوَ كَمَا لَو قَالَ أرقبتك هَذِه الدَّار أَو هِيَ لَك رقبى فَهِيَ كالعمري لقَوْل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْعمريّ جَائِزَة والرقبى جَائِزَة لأَهْلهَا) نعم لَو قَالَ جَعلتهَا لَك عمري أَو حَياتِي لم تصح فِي الْأَصَح وَالله أعلم
(فرع) وهب شخص لآخر دَارا فَقبل نصفهَا أَو عيدين فَقبل أَحدهمَا فَفِي صِحَة الْهِبَة وَجْهَان حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ بِلَا تَرْجِيح وَكَذَا حَكَاهُمَا النَّوَوِيّ بِلَا تَرْجِيح وَفِي نَظِيره فِي البيع لَا يَصح قطعا قَالَ الاسنائي الْمُرَجح أَنه لَا يَصح لِأَنَّهُ لَو وهب لاثْنَيْنِ شَيْئا فَقبل أَحدهمَا نصفه كَانَ كَالْبيع لَا يَصح على الْأَصَح ذكره الرَّافِعِيّ فِي الرُّكْن الرَّابِع ومسألتنا أولى بِعَدَمِ الصِّحَّة لِأَن الْهِبَة لاثْنَيْنِ صفقتان ومسألتنا صَفْقَة وَاحِدَة وَالله أعلم تمّ الْجُزْء الأول ويليه الْجُزْء الثَّانِي وأوله فصل فِي اللّقطَة كِفَايَة الأخيار فِي حل غَايَة الِاخْتِصَار الْجُزْء الثَّانِي(1/310)
من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين (حَدِيث شرِيف) بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
فصل فِي اللّقطَة
قَالَ (وَإِذا وجد لقطَة فِي موَات أَو طَرِيق فَلهُ أَخذهَا أَو تَركهَا وَأَخذهَا أولى إِذا كَانَ على ثِقَة من الْقيام بهَا)
اللّقطَة بِفَتْح الْقَاف على الْمَشْهُور وَهِي الشَّيْء الملقوط قَالَ الْأَزْهَرِي وَأجْمع عَلَيْهِ أهل اللُّغَة وَكَذَا قَالَ الْأَصْمَعِي وَالْفراء وَابْن الْأَعرَابِي وَقَالَ الْخَلِيل هِيَ بِفَتْح الْقَاف الْوَاجِد لِأَن فعلة للْفَاعِل مثل ضحكة وفعلة بالاسكان للْمَفْعُول فَتكون للملقوط قَالَ الْأَزْهَرِي وَهُوَ الْقيَاس
والالتقاط فِي الشَّرْع هُوَ أَخذ مَال مُحْتَرم من مضيعة ليحفظه أَو ليتملكه بعد التَّعْرِيف وَفِيه نظر لِأَنَّهُ يخرج مِنْهُ الْكَلْب الْمعلم وَلَا شكّ فِي جَوَاز الْتِقَاطه للْحِفْظ فَيَنْبَغِي أَن يُقَال أَخذ شَيْء ليختص بِهِ لِأَن الشَّيْء يعم كل جنس وَقَوْلنَا ليختص لِأَن الْكَلْب لَا يملكهُ
(فَائِدَة) هَل الْمُغَلب فِي اللّقطَة حكم الْأَمَانَة أَو حكم الِاكْتِسَاب قَولَانِ وَالله أعلم وَالْأَصْل فِيهَا أَحَادِيث مِنْهَا
حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَضِي الله ((عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن لقطَة الذَّهَب وَالْوَرق فَقَالَ اعرف وكاءها وعفاصها ثمَّ عرفهَا سنة فَإِن لم تعرفها فاستبقها ولتكن عنْدك وَدِيعَة فَإِن جَاءَ طالبها يَوْمًا من الدَّهْر فأدها إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن ضَالَّة الْإِبِل فَقَالَ مَالك وَلها دعها فَإِن مَعهَا حذاءها وسقاءها ترد المَاء وتأكل الشّجر حَتَّى يلقاها رَبهَا وَسَأَلَهُ عَن الشَّاة فَقَالَ(1/313)
خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَو لأخيك أَو للذئب وَأجْمع الْمُسلمُونَ على الْجَوَاز فِي الْجُمْلَة وَهل تسْتَحب أَو تجب أَو كَيفَ الْحَال ينظر إِن كَانَ الْوَاجِد فَاسِقًا كره الِالْتِقَاط وَمن الْأَصْحَاب من مَنعه الِالْتِقَاط وَهُوَ قوي وَإِذا الْتقط نزعت من يَده كَمَا ينتزع مَال وَلَده وَإِن كَانَ الْوَاجِد حرا رشيدا وَهُوَ مِمَّن يَأْمَن على نَفسه عدم الْخِيَانَة فِيهَا نظر إِن وجدهَا فِي مَوضِع يَأْمَن عَلَيْهَا لأمانة أَهله وَلَيْسَ الْموضع مَمْلُوكا وَلَا دَار شرك فَالْأولى فِي حَقه أَن يَأْخُذهَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه)) وَإِن كَانَت فِي مَوضِع لَا يَأْمَن عَلَيْهَا فَهَل يلْزمه أَخذهَا فِيهِ خلاف قيل يجب لقَوْله تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فَيلْزم بَعضهم حفظ مَال بعض كَمَا أَو ولي مَال الْيَتِيم يلْزمه حفظ مَاله وَقيل لَا يلْزمه الِالْتِقَاط بل يسْتَحبّ وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الِالْتِقَاط إِمَّا أَمَانَة أَو كسب وَلَا يجب شَيْء مِنْهُمَا فَإِذا قُلْنَا بِالْوُجُوب فَلم يَأْخُذهَا حَتَّى تلفت لم يضمنهَا لِأَن المَال لم يحصل فِي يَده كَمَا لَو رأى مَال شخص يغرق أَو يَحْتَرِق وَأمكنهُ خلاصه فَلم يفعل وَكَذَا لَو لم يطعم الْمُضْطَر حَتَّى مَاتَ لَا يلْزمه ضَمَانه وَإِن كَانَ عَاصِيا وَقَول الشَّيْخ فِي موَات أَو طَرِيق احْتَرز بذلك عَمَّا إِذا وجدهَا فِي ملك شخص فَإِنَّهُ لَا يجوز لَهُ أَخذهَا صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا لصَاحب الْملك وَقَوله وَكَانَ على ثِقَة يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه إِذا كَانَ لَا يَثِق بِنَفسِهِ أَن الأولى أَن لَا يَأْخُذ وَهُوَ كَذَلِك بل فِي جَوَاز أَخذه لَهَا وَجْهَان حَكَاهُمَا الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد وَالله أعلم
(فرع) لَيْسَ للْعَبد الِالْتِقَاط على الرَّاجِح لِأَن الِالْتِقَاط أَمَانَة أَو ولَايَة فِي الِابْتِدَاء وتملك بالانتهاء وَالْعَبْد لَيْسَ أَهلا لذَلِك فَلَا يعْتد بتعريفه فَإِن تلفت ضمنهَا فِي رقبته إِن لم يعلم السَّيِّد سَوَاء كَانَ بتفريط أَو غَيره لِأَنَّهُ مَال لزمَه بِغَيْر رضى مُسْتَحقّه فَأشبه أرش جِنَايَته فَإِن علم بهَا السَّيِّد فَأَخذهَا مِنْهُ فَهِيَ لقطَة فِي يَد السَّيِّد وَيسْقط الضَّمَان عَن العَبْد وَإِن لم يَأْخُذهَا مِنْهُ وأقرها فِي يَد العَبْد صَحَّ واستحفظه ليعرفها فَإِن كَانَ العَبْد خائناً فالسيد مُتَعَدٍّ وَإِن كَانَ العَبْد أَمينا فَلَا وَهل يسْقط الضَّمَان الْأَصَح فِي النِّهَايَة أَنه لَا يسْقط وَقِيَاس كَلَام الْجُمْهُور السُّقُوط وَإِن أهمله السَّيِّد(1/314)
فَفِيهِ خلاف الرَّاجِح تعلق الضَّمَان بِالْعَبدِ وَسَائِر أَمْوَال السَّيِّد حَتَّى لَو أفلس السَّيِّد قدم صَاحب اللّقطَة على سَائِر الْغُرَمَاء وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا أَخذهَا وَجب عَلَيْهِ أَن يعرف سِتَّة أَشْيَاء وعاءها وعفاصها ووكاءها وجنسها وعددها ووزنها ويحفظها فِي حرز مثلهَا)
من جَازَ لَهُ الِالْتِقَاط فالتقط فَعَلَيهِ أَن يعرف مَا ذكره الشَّيْخ قَالَ الْمُتَوَلِي وَهُوَ على الْفَوْر أما معرفَة العفاص والوكاء فللحديث السَّابِق وَأما الْعدَد فَلَمَّا ورد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ ((وجدت صرة فِيهَا مائَة دِينَار فَأتيت بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عرفهَا حولا فعرفتها حولا ثمَّ أَتَيْته فَقَالَ عرفهَا حولا فعرفتها حولا ثمَّ أَتَيْته فَقَالَ عرفهَا حولا فعرفتها حولا ثمَّ أَتَيْته الرَّابِعَة فَقَالَ اعرف عدتهَا ووكاءها ووعاءها فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وَإِلَّا فاستمتع بهَا)) وَبَاقِي الصِّفَات بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهَا صِفَات تتَمَيَّز بهَا فَأَشْبَهت الْمَنْصُوص عَلَيْهِ والوعاء الْإِنَاء والعفاص السدادة وَيُطلق على الْوِعَاء مجَازًا وَالْجُمْهُور على أَن العفاص الْوِعَاء وَلَكِن جمع الشَّيْخ بَينهمَا والوكاء هُوَ الْخَيط الَّذِي يشد بِهِ وَبَاقِي الصِّفَات مَعْرُوفَة وَيجب عَلَيْهِ أَن يحفظها فِي حرز مثلهَا فَإِنَّهَا أَمَانَة فَأَشْبَهت سَائِر الْأَمَانَات وَلَا يجب الْإِشْهَاد عَلَيْهَا على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يتَعَرَّض لَهُ وَقيل يجب وَفِيه حَدِيث وَهُوَ مَحْمُول على النّدب عِنْد الْقَائِلين بِالْمذهبِ وَالله أعلم قَالَ
(ثمَّ إِذا أَرَادَ تَملكهَا عرفهَا سنة على أَبْوَاب الْمَسَاجِد وَفِي الْموضع الَّذِي وجدهَا فِيهِ فَإِن لم يجد صَاحبهَا كَانَ لَهُ أَن يتملكها بِشَرْط الضَّمَان)
أَخذ اللّقطَة إِن قصد حفظهَا على مَالِكهَا لم يلْزمه التَّعْرِيف لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب لأجل التَّمَلُّك وَلَا يملك عِنْد إِرَادَة الْحِفْظ والْحَدِيث إِنَّمَا ألزمهُ التَّعْرِيف لِأَنَّهُ جعلهَا لَهُ بعده وَهَذَا مَا ذكره الْأَكْثَرُونَ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا وَقيل يلْزمه التَّعْرِيف وَصَححهُ الإِمَام وَغَيره قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ الْأَقْوَى وَالْمُخْتَار قَالَه فِي الرَّوْضَة وَمُقْتَضَاهُ أَنه الصَّحِيح لِأَن الْمُخْتَار فِي الرَّوْضَة بِمَنْزِلَة الرَّاجِح كَمَا تقدم وَإِن أَرَادَ أَن يتملكها عرفهَا سنة للْحَدِيث الْمُتَقَدّم وَالْمعْنَى فِيهِ أَن السّنة لَا تتأخر عَن القوافل إِذْ الظفر بصاحبها قريب التوقع ثمَّ إِذا وَجب التَّعْرِيف فَهَل يجب على الْفَوْر أم يَكْفِي تَعْرِيف سنة مَتى أَرَادَ وَجْهَان أصَحهمَا لَا يجب على الْفَوْر وَيكون التَّعْرِيف على(1/315)
أَبْوَاب الْمَسَاجِد عِنْد خُرُوج النَّاس مِنْهَا وَفِي الاسواق لِأَنَّهَا مظان الِاجْتِمَاع وَكَذَا فِي الْموضع الَّذِي وجدهَا فِيهِ لِأَن صَاحبهَا يتعهد وَلِأَن هَذِه الْمَوَاضِع أقرب إِلَى وجود مَالِكهَا فِيهَا وَقَوله على أَبْوَاب الْمَسَاجِد يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لَا يعرف فِي الْمَسَاجِد لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((أَنْت الفاقد وَغَيْرك الْوَاجِد)) فِيهِ النَّهْي عَنهُ صَحَّ وَهُوَ كَذَلِك قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَا تعرف فِي الْمَسَاجِد كَمَا لَا تستطلب الضَّالة فِيهِ إِلَّا أَن الشَّاشِي قَالَ إِن أصح الْوَجْهَيْنِ جَوَاز التَّعْرِيف فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِخِلَاف سَائِر الْمَسَاجِد وَذكر مثله النَّوَوِيّ وَابْن الرّفْعَة وَمُقْتَضَاهُ التَّحْرِيم فِي بَقِيَّة الْمَسَاجِد إِلَّا أَن النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب نقل الْكَرَاهَة فاعرفه وَكَيْفِيَّة التَّعْرِيف أَن يَقُول من ضَاعَ مِنْهُ شَيْء وَلَا يجب عَلَيْهِ ذكر الْأَوْصَاف وَيسْتَحب ذكر بَعْضهَا وَقيل يجب ذكر بعض الْأَوْصَاف قَالَ الإِمَام وَلَا يستوعب الْأَوْصَاف لِئَلَّا يتعمدها الْكَاذِب فَإِن استوعبها فَهَل يضمن وَجْهَان صحّح النَّوَوِيّ الضَّمَان وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمِنْهَاج وَيذكر بعض أوصافها وَقَول الشَّيْخ عرفهَا سنة يَقْتَضِي إِطْلَاقه أَنه لَا يجب التَّرْتِيب فِي السّنة حَتَّى لَو عرف شَهْرَيْن أَو أقل أَو أَكثر فِي كل سنة كفى وَهُوَ كَذَلِك على الْأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ وَقيل يجب التَّرْتِيب لِأَن الْمَقْصُود أَن يبلغ الْخَبَر الْمَالِك والتفريق لَا يحصل هَذَا الْمَقْصُود وَهَذَا هُوَ الْأَحْسَن فِي الْمُحَرر وَصَححهُ الإِمَام وَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ صَححهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَاعْلَم أَنه لَا يجب اسْتِيعَاب السّنة بالتعريف بل يعرف أَولا فِي كل يَوْم ثَلَاث مَرَّات ثمَّ فِي كل يَوْم مرّة ثمَّ فِي كل أُسْبُوع مرّة ثمَّ فِي كل شهر مرّة بِحَيْثُ لَا ينسى أَنه تكْرَار لما مضى وَلَو قطع الْمُوَالَاة الْوَاجِبَة وَجب اسْتِئْنَاف السّنة وَفِي صَيْرُورَته ضَامِنا خلاف وَالله أعلم
(فرع) إِذا وجد مَالا يتمول كزبيبة وَنَحْوهَا فَلَا يعرف ولواجده الاستبداد بِهِ وَإِن تمول وَهُوَ قَلِيل فَالْأَصَحّ أَنه لَا يعرف سنة بل يعرف زَمنا يظنّ أَن فاقده يعرض عَنهُ غَالِبا وَضَابِط الْقَلِيل مَا يغلب على الظَّن أَن فاقده لَا يكثر أسفه عَلَيْهِ وَلَا يطول طلبه غَالِبا وَالله أعلم فَإِذا عرف التَّعْرِيف الْمُعْتَبر وَكَانَ قد قصد التَّمْلِيك وَلم يجد الْمَالِك وَاخْتَارَ التَّمْلِيك ملك لِأَنَّهُ تمْلِيك مَال يُبدل فتوقف على الِاخْتِيَار كَالْبيع وَسَوَاء فِي ذَلِك الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَقيل يملك بالتعريف وَإِن لم يرض لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فادفعها إِلَيْهِ وَإِن لم يَأْتِ فَهِيَ لَك وَالصَّحِيح الأول فَعَلَيهِ أَن يَقُول تملكتها أَو نَحْو ذَلِك كَالْبيع وَإِذا ملكهَا صَارَت قرضا عَلَيْهِ فَإِن هَلَكت قبل التَّمْلِيك لم يضمنهَا لِأَنَّهَا مَحْفُوظَة لصَاحِبهَا وَلم يفرط فِيهَا كَالْمُودعِ وَإِذا ملكهَا وَجَاء صَاحبهَا إِن كَانَت مثلية ضمنهَا بِالْمثلِ وَإِلَّا فبالقية وَقت التَّمْلِيك جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَغَيره وَفِي وَجه وَقت طلب صَاحبهَا فَإِن(1/316)
اخْتلفَا فِي قدرهَا صدق الْمُلْتَقط لِأَنَّهُ غَارِم وَلَو لم تتْلف وَلَكِن تعيبت استردها مَعَ الْأَرْش على الْأَصَح وَقيل يقنع بهَا بِلَا أرش وَقيل غير ذَلِك وَالله أعلم
(فرع) أَخذ الْمُلْتَقط اللّقطَة بِقصد الْخِيَانَة فِيهَا صَار ضَامِنا فَلَو عرف بعد ذَلِك وَأَرَادَ التَّمَلُّك بعده لم يكن لَهُ ذَلِك على الْمَذْهَب وَلَو قصد الْأَمَانَة أَولا ثمَّ قصد الْخِيَانَة بِلَا تعرف فَالْأَصَحّ أَنه لَا يصير ضَامِنا بِمُجَرَّد قصد الْخِيَانَة كَالْمُودعِ وَالله أعلم
(فرع) إِذا جَاءَ صَاحبهَا بعد التَّمَلُّك أَخذهَا مَعَ زيادتها الْمُتَّصِلَة دون الْمُنْفَصِلَة وَالله أعلم قَالَ
(وَجُمْلَة اللّقطَة أَرْبَعَة أضْرب
أَحدهَا مَا يبْقى على الدَّوَام كالذهب وَالْفِضَّة وَهَذَا حكمه
وَالثَّانِي مَالا يبْقى كالطعام الرطب فَهُوَ مُخَيّر بَين أكله وغرمه أَو بَيْعه أَو حفظ ثمنه
وَالثَّالِث مالايبقى إِلَّا بعلاج كالرطب فيفعل مَا فِيهِ الْمصلحَة من بَيْعه وَحفظ ثمنه أَو تجفيفه وَحفظه)
اللّقطَة تَارَة تكون حَيَوَانا وَتارَة تكون غَيره فَإِن كَانَت حَيَوَانا فَسَيَأْتِي وَإِن كَانَت غير حَيَوَان فَتَارَة تكون مِمَّا يُؤْكَل وَتارَة تكون مِمَّا لَا يُؤْكَل فَإِن كَانَت لَا تُؤْكَل وَلها بَقَاء فِي نَفسهَا كالنقود وَنَحْوهمَا فَهُوَ الَّذِي تقدم من اشْتِرَاط التَّعْرِيف وَغَيره مُتَعَلق بِهَذِهِ اللّقطَة وَإِن كَانَت مِمَّا يُؤْكَل فَتَارَة تكون مِمَّا يفْسد فِي الْحَال كالأطعمة والشواء والبطيخ وَالرّطب الَّذِي لَا يتتمر والبقول فالواجد فِيهَا بِالْخِيَارِ بَين أَن يأكلها وَيغرم قيمتهَا وَبَين أَن يَبِيع وَيَأْخُذ الثّمن وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فَإِن أكل عزل قيمتهَا من التَّعْرِيف وَعرف اللّقطَة سنة ثمَّ يتَصَرَّف فِيهَا لِأَن الْقيمَة قَائِمَة مقَام اللّقطَة وَلَو لم يقدر على البيع فَلَا خلاف فِي جَوَاز الْأكل وَهل يجب إِفْرَاز الْقيمَة فِيهِ خلاف الْأَظْهر فِي الرَّافِعِيّ لَا يجب لِأَن مَا فِي الذِّمَّة لَا يخْشَى هَلَاكه فَإِذا أفرز صَار أَمَانَة فِي يَده وَالله أعلم
وَإِن كَانَت اللّقطَة مِمَّا لَا يفْسد وَيقبل العلاج كالرطب الَّذِي يتتمر وَالْعِنَب الَّذِي يتزبب وَاللَّبن الَّذِي يصنع مِنْهُ الْجُبْن وَنَحْوهَا روعي فِي ذَلِك الْحَظ والمصلحة للْمَالِك فَإِن كَانَ الْحَظ فِي البيع بَاعه وَإِن كَانَ فِي التجفيف جففه ثمَّ إِن تبرع الْوَاجِد بتجفيفه فَذَاك وَإِلَّا بَاعَ بعضه وأنفقه عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمصلحَة فِي حق الْمَالِك وَهَذَا بِخِلَاف الْحَيَوَان حَيْثُ يُبَاع جَمِيعه لِأَن النَّفَقَة فِي الْحَيَوَان تَتَكَرَّر فتؤدي إِلَى أَن تَأْكُل اللّقطَة نَفسهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَالرَّابِع مَا يحْتَاج إِلَى النَّفَقَة كالحيوان وَهُوَ ضَرْبَان حَيَوَان لَا يمْتَنع بِنَفسِهِ فَهُوَ مُخَيّر فِيهِ(1/317)
بَين أكله وَغرم ثمنه أَو تَركه والتطوع بالانفاق عَلَيْهِ أَو بَيْعه وَحفظ ثمنه وحيوان يمْتَنع بِنَفسِهِ فَإِن وجده فِي الصَّحرَاء تَركه وَإِن وجده فِي الْحَضَر فَهُوَ مُخَيّر بَين الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة فِيهِ)
غير الْآدَمِيّ من الْحَيَوَان ضَرْبَان
الأول مَا لَا قُوَّة لَهُ تَمنعهُ من صغَار السبَاع كالغنم والعجول والفصلان من الْإِبِل وَفِي مَعْنَاهَا الكسير من كبار الْإِبِل وَالْبَقر إِذا وجده من يجوز الْتِقَاطه جَازَ لَهُ أَخذه إِن شَاءَ للْحِفْظ وَإِن شَاءَ للتَّمَلُّك لِأَنَّهَا لَو لم تلْتَقط لضاعت بَيْننَا وَبَين السبَاع وَرُبمَا أَخذهَا خائن وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ضَالَّة الْغنم ((هِيَ لَك أَو لأخيك أَو للذئب)) فَإِذا الْتقط
فَإِن كَانَ الِالْتِقَاط من مضيعة فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَين الْخِصَال الثَّلَاث الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ وَالْأولَى أَن يمْسِكهَا ويعرفها ثمَّ يَليهَا البيع أَو الْحِفْظ وخصلة الْأكل مُتَأَخِّرَة فِي الْفَضِيلَة
وَلقَائِل أَن يَقُول تقدم فِيمَا يُمكن تجفيفه أَنه يجب مُرَاعَاة مصلحَة الْمَالِك فَهَلا كَانَ هُنَا كَذَلِك وَإِن كَانَ الِالْتِقَاط فِي الْعمرَان تخير بَين خَصْلَتَيْنِ فَقَط على الصَّحِيح الْإِمْسَاك وَالْبيع وَلَا يَأْكُل لِإِمْكَان البيع وَكَلَام الشَّيْخ مَحْمُول على الِالْتِقَاط من المضيعة وَإِن أطلق كَلَامه وَالله أعلم
الضَّرْب الثَّانِي مَاله قُوَّة تَمنعهُ من صغَار السبَاع إِمَّا بقوته كَالْإِبِلِ أَو بعدوه كالخيل وَكَذَا البغال وَالْحمير قَالَه الرَّافِعِيّ أَو بطيرانه كالحمام وَنَحْو ذَلِك ينظر إِن كَانَ وجدهَا فِي مضيعة كالبرية لم يجز للواجد أَن يلتقطها للتَّمَلُّك وَتجوز للْحِفْظ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي ضَالَّة الْإِبِل ((مَالك وَلها مَعهَا سقاؤها)) الحَدِيث وَقس على الْإِبِل مَا فِي مَعْنَاهَا فَإِن التقطها للتَّمَلُّك ضمنهَا لَو تلفت للتعدي نعم يبرأ بِالدفع إِلَى القَاضِي قلت يشْتَرط عَدَالَة القَاضِي وَإِلَّا فَلَا يسْقط عَنهُ الضَّمَان ولصاحبها مُطَالبَة كل مِنْهُمَا أما الْمُلْتَقط فلتعديه بِالْأَخْذِ وَأما القَاضِي فلتعديه على الشَّرِيعَة المطهرة وَالله أعلم وَإِن وجدهَا فِي الْعمرَان أَو قَرِيبا مِنْهَا جَازَ أَخذهَا للْحِفْظ وَهل يجوز أَخذهَا للتَّمَلُّك فِيهِ خلاف قيل لَا يجوز لإِطْلَاق الْخَبَر وَالرَّاجِح الْجَوَاز
وَالْفرق بَين الْبَريَّة والعمران أَنَّهَا فِي الْعمرَان تتطرق إِلَيْهَا أَيدي النَّاس فَلَا تتْرك فَرُبمَا(1/318)
ضَاعَت على مَالِكهَا بِأخذ خائن بِخِلَاف الْبَريَّة فَإِن طروق النَّاس بهَا لَا يعم وَلها اسْتغْنَاء بِأَن تسرح وَترد المَاء وَهَذَا الْمَعْنى مَفْقُود فِي الْعمرَان وَمحل الْخلاف إِذا كَانَ الزَّمَان زمَان أَمن إِمَّا إِذا كَانَ زمن نهب وَفَسَاد فَيجوز قطعا فِي الصَّحرَاء وَغَيرهَا قَالَه الْمُتَوَلِي وَغَيره وَألْحق الْمَاوَرْدِيّ بذلك مَا إِذا عرف مَالِكهَا وَأَخذهَا ليردها عَلَيْهِ قَالَ وَتَكون أَمَانَة فِي يَده وَالله أعلم
(فرع) الْتقط رجلَانِ لقطَة يعرفانها ويتملكانها وَلَيْسَ لأَحَدهمَا نقل حَقه إِلَى صَاحبه كَمَا لَا يجوز للملتقط نقل حَقه إِلَى غَيره وَالله أعلم (فرع) قَالَ فِي التتمه يجوز الْتِقَاط السنابل وَقت الْحَصاد إِن أذن فِيهِ الْمَالِك أَو كَانَ قدرا لَا يشق على الْمَالِك الْتِقَاطه وَكَانَ لَا يلتقطه بِنَفسِهِ فَإِن
كَانَ قدرا يشق على الْمَالِك أَو كَانَ يلتقطه بِنَفسِهِ حرم وَوَقع فِي عبارَة الرَّوْضَة فِي هَذَا الْفَرْع بعض خلل وَالله أعلم قَالَ
بَاب اللَّقِيط فصل فِي اللَّقِيط وَإِن وجد لَقِيط بقارعة الطَّرِيق فَأَخذه وتربيته وكفالته وَاجِبَة على الْكِفَايَة وَلَا يقر إِلَّا فِي يَد أَمِين
اللَّقِيط كل صبي ضائع لَا كافل لَهُ وَلَا فرق بَين الْمُمَيز وَغَيره وَفِي الْمُمَيز احْتِمَال للأمام وَالْمُعْتَمد الأول لاحتياجه إِلَى التعهد وَيُقَال لَهُ دعِي ومنبوذ فقولنا كل صبي خرج بِهِ الْبَالِغ لِأَنَّهُ مستغن عَن الْحَضَانَة والتعهد فَلَا معنى لأَخذه وَقَوْلنَا ضائع المُرَاد بِهِ المنبوذ وَأما غَيره فَإِن لم يكن لَهُ أَب وَلَا جد وَلَا وَصِيّ فحفظه من وَظِيفَة القَاضِي لِأَن لَهُ فِي كتاب الله الْحَكِيم وَسنة رَسُوله الْكَرِيم مَا يقوم بِهِ وَبِغَيْرِهِ من الضُّعَفَاء قَاتل الله قُضَاة السوء كم فِي ذمتهم من نفس قد هَلَكت يَأْخُذُونَ أَمْوَالهم ويدفعونها إِلَى الظلمَة وَمَعَ ذَلِك يدعونَ محبَّة الله وَرَسُوله وَقَوْلنَا لَا كافل لَهُ المُرَاد بالكافل الْأَب وَالْجد وَمن يقوم مقامهما إِذا عرفت هَذَا فَأخذ اللَّقِيط فرض كِفَايَة لقَوْله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى} وَغير ذَلِك وَلِأَنَّهُ آدَمِيّ لَهُ حُرْمَة فَوَجَبَ حفظه بالتربية وَإِصْلَاح حَاله كالمضطر وَهَذَا أولى لِأَن الْبَالِغ رُبمَا احتال لنَفسِهِ فَإِذا الْتقط من هُوَ أهل للحضانة سقط الْإِثْم وَإِلَّا أَثم وَعصى كل من علم بِهِ من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة بإضاعة نفس مُحْتَرمَة وَقَول الشَّيْخ وَلَا يقر إِلَّا فِي يَد أَمِين إِشَارَة إِلَى شُرُوط الْمُلْتَقط
أَحدهَا التَّكْلِيف فَلَا يَصح الْتِقَاط الصَّبِي وَالْمَجْنُون(1/319)
الثَّانِي الْحُرِّيَّة فَلَا يلتقط العَبْد لِأَن الِالْتِقَاط ولَايَة فَإِن الْتقط انتزع مِنْهُ إِلَّا أَن يَأْذَن السَّيِّد لَهُ أَو يقره الْحَاكِم فِي يَده
الثَّالِث الْإِسْلَام فَلَا يلتقط الْكَافِر الصَّبِي الْمُسلم لِأَن الِالْتِقَاط ولَايَة نعم يلتقط الطِّفْل الْكَافِر وللمسلم الْتِقَاط الطِّفْل الْمَحْكُوم بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ من أهل الْولَايَة عَلَيْهِ
الرَّابِع الْعَدَالَة فَلَيْسَ لِلْفَاسِقِ الِالْتِقَاط فَلَو الْتقط انتزع من يَده لِأَنَّهُ لَا يُؤمن أَن يسترقه
الْخَامِس الرشد فالمبذر الْمَحْجُور عَلَيْهِ لَا يقر فِي يَده وَلَا يشْتَرط فِي الِالْتِقَاط الذُّكُورَة بِلَا خلاف وَلَا الْغَنِيّ على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا يلْزمه نَفَقَته نعم يجب عَلَيْهِ رعايته بِمَا يحفظه وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن وجد مَعَه مَال أنْفق عَلَيْهِ الْحَاكِم مِنْهُ وَإِن لم يُوجد مَعَه مَال فنفقته من بَيت المَال)
اعْلَم أَن اللَّقِيط قد يكون لَهُ مَال يسْتَحق بِكَوْنِهِ لقيطاً أَو بِغَيْرِهِ فَالْأول كالوقف على اللقطاء وَالْوَصِيَّة لَهُم أَو لهَذَا بِخُصُوصِهِ وَالثَّانِي مَا يُوجد تَحت يَده واختصاصه فَإِن للصَّغِير يدا واختصاصا كَالْبَالِغِ إِذْ الأَصْل الْحُرِّيَّة مالم يعرف غَيرهَا وَذَلِكَ كالثياب الَّتِي هِيَ لَابسهَا ومفروشة تَحْتَهُ وملفوفة عَلَيْهِ وَكَذَا مَا غطي بِهِ كاللحاف وَغَيره وَكَذَا مَا شدّ عَلَيْهِ أَو جعل فِي جيبه من دَرَاهِم وحلي وَغَيرهمَا وَكَذَا دَابَّة عناتها بِيَدِهِ وَلَو كَانَ فِي خيمته فَهِيَ لَهُ أَو فِي دَار لَيْسَ فِيهَا غَيره أَو فِي بُسْتَان وَجْهَان حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيّ قَالَ النَّوَوِيّ وطردهما صَاحب المستظهر فِي الضَّيْعَة وَهُوَ بعيد وَيَنْبَغِي الْقطع بِأَنَّهُ لَا يحكم لَهُ بهَا وَالله أعلم
فَإِذا عرف لَهُ مَال أنْفق عَلَيْهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي حضَانَة أَبِيه الْمُوسر وَله مَال كَانَت نَفَقَته فِي مَاله فَهَذَا أولى وَلَا ينْفق عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاكِم لِأَن الَّذِي يَلِي التَّصَرُّف فِي مَاله بِغَيْر أبوة وجدوده وَلَا وصاية هُوَ الْحَاكِم فَإِنَّهُ ولي من لَا ولي لَهُ نعم للملتقط الِاسْتِقْلَال بِحِفْظ مَال الطِّفْل على الصَّحِيح وَقيل لَا يَلِي كالإنفاق وَالْقَوْل الأول تعضده اللّقطَة وَلَو لم يكن حَاكم فليشهد فَإِذا أنْفق بِلَا إِشْهَاد ضمن لتَركه الِاحْتِيَاط وَقيل لَا يضمن فَإِن أشهد لم يضمن على الْأَصَح قَالَ مجلي وَيشْهد فِي كل مرّة فَإِن لم يكن لَهُ مَال وَجَبت نَفَقَته فِي بَيت المَال من سهم الْمصَالح لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ اسْتَشَارَ الصَّحَابَة فِي نَفَقَة اللَّقِيط فَأَجْمعُوا على أَنَّهَا فِي بَيت المَال وَلِأَن الْبَالِغ الْمُعسر(1/320)
ينْفق عَلَيْهِ مِنْهُ وَهَذَا أولى وَقيل يستقرض لَهُ القَاضِي من بَيت المَال فَإِن لم يكن فِي بَيت المَال شَيْء أَو كَانَ وَلَكِن كَانَ هُنَاكَ مَا هُوَ أهم من نَفَقَة اللَّقِيط كسد ثغر اسْتقْرض لَهُ القَاضِي فَإِن لم يجد من يقْرضهُ جمع القَاضِي النَّاس وعد نَفسه مِنْهُم وقسط نَفَقَته على أهل الثروة ثمَّ إِن بَان رَقِيقا رَجَعَ على سَيّده أَو حرا وَله مَال أَو قريب رَجَعَ عَلَيْهِ وَإِن بِأَن حرا لَا مَال لَهُ وَلَا قريب وَلَا كسب قضى الإِمَام حَقهم من سهم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والغارمين كَمَا يرى وَالله أعلم
(فرع) التقطه اثْنَان غَنِي وفقير قدم الْغَنِيّ على الرَّاجِح فَلَو اشْتَركَا فِي الْغنى وَفضل أَحدهمَا الآخر فَوَجْهَانِ صحّح النَّوَوِيّ فِي زِيَادَته عدم التَّقَدُّم وَالله أعلم
(فرع) ادّعى شخص رقّه سَوَاء الْمُلْتَقط وَغَيره قَالَ الْمَاوَرْدِيّ لَا يقبل قَوْله لِأَن الظَّاهِر حُرِّيَّته وَفِيه اضرار بِهِ وَفِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي أَنه إِذا ادّعى رقّه من هُوَ فِي يَده فَإِن عرفنَا اسناد يَده إِلَى الِالْتِقَاط لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ وَإِلَّا حكم لَهُ بِالرّقِّ فِي الْأَصَح ثمَّ إِذا بلغ وَأنكر الرّقّ لم يقبل مِنْهُ فِي أصح الْوَجْهَيْنِ وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْوَدِيعَة فصل فِي الْوَدِيعَة والوديعة أَمَانَة يسْتَحبّ قبُولهَا لمن قَامَ بالأمانة فِيهَا
الْوَدِيعَة اسْم لعين يَضَعهَا مَالِكهَا أَو نَائِبه عِنْد آخر ليحفظها وَالْأَصْل فِيهَا الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وَغَيرهَا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ((أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك وَلَا تخن من خانك)) وَورد من رِوَايَة
أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ ((آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا اؤتمن خَان)) وَفِي رِوَايَة ((وَإِن صَامَ وَصلى وَزعم أَنه مُسلم)) وَلَا خَفَاء أَن الْحَاجة بل الضَّرُورَة دَاعِيَة إِلَى الإبداع ثمَّ من عرض عَلَيْهِ شَيْء ليستودعه نظر أَن كَانَ أَمينا قَادِرًا على حفظهَا ووثق من نَفسه بذلك اسْتحبَّ لَهُ أَن يستودع لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ((وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه)) وَلَو لم يكن هُنَاكَ(1/321)
غَيره فقد أطلق مطلقون أَنه يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْقبُول وَهُوَ مَحْمُول كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ نقلا عَن السَّرخسِيّ أَنه يجب أصل الْقبُول بِشَرْط أَن لَا يتْلف مَنْفَعَة نَفسه وحرزه بِلَا عوض فِي الْحِفْظ وَإِن كَانَ يعجز عَن حفظهَا حرم عَلَيْهِ قبُولهَا كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَقيد ذَلِك ابْن الرّفْعَة بِمَا إِذا لم يعلم بذلك الْمَالِك فَإِن علم الْمَالِك بِحَالهِ فَلَا يحرم وَهُوَ ظَاهر وَإِن كَانَ قَادِرًا على حفظهَا لكنه لَا يَثِق بأمانة نَفسه فَهَل يحرم قبُولهَا وَجْهَان لَيْسَ فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة تَرْجِيح وَلَا شكّ فِي الْكَرَاهَة وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يضمن إِلَّا بِالتَّعَدِّي)
لَا شكّ أَن الْوَدِيعَة أَمَانَة فِي يَد الْمُودع بِفَتْح الدَّال كَمَا جَاءَ بِهِ التَّنْزِيل وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ كَسَائِر الْأَمَانَات نعم إِن تعدِي فِيهَا أَو قصر ضمن وَأَسْبَاب التَّقْصِير تِسْعَة واستيعابها لَا يَلِيق بِالْكتاب فلنذكر مَا يَتَيَسَّر ذكره
السَّبَب الأول أَن يودعها الْمُودع بِفَتْح الدَّال عِنْد غَيره بِلَا عذر من غير إِذن الْمَالِك فَيضمن سَوَاء أودع عِنْده عَبده أَو زَوجته أَو ابْنه أَو أَجْنَبِي وَلَو أودعها عِنْد القَاضِي فَهَل يضمن وَجْهَان أصَحهمَا يضمن لِأَنَّهُ لم يُؤذن لَهُ قلت هَذَا فِي القَاضِي الْعَادِل أما قُضَاة الرشا والظلمة فيضمنها بِلَا نزاع وَالله أعلم وَهَذَا إِذا لم يكن عذر فَإِن كَانَ عذر بِأَن أَرَادَ سفرا فَيَنْبَغِي أَن يردهَا إِلَى مَالِكهَا أَو وَكيله فَإِن تعذر دَفعهَا إِلَى قَاض عدل وَوَجَب عَلَيْهِ قبُولهَا فَإِن لم يجد قَاضِيا دَفعهَا إِلَى أَمِين وَلَا يُكَلف تَأْخِير السّفر فَإِن ترك الدّفع إِلَى الْمَالِك أَو وَكيله مَعَ الْقُدْرَة وَدفعهَا إِلَى الْحَاكِم الْعدْل أَو إِلَى أَمِين مَعَ إِمْكَان الدّفع إِلَى الْمَالِك أَو وَكيله ضمن وَلَو دفع إِلَى أَمِين مَعَ الْقُدْرَة على الْحَاكِم الْعدْل ضمن على الْمَذْهَب وَلَو دفن الْوَدِيعَة فِي غير حرز عِنْد إِرَادَة السّفر ضمن أَو فِي حرز وَلم يعلم بهَا أَمينا أَو أعلمهُ حَيْثُ لَا يجوز الايداع عِنْد الْأمين ضمن وَإِن كَانَ يجوز وَلَكِن الْأمين لَا يسكن الْموضع ضمن فَإِن كَانَ يسكنهُ لم يضمن على الْأَصَح كَذَا قَالَ الْجُمْهُور وَاعْلَم أَنه كَمَا يجوز الايداع بِعُذْر السّفر وَكَذَا
سَائِر الاعذار كَمَا إِذا وَقع فِي الْبقْعَة حريق أَو غرق أَو نهب أَو غَارة وَفِي معنى ذَلِك إشراف الْحِرْز على الخراب وَلم يجد حرْزا ينقلها إِلَيْهِ وَالله أعلم
السَّبَب الثَّانِي السّفر بهَا فَإِن سَافر بهَا ضمن وَإِن كَانَ الطَّرِيق آمنا على الصَّحِيح وَهَذَا حَيْثُ لَا عذر فَإِن حصل عذر بِأَن رَحل أهل الْبَلَد أَو وَقع حريق أَو غَارة فَلَا ضَمَان بِشَرْط أَن يعجز عَن ردهَا إِلَى الْمَالِك أَو وَكيله أَو أَمِين وَحِينَئِذٍ يلْزمه السّفر فِي هَذِه الْحَالة وَإِلَّا فَهُوَ مضيع وَيلْزمهُ الضَّمَان وَلَو كَانَ فِي وَقت سَلامَة وَعجز عَن الرَّد إِلَى الْمَالِك أَو وَكيله أَو الْحَاكِم الْأمين فسافر بهَا وَالْحَالة هَذِه فَلَا ضَمَان على الْأَصَح لِئَلَّا يَنْقَطِع عَن مَصَالِحه وينفر النَّاس عَن قبُول الودائع وَشرط(1/322)
الْجَوَاز أَمن الطَّرِيق وَإِلَّا فَيضمن
وَاعْلَم أَن هَذَا فِي حق الْمُقِيم أما إِذا أودع مُسَافِرًا فسافر بالوديعة أَو منتجعاً فانتجع بالوديعة فَلَا ضَمَان لِأَن الْمَالِك رَضِي بِالسَّفرِ حِين أودعهُ وَالله أعلم
السَّبَب الثَّالِث ترك الْإِيصَاء فَإِذا مرض الْمُودع مَرضا مخوفا أَو حبس ليقْتل لزمَه أَن يُوصي فَإِن سكت عَن ذَلِك لزمَه الضَّمَان لِأَنَّهُ عرضهَا للفوات لِأَن الْوَارِث يعْتَمد ظَاهر الْيَد وَلَا بُد فِي الْوَصِيَّة من بَيَان الْوَدِيعَة حَتَّى لَو قَالَ عِنْدِي لفُلَان ثوب وَلم يُوجد فِي تركته ضمن لعدم بَيَانه وَهَذَا كُله فِيمَا إِذا تمكن من الايداع أَو الْوَصِيَّة فَإِن لم يتَمَكَّن بِأَن قتل غيلَة أَو مَاتَ فَجْأَة فَلَا ضَمَان
(فرع) مَاتَ الْمُودع وَلم يذكر وَدِيعَة أصلا فَوجدَ فِي تركته كيس مختوم وَعَلِيهِ هَذِه وَدِيعَة فلَان أَو وجد فِي جريدته لفُلَان عِنْدِي وَدِيعَة كَذَا لم يلْزم الْوَرَثَة التَّسْلِيم بِهَذَا لاحْتِمَال أَنه كتبه غَيره أَو كتبه هُوَ نَاسِيا أَو اشْترى الْكيس بِتِلْكَ الْكِتَابَة أورد الْوَدِيعَة بعد الْكِتَابَة فِي الجريدة وَلم يمحها وَإِنَّمَا يلْزم الْوَارِث التَّسْلِيم بِالْإِقْرَارِ وَلَو مَاتَ وَلم يذكر وَصِيَّة أصلا فَادّعى صَاحب الْوَدِيعَة أَنه قصر وَقَالَت الْوَرَثَة لَعَلَّهَا تلفت قبل نسبته إِلَى التَّقْصِير قَالَ امام الْحَرَمَيْنِ فَالظَّاهِر بَرَاءَة ذمَّته وَالله أعلم
السَّبَب الرَّابِع نقلهَا فَإِذا أودعها فِي قَرْيَة فنقلها إِلَى قَرْيَة أُخْرَى إِن كَانَ بَينهمَا مَا يُسمى سفرا ضمن وَإِن لم يسم سفرا ضمن إِن كَانَ فِي النقلَة خوف أَو كَانَ الْمَنْقُول عَنْهَا أحرز وَإِلَّا فَلَا ضَمَان على الْأَصَح وَهَذَا إِن لم يكن ضَرُورَة فَإِن وجدت فَكَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمُسَافِر والنقلة من دَار إِلَى دَار وَمن محلّة إِلَى محلّة وَمن قَرْيَة إِلَى قَرْيَة مُتَّصِلَة الْعِمَارَة وَالله أعلم
السَّبَب الْخَامِس التَّقْصِير فِي دفع المهلكات فَيجب على الْمُودع دَفعهَا على الْعَادة فَيجب عَلَيْهِ نشر ثِيَاب الصُّوف خوف العثة وتعريضها للريح بل لَو كَانَ ذَلِك لَا ينْدَفع إِلَّا بلبسها وَجب عَلَيْهِ فَإِن لم يفعل ضمن وَهَذَا عِنْد علم الْمُودع بذلك فَإِن كَانَ فِي صندوق مقفل أَو كيس مشدود وَلم يُعلمهُ الْمَالِك بذلك فَلَا ضَمَان إِذْ لَا تَقْصِير وَيُقَاس بِمَا ذكرنَا بَاقِي الصُّور كعلف الدَّوَابّ وَمَا أشبه ذَلِك وَالله أعلم
السَّبَب السَّادِس التَّعَدِّي بِالِانْتِفَاعِ كالانتفاع بالوديعة كلبس الثَّوْب والطحن فِي الأعدال وَنَحْوهَا وركوب الدَّوَابّ على وَجه الِانْتِفَاع إِلَّا إِذا كَانَ لعذر بِأَن ركبهَا لأجل السَّقْي وَكَانَت لَا تقاد إِلَّا بِهِ حَيْثُ يجوز إخْرَاجهَا للسقي فَإِن أمكن قودها وركبها ضمن كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ
قلت فِي ذَلِك نظر ظَاهر وَيَنْبَغِي تَخْصِيصه بِنَاحِيَة يسهل السَّقْي بهَا أما بعض النواحي الَّتِي يرد أَهلهَا المَاء من بعد واطردت عَادَتهم بركوب الدَّوَابّ والعواري والودائع وَغَيرهَا فَلَا يتَّجه الضَّمَان وَالْحَالة هَذِه للْعَادَة المطردة إِذْ الْعَادة محكمَة وَقد جَاءَ بهَا الْقُرْآن وَالسّنة وَالله أعلم(1/323)
السَّبَب السَّابِع الْمُخَالفَة فِي الْحِفْظ فَإِذا أمره بِالْحِفْظِ على وَجه مَخْصُوص فَعدل عَنهُ وَتَلفت بِسَبَب الْعُدُول ضمنهَا للمخالفة وَإِن تلفت بِسَبَب آخر فَلَا ضَمَان وَفِي هَذَا صور مِنْهَا أودعهُ دَرَاهِم وَقَالَ اربطها فِي كمك فَأَمْسكهَا فِي يَده وَتَلفت هَل يضمن فِيهِ خلاف منتشر الرَّاجِح مِنْهَا أَنَّهَا إِن تلفت بنوم أَو نِسْيَان ضمن وَإِن أَخذهَا غَاصِب قهرا فَلَا ضَمَان لِأَن الْيَد أحرز وَلَو لم يربطها فِي كمه وَجعلهَا فِي جيبه لم يضمن لِأَنَّهُ أحرز إِلَّا إِذا كَانَ وَاسِعًا غير مزرر وَبِالْعَكْسِ يضمن قطعا بِأَن قَالَ اجْعَلْهَا فِي جيبك فربطها فِي كمه وَلَو ربطها فِي كمه كَمَا أمره لم يلْزمه الامساك بِالْيَدِ ثمَّ ينظر إِن جعل الْخَيط الرابط خَارج الْكمّ فَأَخذهَا طراز ضمن لِأَن فِيهِ اظهاراً للوديعة وتنبيهاً للطراز وسهولة فِي قطعه وحله وَإِن ضَاعَت بانحلال العقد لم يضمن إِذا كَانَ قد احتاط فِي الرَّبْط وَإِن جعل الْخَيط الرابط من دَاخل الْكمّ انعكس الحكم إِن أَخذهَا لص لم يضمن وَإِن ضَاعَت بالانحلال ضمن لِأَن الْعقْدَة إِذا انْحَلَّت تناثرت الدَّرَاهِم إِلَى خَارجه فَلَا يشْعر بِخِلَاف الْعَكْس فَإِنَّهَا إِن تناثرت فِي الْكمّ فيشعر بهَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَكَذَا قَالَه الْأَصْحَاب وَهُوَ مُشكل لِأَن الْمَأْمُور بِهِ مُطلق الرَّبْط فَإِذا أَتَى بِهِ وَجب أَن لَا ينظر إِلَى جِهَات التّلف بِخِلَاف مَا إِذا عدل عَن الْمَأْمُور بِهِ
قلت وَمَا استشكله الرَّافِعِيّ قوي وَيَنْبَغِي الْفَتْوَى بِهِ وَيُؤَيِّدهُ أَن ابْن الرّفْعَة قَالَ وَقِيَاس مَا قَالَه الْأَصْحَاب أَنه لَو قَالَ الْمُودع للْمُودع احفظها فِي هَذَا الْبَيْت فوضعها فِي زَاوِيَة مِنْهُ فانهدمت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يضمن لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي غَيرهَا لسلم وَمَعْلُوم أَنه بعيد وَالله أعلم وَلَو أودعهُ دَرَاهِم فِي طَرِيق أَو سوق وَلم يقل اربطها فِي كمك وَلَا أمْسكهَا فِي يدك فربطها فِي الْكمّ وأمسكها بِالْيَدِ فقد بَالغ فِي الْحِفْظ وَكَذَا لَو جعلهَا فِي جيبه وَهُوَ ضيق أَو وَاسع وزرره وَلَو أمْسكهَا بِالْيَدِ وَلم يربطها لم يضمن أَن أَخذهَا غَاصِب وَيضمن إِن تلفت بغفلة أَو نوم وَلَو ربطها فِي كمه وَلم يمْسِكهَا بِيَدِهِ فَقِيَاس مَا تقدم أَن ينظر إِلَى كَيْفيَّة الرَّبْط وجهة التّلف وَلَو وَضعهَا فِي الْكمّ وَلم يربطها فَسَقَطت نظر إِن كَانَت خَفِيفَة لَا يشْعر بهَا ضمن لتَقْصِيره وَإِن كَانَت ثَقيلَة يشْعر بهَا لم يضمن ذكره فِي الْمُهَذّب وَلَو وَضعهَا فِي كور الْعِمَارَة وَلم يشد ضمن
(فرع) أودعهُ شَيْئا فِي سوق وَنَحْوه ثمَّ قَالَ احفظها فِي بَيْتك فَيَنْبَغِي أَن يمْضِي إِلَى الْبَيْت ويحفظها فِيهِ فَإِن تَأَخّر بِلَا عذر وَتَلفت ضمن لتَقْصِيره وَيُقَاس بِمَا ذكرنَا بَقِيَّة الصُّور
(فرع) أودعهُ خَاتمًا وَلم يقل شَيْئا فَإِن جعله فِي غير الْخِنْصر لم يضمن إِن كَانَ رجلا بِخِلَاف الْمَرْأَة لِأَن غير الْخِنْصر فِي حَقّهَا كالخنصر فِي حق الرجل وَإِن جعله فِي الْخِنْصر فَقيل يضمن لِأَنَّهُ اسْتِعْمَال وَقيل إِن قصد الْحِفْظ لم يضمن وَإِن قصد الِاسْتِعْمَال ضمن وَقيل إِن جعل فصه إِلَى ظَاهر ضمن وَإِلَّا فَلَا قَالَ النَّوَوِيّ الْمُخْتَار أَنه يضمن مُطلقًا إِلَّا إِذا قصد الْحِفْظ وَالله أعلم(1/324)
السَّبَب الثَّامِن التضييع لِأَنَّهُ مَأْمُور بالتحرز عَن أَسبَاب التّلف فَلَو أخر الِاحْتِرَاز مَعَ الْقُدْرَة أَو جعلهَا فِي غير حرز مثلهَا ضمن وَلَو جعلهَا فِي أحرز من حرزها ثمَّ نقلهَا إِلَى حرز مثلهَا فَلَا ضَمَان وَلَو أعلم بالوديعة من يصادر أَمْوَال الْمَالِك ويأخذها ضمن وَلَو ضيعها نَاسِيا ضمن على الْأَصَح لتَقْصِيره وَلَو أَخذ الْوَدِيعَة ظَالِم لم يضمن كَمَا لَو سرقت وَلَو طَالب ظَالِم الْمُودع بِفَتْح الدَّال بالوديعة لزمَه دَفعه بالانكار والاخفاء بِكُل قدرته فَإِن ترك الدّفع مَعَ الْقُدْرَة ضمن لتَقْصِيره وَإِن أنكر فحلفه الظَّالِم جَازَ لَهُ أَن يحلف لمصْلحَة حفظ الْوَدِيعَة وَتلْزَمهُ الْكَفَّارَة على الْمَذْهَب وَإِن أكرهه على الْحلف بِالطَّلَاق تخير بَين الْحلف وَبَين الِاعْتِرَاف فَإِن اعْترف وَسلم ضمن على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ فدى زَوجته بالوديعة وَإِن حلف بِالطَّلَاق طلقت زَوجته على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ فدى الْوَدِيعَة بِزَوْجَتِهِ وَالله أعلم
السَّبَب التَّاسِع جحود الْوَدِيعَة فَإِن طلبَهَا مَالِكهَا فجحدها فَهُوَ خائن ضَامِن لتعديه بالجحود
(فرع) قَالَ الْمُودع لَا وَدِيعَة لأحد عِنْدِي إِمَّا ابْتِدَاء وَأما جَوَابا السُّؤَال غير الْمَالِك فَلَا ضَمَان سَوَاء جرى ذَلِك بِحَضْرَة الْمَالِك أَو فِي غيبته لِأَن اخفاءها أبلغ فِي حفظهَا قَالَ
(وَقَول الْمُودع مَقْبُول فِي ردهَا على الْمُودع)
إِذا قَالَ الْمُسْتَوْدع للْمُودع رددت عَلَيْك الْوَدِيعَة فَالْقَوْل قَوْله بِيَمِينِهِ لقَوْله تعال {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} أمره بِالرَّدِّ بِلَا اشهاد فَدلَّ على أَن قَوْله مَقْبُول لِأَنَّهُ لَو لم يكن كَذَلِك لأَرْشَد إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَلِأَنَّهُ يصدق فِي التّلف قطعا فَكَذَا فِي الرَّد وَفِيه اشكال من جِهَة أَن الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر القَوْل قَوْلهمَا فِي التّلف دون الرَّد عِنْد الْعِرَاقِيّين وَالله أعلم قَالَ
(وَعَلِيهِ أَن يحفظها فِي حرز مثلهَا)
كَمَا إِذا قبل الْمُودع الْوَدِيعَة لزمَه حفظهَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُود وَقد الْتَزمهُ وَيجب عَلَيْهِ أَن يحفظها فِي حرز مثلهَا لِأَن الاطلاق يَقْتَضِيهِ فتوضع الدَّرَاهِم فِي الصندوق والأثاث فِي الْبَيْت وَالْغنم فِي صحن الدَّار وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا طُولِبَ بهَا أَو أخر الْوَدِيعَة مَعَ الْقُدْرَة حَتَّى تلفت ضمن)
إِذا طَالب الْمُودع الْمُودع بالوديعة وَجب عَلَيْهِ الرَّد لقَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}(1/325)
فَإِن أخر بِلَا عذر فَتلفت ضمنهَا لتعديه وَإِن كَانَ لعذر فَلَا والعذر مثل كَونه بِاللَّيْلِ وَلم يتأت فتح الْحِرْز حِينَئِذٍ أَو كَانَ فِي صَلَاة أَو قَضَاء حَاجَة أَو طَهَارَة أَو أكل أَو حمام أَو مُلَازمَة غَرِيم يخَاف هربه أَو يخْشَى الْمَطَر والوديعة فِي مَوضِع آخر وَنَحْو ذَلِك فالتأخير جَائِز قَالَ الْأَصْحَاب وَلَا يضمن وطردوه فِي كل يَد أَمَانَة وَالله أعلم
(فرع) فِي فَتَاوَى الْقفال لَو ترك حِمَاره فِي صحن خَان وَقَالَ للخاني احفظه كَيْلا يخرج وَكَانَ الخاني ينظره فَخرج فِي بعض غفلاته فَلَا ضَمَان لِأَنَّهُ لم يقصر فِي الْحِفْظ الْمُعْتَاد وَفِي فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْن أَن الثِّيَاب فِي مشلح الْحمام إِذا سرقت والحمامي جَالس مَكَانَهُ مستيقظ فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ وَإِن نَام أَو قَامَ من مَكَانَهُ وَلم يتْرك نَائِبا ضمن وعَلى الحمامي الْحِفْظ إِذا استحفظ وَإِن لم يستحفظ حكى القَاضِي حُسَيْن عَن الْأَصْحَاب أَنه لَا حفظ عَلَيْهِ قَالَ وَعِنْدِي يجب للْعَادَة وَالله أعلم
(فرع) إِذا وَقع فِي بَيت الْمُودع أَو خزانته حريق فبادر إِلَى نقل أمتعته وَأخر الْوَدِيعَة فاحترقت لم يضمن كَمَا لَو لم يكن فِيهَا إِلَّا ودائع وَأخذ فِي نقلهَا فاحترقت وَتَأَخر وَالله أعلم(1/326)
كتاب الْفَرَائِض والوصايا
الْفَرَائِض جمع فَرِيضَة مَأْخُوذَة من الْفَرْض وَهُوَ التَّقْدِير قَالَ الله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أَي قدرتم هَذَا فِي اللُّغَة
وَأما فِي الشَّرْع فالفرض نصيب مُقَدّر شرعا لمستحقه وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يورثون الرِّجَال دون النِّسَاء والكبار دون الصغار وبالحلف فنسخ الله تَعَالَى ذَلِك وَكَذَا كَانَت الْمَوَارِيث فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام فنسخت فَلَمَّا نزلت آيَات النِّسَاء قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((إِن الله عز وَجل قد أعْطى كل ذِي حق حَقه أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث)) واشتهر من الصَّحَابَة فِي علم الْفَرَائِض أَرْبَعَة عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَزيد رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَاخْتَارَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ مَذْهَب زيد رَضِي الله عَنهُ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((أفرضكم زيد)) وَلِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْقيَاس وَمعنى اخْتِيَاره لمَذْهَب زيد أَنه نظر فِي أدلته فَوَجَدَهَا مُسْتَقِيمَة فَعمل بهَا لَا أَنه قَلّدهُ وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْوَارِثين
(والوارثون من الرِّجَال عشرَة الابْن وَابْن لِابْنِ وَإِن سفل وَالْأَب وَالْجد وَإِن علا وَالْأَخ وَابْن الْأَخ وَإِن تراخيا وَالْعم وَابْن الْعم وَإِن تباعدا وَالزَّوْج وَالْمولى الْمُعْتق والوارثات من النِّسَاء سبع(1/327)
الْبِنْت وَبنت الابْن وَالأُم وَالْجدّة وَالْأُخْت وَالزَّوْجَة والمولاة الْمُعتقَة)
وَالْوَرَثَة قد يكونُونَ مختلطين وَقد يكونُونَ متميزين فَبَدَأَ الشَّيْخ بِنَوْع المتميزين فَقَالَ والوارثون من الرِّجَال وعدهم وَلِلنَّاسِ فِي عدهم طَرِيقَانِ طَرِيق الإيجاز وَهُوَ الَّذِي ذكره الشَّيْخ وَمِنْهُم من يعدهم على سَبِيل الْبسط فَيَقُول الوارثون من الرِّجَال خَمْسَة عشر الابْن وَابْن الابْن وَإِن سفل وَالْأَب وَالْجد وَإِن علا وَالْأَخ من الْأَبَوَيْنِ وَالْأَخ من الْأَب وَالْأَخ من الْأُم وَابْن الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ وَابْن الْأَخ من الْأَب وَالْعم لِلْأَبَوَيْنِ وَالْعم لأَب وَابْن الْعم لِلْأَبَوَيْنِ وَابْن الْعم للْأَب وَالزَّوْج وَالْمُعتق وَهَؤُلَاء مجمع على توريثهم وَالْمرَاد بالجد أَبُو الْأَب وَإِذا اجْتَمعُوا لم يَرث مِنْهُم إِلَّا ثَلَاثَة الْأَب وَالِابْن وَالزَّوْج
وَأما النِّسَاء فالوارثات مِنْهُنَّ سبع الْبِنْت وَبنت الابْن إِلَى آخِره وَمَا ذكره على سَبِيل الإيجاز وَأما على سَبِيل الْبسط فعشرة الْبِنْت وَبنت الابْن وَإِن سفلت وَالأُم وَالْجدّة للْأَب وَالْجدّة للْأُم وَإِن علتا وَالْأُخْت لِلْأَبَوَيْنِ وَالْأُخْت للْأَب وَالْأُخْت للْأُم وَالزَّوْجَة والمعتقة وَهَؤُلَاء أَيْضا مجمع على توريثهم وَإِذا اجْتَمعْنَ جَمِيعهنَّ لم يَرث مِنْهُنَّ إِلَّا خَمْسَة الزَّوْجَة وَالْبِنْت وَبنت الابْن وَالأُم وَالْأُخْت من الْأَبَوَيْنِ وَإِذا اجْتمع من يُمكن اجتماعه من الصِّنْفَيْنِ أَعنِي الرِّجَال وَالنِّسَاء ورث الأبوان وَالِابْن وَالْبِنْت وَمن يُوجد من الزَّوْجَيْنِ وَالدَّلِيل على أَن من ذكرنَا وَارِث الاجماع كَمَا مر والنصوص الْآتِيَة وَالدَّلِيل على عدم تَوْرِيث غَيرهم التَّمَسُّك بِالْأَصْلِ
وَاعْلَم أَن كل من انْفَرد من الرِّجَال حَاز جَمِيع التَّرِكَة إِلَّا الزَّوْج وَالْأَخ للْأُم وَمن انْفَرَدت من النِّسَاء لم تحز جَمِيع التَّرِكَة إِلَّا من كَانَ لَهَا الْوَلَاء وَالله أعلم قَالَ
(وَمن لَا يسْقط بِحَال خَمْسَة الزَّوْجَانِ والأبوان وَولد الصلب)
اعْلَم أَن الْحجب نَوْعَانِ حجب نُقْصَان كحجب الْوَلَد للزَّوْج من النّصْف إِلَى الرّبع وَالزَّوْجَة من الرّبع إِلَى الثّمن وَالأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس وحجب حرمَان ثمَّ الْوَرَثَة قِسْمَانِ قسم لَيْسَ بَينهم وَبَين الْمَيِّت وَاسِطَة وهم الزَّوْجَانِ والأبوان وَالْأَوْلَاد فَهَؤُلَاءِ لَا يحجبهم أحد لعدم الْوَاسِطَة بَينهم وَبَين الْمَيِّت وَالله أعلم قَالَ
(وَمن لَا يَرث بِحَال سَبْعَة العَبْد وَالْمُدبر وَأم الْوَلَد وَالْمكَاتب وَالْقَاتِل وَالْمُرْتَدّ وَأهل الملتين)
اعْلَم أَن الْإِرْث يمْتَنع بِأَسْبَاب مِنْهَا الرّقّ فَلَا يَرث الرَّقِيق لِأَنَّهُ لَو ورث لَكَانَ الْمَوْرُوث لسَيِّده وَالسَّيِّد أَجْنَبِي من الْمَيِّت فَلَا يُمكن توريثه وكما لَا يَرث لَا يُورث لِأَنَّهُ ملك لَهُ كَمَا قَالَ الله(1/328)
تَعَالَى {عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} وَسَوَاء فِي ذَلِك الْمُدبر وَالْمكَاتب وَأم الْوَلَد لوُجُود الرّقّ وَفِي الْمبعض خلاف الصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَقطع بِهِ الْجُمْهُور أَنه لَا يَرث لِأَنَّهُ لَو ورث لَكَانَ بعض المَال لمَالِك الْبَاقِي وَهُوَ أَجْنَبِي عَن الْمَيِّت وَقَالَ الْمُزنِيّ وَابْن سُرَيج يَرث بِقدر مَا فِيهِ من الْحُرِّيَّة وَهل يُورث قَولَانِ الْأَظْهر نعم وَهُوَ الْجَدِيد لِأَنَّهُ تَامّ الْملك فعلى هَذَا يُورث عَنهُ جَمِيع مَا جمعه بِنصفِهِ الْحر وَالله أعلم
وَمن الْأَسْبَاب الْمَانِعَة للإرث الْقَتْل فَلَا يَرث الْقَاتِل سَوَاء قتل بِمُبَاشَرَة أَو بِسَبَب وَسَوَاء كَانَ الْقَتْل مَضْمُونا بِالْقصاصِ أَو الدِّيَة أَو الْكَفَّارَة أَو غير مَضْمُون ألبته كوقوع عَن حد أَو قصاص سَوَاء صدر عَن مُكَلّف أَو من غَيره كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُون أم لَا وَسَوَاء كَانَ الْقَاتِل مُخْتَارًا أَو مكْرها لعُمُوم قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ((لَيْسَ للْقَاتِل مِيرَاث)) وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((لَا يَرث الْقَاتِل من الْمَقْتُول شَيْئا)) وَفِي رِوَايَة ((لَيْسَ للْقَاتِل من الْمِيرَاث شي)) ء وَأما الْمُرْتَد فَلَا يَرث وَلَا يُورث وَمَا لَهُ فَيْء وَعَن أبي بردة رَضِي الله عَنهُ قَالَ ((بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى رجل عرس بِامْرَأَة أَبِيه فَأمرنِي أَن أضْرب عُنُقه وأخمس مَاله وَكَانَ مُرْتَدا)) لِأَنَّهُ اسْتحلَّ ذَلِك وَلَا فرق فِي الْمُرْتَد بَين الْمُعْلن والزنديق وَهُوَ الَّذِي يتجمل بِالْإِسْلَامِ ويخفي الْكفْر كَذَا فسره الرَّافِعِيّ هُنَا قَالَ ابْن الرّفْعَة وَكَونه لَا يَرث وَلَا يُورث مَحَله إِذا مَاتَ على الرِّدَّة فَإِن عَاد إِلَى الْإِسْلَام تَبينا إِرْثه وَمَا قَالَه سَهْو وَقد صرح أَبُو مَنْصُور بِالْمَسْأَلَة وَحكى بِالْإِجْمَاع على عدم إِرْثه فِي هَذِه الْحَالة وَوَجهه أَنه كَانَ كَافِرًا فِي تِلْكَ الْحَالة حَقِيقَة وَهُوَ غير مقرّ على الْكفْر وَالْإِسْلَام إِنَّمَا حدث بعد ذَلِك وَفِي توريثه مصادمة للنصوص الْمَانِعَة لَهُ من التوريث وَالله أعل وَقَوله وَأهل الملتين يشْتَمل على صور مِنْهَا أَنه لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر وَعَكسه لاخْتِلَاف الملتين قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر وَلَا الْكَافِر الْمُسلم)) وَلَا فرق بَين النّسَب وَالْمُعتق وَالزَّوْج وَلَا بَين أَن يسلم قبل الْقِسْمَة أَو بعْدهَا وَهل يَرث الْيَهُودِيّ من النَّصْرَانِي وَعَكسه فِيهِ خلاف الصَّحِيح نعم وَهَذَا إِذا كَانَا ذميين أَو حربيين سَوَاء اتّفقت دارهما أَو اخْتلفت فَلَو كَانَ أَحدهمَا ذِمِّيا وَالْآخر حَرْبِيّا فَفِيهِ خلاف أَيْضا وَالْمذهب الْقطع بِعَدَمِ التَّوَارُث لانْقِطَاع الْمُوَالَاة قَالَ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَرُبمَا نقل بعض الفرضيين الاجماع على ذَلِك وَالله أعلم(1/329)
والمعاهد والمستأمن كالذمي على الصَّحِيح الْمَنْصُوص لِأَنَّهُمَا معصومان بالعهد والأمان وَقيل هما كالحربي وَالله أعلم
(فرع) شككنا فِي موت إِنْسَان بِأَن غَابَ شخص وَانْقطع خَبره أَو جهل حَاله بعد أَن دخل فِي دَار الْحَرْب أَو انْكَسَرت سَيْفه هُوَ فِيهَا وَلم يعرف حَاله فَهَذَا لَا يُورث حَتَّى تقوم بَيِّنَة أَنه مَاتَ فَإِن لم تقم بَيِّنَة أَنه مَاتَ فَقيل لَا يقسم مَاله حَتَّى يتَحَقَّق مَوته لاخْتِلَاف النَّاس فِي الْأَعْمَار وَالصَّحِيح أَنه إِذا مَضَت مُدَّة يحكم القَاضِي فِيهَا بِأَن مثله لَا يعِيش فِيهَا قسم مَاله بَين الْوَرَثَة حَالَة الحكم ثمَّ فِي قدرَة الْمدَّة أوجه أَصَحهَا يَكْفِي مُدَّة يغلب على الظَّن أَنه لَا يعِيش أَكثر مِنْهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَأقرب الْعصبَة الابْن ثمَّ ابْنه ثمَّ الْأَب ثمَّ أَبوهُ ثمَّ الْجد ثمَّ الْأَخ للْأَب وَالأُم ثمَّ الْأَخ للْأَب ثمَّ ابْن الْأَخ للْأَب وَالأُم ثمَّ ابْن الْأَخ للْأَب ثمَّ الْعم على هَذَا التَّرْتِيب ثمَّ إِذا عدمت الْعَصَبَات فالمولى الْمُعْتق)
الْعصبَة مُشْتَقَّة من التَّعْصِيب وَهُوَ الْمَنْع سميت بذلك لتقوى بَعضهم بِبَعْض وَمِنْهَا الْعِصَابَة لِأَنَّهَا تشد الرَّأْس وَقيل غير ذَلِك وَلِلنَّاسِ فِي تَعْرِيف الْعصبَة أَلْفَاظ مِنْهَا أَنه كل من لَيْسَ لَهُ سهم مُقَدّر من الْمجمع على توريثهم وَيَرِث كل المَال لَو انْفَرد أَو مَا فضل عَن أَصْحَاب الْفُرُوض ثمَّ أولى الْعَصَبَات الابْن لقَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الْآيَة بَدَأَ بالأولاد لِأَن الْعَرَب تبدأ بأولادهم وَلِأَن الله تَعَالَى أسقط بِهِ تعصيب الْأَب لقَوْله تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} وَإِذا سقط بِهِ تعصيب الْأَب فَغَيره أولى لِأَنَّهُ إِمَّا مدل بالابن أَو بِالْأَبِ ثمَّ ابْن الابْن بعد الابْن وَإِن سفل كالابن فِي سَائِر الْأَحْكَام ثمَّ الْأَب لِأَنَّهُ يعصبه وَله الْولَايَة عَلَيْهِ بِنَفسِهِ وَمن عداهُ يُدْلِي بِهِ فَقدم لقُرْبه ثمَّ الْجد أَبُو الْأَب وَإِن علا مَا لم يكن أخوة لِأَنَّهُ كَالْأَبِ أما إِذا كَانَ مَعَه أخوة فَلم يذكرهُ الشَّيْخ ثمَّ يقدم ابْن الْأَب وَهُوَ الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ ثمَّ الْأَخ من الْأَب يقدم على ابْن الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ ثمَّ يقدم بَنو الْأُخوة من الْأَبَوَيْنِ ثمَّ من الْأَب على الْأَعْمَام وَإِن تباعدوا لِأَن الْقَرِيب من نوع مقدم على نوع مُتَأَخّر عَنهُ وَإِن كَانَ أقرب مِنْهُ فَلهَذَا يقدم ابْن الْأَخ وَإِن تبَاعد على الْعم ثمَّ بعد بني الْأُخوة يقدم الْعم لِلْأَبَوَيْنِ ثمَّ الْأَب ثمَّ بَنو الْعم كَذَلِك ثمَّ يقدم عَم الْأَب من الْأَبَوَيْنِ ثمَّ من الْأَب ثمَّ بنوهما كَذَلِك ثمَّ يقدم عَم الْجد من الْأَبَوَيْنِ ثمَّ من الْأَب كَذَلِك إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي فَإِن لم يُوجد أحد من عصبات النّسَب وَالْمَيِّت عَتيق فالعصوبة لمن أعْتقهُ رجلا كَانَ أَو امْرَأَة لِأَن رجلا أَتَى بِرَجُل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي اشْتَرَيْته وأعتقته فَمَا أَمر مِيرَاثه فَقَالَ عَلَيْهِ(1/330)
الصَّلَاة وَالسَّلَام ((إِن ترك عصبَة فالعصوبة أَحَق وَإِلَّا فالولاية)) وَفِي حَدِيث آخر ((الْوَلَاء لمن أعتق)) فَإِن لم يكن وَارِث انْتقل مَاله إِلَى بَيت المَال بِشَرْط أَن تكون مصارفه مُسْتَقِيمَة على مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع الشريف فَإِن لم يستقم لكَون السُّلْطَان جائراً أَو لم تَجْتَمِع فِيهِ شُرُوط الْإِمَامَة كزماننا هَذَا فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد لَا يصرف على ذَوي الْفُرُوض وَلَا إِلَى ذَوي الْأَرْحَام لِأَنَّهُ مَال الْمُسلمين فَلَا يسْقط بِفَوَات الامام الْعَادِل
وَالثَّانِي يرد وَيصرف إِلَى ذَوي الْأَرْحَام لِأَن المَال مَصْرُوف إِلَيْهِم أَو إِلَى بَيت المَال بالاجماع فَإِذا تعذر أَحدهمَا تعين الآخر قَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا أَي الرَّد وَالصرْف إِلَى ذَوي الْأَرْحَام أفتى بِهِ أكَابِر الْمُتَأَخِّرين قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ الْأَصَح أَو الصَّحِيح عِنْد محققي أَصْحَابنَا وَمِمَّنْ صَححهُ وَأفْتى بِهِ ابْن سراقَة وَصَاحب الْحَاوِي وَالْقَاضِي حُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ وَآخَرُونَ وَقَالَ ابْن سراقَة وَهُوَ قَول عَامَّة مَشَايِخنَا وَعَلِيهِ الْفَتْوَى الْيَوْم فِي الْأَمْصَار وَنَقله الْمَاوَرْدِيّ عَن مَذْهَب الشَّافِعِي وَقَالَ وَغلط الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي مُخَالفَته وَإِنَّمَا مَذْهَب الشَّافِعِي فِي مَنعهم إِذا استقام أَمر بَيت المَال وَالله أعلم
قلت قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَأجْمع عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَمُقْتَضى كَلَام الْجَمِيع أَنه لَا يجوز الدّفع إِلَى الامام الجائر فَلَو دفع إِلَيْهِ عصى وَلَزِمَه الضَّمَان لتعديه فعلى الصَّحِيح يرد المَال على أهل الْفُرُوض على الْأَصَح غير الزَّوْجَيْنِ على قدر فروضهم بِأَن كَانَ هُنَاكَ أهل فرض فَإِن لم يكن هُنَاكَ غير الزَّوْجَيْنِ صرف إِلَى ذَوي الْأَرْحَام فِي الْأَصَح وَهل يخْتَص بِهِ الْفُقَرَاء أَو يصرف إِلَى الأحوج فالأحوج أم لَا الصَّحِيح أَنه يصرف على جَمِيعهم وَهل هُوَ على سَبِيل الْمصلحَة أم على سَبِيل الارث وَجْهَان قَالَ الرَّافِعِيّ أشبههما بِأَصْل الْمَذْهَب أَنه على سَبِيل الْمصلحَة وَقَالَ النَّوَوِيّ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْأَصْحَاب أَنه يصرف إِلَى جَمِيعهم على سَبِيل الْإِرْث وَالله أعلم
وذوو الْأَرْحَام كل قريب لَيْسَ بِذِي فرض وَلَا عصبَة وتفصيلهم كل جد وَجدّة ساقطين وَأَوْلَاد الْبَنَات وَبَنَات الْأُخوة وَأَوْلَاد الْأَخَوَات وَبَنُو الْإِخْوَة للْأُم وَالْعم للْأُم وَبَنَات الْأَعْمَام والعمات والأخوال والخالات فَإِذا قُلْنَا بِالرَّدِّ أَولا على ذَوي الْفُرُوض وَهُوَ الْأَصَح فمقصود الْفَتْوَى أَنه إِن لم يكن مِمَّن يرد عَلَيْهِ من ذَوي الْفُرُوض إِلَّا صنف فَإِن كَانَ شخصا وَاحِدًا دفع إِلَيْهِ الْفَرْض وَالْبَاقِي بِالرَّدِّ كالبنت لَهَا النّصْف بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي بِالرَّدِّ وَإِن كَانُوا جمَاعَة فالباقي بَينهم على قدر فروضهم وَإِن اجْتمع صنفان فَأكْثر رد الْفَاضِل عَلَيْهِم بِنِسْبَة سِهَامهمْ(1/331)
وَأما تَوْرِيث ذَوي الْأَرْحَام فَمن ذهب إِلَيْهِ اخْتلفُوا فِي كيفيته فَأخذ بَعضهم بِمذهب أهل التَّنْزِيل وَمِنْهُم من أَخذ بِمذهب أهل الْقَرَابَة وسمى الْأَولونَ أهل التَّنْزِيل لتنزيلهم كل فرع منزلَة أَصله وسمى الْآخرُونَ أهل الْقَرَابَة لأَنهم يورثون الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب كالعصبات قَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح والأقيس مَذْهَب أهل التَّنْزِيل وَالله أعلم وَاتفقَ المذهبان على أَن من انْفَرد من ذَوي الْأَرْحَام يجوز جَمِيع المَال ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى وَإِنَّمَا يظْهر الِاخْتِلَاف عِنْد اجْتِمَاعهم قَالَ
بَاب الْفُرُوض الْمقدرَة وأصحابها
(والفروض الْمقدرَة فِي كتاب الله تَعَالَى سِتَّة النّصْف وَالرّبع وَالثمن وَالثُّلُثَانِ وَالثلث وَالسُّدُس)
اعْلَم أَن أَصْحَاب هَذِه الْفُرُوض أَصْنَاف مِنْهُم من لَهُ النّصْف وهم خَمْسَة الْبِنْت إِذا انْفَرَدت قَالَ الله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} وَكَذَا بنت الابْن لَهَا النّصْف عِنْد عدم بنت الصلب بالاجماع وَأما الْأُخْت فَإِن كَانَت من الْأَبَوَيْنِ فلهَا النّصْف إِذا انْفَرَدت لقَوْله تَعَالَى {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} وَكَذَا الْأُخْت من الْأَب عِنْد عدم الْأُخْت من الْأَبَوَيْنِ لظَاهِر الْآيَة وتتمة الْخَمْسَة الزَّوْج وَله النّصْف إِذا لم يكن للْمَيت ولد وَلَا ولد ابْن لقَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} فَثَبت النّصْف فِي ولد الصلب
وَأما ولد الابْن فَإِن وَقع اسْم الْوَلَد عَلَيْهِ فقد تنَاوله النّصْف وَيدل لتنَاوله قَوْله تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((أَنا ابْن عبد الْمطلب)) وَإِن لم يتَنَاوَلهُ فولد الابْن بِمَنْزِلَة الابْن للاجماع على ذَلِك فِي الارث والتعصيب وَالله أعلم قَالَ
(وَالرّبع فرض اثْنَيْنِ الزَّوْج مَعَ الْوَلَد وَولد الابْن وَالزَّوْجَة والزوجات مَعَ عدم الْحجب)
حجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ}(1/332)
وَاعْلَم أَن الْأَفْصَح أَن الْمَرْأَة زوج بِلَا هَاء كَالرّجلِ وبالهاء لُغَة قَليلَة واستعمالها فِي الْفَرَائِض حسن ليحصل الْفرق وَعدم الالتباس ثمَّ الزَّوْجَة والزوجتان والأربع فِي ذَلِك سَوَاء لأَنا لَو جعلنَا لكل وَاحِدَة الرّبع لاستغرقن المَال ولزاد نصيبهن على نصيب الزَّوْج قَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا تَوْجِيه اقناعي وَكفى بِالْإِجْمَاع حجَّة وَالله أعلم قَالَ
(وَالثمن فرض الزَّوْجَة والزوجات مَعَ الْوَلَد أَو ولد الابْن)
حجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} والاجماع مُنْعَقد على ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَالثُّلُثَانِ فرض أَرْبَعَة البنتين وبنتي الابْن)
للبنتين فَأكْثر الثُّلُثَانِ لقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وَالْآيَة ظَاهِرَة الدّلَالَة فِيمَا زَاد على اثْنَتَيْنِ وَالِاسْتِدْلَال مِنْهَا أَن الْآيَة وَردت على سَبَب خَاص ((وَهُوَ أَن امْرَأَة من الْأَنْصَار أَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهَا ابنتان فَقَالَت يَا رَسُول الله هَاتَانِ ابنتا سعد بن الرّبيع قتل أَبوهُمَا مَعَك يَوْم أحد وَأخذ عَمهمَا مَاله وَلَا ينكحان وَلَا مَال لَهما فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْضِي الله فِي ذَلِك فَنزلت هَذِه الْآيَة فَدَعَا النَّبِي الْمَرْأَة وصاحبها فَقَالَ ((أعْط البنتين الثُّلثَيْنِ وَالْمَرْأَة الثّمن وَخذ الْبَاقِي)) وَاحْتج بَعضهم أَن كلمة فَوق زَائِدَة كَقَوْلِه تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} وَقيل الْمَعْنى اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوق وَاحْتج لَهُ أَيْضا بِأَن الْأَخَوَات أَضْعَف من الْبَنَات وَقد جعل الله تَعَالَى للأختين الثُّلثَيْنِ فالبنات أولى وَالله أعلم قَالَ (والأختين من الْأَب وَالأُم والأختين من الْأَب)
للأختين فَصَاعِدا من الْأَبَوَيْنِ أَو من الْأَب الثُّلُثَانِ لقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} وَقَالَ جَابر رَضِي الله عَنهُ اشتكيت وَعِنْدِي سبع أَخَوَات فَدخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/333)
فَقلت مَا أصنع بِمَالي وَلَيْسَ من يَرِثنِي إِلَّا كَلَالَة فَخرج رَسُول الله ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ قد أنزل الله فِي أخواتك وَبَين وَجعل لَهُنَّ الثُّلثَيْنِ فَقَالَ جَابر رَضِي الله عَنهُ فِي نزلت آيَة الْكَلَالَة فَدلَّ على أَن المُرَاد بِالْآيَةِ الاثنتان فَمَا فَوْقهمَا قَالَ
(وَالثلث فرض اثْنَتَيْنِ فرض الْأُم إِذا لم تحجب)
للْأُم الثُّلُث إِذا لم يكن للْمَيت ولد وَلَا ولد ابْن وَلَا اثْنَان من الْأُخوة وَالْأَخَوَات سَوَاء كَانُوا من الْأَبَوَيْنِ أَو من الْأَب أَو من الْأُم حجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وَقد مر أَن ولد الابْن كالابن وَإِنَّمَا اكتفينا بالأخوين مَعَ أَن الْآيَة وَردت بِصِيغَة الْجمع فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} لِأَن الْجمع قد يعبر بِهِ عَن اثْنَيْنِ وَقَالَ ابْن عَبَّاس لعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم كَيفَ تردها إِلَيّ السُّدس بأخوين فَقَالَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لَا أَسْتَطِيع رد شَيْء كَانَ قبلي وَمضى فِي الْبلدَانِ وتوارث النَّاس بِهِ فَأَشَارَ إِلَى إجتماعهم عَلَيْهِ قبل أَن أظهر ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الْخلاف
وَاعْلَم أَن أَوْلَاد الْأُخوة لَا يقومُونَ مقَام الْأُخوة فِي رد الْأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس لأَنهم لَا يسمون أخوة فَلم يندرجوا فِي الْآيَة الْكَرِيمَة
وَاعْلَم أَن للْأُم ثلث مَا بَقِي بعد فرض الزَّوْج أَو الزَّوْجَة فِي صُورَتَيْنِ إِحْدَاهمَا زوج وأبوان فَللزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ ثلث الْبَاقِي وَهُوَ السُّدس وَالْبَاقِي للْأَب وَهُوَ الثُّلُث وَالثَّانيَِة زَوْجَة وأبوان فللزوجة الرّبع وَللْأُمّ ثلث الْبَاقِي وَهُوَ الرّبع وَالْبَاقِي للْأَب لِأَنَّهُ يُشَارك الْأَبَوَيْنِ صَاحب فرض فَكَانَ للْأُم ثلث مَا فضل عَن الْفَرْض كَمَا لَو شاركها بنت وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَذهب ابْن سُرَيج إِلَى أَن لَهَا الثُّلُث كَامِلا فِي الصُّورَتَيْنِ الظَّاهِر الْآيَة وَقيل غير ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وللاثنين فَصَاعِدا من الْأُخوة وَالْأَخَوَات من ولد الْأُم ذكورهم وإناثهم فِيهِ سَوَاء)
لقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي ولد الْأُم بِدَلِيل قِرَاءَة سعد وَابْن مَسْعُود وَله أَخ أَو أُخْت من أم وَالْقِرَاءَة الشاذة كالخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيجب الْعَمَل بهَا وَالله اعْلَم قلت وَفِي الِاسْتِدْلَال بذلك نظر لِأَن الشادة لَا تكون قُرْآنًا لعدم(1/334)
التَّوَاتُر وَلَا خَبرا لِأَنَّهُ لم يقْصد بهَا الْخَبَر وَقد صرح بِهَذَا النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم فاعرفه وَالله أعلم قَالَ
(وَالسُّدُس فرض سَبْعَة الْأُم مَعَ الْوَلَد أَو ولد الابْن أَو الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدا من الْأُخوة وَالْأَخَوَات)
حجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} وَقَوله {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وَقد تقدم أَن ولد الابْن كَالْوَلَدِ وَتقدم الْجَواب عَن لفظ الْجمع فِي الْأُخوة وَالله أعلم قَالَ
(وَهُوَ للجدة عِنْد عدم الْأُم)
الْجدّة إِن كَانَت أم الْأُم وَإِن علت أَو أم الْأَب وَإِن علت فلهَا السُّدس لما رُوِيَ قبيصَة بن ذُؤَيْب قَالَ جَاءَت الْجدّة إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ تسأله عَن مِيرَاثهَا فَقَالَ ((مَالك فِي كتاب الله شَيْء وَمَا علمت لَك فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا فارجعي حَتَّى أسأَل النَّاس)) فَسَأَلَ فَقَالَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة شهِدت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْطَاهَا السُّدس فَقَالَ هَل مَعَك غَيْرك فَقَامَ مُحَمَّد بن مُسلم فَقَالَ مثله فأنفذ لَهَا السُّدس ثمَّ جَاءَت الْجدّة الْأُخْرَى إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ تسأله فَقَالَ مَالك فِي كتاب الله شَيْء وَمَا كَانَ الْقَضَاء الَّذِي قضى بِهِ إِلَّا لغيرك وَمَا أَنا بزائد فِي الْفَرَائِض شَيْئا وَلَكِن هُوَ ذَلِك السُّدس فَإِن اجتمعتما فَهُوَ بَيْنكُمَا وأيتكما خلت بِهِ فَهُوَ لَهَا وَعَن زيد رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل للجدة السُّدس إِذا لم يكن دونهَا أم فَإِن اجْتمع جدتان متحاذيتان فالسدس بَينهمَا للأثر وَإِن كَانَت احداهما أقرب من الْأُخْرَى فَإِن كَانَت الْقُرْبَى من جِهَة الْأُم كَأُمّ الْأُم أسقطت البعدى من الْجِهَتَيْنِ أم الْأُم وَأم أَب الْأَب لِأَن أمهَا تدلي بهَا وَالْأُخْرَى إِنَّمَا أسقطتها وَهِي أم أَب الْأَب لِأَنَّهَا أبعد والقربى تسْقط البعدى وَإِن كَانَت الْقُرْبَى من جِهَة الْأَب كَأُمّ الْأَب وَأم أَب الْأُم فَهَل تسقطها فِيهِ قَولَانِ الصَّحِيح أَنَّهَا لَا تسقطها بل يَشْتَرِكَانِ فِي السُّدس بِخِلَاف الْعَكْس لِأَن الْأَب لَا يحجب الْجدّة من قبل الْأُم فَلِأَن لَا تحجبها الْجدّة الَّتِي تدلي بِهِ أولى بِخِلَاف عَكسه فَإِن الْأُم تحجب الْجدّة من قبل الْأَب فحجبتها بهَا وَالله أعلم
(فرع) أم أم وَأم أَب وَمَعَهَا أَب فَأم الْأَب سَاقِطَة وَأم الْأُم لَهَا السُّدس كَامِلا على الصَّحِيح وَالله أعلم قَالَ(1/335)
(ولبنت الابْن مَعَ بنت الصلب)
حجَّة ذَلِك أَن أَبَا مُوسَى سُئِلَ عَن بنت وَبنت ابْن وَأُخْت فَقَالَ للْبِنْت النّصْف وَللْأُخْت النّصْف وأتى ابْن مَسْعُود فَاسْأَلْهُ يَعْنِي فَسئلَ ابْن مَسْعُود فَأخْبر بِمَا قَالَ أَبُو مُوسَى وَقَالَ قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين لأقضين فِيهَا بِمَا قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((للْبِنْت النّصْف ولبنت الابْن السُّدس وَمَا بَقِي فللأخت)) فأتينا أَبَا مُوسَى فَأخْبرنَا بقول ابْن مَسْعُود فَقَالَ لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الحبر فِيكُم وَلَو كَانَت بَنَات الابْن أَكثر من وَاحِدَة فالسدس بَينهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ وَلَو استكملت بَنَات الصلب الثُّلثَيْنِ فَلَا شَيْء لبنات الابْن وَالله أعلم قَالَ
(وَللْأُخْت من الْأَب مَعَ الْأُخْت من الْأَب وَالأُم)
لِأَن الْأَخَوَات يتساوين فِي الدرجَة وتفضل الشَّقِيقَة بِالْقَرَابَةِ فَتكون الْأُخْت من الْأَب مَعَ الْأُخْت من الْأَبَوَيْنِ كَبِنْت الابْن مَعَ بنت الصلب وتستوي الْأُخْت الْوَاحِدَة وَالْأَخَوَات فِي السُّدس كبنات الابْن فِي السُّدس وَالله أعلم قَالَ
(وَهُوَ فرض الْأَب مَعَ الْوَلَد أَو ولد الابْن)
للْأَب السُّدس مَعَ الابْن وَابْن الابْن لقَوْله تَعَالَى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} وَالْمرَاد بِالْوَلَدِ هُنَا الابْن وألحقنا بِهِ ابْنه كَمَا تقدم وَالله أعلم قَالَ
(وَهُوَ فرض الْجد مَعَ عدم الْأَب)
الْجد كَالْأَبِ لَهُ السُّدس مَعَ الابْن وَابْن الابْن بالاجماع وَالله أعلم قَالَ
(وللواحد من ولد الْأُم)
ولد الْأُم هُوَ الْأَخ من الْأُم فللواحد من الْأُخوة من الْأُم السُّدس ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى لقَوْله تَعَالَى {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْت فَلِكُل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس} وَهَذَا الْآيَة نزلت فِي ولد الْأُم بِدَلِيل قِرَاءَة سعد بن أبي وَقاص وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا وَله أَخ أَو أُخْت من أم وَالْقِرَاءَة الشاذة كالخبر كَمَا مر وَالله أعلم قَالَ(1/336)
(وَتسقط الْجدَّات بِالْأُمِّ)
أعلم أَن الْأُم تحجب كل جدة سَوَاء كَانَت من جِهَتهَا كأمها وَإِن علت أَو من جِهَة الْأَب كَمَا يحجب الْأَب كل من يَرث بالأبوة وَوجه عدم إرثهن مَعَ وجودهَا أَنَّهُنَّ إِنَّمَا يَأْخُذن مَا تَأْخُذهُ فَلَا يرثن مَعَ وجودهَا كالجد مَعَ الْأَب وَالله أعلم قَالَ
(وَيسْقط ولد الْأُم بأَرْبعَة بِالْوَلَدِ وَولد الابْن وَالْأَب وَالْجد)
لَا يَرث الْأَخ للْأُم مَعَ أَرْبَعَة الْوَلَد ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى وَكَذَا ولد الابْن وَالْأَب وَالْجد لِأَن الله تَعَالَى جعل ارثه فِي الْكَلَالَة والكلالة اسْم للْوَرَثَة مِمَّا عدا الْوَالِدين والمولودين وَقيل اسْم للمورث الَّذِي لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد وَقيل الْكَلَالَة اسْم لكليهما وَالله أعلم قَالَ
(وَيسْقط ولد الْأَب بأَرْبعَة بِالْأَبِ وَالِابْن وَابْن الابْن وبالأخ للْأَب وَالأُم)
وَالْأَخ للْأَب يسْقط بِهَذِهِ الْأَرْبَعَة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فَمَا أبقت الْفَرَائِض فَلأولى عصبَة ذكر وَقد فسر الأولى بالأقرب وَلَا شكّ فِي قرب الْأَب وَالِابْن وَابْنه على الْأَخ وَأما تَقْدِيم الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ فلقربه أَيْضا بِزِيَادَة الأمومة وَقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَعْيَان بني آدم يتوارثون دون بني العلات وَبَنُو الْأَعْيَان هم الأشقاء لأَنهم من عين وَاحِدَة وَبني العلات هم الْأُخوة من الْأَب لِأَن أم كل وَاحِد لم تعل الْأُخْرَى بلبنها وَبَنُو الأخياف هم الْإِخْوَة للْأُم والأخياف الأخلاط لأَنهم من اخْتِلَاط الرِّجَال وَالله أعلم قَالَ
(وَيسْقط ولد الْأَب وَالأُم بِثَلَاثَة بالابن وَابْن الابْن وَالْأَب)
لأَنهم أقرب فَدَخَلُوا فِي عُمُوم أولى عصبَة ذكر وَالله أعلم قَالَ
(وَأَرْبَعَة يعصبون أخواتهم الابْن وَابْن الابْن وَالْأَخ من الْأَب وَالأُم وَالْأَخ من الْأَب)
لَا يعصب أَخُو الْأُخْت إِلَّا هَذِه الْأَرْبَعَة فَإِنَّهُم يعصبون أخواتهم للذّكر مثل حَظّ الانثيين أما(1/337)
تعصيب الابْن لأخته فَلقَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الْآيَة وَأما ابْن الابْن فَإِن أطلق عَلَيْهِ ابْن فَلَا كَلَام وَإِلَّا ثَبت بِالْقِيَاسِ على الابْن وَأما الْأَخ فَلقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَأما امْتنَاع ذَلِك فِي غَيرهم فَلِأَن أُخْته لَا أرث لَهَا لكَونهَا من ذَوي الْأَرْحَام
وَاعْلَم أَن ابْن الابْن يعصب من يحاذيه من بَنَات عَمه لِأَنَّهَا فِي دَرَجَته فأشبهن أخواته وَكَذَا يعصب ابْن الابْن من فَوْقه من عماته وَبَنَات عماته وَبَنَات عَم أَبِيه إِذا لم يكن لَهُنَّ فرض صُورَة تعصيب عماته أَن يَمُوت شخص ويخلف بنتين وَبَنَات ابْن يُسَمِّي أبوهن زيدا أَو ابْن ابْن ابْن يُسمى أَبوهُ عمرا وَإِنَّمَا عصبهن لِأَنَّهُ لَا يُمكن اسقاطه لِأَنَّهُ عصبَة ذكر وَإِذا لم يسْقط فَلَا يُمكن اسقاطه لعماته وَبَنَات عَم أَبِيه لِأَنَّهُ لَا يسْقط من فِي دَرَجَته وَهن بَنَات عَمه فَمن فَوْقه أولى فَتعين مشاركته لَهُنَّ بالفريضة أما إِذا كَانَ لَهُنَّ فرض كَمَا إِذا كَانَ للْمَيت بنت وَاحِدَة وَبنت ابْن فَإِن ابْن أَخِيهَا أَو ابْن ابْن عَمها لَا يعصبها لِأَنَّهَا ذَات فرض وَمن ورث بِالْفَرْضِ بِقرَابَة لَا يَرث بهَا بِالتَّعْصِيبِ فينفرد ابْن الابْن بِالْبَاقِي كَذَا أطلقها الْأَصْحَاب قَالَ ابْن الرّفْعَة وَيظْهر نقضه بالجد فَإِنَّهُ يَرث بِالْفَرْضِ والتعصيب فِيمَا إِذا كَانَ للْمَيت بنت وجد فَيَأْخُذ السُّدس بِالْفَرْضِ وللبنت النّصْف وَالْبَاقِي للْجدّ بِالتَّعْصِيبِ وَحكم أَوْلَاد ابْن ابْن ابْن الابْن مَعَ بَنَات ابْن ابْن الابْن كَمَا ذكرنَا وَاعْلَم أَنه لَيْسَ فِي الْفَرَائِض من يعصب أُخْته وَعَمَّته وعمة أَبِيه وجده وَبَنَات أَعْمَامه وَبَنَات أعمام أَبِيه إِلَى بَنَات أعمام جده إِلَى عمَّة جده وجده إِلَّا المستقل من أَوْلَاد الابْن إِلَى النَّازِل وَالله أعلم قَالَ
(وَأَرْبَعَة يَرِثُونَ دون أخواتهم وهم الْأَعْمَام وَبَنُو الْأَعْمَام وَبَنُو الْأُخوة وعصبات الْمُعْتق)
أما إِرْث الْأَعْمَام من الْأَبَوَيْنِ أَو من الْأَب وَكَذَا بَنو الْأَعْمَام وَكَذَا بَنو الْأُخوة فلأنهم عصبَة وَأما أخواتهن فلأنهن من ذَوي الْأَرْحَام وَأما عصبات الْمُعْتق فإرثهم بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ((الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب)) وَفِي رِوَايَة ((وَلَا يُورث)) وَلَام اللحمة تضم وتفتح وَالنّسب الْعَصَبَات دون غَيرهم وَلَو انْتقل إِلَى غَيرهم لَكَانَ موروثا فَلهَذَا لَا تَرث النِّسَاء فَإِذا ثَبت لشخص الْوَلَاء فَمَاتَ انْتقل ذَلِك إِلَى عصابته(1/338)
وَضَابِط من يَرث بولاء الْمُعْتق هُوَ كل ذكر يكون عصبَة للْمُعْتق فَإِذا مَاتَ الْعَتِيق بعد موت الْمُعْتق وللمعتق ابْن وَبنت أَو أَب وَأم أَو أَخ وَأُخْت ورث الذّكر فَقَط دون الْإِنَاث وَالله أعلم
(فرع فِي مِيرَاث الْجد مَعَ الْأُخوة) فَإِذا اجْتمع مَعَ الْجد من قبل الْأَب أخوة وأخوات من الْأَبَوَيْنِ أَو من الْأَب لِأَن الْأُخوة من الْأُم يسقطون بِهِ فَتَارَة يكون مَعَهم ذُو فرض وَتارَة لَا يكون فَإِن لم يكن مَعَه صَاحب فرض فَلهُ الأحظ من الْمُقَاسَمَة وَثلث جَمِيع المَال ثمَّ إِن قَاسم كَانَ كأخ وَإِن أَخذ الثُّلُث فالباقي بَين الْأُخوة وَالْأَخَوَات للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَقد تستوي لَهُ الْمُقَاسَمَة وَثلث جَمِيع المَال وَقد يكون الثُّلُث خيرا لَهُ وَالضَّابِط فِي ذَلِك أَنه إِن كَانَ مَعَه أقل من مثلَيْهِ فالمقاسمة خير لَهُ وَإِن كَانَ مَعَه مثلاه اسْتَوَت الْمُقَاسَمَة وَثلث المَال وَإِن كَانَ أَكثر من مثلَيْهِ فَالثُّلُث خير لَهُ فهم ثَلَاثَة أَحْوَال
الْحَالة الأولى إِذا كَانَ مَعَه أُخْت أَو أختَان أَو ثَلَاث أَخَوَات أَو أَخ أَو أَخ وَأُخْت فَهِيَ خمس صور
الْحَالة الثَّانِيَة بِأَن يكون أَخَوان أَو أَخ وأختان أَو أَربع أَخَوَات فَهِيَ ثَلَاث صور
الْحَالة الثَّالِثَة بِأَن يكون مَعَ أَزِيد من مثلَيْهِ كثلاث أَخَوَات وَنَحْوه فَهُنَا يَأْخُذ الثُّلُث لِأَنَّهُ الأحظ لِأَن بالمقاسمة ينقص عَنهُ هَذَا إِذا لم يكن مَعَه صَاحب فرض كَمَا ذكرنَا فَإِن كَانَ مَعَه صَاحب فرض وهم سِتَّة يَرِثُونَ مَعَ الْجد والأخوة الْبِنْت وَبنت الابْن وَالأُم وَالْجدّة وَالزَّوْج وَالزَّوْجَة فَينْظر إِن لم يبْق بعد الْفُرُوض شَيْء فرض لَهُ السُّدس كَمَا إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة بنتان وَأم وَزوج فيفرض للْجدّ السُّدس وَيُزَاد فِي الْعَوْل وَإِن بَقِي السُّدس فَقَط فيفرض لَهُ السُّدس كبنتين وَأم وَإِن بَقِي دون السُّدس كبنتين وَزوج فيفرض لَهُ السُّدس وتعال الْمَسْأَلَة على هَذِه التقديرات الثَّلَاثَة تسْقط الْأَخَوَات والأخوة وَإِن كَانَ الْبَاقِي أَكثر من السُّدس فللجد خير أُمُور ثَلَاثَة أما مقاسمة الْأُخوة وَالْأَخَوَات أَو ثلث مَا بَقِي أَو سدس جَمِيع المَال وَقد علمت أَن الْجد كَأحد الْأُخوة فَإِذا كَانَ مَعَه إخْوَة أَو أَخَوَات لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب عَادل الْأُخوة لِلْأَبَوَيْنِ والأخوة للْأَب فِي الْقِسْمَة فَإِذا أَخذ الْجد حِصَّته فَإِن كَانَ الْبَاقِي من الْإِخْوَة لِلْأَبَوَيْنِ ذُكُورا فالباقي لَهُم أَو تمحضوا ذُكُورا وَتسقط الْأُخوة للْأَب وَإِن لم يكن فِي الْأُخوة من الْأَبَوَيْنِ عصبَة بل تمحضوا إِنَاثًا فَإِن كن اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدا أخذن الثُّلثَيْنِ فَلَا يبْقى شَيْء فَتسقط الْأُخوة للْأَب وَإِن كَانَت أُخْتا وَاحِدَة أخذت النّصْف فَإِن بَقِي شَيْء فللأخوة للْأَب ذُكُورا كَانُوا أَو إِنَاثًا للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ
وَاعْلَم أَن الْأُخْت من الْأَبَوَيْنِ أَو من الْأَب فَللزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ الثُّلُث وللجد السُّدس ويفرض للْأُخْت النّصْف أَصْلهَا من سِتَّة وتعول إِلَى تِسْعَة ثمَّ يضم نصيب الْأُخْت إِلَى نصيب الْجد وَيجْعَل بَينهمَا أَثلَاثًا لَهُ الثُّلُثَانِ وَلها الثُّلُث لِأَنَّهَا لَا يُمكن أَن تفوز بِالنِّصْفِ لِئَلَّا تفضل عَلَيْهِ فَيضْرب(1/339)
مخرج الثُّلُث فِي الْمَسْأَلَة بعولها وَهِي تِسْعَة تبلغ سَبْعَة وَعشْرين للزَّوْج تِسْعَة وَللْأُمّ سِتَّة وَللْأُخْت أَرْبَعَة وللجد ثَمَانِيَة وَسميت الأكدرية لأمور مِنْهَا أَنَّهَا كدرت على زيد مذْهبه لِأَنَّهُ لَا يعيل مسَائِل الْجد وَلَا يفْرض للْأُخْت مَعَه وَلَو كَانَ بدل الْأُخْت أَخ سقط أَو ختان لم تعل الْمَسْأَلَة وَكَانَ للزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ السُّدس وَالْبَاقِي للْجدّ والأختين للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّهُ لم تنقصه الْمُقَاسَمَة عَن السُّدس وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْوَصِيَّة فصل فِي الْوَصِيَّة وَتجوز الْوَصِيَّة بالمعلوم والمجهول وَالْمَوْجُود والمعدوم
الْوَصِيَّة مَأْخُوذَة من وصيت الشَّيْء أوصيه إِذا وصلته فالموصى وصل مَا كَانَ لَهُ فِي حَيَاته بِمَا بعد مَوته وَهِي فِي الشَّرْع تَفْوِيض تصرف خَاص بعد الْمَوْت وَكَانَت فِي إبتداء الاسلام وَاجِبَة بِجَمِيعِ المَال للأقربين لقَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ثمَّ نسخت بِآيَة الْمَوَارِيث وَبَقِي استحبابها فِي الثُّلُث فَمَا دونه فِي حق غير الْوَارِث قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا حق امْرِئ مُسلم لَهُ شَيْء يُوصي فِيهِ يبيت لَيْلَتَيْنِ إِلَّا ووصيته مَكْتُوبَة عِنْد رَأسه وَفِي لفظ يبيت ثَلَاث لَيَال وَأجْمع الْمُسلمُونَ على استحبابها نعم الصَّدَقَة فِي حَال الْحَيَاة أفضل للأحاديث الْمَشْهُورَة إِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن الْوَصِيَّة لَهَا أَرْكَان
أَحدهَا الْمُوصى بِهِ وَيشْتَرط فِيهِ كَونه غير مَعْصِيّة فَلَو أوصى بِبِنَاء كَنِيسَة للتعبد أَو كتب التَّوْرَاة وَألْحق الْمَاوَرْدِيّ بذلك كتب النُّجُوم والفلسفة وَألْحق القَاضِي حُسَيْن بذلك كِتَابَة الْغَزل فَإِنَّهَا مُحرمَة وَوجه عدم الصِّحَّة أَن الْوَصِيَّة شرعت اجتلاباً للحسنات واستدراكاً لما فَاتَ وَذَلِكَ يُنَافِي الْمَقْصُود وَلَو أوصى بِمَال ليسرج بِهِ فِي الْكَنَائِس إِن قصد تعظيمها لم يجز وَإِن قصد الضَّوْء على مَا يأوي إِلَيْهَا صَحَّ كَذَا قَالَه جمَاعَة وَقد ذكرنَا فِي نَظِيره فِي الْوَقْف أَنه لَا يجوز قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلَا يبعد مَجِيئه هُنَا
وَاعْلَم أَن الْمَمْنُوع مِنْهُ فِي الْوَصِيَّة يمْتَنع على الْحَيّ أَيْضا صرف المَال إِلَيْهِ وكل مَا يحرم(1/340)
الِانْتِفَاع بِهِ فَلَا تصح الْوَصِيَّة بِهِ لِأَن مَنَافِعه مَعْدُومَة شرعا وَلَا يشْتَرط فِي الْمُوصى بِهِ أَن يكون طَاهِرا نعم الشَّرْط كَونه يجوز الِانْتِفَاع بِهِ كالزبل وَالْكَلب الَّذِي يجوز اقتناؤه وَالزَّيْت النَّجس لِأَن هَذِه الْأُمُور اختصاصات تنْتَقل إِلَى الْوَرَثَة فَيجوز نقلهَا إِلَى الْمُوصى لَهُ بِخِلَاف الْكَلْب الْعَقُور وَالْخمر وَالْخِنْزِير لِأَنَّهُ يحرم الِانْتِفَاع بهَا وَلَا تقر فِي الْيَد وَلَا يشْتَرط كَون الْمُوصى بِهِ عينا بل تجوز الْوَصِيَّة بالمنافع فَتَصِح الْوَصِيَّة بِمَنْفَعَة هَذَا العَبْد وَنَحْوه دَار وَلآخر برقبتها وكما تجوز الْوَصِيَّة بالمنافع كَذَلِك تجوز بِالْمَجْهُولِ كَمَا ذكره الشَّيْخ كَالْوَصِيَّةِ بِشَاة من شياهه واحدى دوابه وَكَذَا بالأعيان الغائبة وَبِمَا لَا يقدر على تَسْلِيمه كالطير فِي الْهَوَاء وَالْعَبْد الْآبِق وكما تجوز الْوَصِيَّة بِالْمَجْهُولِ تجوز أَيْضا بالمعدوم كَالْوَصِيَّةِ بِمَا تحمله هَذِه النَّاقة وَنَحْوهَا أَو بِمَا تحمله هَذِه الْأَشْجَار وَنَحْو ذَلِك وَوجه ذَلِك بِأَن الْمَعْدُوم يجوز أَن يملك بالمساقاة والاجارة مَعَ أَنَّهُمَا عقدا مُعَارضَة فبالوصية أولى لِأَن بَاب الْوَصِيَّة أوسع من غَيره وَقيل لَا تصح مُطلقًا وَقيل تصح بالثمرة دون الْوَلَد وَفرق بَينهمَا بِأَن الثَّمَرَة تحدث بِلَا صنع بِخِلَاف الْوَلَد وَإِذا صحت الْوَصِيَّة بِالْحملِ الَّذِي سيحدث فَتَصِح بِالْحملِ الْمَوْجُود أولى وَشرط اسْتِحْقَاقه تحقق وجوده حَال الْوَصِيَّة
(فرع) أوصى لَهُ بِحمْل جَارِيَة فَأَلْقَت جَنِينهَا بِجِنَايَة جَان فالأرش للْمُوصى لَهُ بِخِلَاف الْبَهِيمَة فَإِنَّهُ لَا شَيْء للْمُوصى لَهُ وَالْفرق أَن أرش الْجَنِين بدله أَي بدل الْحمل وَمَا وَجب فِي جَنِين الْبَهِيمَة بدل مَا نقص من قيمَة الْأُم وَالله أعلم
(فرع) قَالَ أوصيت لَك بِهَذِهِ الدَّابَّة وَهِي ملك غَيره أَو قَالَ أوصيت لَك بِهَذَا العَبْد أَن ملكته فَهَل تصح الْوَصِيَّة فِيهِ وَجْهَان قطع الْغَزالِيّ بِعَدَمِ الصِّحَّة لِأَن هَذِه الْعين يملك مَالِكهَا الْوَصِيَّة بهَا فَلَو صححنا الْوَصِيَّة لَأَدَّى إِلَى أَن الشَّيْء الْوَاحِد يكون محلا لتصرف اثْنَيْنِ وَهُوَ مُمْتَنع
وَالثَّانِي أَنه يَصح لِأَنَّهُ إِذا صحت الْوَصِيَّة بالمعدوم فَبِهَذَا أولى قَالَه النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَهَذَا أفقه وأجرى على قَوَاعِد الْبَاب
قلت وَهُوَ الَّذِي جرى عَلَيْهِ الشَّيْخ فِي التَّنْبِيه وَأقرهُ النَّوَوِيّ فِي التَّصْحِيح وَالله أعلم قَالَ
(وَهِي من الثُّلُث فَإِن زَاد وقف على إجَازَة الْوَرَثَة وَلَا تجوز الْوَصِيَّة للْوَارِث إِلَّا أَن يجيزها بَاقِي الْوَرَثَة)
تجوز الْوَصِيَّة بِثلث المَال بعد الدّين (لِأَن الْبَراء بن معْرور رَضِي الله عَنهُ أوصى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِثلث مَاله فَقبله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورده على ورثته) وَسَوَاء كَانَ الْمُوصي عَالما بِقدر مَاله أَو جَاهِلا فَإِن زَاد(1/341)
على الثُّلُث كَمَا إِذا أوصى بِنصْف مَاله فَهَل تصح الْوَصِيَّة وَجْهَان قيل لَا تصح لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهي سَعْدا عَن الزَّائِد وَالنَّهْي يَقْتَضِي الْفساد وَالصَّحِيح الصِّحَّة وَيُوقف على إجَازَة الْوَرَثَة فَإِن أَجَازُوا صحت فِي الزَّائِد وَإِلَّا بطلت فِيهِ وَوجه الصِّحَّة أَنَّهَا وَصِيَّة صادفت ملكه وَإِنَّمَا تعلق بهَا حق الْغَيْر فَأشبه بيع الشّقص الْمَشْفُوع ثمَّ الرَّد وَالْإِجَازَة لَا يكونَانِ إِلَّا بعد الْمَوْت إِذْ لَا حق للْوَارِث قبله فَأشبه عَفْو الشَّفِيع قبل البيع وَلَو لم يكن لَهُ وَارِث بطلت الْوَصِيَّة فِيمَا زَاد على الثُّلُث (لِأَن الْأنْصَارِيّ أعتق سِتَّة أعبد فجزأهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة أَجزَاء فَأعتق اثْنَيْنِ وأرق أَرْبعا) قَالَ الْأَصْحَاب لم يكن لَهُ وَارِث إِذْ لَو كَانَ لَهُ وَارِث لوقفه على إجازتهم وَهل تسْتَحب الْوَصِيَّة بِالثُّلثِ نظر إِن كَانَ ورثته أَغْنِيَاء إِمَّا بمالهم أَو بِمَا يحصل من ثُلثي التَّرِكَة اسْتحبَّ أَن يَسْتَوْفِي الثُّلُث وان كَانُوا فُقَرَاء اسْتحبَّ أَن لَا يَسْتَوْفِي الثُّلُث لقضية سعد قَالَ ابْن الصّباغ فِي هَذِه الْحَالة يُوصي بِالربعِ فَمَا دونه وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب إِن كَانَ ورثته لَا يفضل مَاله عَن غناهم فَالْأَفْضَل أَن لَا يُوصي وَأطلق الرَّافِعِيّ النَّقْص عَن الثُّلُث لخَبر سعد وَلقَوْل عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِأَن أوصِي بالخمس أحب إِلَيّ من أَن أوصِي بِالربعِ وبالربع أحب إِلَيّ من أَن أوصِي بِالثُّلثِ وَالتَّفْصِيل الأول هُوَ الَّذِي جزم بِهِ فِي التَّنْبِيه وَأقرهُ عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي التَّصْحِيح وَجزم بِهِ فِي شرح مُسلم وَحَكَاهُ عَن الْأَصْحَاب وَالله أعلم وَهل تصح الْوَصِيَّة للْوَارِث فِيهِ خلاف قيل لَا تصح أَلْبَتَّة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا وَصِيَّة لوَارث وَالأَصَح الصِّحَّة وَتوقف على إجَازَة الْوَرَثَة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا تجوز الْوَصِيَّة لوَارث إِلَّا أَن يَشَاء الْوَرَثَة قَالَ عبد الْحق الْمَشْهُور أَنه مُنْقَطع وَوَصله بَعضهم فعلى الصَّحِيح إجَازَة الْوَرَثَة تنفيد على الصَّحِيح لَا يحْتَاج إِلَى إِيجَاب وَقبُول وتكفي الْإِجَازَة وَالله أعلم
(فرع) الْهِبَة للْوَارِث كَالْوَصِيَّةِ لَهُ وَكَذَلِكَ ضَمَان الدّين عَنهُ لأَجْنَبِيّ وَأطلق الْعِرَاقِيُّونَ أَن الْوَصِيَّة لعبد الْوَارِث كَالْوَصِيَّةِ لَهُ وَالله أعلم
(فرع) الِاعْتِبَار بِكَوْنِهِ وَارِثا عِنْد الْمَوْت فَلَو أوصى لأجنبية ثمَّ تزَوجهَا أَو لأخ وَله ابْن فَمَاتَ الابْن فَهِيَ وَصِيَّة لوَارث وَلَو أوصى لأخ وَلَا ولد لَهُ ثمَّ ولد لَهُ ولد نفذت الْوَصِيَّة وَالله أعلم قَالَ(1/342)
(وَتَصِح الْوَصِيَّة من كل مَالك عَاقل لكل ممتلك أَو فِي سَبِيل الله)
من أَرْكَان الْوَصِيَّة الْمُوصي وَالْمُوصى لَهُ فالموصي إِن كَانَ جَائِز التَّصَرُّف فِي مَاله جَازَ وَصيته للْأَخْبَار وَإِن لم يكن جَائِز التَّصَرُّف كَالْمَجْنُونِ والمبرسم وَالْمَعْتُوه فَلَا تصح وَصيته لِأَن صِحَة الْوَصِيَّة تتَعَلَّق بالْقَوْل وَقَول من هَذِه صفته ملغى والبرسام والعته نَوْعَانِ من اختلال الْعقل كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيّ غير الْمُمَيز كَالْمَجْنُونِ وَأما الْمُمَيز فَلَا تصح أَيْضا وَصيته وتدبيره كإعاقته وهبته إِذْ لَا عبارَة لَهُ كَالْمَجْنُونِ وَفِي السَّفِيه خلاف الْمَذْهَب صِحَة وَصيته لِأَنَّهُ صَحِيح الْعبارَة بِخِلَاف الصَّبِي وَالله أعلم
وَقَوله (لكل متملك) إِشَارَة إِلَى الْمُوصى لَهُ فالموصى لَهُ إِن كَانَ جِهَة عَامَّة فَالشَّرْط أَن لَا تكون جِهَة مَعْصِيّة سَوَاء أوصى بِهِ مُسلم أَو ذمِّي فَلَو أوصى مُسلم بِبِنَاء بقْعَة لبَعض الْمعاصِي كَمَا إِذا أوصى شخص بشرَاء بقْعَة ليقام فِيهَا سَماع فُقَرَاء الرجس الَّذين يتضلعون من أَمْوَال الظلمَة ويتقربون إِلَى الله تَعَالَى بالرقص على آله اللَّهْو مَعَ الْأَحْدَاث وَالنِّسَاء ويتواجدون بِسَبَب ذَلِك فَهَذِهِ الْوَصِيَّة بَاطِلَة كَمَا لَو أوصى ذمِّي بِبِنَاء كَنِيسَة حَتَّى لَو حكم بِصِحَّة ذَلِك نقض وَإِن كَانَت الْوَصِيَّة لمُعين فَيَنْبَغِي أَن يتَصَوَّر لَهُ الْملك فَلَو أوصى بِحمْل جَارِيَة نظر أَن قَالَ أوصيت بِحمْل فُلَانَة أَو بحملها الْمَوْجُود الْآن فَلَا بُد لنفوذ هَذِه الْوَصِيَّة من شرطين
أَحدهمَا أَن يعلم وجوده حَال الْوَصِيَّة بِأَن ينْفَصل لأَقل من سِتَّة أشهر فَإِن انْفَصل لسِتَّة أشهر فَأكْثر نظر إِن كَانَت الْمَرْأَة فراشا للسَّيِّد أَو لزوج لم يسْتَحق شَيْئا لاحْتِمَال علوقه بعد الْوَصِيَّة وَإِن لم تكن فراشا بِأَن فَارقهَا زَوجهَا أَو سَيِّدهَا قبل الْوَصِيَّة نظر أَن كَانَ الِانْفِصَال لأكْثر من أَربع سِنِين من وَقت الْوَصِيَّة لم يسْتَحق شَيْئا فَلَو انْفَصل لدوّنَ ذَلِك فَفِيهِ خلاف وَالرَّاجِح أَنه يسْتَحق لِأَن الظَّاهِر وجوده
وَالشّرط الثَّانِي أَن ينْفَصل حَيا فَإِن انْفَصل مَيتا فَلَا شَيْء لَهُ وَالله أعلم وَلَو أوصى فِي سَبِيل الله تَعَالَى أَو لسبيل الله تَعَالَى صرف إِلَى الْغُزَاة من أهل الصَّدقَات لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم شرعا وَأَقل من تصرف إِلَيْهِ ثَلَاثَة وَيجوز للْمُسلمِ وَالذِّمِّيّ الْوَصِيَّة لعمارة الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَغَيره من الْمَسَاجِد وَكَذَا لعمارة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاء لما فِي ذَلِك من إحْيَاء الزياة والتبرك بهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَتجوز الْوَصِيَّة إِلَى من اجْتمعت فِيهِ خمس خِصَال الاسلام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة وَالْأَمَانَة)
قَالَ الرَّافِعِيّ الْوَصِيَّة مُسْتَحبَّة فِي رد الظَّالِم وَقَضَاء الدُّيُون وتنفيذ الْوَصَايَا وَأُمُور الْأَطْفَال قَالَ النَّوَوِيّ هِيَ فِي رد الْمَظَالِم وَقَضَاء الدُّيُون الَّتِي يعجز عَنْهَا فِي الْحَال وَاجِبَة وَالله أعلم(1/343)
فَإِذا علم هَذَا فيشرط فِي الْوَصِيّ أُمُور
أَولهَا الاسلام فَلَا يجوز أَن يُوصي الْمُسلم إِلَى ذمِّي لِأَن الْوِصَايَة أَمَانَة وَولَايَة فَاشْترط فيهمَا الاسلام
الثَّانِي الْبلُوغ فَلَا يجوز أَن يكون الصَّبِي وَصِيّا لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الْولَايَة وَلِأَنَّهُ مولى عَلَيْهِ فَكيف يَلِي أم غَيره وَالْمَجْنُون كَالصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّف وَلِأَنَّهُ عَاجز عَن التَّصَرُّف لنَفسِهِ فَكيف يكون متصرفاً لغيره وَأما اشْتِرَاط الْحُرِّيَّة فَلِأَن العَبْد نَاقص عَن مرتبَة الْولَايَة مَعَ اشْتِغَاله بِخِدْمَة السَّيِّد وَلِأَنَّهُ لَا يصلح أَن يتَصَرَّف فِي مَال ابْنه فَكيف يصلح أَن يكون وَصِيّا كَالْمَجْنُونِ وَالْمُدبر وَالْمكَاتب والمبغض وَأم الْوَلَد كَذَلِك وَفِي الْمُدبر والمستولدة خلاف وَأما الْأَمَانَة فَلَا بُد مِنْهَا فَيشْتَرط فِي الْوَصِيّ الْعَدَالَة فَلَا تجوز الْوَصِيَّة إِلَى فَاسق لما فِيهَا من معنى الْولَايَة ومقصودها الْأَعْظَم الْأَمَانَة فالفاسخ غير مَأْمُون
وأهمل الشَّيْخ شُرُوطًا مِنْهَا عدم عَجزه فَلَا تجوز الْوَصِيَّة إِلَى عَاجز عَن التَّصَرُّف لهرم أَو غَيره وَمِنْهَا أَن تكون لَهُ هِدَايَة فِي التَّصَرُّف فَلَا يُوصي إِلَى السَّفِيه وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فيهمَا وَمِنْهَا أَن لَا يكون الْوَصِيّ عدوا للطفل الْمُفَوض إِلَيْهِ أمره وَهَذَا الشَّرْط ذكره الرَّوْيَانِيّ وَآخَرُونَ
وَاعْلَم أَن كل مَا يعْتَبر من الشُّرُوط فَفِي وَقت اعْتِبَاره أوجه أَصَحهَا حَالَة الْمَوْت وَقيل عِنْد الْوِصَايَة وَالْمَوْت جَمِيعًا وَتجوز الْوَصِيَّة إِلَى الْمَرْأَة وَإِذا حصلت الشُّرُوط فِي أم الْأَطْفَال فَهِيَ أولى من غَيرهَا وَتجوز إِلَى الْأَعْمَى فِي الْأَصَح
وَاعْلَم أَن الْوَصِيّ إِذا علم من نَفسه الْأَمَانَة وَالْقُدْرَة فالمختار لَهُ الْقبُول وَإِن علم خلاف ذَلِك فالمختار لَهُ الرَّد قَالَه الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر وَالله أعلم
(فرع) إِذا أوصى لجيرانه صرف إِلَى أَرْبَعِينَ دَارا من كل جَانب من الجوانب الْأَرْبَع على الصَّحِيح وَقيل يصرف للملاصق دَاره وَقَالَ النَّوَوِيّ وَيصرف إِلَى عدد الدّور دون عدد سكانها وَالله أعلم
(فرع) إِذا أوصِي لأعقل النَّاس فِي الْبَلَد صرف إِلَى أزهدهم فِي الدُّنْيَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَلَو أوصى لأجهل النَّاس حكى الرَّوْيَانِيّ أَنه يصرف لعبدة الْأَوْثَان فَإِن قَالَ من الْمُسلمين فَيصْرف إِلَى من سبّ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَقَالَ الْمُتَوَلِي يصرف إِلَى الأمامية المنتظرة للقائم وَإِلَى المجسمة قَالَه النَّوَوِيّ وَقيل يصرف إِلَى من ارْتكب الْكَبَائِر من الْمُسلمين لِأَنَّهُ لَا شُبْهَة لَهُم وَالله أعلم قلت وعَلى هَذَا القَوْل أولاهم بِالصرْفِ الْفُقَهَاء الَّذين يؤازرون أُمَرَاء الْجور لأَنهم يقرونهم على أَحْكَام الْجَاهِلِيَّة إِذْ يلْزم من السُّكُوت اندراس الشَّرِيعَة المطهرة مَعَ أَن الْفَرْع مُشكل وَالله أعلم(1/344)
كتاب النِّكَاح وَمَا يتَّصل بِهِ من الْأَحْكَام والقضايا
النِّكَاح فِي اللُّغَة الضَّم وَالْجمع يُقَال نكحت الاشجار إِذا التف بَعْضهَا على بعض
وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن العقد الْمَشْهُور الْمُشْتَمل على الاركان والشروط وَيُطلق على العقد وعَلى الْوَطْء لُغَة قَالَه الزّجاج وَقَالَ الْأَزْهَرِي أصل النِّكَاح فِي كَلَام الْعَرَب الْوَطْء وَقيل للتزوج نِكَاح لِأَنَّهُ سَبَب الْوَطْء قَالَ الْفَارِسِي فرقت الْعَرَب بَينهمَا بفرق لطيف فَإِذا قَالُوا نكح فُلَانَة أَو بنت فلَان أَو أُخْته أَرَادوا عقد عَلَيْهَا وَإِذا قَالُوا نكح إمرأته أَو زَوجته لم يُرِيدُوا إِلَّا الْوَطْء وَقَالَ الْجَوْهَرِي النِّكَاح الْوَطْء وَقد يكون العقد
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أَنه حَقِيقَة فِيمَا ذَا على أوجه حَكَاهَا القَاضِي حُسَيْن
أَحدهَا أَنه حَقِيقَة فِي الْوَطْء مجَاز فِي العقد
وَالثَّانِي أَنه حَقِيقَة فِي العقد مجَاز فِي الْوَطْء وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَصَححهُ القَاضِي أَبُو الطّيب وَأَطْنَبَ فِي الِاسْتِدْلَال لَهُ وَبِه قطع الْمُتَوَلِي وَغَيره وَبِه جَاءَ الْقُرْآن الْعَظِيم وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَغَيرهَا من الْآيَات وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (أنكحوا الْوَلُود) وَغَيره من الحَدِيث
وَالثَّالِث أَنه حَقِيقَة فيهمَا بِلَا اشْتِرَاك وَقَوله وَمَا يتَّصل بِهِ من الْأَحْكَام الْأَحْكَام جمع حكم وَالْحكم خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين سَوَاء كَانَ طلب فعل كالواجب وَالْمَنْدُوب أَو طلب كف كالحرام وَالْمَكْرُوه أَو كَانَ فِيهِ تَخْيِير كالاباحة وَقَوله والقضايا القضايا(1/345)
جمع قَضِيَّة والقضية قَول يُقَال لقائله بِأَنَّهُ صَادِق فِيهِ أَو كَاذِب وَالله أعلم قَالَ
(وَالنِّكَاح مُسْتَحبّ لمن احْتَاجَ إِلَيْهِ)
الأَصْل فِي مَشْرُوعِيَّة النِّكَاح الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} الْآيَة وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((تناكحوا تكثروا فَإِنِّي أباهي بكم الْأُمَم)) وَنَحْوه ثمَّ النَّاس ضَرْبَان تائق إِلَى النِّكَاح وَغير تائق فالتائق هُوَ الَّذِي عبر الشَّيْخ عَنهُ بِأَنَّهُ مُحْتَاج إِلَيْهِ تَارَة يَد أهبة النِّكَاح وَتارَة لَا يجدهَا فَإِن وجد أهبة النِّكَاح يسْتَحبّ لَهُ أَن يتَزَوَّج سَوَاء كَانَ متعبداً أَو غير متعبد لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَا معشر الشَّبَاب من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج فَإِنَّهُ أَغضّ لِلْبَصَرِ وَأحْصن لِلْفَرجِ وَمن لم يسْتَطع فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء والباءة فِي اللُّغَة الْجِمَاع مَأْخُوذ من المباءة وَهِي الْمنزل ثمَّ قيل لعقد النِّكَاح باهة لِأَن من نكح إمرأة بوأها منزله وَاخْتلف فِي مَعْنَاهَا فَقيل المُرَاد بالباه الْجِمَاع وَتَقْدِير الْكَلَام من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْجِمَاع لقدرته على مُؤَن النِّكَاح فليتزوج وَمن لم يسْتَطع الْجِمَاع لعَجزه عَن المؤونة فليصم ليقطع شَرّ منيه كَمَا يقطعهُ الوجاء والوجاء بِالْمدِّ ترضيض الخصية وَقيل إِن المُرَاد بِالْبَاءَةِ مؤونة النِّكَاح وَفِي الحَدِيث الْأَمر بِالنِّكَاحِ لمن لَهُ استطاعة وتاقت نَفسه إِلَيْهِ وَهُوَ أَمر ندب عِنْد الشَّافِعِيَّة وكافة الْعلمَاء قَالَه النَّوَوِيّ وَعند أَحْمد يلْزمه الزواج أَو التَّسَرِّي إِذا خَافَ الْعَنَت وَهُوَ الزِّنَا وَهُوَ وَجه لنا وَحجَّة من قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوب قَوْله عز وَجل {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أناط الحكم باختيارنا واستطابتنا وَالْوَاجِب لَيْسَ كَذَلِك وَأما التائق وَلكنه عَاجز عَن مُؤَن النِّكَاح مثل الصَدَاق وَغَيره فَالْأولى فِي حَقه عدم الزواج وَيكسر شَهْوَته بِالصَّوْمِ للْخَبَر فَإِن لم تنكسر بِهِ فَلَا يكسرها بالكافور وَنَحْوه بل يتَزَوَّج فَلَعَلَّ الله أَن يُغْنِيه من فَضله الضَّرْب الثَّانِي غير التائق إِلَى النِّكَاح وَله حالتان
الأولى أَن لَا يجد أهبة النِّكَاح فَهَذَا يكره لَهُ النِّكَاح لما فِيهِ من الْتِزَام مَا لَا يقدر على الْقيام(1/346)
بِهِ من غير حَاجَة وَفِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (يَا معشر الشَّبَاب) إِشَارَة إِلَى مثل ذَلِك
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يجد مُؤَن النِّكَاح وَلكنه غير مُحْتَاج إِلَيْهِ إِمَّا لعَجزه يجب أَو تعنين أَو كَانَ بِهِ مرض دَائِم وَنَحْوه فَهَذَا أَيْضا يكره لَهُ النِّكَاح وَإِن لم يكن بِهِ عِلّة وَهُوَ وَاجِد الأهبة فَهَذَا لَا يكره لَهُ النِّكَاح نعم التخلي لِلْعِبَادَةِ لَهُ أفضل فَإِن لم يكن مشتغلاً بِالْعبَادَة فَمَا الْأَفْضَل فِي حَقه فِيهِ خلاف الرَّاجِح أَن النِّكَاح أفضل لِئَلَّا تُفْضِي بِهِ البطالة والفراغ إِلَى الْفَوَاحِش وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز للْحرّ أَن يجمع بَين أَربع حرائر وَالْعَبْد بَين اثْنَتَيْنِ)
يحرم على الرجل الْحر أَن يجمع بَين أَكثر من أَربع نسْوَة لِأَن غيلَان أسلم على عشر نسْوَة فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمسك عَلَيْك أَرْبعا وَفَارق سائرهن فَلَو كَانَ يجوز الْجمع بَين أَكثر من أَربع نسْوَة لما أمره بذلك وَأسلم نَوْفَل بن مُعَاوِيَة على خمس فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمسك أَرْبعا وَفَارق الْأُخْرَى وَأما العَبْد فَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يتَزَوَّج العَبْد فَوق اثْنَتَيْنِ رَوَاهُ عبد الْحق وَنقل غَيره عَن إِجْمَاع الصَّحَابَة وَالْآيَة مُخْتَصَّة بالأحرار بِدَلِيل قَوْله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَالله أعلم
(فرع) الْمبعض إِذا اشْترى أمة بِمَا ملكه بِبَعْضِه الْحر قَالَ فِي التَّتِمَّة ظَاهر الْمَذْهَب الْمَنْصُوص يحرم وَطْؤُهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا ينْكح الْحر أمة إِلَّا بِشَرْطَيْنِ عدم صدَاق الْحرَّة وَخَوف الْعَنَت)
لَا يحل للْحرّ أَن ينْكح أمة الْغَيْر إِلَّا بِشُرُوط
الأول وَالثَّانِي مَا ذكره الشَّيْخ
وَالثَّالِث أَن لَا يقدر على نِكَاح حرَّة مسلمة أَو كِتَابِيَّة على الصَّحِيح فَإِن قدر على حرَّة مسلمة أَو كِتَابِيَّة لم تحل لَهُ الْأمة فَإِن فقدت الْحرَّة بِالْكُلِّيَّةِ أَو وجدت وَلَكِن كَانَ بهَا مَانع ككونها رتقاء أَو قرناء أَو مجذومة أَو رضيعة أَو مُعْتَمدَة عَن غَيره فَلهُ نِكَاح الْأمة على الْأَصَح وَحجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} فَذكر الله تَعَالَى الطول وَذكر الْمُحْصنَات وَهن الْحَرَائِر(1/347)
ذكر الْعَنَت أما الطول فَهُوَ الصَدَاق وَلِهَذَا قَالَ جَابر رَضِي الله عَنهُ من وجد صدَاق حرَّة لَا ينْكح أمة وَمثله عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَمن وجد صدَاق حرَّة فِي مَوْضِعه لم يحل لَهُ نِكَاح الْأمة فَلَو قدر على صدَاق حرَّة لَكِن بِهِ عِلّة لَا ترْضى بِهِ حرَّة أصلا بِسَبَبِهَا فَلهُ نِكَاح الْأمة للضَّرُورَة وَلَو كَانَ قَادِرًا على صدَاق حرَّة لَكِن فِي غير مَوْضِعه بِأَن كَانَ الصَدَاق فِي بَلْدَة أُخْرَى فَلهُ نِكَاح الْأمة كَمَا تصرف إِلَيْهِ الزَّكَاة فَقَوْل الشَّيْخ عدم صدَاق الْحرَّة أَي فِي مَوْضِعه وَلَو رضيت الْحرَّة بِلَا مهر أَو بمؤجل وَغلب على ظَنّه قدرته عَلَيْهِ عِنْد الْمحل أَو بيع مِنْهُ شيئ بالأجل بِقدر مَا يَفِي بصداقها أَو وجد من يستأجره بِأُجْرَة حَالَة أَو كَانَ لَهُ مسكن أَو خَادِم يَفِي ثمنه بِالصَّدَاقِ وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ حلت لَهُ الْأمة فِي الْأَصَح وَلَو وجد من يقْرضهُ الْمهْر جلت لَهُ الْأمة فِي الْأَصَح وَلَو وهب لَهُ مَال أَو جَارِيَة لم يلْزمه الْقبُول وحلت لَهُ الْأمة لِكَثْرَة الْمِنَّة فِي ذَلِك وَلَو لم يجد إِلَّا حرَّة لم ترض إِلَّا بِأَكْثَرَ من مهر مثلهَا وَهُوَ قَادر عَلَيْهِ فَقَالَ الْبَغَوِيّ لَا ينْكح الْأمة نَقله الرَّافِعِيّ قلت وَقَالَهُ الْقفال والطبري وَالله أعلم وَنقل الْمُتَوَلِي جَوَازه وَالله أعلم وَقَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ إِن كَانَت زِيَادَة بعد بذلها إسرافاً حلت الْأمة وَإِلَّا فَلَا قَالَ النَّوَوِيّ قطع آخَرُونَ بموافقة الْمُتَوَلِي وَهُوَ الْأَصَح
(فرع) لَو كَانَ للشَّخْص ولد يلْزمه إعفاف أَبِيه وبذل مهر حرَّة لَهُ لَا يحل لَهُ نِكَاح الْأمة وَكَذَا لَو وجد دون مهر الْمثل فَقَط وَوجد حرَّة ترْضى بِهِ لم تحل لَهُ الْأمة فِي الْأَصَح وَالله أعلم وَأما الْعَنَت فِي الأَصْل فَهُوَ الْمَشَقَّة والهلاك وَالْمرَاد بِهِ هُنَا الزِّنَا لِأَنَّهُ سَبَب مشقة الْجلد أَو الرَّجْم الَّذِي فِيهِ هَلَاكه وَلَيْسَ المُرَاد بخوف الزِّنَا أَن يغلب على ظَنّه الْوُقُوع فِيهِ بل المُرَاد أَن يتوقعه لَا على وَجه الندور وَلَيْسَ غير الْخَائِف من علم أَنه يتَجَنَّب الزِّنَا وَلَكِن غَلَبَة الظَّن بالتقوى والإجتناب يُنَافِي الْخَوْف فَمن غلبته شَهْوَته ورق تقواه فَهُوَ خَائِف وَمن ضعفت شَهْوَته وَهُوَ يستشبع الزِّنَا لدين أَو مُرُوءَة أَو حَيَاء فَهُوَ غير خَائِف الْعَنَت وَإِن غلبت شَهْوَته وقوى تقواه فَفِيهِ تردد لإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالأَصَح أَنه لَا يجوز لَهُ نِكَاح الْأمة وَبِه قطع الْغَزالِيّ لِأَنَّهُ لَا يخَاف الْوُقُوع فِي الزِّنَا وخائف الْعَنَت لَو قدر على شِرَاء أمة لم يحل لَهُ نِكَاح الْأمة فِي الْأَصَح وَلَو كَانَ فِي ملكه أمة لم يحل لَهُ نِكَاح الْأمة وَالله أعلم
الشَّرْط الرَّابِع فِي جَوَاز نِكَاح الْأمة أَن لَا تكون تَحْتَهُ حرَّة يُمكنهُ الِاسْتِمْتَاع بهَا فَإِن كَانَ متزوجاً بحرة كَذَلِك فَلَيْسَ لَهُ نِكَاح الْأمة سَوَاء كَانَت زَوجته مسلمة أَو كِتَابِيَّة حرَّة أَو أمة لِأَنَّهُ غير خَائِف الْعَنَت أما لَو كَانَت لَا يُمكنهُ الِاسْتِمْتَاع بهَا لصغرها أَو هرمها أَو غيبتها أَو جنونها أَو جذامها أَو برصها أَو رتق أَو قرن أَو إفضاء بهَا فَفِيهِ خلاف وَالصَّحِيح الْحل لعدم فَائِدَة هَذِه الزوجه إِذا لَا تمنع خوف الْعَنَت(1/348)
الشَّرْط الْخَامِس أَن تكون الْأمة الْمَنْكُوحَة مسلمة لقَوْله تَعَالَى {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}
وَاعْلَم أَن سَبَب منع نِكَاح الْأمة إرقاق الْوَلَد لِأَن الْوَلَد يتبع الْأُم فِي الرّقّ وَالْحريَّة والشارع متشوف إِلَى دفع الرّقّ فَلَو كَانَت الْأمة الْمسلمَة لكافرفهل يجوز أم لَا وَجْهَان
أَحدهمَا لَا يجوز وَيشْتَرط كَون الْأمة لمُسلم لِئَلَّا يملك الْكَافِر الْوَلَد الْمُسلم وَالأَصَح الْجَوَاز لحُصُول الْإِسْلَام فِي الْأمة الْمَنْكُوحَة وَالله أعلم
(فرع) للْحرّ الْمُسلم أَن يطَأ أمته الْكِتَابِيَّة دون الْمَجُوسِيَّة والوثنية إعتباراً بِالنِّكَاحِ وَالله أعلم
(فرع) من اجْتمعت فِيهِ الشُّرُوط لَيْسَ لَهُ نِكَاح أمة صَغِيرَة لَا تُوطأ على الْأَصَح لِأَن لَا يَأْمَن الْعَنَت وَمن بَعْضهَا حر كالرقيقة فَلَا ينْكِحهَا حر إِلَّا لوُجُود الشُّرُوط وَلَو قدر على نِكَاح المبعضة فَهَل يُبَاح لَهُ نِكَاح الرقيقة الْمَحْضَة فِيهِ تردد لإِمَام الْحَرَمَيْنِ لِأَن إرقاق بعض الْوَلَد أَهْون من إرقاقه كُله وَإِذا جَاءَ ولد من الْأمة الْمَنْكُوحَة فَالْوَلَد رَقِيق لمَالِكهَا سَوَاء كَانَ الزَّوْج حرا عَرَبيا أَو غَيره وَفِي الْقَدِيم أَن الْعَرَب لَا يجْرِي عَلَيْهِم الرّقّ فيكُن ولد الْعَرَبِيّ على هَذَا حرا وَهل على الزَّوْج قِيمَته كالمغرور أم لَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَن السَّيِّد حِين زَوجهَا عَرَبيا رَضِي فِيهِ قَولَانِ وَالْحَاصِل أَن شُرُوط نِكَاح الْأمة أَرْبَعَة أَن لَا يجد صدَاق حرَّة وَأَن يخَاف الزِّنَا وَأَن لَا يكون تَحْتَهُ حرَّة صَالِحَة للاستمتاع وَأَن تكون الْأمة مسلمة وَالله أعلم
(فرع) نكح الْحر الْأمة بِالشُّرُوطِ ثمَّ أيسر ونكح حرَّة لَا يَنْفَسِخ نِكَاح الْأمة على الصَّحِيح لِأَنَّهُ يغْتَفر فِي الدَّوَام مَالا يغْتَفر فِي الِابْتِدَاء وَالله أعلم
(فرع) نقل الرَّافِعِيّ عَن فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْن لَو أَن الشَّخْص زوج أمته يواجه صدَاق حرَّة فأولادها أرقاء لِأَن شُبْهَة النِّكَاح كَالنِّكَاحِ الصَّحِيح وَالله أعلم قَالَ
(وَنظر الرجل إِلَى الْمَرْأَة على سَبْعَة أضْرب
أَحدهَا نظرة إِلَى أَجْنَبِيَّة لغير حَاجَة فَغير جَائِز)
وَقَالَ صَاحب الْمَنْظُومَة
وَنظر الْفَحْل إِلَى النِّسَاء
على ضروب سَبْعَة فالرائي ... إِن كَانَ قد قيل لأجنبية
فامنع لغير حَاجَة مرضية(1/349)
وَالرجل هُوَ الْبَالِغ من الذُّكُور وَكَذَا الْمَرْأَة هِيَ الْبَالِغَة من الْإِنَاث إِن لم يرد بِالْألف وَاللَّام الْجِنْس ثمَّ إِن النّظر قد لَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة وَقد تَدْعُو إِلَه الْحَاجة
الضَّرْب الأول أَن لَا تمس إِلَيْهِ الْحَاجة فَحِينَئِذٍ يحرم نظر الرجل إِلَى عَورَة الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة مُطلقًا وَكَذَا يحرم إِلَى وَجههَا وكفيها إِن خَافَ فتْنَة فَإِن لم يخف فَفِيهِ خلاف الصَّحِيح التَّحْرِيم قَالَه الاصطخري وَأَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد وَبِه قطع الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَالرُّويَانِيّ وَوَجهه الإِمَام بِاتِّفَاق الْمُسلمين على منع النِّسَاء من الْخُرُوج حاسرات سافرات وَبِأَن النّظر مَظَنَّة الْفِتْنَة وَهُوَ محرك الشَّهْوَة فالأليق بمحاسن الشَّرْع سد الْبَاب والاعراض عَن تفاصيل الْأَحْوَال كَمَا تحرم الْخلْوَة بالأجنبية ويحتج لَهُ بِعُمُوم قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وَهل للمراهق النّظر وَجْهَان أصَحهمَا أَن نظره كنظر الْبَالِغ لظُهُوره فِيهِ على عورات النِّسَاء فعلى هَذَا الْمَعْنى أَنه كَالْبَالِغِ وَيجب على الْمَرْأَة أَن تحتجب عَنهُ كَمَا أَنه أَيْضا يلْزمهَا الاحتجاب من الْمَجْنُون قطعا وَيلْزم الْوَلِيّ أَن يمنعهُ من النّظر كَمَا يلْزمه أَن يمنعهُ من الزِّنَا وَسَائِر الْمُحرمَات وَأما حكم الْمَمْسُوح وَهُوَ الطواشي قَالَ الْأَكْثَرُونَ نظره إِلَى الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة كنظر الرجل إِلَى مَحَارمه وَعَلِيهِ يحمل قَوْله تَعَالَى {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}
وَالثَّانِي أَنه كالفحل مَعَ الْأَجْنَبِيَّة وَلِأَنَّهُ يحل لَهُ نِكَاحهَا قَالَ النَّوَوِيّ الْمُخْتَار فِي تَفْسِير غير أولي الإربة أَنه الْمُغَفَّل فِي عقله الَّذِي لَا يكترث بِالنسَاء أَو لَا يشتهيهن كَذَا قَالَه ابْن عَبَّاس وَغَيره رَضِي الله عَنْهُم وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن من جب ذكره فَقَط أوسلت خصيتاه فَقَط والعنين وَالشَّيْخ الْهَرم حكمهم كَحكم الْفَحْل على مَا قَالَه الْأَكْثَرُونَ وَأما مَمْلُوك الْمَرْأَة وعبدها فَهَل هُوَ كالمحرم فِيهِ خلاف قَالَ الرَّافِعِيّ الْأَصَح نعم قَالَ النَّوَوِيّ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَهُوَ ظَاهر الْكتاب وَالسّنة وَفِيه نظر من جِهَة الْمَعْنى وَالله أعلم
قلت صحّح النَّوَوِيّ فِي نكت الْمُهَذّب أَنه كَالرّجلِ الْأَجْنَبِيّ فَيحرم عَلَيْهِ النّظر وَيجب عَلَيْهَا الاحتجاب مِنْهُ كَذَا صَححهُ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وَهُوَ قوي حسن فلتكن الْفَتْوَى عَلَيْهِ والقائلون بِالْجَوَازِ شرطُوا أَن يكون العَبْد ثِقَة ذكره الْبَغَوِيّ وَكَذَا الْمَرْأَة قَالَه الْهَرَوِيّ وَهُوَ ظَاهر مُتَعَيّن وَتَسْمِيَة بَعضهم لَهُ بِأَنَّهُ محرم لَهَا فِيهِ تساهل وَلِهَذَا لَو لمسها أَو لمسته انْتقض وضوؤهما قطعا وَالْمحرم(1/350)
لَا ينْتَقض وضوؤه وَلَا ينْقض وضوؤها فإطلاق الْمَحْرَمِيَّة مَعَ ذَلِك مَمْنُوع وَالله أعلم وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من نظر الرجل إِلَى الْمَرْأَة هُوَ فِيمَا إِذا كَانَت حرَّة وَأما إِذا كَانَت الْمَرْأَة أمة فَمَاذَا ينظر مِنْهَا فِيهِ أوجه قَالَ الرافع أَصَحهَا فِيمَا ذكره الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيّ يحرم النّظر إِلَى مَا بَين سرتها وركبتها وَفِيمَا سواهُ يكره وَالثَّانِي حرم مَا لَا يَبْدُو حَال الْخدمَة دون غَيره وَالثَّالِث أَنَّهَا كَالْحرَّةِ وَهَذَا غَرِيب لَا يكَاد يُوجد لغير الْغَزالِيّ انْتهى قَالَ النَّوَوِيّ قد صرح العمراني وَغَيره بِأَن الْأمة كَالْحرَّةِ وَهُوَ مُقْتَضى إِطْلَاق الْأَكْثَرين وَهُوَ أرجح دَلِيلا وَالله أعلم
قلت يَنْبَغِي أَن يفصل فَيُقَال إِن كَانَت الْأمة شوهاء فَالْمُتَّجه مَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَإِن كَانَت جميلَة كبعض جواري التّرْك فَالصَّوَاب الْجَزْم بِالتَّحْرِيمِ فَإِن بعض الْجوَار لَهَا حسن تَامّ وَالْبَعْض بِالْعَكْسِ وَالْمعْنَى الْمحرم للنَّظَر الْجمال لِأَنَّهُ مَظَنَّة الافتتان وَالله أعلم وَلَو كَانَت الْحرَّة عجوزاً فألحقها الْغَزالِيّ بالشابة قَالَ لِأَن الشَّهْوَة لَا تنضبط وَهِي مَحل الْوَطْء وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ إِن بلغت مبلغا يُؤمن الافتتان بِالنّظرِ إِلَيْهَا جَازَ النّظر إِلَى وَجههَا وكفيها لقَوْله تَعَالَى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً} الْآيَة
(فرع) مَا حكم الصَّغِيرَة حكى الرَّافِعِيّ فِي النّظر إِلَيْهَا وَجْهَيْن وَقَالَ الْأَصَح الْجَوَاز وَلَا فرق بَين عورتها وَغَيرهَا غير أَنه لَا ينظر إِلَى الْفرج قَالَ النَّوَوِيّ جزم الرَّافِعِيّ بِأَنَّهُ لَا ينظر إِلَى فرج الصَّغِيرَة وَنقل صَاحب الْعدة الِاتِّفَاق على هَذَا وَلَيْسَ كَذَلِك بل قطع القَاضِي حُسَيْن بِجَوَاز النّظر إِلَى فرج الصَّغِيرَة الَّتِي لَا تشْتَهي وَالصَّغِير وَقطع بِهِ فِي الصَّغِير الْمروزِي وَذكر الْمُتَوَلِي فِيهِ وَجْهَيْن وَالصَّحِيح الْجَوَاز لتسامح النَّاس بذلك قَدِيما وحديثاً وَأَن إِبَاحَة ذَلِك تبقى إِلَى بُلُوغه سنّ التَّمْيِيز ومصيره بِحَيْثُ يُمكنهُ ستر عَوْرَته عَن النَّاس وَالله أعلم
(فرع) مَا حكم نظر الْمَرْأَة إِلَى الرجل الْأَجْنَبِيّ فِيهِ أوجه أَصَحهَا عِنْد الرَّافِعِيّ أَنَّهَا تنظر إِلَى جَمِيع بدنه إِلَّا مَا بَين سرته وركبته
الثَّانِي لَا ترى مِنْهُ إِلَّا مَا يرى مِنْهَا قَالَ النَّوَوِيّ وَهَذَا هُوَ الْأَصَح عِنْد جمَاعَة وَقطع بِهِ صَاحب الْمُهَذّب وَغَيره لقَوْله تَعَالَى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((أفعمياوان أَنْتُمَا ألستما تبصرانه)) وَالله أعلم قَالَ(1/351)
(وَالثَّانِي نظره إِلَى زَوجته وَأمته فَيجوز أَن ينظر إِلَى مَا عدا الْفرج مِنْهُمَا)
يجوز للرجل أَن ينظر إِلَى جَمِيع بدن زَوجته لِأَنَّهُ يجوز لَهُ الِاسْتِمْتَاع بهَا نعم فِي النّظر إِلَى فرجهَا وَجه أَنه يحرم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((النّظر إِلَى الْفرج يُورث الطمس)) أَي الْعَمى وَقَالَ فِي الْعدة يُولد الْوَلَد أعمى وَمِنْهُم من قَالَ يُورث الْعَمى للنَّاظِر والْحَدِيث قَالَ ابْن الصّلاح فِيهِ أَن ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ روياه بِإِسْنَاد جيد وَالصَّحِيح أَنه لَا يحرم النّظر إِلَى الْفرج لِأَنَّهُ يجوز الِاسْتِمْتَاع بِهِ بل هُوَ مَحل الِاسْتِمْتَاع الْأَعْظَم فالنظر أولى وَالْخَبَر إِن صَحَّ فَمَحْمُول على الْكَرَاهَة وَالنَّظَر إِلَى بَاطِن الْفرج أَشد كَرَاهَة وَلِهَذَا يكره للْإنْسَان أَن ينظر إِلَى فرجه لغير حَاجَة وَنظر السَّيِّد إِلَى أمته الَّتِي يجوز لَهُ الِاسْتِمْتَاع بهَا كنظر الزَّوْج إِلَى زَوجته سَوَاء كَانَت قنة أَو مُدبرَة أَو مُسْتَوْلدَة أَو عرض مَانع قريب الزَّوَال كالحيض وَالرَّهْن وَإِن كَانَت مُزَوّجَة أَو مُكَاتبَة أَو مُشْتَركَة بَينه وَبَين غَيره أَو مَجُوسِيَّة أَو وثنية أَو مرتدة حرم نظره إِلَى مَا بَين سرتها وركبتها وَلَا يحرم مَا زَاد على الصَّحِيح
وَاعْلَم أَن نظر الزَّوْجَة إِلَى زَوجهَا كنظره إِلَيْهَا وَقيل يجوز نظرها إِلَى فرجه قطعا وَنظر الْأمة إِلَى سَيِّدهَا كنظره إِلَيْهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَالثَّالِث نظره إِلَى ذَوَات مَحَارمه أَو أمته الْمُزَوجَة فَيجوز أَن ينظر فِيمَا عدا مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة)
الرجل لَا ينظر من محرمه مَا بَين سرتها وركبتها قطعا لِأَنَّهُ عَورَة وَهل لَهُ النّظر إِلَى غير ذَلِك من بدنهَا الْمَذْهَب نعم لقَوْله تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لبعولتهن أَو آبائهن} الْآيَة وَلِأَن الْمَحْرَمِيَّة معنى يُوجب حُرْمَة المناكحة فيكونان كالرجلين أَلا ترى أَنه لَا ينْتَقض وضوؤه بلمسها فِي الْأَظْهر وَسَوَاء فِي ذَلِك الْمحرم بِنسَب أَو مصاهرة أَو رضَاع على الصَّحِيح وَقيل لَا ينظر من مَحَارمه إِلَّا مَا يَبْدُو عِنْد المهنة وَهِي الْخدمَة وَهل الثدي مِمَّا يَبْدُو عِنْد المهنة فِيهِ وَجْهَان وكما يجوز للْمحرمِ النّظر يجوز لَهُ الْخلْوَة بمحرمه والمسافرة بهَا وَحكم الْأمة قد مر وَالله أعلم
(فرع) الأول نظر الرجل إِلَى الرجل جَائِز فِي جَمِيع الْبدن إِلَّا مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة عِنْد أَمن الْفِتْنَة فَإِن خشى الافتتان بِهِ حرم وَكَذَا يحرم النّظر إِلَى الْمَحَارِم بِشَهْوَة بِلَا خلاف وَكَذَا يحرم النّظر إِلَى الْأَمْرَد بِشَهْوَة بِلَا خلاف وَهُوَ أولى بِالتَّحْرِيمِ من النّظر إِلَى النِّسَاء وَهَذَا لَو لم يكن بِشَهْوَة وَلم(1/352)
يخف من النّظر فتْنَة قَالَ الرَّافِعِيّ لَا يحرم فَإِن لم تكن شَهْوَة وَخَافَ الْفِتْنَة حرم على الصَّحِيح وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين قَالَ النَّوَوِيّ فِي غير مَوضِع من شرح الْمُهَذّب الصَّحِيح تَحْرِيم النّظر إِلَى الْأَمْرَد مُطلقًا وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَمعنى مُطلقًا أَي سَوَاء كَانَ بِشَهْوَة أَو بِغَيْر شَهْوَة نعم شَرط فِي الرياض أَن يكون حسنا وَالله أعلم
قلت الْحسن أَمر نسبي يخْتَلف باخْتلَاف الطباع وَلَا شكّ أَن الْأَمْرَد مَظَنَّة الْفِتْنَة كَمَا أَن الْمَرْأَة كَذَلِك وَإِذا كَانَت الْحِكْمَة غير منضبطة فالقاعدة إلغاؤها وإناطة الحكم بِمَا يَنْضَبِط أَلا ترى أَن الْمَشَقَّة فِي السّفر هِيَ الْحِكْمَة فِي جَوَاز الْقصر فَلَمَّا لم تكن منضبطة ألغيناها وأنطنا الحكم بالمظنة وَهُوَ السّفر فَكَذَلِك هَهُنَا فَالْوَجْه الْمَنْع مُطلقًا وَكَذَا أطلقهُ غير وَاحِد من الْأَصْحَاب بل نَص الشَّافِعِي إِطْلَاقه وَالله أعلم
الْفَرْع الثَّانِي إِن نظر الْمَرْأَة إِلَى الْمَرْأَة كنظر الرجل إِلَى الرجل وَهَذَا فِي نظر الْمسلمَة إِلَى الْمسلمَة وَأما نظر الذِّمِّيَّة إِلَى الْمسلمَة فَفِيهِ خلاف قَالَ الْغَزالِيّ الْأَصَح أَنَّهَا كالمسلمة وَقَالَ الْبَغَوِيّ الصَّحِيح الْمَنْع فعلى هَذَا لَا تدخل مَعَ المسلمات إِلَى الْحمام وَمَا الَّذِي ترى من الْمسلمَة قيل ترى مَا يرى الرجل وَقيل مَا يَبْدُو عِنْد المهنة قَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا أشبه قَالَ النَّوَوِيّ الصَّحِيح مَا صَححهُ الْبَغَوِيّ وَسَائِر الكافرات كالذمية فِي هَذَا ذكره العمراني وَالله أعلم
قلت وَاحْتج الْبَغَوِيّ لما قَالَه بقوله تَعَالَى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} وَلَيْسَت الكافرات من نسائهن أَي من نسَاء الْمُؤْمِنَات بل قَالَ الإِمَام الْعَلامَة الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام إِن الْمَرْأَة الفاسقة فِي ذَلِك حكمهَا حكم الذِّمِّيَّة فَيجب على وُلَاة الْأُمُور منع الذميات والفاسقات من دُخُول الحمامات مَعَ الْمُحْصنَات من الْمُؤْمِنَات فَإِن تعذر ذَلِك لقلَّة مبالاة وُلَاة الْأُمُور بإنكار ذَلِك فلتحترز المؤمنة الْحرَّة عَن الْكَافِرَة والفاسقة
الْفَرْع الثَّالِث أَنه كل مَا لَا يجوز النّظر إِلَيْهِ مُتَّصِلا كالذكر وساعد الجرة وَشعر رَأسهَا وقلامة ظفر رجلهَا وَشعر عانة الرجل وَمَا أشبه ذَلِك فَيحرم النّظر إِلَيْهِ بعد الِانْفِصَال على الصَّحِيح فَيَنْبَغِي لمن حلق عانته وَكَذَا الْمَرْأَة الْحرَّة إِن مشطت رَأسهَا أَن يواريا ذَلِك
وَاعْلَم أَنه حَيْثُ حرم النّظر حرم الْمس بطرِيق الأولى لِأَنَّهُ أبلغ لَذَّة فَيحرم على الرجل مس فَخذ الرجل بِلَا حَائِل فَإِن كَانَ من فَوق حَائِل وَخَافَ فتْنَة حرم أَيْضا وَقد يحرم الْمس وَإِن لم يحرم النّظر فَيحرم مس الْمَحَارِم حَتَّى يحرم على الشَّخْص مس بطن أمه وظهرها وَكَذَلِكَ يحرم عَلَيْهِ أَن يكبس سَاقهَا ورجلها وَكَذَا يحرم تَقْبِيل وَجههَا قَالَه الْقفال وَكَذَا لَا يجوز للرجل أَن يَأْمر ابْنَته أَو أُخْته أَن تكبس رجله وَلِهَذَا قَالَ القَاضِي حُسَيْن الْعَجَائِز اللَّاتِي يكحلن الرِّجَال يَوْم عَاشُورَاء مرتكبات الْحَرَام وَالله أعلم(1/353)
الْفَرْع الرَّابِع يحرم على الرجل أَن يضاجع الرجل وَكَذَا يحرم على الْمَرْأَة أَن تضاجع الْمَرْأَة فِي فرَاش وَاحِد وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي جَانب الْفراش كَذَا أطلقهُ الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك فِي الرَّوْضَة وَقيد النَّوَوِيّ التَّحْرِيم فِي شرح مُسلم بِمَا إِذا كَانَا عاريين وَهَذَا الْقَيْد صرح بِهِ القَاضِي حُسَيْن والهروي وَغَيرهمَا وَقد ورد فِي بعض الرِّوَايَات ذَلِك وَإِذا بلغ الصَّبِي والصبية عشر سِنِين وَجب التَّفْرِيق بَينه وَبَين امهِ وَأَبِيهِ وَأُخْته وأخيه فِي المضجع للنصوص الْوَارِدَة فِي ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَالرَّابِع النّظر لأجل النِّكَاح فَيجوز إِلَى الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ)
تقدم أَن النّظر قد لَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة وَقد تمس الْحَاجة إِلَيْهِ وَقد مضى الضَّرْب الأول الضَّرْب الثَّانِي مَا تمس الْحَاجة إِلَيْهِ وَالْحَاجة أُمُور مِنْهَا قصد النِّكَاح فَإِذا أَرَادَ الرجل أَن يتَزَوَّج امْرَأَة وَرغب فِي نِكَاحهَا فَلَا شكّ فِي جَوَاز النّظر إِلَيْهَا وَهل يسْتَحبّ لِئَلَّا ينْدَم لِأَن النِّكَاح يُرَاد بِهِ الدَّوَام أَو يُبَاح الصَّحِيح أَنه يسْتَحبّ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للْمُغِيرَة بن شُعْبَة انْظُر فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يُؤْدم بَيْنكُمَا وَغَيره من الْأَخْبَار وَيجوز تَكْرِير النّظر ليتبين لَهُ وَسَوَاء نظر بِإِذْنِهَا أَو بِغَيْر إِذْنهَا فَإِن لم يَتَيَسَّر لَهُ بعث امْرَأَة تتأملها وتصفها لَهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بعث أم سليم إِلَى امْرَأَة وَقَالَ انظري إِلَى عرقوبها وشمي معاطفها وَالْمَرْأَة أَيْضا إِذا رغبت فِي نِكَاح رجل تنظر إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يعجبها مِنْهُ مَا يُعجبهُ مِنْهَا قَالَه عمر رَضِي الله عَنهُ ثمَّ المنظور إِلَيْهِ الْوَجْه والكفان ظهرا وبطناً وَلَا ينظر إِلَى غير ذَلِك وَفِي وَجه ينظر إِلَيْهَا كنظر الرجل إِلَى الرجل وَهَذَا المنظر مُبَاح وَإِن خافا فتْنَة لغَرَض التَّزْوِيج وَوقت النّظر بعد الْعَزْم على نِكَاحهَا وَقبل الْخطْبَة لِئَلَّا يَتْرُكهَا بعد الْخطْبَة فيؤذيها هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل ينظر حِين يَأْذَن فِي عقد نِكَاحهَا وَقيل عِنْد ركون كل وَاحِد إِلَى صَاحبه وَإِذا نظر وَلم تعجبه فليسكت وَلَا يَقُول إِنِّي لَا أريدها لِأَنَّهُ إِيذَاء وَالله أعلم قَالَ
(وَالْخَامِس النّظر للمداواة فَيجوز إِلَى الْمَوَاضِع الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا)
من مَوَاضِع الْحَاجة النّظر إِلَى الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة لاحتياجها إِلَى الْقَصْد والحجامة ومعالجة الْعلَّة لِأَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا اسْتَأْذَنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحجامَة فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا طيبَة أَن(1/354)
يحجمها وَليكن ذَلِك بِحَضْرَة محرم أَو زوج خشيَة الْخلْوَة بِشَرْط أَن لَا تكون هُنَاكَ امْرَأَة تعالجها وَكَذَلِكَ يشْتَرط فِي معالجة الْمَرْأَة الرجل أَن لَا يكون هُنَاكَ رجل قَالَه الزبيرِي وَالرُّويَانِيّ قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ الْأَصَح وَبِه قطع القَاضِي حُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ قَالَا وَالْأولَى أَن لَا يكون ذِمِّيا مَعَ وجود مُسلم
وَاعْلَم أَن أصل الْحَاجة كَاف فِي النّظر إِلَى الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ وَفِي النّظر إِلَى بَقِيَّة الْأَعْضَاء يعْتَبر تَأَكد الْحَاجة وَفِي النّظر إِلَى السوءتين يعْتَبر مزِيد تَأَكد الْحَاجة قَالَ الْغَزالِيّ وَذَلِكَ بِأَن تكون الْحَاجة بِحَيْثُ لَا يعد التكشف بِسَبَبِهَا هتكاً للمروءة وتعذراً فِي الْعَادة وَالله أعلم قَالَ
(وَالسَّادِس النّظر للشَّهَادَة والمعاملة فَيجوز إِلَى الْوَجْه خَاصَّة)
من مَوَاضِع الْحَاجة جَوَاز النّظر إِلَى ثدي الْمَرْأَة الْمُرضعَة لأجل الشَّهَادَة على الرَّضَاع وَكَذَا النّظر إِلَى فرجهَا لأجل الشَّهَادَة على الْولادَة وَكَذَا النّظر إِلَى فرج الزَّانِيَيْنِ لأجل الشَّهَادَة عَلَيْهِمَا لِأَن الْحَاجة تَدْعُو إِلَى ذَلِك وَقيل لَا يجوز كل ذَلِك لِأَن الزِّنَا مَنْدُوب إِلَى ستره والولادة وَالرّضَاع بِشَهَادَة النِّسَاء مَقْبُولَة فيهمَا وَالصَّحِيح الأول لِأَنَّهُ بِالزِّنَا هتك حُرْمَة الشَّرْع فَجَاز أَن تهتك حرمته وَأما الرَّضَاع والولادة فَفِي الْجَواب عَنْهُمَا وَقْفَة وكما يجوز النّظر لهَذِهِ الْأُمُور كَذَا يجوز النّظر لأجل الْمُعَامَلَة لِأَن الْحَاجة قد تَدْعُو إِلَى ذَلِك وَتَقْيِيد الشَّيْخ بِالْوَجْهِ فَقَط لِأَن الْحَاجة بِهِ تنْدَفع وَالْبَاقِي مَمْنُوع مِنْهُ فَبَقيَ على أَصله وَالله أعلم قَالَ
(وَالسَّابِع النّظر إِلَى الْأمة عِنْد ابتياعها فَيجوز إِلَى الْموضع الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي تقليبها)
من مَوَاضِع الْحَاجة النّظر لأجل الشِّرَاء وَقد ذَكرْنَاهُ فِي البيع فَرَاجعه وَالله أعلم قَالَ
بَاب شُرُوط عقد النِّكَاح فصل وَلَا يَصح عقد النِّكَاح إِلَّا بولِي ذكر وشاهدي عدل ويفتقر الْوَلِيّ والشاهدان إِلَى سِتَّة شُرُوط
الْوَلِيّ أحد أَرْكَان النِّكَاح فَلَا يَصح إِلَّا بولِي لقَوْله تَعَالَى {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} نزلت فِي معقل بن يسَار حِين حلف أَن لَا يُزَوّج أُخْته من مُطلقهَا فَلَو كَانَ للْمَرْأَة أَن(1/355)
تعقد لما نهي عَن عضلها وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل وَمَا كَانَ من نِكَاح غير ذَلِك فَهُوَ بَاطِل)) وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ((لَا تزوج الْمَرْأَة الْمَرْأَة وَلَا تزوج نَفسهَا)) وَكُنَّا نقُول ((الَّتِي تزوج نَفسهَا هِيَ الزَّانِيَة)) وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ((أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل ثَلَاث مَرَّات)) وَقَالَ ابْن معِين إِنَّه أصح مَا فِي الْبَاب وَقَوله ذكر احْتَرز بِهِ عَن الْخُنْثَى وَالْمَرْأَة فَلَا تصح عبارَة الْمَرْأَة فِي النِّكَاح إِيجَابا وقبولاً فَلَا تزوج نَفسهَا بِإِذن الْوَلِيّ وَلَا بِغَيْر إِذْنه وَلَا غَيرهَا لَا بِولَايَة وَلَا بوكالة للْأَخْبَار ثمَّ شَرط الْوَلِيّ والشاهدين مَا ذكره وَالله أعلم
(فرع) روى يُونُس بن عبد الْأَعْلَى أَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِذا كَانَ فِي الرّفْقَة امْرَأَة لَا ولي لَهَا فَوَلَّتْ أمرهَا رجلا حَتَّى زَوجهَا جَازَ لِأَن هَذَا من قبيل التَّحْكِيم والمحكم يقوم مقَام الْحَاكِم قَالَ النَّوَوِيّ ذكر الْمَاوَرْدِيّ فِيمَا إِذا كَانَت امْرَأَة فِي مَوضِع لَيْسَ فِيهِ ولي وَلَا حَاكم ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا لَا تزوج
الثَّانِي تزوج نَفسهَا للضَّرُورَة
وَالثَّالِث تولي أمرهَا رجلا يُزَوّجهَا وَحكى الشَّاشِي أَن صَاحب الْمُهَذّب كَانَ يَقُول فِي هَذَا تحكم فَقِيها مُجْتَهدا وَهَذَا الَّذِي ذكره فِي التَّحْكِيم صَحِيح بِنَاء على الْأَظْهر فِي جَوَازه فِي النِّكَاح وَلَكِن شَرط الْمُحكم أَن يكون صَالحا للْقَضَاء وَهَذَا يعسر فِي مثل هَذِه الْحَال وَالَّذِي نختاره صِحَة النِّكَاح إِذا ولت أمرهَا عدلا وَإِن لم يكن مُجْتَهدا وَهُوَ ظَاهر نَصه الَّذِي نَقله يُونُس وَهُوَ ثِقَة وَالله أعلم قَالَ
(الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَالْعَدَالَة إِلَّا أَنه لَا يفْتَقر نِكَاح الذِّمِّيَّة إِلَى إِسْلَام الْوَلِيّ وَلَا نِكَاح الْأمة إِلَى عَدَالَة السَّيِّد)
لَا يجوز أَن يكون ولي الْمسلمَة كَافِرًا قَالَ الله تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض}(1/356)
فالكافر لَيْسَ بناصر لَهَا لاخْتِلَاف الدّين فَلَا يكون وليا وَكَذَا أَيْضا لَا يجوز لمُسلم أَن يكون وليا لكافرة لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فَقطع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَالَاة بَين الْمُؤمنِينَ والكافرين وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَيُؤْخَذ من الْآيَة ولَايَة الْكَافِر للكافرة كَمَا ذكره الشَّيْخ فِي قَوْله إِلَّا أَنه لَا يفْتَقر نِكَاح الذِّمِّيَّة إِلَى إِسْلَام الْوَلِيّ وَهُوَ كَذَلِك على الصَّحِيح وَلَا بُد أَن يكون عدلا فِي دين فَلَو كَانَ يرتكب الْمُحرمَات قَالَ الرَّافِعِيّ فتزويجه إِيَّاهَا كتزويج الْمُسلم الْفَاسِق ابْنَته وَقَالَ الْحَلِيمِيّ إِن الْكَافِر لَا يَلِي التَّزْوِيج وَإِن الْمُسلم إِذا أَرَادَ أَن يتَزَوَّج بذمية زَوْجَة القَاضِي وَالصَّحِيح أَن الْكَافِر يَلِي لِلْآيَةِ ثمَّ شَرط هَذَا أَن لَا يكون الْوَلِيّ قَاضِيا فَإِن كَانَ ولي الذِّمِّيَّة قَاضِيا فَلَا يجوز للْمُسلمِ أَن يقبل نِكَاحهَا من قاضيهم على الْمَذْهَب
وَاعْلَم أَنه يسْتَثْنى من قَوْلنَا إِن الْمُسلم لَا يَلِي الْكَافِرَة السُّلْطَان فَإِنَّهُ يُزَوّج نسَاء أهل الذِّمَّة إِذا لم يكن لَهُنَّ ولي نسيب ويتولى السُّلْطَان أَمرهم بِالْولَايَةِ الْعَامَّة وَقَوله وَالْبُلُوغ وَالْعقل احْتَرز بِهِ عَن الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَلَا يجوز أَن يكون الصَّبِي وَالْمَجْنُون وليين لِأَنَّهُ مولى عَلَيْهِمَا لاختلال نظرهما فِي مصلحتهما فَكيف يكونَانِ وليين لغَيْرِهِمَا ثمَّ هَذَا فِي الْجُنُون المطبق أما المتقطع فَفِيهِ خلاف وَالصَّحِيح أَيْضا أَنه كالمطبق فعلى هَذَا تنْتَقل الْولَايَة إِلَى الْأَبْعَد لَا إِلَى القَاضِي ويزوج يَوْم جُنُونه دون يَوْم إِفَاقَته
اعْلَم أَن اختلال الْعقل لهرم أَو خبل أَو عَارض يمْنَع الْولَايَة أَيْضا وينقلها إِلَى الْأَبْعَد وَكَذَا الْحجر بالسفه على الْمَذْهَب لاختلال نظره فِي حق نَفسه فَغَيره أولى وَلِهَذَا ولي عَلَيْهِ فَأشبه الصَّبِي وَفِي معنى ذَلِك كَثْرَة الأسقام والآلام الشاغلة عَن معرفَة مَوَاضِع النّظر والمصلحة فتنتقل الْولَايَة إِلَى الْأَبْعَد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَتَبعهُ عَلَيْهِ الْأَصْحَاب رَضِي الله عَنْهُم وَأما الْإِغْمَاء فَإِن كَانَ لَا يَدُوم غَالِبا فَهُوَ كالنوم ينْتَظر إِفَاقَته وَإِن كَانَ يَدُوم يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة فَقيل كالجنون وَالصَّحِيح الْمَنْع فعلى هَذَا قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيره ينْتَظر إِفَاقَته كالنائم وَجزم بِهِ فِي الْمُحَرر وَالله أعلم وَقَوله وَالْحريَّة احْتَرز بِهِ عَن الرّقّ فَلَا يجوز أَن يكون العَبْد وليا لِأَنَّهُ لَا يَلِي على نَفسه فَكيف يُزَوّج غَيره نعم لَو وَكله غَيره فِي قبُول نِكَاح فَإِن كَانَ باذن سَيّده صَحَّ قطعا وَإِن كَانَ بِغَيْر إِذن السَّيِّد جَازَ أَيْضا على الْأَصَح وَهل يجوز أَن يكون وَكيلا فِي جَانب الْإِيجَاب قيل نعم كَمَا يجوز أَن يكون وَكيلا فِي جَانب الْقبُول وَالصَّحِيح عِنْد الْجُمْهُور الْمَنْع وَالْفرق أَن جَانب الْإِيجَاب ولَايَة وَهُوَ غير أهل للولاية وَقَوله والذكورة احْتَرز بِهِ عَن غَيرهَا فَلَا تكون الْمَرْأَة وَالْخُنْثَى وليين للْأَخْبَار(1/357)
السَّابِقَة وَقَوله وَالْعَدَالَة احْتَرز بِهِ عَن غَيرهَا فالفاسق هَل يَلِي تَزْوِيج موليته فِيهِ خلاف منتشرالمذهب أَنه لَا يَلِي كولاية المَال وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((لَا نِكَاح إِلَى بولِي مرشد)) أَي رشيد لِأَن الْفسق يقْدَح فِي الشَّاهِد فَكَذَا فِي الْوَلِيّ كالرق وَيسْتَثْنى من هَذَا السَّيِّد فَإِنَّهُ يُزَوّج أمته وَلَو كَانَ فَاسِقًا لِأَنَّهُ يُزَوّج بِالْملكِ على الْأَصَح لَا بِالْولَايَةِ وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ قَالَ إِن أَكثر الْمُتَأَخِّرين أفتى بِأَن الْفَاسِق يَلِي لَا سِيمَا الخراسانيون وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ قَالَ النَّوَوِيّ وَسُئِلَ الْغَزالِيّ فِي ولَايَة الْفَاسِق فَقَالَ إِنَّه لَو سلبناه الْولَايَة لانتقلت إِلَى حَاكم يرتكب مَا نفسقه بِهِ ولي وَإِلَّا فَلَا قَالَ النَّوَوِيّ وَهَذَا الَّذِي قَالَه حسن فَيَنْبَغِي أَن يكون الْعَمَل بِهِ وَالله أعلم
(فرع) إِذا فرعنا على أَن الْفسق يسلب الْولَايَة فَلَو تَابَ قَالَ الْبَغَوِيّ يُزَوّج فِي الْحَال وَقَالَ الرَّافِعِيّ الْقيَاس الظَّاهِر وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الشَّهَادَات أَنه لَا بُد من استبرائه لعود ولَايَته حَيْثُ يعْتَبر الشَّهَادَة وَالله أعلم
(فرع) يجوز للأعمى أَن يتَزَوَّج بِلَا خلاف وَله أَن يُزَوّج على الْأَصَح وَأما الْأَخْرَس فَإِن كَانَ لَهُ كِتَابَة أَو إِشَارَة مفهمة فَفِيهِ الْخلاف فِي الْأَعْمَى وَإِلَّا فَلَا ولَايَة لَهُ وَالله أعلم وَاعْلَم أَن هَذِه الشُّرُوط كَمَا تعْتَبر فِي الْوَلِيّ كَذَلِك تعْتَبر فِي الشَّاهِدين فَلَا يَصح عقد النِّكَاح إِلَّا بِحَضْرَة شَاهِدين مُسلمين وَإِن كَانَت الزَّوْجَة ذِمِّيَّة مكلفين حُرَّيْنِ ذكرين عَدْلَيْنِ يَعْنِي فِي الظَّاهِر وَيشْتَرط مَعَ ذَلِك أَن يَكُونَا مِمَّن تقبل شَهَادَتهمَا لكل وَاحِد من الزَّوْجَيْنِ وَعَلِيهِ وَأَن يَكُونَا سميعين بصيرين عارفين بِلِسَان الْمُتَعَاقدين متيقظين فَلَا ينْعَقد بِحَضْرَة الْمُغَفَّل الَّذِي لَا يضْبط وَحجَّة ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد وشاهدي عدل)) وَالْمعْنَى فِي ذَلِك الِاحْتِيَاط للأبضاع وصيانة النِّكَاح عَن الْجُحُود ولحفظ الْأَنْسَاب فَلَو عقد بِحَضْرَة الْفَاسِقين كشهود قُضَاة الرشا وشهود قسم الظلمَة وشبههم فَالنِّكَاح بَاطِل كَمَا لَو عقد بِحَضْرَة كَافِرين أَو عَبْدَيْنِ فَيَنْبَغِي أَن يتَنَبَّه لمثل ذَلِك ويتحرى مُرِيد النِّكَاح شُهُودًا عُدُولًا كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيل وَأخْبر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله أعلم
(فرع) يشْتَرط فِي صِحَة عقد النِّكَاح حُضُور أَرْبَعَة ولي وَزوج وشاهدي عدل وَيجوز أَن يُوكل الْوَلِيّ وَالزَّوْج فَلَو وكل الْوَلِيّ وَالزَّوْج أَو أَحدهمَا أَو حضر الْوَلِيّ ووكيله وَعقد الْوَكِيل لم يَصح النِّكَاح لِأَن الْوَكِيل نَائِب الْوَلِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَأولى الْوُلَاة الْأَب ثمَّ الْجد أَبُو الْأَب ثمَّ الْأَخ للْأَب وَالأُم ثمَّ الْأَخ للْأَب ثمَّ ابْن الْأَخ للْأَب وَالأُم ثمَّ ابْن الْأَخ للْأَب ثمَّ الْعم ثمَّ ابْنه على هَذَا التَّرْتِيب)(1/358)
أولى الْوُلَاة الْأَب لِأَن من عداهُ يُدْلِي بِهِ ثمَّ الْجد أَي أَبُو الْأَب وَإِن علا لِأَن لَهُ ولَايَة وعصوبة فَقدم على العاصب فَقَط ثمَّ الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ أَو من الْأَب ثمَّ ابْنه وَإِن سفل لادلائهم بِالْأَبِ ثمَّ الْعم لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب ثمَّ ابْنه وَإِن سفل ثمَّ سَائِر الْعَصَبَات وَالتَّرْتِيب فِي التَّزْوِيج كالترتيب فِي الْإِرْث إِلَّا فِي الْجد فَإِنَّهُ يقدم على الْأَخ هُنَا بِخِلَاف الْإِرْث وَإِلَّا فِي الابْن فَإِنَّهُ لَا يُزَوّج بالبنوة وَإِن قدم فِي الْإِرْث وَوجه عدم ولَايَته فِي النِّكَاح أَنه لَا مُشَاركَة بَينه وَبَين الْأُم فِي النّسَب فَلَا يعتني بِدفع الْعَار عَنهُ فَلَو شَارك الْأُم فِي النّسَب كَابْن هُوَ ابْن ابْن عَمها فَلهُ الْولَايَة بذلك لَا بالبنوة وَكَذَا إِذا كَانَ معتقاً أَو قَاضِيا أَو ولدت قرَابَة من وَطْء الشُّبْهَة بِأَن كَانَ ابْنهَا أخاها أَو ابْن أَخِيهَا أَو ابْن عَمها وَلَا تَمنعهُ الْبُنُوَّة التَّزْوِيج بالجهة الْأُخْرَى وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن عدمت الْعَصَبَات فالمولى الْمُعْتق ثمَّ عصباته)
أَي الرجل ثمَّ عصبَة الْمولى وَهَكَذَا على تَرْتِيب الْإِرْث لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ((الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب)) فَإِن كَانَ الْمُعْتق امْرَأَة فَالْأَصَحّ أَنه يُزَوّجهَا من يُزَوّج الْمُعتقَة لَكِن بِرِضا العتيقة وَلَا يشْتَرط رضَا الْمُعتقَة بِكَسْر التَّاء على الْأَصَح وَأما بعد موت الْمُعتقَة فيزوج من لَهُ الْوَلَاء فَيقدم ابْن الْمُعتقَة وَفِي وَجه تبقى ولَايَة الْأَب وَالله أعلم
(فرع) تزوج عَتيق بحرة الأَصْل فَأَتَت بابنة زَوجهَا بعد الْعَصَبَات الْحَاكِم وَقيل مولى الْأَب وَالله أعلم
(فرع) لَو خلف الْمُعْتق ابْنَيْنِ قَالَ ابْن الْحداد يُزَوّجهَا كل مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد كالنسب وَالله أعلم
(ثمَّ الْحَاكِم)
أَي حَاكم الْموضع الَّذِي هِيَ فِيهِ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ((السُّلْطَان ولي من لَا ولي لَهُ)) فَلَو أَذِنت لحَاكم بلد آخر لم يَصح قَالَه الْغَزالِيّ وَالله أعلم
(فرع) هَذَا التَّرْتِيب الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْأَوْلِيَاء مُعْتَبر فِي صِحَة النِّكَاح فَلَا يُزَوّج أحد وَهُنَاكَ(1/359)
من هُوَ أقرب مِنْهُ لِأَنَّهُ حق مُسْتَحقّ بِالتَّعْصِيبِ فَأشبه الْإِرْث فَلَو زوج أحد مِنْهُم على خلاف التَّرْتِيب الْمَذْكُور لم يَصح النِّكَاح وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز أَن يُصَرح بِخطْبَة مُعْتَدَّة وَيجوز أَن يعرض نِكَاحهَا قبل انْقِضَاء الْعدة)
الْخطْبَة بِكَسْر الْخَاء هِيَ التمَاس النِّكَاح ثمَّ الْمَرْأَة إِن كَانَت خلية عَن النِّكَاح وَالْعدة جَازَت خطبتها تَصْرِيحًا وتعريضاً قطعا وَإِن كَانَت مُزَوّجَة حرما قطعا وَإِن كَانَت مُعْتَدَّة حرم التَّصْرِيح بخطبتها وَأما التَّعْرِيض فَإِن كَانَت رَجْعِيَّة حرم التَّعْرِيض لِأَنَّهَا زَوْجَة وَإِن كَانَت فِي عدَّة الْوَفَاة وَمَا فِي مَعْنَاهَا كالبائن والمفسوخ نِكَاحهَا فَلَا يحرم التَّعْرِيض لقَوْله تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} لِأَن فَاطِمَة بنت قيس طَلقهَا زَوجهَا فَبت طَلاقهَا فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((إِذا حللت فآذنيني)) وَفرق بَين التَّصْرِيح والتعريض بِأَنَّهُ إِذا صرح تحققت الرَّغْبَة فِيهَا فَرُبمَا كذبت فِي انْقِضَاء الْعدة لغَلَبَة الشَّهْوَة أَو غَيرهَا وَفِي التَّعْرِيض لَا يتَحَقَّق ذَلِك وَهَذَا الْفرق يَصح فِيمَا إِذا كَانَت عدتهَا بالاقراء دون الْأَشْهر مَعَ أَن الصَّحِيح أَنه لَا فرق بَين الْعدة بالإقراء أَو بِالْأَشْهرِ ثمَّ أَلْفَاظ التَّصْرِيح مَا كَانَ نصا فِي إِرَادَة التَّزْوِيج نَحْو أُرِيد أَن أنكحك وَإِذا حللت نكحتك والتعريض مَا يحْتَمل الرَّغْبَة وَعدمهَا كَقَوْلِه رب رَاغِب فِيك وَإِذا حللت فآذنيني وَمن يجد مثلك وَنَحْو ذَلِك ثمَّ هَذَا كُله فِيمَا إِذا خطبهَا غير صَاحب الْعدة أما صَاحبهَا الَّذِي يحل لَهُ نِكَاحهَا فِيهَا فَلهُ التَّصْرِيح وبخطبتها وَالله أعلم قَالَ
(وَالنِّسَاء على ضَرْبَيْنِ ثيبات وأبكار فالبكر يجوز للْأَب وَالْجد إجبارها على النِّكَاح وَالثَّيِّب لَا يجوز تَزْوِيجهَا إِلَّا بعد بُلُوغهَا وإذنها)
قد تقدم لَك تَرْتِيب الْأَوْلِيَاء من النّسَب وَغَيره وَلَا شكّ أَن أقوى أَسبَاب الْولَايَة الْأُبُوَّة ثمَّ الجدودة لكَمَال شفقتهما فَلهَذَا كَانَ للْأَب وَالْجد تَزْوِيج الْبكر من كُفْء بِغَيْر إِذْنهَا صَغِيرَة كَانَت أَو كَبِيرَة بِمهْر الْمثل لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا وَالْبكْر تستأمر وإذنها صماتها وَفِي رِوَايَة وإذنها سكُوتهَا والإجبار مَنُوط بالبكارة لَا بالصغر عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة ثمَّ هَذَا إِذا لم يكن بَين الْأَب وَالْجد عَدَاوَة ظَاهِرَة فَإِن كَانَ فَفِي جَوَاز إجبارها وَجْهَان قَالَ ابْن كج(1/360)
وَابْن الْمَرْزُبَان لَيْسَ لَهُ إجبارها وعَلى ذَلِك جرى الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ قَالَ الحناطي وَيحْتَمل الْجَوَاز
قلت جزم الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ بِبَقَائِهِ على ولَايَته وأوردا على أَنفسهمَا بِأَن الْأَب إِذا كَانَ عدوا ووضعها تَحت غير كُفْء وَأجَاب بِأَن خوف الْعَار يرشد إِلَى دفع هَذَا التَّوَهُّم وَالله أعلم وَيسْتَحب أَن تستأذن الْبَالِغَة للْخَبَر وَلَو أقرّ الْأَب أَو الْجد بِالنِّكَاحِ حَيْثُ لَهُ الْإِجْبَار قبل على الْأَصَح لِأَنَّهُ يقدر على الْإِنْشَاء وَمن قدر على الْإِنْشَاء قدر على الاقرار وَفِي وَجه لَا يقبل حَتَّى تشاهده الْبَالِغَة وَلَو استأذنها فِي دون مهر الْمثل فَسَكَتَتْ لم يكف أَو فِي أَن يُزَوّجهَا بِغَيْر كُفْء فَسَكَتَتْ كفى فِي أصح الْوَجْهَيْنِ وَإِن زوج غير الْأَب وَالْجد فَلَا بُد من إِذن الْبكر بعد الْبلُوغ وَيَكْفِي السُّكُوت على الْأَصَح لعُمُوم الْخَبَر ثمَّ حَيْثُ يَكْفِي السُّكُوت فَسَوَاء ضحِكت أَو بَكت إِلَّا أَن تبْكي بصياح أَو ضرب خد فَلَا يَكْفِي وَلَا يكون رضَا وَالله أعلم وَأما الثّيّب أَي الْعَاقِلَة فَلَا يجوز تَزْوِيجهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا بعد الْبلُوغ وإذنها النُّطْق لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثّيّب تستنطق وَلَا استنطاق إِلَّا بعد الْبلُوغ بِالْإِجْمَاع فَإِن كَانَت مَجْنُونَة أَو صَغِيرَة جَازَ للْأَب وَالْجد تَزْوِيجهَا لَا لغَيْرِهِمَا لِأَن الْجُنُون إِذا انْضَمَّ إِلَى الصغر تأكدت الْولَايَة وَلَيْسَ لَهَا حَالَة تستأذن فِيهَا وَلَهُمَا ولَايَة الْإِجْبَار فِي الْجُمْلَة فاقتضت الْمصلحَة تَزْوِيجهَا وَيَكْفِي ظُهُور الْمصلحَة وَإِن لم يكن بهَا حَاجَة إِلَى النِّكَاح لِأَن النِّكَاح يفيدها الْمهْر وَالنَّفقَة هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل لَا تزوج الثّيّب الصَّغِيرَة الْمَجْنُونَة وَلَو كَانَت كَبِيرَة وَقد بلغت مَجْنُونَة جَازَ للْأَب وَالْجد تَزْوِيجهَا وَكَذَا يجوز للْحَاكِم عِنْد عدم الْأَب وَالْجد وَإِن كَانَ لَهَا قريب من أَخ وَغَيره هَذَا هُوَ الصَّحِيح لِأَن ولَايَته عَامَّة وَله ولَايَة على مَالهَا ويرجى شفاؤها وَبِهَذَا فَارَقت الصَّغِيرَة وَقيل يُزَوّجهَا الْقَرِيب كالأخ وَهل يلْزمه مُرَاجعَة أقاربها أَو يسْتَحبّ وَجْهَان ثمَّ الْحَاكِم إِنَّمَا يُزَوّجهَا بِظُهُور الْحَاجة بِأَن تظهر مخايل شهوتها أَو لقَوْل الْأَطِبَّاء إِن شفاءها يتَوَقَّع بِهِ فَيجب حينئذوفال ابْن الصّباغ لَا يُزَوّجهَا الْحَاكِم إِلَّا إِذا فال الْأَطِبَّاء إِن شفاءها فِيهِ فَلَو انْتَفَى ذَلِك فزوج لأجل النَّفَقَة أَو لمصْلحَة أُخْرَى لم يجز فِي الْأَصَح لِأَن تَزْوِيجهَا يَقع إجبارا وَغير للْأَب وَالْجد لَا يجْبر وَقيل يجوز كَمَا يُزَوّج الْأَب للْمصْلحَة أما إِذا بلغت عَاقِلَة ثمَّ جنت فَهَل للْأَب وَالْجد تَزْوِيجهَا إِذْ قُلْنَا لَا تعود ولَايَة المَال إِلَيْهِمَا وَجْهَان أصَحهمَا نعم وَفِي التَّتِمَّة يُزَوّجهَا الْأَب بِلَا خلاف وَالصَّحِيح أَنه تعود ولَايَة من لَهُ الْولَايَة بالجنون وَلَا يَلِي القَاضِي فعلى هَذَا الْأَب وَالْجد يُزَوّج لَا محَالة وَقَول الشَّيْخ وَالثَّيِّب لَا تزوج إِلَّا بعد بُلُوغهَا وإذنها يسْتَثْنى الصغيرى والمجنونة الثّيّب على مَا تقدم وَالله أعلم وَاعْلَم أَن الْبكارَة تَزُول بِوَطْء حَلَال أَو شُبْهَة أَو زنا وَفِي الْقَدِيم أَن الزَّانِيَة حكمهَا حكم الْبكر وَهُوَ ضَعِيف وَلَو حصلت الثيوبة بالسقطة أَو بإصبع أَو خدة الطمث وَهُوَ(1/361)
الْحيض أَو طول التعنيس وَهُوَ بَقَاؤُهَا زَمَانا بعد أَن بلغت حد التَّزْوِيج وَلم تزوج فَالصَّحِيح أَنَّهَا كالأبكار وَلَو وطِئت مُكْرَهَة أَو نَائِمَة أَو مَجْنُونَة فَالْأَصَحّ أَنَّهَا كالثيب فَلَا بُد من نطقها وَقيل كالبكر قَالَ الصَّيْمَرِيّ وَلَو خلقت الْمَرْأَة بِلَا بكارة فَهِيَ بكر وَالله أعلم
(فرع) ادَّعَت الْمَرْأَة الْبكارَة أَو الثيوبة فَقطع الصَّيْمَرِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ بِأَن القَوْل قَوْلهَا وَلَا يكْشف حَالهَا لِأَنَّهَا أعلم قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَا تسْأَل عَن الْوَطْء وَلَا يشْتَرط أَن يكون لَهَا زوج قَالَ الشَّاشِي وَفِي هَذَا نظر لِأَنَّهَا رُبمَا أذهبت بَكَارَتهَا بأصبعها فَلهُ أَن يسْأَلهَا فَإِن اتهمها حَلفهَا قلت طبع النِّسَاء نزاع إِلَى ادِّعَاء نفي مَا يجر إِلَى الْعَار فَيَنْبَغِي مُرَاجعَة القوابل فِي ذَلِك وَإِن كَانَ الأَصْل الْبكارَة لِأَن الزَّمَان قد كثر فَسَاده فَلَا بُد من مُرَاجعَة القوابل وَلَا يَكْفِي السُّكُوت احْتِيَاطًا للأبضاع والأنساب وَالله أعلم
(فرع) فِي أصل الرَّوْضَة أقرَّت لزوج وَأقر وَليهَا المقبول إِقْرَاره لآخر فَهَل المقبول إِقْرَارهَا أَو إِقْرَاره فِيهِ وَجْهَان بِلَا تَرْجِيح وَالله أعلم قلت وَفِي الْكِفَايَة لِابْنِ الرّفْعَة إِذا أقرَّت الْمَرْأَة بِالنِّكَاحِ وصدقها الزَّوْج قبل على الْجَدِيد فعلى هَذَا لَا يَكْفِي الاطلاق على الْأَصَح فَلَا بُد أَن تَقول زَوجنِي وليي بعد لين ورضاي حَيْثُ يعْتَبر وَكَذَا لَو ادّعى الزَّوْج فَهَل يشْتَرط عدم تَكْذِيب الْوَلِيّ وَالشُّهُود لَهَا فِيهِ أوجه أَصَحهَا لَا ثمَّ قَالَ فَإِذا قبلنَا إِقْرَارهَا وَإِن كذبهَا الْوَلِيّ فَلَو أقرَّت لشخص وَأقر الْمُجبر لآخر فَهَل يقبل إِقْرَاره أم إِقْرَارهَا وَجْهَان وَحكى الإِمَام عَن الْأَصْحَاب تردداً فِي قبُول إِقْرَار الْبكر وَمَعَهَا مجبر وَرجح عدم الْقبُول انْتهى مُلَخصا وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْمُحرمَات
والمحرمات بِالنَّصِّ أَربع عشرَة سبع من جِهَة النّسَب وَهن الْأُم وَإِن علت وَالْبِنْت وَإِن سفلت وَالْأُخْت والعمة وَالْخَالَة وَبنت الْأَخ وَبنت الْأُخْت)
اعْلَم أَن أَسبَاب الْحُرْمَة المؤبدة للنِّكَاح ثَلَاث قرَابَة ورضاع ومصاهرة السَّبَب الأول الْقَرَابَة وَيحرم بهَا سبع كَمَا ذكرهن الشَّيْخ لقَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إِلَى قَوْله {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} فَهَؤُلَاءِ مُحرمَات بِالنَّصِّ وَلَا تحرم بَنَات الْأَعْمَام والعمات والأخوال والخالات قربن أم بعدن عكس السابقات قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور وَيحرم نسَاء الْقَرَابَة إِلَّا من دخلت فِي اسْم ولد العمومة أَو ولد الخؤولة وَالله أعلم قَالَ(1/362)
(وَاثْنَتَانِ بِالرّضَاعِ وهما الْمُرضعَة وَالْأُخْت من الرَّضَاع)
هَذَا هُوَ السَّبَب الثَّانِي من الْمحرم وَهُوَ الرضَاعَة لقَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وَاعْلَم أَن كل مَا حرم بِالنّسَبِ حرم بالرضاعة كَمَا ذكره الشَّيْخ بعد لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب وَفِي رِوَايَة مَا يحرم من الْولادَة
وَيسْتَثْنى من ذَلِك صور مِنْهَا أم أَخِيك أَو أختك من الرَّضَاع فَإِنَّهَا قد لَا تحرم كَمَا إِذا أرضعت أَجْنَبِيَّة أَخَاك أَو أختك فَإِنَّهَا لَا تحرم عَلَيْك وَفِي النّسَب تحرم لِأَنَّهَا إِمَّا أمك أَو زَوْجَة أبيَّة وَمِنْهَا أم نافلتك أَي أم ولد ولدك وَهِي فِي النّسَب حرَام لِأَنَّهَا إِمَّا بنتك أَو زَوْجَة ابْنك وَفِي الرَّضَاع قد لَا تكون بِنْتا وَلَا زَوْجَة ابْن بِأَن أرضعت أَجْنَبِيَّة ولد ولدك وَمِنْهَا جدة ولدك حرَام فِي النّسَب لِأَنَّهَا أم أمك أَو أم زَوجتك وَفِي الرَّضَاع قد لَا تكون كَذَلِك بِأَن أرضعت أَجْنَبِيَّة ولدك فَإِن أمهَا جدته وَلَيْسَت بأمك وَلَا بِأم زَوجتك وَمِنْهَا أُخْت ولدك حرَام بِالنّسَبِ لِأَنَّهَا إِمَّا بنتك أَو ربيبتك وَإِذا أرضعت أَجْنَبِيَّة ولدك فبنتها أُخْته وَلَيْسَت بنتك وَلَا ربيبتك
وَاعْلَم أَن أُخْت الْأَخ فِي النّسَب وَالرّضَاع لَا تحرم وَصورته فِي النّسَب أَن يكون لَك أُخْت لأم وَأَخ لأَب فَيجوز لَهُ نِكَاحهَا لِأَنَّهَا لَيست بأخته من أَبِيه وَلَا أُخْته من أمه بل هِيَ من رجل آخر وَأم أُخْرَى فَهِيَ أَجْنَبِيَّة وَصورته من الرَّضَاع أَن امْرَأَة أَرْضَعتك وأرضعت صَغِيرَة أَجْنَبِيَّة مِنْك يجوز لأخيك نِكَاحهَا وَهِي أختك من الرَّضَاع وَقد ذكر الرَّافِعِيّ هَذِه الْمسَائِل الْأَرْبَع فِي كونهن لَا يحرمن من الرَّضَاع ويحرمن من النّسَب وَقد نظمها بَعضهم فَقَالَ
أَربع فِي الرَّضَاع هن حَلَال
وَإِذا مَا ناسبهن حرَام ... جدة ابْن أُخْته ثمَّ أم
لِأَخِيهِ وحاقد وَالسَّلَام
وَقَالَ فِي الرَّوْضَة قلت كَذَا قَالَ جمَاعَة من أَصْحَابنَا تستثنى الْأَرْبَع وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ لَا حَاجَة إِلَى إستثنائها لِأَنَّهَا لَيست دَاخِلَة فِي الضَّابِط لهَذَا لم يستثنها الشَّافِعِي انْتهى وَكَذَا لم يسْتَثْن فِي الحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ (يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب) وَبَيَان كَونهَا لم تدخل فِي الضَّابِط(1/363)
أَن أم الْأَخ فِي النّسَب لم تحرم لكَونهَا أم أَخ بل لكَونهَا أما أَو حَلِيلَة أَب وَلَا كَذَلِك الرَّضَاع وَقس الْبَاقِي وَالله أعلم
وَزَاد ابْن الرّفْعَة أم الْعم وَأم الْعمة وَأم الْخَال وَأم الْخَالَة من الرَّضَاع لَا يحرمن فَلَا تحرم عَلَيْك أم عمك وَلَا أم عَمَّتك وَلَا أم خَالك وَلَا أم خالتك من الرَّضَاع وَالله أعلم قَالَ
(وَأَرْبع بالمصاهرة وَهن أم الزَّوْجَة والربيبة إِذا خلا بِالْأُمِّ وَزَوْجَة الْأَب وَزَوْجَة الابْن)
هَذَا هُوَ السَّبَب الثَّالِث وَهُوَ الْمُصَاهَرَة فَيحرم بهَا على التأييد أَربع إِحْدَاهُنَّ أم امْرَأَتك وَكَذَا جداتها بِمُجَرَّد العقد سَوَاء فِي ذَلِك من النّسَب أَو الرَّضَاع لقَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وَفِي وَجه لَا تحرم إِلَّا بِالدُّخُولِ كالربيبة وَهُوَ ضَعِيف الثَّانِيَة بنت الزَّوْجَة سَوَاء بنت النّسَب أَو الرَّضَاع وَكَذَا بَنَات أَوْلَادهَا بِشَرْط أَن يدْخل بِالْأُمِّ فَإِن بَانَتْ مِنْهُ قبل الدُّخُول بهَا حللن لَهُ وَإِن دخل بهَا حرمن عَلَيْهِ على التَّأْبِيد لقَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَقَول الشَّيْخ إِذا خلا بِالْأُمِّ المُرَاد الْخلْوَة الدُّخُول بهَا لِأَنَّهُ اصْطِلَاح عرفي والربيبة بنت الزَّوْجَة من غَيره وَإِن لم تكن فِي حجره وَذكر الحجور ورد على الْغَالِب
فَإِن قلت لم حرمت أم الزَّوْجَة بِمُجَرَّد العقد بِخِلَاف الْبِنْت فَإِنَّهَا لَا تحرم إِلَّا بِالدُّخُولِ على أمهَا فَالْجَوَاب أَن الزَّوْج يبتلى فِي الْعَادة بمعاملة أم الزَّوْجَة عقب العقد لِأَنَّهَا ترَتّب أَمر بَيتهَا فَحرمت بِمُجَرَّد العقد لتمكن من الْخُلُو بهَا لذَلِك بِخِلَاف الْبِنْت
وَاعْلَم أَنه لَا يحرم على الرجل بنت زوج الْأُم وَلَا أمه وَلَا بنت زوج الْبِنْت وَلَا ابْنَته وَلَا أم زَوْجَة الْأَب وَلَا ابْنَتهَا وَلَا أم زَوْجَة الابْن وَلَا ابْنَتهَا وَلَا زَوْجَة الربيب وَلَا زَوْجَة الراب الثَّالِثَة زَوْجَة الْأَب حرَام وَكَذَا زَوْجَة الأجداد سَوَاء فِي ذَلِك من جِهَة الْأَب أَو الْأُم وَسَوَاء فِي ذَلِك من النّسَب أَو الرَّضَاع لقَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فاسم الْأُبُوَّة صَادِق على الْكل بِاعْتِبَار الْحَقِيقَة وَالْمجَاز أَو بِاعْتِبَار الْحَقِيقَة مُطلقًا وَالله أعلم الرَّابِعَة زَوْجَة الابْن حرَام وَكَذَا بَنو الابْن وَإِن سلفوا سَوَاء فِي ذَلِك النّسَب وَالرّضَاع لقَوْله تَعَالَى {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} وَالْمرَاد أَنه لَا تحرم زَوْجَة الْوَلَد الَّذِي تبناه وَهَذَا التَّحْرِيم بِالْعقدِ وَالله أعلم(1/364)
وَاعْلَم أَن هَذَا التَّحْرِيم مَحَله فِي العقد الصَّحِيح أما بِالنِّكَاحِ الْفَاسِد فَلَا تتَعَلَّق بِهِ حُرْمَة الْمُصَاهَرَة لِأَنَّهُ لَا يُفِيد حل الْمَنْكُوحَة نعم وَطْء الشُّبْهَة يحرم فَإِذا تزوج امْرَأَة وَوَطئهَا أَبوهُ أَو ابْنه بِشُبْهَة انْفَسَخ نِكَاحهَا لِأَنَّهُ معنى يؤبد الْحُرْمَة فَإِذا طَرَأَ أبطل النِّكَاح كالرضاع وَقَول الشَّيْخ يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب قد تقدم وَمَا يسْتَثْنى مِنْهُ وَالله أعلم قَالَ
(وَاحِدَة من جِهَة الْجمع وَهِي أُخْت الزَّوْجَة وَلَا يجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وَلَا بَين الْمَرْأَة وخالتها)
يحرم على الرجل أَن يجمع فِي نِكَاح بَين الْمَرْأَة وَأُخْتهَا سَوَاء فِي ذَلِك الْأخْتَان من الْأَبَوَيْنِ أَو من الْأَب أَو من الْأُم وَسَوَاء فِي ذَلِك الْأُخْت من النّسَب أَو لرضاع لقَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} عطف سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَحْرِيم الْجمع على تَحْرِيم الْمُحرمَات الْمَذْكُورَات فِي أول الْآيَة وَفِي الحَدِيث مَلْعُون من جمع مَاءَهُ فِي رحم الْأُخْتَيْنِ وَكَذَلِكَ يحرم الْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وَبَين الْمَرْأَة وخالتها لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((لَا يجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وَلَا بَين الْمَرْأَة وخالتها)) وَالْمعْنَى فِي منع الْجمع فِيمَا تقدم أَنه يُؤَدِّي إِلَى قطع الرَّحِم وكما يحرم الْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها كَذَلِك يحرم الْجمع بَين الْمَرْأَة وَبنت أَخِيهَا وَبَنَات أَوْلَاد أَخِيهَا وَكَذَلِكَ بَين الْمَرْأَة وَبنت أُخْتهَا وَبَنَات أَوْلَاد أُخْتهَا سَوَاء فِي ذَلِك النّسَب وَالرّضَاع وَضَابِط من يحرم الْجمع بَينهمَا كل امْرَأتَيْنِ لَو قدرت إِحْدَاهمَا ذكر لما حل لَهُ نِكَاح الْأُخْرَى لأجل الْقَرَابَة واحترزنا بِالْقَرَابَةِ عَن الْمَرْأَة وَأم زَوجهَا وَعَن الْمَرْأَة وَابْنَة زَوجهَا فَإِنَّهُ يجوز الْجمع بَينهمَا وَإِن كَانَت إِحْدَاهمَا لَو كَانَت ذكرا لم تحل لِلْأُخْرَى وَالله أعلم
(فرع) ملك أمة فادعت أَنَّهَا أُخْته من الرَّضَاع فَإِن كَانَ ذَلِك قبل أَن يملكهَا لم تحل لَهُ وَإِن ادَّعَتْهُ بعد أَن مكنته من الْوَطْء لم تحرم عَلَيْهِ وَإِن ادَّعَتْهُ بعد الْملك وَقبل الْوَطْء فَوَجْهَانِ جاريان فِيمَا إِذا ادَّعَت أَنَّهَا مَوْطُوءَة أَبِيه وَلَو ادَّعَت إخْوَة نسب لم تحرم عَلَيْهِ لِأَن النّسَب لَا يثبت بِالنسَاء فَلَا يثبت بِهن التَّحْرِيم بِالنّسَبِ بِخِلَاف الرَّضَاع قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَالله أعلم
(فرع) كل امْرَأتَيْنِ يحرم الْجمع بَينهمَا فِي النِّكَاح يحرم الْجمع بَينهمَا فِي الْوَطْء بِملك الْيَمين لَكِن يجوز الْجمع بَينهمَا فِي أصل الْملك وَالله أعلم قَالَ(1/365)
بَاب عُيُوب الْمَرْأَة وَالرجل
(وَترد الْمَرْأَة بِخَمْسَة عُيُوب بالجنون والجذام والبرص والرتق والقرن وَيرد الرجل أَيْضا بِخَمْسَة عُيُوب بالجنون والجذام والبرص والجب والعنة)
لَا شكّ أَن النِّكَاح يُرَاد للدوام ومقصوده الْأَعْظَم الِاسْتِمْتَاع وَهَذِه الْعُيُوب مِنْهَا مَا يمْنَع الْمَقْصُود الْأَعْظَم وَهُوَ الْوَطْء كالجب وَهُوَ قطع الذّكر والعنة فَإِنَّهَا تمنع الْجِمَاع أَو الرتق وَهُوَ انسداد مَحل الْجِمَاع بِاللَّحْمِ وَكَذَا الْقرن لِأَنَّهُ عظم فِي الْفرج يمْنَع الْجِمَاع أَو مَا يشوش النَّفس فَيمْنَع كَمَال الِاسْتِمْتَاع كالجنون والجذام وَهُوَ عِلّة صعبة يحمر مِنْهَا الْعُضْو ثمَّ يسود ثمَّ يَنْقَطِع ويتناثر نسْأَل الله الْكَرِيم الْعَافِيَة والبرص فَيثبت الْخِيَار بِسَبَب ذَلِك لأَنا لَو لم نثبت الْخِيَار فِي الْفَسْخ بذلك لَأَدَّى إِلَى دوَام الضَّرَر وَلَا ضَرَر فِي الْإِسْلَام
وَالْأَصْل فِي ذَلِك مَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تزوج امْرَأَة من غفار فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ رأى بكشحها بَيَاضًا فَقَالَ البسي ثِيَابك والحقي بأهلك وَقَالَ لأَهْلهَا دلستم عَليّ رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ والكشح الْجنب فَثَبت فِي البرص النَّص وَقس الْبَاقِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ فِي الْمَنْع من كَمَال الِاسْتِمْتَاع وَأولى وروى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ ((ايما رجل تزوج امْرَأَة بهَا جُنُون أَو جذام أَو برص فمسها فلهَا صَدَاقهَا وَذَلِكَ لزَوجهَا على وَليهَا)) وَلِأَن النِّكَاح عقد مُعَاوضَة قَابل للرفع فَجَاز رَفعه بِسَبَب الْعُيُوب المؤثرة فِي الْمَقْصُود كَالْبيع وَلَا فرق فِي الْجُنُون بَين المطبق والمتقطع وَسَوَاء كَانَ يقبل العلاج أم لَا وَلَا يلْحق بِهِ الْإِغْمَاء إِلَّا أَن يَزُول الْمَرَض وَيبقى زَوَال الْعقل وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْعُيُوب سَبْعَة ثَلَاثَة يشْتَرك فِيهَا الزَّوْجَانِ وَهِي الْجُنُون والجذام والبرص وَاثْنَانِ يختصان بِالزَّوْجِ وهما الْجب والعنة وَاثْنَانِ يختصان بِالْمَرْأَةِ وهما الرتق والقرن وَيُمكن حُصُول خَمْسَة فِي كل من الزَّوْجَيْنِ كَمَا ذكره الشَّيْخ رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ الرَّافِعِيّ والعبارة للروضة وَمَا سواهَا من الْعُيُوب لَا خِيَار بِهِ على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور فَلَا يثبت الْخِيَار بالصنان والبخر وَإِن لم يقبلا العلاج وَلَا بدوام الاستيحاضة والقروح السائلة وَمَا فِي معنى ذَلِك وَقيل يثبت فِي ذَلِك لحُصُول التنفير ثمَّ إِن الرَّافِعِيّ ذكر فِي بَاب الدِّيات أَن الْمَرْأَة إِن كَانَت لَا تتحمل الْوَطْء إِلَّا بالافضاء لم يجز للزَّوْج وَطْؤُهَا قَالَ الْغَزالِيّ إِن كَانَ سَببه ضيق المنفذ بِحَيْثُ(1/366)
يُخَالف الْعَادة فَلهُ الْخِيَار وَالْمَشْهُور من كَلَام الْأَصْحَاب أَنه لَا يثبت الْخِيَار بِمثل هَذَا ثمَّ قَالَ وَيُشبه أَن يُقَال إِن كَانَت الْمَرْأَة تتحمل وَطْء نحيف مثلهَا فَلَا فسخ وَإِن كَانَ بِسَبَب ضيق المنفذ بِحَيْثُ يحصل بِهِ الافضاء من كل وَطْء فَهَذَا كالرتق وَينزل مَا قَالَه الْأَصْحَاب على الْحَالة الأولى وَمَا قَالَه الْغَزالِيّ على الْحَالة الثَّانِيَة قَالَ الرَّافِعِيّ
وَلَا خِيَار بِكَوْن الزَّوْج أَو الْمَرْأَة عقيماً وَلَا بِكَوْنِهَا مفضاة والافضاء هُوَ رفع الْحَاجة بَين مخرج الْبَوْل ومدخل الذّكر وَالله أعلم قَالَ
بَاب الصَدَاق فصل وَيسْتَحب تَسْمِيَة الْمهْر فِي النِّكَاح فَإِن لم يسم صَحَّ العقد وَوَجَب مهر الْمثل بِثَلَاثَة أَشْيَاء أَن يفرضه الْحَاكِم أَو يفرضه الزَّوْجَانِ أَو يدْخل بهَا فَيجب مهر الْمثل
الصَدَاق بِفَتْح الصَّاد وَكسرهَا هُوَ اسْم لِلْمَالِ الْوَاجِب للْمَرْأَة على الرجل بِالنِّكَاحِ أَو الْوَطْء وَله اسماء صدَاق ونحلة وفريضة وَأجر وَهَذِه فِي الْقُرْآن الْعَزِيز وَمهر وعقيلة وعقر وَهَذِه فِي السّنة الشَّرِيفَة وَالصَّدَاق مَأْخُوذ من الصدْق وَهُوَ الشَّديد الصلب لِأَنَّهُ أَشد الأعواض ثبوتاً فَإِنَّهُ لَا يسْقط بِالتَّرَاضِي وَالْأَصْل فِي الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} والنحلة الْهِبَة وَسمي نحلة لِأَن الْمَرْأَة تستمتع بِالزَّوْجِ كَهُوَ بل هِيَ أَكثر فَكَأَنَّهَا تَأْخُذ الصَدَاق من غير مُقَابلَة شَيْء وَمن السّنة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد)) ثمَّ إِنَّه لم يجده فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((زوجتكما بِمَا مَعَك من الْقُرْآن)) إِذا عرفت هَذَا فالمستحب أَن لَا يعْقد النِّكَاح إِلَّا بِصَدَاق اقْتِدَاء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ لم يعْقد إِلَّا بمسمى وَلِأَنَّهُ أدفَع للخصومة وَمُقْتَضى كَلَام الشَّيْخ أَن الْمهْر لَيْسَ ركنا فِي النِّكَاح وَهُوَ كَذَلِك قَالَ الْأَصْحَاب لَيْسَ الْمهْر ركنا فِي النِّكَاح بِخِلَاف البيع فَإِن ذكر الثّمن ركن فِيهِ وَالْفرق أَن الْمَقْصُود الْأَعْظَم من النِّكَاح الِاسْتِمْتَاع وتوابعه وَهُوَ قَائِم بالزوجين فَلهَذَا لم يكن ركنا فِي النِّكَاح بِخِلَاف البيع فَإِن الْعِوَض مَقْصُود فِيهِ وَيدل على مَا ذَكرْنَاهُ فِي النِّكَاح بِاعْتِبَار جَوَاز اخلائه عَن ذكر الصَدَاق قَوْله تَعَالَى {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَة} وَهُوَ دَلِيل لمسألة التفريض الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ بقوله فَإِن لم يسم صَحَّ العقد وَمعنى التفريض إخلاء النِّكَاح عَن ذكر الصَدَاق وَصورته أَن يصدر من مُسْتَحقّ الْمهْر وَذَلِكَ(1/367)
بِأَن تَقول الْبَالِغَة الرشيدة ثَيِّبًا كَانَت أوبكرا زَوجنِي بِلَا مهر أَو على أَن لَا مهر لي فيزوجها الْوَلِيّ وينفي الْمهْر أَو يسكت وَمن التَّفْوِيض الصَّحِيح أَيْضا أَن يَقُول سيد الْأمة زوجتكها بِلَا مهر أَو يسكت لِأَنَّهُ مُسْتَحقّ الْمهْر فَإِذا وَقع العقد صَحِيحا لم يجب بِهِ مهر على الْجَدِيد الْأَظْهر كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَام الشَّيْخ رَحمَه الله وَوجه عدم ثُبُوته بِالْعقدِ أَنه حَقّهَا فَإِذا رضيت بِعَدَمِ ثُبُوته لم يثبت وَلِأَن الصَدَاق لَو وَجب بِالْعقدِ لتنصف بِالطَّلَاق وعَلى الْأَظْهر هَل يَقُول ملكت بِالْعقدِ أَن تملك مهر الْمثل أَو أَن تملك مهْرا مَا فِيهِ قَولَانِ وَبِالْجُمْلَةِ فلهَا مُطَالبَة الزَّوْج بِفَرْض مهر قبل الْمس وَهُوَ الْوَطْء لِأَن خلو العقد عَن الْمهْر خَاص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولتكن على تثبت مِمَّا تسلم نَفسهَا بِهِ
وَله طرق كَمَا ذكره الشَّيْخ
أَحدهَا أَن يفرضه القَاضِي وَذَلِكَ عَن امْتنَاع الزَّوْج من الْفَرْض أَو عِنْد تنازعهما فِي الْقدر الْمَفْرُوض فيفرض الْحَاكِم مهر الْمثل بِنَقْد الْبَلَد حَالا وَلَا يزِيد على مهر الْمثل وَلَا ينقص كَمَا فِي قيم الْمُتْلفَات نعم الزِّيَادَة وَالنَّقْص اليسيران الْوَاقِع مِنْهُمَا فِي مَحل الِاجْتِهَاد لَا اعْتِبَار بِهِ وَيشْتَرط علم الْحَاكِم بِقدر مهر الْمثل وَإِذا فرض لم يتَوَقَّف لُزُومه على رضَا الْخَصْمَيْنِ لِأَنَّهُ حكم مِنْهُ وَحكم القَاضِي لَا يفْتَقر لُزُومه إِلَى رضَا الْخَصْمَيْنِ
الطَّرِيق الثَّانِي أَن يفرضه الزَّوْجَانِ فَإِن قدرا قدر مهر الْمثل وهما يعلمَانِهِ فَلَا كَلَام وَإِن جهلا قدر مهر الْمثل أَو أَحدهمَا وَقدرا فرضا فَقَوْلَانِ أظهرهمَا عِنْد الْجُمْهُور صِحَة مَا قدراه نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم سَوَاء كَانَ قدر مهر الْمثل أَو دونه أَو فَوْقه وَسَوَاء كَانَ من جنسه أَو من غير جنسه وَسَوَاء كَانَ من نقد أَو عرض وَسَوَاء كَانَ حَالا أَو مُؤَجّلا لِأَن الْفَرْض بِمَنْزِلَة الاصداق وَلَو تَرَاضيا على صدَاق عِنْد العقد كَذَلِك صَحَّ وَلِهَذَا لَو طَلقهَا قبل الدُّخُول يشطر مَا فرضاه لِأَنَّهُ كالمسمى فِي العقد
الطَّرِيق الثَّالِث أَن يدْخل بهَا قبل فرض من الْحَاكِم وَقبل تراضيهما على شَيْء فَيجب لَهَا بِهِ مهر الْمثل لِأَن الْوَطْء بِلَا مهر خَاص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَن الْبضْع فِيهِ حق الله وَلِهَذَا لَا يُبَاح بِالْإِبَاحَةِ فيصان عَن صُورَة الاباحة ثمَّ الْمُعْتَبر مهر مثلهَا وَقت الْوَطْء أم وَقت العقد أم أَكثر مهْرا من يَوْم العقد إِلَى الْوَطْء فِيهِ أوجه اصحهما فِي الْمُحَرر والمنهاج أَن الِاعْتِبَار بِيَوْم العقد وَهَذَا الْوَجْه لم يحكه فِي الرَّوْضَة بِالْكُلِّيَّةِ بل صحّح أَن الْوَاجِب أَكثر مهْرا من يَوْم العقد إِلَى الْوَطْء وَنَقله الرَّافِعِيّ عَن المعتبرين ثمَّ نقل الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْعتْق أَن الْأَكْثَرين على إعتبار يَوْم العقد ذكره عِنْد شِرَائِهِ نصيب الشَّرِيك وَالله أعلم وَلَو مَاتَ أحد الزَّوْجَيْنِ قبل الْفَرْض وَالْوَطْء فَهَل يجب مهر الْمثل أم لَا يجب شَيْء فِيهِ خلاف مَبْنِيّ على حَدِيث بروع بنت واشق فَإِنَّهَا نكحت بِلَا مهر فَمَاتَ زَوجهَا قبل أَن يفْرض لَهَا فقضي لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمهْر نسائها وَالْمِيرَاث فَاخْتلف الْأَصْحَاب فِي ذَلِك على(1/368)
طرق فَقيل إِن ثَبت الحَدِيث وَجب الْمهْر وَإِلَّا فَقَوْلَانِ وَقيل إِن لم يثبت فَلَا مهر وَقيل إِن ثَبت وَجب الْمهْر وَإِلَّا فَلَا يجب وَقيل قَولَانِ مُطلقًا وَهُوَ الْأَصَح وَبِه قطع الْعِرَاقِيُّونَ وَاخْتلفُوا فِي الْأَرْجَح من الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ الرَّافِعِيّ رجح صَاحب التَّقْرِيب وَالْمُتوَلِّيّ الْوُجُوب وَرجح الْعِرَاقِيُّونَ وَالْإِمَام وَالْبَغوِيّ وَالرُّويَانِيّ أَنه لَا يجب وَمُقْتَضَاهُ رُجْحَان الثَّانِي وَهُوَ أَنه لَا يجب وَصرح بِتَصْحِيحِهِ فِي الْمُحَرر وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج الْأَظْهر وُجُوبه وَلَفظ الرَّوْضَة
قلت الرَّاجِح تَرْجِيح الْوُجُوب والْحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح وَالِاعْتِبَار بِمَا قيل فِي إِسْنَاده وَقِيَاسًا على الدُّخُول فَإِن الْمَوْت مُقَرر كالدخول وَلَا وَجه لِلْقَوْلِ الآخر مَعَ صِحَة الحَدِيث وَالله أعلم فَإِن أَوجَبْنَا مهر الْمثل فَهَل الِاعْتِبَار بِيَوْم العقد أم بِيَوْم الْمَوْت أم بأكثرهما فِيهِ أوجه لَيْسَ فِي الرَّافِعِيّ وَلَا فِي الرَّوْضَة تَرْجِيح وَالله أعلم وَلَو طَلقهَا قبل الدُّخُول وَالْفَرْض وَجَبت لَهَا الْمُتْعَة وَلَا تشطير تَفْرِيعا على الْأَظْهر أَنه لَا يجب بِالْعقدِ شَيْء فينحط الْأَمر إِلَى الْمُتْعَة لمَفْهُوم قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَخص سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التشطير بالمفروض
وَاعْلَم أَن مهر الْمثل هُوَ الْقدر الَّذِي يرغب بِهِ فِي أَمْثَال الْمَرْأَة وَلَكِن الرُّكْن الْأَعْظَم النّسَب فيراعى أقرب من ينْسب إِلَى من تنتسب إِلَيْهِ هَذِه الْمَرْأَة كالأخت ويرعى فِي نسَاء الْعَصَبَات قرب الدرجَة وَإِن متن وأقربهن الْأُخْت لِلْأَبَوَيْنِ ثمَّ لأَب ثمَّ بَنَات الْأُخوة لِلْأَبَوَيْنِ ثمَّ لأَب ثمَّ العمات كَذَلِك ثمَّ بَنَات الْأَعْمَام فَإِن تعذر نسَاء الْعَصَبَات اعْتبر بذوات الْأَرْحَام كالجدات والخالات وَيقدم الْقُرْبَى فالقربى من الْجِهَات وَكَذَا تقدم الْقُرْبَى فالقربى من الْجِهَة الْوَاحِدَة وَقد يتَعَذَّر ذَلِك إِمَّا بفقدهن أَو لِأَنَّهَا لم ينكحن أَو للْجَهْل بِمِقْدَار مهورهن وَحِينَئِذٍ فالاعتبار بِمِثْلِهَا من الأجنبيات وَتعْتَبر الْعَرَبيَّة بعربية مثلهَا وَالْأمة بِأمة مثلهَا وَينظر إِلَى شرف سَيِّدهَا وَعَدَمه وَيعْتَبر مهر الْمُعتقَة بمعتقة مثلهَا وَيعْتَبر مَعَ مَا ذكرنَا نسَاء الْبَلَد فَإِن كَانَ نسَاء عصباتها ببلدتين هِيَ فِي إِحْدَاهمَا اعْتبر بعصبات بَلَدهَا فَإِن كن كُلهنَّ ببلدة أُخْرَى فالاعتبار بِهن لَا بأجنبيات بَلَدهَا
قلت كَذَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَهُوَ غير خَال عَن الأشكال وبالمثال بِظهْر الاشكال مِثَاله امْرَأَة فِي قَرْيَة من قرى مَدِينَة مثل تِلْكَ الْمَرْأَة فِي قريتها مَعَ ظُهُور الرَّغْبَة أَلفَانِ وَمهر أخواتها فِي الْمَدِينَة مِائَتَان فَكيف تمهر مَعَ الرَّغْبَة بالألفين فَإِن فرض تَسَاوِي البلدين فِي الْمهْر أَو حصل تفَاوت قريب سهل الْأَمر وَإِلَّا فالاشكال قوي فَيَنْبَغِي الْأَخْذ بِهِ وَالله أعلم وَاعْلَم أَنه تعْتَبر(1/369)
الْمُشَاركَة فِي الصِّفَات المرغبة كالعفة وَالْجمال وَالسّن وَالْعقل واليسار والبكارة وَالْعلم والفصاحة وَشرف الْأَبَوَيْنِ وَسَائِر الصِّفَات الَّتِي تخْتَلف بهَا الْأَغْرَاض وَمَتى اخْتصّت بِصفة مرغبة زيد فِي مهرهَا وَإِن كَانَ فِيهَا نقص لَيْسَ فِي النسْوَة الْمُعْتَبرَات نقص فِي الْمهْر بِقدر مَا يَلِيق بِهِ وَلَو سامحت وَاحِدَة لم تلْزم الْمُسَامحَة وَالله أعلم قَالَ
(وَلَيْسَ لأَقل الصَدَاق وَأَكْثَره حد وَيجوز أَنه يَتَزَوَّجهَا على مَنْفَعَة مَعْلُومَة)
لَيْسَ للصداق حد فِي الْقلَّة وَلَا فِي الْكَثْرَة بل كل مَا جَازَ أَن يكون ثمنا من عين أَو مَنْفَعَة جَازَ جعله صَدَاقا وَقَالَ أَبُو ثَوْر يتَقَدَّر بِخَمْسَة دَرَاهِم وَأَبُو حنيفَة بِعشْرَة دَرَاهِم وَهَذَا التَّقْدِير إِن ثَبت فِيهِ سنة وَإِلَّا فَهُوَ تحكم وَفِي السّنة الشَّرِيفَة مَا يدل لما قُلْنَا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ للرجل الَّذِي أَرَادَ التَّزْوِيج التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد وَهُوَ حَدِيث مطول وَفِي آخِره زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن وَفِيه دَلِيل للْمُبَالَغَة فِي الْقلَّة وَجَوَاز جعل الْمَنْفَعَة صَدَاقا وَفِي حَدِيث عَامر بن ربيعَة أَن امْرَأَة من بني فَزَارَة تزوجت على نَعْلَيْنِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرضيت من نَفسك وَمَالك بنعلين قَالَت نعم فَأَجَازَهُ قلت وَفِي الِاسْتِدْلَال على أبي حنيفَة بِهِ وَقْفَة لجَوَاز أَن النَّعْلَيْنِ كَانَا يعدلان عشرَة دَرَاهِم وَأحسن من هَذَا فِي الرَّد قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَدّوا العلائق قيل وَمَا العلائق قَالَ مَا تراضى بِهِ الأهلون وبالقياس فَيُقَال إِنَّه لَا يتَقَدَّر لِأَنَّهُ بدل مَنْفَعَتهَا فَلَا يتَقَدَّر كالأجرة ثمَّ هَذَا فِي الْمَرْأَة الرشيدة وَفِي سيد الْأمة أما الْوَلِيّ إِذا زوج الْمَحْجُور عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ النُّزُول عَن مهر مثلهَا نعم يسْتَحبّ أَن لَا ينقص عَن عشرَة دَرَاهِم لِلْخُرُوجِ من خلاف أبي حنيفَة وَيسْتَحب أَن لَا يُزَاد على صدَاق أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ خَمْسمِائَة دِرْهَم فَإِن قلت فَهَذِهِ أم حَبِيبَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أصدقهَا أَرْبَعمِائَة دِينَار
فَالْجَوَاب أَن هَذَا الْقدر من فعل النَّجَاشِيّ رَضِي الله عَنهُ من مَاله اكراماً لسَيِّد الْأَوَّلين والآخرين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَدَّاهُ وَعقد بِهِ وَفعل ذَلِك النَّجَاشِيّ رَضِي الله عَنهُ جَريا على أَخْلَاق الْمُلُوك اسْتِعْمَالا لحسن الصنيعة وَالله أعلم قَالَ
(وَيسْقط بِالطَّلَاق قبل الدُّخُول نصف الْمهْر)
اعْلَم أَن الْمَرْأَة تملك الصَدَاق بِالْعقدِ الصَّحِيح أَو بِالْفَرْضِ لِأَنَّهُ عقد يملك بِهِ الْعِوَض وَهُوَ(1/370)
الِانْتِفَاع بالبضع وتوابعه فتملك بِهِ الْعِوَض كَالْبيع وَهَذَا إِذا كَانَت التَّسْمِيَة صَحِيحَة وَإِلَّا فتملك مهر الْمثل ثمَّ استقراره يحصل بطريقين
أَحدهمَا الْوَطْء وَإِن كَانَ حَرَامًا كَالْوَطْءِ فِي الْحيض أَو الاحرام لقَوْله تَعَالَى {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وَفسّر الافضاء بِالْجِمَاعِ وَيحصل ذَلِك بوطأة وَاحِدَة
الطَّرِيق الثَّانِي يسْتَقرّ بِمَوْت أحد الزَّوْجَيْنِ وَلَو قبل الدُّخُول لِأَن بِالْمَوْتِ انْتهى العقد فَكَانَ كاستيفاء الْمَعْقُود عَلَيْهِ كالاجارة وَيسْتَثْنى من الْمَوْت مَا إِذا قتل السَّيِّد أمته الْمُزَوجَة فَإِنَّهُ يسْقط مهرهَا على الْمَذْهَب فَلَو لم يحصل وَطْء وَلَا موت وحصلت فرقة قبل الدُّخُول نظر إِن كَانَت الْفرْقَة مِنْهَا بِأَن فسخت النِّكَاح بِعَيْبِهِ أَو أرضعت زَوْجَة لَهُ أُخْرَى صَغِيرَة وَنَحْو ذَلِك أَو فسخ النِّكَاح بعيبها فَيسْقط الْجَمِيع وَإِن كَانَت الْفرْقَة لَا بِسَبَب مِنْهَا وَلَا مِنْهُ تشطر الْمهْر وَذَلِكَ كَمَا إِذا طَلقهَا بِنَفسِهِ أَو فوض الطَّلَاق إِلَيْهَا فَفعلت أَو علق طَلاقهَا بِدُخُولِهَا الدَّار وَنَحْوهَا فَدخلت أَو خَالعهَا وَبِكُل فرقة تحصل لَا بِسَبَب من الْمَرْأَة وَاحْتج للتشطير بقوله تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَوجه ذَلِك من جِهَة الْمَعْنى بشيئين وَكَانَ الْقيَاس سُقُوط جَمِيع الْمهْر لِأَن ارْتِفَاع العقد قبل تَسْلِيم الْمَعْقُود عَلَيْهِ يَقْتَضِي سُقُوط جَمِيع الْعِوَض كَمَا فِي البيع والاجارة
أحد الشَّيْئَيْنِ أَن الزَّوْجَة كالمسلمة إِلَى الزَّوْج نَفسهَا بِنَفس العقد لِأَن التَّصَرُّفَات الَّتِي يملكهَا الزَّوْج تنفذ من وَقت النِّكَاح وَلَا تتَوَقَّف على الْقَبْض فَمن حَيْثُ إِنَّه تنفذ تَصَرُّفَاته اسْتَنْفَذَ بِبَعْض الْعِوَض وَمن حَيْثُ أَنه لَا يتَّصل بِهِ الْمَقْصُود سقط بعضه الشَّيْء الثَّانِي أَنا لَو حكمنَا بِسُقُوط الْمهْر جَمِيعه لاحتجنا إِلَى إِيجَاب شَيْء للمتعة فَكَانَ إبْقَاء شَيْء مِمَّا هُوَ وَاجِب أولى من اثبات مَا لم يجب إِذا عرفت هَذَا فَمَتَى يرجع إِلَيْهِ النّصْف الصَّحِيح أَنه يعود إِلَيْهِ بِنَفس الطَّلَاق لقَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أَي فلكم نصف مَا فرضتم فَهُوَ كَقَوْلِه {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْفِرَاق يثبت لَهُ خِيَار الرُّجُوع فِي النّصْف فَإِن شَاءَ تملكه وَإِن شَاءَ تَركه كالشفعة
وَالثَّالِث لَا يرجع إِلَّا بِقَضَاء القَاضِي فعلى الصَّحِيح لَو حدثت فِي الصَدَاق زِيَادَة بعد الطَّلَاق(1/371)
كَانَ لَهُ نصفهَا سَوَاء كَانَت الزِّيَادَة مُتَّصِلَة أَو مُنْفَصِلَة وَإِن حدث فِي الصَدَاق نقص كَأَن وجد من الزَّوْجَة تعد بِأَن طالبها برد النّصْف فامتنعت مَعَ أرش النَّقْص وَإِن تلف كل الصَدَاق وَالْحَالة هَذِه فعلَيْهَا الضَّمَان وَإِن لم يُوجد مِنْهَا تعد فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا وَهُوَ ظَاهر النَّص وَبِه قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيّ أَنَّهَا تغرم أرش النَّقْص وَإِن تلف غرمت الْبَدَل لِأَنَّهُ مَقْبُوض عَن مُعَاوضَة فَأشبه الْمَبِيع فِي يَد المُشْتَرِي بعد الاقالة وَفِي الْأُم نَص يشْعر بِأَنَّهُ لَا ضَمَان وَبِه قَالَ المراوزة لِأَنَّهُ فِي يَده بِلَا تعد فَأشبه الْوَدِيعَة وَلم يصحح فِي الرَّوْضَة شَيْئا كالشرح الْكَبِير لَكِن رجح الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير الأول فعلى الأول وَهُوَ الْمُصَحح لَو قَالَ الزَّوْج حدث النَّقْص بعد الطَّلَاق فَعَلَيْك الضَّمَان وَقَالَت بل قبله فَلَا ضَمَان عَليّ فَمن الْمُصدق وَجْهَان أصَحهمَا الْمَرْأَة إِذْ الأَصْل بَرَاءَة ذمَّتهَا وَلَو رَجَعَ إِلَيْهِ كل الصَدَاق بنفسخ فَتلف فِي يَدهَا فَهُوَ مَضْمُون عَلَيْهَا كَالْبيع يَنْفَسِخ باقالة أورد بِعَيْب وَالله أعلم
وَقَوله يسْقط نصف الْمهْر يعْنى فِي الدّين فَإِذا أصدقهادينا فِي ذمَّته سقط نصفه بِمُجَرَّد الطَّلَاق على الصَّحِيح وَعند الِاخْتِيَار على الْوَجْه الثَّانِي فَلَو كَانَ أَعْطَاهَا الصَدَاق الَّذِي فِي ذمَّته والمؤدى بَاقٍ فَهَل لَهَا أَن تدفع قدر النّصْف من مَوضِع آخر لِأَن العقد لم يتَعَلَّق بِعَيْنِه أم يتَعَلَّق حَقه فِيهِ لِأَنَّهُ تعين بِالدفع فَأشبه الصَدَاق الْمعِين إبتداء وَجْهَان أصَحهمَا الثَّانِي وَالله أعلم
(فرع) إِذا وهبت الزَّوْجَة الزَّوْج صَدَاقهَا الْمعِين نظر إِن كَانَ بعد أَن قَبضته وَطَلقهَا قبل الدُّخُول فَهَل يرجع عَلَيْهَا قَولَانِ الْأَظْهر عِنْد الْجُمْهُور يرجع بِنصْف بدله إِمَّا الْمثل أَو الْقيمَة وَإِن وهبته إِيَّاه قبل أَن نقبضه فطريقان قيل لَا يرجع قطعا وَالْمذهب طرد الْقَوْلَيْنِ سَوَاء قَبضته أم لَا وَلَو كَانَ الصَدَاق دينا فأبرأته مِنْهُ لم يرجع على الْمَذْهَب كَمَا لَو شهد شَاهِدَانِ بدين وَحكم بِهِ حَاكم ثمَّ أَبْرَأ الْمَحْكُوم لَهُ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ ثمَّ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ عَن الشَّهَادَة فَإِنَّهُمَا لَا يغرمان للمحكوم عَلَيْهِ شَيْئا وَلَو أصدقهَا دينا فقبضته ثمَّ وهبته مِنْهُ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ فِي هِبته الْعين وَقيل يرجع بالشطر قطعا وَالله أعلم
(فرع) خَالع زَوجته قبل الدُّخُول على شَيْء غير الصَدَاق فَلهُ الْمُسَمّى الَّذِي خَالع عَلَيْهِ وَلها نصف الصَدَاق وَإِن خَالعهَا على صَدَاقهَا فقد خَالعهَا على مَاله وعَلى مَالهَا لِأَنَّهُ عَاد إِلَيْهِ نصف الصَدَاق بِالْخلْعِ فَتحصل الْبَيْنُونَة وَتبطل التَّسْمِيَة فِي نصِيبه وَفِي نصِيبهَا قولا تَفْرِيق الصَّفْقَة وَإِن صححنا التَّسْمِيَة فِيهِ وَهُوَ الْأَصَح أَي فِي نصِيبهَا فَللزَّوْج الْخِيَار إِن كَانَ جَاهِلا بالتشطير والتفريق فَإِن فسخ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمهْر الْمثل على الْأَظْهر وَفِي قَول بِبَدَل الْمُسَمّى الْمثل إِن كَانَ مثلِيا أَو الْقيمَة وَإِن أجَاز رَجَعَ عَلَيْهَا بِنصْف مهر الْمثل على الْأَظْهر وعَلى القَوْل الآخر بِمثل نصف الصَدَاق أَو قِيمَته وَالله أعلم قَالَ(1/372)
بَاب الْمُتْعَة فصل فِي الْمُتْعَة وَهِي اسْم لِلْمَالِ الَّذِي يَدْفَعهُ الرجل إِلَى امْرَأَته لمفارقته إِيَّاهَا
الْفرْقَة ضَرْبَان فرقة تحصل بِالْمَوْتِ فَلَا توجب مُتْعَة بالاجماع قَالَه النَّوَوِيّ وَفرْقَة تحصل فِي الْحَيَاة كَالطَّلَاقِ فَإِن كَانَ قبل الدُّخُول نظر إِن لم يتشطر الْمهْر فلهَا الْمُتْعَة وَإِن تشطر فَلَا مُتْعَة لَهَا على الْمَشْهُور وَإِن كَانَ بعد الدُّخُول فلهَا الْمُتْعَة على الْأَظْهر وكل فرقة من الزَّوْج لَا سَبَب فِيهَا أَو من أَجْنَبِي فكالطلاق مثل أَن لَاعن أَو وطئ أَبوهُ أَو ابْنه زَوجته بِشُبْهَة وَنَحْو ذَلِك وَالْخلْع كَالطَّلَاقِ على الصَّحِيح وَلَو علق الطَّلَاق بِفِعْلِهَا فَفعلت أَو لامسها ثمَّ طَلقهَا بعد الْمدَّة بطلبها فكالطلاق على الصَّحِيح وكل فرقة مِنْهَا أَو بِسَبَب لَهَا فِيهَا لَا مُتْعَة فِيهَا كفسخها باعساره أَو غيبته أَو فَسخه بعيبها وَلَو اشْترى زَوجته فَلَا مُتْعَة على الْأَظْهر
وَاعْلَم أَن المعتة يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَالْحر وَالْعَبْد والحرة وَالْأمة وَهِي فِي كسب العَبْد ولسيد الْأمة كالمهر وَيسْتَحب فِي الْمُتْعَة أَن لَا تنقص عَن ثَلَاثِينَ درهما وَأما الْوَاجِب فَإِن تَرَاضيا بِشَيْء فَذَاك وَإِن تنَازعا قدرهَا القَاضِي بِاجْتِهَادِهِ على الصَّحِيح وَيعْتَبر حَالهمَا على الصَّحِيح وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر وَيجوز أَن تزاد الْمُتْعَة على نصف مهرهَا على الصَّحِيح لاطلاق الْآيَة وَفِي قَول يشْتَرط أَن لَا تزاد على النّصْف من صَدَاقهَا وَفِي آخر أَن تنقص عَن النّصْف وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْوَلِيمَة على الْعرس فصل والوليمة على الْعرس مُسْتَحبَّة والإجابة إِلَيْهَا وَاجِبَة إِلَّا من عذر
الْوَلِيمَة طَعَام الْعرس مُشْتَقَّة من الولم وَهُوَ الْجمع لِأَن الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ وَقَالَ الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب الْوَلِيمَة تقع على كل دَعْوَة تتَّخذ لسرور حَادث كَنِكَاح أَو ختان أَو غَيرهمَا وَالْأَشْهر اسْتِعْمَالهَا عِنْد الاطلاق فِي النِّكَاح وتقيد فِي غَيره فَيُقَال لدَعْوَة الْخِتَان أعذارا ولدعوة الْولادَة عقيقة ولسلامة الْمَرْأَة من الطلق خرس لقدوم الْمُسَافِر نقيعة ولأحداث الْبناء وكيرة وَلما يتَّخذ للمصيبة وضيمة وَلما يتَّخذ بِلَا سَبَب مأدبة قَالَ النَّوَوِيّ لم يبين الْأَصْحَاب من يصنع وَلِيمَة القادم من السّفر وَفِيه خلاف لأهل اللُّغَة فَنقل الْأَزْهَرِي عَن الْفراء أَنه القادم وَقَالَ صَاحب الْمُحكم هُوَ طَعَام يصنع للقادم وَهُوَ الْأَظْهر وَالله أعلم قلت ذكر الْحَلِيمِيّ الْمَسْأَلَة وَقَالَ يسْتَحبّ للْمُسَافِر أَن يطعم النَّاس وَنقل فِيهِ آثاراً عَن الصَّحَابَة وَغَيرهم وَجزم بذلك وَهُوَ عكس مَا صَححهُ النَّوَوِيّ وَالله أعلم وَهل وَلِيمَة الْعرس وَاجِبَة أم لَا قَولَانِ(1/373)
أَحدهمَا أَنَّهَا وَاجِبَة لقَوْله لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَقد تزوج أولم وَلَو بِشَاة وَلِأَن عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا تَركهَا حضرا وَلَا سفرا وَالْأَظْهَر وَهُوَ مَا جزم بِهِ الشَّيْخ أَنَّهَا مُسْتَحبَّة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة وَلِأَنَّهَا طَعَام لَا يخْتَص بالمحتاجين فَأشبه الْأُضْحِية وَقِيَاسًا على سَائِر الولائم والْحَدِيث الأول مَحْمُول على تَأَكد الِاسْتِحْبَاب وَقيل إِنَّهَا فرض كِفَايَة إِذا فعلهَا وَاحِد اَوْ اثْنَان فِي نَاحيَة وشاع وَظهر سقط عَن البَاقِينَ وَأما سَائِر الولائم غير وَلِيمَة الْعرس فَالْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور أَنَّهَا مُسْتَحبَّة وَلَا تتأكد تَأَكد وَلِيمَة الْعرس وَفِي قَول إِن سَائِر الولائم وَاجِبَة وَهُوَ قَول مخرج وَأَقل الْوَلِيمَة للقادر شَاة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَو لم على زَيْنَب بنت جحش رَضِي الله عَنْهَا بِشَاة وَبِأَيِّ شَيْء أولم كفى لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أولم على صَفِيَّة رَضِي الله عَنْهَا بسويق وتمر وَأما الْإِجَابَة إِلَى الْوَلِيمَة فَإِن كَانَت وَلِيمَة عرس فَإِن أَوجَبْنَا الْوَلِيمَة وَجَبت وَإِن لم نوجبها وَجَبت الْإِجَابَة على الرَّاجِح وَرجح الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيّ وَغَيرهم للأحاديث الصَّحِيحَة من دعِي إِلَى وَلِيمَة فليأتها وَفِي رِوَايَة من لم يجب الدعْوَة فقد عصى الله وَرَسُوله رَوَاهُ مُسلم وَأما غير وَلِيمَة الْعرس فَالْمَذْهَب أَن الْإِجَابَة إِلَيْهَا مُسْتَحبَّة ثمَّ إِذا أَوجَبْنَا الْإِجَابَة فَهِيَ فرض عين على الرَّاجِح وَقيل فرض كِفَايَة ثمَّ الْإِجَابَة حَيْثُ أوجبناها أَو استحببناها إِنَّمَا تجب أَو تسْتَحب بِشُرُوط وَهِي معنى قَول الشَّيْخ إِلَّا من عذر
أَحدهَا أَن يعم بدعوته جَمِيع عشيرته أَو جِيرَانه أَو أهل جيرته أَو أهل حرفته أغنيائهم وفقرائهم دون مَا إِذا خص الْأَغْنِيَاء قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرّ الطَّعَام طَعَام الْوَلِيمَة يمْنَعهَا من يَأْتِيهَا ويدعى إِلَيْهَا من يأباها(1/374)
الثَّانِي أَن يَخُصُّهُ بالدعوة بِنَفسِهِ أَو يبْعَث إِلَيْهِ شخصا أما إِذا فتح بَاب دَاره وَقَالَ ليحضر من أَرَادَ أَو يبْعَث شخصا ليحضر من أَرَادَ أَو قَالَ لشخص احضر واحضر مَعَك من شِئْت فَلَا تجب الْإِجَابَة وَلَا تسْتَحب
الثَّالِث أَن لَا يكون إِحْضَاره لخوف مِنْهُ لكَونه من الظلمَة أَو أعوانهم أَو كَونه قَاضِي الظلمَة أَو أعوانه وَنَحْو ذَلِك وَأَن لَا يطْمع فِي جاهه أَو ليعاونه على مطلب من بَاطِل بل يكون للتقرب والتودد
الرَّابِع أَن لَا يكون هُنَاكَ من يتَأَذَّى بِهِ لحضوره لِأَنَّهُ لَا يَلِيق بِهِ مُجَالَسَته فَإِن كَانَ فَهُوَ مَعْذُور فِي التَّخَلُّف كَأَن يَدْعُو السفلة وَهُوَ ذُو شرف والسفلة أسقاط النَّاس كالسوقة والجلاوزة وهم رسل الظلمَة وقضاة الرشا والقلندرية وفقراء الزوايا الَّذين يأْتونَ ولائم من دب ودرج من المكسة وَغَيرهم فَإِنَّهُم أرذل الأرذال وَمثل ذَلِك وأشباهه وَهُوَ شَيْء لَا يخفى وَمن ذَلِك طَالب علم يقْصد بِطَلَبِهِ معرفَة الْعلم لأجل حفظ الشَّرِيعَة وَيَدْعُو مَعَه طلبة قد ظهر عَلَيْهِم طلب الْعلم لأجل الدُّنْيَا والترفع على الأقران وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا لَا يجب عَلَيْهِ الْحُضُور وَكَذَلِكَ أَمر الصُّوفِي الصَّادِق فِي سلكوه لَا يجب عَلَيْهِ الْحُضُور إِذا دَعَا غَيره من صوفية هَذَا الزَّمَان الَّذين يأْتونَ دَعْوَة كل بر وَفَاجِر ويتعبدون بآلات اللَّهْو والطرب وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذِه أُمُور ظَاهِرَة لَا تخفى إِلَّا على أكمه لَا يعرف الْقَمَر
الْخَامِس أَن لَا يكون هُنَاكَ مُنكر كشرب الْخمر والملاهي من زمر وَغَيره فَإِن كَانَ نظر إِن كَانَ مِمَّن إِذا حضر رفع الْمُنكر فليحضر إِجَابَة للدعوة وَإِزَالَة للْمُنكر وَإِلَّا حرم عَلَيْهِ الْحُضُور لِأَن كالراضي بالمنكر وَإِقْرَاره وَفِي وَجه يجوز لَهُ الْحُضُور فَلَا يسمع وينكر بِقَلْبِه كَمَا لَو كَانَ فِي جواره مُنكر يضْرب فَلَا يلْزمه التَّحَوُّل وَإِذا بلغه الصَّوْت قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا الْوَجْه غلط وَهُوَ خطأ وَلَا يغتر بجلالة صَاحب التَّنْبِيه وَنَحْوه من ذكره وَالله أعلم فعلى الصَّحِيح لَو لم يعلم بالمنكر حَتَّى حضر نَهَاهُم فَإِن لم ينْتَهوا فَليخْرجْ فَإِن قعد حرم عَلَيْهِ الْقعُود على الصَّحِيح فَإِن تعذر عَلَيْهِ الْخُرُوج بِأَن كَانَ فِي ليل وَهُوَ يخَاف من الْخُرُوج قعد وَهُوَ كارهه وَلَا يستمع فَإِن اسْتمع فَهُوَ عَاص وَفِي الحَدِيث إِن من جلس واستمع إِلَى قينة صب فِي أُذُنَيْهِ الآنك وَهُوَ الرصاص الْمُذَاب وَمن الْمُنكر فرش الْحَرِير وصور الْحَيَوَانَات على الجدران والسقوف وَالثيَاب الْحَرِير الملبوسة كَمَا يصنعه مخانثة الرِّجَال من أَبنَاء الدُّنْيَا الملعونون على لِسَان النُّبُوَّة من تشبههم بِالنسَاء وَمن اعْتقد حلّه بعد تَعْرِيفه بِالتَّحْرِيمِ فَهُوَ كَافِر لِأَنَّهُ اعْتقد حل مَا جَاءَ الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ فيستتاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا ضربت عُنُقه وَيجب على من حضر إِنْكَاره على اللابس وَلَا يسْقط عَنهُ الْإِنْكَار بِحُضُور فُقَهَاء السوء فَإِنَّهُم مفسدون للشريعة وَلَا بفقراء الرجس فَإِنَّهُم جهلة أَتبَاع كل ناعق لَا يَهْتَدُونَ بِنور الْعلم ويميلون مَعَ كل ريح(1/375)
الشَّرْط السَّادِس أَن يَدعُوهُ فِي الْيَوْم الأول فَلَو أولم ثَلَاثَة أَيَّام فَلَا تجب فِي الثَّانِي بِلَا خلاف وَلَا يتَأَكَّد استحبابها كَالْيَوْمِ الأول وَتكره الْإِجَابَة فِي الْيَوْم الثَّالِث
الشَّرْط السَّابِع أَن يَدعُوهُ مُسلم فَإِن دَعَاهُ ذمِّي فَلَا تجب الْإِجَابَة على مَا قطع بِهِ الْجُمْهُور لِأَن مُخَالطَة الذِّمِّيّ مَكْرُوهَة لنجاسته وتصرفاته الْفَاسِدَة وَغير ذَلِك وَلِأَن فِي ذَلِك مواددة قَالَ الرَّافِعِيّ هُنَا وَهِي مَكْرُوهَة لكنه جزم فِي آخر بَاب الْجِزْيَة بِأَن مواددته حرَام
قلت وَهُوَ الصَّوَاب وتدل لَهُ الْآيَات الْوَارِدَة فِي الْقُرْآن فِي غير مَوضِع قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} وَقَالَ الله تَعَالَى {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيه فقد نفى وَقَالَ الله تَعَالَى الوجدان مِمَّن آمن فَدلَّ على أَن من واددهم لَيْسَ بِمُؤْمِن وَقد عدى بعض الْعلمَاء ذَلِك إِلَى مواددة الفسقة من الْمُسلمين فَحرم مجالسة الْفُسَّاق على سَبِيل المؤانسة وَقد صرح الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ بذلك فِي كتاب الشَّهَادَات وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يطوف بِالْبَيْتِ فَقدم الرشيد يُرِيد الطّواف فَقطع سُفْيَان طَوَافه وَذهب وتلا هَذِه الْآيَة {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ} الْآيَة وَكَذَلِكَ صنع ابْن أبي وراد وَتمسك أُولَئِكَ بِعُمُوم اللَّفْظ وَالله أعلم
(فرع) لَو اعتذر الْمَدْعُو إِلَى صَاحب الدعْوَة فرضى بتخلفه زَالَ الْوُجُوب وَلَو دَعَاهُ جمَاعَة أجَاب الأسبق فَإِن جاؤوا مَعًا أجَاب الْأَقْرَب رحما ثمَّ الْأَقْرَب دَارا كالصدقة وَالصَّوْم لَيْسَ عذرا فِي ترك الْإِجَابَة فَإِن حضر وَكَانَ فِي صَوْم فرض مضيف حرم الْفطر قطعا وَكَذَا إِن كَانَ غير مضيق على الرَّاجِح وَإِن كَانَ فِي صَوْم نفل فَإِن لم يشق على صَاحب الدعْوَة صَوْمه اسْتحبَّ إتْمَام صَوْمه وَإِن شقّ عَلَيْهِ اسْتحبَّ لَهُ الْفطر ثمَّ الْمُفطر هَل يجب عَلَيْهِ أَن يَأْكُل وَلَو لقْمَة فِيهِ خلاف الصَّحِيح فِي الرَّوْضَة هُنَا تبعا للرافعي أَنه مُسْتَحبّ لِأَن الْمَقْصُود الْحُضُور وَقد وجد وَكَذَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي شرح صَحِيح مُسلم فِي بَاب الْوَلِيمَة وَاخْتَارَ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه وجوب الْأكل وَصرح بِهِ فِي شرح مُسلم فِي بَاب نذر الصَّوْم فَقَالَ الصَّحِيح أَنه يلْزمه الْأكل عندنَا وَالله أعلم
(فرع) الْمَرْأَة إِذا دعت النِّسَاء فَهُوَ كَمَا ذكرنَا فِي الرِّجَال فَإِن كَانَ رجلا أَو رجَالًا قَالَ فِي الرَّوْضَة وَجَبت الْإِجَابَة إِذا لم تكن خلْوَة مُحرمَة قَالَ الاسنائي وَفِي تَعْبِيره بِالْوُجُوب نظر من جِهَة أَن شَرط الدعْوَة أَن تكون عَامَّة كالعشيرة والإخوان وَأهل الصِّنَاعَة فَكيف يَجِيء الْوُجُوب عِنْد دَعْوَة الرجل(1/376)
الْوَاحِد وَعبارَة الرَّافِعِيّ صَحِيحَة فَإِنَّهُ عبر بتجاب فَصرحَ فِي الرَّوْضَة بِالْوُجُوب فَحصل الْخلَل انْتهى قلت صُورَة الْمسَائِل عِنْد الدعْوَة الْعَامَّة والتنصيص على هَذَا الرجل بِعَيْنِه فَلَا خلل وَالله أعلم قَالَ
بَاب التَّسْوِيَة بَين الزَّوْجَات فصل والتسوية فِي الْقسم بَين الزَّوْجَات وَاجِبَة وَلَا يدْخل على غير الْمَقْسُوم لَهَا لغير حَاجَة
يجب على كل وَاحِد من الزَّوْجَيْنِ معاشرة صَاحبه بِالْمَعْرُوفِ وَيجب على كل وَاحِد بذل مَا يجب عَلَيْهِ بِلَا مطل وَلَا إِظْهَار كَرَاهِيَة بل يُؤَدِّيه وَهُوَ طلق الْوَجْه والمطل مدافعة الْحق مَعَ الْقُدْرَة وَهُوَ ظلم قَالَ الله تَعَالَى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَالْمرَاد تماثلها فِي وجوب الْأَدَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يجب عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وجماع الْمَعْرُوف الْكَفّ عَمَّا يكره وإعفاء صَاحب الْحق من مُؤنَة الطّلب وتأديته بِلَا كَرَاهَة قَالَه الشَّافِعِي فَإِذا كَانَ تَحت الشَّخْص زوجتان فَأكْثر فَلَا يجب عَلَيْهِ أَن يقسم لَهُنَّ لِأَن الْمبيت حَقه فَلهُ تَركه كسكنى الدَّار الْمُسْتَأْجرَة وَالْحكمَة فِي ذَلِك أَن فِي دَاعِيَة الطَّبْع مَا يُغني عَن الْإِيجَاب نعم يسْتَحبّ الْقسم وَلَا يعضلهن لِأَنَّهُ إِضْرَار وَفِي وَجه لَيْسَ لَهُ الْإِعْرَاض عَنْهُن فَإِذا أَرَادَ أَن يبيت عِنْد وَاحِدَة وَجب عَلَيْهِ الْقسم وَلَا يبْدَأ بِوَاحِدَة إِلَّا بِقرْعَة أَو بِإِذن الْبَاقِيَات لِأَنَّهُ الْعدْل فَإِذا قسم وَجب عَلَيْهِ التَّسْوِيَة وَلها اعتباران اعْتِبَار بِالْمَكَانِ وَاعْتِبَار بِالزَّمَانِ أما الْمَكَان فَيحرم عَلَيْهِ أَن يجمع بَين زَوْجَتَيْنِ أَو زَوْجَات فِي مسكن وَاحِد وَلَو لَيْلَة وَاحِدَة إِلَّا برضاهن لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى كَثْرَة الْمُخَاصمَة وَالْخُرُوج عَن الطَّاعَة لما بَينهمَا من الوحشة وَلَيْسَ ذَلِك من المعاشرة بِالْمَعْرُوفِ وَلِأَن كل وَاحِدَة تسْتَحقّ السُّكْنَى فَلَا يلْزمهَا الِاشْتِرَاك كَمَا لَا يلْزمهَا الِاشْتِرَاك فِي كسْوَة وَاحِدَة يتناوبانها وَهَذَا عِنْد اتِّحَاد الْمرَافِق وَإِلَّا فَيجوز إِذا كَانَ لائقاً بِالْحَال
وَاعْلَم أَن الْجمع بَين الزَّوْجَة والسرية أَو السراري فِي بَيت وَاحِد حرَام كالزوجات صرح بِهِ الرَّوْيَانِيّ وَالله أعلم وَأما الزَّمَان فَاعْلَم أَن عماد الْقسم اللَّيْل وَالنَّهَار تَابع لَهُ لِأَن الله تَعَالَى جعله سكناً وَالنَّهَار للتردد فِي الْمصَالح وَهَذَا حكم غَالب النَّاس أما من يعْمل لَيْلًا كالحارس فعماد قسمه النَّهَار وَاللَّيْل تبع وعماد قسم الْمُسَافِر وَقت نُزُوله لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا كثيرا كَانَ أَو قَلِيلا إِذا عرفت هَذَا فَمن عماده الْقسم بِاللَّيْلِ يحرم عَلَيْهِ أَن يدْخل فِي نوبَة وَاحِدَة على أُخْرَى لَيْلًا سَوَاء كَانَ(1/377)
لغير حَاجَة أَو لحَاجَة كعيادة وَغَيرهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَنقل الْمُزنِيّ فِي الْمُخْتَصر عَن الشَّافِعِي أَنه يجوز أَن يعودها لَيْلًا فِي نوبَة غَيرهَا وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الشَّيْخ وَقَالَ عَامَّة الْأَصْحَاب إِن الْمُزنِيّ سَهَا فِي النَّقْل عَن الشَّافِعِي وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي يَوْم غَيرهَا نعم لَو دخل نَهَارا لحَاجَة كأخذ حَاجَة أَو تَعْرِيف خبر أَو تَسْلِيم نَفَقَة أَو وضع مَتَاع وَنَحْو ذَلِك فَلَا قَضَاء على الصَّحِيح وَقيل النَّهَار كالليل نعم يجوز الدُّخُول فِي نوبَة الْغَيْر للضَّرُورَة بِلَا خلاف وَاخْتلف فِي الضَّرُورَة الَّتِي تجوز الدُّخُول لَيْلًا فِي نوبَة الضرة فَقَالَ ابْن الصّباغ هِيَ مثل أَن تَمُوت أَو يكون منزولاً بهَا فِي النزع وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَغَيره الضَّرُورَة كالمرض الشَّديد وَقَالَ الْغَزالِيّ هِيَ كالمرض الْمخوف وَكَذَا الْمَرَض الَّذِي يحْتَمل كَونه مخوفا فَيدْخل ليتبين الْحَال وَفِي وَجه لَا يدْخل حَتَّى يتَحَقَّق أَنه مخوف ثمَّ إِذا دخل على الضرة للضَّرُورَة فَإِن مكث سَاعَة طَوِيلَة قضى لصاحبة النّوبَة مثل ذَلِك الْقدر فِي نوبَة الْمَدْخُول عَلَيْهَا وَإِن لم يمْكث إِلَّا لَحْظَة يسيرَة فَلَا قَضَاء وَلَو تعدى بِالدُّخُولِ فَدخل بِلَا ضَرُورَة وَلَو كَانَ لحَاجَة نظر إِن طَال الزَّمَان قضى وَإِلَّا فَلَا يقْضى وَلكنه يَعْصِي وَفِي الحَدِيث من
رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَمن كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَال إِلَى إِحْدَاهمَا وَفِي رِوَايَة فَلم يعدل بَينهمَا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وشقة مائل وَفِي رِوَايَة سَاقِط وَإِذا سَاوَى بَينهُنَّ فِي الظَّاهِر لم يُؤَاخذ بِزِيَادَة ميل قلبه إِلَى بَعضهنَّ وَلَا تجب التَّسْوِيَة فِي الْجِمَاع لَكِن تسْتَحب التَّسْوِيَة فِيهِ وَفِي سَائِر الاستمتاعات وَوجه عدم التَّسْوِيَة فِي الْجِمَاع بِأَنَّهُ أَمر مُتَعَلق بالشهوة وَهِي أَمر لَا يَتَأَتَّى فِي كل وَقت إِذْ لَا قدرَة لَهُ على ذَلِك وَلِهَذَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقسم فيعدل وَيَقُول اللَّهُمَّ هَذَا قسمي فِيمَا أملك فَلَا تلمني فِيمَا تملك وَلَا أملك يَعْنِي الْقلب
وَاعْلَم أَن الْقسم تستحقه الْمَرِيضَة والرتقاء والقرناء وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء والمحرمة وَالْمولى عَلَيْهَا والمظاهر مِنْهَا والمراهقة والمجنونة الَّتِي لَا يخَاف مِنْهَا لِأَن المُرَاد الْأنس وَاسْتثنى الْمُتَوَلِي الْمُعْتَدَّة عَن وَطْء شُبْهَة لِأَنَّهُ تحرم الْخلْوَة بهَا وَهَذَا كُله عِنْد طَاعَة الزَّوْجَة أما لَو نشزت عَن زَوجهَا بِأَن خرجت من منزلَة أَو أَرَادَ الدُّخُول عَلَيْهَا فأغلقت الْبَاب ومنعته أَو ادَّعَت أَنه طلق أَو منعته التَّمْكِين من نَفسهَا فَلَا قسم لَهَا كَمَا لَا نَفَقَة لَهَا وَإِذا عَادَتْ إِلَى الطَّاعَة لم تسْتَحقّ الْقَضَاء وَامْتِنَاع الْمَجْنُونَة كامتناع الْعَاقِلَة لَكِن لَا تأثم وَالله أعلم قَالَ(1/378)
(وَإِذا أَرَادَ السّفر أَقرع بَينهُنَّ وَيخرج بِالَّتِي تخرج لَهَا الْقرعَة)
الأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ السّفر أَقرع بَين نِسَائِهِ فأيتهن خرج سهمها خرج بهَا فَإِذا سَافر بِالْقُرْعَةِ لم يقْض مُدَّة الذّهاب والإياب وَالْإِقَامَة فِي الْبلدَانِ إِذا لم ينْو الْإِقَامَة بهَا مُدَّة تزيد على مُدَّة الْمُسَافِرين وَلَا امْتَدَّ مقَامه وَسَوَاء كَانَ السّفر طَويلا أَو قَصِيرا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سَافر بعائشة رَضِي الله عَنْهَا وَلم ينْقل أَنه قضى بعد عوده بل ظهر أَنه كَانَ يَدُور على النّوبَة بل رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنه مَا كَانَ يقْضِي وَلِأَن المسافرة تحملت مشاق بِإِزَاءِ مقَام الزَّوْج مَعهَا فَلَو قضى لتوفر حَظّ المقيمات
وَاعْلَم أَن مُدَّة السّفر إِنَّمَا لَا تقضي بِشُرُوط
أَحدهَا أَن يقرع فَإِن لم يقرع قضى للمتخلفات وَيَقْضِي جَمِيع مُدَّة مَا بَين إنْشَاء السّفر إِلَى رُجُوعه إلَيْهِنَّ على الصَّحِيح
الشَّرْط الثَّانِي أَن لَا يقْصد بِسَفَرِهِ النقلَة فَإِن قصد النقلَة فَلَا يجوز أَن يستصحب فِيهِ بَعضهم دون بعض بِقرْعَة وَلَا بغَيْرهَا فَلَو فعل قضى للمتخلفات على الصَّحِيح وَقيل إِن أَقرع فَلَا يقْضِي مُدَّة السّفر وَلَا يجوز أَن يخلف نِسَاءَهُ بل ينقلهن بِنَفسِهِ أَو بوكيله أَو يُطَلِّقهُنَّ لما فِي تخلفهن من الْإِضْرَار بِهن قَالَ الرَّافِعِيّ كَذَا أطلقهُ الْغَزالِيّ وَفِيمَا علق عَن الإِمَام أَن ذَلِك أدب وَلَيْسَ بِوَاجِب
الشَّرْط الثَّالِث أَن لَا يعزم على الْإِقَامَة كَمَا تقدم فَلَا يقْضِي مُدَّة السّفر أما إِذا صَار مُقيما فَينْظر فَإِن انْتهى إِلَى مقْصده الَّذِي نوى فَإِن نوى إِقَامَة أَرْبَعَة أَيَّام فَأكْثر أَو نَوَاهَا عِنْد دُخُوله قضى مُدَّة إِقَامَته وَفِي مُدَّة الرُّجُوع وَجْهَان الصَّحِيح لَا يقْضِي كمدة الذّهاب وَإِن لم ينْو الْإِقَامَة وَأقَام قَالَ الإِمَام وَالْغَزالِيّ إِن أَقَامَ يَوْمًا لم يقضه وَالْأَقْرَب مَا ذكره الْبَغَوِيّ إِن زَاد مقَامه فِي بلد على مقَام الْمُسَافِرين وَجب قَضَاء الزَّائِد وَلَو أَقَامَ لشغل ينتظره فَفِي الْقَضَاء خلاف كالخلاف فِي التَّرَخُّص قَالَ الْمُتَوَلِي إِن قُلْنَا يترخص لم يقْض وَإِلَّا فَيَقْضِي مَا زَاد على مُدَّة الْمُسَافِرين وَالْمذهب فِي التَّرَخُّص أَنه إِن كَانَ يتَوَقَّع تَنْجِيز شغله سَاعَة بعد سَاعَة ترخص ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا وَإِن علم أَنه لَا يتنجر فِي أَرْبَعَة أَيَّام لم يترخص أصلا وَلَو استصحب وَاحِدَة بِقرْعَة ثمَّ عزم على الْإِقَامَة فِي بلد وَكتب إِلَى الْبَاقِيَات يستحضرهن فَفِي وجوب الْقَضَاء من وَقت كِتَابَته وَجْهَان حَكَاهَا الْبَغَوِيّ وَلم يرجح الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فيهمَا شَيْئا وَلَو كَانَ تَحْتَهُ نسْوَة وَله إِمَاء هَل لَهُ أَن يُسَافر بِأمة بِلَا قرعَة وَجْهَان قَالَ الرَّافِعِيّ الْقيَاس الْجَوَاز وَقَالَ النَّوَوِيّ هُوَ الصَّحِيح وَالله أعلم(1/379)
(فرع) وَلَو وهبت وَاحِدَة حَقّهَا من الْقسم للزَّوْج لم يلْزمه الْقبُول وَله أَن يبيت عِنْدهَا فِي نوبتها فَإِن رَضِي بِالْهبةِ نظر إِن وهبت لمعينة جَازَ ويبيت عِنْد الْمَوْهُوبَة لَيْلَتَيْنِ وَلَا يشْتَرط فِي هَذِه الْهِبَة رضَا الْمَوْهُوب لَهَا على الصَّحِيح وَلَو وهبت حَقّهَا للزَّوْج فَهَل لَهُ أَن يخْتَص وَاحِدَة بنوبة الواهبة وَجْهَان
أَحدهمَا نعم وَبِه قطع الْعِرَاقِيُّونَ وَالرُّويَانِيّ وَغَيره وَإِلَيْهِ ميل الْأَكْثَرين وَلَو وهبت حَقّهَا لجَمِيع الضرات أَو أسقطت حَقّهَا مُطلقًا وَجَبت التَّسْوِيَة فِيهِ بَين الْبَاقِيَات بِلَا خلاف وللواهبة الرُّجُوع مَتى شَاءَت وَيعود حَقّهَا فِي الْمُسْتَقْبل لِأَن الْمُسْتَقْبل هبة لم تقبض حَتَّى لَو رجعت فِي أثْنَاء اللَّيْل يخرج من عِنْد الْمَوْهُوب لَهَا وَمَا مضى لَا يُؤثر الرُّجُوع فِيهِ وَكَذَا مَا فَاتَ قبل علم الزَّوْج بِالرُّجُوعِ لَا يُؤثر فِيهِ الرُّجُوع فَلَا يَقْضِيه على الْمَذْهَب وَشبهه الْغَزالِيّ بِمَا إِذا أَبَاحَ ثَمَرَة بستانه ثمَّ رَجَعَ فَأكل الْمُبَاح لَهُ بَعْضهَا قبل الْعلم بِالرُّجُوعِ وَفِي هَذِه الصُّورَة طَرِيقَانِ فَعَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد فِي وجوب الْغرم قَولَانِ كَمَسْأَلَة الْوَكِيل وَعَن الصيدلاني الْقطع بالغرم وَمَال إِلَيْهِ الإِمَام لِأَن الغرامات يَسْتَوِي فِيهَا الْعلم وَالْجهل كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَقَوْلهمْ إِن الإِمَام مَال إِلَى الْغرم مَمْنُوع فَفِي النِّهَايَة الْجَزْم بِعَدَمِ الْغرم وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) لَا يجوز للْمَرْأَة أَن تَأْخُذ عَن حَقّهَا من الْقسم عوضا لَا من الزَّوْج وَلَا من الضرة فَإِن أخذت لَزِمَهَا رده لِأَن الْحُقُوق لَا تقبل الْعِوَض كحق الشُّفْعَة وَغَيره وَلِهَذَا لَا يجوز أَخذ الْعِوَض بالنزول عَن الْوَظَائِف وَإِن جرت عَادَة المتساهلي من الْفُقَهَاء بذلك وَالله أعلم قَالَ
(وَإِن تزوج جَدِيدَة خصيها بِسبع لَيَال إِن كَانَت بكرا وَأقَام عِنْدهَا سبعا وَإِن كَانَت ثَيِّبًا بِثَلَاث)
إِذا جدد الشَّخْص نِكَاح امْرَأَة وَعِنْده زوجتان مثلا قد قسم لَهما قطع الدّور للجديدة فَإِن كَانَت بكرا أَقَامَ عِنْدهَا سبعا أَو ثَيِّبًا ثَلَاثًا وَلَا يقْضِي لقَوْل أنس رَضِي الله عَنهُ من السّنة إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا ثمَّ قسم وَإِذا تزوج الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا ثمَّ قسم وَقَالَ أَبُو قلَابَة لَو شِئْت لَقلت إِن أنسا رَضِي الله عَنهُ رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمعْنَى فِي ذَلِك زَوَال الحشمة بَين الزَّوْجَيْنِ وَهَذَا التَّخْصِيص وَاجِب على الزَّوْج على الْمَذْهَب حَتَّى قَالَ الْمُتَوَلِي لَو خرج بعض تِلْكَ اللَّيَالِي بِعُذْر قضى عِنْد التَّمَكُّن وَتجب الْمُوَالَاة بَين السَّبع وَالثَّلَاث لِأَن الحشمة لَا تَزُول بالمتفرق فَلَو فرق فَفِي الاحتساب بالمفرق وَجْهَان ظَاهر كَلَام الْجُمْهُور الْمَنْع وَإِن كَانَت الجديدة ثَيِّبًا اسْتحبَّ لَهُ أَن يخيرها بَين أَن يُقيم عِنْدهَا ثَلَاثًا بِلَا قَضَاء وَبَين أَن يُقيم عِنْدهَا سبعا وَيَقْضِي(1/380)
للباقيات كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأم سَلمَة فَإِن اخْتَارَتْ السَّبع قضى للباقيات السَّبع وَإِن أَقَامَ بِغَيْر اخْتِيَارهَا لم يقْض إِلَّا الْأَرْبَع الزَّائِدَة هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْأَصْحَاب وَلَو التمست أَرْبعا أَو خمْسا لم يقْض إِلَّا مَا زَاد على الثَّلَاث وَلَو طلبت الْبكر عشرا لم تجز إجابتها فَإِن أجابها لم يقْض إِلَّا مَا زَاد على السَّبع وَالله أعلم
(فرع) وفى الزَّوْج حق الجديدة من الزفاف ثمَّ طَلقهَا ثمَّ رَاجعهَا فَلَيْسَ لَهَا حق الزفاف لِأَن الرَّجْعِيَّة بَاقِيَة على النِّكَاح الأول وَقد وفى حَقه وَإِن أَبَانهَا ثمَّ جدد نِكَاحهَا فَقَوْلَانِ الْأَظْهر أَنه يجدد حَقّهَا من الزفاف لِأَنَّهُ نِكَاح جَدِيد وَالله اعْلَم قَالَ
(وَإِذا بَان نشوز الْمَرْأَة وعظها فَإِن أَبَت إِلَّا النُّشُوز هجرها فَإِن أَقَامَت عَلَيْهِ ضربهَا وَيسْقط بالنشوز قسمهَا ونفقتها)
إِذا ظهر من الْمَرْأَة أَمَارَات النُّشُوز إِمَّا بالْقَوْل مثل إِن اعتادت حسن الْكَلَام أَو كَانَ إِذا دَعَاهَا أجابت بلبيك وَنَحْوه فَتغير ذَلِك وَإِمَّا بِالْفِعْلِ بِأَن كَانَت فِي حَقه طَلْقَة الْوَجْه فأظهرت عبوسة أَو أبدت إعْرَاضًا على خلاف مَا أَلفه من حسن الْمُلْتَقى وعظها بالْكلَام بِأَن يَقُول مَا هَذَا التَّغْيِير الَّذِي حدث مِنْك وَكنت ألفت مِنْك غير ذَلِك فاتقي الله فَإِن حَقي وَاجِب عَلَيْك وَيبين لَهَا أَن النُّشُوز يسْقط النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَالْقسم وَحجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن} وَلَا يهجرها وَلَا يضْربهَا لاحْتِمَال أَن لَا يكون ذَلِك نُشُوزًا ولعلها تبدي عذرا أَو تتوب وَيحسن أَن يبرها ويستميل قَلبهَا فَإِن أَبَت إِلَّا النُّشُوز وَظهر ذَلِك مِنْهَا بِأَن دَعَاهَا إِلَى فرَاشه فَأَبت وَصَارَت بِحَيْثُ يحْتَاج فِي ردهَا إِلَى الطَّاعَة إِلَى تَعب لَا امْتنَاع دلال أَو خرجت من منزله وَنَحْو ذَلِك هجرها فِي المضجع وَلَا يهجرها فِي الْكَلَام وَهل هجرانها فِي الْكَلَام حرَام أم مَكْرُوه فِي وَجْهَان عَن الإِمَام قَالَ الإِمَام وَعِنْدِي أَنه لَا يحرم الِامْتِنَاع من الْكَلَام أبدا نعم إِذا كلم فَعَلَيهِ أَن يُجيب كجواب السَّلَام وابتدائه قَالَ الرَّافِعِيّ وَلمن قَالَ بِالتَّحْرِيمِ أَن يَقُول لَا منع من ترك الْكَلَام بِلَا قصد أما إِذا قصد الهجران فَحَرَام كَمَا أَن الطّيب وَنَحْوه إِذا تَركه الْإِنْسَان بِلَا قصد لَا يَأْثَم وَلَو قصد بترك إِلَّا حداد أَثم وَحكى عَن الشَّافِعِي أَنه لَو هجرها بالْكلَام لم يزدْ على ثَلَاثَة فَإِن زَاد أَثم قَالَ ابْن الرّفْعَة وَمحل الْخلاف فَوق الثَّلَاث أما الثَّلَاث فَلَا يحرم قطعا قَالَ النَّوَوِيّ الصَّوَاب الْجَزْم بِتَحْرِيم الهجران فِيمَا زَاد على ثَلَاثَة أَيَّام وَعدم التَّحْرِيم فِي الثَّلَاث للْحَدِيث الصَّحِيح لَا يحل لمُسلم أَن(1/381)
يهجر أَخَاهُ فَوق ثَلَاث قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرهم هَذَا فِي الهجران لغير عذر شَرْعِي فَإِن كَانَ عذر بِأَن كَانَ المهجور مَذْمُوم الْحَال لبدعة أَو فسق أَو نَحْوهمَا أَو كَانَ فِيهِ صَلَاح لدين الهاجر أَو المهجور فَلَا يحرم وعَلى هَذَا يحمل مَا ثَبت من هجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَعْب بن مَالك وصاحبيه وَنَهْيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الصَّحَابَة عَن كَلَامهم وَكَذَا مَا جَاءَ من هجران السّلف بَعضهم بَعْضًا كَذَا ذكره هُنَا وَقَالَ فِي كتاب الْإِيمَان وهجران الْمُسلم حرَام فَوق ثَلَاثَة أَيَّام وَهَذَا إِذا كَانَ الهجر لحظوظ النَّفس وتعقبات أهل الدُّنْيَا فَأَما إِذا كَانَ المهجور مبتدعاً أَو متجاهراً بالظلم أَو الْفسق فَلَا تحرم مهاجرته أبدا وَكَذَا إِذا كَانَ فِي المهاجرة مصلحَة دينية وَالله أعلم
قلت وَأَشد النَّاس فسقاً من الْمُسلمين فُقَهَاء السوء وفقراء الرجس الَّذين يَتَرَدَّدُونَ إِلَى الظلمَة طَمَعا فِي مزابلتهم مَعَ علمهمْ بِمَا هم عَلَيْهِ من شرب الْخُمُور وأنواع الْفُجُور وَأخذ المكوس وقهر النَّاس على مَا تدعوهم إِلَيْهِ أنفسهم الامارة وَسَفك الدِّمَاء وقمع من دعاهم إِلَى مَا نزلت بِهِ الْكتب وَأرْسلت بِهِ الرُّسُل فَلَا يغتر بصنع هَؤُلَاءِ الأراذل من الْفُقَهَاء وَيجب اتِّبَاع مَا جَاءَ بِهِ سيد السَّابِقين واللاحقين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد حرر بعض فُقَهَاء الْعَصْر بحثا فِيمَن يتعاطى شَيْئا يحصل بِهِ اعْتِقَاد حل مَا حرم الله لأجل عدم إِنْكَاره ذَلِك لِأَن بِهِ تُقَام الشَّرِيعَة فَقَالَ من ألْقى مُصحفا فِي القاذورة كفر وَإِن ادّعى الْإِيمَان لِأَن ذَلِك يدل على استهزائه بِالدّينِ فَهَل يكون متعاطي سَبَب اندراس الشَّرِيعَة أولى بالتكفير أم لَا وَجعل هَذَا أولى لِأَن مثل ذَلِك قد يخفى على الْعَوام بِخِلَاف إِلْقَاء الْمُصحف شرفه الله تَعَالَى وَلِأَن السَّبَب الْمُؤَدِّي إِلَى طمس الدّين وإماتة الْحق أدل دَلِيل على خبث الطوية وَإِن قَالَ إِن سَرِيرَته حَسَنَة كَمَا قَالَه عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا جلي لَا شكّ فِيهِ وَالله أعلم
أما إِذا تكَرر مِنْهَا الهجران وأصرت عَلَيْهِ فَلهُ الهجران وَالضَّرْب بِلَا خلاف وَهَذِه هِيَ الطَّرِيقَة الصَّحِيحَة الْمُعْتَمدَة فِي الْمَرَاتِب الثَّلَاث وَفِي قَول يجوز الهجران وَالضَّرْب فِي الْمرتبَة الأولى وَهِي عِنْد خوف النُّشُوز وَظَاهر الْآيَة يدل لذَلِك وَهل يجوز الضَّرْب فِي الْمرتبَة الثَّانِيَة وَهِي مَا إِذا ظهر مِنْهَا النُّشُوز وَلم يتَكَرَّر فِيهِ خلاف رجح الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر الْمَنْع وَصحح النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج الْجَوَاز وَاخْتَارَهُ فِي الرَّوْضَة وَقَالَ إِنَّه الْمُوَافق لظَاهِر الْقُرْآن وَحَيْثُ جَازَ لَهُ الضَّرْب فَهُوَ ضرب تَأْدِيب وتعزير وَيَنْبَغِي أَن لَا يكون مدمياً وَلَا مبرحاً وَلَا مهْلكا وَلَا على الْوَجْه فَإِن فعل وَأدّى إِلَى تلف وَجب الْغرم لِأَنَّهُ تبين أَنه إِتْلَاف لَا إصْلَاح ثمَّ الزَّوْج وَإِن جَازَ لَهُ الضَّرْب فَالْأولى لَهُ الْعَفو بِخِلَاف(1/382)
الْوَلِيّ فَإِنَّهُ لَا يتْرك ضرب التَّأْدِيب للصَّبِيّ لِأَنَّهُ مصلحَة لَهُ وَفِي الحَدِيث النَّهْي عَن ضرب النِّسَاء وَأَشَارَ الشَّافِعِي فِيهِ إِلَى تأويلين
أَحدهمَا أَنه مَنْسُوخ بِالْآيَةِ أَو حَدِيث آخر ورد بضربهن
وَالثَّانِي حمل النَّهْي على الْكَرَاهَة أَو ترك الأولى قَالَ الرَّافِعِيّ وَقد يحمل النَّهْي على الْحَال الَّذِي لم يُوجد فِي السَّبَب المجوز للضرب قَالَ النَّوَوِيّ وَهَذَا التَّأْوِيل الْأَخير هُوَ الْمُخْتَار فَإِن النّسخ لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا إِذا تعذر الْجمع وَعلمنَا التَّارِيخ وَالله أعلم
(فرع) لَيْسَ من النُّشُوز الشتم وبذاءة اللِّسَان لَكِنَّهَا تأثم بإيذائه وتستحق التَّأْدِيب وَهل يؤدبها الزَّوْج أم يرفع الْأَمر إِلَى القَاضِي وَجْهَان حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ هُنَا بِلَا تَرْجِيح وَجزم فِي بَاب التعزيز بِأَن الزَّوْج يؤدبها وَصَححهُ النَّوَوِيّ هُنَا من زِيَادَته فَقَالَ قلت الْأَصَح أَنه يؤدبها بِنَفسِهِ لِأَن فِي رَفعهَا إِلَى القَاضِي مشقة وعاراً وتنكيداً للاستمتاع فِيمَا بعد وتوحيشاً للقلوب وَالله أعلم وَلَو مكنت من الْجِمَاع ومنعت من بَقِيَّة الاستمتاعات فَهَل هُوَ نشوز يسْقط النَّفَقَة فِيهِ وَجْهَان ذكرهمَا الرَّافِعِيّ بِلَا تَرْجِيح وَصحح النَّوَوِيّ من زِيَادَته أَنَّهَا تسْقط وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْخلْع فصل فِي الْخلْع وَالْخلْع جَائِز على عوض مَعْلُوم
الْخلْع مُشْتَقّ من الْخلْع وَهُوَ النزع وَمِنْه خلع الثَّوْب فغذا فَارقهَا فقد خلعها مِنْهُ
وَهُوَ فِي الشَّرْع عبارَة عَن الْفرْقَة على عوض يَأْخُذهُ الزَّوْج وَفِيه نظر من جِهَة أَنه لَو خَالعهَا على مَا ثَبت لَهَا عَلَيْهِ من الْقصاص أَو الدِّيوَان وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ يَصح وَلَا أَخذ فَالْأَحْسَن أَن يُقَال فرقة على عوض رَاجع إِلَى الزَّوْج
وأصل الْخلْع مجمع على جَوَازه وَجَاء بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن امْرَأَة ثَابت بن قيس أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت يَا رَسُول الله ثَابت بن قيس مَا أَعتب عَلَيْهِ فِي خلق وَلَا دين وَلَكِنِّي أكره الْكفْر فِي الْإِسْلَام فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتردينَ عَلَيْهِ حديقته قَالَت نعم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقبل الحديقة وَطَلقهَا تَطْلِيقَة(1/383)
وَلَا فرق فِي جَوَاز الْخلْع بَين أَن يخالع على الصَدَاق أَو على بعضه أَو على مَال آخر سَوَاء كَانَ أقل من الصَدَاق أَو أَكثر وَلَا فرق بَين الْعين وَالدّين وَالْمَنْفَعَة وضابطه أَن كل مَا جَازَ أَن يكون صَدَاقا جَازَ أَن يكون عوضا فِي الْخلْع لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَلِأَنَّهُ عقد على بضع فَأشبه النِّكَاح وَيشْتَرط فِي عوض الْخلْع أَن يكون مَعْلُوما متمولاً مَعَ سَائِر شُرُوط الأعواض كالقدرة على التَّسْلِيم واستقرار الْملك وَغير ذَلِك لِأَن الْخلْع عقد مُعَاوضَة فَأشبه البيع وَالصَّدَاق وَهَذَا صَحِيح فِي الْخلْع الصَّحِيح أما الْخلْع الْفَاسِد فَلَا يشْتَرط الْعلم بِهِ فَلَو خَالعهَا على مَجْهُول كَثوب غير معِين أَو على حمل هَذِه الدَّابَّة أَو خَالعهَا بِشَرْط فَاسد كَشَرط أَن لَا ينْفق عَلَيْهَا وَهِي حَامِل أَو لَا سُكْنى لَهَا أَو خَالعهَا بِأَلف إِلَى أجل مَجْهُول وَنَحْو ذَلِك بَانَتْ مِنْهُ فِي هَذِه الصُّورَة بِمهْر الْمثل أما حُصُول الْفرْقَة فَلِأَن الْخلْع إِمَّا فسخ أَو طَلَاق إِن كَانَ فسخا فَالنِّكَاح لَا يفْسد بِفساد الْعِوَض فَكَذَا فَسخه إِذْ الفسوخ تحكي الْعُقُود وَإِن كَانَ طَلَاقا فالطلاق يحصل بِلَا عوض وَمَاله حُصُول بِلَا عوض فَيحصل مَعَ فَسَاد الْعِوَض كَالنِّكَاحِ بل أولى لقُوَّة الطَّلَاق وسيراته وَأما الرُّجُوع إِلَى مهر الْمثل فَلِأَن قَضِيَّة فَسَاد الْعِوَض ارتداد الْعِوَض الآخر والبضع لَا يرْتَد بعد حُصُول الْفرْقَة فَوَجَبَ رد بدله كَمَا مر فِي فَسَاد الصَدَاق وَيُقَاس بِمَا ذكرنَا مَا يُشبههُ لِأَن مَا لم يكن ركنا فِي شَيْء لَا يضر الْجَهْل بِهِ كالصداق وَمن صور ذَلِك مَا لَو خَالعهَا على مَا فِي كفها وَلم يُعلمهُ فَإِنَّهَا تبين مِنْهُ بِمهْر الْمثل فَإِن لم يكن فِي كفها شَيْء فَفِي الْوَسِيط أَنه يَقع الطَّلَاق رَجْعِيًا وَالَّذِي نَقله غَيره أَنه يَقع بَائِنا بِمهْر الْمثل قَالَ الرَّافِعِيّ وَيُشبه أَن يكون الأول فِيمَا إِذا كَانَ عَالما بِالْحَال وَالثَّانِي فِيمَا إِذا ظن أَن فِي كفها شَيْئا قَالَ النَّوَوِيّ الْمَعْرُوف الَّذِي أطلقهُ الْجُمْهُور وُقُوعه بَائِنا بِمهْر الْمثل وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن الْخلْع على مَا لَيْسَ بِمَال وَلَكِن قد يقْصد يَقع بِهِ الطَّلَاق بَائِنا بِمهْر الْمثل كَمَا لَو خَالعهَا على خمر أَو حر أَو مَغْصُوب بِخِلَاف مَا لَو خَالعهَا على دم فَإِنَّهُ يَقع الطَّلَاق رَجْعِيًا وَفرق بِأَن الدَّم لَا يقْصد بِحَال فَكَأَنَّهُ لم يطْمع فِي شَيْء وَالْخلْع على الْميتَة كَالْخمرِ لَا كَالدَّمِ لِأَنَّهَا قد تقصد للضَّرُورَة والجوارح وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن يَقع فِي ذكر الْخمر وَالْمَغْصُوب رَجْعِيًا لِأَن الْمَذْكُور لَيْسَ بِمَال فَلَا يظْهر طمعه فِي شَيْء وَالصَّحِيح أَنه يَقع بَائِنا بِمهْر الْمثل وَقطع بِهِ الْأَصْحَاب وَالْخلْع على مَا لَا يقدر على تَسْلِيمه وَمَا لم يتم الْملك عَلَيْهِ كالخلع على الْخمر وَلَو خَالعهَا على عين فَتلفت قبل الْقَبْض أَو خرجت مُسْتَحقَّة للْغَيْر أَو مَعِيبَة فَردهَا أَو فَاتَت مِنْهَا صفة مَشْرُوطَة فَردهَا رَجَعَ بِمهْر الْمثل فِي الْأَصَح وَقيل بِقِيمَة الْعين بِخِلَاف مَا لَو خَالعهَا على شَيْء مَوْصُوف فِي الذِّمَّة بِصِفَات مُعْتَبرَة فَأَعْطَتْهُ ذَلِك الشَّيْء فَبَان معيبا فَلهُ رده ويطالبها بسليم كَمَا فِي السّلم وَلَو قَالَ إِن أَعْطَيْتنِي ثوبا صفته كَذَا فَأَنت طَالِق فَأَعْطَتْهُ ثوبا بِتِلْكَ الصّفة طلقت فَإِن خرج معيبا فَرده رَجَعَ بِمهْر الْمثل على(1/384)
الْأَظْهر وبقيمة ذَلِك الثَّوْب سليما على قَول ضَعِيف وَالله أعلم وَاعْلَم أَنه يشْتَرط أَن لَا يَتَخَلَّل بَين الْإِيجَاب وَالْقَبُول كَلَام أَجْنَبِي فَإِن تخَلّل كَلَام كثير بَطل الارتباط بَينهمَا وَلَا يضر الْيَسِير على الصَّحِيح
(فرع كثير الْوُقُوع) قَالَت الزَّوْجَة إِن طلقتني فَأَنت بَرِيء من صَدَاقي أَو فقد أَبْرَأتك فَطلق وَقع الطَّلَاق رَجْعِيًا وَلم يبرأ من الصَدَاق لِأَن تَعْلِيق الأبراء لَا يَصح وَطَلَاق الزَّوْج طَمَعا فِي الْبَرَاءَة من غير لفظ صَحِيح فِي الِالْتِزَام لَا يُوجب عوضا قَالَ الرَّافِعِيّ وَكَانَ لَا يبعد أَن يُقَال طلق طَمَعا فِي حُصُول الْبَرَاءَة وَهِي رغبت فِي الطَّلَاق بِالْبَرَاءَةِ فَيكون ذَلِك عوضا فَاسِدا فَأشبه مَا إِذا ذكر خمرًا وَنَحْوه وَالله أعلم وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَحثه الرَّافِعِيّ نَقله الْخَوَارِزْمِيّ وَنقل فِي الْمَسْأَلَة وَجْهَيْن بل جزم بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَنَقله عَن الرَّافِعِيّ فِي آخر الْبَاب الْخَامِس من الْخلْع فَقَالَ وَلَو قَالَت إِن طلقتني أَبْرَأتك من صَدَاقي أَو فَأَنت بَرِيء فَطلق لَا يحصل الْإِبْرَاء لِأَن تَعْلِيق الْإِبْرَاء لَا يَصح لَكِن عَلَيْهَا مهر الْمثل لِأَنَّهُ لم يُطلق مجَّانا بل بِالْإِبْرَاءِ وَظن صِحَّته وَالله أعلم قَالَ الأسنوي وَمَا نَقله من وجوب مهر الْمثل وأقرا الْمَشْهُور خِلَافه فَلَا يجب شَيْء وَيَقَع رَجْعِيًا وَالله أعلم
قلت يعضد قَول الرَّافِعِيّ مسَائِل مِنْهَا مَا احْتج بِهِ من ذكر الْخمر وَالْخِنْزِير وَالْحر وَالْمَغْصُوب وَالْميتَة وعللوا الْبَيْنُونَة بالطمع فِيمَا قد يقْصد وَفِي مَسْأَلَتنَا الْبَرَاءَة من الصَدَاق مَقْصُودَة لَا محَالة وَمِنْهَا مَا تقدم أَيْضا فِيمَا إِذا خَالعهَا على مَا فِي كفها وَلَا شَيْء فِيهِ أَنَّهَا تبين بِمهْر الْمثل لِأَنَّهُ إِنَّمَا طلق طَمَعا فِي شَيْء كَذَا ذكره فِي الشَّامِل والتتمة وَرجحه النَّوَوِيّ واعتمدوا فِي الْبَيْنُونَة على تَعْلِيل الطمع وَمِنْهَا لَو تخالعا بِمَا بَقِي من صَدَاقهَا وَلم يكن بَقِي لَهَا شَيْء فَهَل تبين بِمهْر الْمثل فِيهِ وَجْهَان فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ وَرجح الْحُصُول وَفِي فَتَاوَى الْقفال أَنه إِذا خَالعهَا على صَدَاقهَا وَقد أَبرَأته مِنْهُ فَإِن جهلت الْحَال فعلَيْهَا مهر الْمثل أم مثل ذَلِك الْقدر قَولَانِ وَإِن كَانَت عَالِمَة فَإِن جرى لفظ الطَّلَاق فَهَل تبين أَو يَقع رَجْعِيًا وَجْهَان وَإِن جرى لفظ الْخلْع فَإِن قُلْنَا فِي الطَّلَاق يجب المَال فَهُنَا أولى وَإِلَّا فَوَجْهَانِ بِنَاء على أَن لفظ الْخلْع يَقْتَضِيهِ أم لاانتهى كَلَام الْقفال وَالصَّحِيح أَن مُطلق الْخلْع يَقْتَضِي المَال وَقد يجب بِأَن هَذِه الصُّورَة فِيهَا تَعْلِيق من جِهَة الزَّوْج بِخِلَاف مَسْأَلَة الْبَرَاءَة فَإِنَّهُ لَا تَعْلِيق فِيهَا من جِهَته بل من الْمَرْأَة وَالله أعلم قَالَ
(وتملك بِهِ الْمَرْأَة نَفسهَا وَلَا رَجْعَة لَهُ عَلَيْهَا)
(إِذا طلق الرجل زَوجته على عوض أَو خَالعهَا فَلَا رَجْعَة لَهُ سَوَاء كَانَ الْعِوَض صَحِيحا أَو فَاسِدا سَوَاء قُلْنَا الْخلْع فسخ أَو طَلَاق لِأَنَّهَا بذلت المَال لتملك الْبضْع فَلَا يملك الزَّوْج ولَايَة الرُّجُوع إِلَيْهِ كَمَا أَن الزَّوْج إِذا بذل المَال صَدَاقا ليتملك الْبضْع لَا يكون للْمَرْأَة ولَايَة الرُّجُوع إِلَى الْبضْع وَالله أعلم(1/385)
(فرع) قَالَ لزوجته خالعتك بِدِينَار على أَن لي عَلَيْك رَجْعَة فَهَل يَقع الطَّلَاق رَجْعِيًا وَلَا مَال أَو يَلْغُو شَرط الرّجْعَة وَتجْعَل الْبَيْنُونَة بِمهْر الْمثل فِي ذَلِك نُصُوص للشَّافِعِيّ قَالَ ابْن مسلمة وَابْن الْوَكِيل فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ جُمْهُور الْأَصْحَاب على الْقطع بِوُقُوعِهِ رَجْعِيًا بِلَا مَال وَلَو خَالعهَا بِمِائَة على أَنه مَتى شَاءَ رد الْمِائَة وَكَانَت لَهُ الرّجْعَة نَص الشَّافِعِي على أَنه يفْسد الشَّرْط وَتحصل الْبَيْنُونَة بِمهْر الْمثل فَقيل بطرد الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة الأولى وَقيل بِالْجَزْمِ بالمنصوص لِأَنَّهُ رَضِي بِسُقُوط الرّجْعَة هُنَا وَمَتى سَقَطت لَا تعود وَالله أعلم
(فرع) وكل رجل امْرَأَة بِطَلَاق زَوجته أَو خلعها صَحَّ على الْأَصَح وَقيل لَا لِأَنَّهَا لَا تستقل وَيجوز أَن يُوكل فِي الْخلْع عبدا وَالسَّفِيه والمحجور عَلَيْهِ وَلَا يجوز أَن يُوكل الْمَحْجُور عَلَيْهِ فِي الْقَبْض فَإِن فعل وَقبض فَفِي التَّتِمَّة أَن المختلعة تَبرأ وَيكون الزَّوْج مضيعاً لمَاله وَلَو وكل الْمَرْأَة فِي الاختلاع مَحْجُورا عَلَيْهِ بِسَفَه قَالَ الْبَغَوِيّ لَا يَصح وَإِن أذن الْوَلِيّ فَلَو فعل وَقع الطَّلَاق رَجْعِيًا كاختلاع السَّفِيه وَهَذَا على مَا ذكره الْمُتَوَلِي فِيمَا إِذا أطلق أما إِذا أضَاف المَال إِلَيْهَا فَتحصل الْبَيْنُونَة ويلزمها المَال إِذْ لَا ضَرَر على السَّفِيه وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز الْخلْع فِي الطُّهْر وَالْحيض وَلَا يلْحق المختلعة طَلَاق)
الطَّلَاق فِي زمن الْحيض حرَام على مَا سَيَأْتِي وَيسْتَثْنى من ذَلِك مَا إِذا طَلقهَا على عوض وَكَذَا إِذا خَالعهَا وَاحْتج لذَلِك بِإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَبِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أطلق الْإِذْن لِثَابِت بن قيس فِي الْخلْع من غير بحث واستفصال عَن حَال الزَّوْجَة وَلَيْسَ الْحيض بِأَمْر مادر الْوُجُود فِي حق النِّسَاء قَالَ الشَّافِعِي ترك الاستفصال فِي قضايا الْأَحْوَال مَعَ قيام الِاحْتِمَال ينزل منزلَة الْعُمُوم فِي الْمقَال وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يستفصل هَل هِيَ حَائِض أم لَا ثمَّ الْمَعْنى المجوز لِلْخلعِ اخْتلف فِيهِ على وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن الْمَنْع فِي الْحيض إِنَّمَا كَانَ مُحَافظَة على جَانبهَا لتضررها بطول الْعدة فَإِذا اخْتلعت بِنَفسِهَا فقد رضيت بالتطويل
وَالثَّانِي أَن بذل المَال يشْعر بِقِيَام الضَّرُورَة أَو الْحَاجة الشَّدِيدَة إِلَى الْخَلَاص وَفِي مثل هَذَا لَا يحسن الْأَمر بِالتَّأْخِيرِ ومراقبة الْأَوْقَات وَتظهر ثَمَرَة الْخلاف فِي مَسْأَلَتَيْنِ
إِحْدَاهمَا إِذا سَأَلت الطَّلَاق ورضيت بِهِ بِلَا عوض فِي الْحيض فَهَل يكون الطَّلَاق حَرَامًا إِن(1/386)
عللنا بِالرِّضَا فَلَا يحرم كرضاها بتطويل الْعدة وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَح يحرم لِأَن الضَّرُورَة لم تتَحَقَّق لعدم بذل المَال
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة لَو خَالع الزَّوْج أَجْنَبِي فِي الْحيض فَهَل يحرم وَجْهَان وَجه الْجَوَاز أَن وجود بذل المَال يدل على الضَّرُورَة وَالأَصَح التَّحْرِيم لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهَا رضَا وَلَا بدل وَقَوله وَلَا يلْحق المختلعة طَلَاق لِأَنَّهَا تبين بِالْخلْعِ والبائن لَا يلْحقهَا طَلَاق لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّة بِدَلِيل عدم جَوَاز النّظر وَالْخلْوَة وَنَحْوهمَا وَالله أعلم
(فرع) قد علمت أَن الْخلْع يَصح مَعَ الزَّوْجَة للنَّص وكما يَصح مَعهَا كَذَلِك يَصح مَعَ الْأَجْنَبِيّ إِذا قُلْنَا إِن الْخلْع طَلَاق وَهُوَ الْأَصَح وَوَجهه أَن للزَّوْجَة حَقًا على الزَّوْج وَلها أَن تسقطه بعوض فَجَاز ذَلِك لغَيْرهَا كَالدّين وَفِي وَجه لَا يَصح فَلَو قُلْنَا إِن الْخلْع فسح لم يَصح من الْأَجْنَبِيّ لِأَن الْفَسْخ بِلَا عِلّة لَا ينْفَرد بِهِ الزَّوْج فَلَا يَصح طلبه وَالله أعلم قَالَ(1/387)
كتاب الطَّلَاق
بَاب صَرِيح الطَّلَاق وكنايته فصل وَالطَّلَاق ضَرْبَان صَرِيح وكناية
الطَّلَاق فِي اللُّغَة هُوَ حل الْقَيْد وَالْإِطْلَاق وَلِهَذَا يُقَال نَاقَة طَالِق أَي مُرْسلَة ترعى حَيْثُ شَاءَت
وَهُوَ فِي الشَّرْع اسْم لحل قيد النِّكَاح وَهُوَ لفظ جاهلي ورد الشَّرْع بتقريره وَيُقَال طلقت الْمَرْأَة بِفَتْح اللَّام على الْأَصَح وَيجوز ضمهَا
وَالْأَصْل فِيهِ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع أهل الْملَل مَعَ أهل السّنة وسنورد ذَلِك فِي مَحَله
ثمَّ للطَّلَاق أَرْكَان مِنْهَا اللَّفْظ فَلَا يَقع الطَّلَاق بِمُجَرَّد النِّيَّة وَلَو حرك لِسَانه بِكَلِمَة الطَّلَاق وَلم يرفع صَوته قدرا يسمع نَفسه نقل الْمُزنِيّ فِيهِ قَوْلَيْنِ
أَحدهمَا تطلق لِأَنَّهُ أقوى من الْكِتَابَة مَعَ النِّيَّة
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَام وَلِهَذَا اشْترط فِي صلَاته أَن يسمع نَفسه قَالَ النَّوَوِيّ الْأَظْهر الثَّانِي لِأَنَّهُ فِي حكم النِّيَّة الْمُجَرَّدَة بِخِلَاف الْكِتَابَة فَإِن فِي وُقُوع الطَّلَاق بِهِ حُصُول الإفهام وَلم يحصل هُنَا وَالله أعلم
ثمَّ اللَّفْظ إِمَّا صَرِيح وَإِمَّا كِنَايَة فالصريح مَالا يتَوَقَّف وُقُوع الطَّلَاق بِهِ على نِيَّة لِأَنَّهُ لذَلِك وضع أَي وَضعه الشَّارِع لذَلِك وَأما الْكِنَايَة فَهُوَ مَا يتَوَقَّف على النِّيَّة وَهَذَا بِالْإِجْمَاع وَلَا يَقع الطَّلَاق فِي الْكِنَايَة بِلَا نِيَّة قَالَ
(فالصريح ثَلَاثَة أَلْفَاظ الطَّلَاق والفراق والسراح وَلَا يفْتَقر صَرِيح الطَّلَاق إِلَى النِّيَّة)
أما كَون الطَّلَاق صَرِيحًا فَلِأَنَّهُ قد تكَرر فِي الْقُرْآن واشتهر مَعْنَاهُ وَهُوَ حل قيد النِّكَاح فِي(1/388)
الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وأطبق عَلَيْهِ مُعظم الْخلق وَلم يخْتَلف فِيهِ أحد قَالَ الله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إِلَى غير ذَلِك وَأما الْفِرَاق والسراح فلورودهما فِي الشَّرْع ولتكرارهما فِي الْقُرْآن بِمَعْنى الطَّلَاق قَالَ الله تَعَالَى {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وَقَالَ تَعَالَى {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} وَقَالَ تَعَالَى {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سُئِلَ عَن الطَّلقَة الثَّالِثَة فَقَالَ أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان وَفِي الْقَدِيم أَن الْفِرَاق والسراح كنايتان لِأَنَّهُمَا يستعملان فِي الطَّلَاق وَغَيره فأشبها لفظ الْبَائِن والجديد الصَّحِيح الأول لما ذكرنَا
وَاعْلَم أَن لفظ الطَّلَاق مصدر والمشتق مِنْهُ فِي حكمه فِي الصراحة فَلَو قَالَ أَنْت طَالِق أَو مُطلقَة أَو يَا طَالِق أَو يَا مُطلقَة بتَشْديد اللَّام وَقع الطَّلَاق وَإِن لم ينْو لِأَنَّهُ صَرِيح فِي حل قيد النِّكَاح مشتهر بِخِلَاف الْمُشْتَقّ من الْإِطْلَاق كَقَوْلِه أَنْت مُطلقَة بِإِسْكَان الطَّاء أَو يَاء مُطلقَة فَلَيْسَ بِصَرِيح على الصَّحِيح لعدم اشتهاره وَإِن كَانَ الْإِطْلَاق والتطليق متقاربين كالإكرام والتكريم وَفِي قَوْله أَنْت طَالِق أَو الطَّلَاق أَو طَلْقَة وَجْهَان أصَحهمَا أَنه كِنَايَة وَلَو قَالَ أَنْت مُفَارقَة أَو فارقتك أَو سرحتك وَأَنت مسرحة طلقت وَإِن لم ينْو كَالطَّلَاقِ وَالله أعلم
(فرع) قَالَ أردْت بِقَوْلِي أَنْت طَالِق إِطْلَاقهَا من الوثاق وَلَيْسَ هُنَاكَ قرينَة وبالفراق الْمُفَارقَة فِي الْمنزل وبالسراح إِلَى منزل أَهلهَا أَو قَالَ أردْت خطاب غَيرهَا فَسبق لساني إِلَيْهَا لم يقبل مِنْهُ فِي ظَاهر الحكم فَلَو صرح بذلك فَقَالَ أَنْت طَالِق من وثاق أَو سرحتك إِلَى مَوضِع كَذَا أَو فارقتك فِي الْمنزل خرج عَن كَونه صَرِيحًا وَصَارَ كِنَايَة وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) إِذا اشْتهر فِي الطَّلَاق لفظ سوى الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة الصَّرِيحَة كَقَوْل النَّاس أَنْت عَليّ حرَام فَفِي إِلْحَاقه بِالصَّرِيحِ أوجه أَصَحهَا عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه يلْحق بِالصَّرِيحِ حَتَّى يَقع الطَّلَاق وَإِن لم(1/389)
ينْو لغَلَبَة الِاسْتِعْمَال وَحُصُول التفاهم وَنسبه إِلَى التَّهْذِيب وفتاوى الْقفال وَالْقَاضِي حُسَيْن والمتأخرين وَالثَّانِي لَا يلْتَحق بالصرائح قَالَ الرَّافِعِيّ وَرجحه الْمُتَوَلِي وَوَجهه بِأَن الصرائح تُؤْخَذ من وُرُود الْقُرْآن بهَا وتكرارها على لِسَان حلَّة الشَّرِيعَة وَإِلَّا فَلَا فرق إِذا نَظرنَا إِلَى مُجَرّد اللُّغَة والاستعمال بَين الْفرق والبينونة قَالَ النَّوَوِيّ الْأَرْجَح الَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ والمتقدمون أَنه كِنَايَة مُطلقًا وَالله أعلم وَأما الْبِلَاد الَّتِي لم يشْتَهر فِيهَا هَذَا اللَّفْظ للطَّلَاق فَهُوَ كِنَايَة فِي حق أَهلهَا بِلَا خلاف وَلَو قَالَ أَنْت حرَام وَلم يقل عَليّ قَالَ الْبَغَوِيّ هُوَ كِنَايَة بِلَا خلاف وَالله أعلم قَالَ
(وَالْكِنَايَة كل لفظ احْتمل الطَّلَاق وَغَيره ويفتقر إِلَى النِّيَّة)
هَذَا هُوَ الضَّرْب الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَة وَيَقَع الطَّلَاق بهَا مَعَ النِّيَّة بِالْإِجْمَاع وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لرجل قَالَ لزوجته حبلك على غاربك أنْشدك بِرَبّ هَذِه البنية هَل أردْت الطَّلَاق فَقَالَ الرجل أردْت الْفِرَاق فَقَالَ هُوَ مَا أردْت وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن ابْنة الجون لما دخلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودنا مِنْهَا قَالَت أعوذ بِاللَّه مِنْك فَقَالَ لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك فَإِن لم ينْو لم يَقع الطَّلَاق لأثر عمر لِأَنَّهُ لَو كَانَ يَقع بِلَا نِيَّة لم يكن للتحليف فَائِدَة وَلما بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى كَعْب بن مَالك أَن يعتزل امْرَأَته قَالَ لَهَا كَعْب الحقي بأهلك فَلَمَّا نزلت تَوْبَته لم يفرق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينهمَا وَلِأَن أَلْفَاظ الْكِنَايَة تحْتَمل الطَّلَاق وَغَيره فَلَا يَقع مَا لم يُنَوّه كَمَا أَن الامساك عَن الطَّعَام لما احْتمل الْعِبَادَة وَغَيرهَا لم ينْصَرف إِلَيْهَا إِلَّا بِالنِّيَّةِ ثمَّ أَلْفَاظ الْكِنَايَة كَثِيرَة جدا فنقتصر على ذكر بَعْضهَا فَمِنْهَا قَوْله أَنْت خلية أَي خَالِيَة من الْأزْوَاج وبرية ي بَرِئت من الزَّوْج وبتة أَي قطعت الْوَصْل بَيْننَا وبتلة من تبتل الرجل إِذا ترك النِّكَاح وَانْفَرَدَ وبائن من الْبَين وَهُوَ الْفِرَاق وَيجوز بَائِنَة والأفصح بَائِن كحائض وَطَالِق وَأَنت حرَّة وَأَنت وَاحِدَة واعتدي واستبرئي رَحِمك والحقي بأهلك وحبلك على غاربك وَمَا أشبه ذَلِك كَقَوْلِه أَخْرِجِي واذهبي وسافري وتقنعي وتستري وبيني وابعدي وتجرعي وَمَا أشبه ذَلِك كَقَوْلِه أَنْت حرَام وَأَنت عَليّ مُحرمَة أَو حرمتك ثمَّ إِن نوى الطَّلَاق بقوله أَنْت عَليّ حرَام وَنَحْوهَا يَقع رَجْعِيًا وَإِن نوى عددا وَقع مَا نوى وَإِن نوى الظِّهَار فَهُوَ ظِهَار وَإِن نوى الطَّلَاق وَالظِّهَار مَعًا فأوجه أَصَحهَا بتخير بَين جعله طَلَاقا أَو ظِهَارًا وَبِهَذَا قَالَ ابْن الْحداد وَأكْثر الْأَصْحَاب وَلَا ينفذ الإثنان مَعًا بِلَا خلاف وَقيل يكون طَلَاقا وَقيل يكون ظِهَارًا قَالَ الأسنوي وَتَقْرِير منع الْجمع مَمْنُوع يَعْنِي كَونه طَلَاقا وظهاراً فَإِنَّهُ يجوز اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي الْمَعْنيين مَعًا على مَذْهَب الشَّافِعِي سَوَاء كَانَ اللَّفْظ حَقِيقَة فيهمَا كالمشترك أَو حَقِيقَة فِي أَحدهمَا(1/390)
مجَازًا فِي الآخر وَقد صرح الرَّافِعِيّ بِأَن الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز غير مُمْتَنع ذكره فِي كتاب الْأَيْمَان وَإِن أطلق قَوْله أَنْت عَليّ حرَام وَلم ينْو الطَّلَاق وَلَا الظِّهَار فَقَوْلَانِ وَهَذَا كُله تَفْرِيع على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ أَن قَوْله أَنْت عَليّ حرَام كِنَايَة أما على قَول الرَّافِعِيّ فَإِنَّهُ يكون طَلَاقا وَإِن أَرَادَ بقوله أَنْت عَليّ حرَام تَحْرِيم عينهَا أَو ذَاتهَا أَو وَطئهَا لزمَه كَفَّارَة يَمِين فِي الْحَال وَكَذَا إِن لم يكن لَهُ نِيَّة فِي الْأَظْهر وَإِن قَالَ أَنْت كالميتة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَقَالَ أردْت بِهِ الطَّلَاق أَو الظِّهَار نفذا وَإِن نوى التَّحْرِيم لزمَه الْكَفَّارَة وَإِن أطلق فالنص أَنه كالتحريم فَيكون على الْخلاف وعَلى هَذَا جرى الإِمَام وَالَّذِي ذكره الْبَغَوِيّ وَغَيره أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ وَلَو قَالَ أردْت أَنَّهَا حرَام عَليّ فَإِن جَعَلْنَاهُ صَرِيحًا وَجَبت الْكَفَّارَة وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ لَيْسَ للكناية كِنَايَة وَتَبعهُ على هَذَا جمَاعَة قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَا يكَاد يتَحَقَّق هَذَا التَّصْوِير وَلَو قَالَ أردْت أَنَّهَا كالميتة فِي الاستقذار صدق وَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن نِيَّة الْكِنَايَة لَا بُد أَن تقترن بِاللَّفْظِ فَلَو تقدّمت أَو تَأَخَّرت لم تُؤثر وَلَو نوى فِي أَوله عِنْد قَوْله أَنْت أَو عَكسه كمن نوى عِنْد قَوْله بَائِن فَفِيهِ وَجْهَان الْأَصَح فِي الشَّرْح الصَّغِير الْوُقُوع فِي الصُّورَة الأولى وَخَالف فِي الْمُحَرر فرجح أَنه لَا بُد من اقترانها بِجَمِيعِ اللَّفْظ وَاخْتلف كَلَام الرَّوْضَة والمنهاج أَيْضا فرجح فِيهِ اقتران النِّيَّة بِكُل اللَّفْظ وَقَالَ فِي الرَّوْضَة وَلَو اقترنت النِّيَّة بِأول اللَّفْظ دون آخِره أَو عَكسه طلقت فِي الْأَصَح وَقَالَ الأسنوي وَالْفَتْوَى أَنه يَقع فِي الأولى فِيمَا إِذا نوى فِي أول اللَّفْظ دون الثَّانِيَة قَالَ الْمَاوَرْدِيّ بعد تَصْحِيحه إِنَّه أشبه بِمذهب الشَّافِعِي وَالله أعلم
(فرع) قَالَ هَذَا الطَّعَام أَو الثَّوْب أَو الشَّاة حرَام عَلَيْهِ فَهُوَ لَغْو لَا يتَعَلَّق بِهِ كَفَّارَة وَلَا غَيرهَا وَالله أعلم قَالَ
بَاب الطَّلَاق السّني والبدعي فصل وَالنِّسَاء فِيهِ ضَرْبَان ضرب فِي طلاقهن سنة وبدعة وَهن ذَوَات الْحيض فَالسنة أَن يُوقع الطَّلَاق فِي طهر غير مجامع فِيهِ والبدعة أَن يُوقع الطَّلَاق فِي الْحيض أَو فِي طهر جَامعهَا فِيهِ وَضرب لَيْسَ فِي طلاقهن سنة وَلَا بِدعَة وَهن أَربع الصَّغِيرَة والآيسة وَالْحَامِل والمختلعة الَّتِي لم يدْخل بهَا الزَّوْج
لم يزل الْعلمَاء قَدِيما وحديثاً يصفونَ الطَّلَاق بِالسنةِ والبدعة وَفِي مَعْنَاهُمَا اصطلاحان أَحدهمَا أَن السّني مَا لَا يحرم إِيقَاعه والبدعي مَا يحرم وعَلى هَذَا فَلَا قسم سواهُمَا وَالثَّانِي وَهُوَ المتداول وَعَلِيهِ جرى الشَّيْخ أَن السّني طَلَاق الْمَدْخُول بهَا وَلَيْسَت الْحَامِل وَلَا صَغِيرَة وَلَا آيسة والبدعي طَلَاق الْمَدْخُول بهَا فِي حيض أَو نِفَاس أَو طهر جَامعهَا فِيهِ وَلم يتَبَيَّن حملهَا وَيبقى قسم(1/391)
آخر وَهُوَ لَا سنة فِيهِ وَلَا بِدعَة كَطَلَاق غير الْمَدْخُول بهَا وَالْحَامِل والآيسة وَالصَّغِيرَة كَمَا ذكره الشَّيْخ وَهُوَ الضَّرْب الثَّالِث
إِذا عرفت هَذَا فطلاق السّنة أَن يوقعه فِي طهر لم يُجَامِعهَا فِيهِ وَهِي مَدْخُول بهَا لِأَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا طلق زَوجته وَهِي حَائِض فَسَأَلَ عمر رَضِي الله عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ مره فَلْيُرَاجِعهَا ثمَّ ليمسكها حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض ثمَّ تظهر فَإِن شَاءَ أمْسكهَا وَإِن شَاءَ طَلقهَا قبل أَن يُجَامع فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله تَعَالَى أَن يُطلق بهَا النِّسَاء وَفِي رِوَايَة قبل أَن يَمَسهَا وَالْأَمر الْمشَار إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَي فِي عدتهن لِأَن اللَّام تَأتي بِمَعْنى فِي قَالَ الله تَعَالَى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أَي فِي يَوْم الْقِيَامَة وَقيل المُرَاد لوقت يشرعن عقبه فِي الْعدة وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَرَأَ {فطلقوهن لعدتهن} قَالَ الإِمَام وَالظَّاهِر أَنه كَانَ يذكرهُ تَفْسِيرا فانتظم من الْآيَة وَالْخَبَر أَن الطُّهْر الَّذِي لم يُجَامع فِيهِ مَحل لطلاق السّنة وَقَول الشَّيْخ فَالسنة أَن يُوقع الطَّلَاق فِي طهر غير مجامع فِي يرد عَلَيْهِ أَنه لَو وَطئهَا فِي آخر الْحيض ثمَّ طلق فِي الطُّهْر الَّذِي يَلِيهِ قبل أَن يُجَامع فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يكون سنة على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَالله أعلم
وَأما طَلَاق الْبِدْعَة فَهُوَ أَن يطلقهَا فِي الْحيض مُخْتَارًا وَهِي مِمَّن تَعْتَد بِالْأَقْرَاءِ من غير عوض من جِهَتهَا أَو يطلقهَا فِي طهر جَامعهَا فِيهِ بِلَا عوض مِنْهَا وَهِي مِمَّن يجوز أَن تحبل وَلم يتَحَقَّق حملهَا وَدَلِيله حَدِيث ابْن عمر وَادّعى الإِمَام الْإِجْمَاع عَلَيْهِ وَالْحكمَة فِي ذَلِك أَن الطَّلَاق فِي الْحيض يطول عَلَيْهَا الْعدة لِأَن بَقِيَّة الْحيض لَا يحْسب من الْعدة وَفِيه إِضْرَار بهَا وَأما الطَّلَاق فِي الطُّهْر الَّذِي جَامعهَا فِيهِ فَلِأَنَّهُ رُبمَا يعقبه نَدم عِنْد ظُهُور الْحمل فَإِن الْإِنْسَان قد يُطلق الْحَائِل دون الْحَامِل وَإِذا نَدم فقد لَا يَتَيَسَّر التَّدَارُك فيتضرر الْوَلَد وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا يملكهُ الْحر وَالْعَبْد من تَطْلِيقَات فصل وَيملك الْحر ثَلَاث تَطْلِيقَات وَالْعَبْد تَطْلِيقَتَيْنِ
يملك الْحر على زَوجته حرَّة كَانَت أَو أمة ثَلَاث تَطْلِيقَات لما
روى أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ(1/392)
جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِنِّي أسمع الله يَقُول {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فَأَيْنَ الثَّالِثَة فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إمْسَاك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان وَبِهَذَا فسرت عَائِشَة وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وَقيل الثَّلَاثَة فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الْآيَة وَلِأَنَّهُ حق خَالص للزَّوْج يخْتَلف بِالرّقِّ وَالْحريَّة فَكَانَ كعدد الزَّوْجَات وَأما العَبْد فَلَا يملك إِلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام طَلَاق العَبْد ثِنْتَانِ وروى الشَّافِعِي أَن مكَاتبا لأم سَلمَة طلق حرَّة طَلْقَتَيْنِ وَأَرَادَ الرّجْعَة فَسَأَلَ عُثْمَان وَمَعَهُ زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُمَا فابتدراه وَقَالا حرمت عَلَيْك وَلَا فرق بَين الْقِنّ وَالْمُدبر وَالْمكَاتب وَكَذَا الْمُبْغض وَمَتى طلق الْحر أَو العَبْد جَمِيع مَا يملك لم تحل لَهُ حَتَّى تنْكح زوجا غَيره ويطأها ويفارقها وتنقضي عدتهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَيصِح الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق إِذا وَصله بِهِ)
الِاسْتِثْنَاء صَحِيح مَعْهُود وَفِي الْكتاب وَالسّنة مَوْجُود ثمَّ تَارَة يَقع فِي الْعدَد وَتارَة يَقع بِلَفْظ الْمَشِيئَة فَإِن وَقع فِي الْعدَد فَلهُ شَرْطَانِ
أَحدهمَا أَن يكون مُتَّصِلا باللفط فَإِن انْفَصل فَهُوَ بَاطِل وسكتة التنفس والعي لَا يمنعان الِاتِّصَال قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ والاتصال الْمَشْرُوط هُنَا أبلغ من اشْتِرَاطه بَين الْإِيجَاب وَالْقَبُول لِأَنَّهُ يحْتَمل بَين كَلَامي الشخصين مَا لَا يحْتَمل بَين كَلَام شخص وَاحِد وَلِهَذَا لَا يَنْقَطِع التخلل بَين الْإِيجَاب وَالْقَبُول بتخلل كَلَام يسير فِي الْأَصَح وَيَنْقَطِع الِاسْتِثْنَاء على الصَّحِيح وَهل يشْتَرط قرن الِاسْتِثْنَاء بِأول اللَّفْظ فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا بل لَو بدا لَهُ الِاسْتِثْنَاء بعد تَمام الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فاستثنى حكم بِصِحَّة الِاسْتِثْنَاء
وَثَانِيهمَا وَادّعى الْفَارِسِي الْإِجْمَاع عَلَيْهِ لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء حَتَّى يتَّصل بِأول الْكَلَام قَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح وَجه ثَالِث وَهُوَ صِحَة الِاسْتِثْنَاء بِشَرْط وجود النِّيَّة قبل فرَاغ الْيَمين وَإِن لم يقارن أَولهَا وَالله أعلم
ثمَّ مَا ذَكرْنَاهُ من اتِّصَال اللَّفْظ واقتران الْقَصْد بِأول الْكَلَام يجْرِي فِي الإستثناء بألا وَأَخَوَاتهَا وَسَوَاء فِي ذَلِك التَّعْلِيق بِالْمَشِيئَةِ وَسَائِر التعليقات(1/393)
الشَّرْط الثَّانِي أَن لَا يكون الِاسْتِثْنَاء مُسْتَغْرقا فَإِن استغرق فَهُوَ بَاطِل وَيَقَع الْجَمِيع وَالله أعلم
مِثَاله قَالَ لزوجته أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدًا أَو اثْنَتَيْنِ مُتَّصِلا مَعَ النِّيَّة الْمُعْتَبرَة لم يَقع الْمُسْتَثْنى فَإِن قَالَ إِلَّا ثَلَاثًا وَقع الثَّلَاث للإستغراق وَالله أعلم أما إِذا كَانَ الِاسْتِثْنَاء بِالْمَشِيئَةِ بِأَن قَالَ أَنْت طَالِق إِن شَاءَ الله فَينْظر إِن سبقت إِن شَاءَ الله إِلَى لِسَانه لتعوده لَهَا كَمَا هُوَ الْأَدَب أَو قصد التَّبَرُّك بِذكر الله تَعَالَى أَو قصد الْإِشَارَة إِلَى أَن الْأُمُور كلهَا بِمَشِيئَة الله أَو لم يقْصد تَعْلِيقا محققاً لم يُؤثر ذَلِك وَوَقع الطَّلَاق وَإِن قصد التَّعْلِيق حَقِيقَة لم تطلق على الْمَذْهَب لأمرين
أَحدهمَا وَهُوَ طَرِيق الْمُتَكَلِّمين أَنه يَقْتَضِي مَشِيئَة جَدِيدَة ومشيئة الله تَعَالَى قديمَة فَإِذا تَعَذَّرَتْ الصّفة لم تطلق
وَالثَّانِي وَهُوَ طَرِيق الْفُقَهَاء أَنا لم نتحقق وجود الْمَشِيئَة فَلم تطلق لِأَن الأَصْل بَقَاء النِّكَاح كَمَا لَو علق بِمَشِيئَة زيد فَمَاتَ وَلم تعلم مَشِيئَة فَإِنَّهَا لَا تطلق وَفِي الحَدِيث أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ من أعتق أَو طلق وَاسْتثنى فَلهُ ثنياه بِالْقِيَاسِ على غَيره من الشُّرُوط كَمَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق إِن شَاءَ أَبوك أَو أمك أَو شِئْت وَنَحْو ذَلِك وَلَا فرق فِي الِاسْتِثْنَاء بَين أَن يَقُول أَنْت طَالِق إِن شَاءَ الله أَو إِن شَاءَ الله فَأَنت طَالِق أَو مَتى شَاءَ الله أَو إِذا شَاءَ الله وَكَذَا لَو قَالَ إِن شَاءَ الله أَنْت طَالِق وَفِي هَذِه الصِّيغَة وَجه أَن يَقع
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق أَن شَاءَ الله بِفَتْح الْهمزَة حكى فِي أصل الرَّوْضَة هُنَا ثَلَاثَة أوجه فَقَالَ وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق أَن شَاءَ الله بِفَتْح الْهمزَة وَقع فِي الْحَال وَفِي وَجه لَا يَقع وَفِي ثَالِث يفرق بَين عَارِف النَّحْو وَغَيره وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ وَمُقْتَضَاهُ وُقُوع الطَّلَاق على الصَّحِيح لكنه صحّح من زِيَادَته خلاف ذَلِك ذكره قبيل الْفَصْل الْمَعْقُود للتعليق بالجمل فَقَالَ هُنَاكَ فِي أصل الرَّوْضَة إِن الشّرطِيَّة بِكَسْر الْهمزَة فَإِن فتحت صَارَت للتَّعْلِيل فَإِذا قَالَ أَنْت طَالِق أَن لم أطلقك بِفَتْح الْهمزَة طلقت فِي الْحَال إِلَّا أَن يكون الرجل مِمَّن لَا يعرف اللُّغَة وَلَا يُمَيّز بَين إِن وَأَن وَقَالَ قصدت التَّعْلِيق فَيصدق وَقَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا أشبه وَقَالَ النَّوَوِيّ من زِيَادَته إِن من لم يعرف اللُّغَة لَا يَقع عَلَيْهِ مُطلقًا وَيحمل على التَّعْلِيق قَالَ وَهُوَ الْأَصَح وَبِه قطع الْأَكْثَرُونَ وَالله أعلم انْتهى مُلَخصا وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق إِن لم يَشَأْ الله أَو إِذا لم يَشَأْ الله لم تطلق على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق إِلَّا أَن يَشَاء الله تَعَالَى فَوَجْهَانِ أصَحهمَا فِي أصل الرَّوْضَة لَا يَقع الطَّلَاق كَمَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق إِن شَاءَ الله(1/394)
وَالثَّانِي يَقع الطَّلَاق وَبِه قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لِأَنَّهُ أوقع الطَّلَاق وَجعل الملخص مِنْهُ مَشِيئَة الله وَهِي غير مَعْلُومَة فَلَا يحصل الْخَلَاص كَمَا لَو قَالَ أَنْت طَلَاق إِلَّا أَن يَشَاء زيد وَلم يعلم بمشيئته فَإِنَّهُ يَقع الطَّلَاق والقائلون بِالصَّحِيحِ يَقُولُونَ إِن هَذَا تَعْلِيق بِعَدَمِ الْمَشِيئَة وَهِي غير مَعْلُومَة كَمَا أَن التَّعْلِيق بِالْمَشِيئَةِ وَهِي غير مَعْلُومَة وَأَيْضًا فَمَعْنَاه حصر الْوُقُوع فِي حَال عدم مَشِيئَة الْوُقُوع وَهُوَ تَعْلِيق على مُسْتَحِيل لِأَن الْوُقُوع بِخِلَاف مَشِيئَة الله محَال وَالتَّعْلِيق على المستحيل لَا يَقع بِهِ طَلَاق كَمَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق إِن صعدت السَّمَاء هَذَا مَا صَححهُ الإِمَام الْغَزالِيّ وَغَيرهمَا وَجرى عَلَيْهِ الْقفال وَنَقله عَن نَص الشَّافِعِي قَالَ الرَّافِعِيّ وَهُوَ أقوى وَلِهَذَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة يَعْنِي عدم الْوُقُوع وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) قَالَ أَنْت طَالِق إِن شَاءَ الله وَلم يقْصد تبركاً وَلَا تَعْلِيقا بل أطلق فَهَل يعق الطَّلَاق أم لَا وَهَذِه الْحَالة وَهِي حَالَة الْإِطْلَاق لم يذكرهَا الرَّافِعِيّ وَلَا النَّوَوِيّ قَالَ الأسنوي وَحكمه أَنه لَا يَقع وَالله أعلم
(فَائِدَة) إِذا فرعنا على الْمَذْهَب أَن قَوْله إِن شَاءَ الله لَا يَقع مَعَه طَلَاق بِشُرُوطِهِ كَذَلِك أَيْضا الِاسْتِثْنَاء يمْنَع انْعِقَاد التَّعْلِيق كَقَوْلِه أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار وَنَحْوه إِن شَاءَ الله وَيمْنَع أَيْضا الْعتْق كَقَوْلِه أَنْت حر إِن شَاءَ الله وَيمْنَع إنعقاد النّذر وَالْيَمِين وَيمْنَع صِحَة البيع وَسَائِر التَّصَرُّفَات وَالله أعلم قَالَ
(وَيصِح تَعْلِيقه بِالصّفةِ وَالشّرط)
كَمَا يَصح تَنْجِيز الطَّلَاق كَذَلِك يَصح تَعْلِيقه واستأنس الْأَصْحَاب لذَلِك بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم وقاسوه على الْعتْق فَإِن الْعتْق ورد بِالتَّدْبِيرِ وَهُوَ تَعْلِيق عتق بِالْمَوْتِ وَالطَّلَاق وَالْعتاق يتقاربان فِي كثير من الْأَحْكَام
وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن الْمَرْأَة قد تخَالف الزَّوْج فِي بعض مقاصده وَيكرهُ كلاقها لكَون الطَّلَاق أبْغض الْمُبَاحَات إِلَى الله وَلكنه يَرْجُو موافقتها فيعلق طَلاقهَا بِفعل مَا يكرههُ أَو ترك مَا يُريدهُ فَإِن تركت مَا يكرههُ أَو فعلت مَا يُريدهُ فَذَاك وَإِلَّا فَهِيَ مختارة للطَّلَاق كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَفِيه مُنَازعَة من جِهَة أَن الْمَعْنى الَّذِي ذكره يَقْتَضِي وجود التَّعْلِيق عِنْد وجوده لَا عِنْد عَدمه وَلَا قَائِل بِالْفرقِ وَأَيْضًا فَالْقِيَاس على الْعتْق مَمْنُوع فَإِنَّهُ ضِدّه لِأَن الْعتْق مَحْبُوب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَنَاسَبَ أَن يُوسع فِيهِ(1/395)
بِالتَّعْلِيقِ وَالطَّلَاق مبغوض إِلَى الرب فَلَا يُنَاسب ذَلِك وَلِهَذَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ لِمعَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ مَا خلق الله عز وَجل على وَجه الأَرْض أبْغض إِلَيْهِ من الطَّلَاق إِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن التَّعْلِيق بِالصّفةِ وَالشّرط بَاب متسع جدا فنقتصر على بعض الْأَمْثِلَة ليدل مَا ذَكرْنَاهُ على مَا لم نذكرهُ إِذْ هَذَا الْكتاب لَا يَلِيق بِهِ الاتساع وَقيل ذكر الْأَمْثِلَة يعلم أَن الطَّلَاق إِذا علق على شَرط لم يجز الرُّجُوع فِي التَّعْلِيق وَسَوَاء علقه بِشَرْط مَعْلُوم الْحُصُول أَو محتمله لَا يَقع الطَّلَاق إِلَّا بِوُجُود الشَّرْط وَلَا يحرم الْوَطْء قبل وجود الشَّرْط وَوُقُوع الطَّلَاق وَلَو شكّ فِي وجود الصّفة أَو الشَّرْط الْمُعَلق عَلَيْهِمَا لم يَقع طَلَاق إِذْ الأَصْل عدم ذَلِك وَلَو علق الطَّلَاق بِصفة ثمَّ قَالَ عجلت تِلْكَ الطَّلقَة الْمُعَلقَة لَا يتعجل على الصَّحِيح فَمن الْأَمْثِلَة مَا إِذا قَالَ لزوجته عِنْد التخاصم أَو غَيره أَنْت طَالِق إِن شِئْت فَيشْتَرط مشيئتها فِي مجْلِس التجارب يَعْنِي التخاطب فَإِن أخرت لم تطلق وَإِن قَالَت شِئْت على الْفَوْر طلقت وَوجه اشْتِرَاط الْفَوْر بشيئين
أَحدهمَا أَن هَذَا التَّعْلِيق استدعاء رَغْبَة جَوَاب مِنْهَا فَينزل منزلَة الْقبُول فِي الْعُقُود
وَالثَّانِي أَن يتَضَمَّن تخييرها وتمليكها الْبضْع فَكَانَ كَمَا لَو قَالَ طَلِّقِي نَفسك وَلَو قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفسك فَهُوَ تَفْوِيض الطَّلَاق إِلَيْهَا وَهُوَ تمْلِيك الطَّلَاق على الْجَدِيد فَيشْتَرط لوُقُوع الطَّلَاق تطليقها على الْفَوْر وَكَذَا لَو قَالَ طَلِّقِي نَفسك على كَذَا يَعْنِي على مائَة وَنَحْوهَا فَيشْتَرط الْفَوْر وَتبين مِنْهُ ويلزمها الْمُسَمّى فَلَو أخرت وَطلقت لم يَقع هَذَا إِذا كَانَت الزَّوْجَة مكلفة راضية أما لَو كَانَت مَجْنُونَة أَو صَغِيرَة غير مُمَيزَة لم تطلق فَإِن كَانَت مُمَيزَة فَوَجْهَانِ صحّح النَّوَوِيّ أَنَّهَا لَا تطلق أَيْضا وَلَو كَانَت غير راضية فِي الْبَاطِن طلقت فِي الظَّاهِر وَهل تطلق بَاطِنا وَجْهَان
أَحدهمَا لَا يَقع وَبِه قَالَ غير وَاحِد كَمَا لَو علق على حَيْضهَا فَقَالَت حِضْت وَهِي كَاذِبَة فَإِنَّهُ لَا يَقع بَاطِنا وَالأَصَح فِي الْمُحَرر والمنهاج والتهذيب وَبِه قَالَ الْقفال وَغَيره أَنه يَقع لِأَن التَّعْلِيق فِي الْحَقِيقَة بِلَفْظ الْمَشِيئَة وَقد وجدت لَا بِمَا فِي الْبَاطِن وَلَو شَاءَت بقلبها وَلم تَنْطَلِق بلسانها قَالَ الإِمَام الَّذِي يجب الْقطع بِهِ أَنَّهَا لَا تطلق ظَاهرا وَلَا بَاطِنا لِأَن الْكَلَام الْجَارِي على النَّفس لَيْسَ جَوَابا وَأبْدى الرَّافِعِيّ فِي الْوُقُوع تردداً وَحكى فِي الرَّوْضَة فِي ذَلِك وَجْهَيْن وَلَو قَالَت شِئْت فكذبها فَإِن قُلْنَا إِن الْمُعَلق عَلَيْهِ اللَّفْظ فَالْقَوْل قَوْله وَإِن قُلْنَا مَا فِي نفس الْأَمر فَالْقَوْل قَوْلهَا حَكَاهُ مجلي وَلَو علق الطَّلَاق بمشيئتها لَا على مخاطبته لَهَا فَقَالَ زَوْجَتي طَالِق إِن شَاءَت لم يشْتَرط الْمَشِيئَة على الْفَوْر على الْأَصَح سَوَاء كَانَت حَاضِرَة أم غَائِبَة وَلَو قَالَ لأَجْنَبِيّ إِن شِئْت فزوجتي طَالِق فَالْأَصَحّ أَنه لَا يشْتَرط مَشِيئَته على الْفَوْر إِذْ لَا تمْلِيك لَهُ وَلَو قَالَ إِن شِئْت وَشاء فلَان فَأَنت طَالِق اشْترط مشيئتها(1/396)
على الْفَوْر وَفِي مَشِيئَة فلَان وَجْهَان الصَّحِيح لَا يشْتَرط الْفَوْر وَإِذا علق بمشيئتها فَأَرَادَ أَن يرجع قبل مشيئتها لم يكن كَسَائِر التعليقات ثمَّ هَذَا كُله إِذا علق بقوله أَنْت طَالِق إِن شِئْت أما إِذا قَالَ أَنْت طَالِق مني شِئْت طلقت مَتى شَاءَت وَإِن فَارَقت الْمجْلس لِأَنَّهُ تَعْلِيق على صفة لَا تَقْتَضِي فَوْرًا وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق إِن شِئْت أَنا فَمَتَى شَاءَ وَقع الطَّلَاق وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق كَيفَ شِئْت قَالَ الْبَغَوِيّ وَأَبُو زيد والقفال تطلق شَاءَت أم لم تشأ وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ لَا تطلق حَتَّى تُوجد مَشِيئَته فِي الْمجْلس مَشِيئَة أَن تطلق وَأَن لَا تطلق
قَالَ الْبَغَوِيّ وَكَذَا الحكم إِذا قَالَ على أَي وَجه شِئْت كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ هُنَا ثمَّ أعَاد ذَلِك فِي بَاب الْعتْق قبيل الْوَلَاء وَاقْتضى نَقله هُنَاكَ رُجْحَان اشْتِرَاط الْمَشِيئَة وَالله أعلم
وَمِنْهَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِلَّا أَن يَشَاء أَبوك أَن لَا تطلقي فَلَا يَقع طَلَاق كَمَا لَو قَالَ إِلَّا أَن لَا يدْخل أَبوك الدَّار فَإِنَّهَا لَا تطلق إِن دخل وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق لَوْلَا أَبوك لم تطلق على الصَّحِيح وَمِنْهَا لَهُ زوجتان فَقَالَ من أَخْبَرتنِي مِنْكُمَا بِكَذَا فَهِيَ طَالِق فَلفظ الْخَبَر يَقع على الصدْق وَالْكذب وَلَا يخْتَص بالْخبر الأول فَإِن أخبرتاه صادقتين أَو كاذبتين مَعًا أَو على التَّرْتِيب طلقتا مَعًا وَسَوَاء قَالَ من أَخْبَرتنِي مِنْكُمَا بقدوم زيد وَنَحْوه أَو من أَخْبَرتنِي أَن زيدا قدم أَو بِأَن زيدا قد قدم على الصَّحِيح
وَمِنْهَا أَنْت طَالِق يَوْم يقدم زيد فَقدم نَهَارا طلقت ويتبين الْوُقُوع من أول النَّهَار على الصَّحِيح وَقيل يَقع الطَّلَاق عقب الْقدوم فَلَو مَاتَت ثمَّ قدم زيد ذَلِك الْيَوْم فعلى الصَّحِيح مَاتَت مُطلقَة فَلَا يَرِثهَا الزَّوْج إِن كَانَ الطَّلَاق بَائِنا وَكَذَا لَو مَاتَ الزَّوْج بعد الْفجْر فَقدم زيد فِي يَوْمه لم تَرث مِنْهُ وَلَو خَالعهَا فِي أول النَّهَار ثمَّ قدم زيد فعلى الصَّحِيح الْخلْع بَاطِل إِن كَانَ الطَّلَاق الْمُعَلق بقدوم زيد بَائِنا وَإِن كَانَ رَجْعِيًا فعلى الْخلاف فِي خلع الرَّجْعِيَّة وَالْأَظْهَر صِحَة خلع الرَّجْعِيَّة لِأَنَّهَا زَوْجَة وَلَو قدم زيد لَيْلًا لم تطلق على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَالله أعلم
وَمِنْهَا إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار أَو كلمت زيدا فَأَنت طَالِق أَو أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار أَو كلمت زيدا طلقت بِأَيِّهِمَا وجد وتنحل الْيَمين فَلَا يَقع بِالصّفةِ الْأُخْرَى شَيْء وَلَو قَالَ إِن دخلت الدَّار وَإِن كلمت زيدا بِلَا ألف فَأَنت طَالِق فَدخلت وَكلمَة وَقع طَلْقَتَانِ وبإحدى الصفتين طَلْقَة وَإِن قَالَ إِن دخلت وَكلمت بِلَا إِذن فَأَنت طَالِق فَلَا بُد من وجود الدُّخُول والتكليم وَيَقَع طَلْقَة وَاحِدَة وَسَوَاء تقدم الْكَلَام على الدُّخُول أَو تَأَخّر على الصَّحِيح وَقيل يشْتَرط تقدم الدُّخُول فَلَو أُتِي بثم بِأَن قَالَ إِن دخلت الدَّار ثمَّ كلمت زيدا فَلَا بُد مِنْهُمَا وَيشْتَرط تقدم الدُّخُول وَالله أعلم
وَمِنْهَا إِذا قَالَ إِن أكلت هَذَا الزَّبِيب فَأَنت طَالِق فأكلته طلقت فَإِن تركت وَاحِدَة فَلَا يَحْنَث وَيُقَاس بِهَذَا أشباهه وَلَو قَالَ إِن أكلت هَذَا الرَّغِيف فَأَنت طَالِق فأكلته إِلَّا فتاتاً قَالَ القَاضِي حُسَيْن(1/397)
لَا يَحْنَث كَمَا لَو قَالَ إِن أكلت هَذِه الرمانة فَأَنت طَالِق فَأَكَلتهَا إِلَّا حَبَّة فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث وَقَالَ الإِمَام وَإِن بَقِي قِطْعَة تحس وَيجْعَل لَهَا مَوضِع لم يَحْنَث وَرُبمَا يضْبط بِأَن تسمى قِطْعَة خبز وَإِن دق مدركه لم يبْق لَهُ أثر فِي بر وَلَا حنث قَالَ الرَّافِعِيّ وَالْوَجْه تنزل إِطْلَاق القَاضِي حُسَيْن على هَذَا التَّفْصِيل وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو وَقع الْحجر فِي الدَّار فَقَالَ إِن لم تخبريني هَذِه السَّاعَة من رَمَاه وَإِلَّا فَأَنت طَالِق فَفِي فتاوي القَاضِي حُسَيْن أَنا إِن قَالَت رَمَاه مَخْلُوق لم تطلق وَإِن قَالَت رَمَاه آدَمِيّ طلقت لجَوَاز أَن يكون رَمَاه الْهَوَاء أَو هرة لِأَنَّهُ وجد سَبَب الْحِنْث وشككنا فِي الْمَانِع وشبهوه بِمَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِلَّا أَن يَشَاء زيد الْيَوْم فَمضى الْيَوْم وَلم تعرف مَشِيئَته فَإِنَّهُ يَقع الطَّلَاق على خلاف فِيهِ سبق هَذَا كَلَام الرَّوْضَة هُنَا وَذكر فِي آخر الْبَاب الرَّابِع أَنه لَو قَالَ أَنْت طَالِق إِن لم يَشَأْ زيد أَو إِن لم يدْخل الدَّار أَو إِن لم يفعل كَذَا وَمَات وَلم يعلم وجود الصّفة فالأكثرون قَالُوا بالوقوع عِنْد الشَّك لِأَن الاصل عدم وجود الْمُعَلق عَلَيْهِ وَاخْتَارَ الإِمَام عدم الْوُقُوع قَالَ الرَّافِعِيّ وَهُوَ أوجه وَأقوى قَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح عدم الْوُقُوع للشَّكّ فِي الصّفة الْمُوجبَة للطَّلَاق وَالله أعلم
قلت وإيضاح مَا قَالَه النَّوَوِيّ أَنه وَإِن كَانَ الأَصْل عدم مَشِيئَة زيد أَو عدم دُخُول الدَّار إِلَّا أَنه عَارضه أصل النِّكَاح وَاحْتِمَال وجود مَشِيئَة زيد ودخوله الدَّار مُمكن فضعف أصل عدم الدُّخُول والمشيئة بِهَذَا الإحتمال وَلَا كَذَلِك النِّكَاح وَقِيَاس الْمُصَحح هُنَاكَ عدم الْوُقُوع فِي مَسْأَلَة الْحجر لاحْتِمَال صدقهَا فِيمَا أخْبرت بِهِ مَعَ أَن الْخَبَر يصدق على الصدْق وَالْكذب وَالله أعلم وَمِنْهَا لَو قَالَ كل كلمة كلمتيني بهَا إِن لم أقل مثلهَا فَأَنت طَالِق فَقَالَت الْمَرْأَة أَنْت طَالِق ثَلَاثًا فطريق الْخَلَاص من ذَلِك أَن يَقُول أَنْت تَقُولِينَ أَنْت طَالِق ثَلَاثَة إِن شَاءَ الله وَالله أعلم وَمِنْهَا لَو قيل يَا زوج القحبة فَقَالَ إِن كَانَت امْرَأَتي بِهَذِهِ الصّفة فَهِيَ طَالِق نظر إِن قصد التَّخَلُّص من عارها وَقع الطَّلَاق وَإِلَّا فَهُوَ تَعْلِيق فَينْظر إِن كَانَت الصّفة الْمَذْكُورَة طلقت وَإِلَّا فَلَا وَكَذَا لَو قَالَت لَهُ يَا خسيس فَقَالَ إِن كنت كَمَا تَقُولِينَ فَأَنت طَالِق نظر إِن أَرَادَ الْمُكَافَأَة طلقت سَوَاء كَانَ خسيساً أم لَا وَإِن قصد التَّعْلِيق لم تطلق إِلَّا بِوُجُود الخسية وَإِن أطلق وَلم يقْصد الْمُكَافَأَة وَلَا حَقِيقَة اللَّفْظ فَهُوَ للتعليق فَإِن عَم الْعرف بالمكافأة كَانَ على الْخلاف فِي أَنه يُرَاعِي الْوَضع أَو الْعرف وَالأَصَح وَبِه قطع الْمُتَوَلِي مُرَاعَاة اللَّفْظ فَإِن الْعرف لَا يكَاد يَنْضَبِط فِي مثل هَذَا فَأجَاب القَاضِي حُسَيْن بِمُقْتَضى الْوَجْه الآخر فَإِن شكّ فِي وجود الصّفة فَالْأَصْل أَن لَا طَلَاق وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَت لَهُ يَا أَحمَق فَقَالَ إِن كنت أَحمَق فَأَنت طَالِق فَالْأَمْر رَاجع مَعَ معرفَة الأحمق قَالَ الرَّافِعِيّ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الرَّوْيَانِيّ الأحمق من نقصت مرتبَة أُمُوره وأحواله عَن مَرَاتِب أَمْثَاله نُقْصَانا بَينا بِلَا سَبَب وَلَا مرض وَقَالَ النَّوَوِيّ قَالَ صاحبا الْمُهَذّب والتهذيب الأحمق من يفعل(1/398)
الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه مَعَ الْعلم بقبحه وَفِي التَّتِمَّة وَالْبَيَان أَنه من يعْمل مَا يضرّهُ مَعَ علمه بقبحه وَفِي الْحَاوِي الْكَبِير من يضع كَلَامه فِي غير مَوْضِعه فَيَأْتِي بالْحسنِ فِي مَوضِع الْقَبِيح وَعَكسه وَقَالَ ثَعْلَب الأحمق من لَا ينْتَفع بعقل وَالله أعلم
وَمِنْهَا قَالَ رجل لزوجته سرقت أَو زَنَيْت فَقَالَت لم أفعل ذَلِك فَقَالَ إِن كنت سرقت أَو زَنَيْت فَأَنت طَالِق حكم بِوُقُوع الطَّلَاق فِي الْحَال بِإِقْرَارِهِ السَّابِق كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ جازمين بِهِ وَفِيه نظر وَمِنْهَا لَو قَالَ إِن ضربتك فَأَنت طَالِق فَتطلق إِذا حصل الضَّرْب بِالسَّوْطِ أَو الوكز أَو اللكز وَلَا يشْتَرط أَن يكون حَائِل وَيشْتَرط الايلام على الْأَصَح والعض وَقطع الشّعْر لَا يُسمى ضربا فَلَا يَقع بِهِ الطَّلَاق وَتوقف الْمُزنِيّ فِي العض وَلَو قصد ضرب غَيرهَا فأصابها طلقت وَلم يقبل قَوْله لِأَن الضَّرْب تَيَقّن وَيحْتَمل أَن يصدق قَالَه الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ
وَمِنْهَا لَو قَالَ إِن رَأَيْت فلَانا فَأَنت طَالِق فرأته حَيا أَو مَيتا أَو نَائِما طلقت وَيَكْفِي رُؤْيَة شَيْء من بدنه وَإِن قل وَقيل يعْتَبر الْوَجْه وَإِن رَأَتْهُ مَسْتُورا أَو إِن رأه فِي الْمَنَام لم تطلق وَإِن رَأَتْهُ فِي مَاء صَاف أَو من وَرَاء زجاج شفاف طلقت على الصَّحِيح وَمِنْهَا لَو قَالَ إِن كلمت زيدا فَأَنت طَالِق فكلمته وَلَو كَانَ سَكرَان أَو مَجْنُونا طلقت قَالَ ابْن الصّباغ يشْتَرط أَن يكون السَّكْرَان بِحَيْثُ يسمع وَيتَكَلَّم وَلَو كَلمته وَهُوَ مغمى عَلَيْهِ أَو وَهُوَ نَائِم لم تطلق وَإِن كَلمته وَهِي مَجْنُونَة قَالَ ابْن الصّباغ لَا تطلق وَعَن القَاضِي حُسَيْن أَنَّهَا تطلق قَالَ الرَّافِعِيّ وَالظَّاهِر تَخْرِيجه على حنث النَّاسِي وَإِن كَلمته وَهِي سكرانة طلقت على الْأَصَح وَلَو خفضت صَوتهَا بِحَيْثُ لَا يسمع لم تطلق وَإِن وَقع فِي سَمعه شَيْء فَهُوَ الْمَقْصُود اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ لَا يُقَال كَلمته وَلَو نادته من مَسَافَة بعيدَة لَا يسمع مِنْهَا الصَّوْت لم تطلق فَلَو حملت الرّيح كَلَامهَا وَوَقع فِي سَمعه فَالْمَذْهَب أَنَّهَا لَا تطلق وَإِن كَانَت الْمسَافَة بِحَيْثُ يسمع فِيهَا الصَّوْت فَلم يسمع لذهول أَو شغل طلقت فَإِن لم يسمع لعَارض ريح أَو لصمم فِيهِ وَجْهَان لم يصحح الرَّافِعِيّ وَلَا النَّوَوِيّ هُنَا شَيْئا صحّح الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير الْوُقُوع وَجزم بِهِ فِي الشَّرْح الْكَبِير فِي صَلَاة الْجُمُعَة عِنْد إسماع أَرْبَعِينَ إِلَّا أَنه فرض الْمَسْأَلَة فِي الصمم فَقَط وَنَقله فِي التَّتِمَّة عَن نَص الشَّافِعِي وَأما النَّوَوِيّ فإختلف تَصْحِيحه فصحح فِي تَصْحِيح فِي التَّنْبِيه أَنه لَا يَقع وَجزم فِي صَلَاة الْجُمُعَة بالوقوع وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَ إِن سرقت مني شَيْئا فَأَنت طَالِق فَدفع إِلَيْهَا كيساً فَأخذت مِنْهُ شَيْئا لَا تطلق لِأَنَّهُ خِيَانَة لَا سَرقَة
قلت كَذَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَفِيه نظر من جِهَة أَن الْعَاميّ لَا يفرق بَين السّرقَة والخيانة فَإِذا فسرت السّرقَة بالخيانة وأخذنا بذلك أوقعنا عَلَيْهِ الطَّلَاق عملا بعرفه واعتقاده وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَ الْمَدْيُون لصَاحب الدّين إِن أخذت مَالك عَليّ فامرأتي طَالِق فَأَخذه صَاحب(1/399)
الدّين مُخْتَارًا طلقت امْرَأَة الْمَدْيُون سَوَاء كَانَ الْمَدْيُون مُخْتَارًا فِي الْإِعْطَاء أَو مكْرها وَسَوَاء أعطي بِنَفسِهِ أَو استسلفه صَاحب الدّين قَالَ الْبَغَوِيّ وَكَذَا لَو أَخذه الْحَاكِم وَدفعه إِلَى صَاحب الدّين وَفِي كتب الْعِرَاقِيّين لَا يَقع الطَّلَاق إِذا أَخذه الْحَاكِم وَدفعه إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا أَخذه الْحَاكِم بَرِئت ذمَّة الْمَدْيُون وَصَارَ الْمَأْخُوذ حَقًا لصَاحب الدّين فَلَا يبْقى لَهُ حق عَلَيْهِ وَلَا يصير بِأَخْذِهِ من الْحَاكِم آخِذا حَقه من الْمَدْيُون وَلَو قضى حَقه أَجْنَبِي قَالَ الدَّارمِيّ لَا تطلق لِأَنَّهُ بدل حَقه لَا حَقه بِنَفسِهِ وَلَو قَالَ إِن أخذت حَقك منى لم تطلق بِإِعْطَاء وَكيله وَلَا بِإِعْطَاء السُّلْطَان من مَاله فَإِن أكرهه السُّلْطَان حَتَّى أعْطى بِنَفسِهِ فعلى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُكْره وَلَو قَالَ إِن أَعطيتك حَقك فامرأتي طَالِق فَأعْطَاهُ بِاخْتِيَارِهِ طلقت سَوَاء كَانَ الْآخِذ مُخْتَارًا فِي الْأَخْذ أم لَا وَلَا تطلق بِإِعْطَاء الْوَكِيل وَالسُّلْطَان لِأَنَّهُ لم يُعْطه وَإِنَّمَا أعطَاهُ غَيره
قلت هَذَا صَحِيح حَيْثُ أَرَادَ أَن لَا يُعْطِيهِ بِنَفسِهِ أَو أطلق أما إِذا أَرَادَ بِإِعْطَاء عدم الْوَفَاء وَبَقَاء الْحق عَلَيْهِ فَيحنث بِإِعْطَاء الْوَكِيل وَالْحَاكِم لِأَنَّهُ غلط على نَفسه لِأَن صرف اللَّفْظ عَن حَقِيقَته إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي الصَّحِيح مُسْتَعْمل فَيعْمل بِهِ وَالله أعلم
وَمِنْهَا إِذا قَالَ إِن كلمتك فَأَنت طَالِق ثمَّ أَعَادَهُ طلقت وَكَذَا لَو قَالَ اعرفي ذَلِك طلقت لِأَنَّهُ كلمها وَلَو قَالَ إِن بدأتك بالْكلَام فَأَنت طَالِق أَو بِالسَّلَامِ فَأَنت طَالِق فبدأته لم تطلق وتنحل الْيَمين وَالله أعلم
وَمِنْهَا سُئِلَ القَاضِي حُسَيْن عَن امْرَأَة صعدت السَّطْح بالمفتاح فَقَالَ إِن لم تلق الْمِفْتَاح فَأَنت طَالِق فَلم تلقه وَنزلت بِهِ فَقَالَ لَا يَقع الطَّلَاق وَيحمل قَوْله إِن لم تلقه على التَّأْبِيد كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا فِيمَن دخل عَلَيْهِ صديقه فَقَالَ تغذ معي فَامْتنعَ فَقَالَ إِن لم تتغد معي فامرأتي طَالِق فَلم يفعل لَا يَقع الطَّلَاق فَلَو تغدى بعد ذَلِك مَعَه وَإِن طَال الزَّمَان انْحَلَّت يَمِينه وَإِن نوى أَن يتَعَدَّى مَعَه فِي الْحَال فَامْتنعَ وَقع الطَّلَاق وَرَأى الْبَغَوِيّ حمل الْمُطلق على الْحَال لأجل الْعَادة وَسُئِلَ القَاضِي أَيْضا عَن رجل قَالَ لامْرَأَته إِن لم تبيعي هَذِه الدجاجات فَأَنت طَالِق فقتلت وَاحِدَة مِنْهُنَّ طلق لتعذر بيع الْجَمِيع وَإِن ذبحت وَاحِدَة وباعتهن مَعَ المذبوحة لم تطلق وَسُئِلَ عَمَّن قَالَ إِن قَرَأت سُورَة الْبَقَرَة فِي صَلَاة الصُّبْح فَأَنت طَالِق فقرأتها ثمَّ فَسدتْ صلَاتهَا فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة لم تطلق على الصَّحِيح لِأَن الصَّلَاة عبَادَة وَاحِدَة يفْسد أَولهَا بِفساد آخرهَا وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَ لزوجته إِن غسلت ثوبي فَأَنت طَالِق فغسلته أَجْنَبِيَّة ثمَّ غمسته زَوجته فِي المَاء تنظيفاً فَفِي فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْن أَنَّهَا لَا تطلق لِأَن الْعرف فِي مثل هَذَا يغلب وَالْمرَاد بِالْعرْفِ الْغسْل بالصابون والأشنان وَنَحْوهمَا وَإِزَالَة الْوَسخ وَقَالَ غير القَاضِي إِن أَرَادَ الْغسْل من الْوَسخ لم تطلق وَإِن أَرَادَ التَّنْظِيف فَلَا حنث وَإِن أطلق فَلَا حنث هَذَا كَلَام الرَّوْضَة وَقَوله فَلَا حنث سَهْو(1/400)
لموافقته لما قبله وَصَوَابه حنث وَكَذَا هُوَ فِي الرَّافِعِيّ وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو حلف شخص أَنه لَا يخرج من الْبَلَد حَتَّى يقْضِي دين فلَان بِالْعَمَلِ فَعمل لَهُ بِبَعْض دينه وَقضى الْبَاقِي من مَوضِع آخر ثمَّ خرج طلقت فَلَو قَالَ أردْت أَنِّي لَا أخرج حَتَّى أخرج إِلَيْهِ من دينه وأقضي حَقه قبل قَوْله فِي الحكم قَالَ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ
وَمِنْهَا حلف شخص أَن هَذَا الَّذِي أَخذه من فلَان وَشهد بِهِ عَدْلَانِ أَنه لَيْسَ ذَلِك طلقت على الصَّحِيح لِأَنَّهَا وَإِن كَانَت شَهَادَة على النَّفْي إِلَّا أَنه نفي يُحِيط بِهِ الْعلم كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن أبي الْعَبَّاس الرَّوْيَانِيّ وَأقرهُ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ قَالَ الاسنوي الْحِنْث غير صَحِيح على قَاعِدَته فَإِنَّهُ إِذا حلف مُعْتَقدًا أَنه ذَلِك الشَّيْء وَلَيْسَ إِيَّاه لكَونه جَاهِلا بِهِ فَالْأَصَحّ أَن الْجَاهِل لَا يَحْنَث وَقد صرح الرَّافِعِيّ بِهَذِهِ الْقَاعِدَة فِي أول كتاب الْأَيْمَان إِذا حلف بِالطَّلَاق أَنه لم يفعل كَذَا فَشهد عَدْلَانِ عِنْده أَنه فعله وتيقن صدقهما أَو غلب على ظَنّه صدقهما لزمَه الْأَخْذ بِالطَّلَاق كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن أبي الْعَبَّاس الرواياني وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَقَالَ الاسنوي هَذَا إِنَّمَا يَجِيء إِذا فرعنا على حنث النَّاسِي فاعرفه وَهُوَ قريب مِمَّا مر وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَ لزوجته إِن خرجت من الدَّار بِغَيْر إذني فَأَنت طَالِق فأخرجها هُوَ فَهَل يكون إِذْنا وَجْهَان الْقيَاس الْمَنْع كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن الرَّوْيَانِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَمُقْتَضَاهُ وُقُوع الطَّلَاق وَالله أعلم
وَمِنْهَا أَنه لَو قَالَ إِن لم تخرجي اللَّيْلَة من دَاري فَأَنت طَالِق فخالعها مَعَ أَجْنَبِي فِي اللَّيْل وجدد نِكَاحهَا وَلم تخرج لم تطلق وَأَنه لَو حلف لَا يخرج من الْبَلَد إِلَّا مَعهَا فَخَرَجَا أَو تقدم بخطوات فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا لَا يَحْنَث للْعُرْف
وَالثَّانِي يَحْنَث وَلَا يحصل الْبر إِلَّا بخروجهما مَعًا بِلَا تقدم وَأَنه لَو حلف لَا يضْربهَا إِلَّا بِالْوَاجِبِ فشتمته فضربها بالخشب طلقت لِأَن الشتم لَا يُوجب الضَّرْب بالخشب وَإِنَّمَا تسْتَحقّ بِهِ التَّعْزِير وَقيل خِلَافه كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن أبي الْعَبَّاس الرَّوْيَانِيّ وَأقرهُ وَقَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح أَنَّهَا لَا تطلق فِي مَسْأَلَة الضَّرْب وَلَا فِي مَسْأَلَة التَّقَدُّم بخطوات يسيرَة وَالله أعلم وَلَو سرقت من زَوجهَا دِينَارا فَحلف بِالطَّلَاق لتردينه وَكَانَت قد أنفقته لَا تطلق حَتَّى يحصل الْيَأْس من رده بِالْمَوْتِ فَإِن تلف الدِّينَار وهما حَيَّان فوقوع الطَّلَاق على الْخلاف فِي الْحِنْث بِفعل الْمُكْره قَالَ النَّوَوِيّ إِن تلف بعد التَّمَكُّن من الرَّد طلقت على الْمَذْهَب وَالله أعلم
وَمِنْهَا أَنه لَو قَالَ إِن دخلت هَذِه الدَّار فَأَنت طَالِق وَأَشَارَ إِلَى مَوضِع من الدَّار فَدخلت غير ذَلِك(1/401)
الْموضع من الدَّار فَفِي وُقُوع الطَّلَاق وَجْهَان قَالَ النَّوَوِيّ أصَحهمَا الْوُقُوع ظَاهرا لكنه إِن أَرَادَ ذَلِك الْموضع دين فِيمَا بَينه وَبَين الله وَالله أعلم
وَمِنْهَا قَالَت لَهُ زَوجته هَذَا ملكك فَقَالَ إِن كَانَ ملكي فَأَنت طَالِق ثمَّ وكل من يَبِيعهُ فَهَل يكون ذَلِك إِقْرَارا بِأَنَّهُ ملكه وَجْهَان وَكَذَا لَو تقدم التَّوْكِيل على التَّعْلِيق قَالَ النَّوَوِيّ الْمُخْتَار فِي الْحَالين أَنه لَا طَلَاق إِذْ يحْتَمل أَن يكون وَكيلا فِي التَّوْكِيل يَبِيعهُ أَو كَانَ لغيره وَله عَلَيْهِ دين وَتعذر اسْتِيفَاؤهُ فيبيعه ليتملك ثمنه أَو بَاعه غصبا أَو بَاعه بِولَايَة كالوالد وَالْوَصِيّ والناظر وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَ إِن لم تصومي غَدا فَأَنت طَالِق فَحَاضَت فوقوع الطَّلَاق على الْخلاف فِي الْمُكْره
وَمِنْهَا لَو قَالَ إِن لم أطأك اللَّيْلَة فَأَنت طَالِق فَوَجَدَهَا حَائِضًا فَعَن الْمُزنِيّ أَنه حكى عَن الشَّافِعِي وَمَالك وَأبي حنيفَة أَنه لَا طَلَاق وَاعْترض وَقَالَ يَقع الطَّلَاق لِأَن الْمعْصِيَة لَا تعلق لَهَا بِالْيَمِينِ وَلِهَذَا لَو حلف أَن يَعْصِي الله فَلم يَعْصِهِ حنث وَقيل مَا قَالَه الْمُزنِيّ هُوَ الْمَذْهَب وَاخْتَارَهُ الْقفال وَقيل على قَوْلَيْنِ كفوات الْبر بِالْإِكْرَاهِ وَكَذَا ذكر الرَّافِعِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا عَن الرَّوْيَانِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ ثمَّ أعَاد الرَّافِعِيّ الْمَسْأَلَة فِي الْبَاب السَّادِس من كتاب الْأَيْمَان فِي النَّوْع السَّابِع عِنْد الْحلف على اسْتِيفَاء الْحُقُوق وَجزم بِمَا قَالَه الْمُزنِيّ حكما وتعليقاً وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو حلف لَا يُعِيد بِالْمَكَانِ الْفُلَانِيّ وَأقَام بِهِ يَوْم الْعِيد وَلم يخرج إِلَى الْعِيد قَالَ البوشنجي حنث وَيحْتَمل الْمَنْع نَقله الرَّافِعِيّ عَنهُ وَأقرهُ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَمِنْهَا لَو تخاصم رجل وإمرأه على المراودة فَقَالَ إِن لم تجيئ إِلَى الْفراش السَّاعَة فَأَنت طَالِق ثمَّ طَالَتْ الْخُصُومَة بَينهمَا حَتَّى مَضَت السَّاعَة ثمَّ جَاءَت إِلَى الْفراش قَالَ البوشنجي الْقيَاس أَنَّهَا طلقت كَذَا نَقله عَنهُ الرَّافِعِيّ وَأقرهُ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَمِنْهَا لَو قَالَ لزوجته إِن خرجت من الدَّار فَأَنت طَالِق وللدار بُسْتَان بَابه مَفْتُوح إِلَيْهَا فَخرجت إِلَى الْبُسْتَان قَالَ البوشنجي الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَب أَنه إِن كَانَ بِحَيْثُ يعد من جملَة الدَّار ومرافقها لَا تطلق وَإِلَّا فَتطلق كَذَا نَقله الشَّيْخَانِ عَنهُ وَأَقَرَّاهُ قَالَ البوشنجي لَو حلف أَنه لَا يعرف فلَانا وَقد عرفه بِوَجْهِهِ وطالت صحبته لَهُ إِلَّا أَنه لَا يعرف اسْمه حنث على قِيَاس الْمَذْهَب وَبِه قَالَ الاستراباذي
قَالَ البوشنجي وَلَو قَالَ إِن نمت على ثوب لَك فَأَنت طَالِق فَوضع رَأسه على مرفقة لَهَا لَا تطلق كَمَا لَو وضع عَلَيْهَا يَدَيْهِ أَو رجلَيْهِ وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) حلف لَا يَأْكُل من طَعَام فلَان فتناهدا قَالَ البوشنجي حنث وَأقر الرَّافِعِيّ قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا مُشكل لِأَن المناهدة فِي معنى الْمُعَاوضَة وَإِن لم تكن فِي معنى الْمُعَاوضَة فتتخرج على مَسْأَلَة الضَّيْف وَالله أعلم(1/402)
والمناهدة خلط الْمُسَافِرين نَفَقَتهم واشتراكهم فِي الْأكل من الْمُخْتَلط ثمَّ أعَاد الرَّافِعِيّ الْمَسْأَلَة فِي آخر كتاب الْأَيْمَان وفسرها بتفسير هُوَ أَعم مِمَّا فسره النَّوَوِيّ وَذكر مَا ذكره النَّوَوِيّ من التَّخْرِيج على مَسْأَلَة الضَّيْف وَالله أعلم
وَمِنْهَا قَالَ البوشنجي لَو قَالَ إِن دخلت دَار فلَان مَا دَامَ فِيهَا فَأَنت طَالِق فتحول فلَان مِنْهَا ثمَّ عَاد إِلَيْهَا فدخلتها لَا تطلق وَأقرهُ الشَّيْخَانِ على ذَلِك قَالَ البوشنجي وَلَو قَالَ إِن أغضبتك فَأَنت طَالِق فَضرب ابْنهَا طلقت وَإِن كَانَ ضرب تَأْدِيب
قلت كَذَا أطلقهُ الشَّيْخَانِ وَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِن أَمرته بضربه أَو لم أمره وَادعت أَنَّهَا لم تغْضب لم يَقع لعدم وجود الصّفة إِذْ لَا يلْزم من الضَّرْب الْغَضَب وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَ إِن أكلت من الَّذِي تطبخيه فَهِيَ طَالِق فَوضعت الْقدر على الكانون وأوقد غَيرهَا لم تطلق وَكَذَا لَو سجر التَّنور غَيرهَا وَوضعت الْقدر فِيهِ كَمَا قَالَه الْعَبَّادِيّ وَأقرهُ الشَّيْخَانِ
قلت وَهُوَ صَحِيح فِيمَن عَادَتهَا تباشر الطَّبْخ بِنَفسِهَا وَأما مَا جرت بِهِ عَادَة أَصْحَاب الثروة من أَن الْمَرْأَة لَهَا خَادِم هِيَ تتولى وضع الْقدر على الكانون والوقيد وَالزَّوْجَة تراقبها فِي أَمر الطَّبْخ فَيتَّجه الْحِنْث إِذْ يصدق عَلَيْهَا أَنَّهَا طبخت فِي عرفهم واستعمالهم وَلِهَذَا لم تزل الزَّوْجَة تَقول عِنْد مخاصمها لم أقصر فِي حَقه وَلم أزل أطبخ لَهُ وأغسل عَلَيْهِ فَهُوَ عِنْدهم عرف شَائِع يطرد وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَ إِن كَانَ فِي بَيْتِي نَار فامرأتي طَالِق وَفِيه سراج طلقت قَالَه الْعَبَّادِيّ وَأقرهُ الشَّيْخَانِ
قلت وَفِيه نظر لِأَن مُقْتَضى الْعرف لَا يَقْتَضِيهِ وَهَذَا عِنْد عدم الْقَرِينَة الدَّالَّة على النَّار الْمُعْتَادَة أما عِنْد وجود الْقَرِينَة الدَّالَّة على ذَلِك كمن جَاءَ بآنية لأخذ نَار الطَّبْخ وَنَحْوه فَالْوَجْه الْقطع بِعَدَمِ الْوُقُوع وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَت لَهُ زَوجته لَا طَاقَة بِالْجُوعِ مَعَك فَقَالَ إِن جعت يَوْمًا فِي بَيْتِي فَأَنت طَالِق وَلم ينْو المجازاة فَيعْتَبر حَقِيقَة الصّفة وَلَا تطلق بِالْجُوعِ فِي أَيَّام الصَّوْم قَالَه الْعَبَّادِيّ وَأقرهُ الشَّيْخَانِ
وَمِنْهَا لَو قَالَ لزوجته إِن لم تَكُونِي أحسن من الْقَمَر اَوْ إِن لم يكن وَجهك أحسن من الْقَمَر فَأَنت طَالِق قَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ والقفال وَغَيرهمَا لَا تطلق وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم} قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا الحكم والاستشهاد مُتَّفق عَلَيْهِ وَقد نَص عَلَيْهِ(1/403)
الشَّافِعِي قَالَ الْمروزِي لَو قَالَ إِن لم أكن أحسن من الْقَمَر فَأَنت طَالِق لَا تطلق وَلَو كَانَ زنجياً أسود وَالله أعلم
وَمِنْهَا إِذا علق طَلاقهَا بحيضها فَقَالَت حِضْت وَأنكر الزَّوْج صدقت بِيَمِينِهَا وَكَذَا الحكم فِي كل مَالا يعرف إِلَّا مِنْهَا كَقَوْلِه إِن أضمرت لي سوءا فَقَالَت أضمرت فَإِنَّهُ يَقع الطَّلَاق وَلَو علق طَلاقهَا بزناها فَقَالَت زَنَيْت فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا تصدق لِأَنَّهُ خَفِي تندر مَعْرفَته فَأشبه الْحيض وأصحهما عِنْد الإِمَام وَآخَرين لَا تصدق كالتعليق بِالدُّخُولِ وَغَيره لِأَن مَعْرفَته مُمكنَة وَالْأَصْل بَقَاء النِّكَاح وطرد الْخلاف فِي الْأَفْعَال الْخفية الَّتِي لَا تكَاد يُوقف عَلَيْهَا وَلَو علق بِالْولادَةِ فادعتها وَأنكر وَقَالَ هَذَا الْوَلَد مستعار لم تصدق هِيَ على الْأَصَح وتطالب بِالْبَيِّنَةِ كَسَائِر الصِّفَات وَلَو علق طَلَاق غَيرهَا بحيضها لم يقبل قَوْلهَا فِيهِ إِلَّا بِتَصْدِيق الزَّوْج وَلَو قَالَ إِن حِضْت فَأَنت وضرتك طالقتان فَقَالَت حِضْت وكذبها طلقت وَلم تطلق ضَرَّتهَا على الصَّحِيح وَيشْتَرط فِي التَّعْلِيق بِالْحيضِ أَن تحيض ثمَّ تطهر وَحِينَئِذٍ يَقع الطَّلَاق إِن قَالَ إِن حِضْت حَيْضَة فَلَو قَالَ إِن حِضْت وَأطلق فَالْمَذْهَب أَنه يَقع بِرُؤْيَة الدَّم فَإِن انْقَطع قبل يَوْم وَلَيْلَة وَلم يعد إِلَى خَمْسَة عشر يَوْمًا تَبينا أَنه لم يَقع وَالله أعلم
وَمِنْهَا فِي فَتَاوَى الْقفال لَو قَالَ إِن كنت حَامِلا فَأَنت طَالِق فَقَالَت أَنا حَامِل فَإِن صدقهَا الزَّوْج حكم بِوُقُوع الطَّلَاق فِي الْحَال وَإِن كذبهَا لم تطلق حَتَّى تَلد فَإِن لمسها النِّسَاء فَقَالَ أَربع مِنْهَا فَصَاعِدا إِنَّهَا حَامِل لم تطلق لِأَن الطَّلَاق لَا يَقع بقول النسْوَة وَلَو علق الطَّلَاق بِالْولادَةِ فَشهد أَربع نسْوَة بهَا لم يَقع الطَّلَاق وَإِن ثَبت النّسَب وَالْمِيرَاث لِأَنَّهُمَا من تَوَابِع الْولادَة وضروراتها بِخِلَاف الطَّلَاق وَالله أعلم
وَمِنْهَا لَو قَالَ إِن لم أطلقك فَأَنت طَالِق لم يَقع الطَّلَاق حَتَّى يحصل الْيَأْس من التَّطْلِيق وَفِي معنى ذَلِك التَّعْلِيق بِنَفْي دُخُول الدَّار أَو الضَّرْب وَسَائِر الْأَفْعَال بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ إِذا لم أطلقك فَأَنت طَالِق فَإِنَّهَا تطلق إِذا مضى زمَان يُمكن أَن تطلق فِيهِ وَلم تطلق وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب فِي إِن وَإِذا وَهُوَ الْمَنْصُوص وَالْفرق بَين إِن وَإِذا أَن إِن حرف يدل على مُجَرّد الِاشْتِرَاط فَلَا اشعار لَهُ بِالزَّمَانِ بِخِلَاف إِذا فَإِنَّهَا ظرف زمَان وَقيل فيهمَا قَولَانِ وَلَو قَالَ مَتى لَو أطلقك أَو مهما أَو أَي حِين أَو كلما لم أفعل أَو تفعلي كَذَا فَأَنت طَالِق فَمضى زمن الْفِعْل وَلم تفعل طلقت على الْمَذْهَب كلفظة إِذا
وَاعْلَم أَن لَفْظَة إِن الْمَكْسُورَة إِذا فتحت صَارَت للتَّعْلِيل فَلَو قَالَ أَن لم أطلقك فَأَنت طَالِق بِفَتْح أَن طلقت فِي الْحَال قَالَ الرَّافِعِيّ الْأَشْبَه أَنه يَقع فِي الْحَال إِلَّا أَن يكون مِمَّن لَا يعرف اللُّغَة وَقَالَ قصدت التَّعْلِيق فَيقبل مِنْهُ وَيصدق قَالَ النَّوَوِيّ يكون ذَلِك للتعليق مُطلقًا إِذا كَانَ عامياً لَا يفرق بَين إِن وَأَن وَهُوَ الْأَصَح وَبِه قطع الْمُحَقِّقُونَ وَمَا قَالَه النَّوَوِيّ نَقله الرَّافِعِيّ عَن الشَّيْخ أبي حَامِد(1/404)
وَالْإِمَام وَالْغَزالِيّ وَالْبَغوِيّ وَاعْلَم أَن قَول الْعَاميّ أَنْت طَالِق أَن دخلت الدَّار بِفَتْح أَن كَذَاك وَكَذَا قَوْله أَنْت طَالِق إِذْ دخلت الدَّار وَإِن كَانَت للتَّعْلِيل لِأَنَّهُ فرق بَين إِذْ وَإِذا وَالله أعلم
(فرع) علق طَلَاق زَوجته بِصفة بِصفة كدخول الدَّار مثلا ثمَّ أَبَانهَا قبل الدُّخُول بخلع أَو بِالثلَاثِ فِي الْمَدْخُول بهَا أَو بِوَاحِدَة فِي غير الْمَدْخُول بهَا ثمَّ وجدت الصّفة فِي حَال الْبَيْنُونَة ثمَّ جدد نِكَاحهَا ثمَّ وجدت الصّفة ثَانِيًا فِي النِّكَاح الثَّانِي لم تطلق على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْأَصْحَاب وَيجْرِي الْخلاف فِي عود الْإِيلَاء وَالظِّهَار وَلَو لم تُوجد الصّفة فِي حَال الْبَيْنُونَة ثمَّ وجدت فِي النِّكَاح الثَّانِي لم تطلق على الرَّاجِح لِأَن التَّعْلِيق يتَعَلَّق بِالنِّكَاحِ الَّذِي وجد التَّعْلِيق فِيهِ وَالنِّكَاح المجدد غَيره فَلَو كَانَ الطَّلَاق رَجْعِيًا ثمَّ رَاجعهَا ثمَّ وجدت الصّفة طلقت بِلَا خلاف لِأَنَّهُ لَيْسَ نِكَاحا مجدداً وَلم تحدث حَالَة تمنع وُقُوع الطَّلَاق وَهَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي يعبر عَنْهَا بِعُود الْيَمين وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يَقع الطَّلَاق قبل النِّكَاح)
شَرط وُقُوع الطَّلَاق الْولَايَة على الْمحل كالزوجية فَلَا يَصح طَلَاق غير الزَّوْج سَوَاء كَانَ بالتنجيز كَقَوْلِه لأجنبية أَنْت طَالِق أَو بِالتَّعْلِيقِ كَقَوْلِه لأجنبية إِن تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق أَو إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق وَحجَّة ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا طَلَاق إِلَّا فِيمَا يملك وَسُئِلَ البُخَارِيّ أَي شَيْء أصح فِي الطَّلَاق قبل النِّكَاح فَقَالَ حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده وروى لَا طَلَاق إِلَّا بعد نِكَاح وبالقياس على مَا لَو قَالَ لأجنبية إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق ثمَّ تزَوجهَا ثمَّ دخلت الدَّار فَإِنَّهَا لَا تطلق بالِاتِّفَاقِ وَلنَا قَول فِي الْمُعَلق أَنه يَقع وَالْمذهب أَنه لَا يَقع وَالله أعلم قَالَ
(وَأَرْبَعَة لَا يَقع طلاقهم الصَّبِي وَالْمَجْنُون والنائم وَالْمكْره)
أما الثَّلَاثَة الأول فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل وَأما الْمُكْره فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا طَلَاق وَلَا(1/405)
عتاق فِي غلاق وَلَفظ ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم إغلاق بِالْألف وَهُوَ الْمَحْفُوظ والإغلاق الاكراه قَالَه أَبُو عبيد والقتيبي وَفِي
حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ وضع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَاعْلَم أَن المبرسم والمغمى عَلَيْهِ كالنائم وَأما السَّكْرَان فَيَقَع طَلَاقه على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ مُكَلّف وحجته قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وَلِأَن عليا رَضِي الله عَنهُ رأى إِيجَاب حد المفتري لهذيانه وَوَافَقَهُ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على ذَلِك فَدلَّ على أَن لكَلَامه حكما كالصاحي وَلِأَنَّهُ كالصاحي فِي قَضَاء صلَاته زمن سكره فَكَذَا فِي وُقُوع الطَّلَاق وَهل يَقع طَلَاقه بَاطِنا وَجْهَان وَمن شرب دَوَاء أَزَال عقله لغير حَاجَة حكمه حكم السَّكْرَان لاشْتِرَاكهمَا فِي التَّعَدِّي بالشرب
وَاعْلَم أَن الْمُكْره على تَعْلِيق الطَّلَاق لَا يَصح مِنْهُ التَّعْلِيق كَمَا يمْنَع الاكراه تَنْجِيز الطَّلَاق وَلَا بُد من معرفَة شُرُوط الاكراه لِأَنَّهَا قد تَلْتَبِس على كثير من الْفُقَهَاء فضلا عَن المتفقهة وَكَثِيرًا مَا يَقع فِي الْفَتَاوَى مَا يَقُول الْعلمَاء فِي شخص أكره على طَلَاق زَوجته الاكراه الشَّرْعِيّ فَهَل يَقع طَلَاقه فَيَقُول الْمُفْتِي إِذا أكره الاكراه الشَّرْعِيّ لَا يَقع وَهَذَا الْجَواب وَإِن كَانَ يُقَال إِنَّه صَحِيح إِلَّا أَنه خطأ بِاعْتِبَار عدم استفسار السَّائِل وَقد كَانَ بعض مَشَايِخنَا يُفْتِي بِمثل ذَلِك فاتفق أَنه استفسر السَّائِل فِي وَاقعَة فأبان عَن معنى الاكراه الشَّرْعِيّ عِنْده فَوَجَدَهُ بِاعْتِبَار عرف ذَلِك السَّائِل وَكَانَت الصُّورَة أَن شخصا حلف بِالطَّلَاق لَا يشرب الْخمر فَمر على أَمِير كَبِير وَهُوَ يشرب الْخمر فَحلف الْأَمِير بِالطَّلَاق عَلَيْهِ ليشربن مَعَه فَشرب واعتقد أَن ذَلِك اكراه فَبعد أَن كتب لَهُ لَا يَقع الطَّلَاق أَخذ الْفَتْوَى مِنْهُ وَأَفْتَاهُ بالوقوع وَكَانَ بعد ذَلِك إِذا كتب على فَتْوَى يذكر شُرُوط الاكراه وَلَا يقْتَصر على قَوْله إِذا أكره الاكراه الشَّرْعِيّ لَا يَقع إِذا عرفت هَذَا فَيشْتَرط فِي الاكراه كَون الْمُكْره بِكَسْر الرَّاء غَالِبا قَادِرًا على تَحْقِيق مَا هدد بِهِ الْمُكْره بِفَتْح الرَّاء وَقدرته إِمَّا بِولَايَة أَو تغلب أَو فرط هجوم وَيشْتَرط كَون الْمُكْره مَغْلُوبًا عَاجِزا عَن الدّفع بهرب أَو مقاومة أَو استغاثة بِغَيْرِهِ وَيشْتَرط أَيْضا أَن يغلب على ظَنّه أَنه إِن امْتنع مِمَّا(1/406)
أكرهه عَلَيْهِ أَن يُوقع بِهِ الْمَكْرُوه وَالصَّحِيح أَنه لَا يشْتَرط تَنْجِيز مَا توعده بِهِ بل يَكْفِي التوعيد نعم لَا يحصل الاكراه بالتخويف بعقوبة آجله كَقَوْلِه لأَقْتُلَنك غَدا وَيشْتَرط أَيْضا أَلا يظْهر مَا يدل على إختيار الْمُكْره بِفَتْح الرَّاء فَإِن ظهر خِلَافه وَقع الطَّلَاق كَمَا إِذا أكرهه أَن يُطلق زَوجته ثَلَاثًا فَطلق وَاحِدَة فَإِنَّهُ يَقع وَكَذَا عَكسه وَكَذَا إِن أكرهه على أَن يُطلق بِصَرِيح الطَّلَاق فَطلق بِالْكِنَايَةِ أَو بِصَرِيح آخر وَبِالْعَكْسِ أَو أكرهه على تَنْجِيز الطَّلَاق فعلقه أَو بِالْعَكْسِ فَلَا عِبْرَة بالاكراه فِي هَذِه الصُّور وَيَقَع الطَّلَاق لظُهُور اخْتِيَاره إِذا عرفت هَذَا فَلَا بُد من معرفَة مَا يحصل بِهِ الاكراه من الْأَمر الْمَكْرُوه وللأصحاب فِيهِ خلاف قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة وَفِيمَا يكون التخويف بِهِ اكراهاً سَبْعَة أوجه وَنحن نقتصر على مَا يُفْتى بِهِ وَالأَصَح أَنه يحصل بالتخويف بِالْقَتْلِ وَالْقطع وَالضَّرْب الشَّديد وَالْحَبْس كَذَا أطلقهُ فِي الرَّوْضَة وَقَيده فِي الْمَذْهَب وَغَيره بِالْحَبْسِ الطَّوِيل وَكَذَا يحصل الاكراه بالتخويف بِأخذ المَال واتلافه وَزَاد الشَّيْخ أَبُو عَليّ التوعد بِنَوْع استخفاف لرجل وجيه قَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح أَن الاكراه يحصل بِأَن يكرههُ على فعل يُؤثر الْعَاقِل الاقدام عَلَيْهِ حذرا مِمَّا يهدد بِهِ فعلى هَذَا ينظر فِيمَا طلب مِنْهُ وَمَا هدد بِهِ فقد يكون الشَّيْء اكراهاً فِي مَطْلُوب دون مَطْلُوب وَفِي شخص دون شخص وَالله أعلم
وَلَا يحصل الاكراه بِأَن يَقُول شخص طلق امْرَأَتك وَإِلَّا قتلت نَفسِي أَو كفرت أَو تركت الصَّلَاة وَلَا يَقُول مُسْتَحقّ الْقصاص طلق امْرَأَتك وَإِلَّا اقتصصت مِنْك وَالله أعلم وَاعْلَم أَن النَّاسِي وَالْجَاهِل لَا يَقع طَلَاقه على الرَّاجِح قَالَ النَّوَوِيّ لحَدِيث رفع عَن أمتِي وَالْمُخْتَار أَنه عَام فَيعْمل بِعُمُومِهِ إِلَّا فِيمَا دلّ الدَّلِيل على تَخْصِيصه كغرامة الْمُتْلفَات وَالله أعلم
(فرع) أَخذ الْحَاكِم الظَّالِم شخصا بِسَبَب غَيره وطالبه بِهِ فَقَالَ لَا أعرف مَوْضِعه أَو طَالبه بِمَالِه فَقَالَ لَا شَيْء لَهُ عِنْدِي فَلم يخله حَتَّى يحلف بالطلاف فَحلف بِهِ كَاذِبًا وَقع طَلَاقه ذكره الْقفال وَغَيره لِأَنَّهُ لم يكرههُ على الطَّلَاق بِخِلَاف مَا إِذا أمْسكهُ اللُّصُوص وَقَالُوا لَا نخليك حَتَّى تحلف أَنَّك لَا تذكر مَا جرى فَحلف لَا يَقع الطَّلَاق إِذا ذكره لأَنهم أكرهوه على الْحلف بِالطَّلَاق هُنَا وَالله أعلم
(فرع) تلفظ بِالطَّلَاق ثمَّ قَالَ كنت مكْرها وَأنْكرت الْمَرْأَة لايقبل قَوْله إِلَّا أَن يكون مَحْبُوسًا أَو كَانَ هُنَاكَ قرينَة أُخْرَى فَيقبل وَلَا تحل لأحد أَن يشْهد عَلَيْهِ فِي مثل ذَلِك وأشباهه بِمُطلق الطَّلَاق وَمن شهد بذلك فَهُوَ شَاهد زور آثم قلبه وَلسَانه وشهادته مَكْتُوبَة فِي صَحِيفَته الخبيثة وَيسْأل عَنْهَا وَالله بَصِير بِمَا شهد وَالله أعلم
(فرع) طلق إِحْدَى زوجتيه بِعَينهَا ثمَّ نَسِيَهَا حرم عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاع بِكُل مِنْهُمَا حَتَّى يتَذَكَّر فَلَو بادرت وَاحِدَة وَقَالَت أَنا الْمُطلقَة فَلَا يقنع مِنْهُ بقوله نسيت أَو لَا أَدْرِي بل يُطَالب بِيَمِين جازمة أَنه لم(1/407)
يطلقهَا فَإِن نكل حَلَفت وَقضى بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَة وَلَو طلق مُبْهما بِأَن قَالَ إِحْدَاكُمَا طَالِق وَلم يقْصد وَاحِدَة بِعَينهَا طلقت وَاحِدَة على الابهام وبعينها هُوَ بِاخْتِيَارِهِ وَالله أعلم
(فرع) قَالَ لزوجته الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق أَنْت طَالِق أَنْت طَالِق نظر إِن سكت بَين الطلقتين سكتة فَوق سكتة التنفس وَنَحْوه وَقع الثَّلَاث فَلَو قَالَ أردْت التَّأْكِيد لم يقبل ظَاهرا ويدين وَإِن لم يسكت وَقصد التَّأْكِيد قبل وَلم يَقع إِلَّا طَلْقَة وَإِن قصد الِاسْتِئْنَاف وَقع الثَّلَاث وَكَذَا إِن أطلق على الْأَظْهر جَريا على ظَاهر اللَّفْظ لِأَن التأسيس فِيهِ أولى من التَّأْكِيد وَالله أعلم
(فرع) لَو قَالَ شخص لزوجته أَنْت طَالِق ثَلَاثًا وَقع الثَّلَاث وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق وَنوى ثِنْتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَقع مَا نوى وَيدل لذَلِك حَدِيث ركَانَة فِي تَحْلِيف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ آللَّهُ مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة فَلَو كَانَت الثَّلَاث وَاحِدَة لما كَانَ للتحليف فَائِدَة وَلِحَدِيث مُسلم فِي غير الْمَدْخُول بهَا لِأَنَّهَا تبين بِالْأولَى وَالله أعلم قَالَ
بَاب الرّجْعَة فصل وَإِذا طلق امْرَأَته وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ فَلهُ مراجعتها مَا لم تنقض عدتهَا فَإِن انْقَضتْ عدتهَا كَانَ لَهُ نِكَاحهَا وَتَكون مَعَه على مَا بَقِي من عدد الطَّلَاق
الرّجْعَة بِفَتْح الرَّاء على الْأَفْصَح وَكسرهَا لُغَة وَهِي فِي الشَّرْع عبارَة عَن الرَّد إِلَى النِّكَاح بعد طَلَاق غير بَائِن على وَجه مَخْصُوص
وَالْأَصْل فِيهَا الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} الْآيَة قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالرَّدّ الرّجْعَة باجماع الْمُفَسّرين وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَفِي قصَّة ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مره فَلْيُرَاجِعهَا
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طلق حَفْصَة ثمَّ رَاجعهَا فَإِذا طلق الْحر امْرَأَته وَاحِدَة أَو طَلْقَتَيْنِ أَو العَبْد طَلْقَة بعد الدُّخُول بِلَا عوض فَلهُ مراجعتها(1/408)
قبل أَن تَنْقَضِي الْعدة لما تقدم من الْأَدِلَّة وَتَصِح الرّجْعَة بالعجمية على الصَّحِيح سَوَاء أحسن الْعَرَبيَّة أم لَا وَلَا يشْتَرط فِيهَا الْإِشْهَاد على الصَّحِيح وَلَا تقبل التَّعْلِيق فَلَو قَالَ رَاجَعتك إِن شِئْت فَقَالَت شِئْت لم تصح وَيشْتَرط أَن تكون المرتجعة مُعينَة فَلَو طلق إِحْدَى زوجتيه مُبْهما ثمَّ قَالَ راجعت الْمُطلقَة لم يَصح على الْأَصَح وَلَا يشْتَرط رضَا الزَّوْجَة فِي ذَلِك نعم يشْتَرط أَن تكون الرّجْعَة بالْقَوْل الصَّرِيح للقادر لِأَن الرّجْعَة اسْتِبَاحَة بضع مَقْصُود فَلم تصح بِغَيْر القَوْل كَالنِّكَاحِ وَلَا تصح بِالْوَطْءِ والقبلة والمباشرة بِشَهْوَة
وَصِيغَة الرّجْعَة أَن يَقُول رَاجَعتك أَو ارتجعتك أَو رجعتك وَهَذِه الثَّلَاث صَرِيحَة وَيسْتَحب أَن يضيف إِلَى النِّكَاح أَو الزَّوْجِيَّة أَو نَفسه وَلَا يشْتَرط ذَلِك نعم لَا بُد من إِضَافَة هَذِه الْأَلْفَاظ إِلَى مظهر أَو مُضْمر كَقَوْلِه راجعت فُلَانَة أَو رَاجَعتك أما مُجَرّد راجعت فَلَا يَكْفِي وَلَو قَالَ رَددتهَا فَالْأَصَحّ أَنه صَرِيح فعلى هَذَا يشْتَرط أَن يَقُول إِلَى نِكَاحي على الصَّحِيح وَلَو قَالَ أمسكتك فَهَل هُوَ كِنَايَة أم صَرِيح فِيهِ خلاف صحّح الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر أَنه صَرِيح وَنَقله عَنهُ فِي الرَّوْضَة وَسكت عَلَيْهِ قَالَ الاسنوي الصَّوَاب أَنه كِنَايَة فقد قَالَ فِي الْبَحْر إِن الشَّافِعِي نَص عَلَيْهِ فِي عَامَّة كتبه وَلَو قَالَ تَزَوَّجتك أَو نكحتك فَهَل هُوَ كِنَايَة أم صَرِيح فِيهِ خلاف الْأَصَح فِي أصل الرَّوْضَة أَنه كِنَايَة وَاعْلَم أَن صرائح الرّجْعَة محصورة على الصَّحِيح لِأَن صرائح الطَّلَاق محصورة فالرجعة الَّتِي تحصل اباحته أولى ثمَّ شَرط صِحَة الرّجْعَة بَقَاؤُهَا فِي الْعدة وَكَونهَا قَابِلَة للْحلّ فَلَو ارْتَدَّت أَو هُوَ فَرَاجعهَا فِي الْعدة لم تصح الرّجْعَة لِأَن الْمحل غير حَلَال فِي هَذِه الْحَالة كَمَا لَا يَصح نِكَاحهَا فَلَو انْقَضتْ عدتهَا فَاتَت الرّجْعَة بِحُصُول الْبَيْنُونَة ثمَّ إِن جدد نِكَاحهَا قبل أَن تنْكح زوجا آخر أَو بعده وَقبل الاصابة أَو بعد الْإِصَابَة عَادَتْ إِلَيْهِ بِمَا بَقِي من عدد الطَّلَاق وَلَا يهدم الزَّوْج الثَّانِي مَا وَقع من الطَّلَاق وَاحْتج الْأَصْحَاب بِمَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه سُئِلَ عَمَّن طلق امْرَأَته طَلْقَتَيْنِ وَانْقَضَت عدتهَا فَتزوّجت غَيره وفارقها ثمَّ تزَوجهَا الأول فَقَالَ هِيَ عِنْده بِمَا بَقِي من الطَّلَاق وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَزيد ومعاذ وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَبِه قَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَلِأَن الطَّلقَة والطلقتين لَا يؤثران فِي التَّحْرِيم المحوج إِلَى زوج آخر فَالنِّكَاح الثَّانِي وَالدُّخُول فِيهِ لَا يهدمانها كَوَطْء السَّيِّد الْأمة الْمُطلقَة وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن طَلقهَا ثَلَاثًا فَلَا تحل لَهُ إِلَّا بعد وجود خَمْسَة أَشْيَاء انْقِضَاء عدتهَا مِنْهُ وَتَزَوجهَا بِغَيْرِهِ ودخوله بهَا وبينونتها وانقضاء عدتهَا مِنْهُ)
إِذا طلق الْحر امْرَأَته ثَلَاثًا أَو العَبْد طَلْقَتَيْنِ سَوَاء كَانَ قبل الدُّخُول أَو بعده وَسَوَاء كَانَ الطَّلَاق(1/409)
فِي نِكَاح وَاحِد أَو أَكثر سَوَاء كَانَ الطَّلَاق الثَّلَاث بِلَفْظ وَاحِد أَو أَكثر حرمت عَلَيْهِ حَتَّى تنْكح زوجا غَيره ويطأها فِي الْفرج ويطلقها وتنقضي عدتهَا لقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أَي ثَلَاثَة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وَاعْلَم أَن النِّكَاح جَاءَ بِمَعْنى العقد فِي قَوْله {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} وَبِمَعْنى الْوَطْء فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} وترجحت هُنَا إِرَادَة الْوَطْء بورود السّنة قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا جَاءَت امْرَأَة رِفَاعَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت إِنِّي كنت عِنْد رِفَاعَة فطلقني فَبت طَلَاقي فَتزوّجت بعده بِعَبْد الرَّحْمَن بن الزبير بِفَتْح الزَّاي وَإِن مَا مَعَه مثل هدبة الثَّوْب فَقَالَ عبد الرَّحْمَن كذبت يَا رَسُول الله وَالله إِنِّي لأعركها عَرك الْأَدِيم فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ تريدين أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك وَأَرَادَ بِهِ الْوَطْء وَسميت عسيلة تَشْبِيها بالعسل ولأنا لَو لم نجْعَل الاصابة شرطا لَكَانَ التَّزْوِيج لأجل الْإِحْلَال لَا للاستمتاع وَالنِّكَاح إِنَّمَا يُرَاد الِاسْتِمْتَاع لَا للاحلال وَالله أعلم
(فرع) الْعدة تكون بِالْحملِ أَو الاقراء أَو الْأَشْهر فَإِذا ادَّعَت الْمُعْتَدَّة بِالْأَشْهرِ انْقِضَاء عدتهَا فَأنْكر الزَّوْج صدق بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ اخْتِلَاف فِي وَقت طَلَاقه وَأما عدَّة الْحَامِل فتنقضي بِوَضْع الْحمل التَّام الْمدَّة حَيا كَانَ أَو مَيتا أَو نَاقض الْأَعْضَاء وبانقضاء مَا ظهر فِيهِ صُورَة الْآدَمِيّ فَإِن لم يظْهر فَقَوْلَانِ فَإِذا ادَّعَت وضع حمل أَو سقط أَو مُضْغَة إِذا اكتفينا بهَا صدقت بِيَمِينِهَا وَقيل لَا بُد من بَيِّنَة وَأما الْمُعْتَدَّة بالإقراء فَإِن طلقت فِي الظّهْر حسبت بَقِيَّة الطُّهْر قرءاً وَإِن طلقت فِي الْحيض اشْترط مُضِيّ ثَلَاثَة أطهار كَامِلَة ثمَّ إِن لم يكن لَهَا عَادَة فِي الْحيض مُسْتَقِيمَة بِأَن لم تكن حَاضَت ثمَّ طَرَأَ حَيْضهَا أَو كَانَ لَهَا عَادَة مطردَة صدقت بِيَمِينِهَا إِذا ادَّعَت انْقِضَاء الإقراء الامكان فَإِن نكلت عَن الْيَمين حلف الزَّوْج وَكَانَ لَهُ الرّجْعَة وَإِن كَانَ لَهَا عَادَة مُسْتَقِيمَة صدقت فِي انْقِضَائِهَا على وفْق الْعَادة وَهل تصدق فِيمَا دونهَا مَعَ الامكان وَجْهَان أصَحهمَا عِنْد الْأَكْثَرين تصدق بِيَمِينِهَا لِأَن الْعَادة قد تَتَغَيَّر وَالله أعلم
(فرع) طلق زَوجته ثَلَاثًا ثمَّ غَابَ عَنْهَا ثمَّ حضر أَو لم يحضر وَادعت أَنَّهَا تزوجت بِزَوْج آخر أحلهَا أَو كَانَ قد مضى زمن يُمكن فِيهِ صدقهَا وَلم يَقع فِي قلبه صدقهَا كره لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا للِاحْتِيَاط وَلَا يحرم لاحْتِمَال صدقهَا ولتعذر الْبَيِّنَة على الْوَطْء وانقضاء الْعدة قَالَ الإِمَام وَكَيف لَا والأجنبية(1/410)
تنْكح اعْتِمَادًا على قَوْلهَا إِنَّهَا خلية عَن الْمَوَانِع وَهل يجب على الزَّوْج الْبَحْث عَن الْحَال قَالَ الرَّوْيَانِيّ يجب عَلَيْهِ فِي زَمَاننَا هَذَا وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق يسْتَحبّ وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْإِيلَاء فصل فِي الْإِيلَاء وَإِذا آلى الشَّخْص أَن لَا يطَأ زَوجته مُطلقًا أَو مُدَّة تزيد على أَرْبَعَة أشهر فَهُوَ مول
هَذَا فصل الْإِيلَاء وَهُوَ فِي اللُّغَة الْحلف وَفِي الشَّرْع الْحلف عَن الِامْتِنَاع من وَطْء الزَّوْجَة مُطلقًا أَو أَكثر من أَرْبَعَة أشهر وَكَانَ طَلَاقا فِي الْجَاهِلِيَّة فَغير الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكمه
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ آلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نِسَائِهِ شهرا وَكَانَت انفطت رجله الشَّرِيفَة فَأَقَامَ فِي مشربَة لَهُ تسعا وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ نزل فَقَالُوا يَا رَسُول الله إِنَّك آلَيْت شهرا فَقَالَ الشَّهْر تسع وَعِشْرُونَ يَوْمًا
وَهل يخْتَص الْحلف بِاللَّه تَعَالَى أم لَا قَولَانِ الْجَدِيد الْأَظْهر لَا يخْتَص كَمَا هُوَ ظَاهر إِطْلَاق الشَّيْخ لَا طَلَاق الْآيَة فعلى هَذَا لَو قَالَ إِن وَطئتك فعلي صَوْم أَو صَلَاة أَو حج أَو فَعَبْدي حر أَو إِن وَطئتك فَأَنت طَالِق أَو فضرتك طَالِق وَنَحْو ذَلِك كَانَ موليا ثمَّ شَرط انْعِقَاده بِهَذِهِ الالتزامات أَن يلْزمه شَيْء لَو وطئ بعد أَرْبَعَة أشهر فَلَو كَانَت الْيَمين تنْحَل قبل مجاوزته أَرْبَعَة اشهر لم تَنْعَقِد فَلَو قَالَ إِن وَطئتك فعلي أَن أُصَلِّي هَذَا الشَّهْر أَو أصومه أَو أَصوم الشَّهْر الْفُلَانِيّ وَهُوَ يَنْقَضِي قبل مُجَاوزَة أَرْبَعَة أشهر من حِين الْيَمين لم ينْعَقد الْإِيلَاء وَلَو قَالَ إِن وَطئتك فعلي أَن أطلقك فَلَيْسَ بمول لِأَنَّهُ لَا يلْزمه بِالْوَطْءِ شَيْء وَالله أعلم قَالَ
(ويؤجل لَهَا إِن سَأَلت ذَلِك أَرْبَعَة أشهر ثمَّ يُخَيّر بَين التَّكْفِير وَالطَّلَاق فَإِن امْتنع طلق عَلَيْهِ القَاضِي)
إِذا صَحَّ الْإِيلَاء ضربت الْمدَّة وَهِي أَرْبَعَة أشهر بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم سَوَاء كَانَا حُرَّيْنِ أَو(1/411)
رقيقين أَو أَحدهمَا حر وَالْآخر رَقِيق لظَاهِر الْآيَة وَلِأَنَّهَا مُدَّة شرعت لأمر جبلي وَهِي قلَّة الصَّبْر عَن الزَّوْج فَلم تخْتَلف بِالرّقِّ وَالْحريَّة كمدة الْعنَّة وكسن الْحيض وَلَيْسَ المُرَاد بِضَرْب الْمدَّة أَنَّهَا تفْتَقر إِلَى من يضْربهَا كالعنة بل المُرَاد أَن يُمْهل أَرْبَعَة أشهر من غير حَاكم لِأَنَّهَا ثَابِتَة بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع نعم إِن كَانَ الْمولى عَنْهَا رَجْعِيَّة فالمدة تضرب من الرّجْعَة وَهَذَا الْأَجَل هُوَ حق للزَّوْج كالأجل فِي حق الْمَدْيُون فَإِذا انْقَضتْ الْمدَّة وَالزَّوْج حَاضر وطالبت الْمَرْأَة بالفيئة وَلَا مَانع والفيئة الْجِمَاع وَسمي بِهِ من فَاء إِذا رَجَعَ لِأَنَّهُ امْتنع ثمَّ رَجَعَ فَإِن جَامع وَأَدْنَاهُ أَن يغيب الْحَشَفَة فِي الْفرج فقد وافاها حَقّهَا لِأَن سَائِر الْأَحْكَام تتَعَلَّق بالحشفة وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الثّيّب وَالْبكْر لَكِن من شَرط الْبكر اذهاب الْعذرَة نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي لِأَن الالتقاء لَا يكون غَالِبا إِلَّا بِهِ ثمَّ لَا فرق بَين أَن يَطَأهَا فِي حَالَة يُبَاح لَهُ الْوَطْء أم لَا مَعَ قيام الزَّوْجِيَّة وَلَا فرق بَين أَن يكون اخْتِيَارا أَو إِكْرَاها على الصَّحِيح وَتحصل الْفَيْئَة ويرتفع الْإِيلَاء وَلَو وَطئهَا وَهُوَ مَجْنُون فالنص حُصُول الْفَيْئَة لِأَن وطأه كَوَطْء الْعَاقِل فِي التَّحْلِيل وَتَقْرِير الْمهْر وَسَائِر الْأَحْكَام وَفِي وَجه لَا تحصل فَيُطَالب عقب إِفَاقَته
وَاعْلَم أَن الصَّحِيح إِنَّه إِذا وطئ وَهُوَ مكره أَو مَجْنُون لَا تنْحَل الْيَمين وَإِن حصلت الْفَيْئَة وَبَطل حَقّهَا من الْمُطَالبَة فَإِذا وَطئهَا سَوَاء كَانَ فِي الْمدَّة أَو بعْدهَا سَوَاء كَانَ بعد التَّضْيِيق أَو قبله فَإِن كَانَت الْيَمين بِاللَّه لزمَه كَفَّارَة على الْأَظْهر للْأَخْبَار الدَّالَّة على ذَلِك وَالْآيَة وَقيل لَا كَفَّارَة لقَوْله تَعَالَى {فَإِن فاؤوا} الْآيَة وَأجَاب الْقَائِلُونَ بالأظهر بِأَن الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة إِنَّمَا ينصرفان إِلَى مَا يعْصى بِهِ والفيئة الْمُوجبَة لِلْكَفَّارَةِ مَنْدُوب إِلَيْهَا فَإِن لم يَفِ طُولِبَ بِالطَّلَاق لما رُوِيَ عَن سهل بن أبي صَالح عَن أَبِيه قَالَ سَأَلت اثْنَي عشر نفسا من الصَّحَابَة عَن الرجل يولي فَقَالُوا كلهم لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء حَتَّى تمْضِي عَلَيْهِ أَرْبَعَة أشهر فَيُوقف فَإِن فَاء وَإِلَّا طلق فَإِن لم يُطلق فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا يجْبر عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ والتضييق بِمَا يَلِيق بِحَالهِ ليفيء أَو يُطلق وَلَا يُطلق الْحَاكِم لقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} فأضافه إِلَى الْأزْوَاج وَلِأَنَّهُ مُخَيّر بَين شَيْئَيْنِ الْفَيْئَة أَو الطَّلَاق فَإِذا امْتنع لم يقم القَاضِي مقَامه كمن أسلم على أَكثر من أَربع نسْوَة
وَالثَّانِي يُطلق القَاضِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَح لِأَنَّهُ حق لمُعين تدخله النِّيَابَة فينوب عَنهُ الْحَاكِم كَالدّين وَيُفَارق اخْتِيَار الْأَرْبَع لِأَنَّهُ لم يتَعَيَّن حق وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَإِذا طلق القَاضِي فَإِنَّمَا يُطلق وَاحِدَة رَجْعِيَّة فَلَو طلق الْحَاكِم ثمَّ بَان أَن الزَّوْج وطئ قبل الطَّلَاق تَبينا أَنه لم يَقع وَكَذَا لَو بَان أَنه طلق قبله لم يَقع طَلَاق الْحَاكِم وَلَو وَقع طَلَاق الْحَاكِم أَولا وَقع على الْأَصَح وَقيل إِن جهل الزَّوْج طَلَاق الْحَاكِم لم يَقع قَوْله إِن سَأَلت يُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّهَا إِذا لم تسْأَل لَا يُطَالب الزَّوْج بِشَيْء وَهُوَ كَذَلِك كالمديون(1/412)
لَا يُطَالب بِشَيْء مالم يَطْلُبهُ ربه ثمَّ إِذا لم تسْأَل لَا يسْقط حَقّهَا بِالتَّأْخِيرِ حَتَّى لَو تركت حَقّهَا ورضيت بِهِ ثمَّ بدا لَهَا فلهَا الْعود إِلَى الْمُطَالبَة لِأَن الضَّرَر متجدد وتختص الْمُطَالبَة بِالزَّوْجَةِ فَلَيْسَ لوَلِيّ المراهقة والمجنونة الْمُطَالبَة نعم يحسن من الْحَاكِم أَن يَقُول لَهُ اتَّقِ الله بالفيئة أَو الطَّلَاق وَإِنَّمَا يضيق عَلَيْهِ إِذا بلغت أَو فاقت وَطلبت وَكَذَا لَيْسَ للسَّيِّد الْمُطَالبَة لِأَن الِاسْتِمْتَاع حق الْأمة وَقَول الشَّيْخ ثمَّ يُخَيّر بَين التَّكْفِير وَالطَّلَاق يُفِيد شَيْئَيْنِ
أَحدهمَا أَن الْمُطَالبَة تكون بالفيئة وَهُوَ الْوَطْء أَو بِالطَّلَاق وَلَيْسَ لَهَا أَن توجه الطّلب نَحْو أَحدهمَا بل يجب أَن تكون الْمُطَالبَة مترددة بَين الْأَمريْنِ وَهُوَ كَذَلِك جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ
الشَّيْء الثَّانِي أَنه إِذا رغب فِي الْفَيْئَة فَلَا يطَأ حَتَّى يكفر إِذْ الْوَطْء قبل التَّكْفِير لَا يجوز فَعبر بالتكفير ليُفِيد ذَلِك وَالله أعلم
(فرع) قَالَ وَالله لَا أجامعك ثمَّ أعَاد ذَلِك مرَّتَيْنِ فَصَاعِدا وَقَالَ أردْت التَّأْكِيد قبل وَكَانَت يَمِينا وَاحِدَة سَوَاء طَال الْفَصْل أم لَا وَسَوَاء اتَّحد الْمجْلس أَو تعدد على الصَّحِيح وَإِن قَالَ أردْت الِاسْتِئْنَاف تعدّدت الْيَمين وَإِن أطلق فَقَوْلَانِ قَالَ الْمُتَوَلِي إِن اتَّحد الْمجْلس فَالْأَظْهر الْحمل على التَّأْكِيد وَإِن تعدد فعلى الِاسْتِئْنَاف لبعد التَّأْكِيد مَعَ اخْتِلَاف الْمجْلس فَإِن لم يحكم بالتعدد لم يجب بِالْوَطْءِ إِلَّا كَفَّارَة وَإِن حكمنَا بالتعدد تخلص من الْيَمين بوطئة وَاحِدَة وَفِي تعدد الْكَفَّارَة قَولَانِ الْأَظْهر عِنْد الْجُمْهُور أَنه لَا يجب إِلَّا كَفَّارَة وَاحِدَة وَقيل تَتَعَدَّد بِتَعَدُّد الْأَيْمَان وَالله أعلم قَالَ
بَاب الظِّهَار فصل فِي الظِّهَار الظِّهَار أَن يَقُول الرجل لزوجته أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي فَإِذا قَالَ ذَلِك وَلم يتبعهُ بِالطَّلَاق صَار عَائِدًا وَلَزِمتهُ الْكَفَّارَة
الظِّهَار مُشْتَقّ من الظّهْر لِأَنَّهُ مَوضِع الرّكُوب وَالْمَرْأَة مركوب الزَّوْج وَقيل إِنَّه مَأْخُوذ من الْعُلُوّ قَالَ الله تَعَالَى {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يظهروه} أَي يعلوه فَكَأَنَّهُ قَالَ علوي عَلَيْك كعلوي على أُمِّي وَكَانَ طَلَاقا فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ نقل الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكمه إِلَى تَحْرِيمهَا بعد الْعود وَوُجُوب الْكَفَّارَة وَبَقِي مَحَله وَهِي الزَّوْجَة وَالظِّهَار حرَام بِالْإِجْمَاع لقَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} بِخِلَاف قَوْله أَنْت عَليّ حرَام فَإِنَّهُ مَكْرُوه وَإِن كَانَ إِخْبَارًا بِمَا لم يكن لِأَن فِي الظِّهَار(1/413)
الْكَفَّارَة الْعُظْمَى وَهِي إِنَّمَا تجب فِي الْمحرم كَالْقَتْلِ وَالْفطر بجماع فِي رَمَضَان وَفِي لفظ التَّحْرِيم كَفَّارَة يَمِين وَالْيَمِين والحنث ليسَا بمحرمين ثمَّ صُورَة الظِّهَار الْأَصْلِيَّة كَمَا ذكره الشَّيْخ أَن يَقُول أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي وَهِي صَرِيحَة فِي الظِّهَار وَفِي مَعْنَاهَا سَائِر الصلات كَقَوْلِه أَنْت معي أَو عِنْدِي أَو مني أولي كَظهر أُمِّي وَكَذَا لَو ترك الصِّلَة فَقَالَ أَنْت كَظهر أُمِّي وَلم يقل عَليّ وَعَن الداركي أَنه إِن ترك الصِّلَة كَانَ كِنَايَة لاحْتِمَال أَن يُرِيد أَنْت مُحرمَة على غَيْرِي وَالصَّحِيح الأول كَمَا أَن قَوْله أَنْت طَالِق صَرِيح وَلم يقل مني وَمَتى أَتَى بِصَرِيح الظِّهَار وَقَالَ أردْت غَيره لم يقبل مِنْهُ على الصَّحِيح كَمَا لَو أَتَى بِصَرِيح الطَّلَاق وَادّعى غَيره لَا يقبل وَلَو قَالَ جملتك أَو نَفسك أَو ذاتك أَو جسمك أَو بدنك وَكَذَا قَوْله أَنْت كبدن أُمِّي أَو جسمها أَو ذَاتهَا فَهُوَ كَظهر أُمِّي وَإِن شبهها بِبَعْض أَجزَاء الْأُم نظر إِن كَانَ ذَلِك الْعُضْو مِمَّا لَا يذكر فِي معرض الاكرام والاعزاز كالبطن والفرج والصدر وَالْيَد وَالرجل وَالشعر فَقَوْلَانِ الْأَظْهر أَنه ظِهَار لِأَنَّهُ تَشْبِيه بعضو حرم فَأشبه الظّهْر وَإِن كَانَ مِمَّا يذكر فِي معرض الاعزاز والاكرام كَقَوْلِه أَنْت عَليّ كعين أُمِّي فَإِن أَرَادَ الْكَرَامَة فَلَيْسَ بظهار وَإِن أَرَادَ الظِّهَار فظهار على الْأَظْهر وَإِن طلق فَوَجْهَانِ الْأَصَح أَنه لَا يكون ظِهَارًا وَلَو قَالَ كروح أُمِّي فكقوله كعين أُمِّي وَلَو قَالَ كرأس أُمِّي فَهَل هُوَ كيد أُمِّي وَبِه قطع الْعِرَاقِيُّونَ وَهُوَ الْأَظْهر فِي الْمِنْهَاج أَو كعين أُمِّي وَهِي طَريقَة المراوزة فَيَجِيء الْخلاف وَالتَّفْصِيل قَالَ الرَّافِعِيّ وَهُوَ الْأَقْرَب وَلَو قَالَ أَنْت عَليّ كأمي أَو مثل أُمِّي فَإِن أَرَادَ الظِّهَار فظهار وَإِن أَرَادَ الْكَرَامَة فَلَا وَإِن أطلق فَلَيْسَ بظهار على الْأَصَح وَبِه قطع كَثِيرُونَ إِذْ الأَصْل عَدمه
وَاعْلَم أَن تَشْبِيه الزَّوْجَة بالجدة سَوَاء كَانَت من قبل الْأَب أَو الْأُم يكون ظِهَارًا قطع بِهِ الْجُمْهُور لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَات ولدنهن ولأنهن يشاركن الْأُم فِي الْعتْق وَسُقُوط الْقصاص وَوُجُوب النَّفَقَة وَقيل فِيهِ خلاف كالتشبيه بالبنت وَلَو شبهها بالمحرمات من النّسَب كالبنات وَالْأَخَوَات والعمات والخالات وَبَنَات الْأَخ وَالْأُخْت فَفِيهِ خلاف الْمَذْهَب أَنه ظِهَار وَأما الْمُحرمَات بِالسَّبَبِ كالمحرمات بِالرّضَاعِ والمصاهرة ففيهن خلاف منتشر الْمَذْهَب مِنْهُ إِن شبهها بِمن لم تزل مُحرمَة عَلَيْهِ مِنْهُنَّ فَهُوَ ظِهَار وَإِلَّا فَلَا وَلَو شبهها بِمن لَا تحرم عَلَيْهِ أبدا كأجنبية ومطلقة ومعتدة وَأُخْت امْرَأَته وَنَحْو ذَلِك فَلَيْسَ بظهار قطعا سَوَاء طَرَأَ مَا يُؤَيّد التَّحْرِيم بِأَن نكح بنت الْأَجْنَبِيَّة أَو وطئ أمهَا وطأ محرما أَو لم يطْرَأ وَلَو شبه بملاعنة فَلَيْسَ بظهار لِأَن تَحْرِيمهَا وَإِن كَانَ مُؤَبَّدًا إِلَّا أَنه لَيْسَ للمحرمية وَلَا للوصلة وَلَو شبهها بِظهْر أَبِيه أَو ابْنه أَو غُلَامه فَلَيْسَ بظهار وَالله أعلم
فَإِذا صَحَّ الظِّهَار ترَتّب عَلَيْهِ حكمان
أَحدهمَا تَحْرِيم الْوَطْء إِلَى أَن يكفر وَلَا يحرم سَائِر الاستمتاعات على الْأَظْهر عِنْد الْجُمْهُور
الحكم الثَّانِي وجوب الْكَفَّارَة بِالْعودِ وَالْعود هُوَ أَن يمْسِكهَا فِي النِّكَاح زَمنا يُمكنهُ أَن يطلقهَا فِيهِ وَلم تطلق لِأَن تشبيهها بِالْأُمِّ يَقْتَضِي أَن لَا يمْسِكهَا زَوْجَة فَإِذا أمْسكهَا زَوْجَة فقد عَاد فِيمَا قَالَ(1/414)
لِأَن الْعود لِلْقَوْلِ مُخَالفَته وَلِهَذَا يُقَال فلَان قَالَ قولا ثمَّ عَاد فِيهِ وَعَاد لَهُ أَي خَالفه ونقضه فَإِذا وجد ذَلِك وَجَبت الْكَفَّارَة لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة لِأَنَّهُ عَاد لما قَالَ فَكَانَ من حَقه أَنه إِذا قَالَ أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي أَن يَقُول عقبه أَنْت طَالِق وَنَحْو ذَلِك مِمَّا تحصل بِهِ الْفرْقَة وَالله أعلم
(فرع) أعلم أَن الرَّجْعِيَّة زَوْجَة ويلحقها الطَّلَاق قطعا وَيصِح خلعها على الْأَظْهر وَكَذَا يَصح الْإِيلَاء مِنْهَا وَالظِّهَار فغذا ظَاهر من الرَّجْعِيَّة لم يصر بترك الطَّلَاق عَائِدًا لِأَنَّهَا صائرة إِلَى الْبَيْنُونَة فَلم يحصل الْإِمْسَاك على الزَّوْجِيَّة فَلَو رَاجعهَا فَلَا خلاف أَنه يعود الظِّهَار وَأَحْكَامه فَلَو لم يُرَاجِعهَا وَتركهَا حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا وَبَانَتْ مِنْهُ ثمَّ نَكَحَهَا فَفِي عود الظِّهَار الْخلاف فِي عود الْحِنْث وَالْمذهب أَنه لَا يعود وَلَو لم تكن رَجْعِيَّة بل زَوْجَة وَعَاد وَجَبت الْكَفَّارَة ثمَّ طَلقهَا رَجْعِيًا أَو بَائِنا لم تسْقط الْكَفَّارَة فَإِذا جدد النكح اسْتمرّ التَّحْرِيم إِلَى أَن يكفر سَوَاء حكمنَا بِعُود الْحِنْث أم لَا لِأَن التَّحْرِيم حصل فِي النِّكَاح الأول وَقد وجد وَقد قَالَ الله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَالله أعلم قَالَ
(وَالْكَفَّارَة عتق رَقَبَة مُؤمنَة سليمَة من الْعُيُوب فَإِن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين فَإِن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا كل مِسْكين مد وَلَا يحل وَطْؤُهَا حَتَّى يكفر)
كَفَّارَة الظِّهَار كَفَّارَة تَرْتِيب بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} إِلَى قَوْله {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} وبمثل ذَلِك أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَلمَة بن صَخْر البياضي لما ظَاهر من امْرَأَته
وخصال الْكَفَّارَة ثَلَاثَة
الأولى الْعتْق وَلَا بُد فِي الْكَفَّارَة من النِّيَّة للْحَدِيث الْمَشْهُور وَلِأَن الْكَفَّارَة حق مَالِي(1/415)
وَجب تَطْهِيرا فَتجب فِيهِ النِّيَّة كَالزَّكَاةِ وتكفي نِيَّة الْكَفَّارَة وَلَا يشْتَرط ذكر الْوُجُوب لِأَن الْكَفَّارَة لَا تكون إِلَّا وَاجِبَة وَلَا تكفيه نِيَّة الْعتْق الْوَاجِب من غير ذكر الْكَفَّارَة لِأَن الْعتْق قد يجب بِالنذرِ وَلَا يجب تعْيين سَببهَا لكَونهَا عَن ظِهَار أَو قتل أَو كَفَّارَة يَمِين كَمَا لَا يجب تعْيين المَال المزكى وَلَو لزمَه كَفَّارَة ظِهَار وجماع مثلا فَأعتق رَقَبَة بنية الْكَفَّارَة حسبت عَن إِحْدَاهمَا وَكَذَا لَو صَامَ أَو أطْعم فَإِن قلت مَا الْفرق بَين الْكَفَّارَة وَالصَّلَاة حَيْثُ يعْتَبر فِيهَا التَّعْيِين
فَالْفرق أَن الْعِبَادَة الْبَدَنِيَّة أضيق وَلِهَذَا امْتنع التَّوْكِيل فِيهَا وَأَيْضًا فَإِن مَرَاتِب الصَّلَاة مُتَفَاوِتَة فِي الْمَشَقَّة فَإِن وَقت الصُّبْح أشق وَعدد الظّهْر أَكثر وَلَا تفَاوت بَين كَفَّارَة الظِّهَار وَالْجِمَاع ثمَّ إِذا عين بعد ذَلِك مَا أَتَى بِهِ عَن كَفَّارَة تعين وَامْتنع صرفه إِلَى غَيرهَا كَمَا لَو عين ابْتِدَاء وَلَو عين فِي الِابْتِدَاء كَفَّارَة الظِّهَار مثلا وَكَانَت عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين لم يجزه عمدا كَانَ أَو خطأ كَمَا لَو نوى زَكَاة مَال بِعَيْنِه فَكَانَ تَالِفا لَا ينْصَرف إِلَى غَيره بِخِلَاف مَا لَو نوى رفع حدث غَلطا عَلَيْهِ غَيره فَإِنَّهُ يرْتَفع على الْأَصَح لِأَن رفع الْمَنوِي يتَضَمَّن رفع الْكل وَالْعِتْق عَن كَفَّارَة مُعينَة لَا يتَضَمَّن الْإِجْزَاء عَن أُخْرَى وَهل يشْتَرط أَن تكون النِّيَّة مُقَارنَة للإعتاق وَالْإِطْعَام قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة الصَّحِيح أَنه يشْتَرط وَقيل يجوز تَقْدِيمهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الزَّكَاة وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب أصح الْوَجْهَيْنِ جَوَاز تَقْدِيم نِيَّة الزَّكَاة على الدّفع قَالَ أَصْحَابنَا وَالْكَفَّارَة وَالزَّكَاة فِي ذَلِك سَوَاء وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب وَظَاهر النَّص انْتهى
وَاعْلَم أَن شَرط الْجَوَاز فِي الزَّكَاة أَن تكون النِّيَّة مُقَارنَة للعزل فاعرفه وَقِيَاسه هُنَا كَذَلِك إِذا عرفت هَذَا فَيشْتَرط فِي الرَّقَبَة المجزئة عَن الْكَفَّارَة أَرْبَعَة شُرُوط الْإِسْلَام وَلَفظ الْإِيمَان أولى لِأَنَّهُ نَص الْقُرْآن الْعَظِيم والسلامة عَن الْعُيُوب الْمضرَّة بِالْعَمَلِ وَكَمَال الرّقّ والخلو عَن الْعِوَض فَلَا يُجزئ إِعْتَاق الْكَافِر فِي شَيْء من الْكَفَّارَات وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يجوز إِعْتَاق الْكَافِر إِلَّا فِي كَفَّارَة الْقَتْل لِأَن الله تَعَالَى قَالَ فِيهَا {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَحجَّتنَا قِيَاس غير كَفَّارَة الْقَتْل عَلَيْهَا وَحمل الشَّافِعِي الْمُطلق على الْمُقَيد وَشبهه بقوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فَإِنَّهُ مَحْمُول على الْمُقَيد فِي قَوْله {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَول الشَّيْخ سليمَة من الْعُيُوب الَّتِي تضر بِالْعَمَلِ ضَرَرا بَينا لِأَن الْمَقْصُود تَكْمِيل حَالَة التفرغ لِلْعِبَادَةِ ووظائف الْأَحْرَار وَإِنَّمَا يحصل ذَلِك إِذا اسْتَقل وَقَامَ بكفايته وَإِلَّا فَيصير كلا على نَفسه وعَلى غَيره فَلَا يُجزئ الزَّمن وَلَا من يجن أَكثر الْأَوْقَات فَإِن كَانَت إِفَاقَته أَكثر أَجْزَأَ وَكَذَا إِذا اسْتَويَا على الْمَذْهَب وَلَا يُجزئ مَرِيض لَا يُرْجَى زَوَال مَرضه فَإِن رجى أَجْزَأَ وَلَو أعتق من وَجب(1/416)
عَلَيْهِ الْقَتْل قَالَ الْقفال إِن أعْتقهُ قبل أَن يقدم للْقَتْل أَجْزَأَ وَإِن قدم فَهُوَ كمريض لَا يُرْجَى وَلَا يُجزئ مَقْطُوع إِحْدَى الرجلَيْن وَلَا مَقْطُوع أُنْمُلَة من إِبْهَام الْيَد وَيجوز مَقْطُوع أُنْمُلَة من غَيرهَا وَلَا يجوز مَقْطُوع أنملتين من السبابَة أَو الْوُسْطَى ويجزء مَقْطُوع الخنص من يَد والبنصر من آخرى وَلَا يُجزئ مقطوعهما من يَد وَيُجزئ مقطو جَمِيع اصابع الرجلَيْن على الصَّحِيح وَيُجزئ قصير الْخلق الَّذِي يقدر على الْعَمَل وَالْكَسْب وَيُجزئ الشَّيْخ إِن قدر على الْعَمَل على الْأَصَح وَيُجزئ الْأَعْرَج إِلَّا أَن يكون شَدِيدا يمْنَع مُتَابعَة الْمَشْي وَيُجزئ الْأَعْوَر دون الْأَعْمَى وَالْمرَاد عور لَا يضعف عينه بِالْعَمَلِ قَالَه الشَّافِعِي وَيُجزئ الْأَصَم الْأَخْرَس إِن فهم الْإِشَارَة وَإِلَّا فَلَا وَيُجزئ الْخصي والمجبوب وَالْأمة الرتقاء والقرناء ومفقود الْأَسْنَان وَولد الزِّنَا وَضَعِيف الْبَطْش وَالصَّغِير وَالله ناقد وبصير وَالله أعلم وَأما كَمَال الرّقّ فَلَا بُد مِنْهُ فَلَا تُجزئ أم الْوَلَد وَكَذَا الْمكَاتب كِتَابَة صَحِيحَة وَإِن لم يؤد شَيْئا من لنجوم وَلَو ملك من يعْتق عَلَيْهِ بشرَاء أَو غَيره وَنوى عتقه عَن الْكَفَّارَة لم يجزه على الصَّحِيح لِأَن الْعتْق مُسْتَحقّ بِجِهَة الْقَرَابَة وَلَو اشْترى عبدا بِشَرْط الْعتْق فَالْمَذْهَب أَنه لَا يجْزِيه عَن الْكَفَّارَة وَلَو أعتق من تحتم قَتله فِي الْمُحَاربَة أَجزَأَهُ قَالَه القَاضِي حُسَيْن ويجزى الْمُدبر وَالْمُعَلّق عتقه بِصفة وَالْعَبْد الْغَائِب الْمُنْقَطع الْخَبَر لَا يُجزئ على الْمَذْهَب والآبق وَالْمَغْصُوب يجزيان إِذا علم حياتهما على الصَّحِيح لكَمَال الرّقّ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْمَغْصُوب عِنْد الرَّافِعِيّ وَقَالَ النَّوَوِيّ إِن كَانَ لَا يقدر على الْخَلَاص فَلَا يجزى كالزمن لعدم قدرته على التَّصَرُّف وَكَذَا قَضِيَّة تَصْحِيح التَّنْبِيه وَحكى الْقطع بِهِ عَن أَكثر الْعِرَاقِيُّونَ وَحكى عَن جُمْهُور الخراسانيين الْأَجْزَاء لتَمام الْملك وَالْمَنْفَعَة وَهُوَ الَّذِي جرى عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ وَأما الْخُلُو عَن الْعِوَض فَلَا بُد مِنْهُ فَلَو أعتق عبدا على أَن يرد عَلَيْهِ دِينَارا مثلا لم يجزه عَن الْكَفَّارَة على الصَّحِيح وَلَو شَرط عوضا على غير العَبْد بِأَن قَالَ لإِنْسَان أعتقت عَبدِي هَذَا عَن كفارتي بِأَلف عَلَيْك فَقبل أَو قَالَ لَهُ إِنْسَان أعتق عَن كفارتك وَعلي كَذَا فَفعل لم يجزه عَن الْكَفَّارَة وَالله أعلم
الْخصْلَة الثَّانِيَة الصّيام فَمن لم يجد الرَّقَبَة فَعَلَيهِ صِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين لِلْآيَةِ ثمَّ عدم الرَّقَبَة قد يكون بِأَن لَا يجدهَا أَو لَا يجد ثمنهَا أَو يجدهَا بِثمن غال أَو يجدهَا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهَا للْخدمَة أَو إِلَى ثمنهَا للنَّفَقَة أما العادم بِالْكُلِّيَّةِ فللآية وَأما الْمُحْتَاج فَلِأَن الْحَاجة تستغرق مَا مَعَه فَصَارَ كالعادم من وجد المَاء وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ فَإِن ينْتَقل إِلَى الْبَدَل كَذَلِك هَهُنَا وَلِأَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن الْمسكن لَا يمْنَع الِانْتِقَال إِلَى الصَّوْم للْحَاجة وَالْمرَاد بحاجة الْخدمَة أَن يكون بِهِ مرض أَو كبر أَو زمانة أَو ضخامة لَا يقدر مَعهَا على خدمَة نَفسه أَو كَانَ لَا يخْدم نَفسه فِي الْعَادة مَعَ الصِّحَّة فَلَو كَانَ يخْدم نَفسه كأوساط النَّاس لزمَه الاعتاق على الرَّاجِح وَالْمرَاد بِالنَّفَقَةِ قوته وقوت عِيَاله وكسوتهم وَمَا لَا بُد مِنْهُ من الأثاث وَكَذَا شِرَاء عبد يحْتَاج إِلَيْهِ للْخدمَة وَهل تتقدر النَّفَقَة وَالْكِسْوَة بِمدَّة قَالَ الرَّافِعِيّ لم يقدره الْأَصْحَاب فَيجوز أَن يعْتَبر كِفَايَة الْعُمر وَيجوز أَن يعْتَبر كِفَايَة سنة وَيُؤَيِّدهُ قَول الْبَغَوِيّ أَنه يتْرك لَهُ ثوبا للشتاء وثوباً للصيف قَالَ النَّوَوِيّ الصَّوَاب الثَّانِي يَعْنِي سنة قَالَ ابْن الرّفْعَة قد تعرض(1/417)
لَهُ الْأَصْحَاب فِي كَفَّارَة الْيَمين فَقَالُوا مَا حَكَاهُ الْمحَامِلِي وَغَيره أَنه من لَيْسَ لَهُ كِفَايَة على الدَّوَام وَلَو كَانَ لَهُ ضَيْعَة أَو رَأس مَال يتجر فِيهِ وَكَانَ يحصل مِنْهُمَا كِفَايَته بِلَا مزِيد وَلَو باعهما لتَحْصِيل رَقَبَة لصار فِي حد الْمَسَاكِين لم يُكَلف بيعهَا على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَلَو كَانَ لَهُ مَاشِيَة تحلب فِي ملكه فَهِيَ كالضيعة إِن كَانَ لَا تزيد غَلَّتهَا على كِفَايَته لم يُكَلف بيعهَا وَإِن زادة لزم بيع الزَّائِد ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم
(فرع) شخص لَهُ مَال حَاضر وَلم يجد الرَّقَبَة أَو لَهُ مَال غَائِب لَا يجوز لَهُ الْعُدُول إِلَى الصَّوْم فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَالْجِمَاع وَالْيَمِين بل يصبر حَتَّى يجد الرَّقَبَة أَو يصل إِلَى المَال لِأَن الْكَفَّارَة على التَّرَاخِي وَبِتَقْدِير أَن يَمُوت تُؤَدّى من تركته بِخِلَاف الْعَاجِز عَن ثمن المَاء فَإِنَّهُ يتَيَمَّم لِأَنَّهُ لَا يُمكن قَضَاء الصَّلَاة لَو مَاتَ وَفِي كَفَّارَة الظِّهَار وَجْهَان لتضرره بِفَوَات الِاسْتِمْتَاع وَأَشَارَ الْغَزالِيّ وَالْمُتوَلِّيّ إِلَى تَرْجِيح وجوب الصَّبْر هَذِه عبارَة الرَّوْضَة وَمَا ذكره الْغَزالِيّ وَالْمُتوَلِّيّ من وجوب الصَّبْر صَححهُ النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه وَيُؤْخَذ من كَلَام الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة هُنَا أَن الْكَفَّارَات الْوَاجِبَة هُنَا بِسَبَب محرم تكون على الْفَوْر وَقد ذكر ذَلِك فِي مَوَاضِع وَذكر فِي مَوَاضِع أخر أَن الْكَفَّارَات كلهَا على الْفَوْر وَقد صرح النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم فِي حَدِيث المجامع فِي رَمَضَان بِأَنَّهَا على التَّرَاخِي وَفِيه من الِاخْتِلَاف الْكثير مَا ظهر وَالله أعلم
وَلَو تعسر عَلَيْهِ الاعتاق كفر بِالصَّوْمِ وَهل الِاعْتِبَار باليسار والإعسار بِوَقْت الْأَدَاء أَو بِوَقْت الْوُجُوب أم بأغلظ الْحَالين فِيهِ أَقْوَال أظهرها أَن الِاعْتِبَار بِوَقْت الْأَدَاء لِأَنَّهَا عبَادَة لَهَا بدل من غير جِنْسهَا فَاعْتبر فِيهَا حَالَة الْأَدَاء كَالْوضُوءِ وَالتَّيَمُّم وَالْقِيَام وَالْقعُود فِي الصَّلَاة فعلى هَذَا إِن كَانَ مُوسِرًا وَقت الْأَدَاء ففرضه الْإِعْتَاق وَإِن كَانَ مُعسرا ففرضه الصَّوْم وَإِن كَانَ مُوسِرًا من قبل وَلَو شرع فِي الصَّوْم ثمَّ أيسر أتمه وَلم يجب عَلَيْهِ الِانْتِقَال إِلَى الْعتْق على الْأَصَح وَقَالَ الْمُزنِيّ يلْزمه فعلى الصَّحِيح فِي جَوَاز الْخُرُوج من الصَّوْم وَجْهَان كالوجهين فِي رُؤْيَة المَاء فِي صَلَاة يسْقط فَرضهَا بِالتَّيَمُّمِ وَالله أعلم
(فرع) إِذا صَار وَاجِبَة الصَّوْم وَجب أَن يَنْوِي من اللَّيْل لكل يَوْم وَلَا يجب تعْيين جِهَة الْكَفَّارَة وَلَا نِيَّة التَّتَابُع على الْأَصَح وَيجب تتَابع الصَّوْم كَمَا هُوَ نَص الْقُرْآن الْعَظِيم فَلَو وطئ الْمظَاهر فِي اللَّيْل قبل تَمام الصَّوْم عصى إِلَّا أَنه لَا يقطع التَّتَابُع وَلَو أفطر يَوْمًا وَلَو أفطر الْيَوْم الْأَخير لزمَه الِاسْتِئْنَاف وَلَو غَلبه الْجُوع فَأفْطر بَطل التَّتَابُع ونسيان النِّيَّة فِي بعض اللَّيَالِي يقطع التَّتَابُع كتركها عمدا وَلَو شكّ بعد فرَاغ من صَوْم يَوْم هَل نوى فِيهِ أم لَا لم يلْزمه الِاسْتِئْنَاف على الصَّحِيح وَلَا أثر للشَّكّ بعد فرَاغ الْيَوْم ذكر الرَّوْيَانِيّ وَالْمَرَض يقطع التَّتَابُع على الْأَظْهر لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْم بِخِلَاف الْجُنُون وَالْإِغْمَاء كالجنون وَقيل كالمرض وَفِي السّفر خلاف قيل كالمرض وَقيل يقطع قطعا لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ كَذَا حَكَاهُ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَذْهَب أَنه يَنْقَطِع التَّتَابُع بِالْفطرِ فِي(1/418)
السّفر وَلَو أكره على الْأكل فَأكل وَقُلْنَا يبطل صَوْمه انْقَطع التَّتَابُع لِأَنَّهُ سَبَب نَادِر هَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَلَو استنشق فوصل المَاء إِلَى دماغه وَقُلْنَا يفْطر فَفِي انْقِطَاع تتابعه الْخلاف وَلَو أوجر مكْرها لم يفْطر وَلم يَنْقَطِع التَّتَابُع على مَا قطع بِهِ الْأَصْحَاب فِي كل الطّرق وَفِي وَجه يبطل وَيقطع التَّتَابُع وَالله أعلم
الْخصْلَة الثَّالِثَة الْإِطْعَام فَمن لم يسْتَطع الصَّوْم لهرم أَو مرض أَو مشقة شَدِيدَة أَو خَافَ زِيَادَة الْمَرَض فَلهُ أَن يكفر بِالْإِطْعَامِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة وَهل يشْتَرط فِي الْمَرَض أَن لَا يُرْجَى زَوَاله أم لَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ يشْتَرط وَقَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ إِن كَانَ يَدُوم شَهْرَيْن فِي غَالب الظَّن الْمُسْتَفَاد من الْأَطِبَّاء أَو من الْعرف فَلهُ الْعُدُول إِلَى الْإِطْعَام وَصحح النَّوَوِيّ مَا قَالَاه يَعْنِي الإِمَام وَالْغَزالِيّ قَالَ النَّوَوِيّ وَقد وَافق الإِمَام على ذَلِك آخَرُونَ وَالله أعلم فيطعم سِتِّينَ مِسْكينا لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة لكل مِسْكين مدا من قوت الْبَلَد إِذا كَانَ مِمَّا تجب فِيهِ الزَّكَاة وَالْمدّ رَطْل وَثلث بالبغدادي وَهُوَ مد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يجوز صرف الْكَفَّارَة إِلَى كَافِر وَلَا إِلَى هاشمي ومطلبي وَلَا إِلَى من تلْزمهُ نَفَقَته كَزَوْجَة وَقَرِيب وَلَا إِلَى عبد فَلَو صرف إِلَى عبد وسيده بِصفة الِاسْتِحْقَاق جَازَ إِن كَانَ بِإِذن السَّيِّد لِأَنَّهُ صرف إِلَى السَّيِّد وَيجوز الصّرْف إِلَى ولي الصَّغِير وَالْمَجْنُون وَالله أعلم
(فرع) لَو عجز عَن الْعتْق وَالصَّوْم وَلم يقدر إِلَّا على إطْعَام عشرَة أَو على مد وَاحِد لزمَه إِخْرَاجه بِلَا خلاف لِأَنَّهُ لَا بدل للاطعام فَلَو عجز عَن جَمِيع خِصَال الْكَفَّارَة اسْتَقَرَّتْ الْكَفَّارَة فِي ذمَّته على الْأَظْهر وَقَول الشَّيْخ وَلَا يحل وَطئهَا حَتَّى يكفر لِلْآيَةِ وَالله أعلم
(فرع) قَالَ لامْرَأَته أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي أَنْت لي كَظهر أُمِّي أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي نظر إِن كَانَ أَرَادَ التَّأْكِيد بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَة فَهُوَ ظِهَار وَاحِد فَإِن أمْسكهَا بعد المرات فَهُوَ عَائِد وَعَلِيهِ كَفَّارَة وَاحِدَة وَإِن أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ ظِهَارًا آخر تعدّدت الْكَفَّارَة على الْجَدِيد وَإِن أطلق وَلم ينْو شَيْئا فَهَل يتحد الظِّهَار أم يَتَعَدَّد فِيهِ خلاف وَالْأَظْهَر الِاتِّحَاد وَبِه قطع ابْن الصّباغ وَالْمُتوَلِّيّ وَقد تقدم أَن الطَّلَاق إِذا كرر لَفظه وَأطلق يَتَعَدَّد الطَّلَاق وَالْفرق بَين الظِّهَار وَالطَّلَاق أَن الطَّلَاق أقوى لِأَنَّهُ يزِيل الْملك بِخِلَاف الظِّهَار وَبِأَن الطَّلَاق لَهُ عدد مَحْصُور وَالزَّوْج مَالك لَهُ فَإِذا كَرَّرَه كَانَ الظَّاهِر اسْتِئْنَاف الْمَمْلُوك وَالظِّهَار لَيْسَ بمتعدد فِي وَضعه وَلَا هُوَ مَمْلُوك للزَّوْج وَلَو تفاصلت المرات وَقصد بِكُل وَاحِدَة ظِهَارًا أَو أطلق فَكل مرّة ظِهَار بِرَأْسِهِ وَالله أعلم قَالَ
بَاب اللّعان فصل وَإِذا رمى الرجل زَوجته بِالزِّنَا فَعَلَيهِ حد الْقَذْف إِلَّا أَن يُقيم الْبَيِّنَة أَو يُلَاعن فَيَقُول عِنْد(1/419)
الْحَاكِم على الْمِنْبَر فِي جمَاعَة من الْمُسلمين أشهد بِاللَّه إِنَّنِي لمن الصَّادِقين فِيمَا رميت بِهِ زَوْجَتي فُلَانَة من الزِّنَا وَأَن هَذَا الْوَلَد من زنا وَلَيْسَ مني أَربع مَرَّات وَيَقُول فِي الْخَامِسَة بعد أَن يعظه الْحَاكِم وَعلي لعنة الله إِن كنت من الْكَاذِبين)
هَذَا فصل اللّعان وَهُوَ مصدر لَاعن وَهُوَ مُشْتَقّ من اللَّعْن وَهُوَ الإبعاد وَسمي المتلاعنان بذلك لما يعقب اللّعان من الْإِثْم والإبعاد وَلِأَن أَحدهمَا كَاذِب فَيكون ملعوناً وَقيل لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يبعد عَن صَاحبه بتأييد التَّحْرِيم وَهُوَ فِي الشَّرْع عبارَة عَن كَلِمَات مَعْلُومَة جعلت حجَّة للْمُضْطَر إِلَى قذف من لطخ فرَاشه وَألْحق بِهِ الْعَار واختير لفظ اللّعان على الْغَضَب وَالشَّهَادَة لِأَن اللّعان لَفْظَة غَرِيبَة وَالشَّيْء يشْتَهر بالغريب وَقيل لِأَنَّهُ فِي لعان الرجل وَهُوَ مُتَقَدم
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الْآيَات وَسبب نُزُولهَا أَن هِلَال بن أُميَّة قذف زَوجته عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشريك بن السمحاء فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك فَقَالَ يَا رَسُول الله إِذا رأى أَحَدنَا على امْرَأَته رجلا ينْطَلق يلْتَمس الْبَيِّنَة فَجعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك فَقَالَ هِلَال وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ إِنِّي لصَادِق ولينزلن الله مَا يُبرئ ظَهْري من الْحَد فَنزلت هَذِه الْآيَات وَقيل غير ذَلِك فَإِذا قذف الرجل زَوجته وَجب عَلَيْهِ الْحَد كَمَا جَاءَ بِهِ النَّص وَله ملخصان عَنهُ إِمَّا الْبَيِّنَة أَو اللّعان كَمَا نَص عَلَيْهِ الْخَبَر ثمَّ مَتى تَيَقّن الزَّوْج أَنَّهَا زنت بِأَن رَآهَا تَزني جَازَ لَهُ قَذفهَا وَكَذَا لَو أقرَّت بِهِ عِنْده وَوَقع فِي قلبه صدقهَا أَو أخبرهُ بِهِ ثِقَة أَو شاع أَن رجلا زنى بهَا وَرَآهُ خَارِجا من عِنْدهَا فِي أَوْقَات الرِّيبَة فَلَو شاع وَلم يره أَو رَآهُ وَلم يشع لم يجز فِي الْأَصَح وَقَالَ الإِمَام لَو رَآهُ مَعهَا تَحت شعارها على هَيْئَة مُنكرَة أَو رَآهَا مَعَه مَرَّات كَثِيرَة فِي مَحل رِيبَة كَانَ كالاستفاضة مَعَ الرُّؤْيَة وَتَبعهُ الْغَزالِيّ وَغَيره وَلَا يجوز الْقَذْف عِنْد عدم مَا ذكرنَا وَهَذَا كُله إِذا لم يكن ولد قَالَ النَّوَوِيّ قَالَ أَصْحَابنَا وإذاا لم يكن ولد فَالْأولى أَن لَا يُلَاعن بل يطلقهَا إِن كرهها وَالله أعلم
وَإِن كَانَ هُنَاكَ ولد يتَيَقَّن أَنه لَيْسَ مِنْهُ وَجب عَلَيْهِ نَفْيه بِاللّعانِ هَكَذَا قطع بِهِ الْجُمْهُور حَتَّى يَنْتَفِي عَنهُ من لَيْسَ مِنْهُ وَفِي وَجه لَا يجب النَّفْي قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيره فَإِن تَيَقّن مَعَ ذَلِك أَنَّهَا زنت قَذفهَا ولاعن وَإِلَّا فَلَا يقذفها لجَوَاز أَن يكون الْوَلَد من زوج قبله أَو من وَطْء شُبْهَة قَالَ الْأَئِمَّة وَإِنَّمَا يحصل الْيَقِين إِذا لم يَطَأهَا أصلا أَو وَطئهَا وَأَتَتْ بِهِ لأكْثر من أَربع سِنِين من وَقت الْوَطْء أَو لأَقل من(1/420)
سِتَّة أشهر فَإِذا انْتهى الْأَمر إِلَى اللّعان فَيَأْتِي بِخمْس كَلِمَات مَا ذكره الشَّيْخ وَيكون ذَلِك بِأَمْر الْحَاكِم أَو نَائِبه وَيُسمى امْرَأَته إِن كَانَت غَائِبَة عَن الْبَلَد أَو الْمجْلس وَيرْفَع فِي نَسَبهَا حَتَّى تتَمَيَّز عَن غَيرهَا وَإِن كَانَت حَاضِرَة تَكْفِي الْإِشَارَة إِلَيْهَا على الصَّحِيح لِأَن بهَا يحصل التَّمْيِيز فَلَا يحْتَاج مَعَ ذَلِك إِلَى ذكر النّسَب وَالِاسْم وَقيل يجمع بَين الِاسْم وَالْإِشَارَة وَيَقُول فِي الْخَامِسَة إِن لعنة الله عَليّ إِن كنت من الْكَاذِبين فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا للنَّص وَإِن كَانَ هُنَاكَ ولد ذكره فِي الْكَلِمَات الْخمس لِأَن كل مرّة بِمَنْزِلَة شَهَادَة فَيَقُول إِن هَذَا الْوَلَد أَو لحمل من زنا وَلَيْسَ مني فَلَو اقْتصر على قَوْله من زنا هَل يَكْفِي قَالَ الْأَكْثَرُونَ لَا لاحْتِمَال أَن يعْتَقد وَطْء الشُّبْهَة زنا فَلَا يَنْتَفِي بِهِ الْوَلَد وأصحهما أَنه يَكْفِي وَلَو اقْتصر على قَوْله لَيْسَ مني يَك لم يَكْفِي وَلَو أغفل ذكر الْوَلَد فِي بعض الْكَلِمَات احْتَاجَ إِلَى إِعَادَة اللّعان لنفيه وَقَول الشَّيْخ فَيَقُول عِنْد الْحَاكِم هَذَا لَا بُد مِنْهُ فِي الِاعْتِدَاد بِصِحَّة اللّعان لِأَن اللّعان يَمِين فَلَا بُد فِيهِ من أَمر الْحَاكِم كَسَائِر الْإِيمَان وَقَوله على الْمِنْبَر فِي جمَاعَة من الْمُسلمين هَذَا من الْآدَاب وَأَقلهمْ أَرْبَعَة ليكونوا من أَعْيَان الْبَلَد وصلحائهم لِأَن فِي ذَلِك تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ وَهُوَ أبلغ فِي الردع وَقَوله أشهد هَذَا اللَّفْظ مُتَعَيّن فَلَو بدله بقوله أَحْلف بِاللَّه أَو أقسم بِاللَّه وَنَحْوه إِنِّي لمن الصَّادِقين أَو أبدل لفظ اللَّعْن بالإبعاد أَو أبدل لفظ الْغَضَب بالسخط أَو أبدل لفظ الْغَضَب باللعن أَو عَكسه لم يَصح على الْأَصَح فِي جَمِيع ذَلِك وَقيل لَا يَصح قطعا لِأَنَّهُ أخل بِاللَّفْظِ الْمَأْمُور بِهِ فَأشبه الشَّاهِد إِذا أخل بِلَفْظ الشَّهَادَة وَإِذا بلغ الرجل لفظ اللَّعْن أَو الْمَرْأَة لفظ الْغَضَب اسْتحبَّ للْحَاكِم أَن يَقُول إِن هَذِه الْخَامِسَة مُوجبَة للعذاب فِي الدُّنْيَا وَعَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة فَاتق الله تَعَالَى فَإِنِّي أخْشَى عَلَيْك إِن لم تكن صَادِقا أَن تبوء بلعنة الله تَعَالَى كي يرجع وَيَتْلُو عَلَيْهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَمعنى لَا خلاق لَهُم أَي لَا نصيب لَهُم فِي الْآخِرَة فَإِن أَبَيَا إِلَّا اللّعان تَركهمَا وَيَنْبَغِي للْحَاكِم أَن يذكر هَذَا الحَدِيث وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيّمَا امْرَأَة أدخلت على قوم من لَيْسَ مِنْهُم فَلَيْسَتْ من الله فِي شَيْء وَلنْ يدخلهَا الله الْجنَّة وَأَيّمَا رجل جحد وَلَده وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ احتجب الله مِنْهُ وفضحه على رُؤُوس الْأَوَّلين والآخرين وَفِي رِوَايَة على رُؤُوس الْخَلَائق يَوْم الْقِيَامَة قَالَ
(وَيتَعَلَّق بلعانه خَمْسَة أَحْكَام سُقُوط الْحَد عَنهُ وَوُجُوب الْحَد عَلَيْهَا وَزَوَال الْفراش وَنفي الْوَلَد وَالتَّحْرِيم على الْأَبَد)(1/421)
اعْلَم أَن الزَّوْج لَا يجْبر على اللّعان بعد الْقَذْف بل لَهُ الِامْتِنَاع وَعَلِيهِ حد الْقَذْف كَالْأَجْنَبِيِّ وَكَذَا الْمَرْأَة لَا تجبر على اللّعان بعد لِعَانه فَإِذا لَاعن الزَّوْج وأكمل اللّعان ترَتّب عَلَيْهِ أَحْكَام مِنْهَا سُقُوط الْحَد عَنهُ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة فَإِنَّهَا أَقَامَت اللّعان فِي حَقه مقَام الشَّهَادَة وَمِنْهَا وجوب الْحَد عَلَيْهَا إِذا قَذفهَا بزنا أَضَافَهُ إِلَى حَالَة الزَّوْجِيَّة وَكَانَت مسلمة لقَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} وَمِنْهَا حُصُول الْفرْقَة بَينهمَا وَهُوَ الَّذِي عبر الشَّيْخ عَنهُ بِزَوَال الْفراش وَهَذِه الْفرْقَة تحصل ظَاهرا وَبَاطنا سَوَاء صدقت أم صدق وَقيل إِن صدقت لم تحصل بَاطِنا وَالصَّحِيح الأول وَحجَّة ذَلِك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَين رجل وَامْرَأَته تلاعنا فِي زَمَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَألْحق الْوَلَد بِالْأُمِّ رَوَاهُ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَمِنْهَا نفي الْوَلَد عَنهُ لحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَمِنْهَا التَّحْرِيم بَينهمَا إِذا كَانَت الْبَيْنُونَة بِاللّعانِ على التَّأْبِيد لِأَن الْعجْلَاني قَالَ بعد اللّعان كذبت عَلَيْهَا إِن أَمْسَكتهَا هِيَ طَالِق ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا فنفى السَّبِيل مُطلقًا فَلَو لم يكن مُؤَبَّدًا لبين غَايَته كَمَا بَينهَا فِي الْمُطلقَة ثَلَاثًا وَرُوِيَ المتلاعنان لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا وَلَو كَانَ قد أَبَانهَا قبل اللّعان ثمَّ لاعنها فَهَل تتأبد الْحُرْمَة وَجْهَان أصَحهمَا نعم ثمَّ هَذِه الْأَحْكَام تتَعَلَّق بِمُجَرَّد لعان الزَّوْج وَلَا يتَوَقَّف شَيْء مِنْهَا على لعانها وَلَا على قَضَاء القَاضِي وَلَو أَقَامَ بَيِّنَة بزناها لم تلاعن الْمَرْأَة لدفع الْحَد لِأَن اللّعان حجَّة ضَعِيفَة فَلَا يُقَاوم الْبَيِّنَة وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَت الْمُلَاعنَة أمة فملكها الزَّوْج فَفِي حل وَطئهَا طَرِيقَانِ وَالَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ الْمَنْع وَقيل فِيهَا الْخلاف فِيمَا إِذا طلق زَوجته الْأمة ثَلَاثًا ثمَّ ملكهَا هَل تحل لَهُ أم لَا الْأَصَح لَا تحل لَهُ حَتَّى تنْكح زوجا غَيره ويطلقها بِشُرُوطِهِ لظَاهِر الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وَقيل تحل لِأَن الطلقات الثَّلَاث لَا تمنع الْملك فَلَا تمنع الْوَطْء فِيهِ بِخِلَاف النِّكَاح الأول وَالله أعلم قَالَ
(وَيسْقط الْحَد عَنْهَا بِأَن تلاعن فَتَقول أشهد بِاللَّه أَن فلَانا هَذَا من الْكَاذِبين فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا أَربع مَرَّات وَتقول فِي الْخَامِسَة بعد أَن يعظها الْحَاكِم وَعلي غضب الله إِن كَانَ من الصَّادِقين)(1/422)
قد علمت أَن الْمَرْأَة لَا تجبر على اللّعان لَكِن لَهَا أَن تلاعن لدرء الْحَد عَنْهَا لقَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} يَعْنِي زَوجهَا وتشير إِلَيْهِ كَمَا تقدم إِن كَانَ حَاضرا أَو تذكر مَا يتَمَيَّز بِهِ من اسْم وَنسب إِن لم يكن حَاضرا وَتقول فِي الْخَامِسَة إِن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين لِلْآيَةِ وَلَا تحْتَاج إِلَى ذكر الْوَلَد لِأَن لعانها لَا يُؤثر وَلَو تعرضت لَا يُؤثر وَقيل تذكره ليتقابل اللعانان وَالله أعلم
(فرع) قَالَ شخص لآخر يَا لوطي فَهَل هُوَ كِنَايَة فِي الْقَذْف أم صَرِيح الْمَذْهَب عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه كِنَايَة وَلَيْسَ بِصَرِيح قَالَ النَّوَوِيّ قد غلب فِي الْعرف لإِرَادَة الْوَطْء فِي الدبر بل لَا يفهم مِنْهُ إِلَّا هَذَا فَيَنْبَغِي أَن يقطع بِأَنَّهُ صَرِيح ثمَّ قَالَ بل الصَّوَاب الْجَزْم بِأَنَّهُ صَرِيح وَبِه جزم صَاحب التَّنْبِيه وَإِن كَانَ الْمَعْرُوف فِي الْمَذْهَب أَنه كِنَايَة وَالْعجب أَنه قَالَ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه الصَّوَاب أَنه كِنَايَة وَالله أعلم
(فرع) كثير فِي أَلْسِنَة النَّاس قَوْلهم للصَّبِيّ وَغَيره يَا ولد الزِّنَا وَهَذَا قذف لأم القَوْل لَهُ فَيجب فِيهِ الْحَد لِأَنَّهُ قذف صَرِيح وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْعدة فصل والمعتدة ضَرْبَان متوفي عَنْهَا زَوجهَا وَغير متوفي فالمتوفى عَنْهَا إِن كَانَت حَامِلا فعدتها بِوَضْع الْحمل وَإِن كَانَت حَائِلا فعدتها أَرْبَعَة أشهر وَعشر
الْعدة اسْم لمُدَّة مَعْدُودَة تَتَرَبَّص فِيهَا الْمَرْأَة ليعرف بَرَاءَة رَحمهَا وَذَلِكَ يحصل بِالْولادَةِ تَارَة وبالأشهر أَو الْأَقْرَاء أُخْرَى وَلَا شكّ أَن الْمُعْتَدَّة على ضَرْبَيْنِ متوفى عَنْهَا زَوجهَا وَغَيرهَا فالمتوفي عَنْهَا زَوجهَا تَارَة تكون حَامِلا وَتارَة تكون حَائِلا فَإِن كَانَت حَامِلا فعدتها بِوَضْع الْحمل بِشُرُوط نذكرها فِيمَا بعد فِي عدَّة الطَّلَاق وَلَا فرق بَين أَن يتعجل الْوَضع أَو يتَأَخَّر قَالَ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي وجوب الِاعْتِدَاد بالمدة وَإِن كَانَت حَامِلا لَكِن ثَبت أَن سبيعة الأسْلَمِيَّة ولدت بعد وَفَاة زَوجهَا بِنصْف شهر فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حللت فَانْكِحِي من شِئْت وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَو وضعت وَزوجهَا على السرير حلت ثمَّ لَا فرق فِي عدَّة الْحمل بَين الْحرَّة وَالْأمة وَإِن كَانَت حَائِلا أَو حَامِلا بِحمْل لَا يجوز أَن يكون مِنْهُ اعْتدت الْحرَّة بأَرْبعَة أشهر وَعشر لقَوْله(1/423)
تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} أخرجت الْحَامِل مِنْهُ بِدَلِيل فَبَقيَ مَا عدا ذَلِك على عُمُومه وَأما الْحَامِل من غَيره فَلَا يُمكن الِاعْتِدَاد بِهِ ثمَّ لَا فرق فِي ذَلِك بَين الصَّغِيرَة والكبيرة وَذَات الْأَقْرَاء وَغَيرهَا وَلَا فرق بَين زَوْجَة الصَّبِي والممسوح وَغَيرهمَا وَتعْتَبر الْأَشْهر بِالْأَهِلَّةِ مَا أمكن وَاعْلَم أَن عدَّة الْوَفَاة تخْتَص بِالنِّكَاحِ الصَّحِيح فَلَو نكحت فَاسِدا وَمَات قبل الدُّخُول فَلَا عدَّة وَإِن دخل ثمَّ مَاتَ أَو فرق بَينهمَا اعْتدت للدخول كَمَا تَعْتَد عَن الشُّبْهَة وَالله أعلم قَالَ
(وَغير المتوفي عَنْهَا زَوجهَا إِن كَانَت حَامِلا فعدتها بِوَضْع الْحمل وَإِن كَانَت حَائِلا من ذَوَات الْحيض فعدتها بِالْأَقْرَاءِ وَهِي الإطهار وَإِن كَانَت صَغِيرَة أَو آيسة فعدتها ثَلَاثَة أشهر)
هَذَا هُوَ الضَّرْب الثَّانِي وَهُوَ عدَّة غير الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا وَلَا شكّ أَنَّهَا أَصْنَاف إِمَّا ذَات حمل وَإِمَّا ذَات أَقراء وَإِمَّا ذَات أشهر الصِّنْف الأول ذَات الْحمل وعدتها بِوَضْع الْحمل لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لَكِن للاعتداد بذلك شَرْطَانِ
أَحدهمَا كَون الْوَلَد مَنْسُوبا إِلَى من الْعدة مِنْهُ إِمَّا ظَاهرا وَإِمَّا احْتِمَالا كالنفي بِاللّعانِ فَإِذا لَاعن حَامِلا وَنفى الْوَلَد الَّذِي هُوَ حمل انْقَضتْ عدتهَا بِوَضْعِهِ لِإِمْكَان كَونه مِنْهُ أما إِذا لم يُمكن كَونه مِنْهُ بِأَن مَاتَ صبي لَا ينزل وَامْرَأَته حَامِل فَلَا تَنْقَضِي عدتهَا بِوَضْع الْحمل على الْمَذْهَب والخصي الَّذِي يبْقى ذكره كالفحل فِي لُحُوق الْوَلَد على الْمَذْهَب فتنقضي الْعدة مِنْهُ بِوَضْعِهِ سَوَاء فِيهِ عدَّة الطَّلَاق أَو الْوَفَاة وَأما من جب ذكره وَبَقِي أنثياه فيلحقه الْوَلَد فَتعْتَد امْرَأَته عَن الْوَفَاة بِوَضْع الْحمل وَلَا يلْزمهَا عدَّة الطَّلَاق لعدم الدُّخُول وَالله أعلم
الشَّرْط الثَّانِي أَن تضع الْحمل بِتَمَامِهِ فَإِن كَانَ الْحمل توأمين فَلَا بُد من وضعهما وَلَا تَنْقَضِي الْعدة بِخُرُوج بعض الْوَلَد لَو بَقِي الْبَعْض مُتَّصِلا كَانَ أَو مُنْفَصِلا وطلق لحقه الطَّلَاق وَلَو مَاتَ وَورثه ثمَّ مَتى انْفَصل الْوَلَد بِتَمَامِهِ انْقَضتْ الْعدة حَيا كَانَ أَو مَيتا وَلَا تَنْقَضِي بِإِسْقَاط الْعلقَة وَالدَّم وَإِن سَقَطت مُضْغَة نظر إِن ظهر فِيهَا شَيْء من صُورَة الْآدَمِيّ كيد أَو أصْبع أَو ظفر أَو غَيرهَا فتنقضي الْعدة وَإِن لم يظْهر شَيْء من صُورَة الْآدَمِيّ لكل أحد لَكِن قَالَ القوابل فِيهِ صُورَة خُفْيَة وَهِي بَيِّنَة لنا وَإِن خفيت على غَيرنَا فَتقبل شَهَادَتهنَّ وَيحكم بِانْقِضَاء الْعدة وَسَائِر الْأَحْكَام وَإِن لم تكن صُورَة ظَاهِرَة وَلَا خُفْيَة يعرفهَا القوابل إِلَّا أَنَّهُنَّ قُلْنَ إِنَّه أصل آدَمِيّ وَلَو بَقِي لتصور وَخلق فالنص أَن الْعدة تَنْقَضِي بِهِ وَهُوَ الْمَذْهَب وَإِن كَانَت لَا تجب بِهِ غرَّة على النَّص وَلَا يثبت بِهِ الِاسْتِيلَاد لِأَن المُرَاد من الْعدة بَرَاءَة الرَّحِم وَقد حصلت وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة من الْعدة وأمومة(1/424)
الْوَلَد إِنَّمَا تثبت تبعا للْوَلَد وَلَو شكت القوابل فِي أَنه لحم آدَمِيّ أم لَا لم يثبت شَيْء من هَذِه الْأَحْكَام بِلَا خلاف وَلَو اخْتلف الزَّوْج وَهِي فَقَالَت كَانَ السقط الَّذِي وَضعته مِمَّا تَنْقَضِي بِهِ الْعدة وَأنكر الزَّوْج وضع السقط فَالْقَوْل قَوْلهَا بِيَمِينِهَا لِأَنَّهَا مَأْمُونَة فِي الْعدة وَالله أعلم
النَّوْع الثَّانِي ذَات الْأَقْرَاء والأقراء جمع قرء بِفَتْح الْقَاف وَيُقَال بضَمهَا قَالَ النَّوَوِيّ وَزعم بَعضهم أَنه بِالْفَتْح للطهر وبالضم للْحيض ويقعان على الطُّهْر وَالْحيض فِي اللُّغَة على الصَّحِيح وَالصَّحِيح أَنه حَقِيقَة فيهمَا وَقيل إِنَّه حَقِيقَة فِي الطُّهْر مجَاز فِي الْحيض وَاخْتلف فِي المُرَاد بِالطُّهْرِ هُنَا وَالْأَظْهَر أَنه المحتوش بدمين وَقيل إِنَّه مُجَرّد الِانْتِقَال من الطُّهْر إِلَى الْحيض وَالْمَذْكُور فِي أول الطَّلَاق أَنه لَو قَالَ للَّتِي لم تَحض قطّ أَنْت طَالِق فِي كل قرء طَلْقَة تطلق فِي الْحَال على مَا قَالَه الْأَكْثَرُونَ وَفِيه مُخَالفَة للمذكور هُنَا قَالَ الرَّافِعِيّ وَيجوز أَن يَجْعَل ترجيحهم للوقوع فِي تِلْكَ الصُّورَة لِمَعْنى يَخُصهَا لَا لرجحان القَوْل بِأَن الطُّهْر هُوَ الِانْتِقَال إِذا عرفت هَذَا فَلَو طَلقهَا وَقد بَقِي من الطُّهْر بَقِيَّة حسبت تِلْكَ الْبَقِيَّة قرءا سَوَاء كَانَ جَامعهَا فِي تِلْكَ الْبَقِيَّة أم لَا فَإِذا حَاضَت ثمَّ ظَهرت ثمَّ حَاضَت ثمَّ طهرت ثمَّ شرعت فِي الْحيض انْقَضتْ عدتهَا على الْأَظْهر لِأَن الظَّاهِر أَنه دم حيض وَقيل لَا بُد من مُضِيّ يَوْم وَلَيْلَة فعلى الْأَظْهر لَو انْقَطع الدَّم لدوّنَ يَوْم وَلَيْلَة وَلم يعد حَتَّى مَضَت خَمْسَة عشر يَوْمًا تَبينا أَن الْعدة لم تنقض ثمَّ لَحْظَة رُؤْيَة الدَّم أَو الْيَوْم وَاللَّيْلَة هَل هما من نفس الْعدة أم يتَبَيَّن بهما الإنقضاء وليستا من الْعدة وَجْهَان أصَحهمَا الثَّانِي فَإِن جَعَلْنَاهُ من الْعدة صحت فِيهِ الرّجْعَة وَلَا يَصح نِكَاحهَا لأَجْنَبِيّ فِيهِ وَإِلَّا انعكس الحكم وَالله أعلم
النَّوْع الثَّالِث من لم تَرَ دَمًا إِمَّا لصِغَر أَو اياس أَو بلغت سنّ الْحيض وَلم تَحض فَعدَّة هَؤُلَاءِ بِالْأَشْهرِ قَالَ الله تَعَالَى {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يَعْنِي كَذَلِك قَالَ أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ أول مَا نزل من الْعدَد {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فارتاب نَاس فِي عدَّة الصغار والآيسات فَأنْزل الله تَعَالَى {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} الْآيَة وَاخْتلف فِي سنّ الاياس فالأشهر أَنه اثْنَان وَسِتُّونَ سنة وَقيل سِتُّونَ وَقيل خَمْسُونَ وَقيل تسعون قَالَ السَّرخسِيّ ورأينا امْرَأَة حَاضَت لتسعين وَبِمَ يعْتَبر اياسها قيل بإياس أقاربها من الْأَبَوَيْنِ لتقاربهن فِي الطَّبْع وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَرجحه الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر وَقيل نسَاء عصباتها كمهر الْمثل فعلى الْمُرَجح لَو اختلفن فَهَل يعْتَبر أقلهن أَو أكثرهن فِيهِ خلاف وَقيل يعْتَبر إِيَاس جَمِيع النِّسَاء أَي أقْصَى إياسهن لتحَقّق الاياس وَهَذَا هُوَ الْأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ وَغَيره وَإِلَيْهِ ميل الْأَكْثَرين كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَلَا يمكننا طواف الْعَالم(1/425)
وَإِنَّمَا المُرَاد بِمَا بلغنَا خَبره وَقيل الْمُعْتَبر سنّ الاياس غَالِبا لَا أقصاه وعَلى الْوَجْهَيْنِ هَل الْمُعْتَبر نسَاء زمانها أم نسَاء أَي زمن كَانَ الَّذِي فِي الْإِبَانَة والتتمة وَتَعْلِيق القَاضِي حُسَيْن الأول وَغَيرهم لم يتَعَرَّضُوا إِلَى ذَلِك وَقيل يعْتَبر اياس نسَاء بَلَدهَا لِأَن للأهوية تَأْثِيرا فَلَو اخْتلفت عادتهن اعْتبرنَا أقصاهن وَالله أعلم
(فرع) ولدت امْرَأَة وَلم تَرَ حيضا قطّ وَلَا نفاساً فَهَل تَعْتَد بالاشهر أم هِيَ كمن انْقَطع حَيْضهَا بِلَا سَبَب وَجْهَان الصَّحِيح الِاعْتِدَاد بِالْأَشْهرِ لدخولها فِي قَوْله تَعَالَى {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} قَالَ الْأَذْرَعِيّ قَالَ الرَّافِعِيّ فِي آخر الْعدَد عَن فَتَاوَى الْبَغَوِيّ إِن الَّتِي لم تَحض قطّ إِذا ولدت ونفست تَعْتَد بِثَلَاثَة أشهر وَلَا يَجْعَلهَا النّفاس من ذَوَات الْأَقْرَاء فَجزم الْبَغَوِيّ بِهَذَا وَلم يذكر الرَّافِعِيّ هُنَاكَ خِلَافه وَالله أعلم قَالَ
(والمطلقة قبل الدُّخُول لَا عدَّة عَلَيْهَا)
الْمُطلقَة قبل الدُّخُول بهَا إِن لم تحصل خلْوَة فَلَا عدَّة عَلَيْهَا بِلَا خلاف بل بالِاتِّفَاقِ وَإِن طَلقهَا بعد الْخلْوَة بهَا سَوَاء بَاشَرَهَا فِيمَا دون الْفرج أم لَا فَفِيهِ قَولَانِ الْأَظْهر أَنه لَا عدَّة عَلَيْهَا لقَوْله تَعَالَى {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وَلِأَن الْبَرَاءَة متحققة وَقيل تجب الْعدة لقَوْل عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا أغلق بَابا وأرخى سترا فلهَا الصَدَاق كَامِلا وَعَلَيْهَا الْعدة
وَاعْلَم أَن زَوْجَة الْمَجْبُوب الذّكر الْبَاقِي الانثيين لَا عدَّة عَلَيْهَا إِن كَانَت حَائِلا لِاسْتِحَالَة الْإِيلَاج وَإِن كَانَت حَامِلا لحقه الْوَلَد عَلَيْهَا الْعدة وَزوج الْمَمْسُوح لَا عدَّة عَلَيْهَا بِنَاء على الْأَصَح أَن الْوَلَد لَا يلْحقهُ وَالله أعلم قَالَ
(وعدة الْأمة كعدة الْحرَّة فِي الْحمل وبالاقراء تَعْتَد بقرءين وبالشهور عَن الْوَفَاة بشهرين وَخمْس لَيَال وَعَن الطَّلَاق بِشَهْر وَنصف)
الْأمة الْمُطلقَة إِن كَانَت حَامِلا فعدتها بِوَضْع الْحمل لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلِأَن الْحمل لَا يَتَبَعَّض فَأشبه قطع السّرقَة وَإِن كَانَت من ذَوَات(1/426)
الْأَقْرَاء اعْتدت بقرءين لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُطلق العَبْد طَلْقَتَيْنِ وَتعْتَد الْأمة حيضتين وَهُوَ مُخَصص لعُمُوم الْآيَة وَلِأَنَّهَا على النّصْف فِي الْقسم وَالْحَد إِلَّا أَنه لَا يُمكن تنصيف الْقُرْء فكمل الثَّانِي كَمَا كمل طَلَاق العَبْد بثنتين وَلِأَن اسْتِبْرَاء الزَّوْجَة الْحرَّة بِثَلَاثَة أَقراء لكمالها بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعقد واستبراء الْأمة الْمَوْطُوءَة بِالْملكِ بِحَيْضَة لنقصانها برقها فَكَانَ اسْتِبْرَاء الْأمة الْمَنْكُوحَة بَينهمَا لوُجُود العقد دون الْحُرِّيَّة وَإِن كَانَت من ذَوَات الْأَشْهر فَفِيهَا ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا ثَلَاثَة أشهر لعُمُوم الْآيَة وَلِأَنَّهُ أقل زمن تظهر فِيهِ أَمَارَات الْحمل من التحرك وَكبر الْبَطن فَإِذا لم يظْهر ذَلِك علمت الْبَرَاءَة
وَالثَّانِي شَهْرَان بَدَلا عَن الْقُرْأَيْنِ كَمَا كَانَت الْأَشْهر الثَّلَاثَة للْحرَّة بَدَلا عَن الْأَقْرَاء
وَالثَّالِث شهر وَنصف لتجري على الصِّحَّة فِي التنصيف كعدة الْوَفَاة وَهَذَا هُوَ الْأَصَح وَبِه جزم الشَّيْخ وَاعْلَم أَن أم الْوَلَد وَالْمُكَاتبَة والمبعضة كالقنة فِيمَا ذكرنَا وَالله أعلم
(فرع) إِذا طلقت الزَّوْجَة الْأمة وعتقت فِي أثْنَاء الْعدة فَهَل تَعْتَد عدَّة الْإِمَاء أم الْحَرَائِر فِيهِ أَقْوَال
أَحدهَا تتمم عدَّة الْإِمَاء إعتباراً بِحَال وجوب الْعدة
وَالثَّانِي تتمم عدَّة الْحَرَائِر احْتِيَاطًا للعدة 2
وَالثَّالِث إِن كَانَت رَجْعِيَّة تممت عدَّة الْحَرَائِر لِأَنَّهَا كَالزَّوْجَةِ وَلِهَذَا لَو مَاتَ عَنْهَا انْتَقَلت إِلَى عدَّة الْوَفَاة وَإِن كَانَت بَائِنا أتمت عدَّة أمة لِأَنَّهَا كالأجنبية وَالله أعلم قَالَ
بَاب الِاسْتِبْرَاء فصل فِي الإستبراء وَمن استحدث ملك أمة حرم عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاع بهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا إِن كَانَت من ذَوَات الْحيض بِحَيْضَة وَإِن كَانَت من ذَوَات الشُّهُور بِشَهْر وَإِن كَانَت من ذَوَات الْحمل بِوَضْع 4 الْحمل
هَذَا فصل الِاسْتِبْرَاء وَهُوَ عبارَة عَن التَّرَبُّص بِوَاجِب بِسَبَب ملك الْيَمين حدوثاً وزوالاً وَسمي بذلك لِأَنَّهُ مُقَدّر بِأَقَلّ مَا يدل على الْبَرَاءَة من غير عدَّة وَسميت الْعدة عدَّة لتَعَدد مَا يدل على الْبَرَاءَة(1/427)
إِذا عرفت هَذَا فَالْأَصْل فِي هَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَبَايَا أَوْطَاس لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا غير ذَات حمل حَتَّى تحيض حَيْضَة
ثمَّ لوُجُوب الِاسْتِبْرَاء سببان
أَحدهمَا حُدُوث الْملك فِي الْأمة كَمَا ذكره الشَّيْخ بقوله وَمن استحدث ملك أمة فَمن ملك جَارِيَة وَجب عَلَيْهِ استبراؤها سَوَاء ملكهَا بارث أَو شِرَاء أَو هبة أَو وَصِيَّة أَو سبي أَو عَاد ملكه فِيهَا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَو التخالف أَو الْإِقَالَة أَو الرُّجُوع فِي الْهِبَة وَإِذا عَادَتْ إِلَيْهِ بِفَسْخ كِتَابَة أَو ارْتَدَّت ثمَّ أسلمت فَإِنَّهُ يلْزمه الِاسْتِبْرَاء على الْأَصَح لزوَال ملك الِاسْتِمْتَاع وَلَو زوج أمته ثمَّ طلقت قبل الدُّخُول فَهَل يجب على السَّيِّد استبراؤها قَولَانِ وَلَو بَاعهَا بِشَرْط الْخِيَار فَعَادَت إِلَيْهِ بِفَسْخ فِي مُدَّة الْخِيَار فَفِي وجوب الِاسْتِبْرَاء خلاف الْمَذْهَب أَنه يجب إِن قُلْنَا يَزُول ملك البَائِع بِنَفس العقد وَإِلَّا فَلَا ثمَّ لَا فرق فِي الْأمة بَين أَن تكون صَغِيرَة أَو كَبِيرَة حَائِلا كَانَت أَو حَامِلا بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا وَسَوَاء ملكهَا من رجل أَو امْرَأَة أَو طِفْل وَسَوَاء كَانَت مستبرأة من قبل أم لَا وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب لعُمُوم الْخَبَر مَعَ الْعلم بأنهن كَانَ فِيهِنَّ أبكار وعجائز وَالله أعلم
(فرع) اشْترى زَوجته الْأمة فَهَل يجب عَلَيْهِ أَن يَسْتَبْرِئهَا وَجْهَان الصَّحِيح الْمَنْصُوص لَا ويدوم حلهَا لَكِن يسْتَحبّ ليتميز ولد النِّكَاح عَن ولد ملك الْيَمين وَقيل يجب لتجدد الْملك وَالله أعلم
ثمَّ إِن كَانَت الْأمة الَّتِي حدث ملكهَا من ذَوَات الْحيض استبرأها بِحَيْضَة على الْجَدِيد الْأَظْهر للْحَدِيث وَقيل بطهر كالعدة وَإِن كَانَت مِمَّن لَا تحيض لصِغَر أَو اياس فبماذا تَعْتَد فِيهِ خلاف قيل بِثَلَاثَة أشهر لِأَنَّهُ أقل مُدَّة تدل على الْبَرَاءَة وَهَذَا مَا صَححهُ فِي التَّنْبِيه وَقيل بِشَهْر لِأَنَّهُ كقرء فِي الْحرَّة فَكَذَا فِي الْأمة وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَححهُ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا
(فرع) وَطئهَا من يجب عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاء قبل الِاسْتِبْرَاء عصى وَلَا يَنْقَطِع الِاسْتِبْرَاء لِأَن قيام الْملك لَا يمْنَع الاحتساب فَكَذَا المعاشرة بِخِلَاف الْمُعْتَدَّة وَلَو أحبلها بِالْوَطْءِ فِي الْحيض فَانْقَطع الدَّم حلت لتَمام الْحيض وَإِن كَانَت طَاهِرَة عِنْد الْوَطْء لم ينْقض الِاسْتِبْرَاء حَتَّى تضع وَالله أعلم وَإِن كَانَت حَامِلا استبرأها بِوَضْع الْحمل لعُمُوم الْخَبَر وَظَاهر كَلَام الشَّيْخ أَنه لَا فرق بَين أَن يكون الْحمل من نِكَاح أَو شُبْهَة أَو زنا وَهُوَ مُوَافق لما حَكَاهُ الْمُتَوَلِي وَقَالَ الرَّافِعِيّ الْأَصَح وَعبارَة الرَّوْضَة التَّفْصِيل إِن ملكت بسبي كفى الْوَضع وَإِن ملكت بشرَاء وَحملهَا من زوج وَهِي فِي نِكَاحه أَو عدته أَو من وَطْء شُبْهَة فِي عدته فَالْمَشْهُور أَنه لَا اسْتِبْرَاء فِي الْحَال وَفِي وُجُوبه بعد الْعدة وَجْهَان(1/428)
وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يحصل الِاسْتِبْرَاء بِالْوَضْعِ مُطلقًا وَأما حمل الزِّنَا فَفِي الِاكْتِفَاء بِوَضْعِهِ حَيْثُ يَكْتَفِي بثبات النّسَب وَجْهَان أصَحهمَا نعم وَإِن لم يكتف بِهِ وَرَأَتْ دَمًا وَهِي حَامِل وَقُلْنَا إِنَّه حيض كفى فِي الْأَصَح وَلَو ارتابت بِالْحملِ فِي مُدَّة الِاسْتِبْرَاء أَو بعده فَكَمَا فِي الْعدة وَاعْلَم أَن المرتابة الْحمل إِن كَانَ ارتيابها بعد انْقِضَاء عدتهَا سَوَاء كَانَت بالاقراء أَو الْأَشْهر يكره نِكَاحهَا والارتياب يحصل بارتفاع الْبَطن أَو حركته مَعَ ظُهُور الدَّم وَلَكِن شككنا هَل ثمَّ حمل أم لَا وَهل يَصح النِّكَاح قَولَانِ
أَحدهمَا يَصح لأَنا حكمنَا بِانْقِضَاء الْعدة فَلَا تنقضه بِالشَّكِّ كَمَا لَو حصلت الرِّيبَة بعد النِّكَاح وَهَذَا هُوَ الْأَصَح فعلى هَذَا لَو ولدت لدوّنَ سِتَّة أشهر من العقد تَبينا الْبطلَان وَقيل لَا يَصح العقد لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي أعدتها بِالْحملِ فَلم تنقض أم بِغَيْرِهِ فَلَا تنْكح مَعَ الشَّك كَمَا لَو ارتاب بذلك فِي أثْنَاء الْعدة وَالله أعلم
(فرع) مَذْكُور فِي الْعدَد لَو نكح شخص امْرَأَة حَامِلا من الزِّنَا صَحَّ نِكَاحه بِلَا خلاف وَهل لَهُ وَطْؤُهَا قبل الْوَضع وَجْهَان الْأَصَح نعم إِذْ لَا حُرْمَة لَهُ وَمنعه ابْن الْحداد وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا مَاتَ سيد أم الْوَلَد استبرأت نَفسهَا بِشَهْر كالأمة)
هَذَا هُوَ السَّبَب الثَّانِي مِمَّا يُوجب الِاسْتِبْرَاء وَهُوَ زَوَال الْفراش عَن مَوْطُوءَة بِملك يَمِين فَإِذا مَاتَ سيد عَن أم وَلَده وَلَيْسَت فِي زوجية وَلَا عدَّة نِكَاح لَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاء لِأَنَّهُ زَالَ عَنْهَا الْفراش فَأَشْبَهت الْحرَّة وَيكون استبراؤها بِشَهْر إِن كَانَت من ذَوَات الْأَشْهر وَإِلَّا فبحيضة إِن كَانَت من ذَوَات الْأَقْرَاء كالمتملكة وَلَو أعْتقهَا فَالْأَمْر كَذَلِك وَكَذَا لَو أعتق أمته الَّتِي وَطئهَا لزوَال الْفراش وَلَو اسْتَبْرَأَ الْأمة الْمَوْطُوءَة ثمَّ أعْتقهَا قَالَ الْأَصْحَاب لَا اسْتِبْرَاء عَلَيْهَا وَلها أَن تتَزَوَّج فِي الْحَال وَلم يطردوا فِيهِ الْخلاف فِي الْمُسْتَوْلدَة لِأَن الْمُسْتَوْلدَة يشبه فراشها فرَاش النِّكَاح وَالأَصَح فِي الْمُسْتَوْلدَة أَنه إِن استبرأها ثمَّ أعْتقهَا أَنه يجب استبراؤها وَلَو لم تكن الْأمة مَوْطُوءَة لم يكن فراشا وَلَا يجب الِاسْتِبْرَاء بإعتاقها وَلَو أعتق مُسْتَوْلدَة وَأَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا قبل تَمام الِاسْتِبْرَاء جَازَ على الْأَصَح كَمَا يتَزَوَّج الْمُعْتَدَّة مِنْهُ بِنِكَاح أَو وَطْء شُبْهَة وَالله أعلم
(فرع) لَا يجوز تَزْوِيج الْأمة الْمَوْطُوءَة قبل الِاسْتِبْرَاء بِخِلَاف بيعهَا لِأَن مَقْصُود النِّكَاح الْوَطْء فَيَنْبَغِي أَن يستعقب الْحل وَإِن استبرأها ثمَّ أعْتقهَا فَهَل يجوز تَزْوِيجهَا فِي الْحَال أم يحْتَاج إِلَى اسْتِبْرَاء جَدِيد زجهان يَعْنِي أم الْوَلَد أصَحهمَا يجب الِاسْتِبْرَاء وَكَلَام الرَّوْضَة هَذَا يُوهم أَن الْوَجْهَيْنِ فِي الْأمة لَا فِي أم الْوَلَد فاعرفه وَلَو اشْترى أمة وَأَرَادَ تَزْوِيجهَا قبل الِاسْتِبْرَاء فَإِن كَانَ البَائِع قد وَطئهَا لم يجز إِلَّا أَن يُزَوّجهَا بِهِ وَإِن لم يكن وَطئهَا البَائِع أَو كَانَ قد وَطئهَا واستبرأها قبل البيع أَو كَانَ الِانْتِقَال من امْرَأَة وَصبي جَازَ تَزْوِيجهَا فِي الْحَال على الْأَصَح كَمَا يجوز للْبَائِع تَزْوِيجهَا بعد الِاسْتِبْرَاء وَقيل لَا يجوز لَهُ كَمَا لَا يجوز لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا والقائلون بالأصح يلْزمهُم الْفرق(1/429)
وَهَذَا الْوَجْه قوي وَنسبه الْقفال إِلَى أَكثر الْأَصْحَاب قَالَ الرَّافِعِيّ ونوقش فِي مثل هَذِه النِّسْبَة وَالله أعلم قَالَ
(فصل فِي الْمُعْتَدَّة الرَّجْعِيَّة السُّكْنَى وَالنَّفقَة وللبائن السُّكْنَى دون النَّفَقَة إِلَّا أَن تكون حَامِلا)
المعتدات أَنْوَاع مِنْهَا الرَّجْعِيَّة فلهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى بِالْإِجْمَاع ورد فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس حِين طَلقهَا ثَلَاثًا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَجْعَل لَهَا سُكْنى وَلَا نَفَقَة وَقَالَ إِنَّمَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى لمن تملك الرّجْعَة وَفِي رِوَايَة وَلَا نَفَقَة لَك إِلَّا أَن تَكُونِي حَامِلا وَفِي رِوَايَة لَا نَفَقَة لَك وَلَا سُكْنى وَكَانَت بَائِنا حَائِلا وَلِأَن الرَّجْعِيَّة زَوْجَة وَالْمَانِع من جِهَة الزَّوْج لِأَنَّهُ يقدر على إِزَالَته وكما تجب النَّفَقَة وَالسُّكْنَى تجب لَهَا بَقِيَّة مُؤَن الزَّوْجَات إِلَّا آلَات التَّنْظِيف وَالله أعلم
وَمِنْهَا الْبَائِن والبينونة إِن كَانَت بخلع أَو اسْتِيفَاء الطلقات الثَّلَاث فلهَا السُّكْنَى حَامِلا كَانَت أَو حَائِلا لقَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَقَالَ الله تَعَالَى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِين بِفَاحِشَة} وَإِن كَانَت مُعْتَدَّة عَن وَفَاة فَفِي اسْتِحْقَاقهَا السُّكْنَى قَولَانِ
أَحدهمَا لَا يجب كَمَا لَا تجب النَّفَقَة وَالْأَظْهَر الْوُجُوب لِأَن فريعة بنت مَالك أَخ أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قتل زَوجهَا فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ترجع إِلَى أَهلهَا فَإِنَّهُ لم يَتْرُكهَا فِي مسكن يملكهُ فَأذن لَهَا فِي الرُّجُوع قَالَت فَانْصَرَفت حَتَّى إِذا كنت فِي الْحُجْرَة أَو فِي الْمَسْجِد دَعَاني فَقَالَ امكثي فِي بَيْتك حَتَّى يبلغ الْكتاب أجل قَالَت فاعتددت أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَإِن كَانَت مُعْتَدَّة عَن(1/430)
نِكَاح بفرقة غير طَلَاق فِي الْحَيَاة كفسخ بِعَيْب ورضاع أَو غَيرهمَا فَفِي وجوب السُّكْنَى بِمثل تِلْكَ طرق عديدة وَاخْتلف تَرْجِيح الرَّافِعِيّ فِي ذَلِك فصحح فِي الْمُحَرر الِاسْتِحْقَاق فِي جَمِيع الصُّور فَقَالَ الْأَظْهر أَن الْمُعْتَدَّة عَن سَائِر الْفِرَاق فِي الْحَيَاة كالمطلقة وَذكر الْوُجُوب فِي الْمُطلقَة وَقَالَ فِي بَاب الْخِيَار لَا تسْتَحقّ إِن كَانَت حَائِلا على الْمَشْهُور وَكَذَا إِن كَانَت حَامِلا على أصح الْقَوْلَيْنِ وَذكر فِي أصل الرَّوْضَة هُنَا خَمْسَة طرق وَقَالَ الرَّابِع يَعْنِي الطَّرِيق الرَّابِع ذكر الْبَغَوِيّ إِن كَانَت الْفرْقَة بِعَيْب أَو غرر فَلَا سُكْنى وَإِن كَانَت برضاع أَو مصاهرة فلهَا السُّكْنَى على الْأَصَح لِأَن السَّبَب لم يكن مَوْجُودا يَوْم العقد وَلَا اسْتندَ إِلَيْهِ والملاعنة تسْتَحقّ قطعا كالمطلقة ثَلَاثًا وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَذْهَب وجوب السُّكْنَى إِذا وَقع فسخ سَوَاء كَانَ بردة أَو إِسْلَام أَو رضَاع أَو عيب وَنَحْوه وَالله أعلم
(فرع) طَلقهَا وَهِي نَاشِزَة فَلَا سُكْنى لَهَا فِي الْعدة لِأَنَّهَا لَا تسْتَحقّ النَّفَقَة وَالسُّكْنَى فِي صلب النِّكَاح فَبعد الْبَيْنُونَة أولى كَذَا قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَقَالَ الإِمَام إِن طلقت فِي مسكن النِّكَاح فعلَيْهَا ملازمته لحق الشَّرْع فَإِن أطاعت اسْتحقَّت السُّكْنَى وَالله أعلم وَقَوله إِلَّا أَن تكون حَامِلا يَعْنِي الْبَائِن بخلع أَو طَلَاق ثَلَاث فلهَا النَّفَقَة إِذا كَانَت حَامِلا وَقَضِيَّة كَلَام الشَّيْخ أَن النَّفَقَة لَهَا وَهُوَ الصَّحِيح وَقيل إِنَّه للْحَمْل فعلى الصَّحِيح لَا تجب لحامل عَن وَطْء الشُّبْهَة وَلَا فِي النِّكَاح الْفَاسِد وَكَذَا أَيْضا لَا تجب النَّفَقَة لمعتدة عَن وَفَاة وَإِن كَانَت حَامِلا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة تبعا لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَينْفق عَلَيْهَا من التَّرِكَة حَتَّى تضع وَبِه قَالَ شُرَيْح وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَحَمَّاد وَابْن أبي ليلى وسُفْيَان وَالله أعلم قَالَ
(وعَلى الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا الْإِحْدَاد وَهُوَ الِامْتِنَاع من الزِّينَة وَالطّيب)
يجب الاحداد فِي عدَّة الْوَفَاة وَهُوَ مَأْخُوذ من الْحَد وَهُوَ الْمَنْع لِأَنَّهَا تمنع الزِّينَة وَنَحْوهَا وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت فَوق ثَلَاث لَيَال إِلَّا على زوج أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَفِي رِوَايَة لَا تحد امْرَأَة على ميت فَوق ثَلَاث إِلَّا على زوج أَرْبَعَة أشهر وَعشرا فَلَا تلبس ثوبا مصبوغاً إِلَّا ثوب عصب وَلَا تكتحل وَلَا تمس طيبا إِلَّا إِذا طهرت فنبذة من قسط أَو ظفار وَلَا فرق فِي وجوب الْإِحْدَاد بَين الْمسلمَة والذمية وَلَو كَانَ زَوجهَا ذِمِّيا وَلَا بَين الْحرَّة وَالْأمة وَلَا بَين المكلفة وَغَيرهَا وَالْوَلِيّ يمْنَع الصَّغِيرَة والمجنونة مِمَّا تمْتَنع مِنْهُ(1/431)
المكلفة وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَن الْمُعْتَدَّة عَن غير الْوَفَاة أَنه لَا يجب وَهُوَ كَذَلِك أما الرَّجْعِيَّة فَلِأَنَّهَا زَوْجَة فِي الْأَحْكَام نعم نَص الشَّافِعِي أَنه يسْتَحبّ وَذهب بعض الْأَصْحَاب إِلَى أَن الأولى أَن تتزين بِمَا يدعوا إِلَى رَجعتهَا وَأما الْمُطلقَة بخلع أَو اسْتِيفَاء الْعدَد فَفِيهِ قَولَانِ أصَحهمَا أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد أَيْضا لِأَنَّهَا مُعْتَدَّة عَن طَلَاق فَأَشْبَهت الرَّجْعِيَّة وَأَيْضًا فِي مجفوة بالطلاف فَلَا تكلّف التفجع بِخِلَاف الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا وَالْقَدِيم أَنه يجب الْإِحْدَاد لِأَنَّهَا بَائِن مُعْتَدَّة فَأَشْبَهت الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا
وَأما المفسوخ نِكَاحهَا بِعَيْب وَنَحْوه فَفِيهَا طَرِيقَانِ
أَحدهمَا على القَوْل فِي الْبَائِن بِالطَّلَاق وَقيل لَا يجب قطعا لِأَن الْفَسْخ إِمَّا لِمَعْنى فِيهَا أَو بمباشرتها فَلَا يَلِيق بهَا إِظْهَار التفجع هَذَا فِي الْإِحْدَاد وَأما كيفيته فَهُوَ ترك الزِّينَة بالثياب والحلي وَالطّيب أما الثِّيَاب فَلَا يحرم جنس الْقطن وَالصُّوف والوبر وَالشعر بل يجوز لبس المنسوج مِنْهَا على ألوانها الخلقية وَكَذَا الْكَتَّان والقصب والديبقي من أصل وَإِن كَانَت نفيسة ناعمة لِأَن نفاستها وحسنها من أصل الْخلقَة لَا من زِينَة دخلت عَلَيْهَا وَأما الابريسم فَلم ينْقل فِيهِ نَص عَن الشَّافِعِي وَهُوَ عِنْد مُعظم الْأَصْحَاب كالكتان وَغَيره إِذا لم يحدث فِيهِ زِينَة وَقَالَ الْقفال يحرم الإبريسم قلت إِطْلَاق جَوَاز لبس الصُّوف بأنواعه وَكَذَا الديبقي وَنَحْوه صَحِيح عَن أهل الثروة من المدن وَغَيرهم أما غير أهل الثوره لاسيما المستثعثين من أهل الْبَوَادِي فَيتَّجه الْجَزْم بِتَحْرِيم ذَلِك عَلَيْهِم وَأي نِسْبَة بَين ثوب كرباس مصبوغ إِلَى صوف مربع وَقد قَالَ فِي الْبَحْر إِن الحلى من الصفر وَنَحْوه إِن كَانَ فِي قوم يتزينون بِهِ حرم وَإِلَّا فَلَا يَنْبَغِي أَن يُرَاعى عَادَة اللابس وَمحله مَا يحصل بِهِ الزِّينَة عِنْدهم دون مَا لَا يحصل وَالله أعلم
وَأما مَا لَا يحرم فِي جنسه لَو صبغ ينظر فِي صبغه إِن كَانَ مِمَّا يقْصد بِهِ الزِّينَة غَالِبا كالأحمر والأصفر فَلَيْسَ لَهَا لبسه وَلَا فرق بَين أَن يكون لينًا أَو خشناً فِي ظَاهر الْمَذْهَب وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْأُم وَيدخل فِي هَذَا الديباج المنقش وَالْحَرِير الملون فيحرمان والمصبوغ غزله قبل النسج كالبرود وَهُوَ حرَام على الْأَصَح كالمصبوغ بعد النسج وَإِن كَانَ الصَّبْغ مِمَّا لَا يقْصد مِنْهُ الزِّينَة بل يصْبغ للمصيبة وَاحْتِمَال الْوَسخ كالأسود والكحلي فلهَا لبسه وَهُوَ أبلغ فِي الْحداد بل حكى الْمَاوَرْدِيّ وَجها أَنه يلْزمهَا لبس السوَاد فِي الْحداد وَإِن كَانَ الْمَصْبُوغ متردداً بَين الزِّينَة وَغَيرهَا كالأزرق فَإِن كَانَ براقاً فِي اللَّوْن فَحَرَام وَإِن كَانَ كدراً أَو أكهب وَهُوَ الَّذِي يضْرب إِلَى الغبرة جَازَ وَأما الطّراز على الثَّوْب جَازَ وَأما الطّراز على الثَّوْب فَإِن كَانَ كثيرا فَحَرَام وَإِلَّا فأوجه
ثَالِثهَا إِن نسج مَعَ الثَّوْب جَازَ وَإِن ركب حرم لِأَنَّهُ مَحْض زِينَة وَالله أعلم
وَأما الْحلِيّ فَيحرم عَلَيْهَا لبسه سَوَاء فِيهِ السوار والخلخال والخاتم وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَبِهَذَا(1/432)
قطع الْجُمْهُور وَقَالَ الإِمَام يجوز لَهَا أَن تتختم بِخَاتم الْفضة كَالرّجلِ وَفِي اللالي تردد الإِمَام وبالتحريم قطع الْغَزالِيّ وَهُوَ الاصح وَالله أعلم
وَأما الطّيب فَيحرم عَلَيْهَا فِي بدنهَا وثيابها وَيحرم عَلَيْهَا دهن رَأسهَا وَيجوز لَهَا دهن الْبدن بِمَا لَا طيب فِيهِ كالدهن والشيرج وَلَا يجوز بِمَا فِيهِ طيب كدهن البان والبنفسج وَيحرم عَلَيْهَا أكل طَعَام فِيهِ طيب وَأَن تكتحل بِمَا فِيهِ طيب وَأما لَا طيب فِيهِ فَإِن كَانَ أسود وَهُوَ الإثمد فَحَرَام لِأَنَّهُ زِينَة وَلَا فرق بَين الْبَيْضَاء والسوداء وَفِي وَجه يجوز للسوداء وَالصَّحِيح الأول لإِطْلَاق الْأَحَادِيث فَإِذا احْتَاجَت إِلَى الاكتحال بِهِ لرمد وَغَيره اكتحلت بِهِ لَيْلًا ومسحته نَهَارا فَإِن دعت ضَرُورَة إِلَى الِاسْتِعْمَال نَهَارا جَازَ وَيجوز اسْتِعْمَاله فِي غير الْعين إِلَّا الْحَاجِب فَإِن زِينَة وَأما الْكحل الْأَصْفَر وَهُوَ الصَّبْر فَحَرَام على السَّوْدَاء وَكَذَا على الْبَيْضَاء على الْأَصَح لِأَنَّهُ يحسن الْعين وَيحرم الاسفيداج وَكَذَا الخضب بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوه فِيمَا يظْهر من الْبدن كاليدين وَالرّجلَيْنِ وَالْوَجْه
قَالَ الإِمَام وتجعيد الأصداغ وتصفي الطرة لَا نقل فِيهِ وَلَا يمْتَنع أَن يكون كالحلي وَيجوز للمحدة التزين فِي الْفراش والبسط وأثاث الْبَيْت لِأَن الْحداد فِي الْبدن لَا فِي الْفراش وَيجوز لَهَا التَّنْظِيف بِغسْل الرَّأْس والامتشاط وَدخُول الْحمام وقلم الْأَظْفَار وَإِزَالَة الأوساخ لِأَنَّهَا لَيست من الزِّينَة وَالله أعلم
(فرع) يجوز الْإِحْدَاد على غير الزَّوْج ثَلَاثَة أَيَّام فَمَا دونهَا للْحَدِيث الصَّحِيح الْمُتَقَدّم وَقد صرح بذلك الْغَزالِيّ وَالْمُتوَلِّيّ وَالله أعلم قَالَ
(وعَلى الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا والمبتوتة مُلَازمَة الْبَيْت إِلَّا لحَاجَة)
يجب على الْمُعْتَدَّة مُلَازمَة مسكن الْعدة فَلَا يجوز لَهَا أَن تخرج مِنْهُ وَلَا إخْرَاجهَا إِلَّا لعذر نَص عَلَيْهِ الْقُرْآن الْعَظِيم قَالَ الله تَعَالَى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} فَلَو اتّفق الزَّوْجَانِ على أَن تنْتَقل إِلَى منزل آخر بِلَا عذر لم يجز وَكَانَ للْحَاكِم الْمَنْع من ذَلِك لِأَن الْعدة حق الله تَعَالَى وَقد وَجَبت فِي ذَلِك الْمنزل فَكَمَا لَا يجوز إبِْطَال أصل الْعدة كَذَلِك لَا يجوز إبِْطَال صفاتها وَقَوله إِلَّا لحَاجَة يَعْنِي يجوز الْخُرُوج وَالْحَاجة أَنْوَاع مِنْهَا إِذا خَافت على نَفسهَا أَو مَالهَا من هدم أَو حريق أَو غرق سَوَاء فِي ذَلِك عدَّة الْوَفَاة وَالطَّلَاق وَكَذَا لَو لم تكن الدَّار حَصِينَة وخافت اللُّصُوص أَو كَانَت بَين فسقة تخَاف على نَفسهَا أَو كَانَت تتأذى بالجيران والأحماء تأذياً شَدِيدا وَلَو كَانَت تبذو وتستطيل بلسانها عَلَيْهِم جَازَ إخْرَاجهَا وتتحرى الْقرب من مسكن الْعدة وَمِنْهَا إِذا احْتَاجَت إِلَى شِرَاء طَعَام أَو قطن أَو بيع غزل وَنَحْوه فَينْظر إِن كَانَت رَجْعِيَّة فَهِيَ زَوْجَة فَعَلَيهِ الْقيام بكفايتها بِلَا خلْوَة وَلَا تخرج إِلَّا بِإِذن قَالَ الْمُتَوَلِي إِلَّا إِذا كَانَت حَامِلا وَقُلْنَا تسْتَحقّ النَّفَقَة(1/433)
فَلَا يُبَاح لَهَا الْخُرُوج وَمِنْهَا إِذا كَانَ الْمسكن مستعاراً وَرجع الْمُعير أَو مُسْتَأْجرًا وَمَضَت الْمدَّة وطالبه الْمَالِك فَلَا بُد من الْخُرُوج وَمِنْهَا إِذا لَزِمَهَا حق فَإِن كَانَ يُمكن اسْتِيفَاؤهُ فِي الْبَيْت كَالدّين فعل فِيهِ وَإِن لم يكن واحتيج فِيهِ إِلَى الْحَاكِم فَإِن كَانَت بَرزَة خرجت ثمَّ عَادَتْ إِلَى الْمسكن وَإِن كَانَت مخدرة بعث الْحَاكِم إِلَهًا نَائِبا أَو حضر بِنَفسِهِ وَلَا تعذر فِي الْخُرُوج لأغراض تعد من الزِّيَادَات دون الْأُمُور الْمُهِمَّات كالزيارة والعمارة واستنماء المَال بِالتِّجَارَة وتعجيل حجَّة الْإِسْلَام وزيارة بَيت الْمُقَدّس وقبور الصَّالِحين وَنَحْو ذَلِك فَهِيَ عاصية بذلك وَالله أعلم
(فرع) يحرم على الزَّوْج مساكنة الْمُعْتَدَّة فِي الدَّار الَّتِي تَعْتَد فِيهَا ومداخلتها لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخلْوَة وخلوته بهَا كخلوة الْأَجْنَبِيَّة وَكثير من الجهلة لَا يرَوْنَ ذَلِك حَرَامًا وَيَقُول هِيَ مطلقتي وَهُوَ يعرف الْحَال فَإِن اعْتقد حلّه بعد مَا عرف كفر فَإِن تَابَ وَإِلَّا ضربت عُنُقه وَكَذَا حكم العكامين الَّذين يحجون مَعَ النِّسَاء لَا يحل لَهُم الْخلْوَة بِهن وَلَا يقْتَدى فِي ذَلِك بِمن يَفْعَله من المتفقهة فَإِن ذَلِك حرَام حرَام حرَام الْبَتَّةَ وَالله أعلم
(فرع) مَضَت مُدَّة من الْعدة أَو كلهَا وَلم تطلب حق السكن سقط وَلم يصر دينا فِي ذمَّته نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَنَصّ أَن نَفَقَة الزَّوْجَة لَا تسْقط بِمُضِيِّ الزَّمَان بل تصير دينا فِي ذمَّته فَقيل قَولَانِ وَالْمذهب تَقْرِير النصين وَالْفرق أَن النَّفَقَة تجب بالتمكين وَقد وجد وَالسُّكْنَى لصيانة مَا بِهِ على مُوجب نظره وَلم يتَحَقَّق وَحكم السُّكْنَى فِي صلب النِّكَاح كَمَا ذكرنَا فِي الْعدة وَالله أعلم قَالَ
بَاب الرَّضَاع فصل فِي الرَّضَاع إِذا أرضعت الْمَرْأَة بلبنها ولدا صَار الرَّضِيع وَلَدهَا بِشَرْطَيْنِ
أَحدهمَا أَن يكون لَهُ دون الْحَوْلَيْنِ
وَالثَّانِي أَن ترْضِعه خمس رَضعَات متفرقات
الرَّضَاع بِكَسْر الرَّاء وَفتحهَا وَيُقَال رضع بِكَسْر الضَّاد يرضع بِفَتْحِهَا وَبِالْعَكْسِ
وَالْأَصْل فِيهِ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب(1/434)