بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي نشر للْعُلَمَاء أعلاما وَثَبت لَهُم على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم أقداما وَجعل مقَام الْعلم أَعلَى مقَام وَفضل الْعلمَاء بِإِقَامَة الْحجَج الدِّينِيَّة وَمَعْرِفَة الْأَحْكَام وأودع العارفين لطائف سره فهم أهل المحاضرة والإلهام ووفق العاملين لخدمته فهجروا لذيذ الْمَنَام وأذاق المحبين لَذَّة قربه وأنسه فشغلهم عَن جَمِيع الْأَنَام أَحْمَده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على جزيل الإنعام وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الْملك العلام وَأشْهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبده وَرَسُوله وَصفيه وخليله إِمَام كل إِمَام وعَلى آله وَأَصْحَابه وأزواجه وَذريته الطيبين الطاهرين صَلَاة وَسلَامًا دائمين متلازمين إِلَى يَوْم الدّين وَبعد فَيَقُول الْفَقِير إِلَى رَحْمَة ربه الْقَرِيب(1/3)
الْمُجيب مُحَمَّد الشربيني الْخَطِيب إِن مُخْتَصر الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الحبر الْبَحْر الفهامة شهَاب الدُّنْيَا وَالدّين أَحْمد بن الْحُسَيْن بن أَحْمد الْأَصْفَهَانِي الشهير بِأبي شُجَاع الْمُسَمّى بغاية الِاخْتِصَار لما كَانَ من أبدع مُخْتَصر فِي الْفِقْه صنف وَأجْمع مَوْضُوع لَهُ فِيهِ على مِقْدَار حجمه ألف التمس مني بعض الأعزة عَليّ المترددين إِلَيّ أَن أَضَع عَلَيْهِ شرحا يُوضح مَا أشكل مِنْهُ وَيفتح مَا أغلق مِنْهُ ضاما إِلَى ذَلِك من الْفَوَائِد المستجدات وَالْقَوَاعِد المحررات الَّتِي وَضَعتهَا فِي شروحي على التَّنْبِيه والمنهاج والبهجة فاستخرت الله تَعَالَى مُدَّة من الزَّمَان بعد أَن صليت رَكْعَتَيْنِ فِي مقَام إمامنا الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وأرضاه وَجعل الْجنَّة منقلبه ومثواه فَلَمَّا انْشَرَحَ لذَلِك صَدْرِي شرعت فِي شرح تقربه أغين أولي الرغبات راجيا بذلك جزيل الْأجر وَالثَّوَاب أجافي فِيهِ الإيجاز المخل والإطناب الممل حرصا على التَّقْرِيب لفهم قاصده والحصول على فَوَائده ليكتفي بِهِ الْمُبْتَدِي عَن المطالعة فِي غَيره والمتوسط عَن الْمُرَاجَعَة لغيره فَإِنِّي مُؤَمل من الله تَعَالَى أَن يَجْعَل هَذَا الْكتاب عُمْدَة ومرجعا ببركة الأكرم الْوَهَّاب فَمَا كل من صنف أَجَاد وَلَا كل من قَالَ وفى بالمراد وَالْفضل مواهب وَالنَّاس فِي الْفُنُون مَرَاتِب وَالنَّاس يتفاوتون فِي الْفَضَائِل وَقد تظفر الْأَوَاخِر بِمَا تركته الْأَوَائِل وَكم ترك الأول للْآخر وَكم لله على خلقه من فضل وجود وكل ذِي نعْمَة مَحْسُود والحسود لَا(1/4)
يسود وسميته بالإقناع فِي حل أَلْفَاظ أبي شُجَاع أعانني الله على إكماله وَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم بكرمه وأفضاله فَلَا ملْجأ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا إعتماد إِلَّا عَلَيْهِ وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل وأسأله السّتْر الْجَمِيل قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أَي أبتديء وأفتتح أَو أؤلف وَهَذَا أولى إِذْ كل فَاعل يبْدَأ فِي فعله بِبسْم الله يضمر مَا جعل التَّسْمِيَة مبدأ لَهُ كَمَا أَن الْمُسَافِر إِذا حل أَو ارتحل فَقَالَ بِسم الله كَانَ الْمَعْنى باسم الله أحل أَو ارتحل وَالِاسْم مُشْتَقّ من السمو وَهُوَ الْعُلُوّ فَهُوَ من الْأَسْمَاء المحذوفة الإعجاز كيد وَدم لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال بنيت أوائلها على السّكُون وَأدْخل عَلَيْهَا همزَة الْوَصْل لتعذر الِابْتِدَاء بالساكن وَقيل من الوسم وَهُوَ الْعَلامَة وَفِيه عشر لُغَات نظمها بَعضهم فِي بَيت فَقَالَ ... سم وسما وَاسم بِتَثْلِيث أول ... لَهُنَّ سَمَاء عَاشر تمت انجلى ...
وَالله علم على الذَّات الْوَاجِب الْوُجُود الْمُسْتَحق لجَمِيع المحامد لم يتسم بِهِ سواهُ تسمى بِهِ قبل أَن يُسمى وأنزله على آدم فِي جملَة الْأَسْمَاء قَالَ تَعَالَى {هَل تعلم لَهُ سميا} أَي هَل تعلم أحدا سمى الله غير الله وَأَصله إِلَه كإمام ثمَّ أدخلُوا عَلَيْهِ الْألف(1/5)
وَاللَّام ثمَّ حذفت الْهمزَة الثَّانِيَة طلبا للخفة ونقلت حركتها إِلَى اللَّام فَصَارَ اللاه بلامين متحركين ثمَّ سكنت الأولى وأدغمت فِي الثَّانِيَة للتسهيل والإله فِي الأَصْل يَقع على كل معبود بِحَق أَو بَاطِل ثمَّ غلب على المعبود بِحَق كَمَا أَن النَّجْم اسْم لكل كَوْكَب ثمَّ غلب على الثريا وَهُوَ عَرَبِيّ عِنْد الْأَكْثَر وَعند الْمُحَقِّقين أَنه اسْم الله الْأَعْظَم وَقد ذكر فِي الْقُرْآن الْعَزِيز فِي أَلفَيْنِ وثلثمائة وَسِتِّينَ موضعا وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ تبعا لجَماعَة أَنه الْحَيّ القيوم قَالَ وَلذَلِك لم يذكر فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فِي الْبَقَرَة وَآل عمرَان وطه والرحمن الرَّحِيم صفتان مشبهتان بنيتا للْمُبَالَغَة من مصدر رحم والرحمن أبلغ من الرَّحِيم لِأَن زِيَادَة الْبناء تدل على زِيَادَة الْمَعْنى كَمَا فِي قطع بِالتَّخْفِيفِ وَقطع بِالتَّشْدِيدِ وَقدم الله عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ اسْم ذَات وهما اسْما صفة وَقدم الرَّحْمَن على الرَّحِيم لِأَنَّهُ خَاص إِذْ لَا يُقَال لغير الله بِخِلَاف الرَّحِيم وَالْخَاص مقدم على الْعَام
فَائِدَة قَالَ النَّسَفِيّ فِي تَفْسِيره قيل إِن الْكتب الْمنزلَة من السَّمَاء إِلَى الدُّنْيَا مائَة وَأَرْبَعَة صحف شِيث سِتُّونَ وصحف إِبْرَاهِيم ثَلَاثُونَ وصحف مُوسَى قبل التَّوْرَاة عشر والتوراة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل وَالْفرْقَان ومعاني كل الْكتب مَجْمُوعَة فِي الْقُرْآن ومعاني الْقُرْآن مَجْمُوعَة فِي الْفَاتِحَة ومعاني الْفَاتِحَة مَجْمُوعَة فِي الْبَسْمَلَة ومعاني الْبَسْمَلَة مَجْمُوعَة فِي بائها وَمَعْنَاهَا بِي كَانَ مَا(1/6)
كَانَ وَبِي يكون مَا يكون زَاد بَعضهم ومعاني الْبَاء فِي نقطتها الْحَمد لله بَدَأَ بالبسملة ثمَّ بالحمدلة اقْتِدَاء بِالْكتاب الْعَزِيز وَعَملا بِخَبَر كل أَمر ذِي بَال أَي حَال يهتم بِهِ شرعا لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أقطع أَي نَاقص غير تَامّ فَيكون قَلِيل الْبركَة وَفِي رِوَايَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد بِالْحَمْد لله وَجمع المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى كَغَيْرِهِ بَين الابتداءين عملا بالروايتين وَإِشَارَة إِلَى أَنه لَا تعَارض بَينهمَا إِذْ الِابْتِدَاء حَقِيقِيّ وإضافي فالحقيقي حصل بالبسملة والإضافي بالحمدلة أَو أَن الِابْتِدَاء لَيْسَ حَقِيقِيًّا بل هُوَ أَمر عرفي يَمْتَد من الْأَخْذ فِي التَّأْلِيف إِلَى الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود فالكتب المصنفة مبدؤها الْخطْبَة بِتَمَامِهَا وَالْحَمْد اللَّفْظِيّ لُغَة الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على الْجَمِيل الِاخْتِيَارِيّ على جِهَة التبجيل أَي التَّعْظِيم سَوَاء تعلق بالفضائل وَهِي النعم القاصرة أم بالفواصل وَهِي النعم المتعدية فَدخل فِي الثَّنَاء الْحَمد وَغَيره وَخرج بِاللِّسَانِ الثَّنَاء بِغَيْرِهِ كالحمد النَّفْسِيّ وبالجميل الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على غير جميل إِن قُلْنَا بِرَأْي ابْن عبد السَّلَام إِن الثَّنَاء حَقِيقَة فِي الْخَيْر وَالشَّر وَإِن قُلْنَا بِرَأْي الْجُمْهُور وَهُوَ الظَّاهِر أَنه حَقِيقَة فِي الْخَيْر فَقَط ففائدة ذَلِك تَحْقِيق الْمَاهِيّة أَو دفع توهم إِرَادَة الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز عِنْد من يجوزه وبالاختياري الْمَدْح فَإِنَّهُ يعم الِاخْتِيَارِيّ وَغَيره تَقول مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها وبعلى جِهَة التبجيل مَا كَانَ على جِهَة الِاسْتِهْزَاء والسخرية نَحْو {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} وَعرفا فعل ينبيء عَن تَعْظِيم الْمُنعم من حَيْثُ إِنَّه منعم على الحامد أَو غَيره سَوَاء كَانَ ذكرا بِاللِّسَانِ أم اعتقادا(1/7)
ومحبة بالجنان أَو عملا وخدمة بالأركان كَمَا قيل ... أفادتكم النعماء مني ثَلَاثَة ... يَدي ولساني وَالضَّمِير المحجبا ...
وَالشُّكْر لُغَة هُوَ الْحَمد عرفا وَعرفا صرف العَبْد جَمِيع مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من السّمع وَغَيره إِلَى مَا خلق لأَجله والمدح لُغَة الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على الْجَمِيل مُطلقًا على جِهَة التَّعْظِيم وَعرفا مَا يدل على اخْتِصَاص الممدوح بِنَوْع من الْفَضَائِل وَجُمْلَة الْحَمد لله خبرية لفظا إنشائية معنى لحُصُول الْحَمد بالتكلم بهَا مَعَ الإذعان لمدلولها وَيجوز أَن تكون مَوْضُوعَة شرعا للإنشاء وَالْحَمْد مُخْتَصّ بِاللَّه تَعَالَى كَمَا أفادته الْجُمْلَة سَوَاء جعلت فِيهِ أل للاستغراق كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور وَهُوَ ظَاهر أم للْجِنْس كَمَا عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ لِأَن لَام لله للاختصاص فَلَا فَرد مِنْهُ لغيره تَعَالَى أم للْعهد العلمي كَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ هما فِي الْغَار} كَمَا نَقله ابْن عبد السَّلَام وَأَجَازَهُ الواحدي على معنى أَن الْحَمد الَّذِي حمد الله بِهِ فِي نَفسه وحمده بِهِ أنبياؤه وأولياؤه مُخْتَصّ بِهِ وَالْعبْرَة بِحَمْد من ذكر فَلَا فَرد مِنْهُ لغيره وَأولى الثَّلَاثَة الْجِنْس وَقَوله رب بِالْجَرِّ على الصّفة مَعْنَاهُ الْمَالِك لجَمِيع الْخلق من الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَالدَّوَاب وَغَيرهم إِذْ كل مِنْهَا يُطلق عَلَيْهِ عَالم يُقَال عَالم الْإِنْس وعالم الْجِنّ إِلَى غير ذَلِك وَسمي الْمَالِك بالرب لِأَنَّهُ يحفظ مَا يملكهُ ويربيه وَلَا يُطلق على غَيره إِلَّا مُقَيّدا كَقَوْلِه تَعَالَى {ارْجع إِلَى رَبك} وَقَوله الْعَالمين اسْم جمع عَالم بِفَتْح اللَّام وَلَيْسَ جمعا لَهُ لِأَن الْعَالم عَام فِي الْعُقَلَاء وَغَيرهم وَالْعَالمِينَ مُخْتَصّ بالعقلاء وَالْخَاص لَا يكون جمعا لما هُوَ أَعم مِنْهُ قَالَه ابْن مَالك وَتَبعهُ ابْن هِشَام فِي تَوْضِيحه وَذهب كثير إِلَى أَنه جمع عَالم على حَقِيقَة الْجمع ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْعَالم الَّذِي هُوَ جمع هَذَا الْجمع فَذهب أَبُو الْحسن إِلَى أَنه أَصْنَاف الْخلق الْعُقَلَاء وَغَيرهم وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْجَوْهَرِي وَذهب أَبُو عُبَيْدَة إِلَى أَنه أَصْنَاف الْعُقَلَاء فَقَط وهم الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة(1/8)
ثمَّ قرن بالثناء على الله تَعَالَى وَالثنَاء على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله وَصلي الله وَسلم على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي لقَوْله تَعَالَى {ورفعنا لَك ذكرك} أَي لَا أذكر إِلَّا وتذكر معي كَمَا فِي صَحِيح ابْن حبَان وَلقَوْل الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أحب أَن يقدم الْمَرْء بَين يَدي خطبَته أَي بِكَسْر الْخَاء وكل أَمر طلبه غَيرهَا حمدا لله وَالثنَاء عَلَيْهِ وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإفراد الصَّلَاة عَن السَّلَام مَكْرُوه كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي أذكاره وَكَذَا عَكسه وَيحْتَمل أَن المُصَنّف أَتَى بهَا لفظا وأسقطها خطأ وَيخرج بذلك من الْكَرَاهَة وَالصَّلَاة من الله تَعَالَى رَحْمَة مقرونة بتعظيم وَمن الْمَلَائِكَة اسْتِغْفَار وَمن الْآدَمِيّين أَي وَمن الْجِنّ تضرع وَدُعَاء قَالَه الْأَزْهَرِي وَغَيره وَاخْتلف فِي وَقت وجوب الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَقْوَال
أَحدهَا كل صَلَاة وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِي فِي التَّشَهُّد الْأَخير مِنْهَا
وَالثَّانِي فِي الْعُمر مرّة
وَالثَّالِث كلما ذكر وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيّ من الشَّافِعِيَّة والطَّحَاوِي من الْحَنَفِيَّة وَاللَّخْمِيّ من الْمَالِكِيَّة وَابْن بطة من الْحَنَابِلَة
وَالرَّابِع فِي كل مجْلِس
وَالْخَامِس فِي أول كل دُعَاء وَفِي وَسطه وَفِي آخِره لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تجعلوني كقدح الرَّاكِب بل اجعلوني فِي أول كل دُعَاء وَفِي وَسطه وَفِي آخِره رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن جَابر
وَمُحَمّد علم على نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْقُول من اسْم مفعول الْفِعْل المضعف سمي بِهِ بإلهام من الله تَعَالَى بِأَنَّهُ يكثر حمد الْخلق لَهُ لِكَثْرَة خصاله الحميدة كَمَا رُوِيَ فِي السّير أَنه قيل لجده عبد الْمطلب وَقد سَمَّاهُ فِي سَابِع وِلَادَته لمَوْت أَبِيه قبلهَا لم سميت ابْنك مُحَمَّدًا وَلَيْسَ من أَسمَاء آبَائِك وَلَا قَوْمك قَالَ رَجَوْت أَن يحمد فِي السَّمَاء وَالْأَرْض وَقد حقق الله تَعَالَى رَجَاءَهُ كَمَا سبق(1/9)
فِي علمه وَالنَّبِيّ إِنْسَان حر ذكر من بني آدم سليم عَن منفر طبعا وَمن دناءة أَب وخنا أم أُوحِي إِلَيْهِ بشرع يعمله بِهِ وَإِن لم يُؤمر بتبليغه وَالرَّسُول إِنْسَان أُوحِي إِلَيْهِ بشرع وَأمر بتبليغه فَكل رَسُول نَبِي وَلَا عكس وعَلى آله وهم على الْأَصَح مؤمنو بني هَاشم وَبني الْمطلب وَقيل كل مُؤمن تَقِيّ وَقيل أمته وَاخْتَارَهُ جمع من الْمُحَقِّقين وَالْمطلب مفتعل من الطّلب واسْمه شيبَة الْحَمد على الْأَصَح لِأَنَّهُ ولد وَفِي رَأسه شيبَة ظَاهِرَة فِي ذؤابتيه وهَاشِم لقب واسْمه عَمْرو وَقيل لَهُ هَاشم لِأَن قُريْشًا أَصَابَهُم قحط فَنحر بَعِيرًا وَجعله لِقَوْمِهِ مرقة وثريدا فَلذَلِك سمي هاشما لهشمه الْعظم وعَلى صَحبه وَهُوَ جمع صَاحب والصحابي من اجْتمع مُؤمنا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته وَلَو سَاعَة وَلَو لم يرو عَنهُ شَيْئا فَيدْخل فِي ذَلِك الْأَعْمَى كَابْن أم مَكْتُوم وَالصَّغِير وَلَو غير مُمَيّز كمن حنكه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو وضع يَده على رَأسه وَقَوله أَجْمَعِينَ تَأْكِيد
وَفِي بعض النّسخ أما بعد سَاقِطَة فِي أَكْثَرهَا أَي بعد مَا تقدم من الْحَمد وَغَيره وَهَذِه الْكَلِمَة يُؤْتى بهَا للانتقال من أسلوب إِلَى آخر وَلَا يجوز الْإِتْيَان بهَا فِي أول الْكَلَام وَيسْتَحب الْإِتْيَان بهَا فِي الْخطب والمكاتبات اقْتِدَاء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد عقد البُخَارِيّ لَهَا بَابا فِي كتاب الْجُمُعَة وَذكر فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة وَالْعَامِل فِيهَا أما عِنْد سِيبَوَيْهٍ لنيابتها عَن الْفِعْل أَو الْفِعْل نَفسه(1/10)
عِنْد غَيره وَالْأَصْل مهما يكن من شَيْء بعد فقد سَأَلَني أَي طلب مني بعض الأصدقاء جمع صديق وَهُوَ الْخَلِيل وَقَوله حفظهم الله تَعَالَى جملَة دعائية أَن أعمل أَي أصنف مُخْتَصرا وَهُوَ مَا قل لَفظه وَكثر مَعْنَاهُ لَا مَبْسُوطا وَهُوَ مَا كثر لَفظه وَمَعْنَاهُ قَالَ الْخَلِيل الْكَلَام يبسط ليفهم ويختصر ليحفظ فِي علم الْفِقْه الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود من بَين الْعُلُوم بِالذَّاتِ وباقيها لَهُ كالآلات لِأَن بِهِ يعرف الْحَلَال وَالْحرَام وَغَيرهمَا من الْأَحْكَام وَقد تظاهرت الْآيَات وَالْأَخْبَار والْآثَار وتواترت وتطابقت الدَّلَائِل الصَّرِيحَة وتوافقت على فَضِيلَة الْعلم والحث على تَحْصِيله وَالِاجْتِهَاد فِي اقتباسه وتعليمه فَمن الْآيَات قَوْله تَعَالَى {هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} وَقَوله تَعَالَى {وَقل رب زِدْنِي علما} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} والآيات فِي ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة
وَمن الْأَخْبَار قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يرد الله بِهِ خيرا يفقه فِي الدّين رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لِأَن يهدي الله بك رجلا وَاحِدًا خير لَك من حمر النعم رَوَاهُ سهل عَن ابْن مَسْعُود وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة مَشْهُورَة
وَمن الْآثَار عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كفى بِالْعلمِ شرفا أَن يَدعِيهِ من لَا يُحسنهُ ويفرح بِهِ إِذا نسب إِلَيْهِ وَكفى بِالْجَهْلِ ذما أَن يتبرأ مِنْهُ من هُوَ فِيهِ وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَيْضا الْعلم خير من المَال الْعلم يحرسك وَأَنت تحرس المَال وَالْمَال تنقصه النَّفَقَة وَالْعلم يزكو بِالْإِنْفَاقِ وَعَن الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من لَا يحب الْعلم لَا خير فِيهِ فَلَا يكن بَيْنك وَبَينه معرفَة وَلَا صداقة فَإِنَّهُ حَيَاة الْقُلُوب ومصباح البصائر وَعَن الشَّافِعِي أَيْضا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ طلب الْعلم أفضل من صَلَاة النَّافِلَة وَعَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ مجْلِس فقه خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة والْآثَار فِي ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة(1/11)
ثمَّ اعْلَم أَن مَا ذَكرْنَاهُ فِي فضل الْعلم إِنَّمَا هُوَ فِيمَن طلبه مرِيدا بِهِ وَجه الله تَعَالَى فَمن أَرَادَهُ لغَرَض دُنْيَوِيّ كَمَال أَو رياسة أَو منصب أَو جاه أَو شهرة أَو نَحْو ذَلِك فَهُوَ مَذْمُوم قَالَ الله تَعَالَى {من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة نزد لَهُ فِي حرثه وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تعلم علما ينْتَفع بِهِ فِي الْآخِرَة يُرِيد بِهِ عرضا من الدُّنْيَا لم يرح رَائِحَة الْجنَّة أَي لم يجد رِيحهَا وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة أَي من الْمُسلمين عَالم لَا ينْتَفع بِعِلْمِهِ وَفِي ذمّ الْعَالم الَّذِي لم يعْمل بِعِلْمِهِ أَخْبَار كَثِيرَة وَفِي هَذَا الْقدر كِفَايَة لمن وَفقه الله تَعَالَى
وَالْفِقْه لُغَة الْفَهم مُطلقًا كَمَا صَوبه الأسنوي وَاصْطِلَاحا كَمَا فِي قَوَاعِد الزَّرْكَشِيّ معرفَة أَحْكَام الْحَوَادِث نصا واستنباطا على مَذْهَب أَي مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي من الْأَحْكَام فِي الْمسَائِل مجَازًا عَن مَكَان الذّهاب وَذكر المُصَنّف هُنَا الشَّافِعِي(1/12)
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فلنتعرض إِلَى طرف من أخباره تبركا بِهِ فَنَقُول هُوَ حبر الْأمة وسلطان الْأَئِمَّة مُحَمَّد أَبُو عبد الله بن إِدْرِيس بن الْعَبَّاس بن عُثْمَان بن شَافِع بن السَّائِب بن عبيد بن عبد يزِيد بن هَاشم بن عبد الْمطلب بن عبد منَاف جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف وَهَذَا نسب عَظِيم كَمَا قيل
نسب كَأَن عَلَيْهِ من شمس الضُّحَى
نورا وَمن فلق الصَّباح عمودا ... مَا فِيهِ إِلَّا سيد من سيد
حَاز المكارم والتقى والجودا
وشافع بن السَّائِب هُوَ الَّذِي نسب إِلَيْهِ الشَّافِعِي لَقِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مترعرع وَأسلم أَبوهُ السَّائِب يَوْم بدر فَإِنَّهُ كَانَ صَاحب راية بني هَاشم فَأسر فِي جملَة من أسر وفدى نَفسه ثمَّ أسلم وَعبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بِالْهَمْز وَتَركه ابْن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على هَذَا النّسَب إِلَى عدنان وَلَيْسَ فِيمَا بعده إِلَى آدم طَرِيق صَحِيح فِيمَا ينْقل
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا انْتهى فِي النّسَب إِلَى عدنان أمسك ثمَّ يَقُول كذب النسابون أَي بعده
ولد الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على الْأَصَح بغزة الَّتِي توفّي فِيهَا هَاشم جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل بعسقلان وَقيل بمنى سنة خمسين وَمِائَة ثمَّ حمل إِلَى مَكَّة وَهُوَ ابْن سنتَيْن وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن سبع سِنِين والموطأ وَهُوَ ابْن عشر وتفقه على مُسلم بن خَالِد مفتي مَكَّة الْمَعْرُوف بالزنجي لشدَّة شقرته من بَاب أَسمَاء الأضداد وَأذن لَهُ فِي الْإِفْتَاء وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة مَعَ أَنه نَشأ يَتِيما فِي حجر أمه فِي قلَّة من الْعَيْش وضيق خَال وَكَانَ فِي صباه يُجَالس الْعلمَاء وَيكْتب مَا يستفيده فِي الْعِظَام وَنَحْوهَا(1/13)
حَتَّى مَلأ مِنْهَا خبايا ثمَّ رَحل إِلَى مَالك بِالْمَدِينَةِ ولازمه مُدَّة ثمَّ قدم بَغْدَاد سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة فَأَقَامَ بهَا سنتَيْن وَاجْتمعَ عَلَيْهِ علماؤها وَرجع كثير مِنْهُم عَن مَذَاهِب كَانُوا عَلَيْهَا إِلَى مذْهبه وصنف بهَا كِتَابه الْقَدِيم ثمَّ عَاد إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة فَأَقَامَ بهَا شهرا ثمَّ خرج إِلَى مصر وَلم يزل بهَا ناشرا للْعلم ملازما للاشتغال بجامعها الْعَتِيق إِلَى أَن أَصَابَته ضَرْبَة شَدِيدَة فَمَرض بِسَبَبِهَا أَيَّامًا على مَا قيل ثمَّ انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَهُوَ قطب الْوُجُود يَوْم الْجُمُعَة سلخ رَجَب سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَدفن بالقرافة بعد الْعَصْر من يَوْمه وانتشر علمه فِي جَمِيع الْآفَاق وَتقدم على الْأَئِمَّة فِي الْخلاف والوفاق وَعَلِيهِ حمل الحَدِيث الْمَشْهُور عَالم قُرَيْش يمْلَأ طباق الأَرْض علما وَمن كَلَامه رَضِي الله عَنهُ
أمت مطامعي فأرحت نَفسِي
فَإِن النَّفس مَا طمعت تهون ... وأحييت القنوع وَكَانَ مَيتا
فَفِي إحيائه عرضي مصون ... إِذا طمع يحل بقلب عبد
علته مهانة وعلاه هون
وَله أَيْضا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
مَا حك جِلْدك مثل ظفرك
فتول أَنْت جَمِيع أَمرك ... وَإِذا قصدت لحَاجَة
فاقصد لمعترف بقدرك
وَقد أفرد بعض أَصْحَابه فِي فَضله وَكَرمه وَنسبه وأشعاره كتبا مَشْهُورَة وَفِيمَا ذكرته تذكرة لأولى الْأَلْبَاب وَلَوْلَا خوف الْملَل لشحنت كتابي هَذَا مِنْهَا بِأَبْوَاب وَذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره مَا فِيهِ الْكِفَايَة وَيكون ذَلِك الْمُخْتَصر فِي غَايَة الِاخْتِصَار أَي(1/14)
بِالنِّسْبَةِ إِلَى أطول مِنْهُ وَغَايَة الشَّيْء مَعْنَاهَا ترَتّب الأثرعلى ذَلِك الشَّيْء كَمَا تَقول غَايَة البيع الصَّحِيح حل الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ وَغَايَة الصَّلَاة الصَّحِيحَة إجزاؤها وَفِي نِهَايَة الإيجاز بمثناة تحتية بعد الْهمزَة أَي الْقصر وَظَاهر كَلَامه تغاير لَفْظِي الِاخْتِصَار والإيجاز والغاية وَالنِّهَايَة وَهُوَ كَذَلِك فالاختصار حذف عرض الْكَلَام والإيجاز حذف طوله كَمَا قَالَه ابْن الملقن فِي إشاراته عَن بَعضهم وَقد علم مِمَّا تقرر الْفرق بَين الْغَايَة وَالنِّهَايَة يقرب أَي يسهل لوضوح عِبَارَته على المتعلم أَي المبتديء فِي التَّعَلُّم شَيْئا فَشَيْئًا درسه أَي بِسَبَب اختصاره وعذوبة أَلْفَاظه ويسهل أَي يَتَيَسَّر على المبتديء أَي فِي طلب الْفِقْه حفظه عَن ظهر قلب لما مر عَن الْخَلِيل أَن الْكَلَام يختصر ليحفظ
تَنْبِيه حرف المضارعة فِي الْفِعْلَيْنِ مَفْتُوح وسألني أَيْضا بعض الأصدقاء أَن أَكثر فِيهِ من التقسيمات لما يحْتَاج إِلَى تقسيمه من الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة الْآتِيَة كَمَا فِي الْمِيَاه وَغَيرهَا مِمَّا ستعرفه وَمن حصر أَي ضبط الْخِصَال الْوَاجِبَة والمندوبة فأجبته أَي السَّائِل إِلَى ذَلِك أَي إِلَى تصنيف مُخْتَصر بالكيفية الْمَطْلُوبَة وَقَوله طَالبا حَال من ضمير الْفَاعِل أَي مرِيدا للثَّواب أَي الْجَزَاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على تصنيف هَذَا الْمُخْتَصر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَقَوله رَاغِبًا حَال أَيْضا مِمَّا ذكر أَي ملتجئا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْإِعَانَة من فَضله عَليّ بِحُصُول التَّوْفِيق الَّذِي هُوَ خلق قدرَة الطَّاعَة فِي العَبْد للصَّوَاب الَّذِي هُوَ ضد الْخَطَأ بِأَن يقدرني الله على إِتْمَامه كَمَا أقدرني على ابْتِدَائه فَإِنَّهُ كريم جواد لَا يرد من سَأَلَهُ وَاعْتمد عَلَيْهِ إِنَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على مَا يَشَاء أَي(1/15)
يُريدهُ قدير أَي قَادر وَالْقُدْرَة صفة تُؤثر فِي الشَّيْء عِنْد تعلقهَا بِهِ وَهِي إِحْدَى الصِّفَات الثَّمَانِية الْقَدِيمَة الثَّابِتَة عِنْد أهل السّنة الَّتِي هِيَ صِفَات الذَّات الْقَدِيم الْمُقَدّس وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعباده جمع عبد وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي الْمُحكم الْإِنْسَان حرا كَانَ أَو رَقِيقا فقد دعِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي أشرف المواطن ك {الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب} {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وَقَالَ أَبُو عَليّ الدقاق لَيْسَ لِلْمُؤمنِ صفة أتم وَلَا أشرف من الْعُبُودِيَّة كَمَا قَالَ الْقَائِل ... لَا تدعني إِلَّا بياعبدها ... فَإِنَّهُ أشرف أسمائي ...
وَقَوله لطيف من أَسْمَائِهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاع واللطف الرأفة والرفق وَهُوَ من الله تَعَالَى التَّوْفِيق والعصمة بِأَن يخلق قدره الطَّاعَة فِي العَبْد
فَائِدَة قَالَ السُّهيْلي لما جَاءَ البشير إِلَى يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعطَاهُ فِي الْبشَارَة كَلِمَات كَانَ يَرْوِيهَا عَن أَبِيه عَن جده عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهِي يَا لطيفا فَوق كل لطيف ألطف بِي فِي أموري كلهَا كَمَا أحب ورضني فِي دنياي وآخرتي وَقَوله خَبِير من أَسْمَائِهِ تَعَالَى أَيْضا بِالْإِجْمَاع أَي هُوَ عَالم بعباده وبأفعالهم وأقوالهم وبمواضع حوائجهم وَمَا تخفيه صُدُورهمْ
وَإِذ قد أنهينا الْكَلَام بِحَمْد الله تَعَالَى على مَا قصدناه من أَلْفَاظ الْخطْبَة فَنَذْكُر طرفا من محَاسِن هَذَا الْكتاب قبل الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود فَنَقُول إِن الله تَعَالَى قد علم من مُؤَلفه خلوص نِيَّته فِي تصنيفه فَعم النَّفْع بِهِ فَقل من متعلم إِلَّا ويقرؤه أَولا إِمَّا بِحِفْظ وَإِمَّا بمطالعة وَقد اعتنى بشرحه كثير من الْعلمَاء فَفِي ذَلِك دلَالَة على أَنه كَانَ من الْعلمَاء العاملين القاصدين بعلمهم وَجه الله تَعَالَى
جعل الله تَعَالَى قراه الْجنَّة وَجعله فِي أَعلَى عليين مَعَ الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَفعل ذَلِك بِنَا وبوالدينا ومشايخنا ومحبينا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
وَلما كَانَت الصَّلَاة أفضل الْعِبَادَات بعد الْإِيمَان وَمن أعظم شُرُوطهَا الطَّهَارَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور وَالشّرط(1/16)
مقدم طبعا فَقدم وضعا بَدَأَ المُصَنّف بهَا فَقَالَ(1/17)
هَذَا كتاب بَيَان أَحْكَام الطَّهَارَة
اعْلَم أَن الْكتاب لُغَة مَعْنَاهُ الضَّم وَالْجمع يُقَال كتبت كتبا وَكِتَابَة وكتابا وَمِنْه قَوْلهم تكتبت بَنو فلَان إِذا اجْتَمعُوا وَكتب إِذا خطّ بالقلم لما فِيهِ من اجْتِمَاع الْكَلِمَات والحروف
قَالَ أَبُو حَيَّان وَلَا يَصح أَن يكون مشتقا من الْكتب لِأَن الْمصدر لَا يشتق من الْمصدر
وَأجِيب بِأَن الْمَزِيد يشتق من الْمُجَرّد
وَاصْطِلَاحا اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْعلم ويعبر عَنْهَا بِالْبَابِ وبالفصل أَيْضا
فَإِن جمع بَين الثَّلَاثَة قيل الْكتاب اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْعلم مُشْتَمِلَة على أَبْوَاب وفصول ومسائل غَالِبا وَالْبَاب اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْكتاب مُشْتَمِلَة على فُصُول ومسائل غَالِبا والفصل اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْبَاب مُشْتَمِلَة على مسَائِل غَالِبا
وَالْبَاب لُغَة مَا يتَوَصَّل مِنْهُ إِلَى غَيره والفصل لُغَة الحاجز بَين الشَّيْئَيْنِ وَالْكتاب هُنَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى محذوفين كَمَا قدرته وَكَذَا يقدر فِي كل كتاب أَو بَاب أَو فصل بِحَسب مَا يَلِيق بِهِ وَإِذ قد علمت ذَلِك فَلَا احْتِيَاج إِلَى تَقْدِير ذَلِك فِي كل كتاب أَو بَاب أَو فصل اختصارا
(الطَّهَارَة لُغَة وَشرعا) وَالطَّهَارَة لُغَة النَّظَافَة والخلوص من الأدناس حسية كَانَت كالأنجاس أَو معنوية كالعيوب يُقَال طهر بِالْمَاءِ وهم قوم يتطهرون أَي يتنزهون عَن الْعَيْب وَأما فِي الشَّرْع فَاخْتلف فِي تَفْسِيرهَا وَأحسن مَا قيل فِيهِ إِنَّه ارْتِفَاع الْمَنْع الْمُتَرَتب على الْحَدث وَالنَّجس فَيدْخل فِيهِ غسل الذِّمِّيَّة والمجنونة ليحلا لحليلهما الْمُسلم فَإِن الِامْتِنَاع من الْوَطْء قد زَالَ وَقد يُقَال إِنَّه لَيْسَ شَرْعِيًّا لِأَنَّهُ لم يرفع حَدثا وَلم يزل نجسا وَكَذَا يُقَال فِي غسل الْمَيِّت الْمُسلم فَإِنَّهُ أَزَال الْمَنْع من الصَّلَاة عَلَيْهِ وَلم يزل بِهِ حدث وَلَا نجس بل هُوَ تكرمة للْمَيت وَقيل هِيَ فعل مَا تستباح بِهِ الصَّلَاة(1/18)
(تَقْسِيم الطَّهَارَة إِلَى وَاجِب ومستحب) وتنقسم إِلَى وَاجِب كالطهارة عَن الْحَدث ومستحب كتجديد الْوضُوء والأغسال المسنونة ثمَّ الْوَاجِب يَنْقَسِم إِلَى بدني وقلبي فالقلبي كالحسد وَالْعجب وَالْكبر والرياء
قَالَ الْغَزالِيّ معرفَة حُدُودهَا وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين يجب تعلمه والبدني إِمَّا بِالْمَاءِ أَو بِالتُّرَابِ أَو بهما كَمَا فِي ولوغ الْكَلْب أَو بِغَيْرِهِمَا كالحريف فِي الدّباغ أَو بِنَفسِهِ كانقلاب الْخمر خلا
(القَوْل فِي أَنْوَاع الْمِيَاه) وَقَوله (الْمِيَاه) جمع مَاء وَالْمَاء مَمْدُود على الْأَفْصَح وَأَصله موه تحركت الْوَاو وَانْفَتح مَا قبلهَا فقلبت ألفا ثمَّ أبدلت الْهَاء همزَة
وَمن عَجِيب لطف الله تَعَالَى أَنه أَكثر مِنْهُ وَلم يحوج فِيهِ إِلَى كثير معالجة لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ (الَّتِي يجوز التَّطْهِير بهَا) أَي بِكُل وَاحِد مِنْهَا عَن الْحَدث والخبث
وَالْحَدَث فِي اللُّغَة الشَّيْء الْحَادِث وَفِي الشَّرْع يُطلق على أَمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمْنَع من صِحَة الصَّلَاة حَيْثُ لَا مرخص وعَلى الْأَسْبَاب الَّتِي يَنْتَهِي بهَا الطُّهْر وعَلى الْمَنْع الْمُتَرَتب على ذَلِك وَالْمرَاد هُنَا الأول لِأَنَّهُ الَّذِي لَا يرفعهُ إِلَّا المَاء بِخِلَاف الْمَنْع لِأَنَّهُ صفة الْأَمر الاعتباري فَهُوَ غَيره لِأَن الْمَنْع هُوَ الْحُرْمَة وَهِي ترْتَفع ارتفاعا مُقَيّدا بِنَحْوِ التَّيَمُّم بِخِلَاف الأول
وَلَا فرق فِي الْحَدث بَين الْأَصْغَر وَهُوَ مَا نقض الْوضُوء والمتوسط وَهُوَ مَا أوجب الْغسْل من جماع أَو إِنْزَال والأكبر وَهُوَ مَا أوجبه من حيض أَو نِفَاس
والخبث فِي اللُّغَة مَا يستقذر وَفِي الشَّرْع مستقذر يمْنَع من صِحَة الصَّلَاة حَيْثُ لَا مرخص وَلَا فرق فِيهِ بَين المخفف كبول صبي لم يطعم غير لبن والمتوسط كبول غَيره من غير نَحْو الْكَلْب والمغلظ كبول نَحْو الْكَلْب
وَإِنَّمَا تعين المَاء فِي رفع الْحَدث لقَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} وَالْأَمر للْوُجُوب فَلَو رفع غير المَاء لما وَجب التَّيَمُّم عِنْد فَقده
وَنقل ابْن الْمُنْذر وَغَيره الْإِجْمَاع على اشْتِرَاطه فِي الْحَدث إِزَالَة الْخبث لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خبر الصَّحِيحَيْنِ حِين بَال الْأَعرَابِي فِي الْمَسْجِد صبوا عَلَيْهِ ذنوبا من مَاء والذنُوب الدَّلْو الممتلئة مَاء
وَالْأَمر للْوُجُوب كَمَا مر فَلَو كفى غَيره لما وَجب غسل الْبَوْل بِهِ وَلَا يُقَاس بِهِ غَيره لِأَن الطُّهْر بِهِ عِنْد الإِمَام تعبدي وَعند غَيره مَعْقُول الْمَعْنى لما فِيهِ من الرقة واللطافة الَّتِي لَا تُوجد فِي غَيره
الْأَفْعَال كَانَ بِمَعْنى الْحل وَهُوَ هُنَا بِمَعْنى الْأَمريْنِ لِأَن من أَمر غير المَاء على أَعْضَاء الطَّهَارَة بنية الْوضُوء أَو الْغسْل لَا يجوز وَيحرم لِأَنَّهُ تقرب بِمَا لَيْسَ مَوْضُوعا للتقرب فعصى لتلاعبه (سبع مياه) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة أَحدهَا (مَاء السَّمَاء) لقَوْله تَعَالَى {وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء}(1/19)
تَنْبِيه يجوز إِذا أضيف إِلَى الْعُقُود كَانَ بِمَعْنى الصِّحَّة وَإِذا أضيف إِلَى مَاء ليطهركم بِهِ وَبَدَأَ المُصَنّف رَحمَه الله بهَا لشرفها على الأَرْض كَمَا هُوَ الْأَصَح فِي الْمَجْمُوع
وَهل للمراد بالسماء فِي الْآيَة الجرم الْمَعْهُود أَو السَّحَاب قَولَانِ
حَكَاهُمَا النَّوَوِيّ فِي دقائق الرَّوْضَة وَلَا مَانع من أَن ينزل من كل مِنْهُمَا
(و) ثَانِيهَا (مَاء الْبَحْر) أَي المالح لحَدِيث هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَسمي بحرا لعمقه واتساعه
تَنْبِيه حَيْثُ أطلق الْبَحْر فَالْمُرَاد بِهِ المالح غَالِبا ويقل فِي العذب كَمَا قَالَه فِي الْمُحكم
فَائِدَة اعْترض بَعضهم على الشَّافِعِي فِي قَوْله كل مَاء من بَحر عذب أَو مالح فالتطهير بِهِ جَائِز بِأَنَّهُ لحن وَإِنَّمَا يَصح من بَحر ملح وَهُوَ مخطىء فِي ذَلِك
قَالَ الشَّاعِر (الطَّوِيل) فَلَو تفلت فِي الْبَحْر وَالْبَحْر مالح لأصبح مَاء الْبَحْر من رِيقهَا عذبا وَلَكِن فهمه السقيم أَدَّاهُ إِلَى ذَلِك قَالَ الشَّاعِر وَكم من عائب قولا صَحِيحا وآفته من الْفَهم السقيم (و) ثَالِثهَا (مَاء النَّهر) العذب وَهُوَ بِفَتْح الْهَاء وسكونها كالنيل والفرات وَنَحْوهمَا بِالْإِجْمَاع
(و) رَابِعهَا (مَاء الْبِئْر) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء لما سُئِلَ عَن بِئْر بضَاعَة بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ تَوَضَّأ مِنْهَا وَمن بِئْر رومة
تَنْبِيه شَمل إِطْلَاقه الْبِئْر بِئْر زَمْزَم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مِنْهَا
وَفِي الْمَجْمُوع حِكَايَة الْإِجْمَاع على صِحَة الطَّهَارَة بِهِ وَإنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِزَالَة النَّجَاسَة بِهِ سِيمَا فِي الِاسْتِنْجَاء لما قيل إِنَّه يُورث البواسير وَذكر نَحوه ابْن الملقن فِي شرح البُخَارِيّ وَهل إِزَالَة النَّجَاسَة بِهِ حرَام أَو مَكْرُوه أَو خلاف الأولى أوجه حَكَاهَا الدَّمِيرِيّ وَالطّيب النَّاشِرِيّ من غير تَرْجِيح تبعا للْأَذْرَعِيّ
وَالْمُعْتَمد الْكَرَاهَة لِأَن أَبَا ذَر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَزَال بِهِ الدَّم الَّذِي أدمته قُرَيْش حِين رَجَمُوهُ كَمَا هُوَ فِي صَحِيح مُسلم وغسلت أَسمَاء بنت أبي بكر وَلَدهَا عبد الله ابْن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم حِين قتل وتقطعت أوصاله بِمَاء زَمْزَم بِمحضر من الصَّحَابَة وَغَيرهم وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهَا أحد مِنْهُم
(و) خَامِسهَا (مَاء الْعين) الأرضية كالنابعة من أَرض أَو الْجَبَل أَو الحيوانية كالنابعة من الزلَال وَهُوَ شَيْء ينْعَقد من المَاء على صُورَة الْحَيَوَان أَو الإنسانية كالنابعة من بَين أَصَابِعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَاتهَا على خلاف فِيهِ وَهُوَ أفضل الْمِيَاه مُطلقًا(1/20)
(و) سادسها (مَاء الثَّلج) بِالْمُثَلثَةِ (و) سابعها (مَاء الْبرد) بِفَتْح الر لِأَنَّهُمَا ينزلان من السَّمَاء ثمَّ يعرض لَهما الجمود فِي الْهَوَاء كَمَا يعرض لَهما على وَجه الأَرْض قَالَه ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة
فَلَا يردان على المُصَنّف وَكَذَا لَا يرد عَلَيْهِ أَيْضا رشح بخار المَاء لِأَنَّهُ مَاء حَقِيقَة وَينْقص بِقَدرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد كَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه وَغَيره وَإِن قَالَ الرَّافِعِيّ تازع فِيهِ عَامَّة الْأَصْحَاب وَقَالُوا يسمونه بخارا أَو رشحا لَا مَاء على الْإِطْلَاق وَلَا مَاء الزَّرْع إِذا قُلْنَا بطهوريته وَهُوَ الْمُعْتَمد لِأَنَّهُ لَا يخرج عَن أحد الْمِيَاه الْمَذْكُورَة
(القَوْل فِي أَقسَام الْمِيَاه من حَيْثُ التَّطْهِير بهَا وَعَدَمه) (ثمَّ الْمِيَاه) الْمَذْكُورَة (على أَرْبَعَة أَقسَام)
أَحدهَا مَاء (طَاهِر) فِي نَفسه (مطهر) لغيره (غير مَكْرُوه) اسْتِعْمَاله (وَهُوَ المَاء الْمُطلق)
(حَقِيقَة المَاء الْمُطلق) وَهُوَ مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم مَاء بِلَا قيد بِإِضَافَة كَمَاء ورد أَو بِصفة كَمَاء دافق أَو بلام عهد كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعم إِذا رَأَتْ المَاء يَعْنِي الْمَنِيّ قَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ وَلَا يحْتَاج لتقييد الْقَيْد بِكَوْنِهِ لَازِما لِأَن الْقَيْد الَّذِي لَيْسَ بِلَازِم كَمَاء الْبِئْر مثلا ينْطَلق اسْم المَاء عَلَيْهِ بِدُونِهِ فَلَا حَاجَة للِاحْتِرَاز عَنهُ وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الْقَيْد فِي جَانب الْإِثْبَات كَقَوْلِنَا غير الْمُطلق هُوَ الْمُقَيد بِقَيْد لَازم
اه
(المَاء الْمُطلق يَشْمَل الْمُتَغَيّر بِمَا لَا يسْتَغْنى عَنهُ حكما أَو اسْما) تَنْبِيه تَعْرِيف الْمُطلق بِمَا ذكر هُوَ مَا جرى عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاج
وَأورد عَلَيْهِ الْمُتَغَيّر كثيرا بِمَا لَا يُؤثر فِيهِ كطين وطحلب وَمَا فِي مقره وممره فَإِنَّهُ مُطلق مَعَ أَنه لم يعر عَمَّا ذكر
وَأجِيب بِمَنْع أَنه مُطلق وَإِنَّمَا أعْطى حكمه فِي جَوَاز التَّطْهِير بِهِ للضَّرُورَة فَهُوَ(1/21)
مُسْتَثْنى من غير الْمُطلق على أَن الرَّافِعِيّ قَالَ أهل اللِّسَان وَالْعرْف لَا يمتنعون من إِيقَاع اسْم المَاء الْمُطلق عَلَيْهِ وَعَلِيهِ لَا إِيرَاد وَلَا يرد المَاء الْقَلِيل الَّذِي وَقعت فِيهِ نَجَاسَة وَلم تغيره وَلَا المَاء الْمُسْتَعْمل لِأَنَّهُ غير مُطلق
(و) ثَانِيهَا مَاء (طَاهِر) فِي نَفسه (مطهر) لغيره إِلَّا (أَنه مَكْرُوه) اسْتِعْمَاله شرعا تَنْزِيها فِي الطَّهَارَة (وَهُوَ المَاء المشمس) أَي المتشمس لما روى الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كَانَ يكره الِاغْتِسَال بِهِ وَقَالَ إِنَّه يُورث البرص لَكِن بِشُرُوط الأول أَن يكون بِبِلَاد حارة أَي وتنقله الشَّمْس عَن حَالَته إِلَى حَالَة أُخْرَى كَمَا نَقله فِي الْبَحْر عَن الْأَصْحَاب
وَالثَّانِي أَن يكون فِي آنِية منطبعة غير النَّقْدَيْنِ وَهِي كل مَا طرق نَحْو الْحَدِيد والنحاس
وَالثَّالِث أَن يسْتَعْمل فِي حَال حرارته فِي الْبدن لِأَن الشَّمْس بحدتها تفصل مِنْهُ زهومة تعلو المَاء فَإِذا لاقت الْبدن بسخونتها خيف أَن تقبض عَلَيْهِ فيحتبس الدَّم فَيحصل البرص وَيُؤْخَذ من هَذَا أَن اسْتِعْمَاله فِي الْبدن لغير الطَّهَارَة كشرب كالطهارة بِخِلَاف مَا إِذا اسْتعْمل فِي غير الْبدن كَغسْل ثوب لفقد الْعلَّة الْمَذْكُورَة وَبِخِلَاف المسخن بالنَّار المعتدل وَإِن سخن بِنَجس وَلَو بروث نَحْو كلب فَلَا يكره لعدم ثُبُوت النَّهْي عَنهُ ولذهاب الزهومة لقُوَّة تأثيرها وَبِخِلَاف مَا إِذا كَانَ بِبِلَاد بَارِدَة أَو معتدلة وَبِخِلَاف المشمس فِي غير المنطبع كالخزف والحياض أَو فِي منطبع نقد لصفاء جوهره أَو اسْتعْمل فِي الْبدن بعد أَن برد وَأما الْمَطْبُوخ بِهِ فَإِن كَانَ مَائِعا كره وَإِلَّا فَلَا كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَيكرهُ فِي الأبرص لزِيَادَة الضَّرَر وَكَذَا فِي الْمَيِّت لِأَنَّهُ مُحْتَرم وَفِي غير الْآدَمِيّ من الْحَيَوَان إِن كَانَ البرص يُدْرِكهُ كالخيل وَإِنَّمَا لم يحرم المشمس كالسم لِأَن ضَرَره مظنون بِخِلَاف السم وَيجب اسْتِعْمَاله عِنْد فقد غَيره
أَي عِنْد ضيق الْوَقْت
(القَوْل فِي المَاء شَدِيد السخونة والبرودة) وَيكرهُ أَيْضا تَنْزِيها شَدِيد السخونة أَو الْبُرُودَة فِي الطَّهَارَة لمَنعه الإسباغ وَكَذَا مياه ديار ثَمُود وكل مَاء مغضوب على أَهله(1/22)
كَمَاء ديار قوم لوط وَمَاء الْبِئْر الَّتِي وضع فِيهَا السحر لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِن الله تَعَالَى مسخ ماءها حَتَّى صَار كنقاعة الْحِنَّاء وَمَاء ديار بابل
(القَوْل فِي أَقسَام الطَّاهِر غير المطهر) (و) ثَالِثهَا مَاء (طَاهِر) فِي نَفسه (غير مطهر) لغيره (وَهُوَ) المَاء الْقَلِيل (الْمُسْتَعْمل) فِي فرض الطَّهَارَة عَن حدث كالغسلة الأولى أما كَونه طَاهِرا فَلِأَن السّلف الصَّالح كَانُوا لَا يحترزون عَمَّا يتطاير عَلَيْهِم مِنْهُ
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاد جَابِرا فِي مَرضه فَتَوَضَّأ وصب عَلَيْهِ من وضوئِهِ
وَأما دَلِيل إِنَّه غير مطهر لغيره فَلِأَن السّلف الصَّالح كَانُوا مَعَ قلَّة مِيَاههمْ لم يجمعوا الْمُسْتَعْمل للاستعمال ثَانِيًا بل انتقلوا إِلَى التَّيَمُّم وَلم يجمعوه للشُّرْب لِأَنَّهُ مستقذر
(القَوْل فِي المَاء الْمُسْتَعْمل) تَنْبِيه المُرَاد بِالْفَرْضِ مَا لَا بُد مِنْهُ أَثم الشَّخْص بِتَرْكِهِ كحنفي تَوَضَّأ بِلَا نِيَّة أم لَا كصبي إِذْ لَا بُد لصِحَّة صلاتهما من وضوء وَلَا أثر لاعتقاد الشَّافِعِي أَن مَاء الْحَنَفِيّ فِيمَا ذكر لم يرفع حَدثا بِخِلَاف اقتدائه بحنفي مس فرجه حَيْثُ لَا يَصح اعْتِبَارا باعتقاده لِأَن الرابطة مُعْتَبرَة فِي الِاقْتِدَاء دون الطهارات
تَنْبِيه اخْتلف فِي عِلّة منع اسْتِعْمَال المَاء الْمُسْتَعْمل فَقيل وَهُوَ الْأَصَح إِنَّه غير مُطلق كَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي تَحْقِيقه وَغَيره وَقيل مُطلق وَلَكِن منع من اسْتِعْمَاله تعبدا كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح التَّنْبِيه إِنَّه الصَّحِيح عِنْد الْأَكْثَرين
وَخرج بِالْمُسْتَعْملِ فِي فرض الْمُسْتَعْمل فِي نفل الطَّهَارَة كالغسل الْمسنون وَالْوُضُوء المجدد فَإِنَّهُ طهُور على الْجَدِيد
تَنْبِيه من الْمُسْتَعْمل مَاء غسل بدل مسح من رَأس أَو خف وَمَاء غسل كَافِرَة لتحل لحليلها الْمُسلم
وَأورد على ضَابِط الْمُسْتَعْمل مَاء غسل بِهِ الرّجلَانِ بعد مسح الْخُف وَمَاء غسل بِهِ الْوَجْه قبل بطلَان التَّيَمُّم وَمَاء غسل بِهِ الْخبث المعفو عَنهُ فَإِنَّهَا لَا ترفع الْحَدث مَعَ أَنَّهَا لم تسْتَعْمل فِي فرض
وَأجِيب عَن الأول بِمَنْع عدم رَفعه لِأَن غسل الرجلَيْن لم يُؤثر شَيْئا
وَعَن الثَّانِي بِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي فرض وَهُوَ رفع الْحَدث الْمُسْتَفَاد بِهِ أَكثر من فَرِيضَة
وَعَن الثَّالِث بِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي فرض أَصَالَة
(لَا يكون المَاء مُسْتَعْملا إِلَّا إِذا انْفَصل عَن الْعُضْو) فَائِدَة المَاء مَا دَامَ مترددا على الْعُضْو لَا يثبت لَهُ حكم الِاسْتِعْمَال مَا بقيت الْحَاجة إِلَى الِاسْتِعْمَال بالِاتِّفَاقِ للضَّرُورَة فَلَو(1/23)
نوى جنب رفع الْجَنَابَة وَلَو قبل تَمام الانغماس فِي مَاء قَلِيل أَجزَأَهُ الْغسْل بِهِ فِي ذَلِك الْحَدث وَكَذَا فِي غَيره وَلَو من غير جنسه كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَام الْأَئِمَّة وَصرح بِهِ القَاضِي وَغَيره وَلَو نوى جنبان مَعًا بعد تَمام الانغماس فِي مَاء قَلِيل طهرا أَو مُرَتبا وَلَو قبل تَمام الانغماس فَالْأول فَقَط أَو نويا مَعًا فِي أَثْنَائِهِ لم يرْتَفع حَدثهمَا عَن باقيهما وَلَو شكا فِي الْمَعِيَّة فَالظَّاهِر كَمَا بَحثه بَعضهم أَنَّهُمَا يطهران لأننا لَا نسلب الطّهُورِيَّة بِالشَّكِّ وسلبها فِي حق أَحدهمَا فَقَط تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَالْمَاء المتردد على عُضْو المتوضىء وعَلى بدن الْجنب وعَلى الْمُتَنَجس إِن لم يتَغَيَّر طهُور فَإِن جرى المَاء من عُضْو المتوضىء إِلَى عضوه الآخر وَإِن لم يكن من أَعْضَاء الْوضُوء كَأَن جَاوز مَنْكِبه أَو تقاطر من عُضْو وَلَو من عُضْو بدن الْجنب صَار مُسْتَعْملا نعم مَا يغلب فِيهِ التقاذف كمن الْكَفّ إِلَى الساعد وَعَكسه لَا يصير مُسْتَعْملا للْعُذْر وَإِن خرقه الْهَوَاء كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَلَو غرف بكفه جنب نوى رفع الْجَنَابَة أَو مُحدث بعد غسل وَجهه الغسلة الأولى على مَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ وَغَيره أَو الغسلات الثَّلَاث كَمَا قَالَه ابْن عبد السَّلَام وَهُوَ أوجه إِن لم يرد الِاقْتِصَار على أقل من ثَلَاث من مَاء قَلِيل وَلم ينْو الاغتراف بِأَن نوى اسْتِعْمَالا أَو أطلق صَار مُسْتَعْملا فَلَو غسل بِمَا فِي كَفه بَاقِي يَده لَا غَيرهَا أَجزَأَهُ أما إِذا نوى الاغتراف بِأَن قصد نقل المَاء من الْإِنَاء وَالْغسْل بِهِ خَارجه لم يصر مُسْتَعْملا
(القَوْل فِي المَاء الْمُتَغَيّر وشروطه)(1/24)
(و) مثل المَاء الْمُسْتَعْمل المَاء (الْمُتَغَيّر) طعمه أَو لَونه أَو رِيحه (بِمَا) أَي بِشَيْء (خالطه من) الْأَعْيَان (الطاهرات) الَّتِي لَا يُمكن فصلها المستغنى عَنْهَا كمسك وزعفران وَمَاء شجر ومني وملح جبلي تغيرا يمْنَع إِطْلَاق اسْم المَاء عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ المَاء قَلِيلا أم كثيرا لِأَنَّهُ لَا يُسمى مَاء وَلِهَذَا لَو حلف لَا يشرب مَاء أَو وكل فِي شِرَائِهِ فَشرب ذَلِك أَو اشْتَرَاهُ لَهُ وَكيله لم يَحْنَث وَلم يَقع الشِّرَاء لَهُ وَسَوَاء أَكَانَ التَّغَيُّر حسيا أم تقديريا
(حَقِيقَة التَّغْيِير التقديري) حَتَّى لَو وَقع فِي المَاء مَائِع يُوَافقهُ فِي الصِّفَات كَمَاء الْورْد الْمُنْقَطع الرَّائِحَة فَلم يتَغَيَّر وَلَو قدرناه بمخالف وسط كلون الْعصير وَطعم الرُّمَّان وريح اللاذن لغيره ضرّ بِأَن تعرض عَلَيْهِ جَمِيع هَذِه الصِّفَات لَا الْمُنَاسب للْوَاقِع فِيهِ فَقَط وَلَا يقدر بالأشد كلون الحبر وَطعم الْخلّ وريح الْمسك بِخِلَاف الْخبث لغلظه أما الْملح المائي فَلَا يضر التَّغَيُّر بِهِ وَإِن كثر لِأَنَّهُ مُنْعَقد من المَاء وَالْمَاء الْمُسْتَعْمل كمائع فيفرض مُخَالفا وسطا للْمَاء فِي صِفَاته لَا فِي تَكْثِير المَاء فَلَو ضم إِلَى مَاء قَلِيل فَبلغ قُلَّتَيْنِ صَار طهُورا وَإِن أثر فِي المَاء بفرضه مُخَالفا
وَلَا يضر تغير يسير بطاهر لَا يمْنَع الِاسْم لتعذر صون المَاء عَنهُ ولبقاء إِطْلَاق اسْم المَاء عَلَيْهِ وَكَذَا لَو شكّ فِي أَن تغيره كثير أَو يسير نعم إِن كَانَ التَّغَيُّر كثيرا ثمَّ شكّ فِي أَن التَّغَيُّر الْآن يسير أَو كثير لم يطهر عملا بِالْأَصْلِ فِي الْحَالَتَيْنِ قَالَه الْأَذْرَعِيّ وَلَا يضر تغير بمكث وَإِن فحش التَّغَيُّر وطين وطحلب وَمَا فِي مقره وممره ككبريت وزرنيخ ونورة لتعذر صون المَاء عَن ذَلِك وَلَا يضر أوراق شَجَرَة تناثرت وتفتتت واختلطت وَإِن كَانَت ربيعية أَو بعيدَة عَن المَاء لتعذر صون المَاء عَنْهَا إِن طرحت وتفتتت أَو أخرج مِنْهُ الطحلب أَو الزرنيخ ودق نَاعِمًا وَأُلْقِي فِيهِ فَغَيره فَإِنَّهُ يضر أَو تغير بالثمار الساقطة فِيهِ لِإِمْكَان التَّحَرُّز عَنْهَا غَالِبا
(حَقِيقَة الْفرق بَين المخالط والمجاور) وَاحْترز بِقَيْد المخالط عَن المجاور الطَّاهِر كعود ودهن وَلَو مطيبين وكافور صلب فَلَا يضر التَّغَيُّر بِهِ لِإِمْكَان فَصله وَبَقَاء اسْم الْإِطْلَاق عَلَيْهِ
وَكَذَا لَا يضر التَّغَيُّر بِتُرَاب وَلَو مُسْتَعْملا طرح لِأَن تغيره مُجَرّد كدورة فَلَا يمْنَع إِطْلَاق اسْم المَاء عَلَيْهِ نعم إِن تغير حَتَّى صَار لَا يُسمى إِلَّا طينا رطبا ضرّ وَمَا تقرر فِي التُّرَاب الْمُسْتَعْمل هُوَ الْمُعْتَمد وَإِن خَالف فِيهِ بعض الْمُتَأَخِّرين
(القَوْل فِي أَقسَام المَاء الْمُتَنَجس) (و) رَابِعهَا (مَاء نجس) أَي مُتَنَجّس (وَهُوَ الَّذِي حلت فِيهِ) أَو لاقته (نَجَاسَة) تدْرك بالبصر (وَهُوَ) قَلِيل (دون الْقلَّتَيْنِ) بِثَلَاثَة أَرْطَال فَأكْثر سَوَاء تغير أم لَا لمَفْهُوم حَدِيث الْقلَّتَيْنِ الْآتِي وَلخَبَر مُسلم إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده نَهَاهُ عَن الغمس خشيَة النَّجَاسَة وَمَعْلُوم أَنَّهَا إِذا خفيت لَا تغير المَاء فلولا أَنَّهَا تنجسه بوصولها لم يَنْهَهُ(1/25)
(لَا يَتَنَجَّس الْكثير إِلَّا بالتغيير بِالنَّجَاسَةِ) (أَو كَانَ كثيرا) بِأَن بلغ قُلَّتَيْنِ فَأكْثر (فَتغير) بِسَبَب النَّجَاسَة لِخُرُوجِهِ عَن الطاهرية وَلَو كَانَ التَّغَيُّر يَسِيرا حسيا أَو تقديريا فَهُوَ نجس بِالْإِجْمَاع الْمُخَصّص لخَبر الْقلَّتَيْنِ الْآتِي وَلخَبَر التِّرْمِذِيّ وَغَيره المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء كَمَا خصصه مَفْهُوم خبر الْقلَّتَيْنِ الْآتِي فالتغير الْحسي ظَاهر
(حَقِيقَة التَّغْيِير التقديري) والتقديري بِأَن وَقعت فِيهِ نَجَاسَة مائعة توافقه فِي الصِّفَات كبول انْقَطَعت رَائِحَته وَلَو فرض مُخَالفا لَهُ فِي أغْلظ الصِّفَات كلون الحبر وَطعم الْخلّ وريح الْمسك لغيره فَإِنَّهُ يحكم بِنَجَاسَتِهِ فَإِن لم يتَغَيَّر فطهور لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث قَالَ الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَغَيره بِإِسْنَاد صَحِيح فَإِنَّهُ لَا ينجس وَهُوَ المُرَاد بقوله لم يحمل الْخبث أَي يدْفع النَّجس وَلَا يقبله وَفَارق كثير المَاء كثير غَيره فَإِنَّهُ ينجس بِمُجَرَّد ملاقاة النَّجَاسَة بِأَن كَثِيره قوي ويشق حفظه عَن النَّجس بِخِلَاف غَيره وَإِن كثر
تَنْبِيهَانِ الأول لَو شكّ فِي كَونه قُلَّتَيْنِ وَوَقعت فِيهِ نَجَاسَة هَل ينجس أَو لَا ينجس رأيان أصَحهمَا الثَّانِي بل قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الصَّوَاب أَنه لَا ينجس إِذْ الأَصْل الطَّهَارَة وشككنا فِي نَجَاسَة منجسة وَلَا يلْزم من حُصُول النَّجَاسَة التَّنْجِيس
الثَّانِي لَو تغير بعض المَاء فالمتغير كنجاسة جامدة لَا يجب التباعد عَنْهَا بقلتين وَالْبَاقِي إِن قل فنجس وَإِلَّا فطاهر فَلَو غرف دلوا من مَاء قُلَّتَيْنِ فَقَط وَفِيه نَجَاسَة جامدة لم تغيره وَلم يغرفها مَعَ المَاء فباطن الدَّلْو طَاهِر لانفصال مَا فِيهِ عَن الْبَاقِي قبل أَن ينقص عَن قُلَّتَيْنِ لَا ظَاهرهَا لتنجسه بِالْبَاقِي الْمُتَنَجس بِالنَّجَاسَةِ لقلته فَإِن دخلت مَعَ المَاء أَو قبله فِي الدَّلْو انعكس الحكم
فَائِدَة تَأْنِيث الدَّلْو أفْصح من تذكيره
(القَوْل فِي حكم زَوَال التَّغْيِير) فَإِن زَالَ تغيره الْحسي أَو التقديري بِنَفسِهِ بِأَن لم يحدث فِيهِ شَيْء كَأَن زَالَ بطول الْمكْث أَو بِمَاء انْضَمَّ إِلَيْهِ بِفعل أَو غَيره أَو أَخذ مِنْهُ وَالْبَاقِي قلتان طهر لزوَال سَبَب التَّنْجِيس
فَإِن زَالَ تغيره بمسك أَو نَحوه كزعفران أَو بِتُرَاب لم يطهر لأَنا لَا نَدْرِي أَن أَوْصَاف النَّجَاسَة زَالَت أَو غلب عَلَيْهَا مَا ذكر فاستترت وَيسْتَثْنى من النَّجس ميتَة لَا دم لَهَا سَائل أَصَالَة بِأَن لَا يسيل دَمهَا عِنْد شقّ عُضْو مِنْهَا فِي حَيَاتهَا كزنبور وعقرب ووزغ وذباب وقمل وبرغوث لَا نَحْو حَيَّة وضفدع وفأرة فَلَا تنجس مَاء أَو غَيره بوقوعها فِيهِ بِشَرْط أَن لَا يَطْرَحهَا طارح وَلم تغيره لمَشَقَّة الِاحْتِرَاز عَنْهَا وَلخَبَر البُخَارِيّ إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم فليغمسه كُله ثمَّ لينزعه فَإِن فِي أحد جناحيه دَاء أَي وَهُوَ الْيَسَار كَمَا قيل وَفِي الآخر شِفَاء زَاد أَبُو دَاوُد(1/26)
وَإنَّهُ يتقى بجناحه الَّذِي فِيهِ الدَّاء وَقد يُفْضِي غمسه إِلَى مَوته فَلَو نجس الْمَائِع لما أَمر بِهِ وَقيس بالذباب مَا فِي مَعْنَاهُ من كل ميتَة لَا يسيل دَمهَا فَلَو شككنا فِي سيل دَمهَا امتحن بجنسها فتجرح للْحَاجة قَالَه الْغَزالِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَلَو كَانَت مِمَّا يسيل دَمهَا لَكِن لَا دم فِيهَا أَو فِيهَا دم لَا يسيل لصغرها فلهَا حكم مَا يسيل دَمهَا قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب
(القَوْل فِي النَّجَاسَة المعفو عَنْهَا) وَيسْتَثْنى أَيْضا نجس لَا يُشَاهد بالبصر لقلته كنقطة بَوْل وخمر وَمَا يعلق بِنَحْوِ رجل ذُبَاب لعسر الِاحْتِرَاز عَنهُ فَأشبه دم البراغيث
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَقِيَاس اسْتثِْنَاء دم الْكَلْب من يسير الدَّم المعفو عَنهُ أَن يكون هُنَا مثله وَقد يفرق بَينهمَا بالمشقة وَالْفرق أوجه ويعفى أَيْضا عَن رَوْث سمك لم يُغير المَاء وَعَن الْيَسِير عرفا من شعر نجس من غير نَحْو كلب وَعَن كَثِيره من مركوب وَعَن قَلِيل دُخان نجس وغبار سرجين وَنَحْوه مِمَّا تحمله الرّيح كالذر وَعَن حَيَوَان مُتَنَجّس المنفذ إِذا وَقع فِي المَاء للْمَشَقَّة فِي صونه وَلِهَذَا لَا يُعْفَى عَن آدَمِيّ مستجمر وَعَن الدَّم الْبَاقِي على اللَّحْم والعظم فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنهُ وَلَو تنجس حَيَوَان طَاهِر من هرة أَو غَيرهَا ثمَّ غَابَ وَأمكن وُرُوده مَاء كثيرا ثمَّ ولغَ فِي طَاهِر لم يُنجسهُ مَعَ حكمنَا بِنَجَاسَة فَمه لِأَن الأَصْل نَجَاسَته وطهارة المَاء وَقد اعتضد أصل طَهَارَة المَاء بِاحْتِمَال ولوغه فِي مَاء كثير فِي الْغَيْبَة فرجح
(القَوْل فِي ضبط الْقلَّتَيْنِ بِالْوَزْنِ) (والقلتان) بِالْوَزْنِ (خَمْسمِائَة رَطْل) بِكَسْر الرَّاء أفْصح من فتحهَا (بالبغدادي) أخذا من رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ وَغَيره إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ بقلال هجر لم يُنجسهُ شَيْء والقلة فِي اللُّغَة الجرة الْعَظِيمَة سميت بذلك لِأَن الرجل الْعَظِيم يقلها بيدَيْهِ أَي يرفعها وهجر بِفَتْح الْهَاء وَالْجِيم قَرْيَة بِقرب الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة يجلب مِنْهَا القلال وَقيل هِيَ بِالْبَحْرَيْنِ قَالَه الْأَزْهَرِي
قَالَ فِي الْخَادِم وَهُوَ الْأَشْبَه
ثمَّ رُوِيَ عَن الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن ابْن جريج أَنه قَالَ رَأَيْت قلال هجر فَإِذا الْقلَّة مِنْهَا تسع قربتين أَو قربتين وشيئا
أَي من قرب الْحجاز فاحتاط الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَحسب الشَّيْء نصفا إِذْ لَو كَانَ فَوْقه لقَالَ تسع ثَلَاث قرب إِلَّا شَيْئا على عَادَة الْعَرَب فَتكون القلتان خمس قرب وَالْغَالِب أَن الْقرْبَة لَا تزيد على مائَة رَطْل بغدادي وَهُوَ مائَة وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ درهما وَأَرْبَعَة أَسْبَاع دِرْهَم فِي الْأَصَح فالمجموع بِهِ خَمْسمِائَة رَطْل
(تَقْرِيبًا فِي الْأَصَح) فيعفى عَن نقص رَطْل أَو رطلين على مَا صَححهُ فِي(1/27)
الرَّوْضَة وَصحح فِي التَّحْقِيق مَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ أَنه لَا يضر نقص قدر لَا يظْهر بنقصه تفَاوت فِي التَّغَيُّر بِقدر معِين من الْأَشْيَاء الْمُغيرَة كَأَن تَأْخُذ إناءين فِي وَاحِد قلتان وَفِي الآخر دونهمَا ثمَّ تضع فِي أَحدهمَا قدرا من المغير وتضع فِي الآخر قدره
فَإِن لم يظْهر بَينهمَا تفَاوت فِي التَّغَيُّر لم يضر ذَلِك وَإِلَّا ضرّ وَهَذَا أولى من الأول لضبطه
(القَوْل فِي الْقلَّتَيْنِ بالمساحة) وبالمساحة فِي المربع ذِرَاع وَربع طولا وعرضا وعمقا
وَفِي المدور ذراعان طولا وذراع عرضا وَالْمرَاد فِيهِ بالطول العمق وبالعرض مَا بَين حائطي الْبِئْر من سَائِر الجوانب وبالذراع فِي المربع ذِرَاع الْآدَمِيّ وَهُوَ شبران تَقْرِيبًا
وَأما فِي المدور فَالْمُرَاد بِهِ فِي الطول ذِرَاع التُّجَّار الَّذِي هُوَ بِذِرَاع الْآدَمِيّ ذِرَاع وَربع تَقْرِيبًا
(حَقِيقَة حكم المَاء الْجَارِي) وَالْمَاء الْجَارِي وَهُوَ مَا انْدفع فِي مستو أَو منخفض كراكد فِيمَا مر من التَّفْرِقَة بَين الْقَلِيل وَالْكثير وَفِيمَا اسْتثْنِي لمَفْهُوم حَدِيث الْقلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لم يفصل بَين الْجَارِي والراكد لَكِن الْعبْرَة فِي الْجَارِي بالجرية نَفسهَا لَا بِمَجْمُوع المَاء وَهِي كَمَا فِي الْمَجْمُوع الدفعة بَين حافتي النَّهر عرضا وَالْمرَاد بهَا مَا يرْتَفع من المَاء عِنْد تموجه أَي تَحْقِيقا أَو تَقْديرا فَإِن كثرت الجرية لم تنجس إِلَّا بالتغير وَهِي فِي نَفسهَا مُنْفَصِلَة عَمَّا أمامها وَمَا خلفهَا من الجريات حكما وَإِن اتَّصَلت بهما حسا
إِذْ كل جرية طالبة لما أمامها هاربة عَمَّا خلفهَا من الجريات وَيعرف كَون الجرية قُلَّتَيْنِ بِأَن يمسحا وَيجْعَل الْحَاصِل ميزانا ثمَّ يُؤْخَذ قدر عمق الجرية وَيضْرب فِي قدر طولهَا ثمَّ الْحَاصِل فِي قدر عرضهَا بعد بسط الأقدار من مخرج الرّبع لوُجُوده فِي مِقْدَار الْقلَّتَيْنِ فِي المربع فَمسح الْقلَّتَيْنِ بِأَن تضرب ذِرَاعا وربعا طولا فِي مثلهمَا عرضا فِي مثلهمَا عمقا يحصل مائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ وَهِي الْمِيزَان أما إِذا كَانَ أَمَام الْجَارِي ارْتِفَاع يردهُ فَلهُ حكم الراكد
(فصل فِي الدّباغ) فِي بَيَان مَا يطهر بدباغه وَمَا يسْتَعْمل من الْآنِية وَمَا يمْتَنع
(وجلود) الْحَيَوَانَات (الْميتَة) كلهَا (تطهر) ظَاهرا وَبَاطنا (بالدباغ) وَلَو بإلقاء الدابغ عَلَيْهِ بِنَحْوِ ريح أَو بإلقائه على الدابغ كَذَلِك لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر رَوَاهُ مُسلم
وَفِي رِوَايَة هلا أَخَذْتُم إهابها فدبغتموه فانتفعتم بِهِ وَالظَّاهِر مَا لَاقَى الدابغ وَالْبَاطِن مَا لم يلاق الدابغ وَلَا فرق فِي الْميتَة بَين أَن تكون مأكولة اللَّحْم أم لَا كَمَا يَقْتَضِيهِ عُمُوم الحَدِيث(1/28)
(ضَابِط الدّباغ) والدبغ نزع فضوله وَهِي مائيته ورطوبته الَّتِي يُفْسِدهُ بَقَاؤُهَا ويطيبه نَزعهَا بِحَيْثُ لَو نقع فِي المَاء لم يعد إِلَيْهِ النتن وَالْفساد وَذَلِكَ إِنَّمَا يحصل بحريف بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء كالقرظ والعفص وقشور الرُّمَّان وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الطَّاهِر كم ذكر وَالنَّجس كذرق الطُّيُور وَلَا يَكْفِي التجميد بِالتُّرَابِ وَلَا بالشمس وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا ينْزع الفضول
وَإِن جف الْجلد وَطَابَتْ رَائِحَته لِأَن الفضلات لم تزل وَإِنَّمَا جمدت بِدَلِيل أَنه لَو نقع فِي المَاء عَادَتْ إِلَيْهِ العفونة
(القَوْل فِي حكم الْجلد بعد الدبغ) وَيصير المدبوغ كَثوب مُتَنَجّس لملاقاته للأدوية النَّجِسَة أَو الَّتِي تنجست بِهِ قبل طهر عينه فَيجب غسله لذَلِك فَلَا يصلى فِيهِ وَلَا عَلَيْهِ قبل غسله وَيجوز بَيْعه قبله مَا لم يمْنَع من ذَلِك مَانع وَلَا يحل أكله سَوَاء كَانَ من مَأْكُول اللَّحْم أم من غَيره لخَبر الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا حرم من الْميتَة أكلهَا وَخرج بِالْجلدِ الشّعْر لعدم تأثره بالدبغ
قَالَ النَّوَوِيّ ويعفى عَن قَلِيله
(إِلَّا جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير) فَلَا يطهره الدبغ قطعا لِأَن الْحَيَاة فِي إِفَادَة الطَّهَارَة أبلغ من الدبغ والحياة لَا تفِيد طَهَارَته
(و) كَذَا (مَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا) مَعَ حَيَوَان طَاهِر لما ذكر (وَعظم) الْحَيَوَانَات (الْميتَة وشعرها) وقرنها وظفرها وظلفها (نجس) لقَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم} وَتَحْرِيم مَا لَا حُرْمَة لَهُ وَلَا ضَرَر فِيهِ يدل على نَجَاسَته وَالْميتَة مَا زَالَت حَيَاتهَا بِغَيْر ذَكَاة شَرْعِيَّة فَيدْخل فِي الْميتَة مَا لَا يُؤْكَل إِذا ذبح وَكَذَا مَا يُؤْكَل إِذا اخْتَلَّ فِيهِ شَرط من شُرُوط التذكية كذبيحة الْمَجُوسِيّ وَالْمحرم للصَّيْد وَمَا ذبح بالعظم وَنَحْوه
(القَوْل فِي مَا قطع من حَيّ) والجزء الْمُنْفَصِل من الْحَيّ كميتة ذَلِك الْحَيّ إِن كَانَ طَاهِرا فطاهر وَإِن كَانَ نجسا فنجس لخَبر مَا قطع من حَيّ فَهُوَ كميتته رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ على شَرط الشَّيْخَيْنِ فالمنفصل من الْآدَمِيّ أَو السّمك أَو الْجَرَاد طَاهِر وَمن غَيرهَا نجس
(إِلَّا شعر) أَو صوف أَو ريش أَو وبر الْمَأْكُول فطاهر بِالْإِجْمَاع وَلَو نتف مِنْهَا أَو انتتفت
قَالَ الله تَعَالَى {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين} وَهُوَ مَحْمُول على مَا أَخذ بعد التذكية أَو فِي الْحَيَاة على مَا هُوَ الْمَعْهُود وَلَو شككنا فِيمَا ذكر هَل انْفَصل من طَاهِر أَو نجس حكمنَا بِطَهَارَتِهِ لِأَن الأَصْل الطَّهَارَة
وشككنا فِي النَّجَاسَة وَالْأَصْل عدمهَا بِخِلَاف مَا لَو رَأينَا قِطْعَة لحم وشككنا هَل هِيَ من مذكاة أَو لَا لِأَن الأَصْل عدم التذكية وَالشعر على الْعُضْو المبان نجس إِذا كَانَ الْعُضْو نجسا تبعا لَهُ وَالشعر الْمُنْفَصِل من (الْآدَمِيّ) سَوَاء انْفَصل مِنْهُ فِي حَال حَيَاته أم بعد مَوته طَاهِر لقَوْله تَعَالَى {وَلَقَد كرمنا بني آدم} وَقَضِيَّة التكريم أَن لَا يحكم بِنَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ وَسَوَاء الْمُسلم وَغَيره وَأما قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} فَالْمُرَاد بِهِ نَجَاسَة الِاعْتِقَاد أَو اجتنابهم كالنجس لَا نَجَاسَة الْأَبدَان
وَتحل ميتَة السّمك وَالْجَرَاد لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ السّمك وَالْجَرَاد والكبد وَالطحَال
ثمَّ اعْلَم أَن الْأَعْيَان جماد وحيوان فالجماد كُله طَاهِر لِأَنَّهُ خلق لمنافع الْعباد وَلَو من بعض الْوُجُوه
قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا}(1/29)
وَإِنَّمَا يحصل الِانْتِفَاع أَو يكمل بِالطَّهَارَةِ إِلَّا مَا نَص الشَّارِع على نَجَاسَته وَهُوَ كل مُسكر مَائِع لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مُسكر خمر وكل خمر حرَام وَكَذَا الْحَيَوَان كُله طَاهِر لما مر إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِع أَيْضا وَهُوَ الْكَلْب وَلَو معلما لخَبر مُسلم طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب أَن يغسلهُ سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ
وَجه الدّلَالَة أَن الطَّهَارَة إِمَّا لحَدث أَو خبث أَو تكرمة وَلَا حدث على الْإِنَاء وَلَا تكرمة لَهُ فتعينت طَهَارَة الْخبث فثبتت نَجَاسَة فَمه وَهُوَ أطيب أَجْزَائِهِ بل هُوَ أطيب الْحَيَوَانَات نكهة لِكَثْرَة مَا يَلْهَث فبقيتها أولى وَالْخِنْزِير لِأَنَّهُ أَسْوَأ حَالا من الْكَلْب وَفرع كل مِنْهُمَا مَعَ الآخر أَو مَعَ غَيره من الْحَيَوَانَات الطاهرة كالمتولد بَين ذِئْب وكلبة تَغْلِيبًا للنَّجَاسَة وَإِن الفضلات مِنْهَا مَا يَسْتَحِيل فِي بَاطِن الْحَيَوَان وَهُوَ نجس كَدم وَلَو تحلب من كبد أَو طحال لقَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم} أَي الدَّم المسفوح وقيح لِأَنَّهُ دم مُسْتَحِيل وقيء وَإِن لم يتَغَيَّر وَهُوَ الْخَارِج من الْمعدة لِأَنَّهُ من الفضلات المستحيلة كالبول وجرة وَهِي بِكَسْر الْجِيم مَا يُخرجهُ الْبَعِير أَو غَيره للاجترار وَمرَّة وَهِي بِكَسْر الْمِيم مَا فِي المرارة
وَأما الزباد فطاهر
قَالَ فِي الْمَجْمُوع لِأَنَّهُ إِمَّا لبن سنور بحري كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ أَو عرق سنور بري كَمَا سمعته من ثِقَات من أهل الْخِبْرَة بِهَذَا وَلَكِن يغلب اخْتِلَاطه بِمَا يتساقط من شعره فليحترز عَمَّا وجد فِيهِ فَإِن الْأَصَح منع أكل الْبري وَيَنْبَغِي الْعَفو عَن قَلِيل شعره وَأما الْمسك فَهُوَ أطيب الطّيب كَمَا رَوَاهُ مُسلم
وفأرته طَاهِرَة وَهِي خراج بِجَانِب سرة الظبية كالسلعة فتحتك حَتَّى تلقيها وَاخْتلفُوا فِي العنبر فَمنهمْ من قَالَ إِنَّه نجس لِأَنَّهُ مستخرج من بطن دويبة لَا يُؤْكَل لَحمهَا وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه طَاهِر لِأَنَّهُ ينْبت فِي الْبَحْر ويلفظه وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وروث وَلَو من سمك وجراد لما روى البُخَارِيّ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جِيءَ لَهُ بحجرين وروثة ليستنجي بهَا أَخذ الحجرين ورد الروثة وَقَالَ وَهَذَا ركس والركس النَّجس وَبَوْل لِلْأَمْرِ بصب المَاء عَلَيْهِ فِي بَوْل الْأَعرَابِي فِي الْمَسْجِد رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
ومذي وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مَاء أَبيض رَقِيق يخرج بِلَا شَهْوَة عِنْد ثورانها لِلْأَمْرِ بِغسْل الذّكر مِنْهُ فِي خبر الصَّحِيحَيْنِ فِي قصَّة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وودي وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ مَاء أَبيض ثخين يخرج عقب الْبَوْل أَو عِنْد حمل شَيْء ثقيل قِيَاسا على مَا قبله وَالأَصَح طَهَارَة مني غير الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَفرع أَحدهمَا لِأَنَّهُ أصل حَيَوَان طَاهِر وَلبن مَا لَا يُؤْكَل غير لبن الْآدَمِيّ كلبن الأتان لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل فِي الْبَاطِن كَالدَّمِ أما لبن مَا يُؤْكَل لَحْمه كلبن الْفرس وَإِن ولدت بغلا فطاهر
قَالَ تَعَالَى {لَبَنًا خَالِصا سائغا للشاربين}
وَكَذَا لبن الْآدَمِيّ إِذْ لَا يَلِيق بكرامته أَن يكون منشؤه نجسا وَكَلَامهم شَامِل للبن الْميتَة وَبِه جزم فِي(1/30)
الْمَجْمُوع وَلبن الذّكر وَالصَّغِيرَة وَهُوَ الْمُعْتَمد وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَحِيل وَهُوَ طَاهِر كعرق ولعاب ودمع من حَيَوَان طَاهِر والعلقة وَهِي الدَّم الغليظ المستحيل من الدَّم فِي الرَّحِم والمضغة وَهِي الْعلقَة الَّتِي تستحيل فَتَصِير قِطْعَة لحم ورطوبة الْفرج من حَيَوَان طَاهِر وَلَو غير مَأْكُول طَاهِرَة
(القَوْل فِي مَا يطهر من نجس الْعين) وَلَا يطهر نجس الْعين بِغسْل وَلَا باستحالة إِلَّا شَيْئَانِ أَحدهمَا الْجلد إِذا دبغ كَمَا مر وَالثَّانِي الْخمْرَة إِذا تخللت بِنَفسِهَا فَتطهر وَإِن نقلت من شمس إِلَى ظلّ أَو عَكسه فَإِن خللت بطرح شَيْء فِيهَا لم تطهر وَمَا نجس بملاقاة شَيْء من كلب غسل سبعا
إِحْدَاهَا بِتُرَاب طهُور يعم مَحل النَّجَاسَة وَالْخِنْزِير كَالْكَلْبِ وَكَذَا مَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا فيلحف بذلك
وَمَا نجس ببول صبي لم يتَنَاوَل قبل مُضِيّ حَوْلَيْنِ غير لبن للتغذي نضح بِالْمَاءِ لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أم قيس أَنَّهَا جَاءَت بِابْن لَهَا صَغِير لم يَأْكُل الطَّعَام فأجلسه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجره فَبَال عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاء فنضحه وَلم يغسلهُ
وَمَا نجس بِغَيْر الْكَلْب وَنَحْوه وَالصَّبِيّ الَّذِي لم يتَنَاوَل غير اللَّبن إِن كَانَت النَّجَاسَة حكمِيَّة وَهِي مَا يتَيَقَّن وجودهَا وَلَا يدْرك لَهَا طعم وَلَا لون وَلَا ريح كفى وُصُول المَاء إِلَى ذَلِك الْمحل بِحَيْثُ يسيل عَلَيْهِ زَائِدا على النَّضْح وَإِن كَانَت عَيْنِيَّة وَجب بعد زَوَال عينهَا إِزَالَة الطّعْم وَإِن عسر وَلَا يضر بَقَاء لون كلون الدَّم أَو ريح كريح الْخمر عسر زَوَاله للْمَشَقَّة بِخِلَاف مَا إِذا سهل فَيضر بَقَاؤُهُ فَإِن بقيا بِمحل وَاحِد مَعًا ضرّ لقُوَّة دلالتهما على بَقَاء الْعين وَيشْتَرط وُرُود المَاء على الْمحل إِن كَانَ قَلِيلا لِئَلَّا يَتَنَجَّس المَاء لَو عكس
(القَوْل فِي حكم الغسالة) والغسالة طَاهِرَة إِن انفصلت بِلَا تغير وَلم يزدْ الْوَزْن وَقد طهر الْمحل
فروع يطهر بِالْغسْلِ مصبوغ بمتنجس انْفَصل مِنْهُ وَلم يزدْ الْمَصْبُوغ وزنا بعد الْغسْل على وَزنه قبل الصَّبْغ وَإِن بَقِي اللَّوْن لعسر زَوَاله فَإِن زَاد وَزنه ضرّ فَإِن لم ينْفَصل عَنهُ لتعقده بِهِ لم يطهر لبَقَاء النَّجَاسَة فِيهِ وَلَو صب على مَوضِع نَحْو بَوْل أَو خمر من أَرض مَاء غمره طهر
أما إِذا صب على نفس نَحْو الْبَوْل فَإِنَّهُ لَا يطهر وَاللَّبن بِكَسْر الْمُوَحدَة إِن خالطه نَجَاسَة جامدة كالروث لم(1/31)
يطهر وَإِن طبخ وَصَارَ آجرا لعين النَّجَاسَة وَإِن خالطه غَيرهَا كالبول طهر ظَاهره بِالْغسْلِ وَكَذَا بَاطِنه إِن نقع فِي المَاء إِن كَانَ رخوا يصله المَاء كالعجين وَلَو سقيت سكين أَو طبخ لحم بِمَاء نجس كفى غسلهمَا ويطهر الزئبق الْمُتَنَجس بِغسْل ظَاهره إِن لم يَتَخَلَّل بَين تنجسه وغسله تقطع وَإِلَّا لم يطهر كالدهن
وَيَكْفِي غسل مَوضِع نَجَاسَة وَقعت على ثوب وَلَو عقب عصره وَلَو تنجس مَائِع غير المَاء وَلَو دهنا تعذر تَطْهِيره إِذْ لَا يَأْتِي المَاء على كُله وَإِذا غسل فَمه الْمُتَنَجس فليبالغ فِي الغرغرة ليغسل كل مَا فِي حد الظَّاهِر وَلَا يبلع طَعَاما وَلَا شرابًا قبل غسله لِئَلَّا يكون آكلا للنَّجَاسَة
(القَوْل فِي حكم أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة) (وَلَا يجوز) لذكر أَو غَيره (اسْتِعْمَال) شَيْء من (أواني الذَّهَب) وأواني (الْفضة) بِالْإِجْمَاع وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا تَأْكُلُوا فِي صحافها
مُتَّفق عَلَيْهِ
وَيُقَاس غير الْأكل وَالشرب عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا خصا بِالذكر لِأَنَّهُمَا أظهر وُجُوه الِاسْتِعْمَال وأغلبها وَيحرم على الْوَلِيّ أَن يسْقِي الصَّغِير بمسعط من إنائهما وَلَا فرق بَين الْإِنَاء الْكَبِير والإناء الصَّغِير حَتَّى مَا يخلل بِهِ أَسْنَانه والميل الَّذِي يكتحل بِهِ إِلَّا لضَرُورَة كَأَن يحْتَاج إِلَى جلاء عينه بالميل فَيُبَاح اسْتِعْمَاله وَالْوُضُوء مِنْهُ صَحِيح والمأخوذ مِنْهُ من مَأْكُول أَو غَيره حَلَال لِأَن التَّحْرِيم للاستعمال لَا لخُصُوص مَا ذكر
وَيحرم الْبَوْل فِي الْإِنَاء مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا وكما يحرم استعمالهما يحرم أَيْضا اتخاذهما من غير اسْتِعْمَال لِأَن مَا لَا يجوز اسْتِعْمَاله للرِّجَال وَلَا لغَيرهم يحرم اتِّخَاذه كآلة الملاهي
(القَوْل فِي أواني غير الذَّهَب وَالْفِضَّة) وَيحل (اسْتِعْمَال كل إِنَاء طَاهِر) مَا عدا ذَلِك سَوَاء أَكَانَ من نُحَاس أم من غَيره فَإِن موه غير النَّقْد كإناء نُحَاس وَخَاتم وَآلَة(1/32)
حَرْب من نُحَاس أَو نَحوه بِالنَّقْدِ وَلم يحصل مِنْهُ شي وَلَو بِالْعرضِ على النَّار أَو موه النَّقْد بِغَيْرِهِ أَو صدأ مَعَ حُصُول شَيْء من المموه بِهِ أَو الصدأ حل اسْتِعْمَاله لقلَّة المموه فِي الأولى فَكَأَنَّهُ مَعْدُوم وَلعدم الْخُيَلَاء فِي الثَّانِيَة فَإِن حصل شَيْء من النَّقْد فِي الأولى لكثرته أَو لم يحصل شَيْء من غَيره فِي الثَّانِيَة لقلته حرم اسْتِعْمَاله وَكَذَا اتِّخَاذه فالعلة مركبة من تضييق النَّقْدَيْنِ وَالْخُيَلَاء وَكسر قُلُوب الْفُقَرَاء
وَيحرم تمويه سقف الْبَيْت وجدرانه وَإِن لم يحصل مِنْهُ شَيْء بِالْعرضِ على النَّار وَيحرم استدامته إِن حصل مِنْهُ شَيْء بِالْعرضِ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا
وَيحل اسْتِعْمَال واتخاذ النفيس كياقوت وَزَبَرْجَد وبلور بِكَسْر الْبَاء وَفتح اللَّام ومرجان وعقيق والمتخذ من الطّيب الْمُرْتَفع كمسك وَعَنْبَر وعود لِأَنَّهُ لم يرد فِيهِ نهي وَلَا يظْهر فِيهِ معنى السَّرف وَالْخُيَلَاء
وَمَا ضبب من إِنَاء بِفِضَّة ضبة كَبِيرَة وَكلهَا أَو بَعْضهَا وَإِن قل لزينة حرم اسْتِعْمَاله واتخاذه أَو صَغِيرَة بِقدر الْحَاجة فَلَا تحرم للصغر وَلَا تكره للْحَاجة
وَلما روى البُخَارِيّ عَن عَاصِم الْأَحول قَالَ رَأَيْت قدح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَانَ قد انصدع أَي انْشَقَّ فسلسله بِفِضَّة أَي شده بخيط فضَّة وَالْفَاعِل هُوَ أنس كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ قَالَ أنس لقد سقيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْقدح أَكثر من كَذَا وَكَذَا أَو صَغِيرَة وَكلهَا أَو بَعْضهَا لزينة أَو كَبِيرَة كلهَا لحَاجَة جَازَ مَعَ الْكَرَاهَة فيهمَا أما فِي الأولى فللصغر وَكره لفقد الْحَاجة وَأما فِي الثَّانِيَة فللحاجة وَكره للكبر وضبة مَوضِع الِاسْتِعْمَال لنَحْو شرب كَغَيْرِهِ فِيمَا ذكر من التَّفْصِيل لِأَن الِاسْتِعْمَال مَنْسُوب إِلَى الْإِنَاء كُله
تَنْبِيه مرجع الْكبر والصغر الْعرف
فَإِن شكّ فِي كبرها فَالْأَصْل الْإِبَاحَة قَالَه فِي الْمَجْمُوع
وَخرج بِالْفِضَّةِ الذَّهَب فَلَا يحل اسْتِعْمَال إِنَاء ضبب بِذَهَب سَوَاء أَكَانَ مَعَه غَيره أم لَا
لِأَن الْخُيَلَاء فِي الذَّهَب أَشد من الْفضة وبالطاهر النَّجس كالمتخذ من ميتَة فَيحرم اسْتِعْمَاله فِيمَا ينجس بِهِ كَمَاء قَلِيل ومائع لَا فِيمَا لَا ينجس بِهِ كَمَاء كثير أَو غَيره مَعَ الْجَفَاف
فروع (تسمير الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فِي الْإِنَاء) كالتضبيب فَيَأْتِي فِيهِ التَّفْصِيل السَّابِق بِخِلَاف طرحها فِيهِ فَلَا يحرم بِهِ اسْتِعْمَال الْإِنَاء مُطلقًا وَلَا يكره وَكَذَا لَو شرب بكفه وَفِي إصبعه خَاتم أَو فِي فَمه دَرَاهِم أَو شرب بكفيه وَفِيهِمَا دَرَاهِم
(القَوْل فِي حكم اسْتِعْمَال أواني الْكفَّار وأشباههم) وَيجوز اسْتِعْمَال أواني الْمُشْركين إِن كَانُوا لَا يتعبدون بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَة كَأَهل الْكتاب فَهِيَ كآنية الْمُسلمين لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ من مزادة مُشركَة وَلَكِن يكره اسْتِعْمَالهَا لعدم تحرزهم فَإِن كَانُوا يتدينون بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَة كطائفة من الْمَجُوس(1/33)
يغتسلون بأبوال الْبَقر تقربا فَفِي جَوَاز اسْتِعْمَالهَا وَجْهَان أخذا من الْقَوْلَيْنِ فِي تعَارض الأَصْل وَالْغَالِب وَالأَصَح الْجَوَاز لَكِن يكره اسْتِعْمَال أوانيهم وملبوسهم وَمَا يَلِي أسافلهم أَي مِمَّا يَلِي الْجلد أَشد وأواني مَائِهِمْ أخف وَيجْرِي الْوَجْهَانِ فِي أواني مدمني الْخمر والقصابين الَّذين لَا يحترزون من النَّجَاسَة وَالأَصَح الْجَوَاز أَي مَعَ الْكَرَاهَة أخذا مِمَّا مر
(فصل فِي السِّوَاك)
وَهُوَ بِكَسْر السِّين مُشْتَقّ من ساك إِذا دلك
(والسواك) لُغَة الدَّلْك وآلته وَشرعا اسْتِعْمَال عود من أَرَاك أَو نَحوه
كأشنان فِي الْأَسْنَان وَمَا حولهَا لإذهاب التَّغَيُّر وَنَحْوه واستعماله (مُسْتَحبّ فِي كل حَال) مُطلقًا كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ عِنْد الصَّلَاة وَغَيرهَا لصِحَّة الْأَحَادِيث فِي اسْتِحْبَابه كل وَقت
(إِلَّا بعد الزَّوَال) أَي زَوَال الشَّمْس وَهُوَ ميلها عَن كبد السَّمَاء فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكره تَنْزِيها اسْتِعْمَاله (للصَّائِم) وَلَو نفلا لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لخلوف الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك
والخلوف بِضَم الْخَاء تغير رَائِحَة الْفَم وَالْمرَاد بِهِ الخلوف بعد الزَّوَال لخَبر أَعْطَيْت أمتِي فِي شهر رَمَضَان خمْسا ثمَّ قَالَ وَأما الثَّانِيَة فَإِنَّهُم يمسون وخلوف أَفْوَاههم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك والمساء بعد الزَّوَال وأطيبية الخلوف تدل على طلب إبقائه فَكرِهت إِزَالَته وتزول الْكَرَاهَة بالغروب لِأَنَّهُ لَيْسَ بصائم الْآن وَيُؤْخَذ من ذَلِك أَن من وَجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك لعَارض كمن نسي نِيَّة الصَّوْم لَيْلًا لَا يكره لَهُ السِّوَاك بعد الزَّوَال وَهُوَ كَذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ بصائم حَقِيقَة وَالْمعْنَى فِي اختصاصها بِمَا بعد الزَّوَال أَن تغير الْفَم بِالصَّوْمِ إِنَّمَا يظْهر حِينَئِذٍ قَالَه الرَّافِعِيّ وَيلْزم من ذَلِك كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيّ أَن يفرقُوا بَين من تسحر أَو تنَاول فِي اللَّيْل شَيْئا أم لَا فَيكْرَه للمواصل قبل الزَّوَال وَأَنه لَو تغير فَمه بِأَكْل أَو نَحوه(1/34)
نَاسِيا بعد الزَّوَال أَنه لَا يكره لَهُ السِّوَاك وَهُوَ كَذَلِك
قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم يكره أَن يزِيد طول السِّوَاك على شبر وَاسْتحبَّ بَعضهم أَن يَقُول فِي أَوله اللَّهُمَّ بيض بِهِ أسناني وَشد بِهِ لثاتي وَثَبت بِهِ لهاتي وَبَارك لي فِيهِ يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ
قَالَ النَّوَوِيّ وَهَذَا لَا بَأْس بِهِ
(القَوْل فِي كَيْفيَّة الاستياك) وَيسن أَن يكون السِّوَاك فِي عرض الْأَسْنَان ظَاهرا وَبَاطنا فِي طول الْفَم لخَبر إِذا استكتم فاستاكوا عرضا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مراسيله ويجزىء طولا لَكِن مَعَ الْكَرَاهَة
نعم يسن أَن يستاك فِي اللِّسَان طولا كَمَا ذكره ابْن دَقِيق الْعِيد
(القَوْل فِي آلَة السِّوَاك) وَيحصل بِكُل خشن يزِيل القلح كعود من أَرَاك أَو غَيره أَو خرقَة أَو أشنان لحُصُول الْمَقْصُود بذلك لَكِن الْعود أولى من غَيره
والأراك أولى من غَيره من العيدان واليابس المندى بِالْمَاءِ أولى من الرطب وَمن الْيَابِس الَّذِي لم يند وَمن الْيَابِس المندى بِغَيْر المَاء كَمَاء الْورْد وعود النّخل أولى من غير الْأَرَاك كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع
وَيسن غسله للاستياك ثَانِيًا إِذا حصل عَلَيْهِ وسخ أَو ريح أَو نَحوه كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَلَا يَكْفِي الاستياك بِأُصْبُعِهِ وَإِن كَانَت خشنة لِأَنَّهُ لَا يُسمى استياكا هَذَا إِذا كَانَت مُتَّصِلَة فَإِن كَانَت مُنْفَصِلَة وَهِي خشنة أَجْزَأت إِن قُلْنَا بطهارتها وَهُوَ الْأَصَح
وَيسن أَن يستاك باليمنى من يمنى فَمه لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب التَّيَامُن مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنه كُله فِي طهوره وَترَجله وتنعله وسواكه
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
(القَوْل فِي مَوَاضِع تَأَكد السِّوَاك) (وَهُوَ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع) أَي أَحْوَال (أَشد اسْتِحْبَابا) أَحدهَا (عِنْد تغير) الْفَم وَقَوله (من أزم) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الزَّاي وَهُوَ السُّكُوت أَو الْإِمْسَاك عَن الْأكل
(و) من (غَيره) أَي الأزم كثوم وَأكل ذِي ريح كريه (و) ثَانِيهَا (عِنْد الْقيام من النّوم) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ من النّوم يشوص فَاه أَي يدلكه بِالسِّوَاكِ (و) ثَالِثهَا (عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة) وَلَو نفلا وَلكُل رَكْعَتَيْنِ من نَحْو التَّرَاوِيح أَو لمتيمم أَو لفاقد الطهُورَيْنِ وَصَلَاة الْجِنَازَة وَلَو لم يكن الْفَم متغيرا أَو استاك فِي وضوئها لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة أَي أَمر إِيجَاب وَلخَبَر رَكْعَتَانِ بسواك أفضل من سبعين رَكْعَة بِلَا سواك رَوَاهُ الْحميدِي بِإِسْنَاد جيد وكما يتَأَكَّد فِيمَا ذكر يتَأَكَّد أَيْضا للْوُضُوء لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل وضوء أَي أَمر إِيجَاب وَمحله فِي الْوضُوء على مَا قَالَه ابْن الصّلاح وَابْن النَّقِيب فِي عمدته بعد غسل الْكَفَّيْنِ وَكَلَام الإِمَام وَغَيره يمِيل إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَإِن قَالَ الْغَزالِيّ كالماوردي مَحَله قبل التَّسْمِيَة ولقراءة قُرْآن أَو حَدِيث أَو علم شَرْعِي وَلذكر الله تَعَالَى ولنوم ولدخول منزل وَعند الاحتضار وَيُقَال إِنَّه يسهل خُرُوج الرّوح وَفِي السحر وللأكل وَبعد الْوتر وللصائم قبل وَقت الخلوف
فَائِدَة من فَوَائِد السِّوَاك أَنه يطهر الْفَم ويرضي الرب ويبيض الْأَسْنَان ويطيب النكهة وَيُسَوِّي الظّهْر ويشد اللثة ويبطىء(1/35)
الشيب ويصفي الْخلقَة ويذكي الفطنة ويضاعف الْأجر ويسهل النزع كَمَا مر وَيذكر الشَّهَادَة عِنْد الْمَوْت
وَيسن التَّخْلِيل قبل السِّوَاك وَبعده وَمن أثر الطَّعَام وَكَون الْخلال من عود السِّوَاك وَيكرهُ بالحديد وَنَحْوه
(فصل فِي الْوضُوء)
وَهُوَ بِضَم الْوَاو اسْم للْفِعْل وَهُوَ اسْتِعْمَال المَاء فِي أَعْضَاء مَخْصُوصَة وَهُوَ المُرَاد هُنَا وَبِفَتْحِهَا اسْم للْمَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ وَهُوَ مَأْخُوذ من الْوَضَاءَة وَهِي الْحسن والنظافة والضياء من ظلمَة الذُّنُوب
وَأما فِي الشَّرْع فَهُوَ أَفعَال مَخْصُوصَة مفتتحة بِالنِّيَّةِ
قَالَ الإِمَام وَهُوَ تعبدي لَا يعقل مَعْنَاهُ لِأَن فِيهِ مسحا وَلَا تنظيف فِيهِ وَكَانَ وُجُوبه مَعَ وجوب الصَّلَوَات الْخمس كَمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه
وَفِي مُوجبه أوجه أَحدهَا الْحَدث وجوبا موسعا
ثَانِيهَا الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَنَحْوهَا
ثَالِثهَا هما وَهُوَ الْأَصَح كَمَا فِي التَّحْقِيق وَشرح مُسلم
وَله شُرُوط وفروض وَسنَن
(القَوْل فِي شُرُوط الْوضُوء وَالْغسْل) فشروطه وَكَذَا الْغسْل مَاء مُطلق وَمَعْرِفَة أَنه مُطلق وَلَو ظنا وَعدم الْحَائِل وجري المَاء على الْعُضْو وَعدم الْمنَافِي من نَحْو حيض ونفاس فِي غير أغسال الْحَج وَنَحْوهَا
وَمَسّ ذكر وَعدم الصَّارِف ويعبر عَنهُ بدوام النِّيَّة وَإِسْلَام وتمييز وَمَعْرِفَة كَيْفيَّة الْوضُوء كَنَظِيرِهِ الْآتِي فِي الصَّلَاة وَأَن يغسل مَعَ المغسول جُزْءا يتَّصل بالمغسول ويحيط بِهِ ليتَحَقَّق بِهِ اسْتِيعَاب المغسول وَتحقّق الْمُقْتَضِي للْوُضُوء فَلَو شكّ هَل أحدث أم لَا لم يَصح وضوءه على الْأَصَح وَأَن يغسل مَعَ المغسول مَا هُوَ مشتبه بِهِ فَلَو خلق لَهُ(1/36)
وَجْهَان أَو يدان أَو رجلَانِ واشتبه الْأَصْلِيّ بِالزَّائِدِ وَجب غسل الْجَمِيع
(القَوْل فِيمَا يخْتَص بِهِ صَاحب الضَّرُورَة) وَيزِيد وضوء صَاحب الضَّرُورَة بِاشْتِرَاط دُخُول الْوَقْت وَلَو ظنا وَتقدم الِاسْتِنْجَاء والتحفظ حَيْثُ احْتِيجَ إِلَيْهِ وبالموالاة بَينهمَا وَبَين الْوضُوء
(القَوْل فِي فروض الْوضُوء) وَأما فروضه فَذكرهَا بقوله (وفروض الْوضُوء) جمع فرض وَهُوَ وَالْوَاجِب مُتَرَادِفَانِ إِلَّا فِي بعض أَحْكَام الْحَج كَمَا ستعرفه إِن شَاءَ الله تَعَالَى هُنَاكَ
وَقَوله (سِتَّة) خبر فروض زَاد بَعضهم سابعا وَهُوَ المَاء الطّهُور
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَالصَّوَاب أَنه شَرط كَمَا مر
وَاسْتشْكل بعد التُّرَاب ركنا فِي التَّيَمُّم
وَأجِيب بِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة ضَرُورَة
الأول من الْفُرُوض (النِّيَّة) لرفع حدث عَلَيْهِ أَي رفع حكمه لِأَن الْوَاقِع لَا يرْتَفع وَذَلِكَ كَحُرْمَةِ الصَّلَاة وَلَو لماسح الْخُف لِأَن الْقَصْد من الْوضُوء رفع الْمَانِع فَإِذا نَوَاه فقد تعرض للمقصود وَخرج بقولنَا عَلَيْهِ مَا لَو نوى غَيره كَأَن بَال وَلم ينم فَنوى رفع حدث النّوم فَإِن كَانَ عَامِدًا لم يَصح أَو غالطا صَحَّ
وَضَابِط مَا يضر الْغَلَط فِيهِ وَمَا لَا يضر كَمَا ذكره القَاضِي وَغَيره أَن مَا يعْتَبر التَّعَرُّض لَهُ جملَة وتفصيلا أَو جملَة لَا تَفْصِيلًا يضر الْغَلَط فِيهِ فَالْأول كالغلط من الصَّوْم إِلَى الصَّلَاة وَعَكسه وَالثَّانِي كالغلط فِي تعْيين الإِمَام وَمَا لَا يجب التَّعَرُّض لَهُ لَا جملَة وَلَا تَفْصِيلًا لَا يضر الْغَلَط فِيهِ كالخطأ هُنَا
وَفِي تعْيين الْمَأْمُوم حَيْثُ لم يجب التَّعَرُّض للْإِمَامَة أما إِذا وَجب التَّعَرُّض لَهَا كإمام الْجُمُعَة فَإِنَّهُ يضر
وَالْأَصْل فِي وجوب النِّيَّة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا الْأَعْمَال(1/37)
بِالنِّيَّاتِ أَي الْأَعْمَال المعتد بهَا شرعا
(القَوْل فِي مَقَاصِد النِّيَّة) وحقيقتها لُغَة الْقَصْد وَشرعا قصد الشَّيْء مقترنا بِفِعْلِهِ
وَحكمهَا الْوُجُوب كَمَا علم مِمَّا مر
ومحلها الْقلب
وَالْمَقْصُود بهَا تَمْيِيز الْعِبَادَات عَن الْعَادَات كالجلوس فِي الْمَسْجِد للاعتكاف تَارَة وللاستراحة أُخْرَى أَو تَمْيِيز رتبتها كَالصَّلَاةِ تكون للْفَرض تَارَة وللنفل أُخْرَى
وَشَرطهَا إِسْلَام الناوي وتمييزه وَعلمه بالمنوي وَعدم إِتْيَانه بِمَا ينافيها بِأَن يستصحبها حكما وَأَن لَا تكون معلقَة فَلَو قَالَ إِن شَاءَ الله فَإِن قصد التَّعْلِيق أَو أطلق لم تصح وَإِن قصد التَّبَرُّك صحت
ووقتها أول الْفُرُوض كأول غسل جُزْء من الْوَجْه وَإِنَّمَا لم يوجبوا الْمُقَارنَة فِي الصَّوْم لعسر مراقبة الْفجْر وتطبيق النِّيَّة عَلَيْهِ
وكيفيتها تخْتَلف بِحَسب الْأَبْوَاب فَيَكْفِي هُنَا نِيَّة رفع حدث كَمَا مر أَو نِيَّة اسْتِبَاحَة شَيْء مفتقر إِلَى وضوء كَالصَّلَاةِ وَالطّواف وَمَسّ الْمُصحف لِأَن رفع الْحَدث إِنَّمَا يطْلب لهَذِهِ الْأَشْيَاء فَإِذا نَوَاهَا فقد نوى غَايَة الْقَصْد أَو أَدَاء فرض الْوضُوء أَو فرض الْوضُوء وَإِن كَانَ المتوضىء صَبيا أَو أَدَاء الْوضُوء أَو الْوضُوء فَقَط لتعرضه للمقصود فَلَا يشْتَرط التَّعَرُّض للفرضية كَمَا لَا يشْتَرط فِي الْحَج وَالْعمْرَة وَصَوْم رَمَضَان
(النِّيَّة فِي الْوضُوء المجدد) تَنْبِيه مَا تقرر من الْأُمُور السَّابِقَة مَحَله فِي الْوضُوء غير المجدد أما المجدد فَالْقِيَاس عدم الِاكْتِفَاء فِيهِ بنية الرّفْع أَو الاستباحة
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَقد يُقَال يَكْتَفِي بهَا كَالصَّلَاةِ الْمُعَادَة غير أَن ذَلِك مُشكل خَارج عَن الْقَوَاعِد فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ
قَالَ ابْن الْعِمَاد وتخريجه على الصَّلَاة لَيْسَ بِبَعِيد لِأَن قَضِيَّة التَّجْدِيد أَن يُعِيد الشَّيْء بِصفتِهِ الأولى انْتهى
وَالْأول أولى لِأَن الصَّلَاة اخْتلف فِيهَا هَل فَرْضه الأولى أَو الثَّانِيَة وَلم يقل أحد فِي الْوضُوء فِيمَا علمت بذلك وَإِنَّمَا اكْتفي بنية الْوضُوء فَقَط دون نِيَّة الْغسْل لِأَن الْوضُوء لَا يكون إِلَّا عبَادَة فَلَا يُطلق على غَيرهَا بِخِلَاف الْغسْل فَإِنَّهُ يُطلق على غسل الْجَنَابَة وَغسل النَّجَاسَة وَغَيرهمَا
وَلَو نوى الطَّهَارَة عَن الْحَدث صَحَّ فَإِن لم يقل عَن الْحَدث لم يَصح على الصَّحِيح كَمَا فِي زَوَائِد الرَّوْضَة وَعلله فِي الْمَجْمُوع بِأَن الطَّهَارَة قد تكون عَن حدث وَقد تكون عَن خبث فَاعْتبر التَّمْيِيز وَمن دَامَ حَدثهُ كمستحاضة وَمن بِهِ سَلس بَوْل أَو ريح كَفاهُ نِيَّة الاستباحة الْمُتَقَدّمَة دون نِيَّة الرّفْع الْمَار لبَقَاء حَدثهُ وَينْدب لَهُ الْجمع بَينهمَا خُرُوجًا من خلاف من أوجبه لتَكون نِيَّة الرّفْع للْحَدَث السَّابِق وَنِيَّة الاستباحة أَو نَحْوهَا للاحق
وَبِهَذَا ينْدَفع مَا قيل إِنَّه قد جمع فِي نِيَّته بَين مُبْطل وَغَيره ويكفيه أَيْضا نِيَّة الْوضُوء وَنَحْوهَا مِمَّا تقدم كَمَا صرح بِهِ فِي الْحَاوِي الصَّغِير
(القَوْل فِي نِيَّة دَائِم الْحَدث) تَنْبِيه حكم نِيَّة دَائِم الْحَدث فِيمَا يستبيحه من الصَّلَوَات الْخمس وَغَيرهَا حكم نِيَّة الْمُتَيَمم
كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ هُنَا وأغفله(1/38)
فِي الرَّوْضَة
وَسَيَأْتِي بسط ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي التَّيَمُّم وَلَا يشْتَرط فِي النِّيَّة الْإِضَافَة إِلَى الله تَعَالَى لَكِن تسْتَحب كَمَا فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا وَلَو تَوَضَّأ الشاك بعد وضوئِهِ فِي حَدثهُ احْتِيَاطًا فَبَان مُحدثا لم يجزه للتردد فِي النِّيَّة بِلَا ضَرُورَة كَمَا لَو قضى فَائِتَة الظّهْر مثلا شاكا فِي أَنَّهَا عَلَيْهِ ثمَّ بَان أَنَّهَا عَلَيْهِ لم يكف أما إِذا لم يتَبَيَّن حَدثهُ فَإِنَّهُ يُجزئهُ للضَّرُورَة وَلَو تَوَضَّأ الشاك وجوبا بِأَن شكّ بعد حَدثهُ فِي وضوئِهِ فَتَوَضَّأ أَجزَأَهُ وَإِن كَانَ مترددا لِأَن الأَصْل بَقَاء الْحَدث بل لَو نوى فِي هَذِه الْحَالة إِن كَانَ مُحدثا فَمن حَدثهُ وَإِلَّا فتجديد صَحَّ أَيْضا كَمَا فِي الْمَجْمُوع
(القَوْل فِي حكم من نوى التبرد مَعَ الْوضُوء) وَمن نوى بوضوئه تبردا أَو شَيْئا يحصل بِدُونِ قصد كتنظيف وَلَو فِي أثْنَاء وضوئِهِ مَعَ نِيَّة مُعْتَبرَة أَي مستحضرا عِنْد نِيَّة التبرد أَو نَحوه نِيَّة الْوضُوء أَجزَأَهُ لحُصُول ذَلِك من غير نِيَّة كمصل نوى الصَّلَاة وَدفع الْغَرِيم فَإِنَّهَا تُجزئه لِأَن اشْتِغَاله عَن الْغَرِيم لَا يفْتَقر إِلَى نِيَّة فَإِن فقدت النِّيَّة الْمُعْتَبرَة كَأَن نوى التبرد وَقد غفل عَنْهَا لم يَصح غسل مَا غسله بنية التبرد وَنَحْوه وَيلْزمهُ إِعَادَته دون اسْتِئْنَاف الطَّهَارَة
تَنْبِيه هَذَا بِالنِّسْبَةِ للصِّحَّة أما الثَّوَاب فَقَالَ الزَّرْكَشِيّ الظَّاهِر عدم حُصُوله
وَقد اخْتَار الْغَزالِيّ فِيمَا إِذا شرك فِي الْعِبَادَة غَيرهَا من أَمر دُنْيَوِيّ اعْتِبَار الْبَاعِث على الْعَمَل فَإِن كَانَ الْقَصْد الدنيوي هُوَ الْأَغْلَب لم يكن فِيهِ أجر
وَإِن كَانَ الْقَصْد الديني أغلب فَلهُ بِقَدرِهِ وَإِن تَسَاويا تساقطا
وَاخْتَارَ ابْن عبد السَّلَام أَنه لَا أجر فِيهِ مُطلقًا سَوَاء تساوى القصدان أم اخْتلفَا
انْتهى وَكَلَام الْغَزالِيّ هُوَ الظَّاهِر وَهُوَ الْمُعْتَمد وَإِذا بَطل وضوءه فِي أَثْنَائِهِ بِحَدَث أَو غَيره قَالَ فِي الْمَجْمُوع عَن الرَّوْيَانِيّ يحْتَمل أَن يُثَاب على الْمَاضِي كَمَا فِي الصَّلَاة أَو يُقَال إِن بَطل بِاخْتِيَارِهِ فَلَا أَو بِغَيْر اخْتِيَاره فَنعم
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا ثَوَاب لَهُ بِحَال لِأَنَّهُ مُرَاد لغيره بِخِلَاف الصَّلَاة
اه
وَالْأَوْجه التَّفْصِيل فِي الْوضُوء وَالصَّلَاة وَيبْطل بِالرّدَّةِ التَّيَمُّم وَنِيَّة الْوضُوء وَالْغسْل وَلَو نوى قطع الْوضُوء انْقَطَعت النِّيَّة فيعيدها للْبَاقِي وَلَو نوى بوضوئه مَا ينْدب لَهُ وضوء كَقِرَاءَة الْقُرْآن أَو الحَدِيث لم يُجزئهُ لِأَنَّهُ مُبَاح مَعَ الْحَدث فَلَا يتَضَمَّن قَصده قصد رفع الْحَدث فَلَو نَوَاه مَعَ نِيَّة مُعْتَبرَة يَنْبَغِي أَنه يَكْفِي كَمَا لَو نوى التبرد مَعَ نِيَّة مُعْتَبرَة وَقد وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي الْفَتَاوَى وَلم أر من تعرض لَهَا
فروع لَو نوى أَن يُصَلِّي بوضوئه وَلَا يُصَلِّي بِهِ لم يَصح وضوءه لتلاعبه وتناقضه وَكَذَا لَو نوى بِهِ الصَّلَاة بمَكَان نجس وَلَو نسي لمْعَة فِي وضوئِهِ أَو غسله فانغسلت فِي الغسلة الثَّانِيَة أَو الثَّالِثَة بنية التَّنَفُّل أَو فِي إِعَادَة وضوء أَو غسل لنسيان لَهُ أَجزَأَهُ بِخِلَاف مَا لَو انغسلت فِي تَجْدِيد وضوء فَإِنَّهُ لَا يجزىء لِأَنَّهُ طهر مُسْتَقْبل بنية لم تتَوَجَّه لرفع الْحَدث أصلا
(القَوْل فِي وَقت نِيَّة الْوضُوء) وَيجب أَن تكون (عِنْد) أول (غسل) أَي مغسول من أَجزَاء (الْوَجْه) لتقترن بِأول الْفَرْض كَالصَّلَاةِ وَغَيرهَا من الْعِبَادَات مَا عدا(1/39)
الصَّوْم فَلَا يَكْفِي اقترانها بِمَا بعد الْوَجْه قطعا لخلو أول المغسول وجوبا عَنْهَا
وَلَا بِمَا قبله من السّنَن إِذْ الْمَقْصُود من الْعِبَادَات أَرْكَانهَا وَالسّنَن تَوَابِع لَهَا
هَذَا إِذْ عزبت النِّيَّة قبل غسل شَيْء من الْوَجْه فَإِن بقيت إِلَى غسل شَيْء مِنْهُ كفى بل هُوَ أفضل ليثاب على السّنَن السَّابِقَة لِأَنَّهَا إِذا خلت عَن النِّيَّة لم يحصل ثَوَابهَا
وَلَو اقترنت النِّيَّة بالمضمضة أَو الِاسْتِنْشَاق وانغسل مَعَه جُزْء من الْوَجْه أَجزَأَهُ وَإِن عزبت النِّيَّة بعده سَوَاء أغسله بنية الْوَجْه وَهُوَ ظَاهر أم لَا لوُجُود غسل جُزْء من الْوَجْه مَقْرُونا بِالنِّيَّةِ لَكِن يجب إِعَادَة غسل الْجُزْء مَعَ الْوَجْه على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة لوُجُود الصَّارِف وَلَا تجزىء الْمَضْمَضَة وَلَا الِاسْتِنْشَاق فِي الشق الأول لعدم تقدمهما على غسل الْوَجْه قَالَه القَاضِي مجلي فالنية لم تقترن بمضمضة وَلَا استنشاق حَقِيقَة وَلَو وجدت النِّيَّة فِي أثْنَاء غسل الْوَجْه دون أَوله كفت وَوَجَب إِعَادَة المغسول مِنْهُ قبلهَا فوجوبها عِنْد أول غسل جُزْء مِنْهُ ليعتد بِهِ وَيفهم مِنْهُ أَنه لَا يجب اسْتِصْحَاب النِّيَّة إِلَى آخر الْوضُوء لَكِن مَحَله فِي الِاسْتِصْحَاب الذكري
أما الْحكمِي وَهُوَ أَن لَا يَنْوِي قطعهَا وَلَا يَأْتِي بِمَا ينافيها كالردة فَوَاجِب كَمَا علم مِمَّا مر وَله تَفْرِيق النِّيَّة على أَعْضَاء الْوضُوء بِأَن يَنْوِي عِنْد كل عُضْو رفع الْحَدث عَنهُ كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ لِأَنَّهُ يجوز تَفْرِيق أَفعاله فَكَذَلِك يجوز تَفْرِيق النِّيَّة على أَفعاله وَهل تَنْقَطِع النِّيَّة بنوم مُمكن وَجْهَان أوجهها
لَا وَالْحَدَث الْأَصْغَر لَا يحل كل الْبدن بل أَعْضَاء الْوضُوء خَاصَّة كَمَا صَححهُ فِي التَّحْقِيق وَالْمَجْمُوع وَإِنَّمَا لم يجز مس الْمُصحف بغَيْرهَا لِأَن شَرط الماس أَن يكون مطهرا ويرتفع حدث كل عُضْو بِمُجَرَّد غسله(1/40)
(و) الثَّانِي من الْفُرُوض (غسل) ظَاهر كل (الْوَجْه) لقَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} وللإجماع وَالْمرَاد بِالْغسْلِ الانغسال سَوَاء كَانَ بِفعل المتوضىء أم بِغَيْرِهِ وَكَذَا الحكم فِي سَائِر الْأَعْضَاء
(القَوْل فِي حد الْوَجْه طولا وعرضا) الْوَجْه وحد طولا مَا بَين منابت شعر رَأسه وَتَحْت مُنْتَهى لحييْهِ وهما بِفَتْح اللَّام على الْمَشْهُور العظمان اللَّذَان تنْبت عَلَيْهِمَا الْأَسْنَان السُّفْلى وعرضا مَا بَين أُذُنَيْهِ لِأَن الْوَجْه مَا تقع بِهِ المواجهة وَهِي تقع بذلك
وَخرج بِظَاهِر دَاخل الْأنف والفم وَالْعين فَإِنَّهُ لَا يجب غسل ذَلِك قطعا وَإِن انفتحا بِقطع جفن أَو شفة لِأَن ذَلِك فِي حكم الْبَاطِن وَلَا يشكل ذَلِك بِمَا لَو سلخ جلدَة الْوَجْه فَإِنَّهُ يجب غسل مَا ظهر مِنْهُ لِأَن هَذَا من مَحل مَا يجب غسله فَكَانَ بَدَلا بِخِلَاف مَا ذكره فَإِنَّهُ لَيْسَ بَدَلا عَن شَيْء مَعَ أَنه يُمكن غسله قبل إِزَالَة مَا ذكر فَلَا يجب غسله بعد إِزَالَته وَهُوَ ظَاهر وَلَا يسن غسل دَاخل الْعين وَلَكِن يجب غسل ذَلِك إِن تنجس وَالْفرق غلظ النَّجَاسَة بِدَلِيل أَنَّهَا لَا تزَال عَن الشَّهِيد إِذا كَانَت من غير دم الشَّهَادَة أما مآق الْعين فَيغسل بِلَا خلاف فَإِن كَانَ عَلَيْهِ مَا يمْنَع وُصُول المَاء إِلَى الْمحل الْوَاجِب كالرماص وَجَبت إِزَالَته وَغسل مَا تَحْتَهُ وبمنابت شعر رَأسه الأصلع وَهُوَ من انحسر الشّعْر عَن ناصيته فَإِنَّهُ لَا يلْزمه غسلهَا وَدخل مَوضِع الغمم فَإِنَّهُ من الْوَجْه لحُصُول المواجهة بِهِ وَهُوَ مَا ينْبت عَلَيْهِ الشّعْر من الْجَبْهَة والغمم أَن يسيل الشّعْر حَتَّى تضيق الْجَبْهَة والقفا يُقَال رجل أغم وَامْرَأَة غماء وَالْعرب تذم بِهِ وتمدح بالنزع لِأَن الغمم يدل على البلادة والجبن وَالْبخل والنزع بضد ذَلِك(1/41)
تَنْبِيه مُنْتَهى اللحيين من الْوَجْه كَمَا تقرر وَأما مَوضِع التحذيف فَمن الرَّأْس لاتصال شعره بِشعر الرَّأْس وَهُوَ مَا ينْبت عَلَيْهِ الشّعْر الْخَفِيف بَين ابْتِدَاء العذار والنزعة سمي بذلك لِأَن النِّسَاء والأشراف يحذفون الشّعْر عَنهُ ليتسع الْوَجْه
وضابطه كَمَا قَالَ الإِمَام أَن يضع طرف خيط على رَأس الْأذن والطرف الثَّانِي على أَعلَى الْجَبْهَة ويفرض هَذَا الْخَيط مُسْتَقِيمًا فَمَا نزل عَنهُ إِلَى جَانب الْوَجْه فَهُوَ مَوضِع التحذيف وَمن الرَّأْس أَيْضا النزعتان وهما بياضان يكتنفان الناصية وَهُوَ مقدم الرَّأْس من أَعلَى الجبين والصدغان وهما فَوق الْأُذُنَيْنِ متصلان بالعذارين لدخولهما فِي تدوير الرَّأْس وَيسن غسل مَوضِع الصلع والتحذيف والنزعتين والصدغين مَعَ الْوَجْه للْخلاف فِي وُجُوبهَا فِي غسله
وَيجب غسل جُزْء من الرَّأْس وَمن الْحلق وَمن تَحت الحنك وَمن الْأُذُنَيْنِ وَمن الْوَجْه الْبيَاض الَّذِي بَين العذار وَالْأُذن لدُخُوله فِي حَده وَمَا ظهر من حمرَة الشفتين وَمن الْأنف بالجدع
(القَوْل فِي الْكَلَام على شُعُور الْوَجْه) وَيجب غسل كل هدب وَهُوَ الشّعْر النَّابِت على أجفان الْعين وحاجب وَهُوَ الشّعْر النَّابِت على أَعلَى الْعين سمي بذلك لِأَنَّهُ يحجب عَن الْعين شُعَاع الشَّمْس وعذار وَهُوَ الشّعْر النَّابِت المحاذي للأذن بَين الصدغ والعارض وشارب وَهُوَ الشّعْر النَّابِت على الشّفة الْعليا سمي بذلك لملاقاته الْإِنْسَان عِنْد الشّرْب وَشعر نابت على الخد وعنفقة وَهُوَ الشّعْر النَّابِت على الشّفة السُّفْلى أَي يجب غسل ذَلِك ظَاهرا وَبَاطنا وَإِن كثف الشّعْر لِأَن كثافته نادرة فَألْحق بالغالب واللحية من الرجل وَهِي بِكَسْر اللَّام الشّعْر النَّابِت على الذقن خَاصَّة وَهِي مَجْمُوع اللحيين إِن خفت وَجب غسل ظَاهرهَا وباطنها وَإِن كثفت وَجب غسل ظَاهرهَا وَلَا يجب غسل بَاطِنهَا لعسر إِيصَال المَاء إِلَيْهِ مَعَ الكثافة غير النادرة وَلما روى البُخَارِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فغرف غرفَة غسل بهَا وَجهه وَكَانَت لحيته الْكَرِيمَة كثيفة
وبالغرفة الْوَاحِدَة لَا يصل المَاء إِلَى ذَلِك غَالِبا فَإِن خف بَعْضهَا وكثف بَعْضهَا وتميز فَلِكُل حكمه فَإِن لم يتَمَيَّز بِأَن كَانَ الكثيف مُتَفَرقًا بَين أثْنَاء الْخَفِيف وَجب غسل الْكل كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ لِأَن إِفْرَاد الكثيف بِالْغسْلِ يشق وإمرار المَاء على الْخَفِيف لَا يجزىء وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وَإِن قَالَ فِي الْمَجْمُوع مَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ خلاف مَا قَالَه الْأَصْحَاب
وَالشعر الكثيف مَا يستر الْبشرَة عَن الْمُخَاطب بِخِلَاف الْخَفِيف والعارضان وهما المنحطان عَن الْقدر المحاذي للأذن كاللحية فِي جَمِيع مَا ذكر وَخرج بِالرجلِ الْمَرْأَة فَيجب غسل ذَلِك مِنْهَا ظَاهرا وَبَاطنا وَإِن كثف لندرة كثافتها وَمثلهَا الْخُنْثَى وَيجب غسل سلْعَة نَبتَت فِي الْوَجْه وَإِن خرجت عَن حَده لحُصُول المواجهة بهَا
وَاعْلَم أَن هَذَا التَّفْصِيل الْمَذْكُور فِي شُعُور الْوَجْه إِذا كَانَ(1/42)
فِي حَده أما الْخَارِج عَنهُ فَيجب غسل ظَاهرهَا وباطنها مُطلقًا إِن خفت كَمَا فِي الْعباب وظاهرها فَقَط مُطلقًا إِن كثفت كَمَا فِي الرَّوْضَة وَبَعْضهمْ قرر فِي هَذِه الشُّعُور خلاف ذَلِك فاحذره
تَنْبِيه من لَهُ وَجْهَان وَكَانَ الثَّانِي مسامتا للْأولِ وَجب عَلَيْهِ غسلهمَا كاليدين على عُضْو وَاحِد أَو رأسان كفى مسح بعض أَحدهمَا وَالْفرق أَن الْوَاجِب فِي الْوَجْه غسل جَمِيعه فَيجب عَلَيْهِ غسل جَمِيع مَا يُسمى وَجها وَفِي الرَّأْس مسح بعض مَا يُسمى رَأْسا وَذَلِكَ يحصل بِبَعْض أَحدهمَا ذكره فِي الْمَجْمُوع
(و) الثَّالِث من الْفُرُوض (غسل) جَمِيع (الْيَدَيْنِ) من كفيه وذراعيه (إِلَى) أَي مَعَ (الْمرْفقين) أَو قدرهما إِن فقدا لما رَوَاهُ مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة فِي صفة وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تَوَضَّأ فَغسل وَجهه فأسبغ الْوضُوء ثمَّ غسل يَده الْيُمْنَى حَتَّى أشرع فِي الْعَضُد ثمَّ الْيُسْرَى حَتَّى أشرع فِي الْعَضُد إِلَخ
وللاجماع وَلقَوْله تَعَالَى {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} وَإِلَى بِمَعْنى مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {من أَنْصَارِي إِلَى الله} أَي مَعَ الله
وَقَوله تَعَالَى {ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم} فَإِن قطع بعض مَا يجب غسله من الْيَدَيْنِ وَجب غسل مَا بَقِي مِنْهُ لِأَن الميسور لَا يسْقط بالمعسور وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم أَو قطع من مرفقيه بِأَن سل عظم الذِّرَاع وَبَقِي العظمان المسميان بِرَأْس الْعَضُد فَيجب غسل رَأس عظم الْعَضُد لِأَنَّهُ من الْمرْفق أَو قطع من فَوق الْمرْفق ندب غسل بَاقِي عضده كَمَا لَو كَانَ سليم الْيَد وَإِن قطع من مَنْكِبه ندب غسل مَحل الْقطع بِالْمَاءِ كَمَا نَص عَلَيْهِ وَيجب غسل شعر على الْيَدَيْنِ ظَاهرا وَبَاطنا وَإِن كثف لندرته وَغسل ظفر وَإِن طَال وَغسل بَاطِن ثقب وشقوق فيهمَا إِن لم يكن لَهُ غور فِي اللَّحْم وَإِلَّا وَجب غسل مَا ظهر مِنْهُ فَقَط وَيجْرِي هَذَا فِي سَائِر الْأَعْضَاء كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَام الْمَجْمُوع فِي بَاب صفة الْغسْل وَغسل يَد زَائِدَة إِن نَبتَت بِمحل الْفَرْض وَلَو من الْمرْفق كأصبع زَائِدَة وسلعة سَوَاء جَاوَزت الْأَصْلِيَّة أم لَا
وَإِن نَبتَت بِغَيْر مَحل الْفَرْض وَجب غسل مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَله لوُقُوع اسْم الْيَد عَلَيْهِ مَعَ محاذاته لمحل الْفَرْض بِخِلَاف مَا لم يحاذه فَإِن لم تتَمَيَّز الزَّائِدَة عَن الْأَصْلِيَّة بِأَن كَانَتَا أصليتين أَو إِحْدَاهمَا زَائِدَة وَلم تتَمَيَّز بِنَحْوِ فحش قصر وَنقص أَصَابِع وَضعف(1/43)
بَطش غسلهمَا وجوبا سَوَاء أخرجتا من الْمنْكب أم من غَيره ليتَحَقَّق إتْيَان الْفَرْض بِخِلَاف نَظِيره من السّرقَة تقطع إِحْدَاهمَا فَقَط كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي بَابهَا لِأَن الْوضُوء مبناه على الِاحْتِيَاط لِأَنَّهُ عبَادَة وَالْحَد مبناه على الدرء لِأَنَّهُ عُقُوبَة وتجري هَذِه الْأَحْكَام فِي الرجلَيْن وَإِن تدلت جلدَة الْعَضُد مِنْهُ لم يجب غسل شَيْء مِنْهَا لَا المحاذي وَلَا غَيره لِأَن اسْم الْيَد لَا يَقع عَلَيْهَا مَعَ خُرُوجهَا عَن مَحل الْفَرْض أَو تقلصت جلدَة الذِّرَاع مِنْهُ وَجب غسلهَا لِأَنَّهَا مِنْهُ وَإِن تدلت جلدَة أَحدهمَا من الآخر بِأَن تقلعت من أَحدهمَا وَبلغ التقلع إِلَى الآخر ثمَّ تدلت مِنْهُ فالاعتبار بِمَا انْتهى إِلَيْهِ تقلعها لَا بِمَا مِنْهُ تقلعها فَيجب غسلهَا فِيمَا إِذا بلغ تقلعها من الْعَضُد إِلَى الذِّرَاع دون مَا إِذا بلغ من الذِّرَاع إِلَى الْعَضُد لِأَنَّهَا صَارَت جُزْءا من مَحل الْفَرْض فِي الأول دون الثَّانِي وَلَو التصقت بعد تقلعها من أَحدهمَا بِالْآخرِ وَجب غسل محاذي الْفَرْض مِنْهَا دون غَيره ثمَّ إِن تجافت عَنهُ وَجب غسل مَا تحتهَا أَيْضا لندرته وَإِن سترته اكْتفى بِغسْل ظَاهرهَا وَلَا يجب فتقها فَلَو غسله ثمَّ زَالَت عَنهُ لزمَه غسل مَا ظهر من تحتهَا لِأَن الِاقْتِصَار على ظَاهرهَا كَانَ للضَّرُورَة وَقد زَالَت وَلَو تَوَضَّأ فَقطعت يَده أَو تثقبت لم يجب غسل مَا ظهر إِلَّا لحَدث فَيجب غسله كَالظَّاهِرِ أَصَالَة وَلَو عجز عَن الْوضُوء لقطع يَده مثلا وَجب عَلَيْهِ أَن يحصل من يوضئه وَلَو بِأُجْرَة مثل وَالنِّيَّة من الْآذِن فَإِن تعذر عَلَيْهِ ذَلِك تيَمّم وَصلى وَعَاد لندرة ذَلِك
(و) الرَّابِع من الْفُرُوض (مسح بعض الرَّأْس) بِمَا يُسمى مسحا وَلَو لبَعض بشرة رَأسه أَو بعض شَعْرَة وَلَو وَاحِدَة أَو بَعْضهَا فِي حد الرَّأْس بِأَن لَا يخرج بِالْمدِّ عَنهُ من جِهَة نُزُوله فَلَو خرج بِهِ عَنهُ مِنْهَا لم يكف حَتَّى لَو كَانَ متجعدا بِحَيْثُ لَو مد لخرج عَن الرَّأْس لم يكف الْمسْح عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {وامسحوا برؤوسكم}
وروى مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح بناصيته وعَلى عمَامَته
وَاكْتفى بمسح الْبَعْض فِيمَا ذكر لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم من الْمسْح عِنْد إِطْلَاقه وَلم يقل أحد بِوُجُوب خُصُوص الناصية وَهِي الشّعْر الَّذِي بَين النزعتين والاكتفاء بهَا يمْنَع وجوب الِاسْتِيعَاب وَيمْنَع وجوب التَّقْدِير بِالربعِ أَو أَكثر لِأَنَّهَا دونه وَالْبَاء إِذا دخلت على مُتَعَدد كَمَا فِي الْآيَة تكون للتَّبْعِيض أَو على غَيره كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} تكون للإلصاق
فَإِن قيل لَو غسل بشرة الْوَجْه وَترك الشّعْر أَو عَكسه لم يجزه فَهَلا كَانَ هُنَا كَذَلِك أُجِيب بِأَن كلا من الشّعْر والبشرة يصدق عَلَيْهِ مُسَمّى الرَّأْس عرفا إِذْ الرَّأْس اسْم لما رُؤْس وَعلا وَالْوَجْه مَا تقع بِهِ المواجهة وَهِي تقع على الشّعْر والبشرة مَعًا
فَإِن قيل هلا اكْتفى بِالْمَسْحِ على النَّازِل عَن حد الرَّأْس كَمَا اكْتفى بذلك للتقصير فِي النّسك(1/44)
أُجِيب بِأَن الماسح عَلَيْهِ غير ماسح على الرَّأْس والمأمور بِهِ فِي التَّقْصِير إِنَّمَا هُوَ شعر الرَّأْس وَهُوَ صَادِق بالنازل
وَيَكْفِي غسل بعض الرَّأْس لِأَنَّهُ مسح وَزِيَادَة وَوضع الْيَد عَلَيْهِ بِلَا مد لحُصُول الْمَقْصُود من وُصُول البلل إِلَيْهِ وَلَو قطر المَاء على رَأسه أَو تعرض للمطر وَإِن لم ينْو الْمسْح أَجزَأَهُ لما مر ويجزىء مسح بِبرد وثلج لَا يذوبان لما ذكره وَلَو حلق رَأسه بعد مَسحه لم يعد الْمسْح لما مر فِي قطع الْيَد
(و) الْخَامِس من الْفُرُوض (غسل) جَمِيع (الرجلَيْن) بِإِجْمَاع من يعْتد بإجماعه (مَعَ الْكَعْبَيْنِ) من كل رجل أَو قدرهما إِن فقدا كَمَا مر فِي الْمرْفقين وهما العظمان الناتئان من الْجَانِبَيْنِ عِنْد مفصل السَّاق والقدم فَفِي كل رجل كعبان لما روى النُّعْمَان بن بشير أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أقِيمُوا صفوفكم فَرَأَيْت الرجل منا يلصق مَنْكِبه بمنكب صَاحبه وكعبه بكعبه
رَوَاهُ البُخَارِيّ قَالَ تَعَالَى {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قرىء فِي السَّبع بِالنّصب والجر عطفا على الْوُجُوه لفظا فِي الأول وَمعنى فِي الثَّانِي لجره على الْجَوَاز وَدلّ على دُخُول الْكَعْبَيْنِ فِي الْغسْل مَا دلّ على دُخُول الْمرْفقين فِيهِ وَقد مر
تَنْبِيه مَا أطلقهُ الْأَصْحَاب هُنَا من أَن غسل الرجلَيْن فرض مَحْمُول كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ على غير لابس الْخُف أَو على أَن الأَصْل الْغسْل وَالْمسح بدل عَنهُ وَيجب إِزَالَة مَا فِي شقوق الرجلَيْن من عين كشمع وحناء
وَقَالَ الْجُوَيْنِيّ لم يصل إِلَى اللَّحْم وَيحمل على مَا إِذا كَانَ فِي اللَّحْم غور أخذا مِمَّا مر عَن الْمَجْمُوع وَلَا أثر لدهن ذائب ولون نَحْو حناء وَيجب إِزَالَة مَا تَحت الْأَظْفَار من وسخ يمْنَع وُصُول المَاء وَلَو قطع بعض الْقدَم وَجب غسل الْبَاقِي وَإِن قطع فَوق الكعب فَلَا فرض عَلَيْهِ وَيسن غسل الْبَاقِي كَمَا مر فِي الْيَدَيْنِ
(و) السَّادِس من الْفُرُوض (التَّرْتِيب على) حكم (مَا ذَكرْنَاهُ) من الْبدَاءَة بِغسْل الْوَجْه مَقْرُونا بِالنِّيَّةِ ثمَّ الْيَدَيْنِ ثمَّ مسح الرَّأْس ثمَّ غسل الرجلَيْن لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُبين للْوُضُوء الْمَأْمُور بِهِ رَوَاهُ مُسلم وَغَيره وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَالْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص السَّبَب وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذكر ممسوحا بَين مغسولات وتفريق المتجانس لَا ترتكبه الْعَرَب إِلَّا لفائدة وَهِي هُنَا وجوب التَّرْتِيب لَا نَدبه بِقَرِينَة الْأَمر فِي الْخَبَر وَلِأَن الْآيَة بَيَان للْوُضُوء الْوَاجِب فَلَو اسْتَعَانَ بأَرْبعَة غسلوا أعضاءه دفْعَة وَاحِدَة وَنوى حصل لَهُ غسل وَجهه فقد وَلَو اغْتسل مُحدث حَدثا أَصْغَر بنية رفع(1/45)
الْحَدث أَو نَحوه وَلَو مُتَعَمدا أَو بنية رفع الْجَنَابَة غالطا صَحَّ وَإِن لم يمْكث قدر التَّرْتِيب لِأَنَّهُ يَكْفِي لرفع أَعلَى الحدثين فللأصغر أولى ولتقدير التَّرْتِيب فِي لحظات لَطِيفَة وَلَو أحدث وأجنب أَجزَأَهُ الْغسْل عَنْهُمَا لاندراج الْأَصْغَر وَإِن لم يُنَوّه فِي الْأَكْبَر فَلَو اغْتسل إِلَّا رجلَيْهِ أَو إِلَّا يَدَيْهِ مثلا ثمَّ أحدث ثمَّ غسلهمَا عَن الْجَنَابَة تَوَضَّأ وَلم يجب إِعَادَة غسلهَا لارْتِفَاع حَدثهمَا بغسلهما عَن الْجَنَابَة
وَهَذَا وضوء خَال عَن غسل الرجلَيْن أَو الْيَدَيْنِ وهما مكشوفتان بِلَا عِلّة
قَالَ ابْن الْقَاص وَعَن التَّرْتِيب وغلطه الْأَصْحَاب بِأَنَّهُ غير خَال عَنهُ بل وضوء لم يجب فِيهِ غسل الرجلَيْن أَو الْيَدَيْنِ
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ إِنْكَار صَحِيح وَلَو غسل بدنه إِلَّا أَعْضَاء الْوضُوء ثمَّ أحدث لم يجب ترتيبها وَلَو شكّ فِي تَطْهِير عُضْو قبل فرَاغ طهره أَتَى بِهِ وَمَا بعده أَو بعد الْفَرَاغ لم يُؤثر
(القَوْل فِي سنَن الْوضُوء) وَلما فرغ من فروض الْوضُوء شرع فِي سنَنه فَقَالَ (وسننه عشرَة أَشْيَاء) بِالْمدِّ غير مَصْرُوف جمع شَيْء وَالْمُصَنّف لم يحصر السّنَن فِيمَا ذكره
وَسَنذكر زِيَادَة على ذَلِك (القَوْل فِي التَّسْمِيَة) الأولى (التَّسْمِيَة) أول الْوضُوء لخَبر النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد عَن أنس قَالَ طلب بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وضُوءًا فَلم يَجدوا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل مَعَ أحد مِنْكُم مَاء فَأتي بِمَاء فَوضع يَده فِي الْإِنَاء الَّذِي فِيهِ المَاء ثمَّ قَالَ توضؤوا بِسم الله أَي قائلين ذَلِك
فَرَأَيْت المَاء يفور من بَين أَصَابِعه حَتَّى تَوَضَّأ نَحْو سبعين رجلا
وَلخَبَر توضؤوا بِسم الله رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَإِنَّمَا لم تجب لآيَة الْوضُوء المبينة لواجباته
وَأما خبر لَا وضوء لمن لم يسم الله فضعيف
وأقلها بِسم الله وأكملها كمالها ثمَّ الْحَمد لله على الْإِسْلَام وَنعمته وَالْحَمْد لله الَّذِي جعل المَاء طهُورا وَزَاد الْغَزالِيّ بعْدهَا {رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون} وَتسن التَّسْمِيَة لكل أَمر ذِي بَال أَي حَال يهتم بِهِ من عبَادَة وَغَيرهَا كَغسْل وَتيَمّم وَذبح وجماع وتلاوة وَلَو من أثْنَاء سُورَة لَا لصَلَاة وَحج وَذكر وَتكره لمحرم أَو مَكْرُوه وَالْمرَاد بِأول الْوضُوء أول غسل الْكَفَّيْنِ فينوي الْوضُوء ويسمي الله تَعَالَى(1/46)
عِنْده بِأَن يقرن النِّيَّة بِالتَّسْمِيَةِ عِنْد أول غسلهمَا ثمَّ يتَلَفَّظ بِالنِّيَّةِ ثمَّ يكمل غسلهمَا لِأَن التَّلَفُّظ بِالنِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَة سنة وَلَا يُمكن أَن يتَلَفَّظ بهما فِي زمن وَاحِد فَإِن تَركهَا سَهوا أَو عمدا أَو فِي أول طَعَام كَذَلِك أَتَى بهَا فِي أَثْنَائِهِ فَيَقُول بِسم الله أَوله وَآخره لخَبر إِذا أكل أحدكُم فليذكر اسْم الله تَعَالَى فَإِن نسي أَن يذكر اسْم الله تَعَالَى فِي أَوله فَلْيقل بِسم الله أَوله وَآخره رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن صَحِيح وَيُقَاس بِالْأَكْلِ الْوضُوء وبالنسيان الْعمد وَلَا يسن أَن يَأْتِي بهَا بعد فرَاغ الْوضُوء لانقضائه
كَمَا صرح بِهِ فِي الْمَجْمُوع بِخِلَافِهِ بعد فَرَاغه من الْأكل فَإِنَّهُ يَأْتِي بهَا ليتقيأ الشَّيْطَان مَا أكله وَيَنْبَغِي أَن يكون الشّرْب كَالْأَكْلِ
(القَوْل فِي غسل الْكَفَّيْنِ) (و) الثَّانِيَة (غسل الْكَفَّيْنِ) إِلَى كوعيه قبل الْمَضْمَضَة وَإِن تَيَقّن طهرهما أَو تَوَضَّأ من نَحْو إبريق لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
فَإِن شكّ فِي طهرهما غسلهمَا (قبل إدخالهما الْإِنَاء) الَّذِي فِيهِ مَاء قَلِيل أَو مَائِع وَإِن كثر (ثَلَاثًا) فَإِن أدخلهما قبل أَن يغسلهَا كره لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده مُتَّفق عَلَيْهِ إِلَّا لفظ (ثَلَاثًا) فلمسلم فَقَط أَشَارَ بِمَا علل بِهِ فِيهِ إِلَى احْتِمَال نَجَاسَة الْيَد فِي النّوم كَأَن تقع على مَحل الِاسْتِنْجَاء بِالْحجرِ لأَنهم كَانُوا يستنجون بِهِ فَيحصل لَهُم التَّرَدُّد وعَلى هَذَا حمل الحَدِيث لَا على مُطلق النّوم كَمَا ذكره النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَإِذا كَانَ هَذَا هُوَ المُرَاد فَمن لم ينم وَاحْتمل نَجَاسَة يَده كَانَ فِي معنى النَّائِم وَهَذِه الغسلات الثَّلَاث هِيَ المندوبة أول الْوضُوء لَكِن ندب تَقْدِيمهَا عِنْد الشَّك على غمس يَده وَلَا تَزُول الْكَرَاهِيَة إِلَّا بغسلهما ثَلَاثًا لِأَن الشَّارِع إِذا غيا حكما بغاية فَإِنَّمَا يخرج من عهدته باستيفائها فَسقط مَا قيل من أَنه يَنْبَغِي زَوَال الْكَرَاهَة بِوَاحِدَة لتيقن الطُّهْر بهَا كَمَا لَا كَرَاهَة إِذا تَيَقّن طهرهما ابْتِدَاء وَمن هُنَا يُؤْخَذ مَا بَحثه الْأَذْرَعِيّ أَن مَحل عدم الْكَرَاهَة عِنْد تَيَقّن طهرهما إِذا كَانَ مُسْتَندا ليقين غسلهمَا ثَلَاثًا فَلَو غسلهمَا فِيمَا مضى من نَجَاسَة متيقنة أَو مشكوكة مرّة أَو مرَّتَيْنِ كره غمسهما قبل إِكْمَال الثَّلَاثَة وَمثل الْمَائِع فِيمَا ذكر كل مَأْكُول رطب كَمَا فِي الْعباب فَإِن تعذر عَلَيْهِ الصب لكبر الْإِنَاء وَلم يجد مَا يغْرف بِهِ مِنْهُ اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ أَو أَخذه بِطرف ثوب نظيف أَو بِفِيهِ أَو نَحْو ذَلِك أما إِذا تَيَقّن نجاستهما فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ إدخالهما فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا لما فِي ذَلِك من التضمخ بِالنَّجَاسَةِ وَخرج بِالْمَاءِ الْقَلِيل الْكثير فَلَا يكره فِيهِ كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي دقائقه(1/47)
(القَوْل فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق) (و) الثَّالِثَة (الْمَضْمَضَة) وَهِي جعل المَاء فِي الْفَم وَلَو من غير إدارة فِيهِ وَمَج مِنْهُ (و) الرَّابِعَة (الِاسْتِنْشَاق) بعد الْمَضْمَضَة وَهُوَ جعل المَاء فِي الْأنف وَإِن لم يصل إِلَى الخيشوم وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأما خبر تمضمضوا واستنشقوا فضعيف
(تَقْدِيمهَا على الْوَجْه مُسْتَحقّ) تَنْبِيه تَقْدِيم غسل الْيَدَيْنِ على الْمَضْمَضَة وَهِي على الِاسْتِنْشَاق مُسْتَحقّ لَا مُسْتَحبّ عكس تَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى وَفرق الرَّوْيَانِيّ بِأَن الْيَدَيْنِ مثلا عضوان متفقان اسْما وَصُورَة بِخِلَاف الْفَم وَالْأنف
فَوَجَبَ التَّرْتِيب بَينهمَا كَالْيَدِ وَالْوَجْه فَلَو أَتَى بالاستنشاق مَعَ الْمَضْمَضَة حسبت دونه وَإِن قدمه عَلَيْهَا فقضية كَلَام الْمَجْمُوع أَن الْمُؤخر يحْسب
وَقَالَ فِي الرَّوْضَة لَو قدم الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق على غسل الْكَفّ لم يحْسب الْكَفّ على الْأَصَح
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَصَوَابه ليُوَافق مَا فِي الْمَجْمُوع لم تحسب الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق على الْأَصَح انْتهى
وَالْمُعْتَمد مَا فِي الرَّوْضَة لقَولهم فِي الصَّلَاة الثَّالِث عشر تَرْتِيب الْأَركان خرج السّنَن فيحسب مِنْهَا مَا أوقعه أَولا فَكَأَنَّهُ ترك غَيره فَلَا يعْتد بِفِعْلِهِ بعد ذَلِك كَمَا لَو تعوذ ثمَّ أَتَى بِدُعَاء الِافْتِتَاح
وَمن فَوَائِد غسل الْكَفَّيْنِ والمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق أَولا معرفَة أَوْصَاف المَاء وَهِي اللَّوْن والطعم والرائحة هَل تَغَيَّرت أَو لَا وَيسن أَخذ المَاء بِالْيَدِ الْيُمْنَى وَيسن أَن يُبَالغ فيهمَا غير الصَّائِم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رِوَايَة صحّح ابْن الْقطَّان إسنادها إِذا تَوَضَّأت فأبلغ فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق مَا لم تكن صَائِما وَالْمُبَالغَة فِي الْمَضْمَضَة أَن يبلغ المَاء إِلَى أقْصَى الحنك ووجهي الْأَسْنَان واللثات وَيسن إدارة المَاء فِي الْفَم ومجه وإمرار أصْبع يَده الْيُسْرَى على ذَلِك وَالِاسْتِنْشَاق أَن يصعد المَاء بِالنَّفسِ إِلَى الخيشوم وَيسن الاستنثار لِلْأَمْرِ بِهِ فِي خبر الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ أَن يخرج بعد الِاسْتِنْشَاق مَا فِي أَنفه من مَاء وأذى بخنصر يَده الْيُسْرَى وَإِذا بَالغ فِي الِاسْتِنْشَاق فَلَا يستقصي فَيصير سعوطا لَا استنشاقا قَالَه فِي الْمَجْمُوع
أما الصَّائِم فَلَا تسن لَهُ الْمُبَالغَة بل تكره لخوف الافطار كَمَا فِي الْمَجْمُوع
فَإِن قيل لم لم يحرم ذَلِك كَمَا قَالُوا بِتَحْرِيم الْقبْلَة إِذا خشِي الْإِنْزَال مَعَ أَن الْعلَّة فِي كل مِنْهُمَا خوف الْفساد
أُجِيب بِأَن الْقبْلَة غير مَطْلُوبَة بل دَاعِيَة لما يضاد الصَّوْم من الْإِنْزَال بِخِلَاف الْمُبَالغَة فِيمَا ذكر وَبِأَنَّهُ هُنَا يُمكنهُ إطباق الْحلق وَمَج المَاء وَهُنَاكَ لَا يمنكه رد الْمَنِيّ إِذا خرج لِأَنَّهُ مَاء دافق وَبِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ فِي الْقبْلَة إِفْسَاد لعبادة اثْنَيْنِ
(الْجمع والفصل فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق) وَالْأَظْهَر تَفْضِيل الْجمع بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق على الْفَصْل بَينهمَا لصِحَّة الْأَحَادِيث الصَّرِيحَة فِي ذَلِك وَلم يثبت فِي الْفَصْل شَيْء كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه وَكَون الْجمع بِثَلَاث غرف يتمضمض من كل ثمَّ يستنشق مرّة أفضل من الْجمع بغرفة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا ثمَّ يستنشق ثَلَاثًا أَو يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق مرّة ثمَّ كَذَلِك ثَانِيَة وثالثة للْأَخْبَار الصَّحِيحَة فِي ذَلِك
وَفِي الْفَصْل كيفيتان أفضلهما يتمضمض بغرفة ثَلَاثًا ثمَّ يستنشق بِأُخْرَى ثَلَاثًا وَالثَّانيَِة أَن يتمضمض بِثَلَاث غرفات ثمَّ يستنشق بِثَلَاث غرفات وَهَذِه أنظف الكيفيات وأضعفها وَالسّنة تتأدى بِوَاحِدَة من هَذِه الكيفيات لما علم أَن الْخلاف فِي الْأَفْضَل مِنْهَا
فَائِدَة فِي الغرفة لُغَتَانِ الْفَتْح وَالضَّم فَإِن جمعت على لُغَة الْفَتْح تعين فتح الرَّاء وَإِن جمعت على لُغَة الضَّم جَازَ إسكان الرَّاء وَضمّهَا وَفتحهَا
فتلخص فِي غرفات أَربع لُغَات
(القَوْل فِي مسح جَمِيع الرَّأْس) (و) الْخَامِسَة (مسح جَمِيع الرَّأْس) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وخروجا من خلاف من أوجبه وَالسّنة فِي كيفيته أَن يضع يَده على مقدم رَأسه ويلصق سبابته بِالْأُخْرَى وإبهاميه على صدغيه ثمَّ يذهب بهما إِلَى قَفاهُ ثمَّ يردهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي ذهب مِنْهُ إِن(1/48)
كَانَ لَهُ شعر يَنْقَلِب وَحِينَئِذٍ يكون الذّهاب وَالرَّدّ مسحة وَاحِدَة لعدم تَمام المسحة بالذهاب فَإِن لم يَنْقَلِب شعره لضفره أَو لقصره أَو عَدمه لم يرد لعدم الْفَائِدَة فَإِن ردهما لم تحسب ثَانِيَة لِأَن المَاء صَار مُسْتَعْملا
فَإِن قيل هَذَا مُشكل بِمن انغمس فِي مَاء قَلِيل نَاوِيا رفع الْحَدث ثمَّ أحدث وَهُوَ منغمس ثمَّ نوى رفع الْحَدث فِي حَال انغماسه فَإِن حَدثهُ يرْتَفع ثَانِيًا
أُجِيب بِأَن مَاء الْمسْح تافه فَلَيْسَ لَهُ قُوَّة كقوة هَذَا وَلذَلِك لَو أعَاد مَاء غسل الذِّرَاع مثلا ثَانِيًا لم يحْسب لَهُ غسلة أُخْرَى لِأَنَّهُ تافه بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَاء الانغماس
تَنْبِيه إِذا مسح كل رَأسه هَل يَقع كُله فرضا أَو مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم وَالْبَاقِي سنة وَجْهَان
كَنَظِيرِهِ من تَطْوِيل الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالْقِيَام وَإِخْرَاج الْبَعِير عَن خمس فِي الزَّكَاة وَاخْتلف كَلَام الشَّيْخَيْنِ فِي كتبهما فِي التَّرْجِيح فِي ذَلِك وَرجح صَاحب الْعباب أَن مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم فِي الرَّأْس فرض وَالْبَاقِي تطوع وَمثله فِي ذَلِك مَا أمكن فِيهِ التجزي كالركوع بِخِلَاف مَا لم يُمكن كبعير الزَّكَاة وَهُوَ تَفْصِيل حسن
(القَوْل فِي الْمسْح على الْعِمَامَة) فَإِن كَانَ على رَأسه نَحْو عِمَامَة كخمار وقلنسوة وَلم يرد رفع ذَلِك كمل بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا وَإِن لبسهَا على حدث لخَبر مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمسح بناصيته وعَلى عمَامَته
وَسَوَاء أعْسر تنحيتها أم لَا
وَيفهم من قَوْلهم كمل أَنه لَا يَكْفِي الِاقْتِصَار على الْعِمَامَة وَنَحْوهَا وَهُوَ كَذَلِك
(القَوْل فِي مسح الْأُذُنَيْنِ وكيفيته) (و) السَّادِسَة (مسح) جَمِيع (أُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما بِمَاء جَدِيد) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح فِي وضوئِهِ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما وَأدْخل أصبعيه فِي صماخي أُذُنَيْهِ وَيَأْخُذ لصماخيه أَيْضا مَاء جَدِيدا
وَكَيْفِيَّة الْمسْح أَن يدْخل مسبحتيه فِي صماخيه ويديرهما فِي المعاطف ويمر إبهاميه على ظَاهر أُذُنَيْهِ ثمَّ يلصق كفيه وهما مبلولتان بالأذنين استظهارا
والصماخ بِكَسْر الصَّاد وَيُقَال بِالسِّين هُوَ خرق الْأذن وَتَأْخِير مسح الْأُذُنَيْنِ عَن الرَّأْس مُسْتَحقّ كَمَا هُوَ الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَلَو أَخذ بأصابعه مَاء لرأسه فَلم يمسحه بِمَاء بَعْضهَا وَمسح بِهِ الْأُذُنَيْنِ كفى لِأَنَّهُ مَاء جَدِيد
فَائِدَة روى الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أَعْطَانِي نَهرا يُقَال لَهُ الْكَوْثَر فِي الْجنَّة لَا يدْخل أحدكُم أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ إِلَّا سمع خرير ذَلِك النَّهر
قَالَت فَقلت يَا رَسُول الله وَكَيف ذَلِك قَالَ أدخلي أصبعيك فِي أذنيك وسدي فَالَّذِي تسمعين فيهمَا من خرير الْكَوْثَر وَهَذَا النَّهر يتشعب مِنْهُ أَنهَار الْجنَّة وَهُوَ مُخْتَصّ بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نسْأَل الله تَعَالَى من فَضله وَكَرمه أَن يمن علينا وعَلى محبينا بالشرب مِنْهُ فَإِن من شرب مِنْهُ شربة لَا يظمأ بعْدهَا أبدا
(الْكَلَام على تَخْلِيل اللِّحْيَة) (و) السَّابِعَة (تَخْلِيل اللِّحْيَة الكثة) وكل شعر يَكْفِي غسل ظَاهره بالأصابع من أَسْفَله لما روى التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ أَنه(1/49)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخلل لحيته الْكَرِيمَة
وَلما روى أَبُو دَاوُد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا تَوَضَّأ أَخذ كفا من مَاء فَأدْخلهُ تَحت حنكه فخلل بِهِ لحيته وَقَالَ هَكَذَا أَمرنِي رَبِّي أما مَا يجب غسله من ذَلِك كالخفيف والكثيف الَّذِي فِي حد الْوَجْه من لحية غير الرجل وعارضيه فَيجب إِيصَال المَاء إِلَى ظَاهره وباطنه ومنابته بتخليل أَو غَيره
تَنْبِيه ظَاهر كَلَام المُصَنّف فِي سنّ التَّخْلِيل أَنه لَا فرق بَين الْمحرم وَغَيره وَهُوَ الْمُعْتَمد كَمَا اعْتَمدهُ الزَّرْكَشِيّ فِي خادمه خلافًا لِابْنِ الْمقري فِي رَوْضَة تبعا للمتولي لَكِن الْمحرم يخلل بِرِفْق لِئَلَّا يتساقط مِنْهُ شعره كَمَا قَالُوهُ فِي تَخْلِيل شعر الْمَيِّت
(القَوْل فِي تَخْلِيل الْأَصَابِع) (و) من السَّابِعَة (تَخْلِيل أَصَابِع الرجلَيْن وَالْيَدَيْنِ) أَيْضا لخَبر لَقِيط بن صبرَة أَسْبغ الْوضُوء وخلل بَين الْأَصَابِع رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره وصححوه والتخليل فِي أَصَابِع الْيَدَيْنِ بالتشبيك بَينهمَا فِي أَصَابِع الرجلَيْن يبْدَأ بخنصر الرجل الْيُمْنَى وَيخْتم بخنصر الرجل الْيُسْرَى ويخلل بخنصر يَده الْيُسْرَى أَو الْيُمْنَى كَمَا رَجحه فِي الْمَجْمُوع من أَسْفَل الرجلَيْن
وإيصال المَاء إِلَى مَا بَين الْأَصَابِع وَاجِب بتخليل أَو غَيره إِذا كَانَت ملتفة لَا يصل المَاء إِلَيْهَا إِلَّا بالتخليل أَو نَحوه فَإِن كَانَت ملتحمة لم يجز فتقها
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَلم يتَعَرَّض النَّوَوِيّ وَلَا غَيره إِلَى تثليث التَّخْلِيل
وَقد روى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد جيد كَمَا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب عَن عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه تَوَضَّأ فخلل بَين أَصَابِع قَدَمَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل كَمَا فعلت
وَمُقْتَضى هَذَا اسْتِحْبَاب تثليث التَّخْلِيل انْتهى وَهَذَا ظَاهر
(القَوْل فِي تَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى) (و) الثَّامِنَة (تَقْدِيم) غسل (الْيُمْنَى على) غسل (الْيُسْرَى) من كل عضوين لَا يسن غسلهمَا مَعًا كاليدين وَالرّجلَيْنِ لخَبر وَإِذا توضأتم فابدأوا بميامنكم رَوَاهُ ابْنا خُزَيْمَة وحبان فِي صَحِيحَيْهِمَا وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب التَّيَامُن فِي شَأْنه كُله أَي مِمَّا هُوَ للتكريم كالغسل واللبس والاكتحال والتقليم وقص الشَّارِب ونتف الْإِبِط وَحلق الرَّأْس والسواك وَدخُول الْمَسْجِد وَتَحْلِيل الصَّلَاة ومفارقة الْخَلَاء وَالْأكل وَالشرب والمصافحة واستلام الْحجر الْأسود والركن الْيَمَانِيّ وَالْأَخْذ والإعطاء والتياسر فِي ضِدّه كدخول الْخَلَاء والاستنجاء والامتخاط وخلع اللبَاس وَإِزَالَة القذر وَكره عَكسه
أما مَا يسن غسلهمَا مَعًا كالخدين وَالْكَفَّيْنِ والأذنين فَلَا يسن تَقْدِيم الْيُمْنَى فيهمَا
نعم من بِهِ عِلّة لَا يُمكنهُ مَعهَا ذَلِك كَأَن قطعت إِحْدَى يَدَيْهِ فَيسنّ لَهُ تَقْدِيم الْيُمْنَى
(القَوْل فِي التَّثْلِيث فِي الطَّهَارَة) (و) التَّاسِعَة (الطَّهَارَة ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَيَسْتَوِي فِي ذَلِك المغسول والممسوح والتخليل الْمَنْدُوب والمفروض لِلِاتِّبَاعِ
رَوَاهُ مُسلم وَغَيره وَإِنَّمَا لم يجب التَّثْلِيث لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مرّة مرّة وَتَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن تثليث القَوْل كالتسمية وَالتَّشَهُّد آخر الْوضُوء مَعَ أَن ذَلِك سنة فقد روى التَّثْلِيث فِي القَوْل فِي التَّشَهُّد أَحْمد وَابْن ماجة وَصرح بِهِ الرَّوْيَانِيّ وَظَاهر أَن غير التَّشَهُّد مِمَّا فِي مَعْنَاهُ كالتسمية مثله وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَنه يكره تثليث مسح الْخُف
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَالظَّاهِر إِلْحَاق الْجَبِيرَة والعمامة إِذا كمل بِالْمَسْحِ عَلَيْهِمَا بالخف وَتكره الزِّيَادَة على الثَّلَاث وَالنَّقْص عَنْهَا إِلَّا لعذر كَمَا سَيَأْتِي لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ هَكَذَا الْوضُوء فَمن زَاد على هَذَا أَو نقص فقد أَسَاءَ وظلم
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره وَقَالَ فِي الْمَجْمُوع إِنَّه صَحِيح
قَالَ نقلا عَن الْأَصْحَاب وَغَيرهم فَمن زَاد على الثَّلَاث أَو نقص عَنْهَا فقد أَسَاءَ وظلم فِي كل من الزِّيَادَة وَالنَّقْص
فَإِن قيل كَيفَ يكون إساءة وظلما وَقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مرّة مرّة ومرتين مرَّتَيْنِ أُجِيب بِأَن ذَلِك كُله كَانَ لبَيَان الْجَوَاز
فَكَانَ فِي ذَلِك الْحَال أفضل لِأَن الْبَيَان فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِب
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد وَمحل الْكَرَاهَة فِي الزِّيَادَة إِذا أَتَى بهَا على قصد نِيَّة الْوضُوء أَي أَو أطلق فَلَو زَاد عَلَيْهَا بنية التبرد أَو مَعَ قطع نِيَّة الْوضُوء عَنْهَا لم يكره
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ يَنْبَغِي أَن يكون مَوضِع الْخلاف فَمَا إِذا تَوَضَّأ مَاء مُبَاح أَو مَمْلُوك لَهُ فَإِن تَوَضَّأ بِمَاء مَوْقُوف على من يتَطَهَّر مِنْهُ أَو يتَوَضَّأ مِنْهُ كالمدارس والربط حرمت عَلَيْهِ الزِّيَادَة بِلَا خلاف لِأَنَّهَا غير مَأْذُون فِيهَا
انْتهى(1/50)
(القَوْل فِي طلب ترك التَّثْلِيث) تَنْبِيه قد يطْلب ترك التَّثْلِيث كَأَن ضَاقَ الْوَقْت بِحَيْثُ لَو اشْتغل بِهِ لخرج الْوَقْت فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ التَّثْلِيث أَو قل المَاء بِحَيْثُ لَا يَكْفِيهِ إِلَّا للْفَرض فَتحرم الزِّيَادَة لِأَنَّهَا تحوجه إِلَى التَّيَمُّم مَعَ الْقُدْرَة على المَاء كَمَا ذكره الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَجرى عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي التُّحْفَة أَو احْتَاجَ إِلَى الْفَاضِل عَنهُ لعطش بِأَن كَانَ مَعَه من المَاء مَا يَكْفِيهِ للشُّرْب لَو تَوَضَّأ بِهِ مرّة مرّة وَلَو ثلث لم يفضل للشُّرْب شَيْء فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ التَّثْلِيث كَمَا قَالَه الجيلي فِي الإعجاز وَإِدْرَاك الْجَمَاعَة أفضل من تثليث الْوضُوء وَسَائِر آدابه وَلَا يجزىء تعدد قبل إتْمَام الْعُضْو نعم لَو مسح بعض رَأسه ثَلَاثًا حصل التَّثْلِيث لِأَن قَوْلهم من سنَن الْوضُوء تثليث الْمَمْسُوح شَامِل لذَلِك وَأما مَا تقدم فمحله فِي عُضْو يجب استيعابه بالتطهير وَلَا بعد تَمام الْوضُوء فَلَو تَوَضَّأ مرّة مرّة ثمَّ تَوَضَّأ ثَانِيًا وثالثا كَذَلِك لم يحصل التَّثْلِيث كَمَا جزم بِهِ ابْن الْمقري فِي روضه وَفِي فروق الْجُوَيْنِيّ مَا يَقْتَضِيهِ وَإِن أفهم كَلَام الإِمَام خِلَافه
فَإِن قيل قد مر فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق أَن التَّثْلِيث يحصل بذلك
أُجِيب بِأَن الْفَم وَالْأنف كعضو وَاحِد فَجَاز فيهمَا كاليدين بِخِلَاف الْوَجْه وَالْيَد مثلا لتباعدهما فَيَنْبَغِي أَن يفرغ من أَحدهمَا ثمَّ ينْتَقل إِلَى الآخر وَيَأْخُذ الشاك بِالْيَقِينِ فِي الْمَفْرُوض وجوبا وَفِي الْمَنْدُوب ندبا لِأَن الأَصْل عدم مَا زَاد كَمَا لَو شكّ فِي عدد الرَّكْعَات فَإِذا شكّ هَل غسل ثَلَاثًا أَو مرَّتَيْنِ أَخذ بِالْأَقَلِّ وَغسل أُخْرَى
(القَوْل فِي الْمُوَالَاة وضابطها) (و) الْعَاشِرَة (الْمُوَالَاة) بَين الْأَعْضَاء فِي التَّطْهِير بِحَيْثُ لَا يجِف الأول قبل الشُّرُوع فِي الثَّانِي مَعَ اعْتِدَال الْهَوَاء ومزاج الشَّخْص نَفسه وَالزَّمَان وَالْمَكَان وَيقدر الْمَمْسُوح مغسولا
هَذَا فِي غير وضوء صَاحب الضَّرُورَة كَمَا تقدم وَمَا لم يضق الْوَقْت وَإِلَّا فَتجب وَالِاعْتِبَار بالغسلة الْأَخِيرَة وَلَا يحْتَاج التَّفْرِيق الْكثير إِلَى تَجْدِيد نِيَّة عِنْد عزوبها لِأَن حكمهَا بَاقٍ
(القَوْل فِي السّنَن الزَّائِدَة على الْعشْر) وَقد قدمنَا أَن المُصَنّف لم يحصر سنَن الْوضُوء فِيمَا ذكره فلنذكر مِنْهَا شَيْئا مِمَّا تَركه فَمن السّنَن ترك الِاسْتِعَانَة فِي الصب عَلَيْهِ لغير عذر لِأَنَّهُ الْأَكْثَر من فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَنَّهَا نوع من التنعم والتكبر وَذَلِكَ لَا يَلِيق بالمتعبد وَالْأَجْر على قدر النصب وَهِي خلاف الأولى
أما إِذا كَانَ ذَلِك لعذر كَمَرَض أَو نَحوه فَلَا يكون خلاف الأولى دفعا للْمَشَقَّة بل قد تجب الِاسْتِعَانَة إِذا لم يُمكنهُ التَّطْهِير إِلَّا بهَا وَلَو ببذل أُجْرَة مثل وَالْمرَاد بترك الِاسْتِعَانَة الِاسْتِقْلَال بالأفعال لَا طلب الْإِعَانَة فَقَط حَتَّى لَو أَعَانَهُ غَيره وَهُوَ سَاكِت كَانَ الحكم كَذَلِك
وَمِنْهَا ترك نفض المَاء لِأَنَّهُ كالتبري من الْعِبَادَة فَهُوَ خلاف الأولى كَمَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي التَّحْقِيق وَإِن رجح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة أَنه مُبَاح
وَمِنْهَا ترك تنشيف الْأَعْضَاء بِلَا عذر لِأَنَّهُ يزِيل أثر الْعِبَادَة وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد غسله من الْجَنَابَة أَتَتْهُ مَيْمُونَة بمنديل فَرده وَجعل يَقُول بِالْمَاءِ هَكَذَا ينفضه
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَلَا دَلِيل فِي ذَلِك لإباحة النفض فقد يكون فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبَيَان الْجَوَاز أما إِذا كَانَ هُنَاكَ عذر كحر أَو برد أَو التصاق نَجَاسَة فَلَا كَرَاهَة قطعا أَو كَانَ يتَيَمَّم عقب الْوضُوء لِئَلَّا يمْنَع البلل فِي وَجهه وَيَديه التَّيَمُّم وَإِذا نشف فَالْأولى أَن لَا يكون بذيله وطرف ثَوْبه وَنَحْوهمَا
قَالَ فِي الذَّخَائِر فقد قيل إِن ذَلِك يُورث الْفقر
وَمِنْهَا أَن يضع المتوضىء إِنَاء المَاء عَن يَمِينه إِن كَانَ يغترف مِنْهُ وَعَن يسَاره إِن كَانَ يصب مِنْهُ على يَدَيْهِ كإبريق لِأَن ذَلِك أمكن فيهمَا
قَالَه فِي الْمَجْمُوع
وَمِنْهَا تَقْدِيم النِّيَّة مَعَ أول السّنَن الْمُتَقَدّمَة على الْوَجْه ليحصل لَهُ ثَوَابهَا كَمَا مر(1/51)
وَمِنْهَا التَّلَفُّظ بالمنوي قَالَ ابْن الْمقري سرا مَعَ النِّيَّة بِالْقَلْبِ فَإِن اقْتصر على الْقلب كفى أَو التَّلَفُّظ فَلَا
أَو التَّلَفُّظ بِخِلَاف مَا نوى فَالْعِبْرَة بِالنِّيَّةِ
وَمِنْهَا اسْتِصْحَاب النِّيَّة ذكرا إِلَى آخر الْوضُوء
وَمِنْهَا التَّوَجُّه للْقبْلَة
وَمِنْهَا دلك أَعْضَاء الْوضُوء ويبالغ فِي الْعقب خُصُوصا فِي الشتَاء فقد ورد ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار
وَمِنْهَا الْبدَاءَة بِأَعْلَى الْوَجْه وَأَن يَأْخُذ مَاءَهُ بكفيه مَعًا
وَمِنْهَا أَن يبْدَأ فِي غسل يَدَيْهِ بأطراف أَصَابِعه وَإِن صب عَلَيْهِ غَيره كَمَا جرى عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي تَحْقِيقه خلافًا لما قَالَه الصَّيْمَرِيّ من أَنه يبْدَأ بالمرفق إِذا صب عَلَيْهِ غَيره
وَمِنْهَا أَن يقتصد فِي المَاء فَيكْرَه السَّرف فِيهِ
وَمِنْهَا أَن لَا يتَكَلَّم بِلَا حَاجَة وَأَن لَا يلطم وَجهه بِالْمَاءِ
وَمِنْهَا أَن يتعهد موقه وَهُوَ طرف الْعين الَّذِي يَلِي الْأنف بالسبابة الْأَيْمن باليمنى والأيسر باليسرى وَمثله اللحاظ وَهُوَ الطّرف الآخر وَمحل سنّ غسلهمَا إِذا لم يكن فيهمَا رمص يمْنَع وُصُول المَاء إِلَى مَحَله وَإِلَّا فغسلهما وَاجِب كَمَا ذكره فِي الْمَجْمُوع وَمَرَّتْ الْإِشَارَة إِلَيْهِ
وَكَذَا كل مَا يخَاف إغفاله كالغضون
وَمِنْهَا أَن يُحَرك خَاتمًا يصل المَاء تَحْتَهُ
وَمِنْهَا أَن يتوقى الرشاش وَمِنْهَا أَن يَقُول بعد فرَاغ الْوضُوء وَهُوَ مُسْتَقْبل الْقبْلَة رَافعا يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء كَمَا قَالَه فِي الْعباب أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله لخَبر مُسلم من تَوَضَّأ فَقَالَ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَى آخِره فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية يدْخل من أَيهَا شَاءَ اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين
زَاده التِّرْمِذِيّ على مُسلم سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت استغفرك وَأَتُوب إِلَيْك لخَبر الْحَاكِم وَصَححهُ من تَوَضَّأ ثمَّ قَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت إِلَى آخرهَا كتب فِي رق ثمَّ طبع بِطَابع وَهُوَ بِكَسْر الْبَاء وَفتحهَا الْخَاتم
فَلم يكسر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أَي لم يتَطَرَّق إِلَيْهِ إبِْطَال وَيسن أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عقب الْفَرَاغ من الْوضُوء
تَتِمَّة ينْدب إدامة الْوضُوء وَيسن لقِرَاءَة الْقُرْآن أَو سَمَاعه أَو الحَدِيث أَو سَمَاعه أَو رِوَايَته أَو حمل كتب التَّفْسِير إِذا كَانَ التَّفْسِير أَكثر أَو الحَدِيث أَو الْفِقْه وكتابتهما ولقراءة علم شَرْعِي أَو إقرائه ولأذان وجلوس فِي الْمَسْجِد أَو دُخُوله وللوقوف بِعَرَفَة للسعي ولزيارة قَبره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَو غَيره ولنوم أَو يقظة
وَيسن من حمل ميت ومسه وَمن فصد وحجم وقيء وَأكل لحم جزور وقهقهة مصل وَمن لمس الرجل أَو الْمَرْأَة بدن الْخُنْثَى أَو أحد قبليه وَعند الْغَضَب وكل كلمة قبيحة وَلمن قصّ شَاربه أَو حلق رَأسه ولخطبة غير الْجُمُعَة وَالْمرَاد بِالْوضُوءِ الْوضُوء الشَّرْعِيّ لَا اللّغَوِيّ وَلَا ينْدب للبس ثوب وَصَوْم وَعقد نِكَاح وَخُرُوج لسفر ولقاء قادم وزيارة وَالِد وصديق وعيادة مَرِيض وتشييع جَنَازَة وَلَا لدُخُول سوق وَلَا لدُخُول على نَحْو أَمِير(1/52)
(فصل فِي الِاسْتِنْجَاء)
وَهُوَ طَهَارَة مُسْتَقلَّة على الْأَصَح
وأخره المُصَنّف عَن الْوضُوء إعلاما بِجَوَاز تَقْدِيم الْوضُوء عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِك بِخِلَاف التَّيَمُّم لِأَن الْوضُوء يرفع الْحَدث وارتفاعه يحصل مَعَ قيام الْمَانِع وَمُقْتَضَاهُ كَمَا قَالَ الأسنوي عدم صِحَة وضوء دَائِم الْحَدث قبل الِاسْتِنْجَاء لكَونه لَا يرفع الْحَدث وَهُوَ الظَّاهِر وَإِن قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين إِن المَاء أصل فِي رفع الْحَدث
فَكَانَ أقوى من التُّرَاب الَّذِي لَا يرفعهُ أصلا
(القَوْل فِي حكم الِاسْتِنْجَاء) (والاستنجاء) استفعال من طلب النَّجَاء وَهُوَ الْخَلَاص من الشَّيْء وَهُوَ مَأْخُوذ من نجوت الشَّجَرَة وأنجيتها إِذا قطعتها لِأَن المستنجي يقطع بِهِ الْأَذَى عَن نَفسه وَقد يترجم هَذَا الْفَصْل بالاستطابة وَلَا شكّ أَن الاستطابة طلب الطّيب فَكَأَن قَاضِي الْحَاجة يطْلب طيب نَفسه بِإِخْرَاج الْأَذَى وَقد يعبر عَنهُ بالاستجمار من الْجمار وَهُوَ الْحَصَى الصغار وَتطلق الثَّلَاثَة على إِزَالَة مَا على المنفذ لَكِن الْأَوَّلَانِ يعمان الْحجر وَالْمَاء وَالثَّالِث يخْتَص بِالْحجرِ
(وَاجِب وَمن) خُرُوج (الْبَوْل وَالْغَائِط) وَغَيرهمَا من كل خَارج ملوث وَلَو نَادرا كَدم ومذي وودي إِزَالَة للنَّجَاسَة لَا على الْفَوْر بل عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ
(القَوْل فِي الافضل فِي الِاسْتِنْجَاء) (وَالْأَفْضَل أَن يستنجي بالأحجار) أَو مَا فِي مَعْنَاهَا
(ثمَّ يتبعهَا بِالْمَاءِ) لِأَن الْعين تَزُول بِالْحجرِ أَو مَا فِي مَعْنَاهُ والأثر يَزُول بِالْمَاءِ من غير حَاجَة إِلَى مخامرة النَّجَاسَة وَقَضِيَّة التَّعْلِيل أَنه لَا يشْتَرط فِي حُصُول فَضِيلَة الْجمع طَهَارَة الْحجر وَأَنه يَكْتَفِي بِدُونِ الثَّلَاث مَعَ الإنقاء وبالأول صرح الجيلي نقلا عَن الْغَزالِيّ وَقَالَ الأسنوي فِي الثَّانِي الْمَعْنى وَسِيَاق كَلَامهم يدلان عَلَيْهِ انْتهى
وَالظَّاهِر أَن بِهَذَا يحصل أصل فَضِيلَة الْجمع وَأما كمالها فَلَا بُد من بَقِيَّة شُرُوط الِاسْتِنْجَاء بِالْحجرِ وَقَضِيَّة كَلَامهم أَن أفضيلة الْجمع لَا فرق فِيهَا بَين الْبَوْل وَالْغَائِط وَبِه صرح سليم وَغَيره وَهُوَ الْمُعْتَمد وَإِن جزم الْقفال باختصاصه بالغائط وَصَوَّبَهُ الأسنوي وَشَمل إِطْلَاقه حِجَارَة الذَّهَب وَالْفِضَّة إِذا كَانَ كل مِنْهُمَا قالعا وحجارة الْحرم فَيجوز الِاسْتِنْجَاء بهَا وَهُوَ الْأَصَح
(وَيجوز) لَهُ (أَن يقْتَصر) فِيهِ (على المَاء) فَقَط لِأَنَّهُ الأَصْل فِي إِزَالَة النَّجَاسَة (أَو) يقْتَصر (على ثَلَاثَة أَحْجَار) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جوزه بهَا حَيْثُ فعله كَمَا(1/53)
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَأمر بِفِعْلِهِ بقوله فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي وليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار الْمُوَافق لَهُ مَا رَوَاهُ مُسلم وَغَيره من نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الِاسْتِنْجَاء بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار
(القَوْل فِي شُرُوط الِاسْتِنْجَاء بِالْحجرِ) وَيجب فِي الِاسْتِنْجَاء بِالْحجرِ أَمْرَانِ أَحدهمَا ثَلَاث مسحات بِأَن يعم بِكُل مسحة الْمحل وَلَو كَانَت بأطراف حجر لخَبر مُسلم عَن سلمَان نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نستنجي بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار وَفِي مَعْنَاهَا ثَلَاثَة أَطْرَاف حجر بِخِلَاف رمي الْجمار فَلَا يَكْفِي حجر لَهُ ثَلَاثَة أَطْرَاف عَن ثَلَاث رميات لِأَن الْقَصْد ثمَّ عدد الرَّمْي وَهنا عدد المسحات وَلَو غسل الْحجر وجف جَازَ لَهُ اسْتِعْمَاله ثَانِيًا كدواء دبغ بِهِ
ثَانِيهمَا نقاء الْمحل كَمَا قَالَ (ينقي بِهن) أَي بالأحجار أَو مَا فِي مَعْنَاهَا (الْمحل) فَإِن لم ينق بِالثلَاثِ وَجب الإنقاء برابع فَأكْثر إِلَى أَن لَا يبْقى إِلَّا أثر لَا يُزِيلهُ إِلَّا المَاء أَو صغَار الخزف
وَيسن بعد الإنقاء إِن لم يحصل بِوتْر الإيتار بِوَاحِدَة كَأَن حصل برابعة فَيَأْتِي بخامسة لما روى الشَّيْخَانِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا استجمر أحدكُم فليستجمر وترا وَصَرفه عَن الْوُجُوب رِوَايَة أبي دَاوُد وَهِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج عَلَيْهِ
(القَوْل فِي شُرُوط الْحجر) وَفِي معنى الْحجر الْوَارِد كل جامد طَاهِر قالع غير مُحْتَرم كخشب وخزف لحُصُول الْغَرَض بِهِ كالحجر فَخرج بالجامد الْمَائِع غير المَاء الطّهُور كَمَاء الْورْد والخل وبالطاهر النَّجس كالبعر والمتنجس كَالْمَاءِ الْقَلِيل الَّذِي وَقعت فِيهِ نَجَاسَة وبالقالع نَحْو الزّجاج والقصب الأملس وَبِغير مُحْتَرم الْمُحْتَرَم كمطعوم آدَمِيّ كالخبز أَو جني كالعظم لما روى مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الِاسْتِنْجَاء بالعظم وَقَالَ إِنَّه زَاد إخْوَانكُمْ أَي من الْجِنّ فمطعوم الْآدَمِيّ أولى وَلِأَن الْمسْح بِالْحجرِ رخصَة وَهِي لَا تناط بِالْمَعَاصِي
وَأما مطعوم الْبَهَائِم كالحشيش فَيجوز والمطعوم لَهَا وللآدمي يعْتَبر فِيهِ الْأَغْلَب فَإِن اسْتَويَا فَوَجْهَانِ بِنَاء على ثُبُوت الرِّبَا فِيهِ وَالأَصَح الثُّبُوت قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَإِنَّمَا جَازَ بِالْمَاءِ مَعَ أَنه مطعوم لِأَنَّهُ يدْفع النَّجس عَن نَفسه بِخِلَاف غَيره
وَأما الثِّمَار والفواكه فَفِيهَا تَفْصِيل ذكرته فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
وَمن الْمُحْتَرَم مَا كتب عَلَيْهِ اسْم مُعظم أَو علم كَحَدِيث أَو فقه
قَالَ فِي الْمُهِمَّات وَلَا بُد من تَقْيِيد الْعلم بالمحترم سَوَاء كَانَ شَرْعِيًّا كَمَا مر أم لَا
كحساب وَنَحْوه وطب وعروض فَإِنَّهَا تَنْفَع فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة أما غير الْمُحْتَرَم كفلسفة ومنطق مُشْتَمل عَلَيْهَا فَلَا كَمَا قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين
أما غير الْمُشْتَمل عَلَيْهَا فَلَا يجوز
وعَلى هَذَا التَّفْصِيل يحمل إِطْلَاق من جوزه وَجوزهُ القَاضِي بورق التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَهُوَ مَحْمُول على مَا علم تبديله مِنْهُمَا
وخلا عَن اسْم الله تَعَالَى وَنَحْوه وَألْحق بِمَا فِيهِ علم مُحْتَرم جلده الْمُتَّصِل بِهِ دون الْمُنْفَصِل عَنهُ بِخِلَاف جلد الْمُصحف فَإِنَّهُ يمْتَنع الِاسْتِنْجَاء بِهِ مُطلقًا(1/54)
(القَوْل فِي بَقِيَّة شُرُوط الِاسْتِنْجَاء بِالْحجرِ) وَشرط الِاسْتِنْجَاء بِالْحجرِ وَمَا ألحق بِهِ لِأَن يجزىء أَن لَا يجِف النَّجس الْخَارِج فَإِن جف تعين المَاء نعم لَو بَال ثَانِيًا بعد جفاف بَوْله الأول وَوصل إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ الأول كفى فِيهِ الْحجر
وَحكم الْغَائِط الْمَائِع كالبول فِي ذَلِك وَأَن لَا ينْتَقل عَن الْمحل الَّذِي أَصَابَهُ عِنْد خُرُوجه وَاسْتقر فِيهِ وَأَن لَا يطْرَأ عَلَيْهِ أَجْنَبِي نجسا كَانَ أَو طَاهِرا رطبا وَلَو ببلل الْحجر أما الجاف الطَّاهِر فَلَا يُؤثر فَإِن طَرَأَ عَلَيْهِ مَا ذكر تعين المَاء نعم البلل بعرق الْمحل لَا يضر لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ وَأَن يكون الْخَارِج الْمَذْكُور من فرج مُعْتَاد فَلَا يجزىء فِي الْخَارِج من غَيره كالخارج بالفصد وَلَا فِي منفتح تَحت الْمعدة وَلَو كَانَ الْأَصْلِيّ مُفْسِدا لِأَن الِاسْتِنْجَاء بِهِ على خلاف الْقيَاس وَلَا فِي بَوْل خُنْثَى مُشكل وَإِن كَانَ الْخَارِج من أحد قبليه لاحْتِمَال زِيَادَته
نعم إِن كَانَ لَهُ آلَة فَقَط لَا تشبه آلَة الرِّجَال وَلَا آلَة النِّسَاء أَجْزَأَ الْحجر فِيهَا وَلَا فِي بَوْل ثيب تيقنته دخل مدْخل الذّكر لانتشاره عَن مخرجه بِخِلَاف الْبكر لِأَن الْبكارَة تمنع دُخُول الْبَوْل مدْخل الذّكر وَلَا فِي بَوْل الأقلف إِذا وصل الْبَوْل إِلَى الْجلْدَة ويجزىء فِي دم حيض أَو نِفَاس وَفَائِدَته فِيمَن انْقَطع دَمهَا وعجزت عَن اسْتِعْمَال المَاء فاستنجت بِالْحجرِ ثمَّ تيممت لنَحْو مرض فَإِنَّهَا تصلي وَلَا إِعَادَة عَلَيْهَا وَلَو ندر الْخَارِج كَالدَّمِ والودي والمذي أَو انْتَشَر فَوق عَادَة النَّاس وَقيل عَادَة نَفسه
وَلم يُجَاوز فِي الْغَائِط صفحته وَهِي مَا انْضَمَّ من الأليين عِنْد الْقيام وَفِي الْبَوْل حشفته وَهِي مَا فَوق الْخِتَان أَو قدرهَا من مقطوعها كَمَا قَالَه الأسنوي جَازَ الْحجر وَمَا فِي مَعْنَاهُ
أما النَّادِر فَلِأَن انقسام الْخَارِج إِلَى مُعْتَاد ونادر مِمَّا يتَكَرَّر ويعسر الْبَحْث عَنهُ فنيط الحكم بالمخرج وَأما الْمُنْتَشِر فَوق الْعَادة فلعسر الِاحْتِرَاز عَنهُ وَلما صَحَّ أَن الْمُهَاجِرين أكلُوا التَّمْر لما هَاجرُوا وَلم يكن ذَلِك عَادَتهم وَهُوَ مِمَّا يرق الْبُطُون وَمن رق بَطْنه انْتَشَر مَا يخرج مِنْهُ وَمَعَ ذَلِك لم يؤمروا بالاستنجاء بِالْمَاءِ وَلِأَن ذَلِك يتَعَذَّر ضَبطه فنيط الحكم بالصفحة والحشفة أَو مَا يقوم مقَامهَا فَإِن جَاوز الْخَارِج مَا ذكر مَعَ الِاتِّصَال لم يجز الْحجر لَا فِي المجاوز وَلَا فِي غَيره لِخُرُوجِهِ عَمَّا تعم بِهِ الْبلوى وَلَا يجب الِاسْتِنْجَاء لدود وبعر بِلَا لوث لفَوَات مَقْصُود الِاسْتِنْجَاء من إِزَالَة النَّجَاسَة أَو تخفيفها وَلَكِن يسن خُرُوجًا من الْخلاف
وَالْوَاجِب فِي الِاسْتِنْجَاء أَن يغلب على ظَنّه زَوَال النَّجَاسَة وَلَا يضر شم رِيحهَا بِيَدِهِ فَلَا يدل على بَقَائِهَا على الْمحل وَإِن حكمنَا على يَده بِالنَّجَاسَةِ لأَنا لم نتحقق أَن مَحل الرّيح بَاطِن الْأصْبع الَّذِي كَانَ ملاصقا للمحل لاحْتِمَال أَنه من جوانبه فَلَا ننجس بِالشَّكِّ وَلِأَن هَذَا الْمحل خفف فِيهِ بالاستنجاء بِالْحجرِ فَخفف فِيهِ هُنَا فَاكْتفى فِيهِ بِغَلَبَة ظن زَوَال النَّجَاسَة
(فَإِذا أَرَادَ) المستنجي (الِاقْتِصَار على أَحدهمَا) أَي المَاء وَالْحجر (فالماء أفضل) من الِاقْتِصَار على الْحجر لِأَنَّهُ يزِيل الْعين والأثر بِخِلَاف الْحجر وَلَا استنجاء من غير مَا ذكر فقد نقل الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجب الِاسْتِنْجَاء من النّوم وَالرِّيح
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلم يفرق الْأَصْحَاب بَين أَن يكون الْمحل رطبا أَو يَابسا وَلَو قيل بِوُجُوبِهِ إِذا كَانَ الْمحل رطبا لم يبعد كَمَا قيل بِهِ فِي دُخان النَّجَاسَة وَهَذَا مَرْدُود فقد قَالَ الْجِرْجَانِيّ إِن ذَلِك مَكْرُوه
وَصرح الشَّيْخ نصر الدّين الْمَقْدِسِي بتأثيم فَاعله وَالظَّاهِر كَلَام الْجِرْجَانِيّ وَقَالَ فِي الْإِحْيَاء يَقُول بعد فَرَاغه من الِاسْتِنْجَاء اللَّهُمَّ طهر قلبِي من النِّفَاق وحصن فَرجي من الْفَوَاحِش(1/55)
القَوْل فِي آدَاب قَاضِي الْحَاجة ندبا (ويجتنب) قَاضِي الْحَاجة (اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها) ندبا إِذا كَانَ فِي غير الْمعد لذَلِك مَعَ سَاتِر مُرْتَفع ثُلثي ذِرَاع تَقْرِيبًا فَأكْثر بَينه وَبَينه ثَلَاثَة أَذْرع فَأَقل بِذِرَاع الْآدَمِيّ وإرخاء ذيله كَاف فِي ذَلِك فهما حِينَئِذٍ خلاف الأولى ويحرمان فِي الْبناء غير الْمعد لقَضَاء الْحَاجة و (فِي الصَّحرَاء) بِدُونِ السَّاتِر الْمُتَقَدّم
وَالْأَصْل فِي ذَلِك مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا أتيتم الْغَائِط فَلَا تستقبلوا الْقبْلَة وَلَا تستدبروها ببول وَلَا غَائِط وَلَكِن شرقوا أَو غربوا
وَفِيهِمَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى حَاجته فِي بَيت حَفْصَة مُسْتَقْبل الشَّام مستدبر الْكَعْبَة
وَقَالَ جَابر نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تسْتَقْبل الْقبْلَة ببول فرأيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يقبض بعام يستقبلها
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه فحملوا الْخَبَر الأول الْمُفِيد للْحُرْمَة على الْقَضَاء وَمَا ألحق بِهِ لسُهُولَة اجْتِنَاب الْمُحَاذَاة فِيهِ بِخِلَاف الْبناء غير الْمَذْكُور مَعَ الصَّحرَاء فَيجوز فِيهِ ذَلِك كَمَا فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَانا للْجُوَاز وَإِن كَانَ الأولى لنا تَركه كَمَا مر
وَأما فِي الْمعد لذَلِك فَلَا حُرْمَة فِيهِ وَلَا كَرَاهَة وَلَا خلاف الأولى قَالَه فِي الْمَجْمُوع
وَيسْتَثْنى من الْحُرْمَة مَا لَو كَانَت الرّيح تهب عَن يَمِين الْقبْلَة وشمالها فَإِنَّهُمَا لَا يحرمان للضَّرُورَة كَمَا سَيَأْتِي وَإِذا تعَارض الِاسْتِقْبَال والاستدبار تعين الاستدبار وَلَا يحرم وَلَا يكره اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها حَال الِاسْتِنْجَاء أَو الْجِمَاع أَو إِخْرَاج الرّيح إِذْ النَّهْي عَن استقبالها واستدبارها مُقَيّد بِحَالَة الْبَوْل وَالْغَائِط وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الثَّلَاثَة
القَوْل فِي آدَاب قَاضِي الْحَاجة (ويجتنب) ندبا (الْبَوْل) وَالْغَائِط (فِي المَاء الراكد) للنَّهْي عَن الْبَوْل فِيهِ فِي حَدِيث مُسلم وَمثله الْغَائِط بل أولى وَالنَّهْي(1/56)
فِي ذَلِك للكراهة وَإِن كَانَ المَاء قَلِيلا لِإِمْكَان طهره بِالْكَثْرَةِ وَفِي اللَّيْل أَشد كَرَاهَة لِأَن المَاء بِاللَّيْلِ مأوى الْجِنّ أما الْجَارِي فَفِي الْمَجْمُوع عَن جمَاعَة الْكَرَاهَة فِي الْقَلِيل مِنْهُ دون الْكثير وَلَكِن يكره فِي اللَّيْل لما مر ثمَّ قَالَ وَيَنْبَغِي أَن يحرم فِي الْقَلِيل مُطلقًا لِأَن فِيهِ إتلافا عَلَيْهِ وعَلى غَيره ورد بِمَا تقدم من التَّعْلِيل وَبِأَنَّهُ مُخَالف للنَّص وَسَائِر الْأَصْحَاب فَهُوَ كالاستنجاء بِخرقَة وَلم يقل أحد بِتَحْرِيمِهِ وَلَكِن يشكل بِمَا مر من أَنه يحرم اسْتِعْمَال الْإِنَاء النَّجس فِي المَاء الْقَلِيل
وَأجِيب بِأَن هُنَاكَ اسْتِعْمَالا بِخِلَافِهِ هُنَا
تَنْبِيه مَحل عدم التَّحْرِيم إِذا كَانَ المَاء لَهُ وَلم يتَعَيَّن عَلَيْهِ الطُّهْر بِهِ بِأَن وجد غَيره أما إِذا لم يكن لَهُ كمملوك لغيره أَو مُسبل أَو لَهُ وَتعين للطَّهَارَة بِأَن دخل الْوَقْت وَلم يجد غَيره فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ
فَإِن قيل المَاء العذب رِبَوِيّ لِأَنَّهُ مطعوم فَلَا يحل الْبَوْل فِيهِ
أُجِيب بِمَا تقدم وَيكرهُ أَيْضا قَضَاء الْحَاجة بِقرب المَاء الَّذِي يكره قَضَاؤُهَا فِيهِ لعُمُوم النَّهْي عَن الْبَوْل فِي الْمَوَارِد وصب الْبَوْل فِي المَاء كالبول فِيهِ
(و) يجْتَنب ذَلِك ندبا (تَحت الشَّجَرَة المثمرة) وَلَو كَانَ التَّمْر مُبَاحا وَفِي غير وَقت الثَّمَرَة صِيَانة لَهَا عَن التلويث عِنْد الْوُقُوع فتعافها النَّفس وَلم يحرموه لِأَن التَّنْجِيس غير مُتَيَقن نعم إِذا لم يكن عَلَيْهَا ثَمَر وَكَانَ يجْرِي عَلَيْهَا المَاء من مطر أَو غَيره قبل أَن تثمر لم يكره كَمَا لَو بَال تحتهَا ثمَّ أورد عَلَيْهِ مَاء طهُورا وَلَا فرق فِي هَذَا وَفِي غَيره مِمَّا تقدم بَين الْبَوْل وَالْغَائِط
(و) يجْتَنب ذَلِك ندبا (فِي الطَّرِيق) المسلوك لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اتقو اللعانين)
قَالُوا وَمَا اللعانان يَا رَسُول الله قَالَ الَّذِي يتخلى فِي طَرِيق النَّاس أَو فِي ظلهم تسببا بذلك فِي لعن النَّاس لَهما كثيرا عَادَة فنسب إِلَيْهِمَا بِصِيغَة الْمُبَالغَة إِذْ أَصله اللاعنان فحول الْإِسْنَاد للْمُبَالَغَة وَالْمعْنَى احْذَرُوا سَبَب اللَّعْن الْمَذْكُور وَلخَبَر أبي دَاوُد بِإِسْنَاد جيد اتَّقوا الْملَاعن الثَّلَاث البرَاز فِي الْمَوَارِد وقارعة الطَّرِيق والظل والملاعن مَوَاضِع اللَّعْن والموارد طرق المَاء والتخلي التغوط وَكَذَا البرَاز وَهُوَ بِكَسْر الْبَاء على الْمُخْتَار وَقيس بالغائط الْبَوْل كَمَا صرح فِي الْمُهَذّب وَغَيره بِكَرَاهَة ذَلِك فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة
وَفِي الْمَجْمُوع ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب كَرَاهَته وَيَنْبَغِي حرمته للْأَخْبَار الصَّحِيحَة ولإيذاء الْمُسلمين انْتهى
وَالْمُعْتَمد ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب وقارعة الطَّرِيق أَعْلَاهُ وَقيل صَدره وَقيل مَا برز مِنْهُ أما الطَّرِيق المهجور فَلَا كَرَاهَة فِيهِ
(و) يتَجَنَّب ذَلِك ندبا فِي (الظل) للنَّهْي عَن التخلي فِي ظلهم أَي فِي الصَّيف وَمثله مَوَاضِع اجْتِمَاعهم فِي الشَّمْس فِي الشتَاء (و) فِي الثقب وَهُوَ بِضَم الْمُثَلَّثَة المستدير النَّازِل للنَّهْي عَنهُ فِي خبر أبي دَاوُد وَغَيره لما قيل إِنَّه مسكن الْجِنّ وَلِأَنَّهُ قد يكون فِيهِ حَيَوَان ضَعِيف فَيَتَأَذَّى أَو قوي فيؤذيه أَو يُنجسهُ وَمثله السرب وَهُوَ بِفَتْح السِّين وَالرَّاء الشق المستطيل
قَالَ فِي الْمَجْمُوع يَنْبَغِي تَحْرِيم ذَلِك للنَّهْي عَنهُ إِلَّا أَن يعد لذَلِك أَي لقَضَاء الْحَاجة فَلَا تَحْرِيم وَلَا كَرَاهَة وَالْمُعْتَمد مَا مر من عدم التَّحْرِيم
(وَلَا يتَكَلَّم على الْبَوْل وَالْغَائِط) أَي يسكت حَال قَضَاء الْحَاجة فَلَا يتَكَلَّم بِذكر وَلَا غَيره أَي يكره لَهُ ذَلِك إِلَّا لضَرُورَة كإنذار أعمى فَلَا يكره بل قد يجب لخَبر لَا يخرج الرّجلَانِ يضربان الْغَائِط كاشفين عَن عورتهما يتحدثان فَإِن الله يمقت على ذَلِك رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ وَمعنى يضربان يأتيان والمقت البغض وَهُوَ إِن كَانَ على الْمَجْمُوع فبعض موجباته مَكْرُوه فَلَو عطس حمد الله تَعَالَى بِقَلْبِه وَلَا يُحَرك لِسَانه أَي بِكَلَام يسمع بِهِ نَفسه إِذْ لَا يكره الهمس وَلَا التنحنح وَظَاهر كَلَامهم أَن الْقِرَاءَة لَا تحرم حِينَئِذٍ وَقَول ابْن كج إِنَّهَا لَا تجوز أَي جَوَازًا مستوي الطَّرفَيْنِ فتكره
وَأَن قَالَ الْأَذْرَعِيّ اللَّائِق بالتعظيم الْمَنْع
وَيسن أَن لَا(1/57)
ينظر إِلَى فرجه وَلَا إِلَى الْخَارِج مِنْهُ وَلَا إِلَى السَّمَاء وَلَا يعبث بِيَدِهِ وَلَا يلْتَفت يَمِينا وَلَا شمالا
(وَلَا يسْتَقْبل الشَّمْس) وَلَا (الْقَمَر) ببول وَلَا غَائِط أَي يكره لَهُ ذَلِك (وَلَا يستدبرهما) وَهَذَا مَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري فِي روضه وَالَّذِي نَقله النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة عَن الْجُمْهُور أَنه يكره الِاسْتِقْبَال دون الاستدبار
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وَإِن قَالَ فِي التَّحْقِيق إِنَّه لَا أصل للكراهة فالمختار إِبَاحَته وَحكم اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس واستدباره حكم اسْتِقْبَال الشَّمْس وَالْقَمَر واستدبارهما
وَيسن أَن يبعد عَن النَّاس فِي الصَّحرَاء وَمَا ألحق بهَا من الْبُنيان إِلَى حَيْثُ لَا يسمع للْخَارِج مِنْهُ صَوت وَلَا يشم لَهُ ريح فَإِن تعذر عَلَيْهِ الإبعاد عَنْهُم سنّ لَهُم الإبعاد عَنهُ كَذَلِك ويستتر عَن أَعينهم بمرتفع ثُلثي ذِرَاع فَأكْثر بَينه وَبَينه ثَلَاثَة أَذْرع فَأَقل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَتَى الْغَائِط فليستتر فَإِن لم يجد إِلَّا أَن يجمع كثيبا من رمل فليستتر بِهِ فَإِن الشَّيْطَان يلْعَب بمقاعد بني آدم
من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج عَلَيْهِ وَيحصل السّتْر براحلة أَو وهدة أَو إرخاء ذيله
هَذَا إِذا كَانَ بصحراء أَو بُنيان لَا يُمكن تسقيفه كَأَن جلس فِي وسط مَكَان وَاسع فَإِن كَانَ فِي بِنَاء يُمكن تسقيفه أَي عَادَة كفى كَمَا فِي أصل الرَّوْضَة
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَهَذَا الْأَدَب مُتَّفق على اسْتِحْبَابه وَمحله إِذا لم يكن ثمَّ من لَا يغض بَصَره عَن نظر عَوْرَته مِمَّن يحرم عَلَيْهِ نظرها وَإِلَّا وَجب الاستتار
وَعَلِيهِ يحمل قَول النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم يجوز كشف الْعَوْرَة فِي مَحل الْحَاجة فِي الْخلْوَة كحالة الِاغْتِسَال وَالْبَوْل ومعاشرة الزَّوْجَة أما بِحَضْرَة النَّاس فَيحرم كشفها وَلَا يَبُول فِي مَوضِع هبوب الرّيح وَإِن لم تكن هابة إِذْ قد تهب بعد شُرُوعه فِي الْبَوْل فَترد عَلَيْهِ الرشاش وَلَا فِي مَكَان صلب لما ذكر وَلَا يَبُول قَائِما لخَبر التِّرْمِذِيّ وَغَيره بِإِسْنَاد جيد أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت من حَدثكُمْ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَبُول قَائِما فَلَا تُصَدِّقُوهُ أَي يكره لَهُ ذَلِك إِلَّا لعذر فَلَا يكره وَلَا خلاف الأولى وَفِي الْإِحْيَاء عَن الْأَطِبَّاء أَو بولة فِي الْحمام فِي الشتَاء قَائِما خير من شربة دَوَاء وَلَا يدْخل الْخَلَاء حافيا وَلَا مَكْشُوف الرَّأْس لِلِاتِّبَاعِ
ويعتمد فِي قَضَاء الْحَاجة على يسَاره لِأَن ذَلِك أسهل لخُرُوج الْخَارِج وَينْدب أَن يرفع لقَضَاء الْحَاجة ثَوْبه عَن عَوْرَته شَيْئا فَشَيْئًا إِلَّا أَن يخَاف تنجس ثَوْبه فيرفع بِقدر حَاجته ويسبله شَيْئا فَشَيْئًا قبل انْقِضَاء قِيَامه وَلَا يستنجي بِمَاء فِي مَجْلِسه إِن لم يكن معدا لذَلِك أَي يكره لَهُ ذَلِك لِئَلَّا يعود عَلَيْهِ الرشاش فينجسه بِخِلَاف المستنجي بِالْحجرِ والمعد لذَلِك وللمشقة فِي الْمعد لذَلِك ولفقد الْعلَّة فِي الِاسْتِنْجَاء بِالْحجرِ وَيكرهُ أَن يَبُول فِي المغتسل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يبولن أحدكُم فِي مستحمه ثمَّ يتَوَضَّأ فِيهِ فَإِن عَامَّة الوسواس مِنْهُ وَمحله إِذا لم يكن ثمَّ منفذ ينفذ مِنْهُ الْبَوْل وَالْمَاء وَعند قبر مُحْتَرم احتراما لَهُ قَالَ(1/58)
الْأَذْرَعِيّ وَيَنْبَغِي أَن يحرم عِنْد قُبُور الْأَنْبِيَاء وتشتد الْكَرَاهَة عِنْد قُبُور الْأَوْلِيَاء وَالشُّهَدَاء قَالَ وَالظَّاهِر تَحْرِيمه بَين الْقُبُور المتكرر نبشها لاختلاط ترابها بأجزاء الْمَيِّت انْتهى
وَهُوَ حسن وَيحرم على الْقَبْر وَكَذَا فِي إِنَاء فِي الْمَسْجِد على الْأَصَح وَيسن أَن يستبرىء من الْبَوْل عِنْد انْقِطَاعه بِنَحْوِ تنحنح ونثر ذكر
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَالْمُخْتَار أَن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف النَّاس وَالْقَصْد أَن يظنّ أَنه لم يبْق بمجرى الْبَوْل شَيْء يخَاف خُرُوجه فَمنهمْ من يحصل هَذَا بِأَدْنَى عصر وَمِنْهُم من يحْتَاج إِلَى تكرره وَمِنْهُم من يحْتَاج إِلَى تنحنح وَمِنْهُم من لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء من هَذَا وَيَنْبَغِي لكل أحد أَن لَا يَنْتَهِي إِلَى حد الوسوسة وَإِنَّمَا لم يجب الِاسْتِبْرَاء كَمَا قَالَ بِهِ القَاضِي وَالْبَغوِيّ وَجرى عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ لِأَن الظَّاهِر من انْقِطَاع الْبَوْل عدم عوده وَيحمل الحَدِيث على مَا إِذا تحقق أَو غلب على ظَنّه بِمُقْتَضى عَادَته أَنه لَو لم يستبرىء خرج مِنْهُ وَيكرهُ حَشْو مخرج الْبَوْل من الذّكر بِنَحْوِ الْقطن
وإطالة الْمكْث فِي مَحل قَضَاء الْحَاجة لما رُوِيَ عَن لُقْمَان أَنه يُورث وجعا للكبد
وَينْدب أَن يَقُول عِنْد وُصُوله إِلَى مَكَان قَضَاء الْحَاجة باسم الله أَي أتحصن من الشَّيْطَان اللَّهُمَّ أَي يَا الله إِنِّي أعوذ بك أَي أَعْتَصِم بك من الْخبث بِضَم الْخَاء وَالْبَاء جمع خَبِيث والخبائث جمع خبيثة وَالْمرَاد ذُكُور الشَّيَاطِين وإناثهم
وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
والاستعاذة مِنْهُم فِي الْبناء الْمعد لقَضَاء الْحَاجة لِأَنَّهُ مأواهم وَفِي غَيره لِأَنَّهُ سيصير مأوى لَهُم بِخُرُوج الْخَارِج
وَيَقُول ندبا عقب انْصِرَافه غفرانك الْحَمد الله الَّذِي أذهب عني الْأَذَى وعافاني من الْبلَاء لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ النَّسَائِيّ
وَفِي مُصَنف عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَقُول الْحَمد لله الَّذِي أذاقني لذته وَأبقى فِي منفعَته وأذهب عني أَذَاهُ
فصل فِي بَيَان مَا يَنْتَهِي بِهِ الْوضُوء
وَتسَمى الْأَحْدَاث (وَالَّذِي ينْقض الْوضُوء) أَي يَنْتَهِي بِهِ (خَمْسَة أَشْيَاء) فَقَط
وَلَا يُخَالف من جعلهَا أَرْبَعَة كالمنهاج
لِأَن مَفْهُوم قَول الْمِنْهَاج إِلَّا نوم مُمكن مَقْعَده هُوَ مَنْطُوق الثَّانِي هُنَا فتوافقا فَتَأَمّله
وَعلة النَّقْض بهَا غير معقولة الْمَعْنى فَلَا يُقَاس عَلَيْهَا غَيرهَا
فَلَا نقض بِالْبُلُوغِ بِالسِّنِّ
وَلَا بِمَسّ الْأَمْرَد الْحسن وَلَا بِمَسّ فرج الْبَهِيمَة وَلَا بِأَكْل لحم الْجَزُور على الْمَذْهَب فِي الْأَرْبَعَة وَإِن صحّح النَّوَوِيّ الْأَخير مِنْهَا
من جِهَة الدَّلِيل
ثمَّ أجَاب من جِهَة الْمَذْهَب فَقَالَ أقرب مَا يستروح إِلَيْهِ فِي ذَلِك قَول الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وجماهير الصَّحَابَة
وَمِمَّا يضعف النَّقْض بِهِ أَن الْقَائِل بِهِ لَا يعديه إِلَى شحمه وسنامه مَعَ أَنه لَا فرق وَلَا بالقهقهة فِي الصَّلَاة وَإِلَّا لما اخْتصَّ النَّقْض بهَا كَسَائِر النواقض وَمَا رُوِيَ من أَنَّهَا تنقض فضعيف
وَلَا بِالنَّجَاسَةِ الْخَارِجَة من غير الْفرج كالفصد والحجامة لما روى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح أَن رجلَيْنِ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرسا الْمُسلمين فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع فَقَامَ أَحدهمَا يُصَلِّي فَرَمَاهُ رجل من الْكفَّار بِسَهْم فَنَزَعَهُ وَصلى وَدَمه يجْرِي
وَعلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ وَلم يُنكره وَأما صلَاته مَعَ الدَّم فلقلة مَا أَصَابَهُ مِنْهُ وَلَا بشفاء دَائِم الْحَدث لِأَن حَدثهُ لم يرْتَفع
فَكيف يَصح عد الشِّفَاء سَببا للْحَدَث مَعَ أَنه لم يزل وَلَا بِنَزْع الْخُف لِأَن نَزعه يُوجب غسل الرجلَيْن فَقَط على الْأَصَح
أَحدهمَا (مَا) أَي شَيْء (خرج) من أحد (السَّبِيلَيْنِ) أَي من قبل المتوضىء الْحَيّ الْوَاضِح وَلَو من مخرج الْوَلَد أَو أحد ذكرين يَبُول بهما أَو أحد فرجين تبول بِأَحَدِهِمَا وتحيض بِالْآخرِ فَإِن(1/59)
بَال بِأَحَدِهِمَا أَو حَاضَت بِهِ فقد اخْتصَّ الحكم بِهِ أما الْمُشكل فَإِن خرج الْخَارِج من فرجيه جَمِيعًا فَهُوَ مُحدث وَإِن خرج من أَحدهمَا فَلَا نقض أَو من دبر المتوضىء الْحَيّ سَوَاء أَكَانَ الْخَارِج عينا أم ريحًا طَاهِرا أم نجسا جافا أم رطبا مُعْتَادا كبول أَو نَادرا كَدم
انْفَصل أم لَا قَلِيلا أم كثيرا طَوْعًا أم كرها
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط} الْآيَة
وَالْغَائِط الْمَكَان المطمئن من الأَرْض تقضى فِيهِ الْحَاجة سمي بِهِ الْخَارِج للمجاورة وَحَدِيث الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الْمَذْي يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ وَفِيهِمَا اشْتَكَى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي يخيل إِلَيْهِ أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة قَالَ لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا وَالْمرَاد الْعلم بِخُرُوجِهِ لَا سَمعه وَلَا شمه وَلَيْسَ المُرَاد حصر الناقض فِي الصَّوْت وَالرِّيح بل نفي وجوب الْوضُوء بِالشَّكِّ فِي خُرُوج الرّيح وَيُقَاس بِمَا فِي الْآيَة وَالْأَخْبَار كل خَارج مِمَّا ذكر وَإِن لم تَدْفَعهُ الطبيعة كعود خرج من الْفرج بعد أَن دخل فِيهِ
تَنْبِيه التَّعْبِير بالسبيلين جرى على الْغَالِب إِذْ للْمَرْأَة ثَلَاثَة مخارج اثْنَان من قبلهَا وَوَاحِد من دبرهَا وَلِأَنَّهُ لَو خلق للرجل ذكران فَإِنَّهُ ينْتَقض بالخارج من كل مِنْهُمَا كَمَا مر وَكَذَا لَو خلق للْمَرْأَة فرجان كَمَا ذكره فِي الْمَجْمُوع
وَيسْتَثْنى من ذَلِك خُرُوج مني الشَّخْص نَفسه الْخَارِج مِنْهُ أَولا
كَأَن أمنى بِمُجَرَّد نظر أَو احْتِلَام مُمكنا مَقْعَده فَلَا ينْتَقض وضوءه بذلك لِأَنَّهُ أوجب أعظم الْأَمريْنِ وَهُوَ الْغسْل بِخُصُوصِهِ فَلَا يُوجب أدونهما وَهُوَ الْوضُوء بِعُمُومِهِ
كزنا الْمُحصن لما أوجب أعظم الحدين لكَونه زنا الْمُحصن فَلَا يُوجب أدونهما لكَونه زنا وَإِنَّمَا أوجبه الْحيض وَالنّفاس مَعَ إيجابهما الْغسْل لِأَنَّهُمَا يمنعان صِحَة الْوضُوء فَلَا يجامعانه بِخِلَاف خُرُوج الْمَنِيّ يَصح مَعَه الْوضُوء فِي صُورَة سَلس الْمَنِيّ فيجامعه
أما مني غَيره أَو منيه إِذا عَاد فينقض خُرُوجه لفقد الْعلَّة نعم لَو ولدت ولدا جافا انْتقض وضوءها لِأَن الْوَلَد مُنْعَقد من منيها ومني غَيرهَا وَأما خُرُوج بعض الْوَلَد فَالَّذِي يظْهر أَنَّهَا تخير بَين الْوضُوء وَالْغسْل
لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من منيها فَقَط أَو من منيه فَقَط(1/60)
(القَوْل فِي حكم الْخَارِج من الثقب) وَلَو انسد مخرجه الْأَصْلِيّ من قبل أَو دبر بِأَن لم يخرج مِنْهُ شَيْء وَإِن لم يلتحم وَانْفَتح مخرج بدله تَحت معدته وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْعين على الْأَفْصَح مُسْتَقر الطَّعَام
وَهِي من السُّرَّة إِلَى الصَّدْر
كَمَا قَالَه الْأَطِبَّاء وَالْفُقَهَاء واللغويون هَذَا حَقِيقَتهَا
وَالْمرَاد بهَا هُنَا السُّرَّة فَخرج مِنْهُ الْمُعْتَاد خُرُوجه كبول أَو النَّادِر كدود وَدم نقض لقِيَامه مقَام الْأَصْلِيّ
فَكَمَا ينْقض الْخَارِج مِنْهُ الْمُعْتَاد والنادر فَكَذَلِك هَذَا أَيْضا وَإِن انْفَتح فِي السُّرَّة أَو فَوْقهَا أَو محاذيها والأصلي منسد أَو تحتهَا والأصلي منفتح فَلَا ينْقض الْخَارِج مِنْهُ
أما فِي الأولى فَلِأَن مَا يخرج من الْمعدة أَو فَوْقهَا لَا يكون مِمَّا أحالته الطبيعة
لِأَن مَا تحيله تلقيه إِلَى أَسْفَل فَهُوَ بالقيء أشبه
وَأما فِي الثَّانِيَة فَلَا ضَرُورَة إِلَى جعل الْحَادِث مخرجا مَعَ انفتاح الْأَصْلِيّ وَحَيْثُ أَقَمْنَا المنفتح كالأصلي إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ للنقض بالخراج
فَلَا يجزىء فِيهِ الْحجر وَلَا ينْتَقض الْوضُوء بمسه
وَلَا يجب الْغسْل وَلَا غَيره من أَحْكَام الْوَطْء بالإيلاج فِيهِ
وَلَا يحرم النّظر إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ فَوق الْعَوْرَة
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ هَذَا فِي الانسداد الْعَارِض
أما الخلقي فينقض مَعَه الْخَارِج من المنفتح مُطلقًا
والمنسد حِينَئِذٍ كعضو زَائِد من الْخُنْثَى لَا وضوء بمسه وَلَا غسل بإيلاجه والإيلاج فِيهِ
قَالَ النَّوَوِيّ فِي نكته على التَّنْبِيه أَن تعبيرهم بالانسداد يشْعر بِمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَخرج بالمنفتح مَا لَو خرج شَيْء من المنافذ الْأَصْلِيَّة كالفم وَالْأُذن
فَإِنَّهُ لَا ينْقض بذلك كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامهم
(و) الثَّانِي من نواقض الْوضُوء (النّوم)
وَهُوَ استرخاء أعصاب الدِّمَاغ بِسَبَب رطوبات الأبخرة الصاعدة من الْمعدة
وَإِنَّمَا ينْقض إِذا كَانَ (على غير هَيْئَة المتمكن) من الأَرْض مَقْعَده أَي ألييه وَذَلِكَ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العينان وكاء السه فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره والسه بسين مُهْملَة مُشَدّدَة مَفْتُوحَة وهاء حَلقَة الدبر
والوكاء بِكَسْر الْوَاو وَالْمدّ الْخَيط الَّذِي يرْبط الَّذِي يرْبط بِهِ الشَّيْء
وَالْمعْنَى فِيهِ أَن الْيَقَظَة هِيَ الْحَافِظ لما يخرج والنائم قد يخرج مِنْهُ شَيْء وَلَا يشْعر بِهِ
فَإِن قيل الأَصْل عدم خُرُوج شَيْء فَكيف عدل عَنهُ وَقيل بِالنَّقْضِ أُجِيب بِأَنَّهُ لما جعل مَظَنَّة لِخُرُوجِهِ من غير شُعُور بِهِ أقيم مقَام الْيَقِين كَمَا أُقِيمَت الشَّهَادَة المفيدة للظن مقَام الْيَقِين فِي شغل الذِّمَّة
أما إِذا نَام وَهُوَ مُمكن ألييه من مقره من أَرض أَو غَيرهَا فَلَا ينْتَقض وضوءه وَلَو كَانَ مُسْتَندا إِلَى مَا لَو زَالَ لسقط للأمن من خُرُوج شَيْء حِينَئِذٍ من دبره وَلَا عِبْرَة بِاحْتِمَال خُرُوج ريح من قبله لِأَنَّهُ نَادِر وَلقَوْل أنس رَضِي الله عَنهُ كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينامون ثمَّ يصلونَ وَلَا يتوضؤون
رَوَاهُ مُسلم
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد ينامون حَتَّى تخفق رؤوسهم الأَرْض فَحمل على نوم الْمُمكن جمعا بَين الْحَدِيثين
فَدخل فِي ذَلِك مَا لَو نَام مُحْتَبِيًا وَأَنه لَا فرق بَين النحيف وَغَيره وَهُوَ مَا صرح بِهِ فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا
نعم إِن كَانَ بَين مَقْعَده ومقره تجاف نقض
كَمَا نَقله فِي الشَّرْح الصَّغِير عَن الرَّوْيَانِيّ وَأقرهُ وَلَا تَمْكِين لمن نَام على قَفاهُ مُلْصقًا مَقْعَده بمقره
وَمن خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا ينْتَقض وضوءه بنومه مُضْطَجعا
وَيسن الْوضُوء من النّوم مُمكنا خُرُوجًا من الْخلاف(1/61)
(و) الثَّالِث من نواقض الْوضُوء (زَوَال الْعقل) الغريزي بجنون (أَو بسكر) وَإِن لم يَأْثَم بِهِ (أَو) بِعَارِض (مرض) كإغماء أَو بتناول داوء لِأَن ذَلِك أبلغ من النّوم
وَلَا فرق بَين أَن يكون مُتَمَكنًا أم لَا
فَائِدَة قَالَ الْغَزالِيّ الْجُنُون يزِيل الْعقل وَالْإِغْمَاء يغمره وَالنَّوْم يستره
تَنْبِيه علم من كَلَام المُصَنّف أَن أَوَائِل السكر الَّذِي لَا يَزُول بِهِ الشُّعُور لَا ينْقض
وَهُوَ كَذَلِك
القَوْل فِي النَّقْض باللمس وشروطه (و) الرَّابِع من نواقض الْوضُوء (لمس الرجل) ببشرته (الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة) أَي بَشرَتهَا من غير حَائِل لقَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} أَي لمستم كَمَا قرىء بِهِ فعطف اللَّمْس على الْمَجِيء من الْغَائِط ورتب عَلَيْهِمَا الْأَمر بِالتَّيَمُّمِ عِنْد فقد المَاء فَدلَّ على أَنه حدث
لَا جامعتم لِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر إِذْ اللَّمْس لَا يخْتَص بِالْجِمَاعِ قَالَ تَعَالَى {فلمسوه بِأَيْدِيهِم} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّك لمست وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين أَن يكون بِشَهْوَة أَو إِكْرَاها أَو نِسْيَان أَو يكون الرجل ممسوحا أَو خَصيا أَو عنينا أَو الْمَرْأَة عجوزا شوهاء أَو كَافِرَة بتمجس أَو غَيره أَو حرَّة أَو رقيقَة أَو أَحدهمَا مَيتا لَكِن لَا ينْتَقض وضوء الْمَيِّت
واللمس الجس بِالْيَدِ
وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه مَظَنَّة ثوران الشَّهْوَة
وَمثله فِي ذَلِك بَاقِي صُورَة الالتقاء فَألْحق بِهِ بِخِلَاف النَّقْض بِمَسّ الْفرج كَمَا سَيَأْتِي فَإِنَّهُ مُخْتَصّ بِبَطن الْكَفّ لِأَن الْمس إِنَّمَا يثير الشَّهْوَة بِبَطن الْكَفّ
واللمس يثيرها بِهِ وَبِغَيْرِهِ
والبشرة ظَاهر الْجلد وَفِي مَعْنَاهَا كلحم الْأَسْنَان وَاللِّسَان واللثة وبطن الْعين
وَخرج مَا إِذا كَانَ على الْبشرَة حَائِل وَلَو رَقِيقا
نعم لَو كثر الْوَسخ على الْبشرَة من الْعرق فَإِن لمسه ينْقض لِأَنَّهُ صَار كالجزء من الْبدن بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ من غُبَار
وَالسّن وَالشعر وَالظفر كَمَا سَيَأْتِي
وَبِالرجلِ وَالْمَرْأَة الرّجلَانِ والمرأتان والخنثيان وَالْخُنْثَى مَعَ الرجل أَو الْمَرْأَة وَلَو بِشَهْوَة لانْتِفَاء مظنتها ولاحتمال التوافق فِي صُورَة الْخُنْثَى
وَالْمرَاد بِالرجلِ الذّكر إِذا بلغ حدا يشتهى لَا الْبَالِغ
وبالمرأة الْأُنْثَى إِذا بلغت حدا يشتهى كَذَلِك لَا الْبَالِغَة
تَنْبِيه لَو لمست الْمَرْأَة رجلا أَجْنَبِيّا أَو الرجل مرأة أَجْنَبِيَّة هَل ينْتَقض وضوء الْآدَمِيّ أم لَا يَنْبَغِي أَن يبْنى ذَلِك على صِحَة مناكحتهم وَفِي ذَلِك خلاف يَأْتِي فِي النِّكَاح إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَلَا ينْقض لمس محرم لَهُ بِنسَب أَو رضَاع أَو مصاهرة وَلَو بِشَهْوَة لِأَنَّهَا لَيست مَظَنَّة للشهوة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَرجل وَلَو شكّ فِي الْمَحْرَمِيَّة لم ينْتَقض وضوءه
لِأَن الأَصْل الطَّهَارَة وَظَاهر كَلَامهم أَن الحكم كَذَلِك وَإِن اخْتلطت محرمه بأجنبيات غير محصورات وَهُوَ كَذَلِك لِأَن الطُّهْر لَا يرفع بِالشَّكِّ نعم إِن تزوج بِوَاحِدَة مِنْهُنَّ انْتقض وضوءه بلمسها
لِأَن الحكم لَا يَتَبَعَّض(1/62)
لوإن قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين يَنْبَغِي عدم النَّقْض كَمَا لَو تزوج بصغيرة لَا تشْتَهى وَمثل ذَلِك مَا لَو تزوج بِامْرَأَة مَجْهُولَة النّسَب واستلحقها أَبوهُ وَلم يصدقهُ فَإِن النّسَب يثبت وَتصير أُخْتا لَهُ وَلَا يَنْفَسِخ نِكَاحه وينتقض وضوءه بلمسها لما تقدم
قَالَ بَعضهم وَلَيْسَ لنا من ينْكح أُخْته فِي الْإِسْلَام إِلَّا هَذَا
وَلَا تنقض صَغِيرَة السن وَلَا صَغِير لم يبلغ كل مِنْهُمَا حدا يشتهى عرفا لانْتِفَاء مَظَنَّة الشَّهْوَة بِخِلَاف مَا إِذا بلغاها وَإِن انْتَفَت بعد ذَلِك لنَحْو هرم كَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَلَا شعر وَسن وظفر وَعظم لِأَن مُعظم الالتذاذ فِي هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِالنّظرِ دون اللَّمْس وَلَا ينْقض الْعُضْو المبان غير الْفرج وَلَو قطعت الْمَرْأَة نِصْفَيْنِ هَل ينْقض كل مِنْهُمَا أَو لَا وَجْهَان وَالْأَقْرَب عدم الانتقاض قَالَ النَّاشِرِيّ وَلَو كَانَ أحد الجزأين أعظم نقض دون غَيره انْتهى
وَالَّذِي يظْهر أَنه إِن كَانَ بِحَيْثُ يُطلق عَلَيْهِ اسْم امْرَأَة نقض وَإِلَّا فَلَا وَتقدم أَنه ينْتَقض الْوضُوء بلمس الْميتَة وَالْمَيِّت وَوَقع للنووي فِي رُؤُوس الْمسَائِل أَنه رجح عدم النَّقْض بلمس الْميتَة وَالْمَيِّت وعد من السَّهْو
القَوْل فِي النَّقْض بالمس وشروطه (و) الْخَامِس وَهُوَ آخر النواقض (مس) شَيْء من (فرج الْآدَمِيّ) من نَفسه أَو غَيره ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا بِبَطن الْكَفّ من غير حَائِل لخَبر من مس فرجه فَليَتَوَضَّأ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَلخَبَر ابْن حبَان إِذا أفْضى أحدكُم بِيَدِهِ إِلَى فرجه وَلَيْسَ بَينهمَا ستر وَلَا حجاب فَليَتَوَضَّأ والإفضاء لُغَة الْمس بِبَطن الْكَفّ فَثَبت النَّقْض فِي فرج نَفسه بِالنَّصِّ فَيكون فِي فرج غَيره أولى لِأَنَّهُ أفحش لهتك حُرْمَة غَيره بل ثَبت أَيْضا فِي رِوَايَة من مس ذكرا فَليَتَوَضَّأ وَهُوَ شَامِل لنَفسِهِ وَلغيره وَأما خبر عدم النَّقْض بِمَسّ الْفرج فَقَالَ ابْن حبَان وَغَيره إِنَّه مَنْسُوخ وَالْمرَاد بِبَطن الْكَفّ الرَّاحَة مَعَ بطُون الْأَصَابِع الْأصْبع الزَّائِدَة إِن كَانَت على سنَن الْأَصَابِع انْتقض الْوضُوء بالمس بهَا وَإِلَّا فَلَا وَسميت كفا لِأَنَّهَا تكف الْأَذَى عَن الْبدن وبفرج الْمَرْأَة ملتقى الشرفين على المنفذ فَلَا نقض بِمَسّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا الأليين وَلَا بِمَا بَين الْقبل والدبر وَلَا بالعانة
(و) ينْقض (مس حَلقَة دبره) أَي الْآدَمِيّ (على الْجَدِيد) لِأَنَّهُ فرج وَقِيَاسًا على الْقبل بِجَامِع النَّقْض بالخارج مِنْهُمَا وَالْمرَاد بهَا ملتقى المنفذ لَا مَا وَرَاءه وَلَام حَلقَة سَاكِنة وَحكي فتحهَا
وينقض مس بعض الذّكر المبان كمس كُله وَإِلَّا مَا قطع فِي الْخِتَان إِذْ لَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الذّكر قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَأما قبل الْمَرْأَة والدبر فَالْمُتَّجه إِن بَقِي اسمهما بعد قطعهمَا نقض مسهما وَإِلَّا فَلَا لِأَن الحكم مَنُوط بِالِاسْمِ وَمن لَهُ ذكران نقض الْمس بِكُل مِنْهُمَا سَوَاء كَانَا عاملين أم غير عاملين لَا زَائِد مَعَ عَامل وَمحله كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيّ نقلا عَن الفوراني إِذا لم يكن مسامتا لِلْعَامِلِ وَإِلَّا فَهُوَ كأصبع زَائِدَة مسامتة للبقية فينقض وَمن لَهُ كفان نقضتا بالمس سَوَاء أكانتا عاملتين أم غير عاملتين لَا زَائِدَة مَعَ عاملة فَلَا نقض إِذا كَانَ الكفان على معصمين بِخِلَاف مَا إِذا كَانَتَا على معصم وَاحِد وَكَانَت على سمت الْأَصْلِيَّة كالأصبع الزَّائِدَة فَإِنَّهَا ينْقض الْمس بهَا
وينقض فرج الْمَيِّت وَالصَّغِير وَمحل الْجب وَالذكر الأشل وباليد الشلاء
وَخرج بِبَطن الْكَفّ رُؤُوس الْأَصَابِع وَمَا بَينهَا وحرفها وحرف الْكَفّ فَلَا نقض بذلك لخروجها عَن سمت الْكَفّ وَضَابِط مَا ينْقض مَا يسْتَتر عِنْد وضع إِحْدَى الْيَدَيْنِ على الْأُخْرَى مَعَ تحامل يسير وبفرج الْآدَمِيّ فرج بَهِيمَة أَو طير فَلَا نقض بمسه قِيَاسا على عدم وجوب ستره وَعدم تَحْرِيم النّظر إِلَيْهِ
قَاعِدَة فقهية يَنْبَنِي عَلَيْهَا كثير من الْأَحْكَام تَتِمَّة من الْقَوَاعِد المقررة الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كثير من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة اسْتِصْحَاب الأَصْل وَطرح الشَّك وإبقاء مَا كَانَ على مَا كَانَ وَقد أجمع النَّاس على أَن الشَّخْص لَو شكّ هَل طلق زَوجته أم لَا أَنه يجوز لَهُ وَطْؤُهَا وَأَنه لَو شكّ فِي امْرَأَة هَل تزَوجهَا أم لَا لَا يجوز لَهُ وَطْؤُهَا وَمن ذَلِك أَنه لَا يرْتَفع يَقِين طهر أَو حدث بِظَنّ ضِدّه فَلَو تَيَقّن الطُّهْر وَالْحَدَث كَأَن وجدا مِنْهُ بعد الْفجْر وَجَهل السَّابِق مِنْهُمَا أَخذ بضد مَا قبلهمَا فَإِن كَانَ قبلهمَا مُحدثا فَهُوَ الْآن متطهر سَوَاء اعْتَادَ تَجْدِيد الطُّهْر أم لَا لِأَنَّهُ تَيَقّن الطُّهْر(1/63)
وَشك فِي رافعه وَالْأَصْل عَدمه أَو متطهرا فَهُوَ الْآن مُحدث إِن اعْتَادَ التَّجْدِيد لِأَنَّهُ تَيَقّن الْحَدث وَشك فِي رافعه وَالْأَصْل عَدمه بِخِلَاف مَا إِذا لم يعتده فَلَا يَأْخُذ بِهِ بل يَأْخُذ بِالطُّهْرِ لِأَن الظَّاهِر تَأَخّر طهره عَن حَدثهُ بِخِلَاف من اعتاده
فَإِن لم يتَذَكَّر مَا قبلهمَا
فَإِن اعْتَادَ التَّجْدِيد لزمَه الْوضُوء لتعارض الِاحْتِمَالَيْنِ بِلَا مُرَجّح وَلَا سَبِيل إِلَى الصَّلَاة مَعَ التَّرَدُّد الْمَحْض فِي الطُّهْر
وَإِلَّا أَخذ بِالطُّهْرِ وَمن هَذِه الْقَاعِدَة مَا إِذا شكّ من نَام قَاعِدا مُتَمَكنًا ثمَّ مَال وانتبه وَشك فِي أَيهمَا أسبق أَو شكّ هَل مَا رَآهُ رُؤْيا أَو حَدِيث نفس أَو هَل لمس الشّعْر أَو الْبشرَة فَلَا نقض بِشَيْء من ذَلِك
فصل فِي مُوجب الْغسْل
وَهُوَ بِفَتْح الْغَيْن وَضمّهَا لُغَة سيلان المَاء على الشَّيْء مُطلقًا
وَالْفَتْح أشهر كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي التَّهْذِيب وَلَكِن الْفُقَهَاء أَو أَكْثَرهم إِنَّمَا تستعمله بِالضَّمِّ
وَشرعا سيلانه على جَمِيع الْبدن مَعَ النِّيَّة
وَالْغسْل بِالْكَسْرِ مَا يغسل بِهِ الرَّأْس من نَحْو سدر وخطمي
القَوْل فِي مَا يشْتَرك فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء (وَالَّذِي يُوجب الْغسْل سِتَّة أَشْيَاء) مِنْهَا (ثَلَاثَة تشترك فِيهَا الرِّجَال وَالنِّسَاء) مَعًا (وَهِي) أَي الأولى (التقاء الختانين) بِإِدْخَال الْحَشَفَة وَلَا بِلَا قصد أَو كَانَ الذّكر أشل أَو غير منتشر
أَو قدرهَا من مقطوعها (فرجا) من امْرَأَة وَلَو ميتَة أَو كَانَ على الذّكر خرفة ملفوفة وَلَو غَلِيظَة
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا التقى الختانان فقد وَجب الْغسْل أَي وَإِن لم ينزل رَوَاهُ مُسلم وَأما الْأَخْبَار الدَّالَّة على اعْتِبَار الْإِنْزَال كَخَبَر إِنَّمَا المَاء من المَاء فمنسوخة
وَأجَاب ابْن عَبَّاس بِأَن مَعْنَاهُ أَنه لَا يجب الْغسْل بالاحتلام إِلَّا أَن ينزل
وَذكر الختانين جري على الْغَالِب
فَلَو أَدخل حشفته أَو قدرهَا من مقطوعها فِي فرج بَهِيمَة أَو فِي دبر كَانَ الحكم كَذَلِك لِأَنَّهُ جماع فِي فرج
وَلَيْسَ المُرَاد بالتقاء الختانين انضمامهما لعدم إِيجَابه الْغسْل بِالْإِجْمَاع
بل تحاذيهما
يُقَال التقى الفارسان إِذا تحاذيا وَإِن لم ينضما
وَذَلِكَ إِنَّمَا يحصل بِإِدْخَال الْحَشَفَة فِي الْفرج إِذْ الْخِتَان مَحل الْقطع فِي الْخِتَان وختان الْمَرْأَة فَوق مخرج الْبَوْل ومخرج الْبَوْل فَوق مدْخل الذّكر
وَلَو أولج حَيَوَان قردا أَو غَيره فِي آدَمِيّ وَلَا حَشَفَة لَهُ فَهَل يعْتَبر إيلاج كل ذكره أَو إيلاج قدر حَشَفَة معتدلة قَالَ الإِمَام فِيهِ نظر موكول إِلَى رَأْي الْفَقِيه
انْتهى
وَيَنْبَغِي اعْتِمَاد الثَّانِي
ويجنب صبي مَجْنُون أولجا أَو أولج فيهمَا
وَيجب عَلَيْهِمَا الْغسْل بعد الْكَمَال وَصَحَّ من مُمَيّز ويجزيه وَيُؤمر بِهِ كَالْوضُوءِ وإيلاج الْخُنْثَى وَمَا دون الْحَشَفَة لَا أثر لَهُ فِي الْغسْل
وَأما(1/64)
الْوضُوء فَيجب على المولج فِيهِ بالنزع من دبره وَمن قبل أثنى
وإيلاج الْحَشَفَة بالحائل جَار فِي سَائِر الْأَحْكَام كإفساد الصَّوْم وَالْحج
القَوْل فِي حكم الْخُنْثَى وَيُخَير الْخُنْثَى بَين الْوضُوء وَالْغسْل بإيلاجه فِي دبر ذكر لَا مَانع من النَّقْض بلمسه أَو فِي دبر خُنْثَى أولج ذكره فِي قبل المولج لِأَنَّهُ إِمَّا جنب بِتَقْدِير ذكورته فيهمَا أَو أنوثته وذكورة الآخر فِي الثَّانِيَة أَو مُحدث بِتَقْدِير أنوثته فيهمَا مَعَ أنوثة الآخر فِي الثَّانِيَة
فَيُخَير بَينهمَا كَمَا سَيَأْتِي فِيمَن اشْتبهَ عَلَيْهِ الْمَنِيّ بِغَيْرِهِ
وَكَذَا يُخَيّر الذّكر إِذا أولج الْخُنْثَى فِي دبر وَلَا مَانع من النَّقْض
كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَام الشَّيْخَيْنِ فِي بَاب الْوضُوء
أما إيلاجه فِي قبل خُنْثَى أَو فِي دبره وَلم يولج الآخر فِي قبله فَلَا يُوجب عَلَيْهِ شَيْئا
وَلَو أولج رجل فِي قبل خُنْثَى فَلَا يجب عَلَيْهِمَا غسل وَلَا وضوء لاحْتِمَال أَنه رجل فَإِن أولج ذَلِك الْخُنْثَى فِي وَاضح آخر أجنب يَقِينا وَحده
لِأَنَّهُ جَامع أَو جومع
بِخِلَاف الآخرين لَا جَنَابَة عَلَيْهِمَا
وأحدث الْوَاضِح الآخر بالنزع مِنْهُ
أما إِذا أولج الْخُنْثَى فِي الرجل المولج فَإِن كلا مِنْهُمَا يجنب
وَمن أولج أحد ذكريه أجنب إِن كَانَ يَبُول بِهِ وَحده وَلَا أثر للْآخر فِي نقض الطَّهَارَة إِذا لم يكن على سنَنه فَإِن كَانَ على سنَنه أَو كَانَ يَبُول بِكُل مِنْهُمَا أَو لَا يَبُول بِوَاحِد مِنْهُمَا أَو كَانَ الانسداد عارضا أجنب بِكُل مِنْهُمَا
(و) الثَّانِيَة (إِنْزَال) أَي خُرُوج (الْمَنِيّ) بتَشْديد الْيَاء وَسمع تخفيفها أَي مني الشَّخْص نَفسه الْخَارِج مِنْهُ أول مرّة وَإِن لم يُجَاوز فرج الثّيّب بل وصل إِلَى مَا يجب غسله فِي الِاسْتِنْجَاء أما الْبكر فَلَا بُد من بروزه إِلَى الظَّاهِر كَمَا أَنه فِي حق الرجل لَا بُد من بروزه عَن الْحَشَفَة
وَالْأَصْل فِي ذَلِك خبر مُسلم إِنَّمَا المَاء من المَاء وَخبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أم سَلمَة قَالَت جَاءَت أم سليم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت إِن الله لَا يستحيي من الْحق هَل على الْمَرْأَة من غسل إِذا هِيَ احْتَلَمت قَالَ نعم إِذا رَأَتْ المَاء
أما الْخُنْثَى الْمُشكل إِذا خرج الْمَنِيّ من أحد فرجيه فَلَا غسل عَلَيْهِ لاحْتِمَال أَن يكون زَائِدا مَعَ انفتاح الْأَصْلِيّ
فَإِن أمنى مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا وحاض من الآخر وَجب عَلَيْهِ الْغسْل
القَوْل فِي خُرُوج الْمَنِيّ من غير طَرِيقه الْمُعْتَاد وَلَا فرق فِي وجوب الْغسْل بِخُرُوج الْمَنِيّ بَين أَن يخرج من طَرِيقه الْمُعْتَاد وَإِن لم يكن مستحكما أَو من غَيره إِذا كَانَ مستحكما مَعَ انسداد الْأَصْلِيّ وَخرج من تَحت الصلب فالصلب هُنَا كالمعدة فِي فصل الْحَدث فَيُفَرق بَين الانسداد الْعَارِض والخلقي كَمَا فرق هُنَاكَ كَمَا صَوبه فِي الْمَجْمُوع
والصلب إِنَّمَا يعْتَبر للرجل كَمَا قَالَه فِي الْمُهِمَّات أما الْمَرْأَة فَمَا بَين ترائبها والصلب عِظَام الظّهْر كُله والترائب عِظَام الصَّدْر
قَالَ تَعَالَى {يخرج من بَين الصلب والترائب} أَي صلب الرجل وترائب الْمَرْأَة فَإِن خرج غير المستحكم من غير الْمُعْتَاد كَأَن خرج لمَرض فَلَا يجب الْغسْل بِهِ بِلَا خلاف كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب وَلَا يجب بِخُرُوج مني غَيره مِنْهُ وَلَا بِخُرُوج منيه بعد استدخاله وَيعرف الْمَنِيّ بتدفقه بِأَن يخرج بدفعات قَالَ تَعَالَى {من مَاء دافق} وَسمي منيا لِأَنَّهُ يمنى أَي يصب
أَو لَذَّة بِخُرُوجِهِ مَعَ فتور الذّكر وانكسار الشَّهْوَة عقبه وَإِن لم يتدفق(1/65)
لقلته أَو خرج على لون الدَّم أَو ريح عجين حِنْطَة أَو نَحْوهَا أَو ريح طلع رطبا أَو ريح بَيَاض بيض دَجَاج أَو نَحوه جافا وَإِن لم يتلذ بِهِ وَلم يتدفق لقلته كَأَن خرج بَاقِي منيه بعد غسله أما إِذا خرج من قبل الْمَرْأَة مني جِمَاعهَا بعد غسلهَا فَلَا تعيد الْغسْل إِلَّا إِن قَضَت شهوتها فَإِن لم يكن لَهَا شَهْوَة كصغيرة أَو كَانَت وَلم تقض كنائمة لَا إِعَادَة عَلَيْهَا
فَإِن قيل إِذا قَضَت شهوتها لم تتيقن خُرُوج منيها ويقين الطَّهَارَة لَا يرفع بِظَنّ الْحَدث إِذْ حدثها وَهُوَ خُرُوج منيها غير مُتَيَقن وَقَضَاء شهوتها لَا يَسْتَدْعِي خُرُوج شَيْء من منيها كَمَا قَالَه فِي التوشيح
أُجِيب بِأَن قَضَاء شهوتها منزل منزلَة نومها فِي خُرُوج الْحَدث فنزلوا المظنة منزلَة المئنة وَخرج بقبل الْمَرْأَة مَا لَو وطِئت فِي دبرهَا فاغتسلت ثمَّ خرج مِنْهَا مني الرجل لم يجب عَلَيْهَا إِعَادَة الْغسْل كَمَا علم مِمَّا مر فَإِن فقدت الصِّفَات الْمَذْكُورَة فِي الْخَارِج فَلَا غسل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمني
إِذا شكّ هَل هُوَ مني أَو غَيره فَإِن احْتمل كَون الْخَارِج منيا أَو غَيره كودي أَو مذي تخير بَينهمَا على الْمُعْتَمد فَإِن جعله منيا اغْتسل أَو غَيره تَوَضَّأ وَغسل مَا أَصَابَهُ لِأَنَّهُ إِذا أَتَى بِمُقْتَضى أَحدهمَا برىء مِنْهُ يَقِينا وَالْأَصْل بَرَاءَته من الآخر وَلَا معَارض لَهُ بِخِلَاف من نسي صَلَاة من صَلَاتَيْنِ حَيْثُ يلْزمه فعلهمَا لاشتغال ذمَّته بهما جَمِيعًا وَالْأَصْل بَقَاء كل مِنْهُمَا وَإِذا اخْتَار أَحدهمَا وَفعله اعْتد بِهِ فَإِن لم يَفْعَله كَانَ لَهُ الرُّجُوع عَنهُ وَفعل الآخر إِذْ لَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ شَيْء بِاخْتِيَارِهِ وَلَو استدخلت الْمَرْأَة ذكرا مَقْطُوعًا أَو قدر الْحَشَفَة مِنْهُ لَزِمَهَا الْغسْل كَمَا فِي الرَّوْضَة وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَا فرق بَين استدخاله من رَأسه أَو أَصله أَو وَسطه بِجمع طَرفَيْهِ
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَفِي ذَلِك نظر انْتهى
وَالظَّاهِر أَن الْمعول على الْحَشَفَة حَيْثُ وجدت
وَظَاهر كَلَام الْمِنْهَاج أَن مني الْمَرْأَة يعرف بالخواص الْمَذْكُورَة وَهُوَ قَول الْأَكْثَر
وَقَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ لَا يعرف إِلَّا بالتلذذ
وَقَالَ ابْن صَلَاح لَا يعرف إِلَّا بالتلذذ وَالرِّيح وَجزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَالْأول هُوَ الظَّاهِر
وَيُؤَيِّدهُ كَمَا قَالَ ابْن الرّفْعَة قَول الْمُخْتَصر وَإِذا رَأَتْ الْمَرْأَة المَاء الدافق
فرع لَو رأى فِي فرَاشه أَو ثَوْبه وَلَو بِظَاهِرِهِ منيا لَا يحْتَمل أَنه من غَيره لزمَه الْغسْل وإعادة كل صَلَاة لَا يحْتَمل خلوها عَنهُ وَيسن إِعَادَة كل صَلَاة احْتمل خلوها عَنهُ وَإِن احْتمل كَونه من آخر نَام مَعَه فِي فرَاشه مثلا فَإِنَّهُ يسن لَهما الْغسْل والإعادة وَلَو أحس بنزول الْمَنِيّ فَأمْسك ذكره فَلم يخرج مِنْهُ شَيْء فَلَا غسل عَلَيْهِ كَمَا علم مِمَّا مر وَصرح بِهِ فِي الرَّوْضَة
(و) الثَّالِثَة (الْمَوْت) لمُسلم غير شَهِيد كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْجَنَائِز لحَدِيث الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته فَقَالَ اغسلوه بِمَاء وَسدر رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَظَاهره الْوُجُوب وَهُوَ من فروض الْكِفَايَة والوقص كسر الْعُنُق
القَوْل فِي مَا يخْتَص بِهِ النِّسَاء (وَثَلَاثَة) مِنْهَا (تخْتَص بهَا النِّسَاء وَهِي) أَي الأولى (الْحيض) لقَوْله تَعَالَى {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} أَي الْحيض وَلخَبَر البُخَارِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لفاطمة بنت أبي حُبَيْش إِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة وَإِذا أَدْبَرت فاغتسلي وَصلي(1/66)
(و) الثَّانِيَة (النّفاس) لِأَنَّهُ دم حيض مُجْتَمع وَيعْتَبر مَعَ خُرُوج كل مِنْهُمَا وانقطاعه الْقيام إِلَى الصَّلَاة أَو نَحْوهَا كَمَا فِي الرَّافِعِيّ وَالتَّحْقِيق وَإِن صحّح فِي الْمَجْمُوع أَن مُوجبه الِانْقِطَاع فَقَط (و) الثَّالِثَة (الْولادَة) وَلَو علقَة أَو مُضْغَة وَلَو بِلَا بَلل لِأَنَّهُ مني مُنْعَقد وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن بَلل غَالِبا فأقيم مقَامه كالنوم مَعَ الْخَارِج وتفطر بِهِ الْمَرْأَة على الْأَصَح فِي التَّحْقِيق وَغَيره
القَوْل فِي مَا يحرم على الْحَائِض وَالْجنب تَتِمَّة يحرم على الْجنب وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء مَا حرم بِالْحَدَثِ الْأَصْغَر لِأَنَّهَا أغْلظ مِنْهُ وشيئان آخرَانِ أَحدهمَا
الْمكْث لمُسلم غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَسْجِدِ أَو التَّرَدُّد فِيهِ لغير عذر لقَوْله تَعَالَى {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره لَا تقربُوا مَوَاضِع الصَّلَاة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عبور سَبِيل بل موَاضعهَا وَهُوَ الْمَسْجِد وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى {لهدمت صوامع وَبيع وصلوات ومساجد} وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا أحل الْمَسْجِد لحائض وَلَا جنب رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَعَن أَبَوَيْهَا
وَقَالَ ابْن الْقطَّان إِنَّه حسن وَخرج بالمكث والتردد العبور لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَة وكما لَا يحرم لَا يكره إِن كَانَ لَهُ فِيهِ غَرَض مثل أَن يكون الْمَسْجِد أقرب طريقيه فَإِن لم يكن لَهُ غَرَض كره كَمَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا وَحَيْثُ عبر لَا يُكَلف الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي بل يمشي على الْعَادة وبالمسلم الْكَافِر فَإِنَّهُ يُمكن من الْمكْث فِي الْمَسْجِد على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا وَبِغير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ فَلَا يحرم عَلَيْهِ
قَالَ صَاحب التَّلْخِيص ذكر من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دُخُوله الْمَسْجِد جنبا وبالمسجد الْمدَارِس والربط ومصلى الْعِيد وَنَحْو ذَلِك
وَبلا عذر مَا إِذا حصل لَهُ عذر كَأَن احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِد وَتعذر عَلَيْهِ الْخُرُوج لإغلاق بَابه أَو خوف على نَفسه أَو عضوه أَو مَنْفَعَة ذَلِك أَو على مَاله فَلَا يحرم عَلَيْهِ الْمكْث وَلَكِن يجب عَلَيْهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة أَن يتَيَمَّم إِن وجد غير تُرَاب الْمَسْجِد فَإِن لم يجد غَيره لَا يجوز لَهُ أَن يتَيَمَّم بِهِ فَلَو خَالف وَتيَمّم بِهِ صَحَّ تيَمّمه كالتيمم بِتُرَاب مَغْصُوب وَالْمرَاد بِتُرَاب الْمَسْجِد الدَّاخِل فِي وَقفه لَا الْمَجْمُوع من ريح وَنَحْوه وَثَانِيهمَا يحرم على من ذكر قِرَاءَة الْقُرْآن بِاللَّفْظِ فِي حق النَّاطِق وبالإشارة فِي حق الْأَخْرَس كَمَا قَالَه القَاضِي فِي فَتَاوِيهِ فَإِنَّهَا منزلَة النُّطْق هُنَا وَذَلِكَ لحَدِيث التِّرْمِذِيّ وَغَيره لَا يقْرَأ الْجنب وَلَا الْحَائِض شَيْئا من الْقُرْآن
وَيجوز لمن بِهِ حدث أكبر إِجْرَاء الْقُرْآن على قلبه وَنظر فِي الْمُصحف وَقِرَاءَة مَا نسخت تِلَاوَته وتحريك لِسَانه وهمسه بِحَيْثُ لَا يسمع نَفسه لِأَنَّهَا لَيست بِقِرَاءَة قُرْآن وفاقد الطهُورَيْنِ يقْرَأ الْفَاتِحَة وجوبا فَقَط للصَّلَاة لِأَنَّهُ مُضْطَر إِلَيْهَا أما خَارج الصَّلَاة فَلَا يجوز لَهُ أَن يقْرَأ شَيْئا وَلَا أَن تُوطأ الْحَائِض أَو النُّفَسَاء إِذا انْقَطع دَمهَا وَيحل لمن ذكر أذكار الْقُرْآن وَغَيرهَا كمواعظه وأخباره وَأَحْكَامه لَا بِقصد قُرْآن كَقَوْلِه عِنْد الرّكُوب {سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين} أَي مطيقين وَعند الْمُصِيبَة {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} فَإِن قصد الْقُرْآن وَحده أَو مَعَ الذّكر حرم وَإِن أطلق فَلَا كَمَا نبه عَلَيْهِ فِي الدقائق لعدم الْإِخْلَال بحرمته لِأَنَّهُ لَا يكون قُرْآنًا إِلَّا بِالْقَصْدِ قَالَه النَّوَوِيّ وَغَيره
وَيسن للْجنب غسل الْفرج وَالْوُضُوء للْأَكْل وَالشرب وَالنَّوْم وَالْجِمَاع وللحائض وَالنُّفَسَاء بعد انْقِطَاع دمهما(1/67)
(فصل فِي أَحْكَام الْغسْل)
(وفرائض الْغسْل) وَلَو مسنونا (ثَلَاثَة أَشْيَاء) على مَا صَححهُ الرَّافِعِيّ من عدم الِاكْتِفَاء بغسلة عَن الْحَدث والخبث وفرضان على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي كتبه من الِاكْتِفَاء لَهما بغسلة وَهُوَ الْمَذْهَب
الأول (النِّيَّة) لحَدِيث إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ فينوي رفع الْجَنَابَة أَي رفع حكمهَا إِن كَانَ جنبا وَرفع حدث الْحيض إِن كَانَت حَائِضًا أَو لتوطأ كَمَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا أَو الْغسْل من الْحيض كَمَا قَالَه ابْن الْمقري فَلَو نوى شخص رفع الْجَنَابَة وحدثه الْحيض أَو عَكسه أَو نوى رفع جَنَابَة الْجِمَاع وجنابته باحتلام أَو عَكسه صَحَّ مَعَ الْغَلَط دون الْعمد كَنَظِيرِهِ فِي الْوضُوء ذكر ذَلِك فِي الْمَجْمُوع
وَقَضِيَّة تَعْلِيلهم إِيجَاب الْغسْل فِي النّفاس بِكَوْنِهِ دم حيض مُجْتَمع أَنه يَصح أَحدهمَا بِالْآخرِ وَبِه جزم فِي الْبَيَان وَيَكْفِي نِيَّة رفع الْحَدث عَن كل الْبدن وَكَذَا مُطلقًا فِي الْأَصَح لاستلزام رفع الْمُطلق رفع الْمُقَيد وَلِأَنَّهُ ينْصَرف إِلَى حَدثهُ لوُجُود الْقَرِينَة الحالية
فَلَو نوى الْأَكْبَر كَانَ تَأْكِيدًا أَو لَو نوى رفع الْحَدث الْأَصْغَر عمدا لم ترْتَفع جنابته لتلاعبه أَو غَلطا ارْتَفَعت جنابته عَن أَعْضَاء الْأَصْغَر لِأَن غسلهَا وَاجِب فِي الحدثين وَقد غسلهَا بنيته إِلَّا الرَّأْس فَلَا ترْتَفع عَنهُ لِأَن غسله وَقع عَن مَسحه الَّذِي هُوَ فرض فِي الْأَصْغَر وَهُوَ إِنَّمَا نوى الْمسْح وَهُوَ لَا يُغني عَن الْغسْل بِخِلَاف بَاطِن لحية الرجل الكثيفة فَإِنَّهُ يَكْفِي لِأَن غسل الْوَجْه هُوَ الأَصْل فَإِذا غسله فقد أَتَى الأَصْل أما غير أَعْضَاء الْأَصْغَر فَلَا ترْتَفع جنابته لِأَنَّهُ لم يُنَوّه قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَلَو اجْتمع على الْمَرْأَة غسل حيض وجنابة كفت نِيَّة أَحدهمَا قطعا أَو يَنْوِي اسْتِبَاحَة مفتقر إِلَى غسل كَأَن يَنْوِي اسْتِبَاحَة الصَّلَاة أَو الطّواف مِمَّا يتَوَقَّف على غسل فَإِن نوى مَا لَا يفْتَقر إِلَيْهِ كالغسل ليَوْم الْعِيد لم يَصح أَو يَنْوِي أَدَاء فرض الْغسْل أَو فرض الْغسْل أَو الْغسْل الْمَفْرُوض أَو أَدَاء الْغسْل وَكَذَا الطَّهَارَة للصَّلَاة أما إِذا نوى الْغسْل فَقَط فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي
وَتقدم الْفرق بَينه وَبَين الْوضُوء فِي فَصله وَتَكون النِّيَّة مقرونة بِأول مَا يغسل من الْبدن سَوَاء أَكَانَ من أَعْلَاهُ أم من أَسْفَله إِذْ لَا تَرْتِيب فِيهِ
فَلَو نوى بعد غسل جُزْء مِنْهُ وَجب إِعَادَة غسله
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَإِذا اغْتسل من إِنَاء كإبريق يَنْبَغِي لَهُ أَن يَنْوِي عِنْد غسل مَحل الِاسْتِنْجَاء بعد فَرَاغه مِنْهُ(1/68)
لِأَنَّهُ قد يغْفل عَنهُ أَو يحْتَاج إِلَى الْمس فينتقض وضوءه أَو إِلَى كلفة فِي لف خرقَة على يَده
القَوْل فِي حكم إِزَالَة النَّجَاسَة الَّتِي على بدن المغتسل (و) الثَّانِي (إِزَالَة النَّجَاسَة إِن كَانَت على شَيْء من بدنه) على الْمُصَحح عِنْد الرَّافِعِيّ
وَقد عرفت فِيمَا تقدم ضعفه وَأَن الْأَصَح أَنه يَكْفِي لَهما غسلة وَاحِدَة كَمَا لَو اغْتَسَلت من جَنَابَة وحيض وَلِأَن واجبهما غسل الْعُضْو وَقد حصل
وَمحل الْخلاف إِذا كَانَ النَّجس حكميا كَمَا فِي الْمَجْمُوع ويرفعهما المَاء مَعًا وللسابعة فِي الْمُغَلَّظَة حكم هَذِه الغسلة فَإِن كَانَ النَّجس عينيا وَلم يزل بَقِي الْحَدث أما غير السَّابِعَة فِي النَّجَاسَة الْمُغَلَّظَة فَلَا يرْتَفع حدث ذَلِك الْمحل لبَقَاء نَجَاسَته
(و) الثَّالِث (إِيصَال المَاء إِلَى جَمِيع) أَجزَاء (الشّعْر) ظَاهرا وَبَاطنا وَإِن كثف وَيجب نقض الضفائر إِن لم يصل المَاء إِلَى بَاطِنهَا إِلَّا بِالنَّقْضِ لَكِن يُعْفَى عَن بَاطِن الشّعْر الْمَعْقُود وَلَا يجب غسل الشّعْر النَّابِت فِي الْعين أَو الْأنف وَإِن كَانَ يجب غسله من النَّجَاسَة لغلظها
(و) إِلَى جَمِيع أَجزَاء (الْبشرَة) حَتَّى الْأَظْفَار وَمَا يظْهر من صماخي الْأُذُنَيْنِ وَمن فرج الْمَرْأَة عِنْد قعودها لقَضَاء الْحَاجة وَمَا تَحت القلفة وَمَوْضِع شعر نتفه قبل غسله
قَالَ الْبَغَوِيّ وَمن بَاطِن جدري اتَّضَح
فَائِدَة لَو اتخذ لَهُ أُنْمُلَة أَو أنفًا من ذهب أَو فضَّة وَجب عَلَيْهِ غسله من حدث أَصْغَر أَو أكبر وَمن نَجَاسَة غير مَعْفُو عَنْهَا لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهِ غسل مَا ظهر من الْأصْبع وَالْأنف بِالْقطعِ وَقد تعذر للْعُذْر فَصَارَت الْأُنْمُلَة وَالْأنف كالأصليين وَلَا يجب فِي الْغسْل مضمضة وَلَا استنشاق بل يسن كَمَا فِي الْوضُوء وَغسل الْمَيِّت
القَوْل فِي سنَن الْغسْل (وسننه) أَي الْغسْل كَثِيرَة الْمَذْكُور مِنْهَا هُنَا (خَمْسَة أَشْيَاء)
وَسَنذكر مِنْهَا أَشْيَاء بعد ذَلِك الأولى (التَّسْمِيَة) مقرونة بِالنِّيَّةِ كَمَا صرح بِهِ فِي الْمَجْمُوع هُنَا وَقد تقدم فِي الْوضُوء بَيَان أكملها
(و) الثَّانِيَة (الْوضُوء) كَامِلا (قبله) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَقَالَ فِي الْمَجْمُوع نقلا عَن الْأَصْحَاب وَسَوَاء أقدم الْوضُوء كُله أَو بعضه أم أَخّرهُ أم فعله فِي أثْنَاء الْغسْل فَهُوَ مُحَصل للسّنة لَكِن الْأَفْضَل تَقْدِيمه ثمَّ إِن تجردت الْجَنَابَة عَن الْحَدث الْأَصْغَر كَأَن احْتَلَمَ وَهُوَ جَالس مُتَمَكن نوى سنة الْغسْل وَإِلَّا نوى رفع الْحَدث الْأَصْغَر
وَإِن قُلْنَا ينْدَرج خُرُوجًا من خلاف من أوجبه فَإِن ترك الْوضُوء أَو الْمَضْمَضَة أَو الِاسْتِنْشَاق كره لَهُ وَيسن لَهُ أَن يتدارك ذَلِك
(و) الثَّالِثَة (إمرار الْيَد) فِي كل مرّة من الثَّلَاث (على) مَا أمكنه من (الْجَسَد) فيدلك مَا وصلت إِلَيْهِ يَده من بدنه احْتِيَاطًا وخروجا من خلاف من أوجبه وَإِنَّمَا لم يجب عندنَا لِأَن الْآيَة وَالْأَحَادِيث لَيْسَ فيهمَا تعرض لوُجُوبه ويتعهد معاطفه كَأَن يَأْخُذ المَاء بكفه فَيَجْعَلهُ على الْمَوَاضِع الَّتِي فِيهَا انعطاف والتواء كالإبط والأذنين وطبقات الْبَطن وداخل السُّرَّة لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الثِّقَة بوصول المَاء ويتأكد فِي الْأذن فَيَأْخُذ كفا من مَاء وَيَضَع الْأذن عَلَيْهِ بِرِفْق ليصل المَاء إِلَى معاطفه وزواياه
(و) الرَّابِعَة (الْمُوَالَاة) وَهِي غسل الْعُضْو قبل جفاف مَا قبله كَمَا مر فِي الْوضُوء
(و) الْخَامِسَة (تَقْدِيم) غسل جِهَة (الْيُمْنَى) من جسده ظهرا وبطنا (على) غسل جِهَة (الْيُسْرَى) بِأَن يفِيض المَاء على شقَّه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب التَّيَامُن فِي طهوره
مُتَّفق عَلَيْهِ(1/69)
وَقدمنَا أَن سنَن الْغسْل كَثِيرَة فَمِنْهَا التَّثْلِيث تأسيا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا فِي الْوضُوء
وَكَيْفِيَّة ذَلِك أَن يتعهد مَا ذكر ثمَّ يغسل رَأسه ويدلكه ثَلَاثًا ثمَّ بَاقِي جسده كَذَلِك بِأَن يغسل ويدلك شقة الْأَيْمن الْمُقدم ثمَّ الْمُؤخر ثمَّ الْأَيْسَر كَذَلِك مرّة ثمَّ ثَانِيَة ثمَّ ثَالِثَة كَذَلِك للْأَخْبَار الصَّحِيحَة الدَّالَّة على ذَلِك وَلَو انغمس فِي مَاء فَإِن كَانَ جَارِيا كفى فِي التَّثْلِيث أَن يمر عَلَيْهِ ثَلَاث جريات لَكِن قد يفوتهُ الدَّلْك لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن مِنْهُ غَالِبا تَحت المَاء إِذْ رُبمَا يضيق نَفسه وَإِن كَانَ راكدا انغمس فِيهِ ثَلَاثًا بِأَن يرفع رَأسه مِنْهُ أَو ينْقل قَدَمَيْهِ أَو ينْتَقل فِيهِ من مقَامه إِلَى آخر ثَلَاثًا لَا يحْتَاج إِلَى انْفِصَال جملَته وَلَا رَأسه كَمَا فِي التسبيع من نَجَاسَة الْكَلْب فَإِن حركته تَحت المَاء كجري المَاء عَلَيْهِ وَلَا يسن تَجْدِيد الْغسْل لِأَنَّهُ لم ينْقل وَلما فِيهِ من الْمَشَقَّة بِخِلَاف الْوضُوء فَيسنّ تجديده إِذا صلى بِالْأولِ صَلَاة مَا كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي بَاب النّذر من زَوَائِد الرَّوْضَة لما روى أَبُو دَاوُد وَغَيره أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من تَوَضَّأ على طهر كتب الله لَهُ عشر حَسَنَات
وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي أول الْإِسْلَام يجب الْوضُوء لكل صَلَاة فنسخ الْوُجُوب وَبَقِي أصل الطّلب
وَيسن أَن تتبع الْمَرْأَة غير الْمُحرمَة والمحدة لحيض أَو نِفَاس أثر الدَّم مسكا فتجعله فِي قطنة وَتدْخلهَا الْفرج بعد غسلهَا وَهُوَ المُرَاد بالأثر وَيكرهُ تَركه بِلَا عذر كَمَا فِي التَّنْقِيح والمسك فَارسي مُعرب الطّيب الْمَعْرُوف فَإِن لم تَجِد الْمسك أَو لم تمسح بِهِ فنحوه مِمَّا فِيهِ حرارة كالقسط والأظفار فَإِن لم تَجِد طيبا فطينا فَإِن لم تَجدهُ كفى المَاء أما الْمُحرمَة فَيحرم عَلَيْهَا الطّيب بأنواعه
والمحدة تسْتَعْمل قَلِيل قسط أَو أظفار وَيسن أَن لَا ينقص مَاء الْوضُوء فِي معتدل الْجَسَد عَن مد تَقْرِيبًا وَهُوَ رَطْل وَثلث بغدادي وَالْغسْل عَن صَاع تَقْرِيبًا وَهُوَ أَرْبَعَة أَمْدَاد لحَدِيث مُسلم عَن سفينة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغسلهُ الصَّاع ويوضئه الْمَدّ
وَيكرهُ أَن يغْتَسل فِي المَاء الراكد وَإِن كثر أَو بِئْر مُعينَة كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَيَنْبَغِي أَن يكون ذَلِك فِي غير المستبحر
فَائِدَة قَالَ فِي الْإِحْيَاء لَا يَنْبَغِي أَن يحلق أَو يقلم أَو يستحد أَو يخرج دَمًا أَو يبين من نَفسه جُزْءا وَهُوَ جنب إِذْ ترد إِلَيْهِ سَائِر أَجْزَائِهِ فِي الْآخِرَة فَيَعُود جنبا وَيُقَال إِن كل شَعْرَة تطالب بجنابتها وَيجوز أَن ينْكَشف للْغسْل فِي خلْوَة أَو بِحَضْرَة من يجوز لَهُ نظره إِلَى عَوْرَته والستر أفضل
القَوْل فِي حكم من اجْتمع عَلَيْهِ أغسال وَمن اغْتسل لجنابة وَنَحْوهَا كحيض وجمعة وَنَحْوهَا كعيد حصل غسلهمَا كَمَا لَو نوى الْفَرْض وتحية الْمَسْجِد أَو نوى أَحدهمَا حصل فَقَط اعْتِبَارا بِمَا نَوَاه وَإِنَّمَا لم ينْدَرج النَّفْل فِي الْفَرْض لِأَنَّهُ مَقْصُود فَأشبه سنة الظّهْر مَعَ فَرْضه
فَإِن قيل لَو نوى بِصَلَاتِهِ الْفَرْض دون التَّحِيَّة حصلت التَّحِيَّة وَإِن لم ينوها
أُجِيب بِأَن الْقَصْد ثمَّ إشغال الْبقْعَة بِصَلَاة وَقد حصل وَلَيْسَ الْقَصْد هُنَا النَّظَافَة فَقَط بِدَلِيل أَنه يتَيَمَّم عِنْد عَجزه عَن المَاء
وَمن وَجب عَلَيْهِ فرضان كغسلي جَنَابَة وحيض كَفاهُ الْغسْل لأَحَدهمَا وَكَذَا لَو سنّ فِي حَقه سنتَانِ كغسلي عيد وجمعة وَلَا يضر التَّشْرِيك بِخِلَاف نَحْو الظّهْر مَعَ سنته لِأَن مبْنى الطهارات على التَّدَاخُل بِخِلَاف الصَّلَاة وَلَو أحدث ثمَّ أجنب أَو أجنب ثمَّ أحدث أَو أجنب وأحدث وأحدث مَعًا كفى الْغسْل لاندراج الْوضُوء فِي الْغسْل
تَتِمَّة يُبَاح للرِّجَال دُخُول الْحمام وَيجب عَلَيْهِم غض الْبَصَر عَمَّا لَا يحل لَهُم وصون عَوْرَاتهمْ عَن الْكَشْف بِحَضْرَة من لَا يحل لَهُم النّظر إِلَيْهَا وَقد رُوِيَ أَن الرجل إِذا دخل الْحمام عَارِيا لَعنه ملكاه
رَوَاهُ الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى {كراما كاتبين يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وروى الْحَاكِم عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حرَام على الرِّجَال دُخُول الْحمام إِلَّا بمئزر
أما النِّسَاء فَيكْرَه لَهُنَّ بِلَا عذر لخَبر مَا من امْرَأَة تخلع ثِيَابهَا فِي غير بَيتهَا إِلَّا هتكت مَا بَينهَا وَبَين الله رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه وَلِأَن أمرهن مَبْنِيّ على الْمُبَالغَة فِي السّتْر وَلما فِي خروجهن واجتماعهن من الْفِتْنَة وَالشَّر وَيَنْبَغِي أَن يكون الخناثى كالنساء
وَيجب أَن لَا يزِيد(1/70)
فِي المَاء على قدر الْحَاجة وَلَا الْعَادة
(وآدابه) أَن يقْصد التَّطْهِير والتنظيف لَا الترفه والتنعم وَأَن يسلم الْأُجْرَة قبل دُخُوله وَأَن يُسَمِّي للدخول ثمَّ يتَعَوَّذ كَمَا فِي دُخُول الْخَلَاء وَأَن يذكر بحرارته حرارة نَار جَهَنَّم لشبهه بهَا
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَلَا بَأْس بقوله لغيره عافاك الله وَلَا بالمصافحة وَيَنْبَغِي لمن يخالط النَّاس التَّنْظِيف والسواك وَإِزَالَة الشّعْر وَإِزَالَة ريح كريهة وَحسن الْأَدَب مَعَهم وَالله أعلم
فصل فِي الأغسال المسنونة
(والاغتسالات المسنونة) كَثِيرَة الْمَذْكُور مِنْهَا هُنَا (سَبْعَة عشر غسلا) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة وسأذكر زِيَادَة على ذَلِك الأول من السَّبْعَة عشر (غسل الْجُمُعَة) لمن يُرِيد حُضُورهَا وَإِن لم تجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة لحَدِيث إِذا جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل
وَلخَبَر الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح من أَتَى الْجُمُعَة من الرِّجَال وَالنِّسَاء فليغتسل
وَمن لم يأتها فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء
وَرُوِيَ غسل الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم أَي متأكد وَصرف هَذَا عَن الْوُجُوب خبر من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة فبها ونعمت وَمن اغْتسل فالغسل أفضل
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه
وَوَقته من الْفجْر الصَّادِق لِأَن الْأَخْبَار علقته بِالْيَوْمِ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة ثمَّ رَاح فِي السَّاعَة الأولى الحَدِيث وتقريبه من ذَهَابه إِلَى الْجُمُعَة أفضل لِأَنَّهُ أبلغ فِي الْمَقْصُود من انْتِفَاء الرَّائِحَة الكريهة لولو تعَارض الْغسْل والتبكير فمراعاة الْغسْل أولى لِأَنَّهُ مُخْتَلف فِي وُجُوبه وَلَا يبطل غسل الْجُمُعَة بِالْحَدَثِ وَلَا بالجنابة فيغتسل وَيكرهُ تَركه بِلَا عذر على الْأَصَح
(و) الثَّانِي وَالثَّالِث (غسل الْيَدَيْنِ) الْفطر والأضحى لكل أحد وَإِن لم يحضر الصَّلَاة لِأَنَّهُ يَوْم زِينَة فالغسل لَهُ بِخِلَاف الْجُمُعَة
وَيدخل وَقت غسلهمَا بِنصْف اللَّيْل وَإِن كَانَ الْمُسْتَحبّ فعله بعد الْفجْر لِأَن أهل السوَاد يبكرون إِلَيْهِمَا من قراهم فَلَو لم يكف الْغسْل لَهما قبل الْفجْر لشق عَلَيْهِم فعلق بِالنِّصْفِ الثَّانِي لقُرْبه من الْيَوْم كَمَا قيل فِي أَذَان الْفجْر
(و) الرَّابِع غسل صَلَاة (الاسْتِسْقَاء) عِنْد الْخُرُوج لَهَا
(و) الْخَامِس غسل صَلَاة (الخسوف) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة للقمر (و) السَّادِس غسل صَلَاة (الْكُسُوف) بِالْكَاف للشمس وَتَخْصِيص الخسوف بالقمر والكسوف بالشمس هُوَ الْأَفْصَح كَمَا فِي الصِّحَاح وَحكي عَكسه
وَقيل الْكُسُوف بِالْكَاف أَوله فيهمَا والخسوف آخِره وَقيل غير ذَلِك
(و) السَّابِع (الْغسْل من غسل الْمَيِّت) سَوَاء أَكَانَ الْمَيِّت مُسلما أم لَا وَسَوَاء أَكَانَ الْغَاسِل طَاهِرا أم لَا كحائض لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غسل مَيتا فليغتسل وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه
وَإِنَّمَا لم يجب قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ عَلَيْكُم فِي غسل ميتكم غسل إِذا غسلتموه
رَوَاهُ الْحَاكِم
وَيسن الْوضُوء من مَسّه
(و) الثَّامِن (غسل الْكَافِر) وَلَو مُرْتَدا (إِذا أسلم) تَعْظِيمًا لِلْإِسْلَامِ وَقد أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيس بن عَاصِم بِهِ لما أسلم وَإِنَّمَا لم يجب لِأَن جمَاعَة أَسْلمُوا وَلم يَأْمُرهُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْغسْلِ هَذَا إِن لم يعرض لَهُ فِي كفره مَا يُوجب الْغسْل وَإِلَّا وَجب على الْأَصَح وَلَا عِبْرَة بِالْغسْلِ فِي الْكفْر على الْأَصَح
تنيبه قد علم من كَلَامه أَن وَقت الْغسْل بعد إِسْلَامه لتصح النِّيَّة وَلِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى تَأْخِير الْإِسْلَام بعده بل الْمُصَرّح بِهِ فِي(1/71)
كَلَامهم تَكْفِير من قَالَ لكَافِر جَاءَهُ ليسلم اذْهَبْ فاغتسل ثمَّ أسلم لرضاه بِبَقَائِهِ على الْكفْر تِلْكَ اللحظة
(و) التَّاسِع غسل (الْمَجْنُون) وَإِن تقطع جُنُونه
(و) الْعَاشِر غسل (الْمغمى عَلَيْهِ) وَلَو لَحْظَة (إِذا أفاقا) وَلم يتَحَقَّق مِنْهُمَا إِنْزَال لِلِاتِّبَاعِ فِي الْإِغْمَاء
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَفِي مَعْنَاهُ الْجُنُون بل أولى لِأَنَّهُ يُقَال كَمَا قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قل من جن إِلَّا وَأنزل
(و) الْحَادِي عشر (الْغسْل عِنْد الْإِحْرَام) بِحَجّ أَو عمْرَة أَو بهما وَلَو حَال حيض الْمَرْأَة ونفاسها
(و) الثَّانِي عشر الْغسْل
(لدُخُول مَكَّة) المشرفة وَلَو كَانَ حَلَالا على الْمَنْصُوص فِي الْأُم
قَالَ السُّبْكِيّ وَحِينَئِذٍ لَا يكون هَذَا من أغسال الْحَج إِلَّا من جِهَة أَنه يَقع فِيهِ وَيسْتَثْنى من إِطْلَاق المُصَنّف مَا لَو أحرم الْمَكِّيّ بِعُمْرَة من مَحل قريب كالتنعيم واغتسل لم ينْدب لَهُ الْغسْل لدُخُول مَكَّة
(و) الثَّالِث عشر الْغسْل (للوقوف بِعَرَفَة) وَالْأَفْضَل كَونه بنمرة وَيحصل أصل السّنة فِي غَيرهَا وَقبل الزَّوَال بعد الْفجْر لَكِن تقريبه للزوال أفضل كتقريبه من ذَهَابه فِي غسل الْجُمُعَة
(و) الرَّابِع عشر الْغسْل (للْمَيت بِمُزْدَلِفَة) على طَريقَة ضَعِيفَة لبَعض الْعِرَاقِيّين وَالْمذهب فِي الرَّوْضَة وَحَكَاهُ فِي الزَّوَائِد عَن الْجُمْهُور
وَنَصّ الْأُم اسْتِحْبَابه للوقوف بِمُزْدَلِفَة بعد صبح يَوْم النَّحْر وَهُوَ الْوُقُوف بالمشعر الْحَرَام
(و) الْخَامِس عشر الْغسْل (لرمي الْجمار الثَّلَاث) فِي كل يَوْم من أَيَّام التَّشْرِيق فَلَا غسل لرمي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر
قَالَ فِي الرَّوْضَة اكْتِفَاء بِغسْل الْعِيد وَلِأَن وقته متسع بِخِلَاف رمي أَيَّام التَّشْرِيق
(و) السَّادِس عشر وَالسَّابِع عشر (الْغسْل للطَّواف) أَي لكل من طواف الْإِفَاضَة والوداع وَهَذَا مَا جرى عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي منسكه الْكَبِير
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا إِن الِاغْتِسَال للحلق مسنون لكنه فِي الرَّوْضَة تبعا لكثير
قَالَ وَزَاد فِي الْقَدِيم ثَلَاثَة أغسال لطواف الْإِفَاضَة والوداع وللحلق
قَالَ فِي الْمُهِمَّات وَحَاصِله أَن الْجَدِيد عدم الِاسْتِحْبَاب لهَذِهِ الْأُمُور الثَّلَاثَة وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الْمِنْهَاج انْتهى
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وَقد قدمنَا أَن الأغسال المسنونة لَا تَنْحَصِر فِيمَا قَالَه المُصَنّف بل مِنْهَا الْغسْل من الْحجامَة وَمن الْخُرُوج فِي الْحمام عِنْد إِرَادَة الْخُرُوج وللاعتكاف وَلكُل لَيْلَة من رَمَضَان
وَقَيده الْأَذْرَعِيّ بِمن يحضر الْجَمَاعَة وَهُوَ ظَاهر ولدخول الْحرم ولحلق الْعَانَة
ولبلوغ الصَّبِي بِالسِّنِّ ولدخول الْمَدِينَة المشرفة وَهِي مَوْجُودَة فِي بعض النّسخ فَيكون هُوَ السَّابِع عشر وَعند سيلان الْوَادي ولتغيير رَائِحَة الْبدن وَعند كل اجْتِمَاع من مجامع الْخَيْر أما الْغسْل للصلوات الْخمس فَلَا يسن لَهَا لما فِي ذَلِك من الْمَشَقَّة وآكد هَذِه الاغتسالات غسل الْجُمُعَة ثمَّ غسل غاسل الْمَيِّت
تَنْبِيه قَالَ الزَّرْكَشِيّ قَالَ بَعضهم إِذا أَرَادَ الْغسْل للمسنونات نوى أَسبَابهَا إِلَّا الْغسْل من الْجُنُون فَإِنَّهُ يَنْوِي الْجَنَابَة وَكَذَا الْمغمى عَلَيْهِ ذكره صَاحب الْفُرُوع انْتهى
وَمحل هَذَا إِذا جن أَو أُغمي عَلَيْهِ بعد بُلُوغه لقَوْل الشَّافِعِي قل من جن إِلَّا وَأنزل أما إِذا جن أَو أُغمي عَلَيْهِ قبل بُلُوغه ثمَّ أَفَاق قبله فَإِنَّهُ يَنْوِي السَّبَب كَغَيْرِهِ(1/72)
فصل فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ
وأخباره كَثِيرَة كَخَبَر ابْني خُزَيْمَة وحبان فِي صَحِيحهمَا عَن أبي بكرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرخص للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة إِذا تطهر فَلبس خفيه أَن يمسح عَلَيْهِمَا
وروى ابْن الْمُنْذر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ حَدثنِي سَبْعُونَ من الصَّحَابَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح على الْخُفَّيْنِ
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين إِن قِرَاءَة الْجَرّ فِي قَوْله تَعَالَى {وأرجلكم} للمسح على الْخُفَّيْنِ
القَوْل فِي حكم الْمسْح (وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ جَائِز) فِي الْوضُوء بَدَلا عَن غسل الرجلَيْن فَالْوَاجِب على لابسه الْغسْل أَو الْمسْح وَالْغسْل أفضل كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة فِي آخر بَاب صَلَاة الْمُسَافِر
نعم إِن ترك الْمسْح رَغْبَة عَن السّنة أَو شكا فِي جَوَازه أَي لم تطمئِن نَفسه إِلَيْهِ لَا أَنه شكّ هَل يجوز لَهُ فعله أَو لَا أَو خَافَ فَوت الْجَمَاعَة أَو عَرَفَة أَو إنقاذ أَسِير أَو نَحْو ذَلِك
فالمسح أفضل بل يكره تَركه فِي الأولى وَكَذَا القَوْل فِي سَائِر الرُّخص واللائق فِي الْأَخِيرَتَيْنِ الْوُجُوب وَخرج بِالْوضُوءِ إِزَالَة النَّجَاسَة وَالْغسْل وَلَو مَنْدُوبًا فَلَا مسح فيهمَا وبالمسح على الْخُفَّيْنِ مسح خف رجل مَعَ غسل الْأُخْرَى فَلَا يجوز وللأقطع لبس خف فِي السالمة إِلَّا إِن بَقِي بعض المقطوعة فَلَا يَكْفِي ذَلِك حَتَّى يلبس ذَلِك الْبَعْض خفا وَلَو كَانَت إِحْدَى رجلَيْهِ عليلة لم يجز إلباس الْأُخْرَى الْخُف للمسح عَلَيْهِ إِذا يجب التَّيَمُّم عَن العليلة فَهِيَ كالصحيحة
القَوْل فِي شُرُوط الْمسْح وَإِنَّمَا يَصح الْمسْح هُنَا (بِثَلَاثَة شَرَائِط) وَترك رَابِعا كَمَا ستعرفه
الأول (أَن يبتدىء) مُرِيد الْمسْح على الْخُفَّيْنِ (لبسهما بعد كَمَال) أَي تَمام (الطَّهَارَة) من الحدثين للْحَدِيث السَّابِق فَلَو لبسهما قبل غسل رجلَيْهِ وغسلهما فِي الْخُفَّيْنِ لم يجز الْمسْح إِلَّا أَن ينزعهما من مَوضِع الْقدَم ثمَّ يدخلهما فِي الْخُفَّيْنِ
وَلَو أَدخل إِحْدَاهمَا بعد غسلهَا ثمَّ غسل الْأُخْرَى وأدخلها لم يجز الْمسْح إِلَّا أَن ينْزع الأولى من مَوضِع الْقدَم ثمَّ يدخلهَا فِي الْخُف وَلَو غسلهمَا فِي سَاق الْخُفَّيْنِ ثمَّ أدخلهما مَوضِع الْقدَم جَازَ الْمسْح وَلَو ابْتَدَأَ اللّبْس بعد غسلهمَا ثمَّ أحدث قبل وصولهما إِلَى مَوضِع الْقدَم لم يجز الْمسْح وَلَو كَانَ عَلَيْهِ الْحدثَان فَغسل أَعْضَاء الْوضُوء عَنْهُمَا وَلبس الْخُف قبل غسل بَاقِي بدنه لم يمسح عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لبسه قبل كَمَال الطَّهَارَة
فَإِن قيل لَفْظَة كَمَال لَا حَاجَة إِلَيْهَا لِأَن حَقِيقَة الطُّهْر أَن يكون كَامِلا وَلذَلِك اعْترض الرَّافِعِيّ على الْوَجِيز بِأَنَّهُ لَا حَاجَة إِلَى قيد التَّمام لِأَن من لم يغسل رجلَيْهِ أَو إِحْدَاهمَا يَنْتَظِم أَن يُقَال إِنَّه لَيْسَ على طهر
وَأجِيب بِأَن ذَلِك ذكر تَأْكِيدًا أَو لاحْتِمَال توهم إِرَادَة الْبَعْض
حَقِيقَة السّتْر فِي الْخُفَّيْنِ (و) الثَّانِي من الشُّرُوط (أَن يَكُونَا) أَي الخفان (ساترين لمحل غسل الْفَرْض من الْقَدَمَيْنِ) فِي الْوضُوء وَهُوَ الْقدَم بكعبيه من سَائِر الجوانب لَا من الْأَعْلَى فَلَو رئي الْقدَم من أَعْلَاهُ كَأَن كَانَ وَاسع الرَّأْس لم يضر عكس سَاتِر الْعَوْرَة فَإِنَّهُ من الْأَعْلَى والجوانب لَا من الْأَسْفَل لِأَن الْقَمِيص مثلا فِي ستر الْعَوْرَة يتَّخذ لستر أَعلَى الْبدن والخف يتَّخذ لستر أَسْفَل الرجل فَإِن قصر عَن مَحل الْفَرْض أَو كَانَ بِهِ تخرق فِي مَحل الْفَرْض ضرّ وَلَو تخرقت البطانة أَو الطَّهَارَة وَالْبَاقِي صفيق لم يضر وَإِلَّا ضرّ وَلَو تخرقتا من موضِعين غير متحاذيين لم يضر وَالْمرَاد بالستر هُنَا الْحَيْلُولَة لَا مَا يمْنَع الرُّؤْيَة فَيَكْفِي الشفاف عكس سَاتِر الْعَوْرَة لِأَن الْقَصْد هُنَا منع نُفُوذ المَاء وَثمّ منع الرُّؤْيَة
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوع إِن الْمُعْتَبر فِي الْخُف عشر غسل الرجل بِسَبَب السَّاتِر وَقد حصل وَالْمَقْصُود بستر الْعَوْرَة سترهَا بجرم عَن الْعُيُون وَلم يحصل وَلَا يجزىء منسوج لَا يمْنَع نُفُوذ المَاء إِلَى الرجل من غير مَحل الخرز لَو صب عَلَيْهِ لعدم صفاقته لِأَن الْغَالِب من الْخفاف أَنَّهَا تمنع النّفُوذ فتنصرف إِلَيْهَا النُّصُوص
الدَّالَّة على الترخيص فَيبقى الْغسْل وَاجِبا فِيمَا عَداهَا(1/73)
(و) الثَّالِث من الشُّرُوط (أَن يَكُونَا) مَعًا (مِمَّا يُمكن تتَابع الْمَشْي عَلَيْهِمَا) لتردد مُسَافر لِحَاجَتِهِ عِنْد الْحَط والترحال وَغَيرهمَا مِمَّا جرت بِهِ الْعَادة وَلَو كَانَ لابسه مقْعدا
وَاخْتلف فِي قدر الْمدَّة المتردد فِيهَا فضبطه الْمحَامِلِي بِثَلَاث لَيَال فَصَاعِدا
وَقَالَ فِي الْمُهِمَّات الْمُعْتَمد مَا ضَبطه الشَّيْخ أَبُو حَامِد بمسافة الْقصر تَقْرِيبًا انْتهى وَالْأَقْرَب إِلَى كَلَام الْأَكْثَرين كَمَا قَالَه ابْن الْعِمَاد أَن الْمُعْتَبر التَّرَدُّد فِيهِ لحوائج سفر يَوْم وَلَيْلَة للمقيم وَنَحْوه وسفر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن للْمُسَافِر سفر قصر لِأَنَّهُ بعد انْقِضَاء الْمدَّة يحب نَزعه فقوته تعْتَبر بِأَن يُمكن التَّرَدُّد فِيهِ لذَلِك وَسَوَاء فِي ذَلِك الْمُتَّخذ من جلد أَو غَيره كلبد وخرق مطبقة بِخِلَاف مَا لَا يُمكن الْمَشْي فِيهِ لما ذكر لثقله كالحديد أَو لتحديد رَأسه الْمَانِع لَهُ من الثُّبُوت أَو ضعفه كجورب الصُّوفِيَّة والمتخذ من جلد ضَعِيف أَو لغلظه كالخشبة الْعَظِيمَة أَو لفرط سعته أَو ضيقه أَو نَحْو ذَلِك فَلَا يَكْفِي الْمسْح عَلَيْهِ إِذْ لَا حَاجَة لمثل ذَلِك وَلَا فَائِدَة فِي إدامته قَالَ فِي الْمَجْمُوع إِلَّا أَن يكون الضّيق يَتَّسِع بِالْمَشْيِ فِيهِ
وَقَالَ فِي الْكَافِي عَن قرب كفى الْمسْح عَلَيْهِ بِلَا خلاف
وَالشّرط الرَّابِع الَّذِي أسْقطه المُصَنّف أَن يَكُونَا طاهرين فَلَا يَكْفِي الْمسْح على خف اتخذ من جلد ميتَة قبل الدّباغ لعدم إِمْكَان الصَّلَاة فِيهِ وَفَائِدَة الْمسْح وَإِن لم تَنْحَصِر فِيهَا فالقصد الْأَصْلِيّ مِنْهُ الصَّلَاة وَغَيرهَا تبع لَهَا وَلِأَن الْخُف بدل عَن الرجل وَهُوَ نجس الْعين وَهِي لَا تطهر عَن الْحَدث مَا لم تزل نجاستها فَكيف يمسح عَن الْبَدَل وَهُوَ نجس الْعين والمتنجس كالنجس كَمَا فِي الْمَجْمُوع لِأَن الصَّلَاة هِيَ الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ من الْمسْح وَمَا عَداهَا من مس الْمُصحف وَغَيره كالتابع لَهَا كَمَا مر
نعم لَو كَانَ على الْخُف نَجَاسَة مَعْفُو عَنْهَا وَمسح من أَعْلَاهُ مَا لَا نَجَاسَة عَلَيْهِ صَحَّ مَسحه فَإِن مسح على النَّجَاسَة زَاد التلويث وَلَزِمَه حِينَئِذٍ غسله وَغسل يَده ذكره فِي الْمَجْمُوع
فرع لَو خرز خفه بِشعر نجس
والخف أَو الشّعْر رطب طهر بِالْغسْلِ ظَاهره دون مَحل الخرز
ويعفى عَنهُ فَلَا ينجس الرجل المبتلة وَيُصلي فِيهِ الْفَرَائِض والنوافل لعُمُوم الْبلوى بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة فِي الْأَطْعِمَة خلافًا لما فِي التَّحْقِيق من أَنه لَا يُصَلِّي فِيهِ
القَوْل فِي مُدَّة الْمسْح (وَيمْسَح الْمُقِيم) وَلَو عَاصِيا بإقامته وَالْمُسَافر سفرا قَصِيرا أَو طَويلا وَهُوَ عَاص بِسَفَرِهِ وَكَذَا كل سفر يمْتَنع فِيهِ الْقصر (يَوْمًا وَلَيْلَة) كَامِلين فيستبيح بِالْمَسْحِ مَا يستبيحه بِالْوضُوءِ فِي هَذِه الْمدَّة (و) يمسح (الْمُسَافِر) سفر قصر (ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن) فيستبيح بِالْمَسْحِ مَا يستبيحه بِالْوضُوءِ فِي هَذِه الْمدَّة وَدَلِيل ذَلِك الْخَبَر السَّابِق أول الْفَصْل وَخبر مُسلم عَن شُرَيْح بن هانىء سَأَلت عَليّ بن أبي طَالب عَن الْمسْح على الْخُفَّيْنِ فَقَالَ جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن للْمُسَافِر وَيَوْما وَلَيْلَة للمقيم
وَالْمرَاد بلياليهن ثَلَاثَة لَيَال مُتَّصِلَة بهَا سَوَاء أسبق الْيَوْم الأول لَيْلَة أم لَا
فَلَو أحدث فِي أثْنَاء اللَّيْل أَو الْيَوْم اعْتبر قدر الْمَاضِي مِنْهُ من اللَّيْلَة الرَّابِعَة أَو الْيَوْم الرَّابِع وعَلى قِيَاس ذَلِك يُقَال فِي مُدَّة الْمُقِيم وَمَا ألحق بِهِ
القَوْل فِي مَا يستبيحه دَائِم الْحَدث بِالْمَسْحِ تَنْبِيه شَمل إِطْلَاقه دَائِم الْحَدث كالمستحاضة فَيجوز لَهُ الْمسْح على الْخُف على الصَّحِيح لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى لبسه(1/74)
والارتفاق بِهِ كَغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يَسْتَفِيد الصَّلَاة بِطَهَارَتِهِ فيستفيد الْمسْح أَيْضا لَكِن لَو أحدث بعد لبسه غير حَدثهُ الدَّائِم قبل أَن يُصَلِّي بِوضُوء اللّبْس فرضا مسح لفريضة فَقَط ولنوافل
وَإِن أحدث وَقد صلى بِوضُوء اللّبْس فرضا لم يمسح إِلَّا لنفل فَقَط لِأَن مَسحه مُرَتّب على طهره وَهُوَ لَا يُفِيد أَكثر من ذَلِك فَإِن أَرَادَ فَرِيضَة أُخْرَى وَجب نزع الْخُف وَالطُّهْر الْكَامِل لِأَنَّهُ مُحدث بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا زَاد على فَرِيضَة ونوافل فَكَأَنَّهُ لبس على حدث حَقِيقَة فَإِن طهره لَا يرفع الْحَدث على الْمَذْهَب
أما حَدثهُ الدَّائِم فَلَا يحْتَاج مَعَه إِلَى اسْتِئْنَاف طهر نعم إِن آخر الدُّخُول فِي الصَّلَاة بعد الطُّهْر لغير مصلحتها وحدثه يجْرِي بَطل طهره
القَوْل فِي ابْتِدَاء مُدَّة الْمسْح (وَابْتِدَاء الْمدَّة) للمسح فِي حق الْمُقِيم وَالْمُسَافر (من حِين) انْقِضَاء الزَّمن الَّذِي (يحدث) فِيهِ (بعد لبس الْخُفَّيْنِ) لِأَن وَقت جَوَاز الْمسْح يدْخل بذلك فاعتبرت مدَّته مِنْهُ فَإِذا أحدث وَلم يمسح حَتَّى انْقَضتْ الْمدَّة لم يجز الْمسْح حَتَّى يسْتَأْنف لبسا على طَهَارَة أَو لم يحدث لم تحسب الْمدَّة وَلَو بَقِي شهرا مثلا لِأَنَّهَا عبَادَة مُؤَقَّتَة فَكَانَ ابْتِدَاء وَقتهَا من حِين جَوَاز فعلهَا كَالصَّلَاةِ وَعلم مِمَّا تقرر أَن الْمدَّة لَا تحسب من ابْتِدَاء الْحَدث لِأَنَّهُ رُبمَا يسْتَغْرق غَالب الْمدَّة وَشَمل إِطْلَاقهم الْحَدث الْحَدث بِالنَّوْمِ واللمس والمس وَهُوَ كَذَلِك
(فَإِن مسح) بعد الْحَدث الْمُقِيم (فِي الْحَضَر) على خفيه (ثمَّ سَافر) سفر قصر (أَو مسح) الْمُسَافِر على خفيه (فِي السّفر ثمَّ أَقَامَ) قبل اسْتِيفَاء مُدَّة الْمُقِيم (أتم) كل مِنْهُمَا (مسح مُقيم) تَغْلِيبًا للحضر لأصالته فَيقْتَصر فِي الأول على مُدَّة حضر وَكَذَا فِي الثَّانِي إِن أَقَامَ قبل مدَّته كَمَا مر وَإِلَّا وَجب النزع ويجزيه مَا زَاد على مُدَّة الْمُقِيم
وَلَو مسح إِحْدَى رجلَيْهِ حضرا ثمَّ سَافر وَمسح الْأُخْرَى سفرا أتم مسح مُقيم كَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ تَغْلِيبًا للحضر خلافًا للرافعي وَمثل ذَلِك مَا لَو مسح إِحْدَى رجلَيْهِ وَهُوَ عَاص ثمَّ الْأُخْرَى بعد تَوْبَته فِيمَا يظْهر
تَنْبِيه قد علم من اعْتِبَار الْمسْح أَنه لَا عِبْرَة بِالْحَدَثِ حضرا وَإِن تلبس بالمدة وَلَا بِمُضِيِّ وَقت الصَّلَاة حضرا وعصيانه إِنَّمَا هُوَ بِالتَّأْخِيرِ لَا بِالسَّفرِ الَّذِي بِهِ الرُّخْصَة وَلَا يشْتَرط فِي الْخُف أَن يكون حَلَالا لِأَن الْخُف تستوفى بِهِ الرُّخْصَة لَا أَنه المجوز للرخصة بِخِلَاف منع الْقصر فِي سفر الْمعْصِيَة إِذْ المجوز لَهُ السّفر فَيَكْفِي الْمسْح على الْمَغْصُوب والديباج الصفيق والمتخذ من فضَّة وَذهب للرجل كالتيمم بِتُرَاب مَغْصُوب وَاسْتثنى فِي الْعباب مَا لَو كَانَ اللابس للخف محرما بنسك وَوَجهه ظَاهر وَالْفرق(1/75)
بَينه وَبَين الْمَغْصُوب أَن الْمحرم مَنْهِيّ عَن اللّبْس من حَيْثُ هُوَ لبس فَصَارَ كالخف الَّذِي لَا يُمكن تتَابع الْمَشْي فِيهِ وَالنَّهْي عَن لبس الْمَغْصُوب من حَيْثُ إِنَّه مُتَعَدٍّ فِي اسْتِعْمَال مَال الْغَيْر وَاسْتثنى غَيره جلد الْآدَمِيّ إِذا اتخذ مِنْهُ خفا وَالظَّاهِر أَنه كالمغصوب
حكم الْمسْح على الجرموق وَلَا يجزىء الْمسْح على جرموق وَهُوَ خف فَوق خف إِن كَانَ فَوق قوي ضَعِيفا كَانَ أوقويا لوُرُود الرُّخْصَة فِي الْخُف لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ والجرموق لَا تعم الْحَاجة إِلَيْهِ وَإِن دعت إِلَيْهِ حَاجَة أمكنه أَن يدْخل يَده بَينهمَا وَيمْسَح الْأَسْفَل فَإِن كَانَ فَوق ضَعِيف كفى إِن كَانَ قَوِيا لِأَنَّهُ الْخُف والأسفل كاللفافة وَإِلَّا فَلَا كالأسفل إِلَّا أَن يصل إِلَى الْأَسْفَل الْقوي مَاء فَيَكْفِي إِن كَانَ بِقصد مسح الْأَسْفَل فَقَط أَو بِقصد مسحهما مَعًا أَو لَا بِقصد مسح شَيْء مِنْهُمَا لِأَنَّهُ قصد إِسْقَاط الْفَرْض بِالْمَسْحِ وَقد وصل المَاء إِلَيْهِ لَا بِقصد مسح الجرموق فَقَط فَلَا يَكْفِي لقصده مَا لَا يَكْفِي الْمسْح عَلَيْهِ فَقَط وَيتَصَوَّر وُصُول المَاء إِلَى الْأَسْفَل فِي القويين بصبه فِي مَحل الخرز
فرع لَو لبس الْخُف على جبيرَة لم يجز الْمسْح عَلَيْهِ على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة لِأَنَّهُ ملبوس فَوق مَمْسُوح كالمسح على الْعِمَامَة
كَيْفيَّة الْمسْح ومجزىء الْمسْح وَسن مسح أَعْلَاهُ وأسفله وعقبه وحرفه خُطُوطًا بِأَن يضع يَده الْيُسْرَى تَحت الْعقب واليمنى على ظهر الْأَصَابِع ثمَّ يمر الْيُمْنَى إِلَى آخر سَاقه واليسرى إِلَى أَطْرَاف الْأَصَابِع من تَحت مفرجا بَين أَصَابِع يَدَيْهِ فاستيعابه بِالْمَسْحِ خلاف الأولى وَعَلِيهِ يحمل قَول الرَّوْضَة لَا ينْدب استيعابه وَيكرهُ تكراره وَغسل الْخُف وَيَكْفِي مُسَمّى مسح كمسح الرَّأْس فِي مَحل الْفَرْض بِظَاهِر أَعلَى الْخُف لَا بأسفله وباطنه وعقبه وحرفه إِذْ لم يرد الِاقْتِصَار على شَيْء مِنْهَا كَمَا ورد الِاقْتِصَار على الْأَعْلَى فَيقْتَصر عَلَيْهِ وقوفا على مَحل الرُّخْصَة وَلَو وضع يَده المبتلة عَلَيْهِ وَلم يمرها أَو قطر عَلَيْهِ أَجزَأَهُ
وَلَا مسح لشاك فِي بَقَاء الْمدَّة كَأَن نسي ابتداءها أَو أَنه مسح حضرا أَو سفرا لِأَن الْمسْح رخصَة بِشُرُوط مِنْهَا الْمدَّة فَإِذا شكّ فِيهَا رَجَعَ للْأَصْل وَهُوَ الْغسْل
القَوْل فِي مبطلات الْمسْح (وَيبْطل) حكم (الْمسْح) فِي حق لابس الْخُف (بِثَلَاثَة أَشْيَاء) الأول (بخلعهما) أَو أَحدهمَا أَو بِظُهُور بعض الرجل وَشَيْء مِمَّا ستر بِهِ من رجل ولفافة وَغَيرهمَا
(و) الثَّانِي (انْقِضَاء الْمدَّة) المحدودة فِي حَقّهمَا فَلَيْسَ لأَحَدهمَا أَن يُصَلِّي بعد انْقِضَاء مدَّته وَهُوَ بطهر الْمسْح فِي الْحَالين (و) الثَّالِث (مَا يُوجب الْغسْل) من جَنَابَة أَو حيض أَو نِفَاس أَو ولادَة فينزع ويتطهر ثمَّ يلبس حَتَّى لَو اغْتسل لابسا لَا يمسح بَقِيَّة الْمدَّة كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الرَّافِعِيّ وَذَلِكَ لخَبر صَفْوَان قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا إِذا كُنَّا مسافرين أَو سفرا أَلا ننزع خفافنا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن إِلَّا من جَنَابَة
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره وصححوه وَقيس بالجنابة مَا فِي مَعْنَاهَا وَلِأَن ذَلِك لَا يتَكَرَّر تكْرَار الْحَدث الْأَصْغَر وَفَارق الْجَبِيرَة مَعَ أَن فِي كل مِنْهُمَا مسحا بِأَعْلَى سَاتِر لحَاجَة مَوْضُوعَة على طهر بِأَن الْحَاجة ثمَّ أَشد والنزع أشق
وَمن فسد خفه أَو ظهر شَيْء مِمَّا ستر بِهِ من رجل ولفافة وَغَيرهمَا أَو انْقَضتْ الْمدَّة وَهُوَ بطهر الْمسْح فِي الثَّلَاث لزمَه غسل قَدَمَيْهِ فَقَط لبُطْلَان طهرهما دون غَيرهمَا بذلك وَخرج بطهر الْمسْح طهر الْغسْل فَلَا حَاجَة إِلَى غسل قَدَمَيْهِ
تَتِمَّة لَو تنجست رجله فِي الْخُف بِدَم أَو بِغَيْر بِنَجَاسَة غير مَعْفُو عَنْهَا وَأمكنهُ غسلهَا فِي الْخُف غسلهَا وَلم يبطل مَسحه وَإِن لم يُمكن وَجب النزع وَغسل النَّجَاسَة وَبَطل مَسحه وَلَو بَقِي من مُدَّة الْمسْح مَا يسع رَكْعَة أَو اعْتقد طريان حدث غَالب فَأحْرم بِرَكْعَتَيْنِ فَأكْثر انْعَقَدت صلَاته لِأَنَّهُ على طَهَارَة فِي الْحَال وَصَحَّ الِاقْتِدَاء بِهِ وَلَو علم الْمُقْتَدِي بِحَالهِ ويفارقه عِنْد عرُوض الْمُبْطل(1/76)
قَالَ فِي الْإِحْيَاء يسْتَحبّ لمن أَرَادَ أَن يلبس الْخُف أَن ينفضه لِئَلَّا يكون فِيهِ حَيَّة أَو عقرب أَو شَوْكَة أَو نَحْو ذَلِك
وَاسْتدلَّ لذَلِك لما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن أبي أُمَامَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يلبس خفيه حَتَّى ينفضهما
فصل فِي التَّيَمُّم
هُوَ لُغَة الْقَصْد يُقَال تيممت فلَانا ويممته وتأممته وأممته أَي قصدته
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} وَشرعا إِيصَال التُّرَاب إِلَى الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ بشرائط مَخْصُوصَة وخصت بِهِ هَذِه الْأمة وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه فرض سنة سِتّ من الْهِجْرَة وَهُوَ رخصَة وعَلى الْأَصَح وَأَجْمعُوا على أَنه مُخْتَصّ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَإِن كَانَ الْحَدث أكبر
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر} إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} أَي تُرَابا طهُورا وَخبر مُسلم جعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا وتربتها طهُورا
(وشرائط التَّيَمُّم) جمع شريطة كَمَا قَالَه الْجَوْهَرِي (خَمْسَة أَشْيَاء) كَذَا فِي أَكثر النّسخ والمعدود فِي كَلَامه سِتَّة كَمَا ستعرفه
الأول (وجود الْعذر) وَهُوَ الْعَجز عَن اسْتِعْمَال المَاء
أَسبَاب الْعَجز عَن اسْتِعْمَال المَاء الْمُبِيح للتيمم وللعجز ثَلَاثَة أَسبَاب أَحدهَا فَقده (ب) سَبَب (سفر) وللمسافر أَرْبَعَة أَحْوَال الْحَالة الأولى أَن يتَيَقَّن عدم المَاء فيتيمم حِينَئِذٍ بِلَا طلب إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ سَوَاء أَكَانَ مُسَافِرًا أم لَا
وفقده فِي السّفر جرى على الْغَالِب(1/77)
الْحَالة الثَّانِيَة أَن لَا يتَيَقَّن الْعَدَم بل جوز وجوده وَعَدَمه فَيجب عَلَيْهِ طلبه فِي الْوَقْت قبل التَّيَمُّم وَلَو بمأذونه مِمَّا جوزه فِيهِ من رَحْله ورفقته المنسوبين إِلَيْهِ ويستوعبهم كَأَن يُنَادي فيهم من مَعَه مَاء يجود بِهِ ثمَّ إِن لم يجد المَاء فِي ذَلِك نظر حواليه يَمِينا وَشمَالًا وأماما وخلفا إِلَى الْحَد الْآتِي وَخص مَوضِع الخضرة وَالطير بمزيد احْتِيَاط إِن كَانَ بمستو من الأَرْض فَإِن كَانَ ثمَّ وهدة أَو جبل تردد إِن أَمن مَعَ مَا يَأْتِي اختصاصا وَمَا لَا يجب بذله لماء طَهَارَته إِلَى حد يلْحقهُ فِيهِ غوث رفقته لَو اسْتَغَاثَ بهم فِيهِ مَعَ تشاغلهم بِأَشْغَالِهِمْ فَإِن لم يجد مَاء تيَمّم لظن فَقده
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يعلم مَاء بِمحل يصله مُسَافر لِحَاجَتِهِ كاحتطاب واحتشاش وَهَذَا فَوق حد الْغَوْث الْمُتَقَدّم وَيُسمى حد الْقرب فَيجب طلبه مِنْهُ إِن أَمن غير اخْتِصَاص وَمَال يجب بذله لماء طَهَارَته ثمنا أَو أُجْرَة من نفس وعضو وَمَال زَائِد على مَا يجب بذله للْمَاء وَانْقِطَاع عَن رفْقَة وَخُرُوج وَقت وَإِلَّا فَلَا يجب طلبه بِخِلَاف من مَعَه مَاء وَلَو تَوَضَّأ بِهِ خرج الْوَقْت فَإِنَّهُ لَا يتَيَمَّم لِأَنَّهُ وَاجِد للْمَاء وَلم يعْتَبر هُنَا الْأَمْن على الِاخْتِصَاص وَلَا على المَال الَّذِي يجب بذله بِخِلَافِهِ فِيمَا مر لتيقن وجود المَاء
الْحَالة الرَّابِعَة أَن يكون المَاء فَوق ذَلِك الْمحل الْمُتَقَدّم وَيُسمى حد الْبعد فيتيمم وَلَا يجب قصد المَاء لبعده فَلَو تيقنه آخر الْوَقْت فانتظاره أفضل من تَعْجِيل التَّيَمُّم لِأَن فَضِيلَة الصَّلَاة بِالْوضُوءِ وَلَو آخر الْوَقْت أبلغ مِنْهَا بِالتَّيَمُّمِ أَوله وَإِن ظَنّه أَو ظن أَو تَيَقّن عَدمه أَو شكّ فِيهِ آخر الْوَقْت فتعجيل التَّيَمُّم أفضل لتحَقّق فضيلته دون فَضِيلَة الْوضُوء
السَّبَب الثَّانِي خوف مَحْذُور من اسْتِعْمَال المَاء بِسَبَب بطء برْء (أَو مرض) أَو زِيَادَة ألم أَو شين فَاحش فِي عُضْو ظَاهر للْعُذْر وللآية السَّابِقَة
والشين الْأَثر المستكره من تغير لون أَو نحول أَو استحشاف وثغرة تبقى ولحمة تزيد وَالظَّاهِر مَا يَبْدُو عِنْد المهنة غَالِبا كالوجه وَالْيَدَيْنِ ذكر ذَلِك الرَّافِعِيّ وَذكر فِي الْجِنَايَات مَا حَاصله أَنه مَا لَا يعد كشفه هتكا للمروءة وَيُمكن رده إِلَى الأول وَخرج بالفاحش الْيَسِير كقليل سَواد وبالظاهر الْفَاحِش فِي الْبَاطِن فَلَا أثر لخوف ذَلِك ويعتمد فِي خوف مَا ذكر قَول عدل فِي الرِّوَايَة
السَّبَب الثَّالِث حَاجته إِلَيْهِ لعطش حَيَوَان مُحْتَرم وَلَو كَانَت حَاجته إِلَيْهِ لذَلِك فِي الْمُسْتَقْبل صونا للروح أَو غَيرهَا من التّلف فيتيمم مَعَ وجوده وَلَا يُكَلف الطُّهْر بِهِ ثمَّ جمعه وشربه لغير دَابَّة لِأَنَّهُ مستقذر عَادَة وَخرج بالمحترم غَيره
والعطش الْمُبِيح للتيمم يعْتَبر بالخوف فِي السَّبَب الثَّانِي وللعطشان أَخذ المَاء من مَالِكه قهرا بِبَدَلِهِ إِن لم يبذله لَهُ (و) الشَّيْء الثَّانِي (دُخُول وَقت الصَّلَاة) فَلَا يتَيَمَّم لمؤقت فرضا كَانَ أَو نفلا قبل وقته لِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة ضَرُورَة وَلَا ضَرُورَة قبل الْوَقْت بل يتَيَمَّم لَهُ فِيهِ وَلَو قبل الْإِتْيَان بِشَرْطِهِ كستر وخطبة جُمُعَة وَإِنَّمَا لم يَصح التَّيَمُّم قبل زَوَال النَّجَاسَة عَن الْبدن للتضمخ بهَا مَعَ كَون التَّيَمُّم طَهَارَة ضَعِيفَة لَا لكَون زَوَالهَا شرطا للصَّلَاة وَإِلَّا لما صَحَّ التَّيَمُّم قبل زَوَالهَا عَن الثَّوْب وَالْمَكَان وَالْوَقْت شَامِل لوقت الْجَوَاز وَوقت الْعذر وَيدخل وَقت صَلَاة الْجِنَازَة بِانْقِضَاء الْغسْل أَو بدله وَيتَيَمَّم للنفل الْمُطلق فِي(1/78)
كل وَقت أَرَادَهُ إِلَّا وَقت الْكَرَاهَة إِذا أَرَادَ إِيقَاع الصَّلَاة فِيهِ وَيشْتَرط الْعلم بِالْوَقْتِ
فَلَو تيَمّم شاكا فِيهِ لم يَصح وَإِن صادفه
(و) الشَّيْء الثَّالِث (طلب المَاء) بعد دُخُول الْوَقْت بِنَفسِهِ أَو بمأذونه كَمَا مر
(و) الشَّيْء الرَّابِع (تعذر اسْتِعْمَاله) شرعا فَلَو وجد خابية مسبلة بطرِيق لم يجز لَهُ الْوضُوء مِنْهَا كَمَا فِي الزَّوَائِد الرَّوْضَة أَو حسا كَأَن يحول بَينه وَبَينه سبع أَو عَدو
وَمن صور التَّعَذُّر خَوفه سَارِقا أَو انْقِطَاعًا عَن رفقته
(و) الشَّيْء الْخَامِس (إعوازه) أَي المَاء أَي احْتِيَاجه إِلَيْهِ (بعد الطّلب) لعطشه أَو عَطش حَيَوَان مُحْتَرم كَمَا مر وَهُوَ مَا لَا يُبَاح قَتله
(و) وَالشَّيْء السَّادِس (التُّرَاب) بِجَمِيعِ أَنْوَاعه حَتَّى مَا يتداوى بِهِ (الطَّاهِر الَّذِي لَهُ غُبَار) قَالَ تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} أَي تُرَابا طَاهِرا كَمَا فسره ابْن عَبَّاس وَغَيره
وَالْمرَاد بالطاهر الطّهُور فَلَا يجوز بالمتنجس وَلَا بِمَا لَا غُبَار لَهُ وَلَا بِالْمُسْتَعْملِ وَهُوَ مَا بَقِي بعضوه أَو تناثر مِنْهُ حَالَة التَّيَمُّم كالمتقاطر من المَاء وَيُؤْخَذ من حصر الْمُسْتَعْمل فِي ذَلِك صِحَة تيَمّم الْوَاحِد وَالْكثير من تُرَاب يسير مَرَّات كَثِيرَة وَهُوَ كَذَلِك وَلَو رفع يَده فِي أثْنَاء مسح الْعُضْو ثمَّ وَضعهَا صَحَّ على الْأَصَح أما مَا تناثر من غير مس لعضو فَإِنَّهُ غير مُسْتَعْمل وَدخل فِي التُّرَاب الْمَذْكُور المحرق مِنْهُ وَلَو أسود مَا لم يصر رَمَادا كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا والأعفر والأصفر والأحمر والأبيض الْمَأْكُول سفها وَخرج بِالتُّرَابِ النورة والزرنيخ وسحاقة الخزف وَنَحْو ذَلِك
(فَإِن خالطه) أَي التُّرَاب الطّهُور (جص) بِكَسْر الْجِيم وَفتحهَا وَهُوَ الَّذِي تسميه الْعَامَّة الجبس أَو دَقِيق أَو نَحوه
(أَو) اخْتَلَط بِهِ (رمل) ناعم يلصق بالعضو (لم يجز) التَّيَمُّم بِهِ وَإِن قل الخليط لِأَن ذَلِك يمْنَع وُصُول التُّرَاب إِلَى الْعُضْو أما الرمل الَّذِي لَا يلصق بالعضو فَإِنَّهُ يجوز التَّيَمُّم بِهِ إِذا كَانَ لَهُ غُبَار لِأَنَّهُ من طَبَقَات الأَرْض وَالتُّرَاب جنس لَهُ وَلَو وجد مَاء صَالحا للْغسْل لَا يَكْفِيهِ وَجب اسْتِعْمَاله فِي بعض أَعْضَائِهِ مُرَتبا إِن كَانَ حَدثهُ أَصْغَر أَو مُطلقًا إِن كَانَ غَيره كَمَا يفعل من يغسل كل بدنه لخَبر الصَّحِيحَيْنِ إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم وَيكون اسْتِعْمَاله قبل التَّيَمُّم عَن الْبَاقِي لقَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} وَهَذَا وَاجِد لَهُ أما مَا لَا يصلح للْغسْل كثلج أَو برد لَا يذوبان فَالْأَصَحّ الْقطع بِأَنَّهُ لَا يجب مسح الرَّأْس بِهِ إِذْ لَا يُمكن هَهُنَا تَقْدِيم مسح الرَّأْس وَلَو لم يجد إِلَّا تُرَابا لَا يَكْفِيهِ فَالْمَذْهَب الْقطع بِوُجُوب اسْتِعْمَاله وَمن بِهِ نَجَاسَة وَوجد مَا يغسل بِهِ بَعْضهَا وَجب عَلَيْهِ للْحَدِيث الْمُتَقَدّم أَو وجد مَاء وَعَلِيهِ حدث أَصْغَر أَو أكبر وعَلى بدنه نَجَاسَة وَلَا يَكْفِي إِلَّا لأَحَدهمَا تعين للنَّجَاسَة لِأَن إِزَالَتهَا لَا بدل لَهَا بِخِلَاف الْوضُوء وَالْغسْل وَيجب شِرَاء المَاء فِي الْوَقْت وَإِن لم يكفه وَكَذَا التُّرَاب بِثمن مثله وَهُوَ على الْأَصَح مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ الرغبات فِي ذَلِك الْموضع فِي تِلْكَ الْحَالة قَالَ الإِمَام وَالْأَقْرَب على هَذَا أَنه لَا تعْتَبر الْحَالة الَّتِي يَنْتَهِي الْأَمر فِيهَا إِلَى سد الرمق فَإِن الشربة قد تشترى حِينَئِذٍ بِدَنَانِير أَي وَيبعد فِي الرُّخص إِيجَاب ذَلِك فَإِن احْتَاجَ إِلَى الثّمن لدين عَلَيْهِ أَو لنفقة حَيَوَان مُحْتَرم سَوَاء أَكَانَ آدَمِيًّا أم غَيره لم يجب عَلَيْهِ الشِّرَاء وكالنفقة سَائِر الْمُؤَن حَتَّى الْمسكن وَالْخَادِم كَمَا صرح بهما ابْن كج فِي التَّجْرِيد وَلَو احْتَاجَ وَاجِد ثمن المَاء إِلَى شِرَاء ستْرَة للصَّلَاة قدمهَا لدوام النَّفْع بهَا وَلَو كَانَ مَعَه مَاء لَا يحْتَاج إِلَيْهِ للعطش وَيحْتَاج إِلَى ثمنه فِي شَيْء مِمَّا سبق جَازَ لَهُ التَّيَمُّم كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَلَو وهب لَهُ مَاء أَو أقْرضهُ أَو أعير دلوا أَو نَحوه وَمن آلَة الاستقاء فِي الْوَقْت وَجب عَلَيْهِ الْقبُول إِذا لم يُمكنهُ تَحْصِيل ذَلِك بشرَاء أَو نَحوه لِأَن الْمُسَامحَة بذلك يجب عَلَيْهِ قبُوله بِالْإِجْمَاع لعظم الْمِنَّة وَيشْتَرط قصد التُّرَاب لقَوْله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} أَي اقصدوه فَلَو سفته ريح على عُضْو من أَعْضَاء غالبة فَلَا تعظم فِيهِ الْمِنَّة(1/79)
بِخِلَاف مَا لَو وهب لَهُ ثمن المَاء فَإِنَّهُ لَا التَّيَمُّم فردده عَلَيْهِ وَنوى لم يكف وَإِن قصد بوقوفه فِي مهب الرّيح التَّيَمُّم لانْتِفَاء الْقَصْد من جِهَته بِانْتِفَاء النَّقْل الْمُحَقق لَهُ وَلَو يمم بِإِذْنِهِ بِأَن نقل الْمَأْذُون التُّرَاب إِلَى الْعُضْو وردده عَلَيْهِ جَازَ على النَّص كَالْوضُوءِ وَلَا بُد من نِيَّة الْآذِن عِنْد النَّقْل وَعند مسح الْوَجْه كَمَا لَو كَانَ هُوَ الْمُتَيَمم وَإِلَّا لم يَصح جزما كَمَا لَو يممه بِغَيْر إِذْنه وَلَا يشْتَرط عذر لإِقَامَة فعل مأذونه مقَام فعله لكنه ينْدب لَهُ أَلا يَأْذَن لغيره فِي ذَلِك مَعَ الْقُدْرَة خُرُوجًا من الْخلاف بل يكره لَهُ ذَلِك كَمَا صرح بِهِ الدَّمِيرِيّ وَيجب عَلَيْهِ عِنْد الْعَجز وَلَو بِأُجْرَة عِنْد الْقُدْرَة عَلَيْهَا
القَوْل فِي فَرَائض التَّيَمُّم (وفرائضه) أَي التَّيَمُّم جمع فَرِيضَة أَي أَرْكَانه هُنَا (أَرْبَعَة أَشْيَاء) وعدها فِي الْمِنْهَاج خَمْسَة فَزَاد على مَا هُنَا النَّقْل وعدها فِي الرَّوْضَة سَبْعَة فَجعل التُّرَاب وَالْقَصْد ركنين وَأسْقط فِي الْمَجْمُوع التُّرَاب وعدها سِتَّة وَجعل التُّرَاب شرطا وَالْأولَى مَا فِي الْمِنْهَاج إِذْ لَو حسن عد التُّرَاب ركنا لحسن عد المَاء ركنا فِي الطَّهَارَة وَأما الْقَصْد فداخل فِي النَّقْل الْوَاجِب قرن النِّيَّة بِهِ
الرُّكْن الأول وَهُوَ الَّذِي أسْقطه المُصَنّف هُنَا نقل التُّرَاب إِلَى الْعُضْو الْمَمْسُوح بِنَفسِهِ أَو بمأذونه كَمَا مر فَلَو كَانَ على الْعُضْو تُرَاب فردده عَلَيْهِ من جَانب إِلَى جَانب لم يكف وَإِنَّمَا صَرَّحُوا بِالْقَصْدِ مَعَ أَن النَّقْل المقرون بِالنِّيَّةِ مُتَضَمّن لَهُ رِعَايَة للفظ الْآيَة فَلَو تلقى التُّرَاب من الرّيح بكمه أَو يَده وَمسح بِهِ وَجهه أَو تمعك فِي التُّرَاب وَلَو لغير عذر أَجزَأَهُ أَو نَقله من وَجه إِلَى يَد بِأَن حدث عَلَيْهِ بعد زَوَال تُرَاب مَسحه عَنهُ تُرَاب أَو نقل من يَد إِلَى وَجه أَو من يَد إِلَى أُخْرَى أَو من عُضْو ورده إِلَيْهِ ومسحه بِهِ كفى ذَلِك لوُجُود مُسَمّى النَّقْل
القَوْل فِي مَرَاتِب النِّيَّة وكيفيتها والركن الثَّانِي وَهُوَ الأول فِي كَلَام المُصَنّف (النِّيَّة) أَي نِيَّة اسْتِبَاحَة الصَّلَاة أَو نَحْوهَا مِمَّا تفْتَقر استباحته إِلَى طَهَارَة كطواف وَحمل مصحف وَسُجُود تِلَاوَة إِذْ الْكَلَام الْآن فِي صِحَة التَّيَمُّم وَأما مَا يستباح بِهِ فَسَيَأْتِي وَلَو تيَمّم بنية الاستباحة ظَانّا أَن حَدثهُ أَصْغَر فَبَان أكبر أَو عَكسه صَحَّ لِأَن موجبهما وَاحِد وَإِن تعمد لم يَصح لتلاعبه وَلَو أجنب فِي سَفَره وَنسي وَكَانَ يتَيَمَّم وقتا وَيتَوَضَّأ وقتا أعَاد صلوَات الْوضُوء فَقَط لما مر
وَلَا يَكْفِي نِيَّة رفع حدث أَصْغَر أَو أكبر أَو الطَّهَارَة عَن أَحدهمَا لِأَن التَّيَمُّم لَا يرفعهُ
وَلَو نوى فرض التَّيَمُّم أَو فرض الطَّهَارَة أَو التَّيَمُّم الْمَفْرُوض لم يكف لِأَن التَّيَمُّم لَيْسَ مَقْصُودا فِي نَفسه وَإِنَّمَا يُؤْتى بِهِ عَن ضَرُورَة فَلَا يَجْعَل مَقْصُودا بِخِلَاف الْوضُوء وَلِهَذَا اسْتحبَّ تَجْدِيد الْوضُوء بِخِلَاف التَّيَمُّم وَيجب قرن النِّيَّة بِالنَّقْلِ لِأَنَّهُ أول الْأَركان واستدامتها إِلَى مسح شَيْء من الْوَجْه كَمَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ فَلَو عزبت قبل الْمسْح لم يكف لِأَن النَّقْل وَإِن كَانَ ركنا(1/80)
فَهُوَ غير مَقْصُود فِي نَفسه
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَالْمُتَّجه الِاكْتِفَاء باستحضارها عِنْدهمَا وَإِن عزبت بَينهمَا وتعليل الرَّافِعِيّ يفهمهُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَالتَّعْبِير بالاستدامة جرى على الْغَالِب لِأَن هَذَا الزَّمن يسير لَا تعزب فِيهِ النِّيَّة غَالِبا وَلَو ضرب يَدَيْهِ على بشرة امْرَأَة تنقض وَعَلَيْهَا تُرَاب فَإِن منع التقاء البشرتين صَحَّ تيَمّمه وَإِلَّا فَلَا
القَوْل فِي مَا يُبَاح للمتيمم بنية الاستباحة وَأما مَا يُبَاح لَهُ بنيته فَإِن نوى اسْتِبَاحَة فرض وَنفل أبيحا لَهُ عملا بنيته أَو فرضا فَقَط فَلهُ النَّفْل مَعَه لِأَن النَّفْل تَابع لَهُ فَإِذا صلحت طَهَارَته للْأَصْل فللتابع أولى أَو نفلا فَقَط أَو نوى الصَّلَاة وَأطلق صلى بِهِ النَّفْل وَلَا يُصَلِّي بِهِ الْفَرْض أما فِي الأولى فَلِأَن الْفَرْض أصل وَالنَّفْل تَابع كَمَا مر فَلَا يَجْعَل الْمَتْبُوع تَابعا
وَأما فِي الثَّانِيَة فقياسا على مَا لَو أحرم بِالصَّلَاةِ فَإِن صلَاته تَنْعَقِد نفلا وَلَو نوى بتيممه حمل الْمُصحف أَو سُجُود التِّلَاوَة أَو الشُّكْر أَو نوى نَحْو الْجنب الِاعْتِكَاف أَو قِرَاءَة الْقُرْآن أَو الْحَائِض اسْتِبَاحَة الْوَطْء كَانَ ذَلِك كُله كنية النَّفْل فِي أَنه لَا يستبيح بِهِ الْفَرْض وَلَا يستبيح بِهِ النَّفْل أَيْضا لِأَن النَّافِلَة آكِد من ذَلِك
وَظَاهر كَلَامهم أَن مَا ذكر فِي مرتبَة وَاحِدَة حَتَّى إِذا تيَمّم لوَاحِد مِنْهَا جَازَ لَهُ فعل الْبَقِيَّة وَلَو نوى بتيممه صَلَاة الْجِنَازَة فَالْأَصَحّ أَنه كالتيمم للنفل
(و) الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ الثَّانِي فِي كَلَام المُصَنّف (مسح الْوَجْه) حَتَّى ظَاهر مسترسل لحيته والمقبل من أَنفه على شَفَتَيْه لقَوْله تَعَالَى {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ}
(و) الرُّكْن الرَّابِع وَهُوَ الثَّالِث فِي كَلَام المُصَنّف (مسح) كل (الْيَدَيْنِ مَعَ الْمرْفقين) لِلْآيَةِ لِأَن الله تَعَالَى أوجب طَهَارَة الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة فِي الْوضُوء فِي أول الْآيَة ثمَّ أسقط مِنْهَا عضوين فِي التَّيَمُّم فِي آخر الْآيَة فَبَقيَ العضوان فِي التَّيَمُّم على مَا ذكرا فِي الْوضُوء إِذْ لَو اخْتلفَا لبينهما كَذَا قَالَه الشَّافِعِي
(و) الرُّكْن الْخَامِس وَهُوَ الرَّابِع فِي كَلَام المُصَنّف (التَّرْتِيب) بَين الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ لما مر فِي الْوضُوء وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين التَّيَمُّم عَن حدث أكبر أَو أَصْغَر أَو غسل مسنون أَو وضوء مُجَدد أَو غير ذَلِك مِمَّا يطْلب لَهُ التَّيَمُّم
فَإِن قيل لم لم يجب التَّرْتِيب فِي الْغسْل وَوَجَب فِي التَّيَمُّم الَّذِي هُوَ بدله أُجِيب بِأَن الْغسْل لما وَجب فِيهِ تَعْمِيم جَمِيع الْبدن صَار كعضو وَاحِد وَالتَّيَمُّم وَجب فِي عضوين فَقَط فَأشبه الْوضُوء
وَلَا يجب إِيصَال التُّرَاب إِلَى منبت الشّعْر الْخَفِيف لما فِيهِ من الْعسر بِخِلَاف الْوضُوء بل وَلَا يسْتَحبّ كَمَا فِي الْكِفَايَة فالكثيف أولى وَلَا يجب التَّرْتِيب فِي نقل التُّرَاب إِلَى العضوين بل هُوَ مُسْتَحبّ فَلَو ضرب بيدَيْهِ التُّرَاب دفْعَة وَاحِدَة أَو ضرب الْيَمين قبل الْيَسَار وَمسح بِيَمِينِهِ وَجهه وبيساره يَمِينه أَو عكس جَازَ لِأَن الْفَرْض الْأَصْلِيّ الْمسْح وَالنَّقْل وَسِيلَة إِلَيْهِ وَيشْتَرط قصد التُّرَاب لعضو معِين يمسحه أَو يُطلق فَلَو أَخذ التُّرَاب ليمسح بِهِ وَجهه فَتذكر أَنه مَسحه لم يجز لَهُ أَن يمسح بذلك التُّرَاب يَدَيْهِ(1/81)
وَكَذَا لَو أَخذه ليديه ظَانّا أَنه مسح وَجهه ثمَّ تذكر أَنه لم يمسحه لم يجز أَن يمسح بِهِ وَجهه ذكره الْقفال فِي فَتَاوِيهِ
وَيجب مسح وَجهه وَيَديه بضربتين لخَبر الْحَاكِم التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ
ورواى أَبُو دَاوُد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تيَمّم بضربتين مسح بِإِحْدَاهُمَا وَجهه وبالأخرى ذِرَاعَيْهِ
وَلِأَن الِاسْتِيعَاب غَالِبا لَا يَتَأَتَّى بدونهما فأشبها الْأَحْجَار الثَّلَاثَة فِي الِاسْتِنْجَاء وَلَا يتَعَيَّن الضَّرْب فَلَو وضع يَدَيْهِ على تُرَاب ناعم وعلق بهما غُبَار كفى
القَوْل فِي سنَن التَّيَمُّم ثمَّ شرع فِي سنَن التَّيَمُّم فَقَالَ (وسننه) أَي التَّيَمُّم (ثَلَاثَة أَشْيَاء) وَفِي بعض النّسخ ثَلَاث خِصَال بل أَكثر من ذَلِك كَمَا ستعرفه الأول (التَّسْمِيَة) أَوله كَالْوضُوءِ وَالْغسْل وَلَو لمحدث حَدثا أكبر
(و) الثَّانِي (تَقْدِيم الْيُمْنَى) من الْيَدَيْنِ (على الْيُسْرَى) مِنْهُمَا (و) الثَّالِث (الْمُوَالَاة) كَالْوضُوءِ لِأَن كلا مِنْهُمَا طَهَارَة عَن حدث وَإِذا اعْتبرنَا هُنَاكَ الْجَفَاف اعتبرناها هُنَا أَيْضا بتقديره مَاء وَمن سنَنه أَيْضا الْمُوَالَاة بَين التَّيَمُّم وَالصَّلَاة خُرُوجًا من خلاف من أوجبهَا وَتجب الْمُوَالَاة بقسميها فِي تيَمّم دَائِم الْحَدث كَمَا تجب فِي وضوئِهِ تَخْفِيفًا للمانع
وَمن سنَنه الْبدَاءَة بِأَعْلَى وَجهه وَتَخْفِيف الْغُبَار من كفيه أَو مَا يقوم مقامهما وتفريق أَصَابِعه فِي أول الضربتين وتخليل أَصَابِعه بعد مسح الْيَدَيْنِ وَأَن لَا يرفع الْيَد عَن الْعُضْو قبل تَمام مَسحه خُرُوجًا من خلاف من أوجبه
القَوْل فِي مبطلات التَّيَمُّم ثمَّ شرع فِي مبطلات التَّيَمُّم فَقَالَ وَالَّذِي يبطل التَّيَمُّم بعد صِحَّته (ثَلَاثَة أَشْيَاء)
القَوْل فِي حكم رُؤْيَة المَاء أَو توهمه للمتيمم الأول (مَا) أَي الَّذِي (أبطل الْوضُوء) وَتقدم بَيَانه فِي مَوْضِعه
(و) الثَّانِي (رُؤْيَة المَاء) الطّهُور (فِي غير وَقت الصَّلَاة) وَإِن ضَاقَ الْوَقْت بِالْإِجْمَاع كَمَا قَالَه ابْن الْمُنْذر وَلخَبَر أبي دَاوُد التُّرَاب كافيك وَلَو لم تَجِد المَاء عشر حجج فَإِذا وجدت المَاء فأمسه جِلْدك
رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ وَلِأَنَّهُ لم يشرع فِي الْمَقْصُود فَصَارَ كَمَا لَو رَآهُ فِي أثْنَاء التَّيَمُّم وَوُجُود ثمن المَاء عِنْد إِمْكَان شِرَائِهِ كوجود المَاء وَكَذَا توهم المَاء وَإِن زَالَ سَرِيعا لوُجُوب طلبه بِخِلَاف توهم الستْرَة لَا يجب عَلَيْهِ طلبَهَا لِأَن الْغَالِب عدم وجدانها بِالطَّلَبِ للبخل بهَا وَمن التَّوَهُّم رُؤْيَة سراب وَهُوَ مَا يرى نصف النَّهَار كَأَنَّهُ مَاء أَو رُؤْيَة غمامة مطبقة بِقُرْبِهِ أَو رُؤْيَة ركب طلع أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا يتَوَهَّم مَعَه المَاء فَلَو سمع قَائِلا يَقُول عِنْدِي مَاء لغَائِب بَطل تيَمّمه لعلمه بِالْمَاءِ قبل الْمَانِع أَو يَقُول عِنْدِي لغَائِب مَاء لم يبطل تيَمّمه لمقارنة الْمَانِع وجود المَاء وَلَو قَالَ عِنْدِي لحاضر مَاء وَجب عَلَيْهِ طلبه مِنْهُ وَلَو قَالَ لفُلَان مَاء وَلم يعلم السَّامع غيبته وَلَا حُضُوره وَجب السُّؤَال عَنهُ أَي وَيبْطل تيَمّمه فِي الصُّورَتَيْنِ لما مر من أَن وجوب الطّلب يُبطلهُ وَلَو سَمعه يَقُول عِنْدِي مَاء ورد بَطل أَيْضا وَوُجُود مَا ذكر قبل تَمام تَكْبِيرَة الْإِحْرَام كوجوده قبل الشُّرُوع فِيهَا وَإِنَّمَا يُبطلهُ وجود المَاء أَو توهمه إِن لم يقْتَرن بمانع يمْنَع من اسْتِعْمَاله كعطش وَسبع لِأَن وجوده وَالْحَالة هَذِه كَالْعدمِ فَإِن وجده فِي صَلَاة لَا تسْقط قَضَاؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ بِأَن صلى فِي مَكَان يغلب فِيهِ وجود المَاء بَطل تيَمّمه إِذْ لَا فَائِدَة بالاشتغال بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَا بُد من إِعَادَتهَا وَإِن أسقط التَّيَمُّم قضاءها لم يبطل تيَمّمه لِأَنَّهُ شرع فِي الْمَقْصُود فَكَانَ كَمَا لَو وجد الْمُكَفّر الرَّقَبَة بعد الشُّرُوع فِي الصَّوْم وَلِأَن وجود المَاء لَيْسَ حَدثا لكنه مَانع من ابْتِدَاء التَّيَمُّم وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين صَلَاة الْفَرْض كَظهر وَصَلَاة جَنَازَة وَالنَّفْل كعيد ووتر وَلَو رأى الْمُسَافِر المَاء فِي أثْنَاء صلَاته وَهُوَ(1/82)
قَاصِر ثمَّ نوى الْإِقَامَة أَو نوى الْقَاصِر الْإِتْمَام عِنْد رُؤْيَة المَاء بطلت صلَاته تَغْلِيبًا لحكم الْإِقَامَة فِي الأولى ولحدوث مَا لم يستبحه فِيهَا
وَفِي الثَّانِيَة لِأَن الْإِتْمَام كافتتاح صَلَاة أُخْرَى وشفاء الْمَرِيض من مَرضه فِي الصَّلَاة كوجدان الْمُسَافِر المَاء فِيهَا فَينْظر إِن كَانَت مِمَّا تسْقط بِالتَّيَمُّمِ لم تبطل وَإِن كَانَت مِمَّا لَا تسْقط بِالتَّيَمُّمِ كَأَن تيَمّم وَقد وضع الْجَبِيرَة على حدث بطلت وَقطع الصَّلَاة الَّتِي تسْقط بِالتَّيَمُّمِ ليتوضأ وَيُصلي بدلهَا أفضل من إِتْمَامهَا كوجود الْمُكَفّر الرَّقَبَة فِي أثْنَاء الصَّوْم وليخرج من خلاف من حرم إِتْمَامهَا إِلَّا إِذا ضَاقَ وَقت الْفَرِيضَة فَيحرم قطعهَا كم جزم بِهِ فِي التَّحْقِيق وَلَو يمم ميت وَصلى عَلَيْهِ ثمَّ وجد المَاء وَجب غسله وَالصَّلَاة عَلَيْهِ سَوَاء أَكَانَ فِي أثْنَاء الصَّلَاة أم بعْدهَا
ذكره الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ ثمَّ قَالَ وَيحْتَمل أَن لَا يجب وَمَا قَالَه أَولا مَحَله فِي الْحَضَر أما فِي السّفر فَلَا يجب شَيْء من ذَلِك كالحي
جزم بِهِ ابْن سراقَة فِي تلقينه لكنه فَرْضه فِي الوجدان بعد الصَّلَاة فَعلم أَن صَلَاة الْجِنَازَة كَغَيْرِهَا وَأَن تيَمّم الْمَيِّت كتيمم الْحَيّ وَلَو رأى المَاء فِي صلَاته الَّتِي تسْقط بِالتَّيَمُّمِ بَطل تيَمّمه بسلامه مِنْهَا وَإِن علم تلفه قبل سَلَامه لِأَنَّهُ ضعف بِرُؤْيَة المَاء وَكَانَ مُقْتَضَاهُ بطلَان الصَّلَاة الَّتِي هُوَ فِيهَا لَكِن خالفناه لحرمتها وَيسلم الثَّانِيَة لِأَنَّهَا من جملَة الصَّلَاة كَمَا بَحثه النَّوَوِيّ تبعا للروياني وَلَو رَأَتْ حَائِض تيممت لفقد المَاء المَاء وَهُوَ يُجَامِعهَا حرم عَلَيْهَا تَمْكِينه كَمَا قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب وَغَيره وَوَجَب النزع كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَغَيره لبُطْلَان طهرهَا وَلَو رَآهُ هُوَ دونهَا لم يجب عَلَيْهِ النزع لبَقَاء طهرهَا وَلَو رأى المَاء فِي أثْنَاء قِرَاءَة فَاقِد تيَمّم لَهَا بَطل تيَمّمه بِالرُّؤْيَةِ سَوَاء نوى قِرَاءَة قدر مَعْلُوم أم لَا لبعد ارتباط بَعْضهَا بِبَعْض قَالَه الرَّوْيَانِيّ وَلَا يُجَاوز المتنفل الَّذِي وجد المَاء فِي صلَاته الَّتِي لم ينْو قدرا رَكْعَتَيْنِ بل يسلم مِنْهُمَا لِأَنَّهُ الأحب والمعهود فِي النَّفْل هَذَا إِذا رأى المَاء قبل قِيَامه للثالثة فَمَا فَوْقهَا وَإِلَّا أتم مَا هُوَ فِيهِ فَإِن نوى رَكْعَة أَو عددا أتمه لانعقاد نِيَّته عَلَيْهِ فَأشبه الْمَكْتُوبَة الْمقدرَة وَلَا يزِيد عَلَيْهِ لِأَن الزِّيَادَة كافتتاح نَافِلَة بِدَلِيل افتقارها إِلَى قصد جَدِيد وَلَو رأى المَاء فِي أثْنَاء الطّواف بَطل تيَمّمه بِنَاء على أَنه يجوز تفريقه وَهُوَ الْأَصَح
(و) الثَّالِث من المبطلات (الرِّدَّة) وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى مِنْهَا بِخِلَاف الْوضُوء لقُوته وَضعف بدله لَكِن تبطل نِيَّته فَيجب تَجْدِيد نِيَّة الْوضُوء
القَوْل فِي الْجَبِيرَة وَحكمهَا (وَصَاحب الجبائر) جمع جبيرَة وَهِي خَشَبَة أَو نَحْوهَا كقصبة تُوضَع على الْكسر ويشد عَلَيْهَا لينجبر الْكسر (يمسح) بِالْمَاءِ (عَلَيْهَا) حَيْثُ عسر نَزعهَا لخوف مَحْذُور مِمَّا تقدم وَكَذَا اللصوق بِفَتْح اللَّام والشقوق الَّتِي فِي الرجل إِذا احْتَاجَ إِلَى تقطير شَيْء فِيهَا يمْنَع من وُصُول المَاء وَيجب مسح كلهَا بِالْمَاءِ اسْتِعْمَالا لَهُ مَا أمكن بِخِلَاف التُّرَاب لَا يجب مسحها بِهِ وَإِن كَانَت فِي(1/83)
مَحَله لِأَنَّهُ ضَعِيف فَلَا يُؤثر من وَرَاء حَائِل وَلَا يقدر الْمسْح بِمدَّة بل لَهُ الاستدامة إِلَى الِانْدِمَال لِأَنَّهُ لم يرد فِيهِ تأقيت وَلِأَن السَّاتِر لَا ينْزع للجنابة بِخِلَاف الْخُف فيهمَا وَيمْسَح الْجنب وَنَحْوه مَتى شَاءَ والمحدث وَقت غسل عليله وَيشْتَرط فِي السَّاتِر ليكفي مَا ذكر أَن لَا يَأْخُذ من الصَّحِيح إِلَّا مَا لَا بُد مِنْهُ للاستمساك وَيجب غسل الصَّحِيح لِأَنَّهَا طَهَارَة ضَرُورَة فَاعْتبر الْإِتْيَان فِيهَا بأقصى الْمُمكن (وَيتَيَمَّم) وجوبا لما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات عَن جَابر فِي المشجوج الَّذِي احْتَلَمَ واغتسل فَدخل المَاء شجته فَمَاتَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَن يتَيَمَّم ويعصب على رَأسه خرقَة ثمَّ يمسح عَلَيْهَا وَيغسل سَائِر جسده وَالتَّيَمُّم بدل عَن غسل الْعُضْو العليل وَمسح السَّاتِر بدل عَن غسل مَا تَحت أَطْرَافه من الصَّحِيح كَمَا فِي التَّحْقِيق وَغَيره
وَقَضِيَّة ذَلِك أَنه لَو كَانَ السَّاتِر بِقدر الْعلَّة فَقَط أَو بأزيد وَغسل الزَّائِد كُله لَا يجب الْمسْح وَهُوَ كَذَلِك فإطلاقهم وجوب الْمسْح جرى على الْغَالِب من أَن السَّاتِر يَأْخُذ زِيَادَة على مَحل الْعلَّة والفصد كالجرح الَّذِي يخَاف من غسله مَا مر فيتيمم لَهُ إِن خَافَ اسْتِعْمَال المَاء وعصابته كاللصوق وَلما بَين حبات الجدري حكم الْعُضْو الجريح إِن خَافَ من غسله مَا مر وَإِذا ظهر دم الفصادة من اللصوق وشق عَلَيْهِ نَزعه وَجب عَلَيْهِ مَسحه ويعفى عَن هَذَا الدَّم الْمُخْتَلط بِالْمَاءِ تَقْدِيمًا لمصْلحَة الْوَاجِب على دفع مفْسدَة الْحَرَام كوجوب تنحنح مصلي الْفَرْض حَيْثُ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَة الْوَاجِبَة وَإِذا تيَمّم الَّذِي غسل الصَّحِيح وَتيَمّم عَن الْبَاقِي وَأدّى فَرِيضَة لفرض ثَان وثالث وَهَكَذَا وَلم يحدث بعد طَهَارَته الأولى لم يعد الْجنب وَنَحْوه غسلا لما غسله وَلَا مسحا لما مَسحه وَالْحَدَث كالجنب فَلَا يحْتَاج إِلَى إِعَادَة غسل مَا بعد عليله لِأَنَّهُ إِنَّمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لَو بطلت طَهَارَة العليل وطهارة العليل بَاقِيَة إِذْ يتَنَفَّل بهَا وَإِنَّمَا يُعِيد التَّيَمُّم لضَعْفه عَن أَدَاء فرض ثَان بِخِلَاف من نسي لمْعَة فَإِن طَهَارَة ذَلِك الْعُضْو لم تحصل وَإِذا امْتنع وجوب اسْتِعْمَال المَاء فِي عُضْو من مَحل الطَّهَارَة لنَحْو مرض أَو جرح وَلم يكن عَلَيْهِ سَاتِر وَجب التَّيَمُّم لِئَلَّا يبْقى مَوضِع الْعلَّة بِلَا طَهَارَة فيمر التُّرَاب مَا أمكن على مَوضِع الْعلَّة إِن كَانَت بِمحل التَّيَمُّم وَيجب غسل الصَّحِيح بِقدر الْإِمْكَان لما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان فِي حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ فِي رِوَايَة لَهما أَنه غسل معاطفه وَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة ثمَّ صلى بهم
قَالَ الْبَيْهَقِيّ مَعْنَاهُ أَنه غسل مَا أمكنه وَتَوَضَّأ وَتيَمّم للْبَاقِي ويتلطف فِي غسل الصَّحِيح المجاور للعليل فَيَضَع خرقَة مبلولة بِقُرْبِهِ ويتحامل عَلَيْهَا ليغسل بالمتقاطر(1/84)
مِنْهَا مَا حواليه من غير أَن يسيل المَاء إِلَيْهِ فَإِن لم يقدر على ذَلِك بِنَفسِهِ اسْتَعَانَ وَلَو بِأُجْرَة فَإِن تعذر فَفِي الْمَجْمُوع أَنه يقْضِي وَلَو جرح عضوا الْمُحدث أَو امْتنع اسْتِعْمَال المَاء فيهمَا لغير جِرَاحَة فَيجب تيممان بِنَاء على الْأَصَح وَهُوَ اشْتِرَاط التَّيَمُّم وَقت غسل العليل لتَعَدد العليل وكل من الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ كعضو وَاحِد وَيسْتَحب أَن يَجْعَل كل وَاحِدَة كعضو فَإِن كَانَ فِي أَعْضَائِهِ الْأَرْبَعَة جِرَاحَة وَلم تعمها فَلَا بُد من ثَلَاث تيممات الأول للْوَجْه وَالثَّانِي لِلْيَدَيْنِ وَالثَّالِث للرجلين وَالرَّأْس يَكْفِي فِيهِ مسح مَا قل مِنْهُ كَمَا مر فَإِن عَمت الرَّأْس فَأَرْبَعَة وَإِن عَمت الْأَعْضَاء كلهَا فَتَيَمم وَاحِد عَن الْجَمِيع لسُقُوط التَّرْتِيب بِسُقُوط الْغسْل (وَيُصلي) صَاحب الْجَبِيرَة إِذا مسح عَلَيْهَا وَغسل الصَّحِيح وَتيَمّم (وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ إِن كَانَ وَضعهَا على طهر) لِأَنَّهُ أولى من الْمسْح على الْخُف للضَّرُورَة هُنَا هَذَا إِذا لم تكن الْجَبِيرَة على مَحل التَّيَمُّم وَإِلَّا وَجب الْقَضَاء
قَالَ فِي الرَّوْضَة بِلَا خلاف لنَقص الْبَدَل والمبدل جَمِيعًا وَنَقله النَّوَوِيّ فِي الْمَجْمُوع كالرافعي عَن جمَاعَة ثمَّ قَالَ وَإِطْلَاق الْجُمْهُور يَقْتَضِي أَنه لَا فرق انْتهى
وَمَا فِي الرَّوْضَة أوجه لما ذكر وَإِن وَضعهَا على حدث سَوَاء أَكَانَ فِي أَعْضَاء التَّيَمُّم أَو فِي غَيرهَا من أَعْضَاء الطَّهَارَة وَجب نَزعهَا إِن أمكن بِلَا ضَرَر يُبِيح التَّيَمُّم لِأَنَّهُ مسح على سَاتِر فَاشْترط فِيهِ الْوَضع على طهر كالخف فَإِن تعذر نَزعه وَمسح وَصلى قضى الْفَرَائِض لفَوَات شَرط الْوَضع على طَهَارَة فَانْتفى تشبيهه حِينَئِذٍ بالخف وَكَذَا يجب الْقَضَاء إِن أمكنه النزع وَلم يفعل وَكَانَ وَضعهَا على طهر
وَلَو تيَمّم عَن حدث أكبر ثمَّ أحدث حَدثا أَصْغَر انْتقض طهره الْأَصْغَر لَا الْأَكْبَر كَمَا لَو أحدث بعد غسله فَيحرم عَلَيْهِ مَا يحرم على الْمُحدث وَيسْتَمر تيَمّمه عَن الْحَدث الْأَكْبَر حَتَّى يجد المَاء بِلَا مَانع فَلَو وجد خابية مَاء مُسبل تيَمّم وَلَا يجوز الطُّهْر مِنْهَا لِأَنَّهَا إِنَّمَا وضعت للشُّرْب نظرا للْغَالِب وَلم يقْض صلَاته كَمَا لَو تيَمّم بِحَضْرَة مَاء يحْتَاج إِلَيْهِ لعطش وَصلى بِهِ وَلَو نسي المَاء فِي رَحْله أَو أضلّهُ فِيهِ فَلم يجده بعد إمعان الطّلب وَتيَمّم فِي الْحَالين وَصلى ثمَّ تذكره فِي النسْيَان ووجده فِي الإضلال قضى لِأَنَّهُ فِي الْحَالة الأولى وَاجِد للْمَاء لكنه قصر فِي الْوُقُوف عَلَيْهِ فَيَقْضِي كَمَا لَو نسي سَاتِر الْعَوْرَة
وَفِي الثَّانِيَة عذر نَادِر لَا يَدُوم وَلَو أضلّ رَحْله فِي رحال بِسَبَب ظلمَة أَو غَيرهَا فَتَيَمم وَصلى ثمَّ وجده(1/85)
وَفِيه المَاء فَإِن لم يمعن فِي الطّلب قضى لتَقْصِيره وَإِن أمعن فِيهِ فَلَا قَضَاء إِذْ لَا مَاء مَعَه حَال التَّيَمُّم وَفَارق إضلاله فِي رَحْله بِأَن مخيم الرّفْقَة أوسع غَالِبا من مخيمه فَلَا يعد مقصرا وَلَو أدرج المَاء فِي رَحْله وَلم يشْعر بِهِ أَو لم يعلم ببئر خُفْيَة هُنَاكَ فَلَا إِعَادَة
وَلَو تيَمّم لإضلاله عَن الْقَافِلَة أَو عَن المَاء أَو لغصب مَائه فَلَا إِعَادَة بِلَا خلاف ذكره فِي الْمَجْمُوع
فروع لَو أتلف المَاء فِي الْوَقْت لغَرَض كتبرد وتنظف وتحير مُجْتَهدا لم يعْص للْعُذْر أَو أتْلفه عَبَثا فِي الْوَقْت أَو بعده عصى لتَفْرِيطه بإتلافه مَاء تعين للطَّهَارَة وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ إِذا تيَمّم فِي الْحَالين لِأَنَّهُ تيَمّم وَهُوَ فَاقِد للْمَاء أما إِذا أتْلفه قبل الْوَقْت فَلَا يَعْصِي من حَيْثُ إِتْلَاف مَاء الطَّهَارَة وَإِن كَانَ يَعْصِي من حَيْثُ إِنَّه إِضَاعَة مَال وَلَا إِعَادَة أَيْضا لما مر
وَلَو بَاعه أَو وهبه فِي الْوَقْت بِلَا حَاجَة لَهُ وَلَا للْمُشْتَرِي أَو الْمُتَّهب لعطش لم يَصح بَيْعه وَلَا هِبته لِأَنَّهُ عَاجز عَن تَسْلِيمه شرعا لتعينه للطهر وَبِهَذَا فَارق صِحَة هبة من لَزِمته كَفَّارَة أَو دُيُون فوهب مَا يملكهُ وَعَلِيهِ أَن يسْتَردّهُ فَلَا يَصح تيَمّمه مَا قدر عَلَيْهِ لبَقَائه على ملكه فَإِن عجز عَن اسْتِرْدَاده تيَمّم وَصلى وَقضى تِلْكَ الصَّلَاة الَّتِي فَوت المَاء فِي وَقتهَا لتَقْصِيره دون مَا سواهَا لِأَنَّهُ فَوت المَاء قبل دُخُول وَقتهَا
وَلَا يقْضِي تِلْكَ الصَّلَاة بِتَيَمُّم فِي الْوَقْت بل يُؤَخر الْقَضَاء إِلَى وجود المَاء أَو حَالَة يسْقط الْفَرْض فِيهَا بِالتَّيَمُّمِ وَلَو أتلف المَاء فِي يَد الْمُتَّهب أَو المُشْتَرِي ثمَّ تيَمّم وَصلى فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ لما سلف وَيضمن المَاء المُشْتَرِي دون الْمُتَّهب لِأَن فَاسد كل عقد كصحيحه فِي الضَّمَان وَعَدَمه
وَلَو مر بِمَاء فِي الْوَقْت وَبعد عَنهُ بِحَيْثُ لَا يلْزمه طلبه ثمَّ تيَمّم وَصلى أَجزَأَهُ وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ لما مر وَلَو عطشوا ولميت مَاء شربوه ويمموه وضمنوه للْوَارِث بِقِيمَتِه لَا بِمثلِهِ وَلَو كَانَ مثلِيا إِذا كَانُوا ببرية للْمَاء فِيهَا قيمَة ثمَّ رجعُوا إِلَى وطنهم وَلَا قيمَة لَهُ فِيهِ وَأَرَادَ الْوَارِث تغريمهم إِذْ لَو ردوا المَاء لَكَانَ إِسْقَاطًا للضَّمَان فَإِن فرض الْغرم بمَكَان الشّرْب أَو بمَكَان آخر للْمَاء فِيهِ قيمَة وَلَو دون قِيمَته بمَكَان الشّرْب وزمانه غرم مثله كَسَائِر الْمِثْلِيَّات وَلَو أوصى بِصَرْف مَاء لأولي النَّاس وَجب تَقْدِيم العطشان الْمُحْتَرَم حفظا لمهجته ثمَّ الْمَيِّت لِأَن ذَلِك خَاتِمَة أمره فَإِن مَاتَ اثْنَان وَوجد المَاء قبل مَوْتهمَا قدم الأول لسبقه فَإِن مَاتَا مَعًا أَو جهل السَّابِق أَو وجد المَاء بعدهمَا قدم الْأَفْضَل لأفضليته بِغَلَبَة الظَّن لكَونه أقرب إِلَى الرَّحْمَة لَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالنّسب وَنَحْو ذَلِك فَإِن اسْتَويَا أَقرع بَينهمَا
وَلَا يشْتَرط قبُول الْوَارِث لَهُ كالكفن المتطوع بِهِ ثمَّ الْمُتَنَجس لِأَن طهره لَا بدل لَهُ ثمَّ الْحَائِض أَو النُّفَسَاء لعدم خلوهما عَن النَّجس غَالِبا ولغلظ حَدثهمَا فَإِن اجْتمعَا قدم أفضلهما فَإِن اسْتَويَا أَقرع بَينهمَا ثمَّ الْجنب لِأَن حَدثهُ أغْلظ من حدث الْمُحدث حَدثا أَصْغَر نعم إِن كفى الْمُحدث دونه أولى فالمحدث بِهِ لِأَنَّهُ يرْتَفع بِهِ حَدثهُ بِكَمَالِهِ دون الْجنب
لَا يجمع فرضين بِتَيَمُّم وَاحِد (وَيتَيَمَّم) الْمَعْذُور وجوبا (لكل فَرِيضَة) فَلَا يُصَلِّي بِتَيَمُّم غير فرض لِأَن الْوضُوء كَانَ لكل فرض لقَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة}(1/86)
وَالتَّيَمُّم بدل عَنهُ ثمَّ نسخ ذَلِك فِي الْوضُوء بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى يَوْم الْفَتْح خمس صلوَات بِوضُوء وَاحِد وَبَقِي التَّيَمُّم على مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلما روى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عمر قَالَ يتَيَمَّم لكل صَلَاة وَإِن لم يحدث وَلِأَنَّهُ طَهَارَة ضَرُورَة وَمثل فرض الصَّلَاة فِي ذَلِك فرض الطّواف وخطبة الْجُمُعَة فَيمْتَنع الْجمع بِتَيَمُّم وَاحِد بَين طوافين مفروضين وَبَين طواف فرض وَفرض صَلَاة وَبَين صَلَاة الْجُمُعَة وخطبتها على مَا رَجحه الشَّيْخَانِ وَهُوَ الْمُعْتَمد لِأَن الْخطْبَة وَإِن كَانَت فرض كِفَايَة إِذْ قيل إِنَّهَا قَائِمَة مقَام رَكْعَتَيْنِ وَالصَّبِيّ لَا يُؤَدِّي بتيممه غير فرض كَالْبَالِغِ لِأَن مَا يُؤَدِّيه كالفرض فِي النِّيَّة وَغَيرهَا
نعم لَو تيَمّم للْفَرض ثمَّ بلغ لم يصل بِهِ الْفَرْض لِأَن صلَاته نفل كَمَا صَححهُ فِي التَّحْقِيق وَنَقله فِي الْمَجْمُوع عَن الْعِرَاقِيّين
فَإِن قيل لم جعل كَالْبَالِغِ فِي أَنه لَا يجمع بِتَيَمُّم فرضين وَلَا يُصَلِّي بِهِ الْفَرْض إِذا بلغ أُجِيب بِأَن ذَلِك احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ فِي أَنه يتَيَمَّم للْفَرض الثَّانِي وَيتَيَمَّم إِذا بلغ
وَهَذَا فِي غَايَة الِاحْتِيَاط وَخرج بِمَا ذكر تَمْكِين الْحَائِض من الْوَطْء مرَارًا وَجمعه مَعَ فرض آخر بِتَيَمُّم وَاحِد فَإِنَّهُمَا جائزان وَالنّذر كفرض عَيْني لتعينه على النَّاذِر فَأشبه الْمَكْتُوبَة فَلَيْسَ لَهُ أَن يجمعه مَعَ فَرِيضَة أُخْرَى مُؤَدَّاة كَانَت أَو مقضية بِتَيَمُّم وَاحِد
وَلَو تعين على ذِي حدث أكبر تعلم فَاتِحَة أَو حمل مصحف أَو نَحْو ذَلِك كحائض انْقَطع حَيْضهَا وَأَرَادَ الزَّوْج وَطأهَا وَتيَمّم من ذكر لفريضة كَانَ لَهُ أَن يجمع ذَلِك مَعهَا وَكَذَا لَهُ مَعهَا صَلَاة الْجِنَازَة لِأَنَّهَا لَيست من جنس فَرَائض الْأَعْيَان فَهِيَ كالنفل فِي جَوَاز التّرْك فِي الْجُمْلَة وَإِنَّمَا تعين الْقيام فِيهَا الْقُدْرَة لِأَن الْقيام قوامها لعدم الرُّكُوع وَالسُّجُود فِيهَا فَتَركه يمحي صورتهَا وَلَو تيَمّم لنافلة كَانَ لَهُ أَن يُصَلِّي بِهِ الْجِنَازَة لما ذكره
(وَيُصلي بِتَيَمُّم وَاحِد مَا شَاءَ من النَّوَافِل) لِأَن النَّوَافِل تكْثر فَيُؤَدِّي إِيجَاب التَّيَمُّم لكل صَلَاة مِنْهَا إِلَى التّرْك أَو إِلَى حرج عَظِيم فَخفف فِي أمرهَا كَمَا خفف بترك الْقيام فِيهَا مَعَ الْقُدْرَة وبترك الْقبْلَة فِي السّفر
وَلَو نذر إتْمَام كل صَلَاة دخل فِيهَا فَلهُ جمعهَا مَعَ فرض لِأَن ابتداءها نفل ذكره الرَّوْيَانِيّ
وَلَو صلى بِالتَّيَمُّمِ مُنْفَردا أَو فِي جمَاعَة ثمَّ أَرَادَ إِعَادَتهَا جمَاعَة جَازَ لِأَن فَرْضه الأولى ثمَّ كل صَلَاة أوجبناها فِي الْوَقْت وأوجبنا إِعَادَتهَا كمربوط على خَشَبَة ففرضه الثَّانِيَة وَله أَن يُعِيدهَا بِتَيَمُّم الأولى لِأَن الأولى وَإِن وَقعت نفلا فالإتيان بهَا فرض
فَإِن قيل كَيفَ يجمعهما بِتَيَمُّم مَعَ أَن كلا مِنْهُمَا فرض(1/87)
أُجِيب بِأَن هَذَا كالمنسية فِي خمس يجوز جمعهَا بِتَيَمُّم وَإِن كَانَت فرضا لِأَن الْفَرْض بِالذَّاتِ وَاحِدَة
وَمن نسي إِحْدَى الْخمس وَلم يعلم عينهَا كَفاهُ لَهُنَّ تيَمّم لِأَن الْفَرْض وَاحِد وَمَا سواهُ وَسِيلَة لَهُ فَلَو تذكر المنسية بعد لم يجب إِعَادَتهَا كَمَا رَجحه فِي الْمَجْمُوع أَو نسي مِنْهُنَّ مختلفتين وَلم يعلم عينهما صلى كلا مِنْهُنَّ بِتَيَمُّم أَو صلى أَرْبعا كالظهر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء بِتَيَمُّم وأربعا لَيست مِنْهَا الَّتِي بَدَأَ بهَا أَي الْعَصْر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَالصُّبْح بِتَيَمُّم آخر فَيبرأ بِيَقِين أَو نسي مِنْهُنَّ متفقتين أَو شكّ فِي اتِّفَاقهمَا وَلم يعلم عينهما وَلَا تكون المتفقتان إِلَّا من يَوْمَيْنِ فَيصَلي الْخمس مرَّتَيْنِ بتيممين ليبرأ بِيَقِين
تَتِمَّة على فَاقِد الطهُورَيْنِ وهما المَاء وَالتُّرَاب كمحبوس بِمحل لَيْسَ فِيهِ وَاحِد مِنْهُمَا أَن يُصَلِّي الْفَرْض لحرمه الْوَقْت وَيُعِيد إِذا وجد أَحدهمَا وَإِنَّمَا يُعِيد بِالتَّيَمُّمِ فِي مَحل يسْقط بِهِ الْفَرْض إِذْ لَا فَائِدَة فِي الْإِعَادَة بِهِ فِي مَحل لَا يسْقط بِهِ الْفَرْض وَخرج بِالْفَرْضِ النَّفْل فَلَا يفعل وَيَقْضِي وجوبا متيمم وَلَو فِي سفر ليرد لندرة فقد مَا يسخن بِهِ المَاء أَو يدثر بِهِ أعضاءه ومتيمم لفقد مَاء بِمحل ينْدر فِيهِ فَقده وَلَو مُسَافِرًا لندرة فَقده بِخِلَافِهِ بِمحل لَا ينْدر فِيهِ ذَلِك وَلَو مُقيما ومتيمم لعذر كفقد مَاء وجرح فِي سفر مَعْصِيّة كآبق لِأَن عدم الْقَضَاء رخصَة فَلَا يناط بسفر الْمعْصِيَة
فصل فِي إِزَالَة النَّجَاسَة
وَهِي لُغَة كل مَا يستقذر وَشرعا مستقذر يمْنَع من صِحَة الصَّلَاة حَيْثُ لَا مرخص
(وكل مَائِع خرج من) أحد (السَّبِيلَيْنِ) أَي الْقبل والدبر سَوَاء أَكَانَ مُعْتَادا كالبول وَالْغَائِط أم نَادرا كالودي والمذي (نجس) سَوَاء أَكَانَ ذَلِك من حَيَوَان مَأْكُول أم لَا
للأحاديث الدَّالَّة على ذَلِك فقد روى البُخَارِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جِيءَ لَهُ بحجرين وروثة ليستنجي بهما فَأخذ الحجرين ورد الروثة وَقَالَ هَذَا ركس والركس النَّجس وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث القبرين أما أَحدهمَا فَكَانَ لَا يستبرىء من الْبَوْل رَوَاهُ مُسلم وَقيس بِهِ سَائِر الأبوال وَأما أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العرنيين بِشرب أَبْوَال الْإِبِل فَكَانَ للتداوي والتداوي بِالنَّجسِ جَائِز عِنْد فقد الطَّاهِر الَّذِي يقوم مقَامه وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَجْعَل الله شِفَاء أمتِي فِيمَا حرم عَلَيْهَا فَمَحْمُول على الْخمر
والمذي وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مَاء أَبيض رَقِيق يخرج بِلَا شَهْوَة قَوِيَّة عِنْد ثورتها
والودي وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ مَاء أَبيض كدر ثخين يخرج عقب الْبَوْل أَو عِنْد حمل شَيْء ثقيل
تَنْبِيه فِي بعض نسخ الْمَتْن وكل مَا يخرج بِلَفْظ الْمُضَارع بِإِسْقَاط مَائِع فَمَا نكرَة مَوْصُوفَة أَي كل شَيْء
فَائِدَة هَذِه الفضلات من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاهِرَة كَمَا جزم بِهِ الْبَغَوِيّ وَغَيره وَصَححهُ القَاضِي وَغَيره وَهُوَ الْمُعْتَمد خلافًا لما فِي الشَّرْح الصَّغِير وَالتَّحْقِيق أَنَّهَا لَيست من النَّجَاسَة لِأَن بركَة الحبشية شربت بَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لن تلج النَّار بَطْنك صَححهُ(1/88)
الدَّارَقُطْنِيّ
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر التِّرْمِذِيّ دم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاهِر لِأَن أَبَا طيبَة شربه وَفعل مثل ذَلِك ابْن الزبير وَهُوَ غُلَام حِين أعطَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دم حجامته ليدفنه فشربه فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خالط دَمه دمي لم تمسه النَّار
حكم الْحَصَاة الْخَارِجَة من الْقبل فَائِدَة أُخْرَى اخْتلف الْمُتَأَخّرُونَ فِي حَصَاة تخرج عقب الْبَوْل فِي بعض الأحيان وَتسَمى عِنْد العامية بالحصية هَل هِيَ نَجِسَة أم متنجسة تطهر بِالْغسْلِ وَالَّذِي يظْهر فِيهَا مَا قَالَه بَعضهم وَهُوَ إِن أخبر طَبِيب عدل بِأَنَّهَا منعقدة من الْبَوْل فَهِيَ نَجِسَة وَإِلَّا فمتنجسة
حكم الْمَنِيّ من الْحَيَوَانَات وَحكم الْبيض (إِلَّا الْمَنِيّ) فطاهر من جَمِيع الْحَيَوَانَات إِلَّا الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَفرع أَحدهمَا أما مني الْآدَمِيّ فلحديث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَت تحك الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يُصَلِّي فِيهِ
مُتَّفق عَلَيْهِ وَأما مني غير الْآدَمِيّ فَلِأَنَّهُ أصل حَيَوَان طَاهِر فَأشبه مني الْآدَمِيّ
وَيسْتَحب غسل الْمَنِيّ كَمَا فِي الْمَجْمُوع للْأَخْبَار الصَّحِيحَة فِيهِ وخروجا من الْخلاف
وَالْبيض الْمَأْخُوذ من حَيَوَان طَاهِر وَلَو من غير مَأْكُول طَاهِر وَكَذَا الْمَأْخُوذ من ميتَة إِن تصلب وبرز القز
وَهُوَ الْبيض الَّذِي يخرج مِنْهُ دود القز وَلَو استحالت الْبَيْضَة دَمًا فَهِيَ طَاهِرَة على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي تنقيحه هُنَا وَصحح فِي شُرُوط الصَّلَاة مِنْهُ أَنَّهَا نَجِسَة وَالْأَوْجه حمل هَذَا على مَا إِذا لم تستحل حَيَوَانا وَالْأول على خِلَافه
وَقَوله (وَغسل جَمِيع الأبوال والأرواث وَاجِب) أَي من مَأْكُول وَغَيره أَرَادَ بِهِ النَّجَاسَة المتوسطة كالبول وَالْغَائِط بِدَلِيل ذكره النَّجَاسَة المخففة والمغلظة بعد ذَلِك وَيَكْفِي غسل ذَلِك مرّة لحَدِيث كَانَت الصَّلَاة خمسين وَالْغسْل من الْجَنَابَة وَالْبَوْل سبع مَرَّات فَلم يزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل الله التَّخْفِيف حَتَّى جعلت الصَّلَاة خمْسا وَالْغسْل من الْجَنَابَة مرّة وَاحِدَة وَمن الْبَوْل مرّة
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلم يُضعفهُ وَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصب ذنُوب على بَوْل الْأَعرَابِي وَذَلِكَ فِي حكم غسلة وَاحِدَة وَهُوَ حجَّة الْوُجُوب
القَوْل فِي تَقْسِيم النَّجَاسَة إِلَى حكمِيَّة وعينية تَنْبِيه النَّجَاسَة على قسمَيْنِ حكمِيَّة وعينية فالحكمية كبول جف وَلم يدْرك لَهُ صفة يَكْفِي جري المَاء عَلَيْهَا مرّة وَاحِدَة والعينية يجب إِزَالَة صفاتها من طعم ولون وريح إِلَّا مَا عسر زَوَاله من لون أَو ريح فَلَا تجب إِزَالَته بل يطهر الْمحل أما إِذا اجْتمعَا فَتجب إزالتهما مُطلقًا لقُوَّة دلالتهما على بَقَاء الْعين كَمَا يدل على بَقَائِهَا بَقَاء الطّعْم وَحده وَإِن عسر زَوَاله وَيُؤْخَذ من التَّعْلِيل أَن مَحل ذَلِك فِيمَا إِذا بقيا فِي مَحل وَاحِد فَإِن بقيا مُتَفَرّقين لم يضر وَلَا تجب الِاسْتِعَانَة فِي زَوَال الْأَثر بِغَيْر المَاء إِلَّا إِن تعيّنت
وَيشْتَرط وُرُود المَاء إِن قل لَا إِن كثر على الْمحل لِئَلَّا يَتَنَجَّس المَاء لَو عكس فَلَا يطهر الْمحل والغسالة القليلة الْمُنْفَصِلَة بِلَا تغير وَبلا زِيَادَة وزن بعد اعْتِبَار مَا يتشربه الْمحل وَقد طهر الْمحل طَاهِرَة لِأَن الْمُنْفَصِل بعض مَا كَانَ مُتَّصِلا وَقد فرض طهره وَلَا يشْتَرط الْعَصْر إِذا البلل بعض الْمُنْفَصِل وَقد فرض طهره وَلَكِن يسن خُرُوجًا من الْخلاف فَإِن كَانَت كَثِيرَة وَلم تَتَغَيَّر أَو لم تنفصل فطاهرة أَيْضا وَإِن انفصلت متغيرة أَو غير متغيرة وَزَاد وَزنهَا بعد مَا ذكر أَو لم يزدْ وَلم يطهر الْمحل فنجسة
فرع مَاء نقل من الْبَحْر فَوجدَ فِيهِ طعم زبل أَو لَونه أَو رِيحه حكم بِنَجَاسَتِهِ كَمَا قَالَه الْبَغَوِيّ فِي تَعْلِيقه وَلَا يشكل عَلَيْهِ(1/89)
قَوْلهم لَا يحد برِيح الْخمر لوضوح الْفرق وَإِن احْتمل أَن يكون ذَلِك من قربَة جَائِفَة لم يحكم بنجاستة وَهَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا تعم بهَا الْبلوى
القَوْل فِي النَّجَاسَة المخففة وإزالتها ثمَّ شرع فِي حكم النَّجَاسَة المخففة فَقَالَ (إِلَّا بَوْل الصَّبِي الَّذِي يَأْكُل الطَّعَام) أَي للتغذي قبل مُضِيّ حَوْلَيْنِ (فَإِنَّهُ يطهر برش المَاء عَلَيْهِ) بِأَن يرش عَلَيْهِ مَا يعمه ويغمره بِلَا سيلان بِخِلَاف الصبية وَالْخُنْثَى لَا بُد فِي بولهما من الْغسْل على الأَصْل ويتحقق بالسيلان وَذَلِكَ لخَبر الشَّيْخَيْنِ عَن أم قيس أَنَّهَا جَاءَت بِابْن لَهَا صَغِير لم يَأْكُل الطَّعَام فأجلسه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجره فَبَال عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاء فنضحه وَلم يغسلهُ
وَلخَبَر التِّرْمِذِيّ وَحسنه يغسل من بَوْل الْجَارِيَة ويرش من بَوْل الْغُلَام
وَفرق بَينهمَا بِأَن الائتلاف بِحمْل الصَّبِي يكثر فَخفف فِي بَوْله وَأَن بَوْله أرق من بولها فَلَا يلصق بِالْمحل كلصوق بولها بِهِ وَألْحق بهَا الْخُنْثَى وَخرج بِقَيْد التغذي تحنيكه بِنَحْوِ تمر وتناوله نَحْو سفوف لإِصْلَاح فَلَا يمنعان النَّضْح كَمَا فِي الْمَجْمُوع وبقبل مُضِيّ حَوْلَيْنِ مَا بعدهمَا إِذْ الرَّضَاع حِينَئِذٍ كالطعام كَمَا نقل عَن النَّص وَلَا بُد فِي النَّضْح من إِزَالَة أَوْصَافه كَبَقِيَّة النَّجَاسَات وَإِنَّمَا سكتوا عَن ذَلِك لِأَن الْغَالِب سهولة زَوَالهَا خلافًا للزركشي من أَن بَقَاء اللَّوْن وَالرِّيح لَا يضر
القَوْل فِي النَّجَاسَات المعفو عَنْهَا (وَلَا يُعْفَى عَن شَيْء من النَّجَاسَات) كلهَا مِمَّا يُدْرِكهُ الْبَصَر (إِلَّا الْيَسِير) فِي الْعرف (من الدَّم والقيح) الأجنبيين سَوَاء أَكَانَ من نَفسه كَأَن انْفَصل مِنْهُ ثمَّ عَاد إِلَيْهِ أَو من غَيره غير دم الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَفرع أَحدهمَا لِأَن جنس الدَّم يتَطَرَّق إِلَيْهِ الْعَفو فَيَقَع الْقَلِيل مِنْهُ فِي مَحل الْمُسَامحَة
قَالَ فِي الْأُم والقليل مَا تعافاه النَّاس أَي عدوه عفوا والقيح دم اسْتَحَالَ إِلَى نَتن وَفَسَاد وَمثله الصديد
أما دم نَحْو الْكَلْب وَالْخِنْزِير فَلَا يُعْفَى عَن شَيْء مِنْهُ لغلظه كَمَا صرح فِي الْبَيَان وَنَقله عَنهُ فِي الْمَجْمُوع وَأقرهُ وَكَذَا لَو أَخذ دَمًا أَجْنَبِيّا ولطخ بِهِ نَفسه أَي بدنه أَو ثَوْبه فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَن شَيْء مِنْهُ لتعديه بذلك فَإِن التضمخ بِالنَّجَاسَةِ حرَام وَأما دم الشَّخْص نَفسه الَّذِي لم ينْفَصل كَدم الدماميل والقروح وَمَوْضِع الفصد والحجامة فيعفى عَن قَلِيله وَكَثِيره انْتَشَر بعرق أم لَا ويعفى عَن دم البراغيث وَالْقمل والبق وونيم الذُّبَاب وَعَن قَلِيل بَوْل الخفاش وَعَن روثه وَبَوْل الذُّبَاب لِأَن ذَلِك مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى ويشق الِاحْتِرَاز عَنهُ وَدم البراغيث وَالْقمل رشحات تمصها من (بدن) الْإِنْسَان وَلَيْسَ لَهَا دم فِي نَفسهَا ذكره الإِمَام وَغَيره فِي دم البراغيث وَمثلهَا الْقمل
تَنْبِيه مَحل الْعَفو عَن سَائِر الدِّمَاء مَا لم تختلط بأجنبي فَإِن اخْتلطت بِهِ وَلَو دم نَفسه كَأَن خرج من عينه دم أَو دميت لثته لم يعف عَن شَيْء مِنْهُ نعم يُعْفَى عَن مَاء الطَّهَارَة إِذا لم يتَعَمَّد وَضعه عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا يُعْفَى عَن شَيْء مِنْهُ
قَالَ النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه فِي الْكَلَام على كَيْفيَّة الْمسْح على الْخُف لَو تنجس أَسْفَل الْخُف بمعفو عَنهُ لَا يمسح على أَسْفَله لِأَنَّهُ لَو مَسحه زَاد التلويث وَلَزِمَه حِينَئِذٍ غسله وَغسل الْيَد انْتهى
وَاخْتلف فِيمَا إِذا لبس ثوبا فِيهِ دم براغيث وبدنه رطب فَقَالَ الْمُتَوَلِي يجوز وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو(1/90)
عَليّ السنجي لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة إِلَى تلويث بدنه وَبِه جزم الْمُحب الطَّبَرِيّ تفقها وَيُمكن حمل الْكَلَام الأول على مَا إِذا كَانَت الرُّطُوبَة بِمَاء وضوء أَو غسل مَطْلُوب لمَشَقَّة الِاحْتِرَاز عَنهُ كَمَا لَو كَانَت بعرق وَالثَّانِي فِي غير ذَلِك كَمَا علم مِمَّا مر
وَيَنْبَغِي أَن يلْحق بِمَاء الطَّهَارَة مَا يتساقط من المَاء حَال شربه أَو من الطَّعَام حَال أكله أَو جعله على جرحه دَوَاء لقَوْله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَأما مَا لَا يُدْرِكهُ الْبَصَر فيعفى عَنهُ وَلَو من النَّجَاسَة الْمُغَلَّظَة لمَشَقَّة الِاحْتِرَاز عَن ذَلِك
تَنْبِيه اقْتِصَار المُصَنّف فِي حصر الِاسْتِثْنَاء على مَا ذكره مَمْنُوع كَمَا علم مِمَّا تقرر وَتقدم فِي الْمِيَاه بعض صور مِنْهَا يُعْفَى عَنْهَا
(وَمَا) أَي ويعفى عَن الَّذِي (لَا نفس لَهُ سَائِلَة) من الْحَيَوَانَات عِنْد شقّ عُضْو مِنْهَا كالذباب والزنبور وَالْقمل والبراغيث وَنَحْو ذَلِك (إِذا وَقع فِي الْإِنَاء) الَّذِي فِيهِ مَائِع (وَمَات فِيهِ لَا يُنجسهُ) أَي الْمَائِع بِشَرْط أَن لَا يطرحه طارح وَلم يُغَيِّرهُ لمَشَقَّة الِاحْتِرَاز عَنهُ وَلخَبَر البُخَارِيّ إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم فليغمسه كُله ثمَّ لينزعه فَإِن فِي أحد جناحيه دَاء
أَي وَهُوَ الْيَسَار كَمَا قيل وَفِي الآخر شِفَاء زَاد أَبُو دَاوُد وَإنَّهُ يَتَّقِي بجناحه الَّذِي فِيهِ الدَّاء وَقد يُفْضِي غمسه إِلَى مَوته فَلَو نجس الْمَائِع لما أَمر بِهِ وَقيس بالذباب مَا فِي مَعْنَاهُ من كل ميتَة لَا يسيل دَمهَا فَلَو شككنا فِي سيل دَمهَا امتحن بِمِثْلِهَا فيجرح للْحَاجة قَالَه الْغَزالِيّ فِي فَتَاوِيهِ
وَلَو كَانَت تِلْكَ الْحَيَوَانَات مِمَّا يسيل دَمهَا لَكِن لَا دم فِيهَا أَو فِيهَا دم لَا يسيل لصغرها فلهَا حكم مَا يسيل دَمهَا فَإِن غيرته الْميتَة لكثرتها أَو طرحت فِيهِ بعد مَوتهَا قصدا تنجس جزما كَمَا جزم بِهِ فِي الشَّرْح وَالْحَاوِي الصغيرين وَيُؤْخَذ من مَفْهُوم قَوْلهمَا بعد مَوتهَا قصدا أَنه لَو طرحها شخص بِلَا قصد أَو قصد طرحها على مَكَان آخر فَوَقَعت فِي الْمَائِع أَو طرحها من لَا يُمَيّز أَو قصد طرحها فِيهِ فَوَقَعت فِيهِ وَهِي حَيَّة فَمَاتَتْ فِيهِ أَنه لَا يضر وَهُوَ كَذَلِك وَإِن كَانَ فِي بعض نسخ الْكتاب وَمَاتَتْ فِيهِ فَظَاهره أَنَّهَا لَو طرحت وَهِي حَيَّة فيفصل فِيهَا بَين أَن تقع بِنَفسِهَا أم لَا
ثمَّ اعْلَم أَن الْأَعْيَان جماد وحيوان فالجماد كُله طَاهِر لِأَنَّهُ خلق لمنافع الْعباد وَلَو من بعض الْوُجُوه قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} وَإِنَّمَا يحصل الِانْتِفَاع أَو يكمل بِالطَّهَارَةِ إِلَّا مَا نَص الشَّارِع على نَجَاسَته وَهُوَ الْمُسكر الْمَائِع وَكَذَلِكَ الْحَيَوَان كُله طَاهِر لما مر إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِع أَيْضا وَقد نبه على ذَلِك بقوله (وَالْحَيَوَان كُله طَاهِر) أَي طَاهِر الْعين حَال حَيَاته (إِلَّا الْكَلْب) وَلَو معلما لخَبر مُسلم طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب أَن يغسلهُ سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَجه الدّلَالَة أَن الطَّهَارَة إِمَّا لحَدث أَو خبث أَو تكرمة وَلَا حدث على الْإِنَاء وَلَا تكرمة فتعينت طَهَارَة الْخبث فثبتت نَجَاسَة فَمه وَهُوَ أطيب(1/91)
أَجْزَائِهِ بل هُوَ أطيب الْحَيَوَانَات نكهة لِكَثْرَة مَا يَلْهَث فبقيتها أولى
(وَالْخِنْزِير) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة لِأَنَّهُ أَسْوَأ حَالا من الْكَلْب لِأَنَّهُ لَا يقتنى بِحَال وَنقض هَذَا التَّعْلِيل بالحشرات وَنَحْوهَا وَلذَلِك قَالَ النَّوَوِيّ لَيْسَ لنا دَلِيل وَاضح على نَجَاسَته لَكِن ادّعى ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على نَجَاسَته وعورض بِمذهب مَالك وَرِوَايَة عَن أبي حنيفَة أَنه طَاهِر وَيرد النَّقْض بِأَنَّهُ مَنْدُوب إِلَى قَتله من غير ضَرَر فِيهِ وَلِأَنَّهُ يُمكن الِانْتِفَاع بِهِ بِحمْل شَيْء عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِك الحشرات فيهمَا
(وَمَا تولد مِنْهُمَا) أَي من جنس كل مِنْهُمَا (أَو من أَحدهمَا) مَعَ الآخر أَو مَعَ غَيره من الْحَيَوَانَات الطاهرة وَلَو آدَمِيًّا كالمتولد بَين ذِئْب وكلبة تغيبا للنَّجَاسَة لتولده مِنْهُمَا وَالْفرع يتبع الْأَب فِي النّسَب وَالأُم فِي الرّقّ وَالْحريَّة وأشرفهما فِي الدّين وَإِيجَاب الْبَدَل وَتَقْرِيره الْجِزْيَة وأخفهما فِي عدم وجوب الزَّكَاة وأخسهما فِي النَّجَاسَة وَتَحْرِيم الذَّبِيحَة والمناكحة
القَوْل فِي حكم الْميتَة (وَالْميتَة) وَهِي مَا زَالَت حَيَاتهَا لَا بِذَكَاة شَرْعِيَّة كذبيحة الْمَجُوسِيّ وَالْمحرم بِضَم الْمِيم وَمَا ذبح بالعظم وَغير الْمَأْكُول إِذا ذبح (كلهَا نَجِسَة) بِالْمَوْتِ وَإِن لم يسل دَمهَا لحُرْمَة تنَاولهَا قَالَ تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَتَحْرِيم مَا لَيْسَ بمحترم وَلَا ضَرَر فِيهِ يدل على نَجَاسَته وَخرج بالتعريف الْمَذْكُور الْجَنِين فَإِن ذَكَاته بِذَكَاة أمه وَالصَّيْد الَّذِي لم تدْرك ذَكَاته والمتردي إِذا مَاتَا بِالسَّهْمِ وَدخل فِي نَجَاسَة الْميتَة جَمِيع أَجْزَائِهَا من عظم وَشعر وصوف ووبر وَغير ذَلِك لِأَن كلا مِنْهَا تحله الْحَيَاة وَدخل فِي ذَلِك ميتَة نَحْو دود خل وتفاح فَإِنَّهَا نَجِسَة وَلَكِن لَا تنجسه لعسر الِاحْتِرَاز عَنْهَا وَيجوز أكله مَعَه لعسر تَمْيِيزه
(إِلَّا) ميتَة (السّمك و) ميتَة (الْجَرَاد) فطاهرتان بِالْإِجْمَاع وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ السّمك وَالْجَرَاد والكبد وَالطحَال
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْبَحْر هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته
وَالْمرَاد بالسمك كل مَا أكل من حَيَوَان الْبَحْر وَإِن لم يسم سمكًا كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْأَطْعِمَة وَالْجَرَاد اسْم جنس واحدته جَرَادَة يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى
(و) إِلَّا ميتَة (الْآدَمِيّ) فَإِنَّهَا طَاهِرَة لقَوْله تَعَالَى {وَلَقَد كرمنا بني آدم} وَقَضِيَّة التكريم أَنه لَا يحكم بِنَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ وَسَوَاء الْمُسلم وَغَيره وَأما قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} فَالْمُرَاد بِهِ نَجَاسَة الِاعْتِقَاد أَو اجتنابهم كالنجس لَا نَجَاسَة الْأَبدَان وَلَو كَانَ نجسا لأوجبنا على غاسله غسل مَا أَصَابَهُ
وَأما خبر الْحَاكِم لَا تنجسوا مَوْتَاكُم فَإِن الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا فَجرى على الْغَالِب وَلِأَنَّهُ لَو تنجس بِالْمَوْتِ لَكَانَ نجس الْعين كَسَائِر الميتات وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يُؤمر بِغسْلِهِ كَسَائِر الْأَعْيَان النَّجِسَة
فَإِن قيل لَو كَانَ طَاهِرا لم يُؤمر بِغسْلِهِ كَسَائِر الْأَعْيَان الطاهرة
أُجِيب بِأَنَّهُ عهد غسل الطَّاهِر بِدَلِيل الْمُحدث بِخِلَاف نجس الْعين
القَوْل فِي النَّجَاسَة الْمُغَلَّظَة وإزالتها (وَيغسل الْإِنَاء) وكل جامد وَلَو معضا من صيد أَو غَيره وجوبا
(من ولوغ) كل من (الْكَلْب وَالْخِنْزِير) وَفرع أَحدهمَا وَكَذَا بملاقاة شَيْء من أَجزَاء كل مِنْهُمَا سَوَاء فِي ذَلِك لعابه وبوله وَسَائِر رطوباته وأجزائه الجافة إِذا لاقت رطبا (سبع مَرَّات) بِمَاء طهُور (إِحْدَاهُنَّ) فِي غير أَرض ترابية (بِتُرَاب) طهُور يعم مَحل النَّجَاسَة بِأَن يكون قدرا يكدر المَاء ويصل بواسطته إِلَى جَمِيع أَجزَاء الْمحل وَلَا بُد من مزجه بِالْمَاءِ إِمَّا قبل وضعهما على الْمحل أَو بعده بِأَن يوضعا وَلَو مرتبين ثمَّ يمزجا قبل الْغسْل وَإِن كَانَ الْمحل رطبا إِذْ الطّهُور الْوَارِد على الْمحل بَاقٍ على طهوريته خلافًا للإسنوي فِي اشْتِرَاط المزج قبل الْوَضع على الْمحل وَالْأَصْل(1/92)
فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فاغسلوه سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ
رَوَاهُ مُسلم
وَفِي رِوَايَة لَهُ وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ أَي بِأَن يصاحب السَّابِعَة كَمَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد السَّابِعَة بِالتُّرَابِ وَفِي رِوَايَة صححها التِّرْمِذِيّ أولَاهُنَّ أَو آخِرهنَّ بِالتُّرَابِ وَبَين روايتي مُسلم تعَارض فِي مَحل التُّرَاب فيتساقطان فِي تعْيين مَحَله ويكتفي بِوُجُودِهِ فِي وَاحِدَة من السَّبع كَمَا فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ إِحْدَاهُنَّ بالبطحاء فنص على اللعاب وَألْحق بِهِ مَا سواهُ وَلِأَن لعابه أشرف فضلاته وَإِذا ثبتَتْ نَجَاسَته فَغَيره من بَوْل وروث وعرق وَنَحْو ذَلِك أولى
تَنْبِيه إِذا لم تزل (عين) النَّجَاسَة إِلَّا بست غسلات مثلا حسبت وَاحِدَة كَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ وَلَو أكل لحم نَحْو كلب لم يجب عَلَيْهِ تسبيع مَحل الِاسْتِنْجَاء كَمَا نَقله الرَّوْيَانِيّ عَن النَّص
فَائِدَة حمام غسل دَاخله كلب وَلم يعْهَد تَطْهِيره وَاسْتمرّ النَّاس على دُخُوله والاغتسال فِيهِ مُدَّة طَوِيلَة وانتشرت النَّجَاسَة فِي حصر الْحمام وفوطه فَمَا تَيَقّن إِصَابَة شَيْء مِنْهُ من ذَلِك فنجس وَإِلَّا فطاهر لأَنا لَا ننجس بِالشَّكِّ ويطهر الْحمام بمرور المَاء عَلَيْهِ سبع مَرَّات إِحْدَاهُنَّ بطفل لِأَن الطِّفْل يحصل بِهِ التتريب كَمَا صرح بِهِ جمَاعَة وَلَو مَضَت مُدَّة يحْتَمل أَنه مر عَلَيْهِ ذَلِك وَلَو بِوَاسِطَة الطين الَّذِي فِي نعال داخليه لم يحكم بِنَجَاسَتِهِ كَمَا فِي الْهِرَّة إِذا أكلت نَجَاسَة وَغَابَتْ غيبَة يحْتَمل فِيهَا طَهَارَة فمها وَيتَعَيَّن التُّرَاب وَلَو غُبَار رمل وَإِن أفسد الثَّوْب جمعا بَين نَوْعي الطّهُور فَلَا يَكْفِي غَيره كأشنان وصابون وَيسن جعل التُّرَاب فِي غير الْأَخِيرَة وَالْأولَى أولى لعدم احْتِيَاجه بعد ذَلِك إِلَى تتريب مَا يترشرش من جَمِيع الغسلات وَلَا يَكْفِي تُرَاب نجس وَلَا مُسْتَعْمل فِي حدث وَلَا يجب تتريب أَرض ترابية إِذْ لَا معنى لتتريب التُّرَاب فَيَكْفِي تسبيعها بِمَاء وَحده وَلَو أصَاب ثَوْبه مثلا مِنْهَا شَيْء قبل تَمام التسبيع لم يجب تتريبه قِيَاسا على مَا أَصَابَهُ من غير الأَرْض بعد تتريبه وَلَو ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء فِيهِ مَاء قَلِيل ثمَّ كوثر حَتَّى بلغ قُلَّتَيْنِ طهر المَاء دون الْإِنَاء كَمَا نَقله الْبَغَوِيّ فِي تهذيبه عَن ابْن الْحداد وَأقرهُ فَإِن كَانَ فِي الْإِنَاء مَاء كثير وَلم ينقص بولوغه عَن الْقلَّتَيْنِ لم ينجس المَاء وَلَا الْإِنَاء إِن لم يكن الْكَلْب أصَاب جرمه الَّذِي لم يصله المَاء مَعَ رُطُوبَة أَحدهمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَقَضيته أَنه لَو أصَاب مَا وَصله المَاء مِمَّا هُوَ فِيهِ لم ينجس وَتَكون كَثْرَة المَاء مَانِعَة من تنجيسه وَبِه صرح الإِمَام وَغَيره
تَنْبِيه هَل يجب إِرَاقَة المَاء الَّذِي تنجس بولوغ الْكَلْب وَنَحْوه أَو ينْدب وَجْهَان أصَحهمَا الثَّانِي وَحَدِيث الْأَمر بإراقته مَحْمُول على من أَرَادَ اسْتِعْمَال الْإِنَاء وَلَو أَدخل كلب رَأسه فِي إِنَاء فِيهِ مَاء قَلِيل فَإِن خرج فَمه جافا لم يحكم بِنَجَاسَتِهِ أَو رطبا فَكَذَا فِي أصح الْوَجْهَيْنِ عملا بِالْأَصْلِ ورطوبته يحْتَمل أَنَّهَا من لعابه
القَوْل فِي النَّجَاسَة المتوسطة وإزالتها (وَيغسل من سَائِر) أَي بَاقِي (النَّجَاسَات) المخففة والمتوسطة (مرّة) وجوبا تَأتي عَلَيْهِ (وَاحِدَة) وَقد مر دَلِيل ذَلِك وَكَيْفِيَّة الْغسْل عِنْد قَول المُصَنّف وَغسل جَمِيع الأبوال والأرواث وَاجِب (وَالثَّلَاث) وَفِي بعض النّسخ وَالثَّلَاثَة بِالتَّاءِ (أفضل) أَي من(1/93)
الِاقْتِصَار على مرّة فَينْدب أَن يغسل غسلتين بعد الغسلة المزيلة لعين النَّجَاسَة لتكمل الثَّلَاث فَإِن المزيلة للنَّجَاسَة وَاحِدَة وَإِن تعدّدت النَّجَاسَة كَمَا مر فِي غسلات الْكَلْب لاستحباب ذَلِك عِنْد الشَّك فِي النَّجَاسَة لحَدِيث إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَعِنْدَ تحققها أولى وَشَمل ذَلِك الْمُغَلَّظَة وَبِه صرح صَاحب الشَّامِل الصَّغِير فَينْدب مَرَّتَانِ بعد طهرهَا
وَقَالَ الجيلي لَا ينْدب ذَلِك لِأَن المكبر لَا يكبر كَمَا أَن المصغر لَا يصغر أَي فتثلث النَّجَاسَة المخففة والمتوسطة دون الْمُغَلَّظَة وَهَذَا أوجه
لَا يشْتَرط النِّيَّة فِي إِزَالَة النَّجَاسَة تَنْبِيه قد علم مِمَّا تقرر أَن النَّجَاسَة لَا يشْتَرط فِي إِزَالَتهَا نِيَّة بِخِلَاف طَهَارَة الْحَدث لِأَنَّهَا عبَادَة كَسَائِر الْعِبَادَات وَهَذَا من بَاب التروك كَتَرْكِ الزِّنَا وَالْغَصْب
وَإِنَّمَا وَجَبت فِي الصَّوْم مَعَ أَنه من بَاب التروك لِأَنَّهُ لما كَانَ مَقْصُودا لقمع الشَّهْوَة وَمُخَالفَة الْهوى الْتحق بِالْفِعْلِ وَيجب أَن يُبَادر بِغسْل الْمُتَنَجس عَاص بالتنجيس كَأَن اسْتعْمل النَّجَاسَة فِي بدنه بِغَيْر عذر خُرُوجًا من الْمعْصِيَة فَإِن لم يكن عَاصِيا بِهِ فلنحو الصَّلَاة وَينْدب أَن يعجل بِهِ فِيمَا عدا ذَلِك وَظَاهر كَلَامهم أَنه لَا فرق بَين الْمُغَلَّظَة وَغَيرهَا وَهُوَ كَذَلِك وَإِن قَالَ الزَّرْكَشِيّ يَنْبَغِي وجوب الْمُبَادرَة بالمغلظة مُطلقًا
قَالَ الْإِسْنَوِيّ والعاصي بالجنابة يحْتَمل إِلْحَاقه بالعاصي بالتنجيس وَالْمُتَّجه خِلَافه لِأَن الَّذِي عصى بِهِ هُنَا متلبس بِهِ بِخِلَافِهِ ثمَّ وَإِذا غسل فَمه الْمُتَنَجس فليبالغ فِي الغرغرة ليغسل كل مَا فِي حد الظَّاهِر وَلَا يبلع طَعَاما وَلَا شرابًا قبل غسله لِئَلَّا يكون آكلا للنَّجَاسَة نَقله فِي الْمَجْمُوع عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَأقرهُ
حكم تخَلّل الْخمر (وَإِذا تخللت الْخمْرَة) أَي المحترمة وَغَيرهَا والمحترمة هِيَ الَّتِي عصرت بِقصد الخلية أَو هِيَ الَّتِي عصرت لَا بِقصد الخمرية وَهَذَا الثَّانِي أولى (بِنَفسِهَا طهرت) لِأَن عِلّة النَّجَاسَة وَالتَّحْرِيم الْإِسْكَار وَقد زَالا وَلِأَن الْعصير غَالِبا لَا يَتَخَلَّل إِلَّا بعد التخمر فَلَو لم نقل بِالطَّهَارَةِ لتعذر اتِّخَاذ خل من الْخمر وَهُوَ حَلَال إِجْمَاعًا ويطهر دنها مَعهَا وَإِن غلت حَتَّى ارْتَفَعت وتنجس بهَا مَا فَوْقهَا مِنْهُ وتشرب مِنْهَا للضَّرُورَة وَكَذَا تطهر لَو نقلت من شمس إِلَى ظلّ أَو عَكسه أَو فتح رَأس الدن لزوَال الشدَّة من غير نَجَاسَة خلفتها
(وَإِن تخللت بطرح شَيْء فِيهَا) كالبصل وَالْخبْز الْحَار وَلَو قبل التخمر (لم تطهر) لتنجس الْمَطْرُوح فِيهَا فينجسها بعد انقلابها خلا
تَنْبِيه لَو عبر بالوقوع بدل الطرح لَكَانَ أولى لِئَلَّا يرد عَلَيْهِ مَا لَو وَقع فِيهَا شَيْء بِغَيْر طرح كإلقاء ريح فَإِنَّهَا لَا تطهر مَعَه على الْأَصَح نعم لَو عصر الْعِنَب وَوَقع مِنْهُ بعض حبات فِي عصيره لم يُمكن الِاحْتِرَاز عَنْهَا يَنْبَغِي أَنَّهَا لَا تضر وَلَو نزعت الْعين الطاهرة مِنْهَا قبل التخلل لم يضر لفقد الْعلَّة بِخِلَاف الْعين النَّجِسَة لِأَن النَّجس يقبل التَّنْجِيس فَلَا تطهر بالتخلل وَلَو ارْتَفَعت بِلَا غليان بل بِفعل فَاعل لم يطهر الدن إِذْ لَا ضَرُورَة وَلَا الْخمر لاتصالها بالمرتفع النَّجس فَلَو غمر الْمُرْتَفع بِخَمْر طهرت بالتخلل وَلَو بعد جفافه خلافًا لِلْبَغوِيِّ فِي تَقْيِيده بقبل الْجَفَاف وَلَو نقلت من دن إِلَى آخر طهرت بالتخلل بِخِلَاف مَا لَو أخرجت مِنْهُ ثمَّ صب فِيهِ عصير فتخمر ثمَّ تخَلّل
والخمرة هِيَ المتخذة من مَاء الْعِنَب وَيُؤْخَذ من الِاقْتِصَار عَلَيْهَا أَن النَّبِيذ وَهُوَ الْمُتَّخذ من غير مَاء الْعِنَب كالتمر لَا يطهر بالتخلل وَبِه صرح القَاضِي أَبُو الطّيب لتنجس المَاء بِهِ حَالَة الاشتداد فينجسه بعد الانقلاب خلا
وَقَالَ الْبَغَوِيّ يطهر
وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيّ وَهُوَ الْمُعْتَمد لِأَن المَاء من ضرورياته وَيدل لَهُ مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَاب الرِّبَا أَنه لَو بَاعَ خل تمر بخل عِنَب أَو خل زبيب بخل رطب صَحَّ وَلَو اخْتَلَط عصير بخل مغلوب ضرّ لِأَنَّهُ لقلَّة الْخلّ فِيهِ يتخمر فيتنجس بِهِ بعد تخلله أَو بخل غَالب فَلَا يضر لِأَن(1/94)
الأَصْل وَالظَّاهِر عدم التخمر وَأما الْمسَاوِي فَيَنْبَغِي إِلْحَاقه بالخل الْغَالِب لما ذكر
فَائِدَة الْخمر مُؤَنّثَة كَمَا استعملها المُصَنّف وَقد تذكر على ضعف وَيُقَال فِيهَا خمرة بِالتَّاءِ على لُغَة قَليلَة
تَتِمَّة قَالَ الْحَلِيمِيّ قد يصير الْعصير خلا من غير تخمر فِي ثَلَاث صور
الأولى أَن يصب فِي الدن الْمُعْتق بالخل
الثَّانِيَة أَن يصب الْخلّ فِي الْعصير فَيصير بمخالطته خلا من غير تخمر لَكِن مَحَله كَمَا علم مِمَّا مر أَن لَا يكون الْعصير غَالِبا
الثَّالِثَة إِذا تجردت حبات الْعِنَب من عناقيده ويملأ مِنْهَا الدن ويطين رَأسه وَيجوز إمْسَاك ظروف الْخمر وَالِانْتِفَاع بهَا واستعمالها إِذا غسلت وإمساك المحترمة لتصير خلا
وَغير المحترمة تجب إراقتها فَلَو لم يرقها فتخللت طهرت على الصَّحِيح كَمَا مر
فصل فِي الْحيض وَالنّفاس والاستحاضة
وَقد ذكرهَا على هَذَا التَّرْتِيب فَقَالَ (وَالَّذِي يخرج من الْفرج) أَي قبل الْمَرْأَة مِمَّا تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام من الدِّمَاء (ثَلَاثَة دِمَاء) فَقَط وَأما دم الْفساد الْخَارِج قبل التسع وَدم الآيسة فَلَا يتَعَلَّق بِهِ حكم وَالأَصَح أَنه يُقَال لَهُ دم اسْتِحَاضَة وَدم فَسَاد الأول (دم الْحيض و) الثَّانِي دم (النّفاس و) الثَّالِث دم (الِاسْتِحَاضَة) وَلكُل مِنْهَا حد يميزه
القَوْل فِي تَعْرِيف الْحيض وَبَيَان ألوانه وَصِفَاته (فالحيض) لُغَة السيلان تَقول الْعَرَب حَاضَت الشَّجَرَة إِذا سَالَ صمغها وحاض الْوَادي إِذا سَالَ
وَشرعا دم جبلة أَي تَقْتَضِيه الطباع السليمة و (هُوَ) الدَّم (الْخَارِج من فرج الْمَرْأَة) أَي من أقْصَى رَحمهَا (على سَبِيل الصِّحَّة) احْتِرَازًا عَن الِاسْتِحَاضَة (من غير سَبَب الْولادَة) فِي أَوْقَات مَعْلُومَة احْتِرَازًا عَن النّفاس
وَالْأَصْل فِي الْحيض آيَة {ويسألونك عَن الْمَحِيض} أَي الْحيض وَخبر الصَّحِيحَيْنِ هَذَا شَيْء كتبه الله على بَنَات آدم قَالَ الجاحظ فِي كتاب الْحَيَوَان وَالَّذِي يحيض من الْحَيَوَان أَرْبَعَة الآدميات والأرنب والضبع والخفاش وَجَمعهَا بَعضهم فِي قَوْله (الرجز)
أرانب يحضن وَالنِّسَاء ضبع وخفاش لَهَا دَوَاء وَزَاد عَلَيْهِ غَيره أَرْبَعَة أخر وَهِي النَّاقة والكلبة والوزغة وَالْحجر أَي الْأُنْثَى من الْخَيل
وَله عشرَة أَسمَاء حيض وطمث بِالْمُثَلثَةِ وَضحك وإكبار وإعصار ودراس وعراك بِالْعينِ الْمُهْملَة وفراك بِالْفَاءِ وطمس بِالسِّين الْمُهْملَة ونفاس
(ولونه) أَي الدَّم الْأَقْوَى(1/95)
(أسود) ثمَّ أَحْمَر فَهُوَ ضَعِيف بِالنِّسْبَةِ للأسود وَقَوي بِالنِّسْبَةِ للأشقر والأشقر أقوى من الْأَصْفَر وَهُوَ أقوى من الأكدر وَمَا لَهُ رَائِحَة كريهة أقوى مِمَّا لَا رَائِحَة لَهُ والثخين أقوى من الرَّقِيق وَالْأسود (محتدم) بحاء مُهْملَة سَاكِنة ودال مُهْملَة مَكْسُورَة بَينهمَا مثناة فَوق أَي حَار مَأْخُوذ من احتدام النَّهَار وَهُوَ اشتداد حره
(لذاع) بذال مُعْجمَة وَعين مُهْملَة أَي موجع
تَنْبِيه لَو خلق للْمَرْأَة فرجان فَقِيَاس مَا سبق فِي الْأَحْدَاث أَن يكون الْخَارِج من كل مِنْهُمَا حيضا وَلَو حاض الْمُشكل من الْفرج وأمنى من الذّكر حكمنَا بِبُلُوغِهِ وإشكاله أَو حاض من الْفرج خَاصَّة فَلَا يثبت للدم حكم الْحيض لجَوَاز كَونه رجلا وَالْخَارِج دم فَسَاد قَالَه فِي الْمَجْمُوع
القَوْل فِي تَعْرِيف النّفاس (وَالنّفاس) لُغَة الْولادَة وَشرعا (هُوَ الدَّم الْخَارِج) من فرج الْمَرْأَة (عقب الْولادَة) أَي بعد فرَاغ الرَّحِم من الْحمل
وَسمي نفاسا لِأَنَّهُ يخرج عقب نفس فَخرج بِمَا ذكر دم الطلق وَالْخَارِج مَعَ الْوَلَد فليسا بحيض لِأَن ذَلِك من آثَار الْولادَة وَلَا نِفَاس لتقدمه على خُرُوج الْوَلَد بل ذَلِك دم فَسَاد نعم الْمُتَّصِل من ذَلِك بحيضها الْمُتَقَدّم حيض
تَنْبِيه قَوْله عقب بِحَذْف الْيَاء التَّحْتِيَّة هُوَ الْأَفْصَح وَمَعْنَاهُ أَن لَا يكون متراخيا عَمَّا قبله
القَوْل فِي تَعْرِيف الِاسْتِحَاضَة (والاستحاضة هُوَ) الدَّم (الْخَارِج) لعِلَّة من عرق فِي أدنى الرَّحِم يُقَال لَهُ العاذل بذال مُعْجمَة وَيُقَال بِمُهْملَة كَمَا حَكَاهُ ابْن سَيّده وَفِي الصِّحَاح بِمُعْجَمَة وَرَاء (فِي غير أَيَّام) أَكثر (الْحيض و) غير أَيَّام أَكثر (النّفاس) سَوَاء أخرج إِثْر حيض أم لَا
والاستحاضة حدث دَائِم فَلَا تمنع الصَّوْم وَالصَّلَاة وَغَيرهمَا مِمَّا يمنعهُ الْحيض كَسَائِر الْأَحْدَاث للضَّرُورَة فتغسل الْمُسْتَحَاضَة فرجهَا قبل الْوضُوء أَو التَّيَمُّم إِن كَانَت تتيمم وَبعد ذَلِك تعصبه وتتوضأ بعد عصبه وَيكون ذَلِك وَقت الصَّلَاة لِأَنَّهَا طَهَارَة ضَرُورَة فَلَا يَصح قبل الْوَقْت كالتيمم وَبعد مَا ذكر تبادر بِالصَّلَاةِ تقليلا للْحَدَث فَلَو أخرت لمصْلحَة الصَّلَاة كستر عَورَة وانتظار جمَاعَة واجتهاد فِي قبْلَة وَذَهَاب إِلَى مَسْجِد وَتَحْصِيل ستْرَة لم يضر لِأَنَّهَا لَا تعد بذلك مقصرة وَإِذا أخرت لغير مصلحَة الصَّلَاة ضرّ فَيبْطل وضؤوها وَيجب إِعَادَته وإعادة الِاحْتِيَاط لتكرر الْحَدث وَالنَّجس مَعَ استغنائها عَن احْتِمَال ذَلِك بقدرتها على الْمُبَادرَة وَيجب الْوضُوء لكل فرض وَلَو منذورا كالتيمم لبَقَاء الْحَدث وَكَذَا يجب لكل فرض تَجْدِيد الْعِصَابَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا من غسل قِيَاسا على تَجْدِيد الْوضُوء وَلَو انْقَطع دَمهَا قبل الصَّلَاة وَلم تَعْتَد انْقِطَاعه وَعوده أَو اعتادت ذَلِك ووسع زمن الِانْقِطَاع بِحَسب الْعَادة الْوضُوء وَالصَّلَاة وَجب الْوضُوء وَإِزَالَة مَا على الْفرج من الدَّم
القَوْل فِي مُدَّة الْحيض قلَّة وَكَثْرَة وغالبا (وَأَقل الْحيض) زَمنا (يَوْم وَلَيْلَة) أَي مِقْدَار يَوْم وَلَيْلَة وَهُوَ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ سَاعَة فلكية (وَأَكْثَره خَمْسَة عشر يَوْمًا بلياليها)(1/96)
وَإِن لم تتصل الدِّمَاء وَالْمرَاد خَمْسَة عشر لَيْلَة وَإِن لم يتَّصل دم الْيَوْم الأول بليلته كَأَن رَأَتْ الدَّم أول النَّهَار للاستقراء وَأما خبر أقل الْحيض ثَلَاثَة أَيَّام وَأَكْثَره عشرَة أَيَّام فضعيف كَمَا فِي الْمَجْمُوع
(وغالبه) أَي الْحيض (سِتّ أَو سبع) وَبَاقِي الشَّهْر غَالب الطُّهْر لخَبر أبي دَاوُد وَغَيره أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لحمنة بنت جحش رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تحيضي فِي علم الله سِتَّة أَيَّام أَو سَبْعَة أَيَّام كَمَا تحيض النِّسَاء ويطهرن مِيقَات حيضهن وطهرهن أَي التزمي الْحيض وَأَحْكَامه فِيمَا أعلمك الله من عَادَة النِّسَاء من سِتَّة أَو سَبْعَة وَالْمرَاد غالبهن لِاسْتِحَالَة اتِّفَاق الْكل عَادَة
القَوْل فِي الْمُسْتَحَاضَة والمتحيرة وَلَو اطردت عَادَة امْرَأَة بِأَن تحيض أقل من يَوْم وَلَيْلَة أَو أَكثر من خَمْسَة عشر يَوْمًا لم يتبع ذَلِك على الْأَصَح لِأَن بحث الْأَوَّلين أتم وَاحْتِمَال عرُوض دم فَسَاد للْمَرْأَة أقرب من خرق الْعَادة المستقرة وَتسَمى الْمُجَاوزَة للخمسة عشر بالمستحاضة فَينْظر فِيهَا فَإِن كَانَت مُبتَدأَة وَهِي الَّتِي ابتدأها الدَّم مُمَيزَة بِأَن ترى فِي بعض الْأَيَّام دَمًا قَوِيا وَفِي بَعْضهَا دَمًا ضَعِيفا فالضعيف من ذَلِك اسْتِحَاضَة وَالْقَوِي مِنْهُ حيض إِن لم ينقص الْقوي عَن أقل الْحيض وَلَا جَاوز أَكْثَره وَلَا نقص الضَّعِيف عَن أقل الطُّهْر وَهُوَ خَمْسَة عشر يَوْمًا كَمَا سَيَأْتِي وَإِن كَانَت مُبتَدأَة غير مُمَيزَة بِأَن رَأَتْهُ بِصفة وَاحِدَة أَو فقدت شَرط تَمْيِيز من شُرُوطه السَّابِقَة فحيضها يَوْم وَلَيْلَة
وطهرها تسع وَعِشْرُونَ بَقِيَّة الشَّهْر وَإِن كَانَت مُعْتَادَة غير مُمَيزَة بِأَن سبق لَهَا حيض وطهر وَهِي تعلمهَا قدرا ووقتا فَترد إِلَيْهِمَا قدرا ووقتا وَتثبت الْعَادة الْمُرَتّب عَلَيْهَا مَا ذكر إِن لم تخْتَلف بِمرَّة وَيحكم لمعتادة مُمَيزَة بتمييز لإعادة مُخَالفَة لَهُ وَلم يَتَخَلَّل بَينهمَا أقل طهر لِأَن التَّمْيِيز أقوى من الْعَادة لظُهُوره فَإِن نسيت عَادَتهَا قدرا ووقتا وَهِي غير مُمَيزَة فكحائض فِي أَحْكَامهَا السَّابِقَة لاحْتِمَال كل زمن يمر عَلَيْهَا الْحيض لَا فِي طَلَاق وَعبادَة تفْتَقر لنِيَّة كَصَلَاة وتغتسل لكل فرض إِن جهلت وَقت انْقِطَاع الدَّم وتصوم رَمَضَان لاحْتِمَال أَن تكون طَاهِرَة ثمَّ شهرا كَامِلا فَيحصل لَهَا من كل شهر أَرْبَعَة عشر يَوْمًا فَيبقى عَلَيْهَا يَوْمَانِ إِن لم تَعْتَد الِانْقِطَاع لَيْلًا فَإِن اعتادته لم يبْق عَلَيْهَا شَيْء وَإِذا بَقِي عَلَيْهَا يَوْمَانِ فتصوم لَهما من ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا ثَلَاثَة أَولهَا وَثَلَاثَة آخرهَا فيحصلان فَإِن ذكرت الْوَقْت دون الْقدر أَو بِالْعَكْسِ فلليقين من حيض وطهر حكمه وَهِي فِي الزَّمن الْمُحْتَمل للْحيض وَالطُّهْر كناسية لَهما فِيمَا مر
وَالْأَظْهَر أَن دم الْحَامِل حيض وَإِن ولدت مُتَّصِلا بِآخِرهِ بِلَا تخَلّل نقاء لإِطْلَاق الْآيَة السَّابِقَة وَالْأَخْبَار والنقاء بَين دِمَاء أقل الْحيض فَأكْثر حيض تبعا لَهَا بِشُرُوط وَهِي أَلا يُجَاوز ذَلِك خمس عشر يَوْمًا وَلم(1/97)
تنقص الدِّمَاء عَن أقل الْحيض وَأَن يكون النَّقَاء محتوشا بَين دمي حيض فَإِذا كَانَت ترى وقتا دَمًا ووقتا نقاء وَاجْتمعت هَذِه الشُّرُوط حكمنَا على الْكل بِأَنَّهُ حيض وَهَذَا يُسمى قَول السحب وَقيل إِن النَّقَاء طهر لِأَن الدَّم إِذا دلّ على الْحيض وَجب أَن يدل النَّقَاء على الطُّهْر وَهَذَا يُسمى قَول اللقط
القَوْل فِي أقل النّفاس وَأَكْثَره وغالبه (وَأَقل) دم (النّفاس مجة) أَي دفْعَة
وَعبارَة الْمِنْهَاج لَحْظَة وَهُوَ زمن المجة وَفِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا لَا حد لأقله أَي لَا يتَقَدَّر بل مَا وجد مِنْهُ وَإِن قل يكون نفاسا وَلَا يُوجد أقل من مجة فَالْمُرَاد من الْعبارَات كَمَا قَالَه فِي الإقليد وَاحِد وَتقدم تَعْرِيف النّفاس لُغَة وَاصْطِلَاحا
وَيُقَال لذات النّفاس نفسَاء
بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء وَجَمعهَا نِفَاس وَلَا نَظِير لَهُ إِلَّا نَاقَة عشراء فجمعها عشار
قَالَ تَعَالَى {وَإِذا العشار عطلت} وَيُقَال فِي فعله نفست الْمَرْأَة بِضَم النُّون وَفتحهَا وبكسر الْفَاء فيهمَا وَالضَّم أفْصح
وَأما الْحَائِض فَيُقَال فِيهَا نفست بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء لَا غير ذكره فِي الْمَجْمُوع
(وَأَكْثَره سِتُّونَ يَوْمًا) بلياليها (وغالبه أَرْبَعُونَ يَوْمًا بلياليها) اعْتِبَارا بالوجود فِي الْجَمِيع كَمَا مر فِي الْحيض
وَأما خبر أبي دَاوُد عَن أم سَلمَة كَانَت النُّفَسَاء تجْلِس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ يَوْمًا
فَلَا دلَالَة فِيهِ على نفي الزِّيَادَة أَو مَحْمُول على الْغَالِب
وَاخْتلف فِي أَوله فَقيل بعد خُرُوج الْوَلَد وَقيل أقل الطُّهْر فأوله فِيمَا إِذا تَأَخّر خُرُوجه عَن الْولادَة من الْخُرُوج لَا مِنْهَا وَهُوَ مَا صَححهُ فِي التَّحْقِيق وَمَوْضِع من الْمَجْمُوع عكس مَا صَححهُ فِي أصل الرَّوْضَة وَمَوْضِع آخر من الْمَجْمُوع وَقَضِيَّة الْأَخْذ بِالْأولِ أَن زمن النَّقَاء لَا يحْسب من السِّتين لَكِن صرح البُلْقِينِيّ بِخِلَافِهِ فَقَالَ ابْتِدَاء السِّتين من الْولادَة وزمن النَّقَاء لَا نِفَاس فِيهِ وَإِن كَانَ محسوبا من السِّتين وَلم أر من حقق هَذَا انْتهى
وَمُقْتَضى هذاأنه يلْزمهَا قَضَاء مَا فاتها من الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة فِي هَذِه الْمدَّة
وَمُقْتَضى قَول النَّوَوِيّ أَنَّهَا إِذا ولدت ولدا جافا بَطل صَومهَا أَنه لَا يجب عَلَيْهَا ذَلِك وَيحرم على حَلِيلهَا أَن يسْتَمْتع بهَا بِمَا(1/98)
بَين السُّرَّة وَالركبَة قبل غسلهَا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد أما إِذا لم تَرَ الدَّم إِلَّا بعد خَمْسَة عشرَة يَوْمًا فَأكْثر فَلَا نِفَاس لَهَا أصلا على الْأَصَح فِي الْمَجْمُوع وعَلى هَذَا يحل للزَّوْج أَن يسْتَمْتع بهَا قبل غسلهَا كالجنب
وَقَول النَّوَوِيّ فِي بَاب الصّيام إِنَّه يبطل صَومهَا بِالْوَلَدِ الجاف مَحَله مَا إِذا رَأَتْ الدَّم قبل خَمْسَة عشر يَوْمًا
فَائِدَة أبدى أَبُو سهل الصعلوكي معنى لطيفا فِي كَون أَكثر النّفاس سِتِّينَ يَوْمًا أَن الْمَنِيّ يمْكث فِي الرَّحِم أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يتَغَيَّر ثمَّ يمْكث مثلهَا علقَة ثمَّ مثلهَا مُضْغَة
ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح
وَالْولد يتغذى بِدَم الْحيض وَحِينَئِذٍ فَلَا يجْتَمع الدَّم من حِين النفخ لكَونه غذَاء للْوَلَد
وَإِنَّمَا يجْتَمع فِي الْمدَّة الَّتِي قبلهَا وَهِي أَرْبَعَة أشهر
وَأكْثر الْحيض خَمْسَة عشر يَوْمًا فَيكون أَكثر النّفاس سِتِّينَ يَوْمًا
القَوْل فِي أقل الطُّهْر بَين الحيضتين (وَأَقل) زمن (الطُّهْر) الْفَاصِل (بَين الحيضتين خَمْسَة عشر يَوْمًا) لِأَن الشَّهْر غَالِبا لَا يَخْلُو عَن حيض وطهر وَإِذا كَانَ أَكثر الْحيض خَمْسَة عشر يَوْمًا لزم أَن يكون أقل الطُّهْر كَذَلِك وَخرج بقوله بَين الحيضتين الطُّهْر الْفَاصِل بَين الْحيض وَالنّفاس فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون أقل من ذَلِك سَوَاء تقدم الْحيض على النّفاس إِذا قُلْنَا إِن الْحَامِل تحيض وَهُوَ الْأَصَح أم تَأَخّر عَنهُ وَكَانَ طروه بعد بُلُوغ النّفاس أَكْثَره كَمَا فِي الْمَجْمُوع أما إِذا طَرَأَ قبل بُلُوغ النّفاس أَكْثَره فَلَا يكون حيضا إِلَّا إِذا فصل بَينهمَا خَمْسَة عشر يَوْمًا
(وَلَا حد لأكثره) أَي الطُّهْر بِالْإِجْمَاع فقد لَا تحيض الْمَرْأَة فِي عمرها إِلَّا مرّة وَقد لَا تحيض أصلا
القَوْل فِي السن الَّذِي تحيض فِيهِ الْمَرْأَة (وَأَقل زمن) أَي سنّ (تحيض فِيهِ الْمَرْأَة) وَفِي بعض النّسخ الْجَارِيَة (تسع سِنِين) قمرية كَمَا فِي الْمُحَرر وَلَو بالبلاد الْبَارِدَة للوجود لِأَن مَا ورد فِي الشَّرْع وَلَا ضَابِط لَهُ شَرْعِي وَلَا لغَوِيّ يتبع فِيهِ الْوُجُود كَالْقَبْضِ والحرز قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أعجل من سَمِعت من النِّسَاء يحضن نسَاء تهَامَة يحضن لتسْع سِنِين أَي تَقْرِيبًا لَا تحديدا فيتسامح قبل تَمامهَا بِمَا لَا يسع حيضا وطهرا دون مَا يسعهما وَلَو رَأَتْ الدَّم أَيَّامًا بَعْضهَا قبل زمن الْإِمْكَان وَبَعضهَا فِيهِ جعل الثَّانِي حيضا إِن وجدت شُرُوطه الْمَارَّة
(وَلَا حد لأكثره) أَي السن لجَوَاز أَلا تحيض أصلا كَمَا مر
القَوْل فِي أقل الْحمل وَأَكْثَره وغالبه (وَأَقل) زمن (الْحمل سِتَّة أشهر) ولحظتان لَحْظَة للْوَطْء ولحظة للوضع من إِمْكَان اجْتِمَاعهمَا بعد عقد النِّكَاح (وَأَكْثَره) أَي زمن الْحمل (أَربع سِنِين وغالبه تِسْعَة أشهر) للاستقراء كَمَا أخبر بِوُقُوعِهِ الشَّافِعِي وَكَذَا الإِمَام مَالك حُكيَ عَنهُ أَيْضا أَنه قَالَ جارتنا امْرَأَة مُحَمَّد بن عجلَان امْرَأَة صدق وَزوجهَا رجل صدق حملت ثَلَاثَة أبطن فِي اثْنَتَيْ عشرَة سنة تحمل كل بطن أَربع سِنِين وَقد رُوِيَ هَذَا عَن غير الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة
فِي مَا يحرم بِالْحيضِ وَالنّفاس ثمَّ شرع فِي أَحْكَام الْحيض فَقَالَ (وَيحرم الْحيض) وَلَو أَقَله (ثَمَانِيَة أَشْيَاء) الأول (الصَّلَاة) فَرضهَا ونفلها وَكَذَا سَجْدَة التِّلَاوَة وَالشُّكْر (و) الثَّانِي (الصَّوْم) فَرْضه ونفله وَيجب قَضَاء صَوْم الْفَرْض بِخِلَاف الصَّلَاة لقَوْل عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا كَانَ يصيبنا ذَلِك أَي الْحيض فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا نؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وانعقد الْإِجْمَاع على ذَلِك وَفِيه من الْمَعْنى أَن الصَّلَاة تكْثر فَيشق قَضَاؤُهَا بِخِلَاف الصَّوْم وَهل يحرم قَضَاؤُهَا أَو يكره فِيهِ خلاف ذكره فِي الْمُهِمَّات فَنقل فِيهَا عَن ابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ عَن الْبَيْضَاوِيّ أَنه يحرم لِأَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا نهت السائلة عَن ذَلِك وَلِأَن الْقَضَاء مَحَله فِيمَا أَمر بِفِعْلِهِ
وَعَن ابْن الصّلاح وَالرُّويَانِيّ وَالْعجلِي أَنه مَكْرُوه بِخِلَاف الْمَجْنُون والمغمى عَلَيْهِ فَيسنّ لَهما الْقَضَاء انْتهى
وَالْأَوْجه عدم التَّحْرِيم وَلَا يُؤثر فِيهِ نهي عَائِشَة وَالتَّعْلِيل الْمَذْكُور منتقض بِقَضَاء الْمَجْنُون والمغمى عَلَيْهِ وعَلى هَذَا هَل تَنْعَقِد صلَاتهَا أم لَا فِيهِ نظر وَالْأَوْجه عدم الِانْعِقَاد لِأَن الأَصْل فِي الصَّلَاة إِذا لم تكن مَطْلُوبَة عدم الِانْعِقَاد وَوُجُوب الْقَضَاء عَلَيْهَا فِي الصَّوْم بِأَمْر جَدِيد من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/99)
فَلم يكن وَاجِبا حَال الْحيض وَالنّفاس لِأَنَّهَا مَمْنُوعَة مِنْهُ وَالْمَنْع وَالْوُجُوب لَا يَجْتَمِعَانِ
(و) الثَّالِث (قِرَاءَة) شَيْء من (الْقُرْآن) بِاللَّفْظِ أَو بِالْإِشَارَةِ من الْأَخْرَس كَمَا قَالَه القَاضِي فِي فَتَاوِيهِ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَة النُّطْق هُنَا وَلَو بعض آيَة للإخلال بالتعظيم سَوَاء أقصد مَعَ ذَلِك غَيرهَا أم لَا لحَدِيث التِّرْمِذِيّ وَغَيره لَا يقْرَأ الْجنب وَلَا الْحَائِض شَيْئا من الْقُرْآن و (يقْرَأ) رُوِيَ بِكَسْر الْهمزَة على النَّهْي وَبِضَمِّهَا على الْخَبَر المُرَاد بِهِ النَّهْي ذكره فِي الْمَجْمُوع وَضَعفه لَكِن لَهُ متابعات تجبر ضعفه وَلمن بِهِ حدث أكبر إِجْرَاء الْقُرْآن على قلبه وَنظر فِي الْمُصحف وَقِرَاءَة مَا نسخت تِلَاوَته وتحريك لِسَانه وهمسه بِحَيْثُ لَا يسمع نَفسه لِأَنَّهَا لَيست بِقِرَاءَة قُرْآن وفاقد الطهُورَيْنِ يقْرَأ الْفَاتِحَة وجوبا فَقَط للصَّلَاة لِأَنَّهُ مُضْطَر إِلَيْهَا خلافًا ل لرافعي فِي قَوْله لَا يجوز لَهُ قرَاءَتهَا كَغَيْرِهَا أما خَارج الصَّلَاة فَلَا يجوز لَهُ أَن يقْرَأ شَيْئا وَلَا أَن يمس الْمُصحف مُطلقًا وَلَا أَن تُوطأ الْحَائِض أَو النُّفَسَاء إِذا انْقَطع دَمهَا وَأما فَاقِد المَاء فِي الْحَضَر فَيجوز لَهُ إِذا تيَمّم أَن يقْرَأ وَلَو فِي غير الصَّلَاة
وَهَذَا فِي حق الشَّخْص الْمُسلم
أما الْكَافِر فَلَا يمْنَع من الْقِرَاءَة لِأَنَّهُ لَا يعْتَقد حُرْمَة ذَلِك كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ أما تَعْلِيمه وتعلمه فَيجوز إِن رُجي إِسْلَامه وَإِلَّا فَلَا
تَنْبِيه يحل لمن بِهِ حدث أكبر أذكار الْقُرْآن وَغَيرهَا كمواعظه وأخباره وَأَحْكَامه لَا بِقصد قُرْآن كَقَوْلِه عِنْد الرّكُوب {سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين} أَي مطيقين وَعند الْمُصِيبَة {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} وَمَا جرى بِهِ لِسَانه بِلَا قصد فَإِن قصد الْقُرْآن وَحده أَو مَعَ الذّكر حرم وَإِن أطلق فَلَا
كَمَا نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي دقائقه لعدم الْإِخْلَال بحرمته لِأَنَّهُ لَا يكون قُرْآنًا إِلَّا بِالْقَصْدِ قَالَه النَّوَوِيّ وَغَيره وَظَاهره أَن ذَلِك جَار فِيمَا يُوجد نظمه فِي غير الْقُرْآن كالآيتين المتقدمتين والبسملة والحمدلة وَفِيمَا لَا يُوجد نظمه إِلَّا فِيهِ كسورة الْإِخْلَاص وَآيَة الْكُرْسِيّ وَهُوَ كَذَلِك وَإِن قَالَ الزَّرْكَشِيّ لَا شكّ فِي تَحْرِيم مَا لَا يُوجد نظمه فِي غير الْقُرْآن وَتَبعهُ على ذَلِك بعض الْمُتَأَخِّرين كَمَا شَمل ذَلِك قَول الرَّوْضَة أما إِذا قَرَأَ شَيْئا مِنْهُ لَا على قصد الْقُرْآن فَيجوز
(و) الرَّابِع (مس) شي من (الْمُصحف) بِتَثْلِيث الْمِيم لَكِن الْفَتْح غَرِيب سَوَاء فِي ذَلِك ورقه الْمَكْتُوب فِيهِ وَغَيره لقَوْله تَعَالَى {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} وَيحرم أَيْضا مس جلده الْمُتَّصِل بِهِ لِأَنَّهُ كالجزء مِنْهُ وَلِهَذَا يتبعهُ فِي البيع وَأما الْمُنْفَصِل عَنهُ فقضية كَلَام الْبَيَان حل مَسّه وَبِه صرح الْإِسْنَوِيّ وَفرق بَينه وَبَين حُرْمَة الِاسْتِنْجَاء بِأَن الِاسْتِنْجَاء أفحش وَنقل الزَّرْكَشِيّ عَن الْغَزالِيّ أَنه يحرم مَسّه أَيْضا وَلم ينْقل مَا يُخَالِفهُ
وَقَالَ ابْن الْعِمَاد إِنَّه الْأَصَح إبْقَاء لِحُرْمَتِهِ قبل انْفِصَاله انْتهى
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد إِذا لم تَنْقَطِع نسبته عَن الْمُصحف فَإِن انْقَطَعت كَأَن جعل جلد كتاب لم يرحم مَسّه قطعا (و) كَذَا يحرم (حمله) أَي الْمُصحف لِأَنَّهُ أبلغ من الْمس نعم يجوز حمله لضَرُورَة كخوف عَلَيْهِ من غرق أَو حرق أَو(1/100)
نَجَاسَة أَو وُقُوعه فِي يَد كَافِر وَلم يتَمَكَّن من الطَّهَارَة بل يجب أَخذه حِينَئِذٍ كَمَا ذكره فِي التَّحْقِيق وَالْمَجْمُوع فَإِن قدر على التَّيَمُّم وَجب وَخرج بالمصحف غَيره كتوراة وإنجيل ومنسوخ تِلَاوَة من الْقُرْآن وَإِن لم ينْسَخ حكمه فَلَا يحرم وَيحل حمله فِي مَتَاع تبعا لَهُ إِذا لم يكن مَقْصُودا بِالْحملِ بِأَن قصد حمل غَيره أَو لم يقْصد شَيْئا لعدم الْإِخْلَال بتعظيمه حِينَئِذٍ
بِخِلَاف ماإذا كَانَ مَقْصُودا بِالْحملِ وَلَو مَعَ الْأَمْتِعَة فَإِنَّهُ يحرم وَإِن كَانَ ظَاهر كَلَام الشَّيْخَيْنِ يَقْتَضِي الْحل فِي هَذِه الصُّورَة كَمَا لَو قصد الْجنب الْقِرَاءَة وَغَيرهَا وَيحل حمله فِي تَفْسِير سَوَاء تميزت أَلْفَاظه بلون أم لَا إِذا كَانَ التَّفْسِير أَكثر من الْقُرْآن لعدم الْإِخْلَال بتعظيمه حِينَئِذٍ وَلَيْسَ هُوَ فِي معنى الْمُصحف بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْقُرْآن أَكثر مِنْهُ لِأَنَّهُ فِي معنى الْمُصحف أَو كَانَ مُسَاوِيا لَهُ كَمَا يُؤْخَذ من كَلَام التَّحْقِيق
وَالْفرق بَينه وَبَين الْحل فِيمَا إِذا اسْتَوَى الْحَرِير مَعَ غَيره أَن بَاب الْحَرِير أوسع بِدَلِيل جَوَازه للنِّسَاء وَفِي بعض الْأَحْوَال للرِّجَال كبرد وَظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب حَيْثُ كَانَ التَّفْسِير أَكثر لَا يحرم مَسّه مُطلقًا قَالَ فِي الْمَجْمُوع لِأَنَّهُ لَيْسَ بمصحف أَي وَلَا فِي مَعْنَاهُ وَحَيْثُ لم يحرم حمل التَّفْسِير وَلَا مَسّه بِلَا طَهَارَة كرها
(و) الْخَامِس (دُخُول الْمَسْجِد) بمكث أَو تردد لقَوْله تَعَالَى {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره أَي لَا تقربُوا مَوَاضِع الصَّلَاة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عبور سَبِيل بل فِي موَاضعهَا وَهُوَ الْمَسْجِد وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى {لهدمت صوامع وَبيع وصلوات} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا أحل الْمَسْجِد لحائض وَلَا لجنب رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
وَخرج بالمكث والتردد العبور لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَة إِذا لم تخف الْحَائِض تلويثه وَخرج بِالْمَسْجِدِ الْمدَارِس والربط ومصلى الْعِيد وَنَحْو ذَلِك وَكَذَا مَا وقف بعضه مَسْجِدا شَائِعا وَإِن قَالَ الْإِسْنَوِيّ الْمُتَّجه إِلْحَاقه بِالْمَسْجِدِ فِي ذَلِك وَفِي التَّحِيَّة للداخل وَنَحْو ذَلِك بِخِلَاف صِحَة الِاعْتِكَاف فِيهِ وَكَذَا صِحَة الصَّلَاة فِيهِ للْمَأْمُوم إِذا تبَاعد عَن إِمَامه أَكثر من ثَلَاثمِائَة ذِرَاع
(و) السَّادِس (الطّواف) فَرْضه وواجبه ونفله سَوَاء أَكَانَ فِي ضمن نسك أم لَا
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطّواف بِمَنْزِلَة الصَّلَاة إِلَّا أَن الله تَعَالَى أحل فِيهِ الْكَلَام فَمن تكلم فَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بِخَير
رَوَاهُ الْحَاكِم عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد
(و) السَّابِع (الْوَطْء) وَلَو بعد انْقِطَاعه وَقبل الْغسْل لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن}(1/101)
طؤها فِي الْفرج كَبِيرَة من الْعَامِد الْعَالم بِالتَّحْرِيمِ الْمُخْتَار يكفر مستحله كَمَا فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب وَغَيرهم بِخِلَاف النَّاسِي وَالْجَاهِل وَالْمكْره لخَبر إِن الله تجَاوز عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره وَيسن للواطىء الْمُتَعَمد الْمُخْتَار الْعَالم بِالتَّحْرِيمِ فِي أول الدَّم وقوته التَّصَدُّق بمثقال إسلامي من الذَّهَب الْخَالِص وَفِي آخر الدَّم وَضَعفه بِنصْف مِثْقَال لخَبر إِذا وَاقع الرجل أَهله وَهِي حَائِض إِن كَانَ دَمًا أَحْمَر فليتصدق بِدِينَار وَإِن كَانَ أصفر فليتصدق بِنصْف دِينَار
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَيُقَاس النّفاس على الْحيض وَلَا فرق فِي الواطىء بَين الزَّوْج وَغَيره فَغير الزَّوْج مقيس على الزَّوْج الْوَارِد فِي الحَدِيث وَالْوَطْء بعد انْقِطَاع الدَّم إِلَى الطُّهْر كَالْوَطْءِ فِي آخر الدَّم ذكره فِي الْمَجْمُوع وَيَكْفِي التَّصَدُّق وَلَو على فَقير وَاحِد وَإِنَّمَا لم يجب لِأَنَّهُ وَطْء محرم للأذى فَلَا يجب بِهِ كَفَّارَة كاللواط وَيسْتَثْنى من ذَلِك الْمُتَحَيِّرَة فَلَا كَفَّارَة بِوَطْئِهَا وَإِن حرم وَلَو أخْبرته بحيضها وَلم يُمكن صدقهَا لم يلْتَفت إِلَيْهَا
وَإِن أمكن وصدقها حرم وَطْؤُهَا وَإِن كذبهَا فَلَا لِأَنَّهَا رُبمَا عاندته وَلِأَن الأَصْل عدم التَّحْرِيم بِخِلَاف من علق بِهِ طَلاقهَا وأخبرته بِهِ فَإِنَّهَا تطلق
وَإِن كذبهَا لتَقْصِيره فِي تَعْلِيقه بِمَا لَا يعرف إِلَّا من جِهَتهَا وَلَا يكره طبخها وَلَا اسْتِعْمَال مَا مسته من مَاء أَو عجين أَو نَحوه
(و) الثَّامِن (الِاسْتِمْتَاع) بِالْمُبَاشرَةِ بِوَطْء أَو غَيره (بِمَا بَين السُّرَّة وَالركبَة) وَلَو بِلَا شَهْوَة لقَوْله تَعَالَى {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} وَلخَبَر أبي دَاوُد بِإِسْنَاد جيد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَمَّا يحل للرجل من امْرَأَته وَهِي حَائِض فَقَالَ يحل مَا فَوق الْإِزَار وَخص بمفهومه عُمُوم خبر مُسلم اصنعوا كل شَيْء إِلَّا النِّكَاح وَلِأَن الِاسْتِمْتَاع بِمَا تَحت الْإِزَار يَدْعُو إِلَى الْجِمَاع فَحرم لخَبر من حام حول الْحمى يُوشك بِالْكَسْرِ أفْصح كَمَا ذكره النَّوَوِيّ فِي رياضه أَن يَقع فِيهِ وَخرج بِمَا بَين السُّرَّة وَالركبَة هما وَبَاقِي الْجَسَد فَلَا يحرم الِاسْتِمْتَاع بهَا وبالمباشرة الِاسْتِمْتَاع بِالنّظرِ وَلَو بِشَهْوَة فَإِنَّهُ لَا يحرم إِذْ لَيْسَ هُوَ أعظم من تقبيلها فِي وَجههَا بِشَهْوَة وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ وسكتوا عَن مُبَاشرَة الْمَرْأَة للزَّوْج وَالْقِيَاس إِن مَسهَا للذّكر وَنَحْوه من الاستمتاعات الْمُتَعَلّقَة بِمَا بَين السُّرَّة وَالركبَة حكمه حكم تمتعاته بهَا فِي ذَلِك الْمحل
انْتهى
وَالصَّوَاب فِي نظم الْقيَاس أَن نقُول كل مَا منعناه مِنْهُ نمنعها أَن تمسه بِهِ فَيجوز لَهُ أَن يلمس بِجَمِيعِ بدنه سَائِر بدنهَا إِلَّا مَا بَين سرتها وركبتها وَيحرم عَلَيْهِ تمكينها من لمسه بِمَا بَينهمَا وَإِذا انْقَطع دم الْحيض لزمن إِمْكَانه ارْتَفع عَنْهَا سُقُوط الصَّلَاة وَلم يحل لَهَا مِمَّا حرم بِهِ قبل الْغسْل أَو التَّيَمُّم غير الصَّوْم لِأَن تَحْرِيمه بِالْحيضِ لَا بِالْحَدَثِ بِدَلِيل صِحَّته من الْجنب وَقد زَالَ وَغير الطَّلَاق لزوَال الْمَعْنى الْمُقْتَضِي للتَّحْرِيم وَهُوَ تَطْوِيل الْعدة وَغير الطُّهْر فَإِنَّهَا مأمورة بِهِ وَمَا عدا ذَلِك من الْمُحرمَات فَهُوَ بَاقٍ إِلَى أَن تطهر بِمَاء أَو تيَمّم أما مَا عَاد الِاسْتِمْتَاع فَلِأَن الْمَنْع {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} وَقد قرىء بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف أما قِرَاءَة مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ لأجل(1/102)
الْحَدث وَالْحَدَث بَاقٍ وَأما الِاسْتِمْتَاع فَلقَوْله تَعَالَى التَّشْدِيد فَهِيَ صَرِيحَة فِيمَا ذكر وَأما التَّخْفِيف فَإِن كَانَ المُرَاد بِهِ أَيْضا الِاغْتِسَال كَمَا قَالَ بِهِ ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة بِقَرِينَة قَوْله تَعَالَى {فَإِذا تطهرن} فَوَاضِح وَإِن كَانَ المُرَاد بِهِ انْقِطَاع الْحيض فقد ذكر بعده شرطا آخر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِذا تطهرن} فَلَا بُد مِنْهُمَا مَعًا
فَائِدَة حكى الْغَزالِيّ أَن الْوَطْء قبل الْغسْل يُورث الجذام فِي الْوَلَد وَيجب على الْمَرْأَة تعلم مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من أَحْكَام الْحيض والاستحاضة وَالنّفاس فَإِن كَانَ زَوجهَا عَالما لزمَه تعليمها وَإِلَّا فلهَا الْخُرُوج لسؤال الْعلمَاء بل يجب وَيحرم عَلَيْهِ منعهَا إِلَّا أَن يسْأَل هُوَ ويخبرها فتستغني بذلك وَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوج إِلَى مجْلِس ذكر أَو تَعْلِيم خير إِلَّا بِرِضَاهُ وَإِذا انْقَطع دم النّفاس أَو الْحيض وتطهرت فَللزَّوْج أَن يَطَأهَا فِي الْحَال من غير كَرَاهَة
القَوْل فِي مَا يحرم على الْجنب (وَيحرم على الْجنب خَمْسَة أَشْيَاء) وَهِي (الصَّلَاة وَالطّواف وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف وَحمله) على الحكم الْمُتَقَدّم بَيَانه فِي هَذِه الْأَرْبَعَة سَابِقًا (و) الْخَامِس (اللّّبْث) أَي الْمكْث لمُسلم غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فِي الْمَسْجِد) أَو التَّرَدُّد فِيهِ لغير عذر لِلْآيَةِ السَّابِقَة والْحَدِيث الْمَار وَخرج بالمكث والتردد العبور وبالمسلم الْكَافِر فَإِنَّهُ يُمكن من الْمكْث فِي الْمَسْجِد على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا لِأَنَّهُ لَا يعْتَقد حُرْمَة ذَلِك وَلَيْسَ للْكَافِرِ وَلَو غير جنب دُخُول الْمَسْجِد إِلَّا أَن يكون لحَاجَة كإسلام وَسَمَاع قُرْآن لَا كَأَكْل وَشرب وَأَن يَأْذَن لَهُ مُسلم فِي الدُّخُول إِلَّا أَن يكون لَهُ خُصُومَة وَقد قعد الْحَاكِم للْحكم فِيهِ ولهواء الْمَسْجِد حُرْمَة الْمَسْجِد نعم لَو قطع بصاقه هَوَاء الْمَسْجِد وَوَقع خَارجه لم يحرم كَمَا لَو بَصق فِي ثَوْبه أَو فِي الْمَسْجِد وَبِغير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ فَلَا يحرم عَلَيْهِ
قَالَ صَاحب التَّلْخِيص ذكر من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دُخُوله الْمَسْجِد جنبا وَمَال إِلَيْهِ النَّوَوِيّ وبالمسجد الْمدَارِس وَنَحْوهَا وَبلا عذر إِذا حصل لَهُ عَارض كَأَن احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِد وَتعذر عَلَيْهِ الْخُرُوج لإغلاق بَاب أَو الْخَوْف على نَفسه أَو عضوه أَو مَنْفَعَة ذَلِك أَو على مَاله فَلَا يحرم عَلَيْهِ الْمكْث وَلَكِن يجب عَلَيْهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة أَن يتَيَمَّم إِن وجد تُرَابا غير تُرَاب الْمَسْجِد فَإِن لم يجد غَيره لم يجز لَهُ أَن يتَيَمَّم بِهِ فَلَو خَالف وَتيَمّم بِهِ صَحَّ تيَمّمه كالتيمم بِتُرَاب مَغْصُوب وَالْمرَاد بِتُرَاب الْمَسْجِد الدَّاخِل فِي وقفيته لَا الْمَجْمُوع من الرّيح وَنَحْوه وَلَو لم يجد الْجنب المَاء إِلَّا فِي الْمَسْجِد فَإِن وجد تُرَابا تيَمّم وَدخل واغترف وَخرج إِن لم يشق عَلَيْهِ ذَلِك وَإِلَّا اغْتسل فِيهِ وَلَا يَكْفِيهِ التَّيَمُّم على الْمُعْتَمد كَمَا بَحثه النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه بعد نَقله عَن الْبَغَوِيّ أَنه يتَيَمَّم وَلَا يغْتَسل فِيهِ وَإِطْلَاق الْأَنْوَار جَوَاز الدُّخُول للاستقاء والمكث لَهَا بِقَدرِهَا فَقَط مَحْمُول على هَذَا التَّفْصِيل
فَائِدَة لَا بَأْس بِالنَّوْمِ فِي الْمَسْجِد لغير الْجنب وَلَو لغير أعزب فقد ثَبت أَن أَصْحَاب الصّفة وَغَيرهم كَانُوا ينامون فِيهِ فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعم إِن ضيق على الْمُصَلِّين أَو شوش عَلَيْهِم حرم النّوم فِيهِ قَالَه فِي الْمَجْمُوع
قَالَ وَلَا يحرم إِخْرَاج الرّيح فِيهِ لَكِن الأولى اجتنابه لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْمَلَائِكَة تتأذى مِمَّا يتَأَذَّى مِنْهُ بَنو آدم(1/103)
وَيحرم على الْمُحدث) حَدثا أَصْغَر، وَهُوَ المُرَاد عِنْد الْإِطْلَاق غَالِبا (ثَلَاثَة أَشْيَاء) وَالأَصَح أَنه مُخْتَصّ بالأعضاء الْأَرْبَعَة لِأَن وجوب الْغسْل وَالْمسح مختصان بهَا وَأَن كل عُضْو يرْتَفع حَدثهُ بِغسْلِهِ فِي المغسول وبمسحه فِي الْمَمْسُوح وَإِنَّمَا حرم مس الْمُصحف بذلك الْعُضْو بعد غسله قبل تَمام الطَّهَارَة لِأَنَّهُ لَا يُسمى متطهرا وَقد قَالَ تَعَالَى {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} وَهِي (الصَّلَاة وَالطّواف وَمَسّ الْمُصحف وَحمله) على الحكم الْمُتَقَدّم بَيَانه فِي كل من هَذِه الثَّلَاثَة فِي الْكَلَام على مَا يحرم بِالْحيضِ
تَنْبِيه قد علم من كَلَام المُصَنّف تَقْسِيم الْحَدث إِلَى أكبر ومتوسط وأصغر وَبِه صرح كل من ابْن عبد السَّلَام وَالزَّرْكَشِيّ فِي قَوَاعِده
خَاتِمَة فِيهَا مسَائِل منثورة مهمة يحرم على الْمُحدث وَلَو أَصْغَر مس خريطة وصندوق فيهمَا مصحف والخريطة وعَاء كالكيس من أَدَم أَو غَيره وَلَا بُد أَن يَكُونَا معدين للمصحف كَمَا قَالَه ابْن الْمقري لِأَنَّهُمَا لما كَانَا معدين لَهُ كَانَا كالجلد وَإِن لم يدخلا فِي بَيْعه والعلاقة كالخريطة
أما إِذا لم يكن الْمُصحف فيهمَا أَو هُوَ فيهمَا وَلم يعدا لَهُ لم يحرم مسهما وَيحرم مس مَا كتب لدرس قُرْآن وَلَو بعض آيَة كلوح لِأَن الْقُرْآن قد أثبت فِيهِ للدراسة فَأشبه الْمُصحف أما مَا كتب لغير الدراسة كالتميمة وَهِي ورقة يكْتب فِيهَا شَيْء من الْقُرْآن وَتعلق على الرَّأْس مثلا للتبرك وَالثيَاب الَّتِي يكْتب عَلَيْهَا وَالدَّرَاهِم فَلَا يحرم مَسهَا وَلَا حملهَا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب كتابا إِلَى هِرقل وَفِيه {يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم} الْآيَة وَلم يَأْمر حاملها بالمحافظة على الطَّهَارَة وَيكرهُ كِتَابَة الحروز وتعليقها إِلَّا إِذا جعل عَلَيْهَا شمعا أَو نَحوه
وَينْدب التطهر لحمل كتب الحَدِيث ومسها وَيحل للمحدث قلب ورق الْمُصحف بِعُود وَنَحْوه
قَالَ فِي الرَّوْضَة لِأَنَّهُ لَيْسَ بحامل وَلَا مَاس وَيكرهُ كتب الْقُرْآن على حَائِط وَلَو لمَسْجِد وَثيَاب وَطَعَام وَنَحْو ذَلِك وَيجوز هدم الْحَائِط وَلبس الثَّوْب وَأكل الطَّعَام وَلَا تضر ملاقاته مَا فِي الْمعدة بِخِلَاف ابتلاع قرطاس عَلَيْهِ اسْم الله تَعَالَى فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ وَلَا يكره كتب شَيْء من الْقُرْآن فِي إِنَاء ليسقى مَاؤُهُ للشفاء خلافًا لما وَقع ل ابْن عبد السَّلَام فِي فَتَاوِيهِ من التَّحْرِيم وَأكل الطَّعَام كشرب المَاء لَا كَرَاهَة فِيهِ وَيكرهُ إحراق خشب نقش بِالْقُرْآنِ إِلَّا إِن قصد بِهِ صيانته فَلَا يكره كَمَا يُؤْخَذ من كَلَام ابْن عبد السَّلَام وَعَلِيهِ يحمل تحريق عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْمَصَاحِف وَيحرم كتب الْقُرْآن أَو شَيْء من أَسْمَائِهِ تَعَالَى بِنَجس أَو على نجس ومسه بِهِ إِذا كَانَ غير مَعْفُو عَنهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوع لَا بطاهر من مُتَنَجّس وَيحرم الْمَشْي على فرَاش أَو خشب نقش بِشَيْء من الْقُرْآن وَلَو خيف على مصحف تنجس أَو كَافِر أَو تلف بِنَحْوِ غرق أَو ضيَاع وَلم يتَمَكَّن من تطهره جَازَ لَهُ حمله مَعَ الْحَدث فِي الْأَخِيرَة وَوَجَب فِي غَيرهَا صِيَانة لَهُ كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَيحرم السّفر بِهِ إِلَى أَرض الْكفَّار إِن خيف وُقُوعه فِي أَيْديهم وتوسده وَإِن خَافَ سَرقته وتوسده كتب علم إِلَّا لخوف من نَحْو سَرقَة نعم إِن خَافَ على الْمُصحف من تلف بِنَحْوِ غرق أَو تنجس أَو كَافِر جَازَ لَهُ أَن يتوسده بل يجب عَلَيْهِ وَينْدب كتبه وإيضاحه ونقطه وشكله وَيمْنَع الْكَافِر من مَسّه لَا سَمَاعه وَيحرم تَعْلِيمه وتعلمه إِن كَانَ معاندا وَغير المعاند إِن رُجي إِسْلَامه جَازَ تَعْلِيمه وَإِلَّا فَلَا وَتكره الْقِرَاءَة بِفَم مُتَنَجّس وَتجوز بِلَا كَرَاهَة بحمام وَطَرِيق إِن لم يلته عَنْهَا وَإِلَّا كرهت
القَوْل فِي مس الْمُصحف للصَّغِير وَلَا يجب منع الصَّغِير الْمُمَيز من حمل الْمُصحف واللوح للتعلم إِذا كَانَ مُحدثا وَلَو حَدثا أكبر كَمَا فِي فَتَاوَى النَّوَوِيّ لحَاجَة تعلمه ومشقة استمراره متطهرا بل ينْدب
وَقَضِيَّة كَلَامهم أَن مَحل ذَلِك فِي الْحمل الْمُتَعَلّق بالدراسة فَإِن لم يكن لغَرَض(1/104)
أَو لغَرَض آخر منع مِنْهُ جزما كَمَا قَالَه فِي الْمُهِمَّات وَإِن نَازع فِي ذَلِك ابْن الْعِمَاد أما غير الْمُمَيز فَيحرم تَمْكِينه من ذَلِك لِئَلَّا ينتهكه وَالْقِرَاءَة أفضل من ذكر لم يخص بِمحل فَإِن خص بِهِ بِأَن ورد الشَّرْع بِهِ فِيهِ فَهُوَ أفضل مِنْهَا وَينْدب أَن يتَعَوَّذ لَهَا جَهرا إِن جهر بهَا فِي غير الصَّلَاة أما فِي الصَّلَاة فيسر مُطلقًا ويكفيه تعوذ وَاحِد مَا لم يقطع قِرَاءَته بِكَلَام أَو فصل طَوِيل كالفصل بَين الرَّكْعَات وَأَن يجلس وَأَن يسْتَقْبل وَأَن يقْرَأ بتدبر وخشوع وَأَن يرتل وَأَن يبكي عِنْد الْقِرَاءَة وَالْقِرَاءَة نظرا فِي الْمُصحف أفضل مِنْهَا عَن ظهر قلب إِلَّا إِن زَاد خشوعه وَحُضُور قلبه فِي الْقِرَاءَة عَن ظهر قلب فَهِيَ أفضل فِي حَقه وَتحرم بالشاذ فِي الصَّلَاة وخارجها وَهُوَ مَا نقل آحادا قُرْآنًا كأيمانهما فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَهُوَ عِنْد جمَاعَة مِنْهُم النَّوَوِيّ مَا وَرَاء السَّبْعَة أبي عَمْرو وَنَافِع وَابْن كثير وَابْن عَامر وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَعند آخَرين مِنْهُم الْبَغَوِيّ مَا وَرَاء الْعشْرَة السَّبْعَة السَّابِقَة وَأبي جَعْفَر وَيَعْقُوب وَخلف
قَالَ فِي الْمَجْمُوع
وَإِذا قَرَأَ بِقِرَاءَة من السَّبع اسْتحبَّ أَن يتم الْقِرَاءَة بهَا فَلَو قَرَأَ بعض الْآيَات بهَا وَبَعضهَا بغَيْرهَا من السَّبع جَازَ بِشَرْط أَن لَا يكون مَا قَرَأَهُ بِالثَّانِيَةِ مرتبطا بِالْأولَى وَتحرم الْقِرَاءَة بعكس الْآي لَا بعكس السُّور وَلَكِن تكره إِلَّا فِي تَعْلِيم لِأَنَّهُ أسهل للتعليم
القَوْل فِي حكم الْقُرْآن ونسيانه وَيحرم تَفْسِير الْقُرْآن بِلَا علم ونسيانه أَو شَيْء مِنْهُ كَبِيرَة وَالسّنة أَن يَقُول أنسيت كَذَا لَا نَسِيته إِذْ لَيْسَ هُوَ فَاعل النسْيَان وَينْدب خَتمه أول نَهَار أَو ليل وَالدُّعَاء بعده وحضوره والشروع بعده فِي ختمة أُخْرَى وكثره تِلَاوَته وَقد أفرد الْكَلَام على مَا يتَعَلَّق بِالْقُرْآنِ بالتصانيف وَفِيمَا ذكرته تذكرة لأولي الْأَلْبَاب)(1/105)
كتاب الصَّلَاة
جمعهَا صلوَات
وَهِي لُغَة الدُّعَاء بِخَير قَالَ الله تَعَالَى {وصل عَلَيْهِم} أَي ادْع لَهُم ولتضمنها معنى التعطف عديت بعلى
وَشرعا أَقْوَال وأفعال مفتتحة بِالتَّكْبِيرِ مختتمة بِالتَّسْلِيمِ بشرائط مَخْصُوصَة وَلَا ترد صَلَاة الْأَخْرَس لِأَن الْكَلَام فِي الْغَالِب فَتدخل صَلَاة الْجِنَازَة بِخِلَاف سَجْدَة التِّلَاوَة وَالشُّكْر لِأَن قَوْلهم أَقْوَال وأفعال يَشْمَل الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب غير التَّكْبِير وَالتَّسْلِيم لقَولهم مفتتحة بِالتَّكْبِيرِ مختتمة بِالتَّسْلِيمِ وَسميت بذلك لاشتمالها على الدُّعَاء إطلاقا لاسم الْجُزْء على اسْم الْكل
القَوْل فِي الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة وَدَلِيل فرضيتها وَقد بَدَأَ بالمكتوبات لِأَنَّهَا أهم وَأفضل فَقَالَ (الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة) وَفِي بعض النّسخ الصَّلَوَات المفروضات أَي العينية من الصَّلَاة فِي كل يَوْم وَلَيْلَة (خمس) مَعْلُومَة من الدّين بِالضَّرُورَةِ وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة} أَي حَافظُوا عَلَيْهَا دَائِما بإكمال واجباتها وسننها وَقَوله تَعَالَى {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} أَي محتمة مُؤَقَّتَة وأخبار فِي الصَّحِيحَيْنِ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض الله على أمتِي لَيْلَة الْإِسْرَاء خمسين صَلَاة فَلم أزل أراجعه وأسأله التَّخْفِيف حَتَّى جعلهَا خمْسا فِي كل يَوْم وَلَيْلَة وَقَوله للأعرابي حِين قَالَ هَل عَليّ غَيرهَا قَالَ لَا إِلَّا أَن تطوع وَقَوله لِمعَاذ لما بَعثه إِلَى الْيمن أخْبرهُم أَن الله قد فرض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة وَأما وجوب قيام اللَّيْل فمنسوخ فِي حَقنا وَهل(1/106)
نسخ فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر الْأَصْحَاب لَا
وَالصَّحِيح نعم
وَنَقله الشَّيْخ أَبُو حَامِد عَن النَّص
وَخرج بقولنَا العينية صَلَاة الْجِنَازَة لَكِن الْجُمُعَة من المفروضات العينية وَلم تدخل فِي كَلَامه إِلَّا إِذا قُلْنَا إِنَّهَا بدل عَن الظّهْر وَهُوَ رَأْي وَالأَصَح أَنَّهَا صَلَاة مُسْتَقلَّة
وَكَانَ فرض الْخمس لَيْلَة الْمِعْرَاج كَمَا مر قبل الْهِجْرَة بِسنة وَقيل بِسِتَّة أشهر
فَائِدَة فِي شرح الْمسند للرافعي أَن الصُّبْح كَانَت صَلَاة آدم وَالظّهْر كَانَت صَلَاة دَاوُد وَالْعصر كَانَت صَلَاة سُلَيْمَان وَالْمغْرب كَانَت صَلَاة يَعْقُوب وَالْعشَاء كَانَت صَلَاة يُونُس
وَأورد فِي ذَلِك خَبرا فَجمع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمِيع ذَلِك لنبينا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام ولأمته تَعْظِيمًا لَهُ ولكثرة الأجور لَهُ ولأمته
وَلما كَانَت الظّهْر أول صَلَاة ظَهرت لِأَنَّهَا أول صَلَاة صلاهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد بَدَأَ الله تَعَالَى بهَا فِي قَوْله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} بَدَأَ المُصَنّف بهَا فَقَالَ
(الظّهْر) أَي صلَاته سميت بذلك لِأَنَّهَا تفعل وَقت الظهيرة أَي شدَّة الْحر وَقيل لِأَنَّهَا ظَاهِرَة وسط النَّهَار وَقيل لِأَنَّهَا أول صَلَاة ظَهرت فِي الْإِسْلَام
فَإِن قيل قد تقدم أَن الصَّلَوَات الْخمس فرضت لَيْلَة الْإِسْرَاء فَلم لم يبْدَأ بالصبح أُجِيب بجوابين الأول أَنه حصل التَّصْرِيح بِأَن أول وجوب الْخمس من الظّهْر قَالَه فِي الْمَجْمُوع
الثَّانِي أَن الْإِتْيَان بِالصَّلَاةِ مُتَوَقف على بَيَانهَا وَلم تبين إِلَّا عِنْد الظّهْر
وَلما صدر الْأَكْثَرُونَ تبعا للشَّافِعِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْبَاب بِذكر الْمَوَاقِيت لِأَن بِدُخُولِهَا تجب الصَّلَاة وبخروجها تفوت
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {فسبحان الله حِين تمسون وَحين تُصبحُونَ وَله الْحَمد فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وعشيا وَحين تظْهرُونَ}
قَالَ ابْن عَبَّاس أَرَادَ بِحِين تمسون صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء وبحين تُصبحُونَ صَلَاة الصُّبْح وبعشيا صَلَاة الْعَصْر وبحين تظْهرُونَ صَلَاة الظّهْر وَخبر أمني جِبْرِيل عِنْد الْبَيْت مرَّتَيْنِ فصلى بِي الظّهْر حِين زَالَت الشَّمْس وَكَانَ الْفَيْء قدر الشرَاك وَالْعصر(1/107)
حِين كَانَ ظله أَي الشَّيْء مثله وَالْمغْرب حِين أفطر الصَّائِم أَي دخل وَقت إفطاره وَالْعشَاء حِين غَابَ الشَّفق وَالْفَجْر حِين حرم الطَّعَام وَالشرَاب على الصَّائِم فَلَمَّا كَانَ الْغَد صلى بِي الظّهْر حِين كَانَ ظله مثله وَالْعصر حِين كَانَ ظله مثلَيْهِ وَالْمغْرب حِين أفطر الصَّائِم وَالْعشَاء إِلَى ثلث اللَّيْل وَالْفَجْر فأسفر وَقَالَ هَذَا وَقت الْأَنْبِيَاء من قبلك وَالْوَقْت مَا بَين هذَيْن الْوَقْتَيْنِ
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِي الظّهْر حِين كَانَ ظله مثله أَي فرغ مِنْهَا حِينَئِذٍ كَمَا شرع فِي الْعَصْر فِي الْيَوْم الأول حِينَئِذٍ قَالَه الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ نافيا بِهِ اشتراكهما فِي وَقت وَاحِد وَيدل لَهُ خبر مُسلم وَقت الظّهْر إِذا زَالَت الشَّمْس مَا لم تحضر الْعَصْر
تَبِعَهُمْ المُصَنّف فَقَالَ القَوْل فِي وَقت الظّهْر ابْتِدَاء وانتهاء (وَأول وَقتهَا) أَي الظّهْر (زَوَال الشَّمْس) أَي وَقت زَوَالهَا يَعْنِي يدْخل وَقتهَا بالزوال كَمَا عبر بِهِ فِي الْوَجِيز وَغَيره وَهُوَ ميل الشَّمْس عَن وسط السَّمَاء الْمُسَمّى بُلُوغهَا إِلَيْهِ بِحَالَة الاسْتوَاء إِلَى جِهَة الْمغرب لَا فِي الْوَاقِع بل فِي الظَّاهِر لِأَن التَّكْلِيف إِنَّمَا يتَعَلَّق بِهِ وَذَلِكَ بِزِيَادَة ظلّ الشي على ظله حَالَة الاسْتوَاء أَو بحدوثه إِن لم يبْق عِنْده ظلّ قَالَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا وَذَلِكَ يتَصَوَّر فِي بعض الْبِلَاد كمكة وَصَنْعَاء الْيمن فِي أطول أَيَّام السّنة
فَلَو شرع فِي التَّكْبِير قبل ظُهُور الزَّوَال ثمَّ ظهر الزَّوَال عقب التَّكْبِير أَو فِي أَثْنَائِهِ لم يَصح الظّهْر وَإِن كَانَ التَّكْبِير حَاصِلا بعد الزَّوَال فِي نفس الْأَمر وَكَذَا الْكَلَام فِي الْفجْر وَغَيره
(وَآخره) أَي وَقت الظّهْر (إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله بعد) أَي سوى (ظلّ الزَّوَال) الْمَوْجُود عِنْد الزَّوَال وَإِذا أردْت معرفَة الزَّوَال فاعتبره بقامتك أَو شاخص تُقِيمهُ فِي أَرض مستوية وَعلم على رَأس الظل فَمَا زَالَ الظل ينقص من الْخط فَهُوَ قبل الزَّوَال وَإِن وقف لَا يزِيد وَلَا ينقص فَهُوَ وَقت الاسْتوَاء وَإِن أَخذ الظل فِي الزِّيَادَة علم أَن الشَّمْس زَالَت
قَالَ الْعلمَاء وقامة كل إِنْسَان سِتَّة أَقْدَام وَنصف بقدمه
وَالشَّمْس عِنْد الْمُتَقَدِّمين من أَرْبَاب علم الْهَيْئَة فِي السَّمَاء الرَّابِعَة
وَقَالَ بعض محققي الْمُتَأَخِّرين فِي السَّادِسَة وَهِي أفضل من الْقَمَر لِكَثْرَة نَفعهَا
قَالَ الْأَكْثَرُونَ وللظهر ثَلَاثَة أَوْقَات وَقت فَضِيلَة أَوله
وَوقت اخْتِيَار إِلَى آخِره وَوقت عذر وَهُوَ وَقت الْعَصْر لمن يجمع
وَقَالَ القَاضِي لَهَا أَرْبَعَة أَوْقَات وَقت فَضِيلَة أَوله إِلَى أَن يصير ظلّ الشَّيْء مثل ربعه وَوقت اخْتِيَار إِلَى أَن يصير مثل نصفه وَوقت جَوَاز إِلَى آخِره وَوقت عذر وَهُوَ وَقت الْعَصْر لمن يجمع
وَلها وَقت ضَرُورَة وَسَيَأْتِي وَوقت حُرْمَة وَهُوَ آخر وَقتهَا بِحَيْثُ لَا يَسعهَا وَلَا عذر وَإِن وَقعت أَدَاء ويجريان فِي سَائِر أَوْقَات الصَّلَوَات(1/108)
القَوْل فِي وَقت الْعَصْر ابْتِدَاء وانتهاء (وَالْعصر) أَي صلَاتهَا وَسميت بذلك لمعاصرتها وَقت الْغُرُوب (وَأول وَقتهَا الزِّيَادَة على ظلّ التل) وَعبارَة التَّنْبِيه إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله وَزَاد أدنى زِيَادَة وَأَشَارَ إِلَى ذَلِك الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بقوله فَإِن جَاوز ظلّ الشي مثله بِأَقَلّ زِيَادَة فقد دخل وَقت الْعَصْر وَلَيْسَ ذَلِك مُخَالفا للصحيح وَهُوَ أَنه لَا يشْتَرط حُدُوث زِيَادَة فاصلة كَمَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ بل هُوَ مَحْمُول على أَن وَقت الْعَصْر لَا يكَاد يعرف إِلَّا بهَا وَهِي من وَقت الْعَصْر وَقيل من وَقت الظّهْر وَقيل فاصلة
(وَآخره فِي) وَقت (الِاخْتِيَار إِلَى ظلّ المثلين) بعد ظلّ الاسْتوَاء إِن كَانَ لحَدِيث جِبْرِيل الْمَار وَسمي مُخْتَارًا لما فِيهِ من الرجحان على مَا بعده
وَفِي الإقليد سمي بذلك لاختيار جِبْرِيل إِيَّاه وَقَول جِبْرِيل فِي الحَدِيث الْوَقْت مَا بَين هذَيْن الْوَقْتَيْنِ
مَحْمُول على وَقت الِاخْتِيَار
(وَآخره) فِي وَقت (الْجَوَاز إِلَى غرُوب الشَّمْس) لحَدِيث من أدْرك رَكْعَة من الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح وَمن أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر
مُتَّفق عَلَيْهِ وروى ابْن شيبَة بِإِسْنَاد فِي مُسلم وَقت الْعَصْر مَا لم تغرب الشَّمْس
تَنْبِيه للعصر سَبْعَة أَوْقَات وَقت فَضِيلَة أول الْوَقْت وَوقت اخْتِيَار وَوقت عذر وَقت الظّهْر لمن يجمع وَوقت ضَرُورَة وَوقت جَوَاز بِلَا كَرَاهَة وَوقت كَرَاهَة وَوقت حُرْمَة وَهُوَ آخر وَقتهَا بِحَيْثُ لَا يَسعهَا
وَإِن قُلْنَا إِنَّهَا أَدَاء
وَزَاد بَعضهم ثامنا وَهُوَ وَقت الْقَضَاء فِيمَا إِذا أحرم بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْت ثمَّ أفسدها عمدا فَإِنَّهَا تصير قَضَاء كَمَا نَص عَلَيْهِ القَاضِي حُسَيْن فِي تَعْلِيقه وَالْمُتوَلِّيّ فِي التَّتِمَّة وَالرُّويَانِيّ فِي الْبَحْر وَلَكِن هَذَا رَأْي ضَعِيف
القَوْل فِي وَقت الْمغرب (وَالْمغْرب) أَي صلَاتهَا (ووقتها وَاحِد) أَي لَا اخْتِيَار فِيهِ كَمَا فِي الحَدِيث الْمَار (وَهُوَ) أَي أَوله يدْخل بعد (غرُوب الشَّمْس) لحَدِيث جِبْرِيل سميت بذلك لفعلها عقب الْغُرُوب وأصل الْغُرُوب الْبعد يُقَال غرب بِفَتْح الرَّاء أَي بعد وَالْمرَاد تَكَامل الْغُرُوب وَيعرف فِي الْعمرَان بِزَوَال الشعاع عَن رُؤُوس الْجبَال وإقبال الظلام من الْمشرق
(و) يَمْتَد على القَوْل الْجَدِيد (بِمِقْدَار مَا يُؤذن) لوَقْتهَا (وَيتَوَضَّأ وَيسْتر الْعَوْرَة وَيُقِيم الصَّلَاة) وبمقدار خمس رَكْعَات كَمَا فِي الْمِنْهَاج وَلِأَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام صلاهَا فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقت وَاحِد بِخِلَاف غَيرهَا كَذَا اسْتدلَّ بِهِ أَكثر الْأَصْحَاب ورد بِأَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا بَين الْوَقْت الْمُخْتَار وَهُوَ الْمُسَمّى بِوَقْت الْفَضِيلَة أما الْوَقْت الْجَائِز وَهُوَ مَحل النزاع فَلَيْسَ فِيهِ تعرض لَهُ وَإِنَّمَا اسْتثْنِي قدر هَذِه(1/109)
الْأُمُور للضَّرُورَة وَالْمرَاد بالخمس الْمغرب وسنتها البعدية
وَذكر الإِمَام سبع رَكْعَات فَزَاد رَكْعَتَيْنِ قبلهَا بِنَاء على أَنه يسن رَكْعَتَانِ قبلهَا وَهُوَ مَا رَجحه النَّوَوِيّ والاعتماد فِي جَمِيع مَا ذكر بالوسط المعتدل كَذَا أطلقهُ الرَّافِعِيّ وَقَالَ الْقفال يعْتَبر فِي حق كل إِنْسَان الْوسط من فعل نَفسه لأَنهم يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِك وَيُمكن حمل كَلَام الرَّافِعِيّ على ذَلِك وَيعْتَبر أَيْضا قدر أكل لقم يكسر بهَا حِدة الْجُوع كَمَا فِي الشرحين وَالرَّوْضَة
لَكِن صوب فِي التَّنْقِيح وَغَيره اعْتِبَار الشِّبَع لما فِي الصَّحِيحَيْنِ إِذا قدم الْعشَاء فابدأوا بِهِ قبل صَلَاة الْمغرب وَلَا تعجلوا على عشائكم
وَحمل كَلَامه على الشِّبَع الشَّرْعِيّ وَهُوَ أَن يَأْكُل لقيمات يقمن صلبه وَالْعشَاء فِي الحَدِيث مَحْمُول على هَذَا أَيْضا
قَالَ بعض السّلف أتحسبونه عشاءكم الْخَبيث إِنَّمَا كَانَ أكلهم لقيمات
تَنْبِيه لَو عبر المُصَنّف بِالطُّهْرِ بدل الْوضُوء ليشْمل الْغسْل وَالتَّيَمُّم وَإِزَالَة الْخبث لَكَانَ أولى وَعبر جمَاعَة بِلبْس الثِّيَاب بدل ستر الْعَوْرَة وَاسْتَحْسنهُ الْإِسْنَوِيّ لتنَاوله التعمم والتقمص والارتداء وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ مُسْتَحبّ للصَّلَاة ويمتد وَقتهَا على القَوْل الْقَدِيم حَتَّى يغيب الشَّفق الْأَحْمَر
قَالَ النَّوَوِيّ قلت الْقَدِيم أظهر
قَالَ فِي الْمَجْمُوع بل هُوَ جَدِيد أَيْضا لِأَن الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ علق القَوْل بِهِ فِي الْإِمْلَاء وَهُوَ من الْكتب الجديدة على ثُبُوت الحَدِيث فِيهِ وَقد ثَبت فِيهِ أَحَادِيث فِي مُسلم مِنْهَا وَقت الْمغرب مَا لم يغب الشَّفق
وَأما حَدِيث صَلَاة جِبْرِيل فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقت وَاحِد فَمَحْمُول على وَقت الِاخْتِيَار كَمَا مر وَأَيْضًا أَحَادِيث مُسلم مُقَدّمَة عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَة بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَقَدم بِمَكَّة وَلِأَنَّهَا أَكثر رُوَاة وَأَصَح إِسْنَادًا مِنْهُ وعَلى هَذَا للمغرب ثَلَاثَة أَوْقَات وَقت فَضِيلَة وَاخْتِيَار أول الْوَقْت وَوقت جَوَاز مَا لم يغب الشَّفق وَوقت الْعشَاء لمن يجمع
قَالَ الْإِسْنَوِيّ نقلا عَن التِّرْمِذِيّ وَوقت كَرَاهَة وَهُوَ تَأْخِيرهَا عَن وَقت الْجَدِيد
انْتهى
وَمَعْنَاهُ وَاضح مُرَاعَاة لِلْقَوْلِ بِخُرُوج الْوَقْت وَلها أَيْضا وَقت ضَرُورَة وَوقت حُرْمَة
القَوْل فِي وَقت الْعشَاء ابْتِدَاء وانتهاء (وَالْعشَاء (و) يدْخل (أول وَقتهَا إِذا غَابَ الشَّفق الْأَحْمَر) لما سبق وَخرج بالأحمر الْأَصْفَر والأبيض وَلم يُقَيِّدهُ فِي الْمُحَرر بالأحمر لانصراف الِاسْم إِلَيْهِ لُغَة لِأَن الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الشَّفق هُوَ الْأَحْمَر كَذَا ذكره الْجَوْهَرِي والأزهري وَغَيرهمَا
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَلِهَذَا لم يَقع التَّعَرُّض لَهُ فِي أَكثر الْأَحَادِيث
تَنْبِيه من لَا عشَاء لَهُم بِأَن يَكُونُوا بنواح لَا يغيب فِيهَا شفقهم يقدرُونَ قدر مَا يغيب فِيهِ الشَّفق بأقرب الْبِلَاد إِلَيْهِم كعادم الْقُوت المجزىء فِي الْفطْرَة بِبَلَدِهِ أَي فَإِن كَانَ شفقهم يغيب عِنْد ربع ليلهم مثلا اعْتبر من ليل هَؤُلَاءِ بِالنِّسْبَةِ لَا أَنهم يصبرون بِقدر مَا يمْضِي من ليلهم لِأَنَّهُ رُبمَا استغرق ليلهم نبه على ذَلِك فِي الْخَادِم
(وَآخره فِي) وَقت (الِاخْتِيَار إِلَى ثلث اللَّيْل) لخَبر جِبْرِيل السَّابِق
وَقَوله فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا الْوَقْت مَا بَين هذَيْن الْوَقْتَيْنِ مَحْمُول على قَول الِاخْتِيَار وَفِي قَول نصفه لخَبر لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأخرت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل صَححهُ الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَرجحه النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَكَلَامه فِي الْمَجْمُوع يَقْتَضِي أَن الْأَكْثَرين عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَالْأول هُوَ الْمُعْتَمد (و) آخِره (فِي) وَقت (الْجَوَاز إِلَى طُلُوع الْفجْر الثَّانِي) أَي الصَّادِق لحَدِيث لَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط إِنَّمَا التَّفْرِيط على من(1/110)
لم يصل الصَّلَاة حَتَّى يدْخل وَقت الْأُخْرَى
رَوَاهُ مُسلم خرجت الصُّبْح بِدَلِيل فَبَقيَ على مُقْتَضَاهُ فِي غَيرهَا وَخرج بالصادق الْكَاذِب
والصادق هُوَ الْمُنْتَشِر ضوءه مُعْتَرضًا بنواحي السَّمَاء بِخِلَاف الْكَاذِب فَإِنَّهُ يطلع مستطيلا يعلوه ضوء كذنب السرحان وَهُوَ بِكَسْر السِّين كَمَا قَالَه ابْن الْحَاجِب الذِّئْب ثمَّ تعقبه ظلمَة وَشبه بذنب السرحان لطوله
فلهَا سَبْعَة أَوْقَات وَقت فَضِيلَة وَوقت اخْتِيَار وَوقت جَوَاز وَوقت حُرْمَة وَوقت ضَرُورَة وَوقت عذر هُوَ وَقت الْمغرب لمن يجمع وَوقت كَرَاهَة وَهُوَ كَمَا قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد بَين الفجرين
القَوْل فِي وَقت الصُّبْح ابْتِدَاء وانتهاء (وَالصُّبْح) أَي صلَاته وَهُوَ بِضَم الصَّاد وَكسرهَا لُغَة أول النَّهَار فَلذَلِك سميت بِهِ هَذِه الصَّلَاة وَقيل لِأَنَّهَا تقع بعد الْفجْر الَّذِي يجمع بَيَاضًا وَحُمرَة وَالْعرب تَقول وَجه صبيح لما فِيهِ بَيَاض وَحُمرَة
(وَأول وَقتهَا طُلُوع الْفجْر الثَّانِي) أَي الصَّادِق لحَدِيث جِبْرِيل فَإِنَّهُ علقه على الْوَقْت الَّذِي يحرم فِيهِ الطَّعَام وَالشرَاب على الصَّائِم وَإِنَّمَا يحرمان بالصادق (وَآخره فِي) وَقت (الِاخْتِيَار إِلَى الْإِسْفَار) وَهُوَ الإضاءة لخَبر جِبْرِيل السَّابِق وَقَوله فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْت مَا بَين هذَيْن مَحْمُول على وَقت الِاخْتِيَار (و) آخِره (فِي) وَقت (الْجَوَاز إِلَى طُلُوع الشَّمْس) لحَدِيث مُسلم وَقت صَلَاة الصُّبْح من طُلُوع الْفجْر مَا لم تطلع الشَّمْس وَالْمرَاد بطلوعها هُنَا طُلُوع بَعْضهَا بِخِلَاف غُرُوبهَا فِيمَا مر إِلْحَاقًا لما يظْهر بِمَا ظهر فيهمَا وَلِأَن وَقت الصُّبْح يدْخل بِطُلُوع بعض الْفجْر فَنَاسَبَ أَن يخرج بِطُلُوع الشَّمْس فلهَا سِتَّة أَوْقَات وَقت فَضِيلَة أول الْوَقْت وَوقت اخْتِيَار وَوقت جَوَاز بِلَا كَرَاهَة إِلَى الاحمرار ثمَّ وَقت كَرَاهَة وَوقت حُرْمَة وَوقت ضَرُورَة وَهِي نهارية لقَوْله تَعَالَى {وكلوا وَاشْرَبُوا} الْآيَة
وللأخبار الصَّحِيحَة فِي ذَلِك وَهِي عِنْد الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَالْأَصْحَاب الصَّلَاة الْوُسْطَى لقَوْله تَعَالَى {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} الْآيَة إِذْ لَا قنوت إِلَّا فِي الصُّبْح وَلخَبَر مُسلم قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لمن يكْتب لَهَا مُصحفا اكْتُبْ وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر ثمَّ قَالَت سَمعتهَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ الْعَطف يَقْتَضِي التغاير
قَالَ النَّوَوِيّ عَن الْحَاوِي الْكَبِير صحت الْأَحَادِيث أَنَّهَا الْعَصْر لخَبر شغلونا عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر وَمذهب الشَّافِعِي اتِّبَاع الحَدِيث فَصَارَ هَذَا مذْهبه وَلَا يُقَال فِيهِ قَولَانِ كَمَا وهم فِيهِ بعض أَصْحَابنَا وَقَالَ فِي شرح مُسلم الْأَصَح أَنَّهَا الْعَصْر كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يكره تَسْمِيَة الصُّبْح غَدَاة كَمَا فِي الرَّوْضَة وَالْأولَى عدم تَسْمِيَتهَا بذلك وَتسَمى صبحا وفجرا لِأَن الْقُرْآن جَاءَ بِالثَّانِيَةِ وَالسّنة بهما مَعًا وَيكرهُ تَسْمِيَة الْمغرب عشَاء وَتَسْمِيَة الْعشَاء عتمة
هَذَا مَا جزم بِهِ فِي التَّحْقِيق والمنهاج وزوائد الرَّوْضَة لَكِن قَالَ فِي الْمَجْمُوع نَص فِي الْأُم على أَنه يسْتَحبّ أَن لَا تسمى بذلك وَهُوَ مَذْهَب محققي أَصْحَابنَا
وَقَالَت طَائِفَة قَليلَة يكره
وَالْأول هُوَ الظَّاهِر لوُرُود النَّهْي عَن ذَلِك وَيكرهُ النّوم قبل صَلَاة الْعشَاء بعد دُخُول وَقتهَا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره ذَلِك وَيكرهُ الحَدِيث(1/111)
بعد فعلهَا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره ذَلِك إِلَّا فِي خير كَقِرَاءَة قُرْآن وَحَدِيث ومذاكرة فقه وإيناس ضيف وَزَوْجَة عِنْد زفافها وَتكلم بِمَا دعت الْحَاجة إِلَيْهِ كحساب ومحادثة الرجل أَهله لملاطفة أَو نَحْوهَا فَلَا كَرَاهَة لِأَن ذَلِك خير ناجز فَلَا يتْرك لمفسدة متوهمة
وروى الْحَاكِم عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدثنا عَامَّة ليله عَن بني إِسْرَائِيل
فَائِدَة روى مُسلم عَن النواس بن سمْعَان قَالَ ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّجَّال ولبثه فِي الأَرْض أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَوْم كَسنة وَيَوْم كشهر وَيَوْم كجمعة وَسَائِر أَيَّامه كأيامكم
قُلْنَا فَذَلِك الْيَوْم الَّذِي كَسنة يكفينا فِيهِ صَلَاة يَوْم قَالَ لَا اقدروا لَهُ قدره
قَالَ الْإِسْنَوِيّ فيستثنى هَذَا الْيَوْم مِمَّا ذكر فِي الْمَوَاقِيت وَيُقَاس بِهِ اليومان التاليان لَهُ
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَهَذِه الْمَسْأَلَة سيحتاج إِلَيْهَا نَص على حكمهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى
تَنْبِيه اعْلَم أَن وجوب هَذِه الصَّلَوَات موسع إِلَى أَن يبْقى من الْوَقْت مَا يَسعهَا وَإِذا أَرَادَ الْمُصَلِّي تَأْخِيرهَا إِلَى أثْنَاء وَقتهَا لزمَه الْعَزْم على فعلهَا فِي الْوَقْت على الْأَصَح فِي التَّحْقِيق فَإِن أَخّرهَا مَعَ الْعَزْم على ذَلِك وَمَات أثْنَاء الْوَقْت وَقد بَقِي مِنْهُ مَا يَسعهَا لم يعْص بِخِلَاف الْحَج لِأَن الصَّلَاة لَهَا وَقت مَحْدُود وَلم يقصر بإخراجها عَنهُ وَأما الْحَج فقد قصر بِإِخْرَاجِهِ عَن وقته بِمَوْتِهِ قبل الْفِعْل وَالْأَفْضَل أَن يُصليهَا أول وَقتهَا إِذا تيقنه وَلَو عشَاء لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوَاب أَي الْأَعْمَال أفضل قَالَ الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره نعم يسن تَأْخِير صَلَاة الظّهْر فِي شدَّة الْحر إِلَى أَن يصير للحيطان ظلّ يمشي فِيهِ طَالب الْجَمَاعَة بِشَرْط أَن يكون بِبَلَد حَار كالحجاز لمصل جمَاعَة بمصلى يأتونه كلهم أَو بَعضهم بِمَشَقَّة فِي طريقهم إِلَيْهِ وَمن وَقع من صلَاته فِي وَقتهَا رَكْعَة فَأكْثر فَالْكل أَدَاء
وَمن جهل الْوَقْت لنَحْو غيم اجْتهد جَوَازًا إِن قدر على الْيَقِين وَإِلَّا فوجوبا بِنَحْوِ ورد فَإِن علم أَن صلَاته بِالِاجْتِهَادِ وَقعت قبل وَقتهَا أَعَادَهَا وجوبا
القَوْل فِي قَضَاء الْفَوَائِت ويبادر بفائت وجوبا إِن فَاتَ بِلَا عذر
وندبا إِن فَاتَ بِعُذْر كنوم ونسيان
وَيسن تَرْتِيب الْفَائِت وتقديمه على الْحَاضِرَة الَّتِي لَا يخَاف فَوتهَا
القَوْل فِي الْأَوْقَات الَّتِي تكره فِيهَا الصَّلَاة وَكره كَرَاهَة تَحْرِيم كَمَا صَححهُ فِي الرَّوْضَة فِي غير حرم مَكَّة صَلَاة عِنْد(1/112)
اسْتِوَاء الشَّمْس إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة وَعند طُلُوعهَا وَبعد صَلَاة الصُّبْح حَتَّى ترْتَفع كرمح وَبعد صَلَاة الْعَصْر أَدَاء وَلَو مَجْمُوعَة فِي وَقت الظّهْر وَعند اصفرار الشَّمْس حَتَّى تغرب إِلَّا صَلَاة لسَبَب غير مُتَأَخّر عَنْهَا كفائتة لم يقْصد تَأْخِيرهَا إِلَيْهَا وَصَلَاة كسوف وتحية لم يدْخل إِلَيْهِ بنيتها فَقَط وَسجْدَة شكر فَلَا يكره فِي هَذِه الْأَوْقَات وَخرج بحرم مَكَّة حرم الْمَدِينَة فَإِنَّهُ كَغَيْرِهِ
فصل القَوْل فِيمَن تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَفِي بَيَان النَّوَافِل
وَقد شرع فِي النَّوْع الأول فَقَالَ (وشرائط وجوب الصَّلَاة ثَلَاثَة أَشْيَاء) الأول (الْإِسْلَام) فَلَا تجب على كَافِر أُصَلِّي وجوب مُطَالبَة بهَا فِي الدُّنْيَا لعدم صِحَّتهَا مِنْهُ لَكِن تجب عَلَيْهِ وجوب عِقَاب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة لتمكنه من فعلهَا بِالْإِسْلَامِ
(و) الثَّانِي (الْبلُوغ) فَلَا تجب على صَغِير لعدم تَكْلِيفه لرفع الْقَلَم عَنهُ كَمَا صَحَّ فِي الحَدِيث
(و) الثَّالِث (الْعقل) فَلَا تجب على مَجْنُون لما ذكر
وَسكت المُصَنّف عَن الرَّابِع وَهُوَ النَّقَاء عَن الْحيض وَالنّفاس فَلَا تجب على حَائِض ونفساء لعدم صِحَّتهَا مِنْهُمَا فَمن اجْتمعت فِيهِ هَذِه الشُّرُوط وَجَبت عَلَيْهِ الصَّلَاة بِالْإِجْمَاع وَلَا قَضَاء على الْكَافِر إِذا أسلم لقَوْله تَعَالَى {قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} نعم الْمُرْتَد يجب عَلَيْهِ قَضَاء مَا فَاتَهُ زمن الرِّدَّة بعد إِسْلَامه تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ التزمها بِالْإِسْلَامِ فَلَا تسْقط عَنهُ بالجحود كحق الْآدَمِيّ وَلَو ارْتَدَّ ثمَّ جن قضى أَيَّام الْجُنُون مَعَ مَا قبلهَا تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَلَو سكر مُتَعَدِّيا ثمَّ جن قضى الْمدَّة الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا سكره لَا مُدَّة جُنُونه بعْدهَا بِخِلَاف مُدَّة جُنُون الْمُرْتَد لِأَن من جن فِي ردته مُرْتَد فِي جُنُونه حكما وَمن جن فِي سكره لَيْسَ بسكران فِي داوم جُنُونه قطعا وَلَو ارْتَدَّت أَو سكرت ثمَّ حَاضَت أَو نفست لم تقض زمن الْحيض وَالنّفاس وَفَارَقت الْمَجْنُون بِأَن إِسْقَاط الصَّلَاة عَنْهَا عَزِيمَة لِأَنَّهَا مكلفة بِالتّرْكِ وَعنهُ رخصَة وَالْمُرْتَدّ والسكران ليسَا من أَهلهَا وَمَا وَقع فِي الْمَجْمُوع من قَضَاء الْحَائِض الْمُرْتَدَّة زمن الْجُنُون نسب فِيهِ إِلَى السَّهْو وَلَا قَضَاء على الطِّفْل إِذا بلغ ويأمره الْوَلِيّ بهَا إِذا ميز وَلَو قَضَاء لما فَاتَهُ بعد(1/113)
التَّمْيِيز والتمييز بعد استكمال سبع سِنِين وَيضْرب على تَركهَا بعد عشر سِنِين لخَبر مروا الصَّبِي أَي والصبية بِالصَّلَاةِ إِذا بلغ سبع سِنِين وَإِذا بلغ عشر سِنِين فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا أَي على تَركهَا كَمَا صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره
تَنْبِيه ظَاهر كَلَامهم أَنه يشْتَرط للضرب تَمام الْعَاشِرَة لَكِن قَالَ الصَّيْمَرِيّ إِنَّه يضْرب فِي أَثْنَائِهَا وَصَححهُ الْإِسْنَوِيّ وَجزم بِهِ ابْن الْمقري وَهُوَ الظَّاهِر لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْبلُوغ وَمُقْتَضى مَا فِي الْمَجْمُوع أَن التَّمْيِيز وَحده لَا يَكْفِي فِي الْأَمر بل لَا بُد مَعَه من السَّبع
وَقَالَ فِي الْكِفَايَة إِنَّه الْمَشْهُور وَأحسن مَا قيل فِي حد التَّمْيِيز أَنه يصير الطِّفْل بِحَيْثُ يَأْكُل وَحده وَيشْرب وَحده ويستنجي وَحده وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ مَتى يُصَلِّي الصَّبِي قَالَ إِذا عرف شِمَاله من يَمِينه قَالَ الدَّمِيرِيّ وَالْمرَاد إِذا عرف مَا يضرّهُ وَمَا يَنْفَعهُ قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَالْأَمر وَالضَّرْب واجبان على الْوَلِيّ أَبَا كَانَ أَو جدا أَو وَصِيّا أَو قيمًا من جِهَة القَاضِي
وَفِي الْمُهِمَّات والملتقط وَمَالك الرَّقِيق فِي معنى الْأَب وَكَذَا الْمُودع وَالْمُسْتَعِير وَنَحْوهمَا
قَالَ الطَّبَرِيّ وَلَا يقْتَصر على مُجَرّد صيغته بل لَا بُد مَعَه من التهديد
وَقَالَ فِي الرَّوْضَة يجب على الْآبَاء والأمهات تَعْلِيم أَوْلَادهم الطَّهَارَة وَالصَّلَاة والشرائع
وَلَا قَضَاء على الْحَائِض أَو النُّفَسَاء إِذا طهرتا وَهل يحرم عَلَيْهِمَا أَو يكره وَجْهَان
أوصحهما الثَّانِي وَلَا على مَجْنُون ومغمى عَلَيْهِ إِذا أفاقا لحَدِيث رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يبرأ فورد النَّص فِي الْمَجْنُون وَقيس عَلَيْهِ كل من زَالَ عقله بِسَبَب يعْذر فِيهِ
الحكم إِذا زَالَت الْمَوَانِع آخرالوقت أَو طرأت أول الْوَقْت وَلَو زَالَت هَذِه الْأَسْبَاب الْمَانِعَة من وجوب الصَّلَاة وَقد بَقِي من الْوَقْت قدر تَكْبِيرَة فَأكْثر وَجَبت الصَّلَاة لِأَن الْقدر الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ الْإِيجَاب يَسْتَوِي فِيهِ قدر الرَّكْعَة ودونها وَيجب الظّهْر مَعَ الْعَصْر بِإِدْرَاك قدر زمن تَكْبِيرَة آخر وَقت الْعَصْر وَيجب الْمغرب مَعَ الْعشَاء بِإِدْرَاك ذَلِك آخر وَقت الْعشَاء لِاتِّحَاد وقتي الظّهْر وَالْعصر ووقتي الْمغرب وَالْعشَاء فِي الْعذر فَفِي الضَّرُورَة أولى وَيشْتَرط للْوُجُوب أَن يَخْلُو الشَّخْص عَن الْمَوَانِع قدر الطَّهَارَة وَالصَّلَاة أخف مَا يَجْزِي كركعتين فِي صَلَاة الْمُسَافِر
تَنْبِيه لَو بلغ الشَّخْص فِي الصَّلَاة بِالسِّنِّ وَجب عَلَيْهِ إِتْمَامهَا لِأَنَّهُ أدْرك الْوُجُوب وَهِي صَحِيحَة فَلَزِمَهُ إِتْمَامهَا كَمَا لَو بلغ بِالنَّهَارِ وَهُوَ صَائِم فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ إمْسَاك بَقِيَّة النَّهَار وأجزائه وَلَو جُمُعَة لِأَنَّهُ صلى الْوَاجِب بِشَرْطِهِ وَوُقُوع أَولهَا نفلا لَا يمْنَع وُقُوع آخرهَا وَاجِبا كَصَوْم مَرِيض شفي فِي أَثْنَائِهِ وَإِن بلغ بعد فعلهَا بِالسِّنِّ أَو بِغَيْرِهِ فَلَا يجب عَلَيْهِ إِعَادَتهَا بِخِلَاف الْحَج إِذا بلغ بعده يجب عَلَيْهِ إِعَادَته لِأَن وُجُوبه مرّة فِي الْعُمر فَاشْترط وُقُوعه فِي حَال الْكَمَال بِخِلَاف الصَّلَاة وَلَو حَاضَت أَو نفست أَو جن(1/114)
أَو أُغمي عَلَيْهِ
أول الْوَقْت وَجَبت تِلْكَ الصَّلَاة إِن أدْرك من ذكر قدر الْفَرْض بأخف مَا يُمكن وَإِلَّا فَلَا وجوب فِي ذمَّته لعدم التَّمَكُّن من فعلهَا
القَوْل فِي الصَّلَوَات المسنونات الَّتِي تشرع لَهَا الْجَمَاعَة وينادى لَهَا ثمَّ شرع فِي النَّوْع الثَّانِي فَقَالَ (والصلوات المسنونات) والمسنون وَالْمُسْتَحب وَالنَّفْل والمرغب فِيهِ أَلْفَاظ مترادفة وَهُوَ الزَّائِد على الْفَرَائِض
وَأفضل عبادات الْبدن بعد الْإِسْلَام الصَّلَاة لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَي الْأَعْمَال أفضل فَقَالَ الصَّلَاة لوَقْتهَا وَقيل الصَّوْم لخَبر الصَّحِيحَيْنِ قَالَ الله تَعَالَى كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ وَإِذا كَانَت الصَّلَاة أفضل الْعِبَادَات ففرضها أفضل الْفُرُوض وتطوعها أفضل التَّطَوُّع وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ قسم تسن الْجَمَاعَة فِيهِ وَهُوَ (خمس العيدان والكسوفان وَالِاسْتِسْقَاء) ورتبتها فِي الْأَفْضَلِيَّة على حكم ترتيبها الْمَذْكُور وَلها أَبْوَاب تذكر فِيهَا
القَوْل فِي السّنَن الرَّوَاتِب وَقسم لَا تسن الْجَمَاعَة فِيهِ
(و) مِنْهُ (السّنَن) الرَّوَاتِب وَهِي على الْمَشْهُور (التابعة للفرائض) وَقيل هِيَ مَا لَهُ وَقت
وَالْحكمَة فِيهَا تَكْمِيل مَا نقص من الفرائص بِنَقص نَحْو خشوع كَتَرْكِ تدبر قِرَاءَة
(وَهِي سَبْعَة عشر رَكْعَة رَكعَتَا الْفجْر) قبل الصُّبْح (وَأَرْبع) أَي أَربع رَكْعَات (قبل الظّهْر وركعتان بعْدهَا وَأَرْبع قبل الْعَصْر وركعتان بعد الْمغرب وَثَلَاث بعد سنة الْعشَاء يُوتر بِوَاحِدَة مِنْهُنَّ) لم يبين المُصَنّف الْمُؤَكّد من غَيره
وَبَيَانه أَن الْمُؤَكّد من الرَّوَاتِب عشر رَكْعَات رَكْعَتَانِ قبل الصُّبْح وركعتان قبل الظّهْر وَكَذَا بعْدهَا وَبعد الْمغرب وَالْعشَاء لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر قَالَ صليت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ قبل الظّهْر وَرَكْعَتَيْنِ بعْدهَا وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء
وَغير الْمُؤَكّد أَن يزِيد رَكْعَتَيْنِ قبل الظّهْر لِلِاتِّبَاعِ
رَوَاهُ مُسلم وَيزِيد رَكْعَتَيْنِ بعْدهَا لحَدِيث من حَافظ على أَربع رَكْعَات قبل الظّهْر وَأَرْبع بعْدهَا حرمه الله على النَّار رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ
وَأَرْبع قبل الْعَصْر لخَبر عمر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رحم الله امْرأ صلى قبل الْعَصْر أَرْبعا
رَوَاهُ ابْنا خُزَيْمَة وحبان وصححاه وَمن غير الْمُؤَكّد رَكْعَتَانِ خفيفتان قبل الْمغرب فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أنس أَن كبار الصَّحَابَة كَانُوا يبتدرون السَّوَارِي لَهما أَي للركعتين إِذا أذن الْمغرب
وركعتان قبل الْعشَاء لخَبر بَين كل أذانين صَلَاة وَالْمرَاد الْأَذَان والأقامة
وَالْجُمُعَة كالظهر فِيمَا مر فَيصَلي قبلهَا أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا لخَبر مُسلم إِذا(1/115)
صلى أحدكُم الْجُمُعَة فَليصل بعْدهَا أَرْبعا وَخبر التِّرْمِذِيّ إِن ابْن مَسْعُود كَانَ يُصَلِّي قبل الْجُمُعَة أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا وَالظَّاهِر أَنه تَوْقِيف
وَقَول المُصَنّف يُوتر بِوَاحِدَة مِنْهُنَّ أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن من الْقسم الَّذِي لَا يسن لَهُ جمَاعَة الْوتر وَأَن أَقَله رَكْعَة لخَبر مُسلم من حَدِيث ابْن عمر وَابْن عَبَّاس الْوتر رَكْعَة من آخر اللَّيْل وَفِي صَحِيح ابْن حبَان من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوتر بِوَاحِدَة
وَلَا كَرَاهَة فِي الِاقْتِصَار عَلَيْهَا خلافًا لما فِي الْكِفَايَة عَن أبي الطّيب وَأدنى الْكَمَال ثَلَاث وأكمل مِنْهُ خمس ثمَّ سبع ثمَّ تسع ثمَّ إِحْدَى عشرَة وَهِي أَكْثَره للْأَخْبَار الصَّحِيحَة مِنْهَا خبر عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يزِيد فِي رَمَضَان وَلَا غَيره على إِحْدَى عشرَة رَكْعَة
فَلَا تصح الزِّيَادَة عَلَيْهَا كَسَائِر الرَّوَاتِب وَلمن زَاد على رَكْعَة الْفَصْل بَين الرَّكْعَات بِالسَّلَامِ وَهُوَ أفضل من الْوَصْل بتشهد فِي الْأَخِيرَة أَو بتشهدين فِي الْأَخِيرَتَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْوَصْل غير ذَلِك وَوَقته بَين صَلَاة الْعشَاء وطلوع الْفجْر الثَّانِي لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أمدكم بِصَلَاة هِيَ خير لكم من حمر النعم وَهِي الْوتر فَجَعلهَا لكم من الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر وَيسن جعله آخر صَلَاة اللَّيْل لخَبر الصَّحِيحَيْنِ اجعلوا آخر صَلَاتكُمْ من اللَّيْل وترا فَإِن كَانَ لَهُ تهجد آخر أخر الْوتر إِلَى أَن يتهجد وَإِلَّا أوتر بعد فَرِيضَة الْعشَاء وراتبتها هَذَا مَا فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا وَقَيده فِي الْمَجْمُوع بِمَا إِذا لم يَثِق بيقظته آخر اللَّيْل وَإِلَّا فتأخيره أفضل لخَبر مُسلم من خَافَ أَن لَا يقوم آخر اللَّيْل فليوتر أَوله وَمن طمع أَن يقوم آخِره فليوتر آخِره فَإِن صَلَاة آخر اللَّيْل مَشْهُودَة وَذَلِكَ أفضل وَعَلِيهِ حمل خَبره أَيْضا بَادرُوا الصُّبْح بالوتر فَإِن أوتر ثمَّ تهجد لم ينْدب لَهُ إِعَادَته لخَبر لَا وتران فِي لَيْلَة وَينْدب الْقُنُوت آخر وتره فِي النّصْف الثَّانِي من رَمَضَان وَهُوَ كقنوت الصُّبْح فِي لفظ وَمحله والجهر بِهِ وَيسن جمَاعَة فِي وتر رَمَضَان
القَوْل فِي النَّوَافِل الْمُؤَكّدَة بعد الرَّوَاتِب (والنوافل الْمُؤَكّدَة) بعد الرَّوَاتِب (ثَلَاثَة) الأولى (صَلَاة اللَّيْل) وَهُوَ التَّهَجُّد وَلَو عبر بِهِ لَكَانَ أولى لمواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلقَوْله تَعَالَى {وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك} وَقَوله تَعَالَى {كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون} وَهُوَ لُغَة رفع النّوم بالتكلف وَاصْطِلَاحا صَلَاة التَّطَوُّع فِي اللَّيْل بعد النّوم كَمَا قَالَه القَاضِي حُسَيْن سمي بذلك لما فِيهِ من ترك النّوم وَيسن للمتهجد القيلولة وَهِي النّوم قبل الزَّوَال وَهِي بِمَنْزِلَة السّحُور للصَّائِم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعِينُوا بالقيلولة على قيام اللَّيْل رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
فَائِدَة ذكر أَبُو الْوَلِيد النَّيْسَابُورِي أَن المتهجد يشفع فِي أهل بَيته وَرُوِيَ أَن الْجُنَيْد رئي فِي النّوم فَقيل لَهُ مَا فعل الله بك فَقَالَ طاحت تِلْكَ الإشارات وَغَابَتْ تِلْكَ الْعبارَات وفنيت تِلْكَ الْعُلُوم ونفدت تِلْكَ الرسوم وَمَا نفعنا إِلَّا ركيعات كُنَّا نركعها(1/116)
عِنْد السحر وَيكرهُ ترك التَّهَجُّد لمعتاده بِلَا عذر وَيكرهُ قيام بلَيْل يضر
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ ألم أخبر أَنَّك تَصُوم النَّهَار وَتقوم اللَّيْل فَقلت بلَى
قَالَ فَلَا تفعل صم وَأفْطر وقم ونم فَإِن لجسدك عَلَيْك حَقًا
إِلَى آخِره
أما قيام لَا يضر وَلَو فِي لَيَال كَامِلَة فَلَا يكره فقد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان أَحْيَا اللَّيْل كُله وَيكرهُ تَخْصِيص لَيْلَة الْجُمُعَة بِقِيَام بِصَلَاة لخَبر مُسلم لَا تخصوا لَيْلَة الْجُمُعَة بِقِيَام من بَين اللَّيَالِي أما إحياؤها بِغَيْر صَلَاة فَلَا يكره خُصُوصا بِالصَّلَاةِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن ذَلِك مَطْلُوب فِيهَا
(و) الثَّانِيَة (صَلَاة الضُّحَى) وأقلها رَكْعَتَانِ وأكثرها ثَمَان كَمَا فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَكْثَرين وَصَححهُ فِي التَّحْقِيق وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وَفِي الْمِنْهَاج أَن أَكْثَرهَا اثْنَتَا عشرَة رَكْعَة
وَقَالَ فِي الرَّوْضَة أفضلهَا ثَمَان وأكثرها اثْنَتَا عشرَة وَيسن أَن يسلم من كل رَكْعَتَيْنِ ووقتها من ارْتِفَاع الشَّمْس إِلَى الزَّوَال وَالِاخْتِيَار فعلهَا عِنْد مُضِيّ ربع النَّهَار
(و) الثَّالِثَة (صَلَاة التَّرَاوِيح) وَهِي عشرُون رَكْعَة وَقد اتَّفقُوا على سنيتها وعَلى أَنَّهَا المرادة من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه رَوَاهُ البُخَارِيّ وَقَوله إِيمَانًا أَي تَصْدِيقًا بِأَنَّهُ حق مُعْتَقدًا أفضليتهواحتسابا أَي إخلاصا وَالْمَعْرُوف أَن الغفران مُخْتَصّ بالصغائر وَتسن الْجَمَاعَة فِيهَا لِأَن عمر جمع النَّاس على قيام شهر رَمَضَان الرِّجَال على أبي بن كَعْب وَالنِّسَاء على سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة وَسميت كل أَربع مِنْهَا ترويحة لأَنهم كَانُوا يتروحون عَقبهَا أَي يستريحون قَالَ الْحَلِيمِيّ والسر فِي كَونهَا عشْرين أَن الرَّوَاتِب المؤكدات فِي غير رَمَضَان عشر رَكْعَات فضوعفت لِأَنَّهُ وَقت جد وتشمير اه
وَلأَهل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فعلهَا سِتا وَثَلَاثِينَ لِأَن الْعشْرين خمس ترويحات فَكَانَ أهل مَكَّة يطوفون بَين كل ترويحتين سَبْعَة أَشْوَاط فَجعل لأهل الْمَدِينَة بدل كل أُسْبُوع ترويحة ليساووهم وَلَا يجوز ذَلِك لغَيرهم كَمَا قَالَه الشَّيْخَانِ لِأَن لأَهْلهَا شرفا بهجرته وَدَفنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفعلها بِالْقُرْآنِ فِي جَمِيع الشَّهْر أفضل من تَكْرِير سُورَة الْإِخْلَاص ووقتها بَين صَلَاة الْعشَاء وَلَو تَقْدِيمًا وطلوع الْفجْر الثَّانِي
قَالَ فِي الرَّوْضَة وَلَا تصح بنية مُطلقَة بل يَنْوِي رَكْعَتَيْنِ من التَّرَاوِيح أَو من قيام رَمَضَان وَلَو صلى أَرْبعا بِتَسْلِيمَة
لم يَصح لِأَنَّهُ خلاف الْمَشْرُوع بِخِلَاف سنة الظّهْر وَالْعصر وَالْفرق أَن التَّرَاوِيح بمشروعية الْجَمَاعَة فِيهَا أشبهت الْفَرَائِض فَلَا تغير عَمَّا وَردت
تَنْبِيه يدْخل وَقت الرَّوَاتِب الَّتِي قبل الْفَرْض بِدُخُول وَقت الْفَرْض وَالَّتِي بعده بِفِعْلِهِ وَيخرج وَقت النَّوْعَيْنِ بِخُرُوج وَقت الْفَرْض لِأَنَّهُمَا تابعان لَهُ وَلَو فَاتَ النَّفْل الْمُؤَقت ندب قَضَاؤُهُ
وَمن الْقسم الَّذِي لَا تندب فِيهِ الْجَمَاعَة تَحِيَّة الْمَسْجِد
وَهِي رَكْعَتَانِ قبل الْجُلُوس لكل دَاخل وَتحصل لفرض أَو نفل آخر وتتكرر بِتَكَرُّر الدُّخُول وَلَو على قرب وتفوت بجلوسه قبل فعلهَا وَإِن قصر الْفَصْل إِلَّا إِن جلس سَهوا وَقصر الْفَصْل وتفوت بطول الْوُقُوف كَمَا أفتى بِهِ بعض الْمُتَأَخِّرين(1/117)
فَائِدَة قَالَ الْإِسْنَوِيّ التَّحِيَّات أَربع تَحِيَّة الْمَسْجِد بِالصَّلَاةِ وَالْبَيْت بِالطّوافِ وَالْحرم بِالْإِحْرَامِ وَمنى بِالرَّمْي وَزيد عَلَيْهِ تَحِيَّة عَرَفَة بِالْوُقُوفِ وتحية لِقَاء الْمُسلم بِالسَّلَامِ
تَتِمَّة من الْقسم الَّذِي لَا تسن الْجَمَاعَة فِيهِ صَلَاة التسابيح وَهِي أَربع رَكْعَات يَقُول فِيهَا ثَلَاثمِائَة مرّة سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر بعد التَّحَرُّم وَقبل الْقِرَاءَة خَمْسَة عشرَة وَبعد الْقِرَاءَة وَقبل الرُّكُوع عشرا وَفِي الرُّكُوع عشرا وَكَذَلِكَ فِي الرّفْع مِنْهُ وَفِي السُّجُود وَالرَّفْع مِنْهُ وَالسُّجُود الثَّانِي فَهَذِهِ خمس وَسَبْعُونَ فِي أَربع بثلاثمائة
وَصَلَاة الْأَوَّابِينَ وَتسَمى صَلَاة الْغَفْلَة لغفلة النَّاس عَنْهَا بِسَبَب عشَاء أَو نوم أَو نَحْو ذَلِك وَهِي عشرُون رَكْعَة بَين الْمغرب وَالْعشَاء وأقلها رَكْعَتَانِ لحَدِيث التِّرْمِذِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من صلى سِتّ رَكْعَات بَين الْمغرب وَالْعشَاء كتب الله لَهُ عبَادَة اثْنَتَيْ عشرَة سنة
وركعتا الْإِحْرَام وركعتا الطّواف وركعتا الْوضُوء وركعتا الاستخارة وركعتا الْحَاجة وركعتا التَّوْبَة وركعتان عِنْد الْخُرُوج من الْمنزل وَعند دُخُوله وَعند الخروح من مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعند مروره بِأَرْض لم يمر بهَا قطّ وركعتان عقب الْخُرُوج من الْحمام وركعتان فِي الْمَسْجِد إِذا قدم من سَفَره وركعتان عِنْد الْقَتْل إِن أمكنه وركعتان إِذا عقد على امْرَأَة وزفت إِلَيْهِ إِذْ يسن لكل مِنْهُمَا قبل الوقاع أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وأدلة هَذِه السّنَن مَشْهُورَة لَا يحتملها شرح هَذَا الْكتاب
القَوْل فِي الْبدع المذمومة قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَمن الْبدع المذمومة صَلَاة الرغائب اثْنَتَا عشرَة رَكْعَة بَين الْمغرب وَالْعشَاء لَيْلَة أول جُمُعَة من رَجَب وَصَلَاة لَيْلَة نصف شعْبَان مائَة رَكْعَة
وَلَا يغتر بِمن يفعل ذَلِك وَأفضل الْقسم الَّذِي لَا تسن فِيهِ الْجَمَاعَة الْوتر ثمَّ رَكعَتَا الْفجْر وهما أفضل من رَكْعَتَيْنِ فِي جَوف اللَّيْل ثمَّ بَاقِي رواتب الْفَرَائِض ثمَّ الضُّحَى ثمَّ مَا يتَعَلَّق بِفعل غير سنة الْوضُوء كركعتي الطّواف وَالْإِحْرَام والتحية وَهَذِه الثَّلَاثَة فِي الْأَفْضَلِيَّة سَوَاء وَالْقسم الَّذِي تسن الْجَمَاعَة فِيهِ أفضل من الْقسم الَّذِي لَا تسن الْجَمَاعَة فِيهِ نعم تفضل راتبة الْفَرَائِض على التَّرَاوِيح وَأفضل الْقسم الَّذِي فِيهِ تسن الْجَمَاعَة صَلَاة الْعِيدَيْنِ وَقَضِيَّة كَلَامهم تَسَاوِي الْعِيدَيْنِ فِي الْفَضِيلَة قَالَ فِي الْخَادِم لَكِن الْأَرْجَح فِي النّظر تَرْجِيح عيد الْأَضْحَى فَصلَاته أفضل من صَلَاة الْفطر وتكبير الْفطر أفضل من تكبيره ثمَّ بعد الْعِيد فِي الْفَضِيلَة كسوف الشَّمْس ثمَّ خُسُوف الْقَمَر ثمَّ الاسْتِسْقَاء ثمَّ التَّرَاوِيح(1/118)
وَلَا حصر للنفل الْمُطلق وَهُوَ مَا لَا يتَقَيَّد بِوَقْت وَلَا سَبَب
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي ذَر الصَّلَاة خير مَوْضُوع استكثر أَو أقل فَإِن نوى فَوق رَكْعَة تشهد آخرا فَقَط أَو آخر كل رَكْعَتَيْنِ فَأكْثر فَلَا يتَشَهَّد فِي كل رَكْعَة وَإِذا نوى قدرا فَلهُ الزِّيَادَة عَلَيْهِ وَالنَّقْص عَنهُ إِن نويا وَإِلَّا بطلت صلَاته فَإِن قَامَ لزائد سَهوا فَتذكر قعد ثمَّ قَامَ للزائد إِن شَاءَ وَالنَّفْل الْمُطلق بلَيْل أفضل مِنْهُ بِالنَّهَارِ وبأوسطه أفضل من طَرفَيْهِ إِن قسمه ثَلَاثَة أَقسَام ثمَّ آخِره أفضل من أَوله إِن قسمه قسمَيْنِ وَأفضل من ذَلِك السُّدس الرَّابِع وَالْخَامِس وَيسن السَّلَام من كل رَكْعَتَيْنِ نَوَاهَا أَو أطلق النِّيَّة وَيسن أَن يفصل بَين سنة الْفجْر وَالْفَرِيضَة باضطجاع على يَمِينه لِلِاتِّبَاعِ وَأَن يقْرَأ فِي أول رَكْعَتي الْفجْر وَالْمغْرب والاستخارة وتحية الْمَسْجِد {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَة الاخلاص ويتأكد إكثار الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار فِي جَمِيع سَاعَات اللَّيْل وَهُوَ فِي النّصْف الْأَخير آكِد
وَعند السحر أفضل
القَوْل فِي سَجْدَتي التِّلَاوَة وَالشُّكْر تَنْبِيه لم يتَعَرَّض المُصَنّف لسجدتي التِّلَاوَة وَالشُّكْر ونذكره مُخْتَصرا لتتم بِهِ الْفَائِدَة لحافظ هَذَا الْمُخْتَصر
تسن سَجدَات تِلَاوَة لقارىء وسامع قصد السماع أم لَا قِرَاءَة لجَمِيع آيَة السَّجْدَة مَشْرُوعَة وتتأكد للسامع بسجود القارىء وَهِي أَربع عشرَة سَجْدَة سجدتا الْحَج وَثَلَاث فِي الْمفصل فِي النَّجْم والانشقاق واقرأ والبقية فِي الْأَعْرَاف والرعد والنحل والإسراء وَمَرْيَم وَالْفرْقَان والنمل وآلم تَنْزِيل وحم السَّجْدَة ومحالها مَعْرُوفَة لَيْسَ مِنْهَا سَجْدَة (ص) بل هِيَ سَجْدَة شكر
تسن فِي غير الصَّلَاة وَيسْجد مصل لقرَاءَته إِلَّا مَأْمُوما فلسجدة إِمَامه فَإِن تخلف عَن إِمَامه أَو سجد هُوَ دونه بطلت صلَاته وَيكبر الْمُصَلِّي كَغَيْرِهِ ندبا بالهوي ولرفع من السَّجْدَة بِلَا رفع يَد فِي الرّفْع
من السَّجْدَة كَغَيْر الْمُصَلِّي وأركان السَّجْدَة لغير مصل تحرم وَسُجُود وَسَلام وَشَرطهَا كَصَلَاة وَأَن لَا يطول فصل عرفا بَينهَا وَبَين قِرَاءَة الْآيَة وتتكرر بِتَكَرُّر الْآيَة وَسجْدَة الشُّكْر لَا تدخل صَلَاة وَتسن لهجوم نعْمَة أَو اندفاع نقمة أَو رُؤْيَة مبتلي أَو فَاسق معلن ويظهرها لِلْفَاسِقِ إِن لم(1/119)
يخف ضَرَره وَلَا للمبتلي لِئَلَّا يتَأَذَّى وَهِي كسجدة التِّلَاوَة ولمسافر فعلهمَا كنافلة وَيسن مَعَ سَجْدَة الشُّكْر كَمَا فِي الْمَجْمُوع الصَّدَقَة وَلَو تقرب إِلَى الله بِسَجْدَة من غير سَبَب حرم
وَمِمَّا يحرم مَا يَفْعَله كثير من الجهلة من السُّجُود بَين يَدي الْمَشَايِخ وَلَو إِلَى الْقبْلَة أَو قَصده لله تَعَالَى
وَفِي بعض صوره مَا يَقْتَضِي الْكفْر
عَافَانَا الله تَعَالَى من ذَلِك
فصل القَوْل فِي شُرُوط الصَّلَاة وَالسّنَن
أبعاض وَهِي الَّتِي تجبر بسجود السَّهْو وهيئات وَهِي الَّتِي لَا تجبر بسجود السَّهْو
والركن كالشرط فِي أَنه لَا بُد مِنْهُ ويفارقه بِأَن الشَّرْط هُوَ الَّذِي يتَقَدَّم على الصَّلَاة وَيجب استمراره فِيهَا كالطهر والستر
والركن مَا تشْتَمل عَلَيْهِ الصَّلَاة كالركوع وَالسُّجُود فَخرج بتعريف الشَّرْط التروك كَتَرْكِ الْكَلَام فَلَيْسَتْ بِشُرُوط كَمَا صَوبه فِي الْمَجْمُوع بل مبطلة للصَّلَاة كَقطع النِّيَّة وَقيل إِنَّهَا شُرُوط كَمَا قَالَه الْغَزالِيّ
وَيشْهد للْأولِ أَن الْكَلَام الْيَسِير نَاسِيا لَا يضر وَلَو كَانَ تَركه من الشُّرُوط لضر
فَائِدَة قد شبهت الصَّلَاة بالإنسان فالركن كرأسه وَالشّرط كحياته وَالْبَعْض كأعضائه والهيئة كشعره
وَقد بَدَأَ بالقسم الأول فَقَالَ (وشرائط الصَّلَاة) جمع شَرط وَالشّرط بِسُكُون الرَّاء لُغَة الْعَلامَة وَمِنْه أَشْرَاط السَّاعَة أَي علاماتها وَاصْطِلَاحا مَا يلْزم من عَدمه الْعَدَم وَلَا يلْزم من وجوده وجود وَلَا عدم لذاته كَالْكَلَامِ فِيهَا عمدا وَالْمُعْتَبر من الشُّرُوط لصِحَّة الصَّلَاة (قبل الدُّخُول فِيهَا) أَي قبل التَّلَبُّس بهَا (خمس)
القَوْل فِي طَهَارَة الْأَعْضَاء من الْحَدث وَالْجِنْس الأول (طَهَارَة الْأَعْضَاء من الْحَدث) الْأَصْغَر وَغَيره فَلَو لم يكن متطهرا عِنْد إِحْرَامه مَعَ الْقُدْرَة على الطَّهَارَة لم تَنْعَقِد صلَاته وَإِن أحرم متطهرا فَإِن سبقه الْحَدث غير الدَّائِم بطلت صلَاته لبُطْلَان طَهَارَته وَلَو صلى نَاسِيا للْحَدَث أثيب على قَصده لَا على فعله إِلَّا الْقِرَاءَة وَنَحْوهَا مِمَّا لَا يتَوَقَّف على الْوضُوء فَإِنَّهُ يُثَاب على فعله أَيْضا
قَالَ ابْن عبد السَّلَام وَفِي إثابته على الْقِرَاءَة إِذا كَانَ جنبا نظر
اه
وَالظَّاهِر عدم الإثابة
القَوْل فِي تَعْرِيف الْحَدث لُغَة وَشرعا وَالْحَدَث لُغَة هُوَ الشَّيْء الْحَادِث
وَاصْطِلَاحا أَمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمْنَع من صِحَة الصَّلَاة حَيْثُ لَا مرخص وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْن الرّفْعَة معنى ينزل منزلَة المحسوس وَلذَلِك يُقَال بتبعيضه وارتفاعه عَن كل عُضْو(1/120)
(و) طَهَارَة (النَّجس) الَّذِي لَا يُعْفَى عَنهُ فِي ثَوْبه أَو بدنه حَتَّى دَاخل أَنفه أَو فَمه أَو عينه أَو أُذُنه أَو مَكَانَهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ فَلَا تصح صلَاته مَعَ شَيْء من ذَلِك وَلَو مَعَ جَهله بِوُجُودِهِ أَو بِكَوْنِهِ مُبْطلًا لقَوْله تَعَالَى {وثيابك فطهر} وَإِنَّمَا جعل دَاخل الْأنف والفم هُنَا كظاهرهما بِخِلَاف غسل الْجَنَابَة لغلظ أَمر النَّجَاسَة بِدَلِيل أَنه لَو وَقعت نَجَاسَة فِي عينه وَجب غسلهَا وَلَا يجب غسلهَا فِي الطَّهَارَة فَلَو أكل متنجسا لم تصح صلَاته مَا لم يغسل فَمه وَلَو رَأينَا فِي ثوب من يُرِيد الصَّلَاة نَجَاسَة لَا يعلم بهَا لزمنا إِعْلَامه لِأَن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ لَا يتَوَقَّف على الْعِصْيَان قَالَه ابْن عبد السَّلَام
كَمَا لَو رَأينَا صَبيا يَزْنِي بصبية فَإِنَّهُ يجب علينا منعهما وَإِن لم يكن عصيان واستثني من الْمَكَان مَا لَو كثر زرق الطُّيُور فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنهُ للْمَشَقَّة فِي الِاحْتِرَاز عَنهُ وَقيد فِي الْمطلب الْعَفو بِمَا إِذا لم يتَعَمَّد الْمَشْي عَلَيْهِ
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَهُوَ قيد مُتَعَيّن وَزَاد غَيره أَن لَا يكون رطبا أَو رجله مبلولة
تَنْبِيه لَو تنجس ثَوْبه بِمَا لَا يُعْفَى عَنهُ وَلم يجد مَاء يغسلهُ بِهِ وَجب قطع موضعهَا إِن لم تنقص قِيمَته بِالْقطعِ أَكثر من أُجْرَة ثوب يُصَلِّي فِيهِ لَو اكتراه هَذَا مَا قَالَه الشَّيْخَانِ تبعا للمتولي وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ يعْتَبر أَكثر الْأَمريْنِ من ذَلِك وَمن ثمن المَاء لَو اشْتَرَاهُ مَعَ أُجْرَة غسله عِنْد الْحَاجة لِأَن كلا مِنْهُمَا لَو انْفَرد وَجب تَحْصِيله انْتهى
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَقيد الشَّيْخَانِ أَيْضا وجوب الْقطع بِحُصُول ستر الْعَوْرَة بالطاهر قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلم يذكرهُ الْمُتَوَلِي وَالظَّاهِر أَنه لَيْسَ بِقَيْد بِنَاء على أَن من وجد مَا يستر بِهِ بعض الْعَوْرَة لزمَه ذَلِك وَهُوَ الصَّحِيح اه
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
القَوْل فِي الِاجْتِهَاد عِنْد اشْتِبَاه الطَّاهِر بِالْجِنْسِ وَلَو اشْتبهَ عَلَيْهِ طَاهِر ونجس من ثَوْبَيْنِ أَو بَيْتَيْنِ اجْتهد فيهمَا للصَّلَاة وَصلى فِيمَا ظَنّه الطَّاهِر من الثَّوْبَيْنِ أَو الْبَيْتَيْنِ فَإِذا صلى بِالِاجْتِهَادِ ثمَّ حضرت صَلَاة أُخْرَى لم يجب تَجْدِيد الِاجْتِهَاد
فَإِن قيل إِن ذَلِك يشكل بِالِاجْتِهَادِ فِي الْمِيَاه فَإِنَّهُ يجْتَهد فِيهَا لكل فرض
أُجِيب بِأَن بَقَاء الثَّوْب أَو الْمَكَان كبقاء الطَّهَارَة فَلَو اجْتهد فَتغير ظَنّه عمل بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي فَيصَلي فِي الآخر من غير إِعَادَة كَمَا لَا يجب إِعَادَة الأولى إِذْ لَا يلْزم من ذَلِك نقض اجْتِهَاد بِاجْتِهَاد بِخِلَاف الْمِيَاه(1/121)
وَلَو غسل أحد الثَّوْبَيْنِ بِالِاجْتِهَادِ صحت الصَّلَاة فيهمَا وَلَو جَمعهمَا عَلَيْهِ وَلَو اجْتهد فِي الثَّوْبَيْنِ أَو الْبَيْتَيْنِ فَلم يظْهر لَهُ شَيْء صلى عَارِيا أَو فِي أحد الْبَيْتَيْنِ لحُرْمَة الْوَقْت وَأعَاد لتَقْصِيره بِعَدَمِ إِدْرَاك الْعَلامَة وَلِأَن مَعَه ثوبا فِي الأولى ومكانا فِي الثَّانِيَة طَاهِرا بِيَقِين وَلَو اشْتبهَ عَلَيْهِ إمامان يُرِيد الِاقْتِدَاء بِأَحَدِهِمَا اجْتهد فيهمَا وَعمل بِاجْتِهَادِهِ فَإِن صلى خلف وَاحِد ثمَّ تغير ظَنّه إِلَى الآخر صلى خَلفه وَلَا يُعِيد الأولى كَمَا لَو صلى بِاجْتِهَاد إِلَى الْقبْلَة ثمَّ تغير ظَنّه إِلَى جِهَة أُخْرَى فَإِن تحير صلى مُنْفَردا وَلَو تنجس بعض ثوب أَو بدن أَو مَكَان ضيق وَجَهل ذَلِك الْبَعْض وَجب غسل كُله لتصح الصَّلَاة فِيهِ فَإِن كَانَ الْمَكَان وَاسِعًا لم يجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِيهِ فَلهُ أَن يُصَلِّي فِيهِ بِلَا اجْتِهَاد وسكتوا عَن ضبط الْوَاسِع والضيق وَالْأَحْسَن فِي ضبط ذَلِك الْعرف وَلَو غسل بعض نجس كَثوب ثمَّ غسل بَاقِيه فَإِن غسل مَعَه جزاءا من مجاوره طهر كُله وَإِلَّا فَغير المجاور يطهر والمجاور تجس
القَوْل فِي حكم من صلى وَهُوَ قَابض حبلا مُتَّصِلا بِنَجس وَلَا تصح صَلَاة نَحْو قَابض طرف شَيْء كحبل مُتَّصِل بِنَجس وَإِن لم يَتَحَرَّك بحركته وَلَا يضر جعل طرفه تَحت رجله وَلَا نجس يحاذيه
القَوْل فِي من وصل عظمه بِنَجس وَلَو وصل عظمه لحَاجَة بِنَجس من عظم لَا يصلح للوصل غَيره عذر فِي ذَلِك فَتَصِح صلَاته مَعَه وَلَا يلْزمه نَزعه إِذا وجد الطَّاهِر كَمَا فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا فَإِن لم يحْتَج لوصله أَو وجد صَالحا غَيره من غير الْآدَمِيّ وَجب عَلَيْهِ نَزعه إِن أَمن من نَزعه ضَرَرا يُبِيح التَّيَمُّم وَلم يمت وَمثل الْوَصْل بالعظم فِيمَا ذكر الوشم فَفِيهِ التَّفْصِيل الْمَذْكُور وعفي عَن مَحل استجماره فِي الصَّلَاة وَلَو عرق مَا لم يُجَاوز الصفحة والحشفة فِي حَقه لَا فِي غَيره ويعفى عَمَّا عسر الِاحْتِرَاز عَنهُ غَالِبا من طين شَارِع نجس يَقِينا لعسر تجنبه وَيخْتَلف المعفو عَنهُ وقتا ومحلا من ثوب وبدن وَعَن دم نَحْو براغيث ودمامل كقمل وَعَن دم فصد وحجم(1/122)
بمحلهما وَعَن رَوْث ذُبَاب وَإِن كثر مَا ذكر وَلَو بانتشار عرق لعُمُوم الْبلوى بذلك لَا إِن كثر بِفِعْلِهِ فَإِن كثر بِفِعْلِهِ كَأَن قتل براغيث أَو عصر الدَّم لم يعف عَن الْكثير عرفا كَمَا هُوَ حَاصِل كَلَام الرَّافِعِيّ وَالْمَجْمُوع
وَعَن قَلِيل دم أَجْنَبِي لَا عَن قَلِيل دم نَحْو كلب لغلظه وكالدم فِيمَا ذكر قيح وصديد وَمَاء قُرُوح ومتنفط لَهُ ريح وَلَو صلى بِنَجس غير مَعْفُو عَنهُ لم يُعلمهُ أَو علمه ثمَّ نسي فصلى ثمَّ تذكر وَجَبت الْإِعَادَة وَيجب إِعَادَة كل صَلَاة تَيَقّن فعلهَا مَعَ النَّجس بِخِلَاف مَا احْتمل حُدُوثه بعْدهَا
القَوْل فِي الْكَلَام على ستر الْعَوْرَة وبيانها (و) الثَّانِي (ستر الْعَوْرَة) عَن الْعُيُون وَلَو كَانَ خَالِيا فِي ظلمَة عِنْد الْقُدْرَة لقَوْله تَعَالَى {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد}
قَالَ ابْن عَبَّاس المُرَاد بِهِ الثِّيَاب فِي الصَّلَاة فَلَو عجز وَجب أَن يُصَلِّي عَارِيا وَيتم رُكُوعه وَسُجُوده وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَيجب ستر الْعَوْرَة فِي غير الصَّلَاة أَيْضا وَلَو فِي الْخلْوَة إِلَّا لحَاجَة كاغتسال وَقَالَ صَاحب الذَّخَائِر يجوز كشف الْعَوْرَة فِي الْخلْوَة لأدنى غَرَض
قَالَ وَمن الْأَغْرَاض كشف الْعَوْرَة للتبريد وصيانة الثَّوْب من الأدناس وَالْغُبَار عِنْد كنس الْبَيْت وَغَيره وَإِنَّمَا وَجب السّتْر فِي الْخلْوَة لإِطْلَاق الْأَمر بالستر وَلِأَن الله تَعَالَى أَحَق أَن يستحيا مِنْهُ وَلَا يجب ستر عَوْرَته عَن نَفسه بل يكره نظره إِلَيْهَا من غير حَاجَة
القَوْل فِي عَورَة الرجل وعورة الرجل مَا بَين سرته وركبته
لخَبر الْبَيْهَقِيّ وَإِذا زوج أحدكُم أمته عَبده أَو أجيره فَلَا تنظر
أَي الْأمة إِلَى عَوْرَته والعورة مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وَمثل الذّكر من بهَا رق بِجَامِع أَن رَأس كل مِنْهُمَا لَيْسَ بِعَوْرَة وَخرج بذلك السُّرَّة وَالركبَة فليسا من الْعَوْرَة على الْأَصَح
فَائِدَة السُّرَّة مَوضِع الَّذِي يقطع من الْمَوْلُود والسر مَا يقطع من سرته وَلَا يُقَال لَهُ سرة لِأَن السُّرَّة لَا تقطع وَالركبَة موصل مَا بَين أَطْرَاف الْفَخْذ وأعالي السَّاق وكل حَيَوَان ذِي أَربع ركبتاه فِي يَدَيْهِ وعرقوباه فِي رجلَيْهِ
القَوْل فِي عَورَة الْحرَّة وعورة الْحرَّة غير الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ ظهرا وبطنا إِلَى الكوعين لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا} وَهُوَ مُفَسّر بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَإِنَّمَا لم يَكُونَا عَورَة لِأَن الْحَاجة تَدْعُو إِلَى ابرازهما وَالْخُنْثَى كالأنثى رقا وحرية فَإِن اقْتصر الْخُنْثَى الْحر على ستر مَا بَين سرته وركبته لم تصح صلَاته على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة والأفقه فِي الْمَجْمُوع للشَّكّ فِي السّتْر وَصحح فِي التَّحْقِيق الصِّحَّة وَنقل فِي الْمَجْمُوع فِي نواقض الْوضُوء عَن الْبَغَوِيّ وَكثير الْقطع بِهِ للشَّكّ فِي عَوْرَته قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَعَلِيهِ الْفَتْوَى
اه
وَيُمكن الْجمع بَين العبارتين بِأَن يُقَال إِن دخل فِي الصَّلَاة مُقْتَصرا على ذَلِك لم تصح صلَاته للشَّكّ فِي الِانْعِقَاد وَإِن(1/123)
دخل مَسْتُورا كَالْحرَّةِ وانكشف شَيْء من غير مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة لم يضر للشَّكّ فِي الْبطلَان نَظِير مَا قَالُوهُ فِي الْجُمُعَة إِن الْعدَد لَو كمل بخنثى لم تَنْعَقِد الْجُمُعَة للشَّكّ فِي الِانْعِقَاد وَإِن انْعَقَدت الْجُمُعَة بِالْعدَدِ الْمُعْتَبر وَهُنَاكَ خُنْثَى زَائِد عَلَيْهِ ثمَّ بطلت صَلَاة وَاحِد مِنْهُم وكمل الْعدَد بالخنثى لم تبطل الصَّلَاة لأننا تَيَقنا الِانْعِقَاد وشككنا فِي الْبطلَان وَهَذَا فتوح من الْعَزِيز الرَّحِيم فتح الله على من تَلقاهُ بقلب سليم
القَوْل فِي شُرُوط السَّاتِر فِي الصَّلَاة وَشرط السَّاتِر جرم يمْنَع إِدْرَاك لون الْبشرَة لَا حجمها وَلَو بطين وَنَحْو مَاء كدر كَمَاء صَاف متراكم بخضرة وَيجب التطيين على فَاقِد الثَّوْب وَنَحْوه وَلَو لمن هُوَ خَارج الصَّلَاة خلافًا لبَعض الْمُتَأَخِّرين وَيجب ستر الْعَوْرَة من أَعْلَاهَا وجوانبها لَا من أَسْفَلهَا وَلَو كَانَ الْمُصَلِّي امْرَأَة فَلَو رؤيت عَوْرَته من جيبه أَي طوق قَمِيصه لسعته فِي رُكُوعه أَو غَيره ضرّ
وَله ستر بَعْضهَا بِيَدِهِ لحُصُول الْمَقْصُود من السّتْر فَإِن وجد من الستْرَة مَا يَكْفِي قبله وَدبره تعين لَهما للاتفاق على أَنَّهُمَا عَورَة وَلِأَنَّهُمَا أفحش من غَيرهمَا فَإِن لم يجد مَا يكفيهما قدم قبله وجوبا لِأَنَّهُ مُتَوَجّه بِهِ للْقبْلَة وَبدل الْقبْلَة كالقبلة كَمَا لَو صلى صوب مقْصده وَيسْتر الْخُنْثَى قبليه فَإِن كفى لأَحَدهمَا تخير وَالْأولَى لَهُ ستر آلَة الرجل إِن كَانَ هُنَاكَ امْرَأَة وَآلَة النِّسَاء إِن كَانَ هُنَاكَ رجل
تَنْبِيه لَو وجد الرجل ثوب حَرِير فَقَط لزمَه السّتْر بِهِ وَلَا يلْزمه قطع مَا زَاد من على الْعَوْرَة وَيقدم على الْمُتَنَجس للصَّلَاة وَيقدم الْمُتَنَجس عَلَيْهِ فِي غَيرهَا مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَى طَهَارَة الثَّوْب وَلَو صلت أمة مكشوفة الرَّأْس فعتقت فِي صلَاتهَا وَوجدت ستْرَة وَجب عَلَيْهَا أَن تستر رَأسهَا بهَا فَإِن لم تَجِد مَا تستر بِهِ رَأسهَا بنت على صلَاتهَا وَيسن للرجل أَن يلبس للصَّلَاة أحسن ثِيَابه وَأَن يُصَلِّي فِي ثَوْبَيْنِ لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} والثوبان أهم الزِّينَة وَلخَبَر إِذا صلى أحدكُم فليلبس ثوبيه فَإِن الله تَعَالَى أَحَق أَن يتزين لَهُ وَيكرهُ أَن يُصَلِّي فِي ثوب فِيهِ صُورَة وَأَن يُصَلِّي الرجل متلثما وَالْمَرْأَة منتقبة إِلَّا أَن تكون فِي مَكَان وَهُنَاكَ أجانب لَا يحترزون عَن النّظر إِلَيْهَا فَلَا يجوز لَهَا رفع النقاب وَيجب أَن يكون السّتْر (بلباس طَاهِر) حَيْثُ قدر عَلَيْهِ
القَوْل فِي من عجز عَن الثَّوْب للستر فَإِن عجز عَنهُ أَو وجده متنجسا وَعجز عَمَّا يطهره بِهِ أَو حبس فِي مَكَان نجس وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا ثوب لَا يَكْفِيهِ للعورة وللمكان صلى عَارِيا فِي هَذِه الصُّور الثَّلَاث وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ إِذا قدر
وَلَو وجد ثوبا لغيره حرم عَلَيْهِ لبسه وَأَخذه مِنْهُ قهرا وَلَا يلْزمه قبُول هِبته للمنة على الْأَصَح بل يُصَلِّي عَارِيا وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَلَو أَعَارَهُ لَهُ لزمَه قبُوله لضعف الْمِنَّة فَإِن لم يقبل لم تصح صلَاته لقدرته على الستْرَة وَلَو بَاعه إِيَّاه أَو آجره فَهُوَ كَالْمَاءِ فِي التَّيَمُّم
القَوْل فِي الْوُقُوف على مَكَان طَاهِر (و) الثَّالِث (الْوُقُوف على مَكَان طَاهِر) فَلَا تصح صَلَاة شخص يلاقي بعض بدنه أَو لِبَاسه نَجَاسَة فِي قيام أَو قعُود أَو رُكُوع أَو سُجُود
القَوْل فِي الْعلم بِدُخُول الْوَقْت ومراتبه (و) الرَّابِع (الْعلم بِدُخُول الْوَقْت) الْمَحْدُود شرعا فَإِن جَهله لعَارض كغيم أَو حبس فِي مَوضِع مظلم وَعدم ثِقَة يُخبرهُ عَن علم اجْتهد جَوَازًا إِن قدر على الْيَقِين بِالصبرِ أَو الْخُرُوج ورؤية الشَّمْس مثلا وَإِلَّا فوجوبا بورد من قُرْآن ودرس ومطالعة وَصَلَاة وَنَحْو ذَلِك كخياطة وَصَوت ديك مجرب وَسَوَاء الْبَصِير وَالْأَعْمَى وَعمل على الْأَغْلَب فِي ظَنّه وَإِن قدر على الْيَقِين بِالصبرِ أَو غَيره كالخروج لرؤية الْفجْر وللأعمى كالبصير الْعَاجِز تَقْلِيد مُجْتَهد لعَجزه فِي الْجُمْلَة أما إِذا أخبرهُ ثِقَة من رجل أَو امْرَأَة وَلَو رَقِيقا(1/124)
بِدُخُولِهِ عَن علم أَي مُشَاهدَة كَأَن قَالَ رَأَيْت الْفجْر طالعا أَو الشَّفق غاربا فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بقوله إِن لم يُمكنهُ الْعلم بِنَفسِهِ وَجَاز إِن أمكنه وَفِي الْقبْلَة لَا يعْتَمد الْمخبر عَن علم إِلَّا إِذا تعذر علمه وَفرق بَينهمَا بِتَكَرُّر الْأَوْقَات فيعسر الْعلم بِكُل وَقت بِخِلَاف الْقبْلَة فَإِنَّهُ إِذا علم عينهَا مرّة اكْتفى بهَا مَا دَامَ مُقيما بمحله فَلَا عسر وَلَا يجوز لَهُ أَن يُقَلّد من أخبرهُ عَن اجْتِهَاد لِأَن الْمُجْتَهد لَا يُقَلّد مُجْتَهدا حَتَّى لَو أخبرهُ عَن اجْتِهَاد أَن صلَاته وَقعت قبل الْوَقْت لم يلْزمه إِعَادَتهَا وَهل يجوز للبصير تَقْلِيد الْمُؤَذّن الثِّقَة الْعَارِف أَو لَا
قَالَ الرَّافِعِيّ يجوز فِي الصحو دون الْغَيْم لِأَنَّهُ فِيهِ مُجْتَهد وَهُوَ لَا يُقَلّد مُجْتَهدا وَفِي الصحو مخبر عَن عيان وَصحح النَّوَوِيّ جَوَاز تَقْلِيده فِيهِ أَيْضا وَنَقله عَن النَّص فَإِنَّهُ لَا يُؤذن فِي الْعَادة إِلَّا فِي الْوَقْت فَلَا يتقاعد عَن الديك المجرب
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ وَلَعَلَّه إِجْمَاع الْمُسلمين وَلَو كثر المؤذنون وَغلب على الظَّن إصابتهم جَازَ اعتمادهم مُطلقًا بِلَا خلاف وَلَو صلى بِلَا اجْتِهَاد أعَاد مُطلقًا لتَركه الْوَاجِب وعَلى الْمُجْتَهد التَّأْخِير حَتَّى يغلب على ظَنّه دُخُول الْوَقْت وتأخيره إِلَى خوف الْفَوات أفضل وَيعْمل المنجم بِحِسَابِهِ جَوَازًا وَلَا يقلده غَيره على الْأَصَح فِي التَّحْقِيق وَغَيره والحاسب وَهُوَ من يعْتَمد منَازِل النُّجُوم وَتَقْدِير سَيرهَا فِي معنى المنجم وَهُوَ من يرى أَن أول الْوَقْت طُلُوع النَّجْم الْفُلَانِيّ كَمَا يُؤْخَذ من نَظِيره فِي الصَّوْم
القَوْل فِي الْقبْلَة ومراتها (وَفِي) الْخَامِس (اسْتِقْبَال الْقبْلَة) بالصدر لَا بِالْوَجْهِ لقَوْله تَعَالَى {فول وَجهك شطر} أَي نَحْو {الْمَسْجِد الْحَرَام} والاستقبال لَا يجب فِي غير الصَّلَاة فَتعين أَن يكون فِيهَا
وَقد ورد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للمسيء صلَاته وَهُوَ خَلاد بن رَافع الزرقي الْأنْصَارِيّ إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فأسبغ الْوضُوء ثمَّ اسْتقْبل الْقبْلَة
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركع رَكْعَتَيْنِ قبل الْكَعْبَة أَي وَجههَا
وَقَالَ هَذِه الْقبْلَة مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي
فَلَا تصح الصَّلَاة بِدُونِهِ إِجْمَاعًا وَالْفَرْض فِي الْقبْلَة إِصَابَة الْعين فِي الْقرب يَقِينا وَفِي الْبعد ظنا فَلَا تَكْفِي إِصَابَة الْجِهَة لهَذِهِ الْأَدِلَّة فَلَو خرج عَن محاذاة الْكَعْبَة بِبَعْض بدنه بِأَن وقف بطرفها وَخرج عَنهُ بِبَعْضِه بطلت صلَاته وَلَو امْتَدَّ صف طَوِيل بِقرب الْكَعْبَة وَخرج بَعضهم عَن الْمُحَاذَاة بطلت صلَاته لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقْبلا لَهَا وَلَا شكّ أَنهم إِذا بعدوا عَنْهَا حاذوها وَصحت صلَاتهم وَإِن طَال الصَّفّ لِأَن صَغِير الحجم كلما زَاد بعده زَادَت محاذاته كغرض الرُّمَاة وَاسْتشْكل بِأَن ذَلِك إِنَّمَا يحصل مَعَ الانحراف وَلَو اسْتقْبل الرُّكْن صَحَّ كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبل للْبِنَاء المجاور للركن وَإِن كَانَ بعض بدنه خَارِجا عَن الرُّكْن من الْجَانِبَيْنِ بِخِلَاف مَا لَو اسْتقْبل الْحجر بِكَسْر الْحَاء فَقَط فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي لِأَن كَونه من الْبَيْت مظنون لَا مَقْطُوع بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا ثَبت بالآحاد
تَنْبِيه أسقط المُصَنّف شرطا سادسا وَهُوَ الْعلم بكيفية الصَّلَاة بِأَن يعلم فرضيتها ويميز فَرضهَا من سننها نعم إِن اعتقدها كلهَا فرضا أَو بَعْضهَا وَلم يُمَيّز وَكَانَ عاميا وَلم يقْصد فرضا بنفل صحت
القَوْل فِي الصَّلَاة الَّتِي يجوز ترك الْقبْلَة فِيهَا (وَيجوز) للْمُصَلِّي (ترك) اسْتِقْبَال (الْقبْلَة فِي حالتين) الْحَالة الأولى (فِي) صَلَاة (شدَّة الْخَوْف) فِيمَا يُبَاح من قتال أَو غَيره فرضا كَانَت أَو نفلا فَلَيْسَ التَّوَجُّه بِشَرْط فِيهَا لقَوْله تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا}
قَالَ ابْن عمر مستقبلي الْقبْلَة وَغير مستقبليها رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير
قَالَ فِي الْكِفَايَة نعم إِن قدر أَن يُصَلِّي قَائِما إِلَى غير الْقبْلَة وراكبا إِلَى الْقبْلَة وَجب الِاسْتِقْبَال رَاكِبًا لِأَنَّهُ آكِد من الْقيم لِأَن الْقيام يسْقط فِي النَّافِلَة بِغَيْر عذر بِخِلَاف الِاسْتِقْبَال(1/125)
(و) الْحَالة الثَّانِيَة فِي (النَّافِلَة فِي السّفر) الْمُبَاح لقاصد مَحل معِين لِأَن النَّفْل يتوسع فِيهِ كجوازه قَاعِدا للقادر فللمسافر الْمَذْكُور التَّنَفُّل مَاشِيا وَكَذَا (على الرَّاحِلَة) لحَدِيث جَابر كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي على رَاحِلَته حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ
أَي فِي جِهَة مقْصده فَإِذا أَرَادَ الْفَرِيضَة نزل فَاسْتقْبل الْقبْلَة رَوَاهُ البُخَارِيّ وَجَاز للماشي قِيَاسا على الرَّاكِب بل أولى
وَالْحكمَة فِي التَّخْفِيف فِي ذَلِك على الْمُسَافِر أَن النَّاس محتاجون إِلَى الْأَسْفَار فَلَو شَرط فِيهَا الِاسْتِقْبَال للنفل لَأَدَّى إِلَى ترك أورادهم أَو مصَالح مَعَايشهمْ فَخرج بذلك النَّفْل فِي الْحَضَر فَلَا يجوز وَإِن احْتِيجَ للتردد كَمَا فِي السّفر لعدم وُرُوده
تَنْبِيه يشْتَرط فِي حق الْمُسَافِر تِلْكَ الْأَفْعَال الْكَثِيرَة من غير عذر كالركض والعدو وَلَا يشْتَرط طول سَفَره لعُمُوم الْحَاجة قِيَاسا على ترك الْجُمُعَة وَالسّفر الْقصير قَالَ القَاضِي وَالْبَغوِيّ مثل أَن يخرج إِلَى مَكَان لَا تلْزمهُ فِيهِ الْجُمُعَة لعدم سَماع النداء
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَغَيره مثل أَن يخرج إِلَى ضَيْعَة مسيرتها ميل أَو نَحوه وهما متقاربان فَإِن سهل توجه رَاكب غير ملاح بمرقد كهودج وسفينة فِي جَمِيع صلَاته وإتمام الْأَركان كلهَا أَو بَعْضهَا لزمَه ذَلِك لتيسيره عَلَيْهِ فَإِن لم يسهل ذَلِك لم يلْزمه إِلَّا توجه فِي تحرمه إِن سهل بِأَن تكون الدَّابَّة واقفة وَأمكن انحرافه عَلَيْهَا أَو تحريفها أَو سائرة وَبِيَدِهِ زمامها وَهِي سهلة فَإِن لم يسهل ذَلِك بِأَن تكون صعبة أَو مقطورة وَلم يُمكنهُ انحرافه عَلَيْهَا وَلَا تحريفها لم يلْزمه تَحْرِيف للْمَشَقَّة واختلال أَمر السّير عَلَيْهِ
أما ملاح السَّفِينَة وَهُوَ مسيرها فَلَا يلْزمه توجه لِأَن تَكْلِيفه ذَلِك يقطعهُ عَن النَّفْل أَو عمله وَلَا ينحرف عَن صوب طَرِيقه إِلَّا إِلَى الْقبْلَة لِأَنَّهَا الأَصْل فَإِن انحرف إِلَى غَيرهَا عَالما مُخْتَارًا بطلت صلَاته وَكَذَا النسْيَان أَو خطأ طَرِيق أَو جماع دَابَّة إِن طَال الزَّمن وَإِلَّا فَلَا
وَلَكِن يسن أَن يسْجد للسَّهْو لِأَن عمد ذَلِك يبطل وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
وَفِي ذَلِك خلاف فِي كَلَام الشَّيْخَيْنِ ويكفيه إِيمَاء فِي رُكُوعه وَسُجُوده وَيكون سُجُوده أَخفض من رُكُوعه لِلِاتِّبَاعِ والماشي يتم رُكُوعه وَسُجُوده وَيتَوَجَّهُ فيهمَا وَفِي تحرمه وجلوسه بَين سجدتيه وَلَو صلى فرضا عينيا أَو غَيره على دَابَّة واقفة وَتوجه للْقبْلَة وَأتم الْفَرْض جَازَ وَإِن لم تكن معقولة وَإِلَّا فَلَا يجوز لِأَن سير الدَّابَّة مَنْسُوب إِلَيْهِ
القَوْل فِي مَرَاتِب الْقبْلَة وَتعلم أدلتها وَمن صلى فِي الْكَعْبَة فرضا أَو نفلا أَو على سطحها
وَتوجه شاخصا مِنْهَا كعتبتها ثُلثي ذِرَاع تَقْرِيبًا جَازَ مَا صلاه وَمن أمكنه علم الْقبْلَة وَلَا حَائِل بَينه وَبَينهَا لم يعْمل بِغَيْرِهِ فَإِن لم يُمكنهُ اعْتمد ثِقَة يُخبرهُ عَن علم كَقَوْلِه أَنا أشاهد الْكَعْبَة وَلَيْسَ لَهُ أَن يجْتَهد مَعَ وجود إخْبَاره وَفِي مَعْنَاهُ رُؤْيَة محاريب الْمُسلمين بِبَلَد كَبِير أَو صَغِير يكثر طارقوه فَإِن فقد الثِّقَة الْمَذْكُور وَأمكنهُ اجْتِهَاد اجْتهد لكل فرض إِن لم يذكر الدَّلِيل الأول فَإِن ضَاقَ الْوَقْت عَن الِاجْتِهَاد أَو تحير صلى إِلَى أَي جِهَة شَاءَ وَأعَاد(1/126)
وجوبا فَإِن عجز عَن الِاجْتِهَاد وَلم يُمكنهُ تعلم كأعمى الْبَصَر أَو البصيرة قلد ثِقَة عَارِفًا بأدلتها وَمن أمكنه تعلم أدلتها لزمَه تعلمهَا وتعلمها فرض عين لسفر فَإِن ضَاقَ الْوَقْت عَن تعلمهَا صلى كَيفَ كَانَ وَأعَاد وجوبا وَفرض كِفَايَة لحضر وَقيد السُّبْكِيّ السّفر بِمَا يقل فِيهِ الْعَارِف بالأدلة فَإِن كثر كركب الْحَاج فكالحضر وَمن صلى بِاجْتِهَاد فتيقن خطأ معينا أعَاد صلَاته وجوبا فَإِن تيقنه فِيهَا استأنفها وَإِن تغير اجْتِهَاده ثَانِيًا عمل بِالثَّانِي وجوبا إِن ترجح سَوَاء أَكَانَ فِي الصَّلَاة أم لَا وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ لما فعله بِالْأولِ حَتَّى لَو(1/127)
صلى أَربع رَكْعَات لأَرْبَع جِهَات بِالِاجْتِهَادِ أَربع مَرَّات فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ لِأَن كل رَكْعَة مُؤَدَّاة بِاجْتِهَاد وَلم يتَعَيَّن فِيهَا الْخَطَأ فَإِن اسْتَويَا وَلم يكن فِي صَلَاة تخير بَينهمَا إِذْ لَا مزية لأَحَدهمَا على الآخر وَإِن كَانَ فِيهَا عمل بِالْأولِ وجوبا كَمَا نَقله فِي أصل الرَّوْضَة عَن الْبَغَوِيّ وَفَارق حكم التَّسَاوِي قبلهَا بِأَنَّهُ هُنَا الْتزم بِدُخُولِهِ فِيهَا جِهَة فَلَا يتَحَوَّل إِلَّا بأرجح وَشرط الْعَمَل الثَّانِي فِي الصَّلَاة أَن يظنّ الصَّوَاب مُقَارنًا لظُهُور الْخَطَأ فَإِن لم يَظُنّهُ مُقَارنًا بطلت صلَاته وَإِن قدر على الصَّوَاب عَن قرب لمضي جُزْء من صلَاته إِلَى غير قبْلَة وَلَا يجْتَهد فِي محاريب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِهَة وَلَا يمنة وَلَا يسرة وَلَا فِي محاريب الْمُسلمين جِهَة
فصل فِي أَرْكَان الصَّلَاة وسننها وهيئاتها
وَتقدم معنى الرُّكْن لُغَة وَاصْطِلَاحا وَالْفرق بَين الرُّكْن وَالشّرط (وأركان الصَّلَاة ثَمَانِيَة عشر ركنا) وَهَذَا مَا فِي التَّنْبِيه فَجعل الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع والاعتدال وَالْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ وَفِي السَّجْدَتَيْنِ وَنِيَّة الْخُرُوج أركانا وَفِي بعض النّسخ سَبْعَة عشر وَهُوَ مَا فِي الرَّوْضَة وَالتَّحْقِيق لِأَن الْأَصَح أَن نِيَّة الْخُرُوج لَا تجب وَجعلهَا فِي الْمِنْهَاج ثَلَاثَة عشر كَمَا فِي الْمُحَرر بِجعْل الطُّمَأْنِينَة كالهيئة التابعة وَجعلهَا فِي الْحَاوِي أَرْبَعَة عشر فَزَاد الطُّمَأْنِينَة إِلَّا أَنه جعلهَا فِي الْأَركان الْأَرْبَعَة ركنا وَاحِدًا وَالْخلف بَينهم لَفْظِي فَمن لم يعد الطُّمَأْنِينَة ركنا جعلهَا فِي كل ركن كالجزء مِنْهُ وكالهيئة التابعة لَهُ وَيُؤَيِّدهُ كَلَامهم فِي(1/128)
التَّقَدُّم والتأخر بِرُكْن أَو أَكثر وَبِه يشْعر خبر إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة الْآتِي
وَمن عدهَا أركانا فَذَاك لاستقلالها وَصدق اسْم السُّجُود وَنَحْوه بِدُونِهَا وَجعلت أركانا لتغايرها باخْتلَاف محلهَا وَمن جعلهَا ركنا وَاحِدًا فلكونها جِنْسا وَاحِدًا كَمَا عدوا السَّجْدَتَيْنِ ركنا لذَلِك
الأول (النِّيَّة) لِأَنَّهَا وَاجِبَة فِي بعض الصَّلَاة وَهُوَ أَولهَا لَا فِي جَمِيعهَا فَكَانَت ركنا كالتكبير وَالرُّكُوع
وَقيل هِيَ شَرط لِأَنَّهَا عبارَة عَن قصد فعل الصَّلَاة فَتكون خَارج الصَّلَاة وَلِهَذَا قَالَ الْغَزالِيّ هِيَ بِالشّرطِ أشبه
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَالْإِخْلَاص فِي كَلَامهم النِّيَّة
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امرىء مَا نوى
وأجمعت الْأمة على اعْتِبَار النِّيَّة فِي الصَّلَاة وَبَدَأَ بهَا لِأَن الصَّلَاة لَا تَنْعَقِد إِلَّا بهَا فَإِذا أَرَادَ أَن يُصَلِّي فرضا وَلَو نذرا أَو قَضَاء أَو كِفَايَة وَجب قصد فعلهَا لتتميز عَن سَائِر الْأَفْعَال وتعيينها لتتميز عَن سَائِر الصَّلَوَات وَتجب نِيَّة الْفَرْضِيَّة لتتميز عَن النَّفْل وَلَا تجب فِي صَلَاة الصَّبِي كَمَا صَححهُ فِي التَّحْقِيق وَصَوَّبَهُ فِي الْمَجْمُوع خلافًا لما فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا لِأَن صلَاته تقع نفلا فَكيف يَنْوِي الْفَرْضِيَّة وَلَا تجب الْإِضَافَة إِلَى الله تَعَالَى لِأَن الْعِبَادَة لَا تكون إِلَّا لَهُ تَعَالَى وتستحب ليتَحَقَّق معنى الْإِخْلَاص وتستحب نِيَّة اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَعدد الرَّكْعَات وَلَو غير الْعدَد كَأَن نوى الظّهْر ثَلَاثًا أَو خمْسا لم تَنْعَقِد
وَتَصِح نِيَّة الْأَدَاء بنية الْقَضَاء وَعَكسه عِنْد جهل الْوَقْت لغيم أَو نَحوه كَأَن ظن خُرُوج الْوَقْت فَصلاهَا قَضَاء فَبَان وقته أَو ظن بَقَاء الْوَقْت فَصلاهَا أَدَاء فَبَان خُرُوجه لاستعمال كل بِمَعْنى الآخر تَقول قضيت الدّين وأديته بِمَعْنى وَاحِد
قَالَ تَعَالَى {فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم} أَي أديتم أما إِذا فعل ذَلِك عَالما فَلَا تصح صلَاته لتلاعبه كَمَا نَقله فِي الْمَجْمُوع عَن تصريحهم
نعم إِن قصد بذلك الْمَعْنى اللّغَوِيّ لم يضرّهُ كَمَا قَالَه فِي الْأَنْوَار وَلَا يشْتَرط التَّعَرُّض للْوَقْت فَلَو عين الْيَوْم وَأَخْطَأ لم يضر كَمَا هُوَ قَضِيَّة كَلَام أصل الرَّوْضَة
وَمن عَلَيْهِ فوائت لَا يشْتَرط أَن يَنْوِي ظهر يَوْم كَذَا بل يَكْفِيهِ نِيَّة الظّهْر أَو الْعَصْر وَالنَّفْل ذُو الْوَقْت أَو ذُو السَّبَب كالفرض فِي اشْتِرَاط قصد فعل الصَّلَاة وتعيينها كَصَلَاة الْكُسُوف وراتبة الْعشَاء
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وكسنة الظّهْر الَّتِي قبلهَا أَو الَّتِي بعْدهَا وَالْوتر صَلَاة مُسْتَقلَّة فَلَا يُضَاف إِلَى الْعشَاء فَإِن أوتر بِوَاحِدَة أَو بِأَكْثَرَ ووصلى نوى الْوتر وَإِن فصل نوى بالواحدة الْوتر
وَيتَخَيَّر فِي غَيرهَا بَين نِيَّة صَلَاة اللَّيْل أَو مُقَدّمَة الْوتر وسنته وَهِي أولى أَو رَكْعَتَيْنِ من الْوتر على الْأَصَح هَذَا إِذا نوى عددا فَإِن قَالَ أُصَلِّي الْوتر وَأطلق صَحَّ وَيحمل على مَا يُريدهُ من رَكْعَة إِلَى إِحْدَى عشرَة وترا وَلَا تشْتَرط نِيَّة النفلية
وَيَكْفِي فِي النَّفْل الْمُطلق وَهُوَ الَّذِي لَا يتَقَيَّد بِوَقْت وَلَا سَبَب نِيَّة فعل الصَّلَاة
وَالنِّيَّة بِالْقَلْبِ بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهَا الْقَصْد فَلَا يَكْفِي النُّطْق مَعَ غَفلَة الْقلب بِالْإِجْمَاع وَفِي سَائِر الْأَبْوَاب كَذَلِك وَلَا يضر النُّطْق بِخِلَاف مَا فِي الْقلب كَأَن قصد الصُّبْح وَسبق لِسَانه إِلَى الظّهْر وَينْدب النُّطْق بالمنوي قبيل التَّكْبِير ليساعد اللِّسَان الْقلب وَلِأَنَّهُ أبعد عَن الوسواس وَلَو عقب النِّيَّة بِلَفْظ إِن شَاءَ الله أَو نَوَاهَا وَقصد بذلك التَّبَرُّك أَو أَن الْفِعْل وَاقع بِمَشِيئَة الله لم يضر أَو التَّعْلِيق أَو أطلق لم يَصح للمنافاة
(فَائِدَة) لَو قَالَ شخص لآخر صل فرضك وَلَك عَليّ دِينَار فصلى بِهَذِهِ النِّيَّة لم يسْتَحق الدِّينَار وأجزأته صلَاته وَلَو نوى الصَّلَاة وَدفع الْغَرِيم صحت صلَاته لِأَن دَفعه حَاصِل وَإِن لم يُنَوّه بِخِلَاف مَا لَو نوى بِصَلَاتِهِ فرضا ونفلا غير تَحِيَّة وَسنة وضوء لتشريكه بَين عبادتين لَا تندرج إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى
وَلَو قَالَ أُصَلِّي لثواب الله تَعَالَى أَو للهرب من عِقَابه صحت صلَاته خلافًا للفخر الرَّازِيّ(1/129)
(و) الثَّانِي من أَرْكَان الصَّلَاة (الْقيام) فِي الْفَرْض (مَعَ الْقُدْرَة) عَلَيْهِ وَلَو بِمعين بِأُجْرَة فاضلة عَن مُؤْنَته وَمؤنَة ممونه يَوْمه وَلَيْلَته فَيجب حَالَة الْإِحْرَام بِهِ لخَبر البُخَارِيّ عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ كَانَت بِي بواسير فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة فَقَالَ صل قَائِما فَإِن لم تستطع فقاعدا فَإِن لم تستطع فعلى جنب زَاد النَّسَائِيّ فَإِن لم تستطع فمستلقيا لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا
وأجمعت الْأمة على ذَلِك وَهُوَ مَعْلُوم من الدّين بِالضَّرُورَةِ وَخرج بِالْفَرْضِ النَّفْل وبالقادر الْعَاجِز
وَقد يفهم من ذَلِك صِحَة صَلَاة الصَّبِي الْفَرْض قَاعِدا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام وَالأَصَح كَمَا فِي الْبَحْر خِلَافه
وَمثل صَلَاة الصَّبِي الصَّلَاة الْمُعَادَة وَاسْتثنى بَعضهم من ذَلِك مسَائِل الأولى مَا لَو خَافَ رَاكب السَّفِينَة غرقا أَو دوران رَأس فَإِنَّهُ يُصَلِّي من قعُود وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ
وَالثَّانيَِة مَا لَو كَانَ بِهِ سَلس بَوْل لَو قَامَ سَالَ بَوْله وَإِن قعد لم يسل فَإِنَّهُ يُصَلِّي من قعُود على الْأَصَح بِلَا إِعَادَة وَمِنْهَا مَا لَو قَالَ طَبِيب ثِقَة لمن بِعَيْنِه مَاء إِن صليت مُسْتَلْقِيا أمكن مداواتك فَلهُ ترك الْقيام على الْأَصَح
وَلَو أمكن الْمَرِيض الْقيام مُنْفَردا بِلَا مشقة وَلم يُمكنهُ ذَلِك فِي جمَاعَة إِلَّا بِأَن يُصَلِّي بَعْضهَا قَاعِدا فَالْأَفْضَل الِانْفِرَاد وَتَصِح مَعَ الْجَمَاعَة وَإِن قعد فِي بَعْضهَا كَمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة
الثَّالِثَة مَا لَو كَانَ للغزاة رَقِيب يرقب الْعَدو وَلَو قَامَ لرآه الْعَدو أَو جلس الْغُزَاة فِي مكمن وَلَو قَامُوا لرآهم الْعَدو وَفَسَد تَدْبِير الْحَرْب صلوا قعُودا وَوَجَبَت الْإِعَادَة على الْمَذْهَب لندرة ذَلِك
لَا إِن خَافُوا قصد الْعَدو لَهُم فَلَا تلزمهم الْإِعَادَة كَمَا صَححهُ فِي التَّحْقِيق
وَالْفرق بَين مَا هُنَا وَبَين مَا مر أَن الْعذر هُنَا أعظم مِنْهُ ثمَّ وَفِي الْحَقِيقَة لَا اسْتثِْنَاء لِأَن من ذكر عَاجز إِمَّا لضَرُورَة التَّدَاوِي أَو خوف الْغَرق أَو الْخَوْف على الْمُسلمين أَو نَحْو ذَلِك
فَإِن قيل لم أخر الْقيام عَن النيه مَعَ أَنه مقدم عَلَيْهَا أُجِيب بِأَنَّهَا ركن فِي الصَّلَاة مُطلقًا وَهُوَ ركن فِي الْفَرِيضَة فَقَط فَلذَلِك قدمت عَلَيْهِ
وَشرط الْقيام نصب ظهر الْمُصَلِّي لِأَن اسْم الْقيام دائر مَعَه فَإِن وقف منحنيا إِلَى قدامه أَو خَلفه أَو مائلا إِلَى يَمِينه أَو يسَاره بِحَيْثُ لَا يُسمى قَائِما لم يَصح قِيَامه لتَركه الْوَاجِب بِلَا عذر والانحناء السالب للاسم أَن يصير إِلَى الرُّكُوع أقرب كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَلَو اسْتندَ إِلَى شَيْء كجدار أَجزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَة وَلَو تحامل عَلَيْهِ وَكَانَ بِحَيْثُ لَو رفع مَا اسْتندَ إِلَيْهِ لسقط لوُجُود اسْم الْقيام وَإِن كَانَ بِحَيْثُ يرفع قَدَمَيْهِ إِن شَاءَ وَهُوَ مُسْتَند لم يَصح لِأَنَّهُ لَا يُسمى قَائِما بل مُعَلّق نَفسه فَإِن عجز عَن ذَلِك وَصَارَ كراكع لكبر أَو غَيره وقف وجوبا كَذَلِك لقُرْبه من الانتصاب وَزَاد وجوبا انحناءه لركوعه إِن قدر على الزِّيَادَة ليتميز الركنان وَلَو أمكنه الْقيام مُتكئا على شَيْء أَو الْقيام على رُكْبَتَيْهِ لزمَه ذَلِك لِأَنَّهُ ميسوره وَلَو عجز عَن رُكُوع وَسُجُود دون قيام قَامَ وجوبا وَفعل مَا أمكنه فِي انحنائه لَهما بصلبه فَإِن عجز فبرقبته وَرَأسه فَإِن عجز أَوْمَأ إِلَيْهِمَا أَو عجز عَن قيام بلحوق مشقة شَدِيدَة قعد كَيفَ شَاءَ وافتراشه أفضل من تربعه وَغَيره لِأَنَّهُ قعُود عبَادَة
وَيكرهُ الإقعاء فِي قعدات الصَّلَاة بِأَن يجلس الْمُصَلِّي على وركيه ناصبا رُكْبَتَيْهِ للنَّهْي(1/130)
عَن الإقعاء فِي الصَّلَاة رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ
وَمن الإقعاء نوع مسنون بَين السَّجْدَتَيْنِ وَإِن كَانَ الافتراش أفضل مِنْهُ وَهُوَ أَن يضع أَطْرَاف أَصَابِع رجلَيْهِ وَيَضَع أليتيه على عَقِبَيْهِ ثمَّ ينحني الْمُصَلِّي قَاعِدا لركوعه إِن قدر وَأقله أَن ينحني إِلَى أَن تحاذي جَبهته مَا قُدَّام رُكْبَتَيْهِ وأكمله أَن تحاذي جَبهته مَحل سُجُوده وركوع الْقَاعِد فِي النَّفْل كَذَلِك فَإِن عجز عَن الْقعُود اضْطجع على جنبه وجوبا لخَبر عمرَان السَّابِق وَسن على الْأَيْمن فَإِن عجز عَن الْجنب اسْتلْقى على ظَهره رَافعا رَأسه بِأَن يرفعهُ قَلِيلا بِشَيْء ليتوجه إِلَى الْقبْلَة بِوَجْهِهِ ومقدم بدنه إِلَّا أَن يكون فِي الْكَعْبَة وَهِي مسقوفة ويركع وَيسْجد بِقدر إِمْكَانه فَإِن قدر الْمُصَلِّي على الرُّكُوع فَقَط كَرَّرَه للسُّجُود وَمن قدر على زِيَادَة على أكمل الرُّكُوع تعيّنت تِلْكَ الزِّيَادَة للسُّجُود لِأَن الْفرق بَينهمَا وَاجِب على المتمكن وَلَو عجز عَن السُّجُود إِلَّا أَن يسْجد بِمقدم رَأسه أَو صُدْغه وَكَانَ بذلك أقرب إِلَى الأَرْض وَجب فَإِن عجز عَن ذَلِك أَوْمَأ بِرَأْسِهِ
وَالسُّجُود أَخفض من الرُّكُوع فَإِن عجز فببصره فَإِن عجز أجْرى أَفعَال الصَّلَاة بسننها على قلبه وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ
وَلَا تسْقط عَنهُ الصَّلَاة وعقله ثَابت لوُجُود منَاط التَّكْلِيف وللقادر على الْقيام النَّفْل قَاعِدا سَوَاء الرَّوَاتِب وَغَيرهَا وَمَا تسن فِيهِ الْجَمَاعَة كالعيد وَمَا لَا تسن فِيهِ ومضطجعا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام وعَلى الْقعُود لحَدِيث البُخَارِيّ من صلى قَائِما فَهُوَ أفضل وَمن صلى قَاعِدا فَلهُ نصف أجر الْقَائِم وَمن صلى نَائِما أَي مُضْطَجعا فَلهُ نصف أجر الْقَاعِد وَيلْزمهُ أَن يقْعد للرُّكُوع وَالسُّجُود فَإِن اسْتلْقى مَعَ إِمْكَان الِاضْطِجَاع لم تصح صلَاته
وَمحل نُقْصَان أجر الْقَاعِد والمضطجع عِنْد الْقُدْرَة وَإِلَّا لم ينقص من أجرهما شَيْء
وَالثَّالِث من أَرْكَان الصَّلَاة (تَكْبِيرَة الْإِحْرَام) بشروطها وَهِي إيقاعها بعد الانتصاب فِي الْفَرْض باللغة الْعَرَبيَّة للقادر عَلَيْهَا وَلَفظ الْجَلالَة وَلَفظ أكبر وَتَقْدِيم لفظ الْجَلالَة على أكبر وَعدم مد همزَة الْجَلالَة وَعدم مد بَاء أكبر وَعدم تشديدها وَعدم زِيَادَة وَاو سَاكِنة أَو متحركة بَين الْكَلِمَتَيْنِ وَعدم وَاو قبل الْجَلالَة وَعدم وَقْفَة طَوِيلَة بَين كلمتيه كَمَا قَيده الزَّرْكَشِيّ فِي شرح التَّنْبِيه
وَمُقْتَضَاهُ أَن الْيَسِيرَة لَا تضر وَبِه صرح فِي الْحَاوِي الصَّغِير وَأقرهُ عَلَيْهِ ابْن الملقن فِي شَرحه وَأَن يسمع نَفسه جَمِيع حروفها إِن كَانَ صَحِيح السّمع وَلَا مَانع من لغط وَغَيره وَإِلَّا فيرفع صَوته بِقدر مَا يسمعهُ لَو لم يكن أَصمّ وَدخُول وَقت الْفَرْض لتكبيرة الْفَرَائِض وَالنَّفْل الْمُؤَقت وَذي السَّبَب وإيقاعها حَال الِاسْتِقْبَال حَيْثُ شرطناه وتأخيرها عَن تَكْبِيرَة الإِمَام فِي حق الْمُقْتَدِي فَهَذِهِ خَمْسَة عشر شرطا إِن اخْتَلَّ وَاحِد مِنْهَا لم تَنْعَقِد صلَاته
وَدَلِيل وجوب التَّكْبِير خبر الْمُسِيء صلَاته إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَكبر ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تطمئِن جَالِسا ثمَّ افْعَل ذَلِك فِي صَلَاتك كلهَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ والاتباع مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي
وَلَا تضر زِيَادَة لَا تمنع اسْم التَّكْبِير كالله الْأَكْبَر لِأَنَّهَا تدل على زِيَادَة مُبَالغَة فِي التَّعْظِيم وَهُوَ الْإِشْعَار بالتخصيص وَكَذَا الله أكبر وَأجل أَو الله الْجَلِيل الْأَكْبَر وَكَذَا كل صفة من صِفَاته تَعَالَى إِن لم يطلّ بهَا الْفَصْل فَإِن طَال كالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك القدوس أكبر ضرّ
وَلَو لم يجْزم الرَّاء من أكبر لم يضر خلافًا لما اقْتَضَاهُ كَلَام ابْن يُونُس فِي شرح التَّنْبِيه وَاسْتدلَّ لَهُ الدَّمِيرِيّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّكْبِير جزم اه
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر إِن هَذَا لَا أصل لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ قَول النَّخعِيّ وعَلى تَقْدِير وجوده فَمَعْنَاه عدم التَّرَدُّد فِيهِ
وَيسن(1/131)
أَن لَا يقصر التَّكْبِير بِحَيْثُ لَا يفهم وَأَن لَا يمططه بِأَن يُبَالغ فِي مده بل يَأْتِي بِهِ مُبينًا والإسراع بِهِ أولى من مده لِئَلَّا تَزُول النِّيَّة وَأَن يجْهر بتكبيرة الْإِحْرَام وتكبيرات الِانْتِقَالَات ليسمع الْمَأْمُومين فيعلموا صلَاته بِخِلَاف غَيره من مَأْمُوم ومنفرد فَالسنة فِي حَقه الْإِسْرَار نعم إِن لم يبلغ صَوت الإِمَام جَمِيع الْمَأْمُومين جهر بَعضهم ندبا وَاحِدًا أَو أَكثر بِحَسب الْحَاجة ليبلغ عَنهُ لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَرضه بِالنَّاسِ وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يسمعهم التَّكْبِير وَلَو كبر للْإِحْرَام تَكْبِيرَات نَاوِيا بِكُل مِنْهَا الِافْتِتَاح دخل فِي الصَّلَاة بالأوتار وَخرج مِنْهَا بالأشفاع لِأَن من افْتتح صَلَاة ثمَّ نوى افْتِتَاح صَلَاة أُخْرَى بطلت صلَاته هَذَا إِن لم ينْو بَين كل تكبيرتين خُرُوجًا أَو افتتاحا وَإِلَّا فَيخرج بِالنِّيَّةِ وَيدخل بِالتَّكْبِيرِ فَإِن لم ينْو بِغَيْر التَّكْبِيرَة الأولى شَيْئا لم يضر لِأَنَّهُ ذكر وَمحل مَا ذكر مَعَ الْعمد كَمَا قَالَه ابْن الرّفْعَة أما مَعَ السَّهْو فَلَا بطلَان
وَمن عجز وَهُوَ نَاطِق عَن النُّطْق بِالتَّكْبِيرِ بِالْعَرَبِيَّةِ ترْجم عَنْهَا بِأَيّ لُغَة شَاءَ وَوَجَب التَّعَلُّم إِن قدر عَلَيْهِ وَلَو بسفر إِلَى بلد آخر لِأَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب
فَائِدَة إِنَّمَا سميت هَذِه التَّكْبِيرَة تَكْبِيرَة الْإِحْرَام لِأَنَّهُ يحرم بهَا على الْمُصَلِّي مَا كَانَ حَلَالا لَهُ قبلهَا من مفسدات الصَّلَاة كَالْأَكْلِ وَالشرب وَالْكَلَام وَنَحْو ذَلِك وَيسن رفع يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام بِالْإِجْمَاع مُسْتَقْبلا بكفيه الْقبْلَة مميلا أَطْرَاف أصابعهما نَحْوهَا مفرقا أصابعهما تفريقا وسطا كاشفا لَهما ويرفعهما مُقَابل مَنْكِبَيْه لحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه إِذا افْتتح الصَّلَاة
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم معنى حَذْو مَنْكِبَيْه أَن تحاذي أَطْرَاف أَصَابِعه أَعلَى أُذُنَيْهِ وإبهاماه شحمتي أُذُنَيْهِ وراحتاه مَنْكِبَيْه
وَيجب قرن النِّيَّة بتكبيرة الْإِحْرَام لِأَنَّهَا أول الْأَركان بِأَن يقرنها بأوله ويستصحبها إِلَى آخِره
وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ فِي شرحي الْمُهَذّب والوسيط تبعا للْإِمَام وَالْغَزالِيّ الِاكْتِفَاء بالمقارنة الْعُرْفِيَّة عِنْد الْعَوام بِحَيْثُ يعد مستحضرا للصَّلَاة اقْتِدَاء بالأولين فِي تسامحهم بذلك وَقَالَ ابْن الرّفْعَة إِنَّه الْحق وَصَوَّبَهُ السُّبْكِيّ ولي بهما أُسْوَة والوسوسة عِنْد تَكْبِيرَة الْإِحْرَام من تلاعب الشَّيْطَان وَهِي تدل على خبل فِي الْعقل أَو جهل فِي الدّين وَلَا يجب اسْتِصْحَاب النِّيَّة بعد التَّكْبِير للعسر لَكِن يسن وَيعْتَبر عدم الْمنَافِي كَمَا فِي عقد الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى فَإِن نوى الْخُرُوج من الصَّلَاة أَو تردد فِي أَن يخرج أَو يسْتَمر بطلت بِخِلَاف الْوضُوء وَالِاعْتِكَاف وَالْحج وَالصَّوْم لِأَنَّهَا أضيق بَابا من الْأَرْبَعَة فَكَانَ تأثيرها باخْتلَاف النِّيَّة أَشد
(و) الرَّابِع من أَرْكَان الصَّلَاة (قِرَاءَة) سُورَة (الْفَاتِحَة) فِي كل رَكْعَة فِي قِيَامهَا أَو بدله لخَبر الشَّيْخَيْنِ لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ(1/132)
بِفَاتِحَة الْكتاب أَي فِي كل رَكْعَة لما مر فِي خبر الْمُسِيء صلَاته إِلَّا رَكْعَة مَسْبُوق فَلَا تجب فِيهَا بِمَعْنى أَنه لَا يسْتَقرّ وُجُوبهَا عَلَيْهِ لتحمل الإِمَام لَهَا عَنهُ
تَنْبِيه يتَصَوَّر سُقُوط الْفَاتِحَة فِي كل مَوضِع حصل للْمَأْمُوم فِيهِ عذر تخلف بِسَبَبِهِ عَن الإِمَام بأَرْبعَة أَرْكَان طَوِيلَة وَزَالَ عذره وَالْإِمَام رَاكِع فيتحمل عَنهُ الْفَاتِحَة كَمَا لَو كَانَ بطيء الْقِرَاءَة أَو نسي أَنه فِي الصَّلَاة أَو امْتنع من السُّجُود بِسَبَب زحمة أَو شكّ بعد رُكُوع إِمَامه فِي قِرَاءَته الْفَاتِحَة فَتخلف لَهَا
نبه على ذَلِك الْإِسْنَوِيّ
(وبسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة مِنْهَا) أَي من الْفَاتِحَة لما رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عد الْفَاتِحَة سبع آيَات وعد بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة مِنْهَا
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي تَارِيخه
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا قَرَأْتُمْ الْحَمد لله فاقرؤوا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِنَّهَا أم الْقُرْآن وَأم الْكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِحْدَى آياتها
وروى ابْن خُزَيْمَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أم سَلمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عد بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين إِلَى آخرهَا سِتّ آيَات
وَهِي آيَة من كل سُورَة إِلَّا بَرَاءَة لإِجْمَاع الصَّحَابَة على إِثْبَاتهَا فِي الْمُصحف بِخَطِّهِ أَوَائِل السُّور سوى بَرَاءَة
دون الأعشار وتراجم السُّور والتعوذ فَلَو لم تكن قُرْآنًا لما أَجَازُوا ذَلِك لِأَنَّهُ يحمل على اعْتِقَاد مَا لَيْسَ بقرآن قُرْآنًا وَلَو كَانَت للفصل كَمَا قيل لأثبتت فِي أول بَرَاءَة وَلم تثبت فِي أول الْفَاتِحَة
فَإِن قيل الْقُرْآن إِنَّمَا يثبت بالتواتر(1/133)
أُجِيب بِأَن مَحَله فِيمَا يثبت قُرْآنًا قطعا أما مَا يثبت قُرْآنًا حكما فَيَكْفِي فِيهِ الظَّن كَمَا يَكْفِي فِي كل ظَنِّي وَأَيْضًا إِثْبَاتهَا فِي الْمُصحف بِخَطِّهِ من غير نَكِير فِي معنى التَّوَاتُر
فَإِن قيل لَو كَانَت قُرْآنًا لكفر جاحدها
أُجِيب بِأَنَّهَا لَو لم تكن قُرْآنًا لكفر مثبتها وَأَيْضًا التَّكْفِير لَا يكون بالظنيات وَهِي آيَة من أول الْفَاتِحَة قطعا وَكَذَا فِيمَا عدا بَرَاءَة من بَاقِي السُّور على الْأَصَح وَالسّنة أَن يصلها بِالْحَمْد لله وَأَن يجْهر بهَا حَيْثُ يشرع الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ
فَائِدَة مَا أثبت فِي الْمُصحف الْآن من أَسمَاء السُّور والأعشار شَيْء ابتدعه الْحجَّاج فِي زَمَنه
وَيجب رِعَايَة حُرُوف الْفَاتِحَة فَلَو أَتَى قَادر أَو من أمكنه التَّعَلُّم بدل حرف مِنْهَا بآخر لم تصح قِرَاءَته لتِلْك الْكَلِمَة لتغييره النّظم وَلَو أبدل ذال الَّذين الْمُعْجَمَة بِالْمُهْمَلَةِ لم تصح كَمَا اقْتضى إِطْلَاق الرَّافِعِيّ وَغَيره الْجَزْم بِهِ خلافًا للزركشي وَمن تبعه وَكَذَا لَو أبدل حاء الْحَمد لله بِالْهَاءِ وَلَو نطق بِالْقَافِ مترددة بَينهَا وَبَين الْكَاف كَمَا تنطق بِهِ الْعَرَب صَحَّ مَعَ الْكَرَاهَة كَمَا جزم بِهِ الرَّوْيَانِيّ وَغَيره وَإِن قَالَ فِي الْمَجْمُوع فِيهِ نظر وَيجب رِعَايَة تشديداتها الْأَرْبَع عشرَة مِنْهَا ثَلَاث فِي الْبَسْمَلَة فَلَو خفف مِنْهَا تشديدة بطلت قِرَاءَة تِلْكَ الْكَلِمَة لتغييره النّظم وَلَو شدد المخفف أَسَاءَ وأجزأه كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَيجب رِعَايَة ترتيبها بِأَن يَأْتِي بهَا على نظمها الْمَعْرُوف لِأَنَّهُ منَاط البلاغة والإعجاز فَلَو بَدَأَ بِنِصْفِهَا الثَّانِي لم يعْتد بِهِ وَيَبْنِي على الأول إِن سَهَا بِتَأْخِيرِهِ وَلم يطلّ الْفَصْل ويستأنف إِن تعمد أَو طَال الْفَصْل وَيجب رِعَايَة موالاتها بِأَن يَأْتِي بكلماتها على الْوَلَاء لِلِاتِّبَاعِ مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فيقطعها تخَلّل ذكر وَإِن قل وسكوت طَال عرفا بِلَا عذر فيهمَا أَو سكُوت قصد بِهِ قطع الْقِرَاءَة لإشعار ذَلِك بِالْإِعْرَاضِ عَن الْقِرَاءَة بِخِلَاف سكُوت قصير لم يقْصد بِهِ الْقطع أَو طَوِيل أَو تخَلّل ذكر بِعُذْر من جهل أَو سَهْو أَو إعياء أَو تعلق ذكر بِالصَّلَاةِ كتأمينه لقِرَاءَة إِمَامه وفتحه عَلَيْهِ إِذا توقف فِيهَا فَإِن عجز عَن جَمِيع الْفَاتِحَة لعدم معلم أَو مصحف أَو غير ذَلِك فسبع آيَات عدد آياتها يَأْتِي بهَا وَلَو مُتَفَرِّقَة لَا تنقص حروفها عَن حُرُوف الْفَاتِحَة
تَنْبِيه ظَاهر إِطْلَاقهم أَنه لَا فرق بَين أَن تفِيد المتفرقة معنى منظوما أم لَا كثم نظر
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ أَي الثَّانِي الْمُخْتَار(1/134)
كَمَا أطلقهُ الْجُمْهُور وَاخْتَارَ الإِمَام الأول وَأقرهُ فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا
قَالَ بَعضهم وَالثَّانِي هُوَ الْقيَاس
وَقَالَ الْأَذْرَعِيّ الْمُخْتَار مَا ذكره الإِمَام وإطلاقهم مَحْمُول على الْغَالِب ثمَّ مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخ أَي النَّوَوِيّ إِنَّمَا ينقدح إِذا لم يحسن غير ذَلِك أما مَعَ حفظه آيَات مُتَوَالِيَة أَو مُتَفَرِّقَة منتظمة الْمَعْنى فَلَا وَجه لَهُ وَإِن شَمله إِطْلَاقهم انْتهى
وَهَذَا يشبه أَن يكون جمعا بَين الْكَلَامَيْنِ وَهُوَ جمع حسن
وَمن يحسن بعض الْفَاتِحَة يَأْتِي بِهِ ويبدل الْبَاقِي إِن أحْسنه وَإِلَّا كَرَّرَه فِي الْأَصَح وَكَذَا من يحسن بعض بدلهَا من الْقُرْآن
وَيجب التَّرْتِيب بَين الأَصْل وَالْبدل فَإِن كَانَ يحسن الْآيَة فِي أول الْفَاتِحَة أَتَى بهَا ثمَّ يَأْتِي بِالْبَدَلِ وَإِن كَانَ فِي آخر الْفَاتِحَة أَتَى بِالْبَدَلِ ثمَّ بِالْآيَةِ وَإِن كَانَ فِي وَسطهَا أَتَى بِبَدَل الأول ثمَّ قَرَأَ مَا فِي الْوسط ثمَّ أَتَى بِبَدَل الآخر فَإِن عجز عَن الْقُرْآن أَتَى بسبعة أَنْوَاع من ذكر أَو دُعَاء لَا تنقص حروفها عَن حُرُوف الْفَاتِحَة وَيجب تعلق الدُّعَاء بِالآخِرَة كَمَا رَجحه النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه فَإِن عجز عَن ذَلِك كُله حَتَّى عَن تَرْجَمَة الذّكر وَالدُّعَاء لزمَه وَقْفَة قدر الْفَاتِحَة فِي ظَنّه لِأَنَّهُ وَاجِب فِي نَفسه وَلَا يترجم عَنْهَا بِخِلَاف التَّكْبِير لفَوَات الإعجاز فِيهَا دونه
وَسن عقب الْفَاتِحَة بعد سكتة لَطِيفَة لِقَارِئِهَا فِي الصَّلَاة وخارجها آمين لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة وَقيس بهَا خَارِجهَا مخففا ميمها بِمد وَقصر وَالْمدّ أفْصح وَأشهر وَهُوَ اسْم فعل بِمَعْنى استجب وَلَو شدد الْمِيم لم تبطل صلَاته لقصدة الدُّعَاء وَيسن فِي جهرية جهر بهَا للْمُصَلِّي حَتَّى للْمَأْمُوم لقِرَاءَة إِمَامه تبعا لَهُ وَأَن يُؤمن الْمَأْمُوم مَعَ تَأْمِين إِمَامه لخَبر الشَّيْخَيْنِ إِذا أَمن الإِمَام فَأمنُوا فَإِن من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه
فَائِدَة فَاتِحَة الْكتاب لَهَا عشرَة أَسمَاء فَاتِحَة الْكتاب وَأم الْقُرْآن وَأم الْكتاب والسبع المثاني وَسورَة الْحَمد وَالصَّلَاة والكافية والواقية والشفاء والأساس
(و) الْخَامِس من أَرْكَان الصَّلَاة (الرُّكُوع) لقَوْله تَعَالَى {ارْكَعُوا} وَلخَبَر إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة وللإجماع وَتقدم رُكُوع الْقَاعِد وَأما أقل الرُّكُوع فِي حق الْقَائِم فَهُوَ أَن ينحني انحناء خَالِصا لَا انخناس فِيهِ قدر بُلُوغ راحتي يَدي المعتدل خلقَة رُكْبَتَيْهِ إِذا أَرَادَ وضعهما فَلَا يحصل بانخناس لِأَنَّهُ لَا يُسمى رُكُوعًا فَلَو طَالَتْ يَدَاهُ أَو قصرتا أَو قطع شَيْء مِنْهُمَا لم يعْتَبر ذَلِك فَإِن عجز عَمَّا ذكر إِلَّا بِمعين وَلَو باعتماد على شَيْء أَو انحناء على شقَّه لزمَه
وَالْعَاجِز ينحني قدر إِمْكَانه فَإِن عجز عَن الانحناء أصلا أَوْمَأ بِرَأْسِهِ ثمَّ بطرفه
(و) السَّادِس من أَرْكَان الصَّلَاة (الطُّمَأْنِينَة فِيهِ) أَي الرُّكُوع لحَدِيث الْمُسِيء صلَاته الْمَار وأقلها أَن تَسْتَقِر أعضاؤه رَاكِعا بِحَيْثُ ينْفَصل رَفعه عَن رُكُوعه عَن هويه أَي سُقُوطه فَلَا تقوم زِيَادَة الْهَوِي مقَام الطُّمَأْنِينَة وَلَا يقْصد بالهوي غير الرُّكُوع قَصده هُوَ أم لَا كَغَيْرِهِ من بَقِيَّة الْأَركان لِأَن نِيَّة الصَّلَاة منسحبة عَلَيْهِ فَلَو هوى لتلاوة فَجعله رُكُوعًا لم يكف لِأَنَّهُ صرفه إِلَى غير الْوَاجِب بل ينْتَصب ليركع وَلَو قَرَأَ إِمَامه آيَة سَجْدَة ثمَّ ركع عَقبهَا فَظن الْمَأْمُوم أَنه يسْجد للتلاوة فهوى لذَلِك فَرَآهُ لم يسْجد فَوقف عَن السُّجُود فَالْأَقْرَب كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ أَنه يحْسب لَهُ وَيغْتَفر ذَلِك لمتابعته
وأكمل الرُّكُوع تَسْوِيَة ظَهره وعنقه أَي يمدهما بانحناء(1/135)
خَالص بِحَيْثُ يصيران كالصفيحة الْوَاحِدَة لِلِاتِّبَاعِ
رَوَاهُ مُسلم
فَإِن تَركه كره نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم
وَنصب سَاقيه وفخذيه وَأخذ رُكْبَتَيْهِ بكفيه لِلِاتِّبَاعِ
رَوَاهُ البُخَارِيّ
وتفريق أَصَابِعه تفريقا وسطا لجِهَة الْقبْلَة لِأَنَّهَا أشرف الْجِهَات والأقطع وَنَحْوه كقصير الْيَدَيْنِ لَا يُوصل يَدَيْهِ رُكْبَتَيْهِ بل يرسلهما إِن لم يسلما مَعًا أَو يُرْسل إِحْدَاهمَا إِن سلمت الْأُخْرَى
(و) السَّابِع من أَرْكَان الصَّلَاة (الِاعْتِدَال) وَلَو لنافلة كَمَا صَححهُ فِي التَّحْقِيق لحَدِيث الْمُسِيء صلَاته وَيحصل بِعُود البدء بِأَن يعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل رُكُوعه قَائِما كَانَ أَو قَاعِدا
(و) الثَّامِن من أَرْكَان الصَّلَاة (الطُّمَأْنِينَة فِيهِ) كَمَا فِي خبر الْمُسِيء صلَاته بِأَن تَسْتَقِر أعضاؤه على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل رُكُوعه بِحَيْثُ ينْفَصل ارتفاعه عَن عوده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَو ركع عَن قيام فَسقط عَن رُكُوعه قبل الطُّمَأْنِينَة فِيهِ عَاد وجوبا إِلَيْهِ وَاطْمَأَنَّ ثمَّ اعتدل أَو سقط عَنهُ بعْدهَا نَهَضَ معتدلا ثمَّ سجد وَإِن سجد ثمَّ شكّ هَل أتم اعتداله اعتدل وجوبا ثمَّ سجد وَلَا يقْصد بِهِ غَيره فَلَو رفع خوفًا من شَيْء كحية لم يكف رَفعه لذَلِك عَن رفع الصَّلَاة لِأَنَّهُ صَارف كَمَا مر
(و) التَّاسِع من أَرْكَان الصَّلَاة (السُّجُود) مرَّتَيْنِ فِي كل رَكْعَة لقَوْله تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} وَلخَبَر إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة وَإِنَّمَا عدا ركنا وَاحِدًا لاتحادهما كَمَا عد بَعضهم الطُّمَأْنِينَة فِي محالها الْأَرْبَع ركنا وَاحِدًا لذَلِك
وَهُوَ لُغَة التطامن والميل وَقيل الخضوع والتذلل وَشرعا أَقَله مُبَاشرَة بعض جَبهته مَا يُصَلِّي عَلَيْهِ من أَرض أَو غَيرهَا لخَبر إِذا سجدت فمكن جبهتك وَلَا تنقر نقرا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه
وَإِنَّمَا اكْتفى بِبَعْض الْجَبْهَة لصدق اسْم السُّجُود عَلَيْهَا بذلك وَخرج بالجبهة الجبين وَالْأنف فَلَا يَكْفِي وضعهما
فَإِن سجد على مُتَّصِل بِهِ كطرف كمه الطَّوِيل أَو عمَامَته جَازَ إِن لم يَتَحَرَّك بحركته لِأَنَّهُ فِي حكم الْمُنْفَصِل عَنهُ فَإِن تحرّك بحركته فِي قيام أَو قعُود أَو غَيره كمنديل على عَاتِقه لم يجز فَإِن كَانَ مُتَعَمدا عَالما بطلت صلَاته أَو نَاسِيا أَو جَاهِلا لم تبطل وَأعَاد السُّجُود وَلَو صلى من قعُود فَلم يَتَحَرَّك بحركته وَلَو صلى من قيام لتحرك لم يضر إِذْ الْعبْرَة بالحالة الراهنة
هَذَا هُوَ الظَّاهِر وَلم أر من ذكره وَخرج بِمُتَّصِل بِهِ مَا هُوَ فِي حكم الْمُنْفَصِل وَإِن تحرّك بحركته كعود بِيَدِهِ فَلَا يضر السُّجُود عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوع فِي نواقض الْوضُوء وَلَو سجد على شَيْء فِي مَوضِع سُجُوده كورقة فالتصقت بجبهته وَارْتَفَعت مَعَه وَسجد عَلَيْهَا ثَانِيًا ضرّ وَإِن نحاها ثمَّ سجد لم يضر وَلَو سجد على عِصَابَة جرح أَو نَحوه لضَرُورَة بِأَن شقّ عَلَيْهِ إِزَالَتهَا لم تلْزمهُ الْإِعَادَة لِأَنَّهَا إِذا لم تلْزمهُ مَعَ الْإِيمَاء للْعُذْر فَهَذَا أولى وَكَذَا لَو سجد على شعر نبت على جَبهته لِأَن مَا نبت عَلَيْهَا مثل بَشرته ذكره الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ
وَيجب وضع جُزْء من رُكْبَتَيْهِ وَمن بَاطِن كفيه وَمن بَاطِن أَصَابِع قَدَمَيْهِ فِي السُّجُود لخَبر الشَّيْخَيْنِ أمرت أَن أَسجد على سَبْعَة أعظم الْجَبْهَة وَالْيَدَيْنِ والركبتين وأطراف الْقَدَمَيْنِ
وَلَا يجب كشفها بل يكره كشف الرُّكْبَتَيْنِ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم
فرع لَو خلق لَهُ رأسان وَأَرْبع أيد وَأَرْبع أرجل هَل يجب عَلَيْهِ وضع بعض كل من الجبهتين وَمَا بعدهمَا أم لَا الَّذِي يظْهر أَنه ينظر فِي ذَلِك إِن عرف الزَّائِد فَلَا اعْتِبَار بِهِ وَإِلَّا اكْتفى فِي الْخُرُوج عَن عُهْدَة الْوَاجِب بِوَضْع بعض إِحْدَى الجبهتين وَبَعض يدين وركبتين وأصابع رجلَيْنِ إِن كَانَت كلهَا أَصْلِيَّة فَإِن اشْتبهَ الْأَصْلِيّ بِالزَّائِدِ وَجب وضع جُزْء من كل مِنْهُمَا
(و) الْعَاشِر من أَرْكَان الصَّلَاة (الطُّمَأْنِينَة فِيهِ) أَي السُّجُود لحَدِيث الْمُسِيء صلَاته وَيجب أَن يُصِيب مَحل سُجُوده ثقل رَأسه للْخَبَر الْمَار إِذا سجدت فمكن جبهتك
وَمعنى الثّقل أَن يتحامل بِحَيْثُ لَو فرض تَحْتَهُ قطن أَو حشيش لانكبس وَظهر أَثَره فِي يَد لَو فرضت تَحت ذَلِك وَلَا يعْتَبر هَذَا فِي بَقِيَّة الْأَعْضَاء كَمَا يُؤْخَذ من عبارَة الرَّوْضَة وَعبارَة التَّحْقِيق وَينْدب أَن يضع كفيه(1/136)
حَذْو مَنْكِبَيْه وينشر أصابعهما مَضْمُومَة للْقبْلَة ويعتمد عَلَيْهِمَا وَيجب أَن يهوي لغير السُّجُود كَمَا مر فِي الرُّكُوع فَلَو سقط على وَجهه من الِاعْتِدَال وَجب الْعود إِلَيْهِ ليهوي مِنْهُ لانْتِفَاء المهوي فِي السُّقُوط فَإِن سقط من الْهَوِي لم يلْزمه الْعود بل يحْسب ذَلِك سجودا إِلَّا إِن قصد بِوَضْع الْجَبْهَة الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا فَقَط فَإِنَّهُ يلْزمه إِعَادَة السُّجُود لوُجُود الصَّارِف
وَلَو سقط من الْهَوِي على جنبه فَانْقَلَبَ بنية السُّجُود أَو بِلَا نِيَّة أَو بنيته وَنِيَّة الاسْتقَامَة فَقَط وَسجد أَجزَأَهُ فَإِن نوى الاسْتقَامَة لم يجزه لوُجُود الصَّارِف بل يجلس ثمَّ يسْجد وَلَا يقوم ثمَّ يسْجد فَإِن قَامَ عَامِدًا عَالما بطلت صلَاته كَمَا صرح بِهِ فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا وَإِن نوى مَعَ ذَلِك صرفه عَن السُّجُود بطلت صلَاته لِأَنَّهُ زَاد فعلا لَا يُزَاد مثله فِي الصَّلَاة عَامِدًا
وَيجب فِي السُّجُود أَن ترْتَفع أسافله على أعاليه لِلِاتِّبَاعِ كَمَا صَححهُ ابْن حبَان فَلَو صلى فِي سفينة مثلا وَلم يتَمَكَّن من ارْتِفَاع ذَلِك لميلانها صلى على حسب حَاله وَلَزِمتهُ الْإِعَادَة لِأَنَّهُ عذر نَادِر
نعم إِن كَانَ بِهِ عِلّة لَا يُمكنهُ مَعهَا السُّجُود إِلَّا كَذَلِك صَحَّ فَإِن أمكنه السُّجُود على وسَادَة بتنكيس لزمَه لحُصُول هَيْئَة السُّجُود بذلك أَو بِلَا تنكيس لم يلْزمه السُّجُود عَلَيْهَا لفَوَات هَيْئَة السُّجُود بل يَكْفِيهِ الانحناء الْمُمكن خلافًا لما فِي الشَّرْح الصَّغِير
(و) الْحَادِي عشر من أَرْكَان الصَّلَاة (الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ) وَلَو فِي نفل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا رفع رَأسه لم يسْجد حَتَّى يَسْتَوِي جَالِسا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا فِيهِ رد على أبي حنيفَة حَيْثُ يَقُول يَكْفِي أَن يرفع رَأسه عَن الأَرْض أدنى رفع كَحَد السَّيْف
(و) الثَّانِي عشر من أَرْكَان الصَّلَاة (الطُّمَأْنِينَة فِيهِ) لحَدِيث الْمُسِيء صلَاته وَيجب أَن لَا يقْصد بِرَفْعِهِ غَيره كَمَا مر فِي الرُّكُوع فَلَو رفع فَزعًا من شَيْء لم يكف وَيجب عَلَيْهِ أَن يعود إِلَى السُّجُود وَيجب أَن لَا يطوله وَلَا الِاعْتِدَال لِأَنَّهُمَا ركنان قصيران ليسَا مقصودين لذاتهما بل للفصل وأكمله أَن يكبر بِلَا رفع يَد مَعَ رفع رَأسه من سُجُوده لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَيجْلس مفترشا وَسَيَأْتِي بَيَانه لِلِاتِّبَاعِ وَاضِعا كفيه على فَخذيهِ قَرِيبا من رُكْبَتَيْهِ بِحَيْثُ تسامتهما رُؤُوس الْأَصَابِع ناشرا أَصَابِعه مَضْمُومَة للْقبْلَة كَمَا فِي السُّجُود قَائِلا رب اغْفِر لي وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني وَعَافنِي لِلِاتِّبَاعِ ثمَّ يسْجد الثَّانِيَة كالأولى فِي الْأَقَل والأكمل
(و) الثَّالِث عشر من أَرْكَان الصَّلَاة (الْجُلُوس الْأَخير) لِأَنَّهُ مَحل ذكر وَاجِب فَكَانَ وَاجِبا كالقيام لقِرَاءَة الْفَاتِحَة
(و) الرَّابِع عشر من أَرْكَان الصَّلَاة (التَّشَهُّد فِيهِ) أَي الْجُلُوس الْأَخير لقَوْل ابْن مَسْعُود كُنَّا نقُول قبل أَن يفْرض علينا التَّشَهُّد السَّلَام على الله قبل عباده السَّلَام على جِبْرِيل السَّلَام على مِيكَائِيل السَّلَام على فلَان
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَقولُوا السَّلَام على الله فَإِن الله هُوَ السَّلَام وَلَكِن قُولُوا التَّحِيَّات لله
إِلَى آخِره
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالدّلَالَة فِيهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا التَّعْبِير بِالْفَرْضِ
الثَّانِي الْأَمر بِهِ وَالْمرَاد فَرْضه فِي الْجُلُوس آخر الصَّلَاة وَأقله مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالا فِيهِ حسن صَحِيح التَّحِيَّات لله سَلام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته سَلام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أَو أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَهل يجزىء وَأَن مُحَمَّدًا رَسُوله قَالَ الْأَذْرَعِيّ الصَّوَاب إجزاؤه لثُبُوته فِي تشهد ابْن مَسْعُود بِلَفْظ عَبده وَرَسُوله وَقد حكوا الْإِجْمَاع على جَوَاز التَّشَهُّد بالروايات كلهَا وَلَا أعلم أحدا اشْترط لفظ عَبده
اه
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وأكمله التَّحِيَّات(1/137)
المباركات الصَّلَوَات الطَّيِّبَات لله السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله
(و) الْخَامِس عشر من أَرْكَان الصَّلَاة (الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ) أَي التَّشَهُّد الْأَخير لقَوْله تَعَالَى {صلوا عَلَيْهِ} قَالُوا وَقد أجمع الْعلمَاء على أَنَّهَا لَا تجب فِي غير الصَّلَاة فَتعين وُجُوبهَا فِيهَا وَالْقَائِل بِوُجُوبِهَا مرّة فِي غَيرهَا محجوج بِإِجْمَاع من قبله وَلِحَدِيث عرفنَا كَيفَ نصلي عَلَيْك إِذا نَحن صلينَا عَلَيْك
فَقَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد
إِلَى آخِره مُتَّفق عَلَيْهِ
وَفِي رِوَايَة كَيفَ نصلي عَلَيْك إِذا نَحن صلينَا عَلَيْك فِي صَلَاتنَا فَقَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد
إِلَى آخِره
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه
وَالْمُنَاسِب لَهَا من الصَّلَاة التَّشَهُّد آخرهَا فَتجب فِيهِ أَي بعده كَمَا صرح بِهِ فِي الْمَجْمُوع
وَقد صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَفسه فِي الْوتر كَمَا رَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي مُسْنده وَقَالَ صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي اصلي وَلم يُخرجهَا شَيْء عَن الْوُجُوب وَأما عدم ذكرهَا فِي خبر الْمُسِيء صلَاته فَمَحْمُول على أَنَّهَا كَانَت مَعْلُومَة لَهُ وَلِهَذَا لم يذكر لَهُ التَّشَهُّد وَالْجُلُوس لَهُ وَالنِّيَّة وَالسَّلَام
وَإِذا وَجَبت الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجب الْقعُود لَهَا بالتبعية وَلَا يُؤْخَذ وجوب الْقعُود لَهَا من عبارَة المُصَنّف وَأَقل الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وَآله
وأكملها اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم وَبَارك على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَمَا باركت على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم فِي الْعَالمين إِنَّك حميد مجيد
وَفِي بعض طرق الحَدِيث زِيَادَة على ذَلِك وَنقص
وَآل إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وأولادهما وَخص إِبْرَاهِيم بِالذكر لِأَن الرَّحْمَة وَالْبركَة لم يجتمعا لنَبِيّ غَيره أَي مِمَّن قبْلَة قَالَ تَعَالَى {رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم أهل الْبَيْت}
فَائِدَة كل الْأَنْبِيَاء من بعد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام من وَلَده إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام وَأما إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن من نَسْله نَبِي إِلَّا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ مُحَمَّد بن أبي بكر الرَّازِيّ وَلَعَلَّ الْحِكْمَة فِي ذَلِك انْفِرَاده بالفضيلة فَهُوَ أفضل الْجَمِيع عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام
والتحيات جمع تَحِيَّة وَهِي مَا يحيى بِهِ من سَلام وَغَيره وَالْقَصْد بذلك الثَّنَاء على الله تَعَالَى بِأَنَّهُ مَالك لجَمِيع التَّحِيَّات من الْخلق وَمعنى المباركات الناميات والصلوات الصَّلَوَات الْخمس والطيبات الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَالسَّلَام مَعْنَاهُ اسْم السَّلَام أَي اسْم الله عَلَيْك وعلينا أَي الْحَاضِرين من إِمَام ومأموم وملائكة وَغَيرهم
والعباد جمع عبد وَالصَّالِحِينَ جمع صَالح وَهُوَ الْقَائِم بِمَا عَلَيْهِ فِي حُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق عباده وَالرَّسُول هُوَ الَّذِي يبلغ خبر من أرْسلهُ وَحميد بِمَعْنى مَحْمُود ومجيد بِمَعْنى ماجد وَهُوَ من كمل شرفا وكرما
(و) السَّادِس عشر من أَرْكَان الصَّلَاة (التسليمة الأولى) لخَبر مُسلم تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم قَالَ الْحَاكِم صَحِيح على شَرط مُسلم
قَالَ الْقفال الْكَبِير وَالْمعْنَى فِي السَّلَام أَن الْمُصَلِّي كَانَ مَشْغُولًا عَن النَّاس وَقد أقبل عَلَيْهِم قَالَه الْقفال وَأقله السَّلَام عَلَيْكُم فَلَا يجزىء عَلَيْهِم وَلَا تبطل بِهِ صلَاته لِأَنَّهُ دُعَاء لغَائِب وَلَا عَلَيْك وَلَا عَلَيْكُمَا وَلَا سلامي عَلَيْكُم وَلَا سَلام عَلَيْكُم فَإِن تعمد ذَلِك مَعَ علمه بِالتَّحْرِيمِ بطلت صلَاته
ويجزىء عَلَيْكُم السَّلَام مَعَ الْكَرَاهَة كَمَا نَقله فِي الْمَجْمُوع عَن النَّص وأكمله السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله لِأَنَّهُ الْمَأْثُور
وَلَا تسن زِيَادَة وَبَرَكَاته كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع وَصَوَّبَهُ
(و) السَّابِع عشر من أَرْكَان الصَّلَاة (نِيَّة الْخُرُوج من الصَّلَاة) وَيجب قرنها بالتسليمة الأولى (فِي قَول) فَإِن قدمهَا عَلَيْهَا أَو(1/138)
أَخّرهَا عَنْهَا عَامِدًا بطلت صلَاته وَالأَصَح أَنَّهَا لَا تجب قِيَاسا على سَائِر الْعِبَادَات وَلِأَن النِّيَّة السَّابِقَة منسحبة على جَمِيع الصَّلَاة وَلَكِن تسن خُرُوجًا من الْخلاف
(و) الثَّامِن عشر من أَرْكَان الصَّلَاة (ترتيبها) أَي الْأَركان (كَمَا ذَكرْنَاهُ) فِي عَددهَا الْمُشْتَمل على قرن النِّيَّة بِالتَّكْبِيرِ وجعلهما مَعَ الْقِرَاءَة فِي الْقيام وَجعل التَّشَهُّد وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقعُود
فالترتيب عِنْد من أطلقهُ مُرَاد فِيمَا عدا ذَلِك وَمِنْه الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهَا بعد التَّشَهُّد كَمَا جزم بِهِ فِي الْمَجْمُوع كَمَا مر فَهِيَ مرتبَة وَغير مرتبَة باعتبارين
وَدَلِيل وجوب التَّرْتِيب الِاتِّبَاع كَمَا فِي الْأَخْبَار الصَّحِيحَة مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وعده من الْأَركان بِمَعْنى الْفُرُوض صَحِيح وَبِمَعْنى الْإِجْزَاء فِيهِ تَغْلِيب
وَلم يتَعَرَّض المُصَنّف لعد الْوَلَاء من الْأَركان وصوره الرَّافِعِيّ تبعا للْإِمَام بِعَدَمِ تَطْوِيل الرُّكْن الْقصير وَابْن الصّلاح بِعَدَمِ طول الْفَصْل بعد سَلَامه نَاسِيا وَلم يعده الْأَكْثَرُونَ ركنا لكَونه كالجزء من الرُّكْن الْقصير أَو لكَونه أشبه بالتروك
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي تنقيحه الْوَلَاء وَالتَّرْتِيب شَرْطَانِ وَهُوَ أظهر من عدهما ركنين
اه
وَالْمَشْهُور عد التَّرْتِيب ركنا وَالْوَلَاء شرطا وَأما السّنَن فترتيب بَعْضهَا على بعض كالاستفتاح والتعوذ وترتيبها على الْفَرَائِض كالفاتحة وَالسورَة شَرط فِي الِاعْتِدَاد بهَا سنة لَا فِي صِحَة الصَّلَاة
فَإِن ترك تَرْتِيب الْأَركان عمدا بِتَقْدِيم ركن فعلي أَو سَلام كَأَن ركع قبل قِرَاءَته أَو سجد أَو سلم قبل رُكُوعه بطلت صلَاته أَو سَهَا فَمَا فعله بعد متروكه لَغْو لوُقُوعه فِي غير مَحَله فَإِن تذكر متروكه قبل فعل مثله فعله وَإِلَّا أَجزَأَهُ عَن متروكه وتدارك الْبَاقِي
نعم إِن لم يكن الْمثل من الصَّلَاة كسجود تِلَاوَة لم يجزه فَلَو علم فِي آخر صلَاته ترك سَجْدَة من رَكْعَة أخيرة سجد ثمَّ تشهد أَو من غَيرهَا أَو شكّ لزمَه رَكْعَة فيهمَا أَو علم فِي قيام ثَانِيَة مثلا ترك سَجْدَة من الأولى فَإِن كَانَ جلس بعد سجدته الَّتِي فعلهَا سجد من قِيَامه وَإِلَّا فليجلس مطمئنا ثمَّ يسْجد أَو علم فِي آخر ربَاعِية ترك سَجْدَتَيْنِ أَو ثَلَاث جهل مَحل الْخمس فيهمَا وَجب رَكْعَتَانِ أَو أَربع جهل محلهَا وَجب سَجْدَة ثمَّ رَكْعَتَانِ أَو خمس أَو سِتّ جهل محلهَا فَثَلَاث أَو سبع جهل محلهَا فسجدة ثمَّ ثَلَاث وَفِي ثَمَانِي سَجدَات سَجْدَتَانِ وَثَلَاث رَكْعَات وَيتَصَوَّر ذَلِك بترك طمأنينة أَو سُجُود على عِمَامَة وكالعلم بترك مَا ذكر الشَّك فِيهِ
القَوْل فِي سنَن الصَّلَاة قبل الدُّخُول فِيهَا وَلما فرغ من الْأَركان شرع فِي ذكر السّنَن فَقَالَ (وسننها) أَي الْمَكْتُوبَة (قبل الدُّخُول فِيهَا) أَي قبل التَّلَبُّس بهَا (شَيْئَانِ) الأول (الْأَذَان) وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ لُغَة الْإِعْلَام قَالَ تَعَالَى {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ} أَي أعلمهم بِهِ
وَشرعا قَول مَخْصُوص يعلم بِهِ وَقت الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة} وَخبر الصَّحِيحَيْنِ إِذا حضرت الصَّلَاة فليؤذن لكم أحدكُم وليؤمكم أكبركم(1/139)
(و) الثَّانِي (الْإِقَامَة) فِي الأَصْل مصدر أَقَامَ وَسمي الذّكر الْمَخْصُوص بِهِ لِأَنَّهُ يُقيم إِلَى الصَّلَاة
وَالْأَذَان وَالْإِقَامَة مشروعان بِالْإِجْمَاع فهما سنة للمكتوبة دون غَيرهَا من الصَّلَوَات كالسنن وَصَلَاة الْجِنَازَة والمنذورة لعدم ثبوتهما فِيهِ بل يكرهان فِيهِ كَمَا صرح بِهِ صَاحب الْأَنْوَار ويشرع الْأَذَان فِي أذن الْمَوْلُود الْيُمْنَى وَالْإِقَامَة فِي الْيُسْرَى كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْعَقِيقَة
ويشرع الْأَذَان أَيْضا إِذا تغولت الغيلان أَي تمردت الجان لخَبر صَحِيح ورد فِيهِ وَينْدب الْأَذَان للمنفرد وَأَن يرفع صَوته بِهِ إِلَّا بِموضع وَقعت فِيهِ جمَاعَة
قَالَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا وَانْصَرفُوا وَيُؤذن للأولى فَقَط من صلوَات والاها ومعظم الْأَذَان مثنى ومعظم الْإِقَامَة فُرَادَى
وَالْأَصْل فِي ذَلِك خبر الصَّحِيحَيْنِ أَمر بِلَال أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة وَالْمرَاد مِنْهُ مَا قُلْنَاهُ
وَالْإِقَامَة إِحْدَى عشرَة كلمة وَالْأَذَان كَلِمَاته تسع عشرَة كلمة بالترجيع وَيسن الْإِسْرَاع بِالْإِقَامَةِ مَعَ بَيَان حروفها فَيجمع بَين كل كَلِمَتَيْنِ مِنْهَا بِصَوْت والكلمة الْأَخِيرَة بِصَوْت والترتيل فِي الْأَذَان فَيجمع بَين كل تكبيرتين بِصَوْت ويفرد بَاقِي كَلِمَاته لِلْأَمْرِ بذلك كَمَا أخرجه الْحَاكِم
وَيسن الترجيع فِي الْأَذَان وَهُوَ أَن يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ سرا قبل أَن يَأْتِي بهما جَهرا والتثويب فِي أَذَان الصُّبْح وَهُوَ قَوْله بعد الحيعلتين الصَّلَاة خير من النّوم مرَّتَيْنِ وَيسن الْقيام فِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة على عَال إِن احْتِيجَ إِلَيْهِ والتوجه للْقبْلَة وَأَن يلْتَفت بعنقه فيهمَا يَمِينا مرّة فِي حَيّ على الصَّلَاة مرَّتَيْنِ فِي الْأَذَان وَمرَّة فِي الْإِقَامَة وَشمَالًا فِي حَيّ على الْفَلاح كَذَلِك من غير تَحْويل صَدره عَن الْقبْلَة وقدميه عَن مكانهما وَأَن يكون كل من الْمُؤَذّن والمقيم عدلا فِي الشَّهَادَة عالي الصَّوْت حسنه وَكرها من فَاسق وَصبي مُمَيّز وأعمى وَحده وجنب ومحدث وَالْكَرَاهَة لجنب أَشد وَهِي فِي الْإِقَامَة أغْلظ
القَوْل فِي شُرُوط الْأَذَان والإمامة وَيشْتَرط فِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة التَّرْتِيب وَالْوَلَاء بَين(1/140)
كلماتهما ولجماعة جهر وَدخُول وَقت الْأَذَان صبح فَمن نصف اللَّيْل
وَيشْتَرط فِي الْمُؤَذّن والمقيم الْإِسْلَام والتمييز ولغير النِّسَاء الذُّكُورَة وَيسن مؤذنان لِلْمَسْجِدِ وَنَحْوه وَمن فوائدهما أَن يُؤذن وَاحِد للصبح قبل الْفجْر وَآخر بعده وَيسن لسامع الْمُؤَذّن والمقيم أَن يَقُول مثل قَوْلهمَا إِلَّا فِي حيعلات وتثويب وكلمتي الْإِقَامَة فيحوقل فِي كل كلمة فِي الأولى وَيَقُول فِي الثَّانِيَة صدقت وبررت وَفِي الثَّالِثَة أَقَامَهَا الله وأدامها وَجَعَلَنِي من صالحي أَهلهَا
وَيسن لكل من مُؤذن ومقيم وسامع ومستمع أَن يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْفَرَاغ من الْأَذَان وَالْإِقَامَة ثمَّ يَقُول اللَّهُمَّ رب هَذِه الدعْوَة التَّامَّة وَالصَّلَاة الْقَائِمَة آتٍ سيدنَا مُحَمَّدًا الْوَسِيلَة والفضيلة وابعثه مقَاما مَحْمُودًا الَّذِي وعدته
تَنْبِيه الْأَذَان وَحده أفضل من الْإِمَامَة وَقيل إِن الْأَذَان مَعَ الْإِقَامَة أفضل من الْإِمَامَة وَصحح النَّوَوِيّ هَذَا فِي نكته
القَوْل فِي سنَن الصَّلَاة بعد الدُّخُول فِيهَا وَتسَمى الأبعاض (و) سننها أَي الصَّلَاة مُطلقًا (بعد الدُّخُول فِيهَا) أبعاض وهيئات فأبعاضها ثَمَانِيَة الْمَذْكُور مِنْهَا هُنَا (شَيْئَانِ) الأول (التَّشَهُّد الأول) كُله أَو بعضه
(و) الثَّانِي الْقُنُوت (فِي) ثَانِيَة (الصُّبْح) كُله أَو بعضه وَمحل الِاقْتِصَار على الصُّبْح من بَقِيَّة الصَّلَوَات الْخمس فِي حَال الْأَمْن فَإِن نزل بِالْمُسْلِمين نازلة لَا نزلت اسْتحبَّ فِي سَائِر الصَّلَوَات وَلَكِن لَيْسَ هَذَا من الأبعاض وَهُوَ اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت وَعَافنِي فِيمَن عافيت وتولني فِيمَن توليت وَبَارك لي فِيمَا أَعْطَيْت وقني شَرّ مَا قضيت فَإنَّك تقضي وَلَا يقْضى عَلَيْك وَإنَّهُ لَا يذل من واليت وَلَا يعز من عاديت تَبَارَكت رَبنَا وَتَعَالَيْت لِلِاتِّبَاعِ
(و) كَذَا (فِي) اعْتِدَال رَكْعَة (الْوتر فِي) جَمِيع (النّصْف الثَّانِي من رَمَضَان) سَوَاء أصلى التَّرَاوِيح أم لَا وَهُوَ كقنوت الصُّبْح(1/141)
فِي أَلْفَاظه وجبره بِالسُّجُود وَيسن للمنفرد ولإمام قوم مَحْصُورين رَضوا بالتطويل أَن يَقُول بعده قنوت عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وَهُوَ اللَّهُمَّ إِنَّا نستعينك ونستغفرك ونستهديك
ونتوب إِلَيْك ونؤمن بك ونتوكل عَلَيْك ونثني عَلَيْك الْخَيْر كُله نشكرك وَلَا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك واللهم إياك نعْبد وَلَك نصلي ونسجد وَإِلَيْك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك وَإِن عذابك الْجد بالكفار مُلْحق (اللَّهُمَّ عذب الْكَفَرَة أهل الْكتاب الَّذِي يصدون عَن سَبِيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك واللهم اغْفِر للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات وَالْمُسْلِمين وَالْمُسلمَات وَأصْلح ذَات بَينهم ومواصلاتهم ألف بَين قُلُوبهم واجمع فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وَالْحكمَة وثبتهم على مِلَّة رَسُولك وأوزعهم أَن يوفوا بعهدك الَّذِي عاهدتهم عَلَيْهِ وانصرهم على عَدوك وعدوهم إِلَه الْحق واجعلنا مِنْهُم)
وَهُوَ مَشْهُور وَقد ذكرته فِي شرح التَّنْبِيه وَغَيره
وَالْبَعْض الثَّالِث الْقعُود للتَّشَهُّد الأول وَالْمرَاد بالتشهد الأول اللَّفْظ الْوَاجِب فِي التَّشَهُّد الْأَخير دون مَا هُوَ فِيهِ سنة
وَالرَّابِع الْقيام للقنوت الرَّاتِب
وَالْخَامِس الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد التَّشَهُّد الأول
وَالسَّادِس الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْقُنُوت
وَالسَّابِع الصَّلَاة على الْآل بعد الْقُنُوت
وَالثَّامِن الصَّلَاة على الْآل بعد التَّشَهُّد الْأَخير
وَظَاهر أَن الْقعُود للصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد التَّشَهُّد الأول وللصلاة على الْآل بعد الْأَخير كالقعود للْأولِ وَأَن الْقيام لَهما بعد الْقُنُوت كالقيام لَهُ فتزيد الأبعاض بذلك
وَسميت هَذِه السّنَن أبعاضا لقربها بالجبر بِالسُّجُود من الأبعاض الْحَقِيقَة أَي الْأَركان وَخرج بهَا بَقِيَّة السّنَن كأذكار الرُّكُوع وَالسُّجُود فَلَا يجْبر تَركهَا بِالسُّجُود
وَلَا تسن الصَّلَاة على الْآل فِي التَّشَهُّد الأول خلافًا لبَعض الْمُتَأَخِّرين
القَوْل فِي هيئات الصَّلَاة وَهِي السّنَن غير الأبعاض (وهيئاتها) جمع هَيْئَة وَالْمرَاد بهَا هُنَا مَا عدا الأبعاض من السّنَن الَّتِي لَا تجبر بِالسُّجُود وَهِي كَثِيرَة وَالْمَذْكُور مِنْهَا هُنَا (خَمْسَة عشر خصْلَة) الأولى (رفع الْيَدَيْنِ) أَي رفع كفيه للْقبْلَة مكشوفتين منشورتي الْأَصَابِع مفرقة وسطا (عِنْد) ابْتِدَاء (تَكْبِيرَة الْإِحْرَام) مُقَابل مَنْكِبَيْه بِأَن تحاذي أَطْرَاف أصابعهما أَعلَى أُذُنَيْهِ وإبهاماه شحمتي أُذُنَيْهِ وراحتاه مَنْكِبَيْه (وَعند) الْهَوِي إِلَى (الرُّكُوع و) عِنْد (الرّفْع مِنْهُ) وَعند الْقيام إِلَى الثَّالِثَة من التَّشَهُّد الأول كَمَا صَوبه فِي الْمَجْمُوع وَفِي زَوَائِد الرَّوْضَة وَجزم بِهِ فِي شرح مُسلم أَيْضا
(و) الثَّانِيَة (وضع) بطن كف (الْيَمين على) ظهر (الشمَال) بِأَن يقبض فِي قيام أَو بدله بِيَمِين كوع يسَاره وَبَعض ساعدها ورسغها تَحت صَدره فَوق سرته لِلِاتِّبَاعِ وَقيل يتَخَيَّر بَين بسط أَصَابِع الْيَمين فِي عرض الْمفصل وَبَين نشرها صوب الساعد
وَالْقَصْد من الْقَبْض الْمَذْكُور تسكين الْيَدَيْنِ فَإِن أرسلهما وَلم يعبث فَلَا بَأْس
والكوع الْعظم الَّذِي يَلِي إِبْهَام الْيَد والبوع الْعظم الَّذِي يَلِي إِبْهَام الرجل
يُقَال الغبي هُوَ الَّذِي لَا يعرف كوعه من بوعه
والرسغ هُوَ الْمفصل بَين الْكَفّ والساعد
(و) الثَّالِثَة دُعَاء (التَّوَجُّه) نَحْو {وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا مُسلما وَمَا أَنا من الْمُشْركين} {إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين} لِلِاتِّبَاعِ
فَائِدَة معنى {وجهت وَجْهي}(1/142)
أَي أَقبلت بوجهي وَقيل قصدت بعبادتي
وَمعنى {فطر} ابْتَدَأَ الْخلق على غير مِثَال والحنيف المائل إِلَى الْحق وَعند الْعَرَب من كَانَ على مِلَّة إِبْرَاهِيم والمحيا وَالْمَمَات الْحَيَاة وَالْمَوْت والنسك الْعِبَادَة
(و) الرَّابِعَة (الِاسْتِعَاذَة) للْقِرَاءَة لقَوْله تَعَالَى {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم} أَي إِذا أردْت قِرَاءَته فَقل أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم يَقُول ذَلِك فِي كل رَكْعَة لِأَنَّهُ يبتدىء فِيهَا قِرَاءَة وَفِي الأولى آكِد للاتفاق عَلَيْهَا
فَائِدَة الشَّيْطَان اسْم لكل متمرد مَأْخُوذ من شطن إِذا بعد وَقيل من شاط إِذا احْتَرَقَ
والرجيم المطرود وَقيل المرجوم
وَيسن الْإِسْرَار بِدُعَاء الِافْتِتَاح والتعوذ فِي السّريَّة والجهرية كَسَائِر الْأَذْكَار المسنونة
(و) الْخَامِسَة (الْجَهْر) بِالْقِرَاءَةِ (فِي مَوْضِعه) فَيسنّ لغير الْمَأْمُوم أَن يجْهر بِالْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْح وأولتي العشاءين وَالْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ وخسوف الْقَمَر وَالِاسْتِسْقَاء
والتراويح ووتر رَمَضَان وركعتي الطّواف لَيْلًا أَو وَقت الصُّبْح (والإسرار) بهَا (فِي مَوْضِعه) فيسر فِي غير مَا ذكر إِلَّا فِي نَافِلَة اللَّيْل الْمُطلقَة فيتوسط فِيهَا بَين الْإِسْرَار والجهر إِن لم يشوش على نَائِم أَو مصل أَو نَحوه
وَمحل الْجَهْر والتوسط فِي الْمَرْأَة حَيْثُ لَا يسمع أَجْنَبِي
وَوَقع فِي الْمَجْمُوع مَا يُخَالِفهُ فِي الْخُنْثَى وأجبت عَنهُ فِي شرح الْمِنْهَاج
وَالْعبْرَة فِي الْجَهْر والإسرار فِي الْفَرِيضَة المقضية بِوَقْت الْقَضَاء لَا بِوَقْت الْأَدَاء
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَيُشبه أَن يلْحق بهَا الْعِيد وَالْأَشْبَه خِلَافه كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الْمَجْمُوع فِي بَاب صفة صَلَاة الْعِيدَيْنِ قبيل بَاب التَّكْبِير عملا بِأَصْل أَن الْقَضَاء يَحْكِي الْأَدَاء وَلِأَن الشَّرْع ورد بالجهر بِصَلَاتِهِ فِي مَحل الْإِسْرَار فيستصحب
(و) السَّادِسَة (التَّأْمِين) عقب الْفَاتِحَة بعد سكتة لَطِيفَة لِقَارِئِهَا فِي الصَّلَاة وخارجها لِلِاتِّبَاعِ بِمد وَقصر وَالْمدّ أفْصح وَأشهر فآمين اسْم فعل بِمَعْنى استجب مَبْنِيّ على الْفَتْح وتخفف الْمِيم فِيهِ وَلَو شدده لم تبطل الصلاته لقصده الدُّعَاء
وَيسن فِي جهرية جهر بهَا وَأَن يُؤمن الْمَأْمُوم مَعَ تَأْمِين إِمَامه لخَبر الصَّحِيحَيْنِ إِذا أَمن الإِمَام فَأمنُوا فَإِن من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه
فَائِدَة فِي تَهْذِيب النَّوَوِيّ حِكَايَة أَقْوَال كَثِيرَة فِي آمين من أحْسنهَا قَول وهب بن مُنَبّه آمين أَرْبَعَة أحرف يخلق الله تَعَالَى من كل حرف ملكا يَقُول اللَّهُمَّ اغْفِر لمن يَقُول آمين
وَخرج ب فِي جهرية السّريَّة فَلَا جهر بالتأمين فِيهَا وَلَا معية بل يُؤمن الإِمَام وَغَيره سرا مُطلقًا
(و) السَّابِعَة (قِرَاءَة السُّورَة) وَلَو قَصِيرَة (بعد) قِرَاءَة (الْفَاتِحَة) فِي رَكْعَتَيْنِ أوليين لغير الْمَأْمُوم من إِمَام ومنفرد جهرية كَانَت(1/143)
الصَّلَاة أَو سَرِيَّة لِلِاتِّبَاعِ
أما الْمَأْمُوم فَلَا تسن لَهُ السُّورَة إِن سمع للنَّهْي عَن قِرَاءَته لَهَا بل يستمع قِرَاءَة إِمَامه فَإِن لم يسْمعهَا لصمم أَو بعد أَو سَماع صَوت لم يفهمهُ أَو إسرار إِمَامه وَلَو فِي جهرية قَرَأَ سُورَة إِذْ لَا معنى لسكوته فَإِن سبق الْمَأْمُوم بأوليين من صَلَاة إِمَامه بِأَن لم يدركهما مَعَه قَرَأَهَا فِي بَاقِي صلَاته إِذا تَدَارُكه إِن لم يكن قَرَأَهَا فِيمَا أدْركهُ وَإِلَّا سَقَطت عَنهُ لكَونه مَسْبُوقا لِئَلَّا تَخْلُو صلَاته عَن السُّورَة بِلَا عذر
وَيسن أَن يطول من تسن لَهُ السُّورَة قِرَاءَة أولى على ثَانِيَة لِلِاتِّبَاعِ
نعم إِن ورد نَص بتطويل الثَّانِيَة اتبع كَمَا فِي مَسْأَلَة الزحام أَنه يسن للْإِمَام تَطْوِيل الثَّانِيَة ليلحقه منتظر السُّجُود وَيسن لمنفرد وَإِمَام مَحْصُورين فِي صبح طوال الْمفصل وَفِي ظهر قريب مِنْهَا وَفِي عصر وعشاء أوساطه وَفِي مغرب قصاره وَفِي صبح جُمُعَة فِي أولى {الم تَنْزِيل} وَفِي الثَّانِيَة {هَل أَتَى} لِلِاتِّبَاعِ
(و) الثَّامِنَة (التَّكْبِيرَات عِنْد) ابْتِدَاء (الْخَفْض) لركوع وَسُجُود (و) عِنْد ابْتِدَاء (الرّفْع) من السُّجُود ويمده إِلَى انْتِهَاء الْجُلُوس وَالْقِيَام
(و) التَّاسِعَة (قَول سمع الله لمن حَمده) أَي تقبل الله مِنْهُ حَمده وَلَو قَالَ من حمد الله سمع لَهُ كفى (و) قَول (رَبنَا لَك الْحَمد) أَو (اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد) وبواو فيهمَا قبل (لَك) ملْء السَّمَوَات وملء الأَرْض وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد أَي بعدهمَا كالكرسي {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَأَن يزِيد مُنْفَرد وَإِمَام قوم مَحْصُورين راضين بالتطويل
أهل الثَّنَاء وَالْمجد أَحَق مَا قَالَ العَبْد وكلنَا لَك عبد لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطي لما منعت وَلَا ينفع ذَا الْجد أَي الْغَنِيّ مِنْك أَي عنْدك الْجد لِلِاتِّبَاعِ
ويجهر الإِمَام بسمع الله لمن حَمده وَيسر بربنا لَك الْحَمد وَيسر غَيره بهما
نعم الْمبلغ يجْهر بِمَا يجْهر بِهِ الإِمَام وَيسر بِمَا يسر بِهِ كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع لِأَنَّهُ ناقل وَتَبعهُ عَلَيْهِ جمع من شارحي الْمِنْهَاج وَبَالغ بَعضهم فِي التشنيع على تَارِك الْعَمَل بِهِ بل استحسنه فِي الْمُهِمَّات وَقَالَ يَنْبَغِي مَعْرفَتهَا لِأَن غَالب عمل النَّاس على خِلَافه اه
وَترك هَذَا من جهل الْأَئِمَّة والمؤذنين
(و) الْعَاشِرَة (التَّسْبِيح فِي الرُّكُوع) بِأَن يَقُول سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم ثَلَاثًا لِلِاتِّبَاعِ وَيزِيد مُنْفَرد وَإِمَام مَحْصُورين راضين بالتطويل اللَّهُمَّ لَك ركعت وَبِك آمَنت وَلَك أسلمت خشع لَك سَمْعِي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وَمَا اسْتَقَلت بِهِ قدمي لِلِاتِّبَاعِ
وَتكره الْقِرَاءَة فِي الرُّكُوع وَغَيره من بَقِيَّة الْأَركان غير الْقيام كَمَا فِي الْمَجْمُوع
(و) الْحَادِيَة عشرَة التَّسْبِيح فِي (السُّجُود) بِأَن يَقُول سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا لِلِاتِّبَاعِ
وَيزِيد مُنْفَرد وَإِمَام مَحْصُورين راضين بالتطويل اللَّهُمَّ لَك سجدت وَبِك امنت وَلَك أسلمت سجد وَجْهي للَّذي خلقه وصوره وشق سَمعه وبصره تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ
وَيسن الدُّعَاء فِي السُّجُود لخَبر مُسلم أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد فَأَكْثرُوا الدُّعَاء أَي فِي سُجُودكُمْ
وَالْحكمَة فِي اخْتِصَاص الْعَظِيم بِالرُّكُوعِ والأعلى بِالسُّجُود كَمَا فِي الْمُهِمَّات أَن الْأَعْلَى أفعل تَفْضِيل وَالسُّجُود فِي غَايَة التَّوَاضُع(1/144)
لما فِيهِ من وضع الْجَبْهَة الَّتِي هِيَ أشرف الْأَعْضَاء على مواطىء الْأَقْدَام وَلِهَذَا كَانَ أفضل من الرُّكُوع فَجعل الأبلغ مَعَ الأبلغ انْتهى
(و) الثَّانِيَة عشرَة (وضع) رُؤُوس أَصَابِع (الْيَدَيْنِ على) طرف (الفخذين) فِي الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ ناشرا أَصَابِعه مَضْمُومَة للْقبْلَة كَمَا فِي السُّجُود وَفِي التَّشَهُّد الأول وَفِي الْأَخير (يبسط) يَده (الْيُسْرَى) مَعَ ضم أصابعها فِي تشهده إِلَى جِهَة الْقبْلَة بِأَن لَا يفرج بَينهَا لتتوجه كلهَا إِلَى الْقبْلَة (وَيقبض) أَصَابِع يَده (الْيُمْنَى) كلهَا (إِلَّا المسبحة) وَهِي بِكَسْر الْبَاء الَّتِي بَين الْإِبْهَام وَالْوُسْطَى (فَإِنَّهُ) يرسلها و (يُشِير بهَا) أَي يرفعها مَعَ إمالتها قَلِيلا حَال كَونه (متشهدا) عِنْد قَوْله إِلَّا الله لِلِاتِّبَاعِ
ويديم رَفعهَا ويقصد من ابْتِدَائه بِهَمْزَة إِلَّا الله أَن المعبود وَاحِد فَيجمع فِي توحيده بَين اعْتِقَاده وَقَوله وَفعله
وَلَا يحركها لِلِاتِّبَاعِ فَلَو حركها كره وَلم تبطل صلَاته وَالْأَفْضَل قبض الْإِبْهَام بجنبها بِأَن يَضَعهَا تحتهَا على طرف رَاحَته لِلِاتِّبَاعِ فَلَو أرسلها مَعهَا أَو قبضهَا فَوق الْوُسْطَى أَو حلق بَينهمَا أَو وضع أُنْمُلَة الْوُسْطَى بَين عقدتي الْإِبْهَام أَتَى بِالسنةِ لَكِن مَا ذكر أفضل
(و) الثَّالِثَة عشرَة (الافتراش) بِأَن يجلس على كَعْب يسراه بِحَيْثُ يَلِي ظهرهَا الأَرْض وَينصب يمناه وَيَضَع أَطْرَاف أَصَابِعه مِنْهَا للْقبْلَة يفعل ذَلِك (فِي جَمِيع الجلسات) الْخمس وَهِي الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ وَالْجُلُوس للتَّشَهُّد الأول وجلوس الْمَسْبُوق وجلوس الساهي وجلوس الْمُصَلِّي قَاعِدا للْقِرَاءَة
(و) الرَّابِعَة عشرَة (التورك) وَهُوَ كالافتراش لَكِن يخرج يسراه من جِهَة يَمِينه ويلصق وركه للْأَرْض لِلِاتِّبَاعِ (فِي الجلسة الْأَخِيرَة) فَقَط وحكمته التَّمْيِيز بَين جُلُوس التشهدين ليعلم الْمَسْبُوق حَالَة الإِمَام
(و) الْخَامِسَة عشرَة (التسليمة الثَّانِيَة) على الْمَشْهُور فِي الرَّوْضَة إِلَّا أَن يعرض لَهُ عقب الأولى مَا يُنَافِي صلَاته فَيجب الِاقْتِصَار على الأولى وَذَلِكَ كَأَن خرج وَقت الْجُمُعَة بعد الأولى أَو انْقَضتْ مُدَّة الْمسْح أَو شكّ فِيهَا أَو تخرق الْخُف أَو نوى الْقَاصِر الْإِقَامَة أَو انكشفت عَوْرَته أَو سقط عَلَيْهِ نجس لَا يُعْفَى عَنهُ أَو تبين لَهُ خَطؤُهُ فِي الِاجْتِهَاد أَو عتقت أمة مكشوفة الرَّأْس وَنَحْوه أَو وجد العاري ستْرَة
وَيسن إِذا أَتَى بالتسليمتين أَن يفصل بَينهمَا كَمَا صرح بِهِ الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء وَأَن تكون الأولى يَمِينا وَالْأُخْرَى شمالا
ملتفتا فِي التسليمة الأولى حَتَّى يرى خَدّه الْأَيْمن فَقَط وَفِي التسليمة الثَّانِيَة حَتَّى يرى خَدّه الْأَيْسَر كَذَلِك فيبتدىء بِالسَّلَامِ مُسْتَقْبل الْقبْلَة ثمَّ يلْتَفت وَيتم سَلَامه بِتمَام التفاته نَاوِيا السَّلَام على من الْتفت هُوَ إِلَيْهِ من مَلَائِكَة ومؤمني إنس وجن فينويه بِمرَّة الْيَمين على من عَن يَمِينه وبمرة الْيَسَار على من عَن يسَاره وينويه على من خَلفه وأمامه بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَالْأولَى أولى وَيَنْوِي مَأْمُوم الرَّد على من سلم عَلَيْهِ من إِمَام ومأموم فينويه من على يَمِين الْمُسلم بالتسليمة الثَّانِيَة وَمن على يسَاره بالتسليمة الأولى وَمن خَلفه وأمامه بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَيسن للْمَأْمُوم كَمَا فِي التَّحْقِيق أَن لَا يسلم إِلَّا بعد فرَاغ الإِمَام من تسليمتيه(1/145)
فصل فِيمَا يخْتَلف فِيهِ حكم الذّكر وَالْأُنْثَى فِي الصَّلَاة
كَمَا قَالَ (وَالْمَرْأَة تخَالف الرجل) حَالَة الصَّلَاة (فِي خَمْسَة أَشْيَاء) وَفِي بعض النّسخ أَرْبَعَة أَشْيَاء أما الأول (فالرجل) أَي الذّكر وَإِن كَانَ صَبيا مُمَيّزا (يُجَافِي) أَي يخرج (مرفقيه عَن جَنْبَيْهِ) فِي رُكُوعه وَسُجُوده لِلِاتِّبَاعِ
(و) الثَّانِي (يقل) بِضَم حرف المضارعة أَي يرفع (بَطْنه عَن فخذته فِي السُّجُود) لِأَنَّهُ أبلغ فِي تَمْكِين الْجَبْهَة وَالْأنف من مَحل سُجُوده وَأبْعد من هيئات الكسالى
كَمَا هُوَ فِي شرح مُسلم عَن الْعلمَاء
(و) الثَّالِث (يجْهر فِي مَوضِع الْجَهْر) الْمُتَقَدّم بَيَانه فِي الْفَصْل قبله
(و) الرَّابِع (إِذا نابه) أَي أَصَابَهُ (شَيْء فِي الصَّلَاة) كتنبيه إِمَامه على سَهْو وإذنه لداخل وإنذاره أعمى خشِي وُقُوعه فِي مَحْذُور (سبح) أَي قَالَ سُبْحَانَ الله لخَبر الصَّحِيحَيْنِ من نابه شَيْء فِي صلَاته فليسبح وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء
وَيعْتَبر فِي التَّسْبِيح أَن يقْصد بِهِ الذّكر أَو الذّكر والإعلام وَإِلَّا بطلت صلَاته
(و) الْخَامِس (عَورَة الرجل) أَي الذّكر وَإِن كَانَ صَغِيرا حرا كَانَ أَو غَيره وَيتَصَوَّر فِي غَيره الْمُمَيز فِي الطّواف (مَا بَين سرته وركبته) لخَبر الْبَيْهَقِيّ وَإِذا زوج أحدكُم أمته عَبده أَو أجيره فَلَا تنظر أَي الْأمة إِلَى عَوْرَته
والعورة مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة أما السُّرَّة وَالركبَة فليسا من الْعَوْرَة وَإِن وَجب ستر بعضهما لِأَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب
(و) أما (الْمَرْأَة) أَي الْأُنْثَى وَإِن كَانَت صَغِيرَة مُمَيزَة وَمثلهَا الْخُنْثَى فَإِنَّهَا تخَالف الرجل فِي هَذِه الْخَمْسَة أُمُور الأول أَنَّهَا (تضم بَعْضهَا إِلَى بعض) بِأَن تلصق مرفقيها لجنبيها فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود
(و) الثَّانِي أَن (تلصق بَطنهَا لفخذيها) فِي السُّجُود لِأَنَّهُ أستر لَهَا
(و) الثَّالِث أَنَّهَا (تخْفض صَوتهَا) إِن صلت (بِحَضْرَة الرِّجَال) دفعا للفتنة وَإِن كَانَ الْأَصَح أَن صَوتهَا لَيْسَ بِعَوْرَة (و) الرَّابِع (إِذا نابها) أَي أَصَابَهَا (شَيْء) مِمَّا مر (فِي الصَّلَاة) أَي صلَاتهَا (صفقت) للْحَدِيث الْمَار بِضَرْب بطن كف أَو ظهرهَا على ظهر أُخْرَى أَو ضرب ظهر كف على بطن أُخْرَى لَا بِضَرْب بطن كل مِنْهُمَا على بطن أُخْرَى فَإِن فعلته على وَجه اللّعب وَلَو ظهرا على ظهر عَالِمَة بِالتَّحْرِيمِ بطلت صلَاتهَا وَإِن قل لمنافاته للصَّلَاة
تَنْبِيه لَو صفق الرجل وَسبح غَيره جَازَ مَعَ مخالفتهما السّنة وَالْمرَاد بَيَان التَّفْرِقَة بَينهمَا فِيمَا ذكر لَا بَيَان حكم التَّنْبِيه وَإِلَّا فإنذار الْأَعْمَى وَنَحْوه وَاجِب فَإِن لم يحصل الْإِنْذَار إِلَّا بالْكلَام أَو بِالْفِعْلِ الْمُبْطل وَجب وَتبطل الصَّلَاة بِهِ على الْأَصَح
(و) الْخَامِس (جَمِيع بدن) الْمَرْأَة (الْحرَّة) وَلَو صَغِيرَة مُمَيزَة (عَورَة) فِي الصَّلَاة (إِلَّا وَجههَا وكفيها) ظهرهما وبطنهما من رُؤُوس الْأَصَابِع إِلَى الكوعين لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا} قَالَ ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا هُوَ الْوَجْه والكفان(1/146)
(وَالْأمة) وَلَو مبعضة (كَالرّجلِ) عورتها مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وألحقت بِالرجلِ بِجَامِع أَن رَأس كل مِنْهُمَا لَيست بِعَوْرَة
فَائِدَة السُّرَّة الْموضع الَّذِي يقطع من الْمَوْلُود والسر مَا يقطع من سرته وَلَا يُقَال لَهُ سرة لِأَن السُّرَّة لَا تقطع كَمَا مر
تَنْبِيه الْخُنْثَى كالأنثى رقا وحرية فَإِن اقْتصر الْخُنْثَى الْحر على ستر مَا بَين سرته وركبته لم تصح صلَاته على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة والأفقه فِي الْمَجْمُوع للشَّكّ فِي السّتْر وَصحح فِي التَّحْقِيق الصِّحَّة وَنقل فِي الْمَجْمُوع فِي نواقض الْوضُوء عَن الْبَغَوِيّ وَكثير الْقطع بِهِ للشَّكّ فِي عَوْرَته وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ وَعَلِيهِ الْفَتْوَى
وعَلى الأول يجب الْقَضَاء وَإِن بَان ذكرا للشَّكّ حَال الصَّلَاة وَالْأولَى حمل الأول على مَا إِذا شرع فِي الصَّلَاة وَهُوَ سَاتِر مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وَالثَّانِي على مَا إِذا شرع وَهُوَ سَاتِر لجَمِيع بدنه وانكشف مِنْهُ مَا عدا مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة لِأَن صلَاته قد انْعَقَدت وشككنا فِي الْمُبْطل وَالْأَصْل عَدمه وَهَذَا الْحمل وَإِن كَانَ بَعيدا فَهُوَ أولى من التَّنَاقُض كَمَا مر
فصل فِيمَا يبطل الصَّلَاة
(وَالَّذِي يبطل الصَّلَاة) المنعقدة أُمُور الْمَذْكُور مِنْهَا هُنَا (أحد عشر شَيْئا) الأول (الْكَلَام) أَي النُّطْق بِكَلَام الْبشر بلغَة الْعَرَب وبغيرها بحرفين فَأكْثر أفهما كقم وَلَو لمصْلحَة الصَّلَاة كَقَوْلِه لَا تقم أَو اقعد أَو لَا كعن وَمن لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن هَذِه الصَّلَاة لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس والحرفان من جنس الْكَلَام وتخصيصه بالمفهم فَقَط اصْطِلَاح حَادث للنحاة أَو حرف مفهم نَحْو ق من الْوِقَايَة وع من الوعي وَكَذَا مُدَّة بعد حرف وَإِن لم يفهم نَحْو آوالمد ألف أَو وَاو أَو يَاء فالممدود فِي الْحَقِيقَة حرفان
وَيسْتَثْنى من ذَلِك إِجَابَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته مِمَّن ناداه والتلفظ بقربة كنذر وَعتق بِلَا تَعْلِيق وخطاب وَلَو كَانَ النَّاطِق بذلك مكْرها لندرة الْإِكْرَاه فِيهَا وَشَرطه فِي الِاخْتِيَار (الْعمد) مَعَ الْعلم بِتَحْرِيمِهِ وَأَنه فِي صَلَاة فَلَا تبطل بِقَلِيل كَلَام نَاسِيا للصَّلَاة أَو سبق إِلَيْهِ لِسَانه أَو جهل تَحْرِيمه فِيهَا وَإِن علم تَحْرِيم جنس الْكَلَام فِيهَا وَقرب إِسْلَامه أَو بعد عَن الْعلمَاء(1/147)
بِخِلَاف من بعد إِسْلَامه وَقرب من الْعلمَاء لتَقْصِيره بترك التَّعَلُّم والتنحنح والضحك والبكاء وَلَو من خوف الْآخِرَة والأنين والتأوه والنفخ من الْفَم أَو الْأنف إِن ظهر بِوَاحِد من ذَلِك حرفان بطلت صلَاته وَإِلَّا فَلَا
وَلَو سلم إِمَامه فَسلم مَعَه ثمَّ سلم الإِمَام ثَانِيًا فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُوم قد سلمت قبل هَذَا
فَقَالَ كنت نَاسِيا لم تبطل صَلَاة وَاحِد مِنْهُمَا وَيسلم الْمَأْمُوم وَينْدب لَهُ سُجُود السَّهْو لِأَنَّهُ تكلم بعد انْقِطَاع الْقدْوَة
وَلَو سلم الْمُصَلِّي من اثْنَتَيْنِ ظَانّا كَمَال صلَاته فكالجاهل كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي كتاب الصّيام
أما الْكثير من ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يعْذر فِيهِ لِأَنَّهُ يقطع نظم الصَّلَاة والقليل يحْتَمل لقلته وَلِأَن السَّبق وَالنِّسْيَان فِي الْكثير نَادِر وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين الصَّوْم حَيْثُ لَا يبطل بِالْأَكْلِ الْكثير على الْأَصَح أَن الْمُصَلِّي متلبس بهيئة مذكرة للصَّلَاة يبعد مَعهَا النسْيَان بِخِلَاف الصَّائِم
القَوْل فِي حكم التنحنح ويعذر فِي الْيَسِير عرفا من التنحنح وَنَحْوه مِمَّا مر وَغَيره كالسعال والعطاس وَإِن ظهر مِنْهُ حرفان وَلَو من كل نفخة وَنَحْوهَا للغلبة إِذْ لَا تَقْصِير ويعذر فِي التنحنح لتعذر ركن قولي أما إِذا كثر التنحنح وَنَحْوه للغلبة كَأَن ظهر مِنْهُ حرفان من ذَلِك فَأكْثر فَإِن صلَاته تبطل كَمَا قَالَه الشَّيْخَانِ فِي الضحك والسعال وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُمَا لِأَن ذَلِك يقطع نظم الصَّلَاة وَمحل هَذَا إِذا لم يصر السعال وَنَحْوه مَرضا ملازما لَهُ أما إِذا صَار السعال وَنَحْوه كَذَلِك فَإِنَّهُ لَا يضر كمن بِهِ سَلس بَوْل وَنَحْوه بل أولى وَلَا يعْذر فِي يسير التنحنح للجهر لِأَنَّهُ سنة لَا ضَرُورَة إِلَى التنحنح لَهُ وَفِي معنى الْجَهْر سَائِر السّنَن كَقِرَاءَة السُّورَة والقنوت وتكبيرات الِانْتِقَالَات
فروع لَو جهل بُطْلَانهَا بالتنحنح مَعَ علمه بِتَحْرِيم الْكَلَام فمعذور لخفاء حكمه على الْعَوام وَلَو علم تَحْرِيم الْكَلَام وَجَهل كَونه مُبْطلًا لم يعْذر كَمَا لَو علم تَحْرِيم شرب الْخمر دون إِيجَابه الْحَد فَإِنَّهُ يحد إِذْ من حَقه بعد الْعلم بِالتَّحْرِيمِ الْكَفّ وَلَو تكلم نَاسِيا لتَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة بطلت كنسيان النَّجَاسَة على ثَوْبه صرح بِهِ الْجُوَيْنِيّ وَغَيره
وَلَو جهل تَحْرِيم مَا أَتَى بِهِ(1/148)
مِنْهُ مَعَ علمه بِتَحْرِيم جنس الْكَلَام فمعذور كَمَا شَمله كَلَام ابْن الْمقري فِي روضه وَصرح بِهِ أَصله وَكَذَا لَو سلم نَاسِيا ثمَّ تكلم عَامِدًا أَي يَسِيرا كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي الصَّوْم وَلَو تنحنح إِمَامه فَبَان مِنْهُ حرفان لم يُفَارِقهُ حملا على الْعذر لِأَن الظَّاهِر تحرزه عَن الْمُبْطل وَالْأَصْل بَقَاء الْعِبَادَة وَقد تدل كَمَا قَالَ السُّبْكِيّ قرينَة حَال الإِمَام على خلاف ذَلِك فَتجب الْمُفَارقَة
وَلَو لحن فِي الْفَاتِحَة لحنا يُغير الْمَعْنى وَجَبت مُفَارقَته لَكِن لَا تجب مُفَارقَته فِي الْحَال بل حَتَّى يرْكَع لجَوَاز أَنه لحن سَاهِيا وَقد يتَذَكَّر فَيُعِيد الْفَاتِحَة وَلَو نطق بنظم الْقُرْآن بِقصد التفهيم ك {يَا يحيى خُذ الْكتاب} فهما بِهِ من اسْتَأْذن أَنه يَأْخُذ شَيْئا إِن قصد مَعَ التفهيم قِرَاءَة لم تبطل وَإِلَّا بطلت
وَتبطل بمنسوخ التِّلَاوَة وَإِن لم ينْسَخ حكمه لَا بمنسوخ الحكم دون التِّلَاوَة وَلَا تبطل بِالذكر وَالدُّعَاء وَإِن لم يندبا إِلَّا أَن يُخَاطب بِهِ كَقَوْلِه لعاطس رَحِمك الله وَكَذَا تبطل بخطاب مَا لَا يعقل كَقَوْلِه يَا أَرض رَبِّي وَرَبك الله أعوذ بِاللَّه من شرك وَمن شَرّ مَا فِيك
أما خطاب الْخَالِق كإياك نعْبد وخطاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كالسلام عَلَيْك فِي التَّشَهُّد فَلَا يضر
وَمُقْتَضى كَلَام الرَّافِعِيّ أَن خطاب الْمَلَائِكَة وَبَاقِي الْأَنْبِيَاء تبطل بِهِ الصَّلَاة وَهُوَ الْمُعْتَمد وَالْمُتَّجه كَمَا قَالَه الْإِسْنَوِيّ أَن إِجَابَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْفِعْلِ كإجابته بالْقَوْل
وَلَا تجب إِجَابَة الْأَبَوَيْنِ فِي الصَّلَاة بل تحرم فِي الْفَرْض وَتجوز فِي النَّفْل وَالْأولَى الْإِجَابَة فِيهِ إِن شقّ عَلَيْهِمَا عدمهَا
وَلَو قَرَأَ إِمَامه {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} فَقَالَهَا الْمَأْمُوم بطلت صلَاته إِن لم يقْصد تِلَاوَة أَو دُعَاء كَمَا فِي التَّحْقِيق فَإِن قصد ذَلِك لم تبطل
وَلَو قَالَ استعنت بِاللَّه أَو استعنا بِاللَّه بطلت صلَاته إِلَّا أَن يقْصد بذلك الدُّعَاء وَلَو سكت طَويلا عمدا فِي غير ركن قصير لم تبطل صلَاته لِأَن ذَلِك لَا يخرم هَيْئَة الصَّلَاة
(و) الثَّانِي من الْأَشْيَاء الَّتِي تبطل الصَّلَاة (الْعَمَل) الَّذِي لَيْسَ من جنس الصَّلَاة (الْكثير) فِي الْعرف فَمَا يعده الْعرف قَلِيلا كخلع الْخُف وَلبس الثَّوْب الْخَفِيف فقليل وَكَذَا الخطوتان المتوسطتان والضربتان كَذَلِك وَالثَّلَاث من ذَلِك أَو غَيره كثير إِن توالت سَوَاء أَكَانَت من جنس كخطوات أم أَجنَاس كخطوة وضربة وخلع نعل وَسَوَاء أَكَانَت الخطوات الثَّلَاث بِقدر خطْوَة أم لَا وَلَو فعل وَاحِدَة بنية الثَّلَاث بطلت صلَاته قَالَه العمراني(1/149)
فَائِدَة الخطوة بِفَتْح الْخَاء هِيَ الْمرة الْوَاحِدَة وبالضم اسْم لما بَين الْقَدَمَيْنِ
وَلَو تردد فِي فعل هَل انْتهى إِلَى حد الْكَثْرَة أم لَا
قَالَ الإِمَام ينقدح فِيهِ ثَلَاثَة أوجه أظهرها أَنه لَا يُؤثر
وَتبطل بالوثبة الْفَاحِشَة لَا الحركات الْخَفِيفَة المتوالية كتحريك أَصَابِعه بِلَا حَرَكَة كَفه فِي سبْحَة أَو عقد أَو حل أَو نَحْو ذَلِك كتحريك لِسَانه أَو أجفانه أَو شَفَتَيْه أَو ذكره مرَارًا وَلَاء فَلَا تبطل صلَاته بذلك إِذْ لَا يخل ذَلِك بهيئة الْخُشُوع والتعظيم فَأشبه الْفِعْل الْقَلِيل وسهو الْفِعْل الْمُبْطل كعمده
(و) الثَّالِث (الْحَدث) فَإِن أحدث قبل التسليمة الأولى عمدا كَانَ أَو سَهوا بطلت صلَاته لبُطْلَان طَهَارَته بِالْإِجْمَاع وَيُؤْخَذ من التَّعْلِيل أَن فَاقِد الطهُورَيْنِ إِذا سبقه الْحَدث لم تبطل صلَاته وَجرى على ذَلِك الْإِسْنَوِيّ وَظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب أَنه لَا فرق وَهُوَ الْمُعْتَمد وَالتَّعْلِيل خرج مخرج الْغَالِب فَلَا مَفْهُوم لَهُ كَقَوْلِه تَعَالَى {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} فَإِن الربيبة تحرم مُطلقًا فَلفظ الحجور لَا مَفْهُوم لَهُ
تَنْبِيه لَو صلى نَاسِيا للْحَدَث أثيب على قَصده لَا على فعله إِلَّا الْقِرَاءَة وَنَحْوهَا مِمَّا لَا يتَوَقَّف على وضوء فَإِنَّهُ يُثَاب على فعله أَيْضا
أما الْحَدث بَين التسليمتين فَلَا يضر لِأَن عرُوض الْمُفْسد بعد التَّحَلُّل من الْعِبَادَة لَا يُؤثر وَيسن لمن أحدث فِي صلَاته أَن يَأْخُذ بِأَنْفِهِ ثمَّ ينْصَرف ليوهم أَنه رعف سترا على نَفسه وَيَنْبَغِي أَن يفعل كَذَلِك إِذا أحدث وَهُوَ منتظر للصَّلَاة خُصُوصا إِذا قربت إِقَامَتهَا أَو أُقِيمَت
(و) الرَّابِع (حُدُوث النَّجَاسَة) الَّتِي لَا يُعْفَى عَنْهَا فِي ثَوْبه أَو بدنه حَتَّى دَاخل أَنفه أَو فَمه أَو عينه أَو أُذُنه لقَوْله تَعَالَى {وثيابك فطهر} وَإِنَّمَا جعل دَاخل الْفَم وَالْأنف هُنَا كظاهرهما بِخِلَاف غسل الْجَنَابَة لغلظ أَمر النَّجَاسَة فَلَو وَقعت عَلَيْهِ نَجَاسَة رطبَة أَو يابسة فأزالها فِي الْحَال بقلع ثوب أَو نفض لم يضر
وَلَا يجوز أَن ينحي النَّجَاسَة بِيَدِهِ أَو كمه فَإِن فعل بطلت صلَاته فَإِن نحاها بِعُود كَذَا فِي أحد وَجْهَيْن وَهُوَ الْمُعْتَمد
تَنْبِيه لَو تنجس ثَوْبه بِمَا لَا يُعْفَى عَنهُ وَلم يجد مَاء يغسلهُ بِهِ وَجب قطع موضعهَا إِن لم تنقص قِيمَته بِالْقطعِ أَكثر من أُجْرَة ثوب يُصَلِّي فِيهِ لَو اكتراه هَذَا مَا قَالَه الشَّيْخَانِ تبعا للمتولي وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ يعْتَبر أَكثر الْأَمريْنِ من ذَلِك وَمن ثمن المَاء لَو اشْتَرَاهُ مَعَ أُجْرَة غسله عِنْد الْحَاجة لِأَن كلا مِنْهُمَا لَو انْفَرد وَجب تَحْصِيله اه
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
وَقيد الشَّيْخَانِ أَيْضا وجوب الْقطع بِحُصُول ستر الْعَوْرَة بالطاهر
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلم يذكرهُ الْمُتَوَلِي وَالظَّاهِر أَنه لَيْسَ بِقَيْد بِنَاء على أَن من وجد مَا يستر بِهِ بعض الْعَوْرَة لزمَه ذَلِك وَهُوَ الصَّحِيح اه
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر أَيْضا
وَلَا تصح صَلَاة ملاق بعض لِبَاسه نَجَاسَة وَإِن لم يَتَحَرَّك بحركته كطرف عمَامَته الطَّوِيل وَخَالف ذَلِك مَا لَو سجد على مُتَّصِل بِهِ حَيْثُ تصح صلَاته إِن لم يَتَحَرَّك بحركته لِأَن اجْتِنَاب النَّجَاسَة فِي الصَّلَاة شرع للتعظيم وَهَذَا يُنَافِيهِ وَالْمَطْلُوب فِي السُّجُود كَونه مُسْتَقرًّا على غَيره لحَدِيث مكن جبهتك فَإِذا سجد على مُتَّصِل بِهِ وَلم يَتَحَرَّك بحركته حصل الْمَقْصُود وَلَا(1/150)
تصح صَلَاة قَابض طرف شَيْء كحبل على نجس وَإِن لم يَتَحَرَّك بحركته لِأَنَّهُ حَامِل لمتصل بِنَجَاسَة فَكَأَنَّهُ حَامِل لَهَا وَلَو كَانَ طرف الْحَبل ملقى على ساجور نَحْو كلب وَهُوَ مَا يَجْعَل فِي عُنُقه أَو مشدودا فِي سفينة صَغِيرَة بِحَيْثُ تنجر بجر الْحَبل لم تصح صلَاته بِخِلَاف سفينة كَبِيرَة لَا تنجر بجره فَإِنَّهَا كَالدَّارِ وَلَا فرق فِي السَّفِينَة بَين أَن تكون فِي الْبر أَو فِي الْبَحْر خلافًا لما قَالَه الْإِسْنَوِيّ من أَنَّهَا إِذا كَانَت فِي الْبر لم تبطل قطعا صَغِيرَة كَانَت أَو كَبِيرَة
وَلَو وصل عظمه لانكساره مثلا بِنَجس لفقد الطَّاهِر الصَّالح للوصل فمعذور فِي ذَلِك فَتَصِح صلَاته مَعَه للضَّرُورَة
قَالَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا وَلَا يلْزمه نَزعه إِذا وجد الطَّاهِر اه
وَظَاهره أَنه لَا يجب نَزعه وَإِن لم يخف ضَرَرا وَهُوَ كَذَلِك وَإِن خَالف بعض الْمُتَأَخِّرين فِي ذَلِك أما إِذا وَصله بِهِ مَعَ وجود الطَّاهِر الصَّالح أَو لم يحْتَج إِلَى الْوَصْل فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ نَزعه وَإِن لم يخف ضَرَرا ظَاهرا وَهُوَ مَا يُبِيح التَّيَمُّم فَإِن مَاتَ من وَجب عَلَيْهِ النزع لم ينْزع لهتك حرمته ولسقوط التَّكْلِيف عَنهُ
وَقَضِيَّة التَّعْلِيل الأول تَحْرِيم النزع وَهُوَ مَا نَقله فِي الْبَيَان عَن عَامَّة الْأَصْحَاب
القَوْل فِي حكم الوشم فروع الوشم وَهُوَ غرز الْجلد بالإبرة حَتَّى يخرج الدَّم ثمَّ يذر عَلَيْهِ نَحْو نيلة ليزرق أَو يخضر بِسَبَب الدَّم الْحَاصِل بغرز الْجلد بالإبرة حرَام للنَّهْي عَنهُ فَتجب إِزَالَته إِن لم يخف ضَرَرا يُبِيح التَّيَمُّم فَإِن خَافَ لم تجب إِزَالَته وَلَا إِثْم عَلَيْهِ بعد التَّوْبَة وَهَذَا إِذا فعله بِرِضَاهُ بعد بُلُوغه وَإِلَّا فَلَا تلْزمهُ إِزَالَته وَتَصِح صلَاته وإمامته وَلَا ينجس مَا وضع فِيهِ يَده مثلا إِذا كَانَ عَلَيْهَا وشم
وَلَو داوى جرحه بدواء نجس أَو خاطه بخيط نجس أَو شقّ موضعا فِي بدنه وَجعل فِيهِ دَمًا فكالجبر بِعظم نجس فِيمَا مر
(و) الْخَامِس (انكشاف) شَيْء من (الْعَوْرَة) وَإِن لم يقصر كَمَا لَو طيرت الرّيح سترته إِلَى مَكَان بعيد فَإِن أمكن ستر الْعَوْرَة فِي الْحَال بِأَن كشف الرّيح ثَوْبه فَرده فِي الْحَال لم تبطل صلَاته لانْتِفَاء الْمَحْظُور وَيغْتَفر هَذَا الْعَارِض الْيَسِير
(و) السَّادِس (تَغْيِير النِّيَّة) إِلَى غير الْمَنوِي فَلَو قلب صلَاته الَّتِي هُوَ فِيهَا صَلَاة أُخْرَى عَالما عَامِدًا بطلت صلَاته وَلَو عقب النِّيَّة بِلَفْظ إِن شَاءَ الله أَو نَوَاهَا وَقصد بذلك التَّبَرُّك أَو أَن الْفِعْل وَاقع بِالْمَشِيئَةِ لم يضر أَو التَّعْلِيق أَو طلق لم تصح صلَاته للمنافاة وَلَو قلب فرضا نفلا مُطلقًا ليدرك جمَاعَة مَشْرُوعَة وَهُوَ مُنْفَرد وَلم يعين فَسلم من رَكْعَتَيْنِ ليدركها صَحَّ ذَلِك
أما لَو قَلبهَا نفلا معينا كركعتي الضُّحَى فَلَا تصح صلَاته لافتقاره إِلَى التَّعْيِين أما إِذا لم تشرع الْجَمَاعَة كَمَا لَو كَانَ يُصَلِّي الظّهْر فَوجدَ من يُصَلِّي الْعَصْر فَلَا يجوز الْقطع كَمَا ذكره فِي الْمَجْمُوع
(و) السَّابِع (استدبار الْقبْلَة) والتحول بِبَعْض صَدره عَنْهَا بِغَيْر عذر فَإِن كَانَ عذر فقد تقدم فِي مَوْضِعه
(و) الثَّامِن (الْأكل) وَلَو قَلِيلا لشدَّة منافاته لَهَا لِأَن ذَلِك يشْعر بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا إِلَّا أَن يكون نَاسِيا للصَّلَاة أَو جَاهِلا تَحْرِيمه لقرب عَهده بِالْإِسْلَامِ أَو لبعده عَن الْعلمَاء فَلَا تبطل بقليله لعدم منافاته للصَّلَاة أما كَثِيره فَيبْطل مَعَ النسْيَان أَو الْجَهْل بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ لَا يبطل بذلك
وَفرقُوا بِأَن للصَّلَاة هَيْئَة مذكرة بِخِلَافِهِ وَهَذَا لَا يصلح فرقا فِي جهل التَّحْرِيم وَالْفرق الصَّالح لذَلِك أَن الصَّلَاة(1/151)
ذَات أَفعَال منظومة وَالْفِعْل الْكثير يقطع نظمها بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ كف وَالْمكْره هُنَا كَغَيْرِهِ لندرة الْإِكْرَاه فَلَو كَانَ بفمه سكرة فَبَلع ذوبها بمص وَنَحْوه لَا بمضغ بطلت صلَاته لمنافاته للصَّلَاة كَمَا مر أما المضغ فَإِنَّهُ من الْأَفْعَال فَتبْطل بكثيره وَإِن لم يصل إِلَى الْجوف شَيْء من الممضوغ
(و) التَّاسِع (الشّرْب) وَهُوَ كَالْأَكْلِ فِيمَا مر وَمثل الشّرْب ابتلاع الرِّيق الْمُخْتَلط بِغَيْرِهِ إِذْ الْقَاعِدَة أَن كل مَا أبطل الصَّوْم أبطل الصَّلَاة
(و) الْعَاشِر (القهقهة) فِي الضحك بِخُرُوج حرفين فَأكْثر والبكاء وَلَو من خوف الْآخِرَة والأنين والتأوه والنفخ من الْفَم أَو الْأنف مثل الضحك إِن ظهر بِوَاحِد مِمَّا ذكر حرفان فَأكْثر كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ
(و) الْحَادِي عشر (الرِّدَّة) فِي أَثْنَائِهَا لَا بعد الْفَرَاغ مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا تبطل الْعَمَل إِلَّا إِذا اتَّصَلت بِالْمَوْتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم} وَلَكِن تحبط ثَوَاب عمله كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ
القَوْل فِي بَقِيَّة مبطلات الصَّلَاة وَمن مبطلات الصَّلَاة تَطْوِيل الرُّكْن الْقصير عمدا وَهُوَ الِاعْتِدَال وَالْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا غير مقصودين كَمَا فِي الْمِنْهَاج وَهُوَ الْمُعْتَمد وتخلف الْمَأْمُوم عَن إِمَامه بركنين فعليين عمدا وَكَذَا تقدمه بهما عَلَيْهِ عمدا بِغَيْر عذر وابتلاع نخامة نزلت من رَأسه إِن أمكنه مجها وَلم يفعل
تَتِمَّة يكره الِالْتِفَات فِي الصَّلَاة بِوَجْهِهِ يمنة أَو يسرة إِلَّا لحَاجَة فَلَا يكره وَيكرهُ رفع بَصَره إِلَى السَّمَاء وكف شعره أَو ثَوْبه وَمن ذَلِك كَمَا فِي الْمَجْمُوع أَن يُصَلِّي وشعره معقوص أَو مَرْدُود تَحت عمَامَته أَو ثَوْبه أَو كمه مشمر وَمِنْه شدّ الْوسط وغرز العذبة وَوضع يَده على فِيهِ بِلَا حَاجَة فَإِن كَانَ لَهَا كَمَا إِذا تثاءب فَلَا كَرَاهَة
وَيكرهُ الْقيام على رجل وَاحِدَة وَالصَّلَاة حاقنا بالنُّون أَو حاقبا بِالْبَاء الْمُوَحدَة أَو حاذقا بِالْقَافِ أَو حاقما بِالْمِيم الأول بالبول وَالثَّانِي بالغائط وَالثَّالِث بِالرِّيحِ وَالرَّابِع بالبول وَالْغَائِط
وَتكره الصَّلَاة بِحَضْرَة طَعَام مَأْكُول أَو مشروب يتوق إِلَيْهِ وَأَن يبصق قبل وَجهه أَو عَن يَمِينه وَيكرهُ للْمُصَلِّي وضع يَده على خاصرته وَالْمُبَالغَة فِي خفض الرَّأْس عَن الظّهْر فِي رُكُوعه وَتكره الصَّلَاة فِي الْأَسْوَاق والرحاب الْخَارِجَة عَن الْمَسْجِد وَفِي الْحمام وَلَو فِي مسلخه وَفِي الطَّرِيق فِي الْبُنيان دون الْبَريَّة وَفِي المزبلة وَنَحْوهَا كالمجزرة وَفِي الْكَنِيسَة وَهِي معبد النَّصَارَى وَفِي الْبيعَة بِكَسْر الْبَاء وَهِي معبد الْيَهُود وَنَحْوهمَا من أَمَاكِن الْكفْر وَفِي عطن الْإِبِل وَفِي الْمقْبرَة الطاهرة وَهِي الَّتِي لم تنبش أما المنبوشة فَلَا تصح الصَّلَاة فِيهَا بِغَيْر حَائِل وَيكرهُ اسْتِقْبَال الْقَبْر فِي الصَّلَاة قَالَ صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد
فَائِدَة أجمع الْمُسلمُونَ إِلَّا الشِّيعَة على جَوَاز الصَّلَاة على الصُّوف وَفِيه وَلَا كَرَاهَة فِي الصَّلَاة على شَيْء(1/152)
من ذَلِك إِلَّا عِنْد مَالك فَإِنَّهُ كره الصَّلَاة عَلَيْهِ تَنْزِيها
وَقَالَت الشِّيعَة لَا يجوز لِأَنَّهُ لَيْسَ من نَبَات الأَرْض
(القَوْل فِي الستْرَة أَمَام الْمُصَلِّي) وَيسن أَن يُصَلِّي لنَحْو جِدَار كعمود فَإِن عجز عَنهُ فلنحو عَصا مغروزة كمتاع لِلِاتِّبَاعِ فَإِن عجز عَن ذَلِك بسط مصلى كسجادة فَإِن عجز عَنهُ خطّ أَمَامه خطا طولا وَطول الْمَذْكُورَات ثلثا ذِرَاع فَأكْثر وَبَينهَا وَبَين الْمُصَلِّي ثَلَاثَة أَذْرع فَأَقل فَإِذا صلى إِلَى شَيْء من ذَلِك على هَذَا التَّرْتِيب سنّ لَهُ وَلغيره دفع مار بَينه وَبَينهَا
وَالْمرَاد بالمصلي والخط أعلاهما وَيحرم الْمُرُور بَينه وَبَينهَا وَإِن لم يجد الْمَار سَبِيلا آخر وَإِذا صلى إِلَى ستْرَة فَالسنة أَن يَجْعَلهَا مُقَابلَة ليمينه أَو شِمَاله وَلَا يصمد إِلَيْهَا بِضَم الْمِيم أَي لَا يَجْعَلهَا تِلْقَاء وَجهه
فصل فِيمَا تشْتَمل عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَمَا يجب عِنْد الْعَجز عَن الْقيام وَبَدَأَ بالقسم الأول فَقَالَ (وَعدد رَكْعَات الْفَرَائِض) فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة غير يَوْم الْجُمُعَة وسفر الْقصر (سَبْعَة عشر رَكْعَة) قَالَ الإِمَام الرَّازِيّ وَالْحكمَة فِي ذَلِك أَن زمن الْيَقَظَة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة سبع عشرَة سَاعَة فَإِن النَّهَار المعتدل اثْنَتَا عشرَة سَاعَة وسهر الْإِنْسَان من أول اللَّيْل ثَلَاث سَاعَات وَمن آخِره ساعتان إِلَى طُلُوع الْفجْر فَجعل لكل سَاعَة رَكْعَة اه
(وفيهَا) أَي الْفَرَائِض (أَربع وَثَلَاثُونَ سَجْدَة) لِأَن فِي كل رَكْعَة سَجْدَتَيْنِ (و) فِيهَا (أَربع وَتسْعُونَ تَكْبِيرَة) بِتَقْدِيم الْمُثَنَّاة على السِّين لِأَن فِي كل ربَاعِية اثْنَتَيْنِ وَعشْرين تَكْبِيرَة بتكبيرة الْإِحْرَام فيجتمع مِنْهَا سِتَّة وَسِتُّونَ تَكْبِيرَة وَفِي الثنائية إِحْدَى عشرَة تَكْبِيرَة وَفِي الثلاثية سبع عشرَة تَكْبِيرَة فجملتها أَربع وَتسْعُونَ تَكْبِيرَة (و) فِيهَا (تسع تشهدات) لِأَن فِي الثنائية تشهدا وَاحِدًا وَفِي كل من الْبَاقِي تشهدين (و) فِيهَا (عشر تسليمات) لِأَن فِي كل صَلَاة تسليمتين (و) فِيهَا (مائَة وَثَلَاث وَخَمْسُونَ تَسْبِيحَة) لِأَن فِي كل رَكْعَة تسع تسبيحات مَضْرُوبَة فِي سَبْعَة عشر فتبلغ مَا ذكره تَفْصِيل ذَلِك فِي الثنائية ثَمَانِيَة عشر وَفِي الثلاثية سَبْعَة وَعِشْرُونَ وَفِي الرّبَاعِيّة مائَة وَثَمَانِية أما يَوْم الْجُمُعَة فعدد ركعاته خمس عشرَة رَكْعَة فِيهَا خَمْسَة عشر رُكُوعًا وَثَلَاثُونَ سَجْدَة وَثَلَاث وَثَمَانُونَ تَكْبِيرَة وَمِائَة وَخمْس وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَة وثمان تشهدات وَأما سفر الْقصر فعدد ركعاته للقاصر إِحْدَى عشرَة رَكْعَة فِيهَا أحد عشر رُكُوعًا وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَجْدَة وَإِحْدَى وَسِتُّونَ تَكْبِيرَة وتسع وَتسْعُونَ تَسْبِيحَة بِتَقْدِيم الْمُثَنَّاة على السِّين فيهمَا وست تشهدات
وَأما السَّلَام فَلَا يخْتَلف عدده فِي كل الْأَحْوَال (وَجُمْلَة الْأَركان فِي الصَّلَاة) الْمَفْرُوضَة وَهِي الْخمس (مائَة وَسِتَّة وَعِشْرُونَ ركنا) الأولى سبع بِتَقْدِيم السِّين وَعِشْرُونَ إِذْ التَّرْتِيب ركن كَمَا سبق
ثمَّ ذكر تَفْصِيله بقوله (فِي الصُّبْح) من ذَلِك (ثَلَاثُونَ ركنا) النِّيَّة وَتَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالْقِيَام وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة وَالرُّكُوع والطمأنينة فِيهِ وَالرَّفْع من الرُّكُوع والطمأنينة فِيهِ وَالسُّجُود الأول والطمأنينة فِيهِ(1/153)
وَالْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ والطمأنينة فِيهِ والسجدة الثَّانِيَة والطمأنينة فِيهَا والركعة الثَّانِيَة كالأولى مَا عدا النِّيَّة وَتَكْبِيرَة الْإِحْرَام وتزيد الْجُلُوس للتَّشَهُّد وَقِرَاءَة التَّشَهُّد وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعده والتسليمة الأولى
وَسكت عَن التَّرْتِيب وَقد علمت أَنه من الْأَركان وعد كل سَجْدَة ركنا وَهُوَ خلاف مَا قدمه فِي الْأَركان من عدهما ركنا وَاحِدًا وَهُوَ خلاف لَفْظِي (وَفِي الْمغرب) من ذَلِك (اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ركنا) الأولى ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ لما عرفت أَن التَّرْتِيب ركن أَولهَا النِّيَّة وَآخِرهَا التسليمة الأولى وَفِي (كل) من الصَّلَاة (الرّبَاعِيّة) من ذَلِك (أَرْبَعَة وَخَمْسُونَ ركنا) الأولى خمس وَخَمْسُونَ بِزِيَادَة التَّرْتِيب أَولهَا النِّيَّة وَآخِرهَا التسليمة الأولى كَمَا علم ذَلِك من عدهَا فِي الصُّبْح فَلَا نطيل بِذكرِهِ
القَوْل فِي حكم من عجز عَن الْقيام فِي الصَّلَاة أَو وَالْقعُود ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي بقوله (وَمن عجز عَن الْقيام) فِي الْفَرِيضَة (صلى جَالِسا) للْحَدِيث السَّابِق وللإجماع على أَي صفة شَاءَ لإِطْلَاق الحَدِيث الْمَذْكُور وَلَا ينقص ثَوَابه عَن ثَوَاب الْمُصَلِّي قَائِما لِأَنَّهُ مَعْذُور
قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَا نعني بِالْعَجزِ عدم الْإِمْكَان فَقَط بل فِي مَعْنَاهُ خوف الْهَلَاك أَو الْفرق وَزِيَادَة الْمَرَض أَو خوف مشقة شَدِيدَة أَو دوران الرَّأْس فِي حق رَاكب السَّفِينَة كَمَا تقدم بعض ذَلِك كُله
قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة الَّذِي اخْتَارَهُ الإِمَام فِي ضبط الْعَجز أَن تلْحقهُ مشقة تذْهب خشوعه لَكِن قَالَ فِي الْمَجْمُوع إِن الْمَذْهَب خِلَافه اه
وَجمع بَين كَلَامي الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع بِأَن اذهاب الْخُشُوع ينشأ عَن مشقة شَدِيدَة وافتراشه أفضل من غَيره من الجلسات لِأَنَّهَا هَيْئَة مَشْرُوعَة فِي الصَّلَاة فَكَانَت أولى من غَيرهَا وَيكرهُ الإقعاء هُنَا وَفِي سَائِر قعدات الصَّلَاة بِأَن يجلس الْمُصَلِّي على وركيه وهما أصل فَخذيهِ ناصبا رُكْبَتَيْهِ بِأَن يلصق ألييه بِموضع صلَاته وَينصب فَخذيهِ وساقيه كَهَيئَةِ المستوفز وَمن الإقعاء نوع مُسْتَحبّ عِنْد النَّوَوِيّ وَهُوَ أَن يفرش رجلَيْهِ وَيَضَع ألييه على قَدَمَيْهِ ثمَّ ينحني الْمُصَلِّي قَاعِدا لركوعه بِحَيْثُ تقَابل جَبهته مَا قُدَّام رُكْبَتَيْهِ وَهَذَا أقل رُكُوعه وأكمله أَن تحاذي جَبهته مَوضِع سُجُوده لِأَنَّهُ يضاهي رُكُوع الْقَائِم فِي الْمُحَاذَاة فِي الْأَقَل والأكمل
(وَمن عجز عَن الْجُلُوس) بِأَن ناله من الْجُلُوس تِلْكَ الْمَشَقَّة الْحَاصِلَة من الْقيام (صلى مُضْطَجعا) لجنبه مُسْتَقْبل الْقبْلَة بِوَجْهِهِ ومقدم بدنه وجوبا لحَدِيث عمرَان السَّابِق وكالميت فِي اللَّحْد وَالْأَفْضَل أَن يكون على الْأَيْمن وَيكرهُ على الْأَيْسَر بِلَا عذر كَمَا جزم بِهِ فِي الْمَجْمُوع
(وَمن عجز عَنهُ) أَي عَن الِاضْطِجَاع (صلى مُسْتَلْقِيا) على ظَهره وأخمصاه للْقبْلَة وَلَا بُد من وضع نَحْو وسَادَة تَحت رَأسه ليستقبل بِوَجْهِهِ الْقبْلَة إِلَّا أَن يكون بِالْكَعْبَةِ وَهِي مسقوفة فَالْمُتَّجه جَوَاز الاستلقاء على ظَهره وَكَذَا على وَجهه وَإِن لم تكن مسقوفة لِأَنَّهُ كَيْفَمَا توجه فَهُوَ مُتَوَجّه لجزء مِنْهَا ويركع وَيسْجد بِقدر إِمْكَانه فَإِن قدر الْمُصَلِّي على الرُّكُوع فقد كَرَّرَه للسُّجُود وَمن قدر على زِيَادَة على أكمل الرُّكُوع تعيّنت تِلْكَ الزِّيَادَة للسُّجُود لِأَن الْفرق بَينهمَا وَاجِب على المتمكن
(فَإِن عجز) عَمَّا ذكر (أَوْمَأ) بِهَمْزَة (بِرَأْسِهِ) وَالسُّجُود أَخفض من الرُّكُوع فَإِن عجز فببصره فَإِن عجز أجْرى أَفعَال الصَّلَاة بسننها (وَنوى بِقَلْبِه) وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَلَا تسْقط عَنهُ الصَّلَاة وعقله ثَابت لوُجُود منَاط التَّكْلِيف
تَتِمَّة لَو قدر فِي أثْنَاء صلَاته على الْقيام أَو الْقعُود أَو عجز عَنهُ أَتَى بالمقدور لَهُ وَبنى على قِرَاءَته وَينْدب إِعَادَتهَا فِي الْأَوَّلين لتقع حَال الْكَمَال فَإِن قدر على الْقيام أَو الْقعُود قبل الْقِرَاءَة قَرَأَ قَائِما أَو قَاعِدا وَلَا تُجزئه قِرَاءَته فِي نهوضه لقدرته عَلَيْهَا فِيمَا هُوَ(1/154)
أكمل مِنْهُ فَلَو قَرَأَ فِيهِ شَيْئا أَعَادَهُ وَتجب الْقِرَاءَة فِي هوي الْعَاجِز لِأَنَّهُ أكمل مِمَّا بعده وَلَو قدر على الْقيام بعد الْقِرَاءَة وَجب الْقيام بِلَا طمأنينة ليركع مِنْهُ لقدرته عَلَيْهِ وَإِنَّمَا لم تجب الطُّمَأْنِينَة لِأَنَّهُ غير مَقْصُود لنَفسِهِ وَإِن قدر عَلَيْهِ فِي الرُّكُوع قبل الطُّمَأْنِينَة ارْتَفع لَهَا إِلَى حد الرُّكُوع عَن قيام فَإِن انتصب ثمَّ ركع بطلت صلَاته لما فِيهِ من زِيَادَة رُكُوع أَو بعد الطُّمَأْنِينَة فقد تمّ رُكُوعه وَلَا يلْزمه الِانْتِقَال إِلَى حد الراكعين وَلَو قدر فِي الِاعْتِدَال قبل الطُّمَأْنِينَة قَامَ وَاطْمَأَنَّ وَكَذَا بعْدهَا إِن أَرَادَ قنوتا فِي مَحَله وَإِلَّا فَلَا يلْزمه الْقيام لِأَن الِاعْتِدَال ركن قصير فَلَا يطول
وَقَضِيَّة الْمُعَلل جَوَاز الْقيام وَقَضِيَّة التَّعْلِيل مَنعه وَهُوَ أوجه فَإِن قنت قَاعِدا بطلت صلَاته
فَائِدَة سُئِلَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام عَن رجل يَتَّقِي الشُّبُهَات ويقتصر على مَأْكُول يسد الرمق من نَبَات الأَرْض وَنَحْوه فضعف بِسَبَب ذَلِك عَن الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَالْقِيَام فِي الْفَرَائِض
فَأجَاب أَنه لَا خير فِي ورع يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاط فَرَائض الله تَعَالَى
فصل فِي سُجُود السَّهْو فِي الصَّلَاة فرضا كَانَت أَو نفلا
وَهُوَ لُغَة نِسْيَان الشَّيْء والغفلة عَنهُ وَاصْطِلَاحا الْغَفْلَة عَن الشَّيْء فِي الصَّلَاة وَإِنَّمَا يسن عِنْد ترك مَأْمُور بِهِ من الصَّلَاة أَو فعل مَنْهِيّ عَنهُ وَلَو بِالشَّكِّ كَمَا سَيَأْتِي
وَقد بَدَأَ بالقسم الأول فَقَالَ (والمتروك من الصَّلَاة) فرضا كَانَت أَو نفلا (ثَلَاثَة أَشْيَاء) وَهِي (فرض وَسنة) أَي بعض (وهيئة) وَتقدم بَيَانهَا
القَوْل فِي حكم ترك الْفَرْض فِي الصَّلَاة (فالفرض) الْمَتْرُوك سَهوا (لَا يَنُوب) أَي لَا يقوم (عَنهُ سُجُود السَّهْو) وَلَا غَيره من سنَن الصَّلَاة (بل) حكمه أَنه (إِن ذكره) قبل سَلَامه أَتَى بِهِ لِأَن حَقِيقَة الصَّلَاة لَا تتمّ بِدُونِهِ وَقد يشرع مَعَ الْإِتْيَان بِهِ السُّجُود كَأَن سجد قبل رُكُوعه سَهوا ثمَّ تذكر فَإِنَّهُ(1/155)
يقوم ويركع وَيسْجد لهَذِهِ الزِّيَادَة فَإِن مَا بعد الْمَتْرُوك لَغْو وَقد لَا يشرع السُّجُود لتداركه بِأَن لَا تحصل زِيَادَة كَمَا لَو كَانَ الْمَتْرُوك السَّلَام فتذكره عَن قرب وَلم ينْتَقل من مَوْضِعه فَيسلم من غير سُجُود وَإِن تذكره بعد السَّلَام (وَالزَّمَان قريب) وَلم يطَأ نَجَاسَة (أَتَى بِهِ) وجوبا (وَبنى عَلَيْهِ) بَقِيَّة الصَّلَاة وَإِن تكلم قَلِيلا واستدبر الْقبْلَة وَخرج من الْمَسْجِد (وَسجد للسَّهْو) فَإِن طَال الْفَصْل أَو وطىء نَجَاسَة استأنفها وتفارق هَذِه الْأُمُور وَطْء النَّجَاسَة باحتمالها فِي الصَّلَاة فِي الْجُمْلَة والمرجع فِي طوله وقصره إِلَى الْعرف
وَقيل يعْتَبر الْقصر بِالْقدرِ الَّذِي نقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خبر ذِي الْيَدَيْنِ وَالْمَنْقُول فِي الْخَبَر أَنه قَامَ وَمضى إِلَى نَاحيَة الْمَسْجِد وراجع ذَا الْيَدَيْنِ وَسَأَلَ الصَّحَابَة فَأَجَابُوهُ
القَوْل فِي حكم ترك الْمسنون والتلبس فِي الْفَرْض ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي فَقَالَ (والمسنون) أَي الْبَعْض الْمَتْرُوك عمدا أَو سَهوا (لَا يعود إِلَيْهِ بعد التَّلَبُّس بِالْفَرْضِ) كَأَن تذكر بعد انتصابه ترك التَّشَهُّد الأول أَي يحرم عَلَيْهِ الْعود لِأَنَّهُ تلبس بِفَرْض فَلَا يقطعهُ لسنة فَإِن عَاد عَامِدًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ بطلت صلَاته لِأَنَّهُ زَاد قعُودا عمدا وَإِن عَاد لَهُ نَاسِيا أَنه فِي الصَّلَاة فَلَا تبطل لعذره وَيلْزمهُ الْقيام عِنْد تذكره (وَلكنه يسْجد للسَّهْو) لِأَنَّهُ زَاد جُلُوسًا فِي غير مَوْضِعه وَترك التَّشَهُّد وَالْجُلُوس فِي مَوْضِعه أَو جَاهِلا بِتَحْرِيم الْعود فَكَذَا لَا تبطل فِي الْأَصَح كالناسي لِأَنَّهُ مِمَّا يخفى على الْعَوام وَيلْزمهُ الْقيام عِنْد الْعلم وَيسْجد للسَّهْو
تَنْبِيه هَذَا فِي الْمُنْفَرد وَالْإِمَام
القَوْل فِي حكم الْمَأْمُوم لَو ترك سنة وتلبس بِفَرْض وَأما الْمَأْمُوم فَلَا يجوز لَهُ أَن يتَخَلَّف عَن إِمَامه للتَّشَهُّد فَإِن تخلف بطلت صلَاته لفحش الْمُخَالفَة(1/156)
فَإِن قيل قد صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَو ترك إِمَامه الْقُنُوت فَلهُ أَن يتَخَلَّف ليقنت إِذا لحقه فِي السَّجْدَة الأولى
أُجِيب بِأَنَّهُ فِي تِلْكَ لم يحدث فِي تخلفه وقوفا وَهَذَا أحدث فِيهِ جُلُوس تشهد وَلَو قعد الْمَأْمُوم فانتصب الإِمَام ثمَّ عَاد قبل قيام الْمَأْمُوم حرم قعوده مَعَه لوُجُوب الْقيام عَلَيْهِ بانتصاب الإِمَام وَلَو انتصبا مَعًا ثمَّ عَاد لم يعد الْمَأْمُوم لِأَنَّهُ إِمَّا مخطىء بِهِ فَلَا يُوَافقهُ فِي الْخَطَأ أَو عَامِد فَصلَاته بَاطِلَة بل يُفَارِقهُ أَو ينتظره حملا على أَنه عَاد نَاسِيا فَإِن عَاد مَعَه عَامِدًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ بطلت صلَاته أَو نَاسِيا أَو جَاهِلا فَلَا وَإِذا انتصب الْمَأْمُوم نَاسِيا وَجلسَ إِمَامه للتَّشَهُّد الأول وَجب عَلَيْهِ الْعود لِأَن الْمُتَابَعَة آكِد مِمَّا ذَكرُوهُ وَمن التَّلَبُّس بِالْفَرْضِ وَلِهَذَا سقط بهَا الْقيام وَالْقِرَاءَة عَن الْمَسْبُوق فَإِن لم يعد بطلت صلَاته إِذا لم ينْو الْمُفَارقَة
فَإِن قيل إِذا ظن الْمَسْبُوق سَلام إِمَامه فَقَامَ لزمَه الْعود وَلَيْسَ لَهُ أَن يَنْوِي الْمُفَارقَة
أُجِيب بِأَن الْمَأْمُوم هُنَا فعل فعلا للْإِمَام أَن يَفْعَله وَلَا كَذَلِك فِي المستشكل بهَا لِأَنَّهُ بعد فرَاغ الصَّلَاة فَجَاز لَهُ الْمُفَارقَة لذَلِك
أما إِذا تعمد التّرْك فَلَا يلْزمه الْعود بل يسن لَهُ كَمَا رَجحه النَّوَوِيّ فِي التَّحْقِيق وَغَيره وَإِن صرح الإِمَام بِتَحْرِيمِهِ حِينَئِذٍ وَفرق الزَّرْكَشِيّ بَين هَذِه وَبَين مَا لَو قَامَ نَاسِيا حَيْثُ يلْزمه الْعود كَمَا مر بِأَن الْعَامِد انْتقل إِلَى وَاجِب وَهُوَ الْقيام فَخير بَين الْعود وَعَدَمه لِأَنَّهُ تخير بَين واجبين بِخِلَاف النَّاسِي فَإِن فعله غير مُعْتَد بِهِ لِأَنَّهُ لما كَانَ مَعْذُورًا كَانَ قِيَامه كَالْعدمِ فَتلْزمهُ الْمُتَابَعَة كَمَا لَو لم يقم ليعظم أجره والعامد كالمفوت لتِلْك السّنة بتعمده فَلَا يلْزمه الْعود إِلَيْهَا وَلَو ركع قبل إِمَامه نَاسِيا تخير بَين الْعود والانتظار
وَيُفَارق مَا مر من أَنه يلْزمه الْعود فِيمَا لَو قَامَ نَاسِيا لفحش الْمُخَالفَة ثمَّ فيقيد فرق الزَّرْكَشِيّ بذلك أَو عَامِدًا سنّ لَهُ الْعود
وَلَو ظن الْمُصَلِّي قَاعِدا أَنه تشهد التَّشَهُّد الأول فَافْتتحَ الْقِرَاءَة للثالثة لم يعد إِلَى قِرَاءَة التَّشَهُّد وَإِن سبقه لِسَانه بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ ذَاكر أَنه لم يتَشَهَّد جَازَ لَهُ الْعود إِلَى قِرَاءَة التَّشَهُّد لِأَن تعمد الْقِرَاءَة كتعمد الْقيام وَسبق اللِّسَان إِلَيْهَا غير مُعْتَد بِهِ
وَلَو نسي قنوتا فَذكره فِي سُجُوده لم يعد لَهُ(1/157)
لتلبسه بِفَرْض أَو قبله بِأَن لم يضع جَمِيع أَعْضَاء السُّجُود حَتَّى لَو رفع الْجَبْهَة فَقَط أَو بعض أَعْضَاء السُّجُود جَازَ لَهُ الْعود لعدم التَّلَبُّس بِالْفَرْضِ وَسجد للسَّهْو إِن بلغ أقل الرُّكُوع فِي هويه لِأَنَّهُ زَاد رُكُوعًا سَهوا والعمد بِهِ مُبْطل لِأَن ضَابِط ذَلِك أَن ماأبطل عمده كركوع زَائِد أَو سُجُود سجد لسَهْوه وَمَا لَا كالالتفات والخطوتين لم يسْجد لسَهْوه وَلَا لعمده لعدم وُرُود السُّجُود لَهُ
وَلَو قَامَ لخامسة فِي ربَاعِية نَاسِيا ثمَّ تذكر قبل جُلُوسه عَاد إِلَى الْجُلُوس فَإِن كَانَ قد تشهد فِي الرَّابِعَة أَو لم يتَذَكَّر حَتَّى قَرَأَهُ فِي الْخَامِسَة أَجزَأَهُ وَلَو ظَنّه التَّشَهُّد الأول ثمَّ يسْجد للسَّهْو وَإِن كَانَ لم يتَشَهَّد أَتَى بِهِ ثمَّ سجد للسَّهْو وَسلم وَلَو شكّ فِي ترك بعض معِين كقنوت سجد لِأَن الأَصْل عدم الْفِعْل بِخِلَاف الشَّك فِي ترك مَنْدُوب فِي الْجُمْلَة لِأَن الْمَتْرُوك قد لَا يَقْتَضِي السُّجُود بِخِلَاف الشَّك فِي ترك بعض مُبْهَم كَأَن شكّ فِي الْمَتْرُوك هَل هُوَ بعض أَو لَا لضَعْفه بالإبهام
وَبِهَذَا علم أَن للتَّقْيِيد بالمعين معنى خلافًا لمن زعم خِلَافه فَجعل الْمُبْهم كالمعين وَإِنَّمَا يكون كالمعين فِيمَا إِذا علم أَنه ترك بَعْضًا وَشك هَل هُوَ قنوت مثلا أَو تشهد أول أَو غَيره من الأبعاض فَإِنَّهُ فِي هَذِه يسْجد لعلمه بِمُقْتَضى السُّجُود أَو شكّ فِي ارْتِكَاب مَنْهِيّ عَنهُ وَإِن أبطل عمده ككلام قَلِيل فَلَا يسْجد للسَّهْو لِأَن الأَصْل عَدمه وَلَو سَهَا وَشك هَل سَهَا بِالْأولِ أَو بِالثَّانِي سجد لتيقن مقتضيه وَلَو سَهَا وَشك أَسجد للسَّهْو أَو لَا سجد لِأَن الأَصْل عَدمه أَو هَل سجد وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ سجد أُخْرَى
القَوْل فِي حكم من ترك الهيئات (والهيئة) كالتسبيحات وَنَحْوهَا مِمَّا لَا يجْبر بِالسُّجُود (لَا يعود) الْمُصَلِّي (إِلَيْهَا بعد تَركهَا وَلَا يسْجد للسَّهْو عَنْهَا) سَوَاء تَركهَا عمدا أم سَهوا
القَوْل فِي حكم من شكّ فِي عدد الرَّكْعَات (وَإِذا شكّ فِي عدد مَا أَتَى بِهِ من الرَّكْعَات) أَهِي ثَالِثَة أم رَابِعَة (بنى على الْيَقِين وَهُوَ) الْعدَد (الْأَقَل) لِأَنَّهُ الأَصْل (وَيَأْتِي) وجوبا (بِمَا بَقِي) فَيَأْتِي بِرَكْعَة لِأَن الأَصْل عدم فعلهَا (وَسجد للسَّهْو) للتردد فِي زِيَادَته وَلَا يرجع فِي فعله إِلَى قَول غَيره كالحاكم إِذا نسي حكمه لَا يَأْخُذ بقول الشُّهُود عَلَيْهِ
فَإِن قيل إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاجع أَصْحَابه ثمَّ عَاد للصَّلَاة فِي خبر ذِي الْيَدَيْنِ
أُجِيب بِأَن ذَلِك مَحْمُول على تذكره بعد مُرَاجعَته
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَيَنْبَغِي تَخْصِيص ذَلِك بِمَا إِذا لم يبلغُوا حد التَّوَاتُر وَهُوَ بحث حسن
وَيَنْبَغِي أَنه إِذا صلى فِي جمَاعَة وصلوا إِلَى هَذَا الْحَد أَنه يَكْتَفِي بفعلهم
وَالأَصَح أَنه يسْجد وَإِن زَالَ شكه قبل سَلَامه بِأَن تذكر أَنَّهَا رَابِعَة لفعلها مَعَ التَّرَدُّد وَكَذَا حكم مَا يصليه مترددا وَاحْتمل كَونه زَائِدا أَنه يسْجد للتردد فِي زِيَادَته وَإِن زَالَ شكه قبل سَلَامه بِأَن تذكر قبله أَنَّهَا رَابِعَة سجد للتردد فِي زيادتها أما مَا لَا يحْتَمل زِيَادَة كَأَن شكّ فِي رَكْعَة من ربَاعِية أَهِي ثَالِثَة أم رَابِعَة فَتذكر فِيهَا أَنَّهَا ثَالِثَة فَلَا يسْجد لِأَن مَا فعله مِنْهَا مَعَ التَّرَدُّد لَا بُد مِنْهُ وَلَو(1/158)
شكّ بعد سَلَامه وَإِن قصر الْفَصْل فِي ترك فرض غير نِيَّة وَتَكْبِيرَة تحرم لم يُؤثر لِأَن الظَّاهِر وُقُوع السَّلَام عَن تَمام فَإِن كَانَ الْفَرْض نِيَّة أَو تَكْبِيرَة تحرم اسْتَأْنف لِأَنَّهُ شكّ فِي أصل الِانْعِقَاد وَهل الشَّرْط كالفرض اخْتلف فِيهِ كَلَام النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي الْمَجْمُوع فِي مَوضِع لَو شكّ هَل كَانَ متطهرا أَنه يُؤثر فارقا بِأَن الشَّك فِي الرُّكْن يكثر بِخِلَافِهِ فِي الطُّهْر وَبِأَن الشَّك فِي الرُّكْن حصل بعد تَيَقّن الِانْعِقَاد وَالْأَصْل الِاسْتِمْرَار على الصِّحَّة بِخِلَافِهِ فِي الطُّهْر فَإِنَّهُ شكّ فِي الِانْعِقَاد وَالْأَصْل عَدمه
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَمُقْتَضى هَذَا الْفرق أَن تكون الشُّرُوط كلهَا كَذَلِك وَقَالَ فِي الْخَادِم وَهُوَ فرق حسن لَكِن الْمَنْقُول عدم الْإِعَادَة مُطلقًا وَهُوَ الْمُتَّجه وَعلله بالمشقة وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْمقري وَنَقله فِي الْمَجْمُوع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطُّهْر فِي مسح الْخُف عَن جمع والموافق لما نَقله هُوَ عَن الْقَائِلين بِهِ عَن النَّص أَنه لَو شكّ بعد طواف نُسكه هَل طَاف متطهرا أم لَا لَا يلْزمه إِعَادَة الطّواف
وَقد نقل عَن الشَّيْخ أبي حَامِد جَوَاز دُخُول الصَّلَاة بطهر مَشْكُوك فِيهِ وَظَاهر أَن صورته أَن يتَذَكَّر أَنه متطهر قبل الشَّك وَإِلَّا فَلَا تَنْعَقِد
تَنْبِيه لَا يخفى أَن مُرَادهم بِالسَّلَامِ الَّذِي لَا يُؤثر بعده الشَّك سَلام لَا يحصل بعده عود إِلَى الصَّلَاة بِخِلَاف غَيره فَلَو سلم نَاسِيا لسجود السَّهْو ثمَّ عَاد وَشك فِي ترك ركن لزمَه تَدَارُكه كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامهم
سَهْو الْمَأْمُوم يحملهُ الإِمَام وسهو الْمَأْمُوم حَال قدوته الحسية كَأَن سَهَا عَن التَّشَهُّد الأول أَو الْحكمِيَّة كَأَن سهت الْفرْقَة الثَّانِيَة فِي ثانيتها من صَلَاة ذَات الرّقاع يحملهُ إِمَامه كَمَا يتَحَمَّل عَنهُ الْجَهْر وَالسورَة وَغَيرهمَا كالقنوت وَخرج بِحَال الْقدْوَة سَهْوه قبلهَا كَمَا لَو سَهَا وَهُوَ مُنْفَرد ثمَّ اقْتدى بِهِ فَلَا يتحمله وَإِن اقْتضى كَلَام الشَّيْخَيْنِ فِي بَاب صَلَاة الْخَوْف تَرْجِيح تحمله لعدم اقتدائه بِهِ حَال سَهْوه وسهوه بعْدهَا كَمَا لَو سَهَا بعد سَلام إِمَامه سَوَاء أَكَانَ مَسْبُوقا أم مُوَافقا لانْتِهَاء الْقدْوَة فَلَو سلم الْمَسْبُوق بِسَلام إِمَامه فَذكره حَالا بنى على صلَاته وَسجد للسَّهْو لِأَن سَهْوه بعد انْقِضَاء الْقدْوَة وَيُؤْخَذ من الْعلَّة أَنه لَو سلم مَعَه لم يسْجد وَهُوَ كَذَلِك كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ
وَيلْحق الْمَأْمُوم سَهْو إِمَامه غير الْمُحدث وَإِن أحدث الإِمَام بعد ذَلِك لتطرق الْخلَل لصلاته من صَلَاة إِمَامه ولتحمل الإِمَام عَنهُ(1/159)
السَّهْو أما إِذا بَان إِمَامه مُحدثا فَلَا يلْحقهُ سَهْوه وَلَا يتَحَمَّل هُوَ عَنهُ إِذْ لَا قدوة حَقِيقَة حَال السَّهْو فَإِن سجد إِمَامه للسَّهْو لزمَه مُتَابَعَته وَإِن لم يعرف أَنه سَهَا حملا على أَنه سَهَا فَلَو ترك الْمَأْمُوم الْمُتَابَعَة عمدا بطلت صلَاته لمُخَالفَته حَال الْقدْوَة فَإِن لم يسْجد الإِمَام كَأَن تَركه عمدا أَو سَهوا سجد الْمَأْمُوم بعد سَلام الإِمَام جبرا للخلل وَلَو اقْتدى مَسْبُوق بِمن سَهَا بعد اقتدائه أَو قبله سجد مَعَه ثمَّ يسْجد أَيْضا فِي آخر صلَاته لِأَنَّهُ مَحل السَّهْو الَّذِي لحقه فَإِن لم يسْجد الإِمَام سجد الْمَسْبُوق آخر صَلَاة نَفسه لما مر
القَوْل فِي حكم سُجُود السَّهْو وَمحله (وَسُجُود السَّهْو) وَإِن كثر السَّهْو (سَجْدَتَانِ) لاقتصاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِمَا فِي قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ مَعَ تعدده فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سلم من ثِنْتَيْنِ وَتكلم وَمَشى لِأَنَّهُ يجْبر مَا قبله وَمَا وَقع فِيهِ وَمَا بعده حَتَّى لَو سجد للسَّهْو ثمَّ سَهَا قبل سَلَامه بِكَلَام أَو غَيره أَو سجد للسَّهْو ثَلَاثًا سَهوا فَلَا يسْجد ثَانِيًا لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن وُقُوع مثله فِي السُّجُود ثَانِيًا فيتسلسل
قَالَ الدَّمِيرِيّ وَهَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا أَبُو يُوسُف الْكسَائي لما ادّعى أَن من تبحر فِي علم اهْتَدَى بِهِ إِلَى سَائِر الْعُلُوم فَقَالَ لَهُ أَنْت إِمَام فِي النَّحْو وَالْأَدب فَهَل تهتدي إِلَى الْفِقْه فَقَالَ سل مَا شِئْت
فَقَالَ لَو سجد سُجُود السَّهْو ثَلَاثًا هَل يلْزمه أَن يسْجد قَالَ لَا لِأَن المصغر لَا يصغر وكيفيتهما كسجود الصَّلَاة فِي واجباته ومندوباته كوضع الْجَبْهَة والطمأنينة والتحامل والتنكيس والافتراش فِي الْجُلُوس بَينهمَا والتورك بعدهمَا
وَيَأْتِي بِذكر سُجُود الصَّلَاة فيهمَا
وَهُوَ (سنة) للأحاديث الْمَارَّة فَلَا تبطل الصَّلَاة بِتَرْكِهِ (وَمحله) بعد تشهده و (قبل السَّلَام) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بهم الظّهْر فَقَامَ من الأولتين وَلم يجلس فَقَامَ النَّاس مَعَه حَتَّى إِذا قضى الصَّلَاة وانتظر النَّاس تَسْلِيمه كبر وَهُوَ جَالس فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم ثمَّ سلم رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
قَالَ الزُّهْرِيّ وَفعله قبل السَّلَام هُوَ آخر الْأَمريْنِ من فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد يَتَعَدَّد سُجُود السَّهْو صُورَة كَمَا لَو سَهَا إِمَام الْجُمُعَة وسجدوا للسَّهْو فَبَان فَوتهَا أتموها ظهرا وسجدوا ثَانِيًا آخر الصَّلَاة لتبين أَن السُّجُود الأول لَيْسَ فِي آخر الصَّلَاة وَلَو ظن سَهوا فَسجدَ فَبَان عدم السَّهْو سجد للسَّهْو لِأَنَّهُ زَاد سَجْدَتَيْنِ سَهوا وَلَو سجد فِي آخر صَلَاة مَقْصُورَة فَلَزِمَهُ الْإِتْمَام سجد ثَانِيًا فَهَذَا مِمَّا يَتَعَدَّد فِيهِ السُّجُود صُورَة لَا حكما
تَتِمَّة لَو نسي من صلَاته ركنا وَسلم مِنْهَا بعد فراغها ثمَّ أحرم عَقبهَا بِأُخْرَى لم تَنْعَقِد لِأَنَّهُ محرم بِالْأولَى فَإِن تذكره قبل طول الْفَصْل بَين السَّلَام وتيقن التّرْك بنى على الأولى وَإِن تخَلّل كَلَام يسير وَلَا يعْتد بِمَا أَتَى بِهِ من الثَّانِيَة أَو بعد طوله استأنفها لبطلانها بطول الْفَصْل فَإِن أحرم بِالْأُخْرَى بعد طول الْفَصْل انْعَقَدت الثَّانِيَة لبُطْلَان الأولى بطول الْفَصْل وَأعَاد الأولى وَلَو دخل فِي الصَّلَاة وَظن أَنه لم يكبر للْإِحْرَام فاستأنف الصَّلَاة فَإِن علم بعد فرَاغ الصَّلَاة الثَّانِيَة أَنه كبر تمت بهَا الأولى وَإِن علم قبل فَرَاغه بنى على الأولى وَسجد للسَّهْو فِي الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَتَى نَاسِيا بِمَا لَو فعله عَامِدًا بطلت صلَاته وَهُوَ الْإِحْرَام الثَّانِي(1/160)
فصل فِي بَيَان الْأَوْقَات الَّتِي تكره فِيهَا الصَّلَاة بِلَا سَبَب
وَهِي كَرَاهَة تَحْرِيم كَمَا صَححهُ فِي الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع هُنَا وَإِن صحّح فِي التَّحْقِيق وَفِي الطَّهَارَة من الْمَجْمُوع أَنَّهَا كَرَاهَة تَنْزِيه (و) هِيَ (خَمْسَة أَوْقَات لَا يصلى فِيهَا) أَي فِي غير حرم مَكَّة (إِلَّا صَلَاة لَهَا سَبَب) غير مُتَأَخّر فَإِنَّهَا تصح كفائتة وَصَلَاة كسوف واستسقاء وَطواف وتحية وَسنة وضوء وَسجْدَة تِلَاوَة وشكر وَصَلَاة جَنَازَة وَسَوَاء أَكَانَت فَائِتَة فرضا أم نفلا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بعد الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ هما اللَّتَان بعد الظّهْر أما مَا لَهُ سَبَب مُتَأَخّر كركعتي الاستخارة وَالْإِحْرَام فَإِنَّهَا لَا تَنْعَقِد كَالصَّلَاةِ الَّتِي لَا سَبَب لَهَا
تَنْبِيه هَل المُرَاد بالمتقدم وقسيميه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاة كَمَا فِي الْمَجْمُوع أَو إِلَى الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة كَمَا فِي أصل الرَّوْضَة رأيان أظهرهمَا كَمَا قَالَه الْإِسْنَوِيّ الأول وَعَلِيهِ جرى ابْن الرّفْعَة فَعَلَيهِ صَلَاة الْجِنَازَة وَنَحْوهَا كركعتي الطّواف سَببهَا مُتَقَدم وعَلى الثَّانِي قد يكون مُتَقَدما وَقد يكون مُقَارنًا بِحَسب وُقُوعه فِي الْوَقْت وَمحل مَا ذكر إِذا لم يتحر بِهِ وَقت الْكَرَاهَة ليوقعها فِيهِ وَإِلَّا بِأَن قصد تَأْخِير الْفَائِتَة أَو الْجِنَازَة ليوقعها فِيهِ أَو دخل الْمَسْجِد وَقت الْكَرَاهَة بنية التَّحِيَّة فَقَط أَو قَرَأَ آيَة سَجْدَة ليسجد لَهَا فِيهِ وَلَو قَرَأَهَا قبل الْوَقْت لم تصح للْأَخْبَار الصَّحِيحَة كَخَبَر لَا تحروا بصلاتكم طُلُوع الشَّمْس وَلَا غُرُوبهَا
ثمَّ أَخذ المُصَنّف فِي بَيَان الْأَوْقَات الْمَذْكُورَة فَقَالَ مبتدئا بأولها (بعد صَلَاة الصُّبْح) أَدَاء (حَتَّى تطلع الشَّمْس) وترتفع للنَّهْي عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (و) ثَانِيهَا (عِنْد) مُقَارنَة (طُلُوعهَا) سَوَاء أصلى الصُّبْح أم لَا (حَتَّى تتكامل) فِي الطُّلُوع (وترتفع) بعد ذَلِك (قدر رمح) فِي رَأْي الْعين وَإِلَّا فالمسافة بعيدَة (و) ثَالِثهَا (عِنْد الاسْتوَاء حَتَّى تَزُول) لما روى مُسلم عَن عقبَة بن عَامر ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينهانا أَن نصلي فِيهِنَّ أَو نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا حِين تطلع الشَّمْس بازغة حَتَّى ترْتَفع وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل الشَّمْس وَحين تضيف للغروب
فالظهيرة شدَّة الْحر وقائمها الْبَعِير يكون باركا فَيقوم من شدَّة حر الأَرْض وتضيف بتاء مثناة من فَوق ثمَّ ضاد مُعْجمَة ثمَّ مثناة من تَحت مُشَدّدَة أَي تميل وَالْمرَاد بالدفن فِي هَذِه الْأَوْقَات أَن يترقب الشَّخْص هَذِه الْأَوْقَات لأجل الدّفن وَسبب الْكَرَاهَة مَا جَاءَ فِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الشَّمْس تطلع وَمَعَهَا قرن الشَّيْطَان فَإِذا ارْتَفَعت فَارقهَا فَإِذا اسْتَوَت قارنها فَإِذا زَالَت فَارقهَا
فَإِذا دنت للغروب قارنها فَإِذا غربت فَارقهَا
رَوَاهُ الشَّافِعِي بِسَنَدِهِ
وَاخْتلف فِي المُرَاد بقرن الشَّيْطَان فَقيل قوهه وهم عباد الشَّمْس يَسْجُدُونَ لَهَا فِي هَذِه الْأَوْقَات وَقيل إِن الشَّيْطَان يدني رَأسه من الشَّمْس فِي هَذِه الْأَوْقَات ليَكُون الساجد لَهَا سَاجِدا لَهُ وَقيل غير ذَلِك
وتزول الْكَرَاهَة بالزوال وَوقت الاسْتوَاء لطيف لَا يسع الصَّلَاة وَلَا يكَاد يشْعر بِهِ حَتَّى تَزُول الشَّمْس(1/161)
إِلَّا أَن التَّحَرُّم يُمكن إِيقَاعه فِيهِ فَلَا تصح الصَّلَاة فِيهِ إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة فيستثنى من كَلَامه لاستثنائه فِي خبر أبي دَاوُد وَغَيره وَالأَصَح جَوَاز الصَّلَاة فِي هَذَا الْوَقْت مُطلقًا سَوَاء أحضر إِلَى الْجُمُعَة أم لَا وَقيل يخْتَص بِمن حضر الْجُمُعَة وَصَححهُ جمَاعَة
(و) رَابِعهَا (بعد) صَلَاة (الْعَصْر) أَدَاء وَلَو مَجْمُوعَة فِي وَقت الظّهْر (حَتَّى تغرب الشَّمْس) بكمالها للنَّهْي عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
(و) خَامِسهَا (عِنْد) مُقَارنَة (الْغُرُوب حَتَّى يتكامل غُرُوبهَا) للنَّهْي عَنهُ فِي خبر مُسلم
القَوْل فِي أَقسَام الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة بِاعْتِبَار الْوَقْت وَبِاعْتِبَار الْفِعْل تَنْبِيه قد علم مِمَّا تقرر انقسام النَّهْي فِي هَذِه الْأَوْقَات إِلَى مَا يتَعَلَّق بِالزَّمَانِ وَهُوَ ثَلَاثَة أَوْقَات عِنْد الطُّلُوع وَعند الاسْتوَاء وَعند الْغُرُوب
وَإِلَى مَا يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ وَهُوَ وقتان بعد الصُّبْح أَدَاء وَبعد الْعَصْر كَذَلِك
وتقسيم هَذِه الْأَوْقَات إِلَى خَمْسَة هِيَ عبارَة الْجُمْهُور وتبعهم فِي الْمُحَرر عَلَيْهَا وَهِي أولى من اقْتِصَار الْمِنْهَاج على الاسْتوَاء وعَلى بعد صَلَاة الصُّبْح وَبعد صَلَاة الْعَصْر
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَالْمرَاد بحصر الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَذْكُورَة إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْقَات الْأَصْلِيَّة وَإِلَّا فَسَيَأْتِي كَرَاهَة التَّنَفُّل فِي وَقت إِقَامَة الصَّلَاة وَوقت صعُود الإِمَام لخطبة الْجُمُعَة انْتهى
وَإِنَّمَا ترد الأولى إِذا قُلْنَا الْكَرَاهَة للتنزيه وَزَاد بَعضهم كَرَاهَة وَقْتَيْنِ آخَرين وهما بعد طُلُوع الْفجْر إِلَى صلَاته وَبعد الْمغرب إِلَى صلَاته وَقَالَ إِنَّهَا كَرَاهَة تَحْرِيم على الصَّحِيح وَنَقله عَن النَّص انْتهى
وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب خِلَافه
وَأَخْبرنِي بعض الْحَنَابِلَة أَن التَّحْرِيم مَذْهَبهم وَخرج بِغَيْر حرم مَكَّة حرمهَا فَلَا تكره فِيهِ صَلَاة فِي شَيْء من هَذِه الْأَوْقَات مُطلقًا لخَبر يَا بني عبد منَاف لَا تمنعوا أحدا طَاف بِهَذَا الْبَيْت وَصلى فِي أَيَّة سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره وَقَالَ حسن صَحِيح وَلما فِيهِ من زِيَادَة فضل الصَّلَاة نعم هِيَ خلاف الأولى خُرُوجًا من الْخلاف
وَخرج بحرم مَكَّة حرم الْمَدِينَة فَإِنَّهُ كَغَيْرِهِ
فصل فِي صَلَاة الْجَمَاعَة
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة} أَمر بهَا فِي الْخَوْف فَفِي الْأَمْن أولى وَالْأَخْبَار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ صَلَاة الْجَمَاعَة أفضل من صَلَاة الْفَذ بِسبع وَعشْرين دَرَجَة وَفِي رِوَايَة بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَلَا مُنَافَاة لِأَن الْقَلِيل لَا يَنْفِي الْكثير أَو أَنه أخبر أَولا بِالْقَلِيلِ ثمَّ أخبرهُ الله تَعَالَى بِزِيَادَة الْفضل فَأخْبر بهَا أَو أَن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال الْمُصَلِّين
وَمكث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُدَّة مقَامه بِمَكَّة ثَلَاث عشرَة سنة يُصَلِّي بِغَيْر جمَاعَة لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى(1/162)
عَنْهُم كَانُوا مقهورين يصلونَ فِي بُيُوتهم فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة أَقَامَ بهَا الْجَمَاعَة وواظب عَلَيْهَا وانعقد الْإِجْمَاع عَلَيْهَا
وَفِي الْإِحْيَاء عَن أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي أَنه قَالَ لَا يفوت أحدا صَلَاة الْجَمَاعَة إِلَّا بذنب أذنبه
قَالَ وَكَانَ السّلف الصَّالح يعزون أنفسهم ثَلَاثَة أَيَّام إِذا فَاتَتْهُمْ التَّكْبِيرَة الأولى وَسَبْعَة أَيَّام إِذا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَة
وأقلها إِمَام ومأموم كَمَا يعلم مِمَّا سَيَأْتِي وَذكر فِي الْمَجْمُوع فِي بَاب هَيْئَة الْجُمُعَة أَن من صلى فِي عشرَة آلَاف لَهُ سبع وَعِشْرُونَ دَرَجَة وَمن صلى مَعَ اثْنَيْنِ لَهُ ذَلِك لَكِن دَرَجَات الأول أكمل
(وَصَلَاة الْجَمَاعَة) فِي المكتوبات غير الْجُمُعَة (سنة مُؤَكدَة) وَلَو للنِّسَاء للأحاديث السَّابِقَة وَهَذَا مَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ المُصَنّف وَالأَصَح الْمَنْصُوص كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ أَنَّهَا فِي غير الْجُمُعَة فرض كِفَايَة لرجال أَحْرَار مقيمين غير عُرَاة فِي أَدَاء مَكْتُوبَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من ثَلَاثَة فِي قَرْيَة أَو بَدو لَا تُقَام فيهم الْجَمَاعَة إِلَّا استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان أَي غلب فَعَلَيْك بِالْجَمَاعَة فَإِنَّمَا يَأْكُل الذِّئْب من الْغنم القاصية رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم فَتجب بِحَيْثُ يظْهر شعار الْجَمَاعَة بإقامتها بِمحل فِي الْقرْيَة الصَّغِيرَة وَفِي الْكَبِيرَة والبلد بمحال يظْهر بهَا الشعار وَيسْقط الطّلب بطَائفَة وَإِن قلت فَلَو أطبقوا على إِقَامَتهَا فِي الْبيُوت وَلم يظْهر بهَا شعار لم يسْقط الْفَرْض فَإِن امْتَنعُوا كلهم من إِقَامَتهَا على مَا ذكر قَاتلهم الإِمَام أَو نَائِبه دون آحَاد النَّاس وَهَكَذَا لَو تَركهَا أهل محلّة فِي الْقرْيَة الْكَبِيرَة أَو الْبَلَد فَلَا تجب على النِّسَاء ومثلهن الخناثى وَلَا على من فِيهِ رق لاشتغالهم بِخِدْمَة السَّادة وَلَا على الْمُسَافِرين كَمَا جزم بِهِ فِي التَّحْقِيق وَإِن نقل السُّبْكِيّ وَغَيره عَن نَص الْأُم أَنَّهَا تجب عَلَيْهِم أَيْضا وَلَا على العراة بل هِيَ والانفراد فِي حَقهم سَوَاء إِلَّا أَن يَكُونُوا عميا أَو فِي ظلمَة فتستحب وَلَا فِي مقضية خلف مقضية من نوعها بل تسن أما مقضية خلف مُؤَدَّاة أَو بِالْعَكْسِ أَو خلف مقضية لَيست من نوعها فَلَا تسن وَلَا فِي منذورة بل وَلَا تسن
أما الْجُمُعَة فالجماعة فِيهَا فرض عين كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد لغير الْمَرْأَة وَمثلهَا الْخُنْثَى أفضل مِنْهَا فِي غير الْمَسْجِد كالبيت وَجَمَاعَة الْمَرْأَة وَالْخُنْثَى فِي الْبَيْت أفضل مِنْهَا فِي الْمَسْجِد لخَبر الصَّحِيحَيْنِ صلوا أَيهَا النَّاس فِي بُيُوتكُمْ فَإِن أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إِلَّا الْمَكْتُوبَة أَي فَهِيَ فِي الْمَسْجِد أفضل لِأَن الْمَسْجِد مُشْتَمل على الشّرف وَإِظْهَار الشعائر وَكَثْرَة الْجَمَاعَة وَيكرهُ لذوات الهيئات حُضُور(1/163)
الْمَسْجِد مَعَ الرِّجَال لما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت لَو أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى مَا أحدث النِّسَاء لمنعهن الْمَسْجِد كَمَا منعن نسَاء بني إِسْرَائِيل ولخوف الْفِتْنَة
أما غَيْرهنَّ فَلَا يكره لَهُنَّ ذَلِك قَالَ فِي الْمَجْمُوع قَالَ الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب وَيُؤمر الصَّبِي بِحُضُور الْمَسَاجِد وجماعات الصَّلَاة ليعتادها وَتحصل فَضِيلَة الْجَمَاعَة للشَّخْص بِصَلَاتِهِ فِي بَيته أَو نَحوه بِزَوْجَة أَو ولد أَو رَقِيق أَو غير ذَلِك وأقلها اثْنَان كَمَا مر وَمَا كثر جمعه من الْمَسَاجِد كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ أفضل مِمَّا قل جمعه مِنْهَا وَكَذَا مَا كثر جمعه من الْبيُوت أفضل مِمَّا قل جمعه مِنْهَا وَأفْتى الْغَزالِيّ أَنه لَو كَانَ إِذا صلى مُنْفَردا خشع وَإِذا صلى فِي جمَاعَة لم يخشع فالانفراد أفضل وَتَبعهُ ابْن عبد السَّلَام
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَالْمُخْتَار بل الصَّوَاب خلاف مَا قَالَاه وَهُوَ كَمَا قَالَ وَقد يكون قَلِيل الْجمع أفضل فِي صور مِنْهَا مَا لَو كَانَ الإِمَام مبتدعا كمعتزلي وَمِنْهَا مَا لَو كَانَ قَلِيل الْجمع يُبَادر إِمَامه بِالصَّلَاةِ فِي أول الْوَقْت المحبوب فَإِن الصَّلَاة مَعَه أول الْوَقْت أولى كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَمِنْهَا مَا لَو كَانَ قَلِيل الْجمع لَيْسَ فِي أرضه شُبْهَة وَكثير الْجمع بِخِلَافِهِ لاستيلاء ظَالِم عَلَيْهِ فالسالم من ذَلِك أولى وَمِنْهَا مَا لَو كَانَ الإِمَام سريع الْقِرَاءَة وَالْمَأْمُوم بطيئا لَا يدْرك مَعَه الْفَاتِحَة قَالَ الْغَزالِيّ فَالْأولى أَن يُصَلِّي خلف إِمَام بطيء الْقِرَاءَة وَإِدْرَاك تَكْبِيرَة الْإِحْرَام مَعَ الإِمَام فَضِيلَة وَإِنَّمَا تحصل بالاشتغال بالتحرم عقب تحرم إِمَامه مَعَ حُضُوره تَكْبِيرَة إِحْرَامه لحَدِيث الشَّيْخَيْنِ إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ فَإِذا كبر فكبروا وَالْفَاء للتعقيب فإبطاؤه بالمتابعة لوسوسة غير ظَاهِرَة كَمَا فِي الْمَجْمُوع عذر بِخِلَاف مَا لَو أَبْطَأَ لغير وَسْوَسَة وَلَو لمصْلحَة الصَّلَاة كالطهارة أَو لم يحضر تَكْبِيرَة إِحْرَام إِمَامه أَو لوسوسة ظَاهِرَة
وتدرك فَضِيلَة الْجَمَاعَة فِي غير الْجُمُعَة مَا لم يسلم الإِمَام وَإِن لم يقْعد مَعَه أما الْجُمُعَة فَإِنَّهَا لَا تدْرك إِلَّا بِرَكْعَة كَمَا سَيَأْتِي
وَينْدب أَن يُخَفف الإِمَام مَعَ فعل الأبعاض والهيئات إِلَّا أَن يرضى بتطويله محصورون لَا يُصَلِّي وَرَاءه غَيرهم وَيكرهُ التَّطْوِيل ليلحق آخَرُونَ سَوَاء أَكَانَ عَادَتهم الْحُضُور أم لَا وَلَو أحس الإِمَام فِي رُكُوع غير ثَان من صَلَاة الْكُسُوف أَو فِي تشهد أخير بداخل مَحل الصَّلَاة يقْتَدى بِهِ سنّ انْتِظَاره لله تَعَالَى إِن لم يُبَالغ فِي الِانْتِظَار وَلم يُمَيّز بَين الداخلين وَإِلَّا كره
وَيسن إِعَادَة الْمَكْتُوبَة مَعَ غَيره وَلَو وَاحِدًا فِي الْوَقْت وَهل تشْتَرط نِيَّة الْفَرْضِيَّة فِي الصَّلَاة الْمُعَادَة أم لَا الَّذِي اخْتَارَهُ الإِمَام أَنه يَنْوِي الظّهْر أَو الْعَصْر مثلا وَلَا يتَعَرَّض للْفَرض وَرجحه فِي الرَّوْضَة وَهُوَ الظَّاهِر وَإِن صحّح فِي الْمِنْهَاج الِاشْتِرَاط وَالْفَرْض الأولى
وَرخّص فِي ترك الْجَمَاعَة بِعُذْر عَام أَو خَاص كمشقة مطر وَشدَّة ريح بلَيْل وَشدَّة وَحل وَشدَّة حر وَشدَّة برد وَشدَّة جوع وَشدَّة عَطش بِحَضْرَة طَعَام مَأْكُول أَو مشروب يتوق إِلَيْهِ ومشقة مرض ومدافعة حدث وَخَوف على مَعْصُوم وَخَوف من غَرِيم لَهُ وبالخائف إعسار يعسر عَلَيْهِ إثْبَاته وَخَوف من عُقُوبَة يَرْجُو الْخَائِف الْعَفو عَنْهَا بغيبته وَخَوف من تخلف عَن رفْقَة وفقد لِبَاس لَائِق وَأكل ذِي ريح كريه يعسر إِزَالَته وَحُضُور مَرِيض بِلَا متعهد أَو بمتعهد وَكَانَ نَحْو قريب كَزَوج محتضر أَو لم يكن محتضرا لكنه يأنس بِهِ
وَقد ذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج زِيَادَة على الْأَعْذَار الْمَذْكُورَة مَعَ فَوَائِد قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَمعنى كَونهَا أعذارا سُقُوط الْإِثْم على قَول الْفَرْض وَالْكَرَاهَة على قَول السّنة لَا حُصُول فَضلهَا
وَجزم الرَّوْيَانِيّ بِأَنَّهُ يكون محصلا للْجَمَاعَة إِذا صلى مُنْفَردا وَكَانَ قَصده الْجَمَاعَة لَوْلَا الْعذر وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَيدل لَهُ خبر أبي مُوسَى إِذا مرض العَبْد أَو سَافر كتب لَهُ من الْعَمَل مَا كَانَ يعمله صَحِيحا مُقيما رَوَاهُ البُخَارِيّ
ثمَّ شرع المُصَنّف فِي شُرُوط الِاقْتِدَاء (و) هِيَ أُمُور الأول أَنه يجب (على الْمَأْمُوم أَن يَنْوِي الائتمام) بِالْإِمَامِ أَو الِاقْتِدَاء بِهِ أَو نَحْو ذَلِك فِي غير جُمُعَة مُطلقًا وَفِي جُمُعَة مَعَ(1/164)
تحرم لِأَن التّبعِيَّة عمل فافتقرت إِلَى نِيَّة فَإِن لم ينْو مَعَ تحرم انْعَقَدت صلَاته فُرَادَى إِلَّا الْجُمُعَة فَلَا تَنْعَقِد أصلا لاشْتِرَاط الْجَمَاعَة فِيهَا فَلَو ترك هَذِه النِّيَّة أَو شكّ فِيهَا وَتَابعه فِي فعل أَو سَلام بعد انْتِظَار كثير للمتابعة بطلت صلَاته لِأَنَّهُ وَقفهَا على صَلَاة غَيره بِلَا رابطة بَينهمَا وَلَا يشْتَرط تعْيين الإِمَام فَإِن عينه وَلم يشر إِلَيْهِ وَأَخْطَأ كَأَن نوى الِاقْتِدَاء بزيد فَبَان عمرا وَتَابعه كَمَا مر بطلت صلَاته لمتابعته لمن لم ينْو الِاقْتِدَاء بِهِ فَإِن عينه بِإِشَارَة إِلَيْهِ كَهَذا مُعْتَقدًا أَنه زيد أَو بزيد هَذَا أَو الْحَاضِر صحت
وَقَوله (دون الإِمَام) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن نِيَّة الإِمَام الْإِمَامَة لَا تشْتَرط فِي غير الْجُمُعَة بل تسْتَحب ليحوز فَضِيلَة الْجَمَاعَة فَإِن لم ينْو لم تحصل لَهُ إِذْ لَيْسَ للمرء من عمله إِلَّا مَا نوى وَتَصِح نِيَّته لَهَا مَعَ تحرمه وَإِن لم يكن إِمَامًا فِي الْحَال لِأَنَّهُ سيصير إِمَامًا وفَاقا للجويني وَخِلَافًا للعمراني فِي عدم الصِّحَّة حِينَئِذٍ وَإِذا نوى فِي أثْنَاء الصَّلَاة حَاز الْفَضِيلَة من حِين النِّيَّة وَلَا تنعطف نِيَّته على مَا قبلهَا بِخِلَاف مَا لَو نوى الصَّوْم فِي النَّفْل قبل الزَّوَال فَإِنَّهَا تنعطف على مَا قبلهَا لِأَن النَّهَار لَا يَتَبَعَّض صوما وَغَيره بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِنَّهَا تبعض جمَاعَة وَغَيرهَا أما فِي الْجُمُعَة فَيشْتَرط أَن يَأْتِي بهَا فِيهَا مَعَ التَّحَرُّم فَلَو تَركهَا لم تصح جمعته لعدم استقلاله فِيهَا سَوَاء أَكَانَ من الْأَرْبَعين أم زَائِدا عَلَيْهِم
نعم إِن لم يكن من أهل الْوُجُوب وَنوى غير الْجُمُعَة لم يشْتَرط مَا ذكر وَظَاهر أَن الصَّلَاة الْمُعَادَة كَالْجُمُعَةِ إِذْ لَا تصح فُرَادَى فَلَا بُد من نِيَّة الْإِمَامَة فِيهَا فَإِن أَخطَأ الإِمَام فِي غير الْجُمُعَة وَمَا ألحق بهَا فِي تعْيين تَابعه الَّذِي نوى الْإِمَامَة بِهِ لم يضر لِأَن غلطه فِي النِّيَّة لَا يزِيد على تَركهَا أما إِذا نوى ذَلِك فِي الْجُمُعَة وَمَا ألحق بهَا فَإِنَّهُ يضر لِأَن مَا يجب التَّعَرُّض لَهُ يضر الْخَطَأ فِيهِ
الثَّانِي من شُرُوط الِاقْتِدَاء عدم تقدم الْمَأْمُوم على إِمَامه فِي الْمَكَان فَإِن تقدم عَلَيْهِ فِي أثْنَاء صلَاته بطلت أَو عِنْد التَّحَرُّم لم تَنْعَقِد كالتقدم بتكبيرة الْإِحْرَام قِيَاسا للمكان على الزَّمَان
نعم يسْتَثْنى من ذَلِك صَلَاة شدَّة الْخَوْف كَمَا سَيَأْتِي فَإِن الْجَمَاعَة فِيهَا أفضل من الِانْفِرَاد وَإِن تقدم بَعضهم على بعض وَلَو شكّ هَل هُوَ مُتَقَدم أم لَا كَأَن كَانَ فِي ظلمَة صحت صلَاته مُطلقًا لِأَن الأَصْل عدم الْمُفْسد كَمَا نَقله النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ عَن النَّص وَلَا تضر مُسَاوَاة الْمَأْمُوم لإمامه وَالِاعْتِبَار فِي التَّقَدُّم وَغَيره للقائم بالعقب وَهُوَ مُؤخر الْقدَم لَا الكعب فَلَو تَسَاويا فِي الْعقب وَتَقَدَّمت أَصَابِع الْمَأْمُوم لم يضر
نعم إِن كَانَ اعْتِمَاده على رُؤُوس الْأَصَابِع ضرّ كَمَا بَحثه الأسنوي وَلَو تقدّمت عقبه وتأخرت أَصَابِعه ضرّ
تَنْبِيه لَو اعْتمد على إِحْدَى رجلَيْهِ وَقدم الْأُخْرَى على رجل الإِمَام لم يضر وَلَو قدم إِحْدَى رجلَيْهِ وَاعْتمد عَلَيْهِمَا لم يضر كَمَا فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ
وَالِاعْتِبَار للقاعد بالألية كَمَا أفتى بِهِ الْبَغَوِيّ أَي وَلَو فِي التَّشَهُّد أما فِي حَال السُّجُود فَيظْهر أَن يكون الْمُعْتَبر رُؤُوس الْأَصَابِع ويشمل ذَلِك الرَّاكِب وَهُوَ الظَّاهِر وَمَا قيل من أَن الْأَقْرَب فِيهِ الِاعْتِبَار بِمَا اعتبروا بِهِ فِي الْمُسَابقَة بعيد وَفِي المضطجع بالجنب وَفِي المستلقي بِالرَّأْسِ وَهُوَ أحد وَجْهَيْن يظْهر اعْتِمَاده
وَفِي المقطوعة رجله بِمَا اعْتمد عَلَيْهِ وَفِي المصلوب بالكتف(1/165)
وَيسن أَن يقف الإِمَام خلف الْمقَام عِنْد الْكَعْبَة وَأَن يستدير المأمومون حولهَا وَلَا يضر كَونهم أقرب إِلَيْهَا فِي غير جِهَة الإِمَام مِنْهُ إِلَيْهَا فِي جِهَته كَمَا لَو وَقفا فِي الْكَعْبَة وَاخْتلفَا جِهَة وَلَو وقف الإِمَام فِيهَا وَالْمَأْمُوم خَارِجهَا جَازَ وَله التَّوَجُّه إِلَى أَي جِهَة شَاءَ وَلَو وَقفا بِالْعَكْسِ جَازَ أَيْضا لَكِن لَا يتَوَجَّه الْمَأْمُوم إِلَى الْجِهَة الَّتِي توجه إِلَيْهَا الإِمَام لتقدمه حِينَئِذٍ عَلَيْهِ
وَيسن أَن يقف الذّكر وَلَو صَبيا عَن يَمِين الإِمَام وَأَن يتَأَخَّر عَنهُ قَلِيلا لِلِاتِّبَاعِ واستعمالا للآداب فَإِن جَاءَ ذكر آخر أحرم عَن يسَاره ثمَّ يتَقَدَّم الإِمَام أَو يتأخران فِي قيام وَهُوَ أفضل هَذَا إِذا أمكن كل من التَّقَدُّم والتأخر وَإِلَّا فعل الْمُمكن وَأَن يصطف ذكران خَلفه كامرأة فَأكْثر وَأَن يقف خَلفه رجال لفضلهم فصبيان لَكِن مَحَله إِذا استوعب الرِّجَال الصَّفّ وَإِلَّا كمل بهم أَو بَعضهم فخناثى لاحْتِمَال ذكورتهم فنساء وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ وَأَن تقف إمامتهن وسطهن فَلَو أمهن غير امْرَأَة قدم عَلَيْهِنَّ وكالمرأة عَار أم عُرَاة بصراء فِي وضوء وَكره لمأموم انْفِرَاد عَن صف من جنسه بل يدْخل الصَّفّ إِن وجد سَعَة وَله أَن يخرق الصَّفّ الَّذِي يَلِيهِ فَمَا فَوْقه إِلَيْهَا لتقصيرهم بِتَرْكِهَا وَلَا يتَقَيَّد خرق الصُّفُوف بصفين كَمَا زَعمه بَعضهم وَإِنَّمَا يتَقَيَّد بِهِ تخطي الرّقاب الْآتِي فِي الْجُمُعَة فَإِن لم يجد سَعَة أحرم ثمَّ بعد إِحْرَامه جر إِلَيْهِ شخصا من الصَّفّ ليصطف مَعَه وَيسن لمجرور مساعدته
(وَيجوز) للْمُصَلِّي المتوضىء (أَن يأتم) بالمتيمم الَّذِي لَا إِعَادَة عَلَيْهِ وبماسح الْخُف وَيجوز للقائم أَن يَقْتَدِي بالقاعد والمضطجع لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مرض مَوته قَاعِدا وَأَبُو بكر وَالنَّاس قيَاما وَأَن يأتم الْعدْل (بِالْحرِّ الْفَاسِق) وَلَكِن تكره خَلفه وَإِنَّمَا صحت خَلفه لما رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَن ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي خلف الْحجَّاج
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكفى بِهِ فَاسِقًا وَلَيْسَ لأحد من وُلَاة الْأُمُور تَقْرِير فَاسق إِمَامًا فِي الصَّلَوَات كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ فَإِن فعل لم يَصح كَمَا قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين والمبتدع الَّذِي لَا يكفر ببدعته كالفاسق (وَالْعَبْد) أَي يجوز للْحرّ أَن يأتم بِالْعَبدِ لِأَن ذكْوَان مولى عَائِشَة كَانَ يؤمها لَكِن الْحر وَلَو كَانَ أعمى أولى مِنْهُ (والبالغ بالمراهق) لِأَن عَمْرو بن سَلمَة بِكَسْر اللَّام كَانَ يؤم قومه على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن سِتّ أَو سبع رَوَاهُ البُخَارِيّ
لَكِن الْبَالِغ أولى من الصَّبِي وَالْحر الْبَالِغ الْعدْل أولى من الرَّقِيق وَالْعَبْد الْبَالِغ أولى من الْحر الصَّبِي وَفِي العَبْد الْفَقِيه وَالْحر غير الْفَقِيه ثَلَاثَة أوجه أَصَحهَا أَنَّهُمَا سَوَاء والمبعض أولى من كَامِل الرّقّ وَالْأَعْمَى والبصير فِي الْإِمَامَة سَوَاء وَيقدم الْوَالِي بِمحل ولَايَته الْأَعْلَى فالأعلى على غَيره فإمام راتب
نعم إِن ولاه الإِمَام الْأَعْظَم فَهُوَ مقدم على الْوَالِي وَيقدم السَّاكِن فِي مَكَان بِحَق وَلَو بإعارة على غَيره لَا على معير للساكن بل يقدم الْمُعير عَلَيْهِ وَلَا على سيد غير سيد مكَاتب لَهُ فأفقه فأقرأ فأورع فأقدم هِجْرَة فأسن فأنسب فأنظف ثوبا وبدنا وصنعة فَأحْسن صَوتا فَأحْسن صُورَة ولمقدم بمَكَان لَا بِصِفَات تَقْدِيم لمن يكون أَهلا للْإِمَامَة
(وَلَا) يَصح اقْتِدَاؤُهُ بِمن يعْتَقد بطلَان صلَاته كشافعي اقْتدى بحنفي مس فرجه لَا إِن افتصد اعْتِبَارا باعتقاد الْمُقْتَدِي وكمجتهدين اخْتلفَا فِي إناءين من المَاء طَاهِر ومتنجس فَإِن تعدد الطَّاهِر صَحَّ اقْتِدَاء بَعضهم بِبَعْض مَا لم يتَعَيَّن إِنَاء إِمَام للنَّجَاسَة(1/166)
فَلَو اشْتبهَ خَمْسَة من آنِية فِيهَا نجس على خَمْسَة فَظن كل طَهَارَة إِنَاء مِنْهَا فَتَوَضَّأ بِهِ وَأم بالباقين فِي صَلَاة من الْخمس أعَاد مَا ائتم بِهِ آخرا وَلَا يَصح اقْتِدَاؤُهُ بمقتد وَلَا بِمن تلْزمهُ إِعَادَة كمتيمم لبرد
وَلَا يَصح أَن (يأتم) ذكر (رجل) أَو صبي (مُمَيّز) وَلَا خُنْثَى مُشكل (ب) أُنْثَى (امْرَأَة) أَو صبية مُمَيزَة وَلَا خُنْثَى مُشكل لِأَن الْأُنْثَى نَاقِصَة عَن الرجل وَالْخُنْثَى الْمَأْمُوم يجوز أَن يكون ذكرا وَالْإِمَام أُنْثَى لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة
وروى ابْن ماجة لاتؤمن امْرَأَة رجلا
وَيصِح اقْتِدَاء خُنْثَى بَانَتْ أنوثته بِامْرَأَة وَرجل بخنثى بَانَتْ ذكورته مَعَ الْكَرَاهَة قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَتَصِح قدوة الْمَرْأَة بِالْمَرْأَةِ وبالخنثى كَمَا تصح قدوة الرجل وَغَيره بِالرجلِ
فيتلخص من ذَلِك تسع صور خَمْسَة صَحِيحَة وَهِي قدوة رجل بِرَجُل خُنْثَى بِرَجُل امْرَأَة بِرَجُل امْرَأَة بخنثى امْرَأَة بِامْرَأَة وَأَرْبَعَة بَاطِلَة وَهِي قدوة رجل بخنثى رجل بِامْرَأَة خُنْثَى بخنثى خُنْثَى بِامْرَأَة
(وَلَا) يَصح أَن يأتم (قارىء) وَهُوَ من يحسن الْفَاتِحَة (بأمي) أمكنه التَّعَلُّم أم لَا والأمي من يخل بِحرف كتخفيف مشدد من الْفَاتِحَة بِأَن لَا يُحسنهُ كأرت بمثناة وَهُوَ من يدغم بإبدال فِي غير مَحل الْإِدْغَام بِخِلَافِهِ بِلَا إِبْدَال كتشديد اللَّام أَو الْكَاف من مَالك وألثغ بمثلثة وَهُوَ من يُبدل حرفا بِأَن يَأْتِي بِغَيْرِهِ بدله كَأَن يَأْتِي بِالْمُثَلثَةِ بدل السِّين فَيَقُول المثتقيم فَإِن أمكن الْأُمِّي التَّعَلُّم وَلم يتَعَلَّم لم تصح صلَاته وَإِلَّا صحت كاقتدائه بِمثلِهِ فِيمَا يخل بِهِ وَكره الِاقْتِدَاء بِنَحْوِ تأتاء كفأفاء ولاحن بِمَا لَا يُغير الْمَعْنى كضم هَاء لله فَإِن غير معنى فِي الْفَاتِحَة كأنعمت بِضَم أَو كسر وَلم يحسن اللاحن الْفَاتِحَة فكأمي فَلَا يَصح اقْتِدَاء القارىء بِهِ وَإِن كَانَ اللّحن فِي غير الْفَاتِحَة كجر اللَّام فِي قَوْله تَعَالَى {أَن الله بَرِيء من الْمُشْركين وَرَسُوله} صحت صلَاته والقدوة بِهِ حَيْثُ كَانَ عَاجِزا عَن التَّعَلُّم أَو جَاهِلا بِالتَّحْرِيمِ أَو نَاسِيا كَونه فِي الصَّلَاة أَو أَن ذَلِك لحن لَكِن الْقدْوَة بِهِ مَكْرُوهَة
أما الْقَادِر الْعَالم الْعَامِد فَلَا تصح صلَاته وَلَا الْقدْوَة بِهِ للْعَالم بِحَالهِ وكالفاتحة فِيمَا ذكر بدلهَا وَلَو بَان إِمَامه بعد اقتدائه بِهِ كَافِرًا وَلَو مخفيا كفره كزنديق وَجَبت الْإِعَادَة لتَقْصِيره بترك الْبَحْث عَنهُ
نعم لَو لم يبن كفره إِلَّا بقوله وَقد أسلم قبل الِاقْتِدَاء بِهِ فَقَالَ بعد الْفَرَاغ لم أكن أسلمت حَقِيقَة أَو أسلمت ثمَّ ارتددت لم تجب الْإِعَادَة لِأَنَّهُ كَافِر بذلك فَلَا يقبل خَبره لَا إِن بَان ذَا حدث وَلَو حَدثا أكبر أَو ذَا(1/167)
نَجَاسَة خُفْيَة فِي ثَوْبه أَو بدنه فَلَا تجب الْإِعَادَة على الْمُقْتَدِي لانْتِفَاء التَّقْصِير بِخِلَاف الظَّاهِرَة فَتجب فِيهَا الْإِعَادَة كَمَا لَو بَان إِمَامه أُمِّيا
وَلَو اقْتدى رجل بخنثى فَبَان الإِمَام رجلا لم يسْقط الْقَضَاء لعدم صِحَة الْقدْوَة فِي الظَّاهِر لتردد الْمَأْمُوم فِي صِحَة صلَاته عِنْدهَا
وثالث الشُّرُوط اجْتِمَاع الإِمَام وَالْمَأْمُوم بمَكَان كَمَا عهد عَلَيْهِ الْجَمَاعَات فِي الْعَصْر الخالية ولاجتماعهما أَرْبَعَة أَحْوَال لِأَنَّهُمَا إِمَّا أَن يَكُونَا بِمَسْجِد أَو بِغَيْرِهِ من فضاء أَو بِنَاء أَو يكون أَحدهمَا بِمَسْجِد وَالْآخر خَارجه (و) إِذا كَانَا بِمَسْجِد ف (أَي مَوضِع صلى) الْمَأْمُوم (فِي الْمَسْجِد) وَمِنْه رحبته (بِصَلَاة الإِمَام فِيهِ) أَي الْمَسْجِد (وَهُوَ عَالم بِصَلَاتِهِ) أَي الإِمَام ليتَمَكَّن من مُتَابَعَته بِرُؤْيَتِهِ أَو بعض صف أَو نَحْو ذَلِك كسماع صَوته أَو صَوت مبلغ (أَجزَأَهُ) أَي كَفاهُ ذَلِك فِي صِحَة الِاقْتِدَاء بِهِ وَإِن بَعدت مسافته وحالت أبنية نَافِذَة إِلَيْهِ كبئر أَو سطح سَوَاء أغلقت أَبْوَابهَا أم لَا وَسَوَاء أَكَانَ أَحدهمَا أَعلَى من الآخر أم لَا كَأَن وقف أَحدهمَا على سطحه أَو منارته وَالْآخر فِي سرداب أَو بِئْر فِيهِ لِأَنَّهُ كُله مَبْنِيّ للصَّلَاة فالمجتمعون فِيهِ مجتمعون لإِقَامَة الْجَمَاعَة مؤدون لشعارها فَإِن لم تكن نَافِذَة إِلَيْهِ لم يعد الْجَامِع لَهما مَسْجِدا وَاحِدًا فَيضر الشباك والمساجد المتلاصقة الَّتِي تفتح أَبْوَاب بَعْضهَا إِلَى بعض كمسجد وَاحِد وَإِن انْفَرد كل مِنْهَا بِإِمَام وَجَمَاعَة
وَمحل ذَلِك (مَا لم يتَقَدَّم) الْمَأْمُوم (عَلَيْهِ) أَي الإِمَام فِي غير الْمَسْجِد الْحَرَام كَمَا مر (وَإِن صلى) الإِمَام فِي الْمَسْجِد وَالْمَأْمُوم (خَارج الْمَسْجِد) حَالَة كَونه (قَرِيبا مِنْهُ) أَي من الْمَسْجِد بِأَن لَا يزِيد مَا بَينهمَا على ثَلَاثمِائَة ذِرَاع تَقْرِيبًا مُعْتَبرا من آخر الْمَسْجِد لِأَن الْمَسْجِد كُله شَيْء وَاحِد لِأَنَّهُ مَحل الصَّلَاة فَلَا يدْخل فِي الْحَد الْفَاصِل (وَهُوَ عَالم بِصَلَاتِهِ) أَي الإِمَام الَّذِي فِي الْمَسْجِد بِأحد الْأُمُور الْمُتَقَدّمَة (وَلَا حَائِل هُنَاكَ) بَينهمَا كالباب المفتوح الَّذِي لَا يمْنَع الاستطراق والمشاهدة (جَازَ) الِاقْتِدَاء حِينَئِذٍ فَلَو كَانَ الْمَأْمُوم فِي الْمَسْجِد وَالْإِمَام خَارجه اعْتبرت الْمسَافَة من طرفه الَّذِي يَلِي الإِمَام فَإِن حَال جِدَار لَا بَاب فِيهِ أَو بَاب مغلق منع الِاقْتِدَاء لعدم الِاتِّصَال وَكَذَا الْبَاب الْمَرْدُود والشباك يمْنَع لحُصُول الْحَائِل من وَجه إِذْ الْبَاب الْمَرْدُود مَانع من الْمُشَاهدَة والشباك مَانع من الاستطراق
قَالَ الأسنوي نعم قَالَ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ لَو كَانَ الْبَاب مَفْتُوحًا وَقت الْإِحْرَام فانغلق فِي أثْنَاء الصَّلَاة لم يضر انْتهى
أما الْبَاب المفتوح فَيجوز اقْتِدَاء الْوَاقِف بحذائه والصف الْمُتَّصِل بِهِ وَإِن خَرجُوا عَن الْمُحَاذَاة بِخِلَاف الْعَادِل عَن محاذاته فَلَا يَصح اقْتِدَاؤُهُ بِهِ للحائل وَإِن كَانَ الإِمَام وَالْمَأْمُوم بِغَيْر مَسْجِد من فضاء أَو بِنَاء شَرط فِي فضاء وَلَو محطوطا أَو مسقفا أَن لَا يزِيد مَا بَينهمَا وَلَا مَا بَين كل صفّين أَو شَخْصَيْنِ مِمَّن ائتم بِالْإِمَامِ خَلفه أَو بجانبه(1/168)
على ثَلَاثمِائَة ذِرَاع بِذِرَاع الْآدَمِيّ تَقْرِيبًا أخذا من عرف النَّاس فَإِنَّهُم يعدونهما فِي ذَلِك مُجْتَمعين فَلَا تضر زِيَادَة ثَلَاثَة أَذْرع كَمَا فِي التَّهْذِيب وَغَيره وَإِن كَانَا فِي بناءين كصحن وَصفَة من دَار أَو كَانَ أَحدهمَا بِبِنَاء وَالْآخر بفضاء شَرط مَعَ مَا مر آنِفا إِمَّا عدم حَائِل بَينهمَا يمْنَع مرورا أَو رُؤْيَة أَو وقُوف وَاحِد حذاء منفذ فِي الْحَائِل إِن كَانَ فَإِن حَال مَا يمْنَع مرورا كشباك أَو رُؤْيَة كباب مَرْدُود أَو لم يقف أحد فِيمَا مر لم يَصح الِاقْتِدَاء إِذْ الْحَيْلُولَة بذلك تمنع الِاجْتِمَاع وَإِذا صَحَّ اقْتِدَاء الْوَاقِف فِيمَا مر فَيصح اقْتِدَاء من خَلفه أَو بجانبه وَإِن حيل بَينه وَبَين الإِمَام وَيكون ذَلِك كَالْإِمَامِ لمن خَلفه أَو بجانبه لَا يجوز تقدمه عَلَيْهِ كَمَا لَا يجوز تقدمه على الإِمَام وَلَا يضر فِي جَمِيع مَا ذكر شَارِع وَلَو كثر طروقه وَلَا نهر وَإِن أحْوج إِلَى سباحة لِأَنَّهُمَا لم يعدا للْحَيْلُولَة وَكره ارتفاعه على إِمَامه وَعَكسه حَيْثُ أمكن وقوفهما على مستوى إِلَّا لحَاجَة كتعليم الإِمَام الْمَأْمُومين صفة الصَّلَاة وكتبليغ الْمَأْمُوم تَكْبِيرَة الإِمَام فَيسنّ ارتفاعهما لذَلِك كقيام غير مُقيم من مريدي الصَّلَاة بعد فرَاغ الْإِقَامَة لِأَنَّهُ وَقت الدُّخُول فِي الصَّلَاة سَوَاء أَقَامَ الْمُؤَذّن أم غَيره
أما الْمُقِيم فَيقوم قبل الْإِقَامَة ليقيم قَائِما وَكره ابْتِدَاء نفل بعد شُرُوع الْمُقِيم فِي الْإِقَامَة فَإِن كَانَ فِي النَّفْل أتمه إِن لم يخْش بإتمامه فَوت جمَاعَة بِسَلام الإِمَام وَإِلَّا ندب لَهُ قطعه وَدخل فِيهَا لِأَنَّهَا أولى مِنْهُ
وَالرَّابِع من شُرُوط الِاقْتِدَاء توَافق نظم صلاتيهما فِي الْأَفْعَال الظَّاهِرَة فَلَا يَصح الِاقْتِدَاء مَعَ اختلافه كمكتوبة وكسوف أَو جَنَازَة لتعذر الْمُتَابَعَة وَيصِح الِاقْتِدَاء لمؤد بقاض ومفترض بمتنفل وَفِي طَوِيلَة بقصيرة كَظهر بصبح وَبِالْعَكْسِ وَلَا يضر اخْتِلَاف نِيَّة الإِمَام وَالْمَأْمُوم والمقتدي فِي نَحْو الظّهْر بصبح أَو مغرب كمسبوق فَيتم صلَاته بعد سَلام إِمَامه وَالْأَفْضَل مُتَابَعَته فِي قنوت الصُّبْح وَتشهد أخير فِي الْمغرب وَله فِرَاقه بِالنِّيَّةِ إِذا اشْتغل بهما والمقتدي فِي صبح أَو مغرب بِنَحْوِ ظهر إِذا أتم صلَاته فَارقه بِالنِّيَّةِ وَالْأَفْضَل انْتِظَاره فِي صبح ليسلم مَعَه بِخِلَافِهِ فِي الْمغرب لَيْسَ لَهُ انْتِظَاره لِأَنَّهُ يحدث جُلُوس تشهد لم يَفْعَله الإِمَام ويقنت فِي الصُّبْح إِن أمكنه الْقُنُوت بِأَن وقف الإِمَام يَسِيرا وَإِلَّا تَركه وَلَا سُجُود عَلَيْهِ لتَركه وَله فِرَاقه بِالنِّيَّةِ ليقنت تحصيلا للسّنة
وَالْخَامِس من شُرُوط الِاقْتِدَاء مُوَافَقَته فِي سنَن تفحش مُخَالفَته فِيهَا فعلا وتركا كسجدة تِلَاوَة وَتشهد أول على تَفْصِيل فِيهِ بِخِلَاف مَا لَا تفحش فِيهِ الْمُخَالفَة كجلسة الاسْتِرَاحَة
وَالسَّادِس من شُرُوط الِاقْتِدَاء تَبَعِيَّة إِمَامه بِأَن يتَأَخَّر تحرمه عَن تحرم إِمَامه فَإِن خَالفه لم تَنْعَقِد صلَاته
وَأَن لَا يسْبقهُ بركنين فعليين وَلَو غير طويلين عَامِدًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ وَأَن لَا يتَخَلَّف عَنهُ بهما بِلَا عذر فَإِن خَالف فِي السَّبق أَو التَّخَلُّف بهما وَلَو(1/169)
غير طويلين بطلت صلَاته لفحش الْمُخَالفَة بِلَا عذر بِخِلَاف سبقه بهما نَاسِيا أَو جَاهِلا لَكِن لَا يعْتد بِتِلْكَ الرَّكْعَة فَيَأْتِي بعد سَلام إِمَامه بِرَكْعَة وَبِخِلَاف سبقه بِرُكْن كَأَن ركع قبله وَإِن عَاد إِلَيْهِ أَو ابْتَدَأَ رفع الِاعْتِدَال قبل رُكُوع إِمَامه لِأَن ذَلِك يسير لكنه فِي الْفعْلِيّ بِلَا عذر حرَام وَبِخِلَاف سبقه بركنين غير فعليين كَقِرَاءَة وركوع أَو تشهد وَصَلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا تجب إِعَادَة ذَلِك وَبِخِلَاف تخلفه بفعلي مُطلقًا أَو بفعليين بِعُذْر كَأَن ابْتَدَأَ إِمَامه هوي السُّجُود وَهُوَ فِي قيام الْقِرَاءَة والسبق بهما يُقَاس بالتخلف بهما وَبِخِلَاف الْمُقَارنَة فِي غير التَّحَرُّم لَكِنَّهَا فِي الْأَفْعَال مَكْرُوهَة مفوتة لفضيلة الْجَمَاعَة كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة وَهل هِيَ مفوتة لما قَارن فِيهِ فَقَط أَو لجَمِيع الصَّلَاة الظَّاهِر الأول وَأما ثَوَاب الصَّلَاة فَلَا يفوت بارتكاب مَكْرُوه فقد صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذا صلى بِأَرْض مَغْصُوبَة أَن الْمُحَقِّقين على حُصُول الثَّوَاب فالمكروه أولى والعذر للتخلف كَأَن أسْرع إِمَام قِرَاءَته وَركع قبل إتْمَام مُوَافق لَهُ الْفَاتِحَة وَهُوَ بطيء الْقِرَاءَة فِيهَا فيتمها وَيسْعَى خَلفه مَا لم يسْبق بِأَكْثَرَ من ثَلَاثَة أَرْكَان طَوِيلَة فَإِن سبق بِأَكْثَرَ من الثَّلَاثَة بِأَن لم يفرغ من الْفَاتِحَة إِلَّا وَالْإِمَام قَائِم عَن السُّجُود أَو جَالس للتَّشَهُّد تبعه فِيمَا هُوَ فِيهِ ثمَّ تدارك بعد سَلام إِمَامه مَا فَاتَهُ كمسبوق فَإِن لم يُتمهَا الْمُوَافق لشغله بِسنة كدعاء افْتِتَاح فمعذور كبطيء الْقِرَاءَة فَيَأْتِي فِيهِ مَا مر كمأموم علم أَو شكّ قبل رُكُوعه وَبعد رُكُوع إِمَامه أَنه ترك الْفَاتِحَة فَإِنَّهُ مَعْذُور فَيَقْرَؤُهَا وَيسْعَى خَلفه كَمَا مر فِي بطيء الْقِرَاءَة وَإِن كَانَ علم بذلك أَو شكّ فِيهِ بعد ركوعهما لم يعد إِلَى مَحل قرَاءَتهَا لِيَقْرَأهَا فِيهِ لفوته بل يتبع إِمَامه وَيُصلي رَكْعَة بعد سَلام إِمَامه كمسبوق
وَسن لمسبوق أَن لَا يشْتَغل بعد تحرمه بِسنة كتعوذ بل بِالْفَاتِحَةِ إِلَّا أَن يظنّ إِدْرَاكهَا مَعَ اشْتِغَاله بِالسنةِ وَإِذا ركع إِمَامه وَلم يقْرَأ الْمَسْبُوق الْفَاتِحَة فَإِن لم يشْتَغل بِسنة تبعه وجوبا فِي الرُّكُوع وأجزأه وَسَقَطت عَنهُ الْفَاتِحَة وَإِن اشْتغل بِسنة قَرَأَ وجوبا بِقَدرِهَا من الْفَاتِحَة لتَقْصِيره بعدوله عَن فرض إِلَى سنة سَوَاء أَقرَأ شَيْئا من الْفَاتِحَة أم لَا فَإِن ركع مَعَ الإِمَام بِدُونِ قِرَاءَة بِقَدرِهَا بطلت صلَاته
تَتِمَّة تَنْقَطِع قدوة بِخُرُوج إِمَامه من صلَاته بِحَدَث أَو غَيره وللمأموم قطعهَا بنية الْمُفَارقَة وَكره قطعهَا إِلَّا لعذر كَمَرَض وَتَطْوِيل إِمَام وَتَركه سنة مَقْصُودَة كتشهد أول وَلَو نوى الْقدْوَة مُنْفَرد فِي أثْنَاء صلَاته جَازَ وَتَبعهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ فَإِن فرغ إِمَامه أَولا فَهُوَ كمسبوق أَو فرغ هُوَ أَولا فانتظاره أفضل من مُفَارقَته ليسلم مَعَه وَمَا أدْركهُ مَسْبُوق فَأول صلَاته فَيُعِيد فِي ثَانِيَة صبح الْقُنُوت وَفِي ثَانِيَة مغرب التَّشَهُّد لِأَنَّهُمَا مَحلهمَا فَإِن أدْركهُ فِي رُكُوع مَحْسُوب للْإِمَام وَاطْمَأَنَّ يَقِينا قبل ارْتِفَاع إِمَامه عَن أَقَله أدْرك الرَّكْعَة
وَيكبر مَسْبُوق أدْرك الإِمَام فِي رُكُوع لتحرم ثمَّ لركوع فَلَو كبر وَاحِدَة فَإِن نوى بهَا التَّحَرُّم فَقَط وأتمها قبل هويه انْعَقَدت صلَاته وَإِلَّا لم تَنْعَقِد وَلَو أدْركهُ فِي اعتداله فَمَا بعده وَافقه فِيمَا هُوَ فِيهِ وَفِي ذكر مَا أدْركهُ فِيهِ من تحميد وتسبيح وَتشهد وَدُعَاء وَفِي ذكر انْتِقَاله عَنهُ من تَكْبِير لَا فِي ذكر انْتِقَاله إِلَيْهِ وَإِذا سلم إِمَامه كبر لقِيَامه أَو بدله ندبا إِن كَانَ مَحل جُلُوسه وَإِلَّا فَلَا
وَالْجَمَاعَة فِي الْجُمُعَة ثمَّ صبح الْجُمُعَة ثمَّ صبح غَيرهَا ثمَّ الْعشَاء ثمَّ الْعَصْر أفضل وَأما جمَاعَة الظّهْر وَالْمغْرب فهما سَوَاء(1/170)
فصل فِي صَلَاة الْمُسَافِر من حَيْثُ الْقصر وَالْجمع
الْمُخْتَص الْمُسَافِر بجوازهما تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لما يلْحقهُ من مشقة السّفر غَالِبا مَعَ كَيْفيَّة الصَّلَاة بِنَحْوِ الْمَطَر
وَالْأَصْل فِي الْقصر قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض}
قَالَ يعلى بن أُميَّة قلت لعمر إِنَّمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن خِفْتُمْ} وَقد أَمن النَّاس فَقَالَ عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته رَوَاهُ مُسلم
وَالْأَصْل فِي الْجمع أَخْبَار تَأتي
وَلما كَانَ الْقصر أهم هَذِه الْأُمُور بَدَأَ المُصَنّف بِهِ كَغَيْرِهِ فَقَالَ (وَيجوز للْمُسَافِر) لغَرَض صَحِيح (قصر الصَّلَاة الرّبَاعِيّة) الْمَكْتُوبَة دون الثنائية والثلاثية (بِخمْس شَرَائِط) وَترك شُرُوطًا أُخْرَى سنتكلم عَلَيْهَا الأول (أَن يكون سَفَره فِي غير مَعْصِيّة) سَوَاء أَكَانَ وَاجِبا كسفر حج أَو مَنْدُوبًا كزيارة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مُبَاحا كسفر تِجَارَة أَو مَكْرُوها كسفر مُنْفَرد
وَأما العَاصِي بِسَفَرِهِ وَلَو فِي أَثْنَائِهِ كآبق وناشزة فَلَا يقصر لِأَن السّفر سَبَب للرخصة فَلَا يناط بالمعصية كَبَقِيَّة رخص السّفر نعم لَهُ بل عَلَيْهِ التَّيَمُّم مَعَ وجوب إِعَادَة مَا صلاه بِهِ على الْأَصَح كَمَا فِي الْمَجْمُوع فَإِن تَابَ فَأول سَفَره مَحل تَوْبَته فَإِن كَانَ طَويلا أَو لم يشْتَرط للرخصة طوله كَأَكْل الْميتَة للْمُضْطَر فِيهِ ترخص وَإِلَّا فَلَا
وَألْحق بسفر الْمعْصِيَة أَن يتعب نَفسه أَو دَابَّته بالركض بِلَا غَرَض شَرْعِي ذكره فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا
(و) الشَّرْط الثَّانِي (أَن تكون مسافته) أَي السّفر الْمُبَاح ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين ميلًا هاشمية ذَهَابًا وَهِي مرحلتان وهما سير يَوْمَيْنِ معتدلين بسير الأثقال وَهِي (سِتَّة عشر فرسخا) وَلَو قطع هَذِه الْمسَافَة فِي لَحْظَة فِي بر أَو بَحر فقد كَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس يقصران ويفطران فِي أَرْبَعَة برد وَمثله إِنَّمَا يفعل عَن تَوْقِيف
وَخرج بذهاب الإياب مَعَه فَلَا يحْسب حَتَّى لَو قصد مَكَانا على مرحلة بنية أَن لَا يُقيم فِيهِ بل يرجع فَلَيْسَ لَهُ الْقصر وَإِن ناله مشقة مرحلَتَيْنِ متواليتين لِأَنَّهُ لَا يُسمى سفرا طَويلا وَالْغَالِب فِي الرُّخص الِاتِّبَاع والمسافة تَحْدِيد لَا تقريب لثُبُوت التَّقْدِير بالأميال عَن الصَّحَابَة وَلِأَن الْقصر على خلاف الأَصْل فيحتاط فِيهِ بتحقيق تَقْدِير الْمسَافَة والميل أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة والخطوة ثَلَاثَة أَقْدَام وَالْقَدَمَانِ ذِرَاع والذراع أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أصبعا معترضات والأصبع سِتّ شعيرات معتدلات معترضات والشعيرة سِتّ شَعرَات من شعر البرذون
وَخرج بالهاشمية المنسوبة لبني هَاشم الأموية المنسوبة لبني أُميَّة فالمسافة بهَا أَرْبَعُونَ ميلًا إِذْ كل خَمْسَة مِنْهَا قدر سِتَّة هاشمية
(و) الشَّرْط الثَّالِث (أَن يكون مُؤديا للصَّلَاة) الْمَقْصُورَة فِي أحد أَوْقَاتهَا الْأَصْلِيّ أَو العذري أَو الضَّرُورِيّ فَلَا تقصر فَائِتَة(1/171)
الْحَضَر فِي السّفر لِأَنَّهَا ثبتَتْ فِي ذمَّته تَامَّة وَكَذَا لَا تقصر فِي السّفر فَائِتَة مَشْكُوك فِي أَنَّهَا فَائِتَة سفر أَو حضر احْتِيَاطًا وَلِأَن الأَصْل الْإِتْمَام وتقضى فَائِتَة سفر قصر فِي سفر قصر وَإِن كَانَ غير سفر الْفَائِتَة دون الْحَضَر نظرا إِلَى وجود السَّبَب
(و) الشَّرْط الرَّابِع (أَن يَنْوِي الْقصر مَعَ) تَكْبِيرَة (الْإِحْرَام) كأصل النِّيَّة وَمثل نِيَّة الْقصر مَا لَو نوى الظّهْر مثلا رَكْعَتَيْنِ وَلم ينْو ترخصا كَمَا قَالَه الإِمَام وَمَا لَو قَالَ أؤدي صَلَاة السّفر كَمَا قَالَه الْمُتَوَلِي فَلَو لم ينْو مَا ذكر بِأَن نوى الْإِتْمَام أَو أطلق أتم لِأَنَّهُ الْمَنوِي فِي الأولى وَالْأَصْل فِي الثَّانِيَة وَيشْتَرط التَّحَرُّز عَن منافي نِيَّة الْقصر فِي دوَام الصَّلَاة كنية الْإِتْمَام فَلَو نَوَاه بعد نِيَّة الْقصر أتم
تَنْبِيه قد علم من أَن الشَّرْط التَّحَرُّز عَن منافيها أَنه لَا يشْتَرط اسْتِدَامَة نِيَّة الْقصر وَهُوَ كَذَلِك وَلَو أحرم قاصرا ثمَّ تردد فِي أَنه يقصر أَو يتم أتم أَو شكّ فِي أَنه نوى الْقصر أم لَا أتم وَإِن تذكر فِي الْحَال أَنه نَوَاه لِأَنَّهُ أدّى جُزْءا من صلَاته حَال التَّرَدُّد على التَّمام وَلَو قَامَ إِمَامه لثالثة فَشك هَل هُوَ متمم أم ساه أتم وَإِن بَان أَنه ساه وَلَو قَامَ الْقَاصِر لثالثة عمدا بِلَا مُوجب للإتمام كنيته أَو نِيَّة إِقَامَة بطلت صلَاته أَو سَهوا ثمَّ تذكر عَاد وجوبا وَسجد لَهُ ندبا وَسلم فَإِن أَرَادَ عِنْد تذكره أَن يتم عَاد للقعود وجوبا ثمَّ قَامَ نَاوِيا الْإِتْمَام
(و) الشَّرْط الْخَامِس (أَن لَا يأتم بمقيم) أَو بِمن (جهل سَفَره) فَإِن اقْتدى بِهِ وَلَو فِي جُزْء من صلَاته كَأَن أدْركهُ فِي آخر صلَاته أَو أحدث هُوَ عقب اقتدائه لزمَه الْإِتْمَام لخَبر الإِمَام أَحْمد عَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ مَا بَال الْمُسَافِر يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِذا انْفَرد وأربعا إِذا ائتم بمقيم فَقَالَ تِلْكَ السّنة
وَله قصر الصَّلَاة الْمُعَادَة إِن صلاهَا أَولا مَقْصُورَة وصلاها ثَانِيًا خلف من يُصليهَا مَقْصُورَة أَو صلاهَا إِمَامًا وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَإِن لم أر من تعرض لَهُ وَلَو اقْتدى بِمن ظَنّه مُسَافِرًا فَبَان مُقيما فَقَط أَو مُقيما ثمَّ مُحدثا لزمَه الْإِتْمَام أما لَو بَان مُحدثا ثمَّ مُقيما أَو بانا مَعًا فَلَا يلْزمه الْإِتْمَام إِذْ لَا قدوة فِي الْحَقِيقَة وَفِي الظَّاهِر ظَنّه مُسَافِرًا وَلَو اسْتخْلف قَاصِر لحَدث أَو غَيره متما أتم المقتدون بِهِ كَالْإِمَامِ إِن عَاد واقتدى بِهِ وَلَو لزم الْإِتْمَام مقتديا فَسدتْ صلَاته أَو إِمَامه أَو بَان إِمَامه مُحدثا أتم لِأَنَّهَا صَلَاة وَجب عَلَيْهِ إِتْمَامهَا وَمَا ذكر لَا يَدْفَعهُ وَلَو بَان للْإِمَام حدث نَفسه لم يلْزمه الْإِتْمَام وَلَو أحرم مُنْفَردا وَلم ينْو الْقصر ثمَّ فَسدتْ صلَاته لزمَه الْإِتْمَام كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَلَو فقد الطهُورَيْنِ فشرع فِيهَا بنية الْإِتْمَام ثمَّ قدر على الطَّهَارَة قَالَ الْمُتَوَلِي وَغَيره
قصر لِأَن مَا فعله لَيْسَ بِحَقِيقَة صَلَاة
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَلَعَلَّ مَا قَالُوهُ بِنَاء على أَنَّهَا لَيست بِصَلَاة شَرْعِيَّة بل تشبهها وَالْمذهب خِلَافه اه
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
وَكَذَا يُقَال فِيمَن صلى بِتَيَمُّم مِمَّن تلْزمهُ الْإِعَادَة بنية الْإِتْمَام ثمَّ أَعَادَهَا وَلَو اقْتدى بمسافر وَشك فِي نِيَّة الْقصر فَجزم هُوَ بنية الْقصر جَازَ لَهُ الْقصر إِن بَان الإِمَام قاصرا لِأَن الظَّاهِر من حَال الْمُسَافِر الْقصر فَإِن بَان أَنه متم لزمَه الْإِتْمَام فَإِن لم يجْزم بِالنِّيَّةِ(1/172)
بل قَالَ إِن قصر قصرت وَإِلَّا بِأَن أتم أتممت جَازَ لَهُ الْقصر إِن قصر إِمَامه لِأَنَّهُ نوى مَا فِي نفس الْأَمر فَهُوَ تَصْرِيح بالمقتضي فَإِن لم يظْهر للْمَأْمُوم مَا نَوَاه الإِمَام لزمَه الْإِتْمَام احْتِيَاطًا
هَذَا آخر الشُّرُوط الَّتِي اشترطها المُصَنّف
وَأما الزَّائِد عَلَيْهَا فأمور الأول يشْتَرط كَونه مُسَافِرًا فِي جَمِيع صلَاته فَلَو انْتهى سَفَره فِيهَا كَأَن بلغت سفينته دَار إِقَامَته أَو شكّ فِي انتهائه أتم لزوَال سَبَب الرُّخْصَة فِي الأولى وللشك فِيهِ فِي الثَّانِيَة
وَالثَّانِي يشْتَرط قصد مَوضِع مَعْلُوم معِين أَو غير معِين أول سَفَره ليعلم أَنه طَوِيل فيقصر أَولا فَلَا قصر للهائم وَهُوَ الَّذِي لَا يدْرِي أَيْن يتَوَجَّه وَإِن طَال سَفَره لانْتِفَاء علمه بِطُولِهِ أَوله وَلَا طَالب غَرِيم أَو آبق يرجع مَتى وجده وَلَا يعلم مَوْضِعه
نعم إِن قصد سفر مرحلَتَيْنِ أَولا كَأَن علم أَنه لَا يجد مَطْلُوبه قبلهمَا جَازَ لَهُ الْقصر كَمَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا وَكَذَا لَو قصد الهائم سفر مرحلَتَيْنِ كَمَا شملته عبارَة الْمُحَرر وَلَو علم الْأَسير أَن سَفَره طَوِيل وَنوى الْهَرَب إِن تمكن مِنْهُ لم يقصر قبل مرحلَتَيْنِ وَيقصر بعدهمَا وَمثل ذَلِك يَأْتِي فِي الزَّوْجَة وَالْعَبْد إِذا نَوَت الزَّوْجَة أَنَّهَا مَتى تخلصت من زَوجهَا رجعت وَالْعَبْد أَنه مَتى عتق رَجَعَ فَلَا يترخصان قبل مرحلَتَيْنِ وَلَو كَانَ لمقصده طَرِيقَانِ طَوِيل يبلغ مَسَافَة الْقصر وقصير لَا يبلغهَا فسلك الطَّوِيل لغَرَض ديني أَو دُنْيَوِيّ كسهولة طَرِيق أَو أَمن جَازَ لَهُ الْقصر لوُجُود الشَّرْط وَهُوَ اسفر الطَّوِيل الْمُبَاح وَإِن سلكه لمُجَرّد الْقصر أَو لم يقْصد شَيْئا كَمَا فِي الْمَجْمُوع فَلَا يقصر لِأَنَّهُ طول الطَّرِيق على نَفسه من غير غَرَض وَلَو تبع العَبْد أَو الزَّوْجَة أَو الجندي مَالك أمره فِي السّفر وَلَا يعرف كل وَاحِد مِنْهُم مقْصده فَلَا قصر لَهُم وَهَذَا قبل بلوغهم مَسَافَة الْقصر فَإِن قطعوها قصروا كَمَا مر فِي الْأَسير فَلَو نووا مَسَافَة الْقصر وحدهم دون متبوعهم قصر الجندي غير الْمُثبت فِي الدِّيوَان دونهمَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ تَحت يَد الْأَمِير وقهره بخلافهما فنيتهما كَالْعدمِ أما الْمُثبت فِي الدِّيوَان فَهُوَ مثلهمَا لِأَنَّهُ مقهور تَحت يَد الْأَمِير وَمثله الْجَيْش
وَالثَّالِث يشْتَرط للقصر مُجَاوزَة سور مُخْتَصّ بِمَا سَافر مِنْهُ كبلد وقرية وَإِن كَانَ دَاخله أَمَاكِن خربة ومزارع لِأَن جَمِيع مَا هُوَ دَاخله مَعْدُود مِمَّا سَافر مِنْهُ فَإِن لم يكن لَهُ سور مُخْتَصّ بِهِ بِأَن لم يكن سور مُطلقًا أَو فِي صوب سَفَره أَو كَانَ لَهُ سور غير مُخْتَصّ بِهِ كقرى متفاصلة جمعهَا سور فأوله مُجَاوزَة عمرَان وَإِن تخلله خراب لَا مُجَاوزَة خراب بطرفه هجر بالتحويط على العامر أَو زرع بِقَرِينَة مَا يَأْتِي أَو اندرس بِأَن ذهبت أصُول حيطانه لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحل إِقَامَته بِخِلَاف مَا لَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ يشْتَرط مجاوزته كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع وَلَا مُجَاوزَة بساتين ومزارع كَمَا فهمت بِالْأولَى وَإِن اتصلتا بِمَا سَافر مِنْهُ أَو كَانَتَا محوطتين لِأَنَّهُمَا لَا يتخذان للإقامة وَلَو كَانَ بالبساتين قُصُور أَو دور تسكن فِي بعض فُصُول السّنة لم يشْتَرط مجاوزتها على الظَّاهِر فِي الْمَجْمُوع خلافًا لما فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا لِأَنَّهَا لَيست من الْبَلَد والقريتان المتصلتان يشْتَرط مجاوزتهما وأوله لساكن خيام كالأعراب مُجَاوزَة حلَّة فَقَط وَمَعَ مُجَاوزَة عرض وَاد إِن سَافر فِي عرضه وَمَعَ مُجَاوزَة عرض مهبط إِن كَانَ فِي ربوة وَمَعَ مُجَاوزَة مصعد إِن كَانَ فِي وهدة هَذَا إِن اعتدلت الثَّلَاثَة فَإِن أفرطت سعتها اكْتفى بمجاوزة الْحلَّة عرفا
وَيَنْتَهِي سَفَره ببلوغ مبدأ سفر من سور أَو غَيره من وَطنه أَو من مَوضِع آخر رَجَعَ من سَفَره إِلَيْهِ أَولا وَقد نوى قبل بُلُوغه وَهُوَ(1/173)
مُسْتَقل إِقَامَة بِهِ وَإِن لم يصلح لَهَا إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا أَرْبَعَة أَيَّام صِحَاح وبإقامته وَقد علم أَن إربه لَا يَنْقَضِي فِيهَا وَإِن توقعه كل وَقت قصر ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا صحاحا وَلَو غير محَارب وَيَنْتَهِي أَيْضا سَفَره بنية رُجُوعه ماكثا وَلَو من طَوِيل لَا إِلَى غير وَطنه لحَاجَة بِأَن نوى رُجُوعه إِلَى وَطنه أَو إِلَى غَيره لَا لحَاجَة فَلَا يقصر فِي ذَلِك الْموضع فَإِن سَافر فسفر جَدِيد فَإِن كَانَ طَويلا قصر وَإِلَّا فَلَا فَإِن نوى الرُّجُوع وَلَو من قصير إِلَى غير وَطنه لحَاجَة لم ينْتَه سَفَره بذلك وكنية الرُّجُوع التَّرَدُّد فِيهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَالرَّابِع يشْتَرط الْعلم بِجَوَاز الْقصر فَلَو قصر جَاهِلا بِهِ لم تصح صلَاته لتلاعبه كَمَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا
تَنْبِيه الصَّوْم لمسافر سفر قصر أفضل من الْفطر إِن لم يضرّهُ لما فِيهِ من بَرَاءَة الذِّمَّة وَالْقصر لَهُ أفضل من الْإِتْمَام إِن بلغ سَفَره ثَلَاث مراحل وَلم يخْتَلف فِي جَوَاز قصره فَإِن لم يبلغهَا فالإتمام أفضل خُرُوجًا من خلاف أبي حنيفَة أما لَو اخْتلف فِيهِ كملاح يُسَافر فِي الْبَحْر وَمَعَهُ عِيَاله فِي سفينته وَمن يديم السّفر مُطلقًا فالإتمام لَهُ أفضل لِلْخُرُوجِ من خلاف من أوجبه كَالْإِمَامِ أَحْمد
وَلما فرغ المُصَنّف من أَحْكَام الْقصر شرع فِي أَحْكَام الْجمع فِي السّفر فَقَالَ (وَيجوز للْمُسَافِر) سفر قصر (أَن يجمع بَين) صَلَاتي (الظّهْر وَالْعصر فِي وَقت أَيهمَا شَاءَ) تَقْدِيمًا وتأخيرا (و) أَن يجمع (بَين) صَلَاتي (الْمغرب وَالْعشَاء فِي وَقت أَيهمَا شَاءَ) تَقْدِيمًا وتأخيرا وَالْجُمُعَة كالظهر فِي جمع التَّقْدِيم وَالْأَفْضَل لسَائِر وَقت أولى تَأْخِير وَلغيره تَقْدِيم لِلِاتِّبَاعِ
وَشرط للتقديم أَرْبَعَة شُرُوط الأول التَّرْتِيب بِأَن يبْدَأ بِالْأولَى لِأَن الْوَقْت لَهَا وَالثَّانيَِة تبع لَهَا
وَالثَّانِي نِيَّة الْجمع ليتميز التَّقْدِيم الْمَشْرُوع عَن التَّقْدِيم سَهوا أَو عَبَثا فِي الأولى وَلَو مَعَ تحلله مِنْهَا
وَالثَّالِث وَلَاء بِأَن لَا يطول بَينهمَا فصل عرفا وَلَو ذكر بعدهمَا ترك ركن من الأولى أعادهما وَله جَمعهمَا تَقْدِيمًا وتأخيرا لوُجُود المرخص فَإِن ذكر أَنه من الثَّانِيَة وَلم يطلّ الْفَصْل بَين سلامها وَالذكر تدارك وصحتا فَإِن طَال بطلت الثَّانِيَة وَلَا جمع لطول الْفَصْل وَلَو جهل بِأَن لم يدر أَن التّرْك من الأولى أَو من الثَّانِيَة أعادهما لاحْتِمَال أَنه من الأولى بِغَيْر جمع تَقْدِيم(1/174)
وَالرَّابِع دوَام سَفَره إِلَى عقد الثَّانِيَة فَلَو أَقَامَ قبله فَلَا جمع لزوَال السَّبَب
وَشرط للتأخير أَمْرَانِ فَقَط أَحدهمَا نِيَّة جمع فِي وَقت أولى مَا بَقِي قدر يَسعهَا تمييزا لَهُ عَن التَّأْخِير تَعَديا وَظَاهر أَنه لَو أخر النِّيَّة إِلَى وَقت لَا يسع الأولى عصى وَإِن وَقعت أَدَاء فَإِن لم ينْو الْجمع أَو نَوَاه فِي وَقت الأولى وَلم يبْق مِنْهُ مَا يَسعهَا عصى وَكَانَت قَضَاء
وَثَانِيهمَا دوَام سَفَره إِلَى تمامهما فَلَو أَقَامَ قبله صَارَت الأولى قَضَاء لِأَنَّهَا تَابِعَة للثَّانِيَة فِي الْأَدَاء للْعُذْر وَقد زَالَ قبل تَمامهَا
وَفِي الْمَجْمُوع إِذا أَقَامَ فِي أثْنَاء الثَّانِيَة يَنْبَغِي أَن تكون الأولى أَدَاء بِلَا خلاف وَمَا بَحثه مُخَالف لإطلاقهم
قَالَ السُّبْكِيّ وَتَبعهُ الْإِسْنَوِيّ وتعليلهم منطبق على تَقْدِيم الأولى فَلَو عكس وَأقَام فِي أثْنَاء الظّهْر فقد وجد الْعذر فِي جَمِيع المتبوعة وَأول التابعة وَقِيَاس مَا مر فِي جمع التَّقْدِيم أَنَّهَا أَدَاء على الْأَصَح أَي كَمَا أفهمهُ تَعْلِيلهم وأجرى الطاوسي الْكَلَام على إِطْلَاقه فَقَالَ وَإِنَّمَا اكْتفى فِي جمع التَّقْدِيم بدوام السّفر إِلَى عقد الثَّانِيَة وَلم يكتف بِهِ فِي جمع التَّأْخِير بل شَرط دَوَامه إِلَى إِتْمَامهَا لِأَن وَقت الظّهْر لَيْسَ وَقت الْعَصْر إِلَّا فِي السّفر وَقد وجد عِنْد عقد الثَّانِيَة فَيحصل الْجمع وَأما وَقت الْعَصْر فَيجوز فِيهِ الظّهْر بِعُذْر السّفر وَغَيره فَلَا ينْصَرف فِيهِ الظّهْر إِلَى السّفر إِلَّا إِذا وجد السّفر فيهمَا وَإِلَّا جَازَ أَن ينْصَرف إِلَيْهِ لوُقُوع بَعْضهَا فِيهِ
وَأَن ينْصَرف إِلَى غَيره لوُقُوع بَعْضهَا فِي غَيره الَّذِي هُوَ الأَصْل اه
وَكَلَام الطاوسي هُوَ الْمُعْتَمد
ثمَّ شرع فِي الْجمع بالمطر فَقَالَ (وَيجوز للحاضر) أَي الْمُقِيم (فِي الْمَطَر) وَلَو كَانَ ضَعِيفا بِحَيْثُ يبل الثَّوْب وَنَحْوه كثلج وَبرد ذائبين (أَن يجمع) مَا يجمع بِالسَّفرِ وَلَو جُمُعَة مَعَ الْعَصْر خلافًا للروياني فِي مَنعه ذَلِك تَقْدِيمًا (فِي وَقت الأولى مِنْهُمَا) لما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا وَالْمغْرب وَالْعشَاء جمعا زَاد مُسلم من غير خوف وَلَا سفر
قَالَ الشَّافِعِي كمالك أرى ذَلِك فِي الْمَطَر وَلَا يجوز ذَلِك تَأْخِيرا لِأَن اسْتِدَامَة الْمَطَر لَيست إِلَى الْجَامِع فقد يَنْقَطِع فَيُؤَدِّي إِلَى إخْرَاجهَا عَن وَقتهَا من غير عذر بِخِلَاف السّفر
وَشرط التَّقْدِيم أَن يُوجد نَحْو الْمَطَر عِنْد تحرمه بهما ليقارن الْجمع وَعند تحلله من الأولى ليتصل بِأول الثَّانِيَة فَيُؤْخَذ مِنْهُ اعْتِبَار امتداده بَينهمَا وَهُوَ ظَاهر وَلَا يضر انْقِطَاعه فِي أثْنَاء الأولى أَو الثَّانِيَة أَو بعدهمَا
وَيشْتَرط أَن يُصَلِّي جمَاعَة بمصلى بعيد عَن بَاب دَاره عرفا بِحَيْثُ يتَأَذَّى بذلك فِي طَرِيقه إِلَيْهِ بِخِلَاف من يُصَلِّي فِي بَيته مُنْفَردا أَو جمَاعَة أَو يمشي إِلَى الْمصلى فِي كن أَو كَانَ الْمصلى قَرِيبا فَلَا يجمع لانْتِفَاء التأذي وَبِخِلَاف من يُصَلِّي مُنْفَردا لانْتِفَاء الْجَمَاعَة فِيهِ وَأما جمعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمطر مَعَ أَن بيُوت أَزوَاجه كَانَت بِجنب الْمَسْجِد فَأَجَابُوا عَنهُ بِأَن بُيُوتهنَّ كَانَت مُخْتَلفَة وأكثرها كَانَ بَعيدا فَلَعَلَّهُ حِين جمع لم يكن بالقريب
وَأجِيب أَيْضا بِأَن للْإِمَام أَن يجمع بالمأمومين وَإِن لم يتأذ بالمطر صرح بِهِ ابْن أبي هُرَيْرَة وَغَيره
قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ وَلمن اتّفق لَهُ وجود(1/175)
الْمَطَر وَهُوَ بِالْمَسْجِدِ أَن يجمع وَإِلَّا لاحتاج إِلَى صَلَاة الْعَصْر أَو الْعشَاء فِي جمَاعَة وَفِيه مشقة فِي رُجُوعه إِلَى بَيته ثمَّ عوده أَو فِي إِقَامَته وَكَلَام غَيره يَقْتَضِيهِ
تَنْبِيه قد علم مِمَّا مر أَنه لَا جمع بِغَيْر السّفر وَنَحْو الْمَطَر كَمَرَض وريح وظلمة وَخَوف ووحل وَهُوَ الْمَشْهُور لِأَنَّهُ لم ينْقل وَلخَبَر الْمَوَاقِيت فَلَا يُخَالف إِلَّا بِصَرِيح
وَحكي فِي الْمَجْمُوع عَن جمَاعَة من أَصْحَابنَا جَوَازه بالمذكورات قَالَ وَهُوَ قوي جدا فِي الْمَرَض والوحل وَاخْتَارَهُ فِي الرَّوْضَة لَكِن فَرْضه فِي الْمَرَض وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري
قَالَ فِي الْمُهِمَّات وَقد ظَفرت بنقله عَن الشَّافِعِي اه
وَهَذَا هُوَ اللَّائِق بمحاسن الشَّرِيعَة وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} على ذَلِك يسن أَن يُرَاعى الأرفق بِنَفسِهِ فَمن يحم فِي وَقت الثَّانِيَة يقدمهَا بشرائط جمع التَّقْدِيم أَو فِي وَقت الأولى يؤخرها بالأمرين الْمُتَقَدِّمين وعَلى الْمَشْهُور قَالَ فِي الْمَجْمُوع إِنَّمَا لم يلْحق الوحل بالمطر كَمَا فِي عذر الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة لِأَن تاركهما يَأْتِي ببدلهما وَالْجَامِع يتْرك الْوَقْت بِلَا بدل وَلِأَن الْعذر فيهمَا لَيْسَ مَخْصُوصًا بل كل مَا يلْحق بِهِ مشقة شَدِيدَة والوحل مِنْهُ وَعذر الْجمع مضبوط بِمَا جَاءَت بِهِ السّنة وَلم تجىء بالوحل
تَتِمَّة قد جمع فِي الرَّوْضَة مَا يخْتَص بِالسَّفرِ الطَّوِيل وَمَا لَا يخْتَص فَقَالَ الرُّخص الْمُتَعَلّقَة بالطويل أَربع الْقصر وَالْفطر وَالْمسح على الْخُف ثَلَاثَة أَيَّام وَالْجمع على الْأَظْهر وَالَّذِي يجوز فِي الْقصير أَيْضا أَربع ترك الْجُمُعَة وَأكل الْميتَة وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِالسَّفرِ والتنفل على الرَّاحِلَة على الْمَشْهُور وَالتَّيَمُّم وَإِسْقَاط الْفَرْض بِهِ على الصَّحِيح فيهمَا وَلَا يخْتَص هَذَا بِالسَّفرِ أَيْضا كَمَا نبه عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ
وَزيد على ذَلِك صور مِنْهَا مَا لَو سَافر الْمُودع وَلم يجد الْمَالِك وَلَا وَكيله وَلَا الْحَاكِم وَلَا الْأمين فَلهُ أَخذهَا مَعَه على الصَّحِيح وَمِنْهَا مَا لَو استصحب مَعَه ضرَّة زَوجته بِقرْعَة فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا يخْتَص بالطويل على الصَّحِيح وَوَقع فِي الْمُهِمَّات تَصْحِيح عَكسه وَهُوَ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ سَهْو
فصل فِي صَلَاة الْجُمُعَة
بِضَم الْمِيم وإسكانها وَفتحهَا وَحكي كسرهَا وَجَمعهَا جمعات وَجمع سميت بذلك لِاجْتِمَاع النَّاس لَهَا وَقيل لما جمع فِي يَوْمهَا من الْخَيْر وَقيل لِأَنَّهُ جمع فِيهِ خلق آدم وَقيل لاجتماعه فِيهِ مَعَ حَوَّاء فِي الأَرْض
وَكَانَ يُسمى فِي الْجَاهِلِيَّة يَوْم الْعرُوبَة أَي الْبَين الْمُعظم وَهِي أفضل الصَّلَوَات ويومها أفضل الْأَيَّام وَخير يَوْم طلعت فِيهِ الشَّمْس يعْتق لَهُ أجر شَهِيد وَوُقِيَ فتْنَة الْقَبْر
وَهِي بشروطها الْآتِيَة فرض عين لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا} الله تَعَالَى فِيهِ سِتّمائَة ألف عَتيق من(1/176)
النَّار وَمن مَاتَ فِيهِ كتب الله تَعَالَى {نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا} أَي امضوا {إِلَى ذكر الله} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رواح الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم
وفرضت الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة وَلم يصلها حِينَئِذٍ إِمَّا لِأَنَّهُ لم يكمل عَددهَا عِنْده أَو لِأَن من شعارها الْإِظْهَار وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة مستخفيا
وَالْجُمُعَة لَيست ظهرا مَقْصُورا وَإِن كَانَ وَقتهَا وقته وتتدارك بِهِ بل صَلَاة مُسْتَقلَّة لِأَنَّهُ لَا يُغني عَنْهَا وَلقَوْل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر على لِسَان نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد خَابَ من افترى رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَغَيره وتختص بِشُرُوط للزومها وشروط لصحتها وآداب وَسَتَأْتِي كلهَا
وَقد بَدَأَ بالقسم الأول فَقَالَ (وشرائط وجوب) صَلَاة (الْجُمُعَة سَبْعَة أَشْيَاء) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة الأول (الْإِسْلَام) وَهُوَ شَرط لغَيْرهَا من كل عبَادَة (و) الثَّانِي (الْبلُوغ و) الثَّالِث (الْعقل) فَلَا جُمُعَة على الصَّبِي وَلَا على مَجْنُون كَغَيْرِهَا من الصَّلَوَات والتكليف أَيْضا شَرط فِي كل عبَادَة
قَالَ فِي الرَّوْضَة والمغمى عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ بِخِلَاف السَّكْرَان فَإِنَّهُ يلْزمه قَضَاؤُهَا ظهرا كَغَيْرِهَا
(و) الرَّابِع (الْحُرِّيَّة) فَلَا تجب على من فِيهِ رق لنقصه ولاشتغاله بِحُقُوق السَّيِّد عَن التهيؤ لَهَا وَشَمل ذَلِك الْمكَاتب لِأَنَّهُ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم
(و) الْخَامِس (الذُّكُورَة) فَلَا تجب على امْرَأَة وَخُنْثَى لنقصهما
(و) السَّادِس (الصِّحَّة) فَلَا تجب على مَرِيض وَلَا على مَعْذُور بمرخص فِي ترك الْجَمَاعَة مِمَّا يتَصَوَّر هُنَا وَمن الْأَعْذَار الِاشْتِغَال بتجهيز الْمَيِّت كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامهم وإسهال لَا يضْبط الشَّخْص نَفسه مَعَه ويخشى مِنْهُ تلويث الْمَسْجِد كَمَا فِي التَّتِمَّة
وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْجَمَاعَة أَن الْحَبْس عذر إِذْ لم يكن مقصرا فِيهِ فَيكون هُنَا كَذَلِك
وَأفْتى الْبَغَوِيّ بِأَنَّهُ يجب إِطْلَاقه لفعلها
وَالْغَزالِيّ بِأَن القَاضِي إِن رأى الْمصلحَة فِي مَنعه منع وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا أولى
وَلَو اجْتمع فِي الْحَبْس أَرْبَعُونَ فَصَاعِدا قَالَ الأسنوي فَالْقِيَاس أَن الْجُمُعَة تلزمهم
وَإِذا كَانَ فيهم من لَا يصلح لإقامتها فَهَل لوَاحِد من الْبَلَد الَّتِي لَا يعسر فِيهَا الِاجْتِمَاع إِقَامَة الْجُمُعَة لَهُم(1/177)
أم لَا وَالظَّاهِر كَمَا قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين أَن لَهُ ذَلِك وَتلْزم الشَّيْخ الْهَرم والزمن إِن وجدا مركبا ملكا أَو إِجَارَة أَو إِعَارَة وَلَو آدَمِيًّا كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَلم يشق الرّكُوب عَلَيْهِمَا كمشقة الْمَشْي فِي الوحل لانْتِفَاء الضَّرَر وَلَا يجب قبُول الْمَوْهُوب لما فِيهِ من الْمِنَّة وَالشَّيْخ من جَاوز الْأَرْبَعين فَإِن النَّاس صغَار وَأَطْفَال وصبيان وذراري إِلَى الْبلُوغ وشبان وفتيان إِلَى الثَّلَاثِينَ وكهول إِلَى الْأَرْبَعين وَبعد الْأَرْبَعين الرجل شيخ وَالْمَرْأَة شيخة
واستنبط بَعضهم ذَلِك من الْقُرْآن الْعَزِيز قَالَ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} {قَالُوا سمعنَا فَتى يذكرهم} {ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلا} {إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا} الْهَرم أقْصَى الْكبر والزمانة الِابْتِلَاء والعاهة وَتلْزم الْأَعْمَى إِن وجد قائدا وَلَو بِأُجْرَة مثل يجدهَا أَو مُتَبَرعا أَو ملكا فَإِن لم يجده لم يلْزمه الْحُضُور وَإِن كَانَ يحسن الْمَشْي بالعصا خلافًا للْقَاضِي حُسَيْن لما فِيهِ من التَّعَرُّض للضَّرَر
نعم إِن كَانَ قَرِيبا من الْجَامِع بِحَيْثُ لَا يتَضَرَّر بذلك يَنْبَغِي وجوب الْحُضُور عَلَيْهِ لِأَن الْمُعْتَبر عدم الضَّرَر وَهَذَا لَا يتَضَرَّر وَمن صَحَّ ظَهره مِمَّن لَا تلْزمهُ الْجُمُعَة صحت جمعته لِأَنَّهَا إِذا صحت مِمَّن تلْزمهُ فَمِمَّنْ لَا تلْزمهُ أولى وتغني عَن ظَهره وَله أَن ينْصَرف من الْمصلى قبل إِحْرَامه بهَا إِلَّا نَحْو مَرِيض كأعمى لَا يجد قائدا فَلَيْسَ لَهُ أَن ينْصَرف قبل إِحْرَامه إِن دخل وَقتهَا وَلم يزدْ ضَرَره بانتظاره فعلهَا أَو أُقِيمَت الصَّلَاة نعم لَو أُقِيمَت وَكَانَ ثمَّ مشقة لَا تحْتَمل كمن بِهِ إسهال ظن انْقِطَاعه فأحس بِهِ وَلَو بعد تحرمه وَعلم من نَفسه أَنه إِن مكث سبقه فَالْمُتَّجه كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ أَن لَهُ الِانْصِرَاف
وَالْفرق بَين الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ أَن الْمَانِع فِي نَحْو الْمَرِيض من وُجُوبهَا مشقة الْحُضُور وَقد حضر متحملا لَهَا وَالْمَانِع فِي غَيره صِفَات قَائِمَة بِهِ لَا تَزُول بالحضور
(و) السَّابِع (الاستيطان) وَالْأولَى أَن يعبر بِالْإِقَامَةِ فَلَا جُمُعَة على مُسَافر سفرا مُبَاحا وَلَو قَصِيرا لاشتغاله وَقد رُوِيَ مَرْفُوعا لَا جُمُعَة على مُسَافر لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَالصَّحِيح وَقفه على ابْن عمر وَأهل الْقرْيَة وَإِن كَانَ فيهم جمع تصح بِهِ الْجُمُعَة وَهُوَ أَرْبَعُونَ من أهل الْكَمَال المستوطنين أَو بَلغهُمْ صَوت عَال من مُؤذن يُؤذن كعادته فِي علو الصَّوْت والأصوات هادئة والرياح راكدة من طرف يليهم لبلد الْجُمُعَة مَعَ اسْتِوَاء الأَرْض لزمتهم وَالْمُعْتَبر سَماع من أصغى وَلم يكن أَصمّ وَلَا جَاوز سَمعه حد الْعَادة وَلَو لم يسمع مِنْهُم غير وَاحِد وَيعْتَبر كَون الْمُؤَذّن على الأَرْض لَا على عَال لِأَنَّهُ لَا ضبط لحده
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب قَالَ أَصْحَابنَا إِلَّا أَن تكون الْبَلَد فِي أَرض بَين أَشجَار كطبرستان وَتَابعه فِي الْمَجْمُوع فَإِنَّهَا بَين أَشجَار تمنع بُلُوغ الصَّوْت فَيعْتَبر فِيهَا الْعُلُوّ على مَا يُسَاوِي الْأَشْجَار
وَقد يُقَال الْمُعْتَبر السماع لَو لم يكن مَانع وَفِي ذَلِك مَانع فَلَا حَاجَة لاستثنائه وَلَو سمعُوا النداء من بلدين فحضور الْأَكْثَر جمَاعَة أولى فَإِن اسْتَويَا فمراعاة الْأَقْرَب أولى كَنَظِيرِهِ فِي الْجَمَاعَة فَإِن لم يكن فيهم الْجمع الْمَذْكُور وَلَا بَلغهُمْ الصَّوْت الْمَذْكُور لم تلزمهم الْجُمُعَة وَلَو ارْتَفَعت قَرْيَة فَسمِعت وَلَو ساوت لم تسمع أَو انخفضت فَلم تسمع وَلَو ساوت(1/178)
لسمعت لَزِمت الثَّانِيَة دون الأولى اعْتِبَارا بِتَقْدِير الاسْتوَاء وَلَو وجدت قَرْيَة فِيهَا أَرْبَعُونَ كاملون فَدَخَلُوا بَلَدا وصلوا فِيهَا سَقَطت عَنْهُم سَوَاء أسمعوا النداء أم لَا وَيحرم عَلَيْهِم ذَلِك لتعطيلهم الْجُمُعَة فِي قريتهم وَلَو وَافق الْعِيد يَوْم الْجُمُعَة فَحَضَرَ أهل الْقرْيَة الَّذين يبلغهم النداء لصَلَاة الْعِيد وَلَو رجعُوا إِلَى أَهْليهمْ فَاتَتْهُمْ الْجُمُعَة فَلهم الرُّجُوع وَترك الْجُمُعَة على الْأَصَح
نعم لَو دخل وَقتهَا قبل انصرافهم فَالظَّاهِر أَنه لَيْسَ لَهُم تَركهَا
وَيحرم على من لَزِمته الْجُمُعَة السّفر بعد الزَّوَال لِأَن وُجُوبهَا تعلق بِهِ بِمُجَرَّد دُخُول الْوَقْت إِلَّا أَن يغلب على ظَنّه أَنه يدْرك الْجُمُعَة فِي مقْصده أَو طَرِيقه لحُصُول الْمَقْصُود أَو يتَضَرَّر بتخلفه لَهَا عَن الرّفْقَة فَلَا يحرم دفعا للضَّرَر عَنهُ أما مُجَرّد انْقِطَاعه عَن الرّفْقَة بِلَا ضَرَر فَلَيْسَ بِعُذْر بِخِلَاف نَظِيره من التَّيَمُّم لِأَن الطُّهْر يتَكَرَّر فِي كل يَوْم بِخِلَاف الْجُمُعَة وَبِأَنَّهُ يغْتَفر فِي الْوَسَائِل مَا لَا يغْتَفر فِي الْمَقَاصِد وَقبل الزَّوَال وأوله الْفجْر كبعده فِي الْحُرْمَة وَغَيرهَا وَإِنَّمَا حرم قبل الزَّوَال وَإِن لم يدْخل وَقتهَا لِأَنَّهَا مُضَافَة إِلَى الْيَوْم وَلذَلِك يجب السَّعْي قبل الزَّوَال على بعيد الدَّار وَسن لغير من تلْزمهُ الْجُمُعَة وَلَو بمحلها جمَاعَة فِي ظَهره وإخفاؤها إِن خَفِي عذره لِئَلَّا يتهم بالرغبة عَن صَلَاة الإِمَام
وَيسن لمن رجا زَوَال عذره قبل فَوَات الْجُمُعَة كَعبد يَرْجُو الْعتْق تَأْخِير ظَهره إِلَى فَوَات الْجُمُعَة أما من لَا يَرْجُو زَوَال عذره كامرأة فتعجيل الظّهْر أفضل لتحوز فَضِيلَة أول الْوَقْت
ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ شُرُوط الصِّحَّة فَقَالَ (وشرائط) صِحَة (فعلهَا) مَعَ شُرُوط غَيرهَا (ثَلَاثَة) بل ثَمَانِيَة كَمَا ستراها
الأول (أَن تكون الْبَلَد) أَي أَن تُقَام فِي خطة أبنية أوطان المجمعين من الْبَلَد سَوَاء الرحاب المسقفة والساحات والمساجد وَلَو انْهَدَمت الْأَبْنِيَة وَأَقَامُوا على عمارتها لم يضر انهدامها فِي صِحَة الْجُمُعَة وَإِن لم يَكُونُوا فِي مظال لِأَنَّهَا وطنهم وَلَا تَنْعَقِد فِي غير بِنَاء إِلَّا فِي هَذِه وَهَذَا بِخِلَاف مَا لَو نزلُوا مَكَانا وَأَقَامُوا فِيهِ ليعمروه قَرْيَة لَا تصح جمعتهم فِيهِ قبل الْبناء استصحابا للْأَصْل فِي الْحَالين وَكَذَا لَو صلت طَائِفَة خَارج الْأَبْنِيَة خلف جُمُعَة منعقدة لَا تصح جمعتهم لعدم وُقُوعهَا فِي الْأَبْنِيَة المجتمعة فِيهِ وَإِن خَالف فِي ذَلِك بعض الْمُتَأَخِّرين وَتجوز فِي الفضاء الْمَعْدُود من خطة الْبَلَد (مصرا) كَانَت (أَو قَرْيَة) بِحَيْثُ لَا تقصر فِيهِ الصَّلَاة كَمَا فِي السكن الْخَارِج عَنْهَا الْمَعْدُود مِنْهَا بِخِلَاف غير الْمَعْدُود مِنْهَا فَمن أطلق الْمَنْع فِي الْخَارِج عَنْهَا أَرَادَ هَذَا
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَأكْثر أهل الْقرى يؤخرون الْمَسْجِد عَن جِدَار الْقرْيَة قَلِيلا صِيَانة لَهُ عَن نَجَاسَة الْبَهَائِم وَعدم انْعِقَاد الْجُمُعَة فِيهِ بعيد
وَقَول القَاضِي أبي الطّيب قَالَ أَصْحَابنَا لَو بنى أهل الْبَلَد مَسْجِدهمْ خَارِجهَا لم يجز لَهُم إِقَامَة الْجُمُعَة فِيهِ لانفصاله عَن(1/179)
الْبناء مَحْمُول على انْفِصَال لَا يعد بِهِ من الْقرْيَة اه
وَفِي فَتَاوَى ابْن البزري أَنه إِذا كَانَ أَي الْبَلَد كَبِيرا أَو خرب مَا حوالي الْمَسْجِد لم يزل حكم الوصلة عَنهُ وَيجوز إِقَامَة الْجُمُعَة فِيهِ وَلَو كَانَ بَينهمَا فَرسَخ اه
وَالضَّابِط فِيهِ أَلا يكون بِحَيْثُ تقصر فِيهِ الصَّلَاة قبل مجاوزته أخذا مِمَّا مر وَلَو لَازم أهل الْخيام موضعا من الصَّحرَاء وَلم يبلغهم النداء من مَحل الْجُمُعَة فَلَا جُمُعَة عَلَيْهِم وَلَا تصح مِنْهُم لأَنهم على هَيْئَة المستوفزين وَلَيْسَ لَهُم أبنية المستوطنين وَلِأَن قبائل الْعَرَب كَانُوا مقيمين حول الْمَدِينَة وَمَا كَانُوا يصلونها وَمَا أَمرهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا
(و) الثَّانِي من شُرُوط الصِّحَّة (أَن يكون الْعدَد أَرْبَعِينَ) رجلا وَلَو مرضى وَمِنْهُم الإِمَام (من أهل الْجُمُعَة) وهم الذُّكُور الْأَحْرَار المكلفون المستوطنون بمحلها لَا يظعنون عَنهُ شتاء وَلَا صيفا إِلَّا لحَاجَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجمع بِحجَّة الْوَدَاع مَعَ عزمه على الْإِقَامَة أَيَّامًا لعدم التوطن وَكَانَ يَوْم عَرَفَة فِيهَا يَوْم جُمُعَة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَصلى بهم الظّهْر وَالْعصر تَقْدِيمًا كَمَا فِي خبر مُسلم وَلَو نَقَصُوا فِيهَا بطلت لاشْتِرَاط الْعدَد فِي دوامها كالوقت فِيهَا وَقد فَاتَ فيتمها الْبَاقُونَ ظهرا أَو فِي خطْبَة لم يحْسب ركن مِنْهَا فعل حَال نقصهم لعدم سماعهم لَهُ فَإِن عَادوا قَرِيبا عرفا جَازَ بِنَاء على مَا مضى مِنْهَا فَإِن عَادوا بعد طول الْفَصْل وَجب استئنافها لانْتِفَاء الْمُوَالَاة الَّتِي فعلهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأَئِمَّة بعده فَيجب اتباعهم فِيهَا كنقصهم بَين الصَّلَاة وَالْخطْبَة فَإِنَّهُم إِن عَادوا قَرِيبا جَازَ الْبناء وَإِلَّا وَجب الِاسْتِئْنَاف لذَلِك وَلَو أحرم أَرْبَعُونَ قبل انفضاض الْأَوَّلين تمت لَهُم الْجُمُعَة وَإِن لم يَكُونُوا سمعُوا الْخطْبَة وَإِن أَحْرمُوا عقب انفضاض الْأَوَّلين قَالَ فِي الْوَسِيط تستمر الْجُمُعَة بِشَرْط أَن يَكُونُوا سمعُوا الْخطْبَة وَتَصِح الْجُمُعَة خلف عبد وَصبي مُمَيّز ومسافر وَمن بَان مُحدثا وَلَو حَدثا أكبر كَغَيْرِهَا إِن تمّ الْعدَد أَرْبَعِينَ بغيرهم بِخِلَاف مَا إِذا لم يتم إِلَّا بهم
(و) الثَّالِث من شُرُوط الصِّحَّة (الْوَقْت) وَهُوَ وَقت الظّهْر لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَيشْتَرط الْإِحْرَام بهَا وَهُوَ (بَاقٍ) بِحَيْثُ يَسعهَا جَمِيعهَا (فَإِن خرج الْوَقْت) أَو ضَاقَ عَنْهَا وَعَن خطبتيها أَو شكّ فِي ذَلِك (أَو عدمت الشُّرُوط) أَي شُرُوط صِحَّتهَا أَو بَعْضهَا كَأَن فقد الْعدَد أَو الاستيطان (صليت) حِينَئِذٍ (ظهرا) كَمَا لَو فَاتَ شَرط الْقصر يرجع إِلَى الْإِتْمَام فَعلم أَنَّهَا إِذا فَاتَت لَا تقضى جُمُعَة بل ظهرا أَو خرج الْوَقْت وهم فِيهَا وَجب الظّهْر بِنَاء إِلْحَاقًا للدوام بِالِابْتِدَاءِ فيسر بِالْقِرَاءَةِ من حِينَئِذٍ بِخِلَاف مَا لَو شكّ فِي خُرُوجه لِأَن الأَصْل بَقَاؤُهُ وَأما الْمَسْبُوق الْمدْرك مَعَ الإِمَام مِنْهَا رَكْعَة فَهُوَ كَغَيْرِهِ فِيمَا تقدم فَإِذا خرج الْوَقْت قبل سَلَامه فَإِنَّهُ يجب ظهر بِنَاء وَإِن كَانَت تَابِعَة لجمعة صَحِيحَة وَلَو سلم الإِمَام الأولى وَتِسْعَة وَثَلَاثُونَ فِي الْوَقْت وَسلمهَا الْبَاقُونَ خَارجه صحت جُمُعَة الإِمَام وَمن مَعَه أما الْمُسلمُونَ خَارجه أَو فِيهِ لَو نَقَصُوا عَن أَرْبَعِينَ كَأَن سلم الإِمَام فِيهِ وَسلم من مَعَه أَو بَعضهم خَارجه فَلَا تصح جمعتهم(1/180)
فَإِن قيل لَو تبين حدث الْمَأْمُومين دون الإِمَام صحت جمعته كَمَا نَقله الشَّيْخَانِ عَن الْبَيَان مَعَ عدم انْعِقَاد صلَاتهم فَهَلا كَانَ هُنَاكَ كَذَلِك أُجِيب بِأَن الْمُحدث تصح جمعته فِي الْجُمْلَة بِأَن لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا بِخِلَافِهَا خَارج الْوَقْت
وَالرَّابِع من الشُّرُوط وجود الْعدَد كَامِلا من أول الْخطْبَة الأولى إِلَى انْقِضَاء الصَّلَاة لتخرج مَسْأَلَة الانفضاض الْمُتَقَدّمَة
وَالْخَامِس من الشُّرُوط أَن لَا يسبقها وَلَا يقارنها جُمُعَة فِي محلهَا وَلَو عظم كَمَا قَالَه الشَّافِعِي لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين لم يقيموا سوى جُمُعَة وَاحِدَة وَلِأَن الِاقْتِصَار على وَاحِدَة أفْضى إِلَى الْمَقْصُود من إِظْهَار شعار الِاجْتِمَاع واتفاق الْكَلِمَة
قَالَ الشَّافِعِي وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ فعلهَا فِي مسجدين لجَاز فِي مَسْجِد العشائر وَلَا يجوز إِجْمَاعًا إِلَّا إِذا كبر الْمحل وعسر اجْتِمَاعهم فِي مَكَان بِأَن لم يكن فِي مَحل الْجُمُعَة مَوضِع يسعهم بِلَا مشقة وَلَا غير مَسْجِد فَيجوز التَّعَدُّد للْحَاجة بحسبها لِأَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ دخل بَغْدَاد وَأَهْلهَا يُقِيمُونَ فِيهَا جمعتين وَقيل ثَلَاثًا فَلم يُنكر عَلَيْهِم فَحَمله الْأَكْثَرُونَ على عسر الِاجْتِمَاع قَالَ الرَّوْيَانِيّ وَلَا يحْتَمل مَذْهَب الشَّافِعِي غَيره وَقَالَ الصَّيْمَرِيّ وَبِه أفتى الْمُزنِيّ بِمصْر وَالظَّاهِر أَن الْعبْرَة فِي الْعسر بِمن يُصَلِّي لَا بِمن تلْزمهُ وَلَو لم يحضر وَلَا بِجَمِيعِ أهل الْبَلَد كَمَا قيل بذلك وَظَاهر النَّص منع التَّعَدُّد مُطلقًا وَعَلِيهِ اقْتصر صَاحب التَّنْبِيه كالشيخ أبي حَامِد ومتابعيه فالاحتياط لمن صلى جُمُعَة بِبَلَد تعدّدت فِيهِ الْجُمُعَة بِحَسب الْحَاجة وَلم يعلم سبق جمعته أَن يُعِيدهَا ظهرا فَلَو سبقها جُمُعَة فِي مَحل لَا يجوز التَّعَدُّد فِيهِ فالصحيحة السَّابِقَة لِاجْتِمَاع الشَّرَائِط فِيهَا واللاحقة بَاطِلَة وَالْمُعْتَبر سبق التَّحَرُّم بِتمَام التَّكْبِير وَهُوَ الرَّاء وَإِن سبقه الآخر بِالْهَمْزَةِ فَلَو وقعتا مَعًا أَو شكّ فِي الْمَعِيَّة فَلم يدر أوقعتا مَعًا أَو مُرَتبا استؤنفت الْجُمُعَة إِن اتَّسع الْوَقْت لتوافقهما فِي الْمَعِيَّة فَلَيْسَتْ إِحْدَاهمَا أولى من الْأُخْرَى وَلِأَن الأَصْل فِي صُورَة الشَّك عدم وُقُوع جُمُعَة مجزئة
قَالَ الإِمَام وَحكم الْأَئِمَّة بِأَنَّهُم إِذا أعادوا الْجُمُعَة بَرِئت ذمتهم مُشكل لاحْتِمَال تقدم إِحْدَاهمَا فَلَا تصح الْأُخْرَى فاليقين أَن يقيموا جُمُعَة ثمَّ ظهرا قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَمَا قَالَه مُسْتَحبّ وَإِلَّا فالجمعة كَافِيَة فِي الْبَرَاءَة كَمَا قَالُوهُ لِأَن الأَصْل عدم وُقُوع جُمُعَة مجزئة فِي حق كل طَائِفَة وَإِن سبقت إِحْدَاهمَا وَلم تتَعَيَّن كَأَن سمع مريضان تكبيرتين متلاحقتين وجهلا الْمُتَقَدّم فأخبرا بذلك أَو تعيّنت ونسيت بعده صلوا ظهرا لأَنا تَيَقنا وُقُوع جُمُعَة صَحِيحَة فِي نفس الْأَمر وَلَا يُمكن إِقَامَة جُمُعَة بعْدهَا والطائفة الَّتِي صحت بهَا الْجُمُعَة غير مَعْلُومَة وَالْأَصْل بَقَاء الْفَرْض فِي حق كل طَائِفَة فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الظّهْر
فَائِدَة الْجمع الْمُحْتَاج إِلَيْهَا مَعَ الزَّائِد عَلَيْهِ كالجمعتين الْمُحْتَاج إِلَى إِحْدَاهمَا فَفِي ذَلِك التَّفْصِيل الْمَذْكُور فيهمَا كَمَا أفتى بِهِ الْبُرْهَان بن أبي شرِيف وَهُوَ ظَاهر
(وفرائضها ثَلَاثَة) وَهَذَا لَا يُخَالف من عبر بِالشُّرُوطِ كالجمهور فَإِن الشُّرُوط ثَمَانِيَة كَمَا مر إِذْ الْفَرْض والشروط قد يَجْتَمِعَانِ فِي أَن كلا مِنْهُمَا لَا بُد مِنْهُ
الأول وَهُوَ الشَّرْط السَّادِس (خطبتان) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة خطبتين يجلس بَينهمَا وكونهما قبل الصَّلَاة بِالْإِجْمَاع إِلَّا من شَذَّ مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَلم يصل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بعدهمَا(1/181)
قَالَ فِي الْمَجْمُوع ثبتَتْ صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد خطبتين
وأركانهما خَمْسَة أَولهَا حمد الله تَعَالَى لِلِاتِّبَاعِ وَثَانِيها الصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهَا عبَادَة افْتَقَرت إِلَى ذكر الله تَعَالَى فافتقرت إِلَى ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَالصَّلَاةِ وَلَفظ الْحَمد وَالصَّلَاة مُتَعَيّن لِلِاتِّبَاعِ فَلَا يجزىء الشُّكْر وَالثنَاء وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَنَحْو ذَلِك وَلَا يتَعَيَّن لفظ الْحَمد الله بل يجزىء أَن نحمد الله أَو لله الْحَمد أَو نَحْو ذَلِك وَيتَعَيَّن لفظ الْجَلالَة فَلَا يجزىء الْحَمد للرحمن أَو نَحوه وَلَا يتَعَيَّن لفظ اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد بل يجزىء نصلي أَو أُصَلِّي أَو نَحْو ذَلِك وَلَا يتَعَيَّن لفظ مُحَمَّد بل يَكْفِي أَحْمد أَو النَّبِي أَو الماحي أَو الحاشر أَو نَحْو ذَلِك وَلَا يَكْفِي رحم الله مُحَمَّدًا أَو صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَثَالِثهَا الْوَصِيَّة بالتقوى لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسلم وَلَا يتَعَيَّن لفظ الْوَصِيَّة بالتقوى لِأَن الْغَرَض الْوَعْظ والحث على طَاعَة الله تَعَالَى فَيَكْفِي أطِيعُوا الله وراقبوه
وَهَذِه الثَّلَاثَة أَرْكَان فِي كل من الْخطْبَتَيْنِ
وَرَابِعهَا قِرَاءَة آيَة فِي إِحْدَاهمَا لِأَن الْغَالِب أَن الْقِرَاءَة فِي الْخطْبَة دون تعْيين
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِنَّه يجزىء أَن يقْرَأ بَين قراءتهما
قَالَ وَكَذَا قبل الْخطْبَة أَو بعد فَرَاغه مِنْهُمَا
وَنقل ابْن كج ذَلِك عَن النَّص صَرِيحًا قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَيسن جعلهَا فِي الأولى وَلَو قَرَأَ آيَة سَجْدَة نزل وَسجد إِن لم يكن فِيهِ كلفة فَإِن خشِي من ذَلِك طول فصل سجد مَكَانَهُ إِن أمكنه وَإِلَّا تَركه
وخامسها مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم دُعَاء للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات بأخروي فِي الْخطْبَة الثَّانِيَة لِأَن الدُّعَاء يَلِيق بالخواتيم وَلَو خص بِهِ الْحَاضِرين كَقَوْلِه رحمكم الله كفى بِخِلَاف مَا لَو خص بِهِ الغائبين فِيمَا يظْهر كَمَا يُؤْخَذ من كَلَامهم وَلَا بَأْس بِالدُّعَاءِ للسُّلْطَان بِعَيْنِه كَمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة إِن لم يكن فِي وَصفه مجازفة
قَالَ ابْن عبد السَّلَام وَلَا يجوز وَصفه بِالصِّفَاتِ الكاذبة إِلَّا لضَرُورَة وَيسن الدُّعَاء لأئمة الْمُسلمين وولاة أُمُورهم بالصلاح والإعانة على الْحق وَالْقِيَام بِالْعَدْلِ وَنَحْو ذَلِك
وَيشْتَرط أَن يَكُونَا عربيتين وَالْمرَاد أركانهما لابباع السّلف وَالْخلف فَإِن لم يكن ثمَّ من يحسن الْعَرَبيَّة وَلم يُمكن تعلمهَا خطب بغَيْرهَا
أَو أمكن تعلمهَا وَجب على الْجَمِيع على سَبِيل فرض الْكِفَايَة فَيَكْفِي فِي تعلمهَا وَاحِد وَأَن (يقوم) الْقَادِر (فيهمَا) جَمِيعًا فَإِن عجز عَنهُ خطب جَالِسا (و) أَن (يجلس بَينهمَا) لِلِاتِّبَاعِ بطمأنينة فِي جُلُوسه كَمَا فِي الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ
وَمن خطب قَاعِدا لعذر فصل بَينهمَا بسكتة وجوبا وَيشْتَرط كَونهمَا فِي وَقت الظّهْر وَيشْتَرط وَلَاء بَينهمَا وَبَين أركانهما وَبَينهمَا وَبَين الصَّلَاة وطهر عَن حدث أَصْغَر وأكبر وَعَن نجس غير مَعْفُو عَنهُ فِي ثَوْبه وبدنه ومكانه وَستر لعورته فِي الْخطْبَتَيْنِ وإسماع الْأَرْبَعين الَّذين تَنْعَقِد بهم الْجُمُعَة وَمِنْهُم الإِمَام أركانهما لِأَن مقصودهما وعظهم وَهُوَ لَا يحصل إِلَّا بذلك فَعلم أَنه يشْتَرط سماعهم أَيْضا وَإِن لم يفهموا مَعْنَاهُمَا كالعامي يقْرَأ الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة وَلَا يفهم مَعْنَاهَا فَلَا يَكْفِي الْإِسْرَار كالأذان وَلَا إسماع دون أَرْبَعِينَ وَلَا حضورهم بِلَا سَماع لصمم أَو بعد أَو نَحوه
وَسن تَرْتِيب أَرْكَان الْخطْبَتَيْنِ بِأَن يبْدَأ بِالْحَمْد لله ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ الْوَصِيَّة بالتقوى ثمَّ الْقِرَاءَة ثمَّ الدُّعَاء كَمَا جرى عَلَيْهِ السّلف وَالْخلف
وَإِنَّمَا لم يجب لحُصُول الْمَقْصُود بِدُونِهِ وَسن لمن يسمعهما سكُوت مَعَ إصغاء لَهما لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} ذكر فِي التَّفْسِير أَنَّهَا نزلت فِي الْخطْبَة وَسميت قُرْآنًا لاشتمالها عَلَيْهِ
وَوَجَب رد السَّلَام وَسن تشميت الْعَاطِس وَرفع الصَّوْت بِالصَّلَاةِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد قِرَاءَة الْخَطِيب {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} وَإِن اقْتضى كَلَام الرَّوْضَة إِبَاحَة الرّفْع
وَصرح القَاضِي أَبُو الطّيب بكراهته
وَعلم من سنّ الْإِنْصَات فيهمَا عدم حُرْمَة(1/182)
الْكَلَام فيهمَا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لمن سَأَلَهُ مَتى السَّاعَة مَا أَعدَدْت لَهَا فَقَالَ حب الله وَرَسُوله فَقَالَ إِنَّك مَعَ من أَحْبَبْت وَلم يُنكر عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَلَام وَلم يبين لَهُ وجوب السُّكُوت فَالْأَمْر فِي الْآيَة للنَّدْب جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ أما من لَا يسمعهما فيسكت أَو يشْتَغل بِالذكر أَو الْقِرَاءَة وَذَلِكَ أولى من السُّكُوت وَسن كَونهمَا على مِنْبَر فَإِن لم يكن مِنْبَر فعلى مُرْتَفع وَأَن يسلم على من عِنْد الْمِنْبَر وَأَن يقبل عَلَيْهِم إِذا صعد الْمِنْبَر أَو نَحوه وانْتهى إِلَى الدرجَة الَّتِي يجلس عَلَيْهَا الْمُسَمَّاة بالمستراح وَأَن يسلم عَلَيْهِم ثمَّ يجلس فَيُؤذن وَاحِد لِلِاتِّبَاعِ فِي الْجَمِيع وَأَن تكون الْخطْبَة فصيحة جزلة لَا مبتذلة ركيكة قريبَة للفهم لَا غَرِيبَة وحشية إِذْ لَا ينْتَفع بهَا أَكثر النَّاس ومتوسطة لِأَن الطَّوِيل يمل والقصير يخل وَأما خبر مُسلم أطيلوا الصَّلَاة وأقصروا الْخطْبَة فقصرها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاة وَأَن لَا يلْتَفت فِي شَيْء مِنْهَا بل يسْتَمر مُقبلا عَلَيْهِم إِلَى فراغها وَيسن لَهُم أَن يقبلُوا عَلَيْهِ مُسْتَمِعِينَ لَهُ وَأَن يشغل يسراه بِنَحْوِ سيف ويمناه بِحرف الْمِنْبَر وَأَن يكون جُلُوسه بَين الْخطْبَتَيْنِ بِقدر سُورَة الْإِخْلَاص وَأَن يُقيم بعد فَرَاغه من الْخطْبَة مُؤذن ويبادر هُوَ ليبلغ الْمِحْرَاب مَعَ فَرَاغه من الْإِقَامَة فيشرع فِي الصَّلَاة وَالْمعْنَى فِي ذَلِك الْمُبَالغَة فِي تَحْقِيق الْوَلَاء الَّذِي مر وُجُوبه وَأَن يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى بعد الْفَاتِحَة الْجُمُعَة وَفِي الثَّانِيَة المُنَافِقُونَ جَهرا لِلِاتِّبَاعِ
وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْرَأ فِي الْجُمُعَة سبح {اسْم رَبك الْأَعْلَى} {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} قَالَ فِي الرَّوْضَة كَانَ يقْرَأ هَاتين فِي وَقت وَهَاتين فِي وَقت فهما سنتَانِ
(و) الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الشَّرْط السَّابِع (أَن تصلى رَكْعَتَيْنِ) بِالْإِجْمَاع وَمر أَنَّهَا صَلَاة مُسْتَقلَّة لَيست ظهرا مَقْصُورَة
والركن الثَّالِث وَهُوَ الشَّرْط الثَّامِن أَن تقع فِي (الْجَمَاعَة) وَلَو فِي الرَّكْعَة الأولى لِأَنَّهَا لم تقع فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِلَّا كَذَلِك وَهل يشْتَرط تقدم إِحْرَام من تَنْعَقِد بهم لتصح لغَيرهم أَو لَا اشْترط الْبَغَوِيّ ذَلِك وَنَقله فِي الْكِفَايَة عَن القَاضِي وَرجح البُلْقِينِيّ الثَّانِي وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ إِن الصَّوَاب أَنه لَا يشْتَرط تقدم من ذكر وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
قَالَ البُلْقِينِيّ وَلَعَلَّ مَا قَالَه القَاضِي أَي وَمن تبعه من عدم الصِّحَّة مَبْنِيّ على الْوَجْه الَّذِي قَالَ إِنَّه الْقيَاس وَهُوَ أَنه لَا تصح الْجُمُعَة خلف الصَّبِي أَو العَبْد أَو الْمُسَافِر إِذا تمّ الْعدَد بِغَيْرِهِ وَالأَصَح الصِّحَّة
ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الْآدَاب وَتسَمى هيئات فَقَالَ (وهيئاتها) أَي الْحَالة الَّتِي تطلب لَهَا والمذكورة مِنْهَا هُنَا (أَربع)
الأول (الْغسْل) لمن يُرِيد حُضُورهَا وَإِن لم تجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة لحَدِيث إِذا جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل وتفارق الْجُمُعَة الْعِيد حَيْثُ لم يخْتَص بِمن يحضر بِأَن غسله للزِّينَة وَإِظْهَار السرُور وَهَذَا للتنظيف وَدفع الْأَذَى عَن النَّاس وَمثله يَأْتِي فِي التزيين وَرُوِيَ غسل الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم أَي متأكد وَوَقته من الْفجْر الصَّادِق وتقريبه من ذَهَابه إِلَى الْجُمُعَة أفضل لِأَنَّهُ أفْضى إِلَى الْمَقْصُود من انْتِفَاء الرَّائِحَة الكريهة وَلَو تعَارض الْغسْل والتبكير فمراعاة الْغسْل أولى فَإِن عجز عَن المَاء كَأَن تَوَضَّأ(1/183)
ثمَّ عَدمه أَو كَانَ جريحا فِي غير أَعْضَاء الْوضُوء تيَمّم بنية الْغسْل بِأَن يَنْوِي التَّيَمُّم عَن غسل الْجُمُعَة إحرازا للفضيلة كَسَائِر الأغسال (و) الثَّانِي (تنظيف الْجَسَد) من الروائح الكريهة كالصنان لِأَنَّهُ يتَأَذَّى بِهِ فيزال بِالْمَاءِ أَو غَيره
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من نظف ثَوْبه قل همه وَمن طَابَ رِيحه زَاد عقله
وَيسن السِّوَاك وَهَذِه الْأُمُور لَا تخْتَص بِالْجمعَةِ بل تسن لكل حَاضر بمجمع كَمَا نَص عَلَيْهِ لَكِنَّهَا فِي الْجُمُعَة أَشد اسْتِحْبَابا (و) الثَّالِث (أَخذ الظفر) إِن طَال وَالشعر كَذَلِك فينتف إبطه ويقص شَاربه ويحلق عانته وَيقوم مقَام الْحلق القص والنتف وَأما الْمَرْأَة فتنتف عانتها بل يجب عَلَيْهَا ذَلِك عِنْد أَمر الزَّوْج لَهَا بِهِ على الْأَصَح وَإِن تفاحش وَجب قطعا والعانة الشّعْر النَّابِت حول ذكر الرجل وَقبل الْمَرْأَة أما حلق الرَّأْس فَلَا ينْدب إِلَّا فِي نسك وَفِي الْمَوْلُود فِي سَابِع وِلَادَته وَفِي الْكَافِر إِذا أسلم وَأما فِي غير ذَلِك فَهُوَ مُبَاح وَلذَلِك قَالَ الْمُتَوَلِي ويتزين الذّكر بحلق رَأسه إِن جرت عَادَته بذلك وَسَيَأْتِي فِي الْأُضْحِية أَن من أَرَادَ أَن يُضحي يكره لَهُ فعل ذَلِك فِي عشر ذِي الْحجَّة فَهُوَ مُسْتَثْنى (و) رَابِعهَا (الطّيب) أَي اسْتِعْمَاله والتزين بِأَحْسَن ثِيَابه لحَدِيث من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة وَلبس من أحسن ثِيَابه وَمَسّ من طيب إِذا كَانَ عِنْده ثمَّ أَتَى الْجُمُعَة وَلم يتخط أَعْنَاق النَّاس ثمَّ صلى مَا كتب لَهُ ثمَّ أنصت إِذا خرج إِمَامه حَتَّى يفرغ من صلَاته كَانَ كَفَّارَة لما بَينهَا وَبَين الْجُمُعَة الَّتِي قبلهَا وَأفضل ثِيَابه الْبيض لخَبر البسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا خير ثيابكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم وَيسن للْإِمَام أَن يزِيد فِي حسن الْهَيْئَة والعمة والارتداء لِلِاتِّبَاعِ وَلِأَنَّهُ مَنْظُور إِلَيْهِ
(وَيسْتَحب) لكل سامع للخطبة (الْإِنْصَات) إِلَى الإِمَام (فِي وَقت) قِرَاءَة (الْخطْبَة) الأولى وَالثَّانيَِة وَقد مر دَلِيل ذَلِك وَيكرهُ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم أَن يتخطى رِقَاب النَّاس لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يتخطى رِقَاب النَّاس فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فقد آذيت وآنيت أَي تَأَخَّرت
وَيسْتَثْنى من ذَلِك صور مِنْهَا الإِمَام إِذا لم يبلغ الْمِنْبَر أَو الْمِحْرَاب إِلَّا بالتخطي فَلَا يكره لَهُ لاضطراره إِلَيْهِ وَمِنْهَا مَا إِذا وجد فِي الصُّفُوف الَّتِي بَين يَدَيْهِ فُرْجَة لم يبلغهَا إِلَّا بتخطي رجل أَو رجلَيْنِ فَلَا يكره لَهُ ذَلِك وَإِن وجد غَيرهَا لتقصير الْقَوْم بإخلاء فُرْجَة لَكِن يسن إِذا وجد غَيرهَا أَن لَا يتخطى فَإِن زَاد فِي التخطي عَلَيْهِمَا وَلَو من صف وَاحِد وَرَجا أَن يتقدموا إِلَى الفرجة إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة كره لِكَثْرَة الْأَذَى
وَمِنْهَا مَا إِذا سبق الصّبيان أَو العبيد أَو غير المستوطنين إِلَى الْجَامِع فَإِنَّهُ يجب على الكاملين إِذا حَضَرُوا التخطي لسَمَاع الْخطْبَة إِذا كَانُوا لَا يسمعونها مَعَ الْبعد وَيسن أَن يقْرَأ الْكَهْف فِي يَوْمهَا وليلتها لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَرَأَ الْكَهْف فِي يَوْم الْجُمُعَة أَضَاء لَهُ من النُّور مَا بَين الجمعتين روى الْبَيْهَقِيّ من قَرَأَهَا لَيْلَة الْجُمُعَة أَضَاء لَهُ من النُّور مَا بَينه وَبَين الْبَيْت الْعَتِيق وَيكثر من الدُّعَاء يَوْمهَا وليلتها أما يَوْمهَا فرجاء أَن يُصَادف سَاعَة الْإِجَابَة
قَالَ فِي الرَّوْضَة وَالصَّحِيح فِي سَاعَة الْإِجَابَة مَا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هِيَ مَا بَين أَن يجلس الإِمَام إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة
قَالَ فِي الْمُهِمَّات وَلَيْسَ المُرَاد أَن سَاعَة الْإِجَابَة مستغرقة لما بَين الْجُلُوس وَآخر الصَّلَاة كَمَا يشْعر بِهِ ظَاهر عِبَارَته بل المُرَاد أَن السَّاعَة لَا تخرج عَن هَذَا(1/184)
الْوَقْت فَإِنَّهَا لَحْظَة لَطِيفَة
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عِنْد ذكره إِيَّاهَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ يقللها وَأما لَيْلَتهَا فلقول الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بَلغنِي أَن الدُّعَاء يُسْتَجَاب فِي لَيْلَة الْجُمُعَة وللقياس على يَوْمهَا وَيسن كَثْرَة الصَّدَقَة وَفعل الْخَيْر فِي يَوْمهَا وليلتها وَيكثر من الصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَوْمهَا وليلتها لخَبر إِن من أفضل أيامكم يَوْم الْجُمُعَة فَأَكْثرُوا عَليّ من الصَّلَاة فِيهِ فَإِن صَلَاتكُمْ معروضة عَليّ
وَخبر أَكْثرُوا عَليّ من الصَّلَاة لَيْلَة الْجُمُعَة وَيَوْم الْجُمُعَة فَمن صلى عَليّ صَلَاة صلى الله عَلَيْهِ بهَا عشرا وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من صلى عَليّ يَوْم الْجُمُعَة ثَمَانِينَ مرّة غفر لَهُ ذنُوب ثَمَانِينَ سنة وَيحرم على من تلْزمهُ الْجُمُعَة التشاغل بِالْبيعِ وَغَيره بعد الشُّرُوع فِي الْأَذَان بَين يَدي الْخَطِيب حَال جُلُوسه على الْمِنْبَر لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع} فورد النَّص فِي البيع وَقيس عَلَيْهِ غَيره فَإِن بَاعَ صَحَّ بيعا لِأَن النَّهْي لِمَعْنى خَارج عَن العقد
وَيكرهُ قبل الْأَذَان الْمَذْكُور بعد الزَّوَال لدُخُول وَقت الْوُجُوب
(وَمن دخل) لصَلَاة الْجُمُعَة (وَالْإِمَام) يقْرَأ (فِي الْخطْبَة) الأولى أَو الثَّانِيَة أَو هُوَ جَالس بَينهمَا (يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خفيفتين ثمَّ يجلس) لخَبر مُسلم جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ يَا سليك قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ وَتجوز فيهمَا ثمَّ قَالَ إِذا جَاءَ أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ وليتجوز فيهمَا هَذَا إِن صلى سنة الْجُمُعَة وَإِلَّا صلاهَا مُخَفّفَة وحصلت التَّحِيَّة وَلَا يزِيد على رَكْعَتَيْنِ بِكُل حَال فَإِن لم تحصل تَحِيَّة الْمَسْجِد كَأَن كَانَ فِي غير الْمَسْجِد لم يصل شَيْئا
فإطلاقهم ومنعهم فِي الرَّاتِبَة مَعَ قيام سَببهَا يَقْتَضِي أَنه لَو تذكر فِي هَذَا الْوَقْت فرضا لَا يَأْتِي بِهِ وَأَنه لَو أَتَى بِهِ لم ينْعَقد وَهُوَ الظَّاهِر كَمَا قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين أما الدَّاخِل فِي آخر الْخطْبَة فَإِن غلب على ظَنّه أَنه إِن صلاهما فَاتَتْهُ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام مَعَ الإِمَام لم يصل التَّحِيَّة بل يقف حَتَّى تُقَام الصَّلَاة وَلَا يقْعد لِئَلَّا يكون جَالِسا فِي الْمَسْجِد قبل التَّحِيَّة
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلَو صلاهَا فِي هَذِه الْحَالة اسْتحبَّ للْإِمَام أَن يزِيد فِي كَلَام الْخطْبَة بِقدر مَا يكملها وَمَا قَالَه نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم وَالْمرَاد بِالتَّخْفِيفِ فِيمَا ذكر الِاقْتِصَار على الْوَاجِبَات كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ لَا الْإِسْرَاع
قَالَ وَيدل لَهُ مَا ذَكرُوهُ من أَنه إِذا ضَاقَ الْوَقْت وَأَرَادَ الْوضُوء اقْتصر على الْوَاجِبَات وَيجب أَيْضا تَخْفيف الصَّلَاة على من كَانَ فِيهَا عِنْد صعُود الْخَطِيب الْمِنْبَر وجلوسه وَلَا تُبَاح لغير الْخَطِيب من الْحَاضِرين نَافِلَة بعد صُعُوده الْمِنْبَر وجلوسه وَإِن لم يسمع الْخطْبَة لإعراضه عَنهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَنقل فِيهِ الْمَاوَرْدِيّ الْإِجْمَاع وَالْفرق بَين الْكَلَام حَيْثُ لَا بَأْس بِهِ
وَإِن صعد الْخَطِيب الْمِنْبَر مَا لم يبتدىء الْخطْبَة وَبَين الصَّلَاة حَيْثُ تحرم حِينَئِذٍ أَن قطع الْكَلَام هَين مَتى ابْتَدَأَ الْخَطِيب الْخطْبَة بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِنَّهُ قد يفوتهُ بهَا سَماع أول الْخطْبَة وَإِذا حرمت لم تَنْعَقِد كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ لِأَن الْوَقْت لَيْسَ لَهَا
تَتِمَّة من أدْرك مَعَ إِمَام الْجُمُعَة رَكْعَة وَلَو ملفقة لم تفته الْجُمُعَة فَيصَلي بعد زَوَال قدوته بمفارقته أَو سَلَامه رَكْعَة
وَيسن أَن يجْهر فِيهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أدْرك من صَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَة فقد أدْرك الصَّلَاة فَإِن أدْرك دون الرَّكْعَة فَاتَتْهُ الْجُمُعَة لمَفْهُوم الْخَبَر فَيتم بعد سَلام إِمَامه ظهرا وَيَنْوِي وجوبا فِي اقتدائه جُمُعَة مُوَافقَة للْإِمَام وَلِأَن الْيَأْس لم يحصل مِنْهَا إِلَّا بِالسَّلَامِ
وَإِذا بطلت صَلَاة إِمَام(1/185)
جُمُعَة أَو غَيرهَا فخلفه عَن قرب مقتد بِهِ قبل بُطْلَانهَا جَازَ لِأَن الصَّلَاة بإمامين بالتعاقب جَائِزَة كَمَا فِي قصَّة أبي بكر مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرضه وَكَذَا لَو خَلفه غير مقتد بِهِ فِي غير جُمُعَة إِن لم يُخَالف إِمَامه فِي نظم صلَاته ثمَّ إِن كَانَ الْخَلِيفَة فِي الْجُمُعَة أدْرك الرَّكْعَة الأولى تمت جُمُعَة الْخَلِيفَة والمقتدين وَإِلَّا فتتم الْجُمُعَة لَهُم لَا لَهُ لأَنهم أدركوا رَكْعَة كَامِلَة مَعَ الإِمَام وَهُوَ لم يُدْرِكهَا مَعَه فيتمها ظهرا كَذَا ذكره الشَّيْخَانِ وَقَضيته أَنه يُتمهَا ظهرا وَإِن أدْرك مَعَه رُكُوع الثَّانِيَة وسجودها
لَكِن قَالَ الْبَغَوِيّ يُتمهَا جُمُعَة لِأَنَّهُ صلى مَعَ الإِمَام رَكْعَة ويراعي الْمَسْبُوق نظم صَلَاة الإِمَام فَإِذا تشهد أَشَارَ إِلَيْهِم بِمَا يفهمهم فرَاغ صلَاتهم وانتظارهم لَهُ ليسلموا مَعَه أفضل وَمن تخلف عَن الإِمَام لعذر عَن سُجُود فأمكنه على شَيْء من إِنْسَان أَو غَيره لزمَه السُّجُود لتمكنه مِنْهُ فَإِن لم يُمكنهُ فلينتظر تمكنه مِنْهُ ندبا وَلَو فِي جُمُعَة ووجوبا فِي أولى جُمُعَة على مَا بَحثه الإِمَام وَأقرهُ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ فَإِن تمكن مِنْهُ قبل رُكُوع إِمَامه فِي الثَّانِيَة سجد فَإِن وجده بعد سُجُوده قَائِما أَو رَاكِعا فكمسبوق وَإِن وجده فرغ من رُكُوعه وَافقه فِيمَا هُوَ فِيهِ ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَة بعده فَإِن وجده قد سلم فَاتَتْهُ الْجُمُعَة فيتمها ظهرا وَإِن تمكن فِي رُكُوع إِمَامه فِي الثَّانِيَة فليركع مَعَه ويحسب لَهُ رُكُوعه الأول فركعته ملفقة فَإِن سجد على تَرْتِيب صَلَاة نَفسه عَالما عَامِدًا بطلت صلَاته وَإِلَّا فَلَا تبطل لعذره وَلَكِن لَا يحْسب لَهُ سُجُوده الْمَذْكُور لمُخَالفَته الإِمَام فَإِذا سجد ثَانِيًا وَلَو مُنْفَردا حسب هَذَا السُّجُود فَإِن كمل قبل سَلام الإِمَام أدْرك الْجُمُعَة وَإِلَّا فَلَا
فصل فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ
والعيد مُشْتَقّ من الْعود لتكرره كل عَام وَقيل لِكَثْرَة عوائد الله تَعَالَى فِيهِ على عباده وَقيل لعود السرُور بعوده وَجمعه أعياد وَإِنَّمَا جمع بِالْيَاءِ وَإِن كَانَ أَصله الْوَاو للزومها فِي الْوَاحِد وَقيل للْفرق بَينه وَبَين أَعْوَاد الْخشب وَالْأَصْل فِي صلَاته قبل الْإِجْمَاع مَعَ الْأَخْبَار الْآتِيَة قَوْله تَعَالَى {فصل لِرَبِّك وانحر} راد بِهِ صَلَاة الْأَضْحَى وَالذّبْح
وَأول عيد صلاه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عيد الْفطر فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة فَهِيَ سنة كَمَا قَالَ
(وَصَلَاة الْعِيدَيْنِ سنة) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للسَّائِل عَن الصَّلَاة خمس صلوَات كتبهن الله على عباده قَالَ لَهُ هَل عَليّ غَيرهَا قَالَ لَا إِلَّا أَن تطوع (مُؤَكدَة) لمواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا
وتشرع جمَاعَة وَهِي أفضل فِي حق غير الْحَاج بمنى أما هُوَ فَلَا تسن لَهُ صلَاتهَا جمَاعَة وَتسن لَهُ مُنْفَردا وتشرع أَيْضا للمنفرد وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَالْخُنْثَى وَالْمُسَافر فَلَا تتَوَقَّف على شُرُوط الْجُمُعَة ووقتها مَا بَين طُلُوع الشَّمْس وزوالها يَوْم الْعِيد وَيسن تَأْخِيرهَا لترتفع الشَّمْس كرمح لِلِاتِّبَاعِ (وَهِي رَكْعَتَانِ) بِالْإِجْمَاع وَحكمهَا فِي الْأَركان والشروط وَالسّنَن كَسَائِر الصَّلَوَات يحرم بهَا بنية صَلَاة عيد الْفطر أَو الْأَضْحَى هَذَا أقلهَا وَبَيَان أكملها مَذْكُور فِي قَوْله (يكبر فِي) الرَّكْعَة (الأولى سبعا) بِتَقْدِيم السِّين على(1/186)
الْمُوَحدَة (سوى تَكْبِيرَة الْإِحْرَام) بعد دُعَاء الِافْتِتَاح وَقبل التَّعَوُّذ لما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كبر فِي الْعِيدَيْنِ فِي الأولى سبعا قبل الْقِرَاءَة وَفِي الثَّانِيَة خمْسا قبل الْقِرَاءَة وَعلم من عبارَة المُصَنّف أَن تَكْبِيرَة الْإِحْرَام لَيست من السَّبع وَجعلهَا مَالك والمزني وَأَبُو ثَوْر مِنْهَا يقف ندبا بَين كل اثْنَتَيْنِ مِنْهَا كآية معتدلة يهلل وَيكبر ويمجد وَيحسن فِي ذَلِك أَن يَقُول سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر لِأَنَّهُ لَائِق بِالْحَال وَهِي الْبَاقِيَات الصَّالِحَات ثمَّ يتَعَوَّذ بعد التَّكْبِيرَة الْأَخِيرَة وَيقْرَأ الْفَاتِحَة كَغَيْرِهَا من الصَّلَوَات (و) يكبر (فِي) الرَّكْعَة (الثَّانِيَة) بعد تَكْبِيرَة الْقيام (خمْسا سوى تَكْبِيرَة الْقيام) بِالصّفةِ السَّابِقَة قبل التَّعَوُّذ وَالْقِرَاءَة للْخَبَر الْمُتَقَدّم ويجهر وَيرْفَع يَدَيْهِ ندبا فِي الْجَمِيع كَغَيْرِهَا من تَكْبِير الصَّلَوَات
وَيسن أَن يضع يمناه على يسراه تَحت صَدره بَين كل تكبيرتين كَمَا فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَلَو شكّ فِي عدد التَّكْبِيرَات أَخذ بِالْأَقَلِّ كَمَا فِي عدد الرَّكْعَات وَهَذِه التَّكْبِيرَات من الهيئات كالتعوذ وَدُعَاء الِافْتِتَاح فلسن فرضا وَلَا بَعْضًا فَلَا يسْجد لتركهن وَإِن كَانَ التّرْك لكلهن أَو بَعضهنَّ مَكْرُوها وَيكبر فِي قَضَاء صَلَاة الْعِيد مُطلقًا لِأَنَّهُ من هيئاتها كَمَا مر وَلَو نسي التَّكْبِيرَات وَشرع فِي الْقِرَاءَة وَلَو لم يتم الْفَاتِحَة لم يتداركها وَلَو تذكرها بعد التَّعَوُّذ وَلم يقْرَأ كبر بِخِلَاف مَا لَو تعوذ قبل الِافْتِتَاح لَا يَأْتِي بِهِ لِأَنَّهُ بعد التَّعَوُّذ لَا يكون مستفتحا وَينْدب أَن يقْرَأ بعد الْفَاتِحَة فِي الرَّكْعَة الأولى ق وَفِي الثَّانِيَة {اقْتَرَبت السَّاعَة} أَو {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} فِي الأولى والغاشية فِي الثَّانِيَة جَهرا لِلِاتِّبَاعِ
(ويخطب بعدهمَا) أَي الرَّكْعَتَيْنِ (خطبتين) لجَماعَة لَا لمنفرد كخطبتي الْجُمُعَة فِي أَرْكَان وَسنَن لَا فِي شُرُوط خلافًا للجرجاني وَحُرْمَة قِرَاءَة الْجنب آيَة فِي إِحْدَاهمَا لَيْسَ لكَونهَا ركنا فِيهَا بل لكَون الْآيَة قُرْآنًا لَكِن لَا يخفى أَنه يعْتَبر فِي أَدَاء السّنة الإسماع وَالسَّمَاع وَكَون الْخطْبَة عَرَبِيَّة وَيسن أَن يعلمهُمْ فِي عيد الْفطر الْفطْرَة وَفِي عيد الْأَضْحَى الْأُضْحِية
فرع قَالَ أَئِمَّتنَا الْخطب الْمَشْرُوعَة عشر خطْبَة الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ والكسوفين وَالِاسْتِسْقَاء وَأَرْبع فِي الْحَج وَكلهَا بعد الصَّلَاة إِلَّا خطبتي الْجُمُعَة وعرفة فقبلها وكل مِنْهَا اثْنَتَانِ إِلَّا الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة فِي الْحَج ففرادى
(وَيكبر) ندبا (فِي) افْتِتَاح الْخطْبَة (الأولى تسعا) بِتَقْدِيم الْمُثَنَّاة على السِّين (و) يكبر (فِي) افْتِتَاح (الثَّانِيَة سبعا) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة وَلَاء إفرادا فِي الْجَمِيع تَشْبِيها للخطبتين بِصَلَاة الْعِيد فَإِن الرَّكْعَة الأولى تشْتَمل على تسع تَكْبِيرَات فَإِن فِيهَا سبع تَكْبِيرَات وَتَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَتَكْبِيرَة الرُّكُوع والركعة الثَّانِيَة على سبع تَكْبِيرَات فَإِن فِيهَا خمس تَكْبِيرَات وَتَكْبِيرَة الْقيام وَتَكْبِيرَة الرُّكُوع وَالْوَلَاء سنة فِي التَّكْبِيرَات وَكَذَا الْإِفْرَاد فَلَو تخَلّل ذكر بَين كل تكبيرتين أَو قرن بَين كل تكبيرتين جَازَ
والتكبيرات الْمَذْكُورَات لَيست من الْخطْبَة بل مُقَدّمَة لَهَا كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وافتتاح الشَّيْء قد يكون بمقدمته الَّتِي لَيست مِنْهُ
وَسن غسل للعيدين وَإِن لم يرد لحضور لِأَنَّهُ يَوْم زِينَة وَيدخل وقته بِنصْف اللَّيْل وتبكير بعد الصُّبْح لغير إِمَام وَأَن يحضر الإِمَام وَقت الصَّلَاة ويعجل الْحُضُور فِي أضحى ويؤخره فِي فطر قَلِيلا وحكمته اتساع وَقت التَّضْحِيَة وَوقت صَدَقَة الْفطر قبل الصَّلَاة وفعلها بِمَسْجِد أفضل لشرفه إِلَّا لعذر كضيقه وَإِذا خرج لغير الْمَسْجِد اسْتخْلف ندبا من يُصَلِّي ويخطب فِيهِ وَأَن يذهب للصَّلَاة فِي طَرِيق طَوِيل مَاشِيا بسكينة وَيرجع فِي آخر قصير كجمعة وَأَن يَأْكُل قبلهَا فِي عيد فطر وَالْأولَى أَن يكون على تمر وَأَن يكون وترا ويمسك عَن الْأكل فِي عيد الْأَضْحَى وَلَا يكره نفل قبلهَا بعد ارْتِفَاع الشَّمْس لغير إِمَام أما بعْدهَا فَإِن لم يسمع الْخطْبَة فَكَذَلِك وَإِلَّا كره لِأَنَّهُ بذلك معرض عَن الْخَطِيب بِالْكُلِّيَّةِ وَأما الإِمَام فَيكْرَه لَهُ التَّنَفُّل قبلهَا وَبعدهَا لاشتغاله بِغَيْر أَي عيد الْفطر والأضحى بِرَفْع صَوت فِي الْمنَازل والأسواق وَغَيرهمَا
وَدَلِيله فِي الأول قَوْله تَعَالَى {ولتكملوا الْعدة} أَي عدَّة صَوْم رَمَضَان الأهم(1/187)
(وَيكبر) ندبا كل أحد غير حَاج (من غرُوب الشَّمْس من لَيْلَة الْعِيد) {ولتكبروا الله} أَي عِنْد إكمالها وَفِي الثَّانِي الْقيَاس على الأول وَفِي رفع الصَّوْت إِظْهَار شعار الْعِيد
وَاسْتثنى الرَّافِعِيّ مِنْهُ الْمَرْأَة وَظَاهر أَن مَحَله إِذا حضرت مَعَ غير محارمها وَنَحْوهم وَمثلهَا الْخُنْثَى
وَيسْتَمر التَّكْبِير (إِلَى أَن يدْخل الإِمَام فِي الصَّلَاة) أَي صَلَاة الْعِيد إِذْ الْكَلَام مُبَاح إِلَيْهِ فالتكبير أولى مَا يشْتَغل بِهِ لِأَنَّهُ ذكر الله تَعَالَى وشعار الْيَوْم فَإِن صلى مُنْفَردا فَالْعِبْرَة بإحرامه (و) يكبر (فِي) عيد (الْأَضْحَى خلف صَلَاة الْفَرَائِض) والنوافل وَلَو فَائِتَة وَصَلَاة جَنَازَة (من) بعد صَلَاة (صبح يَوْم عَرَفَة إِلَى) بعد صَلَاة (الْعَصْر فِي آخر أَيَّام التَّشْرِيق) الثَّلَاث لِلِاتِّبَاعِ وَأما الْحَاج فيكبر عقب كل صَلَاة من ظهر يَوْم النَّحْر لِأَنَّهَا أول صلَاته بعد انْتِهَاء وَقت التَّلْبِيَة إِلَى عقب صبح آخر أَيَّام التَّشْرِيق لِأَنَّهَا آخر صلَاته بمنى وَقبل ذَلِك لَا يكبر بل يُلَبِّي لِأَن التَّلْبِيَة شعاره وَخرج بِمَا ذكر الصَّلَوَات فِي عيد الْفطر فَلَا يسن التَّكْبِير عَقبهَا لعدم وُرُوده وَالتَّكْبِير عقب الصَّلَوَات يُسمى مُقَيّدا وَمَا قبله مُطلقًا ومرسلا وصيغته المحبوبة الله أكبر الله أكبر الله أكبر لَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر الله أكبر وَللَّه الْحَمد وَاسْتحْسن فِي الْأُم أَن يزِيد بعد التَّكْبِيرَة الثَّالِثَة الله أكبر كَبِيرا وَالْحَمْد لله كثيرا وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا لَا إِلَه إِلَّا الله وَلَا نعْبد إِلَّا إِيَّاه مُخلصين لَهُ الدّين وَلَو كره الْكَافِرُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده صدق وعده وَنصر عَبده وأعز جنده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده لَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وَتقبل شَهَادَة هِلَال شَوَّال يَوْم الثَّلَاثِينَ فنفطر ثمَّ إِن كَانَت شَهَادَتهم قبل الزَّوَال بِزَمن يسع الِاجْتِمَاع وَالصَّلَاة أَو رَكْعَة مِنْهَا صلى الْعِيد حِينَئِذٍ أَدَاء وَإِلَّا فتصلى قَضَاء مَتى أُرِيد قَضَاؤُهَا أما شَهَادَتهم بعد الْيَوْم بِأَن شهدُوا بعد الْغُرُوب فَلَا تقبل فِي صَلَاة الْعِيد فتصلى من الْغَد أَدَاء وَتقبل فِي غَيرهَا كوقوع الطَّلَاق وَالْعِتْق المعلقين بِرُؤْيَة الْهلَال وَالْعبْرَة فِيمَا لَو شهدُوا قبل الزَّوَال وَعدلُوا بعده بِوَقْت التَّعْدِيل
تَتِمَّة قَالَ الْقَمُولِيّ لم أر لأحد من أَصْحَابنَا كلَاما فِي التهنئة بالعيد والأعوام وَالْأَشْهر كَمَا يَفْعَله النَّاس لَكِن نقل الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ عَن الْحَافِظ الْمَقْدِسِي أَنه أجَاب عَن ذَلِك بِأَن النَّاس لم يزَالُوا مُخْتَلفين فِيهِ وَالَّذِي أرَاهُ أَنه مُبَاح لَا سنة فِيهِ وَلَا بِدعَة
وَأجَاب الشهَاب ابْن حجر بعد اطِّلَاعه على ذَلِك بِأَنَّهَا مَشْرُوعَة وَاحْتج لَهُ بِأَن الْبَيْهَقِيّ عقد لذَلِك بَابا فَقَالَ بَاب مَا رُوِيَ فِي قَول النَّاس بَعضهم لبَعض فِي الْعِيد تقبل الله منا ومنك
وسَاق مَا ذكر من أَخْبَار وآثار ضَعِيفَة لَكِن مجموعها يحْتَج بِهِ فِي مثل ذَلِك ثمَّ قَالَ ويحتج لعُمُوم التهنئة بِمَا يحدث من نعْمَة أَو ينْدَفع من نقمة بمشروعية سُجُود الشُّكْر والتعزية وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن كَعْب بن مَالك فِي قصَّة تَوْبَته لما تخلف عَن غَزْوَة تَبُوك أَنه لما بشر بِقبُول تَوْبَته وَمضى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ إِلَيْهِ طَلْحَة بن عبيد الله فهنأه
وَينْدب إحْيَاء لَيْلَة الْعِيد بِالْعبَادَة وَيحصل ذَلِك بإحياء مُعظم اللَّيْل(1/188)
فصل فِي صَلَاة الْكُسُوف للشمس والخسوف للقمر
وَهَذَا هُوَ الْأَفْصَح كَمَا فِي الصِّحَاح وَيُقَال فيهمَا كسوفان وخسوفان
قَالَ عُلَمَاء الْهَيْئَة إِن كسوف الشَّمْس لَا حَقِيقَة لَهُ لعدم تغيرها فِي نَفسهَا لاستفادة ضوئها من جرمها وَإِنَّمَا الْقَمَر يحول بظلمته بَيْننَا وَبَينهَا مَعَ بَقَاء نورها فَيرى لون الْقَمَر كمدا فِي وَجه الشَّمْس فيظن ذهَاب ضوئها وَأما خُسُوف الْقَمَر فحقيقتة بذهاب ضوئه لِأَن ضوءه من ضوء الشَّمْس وكسوفه بحيلولة ظلّ الأَرْض بَين الشَّمْس وَبَينه فَلَا يبْقى فِيهِ ضوء الْبَتَّةَ
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله} عِنْد كسوفهما وأخبار كَخَبَر مُسلم إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينكسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فصلوا وَادعوا حَتَّى ينْكَشف مَا بكم
(وَصَلَاة الْكُسُوف) الشَّامِل الخسوف (سنة) للدليل الْمَذْكُور وَغَيره (مُؤَكدَة) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلهَا لكسوف الشَّمْس كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ولخسوف الْقَمَر كَمَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي كِتَابه عَن الثِّقَات وواظب عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا لم تجب لخَبر الصَّحِيحَيْنِ هَل عَليّ غَيرهَا أَي الْخمس قَالَ لَا إِلَّا أَن تطوع وَلِأَنَّهَا ذَات رُكُوع وَسُجُود لَا أَذَان لَهَا كَصَلَاة الاسْتِسْقَاء
وَأما قَول الشَّافِعِي فِي الْأُم لَا يجوز تَركهَا فَمَحْمُول على كَرَاهِيَة لتأكدها ليُوَافق كَلَامه فِي مَوَاضِع أخر وَالْمَكْرُوه قد يُوصف بِعَدَمِ الْجَوَاز من جِهَة إِطْلَاق الْجَائِز على مستوى الطَّرفَيْنِ (فَإِن فَاتَت) وفوات صَلَاة كسوف الشَّمْس بالإنجلاء وبغروبها كاسفة وفوات صَلَاة خُسُوف الْقَمَر بالإنجلاء وبطلوع الشَّمْس لَا بِطُلُوع الْفجْر (لم تقض) لزوَال الْمَعْنى الَّذِي لأَجله شرعت فَإِن حصل الإنجلاء أَو الْغُرُوب فِي الشَّمْس أَو طُلُوع الشَّمْس فِي الْقَمَر فِي أَثْنَائِهَا لم تبطل بِلَا خلاف
(وَيُصلي) الشَّخْص (لكسوف الشَّمْس وخسوف الْقَمَر رَكْعَتَيْنِ) فِي كل رَكْعَة ركوعان كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامه فَيحرم بنية صَلَاة الْكُسُوف وَيقْرَأ بعد الِافْتِتَاح والتعوذ الْفَاتِحَة ويركع ثمَّ يعتدل ثمَّ يقْرَأ الْفَاتِحَة ثَانِيًا ثمَّ يرْكَع ثَانِيًا ثمَّ يعتدل ثَانِيًا ثمَّ يسْجد السَّجْدَتَيْنِ وَيَأْتِي بالطمأنينة فِي محلهَا فَهَذِهِ رَكْعَة ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَة ثَانِيَة كَذَلِك لِلِاتِّبَاعِ
وَقَوْلهمْ إِن هَذَا أقلهَا أَي إِذا شرع فِيهَا بنية هَذِه الزِّيَادَة وَإِلَّا فَفِي الْمَجْمُوع عَن مُقْتَضى كَلَام الْأَصْحَاب أَنه لَو صلاهَا كَسنة الظّهْر صحت وَكَانَ تَارِكًا للأفضل وَيحمل على أَنه أقل الْكَمَال
وَلَا يجوز زِيَادَة رُكُوع ثَالِث فَأكْثر لطول مكث الْكُسُوف وَلَا يجوز إِسْقَاط رُكُوع للإنجلاء كَسَائِر الصَّلَوَات لَا يُزَاد على أَرْكَانهَا وَلَا ينقص مِنْهَا وَورد ثَلَاث ركوعات وَأَرْبع ركوعات فِي كل رَكْعَة
وَأجَاب الْجُمْهُور بِأَن أَحَادِيث الركوعين فِي الصَّحِيحَيْنِ فَهِيَ أشهر وَأَصَح فَقدمت على بَقِيَّة الرِّوَايَات وأكملها (فِي كل رَكْعَة قيامان) قبل السُّجُود (يُطِيل الْقِرَاءَة فيهمَا) فَيقْرَأ فِي الْقيام الأول كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم بعد الْفَاتِحَة وسوابقها من افْتِتَاح وتعوذ الْبَقَرَة بكمالها إِن أحْسنهَا وَإِلَّا فقدرها وَيقْرَأ فِي الْقيام الثَّانِي كمائتي آيَة مِنْهَا وَفِي الْقيام الثَّالِث كمائة وَخمسين مِنْهَا وَفِي الْقيام الرَّابِع كمائة آيَة مِنْهَا تَقْرِيبًا فِي الْجَمِيع
وَنَصّ فِي الْبُوَيْطِيّ أَنه يقْرَأ فِي الْقيام الثَّانِي آل عمرَان أَو قدرهَا وَفِي الثَّالِث النِّسَاء أَو قدرهَا وَفِي الرَّابِع الْمَائِدَة أَو قدرهَا والمحققون على أَنه لَيْسَ باخْتلَاف بل هُوَ للتقريب (وَفِي) كل رَكْعَة (ركوعان يُطِيل التَّسْبِيح فيهمَا) فيسبح فِي الرُّكُوع الأول من الركوعات الْأَرْبَعَة فِي الرَّكْعَتَيْنِ قدر مائَة من الْبَقَرَة وَفِي الرُّكُوع الثَّانِي قدر ثَمَانِينَ مِنْهَا وَفِي الرُّكُوع الثَّالِث قدر سبعين مِنْهَا بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة كَمَا فِي الْمِنْهَاج خلافًا لما فِي التَّنْبِيه من تَقْدِيم الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة على السِّين وَفِي الرُّكُوع الرَّابِع قدر خمسين مِنْهَا تَقْرِيبًا فِي الْجَمِيع لثُبُوت التَّطْوِيل(1/189)
من الشَّارِع بِلَا تَقْدِير (دون السجدات) أَي فَلَا يطيلها كالجلوس بَينهَا والاعتدال من الرُّكُوع الثَّانِي وَالتَّشَهُّد وَهَذَا مَا جرى عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ وَالصَّحِيح كَمَا قَالَه ابْن الصّلاح وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكسوف الشَّمْس
وَنَصّ فِي كتاب الْبُوَيْطِيّ أَنه يطيلها نَحْو الرُّكُوع الَّذِي قبلهَا
قَالَ الْبَغَوِيّ السُّجُود الأول كالركوع الأول وَالسُّجُود الثَّانِي كالركوع الثَّانِي وَاخْتَارَهُ فِي الرَّوْضَة
وَظَاهر كَلَامهم اسْتِحْبَاب هَذِه الإطالة وَإِن لم يرض بهَا المأمومون وَيفرق بَينهَا وَبَين الْمَكْتُوبَة بالندرة
وَلَو نوى صَلَاة الْكُسُوف وَأطلق هَل يحمل على أقلهَا وَهِي كَسنة الظّهْر أَو على أدنى الْكَمَال وَهُوَ أَن تكون بركوعين قِيَاس مَا قَالُوهُ فِي صَلَاة الْوتر إِنَّه مُخَيّر بَين الْأَقَل وَغَيره أَن يكون هُنَا كَذَلِك وَلم أر من ذكره
وَتسن الْجَمَاعَة فِيهَا لِلِاتِّبَاعِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَتسن للمنفرد وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَالْمُسَافر كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَتسن للنِّسَاء غير ذَوَات الهيئات الصَّلَاة مَعَ الإِمَام وَذَوَات الهيئات يصلين فِي بُيُوتهنَّ منفردات فَإِن اجْتَمعْنَ فَلَا بَأْس وَيسن صلَاتهَا فِي الْجَامِع كَنَظِيرِهِ فِي الْعِيد (ويخطب) الإِمَام (بعْدهَا) أَي بعد الصَّلَاة (خطبتين) كخطبتي عيد كَمَا مر لَكِن لَا يكبر تَكْبِير فيهمَا لعدم وُرُوده وَإِنَّمَا تسن الْخطْبَة للْجَمَاعَة وَلَو مسافرين بِخِلَاف الْمُنْفَرد ويحث فيهمَا السامعين على فعل الْخَيْر من تَوْبَة وَصدقَة وَعتق وَنَحْوهَا لِلْأَمْرِ بذلك فِي البُخَارِيّ وَغَيره
وَيسن الْغسْل لصَلَاة الْكُسُوف
وَأما التَّنْظِيف بحلق الشّعْر وقلم الظفر فَلَا يسن لَهَا كَمَا صرح بِهِ بعض فُقَهَاء الْيمن فَإِنَّهُ يضيق الْوَقْت وَيظْهر أَنه يخرج فِي ثِيَاب بذلة قِيَاسا على الاسْتِسْقَاء لِأَنَّهُ اللَّائِق بِالْحَال وَلم أر من تعرض لَهُ
وَمن أدْرك الإِمَام فِي ركع أول من الرَّكْعَة الأولى أَو الثَّانِيَة أدْرك الرَّكْعَة كَمَا فِي سَائِر الصَّلَوَات أَو أدْركهُ فِي رُكُوع ثَان أَو فِي قيام ثَان من أَي رَكْعَة فَلَا يدْرك شَيْئا مِنْهَا لِأَن الأَصْل هُوَ الرُّكُوع الأول وقيامه وَالرُّكُوع الثَّانِي وقيامه فِي حكم التَّابِع
(وَيسر فِي) قِرَاءَة (كسوف الشَّمْس) لِأَنَّهَا نهارية (ويجهر فِي) قِرَاءَة (خُسُوف الْقَمَر) لِأَنَّهَا صَلَاة ليل أَو مُلْحقَة بهَا وَهُوَ إِجْمَاع وَلَو اجْتمع عَلَيْهِ صلاتان فَأكْثر وَلم يَأْمَن الْفَوات قدم الأخوف فواتا ثمَّ الآكد فعلى هَذَا لَو اجْتمع عَلَيْهِ كسوف وجمعة أَو فرض آخر غَيرهَا قدم الْفَرْض جُمُعَة أَو غَيرهَا لِأَن فعله محتم فَكَانَ أهم هَذَا إِن خيف فَوَاته لضيق وقته فَفِي الْجُمُعَة يخْطب لَهَا ثمَّ يُصليهَا ثمَّ الْكُسُوف إِن بَقِي ثمَّ يخْطب لَهُ وَفِي غير الْجُمُعَة يُصَلِّي الْفَرْض ثمَّ يفعل بالكسوف مَا مر فَإِن لم يخف فَوت الْفَرْض قدم الْكُسُوف لتعرضها للفوات بالإنجلاء ويخففها كَمَا فِي الْمَجْمُوع فَيقْرَأ فِي كل قيام الْفَاتِحَة وَنَحْو سُورَة الْإِخْلَاص كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم
ثمَّ يخْطب للْجُمُعَة فِي صورتهَا متعرضا للكسوف وَلَا يَصح أَن يَقْصِدهُ مَعهَا للخطبة لِأَنَّهُ تشريك بَين فرض وَنفل مَقْصُود وَهُوَ مُمْتَنع ثمَّ يُصَلِّي الْجُمُعَة وَلَا يحْتَاج إِلَى أَربع خطب لِأَن خطْبَة الْكُسُوف مُتَأَخِّرَة عَن صلَاتهَا وَالْجُمُعَة بِالْعَكْسِ
وَلَو اجْتمع عيد وجنازة أَو كسوف وجنازة قدمت الْجِنَازَة فيهمَا خوفًا من تغير الْمَيِّت وَلَكِن مَحل تَقْدِيمهَا إِذا حضرت وَحضر الْوَلِيّ وَإِلَّا أفرد الإِمَام جمَاعَة ينتظرونها واشتغل مَعَ البَاقِينَ بغَيْرهَا
والعيد مَعَ الْكُسُوف كالفرض مَعَه لِأَن الْعِيد أفضل مِنْهُ لَكِن يجوز أَن يقصدهما مَعًا بالخطبتين لِأَنَّهُمَا سنتَانِ وَالْقَصْد مِنْهُمَا وَاحِد مَعَ أَنَّهُمَا تابعان للمقصود فَلَا تضر نيتهما بِخِلَاف الصَّلَاة
تَتِمَّة يسن لكل أحد أَن يتَضَرَّع بِالدُّعَاءِ وَنَحْوه عِنْد الزلازل وَنَحْوهَا كالصواعق وَالرِّيح الشَّدِيدَة والخسف وَأَن يُصَلِّي فِي بَيته مُنْفَردا كَمَا قَالَه ابْن الْمقري لِئَلَّا يكون غافلا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا عصفت الرّيح قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك خَيرهَا وَخير مَا فِيهَا وَخير مَا أرْسلت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرها وَشر مَا فِيهَا وَشر مَا أرْسلت بِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا وَلَا تجعلها ريحًا(1/190)
فصل فِي صَلَاة الاسْتِسْقَاء
هُوَ لُغَة طلب السقيا وَشرعا طلب سقيا الْعباد من الله تَعَالَى عِنْد حَاجتهم إِلَيْهَا
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قبل الْإِجْمَاع الِاتِّبَاع رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيرهمَا ويستأنس لذَلِك بقوله تَعَالَى {وَإِذ استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ} وَصَلَاة الاسْتِسْقَاء مسنونة مُؤَكدَة لما مر وَإِنَّمَا لم تجب لخَبر هَل عَليّ غَيرهَا
وينقسم أَي الاسْتِسْقَاء إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع أدناها يكون بِالدُّعَاءِ مُطلقًا عَمَّا يَأْتِي فُرَادَى أَو مُجْتَمعين وأوسطها يكون بِالدُّعَاءِ خلف الصَّلَوَات فَرضهَا كَمَا فِي شرح مُسلم ونفلها كَمَا فِي الْبَيَان وَفِي خطْبَة الْجُمُعَة وَنَحْو ذَلِك وَالْأَفْضَل أَن يكون بِالصَّلَاةِ وَالْخطْبَة وَيَأْتِي بيانهما وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الْمُقِيم وَلَو بقرية أَو بادية وَالْمُسَافر وَلَو سفر قصر لِاسْتِوَاء الْكل فِي الْحَاجة وَإِنَّمَا تصلى لحَاجَة من انْقِطَاع المَاء أَو قلته بِحَيْثُ لَا يَكْفِي أَو ملوحته ولاستزادة بهَا نفع بِخِلَاف مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا نفع بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت
وَشَمل مَا ذكر مَا لَو انْقَطع عَن طَائِفَة من الْمُسلمين واحتاجت إِلَيْهِ فَيسنّ لغَيرهم أَيْضا أَن يستسقوا لَهُم ويسألوا الزِّيَادَة النافعة لأَنْفُسِهِمْ وتكرر الصَّلَاة مَعَ الْخطْبَتَيْنِ حَتَّى يسقوا فَإِن سقوا قبلهَا اجْتَمعُوا لشكر وَدُعَاء وصلوا وخطب لَهُم الإِمَام شكرا لله تَعَالَى وطلبا للمزيد قَالَ تَعَالَى {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} وَإِذا أَرَادوا الْخُرُوج للصَّلَاة (فيأمرهم الإِمَام) الْأَعْظَم أَو نَائِبه قبل الْخُرُوج إِلَيْهَا (بِالتَّوْبَةِ) من جَمِيع الْمعاصِي الفعلية والقولية الْمُتَعَلّقَة بِحُقُوق الله تَعَالَى بشروطها الثَّلَاثَة وَهِي النَّدَم والإقلاع والعزم على أَن لَا يعود (و) بالإكثار (من الصَّدَقَة) على المحاويج (و) بِالتَّوْبَةِ من حُقُوق الْآدَمِيّين (و) هِيَ الْمُبَادرَة إِلَى (الْخُرُوج من الْمَظَالِم) الْمُتَعَلّقَة بهم من دم أَو عرض أَو مَال مُضَافا ذَلِك إِلَى الشُّرُوط الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة (و) بالمبادرة إِلَى (مصالحة الْأَعْدَاء) المتشاحنين لأمر دُنْيَوِيّ ولحظ نفس لتَحْرِيم الهجران حِينَئِذٍ فَوق ثَلَاث (و) بالمبادرة إِلَى (صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام) متتابعة ويصوم مَعَهم وَذَلِكَ قبل ميعاد الْخُرُوج فَهِيَ بِهِ أَرْبَعَة لِأَن لكل من هَذِه الْمَذْكُورَات أثرا فِي إِجَابَة الدُّعَاء قَالَ تَعَالَى {وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} يكون منع الْغَيْث بترك ذَلِك فقد روى الْبَيْهَقِيّ وَلَا منع قوم الزَّكَاة إِلَّا حبس عَنْهُم الْمَطَر وَفِي خبر التِّرْمِذِيّ ثَلَاثَة لَا ترد دعوتهم الصَّائِم حَتَّى يفْطر وَالْإِمَام الْعَادِل والمظلوم وروى الْبَيْهَقِيّ دَعْوَة الصَّائِم وَالْوَالِد وَالْمُسَافر وَإِذا أَمرهم الإِمَام بِالصَّوْمِ لَزِمَهُم امْتِثَال أمره كَمَا أفتى بِهِ النَّوَوِيّ وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن عبد السَّلَام لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله} الْآيَة
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَالْقِيَاس طرده فِي جَمِيع(1/191)
الْمَأْمُور بِهِ هُنَا انْتهى
وَيدل لَهُ قَوْلهم فِي بَاب الْإِمَامَة الْعُظْمَى تجب طَاعَة الإِمَام فِي أمره وَنَهْيه مَا لم يُخَالف حكم الشَّرْع
وَاخْتَارَ الْأَذْرَعِيّ عدم وجوب الصَّوْم كَمَا لَو أَمرهم بِالْعِتْقِ وَصدقَة التَّطَوُّع
قَالَ الْغَزِّي وَفِي الْقيَاس نظر لِأَن ذَلِك إِخْرَاج مَال وَقد قَالُوا إِذا أَمرهم بالاستسقاء فِي الجدب وَجَبت طَاعَته فيقاس الصَّوْم على الصَّلَاة فَيُؤْخَذ من كَلَامهمَا أَن الْأَمر بِالْعِتْقِ وَالصَّدَََقَة لَا يجب امتثاله وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَإِن كَانَ كَلَامهم فِي الْإِمَامَة شَامِلًا لذَلِك إِذْ نفس وجوب الصَّوْم مُنَازع فِيهِ فَمَا بالك بِإِخْرَاج المَال الشاق على أَكثر النَّاس وَإِذا قيل بِوُجُوب الصَّوْم وَجب فِيهِ تبييت النِّيَّة كَمَا قَالَه الأسنوي وَإِن اخْتَار الْأَذْرَعِيّ عدم الْوُجُوب وَقَالَ يبعد عدم صِحَة صَوْم من لم ينْو لَيْلًا كل الْبعد (ثمَّ يخرج بهم) أَي بِالنَّاسِ (الإِمَام) أَو نَائِبه إِلَى الصَّحرَاء حَيْثُ لَا عذر تأسيا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَن النَّاس يكثرون فَلَا يسعهم الْمَسْجِد غَالِبا
وَظَاهر كَلَامهم أَنه لَا فرق بَين مَكَّة وَغَيرهَا وَإِن اسْتثْنى بَعضهم مَكَّة وَبَيت الْمُقَدّس لفضل الْبقْعَة وسعتها ولأنا مأمورون بإحضار الصّبيان ومأمورون بِأَن نجنبهم الْمَسَاجِد (فِي) الْيَوْم (الرَّابِع) من صِيَامهمْ صياما لحَدِيث ثَلَاثَة لَا ترد دعوتهم الْمُتَقَدّم
وَيَنْبَغِي للْخَارِج أَن يُخَفف أكله وشربه تِلْكَ اللَّيْلَة مَا أمكن وَيخرجُونَ غير متطيبين وَلَا متزينين بل (فِي ثِيَاب بذلة) بِكَسْر الْمُوَحدَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة أَي مهنة وَهُوَ من إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته أَي مَا يلبس من الثِّيَاب فِي وَقت الشّغل ومباشرة الْخدمَة وَتصرف الْإِنْسَان فِي بَيته (و) فِي (استكانة) أَي خشوع وَهُوَ حُضُور الْقلب وَسُكُون الْجَوَارِح وخفض الصَّوْت وَيُرَاد بِهِ أَيْضا التذلل (و) فِي (تضرع) إِلَى الله تَعَالَى وَيسن لَهُم التَّوَاضُع فِي كَلَامهم ومشيهم وجلوسهم لِلِاتِّبَاعِ ويتنظفون بِالسِّوَاكِ وَقطع الروائح الكريهة وجالغسل وَيخرجُونَ من طَرِيق ويرجعون فِي أُخْرَى مشَاة فِي ذهابهم إِن لم يشق عَلَيْهِم لَا حُفَاة مكشوفي الرؤوس وَيخرجُونَ مَعَهم ندبا الصّبيان والشيوخ والعجائز وَمن لَا هَيْئَة لَهُ من النِّسَاء وَالْخُنْثَى الْقَبِيح المنظر كَمَا قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين لِأَن دعاءهم أقرب إِلَى الْإِجَابَة إِذْ الْكَبِير أرق قلبا وَالصَّغِير لَا ذَنْب عَلَيْهِ وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهل ترزقون وتنصرون إِلَّا بضعفائكم رَوَاهُ البُخَارِيّ وَرُوِيَ بِسَنَد ضَعِيف لَوْلَا شباب خشع وبهائم رتع وشيوخ ركع وَأَطْفَال رضع لصب عَلَيْكُم الْعَذَاب صبا ونظم بَعضهم ذَلِك فَقَالَ لَوْلَا عباد للإله ركع وصبية من الْيَتَامَى رضع ومهملات فِي الفلاة رتع صب عَلَيْكُم الْعَذَاب الأوجع وَالْمرَاد بالركع الَّذين انحنت ظُهُورهمْ من الْكبر وَقيل من الْعِبَادَة وَيسن إِخْرَاج الْبَهَائِم لِأَن الجدب قد أَصَابَهَا أَيْضا
وَفِي الحَدِيث إِن نَبيا من الْأَنْبِيَاء خرج ليستسقي وَإِذا هُوَ بنملة رَافِعَة بعض قَوَائِمهَا إِلَى السَّمَاء فَقَالَ ارْجعُوا فقد اسْتُجِيبَ لكم من أجل شَأْن النملة رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَفِي الْبَيَان وَغَيره أَن هَذَا النَّبِي هُوَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن النملة وَقعت على ظهرهَا وَرفعت يَديهَا وَقَالَت اللَّهُمَّ أَنْت خلقتنا فارزقنا وَإِلَّا فأهلكنا قَالَ وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَت اللَّهُمَّ إِنَّا خلق من خلقك لَا غنى لنا عَن رزقك فَلَا تُهْلِكنَا بذنوب بني آدم وتقف الْبَهَائِم معزولة عَن النَّاس وَيفرق بَين الْأُمَّهَات وَالْأَوْلَاد حَتَّى يكثر الصياح والضجة والرقة فَيكون أقرب إِلَى الْإِجَابَة وَلَا يمْنَع أهل الذِّمَّة الْحُضُور لأَنهم مسترزقون وَفضل الله وَاسع وَقد يُجِيبهُمْ استدراجا لَهُم وَيكرهُ إخراجهم للاستسقاء لأَنهم رُبمَا كَانُوا سَبَب الْقَحْط
قَالَ الشَّافِعِي وَلَا أكره من إِخْرَاج صبيانهم مَا أكره من إِخْرَاج كبارهم لِأَن ذنوبهم أقل لَكِن يكره لكفرهم
قَالَ النَّوَوِيّ وَهَذَا يَقْتَضِي كفر أَطْفَال الْكفَّار
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فيهم إِذا مَاتُوا فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهُم فِي النَّار وَطَائِفَة لَا نعلم حكمهم والمحققون إِنَّهُم فِي الْجنَّة وَهُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار لأَنهم غير مكلفين وولدوا على الْفطْرَة انْتهى
وتحرير(1/192)
هَذَا أَنهم فِي أَحْكَام الدُّنْيَا كفار فَلَا يصلى عَلَيْهِم وَلَا يدفنون فِي مَقَابِر الْمُسلمين وَفِي الْآخِرَة مُسلمُونَ فَيدْخلُونَ الْجنَّة
وَيسن لكل أحد مِمَّن يَسْتَسْقِي أَن يستشفع بِمَا فعله من خير بِأَن يذكرهُ فِي نَفسه فَيَجْعَلهُ شافعا لِأَن ذَلِك لَائِق بالشدائد كَمَا فِي خبر الثَّلَاثَة الَّذين أووا فِي الْغَار وَأَن يستشفع بِأَهْل الصّلاح لِأَن دعاءهم أقرب إِلَى الْإِجَابَة لاسيما أقَارِب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا استشفع عمر بِالْعَبَّاسِ رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّمَا كُنَّا إِذا قحطنا نتوسل إِلَيْك بنبينا فتسقينا وَإِنَّا نتوسل إِلَيْك بعم نَبينَا فاسقنا فيسقون
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
(وَيُصلي) الإِمَام (بهم رَكْعَتَيْنِ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ (كَصَلَاة الْعِيدَيْنِ) فِي كيفيتهما من التَّكْبِير بعد الِافْتِتَاح وَقبل التَّعَوُّذ وَالْقِرَاءَة سبعا فِي الأولى وخمسا فِي الثَّانِيَة بِرَفْع يَدَيْهِ ووقوفه بَين كل تكبيرتين كآية معتدلة وَالْقِرَاءَة فِي الأولى جَهرا بِسُورَة ق وَفِي الثَّانِيَة {اقْتَرَبت السَّاعَة} أَو {سبح} والغاشية قِيَاسا لَا نصا وَلَا تؤقت بِوَقْت عيد وَلَا غَيره فتصلى فِي أَي وَقت كَانَ من ليل أَو نَهَار لِأَنَّهَا ذَات سَبَب فدارت مَعَ سَببهَا (ثمَّ يخْطب) الإِمَام (بعدهمَا) أَي الرَّكْعَتَيْنِ وتجزىء الخطبتان قبلهمَا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره ويبدل تكبيرها باستغفار أَولهمَا فَيَقُول أسْتَغْفر الله الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وَأَتُوب إِلَيْهِ بدل كل تَكْبِيرَة وَيكثر فِي أثْنَاء الْخطْبَتَيْنِ من قَول {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين وَيجْعَل لكم جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا} وَمن دُعَاء الكرب وَهُوَ لَا إِلَه إِلَّا الله الْعَظِيم الْحَلِيم لَا إِلَه إِلَّا الله رب الْعَرْش الْعَظِيم لَا إِلَه إِلَّا الله رب السَّمَوَات وَرب الْأَرْضين وَرب الْعَرْش الْكَرِيم
وَيتَوَجَّهُ للْقبْلَة من نَحْو ثلث الْخطْبَة الثَّانِيَة (ويحول) الْخَطِيب (رِدَاءَهُ) عِنْد اسْتِقْبَال الْقبْلَة للتفاؤل بتحويل الْحَال من الشدَّة إِلَى الرخَاء فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب الفأل الْحسن وَفِي رِوَايَة لمُسلم وَأحب الفأل الصَّالح وَيجْعَل يَمِين رِدَائه يسَاره وَعَكسه (وَيجْعَل أَعْلَاهُ أَسْفَله) وَعَكسه وَالْأول تَحْويل وَالثَّانِي تنكيس وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ فِي الأول ولهمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالثَّانِي فِيهِ فَإِنَّهُ استسقى وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ بأسفلها أَعْلَاهَا فَلَمَّا ثقلت عَلَيْهِ قَلبهَا على عَاتِقه ويحصلان مَعًا بِجعْل الطّرف الْأَسْفَل الَّذِي على شقَّه الْأَيْمن على عَاتِقه الْأَيْسَر وَعَكسه وَهَذَا فِي الرِّدَاء المربع وَأما المدور والمثلث فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّحْوِيل
قَالَ الْقَمُولِيّ لِأَنَّهُ لَا يتهيأ فِيهِ التنكيس وَكَذَا الرِّدَاء الطَّوِيل وَمرَاده كَغَيْرِهِ أَن ذَلِك متعسر لَا مُتَعَذر وَيفْعل النَّاس وهم جُلُوس مثله تبعا لَهُ وكل ذَلِك مَنْدُوب (وَيكثر) فِي الْخطْبَتَيْنِ (من الدُّعَاء) ويبالغ فِيهِ سرا وجهرا وَيرْفَع الْحَاضِرُونَ أَيْديهم بِالدُّعَاءِ مشيرين بِظُهُور أكفهم إِلَى السَّمَاء لِلِاتِّبَاعِ وَالْحكمَة فِيهِ أَن الْقَصْد رفع الْبلَاء بِخِلَاف القاصد حُصُول شَيْء (و) من (الاسْتِغْفَار) وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا لِأَن ذَلِك أَرْجَى لحُصُول الْمَقْصُود (وَيَدْعُو) فِي الْخطْبَة الأولى (بِدُعَاء) سيدنَا (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الَّذِي أسْندهُ إمامنا الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر وَهُوَ (اللَّهُمَّ سقيا رَحْمَة) بِضَم السِّين أَي اسقنا سقيا رَحْمَة فمحله نصب بِالْفِعْلِ الْمُقدر (وَلَا سقيا عَذَاب) أَي وَلَا تسقنا سقيا عَذَاب (وَلَا محق) بِفَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْمُهْملَة هُوَ الْإِتْلَاف وَذَهَاب الْبركَة (وَلَا بلَاء) بِفَتْح الْمُوَحدَة وبالمد هُوَ الاختبار وَيكون بِالْخَيرِ وَالشَّر كَمَا فِي الصِّحَاح وَالْمرَاد هُنَا الثَّانِي (وَلَا هدم) بِإِسْكَان الْمُهْملَة أَي ضار يهدم المساكن وَلَو تضرروا بِكَثْرَة الْمَطَر فَالسنة أَن يسْأَلُوا الله رَفعه بِأَن يَقُولُوا كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اشْتَكَى إِلَيْهِ ذَلِك (اللَّهُمَّ على الظراب والآكام) بِكَسْر الْمُعْجَمَة جمع ظرب بِفَتْح أَوله وَكسر ثَانِيه جبل صَغِير والآكام بِالْمدِّ جمع أكم بِضَمَّتَيْنِ جمع أكام بِوَزْن كتاب جمع أكم بِفتْحَتَيْنِ جمع أكمة وَهُوَ التل الْمُرْتَفع من الأَرْض إِذا لم يبلغ أَن يكون جبلا(1/193)
(ومنابت الشّجر وبطون الأودية) جمع وَاد وَهُوَ اسْم للحفرة على الْمَشْهُور (اللَّهُمَّ) اجْعَل الْمَطَر (حوالينا) بِفَتْح اللَّام (وَلَا) تَجْعَلهُ (علينا) فِي الْأَبْنِيَة والبيوت وهما فِي مَوضِع نصب على الظَّرْفِيَّة أَو المغولية كَمَا قَالَه ابْن الْأَثِير
وَلَا يصلى لذَلِك لعدم وُرُود الصَّلَاة لَهُ وَيَدْعُو فِي الْخطْبَة الأولى أَيْضا بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْأُم والمختصر عَن سَالم بن عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا استسقى قَالَ (اللَّهُمَّ) أَي يَا الله (أسقنا) بِقطع الْهمزَة من أسْقى وَوَصلهَا من سقى فقد ورد الْمَاضِي ثلاثيا ورباعيا قَالَ تَعَالَى {لأسقيناهم مَاء غدقا} {وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا} غيثا بمثلثة أَي مَطَرا (مغيثا) بِضَم الْمِيم أَي منقذا من الشدَّة بإروائه (هَنِيئًا) بِالْمدِّ والهمز أَي طيبا لَا ينغصه شَيْء (مريئا) بِوَزْن هَنِيئًا أَي مَحْمُود الْعَاقِبَة (مريعا) بِفَتْح الْمِيم وَكسر الرَّاء وياء مثناة من تَحت أَي ذَا ربع أَي نَمَاء مَأْخُوذ من المراعة
وَرُوِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ من تَحت من قَوْلهم أَربع الْبَعِير يربع إِذا أكل الرّبيع وَرُوِيَ أَيْضا بِالْمُثَنَّاةِ من فَوق من قَوْلهم رتعت الْمَاشِيَة إِذا أكلت مَا شَاءَت
وَالْمعْنَى وَاحِد (غدقا) بغين مُعْجمَة ودال مُهْملَة مَفْتُوحَة أَي كثير المَاء وَالْخَيْر وَقيل الَّذِي قطره كبار (مجللا) بِفَتْح الْجِيم وَكسر اللَّام يُجَلل الأَرْض أَي يعمها كجل الْفرس وَقيل هُوَ الَّذِي يُجَلل الأَرْض بالنبات (سَحا) بِفَتْح السِّين وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة أَي شَدِيد الوقع على الأَرْض يُقَال سح المَاء يسح إِذا سَالَ من فَوق إِلَى أَسْفَل وساح يسيح إِذا جرى على وَجه الأَرْض (طبقًا) بِفَتْح الطَّاء وَالْبَاء أَي مطبقا على الأَرْض أَي مستوعبا لَهَا فَيصير كالطبق عَلَيْهَا يُقَال هَذَا مُطَابق لَهُ أَي مسَاوٍ لَهُ (دَائِما) أَي مستمرا نَفعه إِلَى انْتِهَاء الْحَاجة إِلَيْهِ فَإِن دَوَامه عَذَاب (اللَّهُمَّ اسقنا الْغَيْث) تقدم شَرحه (وَلَا تجعلنا من القانطين) أَي الآيسين بِتَأْخِير الْمَطَر (اللَّهُمَّ) يَا الله (إِن بالعباد والبلاد) والبهائم والخلق كَمَا فِي سِيَاق الْمُخْتَصر (من الْجهد) بِفَتْح الْجِيم وَضمّهَا أَي الْمَشَقَّة وَقيل الْبلَاء كَذَا فِي مُخْتَصر الْكِفَايَة وَقيل هُوَ قلَّة الْخَيْر والهزال وَسُوء الْحَال (والجوع) لفظ الحَدِيث واللأواء وَهُوَ بِفَتْح اللَّام الْمُشَدّدَة وبالهمزة الساكنة بِالْهَمْز السَّاكِن وَالْمدّ شدَّة الْجُوع فَعبر عَنهُ المُصَنّف بِمَعْنَاهُ (والضنك) بِفَتْح الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة وَإِسْكَان النُّون أَي الضّيق (مَا لَا نشكو إِلَّا إِلَيْك) لِأَنَّك الْقَادِر على النَّفْع والضر ونشكو بالنُّون فِي أَوله (اللَّهُمَّ أنبت لنا الزَّرْع وأدر لنا الضَّرع) بِاللَّبنِ وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء الْمُشَدّدَة من الإدرار وَهُوَ الْإِكْثَار والضرع بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة يُقَال أضرعت الشَّاة أَي نزل لَبنهَا قبل النِّتَاج قَالَه فِي الصَّحِيح (وَأنزل علينا من بَرَكَات السَّمَاء) أَي خيراتها هُوَ الْمَطَر (وَأنْبت لنا من بَرَكَات الأَرْض) أَي خيراتها وَهُوَ النَّبَات وَالثِّمَار وَفِيهِمَا بَرَكَات أَقْوَال أخر حَكَاهَا الشَّيْخ أَبُو حَامِد ثمَّ قَالَ وَذَلِكَ أَن السَّمَاء تجْرِي مجْرى الْأَب وَالْأَرْض تجْرِي مجْرى الْأُم ومنهما حصل جَمِيع الْخيرَات بِخلق الله وتدبيره (واكشف عَنَّا من الْبلَاء) بِالْمدِّ أَي الْحَالة الشاقة (مَا لَا يكشفه غَيْرك) وَفِي الحَدِيث قبل قَوْله واكشف عَنَّا اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجهد والجوع والعري (اللَّهُمَّ إِنَّا نستغفرك) أَي نطلب مغفرتك بكرمك وفضلك (إِنَّك كنت غفارًا) أَي كثير الْمَغْفِرَة
فَائِدَة ذكر الثَّعْلَبِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {إِن الله كَانَ على كل شَيْء حسيبا} أَن كل مَوضِع وجد فِيهِ ذكر كَانَ مَوْصُولا بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يصلح للماضي وَالْحَال والمستقبل وَإِذا كَانَ مَوْصُولا بِغَيْر الله تَعَالَى يكون على خلاف هَذَا الْمَعْنى
(فَأرْسل السَّمَاء) أَي المظلة لِأَن الْمَطَر ينزل مِنْهَا إِلَى السَّحَاب أَو السَّحَاب نَفسه أَو الْمَطَر (علينا مدرارا) بِكَسْر الْمِيم أَي كثير الدّرّ وَالْمعْنَى أرسل علينا مَاء كثيرا
وَيسن لكل أحد أَن يظْهر لأوّل مطر السّنة ويكشف عَن جسده غير عَوْرَته ليصيبه شَيْء من الْمَطَر تبركا وللاتباع (ويغتسل) أَو يتَوَضَّأ ندبا كل أحد (فِي الْوَادي) وَمر تَفْسِيره (إِذا سَالَ) مَاؤُهُ وَالْأَفْضَل أَن يجمع بَين الْغسْل وَالْوُضُوء قَالَ فِي الْمَجْمُوع فَإِن لم يجمع فَليَتَوَضَّأ وَالْمُتَّجه كَمَا فِي الْمُهِمَّات الْجمع فِي الِاقْتِصَار على الْغسْل ثمَّ على الْوضُوء
وَالْغسْل وَالْوُضُوء لَا يشْتَرط فيهمَا النِّيَّة وَإِن قَالَ الْإِسْنَوِيّ فِيهِ نظر إِلَّا أَن يُصَادف وَقت وضوء أَو غسل لِأَن الْحِكْمَة فِيهِ(1/194)
هِيَ الْحِكْمَة فِي كشف الْبدن لينال أول مطر السّنة وبركته (ويسبح للرعد) أَي عِنْد الرَّعْد (والبرق) فَيَقُول سُبْحَانَ من يسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة من خيفته كَمَا رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن عبد الله بن الزبير وَقيس بالرعد الْبَرْق وَالْمُنَاسِب أَن يَقُول عِنْده سُبْحَانَ من يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا
وَنقل الشَّافِعِي فِي الْأُم عَن الثِّقَة عَن مُجَاهِد أَن الرَّعْد ملك والبرق أجنحته يَسُوق بهَا السَّحَاب وعَلى هَذَا فالمسموع صَوته أَو صَوت سوقه على اخْتِلَاف فِيهِ وَإِطْلَاق ذَلِك على الرَّعْد مجَاز
وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بعث الله السَّحَاب فنطقت أحسن النُّطْق وضحكت أحسن الضحك فالرعد نطقها والبرق ضحكها وَينْدب أَلا يتبع بَصَره الْبَرْق لِأَن السّلف الصَّالح كَانُوا يكْرهُونَ الْإِشَارَة إِلَى الرَّعْد والبرق وَيَقُولُونَ عِنْد ذَلِك لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ سبوح قدوس قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فيختار الِاقْتِدَاء بهم فِي ذَلِك وَأَن يَقُول عِنْد نزُول الْمَطَر كَمَا فِي البُخَارِيّ اللَّهُمَّ صيبا بصاد مُهْملَة وَتَشْديد الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة أَي مَطَرا شَدِيدا نَافِعًا وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ لما روى الْبَيْهَقِيّ إِن الدُّعَاء يُسْتَجَاب فِي أَرْبَعَة مَوَاطِن عِنْد التقاء الصُّفُوف ونزول الْغَيْث وَإِقَامَة الصَّلَاة ورؤية الْكَعْبَة
وَأَن يَقُول فِي أثر الْمَطَر مُطِرْنَا بِفضل الله علينا وَرَحمته لنا وَكره مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا بِفَتْح نونه وهمز آخِره أَي بِوَقْت النَّجْم الْفُلَانِيّ على عَادَة الْعَرَب فِي إِضَافَة الأطار إِلَى الأنواء لإيهامه أَن النوء فَاعل الْمَطَر حَقِيقَة فَإِن اعْتقد أَنه الْفَاعِل لَهُ حَقِيقَة كفر
تَتِمَّة يكره سبّ الرّيح وَيجمع على ريَاح وأرواح بل يسن الدُّعَاء عِنْدهَا لخَبر الرّيح من روح الله أَي رَحمته تَأتي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذا رأيتموها فَلَا تسبوها واسألوا الله خَيرهَا واستعيذوا بِاللَّه من شَرها وروى الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن حَاتِم قَالَ قلت ل أبي بكر الْوراق عَلمنِي شَيْئا يقربنِي إِلَى الله تَعَالَى ويبعدني عَن النَّاس
فَقَالَ أما الَّذِي يقربك إِلَى الله تَعَالَى فمسألته وَأما الَّذِي يبعدك عَن النَّاس فَترك مسألتهم ثمَّ رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من لم يسْأَل الله يغْضب عَلَيْهِ ثمَّ أنْشد لَا تسألن بني آدم حَاجَة وسل الَّذِي أبوابه لَا تحجب الله يغْضب إِن تركت سُؤَاله وَبني آدم حِين يسْأَل يغْضب
فصل فِي كَيْفيَّة صَلَاة الْخَوْف
وَهُوَ ضد الْأَمْن وَحكم صلَاته حكم صَلَاة الْأَمْن وَإِنَّمَا أفرد بفصل لِأَنَّهُ يحْتَمل فِي الصَّلَاة عِنْده فِي الْجَمَاعَة وَغَيرهَا مَا لَا يحْتَمل فِيهَا عِنْد غَيره على مَا سَيَأْتِي بَيَانه
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة} الْآيَة وَالْأَخْبَار الْآتِيَة مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي(1/195)
وَتجوز فِي الْحَضَر كالسفر خلافًا لمَالِك
(وَصَلَاة الْخَوْف على ثَلَاثَة أضْرب) بل أَرْبَعَة كَمَا ستراها ذكر الشَّافِعِي رَابِعهَا وَجَاء بِهِ الْقُرْآن وَاخْتَارَ بقيتها من سِتَّة عشر نوعا مَذْكُورَة فِي الْأَخْبَار وَبَعضهَا فِي الْقُرْآن
(أَحدهَا أَن يكون الْعَدو فِي غير جِهَة الْقبْلَة) أَو فِيهَا وَثمّ سَاتِر وَهُوَ قَلِيل وَفِي الْمُسلمين كَثْرَة وَخيف هجومه (فيفرقهم الإِمَام فرْقَتَيْن) بِحَيْثُ تكون كل فرقة تقاوم الْعَدو (فرقة تقف فِي وَجه الْعَدو) للحراسة (وَفرْقَة) تقف (خَلفه فَيصَلي بالفرقة الَّتِي خَلفه رَكْعَة) من الثنائية بعد أَن ينحاز بهم إِلَى حَيْثُ لَا يبلغهم سِهَام الْعَدو (ثمَّ) إِذا قَامَ الإِمَام للثَّانِيَة فارقته بِالنِّيَّةِ بعد الانتصاب ندبا وَقَبله بعد الرّفْع من السُّجُود جَوَازًا و (تتمّ لنَفسهَا) الرَّكْعَة الثَّانِيَة (وتمضي) بعد سلامها (إِلَى وَجه الْعَدو) للحراسة
وَيسن للْإِمَام تَخْفيف الأولى لاشتغال قُلُوبهم بِمَا هم فِيهِ وَيسن لَهُم كلهم تَخْفيف الثَّانِيَة الَّتِي انفردوا بهَا لِئَلَّا يطول الِانْتِظَار (وتجيء الطَّائِفَة) أَي الْفرْقَة (الْأُخْرَى) بعد ذهَاب أُولَئِكَ إِلَى جِهَة الْعَدو وَالْإِمَام قَائِم فِي الثَّانِيَة ويطيل الْقيام ندبا إِلَى لحوقهم (فَيصَلي بهَا) بعد اقتدائها بِهِ (رَكْعَة) فَإِذا جلس الإِمَام للتَّشَهُّد قَامَت (وتتم لنَفسهَا) ثانيتها وَهُوَ منتظر لَهَا وَهِي غير مُنْفَرِدَة عَنهُ بل مقتدية بِهِ وَلَحِقتهُ وَهُوَ جَالس (ثمَّ يسلم بهَا) لتحوز فَضِيلَة التَّحَلُّل مَعَه كَمَا حازت الأولى فَضِيلَة التَّحَرُّم مَعَه
وَهَذِه صفة صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذَات الرّقاع مَكَان من نجد بِأَرْض غطفان
رَوَاهَا الشَّيْخَانِ وَسميت بذلك لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم لفوا بأرجلهم الْخرق لما تقرحت وَقيل باسم شَجَرَة هُنَاكَ وَقيل باسم جبل فِيهِ بَيَاض وَحُمرَة يُقَال لَهُ الرّقاع وَقيل لترقع صلَاتهم فِيهَا
وَيقْرَأ الإِمَام بعد قِيَامه للركعة الثَّانِيَة الْفَاتِحَة وَسورَة بعْدهَا فِي زمن انْتِظَاره الْفرْقَة الثَّانِيَة ويتشهد فِي جُلُوسه لانتظارها فَإِن صلى الإِمَام مغربا على كَيْفيَّة ذَات الرّقاع فبفرقة رَكْعَتَيْنِ وبالثانية رَكْعَة وَهُوَ أفضل من عَكسه الْجَائِز أَيْضا وينتظر مَجِيء الثَّانِيَة وَلَهُم فِي جُلُوس تشهده أَو قيام الثَّالِثَة وَهُوَ أفضل أَو صلى ربَاعِية فبكل رَكْعَتَيْنِ فَلَو فرقهم أَربع فرق وَصلى بِكُل فرقة رَكْعَة صحت صَلَاة الْجَمِيع
وسهو كل فرقة مَحْمُول فِي أولاهم لاقتدائهم فِيهَا وَكَذَا ثَانِيَة الثَّانِيَة لَا ثَانِيَة الأولى لانفرادهم وسهو الإِمَام فِي الرَّكْعَة الأولى يلْحق الْجَمِيع وَفِي الثَّانِيَة لَا يلْحق الأولى لمفارقتهم قبل السَّهْو
(و) الضَّرْب (الثَّانِي أَن يكون الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة) وَلَا سَاتِر بَيْننَا وَبينهمْ وَفينَا كَثْرَة بِحَيْثُ تقاوم كل فرقة الْعَدو (فيصفهم الإِمَام صفّين) فَأكْثر خَلفه (وَيحرم بهم) جَمِيعًا ويستمرون مَعَه إِلَى اعْتِدَال الرَّكْعَة الأولى لِأَن الحراسة الْآتِيَة محلهَا الِاعْتِدَال لَا الرُّكُوع كَمَا يعلم من قَوْله (فَإِذا سجد) الإِمَام فِي الرَّكْعَة الأولى (سجد مَعَه أحد الصفين) سجدتيه (ووقف الصَّفّ الآخر) على حَالَة الِاعْتِدَال (يحرسهم) أَي الساجدين مَعَ الإِمَام (فَإِذا رفع) الصَّفّ الساجد من السَّجْدَة الثَّانِيَة (سجدوا) أَي الحارسون لإكمال ركعتهم (ولحقوه) فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَسجد مَعَ الإِمَام فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة من حرس أَولا وحرست الْفرْقَة(1/196)
الساجدة أَولا مَعَ الإِمَام فَإِذا جلس الإِمَام للتَّشَهُّد سجد من حرس فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَتشهد الإِمَام بالصفين وَسلم بهم وَهَذِه صفة صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم بعسفان بِضَم الْعين وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ قَرْيَة بِقرب خليص بَينهَا وَبَين مَكَّة أَرْبَعَة برد سميت بذلك لعسف السُّيُول فِيهَا وَعبارَة المُصَنّف كَغَيْرِهِ فِي هَذَا صَادِقَة بِأَن يسْجد الصَّفّ الأول فِي الرَّكْعَة الأولى وَالثَّانِي فِي الثَّانِيَة وكل مِنْهُمَا فِيهَا بمكانه أَو تحول بمَكَان آخر وبعكس ذَلِك فَهِيَ أَربع كيفيات وَكلهَا جَائِزَة إِذا لم تكْثر أفعالهم فِي التَّحَوُّل وَالَّذِي فِي خبر مُسلم سُجُود الأول فِي الأولى وَسُجُود الثَّانِي فِي الثَّانِيَة مَعَ التَّحَوُّل فِيهَا وَله أَن يرتبهم صُفُوفا ثمَّ يحرس صفان فَأكْثر وَإِنَّمَا اخْتصّت الحراسة بِالسُّجُود دون الرُّكُوع لِأَن الرَّاكِع تمكنه الْمُشَاهدَة وَلَا يشْتَرط أَن يحرس جَمِيع من فِي الصَّفّ بل لَو حرس فِي الرَّكْعَتَيْنِ فرقتا صف على المناوبة ودام غَيرهمَا على الْمُتَابَعَة جَازَ بِشَرْط أَن تكون الحارسة مقاومة لِلْعَدو حَتَّى لَو كَانَ الْجُلُوس وَاحِدًا يشْتَرط أَن لَا يزِيد الْكفَّار على اثْنَيْنِ وَكَذَا يجوز لَو حرست فرقة وَاحِدَة لحُصُول الْغَرَض بِكُل ذَلِك مَعَ قيام الْعذر وَيكرهُ أَن يُصَلِّي بِأَقَلّ من ثَلَاثَة وَأَن يحرس أقل مِنْهَا
(و) الضَّرْب (الثَّالِث أَن يكون) فعلهم الصَّلَاة (فِي شدَّة الْخَوْف) وَإِن لم يلتحم الْقِتَال بِحَيْثُ لم يأمنوا هجوم الْعَدو لَو ولوا عَنهُ أَو انقسموا (والتحام الْحَرْب) أَي الْقِتَال بِأَن لم يتمكنوا من تَركه وَهَذَا كِنَايَة عَن شدَّة اختلاطهم بِحَيْثُ يلتصق لحم بَعضهم بِبَعْض أَو يُقَارب التصاقه (فَيصَلي) كل وَاحِد حِينَئِذٍ (كَيفَ أمكنه رَاجِلا) أَي مَاشِيا (أَو رَاكِبًا) لقَوْله تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا} وَلَيْسَ لَهُ تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا (مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَغير مُسْتَقْبل لَهَا) فيعذر كل مِنْهُم فِي ترك توجه الْقبْلَة عِنْد الْعَجز عَنهُ بِسَبَب الْعَدو للضَّرُورَة
قَالَ ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي تَفْسِير الْآيَة مستقبلي الْقبْلَة وَغير مستقبليها
قَالَ نَافِع لَا أرَاهُ إِلَّا مَرْفُوعا بل قَالَ الشَّافِعِي إِن ابْن عمر رَوَاهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَو انحرف عَنْهَا بجماح الدَّابَّة وَطَالَ الزَّمَان بطلت صلَاته وَيجوز اقْتِدَاء بَعضهم بِبَعْض وَإِن اخْتلفت الْجِهَة وتقدموا على الإِمَام كَمَا صرح بِهِ ابْن الرّفْعَة وَغَيره للضَّرُورَة وَالْجَمَاعَة أفضل من انفرادهم كَمَا فِي الْأَمْن لعُمُوم الْأَخْبَار فِي فضل الْجَمَاعَة
ويعذر أَيْضا فِي الْأَعْمَال الْكَثِيرَة كالضربات والطعنات المتوالية لحَاجَة الْقِتَال قِيَاسا على مَا ورد من الْمَشْي وَترك الِاسْتِقْبَال وَلَا يعْذر فِي الصياح لعدم الْحَاجة إِلَيْهِ لِأَن السَّاكِت أهيب وَيجب أَن يلقِي السِّلَاح إِذا دمي دَمًا لَا يُعْفَى عَنهُ فَإِن عجز عَن ذَلِك شرعا بِأَن احْتَاجَ إِلَى إِمْسَاكه أمْسكهُ للْحَاجة وَيَقْضِي خلافًا لما فِي الْمِنْهَاج لندرة عذره كَمَا فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب فَإِن عجز عَن رُكُوع أَو سُجُود أَوْمَأ بهما للضَّرُورَة وَجعل السُّجُود أَخفض من الرُّكُوع ليحصل التَّمْيِيز بَينهمَا
وَله حَاضرا كَانَ أَو مُسَافِرًا صَلَاة شدَّة الْخَوْف فِي كل مُبَاح قتال وهرب كقتال عَادل لباغ وَذي مَال لقاصد أَخذه ظلما وهرب من حريق وسيل وَسبع لَا معدل عَنهُ وغريم لَهُ عِنْد إِعْسَاره وَهَذَا كُله إِن خَافَ فَوت الْوَقْت كَمَا صرح بِهِ ابْن الرّفْعَة وَغَيره
وَلَيْسَ لمحرم خَافَ فَوت الْحَج بفوت وُقُوفه بِعَرَفَة إِن صلى الْعشَاء ماكثا أَن يُصليهَا سائرا لِأَنَّهُ لم يخف فَوت حَاصِل كفوت نفس وَهل لَهُ أَن يُصليهَا ماكثا ويفوت الْحَج لعظم حُرْمَة الصَّلَاة أَو يحصل الْوُقُوف لصعوبة قَضَاء الْحَج وسهولة قَضَاء الصَّلَاة وَجْهَان رجح الرَّافِعِيّ مِنْهُمَا الأول وَالنَّوَوِيّ الثَّانِي بل صَوبه وَهُوَ الْمُعْتَمد وَعَلِيهِ فتأخيرها وَاجِب كَمَا فِي الْكِفَايَة وَلَو صلوا صَلَاة شدَّة الْخَوْف لشَيْء ظنوه عدوا أَو أَكثر من ضعفهم فَبَان خِلَافه قضوا إِذْ لَا عِبْرَة بِالظَّنِّ الْبَين خَطؤُهُ
وَالضَّرْب الرَّابِع الَّذِي أسْقطه المُصَنّف أَن يكون الْعَدو فِي غير جِهَة الْقبْلَة أَو فِيهَا وَثمّ سَاتِر وَهُوَ قَلِيل وَفِي الْمُسلمين كَثْرَة وَخيف هجومه فيرتب الإِمَام الْقَوْم فرْقَتَيْن وَيُصلي بهم مرَّتَيْنِ كل مرّة بفرقة جَمِيع الصَّلَاة سَوَاء أَكَانَت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ أم ثَلَاثًا أم أَرْبعا وَتَكون الْفرْقَة الْأُخْرَى تجاه الْعَدو وتحرس ثمَّ تذْهب الْفرْقَة المصلية إِلَى جِهَة الْعَدو وَتَأْتِي الْفرْقَة الحارسة فَيصَلي بهَا مرّة أُخْرَى جَمِيع الصَّلَاة وَتَقَع الصَّلَاة الثَّانِيَة للْإِمَام نفلا وَهَذِه صفة صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَطن نخل مَكَان من نجد بِأَرْض(1/197)
غطفان وَهِي وَإِن جَازَت فِي غير الْخَوْف فَهِيَ مَنْدُوبَة فِيهِ عِنْد كَثْرَة الْمُسلمين وَقلة عدوهم وَخَوف هجومهم عَلَيْهِم فِي الصَّلَاة
تَتِمَّة تصح الْجُمُعَة فِي الْخَوْف حَيْثُ وَقع بِبَلَد كَصَلَاة عسفان وكذات الرّقاع لَا كَصَلَاة بطن نخل إِذْ لَا تُقَام مجمعة بعد أُخْرَى وَيشْتَرط فِي صَلَاة ذَات الرّقاع أَن يسمع الْخطْبَة عدد تصح بِهِ الْجُمُعَة من كل فرقة بِخِلَاف مَا لَو خطب بفرقة وَصلى بِأُخْرَى وَلَو حدث نقص من السامعين فِي الرَّكْعَة الأولى من الصَّلَاة بطلت أَو فِي الثَّانِيَة فَلَا للْحَاجة مَعَ سبق انْعِقَادهَا وتجهر الطَّائِفَة الأولى فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة لأَنهم منفردون وَلَا تجْهر الثَّانِيَة فِي الثَّانِيَة لأَنهم مقتدون بِهِ وَيَأْتِي ذَلِك فِي كل صَلَاة جهرية
فصل فِيمَا يجوز لبسه من الْحَرِير للمحارب وَغَيره
وَمَا لَا يجوز وَبَدَأَ بِهَذَا فَقَالَ (وَيحرم على الرِّجَال) الْمُكَلّفين فِي حَال الِاخْتِيَار وَكَذَا الخناثى خلافًا للقفال (لبس الْحَرِير) وَهُوَ مَا يحل عَن الدودة بعد مَوتهَا والقز وَهُوَ مَا قطعته الدودة وَخرجت مِنْهُ وَهُوَ كمد اللَّوْن
وَمثل اللّبْس سَائِر أَنْوَاع الِاسْتِعْمَال بفرش وتدثر وجلوس عَلَيْهِ واستناد إِلَيْهِ وتستر بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة وَمِنْه يعلم تَحْرِيم النّوم فِي الناموسية الَّتِي وَجههَا حَرِير
أما لبسه للرِّجَال فمجمع على تَحْرِيمه وَأما للخنثى فاحتياط وَأما مَا سواهُ فلقول حُذَيْفَة نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن لبس الْحَرِير والديباج وَأَن نجلس عَلَيْهِ رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَعلل الإِمَام وَالْغَزالِيّ الْحُرْمَة على الرِّجَال بِأَن فِي الْحَرِير خنوثة لَا تلِيق بشهامة الرِّجَال أما فِي حَال للضَّرُورَة كحر وَبرد مهلكين أَو مضرين كالخوف على عُضْو أَو مَنْفَعَة فَيجوز إِزَالَة للضَّرُورَة وَيُؤْخَذ من جَوَاز اللّبْس جَوَاز اسْتِعْمَاله فِي غَيره بطرِيق الأولى لِأَنَّهُ أخف وَيجوز أَيْضا لفجأة حَرْب وَلم يجد غَيره يقوم مقَامه ولحاجة كجرب وَدفع قمل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرخص لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي لبسه لذَلِك وَستر عَوْرَته فِي الصَّلَاة وَعَن عُيُون النَّاس وَفِي الْخلْوَة إِذا أوجبناه وَهُوَ الْأَصَح إِذا لم يجد غير الْحَرِير
(و) كَذَا يحرم على الرِّجَال وَمثلهمْ الخناثى (التَّخَتُّم بِالذَّهَب) لخَبر أبي دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ فِي يَمِينه قِطْعَة حَرِير وَفِي شِمَاله قِطْعَة ذهب وَقَالَ هَذَانِ أَي استعمالهما حرَام على ذُكُور أمتِي حل لإناثهم وَألْحق بالذكور الخناثى احْتِيَاطًا
وَاحْترز بالتختم عَن اتِّخَاذ أنف أَو أُنْمُلَة أَو سنّ فَإِنَّهُ لَا يحرم اتخاذها من ذهب على مقطوعها وَإِن أمكن اتخاذها من الْفضة (وَيحل للنِّسَاء) لبس الْحَرِير واستعماله بفرش أَو غَيره والتختم بِالذَّهَب والتحلي بِهِ للْحَدِيث الْمَار (ويسير الذَّهَب وَكَثِيره فِي) حكم (التَّحْرِيم) على من حرم عَلَيْهِ (سَوَاء) بِلَا فرق (وَإِذا كَانَ بعض الثَّوْب إبريسيما) وَهُوَ بِكَسْر الْهمزَة وبفتح الرَّاء وفتحهما وَكسر الرَّاء ثَلَاث لُغَات الْحَرِير (وَبَعضه قطنا أَو كتانا جَازَ لبسه مَا لم يكن الإبريسم غَالِبا) فَإِنَّهُ يحرم تَغْلِيبًا للْأَكْثَر بِخِلَاف مَا أَكْثَره من غَيره والمستوى مِنْهُمَا لِأَن كلا مِنْهُمَا لَا يُسمى ثوب حَرِير وَالْأَصْل الْحل وتغليبا للْأَكْثَر فِي الأولى
وللولي إلباس مَا ذكر من الْحَرِير(1/198)
وَمَا أَكْثَره مِنْهُ صَبيا إِذا لَيْسَ لَهُ شهامة تنَافِي خنوثة الْحَرِير بِخِلَاف الرجل وَلِأَنَّهُ غير مُكَلّف وَألْحق بِهِ الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء الْمَجْنُون
وَيحل مَا طرز أَو رقع بحرير قدر أَربع أَصَابِع لوروده فِي خبر مُسلم أَو طرف ثَوْبه بِأَن جعل طرف بِهِ مسجفا بِهِ قدر عَادَة أَمْثَاله لوروده فِي خبر مُسلم وَفرق بَينه وَبَين أَربع أَصَابِع فِيمَا مر بِأَن التطريف مَحل الْحَاجة وَقد تمس الْحَاجة للزِّيَادَة على الْأَرْبَع بِخِلَاف مَا مر فَإِنَّهُ مُجَرّد زِينَة فيتقيد بالأربع
تَتِمَّة يحل استصباح بدهن نجس كالمتنجس لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن فَقَالَ إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وَإِن كَانَ مَائِعا فاستصبحوا بِهِ أَو فانتفعوا بِهِ لَا دهن نَحْو كلب كخنزير فَلَا يحل الاستصباح بِهِ لغلظ نَجَاسَته وَيحل لبس شَيْء مُتَنَجّس وَبلا رُطُوبَة لِأَن نَجَاسَته عارضة سهلة الْإِزَالَة لَا لبس نجس كَجلْد ميتَة لما عَلَيْهِ من التَّعَبُّد باجتناب النَّجس لإِقَامَة الْعِبَادَة إِلَّا لضَرُورَة كحر وَنَحْوه مِمَّا مر
وَلَا يحرم اسْتِعْمَال النشا وَهُوَ الْمُتَّخذ من الْقَمْح فِي الثَّوْب وَالْأولَى تَركه وَترك دق الثِّيَاب وصقلها قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَيَنْبَغِي طي الثِّيَاب أَي وَذكر اسْم الله عَلَيْهَا لما روى الطَّبَرَانِيّ إِذا طويتم ثيابكم فاذكروا اسْم الله تَعَالَى عَلَيْهَا لِئَلَّا يلبسهَا الْجِنّ بِاللَّيْلِ وَأَنْتُم بِالنَّهَارِ فتبلى سَرِيعا
فصل فِي صَلَاة الْجِنَازَة
بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا لُغَتَانِ مشهورتان اسْم للْمَيت فِي النعش فَإِن لم يكن عَلَيْهِ الْمَيِّت فَهُوَ سَرِير ونعش وَهُوَ من جنزه يجنزه إِذا ستره وَلما اشْتَمَل هَذَا الْفَصْل على الصَّلَاة ذكره المُصَنّف هُنَا دون الْفَرَائِض فَقَالَ (وَيلْزم فِي الْمَيِّت) الْمُسلم غير الشَّهِيد (أَرْبَعَة أَشْيَاء) على جِهَة فرض الْكِفَايَة الأول (غسله) إِذا تَيَقّن مَوته بِظُهُور شَيْء من أماراته كاسترخاء قدم وميل أنف وانخساف صدغ فَإِن شكّ فِي مَوته أخر وجوبا كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع إِلَى الْيَقِين بِتَغَيُّر الرَّائِحَة أَو غَيره
وَأَقل الْغسْل تَعْمِيم بدنه بِالْمَاءِ مرّة لِأَن ذَلِك هُوَ الْفَرْض كَمَا فِي(1/199)
الْغسْل من الْجَنَابَة فِي حق الْحَيّ فَلَا يشْتَرط تقدم إِزَالَة النَّجَاسَة عَنهُ كَمَا يلوح بِهِ كَلَام الْمَجْمُوع خلافًا لما توهمه عبارَة الْمِنْهَاج من أَنه يشْتَرط تقدم إِزَالَتهَا وَلَا تجب نِيَّة الْغَاسِل لِأَن الْقَصْد بِغسْل الْمَيِّت النَّظَافَة وَهِي لَا تتَوَقَّف على نِيَّة فَيَكْفِي غسل كَافِر لَا غرق لأَنا مأمورون بِغسْلِهِ فَلَا يسْقط الْفَرْض عَنَّا إِلَّا بفعلنا وأكمله أَن يغسلهُ فِي خلْوَة لَا يدخلهَا إِلَّا الْغَاسِل وَمن يُعينهُ وَالْوَلِيّ وَفِي قَمِيص بَال أَو سخيف لِأَنَّهُ أستر لَهُ وعَلى مُرْتَفع كلوح لِئَلَّا يُصِيبهُ الرشاش بِمَاء بَارِد لِأَنَّهُ يشد الْبدن إِلَّا لحَاجَة إِلَى المسخن كوسخ أَو برد وَأَن يجلسه الْغَاسِل على الْمُرْتَفع بِرِفْق مائلا إِلَى وَرَائه وَيَضَع يَمِينه على كتفه وإبهامه فِي نقرة قَفاهُ لِئَلَّا تميل رَأسه ويسند ظَهره بركبته الْيُمْنَى ويمر يسَاره على بَطْنه بمبالغة ليخرج مَا فِيهِ من الفضلات ثمَّ يضجعه لقفاه وَيغسل بِخرقَة ملفوفة على يسَاره سوأتيه ثمَّ يلقيها ويلف خرقَة أُخْرَى على الْيَد وينظف أَسْنَانه وَمنْخرَيْهِ ثمَّ يوضئه كالحي ثمَّ يغسل رَأسه فلحيته بِنَحْوِ سدر ويسرح شعرهما إِن تلبد بِمشْط وَاسع الْأَسْنَان بِرِفْق وَيرد المنتف من شعرهما إِلَيْهِ ثمَّ يغسل شقَّه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثمَّ يحرفه إِلَى شقَّه الْأَيْسَر فَيغسل شقَّه الْأَيْمن مِمَّا يَلِي قَفاهُ ثمَّ يحرفه إِلَى شقَّه الْأَيْمن فَيغسل شقَّه الْأَيْسَر كَذَلِك مستعينا فِي ذَلِك كُله بِنَحْوِ سدر ثمَّ يُزِيلهُ بِمَاء من فرقه إِلَى قَدَمَيْهِ ثمَّ يعمه كَذَلِك بِمَاء قراح فِيهِ قَلِيل كافور كَمَا سَيَأْتِي بِحَيْثُ لَا يُغير المَاء
فَهَذِهِ الأغسال الْمَذْكُورَة غسلة وَتسن ثَانِيَة وثالثة كَذَلِك وَلَو خرج بعد الْغسْل نجس وَجب إِزَالَته عَنهُ
وَينْدب أَن لَا ينظر الْغَاسِل من غير عَوْرَته إِلَّا قدر الْحَاجة وَأما عَوْرَته فَيحرم النّظر إِلَيْهَا وَأَن يُغطي وَجهه بِخرقَة وَأَن يكون الْغَاسِل أَمينا فَإِن رأى خيرا سنّ ذكره أَو ضِدّه حرم ذكره إِلَّا لمصْلحَة كبدعة ظَاهِرَة وَمن تعذر غسله يمم كَمَا فِي غسل الْجَنَابَة
وَلَا يكره لنَحْو جنب غسله وَالرجل أولى بِالرجلِ وَالْمَرْأَة أولى بِالْمَرْأَةِ وَله غسل حليلته من زَوْجَة غير رَجْعِيَّة وَلَو نكح غَيرهَا وَأمة وَلَو كِتَابِيَّة ولزوجة غير رَجْعِيَّة غسل زَوجهَا وَلَو نكحت غَيره بِلَا مس مِنْهَا لَهُ وَلَا من الزَّوْج أَو السَّيِّد لَهَا فَإِن لم يحضر إِلَّا أَجْنَبِي فِي الْميتَة الْمَرْأَة وَإِلَّا أَجْنَبِيَّة فِي الرجل يمم الْمَيِّت
نعم الصَّغِير الَّذِي لم يبلغ حد الشَّهْوَة يغسلهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَمثله الْخُنْثَى الْكَبِير عِنْد فقد الْمحرم
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَيغسل فَوق ثوب ويحتاط الْغَاسِل فِي غض الْبَصَر والمس وَالْأولَى بِالرجلِ فِي غسله الأولى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دَرَجَة وهم رجال الْعصبَة من النّسَب ثمَّ الْوَلَاء ثمَّ الإِمَام أَو نَائِبه إِن انتظم بَيت المَال ثمَّ ذَوُو الْأَرْحَام وَخرج بِدَرَجَة الأولى بِالصَّلَاةِ صفة إِذْ الأفقه أولى من الأسن وَالْأَقْرَب والبعيد الْفَقِيه أولى من الْأَقْرَب غير الْفَقِيه هُنَا عكس مَا فِي الصَّلَاة وَالْأولَى بهَا فِي غسلهَا قراباتها(1/200)
وأولاهن ذَات محرمية وَهِي من لَو قدرت ذكرا لم يحل لَهُ نِكَاحهَا وَبعد الْقرَابَات ذَات وَلَاء فأجنبية فزوج فرجال محارم كترتيب صلَاتهم فَإِن تنَازع مستويان أَقرع بَينهمَا وَالْكَافِر أَحَق بقريبه الْكَافِر
ولنحو أهل الْمَيِّت كأصدقائه تَقْبِيل وَجهه وَلَا بَأْس بالإعلام بِمَوْتِهِ بِخِلَاف نعي الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ النداء بِمَوْت الشَّخْص وَذكر مآثره ومفاخره
(و) الثَّانِي (تكفينه) بعد غسله بِمَا لَهُ لبسه حَيا من حَرِير وَغَيره وَكره مغالاة فِيهِ وَكره لأنثى نَحْو معصفر من حَرِير ومزعفر وَأَقل الْكَفَن ثوب وَاحِد وَاخْتلف فِي قدره هَل هُوَ مَا يستر الْعَوْرَة أَو جَمِيع الْبدن إِلَّا رَأس الْمحرم وَوجه الْمُحرمَة وَجْهَان صحّح فِي الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع وَالشَّرْح الصَّغِير الأول فيختلف قدره بالذكورة وَالْأُنُوثَة كَمَا صرح بِهِ الرَّافِعِيّ لَا بِالرّقِّ وَالْحريَّة
وَصحح النَّوَوِيّ فِي مَنَاسِكه الثَّانِي وَاخْتَارَهُ ابْن الْمقري فِي شرح إرشاده كالأذرعي تبعا لجمهور الخراسانيين وَجمع بَينهمَا فِي روضه فَقَالَ وَأقله ثوب يعم جَمِيع الْبدن وَالْوَاجِب ستر الْعَوْرَة فَحمل الأول على أَنه حق الله تَعَالَى وَالثَّانِي على أَنه حق للْمَيت وَلَا تنفذ وَصيته بإسقاطه على الأول وَكَذَا على الثَّانِي فقد صرح فِي الْمَجْمُوع عَن التَّقْرِيب وَالْإِمَام الْغَزالِيّ وَغَيرهم أَنه لَو أوصى بساتر الْعَوْرَة فَقَط لم تصح وَصيته أَي مُرَاعَاة للْخلاف وَلَو لم يوص فَقَالَ بعض الْوَرَثَة يُكفن بِثَوْب يستر جَمِيع الْبدن وَبَعْضهمْ بساتر الْعَوْرَة فَقَط وَقُلْنَا بِجَوَازِهِ كفن بِثَوْب ذكره فِي الْمَجْمُوع أَي لِأَنَّهُ حق للْمَيت وَلَو قَالَ بَعضهم يُكفن بِثَوْب وَبَعْضهمْ بِثَلَاثَة كفن بهَا لما مر وَقيل بِثَوْب وَلَو اتَّفقُوا على ثوب فَفِي التَّهْذِيب يجوز وَفِي التَّتِمَّة أَنه على الْخلاف قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ أَقيس أَي فَيجب أَن يُكفن بِثَلَاثَة أَثوَاب وَلَو كَانَ عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق فَقَالَ الْغُرَمَاء يُكفن فِي ثوب وَالْوَرَثَة فِي ثَلَاثَة أُجِيب الْغُرَمَاء وَلَو قَالَ الْغُرَمَاء يُكفن بساتر الْعَوْرَة وَالْوَرَثَة بساتر جَمِيع الْبدن أُجِيب الْوَرَثَة وَلَو اتّفقت الْغُرَمَاء وَالْوَرَثَة على ثَلَاثَة جَازَ بِلَا خلاف
وَحَاصِله أَن الْكَفَن بِالنِّسْبَةِ لحق الله تَعَالَى ستر الْعَوْرَة فَقَط وبالنسبة للْغُرَمَاء ستر جَمِيع الْبدن وبالنسبة للْوَرَثَة ثَلَاثَة فَلَيْسَ للْوَارِث الْمَنْع مِنْهَا تَقْدِيمًا لحق الْمَالِك وَفَارق الْغَرِيم بِأَن حَقه سَابق وَبِأَن مَنْفَعَة صرف المَال لَهُ تعود إِلَى الْمَيِّت بِخِلَاف الْوَارِث فيهمَا هَذَا إِذا كفن من تركته أما إِذا كفن من غَيرهَا فَلَا يلْزم من يجهزه من قريب وَسيد وَزوج وَبَيت مَال إِلَّا ثوب وَاحِد سَاتِر لجَمِيع بدنه بل لَا تجوز الزِّيَادَة عَلَيْهِ من بَيت المَال كَمَا يعلم من كَلَام الرَّوْضَة وَكَذَا إِذا كفن مِمَّا وقف للتكفين كَمَا أفتى بِهِ ابْن الصّلاح قَالَ وَيكون سابغا أَي فَلَا يَكْفِي ستر الْعَوْرَة لِأَن الزَّائِد عَلَيْهَا حق للْمَيت كَمَا مر وَأما الْأَفْضَل للرجل وَالْمَرْأَة فَسَيَأْتِي وَسن مغسول لِأَنَّهُ للصديد وَأَن يبسط أحسن اللفائف وأوسعها وَالْبَاقِي فَوْقهَا وَأَن يذر على كل وعَلى الْمَيِّت حنوط وَأَن يوضع الْمَيِّت فَوْقهَا مُسْتَلْقِيا وَأَن تشد ألياه بِخرقَة وَأَن يَجْعَل على منافذه قطن عَلَيْهِ حنوط وَتلف عَلَيْهِ اللفائف وتشد اللفائف(1/201)
بشداد خوف الانتشار عِنْد الْحمل إِلَّا أَن يكون محرما وَيحل الشداد فِي الْقَبْر
وَمحل تجهيز الْمَيِّت تركته إِلَّا زَوْجَة وخادمها فتجهيزهما على زوج غَنِي عَلَيْهِ نفقتهما فَإِن لم يكن للْمَيت تَرِكَة فتجهيزه على من عَلَيْهِ نَفَقَته حَيا فِي الْجُمْلَة من قريب وَسيد فَإِن لم يكن للْمَيت من تلْزمهُ نَفَقَته فتجهيزه على بَيت المَال
(و) الثَّالِث (الصَّلَاة عَلَيْهِ) وَهِي من خَصَائِص هَذِه الْأمة كَمَا قَالَه الْفَاكِهَانِيّ فِي شرح الرسَالَة
قَالَ وَكَذَا الْإِيصَاء بِالثُّلثِ
وَشرط لصحتها شُرُوط غَيرهَا من الصَّلَوَات وَتقدم طهر الْمَيِّت لِأَنَّهُ الْمَنْقُول عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَو تعذر كَأَن وَقع فِي حُفْرَة وَتعذر إِخْرَاجه وطهره لم يصل عَلَيْهِ
وَتكره الصَّلَاة عَلَيْهِ قبل تكفينه لما فِيهِ من الازدراء بِالْمَيتِ وَلَا يشْتَرط فِيهَا الْجَمَاعَة كالمكتوبة بل تسن لخَبر مُسلم مَا من رجل مُسلم يَمُوت يقوم على جنَازَته أَرْبَعُونَ رجلا لَا يشركُونَ بِاللَّه شَيْئا إِلَّا شفعهم الله فِيهِ وَيَكْفِي فِي إِسْقَاط فَرضهَا ذكر وَلَو صَبيا مُمَيّزا لحُصُول الْمَقْصُود بِهِ وَلِأَن الصَّبِي يصلح أَن يكون إِمَامًا للرجل لَا غَيره من خُنْثَى وَامْرَأَة مَعَ وجود الذّكر لِأَن الذّكر أكمل من غَيره فدعاؤه أقرب للإجابة وَيجب تَقْدِيمهَا على الدّفن وَتَصِح على قبر غير نَبِي لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَتَصِح على غَائِب عَن الْبَلَد وَلَو دون مَسَافَة الْقصر
قَالُوا وَإِنَّمَا تصح الصَّلَاة على الْقَبْر وَالْغَائِب عَن الْبَلَد مِمَّن كَانَ فِي أهل فَرضهَا وَقت مَوته قَالُوا لِأَن غَيره متنفل وَهَذِه لَا يتَنَفَّل بهَا
وَنَازع الْإِسْنَوِيّ فِي اعْتِبَار وَقت الْمَوْت قَالَ وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَو بلغ أَو أَفَاق بعده وَقبل الْغسْل لم يُؤثر وَالصَّوَاب خِلَافه بل لَو زَالَ بعد الْغسْل أَو الصَّلَاة وَأدْركَ زَمنا يُمكنهُ فعلهَا فِيهِ فَكَذَلِك انْتهى
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَالتَّعْبِير بِالْمَوْتِ جرى على الْغَالِب
وَالْأولَى بإمامة صَلَاة الْمَيِّت أَب وَإِن أوصى بهَا لغيره فأبوه وَإِن علا فَابْن فابنه وَإِن سفل فباقي الْعصبَة بترتيب الْإِرْث فذو رحم وَيقدم حر عدل على عبد أقرب مِنْهُ وَلَو أفقه وأسن لِأَنَّهَا ولَايَة فَلَا حق فِيهَا للزَّوْج وَلَا للْمَرْأَة لَكِن مَحَله إِذا وجد مَعَ الزَّوْج غير الْأَجَانِب وَمَعَ الْمَرْأَة ذكر أَو خُنْثَى وَإِلَّا فالزوج مقدم على الْأَجَانِب وَالْمَرْأَة تصلي وَتقدم بترتيب الذّكر وَيقدم العَبْد الْقَرِيب على الْحر الْأَجْنَبِيّ وَالْعَبْد الْبَالِغ على الْحر الصَّبِي وَشرط الْمُقدم أَن لَا يكون قَاتلا كَمَا فِي الْغسْل فَلَو اسْتَوَى اثْنَان فِي دَرَجَة قدم الأسن فِي الْإِسْلَام الْعدْل على الأفقه مِنْهُ عكس سَائِر الصَّلَوَات لِأَن الْغَرَض هُنَا الدُّعَاء وَدُعَاء الأسن أقرب إِلَى الْإِجَابَة وَينْدب أَن يقف غير الْمَأْمُوم من إِمَام ومنفرد عِنْد رَأس ذكر وعجيزة غَيره من أُنْثَى وَخُنْثَى لِلِاتِّبَاعِ وَتجوز على جنائز صَلَاة وَاحِدَة بِرِضا أوليائها لِأَن الْغَرَض مِنْهَا الدُّعَاء وَيقدم إِلَى الإِمَام الأسبق من الذُّكُور أَو الْإِنَاث أَو الخناثى وَإِن كَانَ الْمُتَأَخر أفضل فَلَو سبقت أُنْثَى ثمَّ حضر رجل أَو صبي أخرت عَنهُ وَمثلهَا الْخُنْثَى وَلَو حضر خناثى مَعًا أَو مرتبين جعلُوا صفا عَن يَمِينه رَأس كل(1/202)
مِنْهُم عِنْد رجل الآخر لِئَلَّا تتقدم أُنْثَى على ذكر وَلَو وجد جُزْء ميت مُسلم غير شَهِيد صلى عَلَيْهِ بعد غسله وستره بِخرقَة وَدفن كالميت الْحَاضِر وَإِن كَانَ الْجُزْء ظفرا أَو شعرًا لَكِن لَا يصلى على الشعرة الْوَاحِدَة كَمَا قَالَه فِي الْعدة وَإِن خَالفه بعض الْمُتَأَخِّرين وَإِنَّمَا يصلى على الْجُزْء بِقصد الْجُمْلَة لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَة صَلَاة على غَائِب
(و) الرَّابِع (دَفنه) فِي قبر وَأقله حُفْرَة تمنع بعد ردمها ظُهُور رَائِحَة مِنْهُ فتؤذي الْحَيّ وتمنع نبش سبع لَهَا فيأكل الْمَيِّت فتنتهك حرمته
قَالَ الرَّافِعِيّ وَالْغَرَض من ذكرهمَا إِن كَانَا متلازمين بَيَان فَائِدَة الدّفن وَإِلَّا فبيان وجوب رعايتهما فَلَا يَكْفِي أَحدهمَا
اه
وَالظَّاهِر الثَّانِي
وَخرج بِالْحُفْرَةِ مَا لَو وضع الْمَيِّت على وَجه الأَرْض وَجعل عَلَيْهِ مَا يمْنَع ذَلِك حَيْثُ لم يتَعَذَّر الْحفر وَسَيَأْتِي أكمله فِي كَلَامه
(وَاثْنَانِ لَا يغسلان وَلَا يصلى عَلَيْهِمَا) لتَحْرِيم ذَلِك فِي حَقّهمَا
الأول (الشَّهِيد) وَلَو أُنْثَى ورقيقا أَو غير بَالغ إِذا مَاتَ (فِي معركة الْمُشْركين) لخَبر البُخَارِيّ عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر فِي قَتْلَى أحد بدفنهم بدمائهم وَلم يغسلوا وَلم يصل عَلَيْهِم وَأما خبر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج فصلى على قَتْلَى أحد صلَاته على الْمَيِّت فَالْمُرَاد جمعا بَين الْأَدِلَّة دَعَا لَهُم كدعائه للْمَيت كَقَوْلِه تَعَالَى {وصل عَلَيْهِم} أَي ادْع لَهُم وَسمي شَهِيدا لشهادة الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بِالْجنَّةِ وَقيل غير ذَلِك وَهُوَ من لم تبْق فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة قبل انْقِضَاء حَرْب الْمُشْركين بِسَبَبِهَا كَأَن قَتله كَافِر أَو أَصَابَهُ سلَاح مُسلم خطأ أَو عَاد إِلَيْهِ سلاحه أَو رمحته دَابَّته أَو سقط عَنْهَا أَو تردى حَال قِتَاله فِي بِئْر أَو انْكَشَفَ عَنهُ الْحَرْب وَلم يعلم سَبَب قَتله وَإِن لم يكن عَلَيْهِ أثر دم لِأَن الظَّاهِر أَن مَوته بِسَبَب الْحَرْب بِخِلَاف من مَاتَ بعد انْقِضَائِهَا وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة بجراحة فِيهِ وَإِن قطع بِمَوْتِهِ مِنْهَا أَو قبل انْقِضَائِهَا لَا بِسَبَب حَرْب الْمُشْركين كَأَن مَاتَ بِمَرَض أَو فَجْأَة أَو فِي قتال بغاة فَلَيْسَ بِشَهِيد وَيعْتَبر فِي قتال الْمُشْركين كَونه مُبَاحا وَهُوَ ظَاهر أما الشَّهِيد العاري عَمَّا ذكر كالغريق والمبطون والمطعون وَالْمَيِّت عشقا وَالْميتَة مُطلقًا والمقتول فِي غير الْقِتَال الْمَذْكُور ظلما فَيغسل وَيصلى عَلَيْهِ وَيجب غسل نجس أَصَابَهُ غير دم الشَّهَادَة وَإِن أدّى ذَلِك إِلَى زَوَال دَمهَا وَيسن تكفينه فِي ثِيَابه الَّتِي مَاتَ فِيهَا إِذا اُعْتِيدَ لبسهَا غَالِبا أما ثِيَاب الْحَرْب كدرع وَنَحْوهمَا مِمَّا لَا يعْتَاد لبسه غَالِبا كخف وفروة فَينْدب نَزعهَا كَسَائِر الْمَوْتَى فَإِن لم تكفه ثِيَابه وَجب تتميمها بِمَا يستر جَمِيع بدنه لِأَنَّهُ حق للْمَيت كَمَا مر
(و) الثَّانِي (السقط) بِتَثْلِيث السِّين (الَّذِي لم يستهل صَارِخًا) أَي بِأَن لم تعلم حَيَاته وَلم يظْهر خلقه فَلَا تجوز الصَّلَاة عَلَيْهِ وَلَا يجب غسله وَيسن ستره بِخرقَة وَدَفنه دون غَيرهمَا أما إِذا علمت حَيَاته بصياح أَو غَيره أَو ظَهرت أماراتها كاختلاج أَو تحرّك فككبير فَيغسل ويكفن وَيصلى عَلَيْهِ ويدفن لتيقن حَيَاته وَمَوته بعْدهَا فِي الأولى وَظُهُور أماراتها فِي الثَّانِيَة وَإِن لم تعلم حَيَاته وَظهر خلقه وَجب تَجْهِيزه بِلَا صَلَاة عَلَيْهِ وَفَارَقت الصَّلَاة غَيرهَا بِأَنَّهُ أوسع بَابا مِنْهَا بِدَلِيل أَن الذِّمِّيّ يغسل ويكفن ويدفن وَلَا يصلى عَلَيْهِ والسقط مُشْتَقّ من السُّقُوط وَهُوَ النَّازِل قبل تَمام أشهره فَإِن بلغَهَا فكالكبير كَمَا أفتى بِهِ بعض الْمُتَأَخِّرين والاستهلال الصياح عِنْد الْولادَة كَمَا قَالَه أهل اللُّغَة فَقَوله صَارِخًا تَأْكِيد(1/203)
(وَيغسل الْمَيِّت وترا) ندبا كَمَا مر (وَيكون فِي أول غسله سدر) أَو خطمي (وَفِي آخِره) الَّذِي يكون وترا (شَيْء من كافور) تَقْوِيَة للجسد ومنعا للهوام وللنتن وَهُوَ مَنْدُوب فِي كل غسلة إِلَّا أَنه فِي الْأَخِيرَة آكِد
وَمحله فِي غير الْمحرم أما الْمحرم فَلَا يقرب طيبا كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا وَصفَة أكمل الْغسْل قد تقدّمت
(ويكفن) الْمَيِّت الذّكر (فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض) لخَبر البسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا خير ثيابكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم (لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة) هَذَا هُوَ الْأَفْضَل فِي حَقه وَيجوز رَابِع وخامس فيزاد قَمِيص إِن لم يكن محرما وعمامة تَحت اللفائف وَالْأَفْضَل فِي حق الْمَرْأَة وَمثلهَا الْخُنْثَى خَمْسَة إِزَار فقميص فخمار وَهُوَ مَا يغطى بِهِ الرَّأْس فلفافتان
وَأما الْوَاجِب فقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ
ثمَّ اعْلَم أَن أَرْكَان الصَّلَاة على الْمَيِّت سَبْعَة ذكر المُصَنّف بَعْضهَا الرُّكْن الأول النِّيَّة كنية غَيرهَا من الصَّلَوَات وَلَا يجب فِي الْمَيِّت الْحَاضِر تَعْيِينه باسمه أَو نَحوه وَلَا مَعْرفَته بل يكفى تَمْيِيزه نوع تَمْيِيز كنية الصَّلَاة على هَذَا الْمَيِّت أَو على من يُصَلِّي عَلَيْهِ الإِمَام فَإِن عينه كزيد أَو رجل وَلم يشر إِلَيْهِ وَأَخْطَأ فِي تَعْيِينه فَبَان عمرا أَو امْرَأَة لم تصح صلَاته فَإِن أَشَارَ إِلَيْهِ صحت كَمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة تَغْلِيبًا للْإِشَارَة فَإِن حضر موتى نوى الصَّلَاة عَلَيْهِم وَإِن لم يعرف عَددهمْ قَالَ الرَّوْيَانِيّ فَلَو صلى على بَعضهم وَلم يُعينهُ ثمَّ صلى على الْبَاقِي لم تصح وَلَو أحرم الإِمَام بِالصَّلَاةِ على جَنَازَة ثمَّ حضرت أُخْرَى وَهُوَ فِي الصَّلَاة تركت حَتَّى يفرغ ثمَّ يُصَلِّي على الثَّانِيَة لِأَنَّهُ لم ينوها أَولا ذكره فِي الْمَجْمُوع
وَلَو صلى على حَيّ وميت صحت على الْمَيِّت إِن جهل الْحَال وَإِلَّا فَلَا وَيجب على الْمَأْمُوم نِيَّة الِاقْتِدَاء
والركن الثَّانِي قيام قَادر عَلَيْهِ كَغَيْرِهَا من الْفَرَائِض
(و) الرُّكْن الثَّالِث (يكبر عَلَيْهِ أَربع تَكْبِيرَات) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فَلَو زَاد عَلَيْهَا لم تبطل صلَاته لِأَنَّهُ إِنَّمَا زَاد ذكرا وَإِذا زَاد إِمَامه عَلَيْهَا لم يسن لَهُ مُتَابَعَته فِي الزَّائِد لعدم سنه للْإِمَام بل يُفَارِقهُ وَيسلم أَو ينتظره ليسلم مَعَه وَهُوَ أفضل
والركن الرَّابِع قِرَاءَة الْفَاتِحَة كَغَيْرِهَا من الصَّلَوَات ولعموم خبر لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب وَقَوله (يقْرَأ الْفَاتِحَة بعد) التَّكْبِيرَة (الأولى) هُوَ ظَاهر كَلَام الْغَزالِيّ وَتَبعهُ الرَّافِعِيّ صَححهُ النَّوَوِيّ فِي تبيانه وَلَكِن الرَّاجِح كَمَا رَجحه النَّوَوِيّ فِي منهاجه من زِيَادَته أَنَّهَا تجزىء فِي غير الأولى من الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَالرَّابِعَة وَجزم بِهِ فِي الْمَجْمُوع وَفِي الْمَجْمُوع يجوز أَن يجمع فِي التَّكْبِيرَة الثَّانِيَة بَين الْقِرَاءَة وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي الثَّالِثَة بَين الْقِرَاءَة وَالدُّعَاء للْمَيت وَيجوز إخلاء التَّكْبِيرَة الأولى من الْقِرَاءَة اه
وَلَا يشْتَرط التَّرْتِيب بَين الْفَاتِحَة وَبَين الرُّكْن الَّذِي قُرِئت الْفَاتِحَة فِيهِ وَلَا يجوز أَن يقْرَأ بَعْضهَا فِي ركن وَبَعضهَا فِي ركن آخر كَمَا يُؤْخَذ من كَلَام الْمَجْمُوع لِأَن هَذِه الْخصْلَة لم تثبت وكالفاتحة فِيمَا ذكر عِنْد الْعَجز بدلهَا
(و) الرُّكْن الْخَامِس (يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد) التَّكْبِيرَة (الثَّانِيَة) لِلِاتِّبَاعِ وأقلها اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وَتسن الصَّلَاة على الْآل كالدعاء للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات عَقبهَا وَالْحَمْد لله قبل الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(و) الرُّكْن السَّادِس (يَدْعُو للْمَيت) بِخُصُوصِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُود الْأَعْظَم من الصَّلَاة وَمَا قبله مُقَدّمَة لَهُ فَلَا يَكْفِي الدُّعَاء للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات وَالْوَاجِب مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم كاللهم ارحمه واللهم اغْفِر لَهُ وَأما الْأَكْمَل فَسَيَأْتِي وَقَول الْأَذْرَعِيّ الْأَشْبَه أَن غير الْمُكَلف لَا يجب الدُّعَاء لَهُ لعدم تَكْلِيفه
قَالَ الْغَزِّي بَاطِل
وَيجب أَن يكون الدُّعَاء (بعد) التَّكْبِيرَة (الثَّالِثَة) فَلَا يجزىء فِي غَيرهَا بِلَا خلاف
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَلَيْسَ لتخصيص ذَلِك إِلَّا مُجَرّد الِاتِّبَاع
اه
وَيَكْفِي ذَلِك
وَيسن رفع يَدَيْهِ(1/204)
فِي تكبيراتها حَذْو مَنْكِبَيْه وَيَضَع يَدَيْهِ تَحت صَدره كَغَيْرِهَا من الصَّلَوَات وتعوذ للْقِرَاءَة وإسرار بِهِ وبقراءة لَيْلًا أَو نَهَارا وَترك افْتِتَاح وَسورَة لطولهما
وَظَاهر كَلَامهم أَن الحكم كَذَلِك
وَلَو صلى على قبر أَو غَائِب لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة على التَّخْفِيف
وَأما أكمل الدُّعَاء (فَيَقُول) بعد قَوْله اللَّهُمَّ اغْفِر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وَكَبِيرنَا وَذكرنَا وأنثانا اللَّهُمَّ من أحييته منا فأحيه على الْإِسْلَام وَمن توفيته منا فتوفه على الْإِيمَان (اللَّهُمَّ) أَي يَا الله (هَذَا) الْمَيِّت (عَبدك وَابْن عبديك) بالتثنية تَغْلِيبًا للمذكر (خرج من روح الدُّنْيَا) بِفَتْح الرَّاء وَهُوَ نسيم الرّيح (وسعتها) بِفَتْح السِّين أَي الاتساع وبالجر عطفا على الْمَجْرُور والمضاف (ومحبوبه وأحبائه فِيهَا) أَي مَا يُحِبهُ وَمن يُحِبهُ (إِلَى ظلمَة الْقَبْر وَمَا هُوَ لاقيه) من هول مُنكر وَنَكِير كَذَا فِي الْمَجْمُوع عَن القَاضِي حُسَيْن قَالَ فِي الْمُهِمَّات لَكِن اللَّفْظ يتَنَاوَل مَا يلقاه فِي الْقَبْر وَفِيمَا بعده (كَأَن يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَحدك لَا شريك لَك وَأَن) سيدنَا (مُحَمَّدًا) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَبدك وَرَسُولك) إِلَى جَمِيع خلقك (وَأَنت أعلم بِهِ) أَي منا (اللَّهُمَّ إِنَّه نزل بك) أَي ضيفك وَأَنت أكْرم الأكرمين وضيف الْكِرَام لَا يضام (وَأَنت خير منزول بِهِ) وَيذكر اللَّفْظ مُطلقًا سَوَاء كَانَ الْمَيِّت ذكرا أم أُنْثَى لِأَنَّهُ عَائِد على الله تَعَالَى
قَالَ الدَّمِيرِيّ وَكَثِيرًا مَا يغلظ فِي ذَلِك (وَأصْبح فَقِيرا إِلَى رحمتك) الواسعة (وَأَنت غَنِي عَن عَذَابه وَقد جئْنَاك) أَي قصدناك (راغبين إِلَيْك شُفَعَاء لَهُ) عنْدك (اللَّهُمَّ إِن كَانَ محسنا) لنَفسِهِ (فزد فِي إحسانه) أَي إحسانك إِلَيْهِ (وَإِن كَانَ مسيئا) عَلَيْهَا (فَتَجَاوز عَنهُ) بكرمك (ولقه) أَي أنله (بِرَحْمَتك رضاك) عَنهُ (وقه) بِفَضْلِك (فتْنَة) السُّؤَال فِي (الْقَبْر) بإعانته على التثبيت فِي جَوَابه (وقه) (عَذَابه) الْمَعْلُوم صحتهما من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة (وافسح لَهُ) بِفَتْح السِّين أَي وسع لَهُ (فِي قَبره) مد الْبَصَر كَمَا صَحَّ فِي الْخَبَر (وجاف الأَرْض) أَي ارفعها (عَن جَنْبَيْهِ) بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون النُّون بعْدهَا تَثْنِيَة جنب كَمَا هُوَ عبارَة الْأَكْثَرين
وَفِي بعض نسخ الْأُم الصَّحِيحَة عَن جثته بِضَم الْجِيم وَفتح الْمُثَلَّثَة الْمُشَدّدَة
قَالَ فِي الْمُهِمَّات وَهِي أحسن لدُخُول الجنبين والبطن وَالظّهْر اه
(ولقه بِرَحْمَتك الْأَمْن من عذابك) الشَّامِل لما فِي الْقَبْر وَلما فِي الْقِيَامَة وأعيد بِإِطْلَاقِهِ بعد تَقْيِيده بِمَا تقدم اهتماما بِشَأْنِهِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُود من هَذِه الشَّفَاعَة (حَتَّى تبعثه) من قَبره بجسده وروحه (آمنا) من هول الْموقف مساقا فِي زمرة الْمُتَّقِينَ (إِلَى جنتك بِرَحْمَتك يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ) جمع ذَلِك الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى من الْأَخْبَار وَاسْتَحْسنهُ الْأَصْحَاب وَوجد فِي نُسْخَة من الرَّوْضَة ومحبوبها وَكَذَا هُوَ فِي الْمَجْمُوع
وَالْمَشْهُور فِي قَوْله ومحبوبه وأحباؤه الْجَرّ وَيجوز رَفعه بِجعْل الْوَاو للْحَال وَهَذَا فِي الْبَالِغ الذّكر فَإِن كَانَ أُنْثَى عبر بالأمة وأنث مَا يعود إِلَيْهَا وَإِن ذكر بِقصد الشَّخْص لم يضر كَمَا فِي الرَّوْضَة وَإِن كَانَ خُنْثَى
قَالَ الْإِسْنَوِيّ فَالْمُتَّجه التَّعْبِير بالمملوك وَنَحْوه
قَالَ فَإِن لم يكن للْمَيت أَب بِأَن كَانَ ولد زنا فَالْقِيَاس أَن يَقُول فِيهِ وَابْن أمتك اه
وَالْقِيَاس أَنه لَو لم يعرف أَن الْمَيِّت ذكر أَو أُنْثَى أَن يعبر بالمملوك وَنَحْوه وَيجوز أَن يَأْتِي بالضمائر مذكرة على إِرَادَة الْمَيِّت أَو الشَّخْص ومؤنثة على إِرَادَة لفظ الْجِنَازَة وَأَنه لَو صلى على جمع مَعًا يَأْتِي فِيهِ بِمَا يُنَاسِبه وَأما الصَّغِير فَيَقُول فِيهِ مَعَ الأول فَقَط اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فرطا لِأَبَوَيْهِ أَي سَابِقًا مهيئا لمصالحهما فِي الْآخِرَة وسلفا وذخرا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وعظة واعتبارا وشفيعا وَثقل بِهِ موازينهما وأفرغ الصَّبْر على قلوبهما
لِأَن ذَلِك مُنَاسِب للْحَال وَزَاد فِي الْمَجْمُوع على هَذَا وَلَا تفتنهما بعده وَلَا تحرمهما أجره
وَيُؤَنث فِيمَا إِذا كَانَ الْمَيِّت أُنْثَى وَيَأْتِي فِي الْخُنْثَى مَا مر
وَيَكْفِي هَذَا الدُّعَاء للطفل
وَلَا يُنَافِي قَوْلهم إِنَّه لَا بُد فِي الدُّعَاء للْمَيت أَن يخص بِهِ كَمَا مر لثُبُوت النَّص فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والسقط يصلى عَلَيْهِ ويدعى لوَالِديهِ بالعافية وَالرَّحْمَة وَلَكِن لَو دَعَا لَهُ بِخُصُوصِهِ كفى وَلَو تردد فِي بُلُوغ الْمُرَاهق فالأحوط أَن يَدْعُو بِهَذَا ويخصصه بِالدُّعَاءِ بعد الثَّالِثَة
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَسَوَاء فِيمَا قَالُوهُ أمات فِي حَيَاة أَبَوَيْهِ أم لَا
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ مَحَله فِي(1/205)
الْأَبَوَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْمُسلمين فَإِن لم يَكُونَا كَذَلِك أَتَى بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَال وَهَذَا أولى وَلَو جهل إسلامهما فَالْأولى أَن يعلق على إيمانهما خُصُوصا فِي نَاحيَة يكثر فِيهَا الْكفَّار وَلَو علم كفرهما كتبعية الصَّغِير للسابي حرم الدُّعَاء لَهما بالمغفرة والشفاعة وَنَحْوهمَا
(وَيَقُول فِي) التَّكْبِيرَة (الرَّابِعَة) ندبا (اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنَا) بِفَتْح الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة وَضمّهَا (أجره) أَي أجر الصَّلَاة عَلَيْهِ أَو أجر الْمُصِيبَة بِهِ فَإِن الْمُسلمين فِي الْمُصِيبَة كالشيء الْوَاحِد (وَلَا تفتنا بعده) أَي بالابتلاء بِالْمَعَاصِي وَزَاد المُصَنّف كالتنبيه (واغفر لنا وَله) وَاسْتَحْسنهُ الْأَصْحَاب وَيسن أَن يطول الدُّعَاء بعد الرَّابِعَة كَمَا فِي الرَّوْضَة
نعم لَو خيف تغير الْمَيِّت أَو انفجاره لَو أَتَى بالسنن فَالْقِيَاس كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيّ الِاقْتِصَار على الْأَركان
(و) الرُّكْن السَّابِع (يسلم بعد) التَّكْبِيرَة (الرَّابِعَة) كسلام غَيرهَا من الصَّلَوَات فِي كيفيته وتعدده وَيُؤْخَذ من ذَلِك عدم سنّ وَبَرَكَاته خلافًا لمن قَالَ يسن ذَلِك وَأَنه يلْتَفت فِي السَّلَام وَلَا يقْتَصر على تَسْلِيمَة وَاحِدَة يَجْعَلهَا تِلْقَاء وَجهه وَإِن قَالَ فِي الْمَجْمُوع إِنَّه الْأَشْهر وَحمل الْجِنَازَة بَين العمودين بِأَن يضعهما رجل على عَاتِقيهِ وَرَأسه بَينهمَا وَيحمل المؤخرتين رجلَانِ أفضل من التربيع بِأَن يتَقَدَّم رجلَانِ ويتأخر آخرَانِ وَلَا يحملهَا وَلَو أُنْثَى إِلَّا الرِّجَال لضعف النِّسَاء عَن حملهَا فَيكْرَه لَهُنَّ ذَلِك وَحرم حملهَا على هَيْئَة مزرية كحملها فِي قفة أَو هَيْئَة يخَاف مِنْهَا سُقُوطهَا وَالْمَشْي أمامها وقربها بِحَيْثُ لَو الْتفت لرآها أفضل من غَيره
وَسن إسراع بهَا إِن أَمن تغير الْمَيِّت بالإسراع وَإِلَّا فيتأنى بِهِ فَإِن خيف تغيره بالتأني أَيْضا زيد فِي الْإِسْرَاع وَسن لغير ذكر مَا يستره كقبة وَكره لغط فِي الْجِنَازَة بل الْمُسْتَحبّ التفكر فِي الْمَوْت وَمَا بعده وكرة إتباعها بِنَار فِي مجمرة أَو غَيرهَا وَلَا يكره الرّكُوب فِي رُجُوعهَا وَلَا اتِّبَاع مُسلم جَنَازَة قَرِيبه الْكَافِر
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَلَا يبعد إِلْحَاق الزَّوْجَة والمملوك بالقريب
قَالَ وَهل يلْحق بِهِ الْجَار كَمَا فِي العيادة فِيهِ نظر اه وَلَا بعد فِيهِ
وَتحرم الصَّلَاة على الْكَافِر وَلَا يجب طهر لِأَنَّهُ كَرَامَة وَهُوَ لَيْسَ من أَهلهَا وَيجب علينا تكفين ذمِّي وَدَفنه حَيْثُ لم يكن لَهُ مَال وَلَا من تلْزمهُ نَفَقَته وَفَاء بِذِمَّتِهِ وَلَو اخْتَلَط من يُصَلِّي عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ وَلم يتَمَيَّز كمسلم بِكَافِر وَغير شَهِيد بِشَهِيد وَجب تجهيز كل إِذْ لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بذلك وَيُصلي على الْجَمِيع وَهُوَ أفضل أَو على وَاحِد فواحد بِقصد من يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الكيفيتين وَيغْتَفر التَّرَدُّد فِي النِّيَّة وَيَقُول فِي الْمِثَال الأول اللَّهُمَّ اغْفِر للْمُسلمِ مِنْهُم فِي الْكَيْفِيَّة الأولى وَيَقُول اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ إِن كَانَ مُسلما فِي الْكَيْفِيَّة الثَّانِيَة
وَتسن الصَّلَاة عَلَيْهِ بِمَسْجِد وبثلاثة صُفُوف فَأكْثر لخَبر مَا من مُسلم يَمُوت فَيصَلي عَلَيْهِ ثَلَاثَة صُفُوف إِلَّا غفر لَهُ وَلَا تسن إِعَادَتهَا وَمَعَ ذَلِك لَو أُعِيدَت وَقعت نفلا وَلَا تُؤخر لغير ولي أما هُوَ فتؤخر لَهُ مَا لم يخف تغيره
وَلَو نوى إِمَام مَيتا حَاضرا أَو غَائِبا ومأموم آخر كَذَلِك جَازَ لِأَنَّهُ اخْتِلَاف نيتهما لَا يضر وَلَو تخلف الْمَأْمُوم عَن إِمَامه بِلَا عذر بتكبيرة حَتَّى شرع إِمَامه فِي أُخْرَى بطلت صلَاته إِذْ الِاقْتِدَاء هُنَا إِنَّمَا يظْهر فِي التَّكْبِيرَات وَهُوَ تخلف فَاحش يشبه التَّخَلُّف بِرَكْعَة فَإِن كَانَ ثمَّ عذر كنسيان فَلَا تبطل إِلَّا بتخلفه بتكبيرتين على مَا اقْتَضَاهُ كَلَامهم وَلَا شكّ أَن التَّقَدُّم كالتخلف بل أولى
وَيكبر الْمَسْبُوق وَيقْرَأ الْفَاتِحَة وَإِن كَانَ الإِمَام فِي غَيرهَا كالدعاء لِأَن مَا أدْركهُ أول صلَاته وَلَو كبر الإِمَام أُخْرَى قبل قِرَاءَته كبر(1/206)
مَعَه وَسَقَطت الْقِرَاءَة عَنهُ كَمَا فِي غَيرهَا من الصَّلَوَات وَإِذا سلم الإِمَام تدارك الْمَسْبُوق حتما بَاقِي التَّكْبِيرَات بأذكارها وجوبا فِي الْوَاجِب وندبا فِي الْمَنْدُوب
وَيسن أَن لَا ترْتَفع الْجِنَازَة حَتَّى يتم الْمَسْبُوق وَلَا يضر رَفعهَا قبل إِتْمَامه
ثمَّ شرع فِي أكمل الدّفن الْمَوْعُود بِذكرِهِ فَقَالَ (ويدفن فِي لحد) وَهُوَ بِفَتْح اللَّام وَضمّهَا وَسُكُون الْحَاء فيهمَا أَصله الْميل وَالْمرَاد أَن يحْفر فِي أَسْفَل جَانب الْقَبْر القبلي مائلا عَن الاسْتوَاء قدر مَا يسع الْمَيِّت ويستره وَهُوَ أفضل من الشق بِفَتْح الْمُعْجَمَة إِن صلبت الأَرْض وَهُوَ أَن يحْفر قَعْر الْقَبْر كالنهر ويبنى جانباه بِلَبن أَو غَيره غير مَا مسته النَّار وَيجْعَل الْمَيِّت بَينهمَا أما الأَرْض الرخوة فالشق فِيهَا أفضل خشيَة الانهيار وَيُوضَع فِي اللَّحْد أَو غَيره (مُسْتَقْبل الْقبْلَة) وجوبا تَنْزِيلا لَهُ منزلَة الْمُصَلِّي فَلَو وَجه لغَيْرهَا نبش وَوجه للْقبْلَة وجوبا إِن لم يتَغَيَّر وَإِلَّا فَلَا وَيُوضَع الْمَيِّت ندبا عِنْد مُؤخر الْقَبْر الَّذِي سيصير عِنْد أَسْفَله رجل الْمَيِّت (ويسل) بِضَم حرف المضارعة على الْبناء للْمَفْعُول أَي يدْخل (من قبل) بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْمُوَحدَة أَي من جِهَة (رَأسه بِرِفْق) لما رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سل من قبل رَأسه ويدخله الأحق بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دَرَجَة فَلَا يدْخلهُ وَلَو أُنْثَى إِلَّا الرِّجَال لَكِن الأحق فِي الْأُنْثَى زوج وَإِن لم يكن لَهُ حق فِي الصَّلَاة فمحرم فعبدها لِأَنَّهُ كالمحرم فِي النّظر وَنَحْوه فممسوح فمجبوب فخصي لبَعض شهوتهم فأجنبي صَالح وَسن كَون الْمدْخل وترا وَاحِدًا فَأكْثر بِحَسب الْحَاجة وَسن ستر الْقَبْر بِثَوْب عِنْد الدّفن وَهُوَ لغير ذكر من أُنْثَى وَخُنْثَى آكِد احْتِيَاطًا (وَيَقُول الَّذِي يلحده) أَي يدْخلهُ الْقَبْر ندبا (باسم الله وعَلى مِلَّة) أَي دين (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لِلِاتِّبَاعِ وَفِي رِوَايَة وعَلى سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ويضجع فِي الْقَبْر) على يَمِينه ندبا كَمَا فِي الِاضْطِجَاع عِنْد النّوم فَإِن وضع على يسَاره كره وَلم ينبش وَينْدب أَن يُفْضِي بخده إِلَى الأَرْض (بعد أَن) يُوسع بِأَن يُزَاد فِي طوله وَعرضه وَأَن (يعمق) الْقَبْر وَهُوَ بِضَم حرف المضارعة وَفتح الْمُهْملَة الزِّيَادَة فِي النُّزُول (قامة وبسطة) من رجل معتدل لَهما وهما أَرْبَعَة أَذْرع وَنصف كَمَا صَوبه النَّوَوِيّ خلافًا للرافعي فِي قَوْله إنَّهُمَا ثَلَاثَة أَذْرع وَنصف تبعا للمحاملي وَينْدب أَن يسند وَجهه وَرجلَاهُ إِلَى جِدَار الْقَبْر وظهره بِنَحْوِ لبنة كحجر حَتَّى لَا ينكب وَلَا يستلقي وَأَن يسد فَتحه بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون التَّاء بِنَحْوِ لبن كطين بِأَن يَبْنِي بذلك ثمَّ يسد فرجه بِكَسْر لبن وطين أَو نَحْوهمَا وَكره أَن يَجْعَل لَهُ فرش ومخدة وصندوق لم يحْتَج إِلَيْهِ لِأَن فِي ذَلِك إِضَاعَة مَال أما إِذا احْتِيجَ إِلَى صندوق لنداوة وَنَحْوهَا كرخاوة فِي الأَرْض فَلَا يكره وَلَا تنفذ وَصيته إِلَّا حِينَئِذٍ وَلَا يكره دَفنه لَيْلًا مُطلقًا وَوقت كَرَاهَة صَلَاة مَا لم يتحره بِالْإِجْمَاع فَإِن تحراه كره كَمَا فِي الْمَجْمُوع (وَلَا يبْنى) على الْقَبْر نَحْو قبَّة كبيت (وَلَا يجصص) أَي يبيض بالجص وَهُوَ الجبس وَقيل الجير وَالْمرَاد هُنَا هما أَو أَحدهمَا أَي يكره الْبناء والتجصيص للنَّهْي عَنْهُمَا فِي صَحِيح مُسلم
وَخرج بتجصيصه تطيينه فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِهِ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوع إِنَّه الصَّحِيح وَتكره الْكِتَابَة عَلَيْهِ سَوَاء كتب عَلَيْهِ اسْم صَاحبه أم غَيره
وَيكرهُ أَن يَجْعَل على الْقَبْر مظلة لِأَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رأى قبَّة فنحاها وَقَالَ دَعوه يظله عمله
وَلَو بني عَلَيْهِ فِي مَقْبرَة مسبلة وَهِي الَّتِي جرت عَادَة أهل الْبَلَد بالدفن فِيهَا حرم وَهدم لِأَنَّهُ يضيق على النَّاس وَلَا فرق بَين أَن يَبْنِي قبَّة أَو بَيْتا أَو مَسْجِدا أَو غير ذَلِك وَمن المسبل كَمَا قَالَه الدَّمِيرِيّ قرافة مصر قَالَ ابْن عبد الحكم ذكر فِي تَارِيخ مصر أَن عَمْرو بن الْعَاصِ أعطَاهُ الْمُقَوْقس فِيهَا مَالا جزيلا وَذكر أَنه وجد فِي الْكتاب الأول أَنَّهَا تربة أهل الْجنَّة فكاتب عمر بن الْخطاب فِي ذَلِك فَكتب إِلَيْهِ إِنِّي لَا أعرف تربة الْجنَّة إِلَّا لأجساد الْمُؤمنِينَ فاجعلوها لموتاكم
وَينْدب أَن يرش الْقَبْر بِمَاء لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله بِقَبْر وَلَده إِبْرَاهِيم وَالْأولَى أَن يكون طهُورا بَارِدًا وَخرج بِالْمَاءِ مَاء الْورْد فالرش بِهِ(1/207)
مَكْرُوه لِأَنَّهُ إِضَاعَة مَال
وَقَالَ السُّبْكِيّ لَا بَأْس باليسير مِنْهُ إِن قصد بِهِ حُضُور الْمَلَائِكَة فَإِنَّهَا تحب الرَّائِحَة الطّيبَة انْتهى
وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَانِع من حُرْمَة إِضَاعَة المَال
وَيسن وضع الجريد الْأَخْضَر على الْقَبْر وَكَذَا الريحان وَنَحْوه من الشَّيْء الرطب وَلَا يجوز للْغَيْر أَخذه من على الْقَبْر قبل يبسه لِأَن صَاحبه لم يعرض عَنهُ إِلَّا عِنْد يبسه لزوَال نَفعه الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقت رطوبته وَهُوَ الاسْتِغْفَار وَأَن يضع عِنْد رَأسه حجرا أَو خَشَبَة أَو نَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وضع عِنْد رَأس عُثْمَان بن مَظْعُون صَخْرَة وَقَالَ أتعلم بهَا قبر أخي لأدفن إِلَيْهِ من مَاتَ من أَهلِي وَينْدب جمع أقَارِب الْمَيِّت فِي مَوضِع وَاحِد من الْمقْبرَة لِأَنَّهُ أسهل على الزائر والدفن فِي الْمقْبرَة أفضل مِنْهُ بغَيْرهَا لينال الْمَيِّت دُعَاء المارين والزائرين وَيكرهُ الْمبيت بهَا لما فِيهَا من الوحشة وَينْدب زِيَارَة الْقُبُور الَّتِي فِيهَا الْمُسلمُونَ للرِّجَال بِالْإِجْمَاع وَكَانَت زيارتها مَنْهِيّا عَنْهَا ثمَّ نسخت بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها وَيكرهُ زيارتها للنِّسَاء لِأَنَّهَا مَظَنَّة لطلب بكائهن وَرفع أصواتهن نعم ينْدب لَهُنَّ زِيَارَة قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهَا من أعظم القربات وَيَنْبَغِي أَن يلْحق بذلك بَقِيَّة الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَالشُّهَدَاء وَينْدب أَن يسلم الزائر لقبور الْمُسلمين مُسْتَقْبلا وَجه الْمَيِّت قَائِلا مَا علمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خَرجُوا للمقابر السَّلَام على أهل الدَّار من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون أسأَل الله لي وَلكم الْعَافِيَة أَو السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون رَوَاهُمَا مُسلم وَزَاد أَبُو دَاوُد اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنَا أجرهم وَلَا تفتنا بعدهمْ لَكِن بِسَنَد ضَعِيف وَقَوله إِن شَاءَ الله للتبرك وَيقْرَأ عِنْدهم مَا تيَسّر من الْقُرْآن فَإِن الرَّحْمَة تنزل فِي مَحل الْقِرَاءَة وَالْمَيِّت كحاضر ترجى لَهُ الرَّحْمَة وَيَدْعُو لَهُ عقب الْقِرَاءَة لِأَن الدُّعَاء ينفع الْمَيِّت وَهُوَ عقب الْقِرَاءَة أقرب إِلَى الْإِجَابَة وَأَن يقرب زَائِره مِنْهُ كقربه مِنْهُ فِي زيارته حَيا احتراما لَهُ قَالَه النَّوَوِيّ وَيسْتَحب الْإِكْثَار من الزِّيَارَة وَأَن يكثر الْوُقُوف عِنْد قُبُور أهل الْخَيْر وَالْفضل
(وَلَا بَأْس بالبكاء على الْمَيِّت) قبل الْمَوْت وَبعده قَالَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا والبكاء قبل الْمَوْت أولى من بعده لَكِن الأولى عَدمه بِحَضْرَة المحتضر والبكاء عَلَيْهِ بعد الْمَوْت خلاف الأولى لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون أسفا على مَا فَاتَ نَقله فِي الْمَجْمُوع عَن الْجُمْهُور وَلَكِن يكون (من غير نوح) وَهُوَ رفع الصَّوْت بالندب قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ حرَام لخَبر النائحة إِذا لم تتب تقوم يَوْم الْقِيَامَة وَعَلَيْهَا سربال من قطران وَدرع من جرب رَوَاهُ مُسلم والسربال الْقَمِيص والدرع قَمِيص فَوْقه (وَلَا شقّ جيب) وَنَحْوه كنشر شعر وتسويد وَجه وإلقاء رماد على رَأس وَرفع صَوت بإفراط فِي الْبكاء أَي يحرم ذَلِك لخَبر الشَّيْخَيْنِ لَيْسَ منا من ضرب الخدود وشق الْجُيُوب ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة والجيب هُوَ تَقْدِير مَوضِع دُخُول رَأس اللابس من الثَّوْب قَالَ صَاحب الْمطَالع
وَيحرم أَيْضا الْجزع بِضَرْب صَدره وَنَحْوه كضرب خد وَمن ذَلِك أَيْضا تَغْيِير الزي وَلبس غير مَا جرت بِهِ الْعَادة وَالضَّابِط كل فعل يتَضَمَّن إِظْهَار جزع يُنَافِي الانقياد والاستسلام لقَضَاء الله تَعَالَى وَلَا يعذب الْمَيِّت بِشَيْء من ذَلِك مَا لم يوص بِهِ
قَالَ تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} خلاف مَا إِذا أوصى بِهِ وَعَلِيهِ حمل الْجُمْهُور الْأَخْبَار الْوَارِدَة بتعذيب الْمَيِّت على ذَلِك وَالأَصَح كَمَا قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد أَن مَا ذكر مَحْمُول على الْكَافِر وَغَيره من أَصْحَاب الذُّنُوب
وتندب الْمُبَادرَة بِقَضَاء دين الْمَيِّت إِن تيَسّر حَالا
قبل الِاشْتِغَال بتجهيزه لخَبر نفس الْمُؤمن أَي روحه معلقَة أَي محبوسة عَن مقَامهَا الْكَرِيم بِدِينِهِ حَتَّى يقْضى عَنهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه وَتجب الْمُبَادرَة عِنْد طلب الْمُسْتَحق حَقه وبتنفيذ وَصيته وَتجب عِنْد طلب الْمُوصى لَهُ الْمعِين وَكَذَا عِنْد المكنة فِي الْوَصِيَّة للْفُقَرَاء وَنَحْوهم من ذَوي الْحَاجَات أَو كَانَ قد أوصى بتعجيلها
وَيكرهُ تمني الْمَوْت لضر نزل فِي بدنه أَو ضيق فِي دُنْيَاهُ إِلَّا لفتنة دين فَلَا يكره كَمَا فِي الْمَجْمُوع أما تمنيه لغَرَض أخروي فمحبوب كتمني الشَّهَادَة فِي سَبِيل الله(1/208)
وَيسن التَّدَاوِي لخَبر إِن الله لم يضع دَاء إِلَّا جعل لَهُ دَوَاء غير الْهَرم قَالَ فِي الْمَجْمُوع فَإِن ترك التَّدَاوِي توكلا على الله فَهُوَ أفضل وَيكرهُ إِكْرَاه الْمَرِيض عَلَيْهِ وَكَذَا إكراهه على الطَّعَام وَيجب أَن يستعد للْمَوْت كل مُكَلّف بتوبة بِأَن يُبَادر بهَا لِئَلَّا يفجأه الْمَوْت المفوت لَهَا وَيسن أَن يكثر من ذكر الْمَوْت لخَبر أَكْثرُوا من ذكر هاذم اللَّذَّات فَإِنَّهُ مَا يذكر فِي كثير إِلَّا قلله وَلَا قَلِيل إِلَّا كثره أَي كثير من الأمل فِي الدُّنْيَا وَقَلِيل من الْعَمَل
وهاذم بِالْمُعْجَمَةِ أَي قَاطع وَيحرم نقل الْمَيِّت قبل دَفنه من مَحل مَوته إِلَى مَحل أبعد من مَقْبرَة مَحل مَوته ليدفن فِيهِ إِلَّا أَن يكون بِقرب مَكَّة أَو الْمَدِينَة أَو بَيت الْمُقَدّس نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي لفضلها
(ويعزى) ندبا (أَهله) أَي الْمَيِّت كَبِيرهمْ وصغيرهم وَذكرهمْ وأنثاهم لما رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن مَا من مُسلم يعزي أَخَاهُ بمصيبة إِلَّا كَسَاه الله من حلل الْكَرَامَة يَوْم الْقِيَامَة نعم الشَّابَّة لَا يعزيها أَجْنَبِي وَإِنَّمَا يعزيها محارمها وَزوجهَا وَكَذَا من ألحق بهم فِي جَوَاز النّظر فِيمَا يظْهر وَصرح ابْن خيران بِأَنَّهُ يسْتَحبّ التَّعْزِيَة بالمملوك بل قَالَ الزَّرْكَشِيّ يسْتَحبّ أَن يعزى بِكُل من يحصل لَهُ عَلَيْهِ وجد كَمَا ذكره الْحسن الْبَصْرِيّ حَتَّى الزَّوْجَة وَالصديق وتعبيرهم بالأهل جري على الْغَالِب وتندب الْبدَاءَة بأضعفهم عَن حمل الْمُصِيبَة وَتسن قبل دَفنه لِأَنَّهُ وَقت شدَّة الْجزع والحزن وَلَكِن بعده أولى لاشتغالهم قبله بتجهيزه إِلَّا إِن أفرط حزنهمْ فتقديمها أولى ليصبرهم
وغايتها (إِلَى) آخر (ثَلَاثَة أَيَّام) تَقْرِيبًا تمْضِي (من) وَقت الْمَوْت لحاضر وَمن الْقدوم لغَائِب وَقيل من وَقت (دَفنه) وَمثل الْغَائِب الْمَرِيض والمحبوس فتكره التَّعْزِيَة بعْدهَا إِذْ الْغَرَض مِنْهَا تسكين قلب الْمُصَاب وَالْغَالِب سكونه فِيهَا فَلَا يجدد حزنه بهَا وَيُقَال فِي تَعْزِيَة الْمُسلم بِالْمُسلمِ أعظم الله أجرك أَي جعله عَظِيما وَأحسن عزاءك أَي جعله حسنا وَغفر لميتك وَيُقَال فِي تعزيته بالكافر الذِّمِّيّ أعظم الله أجرك وصبرك وأخلف عَلَيْك أَو جبر مصيبتك أَو نَحْو ذَلِك وَيُقَال فِي تَعْزِيَة الْكَافِر بِالْمُسلمِ غفر الله لميتك وَأحسن عزاءك أما الْكَافِر غير الْمُحْتَرَم من حَرْبِيّ أَو مُرْتَد كَمَا بَحثه الْأَذْرَعِيّ فَلَا يعزى وَهل هُوَ حرَام أَو مَكْرُوه الظَّاهِر فِي الْمُهِمَّات الأول وَمُقْتَضى كَلَام الشَّيْخ أبي حَامِد الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِر هَذَا إِن لم يرج إِسْلَامه فَإِن رُجي إِسْلَامه اسْتحبَّ كَمَا يُؤْخَذ من كَلَام السُّبْكِيّ وَأما تَعْزِيَة الْكَافِر بالكافر فَهِيَ غير مَنْدُوبَة كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الشَّرْح وَالرَّوْضَة بل هِيَ جَائِزَة إِن لم يرج إِسْلَامه وصيغتها أخلف الله عَلَيْك وَلَا نقص عددك لِأَن ذَلِك ينفعنا فِي الدُّنْيَا بِكَثْرَة الْجِزْيَة وَفِي الْآخِرَة بِالْفِدَاءِ من النَّار
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ مُشكل لِأَنَّهُ دُعَاء بدوام الْكفْر فالمختار تَركه وَمنعه ابْن النَّقِيب لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْبَقَاء على الْكفْر وَلَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيله بتكثير الْجِزْيَة
(وَلَا يدْفن اثْنَان) ابْتِدَاء (فِي قبر وَاحِد) بل يفرد كل ميت بِقَبْر حَالَة الِاخْتِيَار لِلِاتِّبَاعِ فَلَو جمع اثْنَان فِي قبر واتحد الْجِنْس كرجلين أَو امْرَأتَيْنِ كره عِنْد الْمَاوَرْدِيّ وَحرم عِنْد السَّرخسِيّ وَنَقله عَنهُ النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه مُقْتَصرا عَلَيْهِ وعقبه بقوله وَعبارَة الْأَكْثَرين وَلَا يدْفن اثْنَان فِي قبر وَنَازع فِي التَّحْرِيم السُّبْكِيّ وَسَيَأْتِي مَا يُقَوي التَّحْرِيم (إِلَّا لحَاجَة) أَي الضَّرُورَة كَمَا فِي كَلَام الشَّيْخَيْنِ كَأَن كثر الْمَوْتَى وعسر إِفْرَاد كل ميت بِقَبْر فَيجمع بَين الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَالْأَكْثَر فِي قبر بِحَسب الضَّرُورَة وَكَذَا فِي ثوب لِلِاتِّبَاعِ فِي قَتْلَى أحد رَوَاهُ البُخَارِيّ
فَيقدم حِينَئِذٍ أفضلهما ندبا وَهُوَ الأحق بِالْإِمَامَةِ إِلَى جِدَار الْقَبْر القبلي لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يسْأَل فِي قَتْلَى أحد عَن أَكْثَرهم قُرْآنًا فَيقدمهُ إِلَى اللَّحْد لَكِن لَا يقدم فرع على أَصله من جنسه وَإِن علا حَتَّى يقدم الْجد وَلَو من قبل الْأُم وَكَذَا الْجدّة قَالَه الْإِسْنَوِيّ فَيقدم الْأَب على الابْن وَإِن كَانَ أفضل مِنْهُ لحُرْمَة الْأُبُوَّة وَتقدم الْأُم على الْبِنْت وَإِن كَانَت أفضل مِنْهَا أما الابْن مَعَ الْأُم فَيقدم لفضيلة الذُّكُورَة وَيقدم الرجل على الصَّبِي وَالصَّبِيّ على الْخُنْثَى وَالْخُنْثَى على الْمَرْأَة(1/209)
وَلَا يجمع رجل وَامْرَأَة فِي قبر وَاحِد إِلَّا لضَرُورَة فَيحرم عِنْد عدمهَا كَمَا فِي الْحَيَاة
قَالَ ابْن الصّلاح وَمحله إِذا لم يكن بَينهمَا محرمية أَو زوجية وَإِلَّا فَيجوز الْجمع
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَهُوَ مُتَّجه
وَالَّذِي فِي الْمَجْمُوع أَنه لَا فرق فَقَالَ إِنَّه حرَام حَتَّى فِي الْأُم مَعَ وَلَدهَا وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر إِذْ الْعلَّة فِي منع الْجمع الْإِيذَاء لِأَن الشَّهْوَة قد انْقَطَعت فَلَا فرق بَين الْمحرم وَغَيره وَلَا بَين أَن يَكُونَا من جنس وَاحِد أم لَا وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى أَو غَيره كالأنثى مَعَ الذّكر وَالصَّغِير الَّذِي لم يبلغ حد الشَّهْوَة كالمحرم ويحجز بَين الميتين بِتُرَاب حَيْثُ جمع بَينهمَا ندبا كَمَا جزم بِهِ ابْن الْمقري فِي شرح إرشاده وَلَو اتَّحد الْجِنْس
وَأما نبشه بعد دَفنه وَقبل البلى عِنْد أهل الْخِبْرَة بِتِلْكَ الأَرْض للنَّقْل وَغَيره كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وتكفينه فَحَرَام لِأَن فِيهِ هتكا لِحُرْمَتِهِ إِلَّا لضَرُورَة كَأَن دفن بِلَا غسل وَلَا تيَمّم بِشَرْطِهِ وَهُوَ مِمَّن يجب غسله لِأَنَّهُ وَاجِب فاستدرك عِنْد قربه فَيجب على الْمَشْهُور نبشه وغسله إِن لم يتَغَيَّر أَو دفن فِي أَرض أَو فِي ثوب مغصوبين وطالب بهما مالكهما فَيجب النبش وَلَو تغير الْمَيِّت ليصل الْمُسْتَحق إِلَى حَقه وَيسن لصاحبهما التّرْك
وَمحل النبش فِي الثَّوْب إِذا وجد مَا يُكفن فِيهِ الْمَيِّت وَإِلَّا فَلَا يجوز النبش كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الشَّيْخ أبي حَامِد وَغَيره
قَالَ الرَّافِعِيّ والكفن الْحَرِير أَي للرجل كالمغصوب
قَالَ النَّوَوِيّ وَفِيه نظر وَيَنْبَغِي أَن يقطع فِيهِ بِعَدَمِ النبش انْتهى
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد لِأَنَّهُ حق الله تَعَالَى أَو وَقع فِي الْقَبْر مَال وَإِن قل كخاتم فَيجب نبشه وَإِن تغير الْمَيِّت لِأَن تَركه فِيهِ إِضَاعَة مَال
وَقَيده فِي الْمُهَذّب بِطَلَب مَالِكه وَهُوَ الَّذِي يظْهر اعْتِمَاده قِيَاسا على الْكَفَن وَالْفرق بِأَن الْكَفَن ضَرُورِيّ لَا يجدي وَلَو بلع مَالا لغيره وَطَلَبه صَاحبه كَمَا فِي الرَّوْضَة وَلم يضمن مثله أَو قِيمَته أحد من الْوَرَثَة أَو غَيرهم كَمَا فِي الرَّوْضَة نبش وشق جَوْفه وَأخرجه مِنْهُ ورد لصَاحبه أما إِذا ابتلع مَال نَفسه فَإِنَّهُ لَا ينبش وَلَا يشق لاستهلاكه مَاله فِي حَال حَيَاته أَو دفن لغير الْقبْلَة فَيجب نبشه مَا لم يتَغَيَّر وَيُوجه للْقبْلَة بِخِلَاف مَا إِذا دفن بِلَا تكفين فَإِنَّهُ لَا ينبش لِأَن الْغَرَض بالتكفين السّتْر وَقد حصل السّتْر بِالتُّرَابِ
تَتِمَّة يسن أَن يقف جمَاعَة بعد دَفنه عِنْد قَبره سَاعَة يسْأَلُون لَهُ التثبيت لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا فرغ من دفن ميت وقف عَلَيْهِ وَقَالَ اسْتَغْفرُوا لأخيكم واسألوا لَهُ التثبيت فَإِنَّهُ الْآن يسْأَل وَيسن تلقين الْمَيِّت الْمُكَلف بعد الدّفن لحَدِيث ورد فِيهِ
قَالَ فِي الرَّوْضَة والْحَدِيث وَإِن كَانَ ضَعِيفا لكنه اعتضد بشواهد من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَلم تزل النَّاس على الْعَمَل بِهِ من الْعَصْر الأول فِي زمن من يقْتَدى بِهِ وَيقْعد الملقن عِنْد رَأس الْقَبْر أما غير الْمُكَلف وَهُوَ الطِّفْل وَنَحْوه مِمَّن لم يتقدمه تَكْلِيف فَلَا يسن تلقينه لِأَنَّهُ لَا يفتن فِي قَبره
يسن لنَحْو جيران أهل الْمَيِّت كأقاربه الْبعدَاء وَلَو كَانُوا بِبَلَد وَهُوَ بِأُخْرَى تهيئة طَعَام يشبعهم يَوْمًا وَلَيْلَة لشغلهم بالحزن عَنهُ وَأَن يلح عَلَيْهِم فِي الْأكل لِئَلَّا يضعفوا بِتَرْكِهِ وَحرم تهيئته لنَحْو نائحة كنادبة لِأَنَّهَا إِعَانَة على مَعْصِيّة قَالَ ابْن الصّباغ وَغَيره أما اصطناع أهل الْمَيِّت طَعَاما وَجمع النَّاس عَلَيْهِ فبدعة غير مُسْتَحبَّة(1/210)
= كتاب الزَّكَاة = وَهِي لُغَة النمو وَالْبركَة وَزِيَادَة الْخَيْر يُقَال زكا الزَّرْع إِذْ نما وزكت النَّفَقَة إِذا بورك فِيهَا وَفُلَان زاك أَي كثير الْخَيْر وَتطلق على التَّطْهِير قَالَ تَعَالَى {قد أَفْلح من زكاها} طهرهَا من الأدناس وَتطلق أَيْضا على الْمَدْح قَالَ تَعَالَى {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} أَي تمدحوها شرعا اسْم لقدر مَخْصُوص من مَال مَخْصُوص يجب صرفه لأصناف مَخْصُوصَة بشرائط تَأتي وَسميت بذلك لِأَن المَال يَنْمُو ببركة إخْرَاجهَا وَدُعَاء الْآخِذ لَهَا وَلِأَنَّهَا تطهر مخرجها من الْإِثْم وتمدحه حَتَّى تشهد لَهُ بِصِحَّة الْإِيمَان
وَالْأَصْل فِي وُجُوبهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَآتوا الزَّكَاة} وَقَوله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} وأخبار كَخَبَر بني الْإِسْلَام على خمس وَهِي أحد أَرْكَان الْإِسْلَام لهَذَا الْخَبَر
يكفر جاحدها وَإِن أَتَى بهَا وَهَذَا فِي الزَّكَاة الْمجمع عَلَيْهَا بِخِلَاف الْمُخْتَلف فِيهَا كالركاز وَيُقَاتل الْمُمْتَنع من أَدَائِهَا عَلَيْهَا وَتُؤْخَذ مِنْهُ قهرا كَمَا فعل الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وفرضت فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة بعد زَكَاة الْفطر (تجب الزَّكَاة فِي خَمْسَة أَشْيَاء) من أَنْوَاع المَال (وَهِي الْمَوَاشِي والأثمان والزروع وَالثِّمَار وعروض التِّجَارَة) وَهَذِه الْأَنْوَاع ثَمَانِيَة أَصْنَاف من أَجنَاس المَال الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم الإنسية وَالذَّهَب وَالْفِضَّة والزروع وَالنَّخْل وَالْكَرم وَمن ذَلِك وَجَبت لثمانية أَصْنَاف من طَبَقَات النَّاس (فَأَما الْمَوَاشِي) جمع مَاشِيَة وَهِي تطلق على كل شَيْء من الدَّوَابّ والأنعام وَلما كَانَ ذَلِك لَيْسَ بِمُرَاد بَين المُصَنّف المُرَاد مِنْهَا بقوله (فَتجب الزَّكَاة فِي ثَلَاثَة أَجنَاس مِنْهَا) فَقَط (وَهِي الْإِبِل) بِكَسْر الْبَاء اسْم جمع لَا وَاحِدَة لَهُ من لَفظه وتسكن باؤه للتَّخْفِيف وَيجمع على آبال كحمل وأحمال (وَالْبَقر) وَهُوَ اسْم جنس وَاحِدَة بقرة وباقورة للذّكر وَالْأُنْثَى سمي بذلك لِأَنَّهُ(1/211)
يبقر الأَرْض أَي يشقها بالحراثة (وَالْغنم) وَهُوَ اسْم جنس للذّكر وَالْأُنْثَى لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه فَلَا تجب فِي الْخَيل وَلَا فِي الرَّقِيق وَلَا فِي الْمُتَوَلد من غنم وظباء وَأما الْمُتَوَلد من وَاحِد من النعم وَمن آخر مِنْهَا كالمتولد بَين إبل وبقر فقضية كَلَامهم أَنَّهَا تجب فِيهِ
وَقَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ يَنْبَغِي الْقطع بِهِ
قَالَ وَالظَّاهِر أَنه يزكّى زَكَاة أخفهما فالمتولد بَين الْإِبِل وَالْبَقر يُزكي زَكَاة الْبَقر لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن (وشرائط وُجُوبهَا) أَي زَكَاة الْمَاشِيَة الَّتِي هِيَ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم (سِتَّة أَشْيَاء)
الأول (الْإِسْلَام) لقَوْل الصّديق رَضِي الله عَنهُ هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُسلمين
فَلَا تجب على كَافِر وجوب مُطَالبَة وَإِن كَانَ يُعَاقب على تَركهَا فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ مُكَلّف بِفُرُوع الشَّرِيعَة
نعم الْمُرْتَد تُؤْخَذ مِنْهُ بعد وُجُوبهَا عَلَيْهِ أسلم أم لَا مُؤَاخذَة لَهُ بِحكم الْإِسْلَام هَذَا إِذا لَزِمته قبل ردته وَمَا لزمَه فِي ردته فَهُوَ مَوْقُوف كَمَاله إِن عَاد إِلَى الْإِسْلَام لزمَه أَدَاؤُهَا لتبين بَقَاء ملكه وَإِلَّا فَلَا
(و) الثَّانِي (الْحُرِّيَّة) فَلَا تجب على رَقِيق وَلَو مُدبرا ومعلقا عتقه بِصفة ومكاتبا لضعف ملك الْمكَاتب وَلعدم ملك غَيره
نعم تجب على من ملك بِبَعْضِه الْحر نِصَابا لتَمام ملكه
(و) الثَّالِث (الْملك التَّام) فَلَا تجب فِيمَا لَا يملكهُ ملكا تَاما كَمَال كِتَابَة إِذْ للْعَبد إِسْقَاطه مَتى شَاءَ وَتجب فِي مَال مَحْجُور عَلَيْهِ والمخاطب بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ وليه وَلَا تجب فِي مَال وقف لجنين إِذْ لَا وثوق بِوُجُودِهِ وحياته
وَتجب فِي مَغْصُوب وضال ومجحود وغائب وَإِن تعذر أَخذه ومملوك بِعقد قبل قَبضه لِأَنَّهَا ملكت ملكا تَاما وَفِي دين لَازم من نقد وعروض تِجَارَة لعُمُوم الْأَدِلَّة وَلَا يمْنَع دين وَلَو حجر بِهِ وُجُوبهَا وَلَو اجْتمع زَكَاة وَدين آدَمِيّ فِي تَرِكَة بِأَن مَاتَ قبل أَدَائِهَا وَضَاقَتْ التَّرِكَة عَنْهُمَا قدمت الزَّكَاة على الدّين تَقْدِيمًا لدين الله تَعَالَى
وَفِي خبر الصَّحِيحَيْنِ وَدين الله أَحَق بِالْقضَاءِ وَخرج بدين الْآدَمِيّ دين الله تَعَالَى كَزَكَاة وَحج فَالْوَجْه كَمَا قَالَه السُّبْكِيّ أَن يُقَال إِن كَانَ النّصاب مَوْجُودا قدمت الزَّكَاة وَإِلَّا فيستويان وبالتركة مَا لَو اجْتمعَا على حَيّ فَإِن كَانَ مَحْجُورا عَلَيْهِ قدم حق الْآدَمِيّ إِذا لم تتَعَلَّق الزَّكَاة بِالْعينِ وَإِلَّا قدمت مُطلقًا
(و) الشَّرْط (الرَّابِع) (النّصاب) بِكَسْر النُّون اسْم لقدر مَعْلُوم مِمَّا تجب فِيهِ الزَّكَاة
قَالَه النَّوَوِيّ فِي تحريره فَلَا زَكَاة فِيمَا دونه
(و) الْخَامِس (الْحول) لخَبر لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول وَهُوَ وَإِن كَانَ ضَعِيفا مجبور بآثار صَحِيحَة عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَغَيرهم والحول كَمَا فِي الْمُحكم سنة كَامِلَة فَلَا تجب قبل تَمَامه وَلَو بلحظة
وَلَكِن لنتاج نِصَاب ملكه بِسَبَب(1/212)
ملك النّصاب حول النّصاب وَإِن مَاتَت الْأُمَّهَات لقَوْل عمر رَضِي الله عَنهُ لساعيه اعْتد عَلَيْهِم بالسخلة
وَأَيْضًا الْمَعْنى فِي اشْتِرَاط الْحول أَن يحصل النَّمَاء والنتاج نَمَاء عَظِيم فَيتبع الْأُصُول فِي الْحول وَلَو ادّعى الْمَالِك النِّتَاج بعد الْحول صدق لِأَن الأَصْل عدم وجوده قبله فَإِن اتهمه السَّاعِي سنّ تَحْلِيفه
(و) السَّادِس (السّوم) وَهُوَ إسامة مَالك لَهَا كل الْحول واختصت السَّائِمَة بِالزَّكَاةِ لتوفر مؤنتها بالرعي فِي كلأ مُبَاح أَو مَمْلُوك قِيمَته يسيرَة لَا يعد مثلهَا كلفة فِي مُقَابلَة نمائها لَكِن لَو عَلفهَا قدرا تعيش بِدُونِهِ بِلَا ضَرَر بَين وَلم يقْصد بِهِ قطع سوم لم يضر أما لَو سامت بِنَفسِهَا أَو أسامها غير مَالِكهَا كغاصب أَو اعتلفت سَائِمَة أَو علفت مُعظم الْحول أَو قدرا لَا تعيش بِدُونِهِ أَو تعيش لَكِن بِضَرَر بَين أَو بِلَا ضَرَر بَين لَكِن قصد بِهِ قطع سوم أَو ورثهَا وَتمّ حولهَا وَلم يعلم فَلَا زَكَاة لفقد إسامة الْمَالِك الْمَذْكُور
والماشية تصبر عَن الْعلف يَوْمًا ويومين لَا ثَلَاثَة
(وَأما الْأَثْمَان فشيئان) وهما (الذَّهَب وَالْفِضَّة)
وَالْأَصْل فِي وجوب الزَّكَاة فِي ذَلِك قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} والكنز الَّذِي لم تُؤَد زَكَاته
تَنْبِيه قَضِيَّة تَفْسِير المُصَنّف الْأَثْمَان بِالذَّهَب وَالْفِضَّة شُمُول الْأَثْمَان لغير الْمَضْرُوب فَإِن الذَّهَب وَالْفِضَّة يُطلق على الْمَضْرُوب وعَلى غَيره وَلَيْسَ مرَادا وَإِنَّمَا هِيَ الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم خَاصَّة كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي تحريره وَحِينَئِذٍ فإطلاق المُصَنّف غير مُطَابق لتفسير الْأَثْمَان وَإِن كَانَ حسنا من حَيْثُ شُمُول الْمَضْرُوب وَغَيره فَإِنَّهُ المُرَاد هُنَا
(وشرائط وجوب الزَّكَاة فِيهَا) أَي الْأَثْمَان وَلَو قَالَ فيهمَا ليعود على الذَّهَب وَالْفِضَّة لَكَانَ أولى لما تقدم (خمس) (الْإِسْلَام وَالْحريَّة وَالْملك التَّام والنصاب والحول) ومحترزاتها مَعْلُومَة مِمَّا تقدم وَلَو زَالَ ملكه فِي الْحول عَن النّصاب أَو بعضه بِبيع أَو غَيره فَعَاد بشرَاء أَو غَيره اسْتَأْنف الْحول لانْقِطَاع الأول بِمَا فعله فَصَارَ ملكا جَدِيدا فَلَا بُد لَهُ من حول للْحَدِيث الْمُتَقَدّم وَإِذا فعل ذَلِك بِقصد الْفِرَار من الزَّكَاة كره كَرَاهَة تَنْزِيه لِأَنَّهُ فرار من الْقرْبَة بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ لحَاجَة أَولهَا وللفرار أَو مُطلقًا على مَا أفهمهُ كَلَامهم
فَإِن قيل يشكل عدم الْكَرَاهَة فِيمَا إِذا كَانَ لحَاجَة وَقصد الْفِرَار بِمَا إِذا اتخذ ضبة صَغِيرَة لزينة وحاجة أُجِيب بِأَن الضبة فِيهَا اتِّخَاذ فقوي الْمَنْع بِخِلَاف الْفِرَار
وَلَو بَاعَ النَّقْد بعضه بِبَعْض للتِّجَارَة كالصيارفة اسْتَأْنف الْحول كلما بادل وَلذَلِك قَالَ ابْن سُرَيج بشر الصيارفة بِأَن لَا زَكَاة عَلَيْهِم
(وَأما الزروع فَتجب الزَّكَاة فِيهَا بِثَلَاثَة شَرَائِط) الأول (أَن يكون مِمَّا يزرعه) أَي يتَوَلَّى أَسبَابه (الآدميون) كالحنطة وَالشعِير والأرز والعدس (و) الثَّانِي (أَن يكون) الزَّرْع (قوتا مدخرا) كالحمص والباقلاء وَهِي بِالتَّشْدِيدِ مَعَ الْقصر الفول والذرة(1/213)
وَهِي بِمُعْجَمَة مَضْمُومَة ثمَّ رَاء مُخَفّفَة والهرطمان وَهُوَ بِضَم الْهَاء والطاء الجلبان بِضَم الْجِيم والماش وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ نوع من الجلبان فَتجب الزَّكَاة فِي جَمِيع ذَلِك لورودها فِي بعض الْأَخْبَار وَألْحق بِهِ الْبَاقِي وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ومعاذ حِين بعثهما إِلَى الْيمن فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِم لَا تأخذا الصَّدَقَة إِلَّا من أَرْبَعَة الشّعير وَالْحِنْطَة وَالتَّمْر وَالزَّبِيب فالحصر فِيهِ إضافي أَي بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ مَوْجُودا عِنْدهم وَخرج بالقوت غَيره كخوخ ورمان وتين ولوز وتفاح ومشمش وبالاختيار مَا يقتات فِي الجدب اضطرارا كحبوب الْبَوَادِي كحب الحنظل وَحب الغاسول وَهُوَ الأشنان فَلَا زَكَاة فِيهَا كَمَا لَا زَكَاة فِي الوحشيات من الظباء وَنَحْوهَا وأبدل المُصَنّف تبعا لغيره قيد الِاخْتِيَار بِمَا يزرعه الآدميون وَعبارَة التَّنْبِيه مِمَّا يستنبته الآدميون لِأَن مَا لَا يزرعونه وَلَا يستنبتونه لَيْسَ فِيهِ شَيْء يقتات اخْتِيَارا
تَنْبِيه يسْتَثْنى من إِطْلَاق المُصَنّف مَا لَو حمل السَّيْل حبا تجب فِيهِ الزَّكَاة من دَار الْحَرْب فنبت بأرضنا فَإِنَّهُ زَكَاة فِيهِ كالنخل الْمُبَاح فِي الصَّحرَاء وَكَذَا ثمار الْبُسْتَان وغلة الْقرْيَة الموقوفين على الْمَسَاجِد والربط والقناطر والفقراء وَالْمَسَاكِين لَا تجب الزَّكَاة فِيهَا على الصَّحِيح إِذْ لَيْسَ لَهَا مَالك معِين وَلَو أَخذ الإِمَام الْخراج على أَن يكون بَدَلا عَن الْعشْر كَأَن أَخذ الْقيمَة فِي الزَّكَاة بِالِاجْتِهَادِ فَيسْقط بِهِ الْفَرْض وَإِن نقص عَن الْوَاجِب تممه
(و) الثَّالِث (أَن يكون نِصَابا) كَامِلا (وَهُوَ خَمْسَة أوسق) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
والوسق بِالْفَتْح على الْأَفْصَح وَهُوَ مصدر بِمَعْنى الْجمع سمي بِهِ هَذَا الْمِقْدَار لأجل مَا جمعه من الصيعان
قَالَ الله تَعَالَى {وَاللَّيْل وَمَا وسق} أَي جمع وَسَيَأْتِي بَيَان الأوسق بِالْوَزْنِ فِي كَلَامه وقدرها بِالْكَيْلِ فِي الشَّرْح وَيعْتَبر فِي الْخَمْسَة الأوسق أَن تكون مصفاة من تبنها (لَا قشر عَلَيْهَا) لِأَن ذَلِك لَا يُؤْكَل مَعهَا
وَأما مَا ادخر فِي قشره وَلم يُؤْكَل مَعَه من أرز وعلس بِفَتْح الْعين وَاللَّام نوع من الْبر فنصابه عشرَة أوسق غَالِبا اعْتِبَارا بقشره الَّذِي ادخاره فِيهِ دصلح لَهُ وَأبقى وَلَا يكمل فِي النّصاب جنس بِجِنْس كالحنطة مَعَ الشّعير ويكمل فِي نِصَاب نوع بآخر كبر بعلس لِأَنَّهُ نوع مِنْهُ كَمَا مر وَيخرج من كل نوع من النَّوْعَيْنِ بِقسْطِهِ فَإِن عسر إِخْرَاجه لِكَثْرَة الْأَنْوَاع وَقلة مِقْدَار كل نوع مِنْهَا أخرج الْوسط مِنْهَا لَا أَعْلَاهَا وَلَا أدناها رِعَايَة للجانبين وَلَو تكلّف وَأخرج من كل نوع قسطه جَازَ بل هُوَ الْأَفْضَل
والسلت بِضَم السِّين وَسُكُون اللَّام جنس مُسْتَقل لِأَنَّهُ يشبه الشّعير فِي برودة الطَّبْع وَالْحِنْطَة فِي اللَّوْن وَالْمُلَامَسَة فاكتسب من تركب الشبهين طبعا انْفَرد بِهِ وَصَارَ أصلا بِرَأْسِهِ فَلَا يضم إِلَى غَيره (وَأما الثِّمَار فَتجب الزَّكَاة فِي شَيْئَيْنِ مِنْهَا) فَقَط وهما (ثَمَرَة النّخل وَثَمَرَة الْكَرم) أَي الْعِنَب لِأَنَّهُمَا من الأقوات المدخرة وَلَو عبر المُصَنّف بالعنب لَكَانَ أولى لوُرُود النَّهْي عَن تَسْمِيَته بِالْكَرمِ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تسموا الْعِنَب كرما إِنَّمَا الْكَرم الرجل الْمُسلم رَوَاهُ مُسلم
فَقيل سمي كرما من الْكَرم بِفَتْح الرَّاء لِأَن الْخمْرَة المتخذة مِنْهُ تحمل عَلَيْهِ فكره أَن يُسمى بِهِ وَجعل الْمُؤمن أَحَق بِمَا يشتق من الْكَرم يُقَال رجل كرم بِإِسْكَان الرَّاء وَفتحهَا أَي كريم
وثمرات النخيل وَالْأَعْنَاب أفضل الثِّمَار وشجرهما أفضل بالِاتِّفَاقِ وَاخْتلفُوا فِي أَيهمَا أفضل وَالرَّاجِح أَن النّخل أفضل لوُرُود أكْرمُوا عماتكم النّخل المطعمات فِي(1/214)
الْمحل وَإِنَّهَا خلقت من طِينَة آدم وَالنَّخْل مقدم على الْعِنَب فِي جَمِيع الْقُرْآن وَشبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّخْلَة بِالْمُؤمنِ فَإِنَّهَا تشرب برأسها فَإِذا قطع مَاتَت وَينْتَفع بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَهِي الشَّجَرَة الطّيبَة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فَكَانَت أفضل وَلَيْسَ فِي الشّجر شجر فِيهِ ذكر وَأُنْثَى تحْتَاج الْأُنْثَى فِيهِ إِلَى الذّكر سواهُ وَشبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عين الدَّجَّال بِحَبَّة الْعِنَب لِأَنَّهَا أصل الْخمر وَهِي أم الْخَبَائِث (وشرائط وجوب الزَّكَاة فِيهَا) أَي الثِّمَار (أَرْبَعَة أَشْيَاء) بل خَمْسَة كَمَا ستعرفه وَهِي (الْإِسْلَام وَالْحريَّة وَالْملك التَّام والنصاب) وَقد علمت محترزاتها مِمَّا تقدم
وَالْخَامِس بَدو الصّلاح وَهُوَ بُلُوغه صفة يطْلب فِيهَا غَالِبا فعلامته فِي الثَّمر الْمَأْكُول المتلون أَخذه فِي حمرَة أَو سَواد أَو صفرَة وَفِي غير المتلون مِنْهُ كالعنب الْأَبْيَض لينه وتمويهه وَهُوَ صفاؤه وجريان المَاء فِيهِ إِذْ هُوَ قبل بَدو الصّلاح لَا يصلح للْأَكْل (وَأما عرُوض التِّجَارَة) جمع عرض بِفَتْح الْعين وَإِسْكَان الرَّاء اسْم لكل مَا قَابل النَّقْدَيْنِ من صنوف الْأَمْوَال (فَتجب الزَّكَاة فِيهَا) لخَبر الْحَاكِم بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ على شَرط الشَّيْخَيْنِ فِي الْإِبِل صدقتها وَفِي الْغنم صدقتها وَفِي الْبر صدقته وَهُوَ يُقَال لأمتعة الْبَزَّاز وللسلاح وَلَيْسَ فِيهِ زَكَاة عين فصدقته زَكَاة تِجَارَة وَهِي تقليب المَال بمعاوضة لغَرَض الرِّبْح (بالشرائط) الْخَمْسَة (الْمَذْكُورَة فِي) زَكَاة (الْأَثْمَان)
وَترك سادسا وَهُوَ أَن تملك بمعاوضة كمهر وَعوض خلع وَصلح عَن دم فَلَا زَكَاة فِيمَا ملك بِغَيْر مُعَاوضَة كَهِبَة بِلَا ثَوَاب وإرث وَوَصِيَّة لانْتِفَاء الْمُعَاوضَة
وسابعا وَهُوَ أَن يَنْوِي حَال التَّمَلُّك التِّجَارَة لتتميز عَن الْقنية وَلَا يجب تجديدها فِي كل تصرف بل تستمر مَا لم ينْو الْقنية فَإِن نَوَاهَا انْقَطع الْحول فَيحْتَاج إِلَى تَجْدِيد النِّيَّة مقرونة بِتَصَرُّف
فصل فِي بَيَان نِصَاب الْإِبِل وَمَا يجب إِخْرَاجه
(وَأول نِصَاب الْإِبِل خمس) لحَدِيث لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود من الْإِبِل صَدَقَة (وفيهَا شَاة) وَإِنَّمَا وَجَبت الشَّاة وَإِن كَانَ وُجُوبهَا على خلاف الأَصْل للرفق بالفريقين لِأَن إِيجَاب الْبَعِير يضر بالمالك وَإِيجَاب جُزْء من بعير وَهُوَ الْخمس يضر بِهِ وبالفقراء (وَفِي عشْرين شَاتَان وَفِي خمس عشرَة ثَلَاث شِيَاه وَفِي عشْرين أَربع شِيَاه) وَالشَّاة الْوَاجِبَة فِيمَا دون خمس وَعشْرين من الْإِبِل جَذَعَة ضَأْن لَهَا سنة أَو أجذعت مقدم أسنانها وَإِن لم يتم لَهَا سنة كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي الْأُضْحِية وَنزل ذَلِك منزلَة الْبلُوغ بِالسِّنِّ أَو الِاحْتِلَام أَو ثنية معز لَهَا سنتَانِ فَهُوَ مُخَيّر بَين الْجَذعَة والثنية وَلَا يتَعَيَّن غَالب غنم الْبَلَد لخَبر فِي كل خمس شَاة وَالشَّاة تطلق على الضَّأْن والمعز لَكِن لَا يجوز الِانْتِقَال إِلَى غنم بلد أُخْرَى إِلَّا بِمِثْلِهَا فِي الْقيمَة أَو خير مِنْهَا ويجزىء الْجذع من الضَّأْن أَو الثني من الْمعز كالأضحية وَإِن كَانَت الْإِبِل إِنَاثًا لصدق اسْم الشَّاة عَلَيْهِ ويجزىء بعير الزَّكَاة عَن دون خمس وَعشْرين عوضا عَن الشَّاة الْوَاحِدَة أَو الشياه المتعددة وَإِن لم يساو قيمَة الشَّاة لِأَنَّهُ يجزىء عَن خمس وَعشْرين كَمَا سَيَأْتِي فعما(1/215)
دونهَا أولى وأفادت إِضَافَته إِلَى الزَّكَاة اعْتِبَار كَونه أُنْثَى بنت مَخَاض فَمَا فَوْقهَا كَمَا فِي الْمَجْمُوع (وَفِي خمس وَعشْرين) من الْإِبِل (بنت مَخَاض من الْإِبِل) وَهِي الَّتِي لَهَا سنة وطعنت فِي الثَّانِيَة سميت بذلك لِأَن أمهَا بعد سنة من وِلَادَتهَا تحمل مرّة أُخْرَى فَتَصِير من الْمَخَاض أَي الْحَوَامِل (وَفِي سِتّ وَثَلَاثِينَ بنت لبون) من الْإِبِل وَهِي الَّتِي تمّ لَهَا سنتَانِ وطعنت فِي الثَّالِثَة سميت بِهِ لِأَن أمهَا آن لَهَا أَن تَلد فَتَصِير لبونا (وَفِي سِتّ وَأَرْبَعين حقة) من الْإِبِل بِكَسْر الْحَاء وَهِي الَّتِي لَهَا ثَلَاث سِنِين وطعنت فِي الرَّابِعَة سميت بذلك لِأَنَّهَا اسْتحقَّت أَن تركب ويطرقها الْفَحْل وَيحمل عَلَيْهَا وَلَو أخرج بدلهَا بِنْتي لبون أَجزَأَهُ كَمَا فِي الزَّوَائِد (وَفِي إِحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَة) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة من الْإِبِل وَهِي الَّتِي تمّ لَهَا أَربع سِنِين وطعنت فِي الْخَامِسَة سميت بذلك لِأَنَّهَا أجذعت مقدم أسنانها أَي أسقطته وَقيل لتكامل أسنانها وَهُوَ آخر أَسْنَان الزَّكَاة وَاعْتبر فِي الْجَمِيع الْأُنُوثَة لما فِيهَا من رفق الدّرّ والنسل
وَلَو أخرج بدل الْجَذعَة حقتين أَو بِنْتي لبون أَجزَأَهُ على الْأَصَح لِأَنَّهُمَا يجزئان عَمَّا زَاد (وَفِي سِتّ وَسبعين بِنْتا لبون) من الْإِبِل (وَفِي إِحْدَى وَتِسْعين حقتان) من الْإِبِل (وَفِي مائَة وَإِحْدَى وَعشْرين ثَلَاث بَنَات لبون) من الْإِبِل (ثمَّ) يسْتَمر ذَلِك إِلَى مائَة وَثَلَاثِينَ فيتغير الْوَاجِب فِيهَا وَفِي كل عشرَة بعْدهَا (فِي كل أَرْبَعِينَ) من الْإِبِل (بنت لبون) مِنْهَا (وَفِي كل خمسين حقة) مِنْهَا كَمَا روى ذَلِك كُله البُخَارِيّ مقطعا فِي عشرَة مَوَاضِع وَأَبُو دَاوُد بِكَمَالِهِ
تَنْبِيه قَول المُصَنّف ثمَّ فِي كل أَرْبَعِينَ إِلَى آخِره
قد يَقْتَضِي لَوْلَا مَا قدرته أَن استقامة الْحساب بذلك إِنَّمَا تكون فِيمَا بعد مائَة وَإِحْدَى وَعشْرين وَلَيْسَ مرَادا بل يتَغَيَّر الْوَاجِب بِزِيَادَة تسع ثمَّ بِزِيَادَة عشر كَمَا قررت بِهِ كَلَامه فَإِن عدم بنت مَخَاض فَابْن لبون وَإِن كَانَ أقل قيمَة مِنْهَا
وَبنت الْمَخَاض المعيبة والمغصوبة الْعَاجِز عَن تَخْلِيصهَا والمرهونة بمؤجل أَو حَال وَعجز عَن تَخْلِيصهَا كمعدومة وَلَا يُكَلف أَن يخرج بنت مَخَاض كَرِيمَة لَكِن تمنع الْكَرِيمَة عِنْده ابْن لبون وَحقا لوُجُود بنت مَخَاض مجزئة فِي مَاله وَيُؤْخَذ الْحق عَن بنت مَخَاض عِنْد فقدها لَا عَن بنت لبون عِنْد فقدها
فصل فِي بَيَان نِصَاب الْبَقر وَمَا يجب إِخْرَاجه
(وَأول نِصَاب الْبَقر ثَلَاثُونَ فَيجب فِيهِ) أَي النّصاب (تبيع) ابْن سنة سمي بذلك لِأَنَّهُ يتبع أمه فِي المرعى (وَفِي كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّة) لَهَا سنتَانِ سميت بذلك لتكامل أسنانها وَذَلِكَ لما روى التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن معَاذ قَالَ بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيمن فَأمرنِي أَن آخذ من كل أَرْبَعِينَ بقرة مُسِنَّة وَمن كل ثَلَاثِينَ تبيعا وَصَححهُ الْحَاكِم وَغَيره
وَالْبَقَرَة تقال للذّكر وَالْأُنْثَى وَلَو أخرج بدل المسنة تبيعين أَجزَأَهُ على الْمَذْهَب (وعَلى هَذَا) الحكم (أبدا فقس) عِنْد الزِّيَادَة فَفِي سِتِّينَ تبيعان وَفِي سبعين تبيع ومسنة وَفِي ثَمَانِينَ مسنتان وَفِي تسعين ثَلَاثَة أتبعة وَفِي مائَة مُسِنَّة وتبيعان وَفِي مائَة وَعشرَة مسنتان وتبيع وَفِي مائَة وَعشْرين ثَلَاث مسنات أَو أَرْبَعَة أتبعة(1/216)
تَنْبِيه قد تلخص أَن الْفَرْض بعد الْأَرْبَعين لَا يتَغَيَّر إِلَّا بِزِيَادَة عشْرين ثمَّ يتَغَيَّر بِزِيَادَة كل عشرَة وَفِي مائَة وَعشْرين يتَّفق فرضان وَإِذا اتّفق فِي إبل أَو بقر فرضان فِي نِصَاب وَاحِد وَجب فيهمَا الأغبط مِنْهُمَا وَهُوَ الأنفع للمستحقين فَفِي مِائَتي بعير أَو مائَة وَعشْرين بقرة يجب فيهمَا الأغبط من أَربع حقاق وَخمْس بَنَات لبون وَثَلَاث مسنات وَأَرْبَعَة أتبعة إِن وجدا بِمَالِه بِصفة الْإِجْزَاء لِأَن كلا مِنْهُمَا فَرضهَا فَإِذا اجْتمعَا روعي مَا فِيهِ حَظّ الْمُسْتَحقّين إِذْ لَا مشقة فِي تَحْصِيله وأجزأه غير الأغبط بِلَا تَقْصِير من الْمَالِك أَو السَّاعِي للْعُذْر وجبر التَّفَاوُت لنَقص حق الْمُسْتَحقّين بِنَقْد الْبَلَد أَو جُزْء من الأغبط أما مَعَ التَّقْصِير من الْمَالِك بِأَن دلّس أَو من السَّاعِي بِأَن لم يجْتَهد وَإِن ظن أَنه الأغبط فَلَا يجزىء للتقصيد وَإِن وجد أَحدهمَا بِمَالِه أَخذ وَإِن وجد شَيْء من الآخر إِذْ النَّاقِص كَالْمَعْدُومِ وَإِن لم يُوجد أَو أَحدهمَا بِمَالِه بِصفة الْإِجْزَاء فَلهُ تَحْصِيل مَا شَاءَ مِنْهُمَا كلا أَو بَعْضًا مِنْهُمَا بشرَاء أَو غَيره وَلَو غير أغبط لما فِي تعْيين الأغبط من الْمَشَقَّة فِي تَحْصِيله
تَتِمَّة لمن عدم وَاجِبا من الْإِبِل وَلَو جَذَعَة فِي مَاله أَن يصعد دَرَجَة وَيَأْخُذ جبرانا وَإِبِله سليمَة أَو ينزل دَرَجَة وَيُعْطِي الْجبرَان كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي خبر أنس فالخيرة فِي الصعُود وَالنُّزُول للْمَالِك لِأَنَّهُمَا شرعا تَخْفِيفًا عَلَيْهِ والجبران شَاتَان بِالصّفةِ أَو عشرُون درهما نقرة خَالِصَة بخيرة الدَّافِع ساعيا كَانَ أَو مَالِكًا وَله صعُود دَرَجَتَيْنِ فَأكْثر ونزول دَرَجَتَيْنِ فَأكْثر مَعَ تعدد الْجبرَان هَذَا عِنْد عدم الْقُرْبَى فِي جِهَة المخرجة
وَلَا يَتَبَعَّض جبران فَلَا تجزىء شَاة وَعشرَة دَرَاهِم بجبران وَاحِد إِلَّا لمَالِك رَضِي بذلك لِأَن الْجبرَان حَقه فَلهُ إِسْقَاطه أما الجبرانان فَيجوز تبعيضهما فيجزىء شَاتَان وَعِشْرُونَ درهما لجبرانين كالكفارتين وَلَا جبران فِي غير الْإِبِل من بقر أَو غنم
فصل فِي بَيَان نِصَاب الْغنم وَمَا يجب إِخْرَاجه
(وَأول نِصَاب الْغنم أَرْبَعُونَ) شَاة (وفيهَا شَاة جَذَعَة من الضَّأْن) بِالْهَمْز وَتَركه لَهَا سنة (أَو ثنية من الْمعز) بِفَتْح الْعين لَهَا سنتَانِ (وَفِي مائَة وَإِحْدَى وَعشْرين شَاتَان وَفِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَة ثَلَاث شِيَاه وَفِي أَرْبَعمِائَة أَربع شِيَاه ثمَّ فِي كل مائَة شَاة) لحَدِيث أنس فِي ذَلِك رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَنقل الشَّافِعِي أَن أهل الْعلم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِك
وَلَو تَفَرَّقت مَاشِيَة الْمَالِك فِي أَمَاكِن فَهِيَ كَالَّتِي فِي مَكَان وَاحِد حَتَّى لَو ملك أَرْبَعِينَ شَاة فِي بلدين لَزِمته الزَّكَاة وَلَو ملك ثَمَانِينَ فِي بلدين فِي كل بلد أَرْبَعُونَ لَا يلْزمه إِلَّا شَاة وَاحِدَة وَإِن بَعدت الْمسَافَة بَينهمَا خلافًا للْإِمَام أَحْمد فَإِنَّهُ يلْزمه عِنْده عِنْد التباعد شَاتَان
تَتِمَّة يجزىء فِي إِخْرَاج الزَّكَاة نوع عَن نوع آخر كضأن عَن معز وَعَكسه من الْغنم وأرحبية عَن مهرية وَعَكسه من الْإِبِل وعراب عَن جواميس وَعَكسه من الْبَقر برعاية الْقيمَة فَفِي ثَلَاثِينَ عَنْزًا وَهِي أُنْثَى الْمعز وَعشر نعجات من الضَّأْن عنز أَو نعجة بِقِيمَة ثَلَاثَة أَربَاع عنز وَربع نعجة وَفِي عكس ذَلِك عَكسه وَلَا يُؤْخَذ نَاقص من ذكر ومعيب وصغير إِلَّا من مثله فِي غير مَا مر من جَوَاز أَخذ ابْن اللَّبُون أَو ألحق أَو الذّكر من الشياه فِي الْإِبِل أَو التبيع فِي الْبَقر فَإِن اخْتلف مَاله نقصا وكمالا واتحد نوعا أخرج كَامِلا برعاية الْقيمَة وَإِن لم يوف تمم بناقص وَلَا يُؤْخَذ خِيَار كحامل وأكولة وَهِي المسمنة للْأَكْل وربي وَهِي الحديثة الْعَهْد بالنتاج بِأَن يمْضِي لَهَا من وِلَادَتهَا نصف شهر كَمَا قَالَه الْأَزْهَرِي أَو شَهْرَان كَمَا نَقله الْجَوْهَرِي إِلَّا بِرِضا مَالِكهَا بأخذها
نعم إِن كَانَت كلهَا(1/217)
خيارا أَخذ الْخِيَار مِنْهَا إِلَّا الْحَوَامِل فَلَا تُؤْخَذ مِنْهَا حَامِل كَمَا نَقله الإِمَام وَاسْتَحْسنهُ وَتُؤْخَذ زَكَاة سَائِمَة عِنْد وُرُودهَا مَاء لِأَنَّهَا أقرب إِلَى الضَّبْط حِينَئِذٍ فَلَا يكلفهم السَّاعِي ردهَا إِلَى الْبَلَد كَمَا لَا يلْزمه أَن يتبع المراعي فَإِن لم ترد المَاء بِأَن اكتفت بالكلأ وَقت الرّبيع فَعِنْدَ بيُوت أَهلهَا وأفنيتهم وَيصدق مخرجها فِي عَددهَا إِن كَانَ ثِقَة والا فتعد والأسهل عدهَا عِنْد مضيق تمر بِهِ وَاحِدَة وَاحِدَة وبيد كل من الْمَالِك والساعي أَو نائبهما قضيب يشيران بِهِ إِلَى كل وَاحِدَة أَو يصيبان بِهِ ظهرهَا لِأَن ذَلِك أبعد عَن الْغَلَط فَإِن اخْتلفَا بعد الْعد وَكَانَ الْوَاجِب يخْتَلف بِهِ أعادا الْعد
فصل فِي زَكَاة خلْطَة الْأَوْصَاف
وَتسَمى خلْطَة جوَار إِذْ هِيَ الْمَذْكُورَة فِي كَلَامه (والخليطان) من أهل زَكَاة فِي نِصَاب أَو فِي أقل مِنْهُ وَأَحَدهمَا نِصَاب وَلَو فِي غير مَاشِيَة من نقد أَو غَيره كَمَا سَيَأْتِي (يزكيان) وجوبا (زَكَاة) بِالنّصب على نزع الْخَافِض أَي كَزَكَاة المَال (الْوَاحِد) إِجْمَاعًا كَمَا قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد (بشرائط سَبْعَة) بل عشرَة مَعَ أَنه جرى فِي وَاحِد مِمَّا ذكره على رَأْي ضَعِيف كَمَا ستعرفه مَعَ إِبْدَاله بِغَيْرِهِ تَصْحِيحا لما ذكره من الْعدَد الأول (إِذا كَانَ المراح وَاحِدًا) وَهُوَ بِضَم الْمِيم اسْم لموْضِع مبيت الْمَاشِيَة
(و) الثَّانِي إِذا كَانَ (المسرح وَاحِدًا) وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْمُهْملَة اسْم للموضع الَّذِي تَجْتَمِع فِيهِ ثمَّ تساق إِلَى المرعى
(و) الثَّالِث إِذا كَانَ (المرعى وَاحِدًا) وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم اسْم للموضع الَّذِي ترعى فِيهِ
(و) الرَّابِع إِذا كَانَ (الْفَحْل) الَّذِي يضر بهَا (وَاحِدًا) أَو أَكثر بِأَن تكون مُرْسلَة تنزو على كل من الماشيتين بِحَيْثُ لَا تخْتَص مَاشِيَة هَذَا بفحل عَن مَاشِيَة الآخر وَإِن كَانَ ملكا لأَحَدهمَا أَو معارا لَهُ أَو لَهما إِلَّا إِذا اخْتلف النَّوْع كضأن ومعز فَلَا يضر اختلافه قطعا للضَّرُورَة
(و) الْخَامِس إِذا كَانَ (المشرب وَاحِدًا) وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم مَوضِع شرب الْمَاشِيَة سَوَاء كَانَ من نهر أم من غَيره
(و) السَّادِس إِذا كَانَ (الحالب) وَهُوَ الَّذِي يحلب اللَّبن (وَاحِدًا) على رَأْي ضَعِيف وَهَذَا هُوَ الشَّرْط الَّذِي تقدم الْإِعْلَام(1/218)
بِأَن المُصَنّف جرى فِيهِ على رَأْي ضَعِيف وَالأَصَح أَنه لَا يشْتَرط اتحاده كجاز الْغنم والإناء الَّذِي يحلب فِيهِ كآلة الجز ويبدل باتحاد الرَّاعِي فَإِنَّهُ شَرط على الْأَصَح وَمَعْنَاهُ كَمَا فِي الرَّوْضَة أَنه لَا يخْتَص أَحدهمَا براع وَلَا يضر تعدد الرُّعَاة
(و) السَّابِع إِذا كَانَ (مَوضِع الْحَلب وَاحِدًا) وَهُوَ بِفَتْح اللَّام يُقَال للبن وللمصدر وَهُوَ المُرَاد هُنَا وَحكي سكونها
وَالثَّامِن إِذا كَانَت الماشيتان نِصَابا كَامِلا أَو أقل من نِصَاب ولأحدهما نِصَاب كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ
وَالتَّاسِع مُضِيّ الْحول من وَقت خلطهما إِذا كَانَ المَال حوليا فَلَو ملك كل مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ شَاة فِي أول الْمحرم وخلطا فِي أول صفر فالجديد أَنه لَا خلْطَة فِي الْحول بل إِذا جَاءَ الْمحرم وَجب على كل مِنْهُمَا شَاة وَلَو تَفَرَّقت ماشيتهما فِي أثْنَاء الْحول نظر إِن كَانَ زَمَانا طَويلا عرفا وَلَو بِلَا قصد ضرّ وَإِن كَانَ يَسِيرا وَلم يعلمَا بِهِ لم يضر فَإِن علما بِهِ وَأَقَرَّاهُ أَو قصدا ذَلِك أَو علمه أَحدهمَا فَقَط ضرّ كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ
والعاشر أَن يَكُونَا من أهل الزَّكَاة كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فَلَو كَانَ النّصاب الْمَخْلُوط بَين مُسلم وَكَافِر أَو مكَاتب لم تُؤثر هَذِه الْخلطَة شَيْئا بل يعْتَبر نصيب من هُوَ من أهل الزَّكَاة إِن كَانَ بلغ نِصَابا زكى زَكَاة الْمُنْفَرد وَإِلَّا فَلَا زَكَاة وَلَا تشْتَرط نِيَّة الْخلطَة فِي الْأَصَح لِأَن خفَّة الْمُؤْنَة باتحاد الْمرَافِق لَا تخْتَلف بِالْقَصْدِ وَعَدَمه وَإِنَّمَا اشْترط الِاتِّحَاد فِيمَا مر ليجتمع المالان كَالْمَالِ الْوَاحِد ولتخف الْمُؤْنَة على المحسن بِالزَّكَاةِ
تَنْبِيه مثل خلْطَة الْجوَار خلْطَة الشّركَة وَتسَمى خلْطَة أَعْيَان لِأَن كل عين مُشْتَركَة وخلطة شيوع
تَتِمَّة الْأَظْهر تَأْثِير خلْطَة الثَّمر وَالزَّرْع والنقد وعروض التِّجَارَة باشتراك أَو مجاورة كَمَا فِي الْمَاشِيَة وَإِنَّمَا توثر خلْطَة الْجوَار فِي الثَّمر وَالزَّرْع بِشَرْط أَن لَا يتَمَيَّز الناطور وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ أشهر من الْمُعْجَمَة حَافظ الزَّرْع وَالشَّجر والجرين وَهُوَ بِفَتْح الْجِيم مَوضِع تجفيف الثِّمَار والبيدر وَهُوَ بِفَتْح الْمُوَحدَة وَالدَّال الْمُهْملَة مَوضِع تصفية الْحِنْطَة وَفِي النَّقْد وعروض التِّجَارَة بِشَرْط أَن لَا يتَمَيَّز الدّكان والحارس وَمَكَان الْحِفْظ كخزانة وَنَحْو ذَلِك كالميزان والوزان والنقاد والمنادي والحراث وجداد النّخل والكيال والحمال والمتعهد والملقح والحصاد وَمَا يسقى بِهِ لَهما فَإِذا كَانَ لكل مِنْهُمَا نخيل أَو زرع مجاور لنخيل الآخر أَو لزرعه أَو لكل وَاحِد كيس فِيهِ نقد فِي صندوق وَاحِد وأمتعة تِجَارَة فِي مخزن وَاحِد وَلم يتَمَيَّز أَحدهمَا عَن الآخر بِشَيْء مِمَّا سبق ثبتَتْ الْخلطَة لِأَن الْمَالَيْنِ يصيران بذلك كَالْمَالِ الْوَاحِد كَمَا دلّت عَلَيْهِ السّنة فِي الْمَاشِيَة
فصل فِي بَيَان نِصَاب الذَّهَب وَالْفِضَّة
وَمَا يجب إِخْرَاجه وَالْأَصْل فِي ذَلِك قبل الْإِجْمَاع مَعَ مَا يَأْتِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة}(1/219)
والكنز هُوَ الَّذِي لم تُؤَد زَكَاته (ونصاب الذَّهَب) الْخَالِص وَلَو غير مَضْرُوب (عشرُون مِثْقَالا) بِالْإِجْمَاع بِوَزْن مَكَّة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمِكْيَال مكيال الْمَدِينَة وَالْوَزْن وزن مَكَّة وَهَذَا الْمِقْدَار تَحْدِيد فَلَو نقص فِي ميزَان وَتمّ فِي أُخْرَى فَلَا زَكَاة على الْأَصَح للشَّكّ فِي النّصاب والمثقال لم يتَغَيَّر جَاهِلِيَّة وَلَا إسلاما وَهُوَ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّة وَهِي شعيرَة معتدلة لم تقشر وَقطع من طرفيها مَا دق وَطَالَ (وَفِيه) أَي نِصَاب الذَّهَب (ربع الْعشْر) وَهُوَ نصف مِثْقَال تحديدا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِي أقل من عشْرين دِينَارا شَيْء وَفِي عشْرين نصف دِينَار (وَفِيمَا زَاد) على النّصاب (فبحسابه) وَلَو يَسِيرا (ونصاب الْوَرق) وَهُوَ بِكَسْر الرَّاء الْفضة وَلَو غير مَضْرُوبَة (مِائَتَا دِرْهَم) خَالِصَة بِوَزْن مَكَّة تحديدا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ من الْوَرق صَدَقَة وَالْأُوقِية بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء على الْأَشْهر أَرْبَعُونَ درهما بالنصوص الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَالْمرَاد بِالدَّرَاهِمِ الدَّرَاهِم الإسلامية الَّتِي كل عشرَة مِنْهَا سَبْعَة مَثَاقِيل وكل عشرَة مَثَاقِيل أَرْبَعَة عشر درهما وسبعان وَكَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة مُخْتَلفَة ثمَّ ضربت فِي زمن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقيل عبد الْملك على هَذَا الْوَزْن وَأجْمع الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ وَوزن الدِّرْهَم سِتَّة دوانق والدانق ثَمَان حبات وخمسا حَبَّة فالدرهم خَمْسُونَ حَبَّة وخمسا حَبَّة وَمَتى زيد على الدِّرْهَم ثَلَاثَة أسباعه كَانَ مِثْقَالا وَمَتى نقص من المثقال ثَلَاثَة أعشاره كَانَ درهما لِأَن المثقال عشرَة أَسْبَاع فَإِذا نقص مِنْهَا ثَلَاثَة بَقِي دِرْهَم (وفيهَا) أَي الدَّرَاهِم الْمَذْكُورَة (ربع الْعشْر) مِنْهُ (وَهُوَ خَمْسَة دَرَاهِم) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي الرقة ربع الْعشْر (وَمَا زَاد) على النّصاب وَلَو يَسِيرا (فبحسابه) وَالْفرق بَينهمَا وَبَين الْمَوَاشِي ضَرَر الْمُشَاركَة وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن الذَّهَب وَالْفِضَّة معدان للنماء كالماشية السَّائِمَة وهما من أشرف نعم الله تَعَالَى على عباده إِذْ بهما قوام الدُّنْيَا ونظام أَحْوَال الْخلق فَإِن حاجات النَّاس كَثِيرَة وَكلهَا تقضى بهما بِخِلَاف غَيرهمَا من الْأَمْوَال فَمن كنزهما فقد أبطل الْحِكْمَة الَّتِي خلقا لَهَا كمن حبس قَاضِي الْبَلَد وَمنعه أَن يقْضِي حوائج النَّاس وَلَا يكمل نِصَاب أحد النَّقْدَيْنِ بِالْآخرِ لاخْتِلَاف الْجِنْس كَمَا لَا يكمل نِصَاب التَّمْر بالزبيب ويكمل الْجيد بالرديء من الْجِنْس الْوَاحِد وَعَكسه كَمَا فِي الْمَاشِيَة وَالْمرَاد بالجودة النعومة وَنَحْوهَا وبالرداء الخشونة وَنَحْوهَا وَيُؤْخَذ من كل نوع بِقسْطِهِ إِن سهل الْأَخْذ بِأَن قلت أَنْوَاعه فَإِن كثرت وشق اعْتِبَار الْجَمِيع أَخذ من الْوسط كَمَا فِي المعشرات وَلَا يجزىء رَدِيء عَن جيد وَلَا مكسور عَن صَحِيح كَمَا لَو أخرج مَرِيضَة عَن صِحَاح قَالُوا ويجزىء عَكسه بل هُوَ أفضل لِأَنَّهُ زَاد خيرا فَيسلم الْمخْرج الدِّينَار الصَّحِيح أَو الْجيد إِلَى من يُوكله الْفُقَرَاء مِنْهُم أَو من غَيرهم
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَإِن لزمَه نصف دِينَار سلم إِلَيْهِم دِينَارا نصفه عَن الزَّكَاة وَنصفه يبْقى لَهُ مَعَهم أَمَانَة ثمَّ يتفاصل هُوَ وهم فِيهِ بِأَن يبيعوه(1/220)
لأَجْنَبِيّ ويتقاسموا ثمنه أَو يشتروا مِنْهُ نصفه أَو يَشْتَرِي هُوَ نصفهم لَكِن يكره لَهُ شِرَاء صدقته مِمَّن تصدق عَلَيْهِ سَوَاء فِيهِ الزَّكَاة وَصدقَة التَّطَوُّع وَلَا شَيْء فِي الْمَغْشُوش وَهُوَ الْمُخْتَلط بِمَا هُوَ أدون مِنْهُ كذهب بِفِضَّة وَفِضة بنحاس حَتَّى يبلغ خالصه نِصَابا فَإِذا بلغه أخرج الْوَاجِب خَالِصا أَو مغشوشا خالصه قدر الْوَاجِب وَكَانَ مُتَطَوعا بِالنُّحَاسِ وَيكرهُ للْإِمَام ضرب الْمَغْشُوش لخَبر الصَّحِيحَيْنِ من غَشنَا فَلَيْسَ منا وَلِئَلَّا يغش بِهِ بعض النَّاس بَعْضًا فَإِن علم معيارها صحت الْمُعَامَلَة بهَا وَكَذَا إِذا كَانَت مَجْهُولَة على الْأَصَح كَبيع الغالية والمعجونات
وَيكرهُ لغير الإِمَام ضرب الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَلَو خَالِصَة لِأَنَّهُ من شَأْن الإِمَام وَلِأَن فِيهِ افتياتا عَلَيْهِ
(وَلَا تجب فِي الْحلِيّ الْمُبَاح) من ذهب أَو فضَّة كخلخال لامْرَأَة (زَكَاة) لِأَنَّهُ معد لاستعمال مُبَاح فَأشبه العوامل من النعم ويزكى الْمحرم من حلي وَمن غَيره كالأواني بِالْإِجْمَاع وَكَذَا الْمَكْرُوه كالضبة الْكَبِيرَة من الْفضة للْحَاجة وَالصَّغِيرَة للزِّينَة وَمن الْمحرم الْميل للْمَرْأَة وَغَيرهَا فَيحرم عَلَيْهِمَا
نعم لَو اتخذ شخص ميلًا من ذهب أَو فضَّة لجلاء عينه فَهُوَ مُبَاح فَلَا زَكَاة فِيهِ والسوار والخلخال للبس الرجل بِأَن يَقْصِدهُ باتخاذهما فهما محرمان بِالْقَصْدِ وَالْخُنْثَى فِي حلي النِّسَاء كَالرّجلِ وَفِي حلي الرِّجَال كَالْمَرْأَةِ احْتِيَاطًا للشَّكّ فِي إِبَاحَته فَلَو اتخذ الرجل سوارا مثلا بِلَا قصد لَا للبس وَلَا لغيره أَو بِقصد إِجَارَته لمن لَهُ اسْتِعْمَاله بِلَا كَرَاهَة فَلَا زَكَاة فِيهِ لانْتِفَاء الْقَصْد الْمحرم وَالْمَكْرُوه وَكَذَا لَو انْكَسَرَ الْحلِيّ الْمُبَاح للاستعمال وَقصد إِصْلَاحه وَأمكن بِلَا صوغ فَلَا زَكَاة أَيْضا وَإِن دَامَ أحوالا لدوام صُورَة الْحلِيّ وَقصد إِصْلَاحه وَحَيْثُ أَوجَبْنَا الزَّكَاة فِي الْحلِيّ وَاخْتلفت قِيمَته ووزنه فَالْعِبْرَة بِقِيمَتِه لَا بوزنه بِخِلَاف الْمحرم لعَينه كالأواني فَالْعِبْرَة بوزنه لَا بِقِيمَتِه فَلَو كَانَ لَهُ حلي وَزنه مِائَتَا دِرْهَم وَقِيمَته ثلثمِائة تخير بَين أَن يخرج ربع عشره مشَاعا ثمَّ يَبِيعهُ السَّاعِي بِغَيْر جنسه وَيفرق ثمنه على الْمُسْتَحقّين أَو يخرج خَمْسَة مصوغة قيمتهَا سَبْعَة وَنصف نَقْدا وَلَا يجوز كَسره ليعطي مِنْهُ خَمْسَة مكسرة لِأَن فِيهِ ضَرَرا عَلَيْهِ وعَلى الْمُسْتَحقّين أَو كَانَ لَهُ إِنَاء كَذَلِك تخير بَين أَن يخرج خَمْسَة من غَيره أَو يكسرهُ وَيخرج خَمْسَة أَو يخرج ربع عشره مشَاعا وَيحرم على الرجل حلي الذَّهَب وَلَو فِي آلَة الْحَرْب لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحل الذَّهَب وَالْحَرِير لإناث أمتِي وَحرم على ذكورها إِلَّا الْأنف إِذا جدع فَإِنَّهُ يجوز أَن يتَّخذ من الذَّهَب لِأَن بعض الصَّحَابَة قطع أَنفه فِي غَزْوَة فَاتخذ أنفًا من فضَّة فَأَنْتن عَلَيْهِ فَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَتَّخِذهُ من ذهب وَإِلَّا الْأُنْمُلَة فَإِنَّهُ يجوز اتخاذها لمن قطعت مِنْهُ وَلَو لكل أصْبع من الذَّهَب قِيَاسا على الْأنف وَإِلَّا السن فَإِنَّهُ يجوز لمن قلعت سنه اتِّخَاذ سنّ من ذهب وَإِن تعدّدت قِيَاسا أَيْضا على الْأنف وَيحرم سنّ الْخَاتم من الذَّهَب على الرجل وَهِي الشعبة الَّتِي يسْتَمْسك بهَا الفص وَيحل للرجل من الْفضة الْخَاتم بِالْإِجْمَاع وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتخذ خَاتمًا من فضَّة بل لبسه سنة سَوَاء أَكَانَ فِي الْيَمين أم فِي الْيَسَار لَكِن الْيَمين أفضل وَالسّنة أَن يَجْعَل الفص مِمَّا يَلِي كَفه
وَلَا يكره للْمَرْأَة لبس خَاتم الْفضة
تَنْبِيه لم يتَعَرَّض الْأَصْحَاب لمقدار الْخَاتم الْمُبَاح ولعلهم اكتفوا فِيهِ بِالْعرْفِ أَي عرف تِلْكَ الْبَلدة وَعَادَة أَمْثَاله فِيهَا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وَإِن قَالَ الْأَذْرَعِيّ الصَّوَاب ضَبطه بِدُونِ مِثْقَال
وَلَو اتخذ الرجل خَوَاتِم كَثِيرَة ليلبس الْوَاحِدَة مِنْهَا بعد الْوَاحِد جَازَ كَمَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا فَإِن لبسهَا مَعًا جَازَ مَا لم يود إِلَى إِسْرَاف كَمَا يُؤْخَذ من كَلَامهم وَلَو تختم الرجل فِي غير الْخِنْصر جَازَ مَعَ الْكَرَاهَة كَمَا فِي شرح مُسلم وَيحل للرجل من الْفضة تحلية آلَة الْحَرْب كالسيف وَالرمْح والمنطقة لَا مَا لَا يلْبسهُ كالسرج واللجام وَلَيْسَ للْمَرْأَة تحلية آلَة الْحَرْب بِذَهَب وَلَا(1/221)
فضَّة وَلها لبس أَنْوَاع حلي الذَّهَب وَالْفِضَّة كالسوار وَكَذَا مَا نسج بهما من الثِّيَاب
وَتحرم الْمُبَالغَة فِي السَّرف كخلخال وَزنه مِائَتَا دِينَار وَكَذَا يحرم إِسْرَاف الرجل فِي آلَة الْحَرْب
وَيجوز تحلية الْمُصحف بِفِضَّة للرجل وَالْمَرْأَة وَيجوز لَهَا فَقَط بِذَهَب لعُمُوم أحل الذَّهَب وَالْحَرِير لإناث أمتِي قَالَ الْغَزالِيّ وَمن كتب الْمُصحف بِذَهَب فقد أحسن وَلَا زَكَاة فِي سَائِر الْجَوَاهِر كَاللُّؤْلُؤِ والياقوت لعدم وُرُودهَا فِي ذَلِك
فصل فِي بَيَان نِصَاب الزروع وَالثِّمَار
وَمَا يجب إِخْرَاجه (ونصاب الزروع وَالثِّمَار خَمْسَة أوسق) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة والأوسق جمع وسق بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا سمي بِهِ لِأَنَّهُ يجمع الصيعان (وَهِي) بِالْوَزْنِ (ألف) رَطْل (وسِتمِائَة رَطْل بالعراقي) أَي الْبَغْدَادِيّ
لِأَن الوسق سِتُّونَ صَاعا والصاع أَرْبَعَة أَمْدَاد وَالْمدّ رَطْل وَثلث بالبغدادي وقدرت بِهِ لِأَنَّهُ الرطل الشَّرْعِيّ وَهُوَ مائَة وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ درهما وَأَرْبَعَة أَسْبَاع دِرْهَم والنصاب الْمَذْكُور تَحْدِيد كَمَا فِي نِصَاب الْمَوَاشِي وَغَيرهَا وَالْعبْرَة فِيهِ بِالْكَيْلِ على الصَّحِيح
وَإِنَّمَا قدرت بِالْوَزْنِ استظهارا أَو إِذا وَافق الْكَيْل وَالْمُعْتَبر فِي الْوَزْن من كل نوع الْوسط فَإِنَّهُ يشْتَمل على الْخَفِيف والرزين وَكيله بالإردب الْمصْرِيّ سِتَّة أرادب وَربع إِرْدَب كَمَا قَالَه الْقَمُولِيّ بِجعْل القدحين صَاعا كَزَكَاة الْفطر وَكَفَّارَة الْيَمين خلافًا للسبكي فِي جعلهَا خَمْسَة أرادب وَنصف وَثلث لِأَنَّهُ جعل الصَّاع قدحين إِلَّا سبعي مد
تَنْبِيه لَا يضم ثَمَر عَام وزرعه فِي إِكْمَال النّصاب إِلَى ثَمَر وَزرع عَام آخر وَيضم ثَمَر الْعَام الْوَاحِد بعضه إِلَى بعض فِي إِكْمَال(1/222)
النّصاب وَإِن اخْتلف إِدْرَاكه لاخْتِلَاف أَنْوَاعه وبلاده حرارة وبرودة كنجد وتهامة فتهامة حارة يسْرع إِدْرَاك الثَّمر بهَا بِخِلَاف نجد لبردها وَالْمرَاد بِالْعَام هُنَا اثْنَا عشر شهرا عَرَبِيَّة وَالْعبْرَة بِالضَّمِّ هُنَا بإطلاعهما فِي عَام فيضم طلع نخيل إِلَى الآخر إِن أطلع الثَّانِي قبل جدَاد الأول وَكَذَا بعده فِي عَام وَاحِد
نعم لَو أثمر نخل مرَّتَيْنِ فِي عَام فَلَا يضم بل هما كثمرة عَاميْنِ وزرعا الْعَام يضمان وَإِن اخْتلف زراعتهما فِي الْفُصُول وَالْعبْرَة بِالضَّمِّ هُنَا اعْتِبَار وُقُوع حصاديهما فِي سنة وَاحِدَة وَهِي اثْنَا عشر شهرا عَرَبِيَّة كَمَا مر
(و) يجب (فِيهَا) أَي فِي الْخَمْسَة أوسق وَمَا زَاد (إِن سقيت بِمَاء السَّمَاء أَو) بِمَاء (السيح) وَهُوَ بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة تَحت السَّيْل أَو بِمَا انصب إِلَيْهِ من جبل أَو نهر أَو عين أَو شرب بعروقه لقُرْبه من المَاء وَهُوَ البعلي سَوَاء فِي ذَلِك الثَّمر وَالزَّرْع (الْعشْر) كَامِلا (و) يجب فِيهَا (إِن سقيت بدولاب) بِضَم أَوله وفتحه وَهُوَ مَا يديره الْحَيَوَان أَو دالية وَهِي البكرة أَو ناعورة وَهِي مَا يديره المَاء بِنَفسِهِ (أَو بنضح) من نَحْو نهر بحيوان وَيُسمى الذّكر ناضحا وَالْأُنْثَى ناضحة أَو بِمَاء اشْتَرَاهُ أَو وهب لَهُ لعظم الْمِنَّة فِيهِ أَو غصبه لوُجُوب ضَمَانه (نصف الْعشْر) وَذَلِكَ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو كَانَ عثريا الْعشْر وَفِيمَا سقِِي بالنضح نصف الْعشْر وانعقد الْإِجْمَاع على ذَلِك كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ وَغَيره وَالْمعْنَى فِيهِ كَثْرَة الْمُؤْنَة وخفتها كَمَا فِي المعلوفة والسائمة
والعثري بِفَتْح الْمُهْملَة والمثلثة مَا سقِِي بِمَاء السَّيْل الْجَارِي إِلَيْهِ فِي حُفْرَة وَتسَمى الحفرة عاثوراء لتعثر المَاء بهَا إِذا لم يعلمهَا والقنوات والسواقي المحفورة من النَّهر الْعَظِيم كَمَاء الْمَطَر فَفِي المسقي بِمَاء يجْرِي فِيهَا مِنْهُ الْعشْر لِأَن مُؤنَة القنوات إِنَّمَا تخرج لعمارة الْقرْيَة والأنهار إِنَّمَا تحفر لإحياء الأَرْض فَإِذا تهيأت وصل المَاء إِلَى الزَّرْع بطبعه مرّة بعد أُخْرَى بِخِلَاف السَّقْي بالنواضح وَنَحْوهَا فَإِن الْمُؤْنَة للزَّرْع نَفسه وَفِيمَا سقِِي بالنوعين كالنضح والمطر يقسط بِاعْتِبَار مُدَّة عَيْش الثَّمر وَالزَّرْع ونمائهما لَا بأكثرهما وَلَا بِعَدَد السقيات فَلَو كَانَت الْمدَّة من يَوْم الزَّرْع مثلا إِلَى يَوْم الْإِدْرَاك ثَمَانِيَة أشهر وَاحْتَاجَ فِي أَرْبَعَة مِنْهَا إِلَى سقية فسقي بالمطر وَفِي الْأَرْبَعَة الْأُخْرَى إِلَى سقيتين فسقي بالنضح وَجب ثَلَاثَة أَربَاع الْعشْر وَكَذَا لَو جهلنا الْمِقْدَار من نفع كل مِنْهُمَا بِاعْتِبَار الْمدَّة أخذا بالاستواء وَلَو احْتَاجَ فِي سِتَّة مِنْهَا إِلَى سقيتين فسقي بِمَاء السَّمَاء وَفِي شَهْرَيْن إِلَى ثَلَاثَة سقيات فسقي بالنضح وَجب ثَلَاثَة أَربَاع الْعشْر وَربع نصف الْعشْر وَلَو اخْتلف الْمَالِك والساعي فِي أَنه سقِِي بِمَاذَا صدق الْمَالِك لِأَن الأَصْل عدم وجوب الزِّيَادَة عَلَيْهِ فَإِن اتهمه السَّاعِي حلفه ندبا وَتجب الزَّكَاة فِيمَا ذكر ببدو صَلَاح ثَمَر لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ ثَمَرَة كَامِلَة وَهُوَ قبل ذَلِك بلح وحصرم وباشتداد حب لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ طَعَام وَهُوَ قبل ذَلِك بقل وَالصَّلَاح فِي ثَمَر وَغَيره بُلُوغه صفة يطْلب فِيهَا غَالِبا وعلامته فِي الثَّمر الْمَأْكُول المتلون أَخذه فِي حمرَة أَو سَواد أَو صفرَة كبلح وعناب ومشمش وَفِي غير المتلون مِنْهُ(1/223)
كالعنب الْأَبْيَض لينه وتمويهه وَهُوَ صفاؤه وجريان المَاء فِيهِ وبدو صَلَاح بعضه وَإِن قل كظهوره وَسن خرص أَي حزر كل ثَمَر فِيهِ زَكَاة إِذا بدا صَلَاحه على مَالِكه لِلِاتِّبَاعِ فيطوف الخارص بِكُل شَجَرَة وَيقدر ثَمَرَتهَا أَو ثَمَرَة كل نوع رطبا ثمَّ يَابسا وَذَلِكَ لتضمين أَي لنقل الْحق من الْمعِين إِلَى الذِّمَّة تَمرا أَو زبيبا ليخرجه بعد جفافه
وَشرط فِي الْخرص الْمَذْكُور عَالم بِهِ أهل للشهادات كلهَا وَشرط تضمين من الإِمَام أَو نَائِبه لمخرج من مَالك أَو نَائِبه وَقبُول للتضمين فللمالك حِينَئِذٍ تصرف فِي الْجَمِيع فَإِن ادّعى حيف الخارص فِيمَا خرصه أَو غلطه بِمَا يبعد لم يصدق إِلَّا بِبَيِّنَة ويحط فِي الثَّانِيَة الْقدر الْمُحْتَمل وَإِن ادّعى غلطه بالمحتمل بعد تلف المخروص كُله أَو بعضه فكالوديع لَكِن الْيَمين هُنَا سنة بِخِلَافِهَا فِي الْوَدِيع فَإِنَّهَا وَاجِبَة
فصل فِي زَكَاة الْعرُوض والمعدن والركاز
وَمَا يجب إِخْرَاجه (وَتقوم عرُوض التِّجَارَة عِنْد آخر الْحول بِمَا اشْتريت بِهِ) هَذَا إِذا ملك مَال التِّجَارَة بِنَقْد وَلَو فِي ذمَّته أَو بِغَيْر نقد الْبَلَد الْغَالِب أَو دون نِصَاب فَإِنَّهُ يقوم بِهِ لِأَنَّهُ أصل مَا بِيَدِهِ وَأقرب إِلَيْهِ من نقد الْبَلَد فَلَو لم يبلغ نِصَابا لم تجب الزَّكَاة وَإِن بلغ بِغَيْرِهِ أما إِذا ملكه بِغَيْر نقد كعرض وَنِكَاح وخلع فبغالب نقد الْبَلَد يقوم بِهِ فَلَو حَال الْحول بِمحل لَا نقد فِيهِ كبلد يتعامل فِيهِ بفلوس أَو نَحْوهَا اعْتبر أقرب الْبِلَاد إِلَيْهِ فَإِن ملكه بِنَقْد وَغَيره قوم مَا قَابل النَّقْد بِهِ وَالْبَاقِي بغالب نقد الْبَلَد فَإِن غلب نقدان على التَّسَاوِي وَبلغ مَال التِّجَارَة نِصَابا بأحدهم دون الآخر قوم بِهِ لتحَقّق تَمام النّصاب بِأحد النَّقْدَيْنِ وَبِهَذَا فَارق مَا لَو تمّ النّصاب فِي ميزَان دون آخر أَو بِنَقْد لَا يقوم بِهِ دون نقد يقوم بِهِ وَإِن بلغ نِصَابا بِكُل مِنْهُمَا خير الْمَالِك كَمَا فِي شاتي الْجبرَان ودراهمه وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد كَمَا صَححهُ فِي أصل الرَّوْضَة وَإِن صحّح فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ أَنه يتَعَيَّن الأنفع للمستحقين وَيضم ربح حَاصِل فِي أثْنَاء الْحول لأصل فِي الْحول إِن لم ينض بِمَا يقوم بِهِ فَلَو اشْترى عرضا بِمِائَتي دِرْهَم فَصَارَت قِيمَته فِي الْحول وَلَو قبل آخِره بلحظة ثَلَاثمِائَة زكاها آخِره أما إِذا نض دَرَاهِم أَو دَنَانِير بِمَا يقوم بِهِ وأمسكه إِلَى آخر الْحول فَلَا يضم إِلَى الأَصْل بل يُزكي الأَصْل بحوله ويفرد الرِّبْح بحول (وَيخرج من) قيمتة (ذَلِك) لَا من الْعرُوض (ربع الْعشْر) أما أَنه ربع الْعشْر فَكَمَا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة لِأَنَّهُ يقوم بهما وَأما أَنه من الْقيمَة فَلِأَنَّهَا مُتَعَلقَة فَلَا يجوز إِخْرَاجه من عين الْعرُوض
(وَمَا) أَي وَأي نِصَاب (استخرج من معادن الذَّهَب وَالْفِضَّة) أَي استخرج ذَلِك من هُوَ من أهل الزَّكَاة من أَرض مُبَاحَة(1/224)
أَو مَمْلُوكَة لَهُ (يخرج مِنْهُ) أَي النّصاب (ربع الْعشْر) بِعُمُوم الْأَدِلَّة السَّابِقَة لخَبر وَفِي الرقة ربع الْعشْر وَمَا زَاد فبحسابه إِذْ لَا وقص فِي غير الْمَاشِيَة كَمَا مر
وَلَا يشْتَرط الْحول بل يجب الْإِخْرَاج (فِي الْحَال) لِأَن الْحول إِنَّمَا يعْتَبر لأجل تَكَامل النَّمَاء والمستخرج من الْمَعْدن نَمَاء فِي نَفسه فَأشبه الثِّمَار والزروع وَيضم بعض الْمخْرج إِلَى بعض إِن اتَّحد الْمَعْدن وتتابع الْعَمَل كَمَا يضم المتلاحق من الثِّمَار وَلَا يشْتَرط بَقَاء الأول على ملكه وَلَا يشْتَرط فِي الضَّم اتِّصَال النّيل لِأَنَّهُ لَا يحصل غَالِبا إِلَّا مُتَفَرقًا وَإِذا قطع الْعَمَل بِعُذْر كإصلاح آلَة أَو مرض ضم وَإِن طَال الزَّمن عرفا فَإِن قطع بِلَا عذر لم يضم طَال الزَّمن أم لَا لإعراضه
وَمعنى عدم الضَّم أَنه لَا يضم الأول إِلَى الثَّانِي فِي إِكْمَال النّصاب وَيضم الثَّانِي إِلَى الأول إِن كَانَ بَاقِيا كَمَا يضمه إِلَى مَا ملكه بِغَيْر الْمَعْدن كإرث وَهبة فِي إِكْمَال النّصاب فَإِذا استخرج من الْفضة خمسين درهما بِالْعَمَلِ الأول وَمِائَة وَخمسين بِالثَّانِي فَلَا زَكَاة فِي الْخمسين وَتجب فِي الْمِائَة وَالْخمسين كَمَا تجب فِيمَا لَو كَانَ مَالِكًا لخمسين من غير الْمَعْدن
تَنْبِيه خرج بقولنَا وَهُوَ من أهل الزَّكَاة الْمكَاتب فَإِنَّهُ يملك مَا يَأْخُذهُ من الْمَعْدن وَلَا زَكَاة عَلَيْهِ فِيهِ وَأما مَا يَأْخُذهُ الرَّقِيق فلسيده فَيلْزمهُ زَكَاته وَيمْنَع الذِّمِّيّ من أَخذ الْمَعْدن والركاز بدار الْإِسْلَام كَمَا يمْنَع من الْإِحْيَاء بهَا لِأَن الدَّار للْمُسلمين وَهُوَ دخيل فِيهَا وَالْمَانِع لَهُ الْحَاكِم فَقَط فَإِن أَخذه قبل مَنعه ملكه كَمَا لَو احتطب وَيُفَارق مَا أَحْيَاهُ بتأبد ضَرَره وَوقت وجوب حق الْمَعْدن حُصُول النّيل فِي يَده وَوقت الْإِخْرَاج عقب التخليص والتنقية من التُّرَاب وَنَحْوه كَمَا أَن وَقت الْوُجُوب فِي الزَّرْع اشتداد الْحبّ وَوقت الْإِخْرَاج التنقية
(وَمَا) أَي وَأي نِصَاب من ذهب أَو فضَّة (يُؤْخَذ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من الرِّكَاز (فَفِيهِ الْخمس) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَخَالف الْمَعْدن من حَيْثُ إِنَّه لَا مُؤنَة فِي تَحْصِيله أَو مُؤْنَته قَليلَة فَكثر واجبه كالمعشرات وَيصرف هُوَ والمعدن مصرف الزَّكَاة لِأَنَّهُ حق وَاجِب فِي الْمُسْتَفَاد من الأَرْض فَأشبه الْوَاجِب فِي الزروع وَالثِّمَار
تَنْبِيه قد علم أَنه لَا بُد أَن يكون نِصَابا من النَّقْد وَلَا يشْتَرط فِيهِ الْحول والركاز بِمَعْنى المركوز وَهُوَ دَفِين الْجَاهِلِيَّة وَالْمرَاد بالجاهلية مَا قبل الْإِسْلَام أَي قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا صرح بِهِ الشَّيْخ أَبُو عَليّ سموا بذلك لِكَثْرَة جهالتهم وَيعْتَبر فِي كَون المدفون الجاهلي ركازا أَن لَا يعلم أَن مَالِكه بلغته الدعْوَة فَإِن علم أَنَّهَا بلغته وعاند وَوجد فِي بنائِهِ وبلده الَّتِي أَنْشَأَهَا كثر فَلَيْسَ بركاز بل هُوَ فَيْء كَمَا حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوع عَن جمَاعَة وَأقرهُ وَأَن يكون مَدْفُونا فَإِن وجده ظَاهرا فَإِن علم أَن السَّيْل أظهره فركاز أَو أَنه كَانَ ظَاهرا فلقطة وَإِن شكّ فَكَمَا لَو شكّ فِي أَنه ضرب الْجَاهِلِيَّة أَو الْإِسْلَام وَسَيَأْتِي فَإِن وجد دَفِين إسلامي كَأَن يكون عَلَيْهِ شَيْء من الْقُرْآن أَو اسْم ملك من مُلُوك الْإِسْلَام فَإِن علم مَالِكه فَلهُ فَيجب رده على مَالِكه لِأَن مَال الْمُسلمين لَا يملك بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَإِن لم يعلم مَالِكه فلقطة وَكَذَا إِن لم يعلم من أَي الضربين الجاهلي أَو الإسلامي هُوَ بِأَن كَانَ مِمَّا لَا أثر عَلَيْهِ كالتبر وَإِنَّمَا يملك الرِّكَاز الْوَاجِد لَهُ وَيلْزمهُ زَكَاته إِذا وجده فِي موَات أَو فِي ملك أَحْيَاهُ فَإِن وجده فِي مَسْجِد أَو شَارِع فلقطة وَإِن وجده فِي ملك شخص أَو فِي مَوْقُوف عَلَيْهِ فللشخص إِن ادَّعَاهُ فَإِن لم يَدعه بِأَن نَفَاهُ أَو سكت فَلِمَنْ ملك مِنْهُ وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِي الْأَمر إِلَى المحيي للْأَرْض فَيكون لَهُ وَإِن لم يَدعه لِأَنَّهُ ملكه وَلَو تنَازع الرِّكَاز فِي ملك بَائِع ومشتر أَو مكر ومكتر أَو معير ومستعير صدق ذُو الْيَد بِيَمِينِهِ كَمَا لَو تنَازعا فِي أَمْتعَة الدَّار(1/225)
فصل فِي زَكَاة الْفطر وَيُقَال صَدَقَة الْفطر
سميت بذلك لِأَن وُجُوبهَا بِدُخُول الْفطر وَيُقَال أَيْضا زَكَاة الْفطْرَة بِكَسْر الْفَاء وَالتَّاء فِي آخرهَا كَأَنَّهَا من الْفطْرَة الَّتِي هِيَ الْخلقَة المرادة بقوله تَعَالَى {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} قَالَ وَكِيع بن الْجراح زَكَاة الْفطر لشهر رَمَضَان كسجدة السَّهْو للصَّلَاة تجبر نُقْصَان الصَّوْم كَمَا يجْبر السُّجُود نُقْصَان الصَّلَاة
وَالْأَصْل فِي وُجُوبهَا قبل الْإِجْمَاع خبر ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر من رَمَضَان على النَّاس صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير على كل حر أَو عبد ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين (وَتجب زَكَاة الْفطر بِثَلَاثَة شَرَائِط) بل بأَرْبعَة كَمَا ستعرفه الأول (الْإِسْلَام) فَلَا زَكَاة على كَافِر أُصَلِّي لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُسلمين وَهُوَ إِجْمَاع قَالَه الْمَاوَرْدِيّ لِأَنَّهَا طهرة وَهُوَ لَيْسَ من أَهلهَا وَالْمرَاد أَنه لَيْسَ مطالبا بإخراجها وَلَكِن يُعَاقب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة وَأما فطْرَة الْمُرْتَد وَمن عَلَيْهِ مُؤْنَته فموقوفة على عوده إِلَى الْإِسْلَام وَكَذَا العَبْد الْمُرْتَد وَلَو غربت الشَّمْس وَمن تلْزم الْكَافِر نَفَقَته مُرْتَد لم تلْزمهُ فطرته حَتَّى يعود إِلَى الْإِسْلَام وَتلْزم الْكَافِر الْأَصْلِيّ فطْرَة رَقِيقه الْمُسلم وقريبه الْمُسلم كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا
(و) الشَّرْط الثَّانِي (بغروب) كل (الشَّمْس من آخر يَوْم من رَمَضَان) لِأَنَّهَا مُضَافَة فِي الحَدِيث إِلَى الْفطر من رَمَضَان فِي الْخَبَر الْمَاضِي وَلَا بُد من إِدْرَاك جُزْء من رَمَضَان وجزء من لَيْلَة شَوَّال وَيظْهر أثر ذَلِك فِيمَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر مَعَ أول جُزْء من أول لَيْلَة شَوَّال أَو مَعَ آخر جُزْء من رَمَضَان أَو كَانَ هُنَاكَ مُهَايَأَة فِي رَقِيق بَين اثْنَيْنِ بليلة وَيَوْم أَو نَفَقَة قريب بَين اثْنَيْنِ كَذَلِك فَهِيَ عَلَيْهِمَا لِأَن وَقت الْوُجُوب حصل فِي نوبتيهما فَتخرج عَمَّن مَاتَ بعد الْغُرُوب دون من ولد بعده وَيسن أَن تخرج قبل صَلَاة(1/226)
الْعِيد لِلِاتِّبَاعِ وَهَذَا جري على الْغَالِب من فعل الصَّلَاة أول النَّهَار فَإِن أخرت اسْتحبَّ الْأَدَاء أول النَّهَار وَيحرم تَأْخِيرهَا عَن يَوْم الْعِيد بِلَا عذر كغيبة مَاله أَو الْمُسْتَحقّين
(و) الثَّالِث من الشُّرُوط (وجود الْفضل) أَي الْفَاضِل (عَن قوته وقوت) من تلْزمهُ نَفَقَته من (عِيَاله) من زوجية أَو بعضية أَو ملكية (فِي ذَلِك الْيَوْم) أَي يَوْم الْعِيد (وَلَيْلَته) وَيشْتَرط أَيْضا أَن يكون فَاضلا عَن مسكن وخادم لائقين بِهِ يحْتَاج إِلَيْهِمَا كَمَا فِي الْكَفَّارَة
بِجَامِع التَّطْهِير وَالْمرَاد بحاجة الْخَادِم أَن يَحْتَاجهُ لخدمته أَو خدمَة ممونه أما حَاجته لعمله فِي أرضه أَو مَاشِيَته فَلَا أثر لَهَا وَخرج باللائق بِهِ مَا لَو كَانَا نفيسين يُمكن إبدالهما بلائق بِهِ وَيخرج التَّفَاوُت فَيلْزمهُ ذَلِك كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي الْحَج نعم لَو ثبتَتْ الْفطْرَة فِي ذمَّة إِنْسَان فَإِنَّهُ يُبَاع فِيهَا مَسْكَنه وخادمه لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ التحقت بالديون وَيشْتَرط أَيْضا كَونه فَاضلا عَن دست ثوب يَلِيق بِهِ وبممونه كَمَا أَنه يبْقى لَهُ فِي الدُّيُون وَلَا يشْتَرط كَونه فَاضلا عَن دينه وَلَو لآدَمِيّ كَمَا رَجحه فِي الْمَجْمُوع
(و) الشَّرْط الرَّابِع الَّذِي تَركه المُصَنّف الْحُرِّيَّة فَلَا فطْرَة على رَقِيق لَا عَن نَفسه وَلَا عَن غَيره أما غير الْمكَاتب كِتَابَة صَحِيحَة فلعدم ملكه وَأما الْمكَاتب الْمَذْكُور فلضعف ملكه إِذْ لَا يجب عَلَيْهِ زَكَاة مَاله وَلَا نَفَقَة قَرِيبه وَلَا فطْرَة على سَيّده عَنهُ لاستقلاله بِخِلَاف الْمكَاتب كِتَابَة فَاسِدَة فَإِن فطرته على سَيّده وَإِن لم تجب عَلَيْهِ نَفَقَته وَمن بعضه حر يلْزمه من الْفطْرَة بِقدر مَا فِيهِ من الْحُرِّيَّة وباقيها على مَالك الْبَاقِي هَذَا حَيْثُ لَا مُهَايَأَة بَينه وَبَين مَالك بعضه فَإِن كَانَت مُهَايَأَة اخْتصّت الْفطْرَة مِمَّن وَقعت فِي نوبَته وَمثله فِي ذَلِك الرَّقِيق الْمُشْتَرك (ويزكي عَن نَفسه وَعَمن تلْزمهُ نَفَقَته من) زَوجته وَبَعضه ورقيقه (الْمُسلمين)
تَنْبِيه ضَابِط ذَلِك من لزمَه فطْرَة نَفسه لزمَه فطْرَة من تلْزمهُ نَفَقَته بِملك أَو قرَابَة أَو زوجية إِذا كَانُوا مُسلمين وَوجد مَا يُؤَدِّي عَنْهُم وَاسْتثنى من هَذَا الضَّابِط مسَائِل مِنْهَا لَا يلْزم الْمُسلم فطْرَة الرَّقِيق والقريب وَالزَّوْجَة الْكفَّار وَإِن وَجَبت نَفَقَتهم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخَبَر السَّابِق من الْمُسلمين وَمِنْهَا لَا يلْزم العَبْد فطْرَة زَوجته حرَّة كَانَت أَو غَيرهَا وَإِن أَوجَبْنَا نَفَقَتهَا فِي كَسبه وَنَحْوه لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا لفطرة نَفسه فَكيف يتَحَمَّل عَن غَيره وَمِنْهَا لَا يلْزم الابْن فطْرَة زَوْجَة أَبِيه ومستولدته وَإِن وَجَبت نفقتهما على الْوَلَد لِأَن النَّفَقَة لَازِمَة للْأَب مَعَ إِعْسَاره فيتحملها الْوَلَد بِخِلَاف الْفطْرَة وَمِنْهَا عبد بَيت المَال تجب نَفَقَته دون فطرته وَمِنْهَا الْفَقِير الْعَاجِز عَن الْكسْب يلْزم الْمُسلمين نَفَقَته دون فطرته وَمِنْهَا مَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم أَنه لَو آجر عَبده وَشرط نَفَقَته على الْمُسْتَأْجر فَإِن الْفطْرَة على سَيّده وَمِنْهَا عبد الْمَالِك فِي الْمُسَاقَاة والقراض إِذا شَرط عمله مَعَ الْعَامِل فنفقته عَلَيْهِ وفطرته على سَيّده وَمِنْهَا مَا لَو حج بِالنَّفَقَةِ وَمِنْهَا عبد الْمَسْجِد فَلَا تجب فطرتهما وَإِن وَجَبت نفقتهما سَوَاء أَكَانَ عبد الْمَسْجِد ملكا لَهُ أَو مَوْقُوفا(1/227)
عَلَيْهِ وَمِنْهَا الْمَوْقُوف على جِهَة أَو معِين كَرجل ومدرسة ورباط وَلَو أعْسر الزَّوْج وَقت الْوُجُوب أَو كَانَ عبدا لزم سيد الزَّوْجَة الْأمة فطرتها لَا الْحرَّة فَلَا تلزمها وَلَا زَوجهَا لانْتِفَاء يسَاره وَالْفرق كَمَال تَسْلِيم الْحرَّة نَفسهَا بِخِلَاف الْأمة لاستخدام السَّيِّد لَهَا
ويزكي عَن نَفسه وجوبا (صَاعا من) غَالب (قوت بَلَده) إِن كَانَ بلديا وَفِي غَيره من غَالب قوت مَحَله لِأَن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف النواحي وَالْمُعْتَبر فِي غَالب الْقُوت غَالب قوت السّنة كَمَا فِي الْمَجْمُوع لَا غَالب قوت وَقت الْوُجُوب خلافًا للغزالي فِي وسيطه
ويجزىء الْقُوت الْأَعْلَى عَن الْقُوت الْأَدْنَى لِأَنَّهُ زَاد خيرا وَلَا عكس لنقصه عَن الْحق وَالِاعْتِبَار فِي الْأَعْلَى والأدنى بِزِيَادَة الاقتيات لِأَنَّهُ الْمَقْصُود فالبر خير من التَّمْر والأرز وَمن الزَّبِيب وَالشعِير من الزَّبِيب فالشعير خير من التَّمْر لِأَنَّهُ أبلغ فِي الاقتيات وَالتَّمْر خير مِنْهُ بِالْأولَى وَيَنْبَغِي أَن يكون الشّعير خيرا من الْأرز وَأَن الْأرز خير من التَّمْر
وَله أَن يخرج عَن نَفسه من قوت وَاجِب وَعَمن تلْزمهُ فطرته كزوجته وَعَبده وقريبه أَو عَمَّن تبرع عَنهُ بِإِذْنِهِ أَعلَى مِنْهُ لِأَنَّهُ زَاد خيرا وَلَا يبعض الصَّاع الْمخْرج عَن الشَّخْص الْوَاحِد من جِنْسَيْنِ وَإِن كَانَ أحد الجنسين أَعلَى من الْوَاجِب كَمَا لَا يجزىء فِي كَفَّارَة الْيَمين أَن يكسو خَمْسَة وَيطْعم خَمْسَة أما لَو أخرج الصَّاع عَن اثْنَيْنِ كَأَن ملك وَاحِد نصفي عَبْدَيْنِ أَو مبعضين ببلدين مختلفي الْقُوت فَإِنَّهُ يجوز تبعيض الصَّاع أَو إِخْرَاجه من نَوْعَيْنِ فَإِنَّهُ جَائِز إِذا كَانَ من الْغَالِب وَلَو كَانَ فِي بلد أقوات لَا غَالب فِيهَا تخير وَالْأَفْضَل أَعْلَاهَا فِي الاقتيات لقَوْله تَعَالَى {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون}
تَنْبِيه لَو كَانُوا يقتاتون الْقَمْح الْمَخْلُوط بِالشَّعِيرِ تخير إِن كَانَ الخليطان على حد سَوَاء فَإِن كَانَ أَحدهمَا أَكثر وَجب مِنْهُ فَإِن لم يجد إِلَّا نصفا من ذَا وَنصفا من ذَا فَوَجْهَانِ أوجههمَا أَنه يخرج النّصْف الْوَاجِب عَلَيْهِ وَلَا يجزىء الآخر لما مر أَنه لَا يجوز أَن يبعض الصَّاع من جِنْسَيْنِ وَأما من يُزكي عَن غَيره فَالْعِبْرَة بغالب قوت مَحل الْمُؤَدى عَنهُ فَلَو كَانَ الْمُؤَدِّي بِمحل آخر اعْتبرت بقوت مَحل الْمُؤَدى عَنهُ بِنَاء على الْأَصَح من أَن الْفطْرَة تجب أَولا عَلَيْهِ ثمَّ يتحملها عَنهُ الْمُؤَدِّي فَإِن لم يعرف مَحَله كَعبد آبق فَيحْتَمل كَمَا قَالَ جمَاعَة اسْتثِْنَاء هَذِه أَو يخرج فطرته من قوت آخر مَحل عهد وُصُوله إِلَيْهِ لِأَن الأَصْل أَنه فِيهِ أَو يخرج للْحَاكِم لِأَن لَهُ نقل الزَّكَاة فَإِن لم يكن قوت الْمحل الَّذِي يخرج مِنْهُ مجزيا اعْتبر أقرب الْمحَال إِلَيْهِ وَإِن كَانَ بِقُرْبِهِ محلان متساويان قربا تخير بَينهمَا
(وَقدره) أَي الصَّاع بِالْوَزْنِ (خَمْسَة أَرْطَال وَثلث) رَطْل (بالعراقي) أَي بالبغدادي
وَتقدم الْكَلَام فِي بَيَان رَطْل بَغْدَاد فِي مَوْضِعه وَالْأَصْل فِيهِ الْكَيْل وَإِنَّمَا قدر بِالْوَزْنِ استظهارا وَالْعبْرَة بالصاع النَّبَوِيّ إِن وجد أَو معياره فَإِن فقد أخرج قدرا يتَيَقَّن أَنه لَا ينقص عَن الصَّاع
قَالَ فِي الرَّوْضَة قَالَ جمَاعَة الصَّاع أَربع حفنات بكفي رجل معتدلهما انْتهى
والصاع بِالْكَيْلِ الْمصْرِيّ قدحان وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يزِيد شَيْئا يَسِيرا لاحْتِمَال اشتمالهما على طين أَو تبن أَو نَحْو ذَلِك
قَالَ ابْن الرّفْعَة كَانَ قَاضِي الْقُضَاة عماد الدّين السكرِي رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول حِين يخْطب بِمصْر خطْبَة عيد الْفطر والصاع قدحان بكيل بلدكم هَذِه سَالم من الطين وَالْعَيْب(1/228)
والغلت وَلَا يجزىء فِي بلدكم هَذِه إِلَّا الْقَمْح اه
فَائِدَة ذكر الْقفال الشَّاشِي فِي محَاسِن الشَّرِيعَة معنى لطيفا فِي إِيجَاب الصَّاع وَهُوَ أَن النَّاس تمْتَنع غَالِبا من الْكسْب فِي الْعِيد وَثَلَاثَة أَيَّام بعده وَلَا يجد الْفَقِير من يَسْتَعْمِلهُ فِيهَا لِأَنَّهَا أَيَّام سرُور وراحة عقب الصَّوْم وَالَّذِي يتَحَصَّل من الصَّاع عِنْد جعله خبْزًا ثَمَانِيَة أَرْطَال من الْخبز فَإِن الصَّاع خَمْسَة أَرْطَال وَثلث كَمَا مر ويضاف إِلَيْهِ من المَاء نَحْو الثُّلُث فَيَأْتِي مِنْهُ ذَلِك وَهُوَ كِفَايَة الْفَقِير فِي أَرْبَعَة أَيَّام لكل يَوْم رطلان
تَتِمَّة جنس الصَّاع الْوَاجِب الْقُوت الَّذِي يجب فِيهِ الْعشْر أَو نصفه لِأَن النَّص قد ورد فِي بعض المعشرات كالبر وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب وَقيس الْبَاقِي عَلَيْهِ بِجَامِع الاقتيات ويجزىء الأقط لثُبُوته فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ لبن يَابِس غير منزوع الزّبد وَفِي مَعْنَاهُ لبن وَجبن لم ينْزع زبدهما وأجزأ كل من الثَّلَاثَة لمن هُوَ قوته سَوَاء أَكَانَ من أهل الْبَادِيَة أم الْحَاضِرَة أما منزوع الزّبد من ذَلِك فَلَا يجزىء وَكَذَا لَا يجزىء الكشك وَهُوَ بِفَتْح الْكَاف مَعْرُوف وَلَا المخيض وَلَا المصل وَلَا السّمن وَلَا الْملح وَلَا اللَّحْم وَلَا مملح من الأقط أفسد كَثْرَة الْملح جوهره بِخِلَاف الْملح الْيَسِير فيجزىء لَكِن لَا يحْسب الْملح فَيخرج قدرا يكون مَحْض الأقط مِنْهُ صَاعا
وللأصل أَن يخرج من مَاله زَكَاة موليه الْغَنِيّ لِأَنَّهُ لَا يسْتَقلّ بتمليكه بِخِلَاف غير موليه كَوَلَد رشيد وأجنبي لَا يجوز إخْرَاجهَا عَنهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَو اشْترك موسران أَو مُوسر ومعسر فِي رَقِيق لزم كل مُوسر قدر حِصَّته لَا من واجبه كَمَا وَقع فِي الْمِنْهَاج بل من قوت مَحل الرَّقِيق كَمَا علم مِمَّا مر
وَصرح بِهِ فِي الْمَجْمُوع بِنَاء على مَا مر من أَن الْأَصَح أَنَّهَا تجب ابْتِدَاء على الْمُؤَدى عَنهُ ثمَّ يتحملها الْمُؤَدِّي
فصل فِي قسم الصَّدقَات
أَي الزكوات على مستحقيها وَسميت بذلك لإشعارها بِصدق باذلها وَذكرهَا المُصَنّف فِي آخر الزَّكَاة تبعا للْإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي الْأُم وَهُوَ أنسب من ذكر الْمِنْهَاج لَهَا تبعا للمزني بعد قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة
(وتدفع الزَّكَاة) من أَي صنف كَانَ من أصنافها الثَّمَانِية الْمُتَقَدّم بَيَانهَا (إِلَى) جَمِيع (الْأَصْنَاف الثَّمَانِية) عِنْد وجودهم فِي مَحل المَال (وهم) الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَزِيز فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبهم وَفِي الرّقاب والغارمين وَفِي سَبِيل الله وَابْن السَّبِيل} قد علم من الْحصْر بإنها أَنما لَا تصرف لغَيرهم وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وَقع الْخلاف فِي استيعابهم وأضاف فِي الْآيَة الْكَرِيمَة الصَّدقَات إِلَى الْأَصْنَاف الْأَرْبَعَة الأولى بلام الْملك وَإِلَى الْأَرْبَعَة الْأَخِيرَة بفي الظَّرْفِيَّة للإشعار بِإِطْلَاق الْملك فِي الْأَرْبَعَة الأولى وتقييده فِي الْأَرْبَعَة الْأَخِيرَة حَتَّى إِذا لم يحصل(1/229)
الصّرْف فِي مصارفها اسْترْجع بِخِلَافِهِ فِي الأولى على مَا يَأْتِي
وَسكت المُصَنّف عَن تَعْرِيف هَذِه الْأَصْنَاف وَأَنا أذكرهم على نظم الْآيَة الْكَرِيمَة
فَالْأول الْفَقِير وَهُوَ من لَا مَال لَهُ وَلَا كسب لَائِق بِهِ يَقع جميعهما أَو مجموعهما موقعا من كِفَايَته مطعما وملبسا ومسكنا وَغَيرهمَا مِمَّا لَا بُد لَهُ مِنْهُ على مَا يَلِيق بِحَالهِ وَحَال ممونه كمن يحْتَاج إِلَى عشرَة وَلَا يملك أَو لَا يكْتَسب إِلَّا دِرْهَمَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة وَسَوَاء أَكَانَ مَا يملكهُ نِصَابا أم أقل أم أَكثر
وَالثَّانِي الْمِسْكِين وَهُوَ من لَهُ مَال أَو كسب لَائِق بِهِ يَقع موقعا من كِفَايَته وَلَا يَكْفِيهِ كمن يملك أَو يكْتَسب سَبْعَة أَو ثَمَانِيَة وَلَا يَكْفِيهِ إِلَّا عشرَة وَالْمرَاد أَنه لَا يَكْفِيهِ الْعُمر الْغَالِب وَيمْنَع فقر الشَّخْص ومسكنته كِفَايَته بِنَفَقَة قريب أَو زوج أَو سيد لِأَنَّهُ غير مُحْتَاج كمكتسب كل يَوْم قدر كِفَايَته واشتغاله بنوافل وَالْكَسْب يمنعهُ مِنْهَا لَا اشْتِغَاله بِعلم شَرْعِي يَتَأَتَّى مِنْهُ تَحْصِيله وَالْكَسْب يمنعهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ فرض كِفَايَة وَلَا يمْنَع ذَلِك أَيْضا مَسْكَنه وخادمه وثيابه وَكتب لَهُ يحتاجها وَلَا مَال لَهُ غَائِب بمرحلتين أَو مُؤَجل فَيعْطى مَا يَكْفِيهِ إِلَى أَن يصل إِلَى مَاله أَو يحل الْأَجَل لِأَنَّهُ الْآن فَقير أَو مِسْكين
وَالثَّالِث الْعَامِل على الزَّكَاة كساع يجبيها وَكَاتب يكْتب مَا أعطَاهُ أَرْبَاب الْأَمْوَال وقاسم وحاشر يجمعهُمْ أَو يجمع ذَوي السهْمَان لَا قَاض ووال فَلَا حق لَهما فِي الزَّكَاة بل رزقهما فِي خمس الْخمس المرصد للْمصَالح
وَالرَّابِع الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم جمع مؤلف من التَّأْلِيف وَهُوَ من أسلم وَنِيَّته ضَعِيفَة فيتألف ليقوى إيمَانه أَو من أسلم وَنِيَّته فِي الْإِسْلَام قَوِيَّة وَلَكِن لَهُ شرف فِي قومه يتَوَقَّع بإعطائه إِسْلَام غَيره أَو كَاف لنا شَرّ من يَلِيهِ من كفار أَو مانعي زَكَاة فهذان القسمان الأخيران إِنَّمَا يعطيان إِذا كَانَ إعطاؤهما أَهْون علينا من جَيش يبْعَث لذَلِك فَقَوْل الْمَاوَرْدِيّ يعْتَبر فِي إِعْطَاء الْمُؤَلّفَة احتياجنا إِلَيْهِم مَحْمُول على غير الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلين أما هما فَلَا يشْتَرط فيهمَا ذَلِك كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامهم
وَهل تكون الْمَرْأَة من الْمُؤَلّفَة وَجْهَان أصَحهمَا نعم
وَالْخَامِس الرّقاب وهم المكاتبون كِتَابَة صَحِيحَة لغير مزك فيعطون وَلَو بِغَيْر إِذن ساداتهم أَو قبل حُلُول النُّجُوم مَا يعينهم على الْعتْق إِن لم يكن مَعَهم مَا يَفِي بنجومهم أما مكَاتب الْمُزَكي فَلَا يعْطى من زَكَاته شَيْئا لعود الْفَائِدَة إِلَيْهِ مَعَ كَونه ملكه
وَالسَّادِس الْغَارِم وَهُوَ ثَلَاثَة من تداين لنَفسِهِ فِي مُبَاح طَاعَة كَانَ أَو لَا وَإِن صرفه فِي مَعْصِيّة أَو فِي غير مُبَاح كخمر وَتَابَ وَظن صدقه أَو صرفه فِي مُبَاح فَيعْطى مَعَ الْحَاجة بِأَن يحل الدّين وَلَا يقدر على وفائه بِخِلَاف مَا لَو تداين لمعصية وَصَرفه فِيهَا وَلم يتب فَلَا يعْطى وَمَا لَو لم يحْتَج لم يُعْط أَو تداين لإِصْلَاح ذَات الْبَين أَي الْحَال بَين الْقَوْم كَأَن خَافَ فتْنَة بَين قبيلتين تنازعتا فِي قَتِيل لم يظْهر قَاتله فَتحمل الدِّيَة تسكينا للفتنة فَيعْطى وَلَو غَنِيا ترغيبا فِي هَذِه المكرمة أَو تداين لضمان فَيعْطى إِن أعْسر مَعَ الْأَصِيل أَو أعْسر وَحده وَكَانَ مُتَبَرعا بِالضَّمَانِ بِخِلَاف مَا إِذا ضمن بِالْإِذْنِ
وَالسَّابِع سَبِيل الله تَعَالَى وَهُوَ غاز ذكر مُتَطَوّع بِالْجِهَادِ فَيعْطى وَلَو غَنِيا إِعَانَة لَهُ على الْغَزْو
وَالثَّامِن ابْن السَّبِيل وَهُوَ منشىء سفر من بلد الزَّكَاة أَو مجتاز بِهِ فِي سَفَره إِن احْتَاجَ وَلَا مَعْصِيّة بِسَفَرِهِ(1/230)
تَنْبِيه من علم الدَّافِع من إِمَام أَو غَيره حَاله من اسْتِحْقَاقه الزَّكَاة وَعَدَمه عمل بِعِلْمِهِ وَمن لَا يعلم حَاله فَإِن ادّعى ضعف إِسْلَام صدق بِلَا يَمِين أَو ادّعى فقرا أَو مسكنة فَكَذَلِك لَا إِن ادّعى عيالا أَو تلف مَال عرف أَن لَهُ فيكلف بَيِّنَة لسهولتها كعامل ومكاتب وغارم وَبَقِيَّة الْمُؤَلّفَة وَصدق غاز وَابْن السَّبِيل بِلَا يَمِين فَإِن تخلفا عَمَّا أخذا لأَجله اسْتردَّ مِنْهُمَا مَا أخذاه وَالْبَيِّنَة هُنَا إِخْبَار عَدْلَيْنِ أَو عدل وَامْرَأَتَيْنِ ويغني عَن الْبَيِّنَة استفاضة بَين النَّاس وتصديق دائن فِي الْغَارِم وَسيد للْمكَاتب
وَيُعْطى فَقير ومسكين كِفَايَة عمر غَالب فيشتريان بِمَا يعطيانه عقارا يستغلانه وَللْإِمَام أَن يَشْتَرِي لَهُ ذَلِك كَمَا فِي الْغَازِي هَذَا فِيمَن لَا يحسن الْكسْب بحرفة وَلَا تِجَارَة أما من يحسن الْكسْب بحرفة فَيعْطى مَا يَشْتَرِي بِهِ آلاتها أَو بِتِجَارَة فَيعْطى مَا يَشْتَرِي بِهِ مَا يحسن التِّجَارَة فِيهِ مَا يَفِي ربحه بكفايته غَالِبا وَيُعْطى مكَاتب وغارم لغير إصْلَاح ذَات الْبَين مَا عَجزا عَنهُ من وَفَاء دينهما وَيُعْطى ابْن سَبِيل مَا يوصله مقْصده أَو مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال فِي طَرِيقه وَيُعْطى غاز حَاجته فِي غَزوه ذَهَابًا وإيابا وَإِقَامَة لَهُ ولعياله ويملكه فَلَا يسْتَردّ مِنْهُ ويهيأ لَهُ مركوب إِن لم يطق الْمَشْي أَو طَال سَفَره وَمَا يحمل زَاده ومتاعه إِن لم يعْتد مثله حملهما كَابْن السَّبِيل والمؤلفة يُعْطِيهَا الإِمَام أَو الْمَالِك مَا يرَاهُ
وَالْعَامِل يعْطى أُجْرَة مثله وَمن فِيهِ صفتا اسْتِحْقَاق كفقير وغارم يَأْخُذ بِإِحْدَاهُمَا
(و) يجب تَعْمِيم الْأَصْنَاف الثَّمَانِية فِي الْقسم إِن أمكن بِأَن قسم الإِمَام وَلَو بنائبه ووجدوا لظَاهِر الْآيَة فَإِن لم يُمكن بِأَن قسم الْمَالِك إِذْ لَا عَامل أَو الإِمَام وَوجد بَعضهم وَجب الدّفع (إِلَى من يُوجد مِنْهُم) وتعميم من وجد مِنْهُم وعَلى الإِمَام تَعْمِيم آحَاد كل صنف وَكَذَا الْمَالِك إِن انحصروا بِالْبَلَدِ ووفى بهم المَال فَإِن لم ينحصروا أَو انحصروا (و) لَا وفى بهم المَال (لم يجز الِاقْتِصَار على أقل من ثَلَاثَة من كل صنف) لذكره فِي الْآيَة بِصِيغَة الْجمع وَهُوَ المُرَاد بفي سَبِيل الله وَابْن السَّبِيل الَّذِي هُوَ للْجِنْس (إِلَّا الْعَامِل) فَإِنَّهُ يسْقط إِذْ قسم الْمَالِك وَيجوز حَيْثُ كَانَ أَن يكون وَاحِدًا إِن حصلت بِهِ الْكِفَايَة وَتجب التَّسْوِيَة بَين الْأَصْنَاف غير الْعَامِل وَلَو زَادَت حَاجَة بَعضهم وَلَا تجب التَّسْوِيَة بَين آحَاد الصِّنْف إِلَّا أَن يقسم الإِمَام وتتساوى الْحَاجَات فَتجب التَّسْوِيَة وَيحرم على الْمَالِك وَلَا يُجزئهُ نقل الزَّكَاة من بلد وُجُوبهَا مَعَ وجود الْمُسْتَحقّين إِلَى بلد آخر فَإِن عدمت الْأَصْنَاف فِي بلد وُجُوبهَا أَو فضل عَنْهُم شَيْء وَجب نقلهَا أَو الْفَاضِل إِلَى مثلهم بأقرب بلد إِلَيْهِ وَإِن عدم بَعضهم أَو فضل عَنهُ شَيْء رد نصيب الْبَعْض أَو الْفَاضِل عَنهُ على البَاقِينَ إِن نقص نصِيبهم عَن كفايتهم أما الإِمَام فَلهُ وَلَو بنائبه نقل الزَّكَاة مُطلقًا
وَلَو امْتنع المستحقون من أَخذهَا قوتلوا
فرع لَو كَانَ شخص عَلَيْهِ دين فَقَالَ الْمَدْيُون لصَاحب الدّين ادْفَعْ لي من زكاتك حَتَّى أقضيك دينك فَفعل أَجزَأَهُ عَن الزَّكَاة وَلَا يلْزم الْمَدْيُون الدّفع إِلَيْهِ عَن دينه وَلَو قَالَ صَاحب الدّين اقْضِ مَا عَلَيْك لأرده عَلَيْك من زكاتي فَفعل صَحَّ الْقَضَاء وَلَا يلْزمه رده إِلَيْهِ فَلَو دفع إِلَيْهِ وَشرط أَن يَقْضِيه ذَلِك عَن دينه لم يجزه وَلَا يَصح قَضَاؤُهُ بهَا وَلَو نوياه بِلَا شَرط جَازَ وَلَو كَانَ عَلَيْهِ دين فَقَالَ جعلته عَن زكاتي لم يجزه على الصَّحِيح حَتَّى يقبضهُ ثمَّ يردهُ إِلَيْهِ وَقيل يُجزئهُ كَمَا لَو كَانَ وَدِيعَة (وَخَمْسَة لَا يجوز دَفعهَا) أَي الزَّكَاة (إِلَيْهِم) الأول (الْغَنِيّ بِمَال) حَاضر عِنْده (أَو كسب) لَائِق بِهِ يَكْفِيهِ
(و) الثَّانِي(1/231)
(العَبْد) غير الْمكَاتب إِذْ لَا حق فِيهَا لمن بِهِ رق غير الْمكَاتب
(و) الثَّالِث (بَنو هَاشم وَبَنُو عبد الْمطلب) فَلَا تحل لَهما لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن هَذِه الصَّدقَات إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس وَإِنَّهَا لَا تحل لمُحَمد وَلَا لآل مُحَمَّد رَوَاهُ مُسلم
وَقَالَ لَا أحل لكم أهل الْبَيْت من الصَّدقَات شَيْئا إِن لكم فِي خمس الْخمس مَا يكفيكم أَو يغنيكم أَي بل يغنيكم وَلَا تحل أَيْضا لمواليهم لخَبر مولى الْقَوْم مِنْهُم
(و) الرَّابِع (من تلْزم الْمُزَكي نَفَقَته) بزوجية أَو بعضية (لَا يَدْفَعهَا) إِلَيْهِم (باسم) أَي من سهم (الْفُقَرَاء) وَلَا من سهم (الْمَسَاكِين) لغناهم بذلك وَله دَفعهَا إِلَيْهِم من سهم بَاقِي الْأَصْنَاف إِذا كَانُوا بِتِلْكَ الصّفة إِلَّا أَن الْمَرْأَة لَا تكون عاملة وَلَا غَازِيَة كَمَا فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه أفرد المُصَنّف الضَّمِير فِي نَفَقَته حملا على لفظ من وَجمعه فِي إِلَيْهِم حملا على مَعْنَاهُ
وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْيِيده بالمزكي إِذْ من تلْزم غير الْمُزَكي نَفَقَته كَذَلِك فَلَو حذفه لَكَانَ أخصر وأشمل
(و) الْخَامِس (لَا تصح للْكَافِرِ) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد على فقرائهم نعم الكيال والحمال والحافظ وَنَحْوهم يجوز كَونهم كفَّارًا مستأجرين من سهم الْعَامِل لِأَن ذَلِك أُجْرَة لَا زَكَاة
تَنْبِيه يجب أَدَاء الزَّكَاة فَوْرًا إِذا تمكن من الْأَدَاء بِحُضُور مَال وآخذ لِلزَّكَاةِ من إِمَام أَو ساع أَو مُسْتَحقّ وبجفاف تمر وتنقية حب وخلو مَالك من مُهِمّ ديني أَو دُنْيَوِيّ كَصَلَاة وَأكل وبقدرة على غَائِب قار أَو على اسْتِيفَاء دين حَال وبزوال حجر فلس وَتَقْرِير أُجْرَة قبضت وَلَا يشْتَرط تَقْرِير صدَاق بِمَوْت أَو وَطْء
وَفَارق الْأُجْرَة بِأَنَّهَا مُسْتَحقَّة فِي مُقَابلَة الْمَنَافِع فبفواتها يَنْفَسِخ العقد بِخِلَاف الصَدَاق فَإِن أخر أداءها وَتلف المَال ضمن وَله أَدَاؤُهَا لمستحقيها إِلَّا إِن طلبَهَا إِمَام عَن مَال ظَاهر فَيجب أَدَاؤُهَا لَهُ وَله دَفعهَا إِلَى الإِمَام بِلَا طلب مِنْهُ وَهُوَ أفضل من تفريقها بِنَفسِهِ وَتجب نِيَّة فِي الزَّكَاة كهذه زكاتي أَو فرض صدقتي أَو صَدَقَة مَالِي الْمَفْرُوضَة وَلَا يَكْفِي فرض مَالِي لِأَنَّهُ يكون كَفَّارَة ونذرا وَلَا صَدَقَة مَالِي لِأَنَّهَا قد تكون نَافِلَة وَلَا يجب فِي النِّيَّة تعْيين مَال فَإِن عينه لم يَقع عَن غَيره وَتلْزم الْوَلِيّ عَن مَحْجُوره وتكفي النِّيَّة عِنْد عزلها عَن المَال وَبعده وَعند دَفعهَا لإِمَام أَو وَكيل وَالْأَفْضَل أَن ينويا عِنْد تَفْرِيق أَيْضا وَله أَن يُوكل فِي النِّيَّة وَلَا يَكْفِي نِيَّة إِمَام عَن الْمُزَكي بِلَا إِذن مِنْهُ إِلَّا عَن مُمْتَنع من أَدَائِهَا فتكفي وَتلْزَمهُ إِقَامَة لَهَا مقَام نِيَّة الْمُزَكي وَالزَّكَاة تتَعَلَّق بِالْمَالِ الَّذِي تجب فِيهِ تعلق شركَة بِقَدرِهَا
فَلَو بَاعَ مَا تعلّقت بِهِ الزَّكَاة أَو بعضه قبل إخْرَاجهَا بَطل فِي قدرهَا إِلَّا إِن بَاعَ مَال تِجَارَة بِلَا مُحَابَاة فَلَا يبطل لِأَن مُتَعَلق الزَّكَاة الْقيمَة وَهِي لَا تفوت بِالْبيعِ وَسن للْإِمَام أَن يعلم شهرا لأخذ الزَّكَاة وَسن أَن يكون الْمحرم لِأَنَّهُ أول السّنة الشَّرْعِيَّة وَأَن يسم نعم زَكَاة وفيء لِلِاتِّبَاعِ فِي مَحل صلب ظَاهر للنَّاس لَا يكثر شعره وَحرم الوسم فِي الْوَجْه للنَّهْي عَنهُ
تَتِمَّة صَدَقَة التَّطَوُّع سنة لما ورد فِيهَا من الْكتاب وَالسّنة وَتحل لَغَنِيّ وَلِذِي الْقُرْبَى لَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتحل لكَافِر وَدفعهَا سرا وَفِي رَمَضَان ولنحو قريب كَزَوْجَة وصديق فجار قريب أقرب فأقرب أفضل وَتحرم بِمَا تحتاجه من نَفَقَة وَغَيرهَا لممونه من نَفسه وَغَيره أَو لدين لَا يظنّ لَهُ وَفَاء لَو تصدق بِهِ وَتسن بِمَا فضل عَن حَاجته لنَفسِهِ وَمؤنَة يَوْمه وَلَيْلَته وَفصل كسوته ووفاء دينه إِن صَبر على الإضاقة وَإِلَّا كره كَمَا فِي الْمُهَذّب
وَيسن الْإِكْثَار من الصَّدَقَة فِي رَمَضَان وَأَيَّام الْحَاجَات وَعند كسوف وَمرض(1/232)
وسفر وَحج وَجِهَاد وَفِي أزمنة وأمكنة فاضلة كعشر ذِي الْحجَّة وَأَيَّام الْعِيد وَمَكَّة وَالْمَدينَة وَيسن أَن يخص بِصَدَقَتِهِ أهل الْخَيْر والمحتاجين وَلَو كَانَ التَّصْدِيق بِشَيْء يسير فَفِي الصَّحِيحَيْنِ اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} وَمن تصدق بِشَيْء كره أَن يَتَمَلَّكهُ من جِهَة من دَفعه إِلَيْهِ بمعاوضة أَو غَيرهَا وَيحرم الْمَنّ بِالصَّدَقَةِ وَيبْطل بِهِ ثَوَابهَا وَيسن أَن يتَصَدَّق بِمَا يُحِبهُ قَالَ تَعَالَى {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون}
تَعَالَى حِكَايَة عَن مَرْيَم {إِنِّي نذرت للرحمن صوما} إمساكا وسكوتا عَن الْكَلَام(1/233)
كتاب الصّيام
تَعْرِيف الصَّوْم وَالْأَصْل مِنْهُ وَالصَّوْم لُغَة الْإِمْسَاك وَمِنْه قَوْله
وَشرعا إمْسَاك عَن الْمُفطر على وَجه مَخْصُوص مَعَ النِّيَّة
وَالْأَصْل فِي وُجُوبه قبل الْإِجْمَاع آيَة {كتب عَلَيْكُم الصّيام} وَخبر بني الْإِسْلَام على خمس وَفرض فِي شعْبَان فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة
وأركانه ثَلَاثَة صَائِم وَنِيَّة وإمساك عَن المفطرات
وَيجب صَوْم رَمَضَان بِأحد أَمريْن بإكمال شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَو رُؤْيَة الْهلَال لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من شعْبَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا ووجوبه مَعْلُوم من الدّين بِالضَّرُورَةِ فَمن جحد وُجُوبه فَهُوَ كَافِر إِلَّا أَن يكون قريب عهد بِالْإِسْلَامِ أَو نَشأ بَعيدا عَن الْعلمَاء وَمن ترك صَوْمه غير جَاحد من غير عذر كَمَرَض وسفر كَأَن قَالَ الصَّوْم وَاجِب عَليّ وَلَكِن لَا أَصوم حبس وَمنع الطَّعَام وَالشرَاب نَهَارا ليحصل لَهُ صُورَة الصَّوْم بذلك
وَتثبت رُؤْيَته فِي حق من لم يره بِعدْل شَهَادَة لقَوْل ابْن عمر أخْبرت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنِّي رَأَيْت الْهلَال فصَام وَأمر النَّاس بصيامه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَححهُ ابْن حبَان
وَلما روى التِّرْمِذِيّ وَغَيره أَن أَعْرَابِيًا شهد عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرُؤْيَتِهِ فَأمر النَّاس بصيامه
وَالْمعْنَى فِي ثُبُوته بِالْوَاحِدِ الِاحْتِيَاط للصَّوْم وَهِي شَهَادَة حسبَة
قَالَت طَائِفَة مِنْهُم الْبَغَوِيّ وَيجب الصَّوْم أَيْضا على من أخبرهُ موثوق بِهِ بِالرُّؤْيَةِ إِذا اعْتقد صدقه وَإِن لم يذكرهُ عِنْد القَاضِي وَيَكْفِي فِي الشَّهَادَة أشهد أَنِّي رَأَيْت الْهلَال وَمحل ثُبُوت رَمَضَان بِعدْل فِي الصَّوْم قَالَ الزَّرْكَشِيّ وتوابعه كَصَلَاة التَّرَاوِيح وَالِاعْتِكَاف وَالْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ المعلقين بِدُخُول رَمَضَان لَا فِي غير ذَلِك كَدين مُؤَجل وَوُقُوع طَلَاق وَعتق معلقين بِهِ هَذَا(1/234)
كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ إِن سبق التَّعْلِيق الشَّهَادَة
فَلَو حكم القَاضِي بِدُخُول رَمَضَان بِشَهَادَة عدل ثمَّ قَالَ قَائِل إِن ثَبت رَمَضَان فَعَبْدي حر أَو زَوْجَتي طَالِق وَقعا وَمحله أَيْضا إِذا لم يتَعَلَّق بِالشَّاهِدِ فَإِن تعلق بِهِ ثَبت لاعْتِرَافه بِهِ
تَنْبِيه يُضَاف إِلَى الرُّؤْيَة وإكمال الْعدة ظن دُخُوله بِالِاجْتِهَادِ عِنْد الِاشْتِبَاه وَالظَّاهِر كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ أَن الْإِمَارَة الدَّالَّة كرؤية الْقَنَادِيل الْمُعَلقَة بالمنائر فِي آخر شعْبَان فِي حكم الرُّؤْيَة وَلَا يجب الصَّوْم بقول المنجم وَلَا يجوز وَلَكِن لَهُ أَن يعْمل بِحِسَابِهِ كَالصَّلَاةِ كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَقَالَ إِنَّه لَا يُجزئهُ عَن فَرْضه لَكِن صحّح فِي الْكِفَايَة أَنه إِذا جَازَ أَجزَأَهُ وَنَقله عَن الْأَصْحَاب وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر والحاسب وَهُوَ من يعْتَمد منَازِل الْقَمَر بِتَقْدِير سيره فِي معنى المنجم وَهُوَ من يرى أَن أول الشَّهْر طُلُوع النَّجْم الْفُلَانِيّ وَلَا عِبْرَة أَيْضا بقول من قَالَ أَخْبرنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم بِأَن اللَّيْلَة أول رَمَضَان فَلَا يَصح الصَّوْم بِهِ بِالْإِجْمَاع لفقد ضبط الرَّائِي لَا للشَّكّ فِي الرُّؤْيَة
شُرُوط وجوب الصّيام (وشرائط وجوب الصّيام) أَي صِيَام رَمَضَان (ثَلَاثَة أَشْيَاء) بل أَرْبَعَة كَمَا ستعرفه الأول (الْإِسْلَام) وَلَو فِيمَا مضى فَلَا يجب على الْكَافِر الْأَصْلِيّ وجوب مُطَالبَة كَمَا مر فِي الصَّلَاة (و) الثَّانِي (الْبلُوغ) فَلَا يجب على صبي كَالصَّلَاةِ وَيُؤمر بِهِ لسبع إِن أطاقه وَيضْرب على تَركه لعشر
(و) الثَّالِث (الْعقل) فَلَا يجب على الْمَجْنُون إِلَّا إِذا أَثم بمزيل عقله من شراب أَو غَيره فَيجب وَيلْزمهُ قَضَاؤُهُ بعد الْإِفَاقَة
وَالشّرط الرَّابِع الَّذِي تَركه المُصَنّف إطاقة الصَّوْم فَلَا يجب على من لم يطقه حسا أَو شرعا لكبر أَو لمَرض لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَو حيض أَو نَحوه
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن شُرُوط الصِّحَّة وَهِي أَرْبَعَة أَيْضا إِسْلَام وعقل ونقاء عَن حيض ونفاس وولادة وَوقت قَابل لَهُ ليخرج العيدان وَأَيَّام التَّشْرِيق كَمَا سَيَأْتِي
(وفرائض الصَّوْم أَرْبَعَة أَشْيَاء) الأول (النِّيَّة) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ومحلها الْقلب وَلَا تَكْفِي بِاللِّسَانِ قطعا وَلَا يشْتَرط التَّلَفُّظ بهَا قطعا كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه ظَاهر كَلَام المُصَنّف أَنه لَو تسحر ليتقوى على الصَّوْم لم يكن نِيَّة وَبِه صرح فِي الْعدة وَالْمُعْتَمد أَنه لَو تسحر ليصوم أَو شرب لدفع الْعَطش نَهَارا أَو امْتنع من الْأكل أَو الشّرْب أَو الْجِمَاع خوف طُلُوع الْفجْر كَانَ ذَلِك نِيَّة إِن خطر بِبَالِهِ الصَّوْم بِالصِّفَاتِ الَّتِي يشْتَرط التَّعَرُّض لَهَا لتضمن كل مِنْهَا قصد الصَّوْم
وَيشْتَرط لفرض الصَّوْم من رَمَضَان أَو غَيره كقضاء أَو نذر التبييت وَهُوَ إِيقَاع النِّيَّة لَيْلًا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لم يبيت النِّيَّة قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ وَلَا بُد من التبييت لكل يَوْم لظَاهِر الْخَبَر لِأَن صَوْم كل يَوْم عبَادَة مُسْتَقلَّة لتخلل الْيَوْم بِمَا يُنَاقض الصَّوْم كَالصَّلَاةِ يتخللها السَّلَام وَالصَّبِيّ فِي تبييت النِّيَّة لصِحَّة صَوْمه كَالْبَالِغِ كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَلَيْسَ على أصلنَا صَوْم نفل يشْتَرط فِيهِ التبييت إِلَّا هَذَا وَلَا يشْتَرط للتبييت النّصْف الْأَخير من اللَّيْل وَلَا يضر الْأكل وَالْجِمَاع بعْدهَا وَلَا يجب تجديدها إِذا نَام(1/235)
بعْدهَا ثمَّ تنبه لَيْلًا
وَيصِح النَّفْل بنية قبل الزَّوَال وَيشْتَرط حُصُول شَرط الصَّوْم من أول النَّهَار بِأَن لَا يسبقها منَاف للصَّوْم ككفر وجماع
(و) الثَّانِي (تعْيين النِّيَّة) فِي الْفَرْض بِأَن يَنْوِي كل لَيْلَة أَنه صَائِم غَدا عَن رَمَضَان أَو عَن نذر أَو عَن كَفَّارَة لِأَنَّهُ عبَادَة مُضَافَة إِلَى وَقت فَوَجَبَ التَّعْيِين فِي نِيَّتهَا كالصلوات الْخمس وَخرج بِالْفَرْضِ النَّفْل فَإِنَّهُ يَصح بنية مُطلقَة
فَإِن قيل قَالَ فِي الْمَجْمُوع هَكَذَا أطلقهُ الْأَصْحَاب وَيَنْبَغِي اشْتِرَاط التَّعْيِين فِي الصَّوْم الرَّاتِب كعرفة وعاشوراء وَأَيَّام الْبيض وَسِتَّة أَيَّام من شَوَّال كرواتب الصَّلَاة
أُجِيب بِأَن الصَّوْم فِي الْأَيَّام الْمَذْكُورَة منصرف إِلَيْهَا بل لَو نوى بِهِ غَيرهَا حصل أَيْضا كتحية الْمَسْجِد لِأَن الْمَقْصُود وجود صَومهَا
تَنْبِيه قَضِيَّة سكُوت المُصَنّف عَن التَّعَرُّض للفرضية أَنه لَا يشْتَرط التَّعَرُّض لَهَا وَهُوَ كَذَلِك كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع تبعا للأكثرين وَإِن كَانَ مُقْتَضى كَلَام الْمِنْهَاج الِاشْتِرَاط وَالْفرق بَين صَوْم رَمَضَان وَبَين الصَّلَاة أَن صَوْم رَمَضَان من الْبَالِغ لَا يَقع إِلَّا فرضا بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِن الْمُعَادَة نفل وَيتَصَوَّر ذَلِك فِي الْجُمُعَة بِأَن يُصليهَا فِي مَكَان ثمَّ يدْرك جمَاعَة فِي أُخْرَى يصلونها فيصليها مَعَهم فَإِنَّهَا تقع لَهُ نَافِلَة وَلَا يشْتَرط تعْيين السّنة كَمَا لَا يشْتَرط الْأَدَاء لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا وَاحِد وَلَو نوى لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من شعْبَان صَوْم غَد عَن رَمَضَان إِن كَانَ مِنْهُ فَكَانَ مِنْهُ لم يَقع عَنهُ إِلَّا إِذا اعْتقد كَونه مِنْهُ بقول من يَثِق بِهِ من عبد أَو امْرَأَة أَو فَاسق أَو مراهق فَيصح وَيَقَع عَنهُ
قَالَ فِي الْمَجْمُوع فَلَو نوى صَوْم غَد نفلا إِن كَانَ من شعْبَان وَإِلَّا فَمن رَمَضَان وَلَا أَمارَة فَبَان من شعْبَان صَحَّ صَوْمه نفلا لِأَن الأَصْل بَقَاؤُهُ وَإِن بَان من رَمَضَان لم يَصح فرضا وَلَا نفلا وَلَو نوى لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من رَمَضَان صَوْم غَد إِن كَانَ من رَمَضَان أَجزَأَهُ إِن كَانَ مِنْهُ لِأَن الأَصْل بَقَاؤُهُ
(و) الثَّالِث (الْإِمْسَاك عَن) كل مفطر من (الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع) وَلَو بِغَيْر إِنْزَال لقَوْله تَعَالَى {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} والرفث الْجِمَاع (و) عَن (تعمد الْقَيْء) وَإِن تَيَقّن أَنه لم يرجع شَيْء إِلَى جَوْفه لما سَيَأْتِي (و) الرَّابِع من الشُّرُوط معرفَة طرفِي النَّهَار يَقِينا أَو ظنا لتحقيق إمْسَاك جَمِيع النَّهَار
تَنْبِيه انْفَرد المُصَنّف بِهَذَا الرَّابِع وَكَأَنَّهُ أَخذه من قَوْلهم لَو نوى بعد الْفجْر لم يَصح صَوْمه أَو أكل مُعْتَقدًا أَنه ليل وَكَانَ قد طلع الْفجْر لم يَصح أَيْضا وَكَذَا لَو أكل مُعْتَقدًا أَن اللَّيْل دخل فَبَان خِلَافه لزمَه الْقَضَاء
وَحَاصِل ذَلِك أَنه إِذا أفطر أَو تسحر بِلَا تحر وَلم يتَبَيَّن الْحَال صَحَّ فِي تسحره لَا فِي إفطاره لِأَن الأَصْل بَقَاء اللَّيْل فِي(1/236)
الأولى وَالنَّهَار فِي الثَّانِيَة فَإِن بَان الصَّوَاب فيهمَا صَحَّ صومهما أَو الْغَلَط فيهمَا لم يَصح وَلَو طلع الْفجْر وَفِي فَمه طَعَام فَلم يبلع شَيْئا مِنْهُ بِأَن طَرحه أَو أمْسكهُ بِفِيهِ صَحَّ صَوْمه أَو كَانَ الْفجْر مجامعا فَنزع حَالا صَحَّ صَوْمه وَإِن أنزل لتولده من مُبَاشرَة مُبَاحَة
مَا يفْطر بِهِ الصَّائِم (وَالَّذِي يفْطر بِهِ الصَّائِم عشرَة أَشْيَاء) الأول (مَا وصل) من عين وَإِن قلت كسمسمة (عمدا) مُخْتَارًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ (إِلَى) مُطلق (الْجوف) من منفذ مَفْتُوح سَوَاء أَكَانَ يحِيل الْغذَاء أَو الدَّوَاء أم لَا كباطن الْحلق والبطن والأمعاء
(و) بَاطِن (الرَّأْس) لِأَن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك عَن كل مَا يصل إِلَى الْجوف فَلَا يضر وُصُول دهن أَو كحل بتشرب مسام جَوْفه كَمَا لَا يضر اغتساله بِالْمَاءِ وَإِن وجد أثرا بباطنه وَلَا يضر وُصُول رِيقه من معدنه جَوْفه أَو وُصُول ذُبَاب أَو بعوض أَو غُبَار طَرِيق أَو غربلة دَقِيق جَوْفه لعسر التَّحَرُّز عَنهُ والتقطير فِي بَاطِن الْأذن مفطر
وَلَو سبق مَاء الْمَضْمَضَة أَو الِاسْتِنْشَاق إِلَى جَوْفه نظر إِن بَالغ أفطر وَإِلَّا فَلَا وَلَو بَقِي طَعَام بَين أَسْنَانه فَجرى بِهِ رِيقه من غير قصد لم يفْطر إِن عجز عَن تَمْيِيزه ومجه لِأَنَّهُ مَعْذُور فِيهِ غير مفرط وَلَو أوجر كَأَن صب مَاء فِي حلقه مكْرها لم يفْطر وَكَذَا إِن أكره حَتَّى أكل أَو شرب لِأَن حكم اخْتِيَاره سَاقِط وَإِن أكل نَاسِيا لم يفْطر وَإِن كثر لخَبر الصَّحِيحَيْنِ من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل أَو شرب فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه
(و) الثَّانِي (الحقنة) وَهِي بِضَم الْمُهْملَة إِدْخَال دَوَاء أَو نَحوه فِي الدبر فتعبيره بِأَنَّهَا (من أحد السَّبِيلَيْنِ) فِيهِ تجوز فالتقطير فِي بَاطِن الإحليل وَإِدْخَال عود أَو نَحوه فِيهِ مفطر وكالحقنة دُخُول طرف أصْبع فِي الدبر حَالَة الِاسْتِنْجَاء فيفطر بِهِ إِلَّا إِن أَدخل المبسور مقعدته بِأُصْبُعِهِ فَلَا يفْطر بِهِ كَمَا صَححهُ الْبَغَوِيّ لاضطراره إِلَيْهِ
(و) الثَّالِث (الْقَيْء عمدا) وَإِن تَيَقّن أَنه لم يرجع مِنْهُ شَيْء إِلَى الْجوف كَأَن تقايأ مُنَكسًا لخَبر ابْن حبَان وَغَيره من ذرعه الْقَيْء أَي غَلبه وَهُوَ صَائِم فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء وَمن استقاء فليقض وَخرج بقوله عمدا مَا لَو كَانَ نَاسِيا وَلَا بُد أَن يكون عَالما بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارًا لذَلِك لم يفْطر كَمَا لَو غَلبه الْقَيْء وَكَذَا لَو اقتلع نخامة من الْبَاطِن ورماها سَوَاء اقتلعها من دماغه أَو من بَاطِنه لِأَن الْحَاجة إِلَى ذَلِك تَتَكَرَّر فَلَو نزلت من دماغه وحصلت فِي حد الظَّاهِر من الْفَم وَهُوَ مخرج الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكَذَا الْمُهْملَة على الرَّاجِح فِي الزَّوَائِد فليقطعها من مجْراهَا وليمجها إِن أمكن فَإِن تَركهَا مَعَ الْقُدْرَة على ذَلِك فوصلت الْجوف أفطر لتَقْصِيره وكالقيء التجشؤ فَإِن تَعَمّده وَخرج شَيْء من معدته إِلَى حد الظَّاهِر أفطر وَإِن غَلبه فَلَا
(و) الرَّابِع (الْوَطْء) بِإِدْخَال حشفتة أَو قدرهَا من مقطوعها (عمدا) مُخْتَارًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ (فِي الْفرج) وَلَو دبرا من آدَمِيّ أَو غَيره أنزل أم لَا فَلَا يفْطر بِالْوَطْءِ نَاسِيا وَإِن كثر وَلَا بِالْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ إِن قُلْنَا بتصوره وَهُوَ الْأَصَح وَلَا مَعَ جهل تَحْرِيمه كَمَا سبق فِي الْأكل
(و) الْخَامِس (الْإِنْزَال) وَلَو قَطْرَة (عَن مُبَاشرَة) بِنَحْوِ لمس كقبلة بِلَا حَائِل لِأَنَّهُ يفْطر بالإيلاج بِغَيْر إِنْزَال فبالإنزال مَعَ(1/237)
نوع شَهْوَة أولى بِخِلَاف مَا لَو كَانَ بِحَائِل أَو نظر أَو فكر وَلَو بِشَهْوَة لِأَنَّهُ إِنْزَال بِغَيْر مُبَاشرَة كالاحتلام وَحرم نَحْو لمس كقبلة إِن حركت شَهْوَة خوف الْإِنْزَال وَإِلَّا فَتَركه أولى (و) السَّادِس (الْحيض) للْإِجْمَاع على تَحْرِيمه وَعدم صِحَّته
قَالَ الإِمَام وَكَون الصَّوْم لَا يَصح مِنْهَا لَا يدْرك مَعْنَاهُ لِأَن الطَّهَارَة لَيست مَشْرُوطَة فِيهِ وَهل وَجب عَلَيْهَا ثمَّ سقط أَو لم يجب أصلا وَإِنَّمَا يجب الْقَضَاء بِأَمْر جَدِيد وَجْهَان أصَحهمَا الثَّانِي
قَالَ فِي الْبَسِيط وَلَيْسَ لهَذَا الْخلاف فَائِدَة فقهية
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوع يظْهر هَذَا وَشبهه فِي الْأَيْمَان والتعاليق بِأَن يَقُول مَتى وَجب عَلَيْك صَوْم فَأَنت طَالِق
(و) السَّابِع (النّفاس) لِأَنَّهُ دم حيض مُجْتَمع
(و) الثَّامِن (الْجُنُون) لمنافاته الْعِبَادَة
(و) التَّاسِع (الرِّدَّة) لمنافاتها الْعِبَادَة
وَسكت المُصَنّف عَن بَيَان الْعَاشِر وَالظَّاهِر أَنه الْولادَة فَإِنَّهَا مبطلة للصَّوْم على الْأَصَح فِي التَّحْقِيق وَهُوَ الْمُعْتَمد خلافًا لما فِي الْمَجْمُوع من إلحاقها بالاحتلام لوضوح الْفرق وَلَعَلَّ المُصَنّف تَركه لهَذَا الْخلاف أَو لنسيان أَو سَهْو
(وَيسْتَحب فِي الصَّوْم) وَلَو نفلا أَشْيَاء كَثِيرَة الْمَذْكُورَة مِنْهَا هُنَا (ثَلَاثَة أَشْيَاء) الأول (تَعْجِيل الْفطر) إِذا تحقق غرُوب الشَّمْس لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا تزَال أمتِي بِخَير مَا عجلوا الْفطر زَاد الإِمَام أَحْمد وأخروا السّحُور وَلما فِي ذَلِك من مُخَالفَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَيكرهُ لَهُ أَن يُؤَخِّرهُ إِن قصد ذَلِك وَرَأى أَن فِيهِ فَضِيلَة وَإِلَّا فَلَا بَأْس بِهِ نَقله فِي الْمَجْمُوع عَن نَص الإِمَام
وَيسن كَونه على رطب فَإِن لم يجده فعلى تمر فَإِن لم يجده فعلى مَاء لخَبر كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفْطر قبل أَن يُصَلِّي على رطبات فَإِن لم يكن فعلى تمرات فَإِن لم يكن حسا حسوات من مَاء فَإِنَّهُ طهُور رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
وَيسن السّحُور لخَبر الصَّحِيحَيْنِ
تسحرُوا فَإِن فِي السّحُور بركَة وَلخَبَر الْحَاكِم فِي صَحِيحه اسْتَعِينُوا بِطَعَام السحر على صِيَام النَّهَار وبقيلولة النَّهَار على قيام اللَّيْل
(و) الثَّانِي (تَأْخِير السّحُور) مَا لم يَقع فِي شكّ فِي طُلُوع الْفجْر لخَبر لَا تزَال أمتِي بِخَير مَا عجلوا الْفطر وأخروا السّحُور وَلِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّقْوَى على الْعِبَادَة فَإِن شكّ فِي ذَلِك كَأَن تردد فِي بَقَاء اللَّيْل لم يسن التَّأْخِير بل الْأَفْضَل تَركه للْخَبَر الصَّحِيح دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك
تَنْبِيه لَو صرح المُصَنّف بسن السّحُور كَمَا ذكرته لَكَانَ أولى فَإِن اسْتِحْبَابه مجمع عَلَيْهِ وَذكر فِي الْمَجْمُوع أَنه يحصل بِكَثِير الْمَأْكُول وقليله فَفِي صَحِيح ابْن حبَان تسحرُوا وَلَو بجرعة مَاء وَيدخل وقته بِنصْف اللَّيْل
(و) الثَّالِث (ترك الهجر) وَهُوَ بِفَتْح الْهَاء ترك الهجران (من الْكَلَام) جَمِيع النَّهَار لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا قَائِما فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نذر أَن يقوم وَلَا يقْعد وَلَا يستظل وَلَا يتَكَلَّم ويصوم
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مروه أَن يتَكَلَّم وليستظل وليقعد وليتم صَوْمه رَوَاهُ البُخَارِيّ وَلِهَذَا يكره صمت الْيَوْم إِلَى اللَّيْل كَمَا جزم بِهِ صَاحب التَّنْبِيه وَأقرهُ
أما الهجر بِضَم الْهَاء وَهُوَ الِاسْم من الإهجار وَهُوَ الإفحاش فِي النُّطْق فَلَيْسَ مُرَاد المُصَنّف إِذْ كَلَامه فِيمَا هُوَ سنة وَترك فحش الْكَلَام من غيبَة وَغَيرهَا وَاجِب(1/238)
وَبَعْضهمْ ضبط كَلَام المُصَنّف بِالضَّمِّ وَاعْترض عَلَيْهِ كَمَا اعْترض على الْمِنْهَاج فِي قَوْله فِي المندوبات وليصن لِسَانه عَن الْكَذِب والغيبة فَأن صون اللِّسَان عَن ذَلِك وَاجِب
وَأجِيب بِأَن الْمَعْنى أَنه يسن للصَّائِم من حَيْثُ الصَّوْم فَلَا يبطل صَوْمه بارتكاب ذَلِك بِخِلَاف ارْتِكَاب مَا يجب اجتنابه من حَيْثُ الصَّوْم كالاستقاءة
قَالَ السُّبْكِيّ وحديثخمس يفطرن الصَّائِم الْغَيْبَة والنميمة إِلَى آخِره ضَعِيف وَإِن صَحَّ
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فَالْمُرَاد بطلَان الثَّوَاب لَا الصَّوْم قَالَ وَمن هُنَا حسن عد الِاحْتِرَاز عَنهُ من آدَاب الصَّوْم وَإِن كَانَ وَاجِبا مُطلقًا
وَيسن ترك شَهْوَة لَا تبطل الصَّوْم كشم الرياحين وَالنَّظَر إِلَيْهَا لما فِيهَا من الترفه الَّذِي لَا يُنَاسب حِكْمَة الصَّوْم وَترك نَحْو حجم كفصد لِأَن ذَلِك يُضعفهُ وَترك ذوق طَعَام أَو غَيره خوف وُصُوله حلقه وَترك علك بِفَتْح الْعين لِأَنَّهُ يجمع الرِّيق فَإِن بلعه أفطر فِي وَجه وَإِن أَلْقَاهُ عطشه وَهُوَ مَكْرُوه كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَيسن أَن يغْتَسل من حدث أكبر لَيْلًا ليَكُون على طهر من أول الصَّوْم وَأَن يَقُول عقب فطره اللَّهُمَّ لَك صمت وعَلى رزقك أفطرت لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول ذَلِك رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَأَن يكثر تِلَاوَة الْقُرْآن ومدارسته بِأَن يقْرَأ على غَيره وَيقْرَأ غَيره عَلَيْهِ فِي رَمَضَان لما فِي الصَّحِيحَيْنِ إِن جِبْرِيل كَانَ يلقى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل سنة فِي رَمَضَان حَتَّى يَنْسَلِخ فَيعرض عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآن
وَأَن يعْتَكف فِيهِ لَا سِيمَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر مِنْهُ لِلِاتِّبَاعِ فِي ذَلِك ولرجاء أَن يُصَادف لَيْلَة الْقدر إِذْ هِيَ منحصرة فِيهِ عندنَا
أَيَّام يجوز الصّيام فِيهَا (وَيحرم صِيَام خَمْسَة أَيَّام) أَي مَعَ بطلَان صيامها وَهِي (العيدان) الْفطر والأضحى بِالْإِجْمَاع الْمُسْتَند إِلَى نهي الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي خبر الصَّحِيحَيْنِ (وَأَيَّام التَّشْرِيق) الثَّلَاثَة بعد يَوْم النَّحْر وَلَو لمتمتع للنَّهْي عَن صيامها كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي صَحِيح مُسلم أَيَّام منى أكل وَشرب وَذكر الله تَعَالَى
(وَيكرهُ صَوْم يَوْم الشَّك) كَرَاهَة تَنْزِيه
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَهُوَ الْمَعْرُوف الْمَنْصُوص الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُعْتَمد فِي الْمَذْهَب تَحْرِيمه كَمَا فِي الرَّوْضَة والمنهاج وَالْمَجْمُوع لقَوْل عمار بن يَاسر من صَامَ يَوْم الشَّك فقد عصى أَبَا الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
تَنْبِيه يُمكن حمل كَلَام المُصَنّف على كَرَاهَة التَّحْرِيم فيوافق الْمُرَجح فِي الْمَذْهَب
(إِلَّا أَن يُوَافق) صَوْمه (عَادَة لَهُ) فِي تطوعه كَأَن كَانَ يسْرد الصَّوْم أَو يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا أَو الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس فَوَافَقَ صَوْمه يَوْم الشَّك وَله صَوْمه عَن قَضَاء أَو نذر كَنَظِيرِهِ من الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة لخَبر لَا تقدمُوا رَمَضَان بِصَوْم يَوْم أَو يَوْمَيْنِ إِلَّا رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصمه وَقيس بالوارد الْبَاقِي بِجَامِع السَّبَب فَلَو صَامَهُ بِلَا سَبَب لم يَصح كَيَوْم الْعِيد بِجَامِع التَّحْرِيم وَقَوله (أَو يصله بِمَا قبله) مَبْنِيّ على جَوَاز ابْتِدَاء صَوْم النّصْف الثَّانِي من شعْبَان تَطَوّعا وَهُوَ وَجه ضَعِيف وَالأَصَح فِي الْمَجْمُوع تَحْرِيمه بِلَا سَبَب إِن لم يصله بِمَا قبله أَو صَامَهُ عَن قَضَاء أَو نذر أَو وَافق عَادَة لَهُ لخَبر إِذا انتصف شعْبَان فَلَا تَصُومُوا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره
فعلى هَذَا لَا يَكْفِي وصل صَوْم يَوْم الشَّك إِلَّا بِمَا قبل النّصْف الثَّانِي وَلَو وصل النّصْف الثَّانِي بِمَا قبله ثمَّ أفطر فِيهِ حرم عَلَيْهِ الصَّوْم إِلَّا أَن يكون لَهُ عَادَة قبل النّصْف الثَّانِي فَلهُ صَوْم أَيَّامهَا
فَإِن قيل هلا اسْتحبَّ صَوْم يَوْم الشَّك إِذا أطبق الْغَيْم خُرُوجًا من خلاف الإِمَام أَحْمد حَيْثُ قَالَ بِوُجُوب صَوْمه حِينَئِذٍ أُجِيب بِأَنا لَا نراعي الْخلاف إِذا خَالف سنة صَرِيحَة وَهِي هُنَا خبر إِذا غم عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ وَيَوْم الشَّك هُوَ يَوْم الثَّلَاثِينَ من شعْبَان إِذا تحدث النَّاس بِرُؤْيَتِهِ أَو شهد بهَا عدد ترد شَهَادَتهم كصبيان أَو نسَاء أَو عبيد أَو فسقة وَظن صدقهم كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَإِنَّمَا لم يَصح صَوْمه عَن رَمَضَان لِأَنَّهُ لم يثبت كَونه مِنْهُ
نعم من اعْتقد صدق من قَالَ إِنَّه رَآهُ مِمَّن(1/239)
ذكر يجب عَلَيْهِ الصَّوْم كَمَا تقدم عَن الْبَغَوِيّ فِي طَائِفَة أول الْبَاب وَتقدم فِي أَثْنَائِهِ صِحَة نِيَّة المعتقد لذَلِك وَوُقُوع الصَّوْم عَن رَمَضَان إِذا تبين كَونه مِنْهُ فَلَا تنَافِي بَين مَا ذكر فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة لِأَن يَوْم الشَّك الَّذِي يحرم صَوْمه هُوَ على من لم يظنّ الصدْق هَذَا مَوضِع وَأما من ظَنّه أَو اعتقده صحت النِّيَّة مِنْهُ وَوَجَب عَلَيْهِ الصَّوْم وَهَذَانِ موضعان فَقَوْل الْإِسْنَوِيّ إِن كَلَام الشَّيْخَيْنِ فِي الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب متناقض من ثَلَاثَة أوجه فِي مَوضِع يجب وَفِي مَوضِع يجوز وَفِي مَوضِع يمْتَنع مَمْنُوع
أما إِذا لم يتحدث أحد بِالرُّؤْيَةِ فَلَيْسَ الْيَوْم يَوْم شكّ بل هُوَ من شعْبَان وَإِن أطبق الْغَيْم لخَبر فَإِن غم عَلَيْكُم
فرع الْفطر بَين الصومين وَاجِب إِذْ الْوِصَال فِي الصَّوْم فرضا كَانَ أَو نفلا حرَام للنَّهْي عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ أَن يَصُوم يَوْمَيْنِ فَأكْثر وَلَا يتَنَاوَل بِاللَّيْلِ مطعوما عمدا بِلَا عذر ذكره فِي الْمَجْمُوع وَقَضيته أَن الْجِمَاع وَنَحْوه لَا يمْنَع الْوِصَال لَكِن فِي الْبَحْر هُوَ أَن يستديم جَمِيع أَوْصَاف الصائمين
وَذكر الْجِرْجَانِيّ وَابْن الصّلاح نَحوه وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
ثمَّ شرع فِيمَا تجب بِهِ الْكَفَّارَة فَقَالَ (وَمن وطىء) بتغييب جَمِيع الْحَشَفَة أَو قدرهَا من مقطوعها (عَامِدًا) مُخْتَارًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ (فِي الْفرج) وَلَو دبرا من آدَمِيّ أَو غَيره (فِي نَهَار رَمَضَان) وَلَو قبل تَمام الْغُرُوب وَهُوَ مُكَلّف صَائِم آثم بِالْوَطْءِ بِسَبَب الصَّوْم (فَعَلَيهِ) وعَلى الْمَوْطُوءَة المكلفة (الْقَضَاء) لإفساد صومهما بِالْجِمَاعِ (و) عَلَيْهِ وَحده (الْكَفَّارَة) دونهَا لنُقْصَان صَومهَا بتعرضه للبطلان بعروض الْحيض أَو نَحوه فَلم تكمل حرمته حَتَّى تتَعَلَّق بهَا الْكَفَّارَة فتختص بِالرجلِ الواطىء وَلِأَنَّهَا غرم مَا لي يتَعَلَّق بِالْجِمَاعِ كالمهر فَلَا يجب على الْمَوْطُوءَة وَلَا على الرجل الموطوء كَمَا نَقله ابْن الرّفْعَة واللواط وإتيان الْبَهِيمَة حكم الْجِمَاع فِيمَا ذكر كَمَا شَمله مَا ذكر فِي الْحَد
فَخرج بِقَيْد الْوَطْء الْفطر بِغَيْرِهِ كَالْأَكْلِ وَالشرب والاستمناء والمباشرة فِيمَا دون الْفرج المفضية إِلَى الْإِنْزَال فَلَا كَفَّارَة بِهِ وبقيد جَمِيع الْحَشَفَة أَو قدرهَا من مقطوعها إِدْخَال بَعْضهَا فَلَا كَفَّارَة بِهِ لعدم فطره بِهِ وبقيد الْعمد النسْيَان لِأَن صَوْمه لم يفْسد بذلك وبالاختيار الْإِكْرَاه لما ذكر وبعلم التَّحْرِيم جَهله لقرب عَهده بِالْإِسْلَامِ أَو نشئه بمَكَان بعيد عَن الْعلمَاء فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لعدم فطره بِهِ
نعم لَو علم التَّحْرِيم وَجَهل وجوب الْكَفَّارَة وَجَبت عَلَيْهِ إِذْ كَانَ من حَقه أَن يمْتَنع وبالفرج الْوَطْء فِيمَا دونه فَلَا كَفَّارَة فِيهِ إِذا أنزل وبنهار رَمَضَان غَيره كَصَوْم نذر أَو كَفَّارَة فِيهِ لِأَن ذَلِك من خُصُوص رَمَضَان وبالمكلف الصَّبِي فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة لعدم وجوب الصَّوْم عَلَيْهِ وبالصائم مَا لَو أفطر بِغَيْر وَطْء ثمَّ وطىء أَو نسي النِّيَّة وَأصْبح ممسكا ووطىء فَلَا كَفَّارَة حِينَئِذٍ وبالإثم مَا لَو وطىء الْمَرِيض أَو الْمُسَافِر وَلَو بِغَيْر نِيَّة الترخيص وَمَا لَو ظن وَقت الْجِمَاع بَقَاء اللَّيْل أَو شكّ فِيهِ أَو ظن بِاجْتِهَاد دُخُوله فَبَان جمَاعه نَهَارا لم تلْزمهُ كَفَّارَة لانْتِفَاء الْإِثْم وَلَا كَفَّارَة على من جَامع عَامِدًا بعد الْأكل نَاسِيا وَظن أَنه أفطر بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ يعْتَقد أَنه غير صَائِم وَإِن كَانَ الْأَصَح بطلَان صَوْمه بِهَذَا الْجِمَاع كَمَا لَو جَامع على ظن بَقَاء اللَّيْل فَبَان خِلَافه وَلَا على مُسَافر أفطر بِالزِّنَا مترخصا لِأَن الْفطر جَائِز لَهُ وإثمه بِسَبَب الزِّنَا لَا بِالصَّوْمِ
تَنْبِيه قيد فِي الرَّوْضَة الْجِمَاع بالتام تبعا للغزالي احْتِرَازًا من الْمَرْأَة فَإِنَّهَا تفطر بِدُخُول شَيْء من الذّكر فِي فرجهَا وَلَو دون الْحَشَفَة وزيفوه بِخُرُوج ذَاك بِالْجِمَاعِ إِذْ الْفساد فِيهِ بِغَيْرِهِ
وَمن جَامع فِي يَوْمَيْنِ لزمَه كفارتان لِأَن كل يَوْم عبَادَة مُسْتَقلَّة فَلَا تتداخل كفارتان لِأَن كل يَوْم عبَادَة مستقله
فَلَا تتداخل كفارتاهما سَوَاء أكفر عَن الْجِمَاع الأول قبل(1/240)
الثَّانِي أم لَا كحجتين جَامع فيهمَا فَلَو جَامع فِي جَمِيع أَيَّام رَمَضَان لزمَه كَفَّارَات بعددها فَإِن تكَرر الْجِمَاع فِي يَوْم وَاحِد فَلَا تعدد وَإِن كَانَ بِأَرْبَع زَوْجَات وحدوث السّفر وَلَو طَويلا بعد الْجِمَاع لَا يسْقط الْكَفَّارَة لِأَن السّفر المنشأ فِي أثْنَاء النَّهَار لَا يُبِيح الْفطر فَلَا يُؤثر فِيمَا وَجب من الْكَفَّارَة وَكَذَا حُدُوث الْمَرَض لَا يُسْقِطهَا لِأَن الْمَرَض لَا يُنَافِي الصَّوْم فَيتَحَقَّق هتك حرمته
(وَهِي) أَي الْكَفَّارَة الْمَذْكُورَة مرتبَة فَيجب أَولا (عتق رَقَبَة مُؤمنَة) سليمَة من الْعُيُوب الْمضرَّة بِالْعَمَلِ وَالْكَسْب كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الظِّهَار (فَإِن لم يجدهَا فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين فَإِن لم يسْتَطع) صومهما (فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا) أَو فَقير لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ هَلَكت قَالَ وَمَا أهْلكك قَالَ واقعت امْرَأَتي فِي رَمَضَان
قَالَ هَل تَجِد مَا تعْتق رَقَبَة قَالَ لَا
قَالَ فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين قَالَ لَا قَالَ فَهَل تَجِد مَا تطعم سِتِّينَ مِسْكينا قَالَ لَا
ثمَّ جلس فَأتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعرق فِيهِ تمر فَقَالَ تصدق بِهَذَا فَقَالَ على أفقر منا يَا رَسُول الله فوَاللَّه مَا بَين لابتيها أَي جبليها أهل بَيت أحْوج إِلَيْهِ منا
فَضَحِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت أنيابه ثمَّ قَالَ اذْهَبْ فأطعمه أهلك والعرق بِفَتْح الْعين وَالرَّاء مكتل ينسج من خوص النّخل وَكَانَ فِيهِ قدر خَمْسَة عشر صَاعا وَقيل عشرُون
وَلَو شرع فِي الصَّوْم ثمَّ وجد الرَّقَبَة ندب عتقهَا وَلَو شرع فِي الْإِطْعَام ثمَّ قدر على الصَّوْم ندب لَهُ فَلَو عجز عَن جَمِيع الْخِصَال الْمَذْكُورَة اسْتَقَرَّتْ الْكَفَّارَة فِي ذمَّته لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الْأَعرَابِي بِأَن يكفر بِمَا دَفعه إِلَيْهِ مَعَ إخْبَاره بعجزه فَدلَّ على أَنَّهَا ثَابِتَة فِي الذِّمَّة لِأَن حُقُوق الله تَعَالَى الْمَالِيَّة إِذا عجز عَنْهَا العَبْد وَقت وُجُوبهَا فَإِن كَانَت لَا بِسَبَب مِنْهُ كَزَكَاة الْفطر لم تَسْتَقِر وَإِن كَانَت بِسَبَب مِنْهُ اسْتَقَرَّتْ فِي ذمَّته سَوَاء أَكَانَت على وَجه الْبَدَل كجزاء الصَّيْد وفدية الْحلق أَو لَا ككفارة الْقَتْل وَالظِّهَار وَالْيَمِين وَالْجِمَاع وَدم التَّمَتُّع وَالْقرَان
فَإِن قيل لَو اسْتَقَرَّتْ لأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المواقع بإخراجها بعد
أُجِيب بِأَن تَأْخِير الْبَيَان لوقت الْحَاجة جَائِز وَهُوَ وَقت الْقُدْرَة فَإِذا قدر على خصْلَة مِنْهَا فعلهَا كَمَا لَو كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا وَقت الْوُجُوب فَإِن قدر على أَكثر رتب وَله الْعُدُول عَن الصَّوْم إِلَى الْإِطْعَام لشدَّة الغلمة وَهِي بغين مُعْجمَة وَلَام سَاكِنة شدَّة الْحَاجة للنِّكَاح وَلَا يجوز للْفَقِير صرف كَفَّارَته إِلَى عِيَاله كالزكوات وَسَائِر الْكَفَّارَات
وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخَبَر أطْعمهُ أهلك فَفِي الْأُم كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ يحْتَمل أَنه لما أخبرهُ بفقره صرفه لَهُ صَدَقَة وَفِي ذَلِك أجوبة أخر ذكرتها فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره (وَمن مَاتَ) مُسلما كَمَا قيد بِهِ فِي الْقُوت (وَعَلِيهِ صِيَام) من رَمَضَان أَو نذر أَو كَفَّارَة قبل إِمْكَان الْقَضَاء بِأَن اسْتمرّ مَرضه أَو سَفَره الْمُبَاح إِلَى مَوته فَلَا تدارك للفائت بالفدية وَلَا بِالْقضَاءِ لعدم تَقْصِيره وَلَا إِثْم بِهِ لِأَنَّهُ فرض لم يتَمَكَّن مِنْهُ إِلَى الْمَوْت فَسقط حكمه كَالْحَجِّ هَذَا إِذا كَانَ الْفَوات بِعُذْر كَمَرَض وَسَوَاء اسْتمرّ إِلَى الْمَوْت أم حصل الْمَوْت فِي رَمَضَان وَلَو بعد زَوَال الْعذر أما غير الْمَعْذُور وَهُوَ الْمُتَعَدِّي بِالْفطرِ فَإِنَّهُ يَأْثَم ويتدارك عَنهُ بالفدية كَمَا صرح بِهِ الرَّافِعِيّ فِي بَاب النّذر وَإِن مَاتَ بعد التَّمَكُّن من الْقَضَاء وَلم يقْض (أطْعم عَنهُ وليه) من تركته (لكل يَوْم) فَاتَهُ صَوْمه (مد طَعَام) وَهُوَ رَطْل وَثلث بالرطل الْبَغْدَادِيّ كَمَا مر وبالكيل الْمصْرِيّ نصف قدح من غَالب قوت بَلَده لخَبر من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام شهر فليطعم عَنهُ وليه مَكَان كل يَوْم مِسْكينا وَلَا يجوز أَن(1/241)
يَصُوم عَنهُ وليه فِي الْجَدِيد لِأَن الصَّوْم عبَادَة بدنية لَا تدْخلهَا النِّيَابَة فِي الْحَيَاة فَكَذَلِك بعد الْمَوْت كَالصَّلَاةِ
وَفِي الْقَدِيم يجوز لوَلِيِّه أَن يَصُوم عَنهُ بل ينْدب لَهُ وَيجوز لَهُ الْإِطْعَام فَلَا بُد من التَّدَارُك على الْقَوْلَيْنِ وَالْقَدِيم هُنَا هُوَ الْأَظْهر الْمُفْتى بِهِ للْأَخْبَار الصَّحِيحَة الدَّالَّة عَلَيْهِ كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه قَالَ النَّوَوِيّ وَلَيْسَ للجديد حجَّة من السّنة وَالْخَبَر الْوَارِد بِالْإِطْعَامِ ضَعِيف وَمَعَ ضعفه فالإطعام لَا يمْتَنع عِنْد الْقَائِل بِالصَّوْمِ وعَلى الْقَدِيم الْوَلِيّ الَّذِي يَصُوم عَنهُ كل قريب للْمَيت وَإِن لم يكن عاصبا وَلَا وَارِثا وَلَا ولي مَال على الْمُخْتَار لما فِي خبر مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لامْرَأَة قَالَت لَهُ إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم نذر أفأصوم عَنْهَا قَالَ صومي عَن أمك قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَهَذَا يبطل احْتِمَال ولَايَة المَال والعصوبة وَقد قيل بِكُل مِنْهُمَا فَإِن اتّفقت الْوَرَثَة على أَن يَصُوم وَاحِد جَازَ فَإِن تنازعوا فَفِي فَوَائِد الْمُهَذّب للفارقي أَنه يقسم على قدر مواريثهم
وعَلى الْقَدِيم لَو صَامَ عَنهُ أَجْنَبِي بِإِذْنِهِ بِأَن أوصى بِهِ أَو بِإِذن قَرِيبه صَحَّ قِيَاسا على الْحَج
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَمذهب الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه لَو صَامَ عَنهُ ثَلَاثُونَ بِالْإِذْنِ يَوْمًا وَاحِدًا أَجزَأَهُ
قَالَ وَهُوَ الظَّاهِر الَّذِي اعتقده وَخرج بِقَيْد الْمُسلم فِيمَا مر مَا لَو ارْتَدَّ وَمَات لم يصم عَنهُ وَيتَعَيَّن الْإِطْعَام قطعا كَمَا قَالَه فِي الْقُوت
وَلَو مَاتَ الْمُسلم وَعَلِيهِ صَلَاة أَو اعْتِكَاف لم يفعل ذَلِك عَنهُ وَلَا فديَة لَهُ لعدم وُرُودهَا وَيسْتَثْنى من ذَلِك رَكعَتَا الطّواف فَإِنَّهُمَا تجوزان تبعا لِلْحَجِّ وَمَا لَو نذر أَن يعْتَكف صَائِما فَإِن الْبَغَوِيّ قَالَ فِي التَّهْذِيب إِن قُلْنَا لَا يفرد الصَّوْم عَن الِاعْتِكَاف أَي وَهُوَ الْأَصَح وَقُلْنَا بِصَوْم الْوَلِيّ فَهَذَا يعْتَكف عَنهُ صَائِما وَإِن كَانَت النِّيَابَة لَا تجزىء فِي الِاعْتِكَاف (وَالشَّيْخ) وَهُوَ من جَاوز الْأَرْبَعين والعجوز وَالْمَرِيض الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ (إِن عجز) كل مِنْهُم (عَن الصَّوْم) بِأَن كَانَ يلْحقهُ بِهِ مشقة شَدِيدَة (يفْطر وَيطْعم) إِن كَانَ حرا (عَن كل يَوْم مدا) لقَوْله تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} فَإِن كلمة لَا مقدرَة أَي لَا يطيقُونَهُ أَو أَن المُرَاد يطيقُونَهُ حَال الشَّبَاب ثمَّ يعجزون عَنهُ بعد الْكبر
تَنْبِيه قَضِيَّة إِطْلَاق المُصَنّف أَنه لَا فرق فِي وجوب الْفِدْيَة بَين الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَفَائِدَته استقرارها فِي ذمَّة الْفَقِير وَهُوَ الْأَصَح على مَا يَقْتَضِيهِ كَلَام الرَّوْضَة وَأَصلهَا
وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري
وَقَول الْمَجْمُوع يَنْبَغِي أَن يكون الْأَصَح هُنَا عَكسه لِأَنَّهُ عَاجز حَالَة التَّكْلِيف بالفدية مَرْدُود بِأَن حق الله تَعَالَى المالي إِذا عجز عَنهُ العَبْد وَقت الْوُجُوب يثبت فِي ذمَّته وَهل الْفِدْيَة فِي حق من ذكر بدل عَن الصَّوْم أَو وَاجِبَة ابْتِدَاء وَجْهَان فِي أصل الرَّوْضَة أصَحهمَا فِي الْمَجْمُوع الثَّانِي وَخرج بِالْحرِّ الرَّقِيق فَلَا فديَة عَلَيْهِ إِذا أفطر لكبر أَو مرض وَمَات رَقِيقا
(وَالْحَامِل) وَلَو من زنا (والمرضع) وَلَو مستأجرة أَو متبرعة (إِذا خافتا) الْوَلَد (أفطرتا) أَي وَجب عَلَيْهِمَا الْإِفْطَار (و) وَجب (عَلَيْهِمَا الْقَضَاء) بِلَا فديَة كَالْمَرِيضِ
فَإِن قيل إِذا خافتا على أَنفسهمَا مَعَ ولديهما فَهُوَ فطر ارتفق بِهِ شخصان فَكَانَ يَنْبَغِي الْفِدْيَة قِيَاسا على مَا سَيَأْتِي
أُجِيب بِأَن الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {وَمن كَانَ مَرِيضا} إِلَى آخرهَا وَردت من حُصُول ضَرَر بِالصَّوْمِ كالضرر الْحَاصِل للْمَرِيض(1/242)
(على أَنفسهمَا) وَلَو مَعَ فِي عدم الْفِدْيَة فِيمَا إِذا أفطرتا خوفًا على أَنفسهمَا فَلَا فرق بَين أَن يكون الْخَوْف مَعَ غَيرهمَا أم لَا (وَإِن خافتا) مِنْهُ (على أولادهما) فَقَط بِأَن تخَاف الْحَامِل من إِسْقَاطه أَو الْمُرْضع بِأَن يقل اللَّبن فَيهْلك الْوَلَد (أفطرتا) أَيْضا (و) وَجب (عَلَيْهِمَا الْقَضَاء) للافطار (وَالْكَفَّارَة) وَإِن كَانَتَا مسافرتين أَو مريضتين لما روى أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة} أَنه نسخ حكمه إِلَّا فِي حَقّهمَا حِينَئِذٍ وَالْقَوْل بنسخه قَول أَكثر الْعلمَاء
وَقَالَ بَعضهم إِنَّه مُحكم غير مَنْسُوخ بتأويله بِمَا مر فِي الِاحْتِجَاج بِهِ
تَنْبِيه يلْحق بالمرضع فِي إِيجَاب الْفِدْيَة مَعَ الْقَضَاء من أفطر لإنقاذ آدَمِيّ مَعْصُوم أَو حَيَوَان مُحْتَرم مشرف على الْهَلَاك بغرق أَو غَيره فَيجب عَلَيْهِ الْفطر إِذا لم يُمكنهُ تخليصه إِلَّا بفطره فَهُوَ فطر ارتفق بِهِ شخصان وَهُوَ حُصُول الْفطر للْمُضْطَر والخلاص لغيره فَلَو أفطر لتخليص مَال فَلَا فديَة لِأَنَّهُ لم يرتفق بِهِ إِلَّا شخص وَاحِد وَلَا يجب الْفطر لأَجله بل هُوَ جَائِز بِخِلَاف الْحَيَوَان الْمُحْتَرَم فَإِنَّهُ يرتفق بِالْفطرِ شخصان وَإِن نظر بَعضهم فِي الْبَهِيمَة لأَنهم نزلُوا الْحَيَوَان الْمُحْتَرَم فِي وجوب الدّفع عَنهُ منزلَة الْآدَمِيّ الْمَعْصُوم وَلَا يلْحق بالحامل والمرضع فِي لُزُوم الْفِدْيَة مَعَ الْقَضَاء الْمُتَعَدِّي بفطر رَمَضَان بِغَيْر جماع بل يلْزمه الْقَضَاء فَقَط وَمن أخر قَضَاء رَمَضَان مَعَ إِمْكَانه حَتَّى دخل رَمَضَان آخر لزمَه مَعَ الْقَضَاء لكل يَوْم مد لِأَن سِتَّة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم قَالُوا بذلك وَلَا مُخَالف لَهُم وَيَأْثَم بِهَذَا التَّأْخِير
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَيلْزمهُ الْمَدّ بِدُخُول رَمَضَان أما من لم يُمكنهُ الْقَضَاء(1/243)
لاستمرار عذره حَتَّى دخل رَمَضَان فَلَا فديَة عَلَيْهِ بِهَذَا التَّأْخِير
فَائِدَة وجوب الْفِدْيَة هُنَا للتأخير وفدية الشَّيْخ الْهَرم وَنَحْوه لأصل الصَّوْم وفدية الْمُرْضع وَالْحَامِل لتفويت فَضِيلَة الْوَقْت وبتكرير الْمَدّ إِذا لم يُخرجهُ بِتَكَرُّر السنين لِأَن الْحُقُوق الْمَالِيَّة لَا تتداخل وَلَو أخر قَضَاء رَمَضَان مَعَ إِمْكَانه حَتَّى دخل رَمَضَان آخر فَمَاتَ أخرج من تركته على الْجَدِيد السَّابِق لكل يَوْم مدان مد لفَوَات الصَّوْم وَمد للتأخير وعَلى الْقَدِيم وَهُوَ صَوْم الْوَلِيّ إِذا صَامَ حصل تدارك أصل الصَّوْم وَوَجَب فديَة للتأخير
(وَالْكَفَّارَة) أَن يخرج (عَن كل يَوْم مد وَهُوَ) كَمَا سبق (رَطْل وَثلث بالعراقي) أَي الْبَغْدَادِيّ وبالكيل نصف قدح بالمصري ومصرف الْفِدْيَة الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين فَقَط دون بَقِيَّة الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الْمَارَّة فِي قسم الصَّدقَات لقَوْله تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} وَالْفَقِير أَسْوَأ حَالا مِنْهُ فَإِذا جَازَ صرفهَا إِلَى الْمِسْكِين فالفقير أولى وَلَا يجب الْجمع بَينهمَا وَله الصّرْف أَمْدَاد من الْفِدْيَة إِلَى شخص وَاحِد لِأَن كل يَوْم عبَادَة مُسْتَقلَّة فالأمداد بِمَنْزِلَة الْكَفَّارَات بِخِلَاف الْمَدّ الْوَاحِد لَا يجوز صرفه إِلَى شَخْصَيْنِ لِأَن كل مد فديَة تَامَّة وَقد أوجب الله تَعَالَى صرف الْفِدْيَة إِلَى الْوَاحِد فَلَا ينقص عَنْهَا وَلَا يلْزم مِنْهُ امْتنَاع صرف فديتين إِلَى شخص وَاحِد كَمَا لَا يمْتَنع أَن يَأْخُذ الْوَاحِد من زكوات مُتعَدِّدَة وجنس الْفِدْيَة جنس الْفطْرَة ونوعها وصفتها وَقد سبق بَيَان ذَلِك فِي زَكَاة الْفطر
وَيعْتَبر فِي الْمَدّ الَّذِي توجبه هُنَا فِي الْكَفَّارَات أَن يكون فَاضلا عَن قوته كَزَكَاة الْفطر قَالَه الْقفال فِي فَتَاوِيهِ وَكَذَا عَمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ من مسكن وخادم
تَنْبِيه تَعْجِيل فديَة التَّأْخِير قبل دُخُول رَمَضَان الثَّانِي ليؤخر الْقَضَاء مَعَ الْإِمْكَان جَائِز فِي الْأَصَح كتعجيل الْكَفَّارَة قبل الْحِنْث الْمحرم وَيحرم التَّأْخِير وَلَا شَيْء على الْهَرم وَلَا الزَّمن وَلَا من اشتدت مشقة الصَّوْم عَلَيْهِ لتأخير الْفِدْيَة إِذا أخروها عَن السّنة الأولى وَلَيْسَ لَهُم وَلَا للحامل وَلَا للمرضع تَعْجِيل فديَة يَوْمَيْنِ فَأكْثر كَمَا لَا يجوز تَعْجِيل الزَّكَاة لعامين بِخِلَاف مَا لَو عجل من ذكر فديَة يَوْم فِيهِ أَو فِي ليلته فَإِنَّهُ جَائِز
(وَالْمَرِيض) وَإِن تعدى بِسَبَبِهِ (وَالْمُسَافر) سفرا طَويلا مُبَاحا (يفطران) بنية الترخيص (ويقضيان) لقَوْله تَعَالَى {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر} أَي فَأفْطر {فَعدَّة من أَيَّام أخر} وَلَا بُد فِي فطر الْمَرِيض من مشقة تبيح لَهُ التَّيَمُّم فَإِن خَافَ على نَفسه الْهَلَاك أَو ذهَاب مَنْفَعَة عُضْو وَجب عَلَيْهِ الْفطر قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}(1/244)
ثمَّ إِن كَانَ الْمَرَض مطبقا فَلهُ ترك النِّيَّة أَو متقطعا كَأَن كَانَ يحم وقتا دون وَقت نظر إِن كَانَ محموما وَقت الشُّرُوع جَازَ لَهُ ترك النِّيَّة وَإِلَّا فَعَلَيهِ أَن يَنْوِي فَإِن عَاد الْمَرَض وَاحْتَاجَ إِلَى الْإِفْطَار أفطر وَلمن غلب عَلَيْهِ الْجُوع أَو الْعَطش حكم الْمَرِيض
وَأما الْمُسَافِر السّفر الْمَذْكُور فَيجوز لَهُ الْفطر وَإِن لم يتَضَرَّر بِهِ وَلَكِن الصَّوْم أفضل لما فِيهِ من بَرَاءَة الذِّمَّة وَعدم إخلاء الْوَقْت عَن الْعِبَادَة وَلِأَنَّهُ الْأَكْثَر من فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما إِذا تضرر بِهِ لنَحْو مرض أَو ألم يشق عَلَيْهِ احْتِمَاله فالفطر أفضل لما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا صَائِما فِي السّفر قد ظلل عَلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ من الْبر أَن تَصُومُوا فِي السّفر
نعم إِن خَافَ من الصَّوْم تلف نفس أَو عُضْو أَو مَنْفَعَة حرم عَلَيْهِ الصَّوْم كَمَا قَالَه الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى
وَلَو لم يتَضَرَّر بِالصَّوْمِ فِي الْحَال وَلَكِن يخَاف الضعْف لَو صَامَ وَكَانَ سفر حج أَو غَزْو فالفطر أفضل كَمَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي كتاب الصَّوْم عَن التَّتِمَّة وَأقرهُ
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن صَوْم التَّطَوُّع وَهُوَ مُسْتَحبّ لما فِي الصَّحِيحَيْنِ من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله باعد الله وَجهه عَن النَّار سبعين خَرِيفًا
ويتأكد صَوْم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتحَرَّى صومهما وَقَالَ إنَّهُمَا يَوْمَانِ تعرض فيهمَا الْأَعْمَال فَأحب أَن يعرض عَمَلي وَأَنا صَائِم
وَصَوْم يَوْم عَرَفَة وَهُوَ تَاسِع ذِي الْحجَّة لغير الْحَاج لخَبر مُسلم صِيَام يَوْم عَرَفَة يكفر السّنة الَّتِي قبله وَالَّتِي بعده وَصَوْم عَاشُورَاء وَهُوَ عَاشر الْمحرم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوْم يَوْم عَاشُورَاء أحتسب على الله أَن يكفر السّنة الَّتِي قبله وَصَوْم تاسوعاء وَهُوَ تَاسِع الْمحرم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَئِن بقيت إِلَى قَابل لأصومن التَّاسِع فَمَاتَ قبله وَصَوْم سِتَّة من شَوَّال لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صَامَ رَمَضَان ثمَّ أتبعه بست من شَوَّال كَانَ كصيام الدَّهْر وتتابعها عقب الْعِيد
وَيكرهُ إِفْرَاد يَوْم الْجُمُعَة بِالصَّوْمِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يصم أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَن يَصُوم يَوْمًا قبله أَو يَوْمًا بعده
وَكَذَا إِفْرَاد السبت أَو الْأَحَد لخَبر لَا تَصُومُوا يَوْم السبت إِلَّا فِيمَا افْترض عَلَيْكُم
وَلِأَن الْيَهُود تعظم يَوْم السبت وَالنَّصَارَى يَوْم الْأَحَد
وَصَوْم الدَّهْر غير يومي الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق مَكْرُوه لمن خَافَ بِهِ ضَرَرا أَو فَوت حق وَاجِب أَو مُسْتَحبّ ومستحب لغيره لإِطْلَاق الْأَدِلَّة
وَيحرم صَوْم الْمَرْأَة تَطَوّعا وَزوجهَا حَاضر إِلَّا بِإِذْنِهِ لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا يحل لامْرَأَة أَن تَصُوم وَزوجهَا شَاهد إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمن تلبس بِصَوْم تطوع أَو صَلَاة فَلهُ قطعهمَا أما الصَّوْم فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّائِم المتطوع أَمِير نَفسه إِن شَاءَ صَامَ وَإِن شَاءَ أفطر وَأما الصَّلَاة(1/245)
فقياسا على الصَّوْم
وَمن تلبس بِصَوْم وَاجِب أَو صَلَاة وَاجِبَة حرم عَلَيْهِ قطعه سَوَاء كَانَ قَضَاؤُهُ على الْفَوْر كَصَوْم من تعدى بِالْفطرِ أَو أخر الصَّلَاة بِلَا عذر أم لَا بِأَن لم يكن تعدى بذلك
تَتِمَّة أفضل الشُّهُور بعد رَمَضَان شهر الله الْمحرم ثمَّ رَجَب ثمَّ بَاقِي الْأَشْهر الْحرم ثمَّ شعْبَان
فصل فِي الِاعْتِكَاف
هُوَ لُغَة اللّّبْث وَالْحَبْس
وَشرعا اللّّبْث فِي الْمَسْجِد من شخص مَخْصُوص بنية
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} وَخبر الصَّحِيحَيْنِ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتكف الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان ثمَّ اعْتكف الْعشْر الْأَوَاخِر مِنْهُ ولازمه حَتَّى توفاه الله تَعَالَى ثمَّ اعْتكف أَزوَاجه من بعده
وَهُوَ من الشَّرَائِع الْقَدِيمَة قَالَ تَعَالَى {وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَن طهرا بَيْتِي للطائفين والعاكفين} وَالِاعْتِكَاف سنة مُؤَكدَة وَهِي (مُسْتَحبَّة) أَي مَطْلُوبَة فِي كل وَقت فِي رَمَضَان وَغَيره بِالْإِجْمَاع ولإطلاق الْأَدِلَّة
قَالَ الزَّرْكَشِيّ فقد رُوِيَ من اعْتكف فوَاق نَاقَة فَكَأَنَّمَا أعتق نسمَة وَهُوَ فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان أفضل مِنْهُ فِي غَيره لطلب لَيْلَة الْقدر فيحييها بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَة وَكَثْرَة الدُّعَاء فَإِنَّهَا أفضل ليَالِي السّنة
قَالَ تَعَالَى {لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} الْقدر 3 أَي الْعَمَل فِيهَا خير من الْعَمَل فِي ألف شهر لَيْسَ فِيهَا لَيْلَة الْقدر وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من قَامَ لَيْلَة الْقدر إِيمَانًا واحتسابا غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه
وَهِي منحصرة فِي الْعشْر الْأَوَاخِر كَمَا نَص عَلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَعَلِيهِ الْجُمْهُور وَأَنَّهَا تلْزم لَيْلَة بِعَينهَا وَقَالَ الْمُزنِيّ وَابْن خُزَيْمَة إِنَّهَا منتقلة فِي ليَالِي الْعشْر جمعا بَين الْأَحَادِيث وَاخْتَارَهُ فِي الْمَجْمُوع وَالْمذهب الأول
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَلَا ينَال فَضلهَا إِلَّا من أطلعه الله عَلَيْهَا
لَكِن قَالَ الْمُتَوَلِي يسْتَحبّ التَّعَبُّد فِي كل ليَالِي الْعشْر حَتَّى يجوز الْفَضِيلَة على الْيَقِين فَظَاهر هَذَا أَنه يجوز فَضلهَا سَوَاء اطلع عَلَيْهَا أم لَا وَهَذَا أولى
نعم حَال من اطلع عَلَيْهَا أكمل إِذا قَامَ بوظائفها وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا من صلى الْعشَاء الْأَخِيرَة فِي جمَاعَة من رَمَضَان فقد أدْرك لَيْلَة الْقدر وميل الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى أَنَّهَا لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين أَو الثَّالِث وَالْعِشْرين
وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَأبي هِيَ لَيْلَة سبع وَعشْرين وَهُوَ مَذْهَب أَكثر أهل الْعلم وفيهَا نَحْو الثَّلَاثِينَ(1/246)
قولا وَمن علاماتها أَنَّهَا طَلْقَة لَا حارة وَلَا بَارِدَة وتطلع الشَّمْس فِي صبيحتها بَيْضَاء لَيْسَ فِيهَا كثير شُعَاع
وَينْدب أَن يكثر فِي لَيْلَتهَا من قَول اللَّهُمَّ إِنَّك عَفْو كريم تحب الْعَفو فَاعْفُ عني وَأَن يجْتَهد فِي يَوْمهَا كَمَا يجْتَهد فِي لَيْلَتهَا وخصت بهَا هَذِه الْأمة وَهِي بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَيسن لمن رَآهَا أَن يكتمها
(وَله) أَي الِاعْتِكَاف (شَرْطَانِ) أَي ركنان فمراده بِالشّرطِ مَا لَا بُد مِنْهُ بل أَرْكَانه أَرْبَعَة كَمَا ستعرفه
الأول (النِّيَّة) بِالْقَلْبِ كَغَيْرِهِ من الْعِبَادَات وَتجب نِيَّة فَرضِيَّة فِي نَذره ليتميز عَن النَّفْل وَإِن أطلق الِاعْتِكَاف بِأَن لم يقدر لَهُ مُدَّة كفته نِيَّة وَإِن طَال مكثه لَكِن لَو خرج من الْمَسْجِد بِلَا عزم عود وَعَاد جددها سَوَاء أخرج لتبرز أم لغيره لِأَن مَا مضى عبَادَة تَامَّة فَإِن عزم على الْعود كَانَت هَذِه الْعَزِيمَة قَائِمَة مقَام النِّيَّة
وَلَو قَيده بِمدَّة كَيَوْم وَشهر وَخرج لغير تبرز وَعَاد جدد النِّيَّة أَيْضا وَإِن لم يطلّ الزَّمن لقطعه الِاعْتِكَاف بِخِلَاف خُرُوجه لتبرز فَإِنَّهُ لَا يجب تجديدها وَإِن طَال الزَّمن فَإِنَّهُ لَا بُد مِنْهُ فَهُوَ كالمستثنى عِنْد النِّيَّة لَا إِن نذر مُدَّة متتابعة فَخرج الْعذر لَا يقطع التَّتَابُع فَلَا يلْزمه تَجْدِيد سَوَاء أخرج لتبرز أم لغيره
(و) الثَّانِي (اللّّبْث) بِقدر مَا يُسمى عكوفا أَي إِقَامَة بِحَيْثُ يكون زَمَنهَا فَوق زمن الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَنَحْوه فَلَا يَكْفِي قدرهَا وَلَا يجب السّكُون بل يَكْفِي التَّرَدُّد فِيهِ
وَأَشَارَ إِلَى الرُّكْن الثَّالِث بقوله (فِي الْمَسْجِد) فَلَا يَصح فِي غَيره لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وللإجماع وَلقَوْله تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} وَالْجَامِع أولى من بَقِيَّة الْمَسَاجِد لِكَثْرَة الْجَمَاعَة فِيهِ وَلِئَلَّا يحْتَاج إِلَى الْخُرُوج للْجُمُعَة وخروجا من خلاف من أوجبه بل لَو نذر مُدَّة متتابعة فِيهَا يَوْم جُمُعَة وَكَانَ مِمَّن تلْزمهُ الْجُمُعَة وَلم يشْتَرط الْخُرُوج لَهَا وَجب الْجَامِع لِأَن خُرُوجه لَهَا يبطل تتابعه وَلَو عين النَّاذِر فِي نَذره مَسْجِد مَكَّة أَو الْمَدِينَة أَو الْأَقْصَى تعين فَلَا يقوم غَيرهَا مقَامهَا لمزيد فَضلهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَيقوم مَسْجِد مَكَّة مقَام الآخرين لمزيد فَضله عَلَيْهِمَا وَيقوم مَسْجِد الْمَدِينَة مقَام الْأَقْصَى لمزيد فَضله عَلَيْهِ فَلَو عين مَسْجِدا غير الثَّلَاثَة لم يتَعَيَّن وَلَو عين زمن الِاعْتِكَاف فِي نَذره تعين
والركن الرَّابِع معتكف وَشَرطه إِسْلَام وعقل وخلو عَن حدث أكبر فَلَا يَصح اعْتِكَاف من اتّصف بضد شَيْء مِنْهَا لعدم صِحَة نِيَّة الْكَافِر وَمن لَا عقل لَهُ وَحُرْمَة مكث من بِهِ حدث أكبر بِالْمَسْجِدِ (وَلَا يخرج من) الْمَسْجِد فِي (الِاعْتِكَاف الْمَنْذُور) وَلَو غير مُقَيّد بِمدَّة وَلَا تتَابع (إِلَّا لحَاجَة الْإِنْسَان) من بَوْل وغائط وَمَا(1/247)
فِي مَعْنَاهُمَا كَغسْل من جَنَابَة وَلَا يضر ذَهَابه لتبرز بدار لَهُ لم يفحش بعْدهَا عَن الْمَسْجِد وَلَا لَهُ دَار أُخْرَى أقرب مِنْهَا أَو فحش وَلم يجد بطريقه مَكَانا لائقا بِهِ فَلَا يَنْقَطِع التَّتَابُع بِهِ فَلَا يجب تبرزه فِي غير دَاره كسقاية الْمَسْجِد وَدَار صديقه المجاور لَهُ للْمَشَقَّة فِي الأولى والْمنَّة فِي الثَّانِي
أما إِذا كَانَ لَهُ دَار أُخْرَى أقرب مِنْهَا أَو فحش بعْدهَا وَوجد بطريقه مَكَانا لائقا بِهِ فَيَنْقَطِع التَّتَابُع بذلك لاغتنائه بالأقرب فِي الأولى وَاحْتِمَال أَن يَأْتِيهِ الْبَوْل فِي رُجُوعه فِي الثَّانِيَة فَيبقى طول يَوْمه فِي الذّهاب وَالرُّجُوع وَلَا يُكَلف فِي خُرُوجه لذَلِك الْإِسْرَاع بل يمشي على سجيته الْمَعْهُودَة وَإِذا فرغ مِنْهُ واستنجى فَلهُ أَن يتَوَضَّأ خَارج الْمَسْجِد لِأَنَّهُ يَقع تَابعا لذَلِك بِخِلَاف مَا لَو خرج لَهُ مَعَ إِمْكَانه فِي الْمَسْجِد فَلَا يجوز
وَضبط الْبَغَوِيّ الْفُحْش بِأَن يذهب أَكثر الْوَقْت فِي التبرز إِلَى الدَّار وَلَو عَاد مَرِيضا فِي طَرِيقه أَو زار قادما فِي طَرِيقه لقَضَاء حَاجته لم يضر مَا لم يعدل عَن طَرِيقه وَلم يطلّ وُقُوفه فَإِن طَال أَو عدل انْقَطع بذلك تتابعه
وَلَو صلى فِي طَرِيقه على جَنَازَة فَإِن لم ينتظرها وَلم يعدل إِلَيْهَا عَن طَرِيقه جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يَنْقَطِع التَّتَابُع بِخُرُوجِهِ بِعُذْر كنسيان لاعتكافه وَإِن طَال زَمَنه (أَو عذر من حيض) أَو نِفَاس إِن طَالَتْ مُدَّة الِاعْتِكَاف بِأَن كَانَت لَا تَخْلُو عَنهُ غَالِبا أَو جَنَابَة من احْتِلَام لتَحْرِيم الْمكْث فِيهِ حِينَئِذٍ (أَو) عذر (مرض) وَلَو جنونا أَو إِغْمَاء (لَا يُمكن الْمقَام مَعَه) أَي يشق مَعَه الْمقَام فِي الْمَسْجِد لحَاجَة فرش وخادم وَتردد طَبِيب أَو يخَاف مِنْهُ تلويث الْمَسْجِد كإسهال وكإدرار بَوْل بِخِلَاف مرض لَا يحوج إِلَى الْخُرُوج كصداع وَحمى خَفِيفَة فَيَنْقَطِع التَّتَابُع بِالْخرُوجِ لَهُ
وَفِي معنى الْمَرَض الْخَوْف من لص أَو حريق وَلَا يَنْقَطِع التَّتَابُع بِخُرُوج مُؤذن راتب إِلَى مَنَارَة مُنْفَصِلَة عَن الْمَسْجِد قريبَة مِنْهُ للأذان لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة لَهُ مَعْدُودَة من توابعه وَقد اعْتَادَ الرَّاتِب صعودها وَألف النَّاس صَوته فيعذر فِيهِ وَيجْعَل زمن الْأَذَان كالمستثنى من اعْتِكَافه
وَيجب فِي اعْتِكَاف منذور متتابع قَضَاء زمن خُرُوجه من الْمَسْجِد لعذر لَا يقطع التَّتَابُع كزمن حيض ونفاس وجنابة غير مفطرة لِأَنَّهُ غير معتكف فِيهِ إِلَّا زمن نَحْو تبرز مِمَّا يطْلب الْخُرُوج لَهُ وَلم يطلّ زَمَنه عَادَة كَأَكْل وَغسل جَنَابَة وأذان مُؤذن راتب فَلَا يجب قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنى إِذْ لَا بُد مِنْهُ وَلِأَنَّهُ معتكف فِيهِ بِخِلَاف مَا يطول زَمَنه كَمَرَض وعدة وحيض ونفاس
(وَيبْطل) الِاعْتِكَاف الْمَنْذُور وَغَيره (بِالْوَطْءِ) من عَالم بِتَحْرِيمِهِ ذَاكِرًا للاعتكاف سَوَاء أوطىء فِي الْمَسْجِد أم خَارجه عِنْد(1/248)
خُرُوجه لقَضَاء حَاجَة أَو نَحْوهَا لمنافاته الْعِبَادَة الْبَدَنِيَّة
وَأما الْمُبَاشرَة بِشَهْوَة فِيمَا دون الْفرج كلمس وقبلة فتبطله إِن أنزل وَإِلَّا فَلَا تبطله لما مر فِي الصَّوْم وَخرج بِالْمُبَاشرَةِ مَا إِذا نظر أَو تفكر فَأنْزل فَإِنَّهُ لَا يبطل وبالشهوة مَا إِذا قبل بِقصد الْإِكْرَام أَو نَحوه أَو بِلَا قصد فَلَا يُبطلهُ إِذا أنزل والاستمناء كالمباشرة وَلَو جَامع نَاسِيا للاعتكاف أَو جَاهِلا فكجماع الصَّائِم نَاسِيا صَوْمه أَو جَاهِلا فَلَا يضر كَمَا مر فِي الصّيام وَلَا يضر فِي الِاعْتِكَاف التَّطَيُّب والتزين وقص شَارِب وَلبس ثِيَاب حَسَنَة وَنَحْو ذَلِك من دواعي الْجِمَاع لِأَنَّهُ لم ينْقل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَركه وَلَا أَمر بِتَرْكِهِ وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ على الْإِبَاحَة وَله أَن يتَزَوَّج ويزوج بِخِلَاف الْمحرم وَلَا تكره لَهُ الصَّنَائِع فِي الْمَسْجِد كالخياطة وَالْكِتَابَة مَا لم يكثر مِنْهَا فَإِن أَكثر مِنْهَا كرهت لِحُرْمَتِهِ إِلَّا كِتَابَة الْعلم فَلَا يكره الْإِكْثَار مِنْهَا لِأَنَّهَا طَاعَة كتعليم الْعلم ذكره فِي الْمَجْمُوع
وَله أَن يَأْكُل وَيشْرب وَيغسل يَدَيْهِ فِيهِ وَالْأولَى أَن يَأْكُل فِي سفرة أَو نَحْوهَا وَأَن يغسل يَده فِي طست أَو نَحْوهَا ليَكُون أنظف لِلْمَسْجِدِ وَيجوز نضحه بمستعمل خلافًا لما جرى عَلَيْهِ الْبَغَوِيّ من الْحُرْمَة لاتفاقهم على جَوَاز الْوضُوء فِيهِ وَإِسْقَاط مَائه فِي أرضه مَعَ أَنه مُسْتَعْمل وَيجوز الاحتجام والفصد فِي إِنَاء مَعَ الْكَرَاهَة إِذا أَمن تلويث الْمَسْجِد وَيحرم الْبَوْل فِيهِ فِي إِنَاء وَالْفرق بَينه وَبَين مَا تقدم أَن الدَّم أخف مِنْهُ لما مر أَنه يُعْفَى عَنْهَا فِي محلهَا وَإِن كثرت إِذا لم تكن بِفِعْلِهِ وَإِن اشْتغل الْمُعْتَكف بِالْقُرْآنِ وَالْعلم فَزِيَادَة خير لِأَنَّهُ طَاعَة فِي طَاعَة
خَاتِمَة يسن للمعتكف الصَّوْم لِلِاتِّبَاعِ وللخروج من خلاف من أوجبه وَلَا يضر الْفطر بل يَصح اعْتِكَاف اللَّيْل وَحده لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي نذرت أَن أعتكف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة قَالَ أوف بِنَذْرِك فاعتكف لَيْلَة وَلخَبَر أنس لَيْسَ على الْمُعْتَكف صِيَام إِلَّا أَن يَجعله على نَفسه وَلَو نذر اعْتِكَاف شهر بِعَيْنِه فَبَان إِنَّه انْقَضى قبل نَذره لم يلْزمه شَيْء لِأَن اعْتِكَاف شهر قد مضى محَال
وَهل الْأَفْضَل للمتطوع بالاعتكاف الْخُرُوج لعيادة الْمَرِيض أَو دوَام الِاعْتِكَاف قَالَ الْأَصْحَاب هما سَوَاء
وَقَالَ ابْن الصّلاح إِن الْخُرُوج لَهَا مُخَالف للسّنة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يخرج لذَلِك وَكَانَ اعْتِكَافه تَطَوّعا
وَقَالَ البُلْقِينِيّ يَنْبَغِي أَن يكون مَوضِع التَّسْوِيَة فِي عِيَادَة الْأَجَانِب أما ذَوُو الرَّحِم والأقارب والأصدقاء وَالْجِيرَان
فَالظَّاهِر أَن الْخُرُوج لعيادتهم أفضل لَا سِيمَا إِذا علم أَنه يشق عَلَيْهِم وَعبارَة القَاضِي الْحُسَيْن مصرحة بذلك وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَالله تَعَالَى أَعلَى وَأعلم(1/249)
كتاب الْحَج
بِفَتْح الْمُهْملَة وَكسرهَا لُغَتَانِ قرىء بهما فِي السَّبع
وَهُوَ لُغَة الْقَصْد وَشرعا قصد الْكَعْبَة للنسك الْآتِي بَيَانه كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ فرض على المستطيع لقَوْله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} الْآيَة وَلِحَدِيث بني الْإِسْلَام على خمس وَلِحَدِيث حجُّوا قبل أَن لَا تَحُجُّوا قَالُوا كَيفَ نحج قبل أَن لَا نحج قَالَ أَن تقعد الْعَرَب على بطُون الأودية فيمنعون النَّاس السَّبِيل
وَهُوَ مَعْلُوم من الدّين بِالضَّرُورَةِ
يكفر جاحده إِلَّا أَن يكون قريب عهد بِالْإِسْلَامِ أَو نَشأ ببادية بعيدَة عَن الْعلمَاء وَهُوَ من الشَّرَائِع الْقَدِيمَة رُوِيَ أَن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لما حج قَالَ لَهُ جِبْرِيل إِن الْمَلَائِكَة كَانُوا يطوفون قبلك بِهَذَا الْبَيْت بسبعة آلَاف سنة
وَقَالَ صَاحب التَّعْجِيز إِن أول من حج آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَإنَّهُ حج أَرْبَعِينَ سنة من الْهِنْد مَاشِيا
وَقيل مَا من نَبِي إِلَّا حجه
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق لم يبْعَث الله نَبيا بعد إِبْرَاهِيم إِلَّا وَقد حج الْبَيْت وَادّعى بعض من ألف فِي الْمَنَاسِك أَن الصَّحِيح أَنه لم يجب إِلَّا على هَذِه الْأمة
وَاخْتلفُوا مَتى فرض فَقيل فرض فِي السّنة الْخَامِسَة من الْهِجْرَة وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي الْكَلَام على أَن الْحَج على التَّرَاخِي
وَقيل فِي السّنة السَّادِسَة وصححاه فِي كتاب السّير وَنَقله فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور وَلَا يجب بِأَصْل الشَّرْع إِلَّا مرّة وَاحِدَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحجّ بعد فرض الْحَج إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَهِي حجَّة الْوَدَاع وَلخَبَر مُسلم أحجنا هَذَا لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد قَالَ لَا بل لِلْأَبَد وَأما حَدِيث الله عَلَيْهِ وَسلم من حج حجَّة أدّى فَرْضه وَمن حج ثَانِيَة داين ربه وَمن حج ثَالِثَة حرم الله شعره وبشرته على النَّار
وَقد يجب أَكثر من مرّة لعَارض كنذر وَقَضَاء عِنْد إِفْسَاد التَّطَوُّع
وَالْعمْرَة فرض فِي الْأَظْهر لقَوْله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} أَي الْبَيْهَقِيّ الْآمِر بِالْحَجِّ فِي كل خَمْسَة أَعْوَام فَمَحْمُول على النّدب لقَوْله(1/250)
صلى ائْتُوا بهما تامين
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله هَل على النِّسَاء جِهَاد قَالَ نعم جِهَاد لَا قتال فِيهِ الْحَج وَالْعمْرَة وَأما خبر التِّرْمِذِيّ عَن جَابر سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْعمرَة أَوَاجِبَة هِيَ قَالَ لَا وَأَن تعتمر خير قَالَ فِي الْمَجْمُوع اتّفق الْحفاظ على ضعفه وَلَا تجب فِي الْعُمر إِلَّا مرّة
شُرُوط وجوب الْحَج (وشرائط وجوب الْحَج) أَي وَالْعمْرَة (سَبْعَة) بل ثَمَانِيَة كَمَا ستعرفه الأول (الْإِسْلَام) فَلَا يجبان على كَافِر أُصَلِّي وجوب مُطَالبَة كَمَا فِي الصَّلَاة أما الْمُرْتَد بعد الِاسْتِطَاعَة فَلَا يسقطان عَنهُ فَإِن أسلم مُعسرا اسْتَقر فِي ذمَّته بِتِلْكَ الِاسْتِطَاعَة أَو مُوسِرًا وَمَات قبل التَّمَكُّن حج وَاعْتمر عَنهُ من تركته وَلَو ارْتَدَّ فِي أثْنَاء نُسكه بَطل فِي الْأَصَح فَلَا يمْضِي فِي فاسده
(و) الثَّانِي وَالثَّالِث (الْبلُوغ وَالْعقل) فَلَا يجبان على صبي وَلَا مَجْنُون لعدم تكليفهما كَسَائِر الْعِبَادَات
(و) الرَّابِع (الْحُرِّيَّة) فَلَا يجبان على من فِيهِ رق لِأَن مَنَافِعه مُسْتَحقَّة لسَيِّده وَفِي إِيجَاب ذَلِك عَلَيْهِ إِضْرَار لسَيِّده
(و) الْخَامِس (الِاسْتِطَاعَة) كَمَا يعلم ذَلِك من كَلَامه فَلَا يجبان على غير مستطيع لمَفْهُوم الْآيَة
والاستطاعة نَوْعَانِ أَحدهمَا استطاعة مُبَاشرَة وَلها شُرُوط أَحدهَا (وجود الزَّاد) الَّذِي يَكْفِيهِ وأوعيته حَتَّى السفرة وكلفة ذَهَابه لمَكَّة ورجوعه مِنْهَا(1/251)
إِلَى وَطنه وَإِن لم يكن فِيهِ أهل وعشيرة فَلَو لم يجد مَا ذكر وَلَكِن كَانَ يكْتَسب فِي سَفَره مَا يَفِي بزاده وَبَاقِي مُؤْنَته وسفره طَوِيل مرحلتان فَأكْثر لم يُكَلف النّسك وَلَو كَانَ يكْسب فِي يَوْم كِفَايَة أَيَّام لِأَنَّهُ قد يَنْقَطِع عَن الْكسْب لعَارض وَبِتَقْدِير عدم الِانْقِطَاع فالجمع بَين تَعب السّفر وَالْكَسْب فِيهِ مشقة عَظِيمَة وَإِن قصر سَفَره وَكَانَ يكْتَسب فِي يَوْم كِفَايَة أَيَّام الْحَج كلف الْحَج بِأَن يخرج لَهُ لقلَّة الْمَشَقَّة حِينَئِذٍ وَقدر فِي الْمَجْمُوع أَيَّام الْحَج بِمَا بَين زَوَال سَابِع ذِي الْحجَّة وَزَوَال ثَالِث عشره وَهُوَ فِي حق من لم ينفر النَّفر الأول فَإِن لم يجد زادا وَاحْتَاجَ أَن يسْأَل النَّاس كره لَهُ اعْتِمَادًا على السُّؤَال إِن لم يكن لَهُ كسب وَإِلَّا منع بِنَاء على تَحْرِيم الْمَسْأَلَة للمكتسب كَمَا بَحثه الْأَذْرَعِيّ
(و) الثَّانِي من شُرُوط الِاسْتِطَاعَة وجود (الرَّاحِلَة) الصَّالِحَة لمثله بشرَاء أَو اسْتِئْجَار بِثمن أَو أُجْرَة مثل لمن بَينه وَبَين مَكَّة مرحلتان فَأكْثر قدر على الْمَشْي أم لَا لَكِن ينْدب للقادر على الْمَشْي الْحَج خُرُوجًا من خلاف من أوجبه وَمن بَينه وَبَين مَكَّة دون مرحلَتَيْنِ وَهُوَ قوي على الْمَشْي يلْزمه الْحَج لعدم الْمَشَقَّة فَلَا يعْتَبر فِي حَقه وجود الرَّاحِلَة فَإِن ضعف عَن الْمَشْي بِأَن عجز أَو لحقه ضَرَر ظَاهر كالبعيد عَن مَكَّة فَيشْتَرط فِي حَقه وجود الرَّاحِلَة فَإِن لحقه بالراحلة مشقة شَدِيدَة اشْترط محمل وَهُوَ الْخَشَبَة الَّتِي يركب فِيهَا بيع أَو إِجَارَة بعوض مثله دفعا للضَّرَر فِي حق الرجل وَلِأَنَّهُ أستر للْأُنْثَى وأحوط للخنثى وَاشْترط شريك أَيْضا مَعَ وجود الْمحمل يجلس فِي الشق الآخر لتعذر ركُوب شقّ لَا يعادله شَيْء فَإِن لم يجده لم يلْزمه النّسك وَإِن وجد مُؤنَة الْمحمل بِتَمَامِهِ أَو كَانَت الْعَادة جَارِيَة فِي مثله بالمعادلة بالأثقال كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب
وَيشْتَرط كَون مَا ذكر من الزَّاد وَالرَّاحِلَة والمحمل وَالشَّرِيك فاضلين عَن دينه حَالا كَانَ أَو مُؤَجّلا وَعَن كلفة من عَلَيْهِ نَفَقَتهم مُدَّة ذَهَابه وإيابه وَعَن مَسْكَنه اللَّائِق بِهِ الْمُسْتَغْرق لِحَاجَتِهِ وَعَن عبد يَلِيق بِهِ وَيحْتَاج إِلَيْهِ لخدمته وَيلْزمهُ صرف مَال تِجَارَته إِلَى الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَمَا يتَعَلَّق بهما
(و) الشَّرْط السَّادِس للْوُجُوب (تخلية الطَّرِيق) أَي أَمنه وَلَو ظنا فِي كل مَكَان بِحَسب مَا يَلِيق بِهِ فَلَو خَافَ فِي طَرِيقه على نَفسه أَو عضوه أَو نفس مُحْتَرمَة مَعَه أَو عضوها أَو مَاله وَلَو يَسِيرا سبعا أَو عدوا أَو رصديا وَلَا طَرِيق لَهُ سواهُ لم يجب النّسك عَلَيْهِ لحُصُول الضَّرَر وَالْمرَاد بالأمن الْعَام حَتَّى لَو كَانَ الْخَوْف فِي حَقه وَحده قضى من تركته كَمَا نَقله البُلْقِينِيّ عَن النَّص
وَيجب ركُوب الْبَحْر إِن غلبت السَّلامَة فِي ركُوبه وَتعين طَرِيقا كسلوك طَرِيق الْبر عِنْد غَلَبَة السَّلامَة فَإِن غلب الْهَلَاك أَو اسْتَوَى الْأَمْرَانِ لم يجب بل يحرم لما فِيهِ من الْخطر
(و) السَّابِع (إِمْكَان الْمسير) إِلَى مَكَّة بِأَن يكون قد بَقِي من الْوَقْت مَا يتَمَكَّن فِيهِ من السّير الْمُعْتَاد لأَدَاء النّسك
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد كَمَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن الْأَئِمَّة وَإِن اعْتَرَضَهُ ابْن الصّلاح بِأَنَّهُ يشْتَرط لاستقراره لَا لوُجُوبه فقد صوب النَّوَوِيّ مَا قَالَه الرَّافِعِيّ
وَقَالَ السُّبْكِيّ إِن نَص الشَّافِعِي أَيْضا يشْهد لَهُ وَلَا بُد من وجود رفْقَة يخرج مَعَهم فِي الْوَقْت الَّذِي جرت عَادَة أهل بَلَده الْخُرُوج فِيهِ وَأَن يَسِيرُوا السّير الْمُعْتَاد فَإِن خَرجُوا قبله أَو أخروا الْخُرُوج بِحَيْثُ لَا يصلونَ مَكَّة إِلَّا بِأَكْثَرَ من مرحلة فِي كل يَوْم أَو كَانُوا يَسِيرُونَ فَوق الْعَادة لم يلْزمه الْخُرُوج هَذَا إِن احْتِيجَ إِلَى الرّفْقَة لدفع الْخَوْف فَإِن أَمن الطَّرِيق بِحَيْثُ لَا يخَاف الْوَاحِد فِيهَا لزمَه وَلَا(1/252)
حَاجَة للرفقة وَلَا نظر إِلَى الوحشة بِخِلَافِهَا فِيمَا مر فِي التَّيَمُّم لِأَنَّهُ لَا بدل لما هُنَا بِخِلَافِهِ ثمَّ
(و) الثَّامِن من شُرُوط الْوُجُوب وَهُوَ من شُرُوط الِاسْتِطَاعَة أَن يثبت على الرَّاحِلَة أَو فِي محمل وَنَحْوه بِلَا مشقة شَدِيدَة فَمن لم يثبت عَلَيْهَا أصلا أَو ثَبت فِي محمل عَلَيْهَا لَكِن بِمَشَقَّة شَدِيدَة لكبر أَو نَحوه انْتَفَى عَنهُ استطاعة الْمُبَاشرَة وَلَا تضر مشقة تحْتَمل فِي الْعَادة
وَيشْتَرط وجود مَاء وَزَاد بمحال مُعْتَاد حملهما مِنْهَا بِثمن مثل زَمَانا ومكانا وَوُجُود علف دَابَّة كل مرحلة وَخُرُوج نَحْو زوج امْرَأَة كمحرمها أَو عَبدهَا أَو نسْوَة ثِقَات مَعهَا لتأمن على نَفسهَا لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا تُسَافِر الْمَرْأَة يَوْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا زَوجهَا أَو محرم وَيَكْفِي فِي الْجَوَاز لفرضها امْرَأَة وَاحِدَة وسفرها وَحدهَا إِن أمنت وَلَو كَانَ خُرُوج من ذكر بِأُجْرَة فيلزمها أجرته إِذا لم يخرج إِلَّا بهَا فَيشْتَرط فِي لُزُوم النّسك لَهَا قدرتها على أجرته ويلزمها أُجْرَة الْمحرم كقائد أعمى والمحجور عَلَيْهِ بِسَفَه كَغَيْرِهِ فِي وجوب النّسك عَلَيْهِ فَيصح إِحْرَامه وَينْفق عَلَيْهِ من مَاله لَكِن لَا يدْفع لَهُ المَال لِئَلَّا يبذره بل يخرج مَعَه الْوَلِيّ بِنَفسِهِ إِن شَاءَ لينفق عَلَيْهِ فِي الطَّرِيق بِالْمَعْرُوفِ أَو ينصب شخصا لَهُ ثِقَة يَنُوب عَن الْوَلِيّ وَلَو بِأُجْرَة مثله إِن لم يجد مُتَبَرعا لينفق عَلَيْهِ فِي الطَّرِيق بِالْمَعْرُوفِ وَالظَّاهِر أَن أجرته كَأُجْرَة من يخرج مَعَ الْمَرْأَة
وَالنَّوْع الثَّانِي استطاعة بِغَيْرِهِ فَتجب إنابة عَن ميت غير مُرْتَد عَلَيْهِ نسك من تركته كَمَا يقْضِي مِنْهَا دُيُونه وَلَو فعله عَنهُ أَجْنَبِي جَازَ وَلَو بِلَا إِذن كَمَا يقْضِي دُيُونه بِلَا إِذن وَعَن معضوب بضاد مُعْجمَة أَي عَاجز عَن النّسك بِنَفسِهِ لكبر أَو غَيره كمشقة شَدِيدَة بَينه وَبَين مَكَّة مرحلتان فَأكْثر إِمَّا بِأُجْرَة مثل فضلت عَمَّا مر فِي النَّوْع الأول غير مُؤنَة عِيَاله سفرا إِذا لم يفارقهم يُمكنهُ تَحْصِيل مؤنتهم أَو بِوُجُود مُطِيع بنسك سَوَاء كَانَ أَصله أم فَرعه أَو أَجْنَبِيّا بِشَرْط كَونه غير معضوب موثوقا بِهِ أدّى فَرْضه وَكَون بعضه غير ماش وَلَا معولا على الْكسْب أَو السُّؤَال إِلَّا أَن يكْتَسب فِي يَوْم كِفَايَة أَيَّام وسفره دون مرحلَتَيْنِ فَلَا يجب عَلَيْهِ إنابة مُطِيع بِمَال للأجرة لعظم الْمِنَّة بِخِلَاف الْمِنَّة فِي بذل الطَّاعَة بنسك بِدَلِيل أَن الْإِنْسَان يستنكف عَن الِاسْتِعَانَة بِمَال غَيره وَلَا يستنكف عَن الِاسْتِعَانَة بِبدنِهِ فِي الأشغال
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن شُرُوط صِحَة النّسك فَيشْتَرط لصِحَّته الْإِسْلَام فَلَا يَصح من كَافِر أُصَلِّي أَو مُرْتَد لعدم أَهْلِيَّته لِلْعِبَادَةِ وَلَا يشْتَرط فِيهِ تَكْلِيف فلولي مَال وَلَو بمأذونه إِحْرَام عَن صَغِير وَلَو مُمَيّز لخَبر مُسلم عَن ابْن عَبَّاس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَقِي ركبا بِالرَّوْحَاءِ فَفَزِعت امْرَأَة فَأخذت بعضد صبي صَغِير فَأَخْرَجته من محفتها فَقَالَت يَا رَسُول الله هَل لهَذَا حج(1/253)
قَالَ نعم وَلَك أجر
وَعَن مَجْنُون قِيَاسا على الصَّغِير وَيشْتَرط للمباشرة مَعَ الْإِسْلَام التَّمْيِيز وَلَو من صَغِير أَو رَقِيق كَمَا فِي سَائِر الْعِبَادَات فللمميز أَن يحرم بِإِذن وليه من أَب ثمَّ جد ثمَّ وَصِيّ ثمَّ حَاكم أَو قيمه
وَيشْتَرط لوُقُوعه عَن فرض الْإِسْلَام مَعَ الْإِسْلَام التَّمْيِيز وَالْبُلُوغ وَالْحريَّة وَلَو غير مستطيع فيجزىء ذَلِك من فَقير لكَمَال حَاله فَهُوَ كَمَا لَو تكلّف الْمَرِيض الْمَشَقَّة وَحضر الْجُمُعَة لَا من صَغِير ورقيق إِن كملا بعده لخَبر أَيّمَا صبي حج ثمَّ بلغ فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى وَأَيّمَا عبد حج ثمَّ عتق فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى فالمراتب الْمَذْكُورَة للصِّحَّة وَالْوُجُوب أَربع الْوُجُوب وَالصِّحَّة الْمُطلقَة وَصِحَّة الْمُبَاشرَة والوقوع عَن فرض الْإِسْلَام
أَرْكَان الْحَج (وأركان الْحَج أَرْبَعَة) بل سِتَّة كَمَا ستعرفه الأول (الْإِحْرَام) بِهِ (مَعَ النِّيَّة) أَي نِيَّة الدُّخُول فِي الْحَج لخَبر إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ (و) الثَّانِي (الْوُقُوف بِعَرَفَة) لخَبر الْحَج عَرَفَة
(و) الثَّالِث (الطّواف) لقَوْله تَعَالَى {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} وَالرَّابِع (السَّعْي) لما روى الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره بِإِسْنَاد حسن كَمَا فِي الْمَجْمُوع أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتقْبل الْقبْلَة فِي الْمَسْعَى وَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس اسْعوا فَإِن السَّعْي قد كتب عَلَيْكُم
(و) الْخَامِس الْحلق أَو التَّقْصِير لتوقف التَّحَلُّل عَلَيْهِ مَعَ عدم جبره بِدَم كالطواف
(و) السَّادِس تَرْتِيب الْمُعظم بِأَن يقدم الْإِحْرَام على الْجَمِيع وَالْوُقُوف على طواف الرُّكْن وَالْحلق أَو التَّقْصِير وَالطّواف على السَّعْي إِن لم يفعل بعد طواف الْقدوم وَدَلِيله الِاتِّبَاع مَعَ خبر خُذُوا عني مَنَاسِككُم وَقد عده فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا ركنا وَفِي الْمَجْمُوع شرطا وَالْأول أنسب كَمَا فِي الصَّلَاة وَلَا دخل للجبر فِي الْأَركان
أَرْكَان الْعمرَة وأركان الْعمرَة أَرْبَعَة أَشْيَاء) بل خَمْسَة كَمَا ستعرفه الأول (الْإِحْرَام و) الثَّانِي (الطّواف و) الثَّالِث (السَّعْي و) الرَّابِع (الْحلق أَو التَّقْصِير فِي أحد الْقَوْلَيْنِ) الْقَائِل بِأَنَّهُ نسك وَهُوَ الْأَظْهر وَمثله التَّقْصِير وَالْخَامِس التَّرْتِيب فِي جَمِيع أَرْكَانهَا على مَا ذَكرْنَاهُ
تَنْبِيهَات الأول الْأَفْضَل أَن يعين فِي إِحْرَامه النّسك الَّذِي يحرم بِهِ بِأَن يَنْوِي حجا أَو عمْرَة أَو كليهمَا فَلَو أحرم بحجتين أَو عمرتين انْعَقَدت وَاحِدَة فَإِن أحرم وَأطلق بِأَن لَا يزِيد على نفس الْإِحْرَام فَإِن كَانَ فِي أشهر الْحَج صرفه إِلَى مَا شَاءَ بِالنِّيَّةِ من النُّسُكَيْنِ أَو كليهمَا إِن صلح الْوَقْت لَهما ثمَّ بعد النِّيَّة يَأْتِي بِمَا شَاءَ فَلَا يجزىء الْعَمَل قبل النِّيَّة فَإِن لم يصلح الْوَقْت لَهما بِأَن(1/254)
فَاتَ وَقت الْحَج صرفه للْعُمْرَة وَإِن كَانَ فِي غير أشهره انْعَقَدت عمْرَة فَلَا يصرفهُ إِلَى الْحَج فِي أشهره لِأَن الْوَقْت لَا يقبل غير الْعمرَة وَيسن النُّطْق بنية وتلبية فَيَقُول بِقَلْبِه وَلسَانه نَوَيْت الْحَج أَو الْعمرَة أَو هما لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك إِلَى آخِره كَمَا سَيَأْتِي
وَلَا تسن التَّلْبِيَة فِي طواف وَلَا سعي لِأَن فيهمَا أذكارا خَاصَّة وَيسن الْغسْل للْإِحْرَام ولدخول مَكَّة وللوقوف بِعَرَفَة وبمزدلفة غَدَاة النَّحْر وَفِي أَيَّام التَّشْرِيق للرمي فَإِن عجز عَن الْغسْل تيَمّم وَيسن أَن يطيب مُرِيد الْإِحْرَام بدنه للْإِحْرَام وَلَا بَأْس باستدامته بعد الْإِحْرَام وَلَا يسن تطييب ثَوْبه خلافًا لما فِي الْمِنْهَاج
وَيسن خضب يَدي امْرَأَة للْإِحْرَام إِلَى الكوعين بِالْحِنَّاءِ لِأَنَّهُمَا قد ينكشفان وَمسح وَجههَا بِشَيْء مِنْهُ
وَيسن أَن يُصَلِّي مُرِيد الْإِحْرَام فِي غير وَقت الْكَرَاهَة رَكْعَتَيْنِ للْإِحْرَام وَالْأَفْضَل أَن يحرم الشَّخْص إِذا توجه لطريقه
وَيسن للْمحرمِ إكثار التَّلْبِيَة فِي دوَام إِحْرَامه وَيرْفَع الذّكر صَوته بهَا وتتأكد عِنْد تَغْيِير الْأَحْوَال كركوب وصعود وهبوط واختلاط رفْقَة وإقبال ليل أَو نَهَار وَوقت سحر
ولفظها لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لبيْك لَا شريك لَك لبيْك إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك لَا شريك لَك
وَإِذا رأى مَا يُعجبهُ أَو يكرههُ ندب أَن يَقُول لبيْك إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة وَإِذا فرغ من تلبيته صلى وَسلم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَأَلَ الله تَعَالَى الْجنَّة ورضوانه واستعاذ بِهِ من النَّار
وَالْأَفْضَل دُخُول مَكَّة قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة وَالْأَفْضَل دُخُولهَا من ثنية كداء بِالْفَتْح وَالْمدّ وَهِي العلياء وَإِن لم تكن بطريقه وَيخرج من ثنية كدى بِالضَّمِّ وَالْقصر وَهِي السُّفْلى والثنية الطَّرِيق الضّيق بَين الجبلين وَإِذا دخل مَكَّة وَرَأى الْكَعْبَة أَو وصل مَحل رؤيتها وَلم يرهَا لعمى أَو ظلمَة أَو نَحْو ذَلِك قَالَ ندبا رَافعا يَدَيْهِ اللَّهُمَّ زد هَذَا الْبَيْت تَشْرِيفًا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من شرفه وَكَرمه مِمَّن حجه أَو اعتمره تَشْرِيفًا وتكريما وتعظيما وَبرا
اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام ومنك السَّلَام فحينا رَبنَا بِالسَّلَامِ وَيدخل الْمَسْجِد من بَاب بني شيبَة وَإِن لم يكن بطريقه وَيبدأ بِطواف الْقدوم إِلَّا لعذر كإقامة جمَاعَة وضيق وَقت صَلَاة وَيخْتَص بِطواف الْقدوم حَلَال وحاج دخل مَكَّة قبل الْوُقُوف وَمن دخل الْحرم لَا لنسك بل لنَحْو تِجَارَة سنّ لَهُ إِحْرَام بنسك
وَاجِبَات الطّواف التَّنْبِيه الثَّانِي وَاجِبَات الطّواف بأنواعه ثَمَانِيَة الأول ستر الْعَوْرَة
وَالثَّانِي طهر عَن حدث أَصْغَر وأكبر وَعَن نجس كَمَا فِي الصَّلَاة فَلَو زَالا فِي الطّواف جدد السّتْر وَالطُّهْر وَبنى على طَوَافه وَالثَّالِث جعله الْبَيْت عَن يسَاره مارا من تِلْقَاء وَجهه
وَالرَّابِع بدؤه بِالْحجرِ الْأسود محاذيا لَهُ أَو لجزئه فِي مروره بِبدنِهِ فَلَو بَدَأَ بِغَيْرِهِ لم يحْسب مَا طافه فَإِذا انْتهى إِلَيْهِ ابْتَدَأَ مِنْهُ وَلَو أزيل الْحجر وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى وَجب محاذاة مَحَله وَلَو مَشى على الشاذروان الْخَارِج عَن عرض جِدَار الْبَيْت أَو مس الْجِدَار فِي موازاته أَو دخل من إِحْدَى فتحتي الْحجر المحوط بَين الرُّكْنَيْنِ الشاميين لم يَصح طَوَافه
وَالْخَامِس كَونه سبعا
وَالسَّادِس كَونه فِي الْمَسْجِد
وَالسَّابِع نِيَّة الطّواف إِن اسْتَقل بِأَن لم يَشْمَلهُ نسك
وَالثَّامِن عدم صرفه لغيره كَطَلَب غَرِيم(1/255)
وسننه أَن يمشي فِي كُله إِلَّا لعذر كَمَرَض وَأَن يسْتَلم الْحجر الْأسود أول طَوَافه وَأَن يقبله وَيسْجد عَلَيْهِ وَيفْعل بمحله إِذا أزيل وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى كَذَلِك فَإِن عجز عَن التَّقْبِيل اسْتَلم بِيَدِهِ فَإِن عجز عَن استلامه أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ
ويراعي ذَلِك الاستلام وَمَا بعده فِي كل طوفه وَلَا يسن (تَقْبِيل الرُّكْنَيْنِ الشاميين وَلَا استلامهما) وَيسن استلام الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَلَا يسن تقبيله وللطواف سنَن أخر وأدعية ذكرتها فِي شرح الْبَهْجَة وَغَيره
وَاجِبَات السَّعْي التَّنْبِيه الثَّالِث وَاجِبَات السَّعْي ثَلَاث الأول يبْدَأ بالصفا وَيخْتم بالمروة
وَالثَّانِي أَن يسْعَى سبعا ذَهَابه من الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَة مرّة وَعوده مِنْهَا إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى
وَالثَّالِث أَن يسْعَى بعد طواف ركن أَو قدوم بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّل بَين السَّعْي وَطواف الْقدوم الْوُقُوف بِعَرَفَة وَمن سعى بعد طواف قدوم لم تسن لَهُ إِعَادَته بعد طواف الْإِفَاضَة وَله سنَن ذكرتها فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
التَّنْبِيه الرَّابِع وَاجِب الْوُقُوف بِعَرَفَة حُضُوره بِجُزْء من أرْضهَا وَإِن كَانَ مارا فِي طلب آبق بِشَرْط كَونه محرما أَهلا لِلْعِبَادَةِ لَا مغمى عَلَيْهِ جَمِيع وَقت الْوُقُوف وَلَا بَأْس بِالنَّوْمِ وَوقت الْوُقُوف من وَقت زَوَال الشَّمْس يَوْم عَرَفَة إِلَى فجر يَوْم النَّحْر وَلَو وقفُوا الْيَوْم الْعَاشِر غَلطا وَلم يقلوا على خلاف الْعَادة أجزأهم وقوفهم فَإِن قلوا على خلاف الْعَادة وَجب الْقَضَاء
وَاجِبَات الْحَج (وواجبات الْحَج غير الْأَركان ثَلَاثَة أَشْيَاء) بل خَمْسَة كَمَا ستعرفه وغاير المُصَنّف بَين الرُّكْن وَالْوَاجِب وهما مُتَرَادِفَانِ إِلَّا فِي هَذَا الْبَاب فَقَط فالفرض مَا لَا تُوجد مَاهِيَّة الْحَج إِلَّا بِهِ
وَالْوَاجِب مَا يجْبر تَركه بِدَم وَلَا يتَوَقَّف وجود الْحَج على فعله الأول (الْإِحْرَام من الْمِيقَات) وَلَو من آخِره وَالْأَفْضَل من أَوله والميقات فِي اللُّغَة الْحَد وَالْمرَاد بِهِ هُنَا زمن الْعِبَادَة ومكانها فالميقات الزماني لِلْحَجِّ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر لَيَال من ذِي الْحجَّة فَلَو أحرم بِهِ فِي غير وقته انْعَقَد عمْرَة وَجَمِيع السّنة وَقت لإحرام الْعمرَة وَقد يمْتَنع الْإِحْرَام بهَا لعوارض مِنْهَا مَا لَو كَانَ محرما بِحَجّ فَإِن الْعمرَة لَا تدخل عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا لَو أحرم بهَا قبل نفره لاشتغاله بِالرَّمْي وَالْمَبِيت وَمِنْهَا مَا لَو كَانَ محرما بِعُمْرَة فَإِن الْعمرَة لَا تدخل على أُخْرَى وَأما الْمِيقَات المكاني لِلْحَجِّ فِي حق من بِمَكَّة سَوَاء كَانَ من أَهلهَا أم لَا نفس مَكَّة وَأما غَيره فميقات المتوجه من الْمَدِينَة ذُو الحليفة وَهِي على نَحْو عشرَة مراحل من مَكَّة وميقات المتوجه من الشَّام وَمن مصر وَمن الْمغرب الْجحْفَة وَهِي قَرْيَة كَبِيرَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة
قَالَ فِي الْمَجْمُوع على نَحْو ثَلَاث مراحل من مَكَّة
وميقات المتوجه من تهَامَة الْيمن يَلَمْلَم وَهُوَ مَوضِع على مرحلَتَيْنِ من مَكَّة
وميقات المتوجه من نجد الْيمن ونجد الْحجاز قرن وَهُوَ جبل على مرحلَتَيْنِ من مَكَّة
وميقات المتوجه من الْمشرق الْعرَاق وَغَيره ذَات عرق وَهِي قَرْيَة على مرحلَتَيْنِ من مَكَّة
وَالْأَصْل فِي الْمَوَاقِيت خبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقت لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة وَلأَهل الشَّام ومصر الْجحْفَة وَلأَهل نجد قرن الْمنَازل وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم وَقَالَ هن لَهُنَّ وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ من غير أهلهن مِمَّن أَرَادَ الْحَج وَالْعمْرَة وَمن كَانَ دون ذَلِك فَمن حَيْثُ أنشأ حَتَّى أهل مَكَّة من مَكَّة
فَائِدَة قَالَ بَعضهم سَأَلت الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي أَي سنة أقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَوَاقِيت الْإِحْرَام فَقَالَ سنة عَام حج وَمن سلك طَرِيقا لَا تَنْتَهِي إِلَى مِيقَات أحرم من محاذاته فَإِن حَاذَى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إِلَيْهِ فَإِن اسْتَويَا فِي الْقرب إِلَيْهِ أحرم من محاذاة أبعدهُمَا من مَكَّة وَإِن لم يحاذ ميقاتا أحرم على مرحلَتَيْنِ من مَكَّة وَمن مَسْكَنه بَين مَكَّة والميقات فميقاته مَسْكَنه وَمن جَاوز ميقاتا غير مُرِيد نسكا ثمَّ أَرَادَهُ فميقاته مَوْضِعه وَمن وصل إِلَيْهِ مرِيدا نسكا لم يجز مجاوزته بِغَيْر إِحْرَام بِالْإِجْمَاع فَإِن جاوزه لزمَه الْعود ليحرم مِنْهُ إِلَّا إِذا ضَاقَ الْوَقْت أَو كَانَ الطَّرِيق مخوفا فَإِن لم يعد لعذر أَو غَيره لزمَه دم وَإِن أحرم(1/256)
ثمَّ عَاد قبل تلبسه بنسك سقط الدَّم عَنهُ وَإِلَّا فَلَا
وميقات الْعمرَة المكاني لمن هُوَ خَارج الْحرم مِيقَات الْحَج وَمن بِالْحرم يلْزمه الْخُرُوج إِلَى أدنى الْحل وَلَو بِأَقَلّ من خطْوَة فَإِن لم يخرج وأتى بِأَفْعَال الْعمرَة أَجزَأَهُ فِي الْأَظْهر وَلَكِن عَلَيْهِ دم فَلَو خرج إِلَى أدنى الْحل بعد إِحْرَامه وَقبل الطّواف وَالسَّعْي سقط عَنهُ الدَّم وَأفضل بقاع الْحل الْجِعِرَّانَة ثمَّ التَّنْعِيم ثمَّ الْحُدَيْبِيَة
(و) الْوَاجِب الثَّانِي (رمي الْجمار الثَّلَاث) كل يَوْم من أَيَّام التَّشْرِيق الثَّلَاث وَيدخل رمي كل يَوْم من أَيَّام التَّشْرِيق بِزَوَال شمسه وَيخرج وَقت اخْتِيَاره بغروبها وَأما وَقت جَوَازه فَإلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق فَإِن نفر وَلَو انْفَصل من منى بعد الْغُرُوب أَو عَاد لشغل فِي الْيَوْم الثَّانِي بعد رميه جَازَ وَسقط مبيت اللَّيْلَة الثَّالِثَة وَرمى يَوْمهَا
وَشرط لصِحَّة الرَّمْي تَرْتِيب الجمرات بِأَن يَرْمِي أَولا إِلَى الْجَمْرَة الَّتِي تلِي مَسْجِد الْخيف ثمَّ إِلَى الْوُسْطَى ثمَّ إِلَى جَمْرَة الْعقبَة
تَنْبِيه لَو قَالَ المُصَنّف وَالرَّمْي لَكَانَ أخصر وأجود ليشْمل رمي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر فَإِنَّهُ وَاجِب يجْبر تَركه بِدَم وَيدخل وقته بِنصْف لَيْلَة النَّحْر وَيبقى وَقت اخْتِيَاره إِلَى غرُوب شمس يَوْمه وَأما وَقت الْجَوَاز فَإلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق
وَيشْتَرط فِي رمي يَوْم النَّحْر وَغَيره كَونه سبع مَرَّات وَكَونه بيد لِأَنَّهُ الْوَارِد ذكره بِحجر فيجزىء بأنواعه وَقصد المرمي وَتحقّق إِصَابَته بِالْحجرِ
قَالَ الطَّبَرِيّ وَلم يذكرُوا فِي المرمي حدا مَعْلُوما غير أَن كل جَمْرَة عَلَيْهَا علم فَيَنْبَغِي أَن يَرْمِي تَحْتَهُ على الأَرْض وَلَا يبعد عَنهُ احْتِيَاطًا
وَقد قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الْجَمْرَة مُجْتَمع الْحَصَى لَا مَا سَالَ من الْحَصَى
وَحده بعض الْمُتَأَخِّرين بِثَلَاثَة أَذْرع من سَائِر الجوانب إِلَّا فِي جَمْرَة الْعقبَة فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا وَجه وَاحِد وَهُوَ قريب مِمَّا تقدم
(و) الْوَاجِب الثَّالِث (الْحلق) على القَوْل بِأَنَّهُ اسْتِبَاحَة مَحْظُور وَهُوَ مَرْجُوح وَالْمُعْتَمد أَنه ركن على القَوْل الْأَظْهر أَنه نسك كَمَا مر بل نقل الإِمَام الِاتِّفَاق على ركنيته وَحِينَئِذٍ يصحح للْمُصَنف مَا ذكره من الْعدَد بإبدال هَذَا الْمَرْجُوح بالمبيت بِمُزْدَلِفَة فَإِنَّهُ وَاجِب على الْأَصَح وَيجْبر تَركه بِدَم وَالْوَاجِب فِيهِ سَاعَة فِي النّصْف الثَّانِي من اللَّيْل فَإِن دفع قبل النّصْف الثَّانِي لزمَه الْعود فَإِن لم يعد حَتَّى طلع الْفجْر لزمَه دم وَيسن أَن يَأْخُذ مِنْهَا حَصى الرَّمْي وَهُوَ سَبْعُونَ حَصَاة مِنْهَا سبع لرمي يَوْم النَّحْر وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاث وَسِتُّونَ حَصَاة لأيام التَّشْرِيق كل وَاحِد إِحْدَى وَعِشْرُونَ حَصَاة لكل جَمْرَة سبع حَصَيَات وَيسن أَن يَرْمِي بِقدر حَصى الْخذف وَهُوَ دون الْأُنْمُلَة طولا وعرضا بِقدر الباقلا وَمن عجز عَن الرَّمْي أناب من يَرْمِي عَنهُ وَلَو ترك رميا من رمي يَوْم النَّحْر أَو أَيَّام التَّشْرِيق تَدَارُكه فِي بَاقِي أَيَّام التَّشْرِيق أَدَاء وَإِلَّا لزمَه دم بترك رمي ثَلَاث رميات فَأكْثر
(و) الْوَاجِب الرَّابِع الْمبيت بمنى ليَالِي أَيَّام التَّشْرِيق مُعظم اللَّيْل كَمَا لَو حلف لَا يبيت بمَكَان لَا يَحْنَث إِلَّا بمبيت مُعظم اللَّيْل فَإِن تَركه لغمه دم وَمحل وجوب مبيت اللَّيْلَة الثَّالِثَة لمن لم ينفر النَّفر الأول كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ
(و) الْوَاجِب الْخَامِس التَّحَرُّز من مُحرمَات الْإِحْرَام وَأما طواف الْوَدَاع فَهُوَ وَاجِب مُسْتَقل لَيْسَ من الْمَنَاسِك على الْمُعْتَمد فَيجب على غير نَحْو حَائِض كنفساء بِفِرَاق مَكَّة وَلَو مكيا أَو غير حَاج ومعتمر أَو فَارقهَا لسفر قصير كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَيجْبر تَركه بِدَم فَإِن عَاد بعد فِرَاقه بِلَا طواف قبل مَسَافَة الْقصر وَطَاف فَلَا دم عَلَيْهِ وَإِن مكث بعد الطّواف لَا لصَلَاة أُقِيمَت أَو شغل سفر كَشِرَاء زَاد أعَاد الطّواف(1/257)
تَنْبِيه يسن دُخُول الْبَيْت وَالصَّلَاة فِيهِ وَالشرب من مَاء زَمْزَم وزيارة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو لغير حَاج ومعتمر وَسن لمن قصد الْمَدِينَة الشَّرِيفَة لزيارته أَن يكثر فِي طَرِيقه من الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْهِ فَإِذا دخل الْمَسْجِد قصد الرَّوْضَة وَهِي بَين قَبره ومنبره وَصلى تَحِيَّة الْمَسْجِد بِجَانِب الْمِنْبَر ثمَّ وقف مستدبر الْقبْلَة مُسْتَقْبل رَأس الْقَبْر الشريف وَيبعد عَنهُ نَحْو أَرْبَعَة أَذْرع فارغ الْقلب من علق الدُّنْيَا وَيسلم بِلَا رفع صَوت وَأقله (السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ثمَّ يتَأَخَّر صوب يَمِينه قدر ذِرَاع فَيسلم على أبي بكر ثمَّ يتَأَخَّر قدر ذِرَاع فَيسلم على عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا ثمَّ يرجع إِلَى موقفه الأول قبالة وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويتوسل بِهِ فِي حق نَفسه ويستشفع بِهِ إِلَى ربه وَإِذا أَرَادَ السّفر ودع الْمَسْجِد بِرَكْعَتَيْنِ وأتى الْقَبْر الشريف وَأعَاد نَحْو السَّلَام الأول
سنَن الْحَج (وَسنَن الْحَج) كَثِيرَة الْمَذْكُور مِنْهَا هَهُنَا (سبع) بِتَقْدِيم السّنَن على الْمُوَحدَة وَمَشى المُصَنّف فِي بَعْضهَا على ضَعِيف كَمَا ستعرفه
الأول (الْإِفْرَاد) فِي عَام وَاحِد (وَهُوَ تَقْدِيم) أَعمال (الْحَج على) أَعمال (الْعمرَة) فَإِن الْحَج وَالْعمْرَة يؤديان على ثَلَاثَة أوجه الأول هَذَا الْإِفْرَاد وَالثَّانِي التَّمَتُّع وَعَكسه وَالثَّالِث الْقرَان بِأَن يحرم بهما مَعًا فِي أشهر الْحَج أَو بِعُمْرَة ثمَّ يحجّ قبل شُرُوعه فِي طواف ثمَّ يعْمل الْحَج فيهمَا وأفضلهما الْإِفْرَاد إِن اعْتَمر عَامه ثمَّ التَّمَتُّع أفضل من الْقرَان وعَلى كل من الْمُتَمَتّع والقارن دم إِن لم يَكُونَا من حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام وهم من مساكنهم دون مرحلَتَيْنِ مِنْهُ
(و) الثَّانِيَة (التَّلْبِيَة) إِلَّا عِنْد الرَّمْي فَيُسْتَحَب التَّكْبِير فِيهِ دونهَا وَتَقَدَّمت صيغتها وَمن لَا يحسنها بِالْعَرَبِيَّةِ يَأْتِي بهَا بِلِسَانِهِ (و) الثَّالِثَة (طواف الْقدوم) وَتقدم أَنه يخْتَص بحلال وبحاج دخل مَكَّة قبل الْوُقُوف فَلَو دخل بعد الْوُقُوف تعين طواف الْإِفَاضَة لدُخُول وقته
(و) الرَّابِعَة (الْمبيت بِمُزْدَلِفَة) على وَجه ضَعِيف وَالأَصَح أَنه وَاجِب كَمَا مر
(و) الْخَامِسَة (رَكعَتَا الطّواف) خلف الْمقَام فَإِن لم يَتَيَسَّر فَفِي الْحجر فَإِن لم يَتَيَسَّر فَفِي الْمَسْجِد فَإِن لم يَتَيَسَّر فَحَيْثُ شَاءَ من الْحرم
(و) السَّادِسَة (الْمبيت بمنى) لَيْلَة عَرَفَة لِأَنَّهُ للاستراحة لَا للنسك وَخرج بِقَيْد عَرَفَة الْمبيت بهَا ليَالِي التَّشْرِيق فَإِنَّهُ وَاجِب كَمَا مر بَيَانه
(و) السَّابِعَة (طواف الْوَدَاع) على قَول مَرْجُوح وَالْأَظْهَر أَنه وَاجِب كَمَا مر بَيَانه
وَقد بَقِي لِلْحَجِّ سنَن كَثِيرَة ذكرت مِنْهَا جملَة فِي شرح التَّنْبِيه وَغَيره
(ويتجرد الرجل عِنْد الْإِحْرَام عَن الْمخيط) وجوبا كَمَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه وَهَذَا وَهُوَ الْمُعْتَمد وَإِن خَالف فِي مَنَاسِكه الْكُبْرَى فَقَالَ فِيهِ بالاستحباب وَلَو عبر بالمحيط بِضَم الْمِيم وبحاء مُهْملَة بدل الْمخيط بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة لَكَانَ أولى ليشْمل الْخُف واللبد والمنسوج (ويلبس) ندبا (إزارا ورداء أبيضين) جديدين وَإِلَّا فمغسولين ونعلين وَخرج بِالرجلِ وَالْمَرْأَة وَالْخُنْثَى إِذْ لَا نزع عَلَيْهِمَا فِي غير الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ(1/258)
فصل فِي مُحرمَات الْإِحْرَام
وَحكم الْفَوات وَقد بَدَأَ بالقسم الأول فَقَالَ (وَيحرم على الْمحرم) بِحَجّ أَو عمْرَة أَو بهما أُمُور كَثِيرَة الْمَذْكُورَة مِنْهَا هُنَا (عشرَة أَشْيَاء) الأول (لبس الْمخيط) وَمَا فِي مَعْنَاهُ كالمنسوج على هَيئته والملزوق واللبد سَوَاء كَانَ من قطن أم من جلد وَمن غير ذَلِك فِي جَمِيع بدنه إِذا كَانَ مَعْمُولا على قدره على الْهَيْئَة المألوفة فِيهِ ليخرج مَا إِذا ارتدى بقميص أَو قبَاء أَو اتزر بسراويل فَإِنَّهُ لَا فديَة فِي ذَلِك
وَالْأَصْل فِي ذَلِك الْأَخْبَار الصَّحِيحَة كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب فَقَالَ لَا يلبس القمص وَلَا العمائم وَلَا السَّرَاوِيل وَلَا البرانس وَلَا الْخفاف إِلَّا أحد لَا يجد نَعْلَيْنِ فيلبس الْخُفَّيْنِ وليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ وَلَا يلبس من الثِّيَاب شَيْئا مَسّه زعفران أَو ورس زَاد البُخَارِيّ وَلَا تنتقب الْمَرْأَة وَلَا تلبس القفازين
فَإِن قيل السُّؤَال عَمَّا يلبس فَأُجِيب بِمَا لَا يلبس مَا الْحِكْمَة فِي ذَلِك أُجِيب بِأَن مَا لَا يلبس مَحْصُور بِخِلَاف مَا يلبس إِذْ الأَصْل الْإِبَاحَة وَفِيه تَنْبِيه على أَنه كَانَ يَنْبَغِي السُّؤَال عَمَّا لَا يلبس وَبِأَن الْمُعْتَبر فِي الْجَواب مَا يحصل الْمَقْصُود وَإِن لم يُطَابق السُّؤَال صَرِيحًا
(و) الثَّانِي (تَغْطِيَة) بعض (الرَّأْس من الرجل) وَلَو الْبيَاض الَّذِي وَرَاء الْأذن سَوَاء أستر الْبَعْض الآخر أم لَا بِمَا يعد ساترا عرفا مخيطا كَانَ أَو غَيره كالعمامة والطيلسان وَكَذَا الطين والحناء الثخينان لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الْمحرم الَّذِي خر من على بعيره مَيتا لَا تخمروا رَأسه فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا بِخِلَاف مَا لَا يعد ساترا كاستظلال بمحمل وَإِن مَسّه فَإِن لبس أَو ستر بِغَيْر عذر حرم عَلَيْهِ وَلَزِمتهُ الْفِدْيَة فَإِن كَانَ لعذر من حر أَو برد أَو مداواة كَأَن جرح رَأسه فَشد عَلَيْهِ خرقَة فَيجوز لقَوْله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} لَكِن تلْزمهُ الْفِدْيَة قِيَاسا على الْحلق بِسَبَب الْأَذَى
(و) الثَّالِث ستر بعض (الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ من الْمَرْأَة) وَلَو أمة كَمَا فِي الْمَجْمُوع بِمَا يعد ساترا إِلَّا لحَاجَة فَيجوز مَعَ الْفِدْيَة(1/259)
وعَلى الْحرَّة أَن تستر مِنْهُ مَا لَا يَتَأَتَّى ستر جَمِيع رَأسهَا إِلَّا بِهِ احْتِيَاطًا للرأس إِذْ لَا يُمكن اسْتِيعَاب ستره إِلَّا بستر قدر يسير مِمَّا يَلِي الْوَجْه والمحافظة على ستره بِكَمَالِهِ لكَونه عَورَة أولى من الْمُحَافظَة على كشف ذَلِك الْقدر من الْوَجْه وَيُؤْخَذ من التَّعْلِيل أَن الْأمة لَا تستر ذَلِك لِأَن رَأسهَا لَيْسَ بِعَوْرَة وَإِذا أَرَادَت الْمَرْأَة ستر وَجههَا عَن النَّاس أرخت عَلَيْهِ مَا يستره بِنَحْوِ ثوب متجاف عَنهُ بِنَحْوِ خَشَبَة بِحَيْثُ لَا يَقع على الْبشرَة وَسَوَاء أفعلته لحَاجَة كحر وَبرد أم لَا وَلها لبس الْمخيط وَغَيره فِي الرَّأْس وَغَيره إِلَّا القفاز فَلَيْسَ لَهَا ستر الْكَفَّيْنِ وَلَا أَحدهمَا بِهِ للْحَدِيث الْمُتَقَدّم وَهُوَ شَيْء يعْمل لِلْيَدَيْنِ يحشى بِقطن وَيكون لَهُ أزرار تزر على الساعدين من الْبرد تلبسه الْمَرْأَة فِي يَديهَا
وَمُرَاد الْفُقَهَاء مَا يَشْمَل المحشو وَغَيره
تَنْبِيه يحرم على الْخُنْثَى الْمُشكل ستر وَجهه مَعَ رَأسه وَيلْزمهُ الْفِدْيَة وَله ستر وَجهه مَعَ كشف رَأسه وَلَا فديَة عَلَيْهِ لأَنا لَا نوجبها بِالشَّكِّ
قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَيسن أَن يسْتَتر بالمخيط لجَوَاز كَونه رجلا وَيُمكن ستره بِغَيْرِهِ
ع (و) الرَّابِع (ترجيل) أَي تَسْرِيح (الشّعْر) أَي شعر رَأس الْمحرم أَو لحيته وَلَو من امْرَأَة (بالدهن) وَلَو غير مُطيب كزيت وشمع مذاب لما فِيهِ من التزين الْمنَافِي لحَال الْمحرم فَإِنَّهُ أَشْعَث أغبر كَمَا ورد فِي الْخَبَر وَلَا فرق فِي الشّعْر بَين الْقَلِيل وَالْكثير وَلَو وَاحِدَة كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامهم وَلَو كَانَ شعر الرَّأْس أَو اللِّحْيَة محلوقا لما فِيهِ من تَزْيِين الشّعْر وتنميته بِخِلَاف رَأس الْأَقْرَع والأصلع وذقن الْأَمْرَد لانْتِفَاء الْمَعْنى وَله دهن بدنه ظَاهرا وَبَاطنا وَسَائِر شعره بذلك وَله أكله وَجعله فِي شجة وَلَو بِرَأْسِهِ وَألْحق الْمُحب الطَّبَرِيّ بِشعر اللِّحْيَة شعر الْوَجْه كحاجب وشارب وعنفقة وَقَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ التَّحْرِيم ظَاهر فِيمَا اتَّصل باللحية كالشارب والعنفقة والعذار وَأما الْحَاجِب والهدب وَمَا على الْجَبْهَة أَي والخد فَفِيهِ بعد انْتهى وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر لِأَن ذَلِك لَا يتزين بِهِ وَلَا يكره غسل بدنه وَرَأسه بخطمي وَنَحْوه كسدر من غير نتف شعر لِأَن ذَلِك لإِزَالَة الْوَسخ لَا للتزيين والتنمية لَكِن الأولى تَركه وَترك الاكتحال الَّذِي لَا طيب فِيهِ وللمحرم الاحتجام والفصد مَا لم يقطع بهما شعر
(و) الْخَامِس (حلقه) أَي الشّعْر من سَائِر جسده وَمثل الْحلق النتف والإحراق وَنَحْو ذَلِك قَالَ تَعَالَى {وَلَا تحلقوا رؤوسكم} أَي شعرهَا وَشعر سَائِر الْجَسَد مُلْحق بِهِ (و) السَّادِس (تقليم الْأَظْفَار) قِيَاسا على الشّعْر لما فِيهِ من الترفه وَالْمرَاد من ذَلِك الْجِنْس الصَّادِق بِبَعْض شعره أَو ظفر
(و) السَّابِع (الطّيب) سَوَاء أَكَانَ الْمحرم ذكرا أم غَيره وَلَو أخشم بِمَا يقْصد مِنْهُ رَائِحَته غَالِبا وَلَو مَعَ غَيره كالمسك وَالْعود والكافور والورس وَهُوَ أطيب بِبِلَاد الْيمن والزعفران وَإِن كَانَ يطْلب للصبغ والتداوي أَيْضا سَوَاء أَكَانَ ذَلِك فِي ملبوسه كثوبه أم فِي بدنه لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمَار وَلَا يلبس من الثِّيَاب مَا مَسّه ورس أَو زعفران وَسَوَاء أَكَانَ ذَلِك بِأَكْل أَو إسعاط أم احتقان فَيجب مَعَ التَّحْرِيم فِي ذَلِك الْفِدْيَة واستعماله أَن يلصق الطّيب بِبدنِهِ أَو ملبوسه على الْوَجْه الْمُعْتَاد فِي ذَلِك بِنَفسِهِ أَو مأذونه وَلَو اسْتهْلك الطّيب فِي المخالط لَهُ بِأَن لم يبْق لَهُ ريح وَلَا طعم وَلَا لون كَأَن اسْتعْمل فِي دَوَاء جَازَ اسْتِعْمَاله وَأكله وَلَا فديَة وَمَا يقْصد بِهِ الْأكل أَو التَّدَاوِي وَإِن كَانَ لَهُ ريح طيبَة كالتفاح لِأَن مَا لَا يقْصد مِنْهُ الْأكل أَو التَّدَاوِي لَا فديَة فِيهِ
(و) الثَّامِن يحرم على الْمحرم (قتل الصَّيْد) إِذا كَانَ مَأْكُولا بريا وحشيا كبقر وَحشِي ودجاجة أَو كَانَ متولدا بَين الْمَأْكُول الْبري الوحشي وَبَين غَيره كمتولد بَين حمَار وَحشِي وحمار أَهلِي أَو بَين شَاة وظبي أما الأول فَلقَوْله تَعَالَى {وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر} أَي أَخذه {مَا دمتم حرما} وَأما والسنبل وَسَائِر الإبازير الطّيبَة كالمصطكي لم يحرم وَلم يجب(1/260)
فِيهِ فديَة الثَّانِي فللاحتياط
وَخرج بِمَا ذكر مَا تولد بَين وَحشِي غير مَأْكُول وإنسي مَأْكُول كالمتولد بَين ذِئْب وشَاة وَمَا تولد بَين غير مأكولين أَحدهمَا وَحشِي كالمتولد بَين حمَار وذئب وَمَا تولد بَين أهليين أَحدهمَا غير مَأْكُول كبغل فَلَا يحرم التَّعَرُّض لشَيْء مِنْهَا وَيحرم أَيْضا اصطياد الْمَأْكُول الْبري والمتولد مِنْهُ وَمن غَيره فِي الْحرم على الْحَلَال بِالْإِجْمَاع كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَلَو كَانَ كَافِرًا مُلْتَزم الْأَحْكَام وَلخَبَر الصَّحِيحَيْنِ أَنه (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَوْم فتح مَكَّة قَالَ إِن هَذَا الْبَلَد حرَام بِحرْمَة الله لَا يعضد شَجَره وَلَا ينفر صَيْده أَي لَا يجوز تنفير صَيْده لمحرم وَلَا لحلال فَغير التنفير أولى
وَقيس بِمَكَّة بَاقِي الْحرم
(و) التَّاسِع (عقد النِّكَاح) بِولَايَة أَو وكَالَة وَكَذَا قبُوله لَهُ أَو لوَكِيله وَاحْترز بِالْعقدِ عَن الرّجْعَة فَلَا تحرم عَلَيْهِ على الصَّحِيح لِأَنَّهَا اسْتِدَامَة نِكَاح
(و) الْعَاشِر (الْوَطْء) بِإِدْخَال الْحَشَفَة أَو قدرهَا من مقطوعها فَإِنَّهُ يحرم بِالْإِجْمَاع وَلَو لبهيمة فِي قبل أَو دبر وَيحرم على الْمَرْأَة الْحَلَال تَمْكِين زَوجهَا الْمحرم من الْجِمَاع لِأَنَّهُ إِعَانَة على مَعْصِيّة وَيحرم على الْحَلَال جماع زَوجته الْمُحرمَة (و) كَذَا (الْمُبَاشرَة) قبل التَّحَلُّل الأول فِيمَا دون الْفرج (بِشَهْوَة) لَا بغَيْرهَا وَكَذَا يحرم الاستمناء بِالْيَدِ (و) يجب (فِي) كل وَاحِد من (جَمِيع ذَلِك) أَي الْمُحرمَات الْمَذْكُورَة (الْفِدْيَة) الْآتِي بَيَانهَا فِي الْفَصْل بعده (إِلَّا عقد النِّكَاح) أَو قبُوله فَلَا فديَة فِيهِ (فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد) فوجوده كَالْعدمِ وَلَو جَامع بعد الْمُبَاشرَة بِشَهْوَة أَو الاستمناء سَقَطت عَنهُ الْفِدْيَة فِي الصُّورَتَيْنِ لدخولها فِي فديَة الْجِمَاع (وَلَا يُفْسِدهُ) أَي الْإِحْرَام شَيْء من محرماته (إِلَّا الْوَطْء فِي الْفرج) فَقَط وَإِن لم ينزل إِذا وَقع فِي الْعمرَة قبل الْفَرَاغ مِنْهَا وَفِي الْحَج قبل التَّحَلُّل الأول قبل الْوُقُوف بِالْإِجْمَاع وَبعده خلافًا لأبي حنيفَة لِأَنَّهُ وَطْء صَادف إحراما صَحِيحا لم يحصل فِيهِ التَّحَلُّل الأول وَلَو كَانَ المجامع فِي الْعمرَة أَو الْحَج رَقِيقا أَو صَبيا مُمَيّزا لقَوْله تَعَالَى {فَلَا رفث} أَي لَا ترفثوا فلفظه خبر وَمَعْنَاهُ النَّهْي وَلَو بَقِي على الْخَبَر امْتنع وُقُوعه فِي الْحَج لِأَن إِخْبَار الله تَعَالَى صدق قطعا مَعَ أَن ذَلِك وَقع كثيرا وَالْأَصْل فِي النَّهْي اقْتِضَاء الْفساد
وقاسوا الْعمرَة على الْحَج أما غير الْمُمَيز من صبي أَو مَجْنُون فَلَا يفْسد ذَلِك بجماعه وَكَذَا النَّاسِي وَالْجَاهِل وَالْمكْره وَلَو أحرم حَال النزع صَحَّ فِي أحد أوجه يظْهر تَرْجِيحه لِأَن النزع لَيْسَ بجماع
تَنْبِيه يحصل التَّحَلُّل الأول فِي الْحَج بِفعل اثْنَيْنِ من ثَلَاثَة وَهِي رمي يَوْم النَّحْر وَالْحلق أَو التَّقْصِير وَالطّواف الْمَتْبُوع بالسعي إِن لم يكن فعل قبل وَيحل بِهِ اللّبْس وَستر الرَّأْس للرجل وَالْوَجْه للْمَرْأَة وَالْحلق والقلم وَالطّيب وَالصَّيْد وَلَا يحل بِهِ(1/261)
عقد النِّكَاح وَلَا الْمُبَاشرَة فِيمَا دون الْفرج لما روى النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ إِذا رميتم الْجَمْرَة حل لكم كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء وَإِذا فعل الثَّالِث بعد الِاثْنَيْنِ حصل التَّحَلُّل الثَّانِي وَحل بِهِ بَاقِي الْمُحرمَات بِالْإِجْمَاع وَيجب عَلَيْهِ الْإِتْيَان بِمَا بَقِي من أَعمال الْحَج وَهُوَ الرَّمْي وَالْمَبِيت مَعَ أَنه غير محرم كَمَا أَنه يخرج من الصَّلَاة بالتسليمة الأولى وتطلب مِنْهُ التسليمة الثَّانِيَة لَكِن الْمَطْلُوب هُنَا على سَبِيل الْوُجُوب وَهُنَاكَ على سَبِيل النّدب أما الْعمرَة فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا تحلل وَاحِد لِأَن الْحَج يطول زَمَنه وتكثر أَعماله فأبيح بعض محرماته فِي وَقت وَبَعضهَا فِي وَقت آخر بِخِلَاف الْعمرَة وَنَظِير ذَلِك الْحيض والجنابة لما طَال زمن الْحيض جعل لارْتِفَاع محظوراته محلان انْقِطَاع الدَّم والاغتسال والجنابة لما قصر زَمَنهَا جعل لارْتِفَاع محظوراتها مَحل وَاحِد
(و) إِذا جَامع الْمحرم (لَا يخرج مِنْهُ) أَي الْإِحْرَام (بِالْفَسَادِ) بل يجب الْمُضِيّ فِي فَاسد نُسكه من حج أَو عمْرَة لإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} فَإِنَّهُ لم يفصل بَين الصَّحِيح وَالْفَاسِد وَصُورَة الْإِحْرَام بِالْحَجِّ فَاسِدا أَن يفْسد الْعمرَة بِالْجِمَاعِ ثمَّ يدْخل عَلَيْهَا الْحَج فَإِنَّهُ يَصح على الْأَصَح وَينْعَقد فَاسِدا على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة فِي بَاب الْإِحْرَام
قَالَ فِي الْجَوَاهِر وَإِذا سُئِلت عَن إِحْرَام ينْعَقد فَاسِدا فَهَذِهِ صورته وَلَا أعلم لَهَا أُخْرَى اه
وَأما إِذا أحرم وَهُوَ مجامع فَلم ينْعَقد إِحْرَامه على الْأَصَح فِي زَوَائِد الرَّوْضَة
ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ الْفَوات فَقَالَ (وَمن فَاتَهُ الْوُقُوف بِعَرَفَة) بِعُذْر أَو غَيره وَذَلِكَ بِطُلُوع فجر يَوْم النَّحْر قبل حُضُوره عَرَفَات وبفواته يفوت الْحَج (تحلل) وجوبا كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْأُم لِئَلَّا يصير محرما بِالْحَجِّ فِي غير أشهره واستدامة الْإِحْرَام كابتدائه وابتداؤه حِينَئِذٍ لَا يجوز وَيحصل التَّحَلُّل (بِعُمْرَة) أَي بعملها فَيَأْتِي بأركانها الْخَمْسَة الْمُتَقَدّمَة بَيَانهَا
نعم شَرط إِيجَاب السَّعْي أَن لَا يكون سعي بعد طواف قدوم فَإِن كَانَ سعي لم يحْتَج لإعادته كَمَا فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب (وَعَلِيهِ الْقَضَاء) فَوْرًا من قَابل لِلْحَجِّ الَّذِي فَاتَهُ بِفَوَات الْوُقُوف سَوَاء كَانَ فرضا أَو نفلا كَمَا فِي الْإِفْسَاد لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن تَقْصِير وَإِنَّمَا يجب الْقَضَاء فِي فَوَات لم ينشأ عَن حصر فَإِن نَشأ عَنهُ بِأَن أحْصر فسلك طَرِيقا آخر ففاته الْحَج وتحلل بِعُمْرَة فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بذل مَا فِي وَسعه
فَإِن قيل كَيفَ تُوصَف حجَّة الْإِسْلَام بِالْقضَاءِ وَلَا وَقت لَهَا أُجِيب بِأَن المُرَاد بِالْقضَاءِ الْقَضَاء اللّغَوِيّ لَا الْقَضَاء الْحَقِيقِيّ وَقيل لِأَنَّهُ لما أحرم بِهِ تضيق وقته وَيلْزمهُ قَضَاء عمْرَة الْإِسْلَام مَعَ الْحَج كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة لِأَن عمْرَة التَّحَلُّل لَا تجزىء عَن عمْرَة الْإِسْلَام
(و) عَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاء (الْهَدْي) أَيْضا وَهُوَ كَدم التَّمَتُّع وَسَيَأْتِي
(وَمن ترك ركنا) من أَرْكَان الْحَج غير الْوُقُوف أَو من أَرْكَان الْعمرَة سَوَاء أتركه مَعَ إِمْكَان فعله أم لَا كالحائض قبل الطّواف الْإِفَاضَة(1/262)
(لم يحل) بِفَتْح الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة وَكسر الْمُهْملَة أَي لم يخرج (من إِحْرَامه حَتَّى يَأْتِي بِهِ) أَي الْمَتْرُوك وَلَو بعد سِنِين لِأَن الطّواف وَالسَّعْي وَالْحلق لَا آخر لوَقْتهَا أما ترك الْوُقُوف فقد عرف حكمه من كَلَامه سَابِقًا (وَمن ترك وَاجِبا) من وَاجِبَات الْحَج أَو الْعمرَة الْمُتَقَدّم ذكره سَوَاء أتركه عمدا أم سَهوا أم جهلا (لزمَه) بِتَرْكِهِ (دم) وَهُوَ شَاة كَمَا سَيَأْتِي (وَمن ترك سنة) من سنَن الْحَج أَو الْعمرَة (لم يلْزمه بِتَرْكِهَا شَيْء) كتركها من سَائِر الْعِبَادَات
فصل فِي الدِّمَاء الْوَاجِبَة وَمَا يقوم مقَامهَا
(والدماء الْوَاجِبَة فِي الْإِحْرَام) بترك مَأْمُور بِهِ أَو ارْتِكَاب مَنْهِيّ عَنهُ (خَمْسَة أَشْيَاء) بطرِيق الِاخْتِصَار وبطريق الْبسط تِسْعَة أَنْوَاع دم التَّمَتُّع وَدم الْفَوات وَالدَّم المنوط بترك مَأْمُور بِهِ وَدم الْحلق والقلم وَدم الْإِحْصَار وَدم قتل الصَّيْد وَدم الْجِمَاع وَدم الِاسْتِمْتَاع وَدم الْقرَان
فَهَذِهِ تِسْعَة أَنْوَاع أخل المُصَنّف بالأخير مِنْهَا وَالثَّمَانِيَة مَعْلُومَة من كَلَامه إِذْ الثَّلَاثَة الأول دَاخِلَة فِي تَعْبِيره بالنسك كَمَا سَيظْهر لَك وَدم الِاسْتِمْتَاع دَاخل فِي تَعْبِيره بالترفه كَمَا سَيظْهر لَك أَيْضا وستعرف التَّاسِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(أَحدهَا) أَي الدِّمَاء (الدَّم الْوَاجِب بترك نسك) وَهُوَ شَامِل لثَلَاثَة أَنْوَاع الأول دم التَّمَتُّع وَإِنَّمَا يجب بترك الْإِحْرَام بِالْحَجِّ من مِيقَات بَلَده وَالثَّانِي دم الْفَوات للوقوف بعد التَّحَلُّل بِعَمَل عمْرَة كَمَا مر
وَالثَّالِث الدَّم المنوط بترك مَأْمُور بِهِ من الْوَاجِبَات الْمُتَقَدّمَة (وَهُوَ) أَي الدَّم الْوَاجِب فِي هَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة (على التَّرْتِيب) وَالتَّقْدِير وَسَيَأْتِي بَيَان التَّقْدِير وَأما التَّرْتِيب فَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (شَاة) مجزئة فِي الْأُضْحِية أَو سبع بَدَنَة أَو سبع بقرة وَوقت وجوب الدَّم على التَّمَتُّع إِحْرَامه بِالْحَجِّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يصير مُتَمَتِّعا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج وَيجوز ذبحه إِذا فرغ من الْعمرَة وَلَكِن الْأَفْضَل ذبحه يَوْم النَّحْر وَشرط وُجُوبه أَن لَا يكون من حاضري الْمَسْجِد(1/263)
الْحَرَام وَهُوَ من مَسْكَنه دون مَسَافَة الْقصر من الْحرم وَأَن يحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج من مِيقَات بَلَده وَأَن يحجّ بعْدهَا فِي سنتها وَأَن لَا يعود إِلَى الْإِحْرَام بِالْحَجِّ إِلَى الْمِيقَات الَّذِي أحرم مِنْهُ بِالْعُمْرَةِ بعد مُجَاوزَة الْمِيقَات وَقد بَقِي بَينه وَبَين مَكَّة مَسَافَة الْقصر فَعَلَيهِ دم الْإِسَاءَة (فَإِن لم يجد) تَارِك النّسك شَاة بِأَن عجز عَنْهَا حسا بِأَن فقدها أَو ثمنهَا أَو شرعا بِأَن وجدهَا بِأَكْثَرَ من ثمن مثلهَا أَو كَانَ مُحْتَاجا إِلَيْهِ أَو غَابَ عَنهُ مَاله أَو نَحْو ذَلِك فِي مَوْضِعه وَهُوَ الْحرم سَوَاء أقدر عَلَيْهِ بِبَلَدِهِ أَو لَا بِخِلَاف كَفَّارَة الْيَمين لِأَن الْهَدْي يخْتَص ذبحه بِالْحرم وَالْكَفَّارَة لَا تخْتَص بِهِ (فَصِيَام عشرَة أَيَّام) بدلهَا وجوبا (ثَلَاثَة) مِنْهَا (فِي الْحَج) لقَوْله تَعَالَى {فَمن لم يجد} أَي الْهَدْي {فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج} أَي بعد الْإِحْرَام فَلَا يجوز تَقْدِيمهَا على الْإِحْرَام بِخِلَاف الدَّم لِأَن الصَّوْم عبَادَة بدنية فَلَا يجوز تَقْدِيمهَا على وَقتهَا كَالصَّلَاةِ وَالدَّم عبَادَة مَالِيَّة فَأشبه الزَّكَاة
وَيسْتَحب صَومهَا قبل يَوْم عَرَفَة لِأَنَّهُ يسن للْحَاج فطره فَيحرم قبل سادس ذِي الْحجَّة ويصومه وتالييه وَإِذا أحرم فِي زمن يسع الثَّلَاثَة وَجب عَلَيْهِ تَقْدِيمهَا على يَوْم النَّحْر فَإِن أَخّرهَا عَن يَوْم النَّحْر أَثم وَصَارَت قَضَاء وَلَيْسَ السّفر عذرا فِي تَأْخِير صَومهَا لِأَن صَومهَا مُتَعَيّن إِيقَاعه فِي الْحَج بِالنَّصِّ وَإِن كَانَ مُسَافِرًا فَلَا يكون السّفر عذرا بِخِلَاف رَمَضَان وَلَا يجوز صَومهَا فِي يَوْم النَّحْر وَكَذَا فِي أَيَّام التَّشْرِيق فِي الْجَدِيد وَلَا يجب عَلَيْهِ تَقْدِيم الْإِحْرَام بِزَمن يتَمَكَّن من صَوْم الثَّلَاثَة فِيهِ قبل يَوْم النَّحْر خلافًا لبَعض الْمُتَأَخِّرين فِي وجوب ذَلِك إِذْ لَا يجب تَحْصِيل سَبَب الْوُجُوب وَيجوز أَن لَا يحجّ فِي هَذَا الْعَام وَيسن للموسر أَن يحرم بِالْحَجِّ يَوْم التَّرويَة وَهُوَ ثامن ذِي الْحجَّة لِلِاتِّبَاعِ وللأمر بِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسمي يَوْم التَّرويَة لانتقالهم فِيهِ من مَكَّة إِلَى منى (و) أَن يَصُوم بعد الثَّلَاثَة (سَبْعَة) أَيَّام (إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله) ووطنه إِن أَرَادَ الرُّجُوع إِلَيْهِم لقَوْله تَعَالَى {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن لم يجد هَديا فليصم ثَلَاثَة أَيَّام(1/264)
فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فَلَا يجوز صَومهَا فِي الطَّرِيق لذَلِك فَإِن أَرَادَ الْإِقَامَة بِمَكَّة صامها بهَا كَمَا قَالَه فِي الْبَحْر
وَينْدب تتَابع الثَّلَاثَة والسبعة أَدَاء كَانَت أَو قَضَاء لِأَن فِيهِ مبادرة لقَضَاء الْوَاجِب وخروجا من خلاف من أوجبه
نعم إِن أحرم بِالْحَجِّ سادس ذِي الْحجَّة لزم صَوْم الثَّلَاثَة متتابعة فِي الْحَج لضيق الْوَقْت لَا للتتابع نَفسه وَلَو فَاتَتْهُ الثَّلَاثَة فِي الْحَج بِعُذْر أَو غَيره لزمَه قَضَاؤُهَا
وَيفرق فِي قَضَائهَا بَينهَا وَبَين السَّبْعَة بِقدر أَرْبَعَة أَيَّام يَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق وَمُدَّة إِمْكَان السّير إِلَى أَهله على الْعَادة الْغَالِبَة كَمَا فِي الْأَدَاء فَلَو صَامَ عشرَة وَلَاء حصلت الثَّلَاثَة وَلَا يعْتد بالبقية لعدم التَّفْرِيق
(وَالثَّانِي الدَّم الْوَاجِب بِالْحلقِ والترفه) كالقلم من الْيَد أَو الرجل وتكمل الْفِدْيَة فِي إِزَالَة ثَلَاث شَعرَات أَو إِزَالَة ثَلَاثَة أظفار وَلَاء بِأَن اتَّحد الزَّمَان وَالْمَكَان وَذَلِكَ لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تحلقوا رؤوسكم} أَي شعرهَا وَشعر سَائِر الْجَسَد مُلْحق بِهِ بِجَامِع الترفه وَأما الظفر فقياسا على الشّعْر لما فِيهِ من الترفه
وَالشعر يصدق بِالثَّلَاثَةِ وَيُقَاس بِهِ الْأَظْفَار وَلَا يعْتَبر جَمِيعه بِالْإِجْمَاع وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين النَّاسِي للْإِحْرَام وَالْجَاهِل بِالْحُرْمَةِ لعُمُوم الْآيَة وكسائر الْإِتْلَاف وَهَذَا بِخِلَاف النَّاسِي وَالْجَاهِل بِالْحُرْمَةِ فِي التَّمَتُّع باللبس وَالطّيب والدهن وَالْجِمَاع ومقدماته اعْتِبَار الْعلم وَالْقَصْد فِيهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فيهمَا نعم لَو أزالها مَجْنُون أَو مغمى عَلَيْهِ أَو صبي غير مُمَيّز لم تلْزمهُ الْفِدْيَة وَالْفرق بَين هَؤُلَاءِ وَبَين الْجَاهِل وَالنَّاسِي أَنَّهُمَا يعقلان فعلهمَا فينسبان إِلَى التَّقْصِير بِخِلَاف هَؤُلَاءِ على أَن الْجَارِي على قَاعِدَة الْإِتْلَاف وُجُوبهَا عَلَيْهِم أَيْضا وَمثلهمْ فِي ذَلِك النَّائِم وَلَو أزيل ذَلِك بِقطع جلد أَو عُضْو لم يجب فِيهِ شَيْء لِأَن مَا أزيل تَابع غير مَقْصُود بالإزالة وَيلْزمهُ فِي الشعرة الْوَاحِدَة أَو الظفر الْوَاحِد أَو بعض شَيْء من أَحدهمَا مد طَعَام وَفِي الشعرتين أَو الظفرين مدان وللمعذور فِي الْحلق بإيذاء قمل أَو نَحوه كوسخ أَن يحلق ويفدي لقَوْله تَعَالَى {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} الْآيَة
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَكَذَا تلْزمهُ الْفِدْيَة فِي كل محرم أُبِيح للْحَاجة إِلَّا لبس السَّرَاوِيل والخفين المقطوعين لِأَن ستر الْعَوْرَة ووقاية الرجل عَن النَّجَاسَة مَأْمُور بهَا فَخفف فيهمَا والحصر فِيمَا قَالَه مَمْنُوع أَو مؤول فقد اسْتثْنى صور لَا فديَة فِيهَا مِنْهَا مَا إِذا أَزَال مَا نبت من شعر فِي عينه وتأذى بِهِ وَمِنْهَا مَا إِذا أَزَال قدر مَا يغطيها من شعر رَأسه وحاجبيه إِذا طَال بِحَيْثُ ستر بَصَره وَمِنْهَا مَا لَو انْكَسَرَ ظفره فَقطع المؤذي مِنْهُ فَقَط
تَنْبِيه دخل فِي إِطْلَاق المُصَنّف الترفه كَمَا تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي تعداد الْأَنْوَاع دم الِاسْتِمْتَاع كالتطيب واللبس ومقدمات الْجِمَاع وَالْجِمَاع بَين التحللين ودهن شعر الرَّأْس واللحية وَلَو محلوقين وَألْحق الْمُحب الطَّبَرِيّ بذلك بحثا الْحَاجِب والعذار والشارب والعنفقة
وَفصل ابْن النَّقِيب فَألْحق باللحية مَا اتَّصل بهَا كالشارب والعنفقة والعذار دون الْحَاجِب والهدب وَمَا على الْجَبْهَة وَمَرَّتْ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك وَأَن هَذَا هُوَ الظَّاهِر
(وَهُوَ) أَي الدَّم الْوَاجِب بِمَا ذكر هُنَا (على التَّخْيِير) وَالتَّقْدِير فَتجب (شَاة) مجزئة فِي الْأُضْحِية أَو مَا يقوم مقَامهَا من سبع بَدَنَة أَو سبع بقرة (أَو صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام) وَلَو مُتَفَرِّقَة (أَو التَّصَدُّق بِثَلَاثَة آصَع) بِمد الْهمزَة وَضم الْمُهْملَة جمع صَاع (على سِتَّة مَسَاكِين) لكل مِسْكين نصف صَاع وَتقدم فِي زَكَاة الْفطر بَيَان الصَّاع وَذَلِكَ لقَوْله تَعَالَى {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه} أَي فحلق {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك}
فَائِدَة سَائِر الْكَفَّارَات لَا يُزَاد الْمِسْكِين فِيهَا على مد إِلَّا فِي هَذَا
الْحَج أَو الْعمرَة
وَسكت المصف عَن بَيَان الدَّم هُنَا وَهُوَ دم تَرْتِيب وتعديل كَمَا سَيَأْتِي (فيتحلل) جَوَازًا بِمَا سَيَأْتِي لَا وجوبا سَوَاء أَكَانَ حَاجا أم مُعْتَمِرًا أم قَارنا وَسَوَاء أَكَانَ الْمَنْع بِقطع الطَّرِيق أم بِغَيْرِهِ منع من الرُّجُوع أم لَا وَذَلِكَ لقَوْله تَعَالَى {فَإِن أحصرتم} أَي وأردتم التَّحَلُّل {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} إِذْ(1/265)
(وَالثَّالِث الدَّم الْوَاجِب بالإحصار) وَهُوَ الْمَنْع من جَمِيع الطّرق عَن إتْمَام الْإِحْصَار بِمُجَرَّدِهِ لَا يُوجب الْهَدْي وَالْأولَى للمحصر الْمُعْتَمِر الصَّبْر عَن التَّحَلُّل وَكَذَا الْحَاج إِن اتَّسع الْوَقْت وَإِلَّا فَالْأولى التَّعْجِيل لخوف الْفَوات
نعم إِن كَانَ فِي الْحَج وتيقن زَوَال الْحصْر فِي مُدَّة يُمكنهُ إِدْرَاك الْحَج بعْدهَا أَو فِي الْعمرَة وتيقن قرب زَوَاله وَهُوَ ثَلَاثَة أَيَّام امْتنع تحلله كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَهَذَا أحد الْمَوَانِع من إتْمَام النّسك وَهِي سِتَّة
وَثَانِي الْمَوَانِع الْحَبْس ظلما كَأَن حبس بدين وَهُوَ مُعسر فَإِنَّهُ يجوز لَهُ أَن يتَحَلَّل كَمَا فِي الْحصْر الْعَام وَلَا تحلل بِالْمرضِ وَنَحْوه كإضلال طَرِيق فَإِن شَرط فِي إِحْرَامه أَن يتَحَلَّل بِالْمرضِ وَنَحْوه جَازَ لَهُ أَن يتَحَلَّل بِسَبَب (وَيهْدِي) الْمحصر إِذا أَرَادَ التَّحَلُّل (شَاة) أَو مَا يقوم مقَامهَا من بَدَنَة أَو بقرة أَو سبع إِحْدَاهمَا حَيْثُ أحْصر فِي حل أَو حرم وَلَا يسْقط عَنهُ الدَّم إِذا شَرط عِنْد الْإِحْرَام أَنه يتَحَلَّل إِذا أحْصر بِخِلَاف مَا إِذا شَرط فِي الْمَرَض أَنه يتَحَلَّل بِلَا هدي فَإِنَّهُ لَا يلْزمه لِأَن حصر الْعَدو لَا يفْتَقر إِلَى شَرط فَالشَّرْط فِيهِ لاغ وَلَو أطلق فِي التَّحَلُّل من الْمَرَض بِأَن لم يشرط هَديا لم يلْزمه شَيْء بِخِلَاف مَا إِذا شَرط التَّحَلُّل بِالْهَدْي فَإِنَّهُ يلْزمه وَلَا يجوز الذّبْح بِموضع من الْحل غير الَّذِي أحْصر فِيهِ كَمَا ذكره فِي الْمَجْمُوع
وَإِنَّمَا يحصل التَّحَلُّل بِالذبْحِ وَنِيَّة التَّحَلُّل الْمُقَارنَة لَهُ لِأَن الذّبْح قد يكون للتحلل وَقد يكون لغيره فَلَا بُد من قصد صَارف وكيفيتها أَن يَنْوِي خُرُوجه عَن الْإِحْرَام وَكَذَا الْحلق أَو نَحوه إِن جَعَلْنَاهُ نسكا وَهُوَ الْمَشْهُور كَمَا مر
وَلَا بُد من مُقَارنَة النِّيَّة كَمَا فِي الذّبْح وَيشْتَرط تَأَخره عَن الذّبْح لِلْآيَةِ السَّابِقَة فَإِن فقد الدَّم حسا كَأَن لم يجد ثمنه أَو شرعا كَأَن احْتَاجَ إِلَى ثمنه أَو وجده غاليا فَالْأَظْهر أَن لَهُ بَدَلا قِيَاسا على دم التَّمَتُّع وَغَيره
وَالْبدل طَعَام بِقِيمَة الشَّاة فَإِن عجز عَن الطَّعَام صَامَ حَيْثُ شَاءَ عَن كل مد يَوْمًا قِيَاسا على الدَّم الْوَاجِب بترك الْمَأْمُور بِهِ وَله إِذا انْتقل إِلَى الصَّوْم التَّحَلُّل فِي الْحَال بِالْحلقِ بنية التَّحَلُّل عِنْده لِأَن التَّحَلُّل إِنَّمَا شرع لدفع الْمَشَقَّة لتضرره بالْمقَام على الْإِحْرَام
وثالث الْمَوَانِع الرّقّ فَإِذا أحرم الرَّقِيق بِلَا إِذن سَيّده فَلهُ تَحْلِيله بِأَن يَأْمُرهُ بالتحلل لِأَن إِحْرَامه بِغَيْر إِذْنه حرَام لِأَنَّهُ يعطل عَلَيْهِ مَنَافِعه الَّتِي يَسْتَحِقهَا فَإِنَّهُ قد يُرِيد مِنْهُ مَا لَا يُبَاح للْمحرمِ كالاصطياد وَله أَن يتَحَلَّل وَإِن لم يَأْمُرهُ بذلك سَيّده فَإِن أمره بِهِ لزمَه فيحلق وَيَنْوِي التَّحَلُّل(1/266)
فَعلم أَن إِحْرَامه بِغَيْر إِذْنه صَحِيح وَإِن حرم عَلَيْهِ فَإِن لم يتَحَلَّل فَلهُ اسْتِيفَاء منفعَته مِنْهُ وَالْإِثْم عَلَيْهِ
ورابع الْمَوَانِع الزَّوْجِيَّة فَللزَّوْج الْحَلَال أَو الْمحرم تَحْلِيل زَوجته كَمَا لَهُ منعهَا ابْتِدَاء من حج أَو عمْرَة تطوع لم يَأْذَن فِيهِ وَله تحليلها أَيْضا من فرض الْإِسْلَام من حج أَو عمْرَة بِلَا إِذن لِأَن حَقه على الْفَوْر والنسك على التَّرَاخِي
فَإِن قيل لَيْسَ لَهُ منعهَا من فرض الصَّلَاة وَالصَّوْم فَهَلا كَانَ هُنَا كَذَلِك أُجِيب بِأَن مدتهما لَا تطول فَلَا يلْحق الزَّوْج كَبِير ضَرَر
وخامس الْمَوَانِع الْأُبُوَّة فَإِن أحرم الْوَلَد بنفل بِلَا إِذن من أَبَوَيْهِ فَلِكُل مِنْهُمَا مَنعه وتحليله وتحليلهما لَهُ كتحليل السَّيِّد رَقِيقه وَلَيْسَ لأحد من أَبَوَيْهِ مَنعه من فرض عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْخَوْف فِيهِ كالخوف فِي الْجِهَاد
وَيسن للْوَلَد استئذانهما إِذا كَانَا مُسلمين فِي النّسك فرضا أَو تَطَوّعا وَقَضِيَّة كَلَامهم أَنه لَو أذن الزَّوْج لزوجته كَانَ لأبويها منعهَا وَهُوَ ظَاهر إِلَّا أَن يُسَافر مَعهَا الزَّوْج
وسادس الْمَوَانِع الدّين فَلَيْسَ لغريم الْمَدِين تَحْلِيله إِذْ لَا ضَرَر عَلَيْهِ فِي إِحْرَامه وَله مَنعه من الْخُرُوج إِذا كَانَ مُوسِرًا وَالدّين حَالا ليوفيه حَقه بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ مُعسرا أَو مُوسِرًا وَالدّين مُؤَجّلا فَلَيْسَ لَهُ مَنعه إِذْ لَا يلْزمه أَدَاؤُهُ حِينَئِذٍ فَإِن كَانَ الدّين يحل فِي غيبته اسْتحبَّ لَهُ أَن يُوكل من يَقْضِيه عِنْد حل حُلُوله وَلَا قَضَاء على الْمحصر المتطوع لعدم وُرُوده فَإِن كَانَ نُسكه فرضا مُسْتَقرًّا كحجة الْإِسْلَام فِيمَا بعد السّنة الأولى من سني الْإِمْكَان أَو كَانَت قَضَاء أَو نذرا بَقِي فِي ذمَّته أَو غير مُسْتَقر كحجة الْإِسْلَام فِي السّنة الأولى من سني الْإِمْكَان اعْتبرت الِاسْتِطَاعَة بعد زَوَال الْإِحْصَار
(وَالرَّابِع الدَّم الْوَاجِب بقتل الصَّيْد) الْمَأْكُول الْبري الوحشي أَو الْمُتَوَلد من الْمَأْكُول الْبري الوحشي وَمن غَيره كمتولد بَين حمَار وَحشِي وحمار أَهلِي
وَاعْلَم أَن الصَّيْد ضَرْبَان مَا لَهُ مثل من النعم فِي الصُّورَة والخلقة تَقْرِيبًا فَيضمن بِهِ وَمَا لَا مثل لَهُ فَيضمن بِالْقيمَةِ إِن لم يكن فِيهِ نقل وَمن الأول مَا فِيهِ نقل بعضه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَعضه عَن السّلف فَيتبع
وَقد شرع المُصَنّف فِي بَيَان ذَلِك فَقَالَ (وَهُوَ)(1/267)
أَي الدَّم الْمَذْكُور (على التَّخْيِير بَين ثَلَاثَة أُمُور (إِن كَانَ الصَّيْد) الْمَقْتُول أَو المزمن (مِمَّا لَهُ مثل) شبه صوري من النعم
وَذكر المُصَنّف الأول من هَذِه الثَّلَاثَة فِي قَوْله (أخرج الْمثل من النعم) أَي يذبح الْمثل من النعم وَيتَصَدَّق بِهِ على مَسَاكِين الْحرم وفقرائه فَفِي إِتْلَاف النعامة ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى بَدَنَة كَذَلِك فَلَا تجزىء بقرة وَلَا سبع شِيَاه أَو أَكثر لِأَن جَزَاء الصَّيْد يُرَاعى فِيهِ الْمُمَاثلَة وَفِي وَاحِد من بقر الْوَحْش أَو حِمَاره بقرة وَفِي الغزال وَهُوَ ولد الظبية إِلَى أَن يطلع قرناه معز صَغِير فَفِي الذّكر جدي وَفِي الْأُنْثَى عنَاق فَإِن طلع قرناه سمي الذّكر ظَبْيًا وَالْأُنْثَى ظَبْيَة وفيهَا عنز وَهِي أُنْثَى الْمعز الَّتِي تمّ لَهَا سنة وَفِي الأرنب عنَاق وَهِي أُنْثَى الْمعز إِذا قويت مَا لم تبلغ سنة وَفِي اليربوع جفرة وَهِي أُنْثَى الْمعز إِذا بلغت أَرْبَعَة أشهر وَفِي الضبع كَبْش وَفِي الثَّعْلَب شَاة وَمَا لَا نقل فِيهِ من الصَّيْد عَمَّن سَيَأْتِي يحكم فِيهِ بِمثلِهِ من النعم عَدْلَانِ لقَوْله تَعَالَى {يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم} الْآيَة
وَالْعبْرَة بالمماثلة بالخلقة وَالصُّورَة تَقْرِيبًا لَا تَحْقِيقا فَأَيْنَ النعامة من الْبَدنَة لَا بِالْقيمَةِ فَيلْزم فِي الْكَبِير كَبِير وَفِي الصَّغِير صَغِير وَفِي الذّكر ذكر وَفِي الْأُنْثَى أُنْثَى وَفِي الصَّحِيح صَحِيح وَفِي الْمَعِيب معيب إِن اتَّحد جنس الْعَيْب وَفِي السمين سمين وَفِي الهزيل هزيل
وَلَو فدى الْمَرِيض بِالصَّحِيحِ أَو الْمَعِيب بالسليم أَو الهزيل بالسمين فَهُوَ أفضل وَيجب أَن يكون العدلان فقيهين فطنين لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ أعرف بالشبه الْمُعْتَبر شرعا
وَمَا ذكر من وجوب الْفِقْه مَحْمُول على الْفِقْه الْخَاص بِمَا يحكم بِهِ هُنَا وَمَا فِي الْمَجْمُوع عَن الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب من أَن الْفِقْه مُسْتَحبّ مَحْمُول على زيارته
تَنْبِيه لَو حكم عَدْلَانِ بِأَن لَهُ مثلا وعدلان بِعَدَمِهِ فَهُوَ مثلي كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة وَلَو حكم عَدْلَانِ بِمثل وآخران بِمثل آخر تخير على الْأَصَح
ثمَّ ذكر الثَّانِي من الثَّلَاثَة فِي قَوْله (أَو قومه) أَي الْمثل بِدَرَاهِم بِقِيمَة مثله بِمَكَّة يَوْم الْإِخْرَاج (وَاشْترى بِقِيمَتِه) أَي بِقَدرِهَا (طَعَاما) مجزئا فِي الْفطْرَة أَو مِمَّا هُوَ عِنْده (وَتصدق بِهِ) أَي الطَّعَام وجوبا على مَسَاكِين الْحرم وفقرائه القاطنين وَغَيرهم وَلَا يجوز لَهُ التَّصَدُّق بِالدَّرَاهِمِ
ثمَّ ذكر الثَّالِث من الثَّلَاثَة فِي قَوْله (أَو صَامَ عَن كل مد) من الطَّعَام (يَوْمًا) فِي أَي مَكَان كَانَ (وَإِن كَانَ الصَّيْد) الَّذِي وَجب فِيهِ الدَّم (مِمَّا لَا مثل لَهُ) مِمَّا لَا نقل فِيهِ كالجراد وَبَقِيَّة الطُّيُور مَا عدا الْحمام كَمَا سَيَأْتِي سَوَاء كَانَ أكبر جثة من الْحمام أم لَا (أخرج بِقِيمَتِه) أَي بِقَدرِهَا (طَعَاما) وَإِنَّمَا لَزِمته الْقيمَة عملا بِالْأَصْلِ فِي المتقومات وَقد حكمت الصَّحَابَة بهَا فِي الْجَرَاد وَلِأَنَّهُ مَضْمُون لَا مثل لَهُ فضمن بِالْقيمَةِ كَمَال الْآدَمِيّ وَيرجع فِي الْقيمَة إِلَى عَدْلَيْنِ أما مَا لَا مثل لَهُ مِمَّا فِيهِ نقل وَالْحمام وَهُوَ مَا عب أَي شرب المَاء بِلَا مص وهدر أَي رَجَعَ صَوته وغرد كاليمام والقمري والفاختة وكل مطوق فَفِي الْوَاحِدَة مِنْهُ شَاة من ضَأْن أَو معز بِحكم الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَفِي مستندهم وَجْهَان أصَحهمَا تَوْقِيف(1/268)
بَلغهُمْ فِيهِ وَالثَّانِي مَا بَينهمَا من الشّبَه وَهُوَ ألف الْبيُوت وَهَذَا إِنَّمَا يَأْتِي فِي بعض أَنْوَاع الْحمام إِذْ لَا يَتَأَتَّى فِي الفواخت وَنَحْوهَا وَيتَصَدَّق بِالطَّعَامِ على مَسَاكِين الْحرم وفقرائه كَمَا مر (أَو صَامَ عَن كل مد) من الطَّعَام (يَوْمًا) فِي أَي مَوضِع كَانَ قِيَاسا على الْمثْلِيّ
تَنْبِيه تعْتَبر قيمَة الْمثْلِيّ وَالطَّعَام فِي الزَّمَان بِحَالَة الْإِخْرَاج على الْأَصَح وَفِي الْمَكَان بِجَمِيعِ الْحرم لِأَنَّهُ مَحل الذّبْح لَا بِمحل الْإِتْلَاف على الْمَذْهَب وَغير الْمثْلِيّ تعْتَبر قِيمَته فِي الزَّمَان بِحَالَة الْإِتْلَاف لَا الْإِخْرَاج على الْأَصَح وَفِي الْمَكَان بِمحل الْإِتْلَاف لَا بِالْحرم على الْمَذْهَب
(وَالْخَامِس الدَّم الْوَاجِب بِالْوَطْءِ) الْمُفْسد (وَهُوَ) أَي الدَّم الْمَذْكُور (على التَّرْتِيب) وَالتَّعْدِيل على الْمَذْهَب فَيجب بِهِ (بَدَنَة) على الرجل بِصفة الْأُضْحِية لقَضَاء الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم بذلك وَخرج بِالْوَطْءِ الْمُفْسد مَسْأَلَتَانِ الأولى أَن يُجَامع فِي الْحَج بَين التحللين وَالثَّانيَِة أَن يُجَامع ثَانِيًا بعد جمَاعَة الأول قبل التحللين وَفِي الصُّورَتَيْنِ إِنَّمَا تلْزمهُ شَاة وَبِالرجلِ الْمَرْأَة وَإِن شملتها عِبَارَته فَلَا فديَة عَلَيْهَا على الصَّحِيح سَوَاء أَكَانَ الواطىء زوجا أم غَيره محرما أم حَلَالا
تَنْبِيه حَيْثُ أطلقت الْبَدنَة فِي كتب الحَدِيث وَالْفِقْه المُرَاد بهَا الْبَعِير ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى
(فَإِن لم يجد) أَي الْبَدنَة (فبقرة) تجزىء فِي الْأُضْحِية (فَإِن لم يجد) أَي الْبَقَرَة (فسبع من الْغنم) من الضَّأْن أَو الْمعز أَو مِنْهُمَا (فَإِن لم يجد) أَي الْغنم (قوم الْبَدنَة) بِدَرَاهِم بِسعْر مَكَّة حَالَة الْوُجُوب كَمَا قَالَه السُّبْكِيّ وَغَيره
وَلَيْسَت الْمَسْأَلَة فِي الشرحين وَالرَّوْضَة (وَاشْترى بِقِيمَتِهَا) أَي بِقَدرِهَا (طَعَاما) أَو أخرجه مِمَّا عِنْده (وَتصدق بِهِ) فِي الْحرم على مساكينه وفقرائه (فَإِن لم يجد) طَعَاما (صَامَ عَن كل مد يَوْمًا) فِي أَي مَكَان كَانَ ويكمل المنكسر
تَنْبِيه المُرَاد بِالطَّعَامِ فِي هَذَا الْبَاب مَا يجزىء عَن الْفطْرَة وَلَو قدر على بعض الطَّعَام وَعجز عَن الْبَاقِي أخرج مَا قدر عَلَيْهِ وَصَامَ عَمَّا عجز عَنهُ
وَقد عرفت مِمَّا تقدم أَن الْمَذْكُور فِي كَلَام المُصَنّف ثَمَانِيَة أَنْوَاع
وَأما النَّوْع التَّاسِع الْمَوْعُود بِذكرِهِ فِيمَا تقدم فَهُوَ دم الْقرَان وَهُوَ كَدم التَّمَتُّع فِي التَّرْتِيب وَالتَّقْدِير وَسَائِر أَحْكَامه الْمُتَقَدّمَة وَإِنَّمَا لم يدْخل هَذَا النَّوْع فِي تَعْبِيره بترك النّسك لِأَنَّهُ دم جبر لَا دم نسك على الْمَذْهَب فِي الرَّوْضَة
وَسَيَأْتِي جَمِيع الدِّمَاء فِي خَاتِمَة آخر الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(وَلَا يُجزئهُ الْهَدْي وَلَا الْإِطْعَام إِلَّا بِالْحرم) مَعَ التَّفْرِقَة على مساكينه وفقرائه بِالنِّيَّةِ عِنْدهَا وَلَا يُجزئهُ على أقل من ثَلَاثَة من الْفُقَرَاء أَو الْمَسَاكِين أَو مِنْهُمَا وَلَو غرباء وَلَا يجوز لَهُ أكل شَيْء مِنْهُ وَلَا نَقله إِلَى غير الْحرم وَإِن لم يجد فِيهِ مِسْكينا وَلَا فَقِيرا(1/269)
تَنْبِيه أفضل بقْعَة من الْحرم لذبح مُعْتَمر الْمَرْوَة لِأَنَّهَا مَوضِع تحلله ولذبح الْحَاج منى لِأَنَّهَا مَوضِع تحلله وَكَذَا حكم مَا سَاقه الْحَاج والمعتمر من هدي نذر أَو نفل مَكَانا فِي الِاخْتِصَاص والأفضلية
وَوقت ذبح هَذَا الْهَدْي وَقت الْأُضْحِية على الصَّحِيح وَالْهَدْي كَمَا يُطلق على مَا يَسُوقهُ الْمحرم يُطلق أَيْضا على مَا يلْزمه من دم الجبرانات وَهَذَا الثَّانِي لَا يخْتَص بِوَقْت الْأُضْحِية
(وَيجزئهُ أَن يَصُوم) مَا وَجب عَلَيْهِ عِنْد التَّخْيِير أَو الْعَجز (حَيْثُ شَاءَ) من حل أَو حرم كَمَا مر إِذْ لَا مَنْفَعَة لأهل الْحرم فِي صِيَامه وَيجب فِيهِ تبييت النِّيَّة وَكَذَا تعْيين جِهَته من تمتّع أَو قرَان أَو نَحْو ذَلِك كَمَا قَالَه الْقَمُولِيّ (وَلَا يجوز) لمحرم وَلَا لحلال (قتل صيد الْحرم) أما حرم مَكَّة فبالإجماع كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع
وَلَو كَانَ كَافِرًا مُلْتَزم للْأَحْكَام وَلخَبَر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة قَالَ إِن هَذَا الْبَلَد حرَام بِحرْمَة الله لَا يعضد شَجَره وَلَا ينفر صَيْده أَي لَا يجوز تنفير صَيْده لمحرم وَلَا لحلال فَغير التنفير أولى
وَقيس بِمَكَّة بَاقِي الْحرم فَإِن أتلف فِيهِ صيدا ضمنه كَمَا مر فِي الْمحرم وَأما حرم الْمَدِينَة فَحَرَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة
وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة مَا بَين لابتيها لَا يقطع عضاهها وَلَا يصاد صيدها وَلَكِن لَا يضمن فِي الْجَدِيد لِأَنَّهُ لَيْسَ محلا للنسك بِخِلَاف حرم مَكَّة (وَلَا) يجوز (قطع) وَلَا قلع (شَجَره) أَي حرم مَكَّة وَالْمَدينَة لما مر فِي الْحَدِيثين السَّابِقين وَسَوَاء فِي الشّجر المستنبت وَغَيره لعُمُوم النَّهْي وَمحل ذَلِك فِي الشّجر الرطب غير المؤذي أما الْيَابِس والمؤذي كالشوك والعوسج وَهُوَ ضرب من الشوك فَيجوز قطعه
تَنْبِيه علم من تَعْبِيره بِالْقطعِ تَحْرِيم قلعه من بَاب أولى وَخرج بِالْحرم شجر الْحل إِذا لم يكن بعض أَصله فِي الْحرم فَيجوز قطعه وقلعه وَلَو بعد غرسه فِي الْحرم بِخِلَاف عَكسه عملا بِالْأَصْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أما مَا بعض أَصله فِي الْحرم فَيحرم تَغْلِيبًا للحرم وَخرج بتقييد غير المستنبت بِالشَّجَرِ الْحِنْطَة وَنَحْوهَا كالشعير والخضراوات فَيجوز قطعهَا وقلعها مُطلقَة بِلَا خلاف كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن ضَمَان شجر حرم مَكَّة فَيجب فِي قطع أَو قلع الشَّجَرَة الحرمية الْكَبِيرَة بِأَن تسمى كَبِيرَة عرفا بقرة سَوَاء أخلفت أم لَا
قَالَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا والبدنة فِي معنى الْبَقَرَة وَفِي الصَّغِيرَة إِن قاربت سبع الْكَبِيرَة شَاة فَإِن صغرت جدا فَفِيهَا الْقيمَة وَلَو أَخذ غصنا من شَجَرَة حرمية فأخلف مثله فِي سنته بِأَن كَانَ لطيفا كالسواك فَلَا ضَمَان فِيهِ فَإِن لم يخلف أَو أخلف لَا مثله أَو مثله لَا فِي سنته فَعَلَيهِ الضَّمَان وَالْوَاجِب فِي غير الشّجر من النَّبَات الْقيمَة لِأَنَّهُ الْقيَاس وَلم يرد نَص يَدْفَعهُ وَيحل(1/270)
أَخذ نَبَاته لعلف الْبَهَائِم وللدواء كالحنظل وللتغذي كالرجلة للْحَاجة إِلَيْهِ وَلِأَن ذَلِك فِي معنى الزَّرْع وَلَا يقطع لذَلِك إِلَّا بِقدر الْحَاجة وَلَا يجوز قطعه للْبيع مِمَّن يعلف بِهِ لِأَنَّهُ كالطعام الَّذِي أُبِيح أكله لَا يجوز بَيْعه
وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنا حَيْثُ جَوَّزنَا أَخذ السِّوَاك كَمَا سَيَأْتِي لَا يجوز بَيْعه وَيجوز رعي حشيش الْحرم وشجره كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم بالبهائم وَيجوز أَخذ أوراق الْأَشْجَار بِلَا خبط لِئَلَّا يضر بهَا وخبطها حرَام كَمَا فِي الْمَجْمُوع نقلا عَن الْأَصْحَاب وَنقل اتِّفَاقهم على أَنه يجوز أَخذ ثَمَرهَا وعود السِّوَاك وَنَحْوه وَقَضيته أَنه لَا يضمن الْغُصْن اللَّطِيف وَإِن لم يخلف
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَهُوَ الْأَقْرَب وَيحرم أَخذ نَبَات حرم الْمَدِينَة وَلَا يضمن وَيحرم صيد الطَّائِف ونباته وَلَا ضَمَان فيهمَا قطعا
فَائِدَة يحرم نقل تُرَاب من الْحَرَمَيْنِ أَو أَحْجَار أَو عمل من طين أَحدهمَا كالأباريق وَغَيرهَا إِلَى الْحل فَيجب رده إِلَى الْحرم بِخِلَاف مَاء زَمْزَم فَإِنَّهُ يجوز نَقله وَيحرم أَخذ طيب الْكَعْبَة فَمن أَرَادَ التَّبَرُّك مسحها بِطيب نَفسه ثمَّ يَأْخُذهُ وَأما سترهَا فَالْأَمْر فِيهِ إِلَى رَأْي الإِمَام يصرفهُ فِي بعض مصاريف بَيت المَال بيعا وَعَطَاء لِئَلَّا يتْلف بالبلى وَبِهَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَأم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وجوزوا لمن أَخذه لبسه وَلَو جنبا أَو حَائِضًا
(وَالْمحل وَالْمحرم فِي ذَلِك) أَي فِي تَحْرِيم صيد الْحرم وَقطع شَجَره وَالضَّمان (سَوَاء) بِلَا فرق لعُمُوم النَّهْي
قَاعِدَة نافعة فِيمَا سبق مَا كَانَ مَحْضا كالصيد وَجَبت الْفِدْيَة فِيهِ مَعَ الْجَهْل وَالنِّسْيَان وَمَا كَانَ استمتاعا أَو ترفها كالطيب واللبس فَلَا فديَة فِيهِ مَعَ الْجَهْل وَالنِّسْيَان وَمَا كَانَ فِيهِ شَائِبَة من الْجَانِبَيْنِ كالجماع وَالْحلق والقلم فَفِيهِ خلاف وَالأَصَح فِي الْجِمَاع عدم وجوب الْفِدْيَة مَعَ الْجَهْل وَالنِّسْيَان وَفِي الْحلق والقلم الْوُجُوب مَعَهُمَا
خَاتِمَة حَيْثُ أطلق فِي الْمَنَاسِك الدَّم فَالْمُرَاد بِهِ كَدم الْأُضْحِية فتجزىء الْبَدنَة أَو الْبَقَرَة عَن سَبْعَة دِمَاء وَإِن اخْتلفت أَسبَابهَا فَلَو ذَبحهَا عَن دم وَاجِب فالفرض سبعها فَلهُ إِخْرَاجه عَنهُ وَأكل الْبَاقِي إِلَّا فِي جَزَاء الصَّيْد الْمثْلِيّ فَلَا يشْتَرط كَونه كالأضحية فَيجب فِي الصَّغِير صَغِير وَفِي الْكَبِير كَبِير وَفِي الْمَعِيب معيب كَمَا مر بل لَا تجزىء الْبَدنَة عَن شَاة
وَحَاصِل الدِّمَاء ترجع بِاعْتِبَار حكمهَا إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام دم تَرْتِيب وَتَقْدِير دم تَرْتِيب وتعديل دم تَخْيِير وَتَقْدِير دم تَخْيِير وتعديل
الْقسم الأول يشْتَمل على دم التَّمَتُّع وَالْقرَان والفوات والمنوط بترك مَأْمُور بِهِ وَهُوَ ترك الْإِحْرَام من الْمِيقَات وَالرَّمْي وَالْمَبِيت بِمُزْدَلِفَة وَمنى وَطواف الْوَدَاع فَهَذِهِ الدِّمَاء دِمَاء تَرْتِيب بِمَعْنى أَنه يلْزمه الذّبْح وَلَا يُجزئهُ الْعُدُول إِلَى غَيره إِلَّا إِذا عجز عَنهُ وَتَقْدِير بِمَعْنى أَن الشَّرْع قدر مَا يعدل إِلَيْهِ بِمَا لَا يزِيد وَلَا ينقص
وَالْقسم الثَّانِي يشْتَمل على دم الْجِمَاع فَهُوَ دم تَرْتِيب وتعديل بِمَعْنى أَن الشَّرْع أَمر فِيهِ بالتقويم والعدول إِلَى غَيره بِحَسب الْقيمَة فَيجب فِيهِ بَدَنَة ثمَّ بقرة ثمَّ سبع شِيَاه فَإِن عجز قوم الْبَدنَة بِدَرَاهِم وَاشْترى بهَا طَعَاما وَتصدق بِهِ فَإِن عجز صَامَ عَن كل(1/271)
مد يَوْمًا ويكمل المنكسر كَمَا مر وعَلى دم الْإِحْصَار فَعَلَيهِ شَاة ثمَّ طَعَام بالتعديل فَإِن عجز صَامَ عَن كل مد يَوْمًا
وَالْقسم الثَّالِث يشْتَمل على دم الْحلق والقلم فَيتَخَيَّر إِذا حلق ثَلَاث شَعرَات أَو قلم ثَلَاثَة أظفار وَلَاء بَين ذبح دم وإطعام سِتَّة مَسَاكِين لكل مِسْكين نصف صَاع وَصَوْم ثَلَاثَة أَيَّام وعَلى دم الِاسْتِمْتَاع وَهُوَ التَّطَيُّب والدهن بِفَتْح الدَّال للرأس واللحية وَبَعض شعر الْوَجْه على خلاف تقدم واللبس ومقدمات الْجِمَاع والاستمناء وَالْجِمَاع غير الْمُفْسد
وَالْقسم الرَّابِع يشْتَمل على جَزَاء الصَّيْد وَالشَّجر فجملة هَذِه الدِّمَاء عشرُون دَمًا وَكلهَا لَا تخْتَص بِوَقْت كَمَا مر وتراق فِي النّسك الَّذِي وَجَبت فِيهِ وَدم الْفَوات يجزىء بعد دُخُول وَقت الْإِحْرَام بِالْقضَاءِ كالمتمتع إِذا فرغ من عمرته فَإِنَّهُ يجوز لَهُ أَن يذبح قبل الْإِحْرَام بِالْحَجِّ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وَإِن قَالَ ابْن الْمقري لَا يجزىء إِلَّا بعد الْإِحْرَام بِالْقضَاءِ وَكلهَا وبدلها من الطَّعَام يخْتَص تفرقته بِالْحرم على مساكينه
وَكَذَا يخْتَص بِهِ الذّبْح إِلَّا الْمحصر فَيذْبَح حَيْثُ أحْصر كَمَا مر فَإِن عدم الْمَسَاكِين فِي الْحرم أَخّرهُ كَمَا مر حَتَّى يجدهم كمن نذر التَّصَدُّق على فُقَرَاء بلد فَلم يجدهم
وَيسن لمن قصد مَكَّة بِحَجّ أَو عمْرَة أَن يهدي إِلَيْهَا شَيْئا من النعم لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهْدى فِي حجَّة الْوَدَاع مائَة بَدَنَة
وَلَا يجب ذَلِك إِلَّا بِالنذرِ
وَيسن أَن يُقَلّد الْبَدنَة أَو الْبَقَرَة نَعْلَيْنِ من النِّعَال الَّتِي تلبس فِي الْإِحْرَام وَيتَصَدَّق بهما بعد ذَبحهَا ثمَّ يجرح صفحة سنامها الْيُمْنَى بحديدة مُسْتَقْبلا بهَا الْقبْلَة ويلطخها بِالدَّمِ لتعرف وَالْغنم لَا تجرح بل تقلد عرى الْقرب وآذانها وَلَا يلْزم بذلك ذَبحهَا(1/272)
تمّ الْجُزْء الأول ويليه الْجُزْء الثَّانِي وأوله كتاب الْبيُوع
كتاب الْبيُوع وَغَيرهَا من أَنْوَاع الْمُعَامَلَات
) كقراض وَشركَة وَعبر بالبيوع دون البيع الْمُنَاسب لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة فِي قَوْله تَعَالَى {وَأحل الله البيع} ولطريق الِاخْتِصَار نظرا إِلَى تنوعه وتقسيم أَحْكَامه فَإِنَّهُ يتنوع إِلَى أَربع أَنْوَاع كَمَا سَيَأْتِي
وَأَحْكَامه تَنْقَسِم إِلَى صَحِيح وفاسد وَالصَّحِيح إِلَى لَازم وَغير لَازم كَمَا يعلم ذَلِك من كَلَامه
وَالْبيع لُغَة مُقَابلَة شَيْء بِشَيْء قَالَ الشَّاعِر مَا بعتكم مهجتي إِلَّا بوصلكم وَلَا أسلمها إِلَّا يدا بيد وَشرعا مُقَابلَة مَال بِمَال على وَجه مَخْصُوص وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأحل الله البيع} وَأَحَادِيث كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا البيع عَن ترَاض (الْبيُوع ثَلَاثَة أَشْيَاء) أَي أَنْوَاع بل أَرْبَعَة كَمَا سَيَأْتِي
الأول
(بيع عين مُشَاهدَة) أَي مرئية للمتبايعين (فَجَائِز) لانْتِفَاء الْغرَر(2/273)
(و) الثَّانِي (بيع شَيْء) يَصح السّلم فِيهِ (مَوْصُوف فِي الذِّمَّة) بِلَفْظ السّلم (فَجَائِز إِذا وجدت الصّفة) الْمَشْرُوط ذكرهَا فِيهِ (على مَا وصفت بِهِ) الْعين الْمُسلم فِيهَا مَعَ بَقِيَّة شُرُوطه الْآتِيَة فِي بَابه
(و) الثَّالِث (بيع عين غَائِبَة) عَن مجْلِس العقد أَو حَاضِرَة فِيهِ (لم تشاهد) للعاقدين (فَلَا يجوز) للنَّهْي عَن بيع الْغرَر
تَنْبِيه مُرَاده بِالْجَوَازِ فِيمَا ذكر فِي هَذِه الْأَنْوَاع مَا يعم الصِّحَّة وَالْإِبَاحَة إِذْ تعَاطِي الْعُقُود الْفَاسِدَة حرَام
وَالرَّابِع بيع الْمَنَافِع وَهُوَ الْإِجَارَة وَسَيَأْتِي
وللمبيع شُرُوط خَمْسَة كَمَا فِي الْمِنْهَاج ذكر المُصَنّف مِنْهَا ثَلَاثَة الأول مَا ذكره بقوله (وَيصِح بيع كل) شَيْء (طَاهِر) عينا أَو يطهر بِغسْلِهِ فَلَا يَصح بيع الْمُتَنَجس كالخل وَاللَّبن لِأَنَّهُ فِي معنى نجس الْعين وَكَذَا الدّهن كالزيت فَإِنَّهُ لَا يُمكن تَطْهِيره فِي الْأَصَح فَإِنَّهُ لَو أمكن لما أَمر بإراقة السّمن فِيمَا رَوَاهُ ابْن حبَان أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الْفَأْرَة تَمُوت فِي السّمن إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وَإِن كَانَ مَائِعا فأريقوه أما مَا يُمكن تَطْهِيره كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجس والآجر المعجون بمائع نجس كبول فَإِنَّهُ يَصح بَيْعه لِإِمْكَان طهره وَسَيَأْتِي مُحْتَرز قَوْله طَاهِر فِي كَلَامه
وَالشّرط الثَّانِي مَا ذكره بقوله (منتفع بِهِ) شرعا وَلَو فِي الْمَآل كالجحش الصَّغِير وَسَيَأْتِي مُحْتَرزه فِي كَلَامه
وَالشّرط الثَّالِث مَا ذكره بقوله (مَمْلُوك) أَي أَن يكون للعاقد عَلَيْهِ ولَايَة فَلَا يَصح عقد فُضُولِيّ وَإِن أجَازه الْمَالِك لعدم ولَايَته على الْمَعْقُود عَلَيْهِ
وَيصِح بيع مَال غَيره ظَاهرا إِن بَان بعد البيع أَنه لَهُ كَأَن بَاعَ مَال مُوَرِثه ظَانّا حَيَاته فَبَان مَيتا لتبين أَنه ملكه
وَالشّرط الرَّابِع قدرَة تسلمه فِي بيع غير ضمني(2/274)
على رده لعَجزه عَن تسلمه حَالا بِخِلَاف بَيْعه لقادر على ذَلِك
نعم إِن احْتَاجَ فِيهِ إِلَى مُؤنَة فَفِي الْمطلب يَنْبَغِي الْمَنْع وَلَا يَصح بيع جُزْء معِين تنقص بِقطعِهِ قِيمَته أَو قيمَة الْبَاقِي كجزء إِنَاء أَو ثوب نَفِيس ينقص بِقطعِهِ مَا ذكر للعجز عَن تَسْلِيم ذَلِك شرعا لِأَن التَّسْلِيم فِيهِ لَا يُمكن إِلَّا بِالْكَسْرِ أَو الْقطع وَفِيه نقص وتضييع مَال بِخِلَاف مَا لَا ينقص بِقطعِهِ مَا ذكر كجزء غليظ كرباس لانْتِفَاء الْمَحْذُور
وَالشّرط الْخَامِس الْعلم بِهِ للعاقدين عينا وَقدرا وَصفَة على مَا يَأْتِي بَيَانه حذرا من الْغرَر لما روى مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الْغرَر
وَيصِح بيع صَاع من صبرَة وَإِن جهلت صيعانها لعلمهما بِقدر الْمَبِيع مَعَ تَسَاوِي الْأَجْزَاء فَلَا غرر
وَيصِح بيع صبرَة وَإِن جهلت صيعانها كل صَاع بدرهم
وَلَا يضر فِي مَجْهُولَة الصيعان الْجَهْل بجملة الثّمن لِأَنَّهُ مَعْلُوم بالتفصيل وَبيع صبرَة مَجْهُولَة الصيعان بِمِائَة دِرْهَم كل صَاع بدرهم إِن خرجت مائَة وَإِلَّا فَلَا يَصح لتعذر الْجمع بَين جملَة الثّمن وتفصيله لَا بيع أحد ثَوْبَيْنِ مثلا مُبْهما
وَلَا بيع بِأَحَدِهِمَا وَإِن تَسَاوَت قيمتهمَا أَو بملء ذَا الْبَيْت برا أَو بزنة ذِي الْحَصَاة ذَهَبا وملء الْبَيْت وزنة الْحَصَاة مَجْهُولَانِ أَو بِأَلف دَرَاهِم ودنانير للْجَهْل بِعَين الْمَبِيع فِي الأولى وبعين الثّمن فِي الثَّانِيَة وبقدره فِي الْبَاقِي
فَإِن عين الْبر كَأَن قَالَ بِعْتُك ملْء ذَا الْبَيْت من ذَا الْبر صَحَّ لِإِمْكَان أَخذه قبل تلفه فَلَا غرر
وَقد بسطت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي غير هَذَا الْكتاب
ثمَّ أَخذ المُصَنّف فِي مُحْتَرز قَوْله طَاهِر بقوله (وَلَا يَصح بيع عين نَجِسَة) سَوَاء أمكن تطهيرها بالاستحالة كَجلْد الْميتَة أم لَا كالسرجين وَالْكَلب وَلَو معلما وَالْخمر وَلَو مُحْتَرمَة لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن ثمن الْكَلْب وَقَالَ إِن الله تَعَالَى حرم بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير وَقيس بهَا مَا فِي مَعْنَاهَا
ثمَّ أَخذ فِي مُحْتَرز قَوْله منتفع بِهِ بقوله (وَلَا) يَصح (بيع مَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ) لِأَنَّهُ لَا يعد مَالا فَأخذ المَال فِي مُقَابلَته مُمْتَنع للنَّهْي عَن إِضَاعَة المَال وَعدم منفعَته إِمَّا لخسته كالحشرات الَّتِي لَا نفع فِيهَا كالخنفساء والحية وَالْعَقْرَب وَلَا عِبْرَة بِمَا يذكر من مَنَافِعهَا فِي الْخَواص وَلَا بيع كل سبع أَو طير لَا ينفع كالأسد وَالذِّئْب والحدأة والغراب غير الْمَأْكُول وَلَا نظر لمَنْفَعَة الْجلد بعد الْمَوْت وَلَا لمَنْفَعَة الريش فِي النبل وَلَا لاقتناء الْمُلُوك لبعضها للهيبة والسياسة
أما مَا ينفع من ذَلِك كالفهد للصَّيْد والفيل لِلْقِتَالِ والنحل للعسل والطاووس للأنس بلونه فَيصح وَإِمَّا لقلته كحبتي الْحِنْطَة وَالشعِير وَلَا أثر لضم ذَلِك إِلَى أَمْثَاله أَو وَضعه فِي فخ وَمَعَ هَذَا يحرم غصبه وَيجب رده وَلَا ضَمَان فِيهِ إِن تلف إِذْ لَا مَالِيَّة
وَلَا يَصح بيع آلَة اللَّهْو الْمُحرمَة كالطنبور والمزمار والرباب وَإِن اتخذ الْمَذْكُورَات من نقد إِذْ لَا نفع بهَا شرعا
وَيصِح بيع آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة لِأَنَّهُمَا المقصودان
وَلَا يشكل بِمَا مر من منع بيع آلَات الملاهي المتخذة مِنْهُمَا لِأَن آنيتهما يُبَاح اسْتِعْمَالهَا للْحَاجة بِخِلَاف تِلْكَ
وَلَا يَصح بيع كتب الْكفْر والتنجيم والشعوذة والفلسفة كَمَا جزم بِهِ فِي الْمَجْمُوع وَلَا بيع السّمك فِي المَاء إِلَّا إِذا كَانَ فِي بركَة صَغِيرَة لَا يمْنَع المَاء رُؤْيَته وَسَهل أَخذه فَيصح فِي الْأَصَح فَإِن كَانَت الْبركَة كَبِيرَة لَا يُمكن أَخذه إِلَّا بِمَشَقَّة شَدِيدَة لم يَصح على الْأَصَح
وَبيع الْحمام فِي البرج على هَذَا التَّفْصِيل
وَلَا يَصح بيع الطير فِي الْهَوَاء وَلَو حَماما اعْتِمَادًا على عَادَة عودهَا على الْأَصَح لعدم الوثوق بعودها إِلَّا النَّحْل فَيصح بَيْعه طائرا على الْأَصَح فِي الزَّوَائِد وَقَيده فِي الْمُهِمَّات
تبعا ل(2/275)
ابْن الرّفْعَة بِأَن يكون اليعسوب فِي الخلية فارقا بَينه وَبَين الْحمام بِأَن النَّحْل لَا يقْصد بالجوارح بِخِلَاف غَيرهَا من الطُّيُور فَإِنَّهَا تقصد بهَا
وَيصِح بَيْعه فِي الكوارة إِن شَاهد جَمِيعه وَإِلَّا فَهُوَ من بيع الْغَائِب فَلَا يَصح
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن أَرْكَان البيع وَهِي ثَلَاثَة كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَهِي فِي الْحَقِيقَة سِتَّة عَاقد بَائِع ومشتر ومعقود عَلَيْهِ ثمن ومثمن وَصِيغَة وَلَو كِنَايَة وَهِي إِيجَاب كبعتك وملكتك واشتر مني وكجعلته لَك بِكَذَا نَاوِيا البيع وَقبُول كاشتريت وتملكت وَقبلت وَإِن تقدم على الْإِيجَاب كبعني بِكَذَا لِأَن البيع مَنُوط بِالرِّضَا لخَبر إِنَّمَا البيع عَن ترَاض وَالرِّضَا خَفِي فَاعْتبر مَا يدل عَلَيْهِ من اللَّفْظ فَلَا بيع بمعاطاة وَيرد كل مَا أَخذه بهَا أَو بدله إِن تلف
وَشرط فِي الْإِيجَاب وَالْقَبُول وَلَو بِكِتَابَة أَو إِشَارَة أخرس أَلا يتخللهما كَلَام أَجْنَبِي عَن العقد وَلَا سكُوت طَوِيل وَهُوَ مَا أشعر بإعراضه عَن الْقبُول وَأَن يتوافق الْإِيجَاب وَالْقَبُول معنى فَلَو أوجب بِأَلف مكسرة فَقبل بصحيحه أَو عَكسه لم يَصح
وَيشْتَرط أَيْضا عدم التَّعْلِيق التَّأْقِيت فَلَو قَالَ إِن مَاتَ أبي فقد بِعْتُك هَذَا بِكَذَا أَو بعتكه بِكَذَا شهرا لم يَصح
وَشرط فِي الْعَاقِد بَائِعا كَانَ أَو مُشْتَريا إِطْلَاق تصرف فَلَا يَصح عقد صبي أَو مَجْنُون أَو مَحْجُور عَلَيْهِ بِسَفَه وَعدم إِكْرَاه(2/276)
بِغَيْر حق فَلَا يَصح عقد مكره فِي مَاله بِغَيْر حق لعدم رِضَاهُ وَيصِح بِحَق كَأَن توجه عَلَيْهِ بيع مَاله لوفاء دين فأكرهه الْحَاكِم عَلَيْهِ
وَلَو بَاعَ مَال غَيره بإكراهه عَلَيْهِ صَحَّ لِأَنَّهُ أبلغ فِي الْإِذْن
وَإِسْلَام من يَشْتَرِي لَهُ وَلَو بوكالة مصحف أَو نَحوه ككتب حَدِيث أَو كتب علم فِيهَا آثَار السّلف أَو مُسلم أَو مُرْتَد لَا يعْتق عَلَيْهِ لما فِي ملك الْكَافِر للمصحف وَنَحْوه من الإهانة وللمسلم من الإذلال وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} ولبقاء علقَة الْإِسْلَام فِي الْمُرْتَد بِخِلَاف من يعْتق عَلَيْهِ كأبيه أَو ابْنه فَيصح لانْتِفَاء إذلاله بِعَدَمِ اسْتِقْرَار ملكه
فَائِدَة يتَصَوَّر دُخُول الرَّقِيق الْمُسلم فِي ملك الْكَافِر فِي مسَائِل نَحْو الْأَرْبَعين صُورَة وَقد ذكرتها فِي شرح الْمِنْهَاج وأفردها البُلْقِينِيّ بتصنيف دون الكراسة والشامل لجميعها ثَلَاثَة أَسبَاب الأول الْملك القهري
الثَّانِي مَا يُفِيد الْفَسْخ
الثَّالِث مَا استعقب الْعتْق
فاستفده فَإِنَّهُ ضَابِط مُهِمّ ولبعضهم فِي ذَلِك نظم وَهُوَ الرجز وَمُسلم يدْخل ملك كَافِر بِالْإِرْثِ وَالرَّدّ بِعَيْب ظَاهر إِقَالَة وفسخه وَمَا وهب أصل وَمَا استعقب عتقا بِسَبَب وَتَقَدَّمت شُرُوط الْمَعْقُود عَلَيْهِ
وَلَو بَاعَ بِنَقْد مثلا وَثمّ نقد غَالب تعين لِأَن الظَّاهِر إرادتهما لَهُ أَو نقدان مثلا وَلَو صَحِيحا ومكسرا وَلَا غَالب اشْترط تعْيين لفظا إِن اخْتلفت قيمتهَا فَإِن اسْتَوَت لم يشْتَرط تعْيين وتكفي مُعَاينَة عوض عَن الْعلم بِقَدرِهِ اكْتِفَاء بالتخمين المصحوب بالمعاينة وتكفي رؤيتها قبل عقد فِيمَا لَا يغلب تغيره إِلَى وَقت العقد
وَيشْتَرط كَونه ذَاكِرًا للأوصاف عِنْد العقد بِخِلَاف مَا يغلب تغيره كالأطعمة وتكفي رُؤْيَة بعض مَبِيع إِن دلّ على بَاقِيَة كظاهر صبرَة نَحْو برك كشعير أَو(2/277)
لم يدل على بَاقِيه بل كَانَ صوانا للْبَاقِي لبَقَائه كقشر رمان وبيض وقشرة سفلى لجوز أَو لوز فتكفي رُؤْيَته لِأَن صَلَاح بَاطِنه فِي إبقائه فِيهِ
وَخرج بالسفلى وَهِي الَّتِي تكسر حَالَة الْأكل الْعليا لِأَنَّهَا لَيست من مصَالح مَا فِي بَطْنه
نعم إِن لم تَنْعَقِد السُّفْلى كاللوز الْأَخْضَر كفت رُؤْيَة الْعليا لِأَن الْجَمِيع مَأْكُول
وَيجوز بيع قصب السكر فِي قشره الْأَعْلَى لِأَن قشره الْأَسْفَل كباطنه لِأَنَّهُ قد يمص مَعَه وَلِأَن قشره الْأَعْلَى لَا يستر جَمِيعه
وَيصِح سلم الْأَعْمَى وَإِن عمي قبل تَمْيِيزه بعوض فِي ذمَّته يعين فِي الْمجْلس ويوكل من يقبض عَنهُ أَو من يقبض لَهُ رَأس مَال السّلم وَالْمُسلم فِيهِ وَلَو كَانَ رأى قبل الْعَمى شَيْئا مِمَّا لَا يتَغَيَّر قبل عقده صَحَّ عقده عَلَيْهِ كالبصير وَلَو اشْترى الْبَصِير شَيْئا ثمَّ عمي قبل قَبضه لم يَنْفَسِخ فِيهِ البيع كَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ
وَلَا يَصح بيع البصل والجزر وَنَحْوهمَا فِي الأَرْض لِأَنَّهُ غرر
فصل فِي الرِّبَا
وَهُوَ بِالْقصرِ لُغَة الزِّيَادَة قَالَ الله تَعَالَى {اهتزت وربت} أَي زَادَت ونمت وَشرعا نقد على عوض مَخْصُوص غير مَعْلُوم التَّمَاثُل فِي معيار الشَّرْع حَالَة العقد أَو مَعَ تَأْخِير فِي الْبَدَلَيْنِ أَو أَحدهمَا
وَهُوَ على ثَلَاثَة أَنْوَاع رَبًّا الْفضل وَهُوَ البيع مَعَ زِيَادَة أحد الْعِوَضَيْنِ على الآخر
وَربا الْيَد وَهُوَ البيع مَعَ تَأْخِير قبضهما أَو قبض أَحدهمَا
وَربا النِّسَاء وَهُوَ البيع لأجل
(والربا حرَام) لقَوْله تَعَالَى {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الله آكل الرِّبَا وموكله وَشَاهده وكاتبه وَهُوَ من الْكَبَائِر
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ لم يحل فِي شَرِيعَة قطّ لقَوْله تَعَالَى {وَأَخذهم الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ} يَعْنِي فِي الْكتب السالفة
وَالْقَصْد بِهَذَا الْفَصْل بيع الرِّبَوِيّ وَمَا يعْتَبر فِيهِ زِيَادَة على مَا مر وَهُوَ لَا يكون إِلَّا فِي (الذَّهَب وَالْفِضَّة) وَلَو غير مضروبين (و)(2/278)
فِي (المطعومات) لَا فِي غير ذَلِك
وَالْمرَاد بالمطعوم مَا قصد للطعم اقتياتا أَو تفكها أَو تداويا كَمَا يُؤْخَذ ذَلِك من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالْبر بِالْبرِّ وَالشعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْملح بالملح مثلا بِمثل سَوَاء بِسَوَاء يدا بيد فَإِذا اخْتلفت هَذِه الْأَجْنَاس فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد أَي مقابضة فَإِنَّهُ نَص فِيهِ على الْبر وَالشعِير وَالْمَقْصُود مِنْهُمَا التقوت فَألْحق بهما مَا فِي مَعْنَاهُمَا كالأرز والذرة
وَنَصّ على التَّمْر وَالْمَقْصُود مِنْهُ التفكه والتأدم
فَألْحق بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كالزبيب والتين وعَلى الْملح وَالْمَقْصُود مِنْهُ الْإِصْلَاح فَألْحق بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كالمصطكي والزنجبيل وَلَا فرق بَين مَا يصلح الْغذَاء أَو يصلح الْبدن فَإِن الأغذية تحفظ الصِّحَّة والأدوية ترد الصِّحَّة
وَلَا رَبًّا فِي حب الْكَتَّان ودهنه ودهن السّمك لِأَنَّهَا لَا تقصد للطعم وَلَا فِيمَا اخْتصَّ بِهِ الْجِنّ كالعظم أَو الْبَهَائِم كالتبن والحشيش أَو غلب تنَاولهَا لَهُ
أما إِذا كَانَا على حد سَوَاء فَالْأَصَحّ ثُبُوت الرِّبَا فِيهِ وَلَا رَبًّا فِي الْحَيَوَان مُطلقًا سَوَاء جَازَ بلعه كصغار السّمك أم لَا لِأَنَّهُ لَا يعد للْأَكْل على هَيئته
(وَلَا يجوز بيع) عين (الذَّهَب بِالذَّهَب و) لَا بيع عين (الْفضة كَذَلِك) أَي بِالْفِضَّةِ (إِلَّا) بِثَلَاثَة شُرُوط الأول كَونه (متماثلا) أَي مُتَسَاوِيا فِي الْقدر من غير زِيَادَة حَبَّة وَلَا نَقصهَا
وَالثَّانِي كَونه (نَقْدا) أَي حَالا من غير نَسِيئَة فِي شَيْء مِنْهُ
وَالثَّالِث كَونه مَقْبُوضا قبل التَّفَرُّق أَو التخاير للْخَبَر السَّابِق
وَعلة الرِّبَا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة جنسية الْأَثْمَان غَالِبا كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع ويعبر عَنهُ أَيْضا بجوهرية الْأَثْمَان غَالِبا وَهِي منتفية عَن الْفُلُوس وَغَيرهَا من سَائِر الْعرُوض
وَاحْترز بغالبا عَن الْفُلُوس إِذا راجت فَإِنَّهَا لَا رَبًّا فِيهَا كَمَا مر وَلَا أثر لقيمة الصَّنْعَة فِي ذَلِك حَتَّى لَو اشْترى بِدَنَانِير ذَهَبا مصوغا قِيمَته أَضْعَاف الدَّنَانِير اعْتبرت الْمُمَاثلَة وَلَا نظر إِلَى الْقيمَة
وَالْحِيلَة فِي تمْلِيك الرِّبَوِيّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا كَبيع ذهب بِذَهَب مُتَفَاضلا أَن يَبِيعهُ من صَاحبه بِدَرَاهِم أَو عرض وَيَشْتَرِي مِنْهُ بهَا أَو بِهِ الذَّهَب بعد التَّقَابُض فَيجوز وَإِن لم يَتَفَرَّقَا وَلم يتخايرا
(وَلَا) يجوز وَلَا يَصح (بيع مَا ابتاعه) وَلَا الْإِشْرَاك فِيهِ وَلَا التَّوْلِيَة (حَتَّى يقبضهُ) سَوَاء كَانَ مَنْقُولًا أم عقارا أذن(2/279)
البَائِع وَقبض الثّمن أم لَا لخَبر من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِيعهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه قَالَ ابْن عَبَّاس وَلَا أَحسب كل شَيْء إِلَّا مثله رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَبيعه للْبَائِع كَغَيْرِهِ
فَلَا يَصح لعُمُوم الْأَخْبَار ولضعف الْملك
وَالْإِجَارَة وَالْكِتَابَة وَالرَّهْن وَالصَّدَاق وَالْهِبَة والإقراض وَجعله عوضا فِي نِكَاح أَو خلع أَو صلح أَو سلم أَو غير ذَلِك كَالْبيع فَلَا يَصح بِنَاء على أَن الْعلَّة فِي البيع ضعف الْملك وَيصِح الْإِعْتَاق لتشوف الشَّارِع إِلَيْهِ
وَنقل ابْن الْمُنْذر فِيهِ الْإِجْمَاع وَسَوَاء أَكَانَ للْبَائِع حق الْحَبْس أم لَا لقُوته وَضعف حق الْحَبْس وَالِاسْتِيلَاد وَالتَّزْوِيج وَالْوَقْف كَالْعِتْقِ وَالثمن الْمعِين كَالْمَبِيعِ قبل قَبضه فِيمَا مر وَله التَّصَرُّف فِي مَاله
وَهُوَ فِي يَد غَيره أَمَانَة كوديعة ومشترك وقراض ومرهون بعد انفكاكه وموروث وباق فِي يَد وليه بعد فك الْحجر عَنهُ لتَمام ملكه على ذَلِك وَلَا يَصح بيع الْمُسلم فِيهِ وَلَا الِاعْتِيَاض عَنهُ قبل قَبضه
وَيجوز الِاسْتِبْدَال عَن الثّمن الثَّابِت فِي الذِّمَّة فَإِن استبدل مُوَافقا فِي عِلّة الرِّبَا كدراهم عَن دَنَانِير أَو عَكسه اشْترط قبض الْبَدَل فِي الْمجْلس حذرا من الرِّبَا وَلَا يشْتَرط تَعْيِينه فِي العقد لِأَن الصّرْف على مَا فِي الذِّمَّة جَائِز
وَيصِح بيع الدّين بِغَيْر دين لغير من هُوَ عَلَيْهِ كَأَن بَاعَ بكر لعَمْرو مائَة لَهُ على زيد بِمِائَة كَبَيْعِهِ مِمَّن هُوَ عَلَيْهِ كَمَا رَجحه فِي الرَّوْضَة وَإِن رجح فِي الْمِنْهَاج الْبطلَان
أما بيع الدّين بِالدّينِ فَلَا يَصح سَوَاء اتَّحد الْجِنْس أم لَا للنَّهْي عَن بيع الكالىء بالكالىء وَفسّر بِبيع الدّين بِالدّينِ وَقبض غير مَنْقُول من أَرض وَشَجر وَنَحْو ذَلِك بِالتَّخْلِيَةِ لمشتر بِأَن يُمكنهُ مِنْهُ البَائِع ويسلمه الْمِفْتَاح وبتفريغه من مَتَاع غير المُشْتَرِي نظرا للْعُرْف فِي ذَلِك وَقبض الْمَنْقُول من سفينة وحيوان وَغَيرهمَا بنقله مَعَ تَفْرِيغ السَّفِينَة المشحونة بالأمتعة نظرا(2/280)
للْعُرْف فِيهِ
وَيَكْفِي فِي قبض الثَّوْب وَنَحْوه مِمَّا يتَنَاوَل بِالْيَدِ التَّنَاوُل وَإِتْلَاف المُشْتَرِي الْمَبِيع قبض لَهُ وَلَو كَانَ الْمَبِيع تَحت يَد المُشْتَرِي أَمَانَة أَو مَضْمُونا وَهُوَ حَاضر وَلم يكن للْبَائِع حق الْحَبْس صَار مَقْبُوضا بِنَفس العقد بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ لَهُ حق الْحَبْس فَإِنَّهُ لَا بُد من إِذْنه وَلَو اشْترى الْأَمْتِعَة مَعَ الدَّار حَقِيقَة اشْترط فِي قبضهَا نقلهَا كَمَا لَو أفردت وَلَو اشْترى صبرَة ثمَّ اشْترى مَكَانهَا لم يكف
والسفينة من المنقولات كَمَا قَالَه ابْن الرّفْعَة فَلَا بُد من تحويلها وَهُوَ ظَاهر فِي الصَّغِيرَة وَفِي الْكَبِيرَة فِي مَاء تسير بِهِ
أما الْكَبِيرَة فِي الْبر فكالعقار فَيَكْفِي فِيهَا التَّخْلِيَة لعسر النَّقْل
فروع للْمُشْتَرِي اسْتِقْلَال بِقَبض الْمَبِيع إِن كَانَ الثّمن مُؤَجّلا وَإِن حل أَو كَانَ حَالا كُله أَو بعضه وَسلم الْحَال لمستحقه وَشرط فِي قبض مَا بيع مُقَدرا مَعَ مَا مر نَحْو ذرع من كيل وَوزن وَلَو كَانَ لبكر طَعَام مثلا مُقَدّر على زيد كعشرة آصَع ولعمرو عَلَيْهِ مثله فليكتل لنَفسِهِ من زيد ثمَّ يكتل لعَمْرو ليَكُون الْقَبْض والإقباض صَحِيحَيْنِ
وَيَكْفِي استدامته فِي نَحْو الْمِكْيَال
فَلَو قَالَ بكر لعَمْرو اقبض من زيد مَا لي عَلَيْهِ لَك فَفعل فسد الْقَبْض لَهُ لِاتِّحَاد الْقَابِض والمقبض وَلكُل من الْعَاقِدين حبس عوضه حَتَّى يقبض مُقَابِله إِن خَافَ فَوته بهرب أَو غَيره فَإِن لم يخف فَوته وتنازعا فِي الِابْتِدَاء أجبرا إِن عين الثّمن كَالْمَبِيعِ فَإِن كَانَ فِي الذِّمَّة أجبر البَائِع فَإِذا سلم أجبر المُشْتَرِي إِن حضر الثّمن وَإِلَّا فَإِن أعْسر بِهِ فَللْبَائِع الْفَسْخ بالفلس وَإِن أيسر فَإِن لم يكن مَاله بمسافة الْقصر حجر عَلَيْهِ فِي أَمْوَاله كلهَا حَتَّى يسلم الثّمن وَإِن كَانَ مَاله بمسافة الْقصر كَانَ لَهُ الْفَسْخ فَإِن صَبر فالحجر كَمَا مر
وَمحل الْحجر(2/281)
فِي هَذَا وَمَا قبله إِذا لم يكن مَحْجُورا عَلَيْهِ بفلس وَإِلَّا فَلَا حجر وَأما الثّمن الْمُؤَجل فَلَيْسَ للْبَائِع حبس الْمَبِيع بِهِ لرضاه بِتَأْخِيرِهِ وَلَو حل قبل التَّسْلِيم فَلَا حبس أَيْضا
(وَلَا) يجوز (بيع اللَّحْم) وَمَا فِي مَعْنَاهُ كالشحم والكبد وَالْقلب والكلية وَالطحَال والألية
(بِالْحَيَوَانِ) من جنسه أَو بِغَيْر جنسه من مَأْكُول كَبيع لحم الْبَقر بالضأن وَغَيره كَبيع لحم ضَأْن بِحِمَار للنَّهْي عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ
أما بيع الْجلد بِالْحَيَوَانِ فَيصح بعد دبغه بِخِلَافِهِ قبله
(وَيجوز بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ) وَعَكسه (مُتَفَاضلا) أَي زَائِدا أَحدهمَا على الآخر بِشَرْطَيْنِ الأول كَونه (نَقْدا) أَي حَالا
وَالثَّانِي كَونه مَقْبُوضا بيد كل مِنْهُمَا قبل تفرقهما أَو تخايرهما
(وَكَذَا المطعومات) الْمُتَقَدّم بَيَانهَا (لَا يجوز بيع الْجِنْس مِنْهَا) أَي المطعومات (بِمثلِهِ) سَوَاء اتّفق نَوعه أم اخْتلف (إِلَّا) بِثَلَاثَة شُرُوط الأول كَونه (متماثلا) وَالثَّانِي كَونه (نَقْدا) وَالثَّالِث كَونه مَقْبُوضا بيد كل مِنْهُمَا قبل تفرقهما أَو تخايرهما كَمَا مر بَيَانه فِي بيع النَّقْد بِمثلِهِ والمماثلة تعْتَبر فِي الْمكيل كَيْلا وَإِن تفَاوت فِي الْوَزْن وَفِي الْمَوْزُون وزنا وَإِن تفَاوت فِي الْكَيْل
وَالْمُعْتَبر فِي كَون الشَّيْء مَكِيلًا أَو مَوْزُونا غَالب عَادَة أهل الْحجاز فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لظُهُور أَنه اطلع على ذَلِك وَأقرهُ وَمَا لم يكن فِي ذَلِك الْعَهْد أَو كَانَ وَجَهل حَاله وجرمه كالتمر يُرَاعى فِيهِ عَادَة بلد البيع فَإِن كَانَ أكبر مِنْهُ فالوزن
وَلَو بَاعَ جزَافا نَقْدا أَو طَعَاما بِجِنْسِهِ تخمينا لم يَصح البيع وَإِن خرجا سَوَاء للْجَهْل بالمماثلة عِنْد البيع
وَهَذَا معنى قَول الْأَصْحَاب الْجَهْل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة
وَتعْتَبر الْمُمَاثلَة للربوي حَال الْكَمَال فَتعْتَبر فِي الثِّمَار والحبوب وَقت الْجَفَاف وتنقيتها فَلَا يُبَاع رطب المطعومات برطبها بِفَتْح الرَّاء فيهمَا
وَلَا بجافها إِذا كَانَت من جنس إِلَّا فِي مَسْأَلَة الْعَرَايَا وَلَا تَكْفِي مماثلة الدَّقِيق والسويق وَالْخبْز بل تعْتَبر الْمُمَاثلَة فِي الْحُبُوب حبا وَفِي حبوب الدّهن كالسمسم بِكَسْر السينين حبا أَو دهنا وَفِي الْعِنَب وَالرّطب زبيبا أَو تَمرا أَو خل عِنَب وَرطب أَو عصير ذَلِك وَفِي اللَّبن لَبَنًا أَو سمنا خَالِصا مصفى بشمس أَو نَار فَيجوز بيع بعضه بِبَعْض وزنا وَإِن كَانَ مَائِعا على النَّص فَلَا تَكْفِي مماثلة مَا أثرت فِيهِ النَّار بالطبخ أَو القلي أَو الشَّيْء وَلَا يضر تَأْثِير تَمْيِيز كالعسل وَالسمن
(وَيجوز بيع الْجِنْس مِنْهَا) أَي المطعومات (بِغَيْرِهِ) كالحنطة بِالشَّعِيرِ (مُتَفَاضلا) بِشَرْطَيْنِ الأول كَونه (نَقْدا) أَي حَالا
وَالثَّانِي كَونه مَقْبُوضا بيد كل مِنْهُمَا قبل تفرقهما أَو قبل تخايرهما
(وَلَا يجوز بيع الْغرَر) وَهُوَ غير الْمَعْلُوم للنَّهْي عَنهُ وَلَا يشْتَرط الْعلم بِهِ من كل وَجه بل يشْتَرط الْعلم بِعَين الْمَبِيع وَقدره وَصفته فَلَا يَصح بيع الْغَائِب إِلَّا إِذا كَانَ رَآهُ قبل العقد وَهُوَ مِمَّا لَا يتَغَيَّر غَالِبا كالأرض والأواني وَالْحَدِيد والنحاس وَنَحْو ذَلِك كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي الْفَصْل قبل هَذَا
وَتعْتَبر رُؤْيَة كل شَيْء بِمَا يَلِيق بِهِ فَفِي الْكتاب لَا بُد من رُؤْيَته ورقة ورقة وَفِي الْوَرق الْبيَاض رُؤْيَة جَمِيع الطاقات وَفِي الدَّار لَا بُد من رُؤْيَة الْبيُوت والسقوف والسطوح والجدران والمستحم والبالوعة وَكَذَا رُؤْيَة الطَّرِيق كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَفِي الْبُسْتَان رُؤْيَة أشجاره ومجرى مَائه وَكَذَا يشْتَرط رُؤْيَة المَاء الَّذِي تَدور بِهِ الرَّحَى خلافًا لِابْنِ الْمقري لاخْتِلَاف الْغَرَض
وَلَا يشْتَرط رُؤْيَة أساس جدران الْبُسْتَان وَلَا رُؤْيَة عروق الْأَشْجَار وَنَحْوهمَا وَيشْتَرط رُؤْيَة الأَرْض فِي ذَلِك وَنَحْوه وَلَو رأى آلَة بِنَاء الْحمام وأرضها قبل بنائها لم يكف عَن رُؤْيَة كَمَا لَا يَكْفِي فِي التَّمْر رُؤْيَته رطبا كَمَا لَو رأى سخلة أَو صَبيا فكهلا لَا يَصح بيعهمَا بِلَا رُؤْيَة أُخْرَى
وَيشْتَرط فِي الرَّقِيق ذكرا كَانَ أَو غَيره رُؤْيَة مَا سوى الْعَوْرَة لَا اللِّسَان والأسنان وَيشْتَرط فِي الدَّابَّة رؤيتها كلهَا حَتَّى شعرهَا فَيجب رفع السرج والإكاف وَلَا يشْتَرط إجراؤها ليعرف سَيرهَا وَلَا يشْتَرط فِي الدَّابَّة رُؤْيَة اللِّسَان والأسنان(2/282)
وَيشْتَرط فِي الثَّوْب نشره ليرى الْجَمِيع وَلَو لم ينشر مثله إِلَّا عِنْد الْقطع وَيشْتَرط فِي الثَّوْب رُؤْيَة وَجْهي مَا يخْتَلف مِنْهُ كَأَن يكون صفيقا كديباج منقش وَبسط بِخِلَاف مَا لَا يخْتَلف وجهاه ككرباس فتكفي رُؤْيَة أَحدهمَا
وَلَا يَصح بيع اللَّبن فِي الضَّرع وَإِن حلب مِنْهُ شَيْء ورئي قبل البيع للنَّهْي عَنهُ وَلعدم رُؤْيَته
وَلَا يَصح بيع الصُّوف قبل الجز أَو التذكية لاختلاطه بالحادث فَإِن قبض قِطْعَة وَقَالَ بِعْتُك هَذِه صَحَّ
وَلَا يَصح بيع مسك مختلط بِغَيْرِهِ لجهل الْمَقْصُود كنحو لبن مخلوط بِنَحْوِ مَاء نعم إِن كَانَ معجونا بِغَيْرِهِ كالغالية والند صَحَّ لِأَن الْمَقْصُود جميعهما لَا الْمسك وَحده وَلَو بَاعَ الْمسك فِي فأرته لم يَصح وَلَو فتح رَأسهَا كَاللَّحْمِ فِي الْجلد فَإِن رَآهَا فارغة ثمَّ ملئت مسكا لم يره ثمَّ رأى أَعْلَاهُ من رَأسهَا أَو رَآهُ خَارِجهَا ثمَّ اشْتَرَاهُ بعد رده إِلَيْهَا جَازَ
فصل فِي أَحْكَام الْخِيَار
وَلما فرغ المُصَنّف من صِحَة العقد وفساده شرع فِي لُزُومه وجوازه وَذَلِكَ بِسَبَب الْخِيَار وَالْأَصْل فِي البيع اللُّزُوم لِأَن الْقَصْد مِنْهُ نقل الْملك وَقَضِيَّة الْملك التَّصَرُّف وَكِلَاهُمَا فرع اللُّزُوم إِلَّا أَن الشَّارِع أثبت فِيهِ الْخِيَار رفقا بالمتعاقدين وَهُوَ نَوْعَانِ خِيَار تشه وَخيَار نقيصة
فخيار التشهي مَا يتعاطاه المتعاقدان باختيارهما وشهوتهما من غير توقف على فَوَات أَمر فِي الْمَبِيع وَسَببه الْمجْلس أَو الشَّرْط
وَقد بَدَأَ بِالسَّبَبِ الأول من النَّوْع الأول (والمتبايعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا) ببدنهما عَن مجْلِس العقد أَو يختارا لُزُوم العقد كقولهما تخايرنا فَلَو اخْتَار أَحدهمَا لُزُومه سقط حَقه من الْخِيَار وَبَقِي الْحق فِيهِ للْآخر لما روى الشَّيْخَانِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا أَو يَقُول أَحدهمَا للْآخر اختر وَيثبت خِيَار الْمجْلس فِي كل بيع وَإِن استعقب عتقا كَشِرَاء بعضه وَذَلِكَ كربوي وَسلم وتولية وتشريك لَا فِي بيع عبد مِنْهُ وَلَا فِي بيع ضمني لِأَن(2/283)
مقصودهما الْعتْق وَلَا فِي قسْمَة غير رد وَلَا فِي رد وَلَا فِي حِوَالَة وَلَا فِي إِبْرَاء وَصلح حطيطة وَنِكَاح وَهبة بِلَا ثَوَاب وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يُسمى بيعا لِأَن الْخَبَر إِنَّمَا ورد فِي البيع
أما الْهِبَة بِثَوَاب فَإِنَّهَا بيع فَيثبت فِيهَا الْخِيَار على الْمُعْتَمد خلافًا لما جرى عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاج وَيعْتَبر فِي التَّفَرُّق الغرف فَمَا يعده النَّاس تفَرقا يلْزم بِهِ العقد وَمَا لَا فَلَا لِأَن مَا لَيْسَ لَهُ حد شرعا وَلَا لُغَة يرجع فِيهِ إِلَى الْعرف فَلَو قاما وتماشيا منَازِل دَامَ خيارهما كَمَا لَو طَال مكثهما وَإِن زَادَت الْمدَّة على ثَلَاثَة أَيَّام أَو عرضا عَمَّا يتَعَلَّق بِالْعقدِ
وَكَانَ ابْن عمر رَاوِي الْخَبَر إِذا ابْتَاعَ شَيْئا فَارق صَاحبه فَلَو كَانَا فِي دَار كَبِيرَة فالتفرق فِيهَا بِالْخرُوجِ من الْبَيْت إِلَى الصحن أَو من الصحن إِلَى الصّفة أَو الْبَيْت
وَإِن كَانَا فِي سوق أَو صحراء فبأن يولي أَحدهمَا الآخر ظَهره وَيَمْشي قَلِيلا وَلَو لم يبعد عَن سَماع خطابه
وَإِن كَانَا فِي سفينة أَو دَار صَغِيرَة فبخروج أَحدهمَا مِنْهَا وَلَو تناديا بِالْبيعِ من بعد ثَبت لَهما الْخِيَار وامتد مَا لم يُفَارق أَحدهمَا مَكَانَهُ فَإِن فَارقه وَوصل إِلَى مَوضِع لَو كَانَ الآخر مَعَه بِمَجْلِس العقد عد تفَرقا بَطل خيارهما وَلَو مَاتَ أَحدهمَا فِي الْمجْلس أَو جن أَو أُغمي عَلَيْهِ انْتقل الْخِيَار فِي الأولى إِلَى الْوَارِث وَلَو عَاما وَفِي الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة إِلَى الْوَلِيّ من حَاكم أَو غَيره وَلَو أجَاز الْوَارِث أَو فسخ قبل علمه بِمَوْت مُوَرِثه نفذ ذَلِك بِنَاء على أَن من بَاعَ مَال مُوَرِثه ظَانّا حَيَاته فَبَان مَيتا صَحَّ وَلَو اشْترى الْوَلِيّ لطفله شَيْئا فَبلغ رشيدا قبل التَّفَرُّق لم ينْتَقل إِلَيْهِ الْخِيَار كَمَا فِي الْبَحْر وَيبقى للْوَلِيّ على الْأَوْجه من وَجْهَيْن حَكَاهُمَا فِي الْبَحْر وأجراهما فِي خِيَار الشَّرْط
ثمَّ شرع فِي السَّبَب الثَّانِي من النَّوْع الأول بقوله (وَلَهُمَا) أَي الْمُتَعَاقدين (أَن يشرطا الْخِيَار) لَهما أَو لأَحَدهمَا سَوَاء أشرطا إِيقَاع أَثَره مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا أم من أَجْنَبِي كَالْعَبْدِ الْمَبِيع وَسَوَاء أشرطا ذَلِك من وَاحِد أم من اثْنَيْنِ مثلا وَلَيْسَ لشارطه للْأَجْنَبِيّ خِيَار إِلَّا أَن يَمُوت الْأَجْنَبِيّ فِي زمن الْخِيَار وَلَيْسَ لوكيل أَحدهمَا شَرطه للْآخر وَلَا للْأَجْنَبِيّ بِغَيْر إِذن مُوكله وَله شَرطه لمُوكلِه ولنفسه
وَإِنَّمَا يجوز شَرطه مُدَّة مَعْلُومَة مُتَّصِلَة بِالشّرطِ مُتَوَالِيَة (إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام) فَأَقل بِخِلَاف مَا لَو أطلق أَو قدر بِمدَّة مَجْهُولَة أَو زَادَت على الثَّلَاثَة وَذَلِكَ لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ ذكر رجل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يخدع فِي الْبيُوع فَقَالَ لَهُ إِذا بَايَعت فَقل لَا خلابة ثمَّ أَنْت بِالْخِيَارِ فِي كل سلْعَة ابتعتها ثَلَاث لَيَال وَفِي رِوَايَة فَجعل لَهُ عُهْدَة ثَلَاثَة أَيَّام
وخلابة بِكَسْر الْمُعْجَمَة وبالموحدة الْغبن والخديعة
قَالَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا اشْتهر فِي الشَّرْع أَن قَوْله لَا خلابة عبارَة عَن اشْتِرَاط الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام وتحسب الْمدَّة الْمَشْرُوطَة من حِين شَرط الْخِيَار سَوَاء أشرط فِي(2/284)
العقد أم فِي مَجْلِسه
وَلَو شَرط فِي العقد الْخِيَار من الْغَد بَطل العقد وَإِلَّا لَأَدَّى إِلَى جَوَازه بعد لُزُومه
وَلَو شَرط لأحد الْعَاقِدين يَوْم وَللْآخر يَوْمَانِ أَو ثَلَاثَة جَازَ وَالْملك فِي الْمَبِيع فِي مُدَّة الْخِيَار لمن انْفَرد بِهِ من بَائِع أَو مُشْتَر فَإِن كَانَ الْخِيَار لَهما فموقوف فَإِن تمّ البيع بِأَن أَن الْملك للْمُشْتَرِي من حِين العقد وَإِلَّا فَللْبَائِع وَكَأَنَّهُ لم يخرج عَن ملكه وَلَا فرق فِيهِ بَين خِيَار الشَّرْط أَو الْمجْلس وَكَونه لأَحَدهمَا فِي خِيَار الْمجْلس بِأَن يخْتَار الآخر لُزُوم العقد وَحَيْثُ حكم بِملك الْمَبِيع لأَحَدهمَا حكم بِملك الثّمن للْآخر وَحَيْثُ وقف ملك الثّمن وَيحصل فسخ العقد فِي مُدَّة الْخِيَار بِنَحْوِ فسخت البيع كرفعته وَالْإِجَازَة فِيهَا بِنَحْوِ أجزت البيع كأمضيته وَالتَّصَرُّف فِيهَا كَوَطْء وإعتاق وَبيع وَإِجَارَة وتزويج من بَائِع وَالْخيَار لَهُ أَو لَهما فسخ للْبيع لإشعاره بِعَدَمِ الْبَقَاء عَلَيْهِ وَصَحَّ ذَلِك مِنْهُ أَيْضا لَكِن لَا يجوز لَهُ وَطْؤُهُ إِلَّا إِذا كَانَ الْخِيَار لَهُ وَالتَّصَرُّف الْمَذْكُور من المُشْتَرِي وَالْخيَار لَهُ أَو لَهما إجَازَة للشراء لإشعاره بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ وَالْإِعْتَاق نَافِذ مِنْهُ إِن كَانَ الْخِيَار لَهُ أَو أذن لَهُ البَائِع وَغير نَافِذ إِن كَانَ للْبَائِع وَمَوْقُوف إِن كَانَ لَهما وَلم يَأْذَن لَهُ البَائِع ووطؤه حَلَال إِن كَانَ الْخِيَار لَهُ وَإِلَّا فَحَرَام والبقية صَحِيحَة إِن كَانَ الْخِيَار لَهُ أَو أذن لَهُ البَائِع وَإِلَّا فَلَا وَإِنَّمَا يكون الْوَطْء فسخا أَو إجَازَة إِذا كَانَ الموطوء أُنْثَى لَا ذكرا وَلَا(2/285)
خُنْثَى فَإِن بَانَتْ أنوثته وَلَو بإخباره تعلق الحكم بذلك الْوَطْء
وَلَيْسَ عرض الْمَبِيع على البيع فِي مُدَّة الْخِيَار وَالتَّوْكِيل فِيهِ فسخا من البَائِع وَلَا إجَازَة من المُشْتَرِي لعدم إشعارهما من البَائِع بِعَدَمِ الْبَقَاء عَلَيْهِ وَمن المُشْتَرِي بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ
ثمَّ شرع فِي النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الْمُتَعَلّق بِفَوَات مَقْصُود مظنون نَشأ الظَّن فِيهِ من قَضَاء عرفي أَو الْتِزَام شرطي أَو تغرير فعلي مبتدئا بِالْأَمر الأول وَهُوَ مَا يظنّ حُصُوله بِالْعرْفِ وَهُوَ السَّلامَة من الْعَيْب فَقَالَ (وَإِذا وجد بِالْمَبِيعِ عيب فَلِلْمُشْتَرِي) حِينَئِذٍ (رده) إِذا كَانَ الْعَيْب بَاقِيا وتنقص الْعين بِهِ نقصا يفوت بِهِ غَرَض صَحِيح أَو ينقص قيمتهَا وَغلب فِي جنس الْمَبِيع عَدمه إِذْ الْغَالِب فِي الْأَعْيَان السَّلامَة
وَخرج بالقيد الأول مَا لَو زَالَ الْعَيْب قبل الرَّد وَبِالثَّانِي قطع أصْبع زَائِدَة وَفلقَة يسيرَة من فَخذ أَو سَاق لَا يُورث شَيْئا وَلَا يفوت غَرضا فَلَا رد بهما
وبالثالث مَا لَا يغلب فِيهِ مَا ذكر كقلع سنّ فِي الْكَبِير وثيوبة فِي أوانها فِي الْأمة فَلَا رد بِهِ وَإِن نقصت الْقيمَة بِهِ وَذَلِكَ الْعَيْب الَّذِي يثبت بِهِ الرَّد كخصاء حَيَوَان لنقصه المفوت للغرض من الْفَحْل فَإِنَّهُ يصلح لما لَا يصلح لَهُ الْخصي رَقِيقا كَانَ الْحَيَوَان أَو بَهِيمَة
نعم الْغَالِب فِي الثيران الخصاء فَيكون كثيوبة الْأمة وجماحه وعضه وَرمحه لنَقص الْقيمَة بذلك وزنا رَقِيق وسرقته وإباقه وَإِن لم يتَكَرَّر ذَلِك مِنْهُ أَو تَابَ عَنهُ ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا خلافًا للهروي فِي الصَّغِير وبخره وَهُوَ الناشىء من تغير الْمعدة
أما تغير الْفَم لقلح الْأَسْنَان فَلَا لزواله بالتنظيف وصنانه إِن كَانَ مستحكما أما الصنان لعَارض عرض أَو اجْتِمَاع وسخ أَو نَحْو ذَلِك كحركة عنيفة فَلَا وبوله بالفراش إِن خَالف الْعَادة سَوَاء أحدث الْعَيْب قبل قبض الْمَبِيع بِأَن قَارن النَّقْد أم حدث بعده وَقبل الْقَبْض لِأَن الْمَبِيع حِينَئِذٍ من ضَمَان البَائِع فَكَذَا جَزَاؤُهُ وَصفته
أَو حدث بعد الْقَبْض واستند لسَبَب مُتَقَدم على الْقَبْض كَقطع يَد الرَّقِيق الْمَبِيع بِجِنَايَة سَابِقَة على الْقَبْض جهلها المُشْتَرِي لِأَنَّهُ لتقدم سَببه كالمتقدم فَإِن كَانَ المُشْتَرِي عَالما بِهِ فَلَا خِيَار لَهُ وَلَا أرش
وَيضمن البَائِع الْمَبِيع بِجَمِيعِ الثّمن بقتْله بردة مثلا سَابِقَة على قَبضه جهلها المُشْتَرِي لِأَنَّهُ لتقدم سَببه كالمتقدم فينفسخ البيع فِيهِ قبيل الْقَتْل فَإِن كَانَ المُشْتَرِي عَالما بِهِ فَلَا شَيْء لَهُ بِخِلَاف مَا لَو مَاتَ بِمَرَض سَابق على قَبضه جَهله المُشْتَرِي فَلَا يضمنهُ البَائِع لِأَن الْمَرَض يزْدَاد شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى الْمَوْت فَلم يحصل بالسابق وَللْمُشْتَرِي أرش الْمَرَض وَهُوَ مَا بَين قيمَة الْمَبِيع صَحِيحا ومريضا من الثّمن فَإِن كَانَ المُشْتَرِي عَالما بِهِ فَلَا شَيْء لَهُ
وَيتَفَرَّع على مَسْأَلَتي الرِّدَّة(2/286)
وَالْمَرَض مؤونة التَّجْهِيز فَهِيَ على البَائِع فِي تِلْكَ وعَلى المُشْتَرِي فِي هَذِه
وَأما الْأَمر الثَّانِي وَهُوَ مَا يظنّ حُصُوله بِشَرْط فَهُوَ كَمَا لَو بَاعَ حَيَوَانا أَو غَيره بِشَرْط بَرَاءَته من الْعُيُوب فِي الْمَبِيع فَيبرأ عَن عيب بَاطِن بحيوان مَوْجُود فِيهِ حَال العقد جَهله بِخِلَاف غير الْعَيْب الْمَذْكُور فَلَا يبرأ عَن عيب فِي غير الْحَيَوَان وَلَا فِيهِ لَكِن حدث بعد البيع وَقبل الْقَبْض مُطلقًا لانصراف الشَّرْط إِلَى مَا كَانَ مَوْجُودا عِنْد العقد وَلَا من عيب ظَاهر فِي الْحَيَوَان علمه البَائِع أم لَا وَلَا عَن عيب بَاطِن فِي الْحَيَوَان علمه
وَلَو شَرط الْبَرَاءَة عَمَّا يحدث مِنْهَا قبل الْقَبْض وَلَو مَعَ الْوُجُود مِنْهَا لم يَصح الشَّرْط لِأَنَّهُ إِسْقَاط للشَّيْء قبل ثُبُوته وَلَو تلف الْمَبِيع غير الرِّبَوِيّ الْمَبِيع بِجِنْسِهِ عِنْد المُشْتَرِي ثمَّ علم عَيْبا بل رَجَعَ بِالْأَرْشِ لتعذر الرَّد بِفَوَات الْمَبِيع
أما الرِّبَوِيّ الْمَذْكُور كحلي ذهب بيع بوزنه ذَهَبا فَبَان معيبا بعد تلفه فَلَا أرش فِيهِ وَلَا لنَقص الثّمن فَيصير الْبَاقِي مِنْهُ مُقَابلا بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَذَلِكَ رَبًّا
وَالرَّدّ بِالْعَيْبِ (على الْفَوْر) فَتبْطل بِالتَّأْخِيرِ بِلَا عذر وَيعْتَبر الْفَوْر عَادَة فَلَا يضر نَحْو صَلَاة وَأكل دخل وقتهما كقضاء حَاجَة وتكميل لذَلِك أَو لِليْل
وَقيد ابْن الرّفْعَة كَون اللَّيْل عذرا بكلفة الْمسير فِيهِ فَيردهُ المُشْتَرِي وَلَو بوكيله على البَائِع أَو مُوكله أَو وَكيله أَو وَارثه أَو يرفع الْأَمر للْحَاكِم ليفصله(2/287)
وَهُوَ آكِد فِي الرَّد فِي حَاضر بِالْبَلَدِ مِمَّن يرد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ رُبمَا أحوجه إِلَى الرّفْع
وواجب فِي غَائِب عَن الْبَلَد وعَلى المُشْتَرِي عَن الْإِشْهَاد بِالْفَسْخِ لم يلْزمه بِلَفْظ بِالْفَسْخِ وَعَلِيهِ ترك اسْتِعْمَال لَا ترك ركُوب مَا عسر سوقه وقوده فَلَو استخدم رَقِيقا أَو ترك على دَابَّة سرجا أَو إكافا فَلَا رد وَلَا أرش لإشعار ذَلِك بِالرِّضَا بِالْعَيْبِ وَلَو حدث عِنْد المُشْتَرِي عيب سقط الرَّد القهري لإضراره بالبائع
ثمَّ إِن رَضِي بِالْعَيْبِ البَائِع رده المُشْتَرِي عَلَيْهِ بِلَا أرش للحادث أَو قنع بِهِ بِلَا أرش للقديم وَإِن لم يرض بِهِ البَائِع فَإِن اتفقَا فِي غير الرِّبَوِيّ على فسخ أَو إجَازَة مَعَ أرش للحادث أَو الْقَدِيم فَذَاك ظَاهر وَلَا أُجِيب طَالب الْإِمْسَاك سَوَاء أَكَانَ المُشْتَرِي أم البَائِع لما فِيهِ من تَقْرِير العقد
أما الرِّبَوِيّ فَيتَعَيَّن فِيهِ الْفَسْخ من أرش الْحَادِث وعَلى المُشْتَرِي إِعْلَام البَائِع فَوْرًا بالحادث مَعَ القدي ليختار مَا تقدم فَإِن أخر إِعْلَامه بِلَا عذر فَلَا رد لَهُ وَلَا أرش عَنهُ لإشعار التَّأْخِير بِالرِّضَا بِهِ لَو حدث عيب لَا يعرف الْقَدِيم بِدُونِهِ ككسر بيض نعام وَجوز وتقوير بطيخ مدود بعضه رد بِالْعَيْبِ الْقَدِيم وَلَا أرش عَلَيْهِ للحادث لِأَنَّهُ مَعْذُور فِيهِ
وَأما الْأَمر الثَّالِث وَهُوَ مَا يظنّ حُصُوله بالتغرير الْفعْلِيّ فَهُوَ التصرية وَهِي أَن يتْرك البَائِع حلب النَّاقة أَو غَيرهَا عمدا قبل بيعهَا ليتوهم المُشْتَرِي كَثْرَة اللَّبن فَيثبت للْمُشْتَرِي الْخِيَار فَإِن كَانَت مأكولة رد مَعهَا صَاع تمر بدل اللَّبن المحلوب وَإِن قل اللَّبن وَلَو تعدّدت الْمُصراة تعدد الصَّاع بعددها كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم هَذَا إِذا لم يتَّفقَا على رد غير الصَّاع من اللَّبن وَغَيره سَوَاء أتلف اللَّبن أم لَا بِخِلَاف مَا إِذا لم تحلب أَو اتفقَا على الرَّد
وَالْعبْرَة فِي التَّمْر بالمتوسط من تمر الْبَلَد فَإِن فقد فَقيمته بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة وَقيل بأقرب بلد التَّمْر إِلَيْهِ
وَيثبت الْخِيَار للجاهل بالتصرية على الْفَوْر وَلَا يخْتَص خِيَارهَا بِالنعَم بل يعم كل مَأْكُول من الْحَيَوَان وَالْجَارِيَة والأتان وَلَا يرد مَعَهُمَا شَيْء بدل اللَّبن لِأَن لبن الْجَارِيَة لَا يعتاض عَنهُ غَالِبا وَلبن الأتان نجس لَا عُضْو لَهُ
فروع لَا يرد قهرا بِعَيْب بعض مَا بيع صَفْقَة لما فِيهِ من تَفْرِيق الصَّفْقَة وَلَو اخْتلفَا فِي قدم عيب يُمكن حُدُوثه صدق البَائِع(2/288)
بِيَمِينِهِ لموافقته الأَصْل من اسْتِمْرَار العقد وَيحلف كجوابه وَالزِّيَادَة فِي الْمَبِيع أَو الثّمن لمتصله كسمن تتبعه فِي الرَّاد إِذْ لَا يُمكن إفرادها كحمل قَارن بيعا فَإِنَّهُ يتبع أمه فِي الرِّدَّة وَالزِّيَادَة الْمُنْفَصِلَة كَالْوَلَدِ وَالْأُجْرَة لَا تمنع الرَّد بِالْعَيْبِ وَهِي لمن حصلت فِي ملكه من مُشْتَر أَو بَائِع وَإِن رد قبل الْقَبْض لِأَنَّهَا فرع ملكه وَحبس مَا أَلْقَاهُ وَمَاء الرَّحَى الَّذِي يديرها للطحن الْمُرْسل مَاء كل مِنْهُمَا عِنْد البيع وبتحمير الْوَجْه وتسويد الشّعْر وتجعيده يثبت الْخِيَار لَا لطخ ثوب الرَّقِيق بمداد تخيلا لكتابته فَظهر كَونه غير كَاتب فَلَا رد لَهُ إِذْ لَيْسَ فِيهِ كثير غرر
(وَلَا يجوز بيع الثَّمَرَة مُطلقًا) أَي بِغَيْر شَرط قطع وَلَا تبقية (إِلَّا بعد بَدو صَلَاحهَا) فَيجوز بِشَرْط قطعهَا وبشرط إبقائها سَوَاء أَكَانَت الْأُصُول لأَحَدهمَا أم لغيره لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا
فَيجوز بعد بدوه وَهُوَ صَادِق بِكُل من الْأَحْوَال الثَّلَاثَة وَالْمعْنَى الْفَارِق بَينهمَا أَمن العاهة بعده غَالِبا لغلظها وَكبر نَوَاهَا وَقبل الصّلاح إِن بِيعَتْ مُفْردَة عَن الشّجر لَا يجوز البيع
وَلَا يَصح للْخَبَر الْمَذْكُور إِلَّا بِشَرْط الْقطع فِي الْحَال وَإِن كَانَ الشّجر للْمُشْتَرِي وَأَن الشّجر لَا ليَكُون يكون الْمَقْطُوع مُنْتَفعا بِهِ وَإِذا كَانَ الشّجر للْمُشْتَرِي لم يجب الْوَفَاء بِالشّرطِ إِذْ لَا معنى لتكليفه قطع ثَمَرَة عَن شَجَرَة
وَإِن بِيعَتْ الثَّمَرَة مَعَ الشَّجَرَة جَازَ بِلَا شَرط لِأَن الثَّمَرَة هُنَا تتبع الأَصْل وَهُوَ غير متعرض للعاهة وَلَا يجوز بِشَرْط قطعهَا لِأَن فِيهِ حجرا على المُشْتَرِي فِي ملكه
وَلَا يَصح بيع الْبِطِّيخ والباذنجان وَنَحْوهمَا قبل بَدو الصّلاح إِلَّا بِشَرْط الْقطع وَإِن بيع من مَالك الْأُصُول لما مر
وَلَو بَاعه مَعَ أُصُوله فكبيع الثَّمَرَة مَعَ الشَّجَرَة على الْمُعْتَمد وَيشْتَرط لبيع الزَّرْع وَالثَّمَر بعد بَدو الصّلاح ظُهُور الْمَقْصُود من الْحبّ وَالثَّمَرَة لِئَلَّا يكون بيع غَائِب كتين وعنب لِأَنَّهُمَا مِمَّا لَا كمام لَهُ وشعير لظُهُوره فِي سنبله وَمَا لَا يرى حبه كالحنطة والعدس فِي السنبل لَا يَصح بَيْعه دون سنبله لاستتاره بِهِ وَلَا مَعَه لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ مستتر بِمَا لَيْسَ من صَلَاحه كالحنطة فِي تبنها بعد الدراس وبدو صَلَاح مَا مر من ثَمَر وَغَيره بُلُوغه صفة يطْلب فِيهَا غَالِبا وعلامته فِي الثَّمر الْمَأْكُول المتلون أَخذه فِي حمرَة أَو نَحْوهَا كسواد وَفِي غير المتلون مِنْهُ كالعنب الْأَبْيَض لينه وجريان المَاء فِيهِ
وَفِي نَحْو القثاء أَن تجنى غَالِبا للْأَكْل وَفِي الزَّرْع اشتداده وَفِي الْورْد انفتاحه وبدو صَلَاح بعضه وَإِن قل كظهوره وعَلى بَائِع مَا بدا صَلَاحه من الثَّمر وَغَيره سقيه قبل التَّخْلِيَة وَبعدهَا عِنْد اسْتِحْقَاق المُشْتَرِي الْإِبْقَاء بِقدر مَا يَنْمُو وَيسلم من التّلف وَالْفساد ويتصرف فِيهِ مُشْتَرِيه وَيدخل فِي ضَمَانه بعد التَّخْلِيَة فَلَو تلف بترك البَائِع السَّقْي قبل التَّخْلِيَة أَو(2/289)
بعْدهَا انْفَسَخ البيع أَو تعيب بِهِ تخير المُشْتَرِي بَين الْفَسْخ وَالْإِجَازَة وَلَا يَصح بيع مَا يغلب تلاحقه واختلاط حَادِثَة بموجودة كتين وقثاء إِلَّا بِشَرْط قطعه عِنْد خوف الِاخْتِلَاط فَإِن وَقع اخْتِلَاط فِيهِ أَو فِيمَا لَا يغلب اخْتِلَاطه قبل التَّخْلِيَة خير المُشْتَرِي إِن لم يسمح لَهُ بِهِ البَائِع فَإِن بَادر البَائِع وسمح سقط خِيَاره
أما إِذا وَقع الِاخْتِلَاط بعد التَّخْلِيَة فَلَا يُخَيّر المُشْتَرِي بل إِن توافقا على قدر فَذَاك وَإِلَّا صدق صَاحب الْيَد بِيَمِينِهِ فِي قدر حق الآخر وَالْيَد بعد التَّخْلِيَة للْمُشْتَرِي
(وَلَا يجوز بيع مَا فِيهِ الرِّبَا) من المطعوم (بِجِنْسِهِ رطبا) بِفَتْح الرَّاء وَلَو فِي الْجَانِبَيْنِ كالرطب بالرطب والحصرم بالحصرم وَاللَّحم بِاللَّحْمِ أَو فِي أَحدهمَا كالرطب بِالتَّمْرِ وَاللَّحم بقديده (إِلَّا اللَّبن) وَمَا شابهه من الْمَائِعَات كالأدهان والخلول
وَاعْلَم أَن كل خلين لَا مَاء فيهمَا واتحد جنسهما اشْترط التَّمَاثُل وَإِلَّا فَلَا وكل خلين فيهمَا مَاء لَا يُبَاع أَحدهمَا بِالْآخرِ إِن كَانَا من جنس وَإِن كَانَا من جِنْسَيْنِ وَقُلْنَا المَاء العذب رِبَوِيّ وَهُوَ الْأَصَح لم يجز وَإِن كَانَ المَاء فِي أَحدهمَا وهما جِنْسَانِ كخل الْعِنَب بخل التَّمْر وخل الرطب بخل الزَّبِيب جَازَ لِأَن المَاء فِي أحد الطَّرفَيْنِ والمماثلة بَين الخلين الْمَذْكُورين غير مُعْتَبرَة
والخلول تتَّخذ غَالِبا من الْعِنَب وَالرّطب وَالزَّبِيب وَالتَّمْر وينتظم من هَذِه الخلول عشر مسَائِل
وَضَابِط ذَلِك أَن تَأْخُذ كل وَاحِد مَعَ نَفسه ثمَّ تَأْخُذهُ مَعَ مَا بعده وَلَا تَأْخُذهُ مَعَ مَا قبله لِأَنَّك قد عددته قبل هَذَا فَلَا تعده مرّة أُخْرَى الأولى بيع خل الْعِنَب بِمثلِهِ
الثَّانِيَة بيع خل الرطب بِمثلِهِ
الثَّالِثَة بيع خل الزَّبِيب بِمثلِهِ
الرَّابِعَة بيع خل التَّمْر بِمثلِهِ
الْخَامِسَة بيع خل الْعِنَب بخل الرطب
السَّادِسَة بيع خل الْعِنَب بخل الزَّبِيب
السَّابِعَة بيع خل الْعِنَب بخل التَّمْر
الثَّامِنَة بيع خل الرطب بخل الزَّبِيب التَّاسِعَة بيع خل الرطب بخل التَّمْر
الْعَاشِرَة بيع خل الزَّبِيب بخل التَّمْر
فَفِي خَمْسَة مِنْهَا يجْزم بِالْجَوَازِ وَفِي خَمْسَة بِالْمَنْعِ
فالخمسة الأولى خل عِنَب بخل عِنَب خل رطب بخل رطب خل رطب بخل عِنَب خل تمر بخل عِنَب خل زبيب بخل رطب والخمسة الثَّانِيَة خل عِنَب بخل زبيب خل رطب بخل تمر خل زبيب بخل زبيب خل تمر بخل تمر خل زبيب بخل تمر
وَيسْتَثْنى الزَّيْتُون أَيْضا فَإِنَّهُ يُبَاع بعضه بِبَعْض إِذْ لَا يجفف وجعلوه حَالَة كَمَال وَكَذَا الْعَرَايَا وَهُوَ بيع الرطب على النّخل خرصا بِتَمْر فِي الأَرْض كَيْلا أَو الْعِنَب على الشّجر خرصا بزبيب فِي الأَرْض كَيْلا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق تحديدا بِتَقْدِير الْجَفَاف بِمثلِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرخص فِي بيع الْعَرَايَا بِخرْصِهَا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق أَو فِي خَمْسَة أوسق شكّ دَاوُد بن حُصَيْن أحد رُوَاته فَأخذ الشَّافِعِي بِالْأَقَلِّ فِي أظهر قوليه
وَلَو زَاد على مَا دونهَا فِي صفقتين جَازَ وَيشْتَرط التَّقَابُض بِتَسْلِيم التَّمْر أَو الزَّبِيب إِلَى البَائِع كَيْلا والتخلية فِي رطب النّخل وعنب الْكَرم لِأَنَّهُ مطعوم بمطعوم
وَلَا يجوز بيع مثل الْعَرَايَا فِي بَاقِي الثِّمَار كالخوخ واللوز لِأَنَّهَا مبتورة بالأوراق فَلَا يَتَأَتَّى الْخرص فِيهَا وَلَا يخْتَص بيع الْعَرَايَا بالفقراء لإِطْلَاق أَحَادِيث الرُّخْصَة(2/290)
فصل فِي السّلم وَيُقَال لَهُ السّلف
يُقَال أسلم وَسلم وأسلف وَسلف وَالسّلم لُغَة أهل الْحجاز وَالسَّلَف لُغَة أهل الْعرَاق قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
سمي سلما لتسليم رَأس المَال فِي الْمجْلس وسلفا لتقديم رَأس المَال
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين} الْآيَة
قَالَ ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا نزلت فِي السّلم وَخبر الصَّحِيحَيْنِ من أسلف فِي شَيْء فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم وَتقدم تَعْرِيف السّلم فِي كَلَام المُصَنّف أول الْبيُوع
(وَيصِح السّلم حَالا ومؤجلا) بِأَن يُصَرح بهما أما الْمُؤَجل فبالنص وَالْإِجْمَاع وَأما الْحَال فبالأولى لبعده عَن الْغرَر
فَإِن قيل الْكِتَابَة لَا تصح بِالْحَال وَتَصِح بالمؤجل أُجِيب بِأَن الْأَجَل فِيهَا إِنَّمَا وَجب لعدم قدرَة الرَّقِيق والحلول يُنَافِي ذَلِك
وَيشْتَرط تَسْلِيم رَأس المَال فِي مجْلِس العقد قبل لزمَه فَلَو تفَرقا قبل قبض رَأس المَال أَو ألزمهُ بَطل العقد أَو قبل تَسْلِيم بعضه بَطل فِيمَا لم يقبض وَفِيمَا يُقَابله من الْمُسلم فِيهِ فَلَو أطلق كأسلمت إِلَيْك دِينَارا فِي ذِمَّتِي فِي كَذَا ثمَّ عين الدِّينَار وَسلم فِي الْمجْلس قبل التخاير جَازَ ذَلِك لِأَن الْمجْلس حَرِيم العقد وَلَو قَبضه الْمُسلم إِلَيْهِ فِي الْمجْلس وأودعه الْمُسلم قبل التَّفَرُّق جَازَ لِأَن الْوَدِيعَة لَا تستدعي لُزُوم الْملك
وَكَذَا يجوز رده إِلَيْهِ عَن دينه كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام أصل الرَّوْضَة فِي بَاب الرِّبَا وَيجوز كَون رَأس المَال مَنْفَعَة
وبقبض الْعين ورؤية رَأس المَال تَكْفِي عَن معرفَة قدره
وَلَا يسلم إِلَّا (فِيمَا تَكَامل) أَي اجْتمع (فِيهِ خمس شَرَائِط) الأول القَوْل فِي شُرُوط الْمُسلم فِيهِ وَهُوَ الْمُسلم فِي السّلم (أَن يكون) الْمُسلم فِيهِ (مضبوطا بِالصّفةِ) الَّتِي لَا يعز وجودهَا كالحبوب والأدهان وَالثِّمَار وَالثيَاب وَالدَّوَاب والأرقاء والأصواف والأخشاب والأحجار وَالْحَدِيد والرصاص وَنَحْو ذَلِك من الْأَمْوَال الَّتِي تضبط بِالصِّفَاتِ فَمَا لَا يضْبط بهَا كالنبل لَا يَصح السّلم فِيهِ وَكَذَا مَا يعز وجوده كاللآلىء الْكِبَار واليواقيت وَسَائِر الْجَوَاهِر وَالْجَارِيَة وَأُخْتهَا أَو وَلَدهَا(2/291)
(و) الثَّانِي (أَن يكون) الْمُسلم فِيهِ (جِنْسا) وَاحِدًا (لم يخْتَلط بِهِ) جنس (غَيره) اختلاطا لَا يَنْضَبِط بِهِ مَقْصُوده كالمختلط الْمَقْصُود الْأَركان الَّتِي لَا تنضبط كهريسة ومعجون وغالية وخف مركب لاشْتِمَاله على ظهارة وبطانة فَإِن كَانَ الْخُف مُفردا صَحَّ السّلم فِيهِ إِن كَانَ جَدِيدا وَاتخذ من غير جلد وَإِلَّا امْتنع وَلَا يَصح فِي الترياق الْمَخْلُوط فَإِن كَانَ مُنْفَردا جَازَ السّلم فِيهِ
وَلَا يَصح فِي رُؤُوس الْحَيَوَان لِأَنَّهَا تجمع أجناسا مَقْصُودَة وَلَا تنضبط بِالْوَصْفِ
(وَلم تدخله النَّار لإحالته) أَي فَيصير غير منضبط
فَلَا يَصح السّلم فِي خبز ومطبوخ ومشوي لاخْتِلَاف الْغَرَض باخْتلَاف تَأْثِير النَّار فِيهِ وَتعذر الضَّبْط بِخِلَاف مَا يَنْضَبِط تَأْثِير ناره كالعسل الْمُصَفّى بهَا وَالسكر والفانيد والدبس واللبأ فَيصح السّلم فِيهَا كَمَا مَال إِلَى تَرْجِيحه النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَقيل لَا يَصح كَمَا فِي الرِّبَا
وَفرق بِضيق بَاب الرِّبَا وَلَا يَصح فِي مُخْتَلف أجزاؤه كَقدْر وكوز وقمقم ومنارة ودست معمولة لتعذر ضَبطهَا
وَخرج بمعمولة المصبوبة فِي قالب فَيصح السّلم فِيهَا وَلَا يَصح فِي الْجلد لاخْتِلَاف الْأَجْزَاء فِي الرقة والغلظ وَيصِح فِي أسطال مربعة أَو مُدَوَّرَة
وَيصِح فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير بِغَيْرِهِمَا لَا بمثلهما وَلَا فِي أَحدهمَا بِالْآخرِ حَالا كَانَ أَو مُؤَجّلا
وَشرط فِي السّلم فِي الرَّقِيق ذكر نَوعه كتركي فَإِن اخْتلف صنف النَّوْع كرومي وَجب ذكره وَذكر لَونه إِن اخْتلف كأبيض مَعَ وَصفه كَأَن يصف بياضه بسمرة وَذكر سنه كَابْن خمس سِنِين وَذكر قده طولا أَو غَيره تَقْرِيبًا فِي الْوَصْف وَالسّن وَالْقد حَتَّى لَو شَرط كَونه ابْن سبع سِنِين مثلا بِلَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان لم يجز لندرته ويعتمد قَول الرَّقِيق فِي الِاحْتِلَام وَفِي السن إِن كَانَ بَالغا وَإِلَّا فَقَوْل سَيّده إِن ولد فِي الْإِسْلَام وَإِلَّا فَقَوْل النخاسين أَي الدلالين بظنونهم
وَذكر ذكورته أَو أنوثته وَشرط فِي مَاشِيَة من بقر وإبل وَغَيرهمَا مَا ذكر فِي الرَّقِيق إِلَّا ذكر وصف اللَّوْن وَالْقد فَلَا يشْتَرط ذكرهمَا
وَشرط فِي طير وسمك نوع وجثة وَفِي لحم غير صيد وطير نوع كلحم بقر
وَذكر خصي رَضِيع معلوف جذع أَو ضدها من فَخذ أَو غَيرهَا ككتف وَيقبل عظم اللَّحْم مُعْتَاد وَشرط فِي ثوب أَن يذكر جنسه كقطن ونوعه وبلده الَّذِي ينسج فِيهِ إِن اخْتلف بِهِ الْغَرَض وَطوله وَعرضه وَكَذَا غلظه وصفاقته ونعومته أَو ضدها
وَمُطلق الثَّوْب يحمل على الخام
وَيصِح السّلم فِي الْمَقْصُور وَفِي مصبوغ قبل نسجه وَشرط فِي تمر أَو زبيب أَو حب كبر أَن يذكر نَوعه كبرني ولونه كأحمر وبلده كمدني وجرمه كبرا وصغرا وعتقه أَو حداثته وَشرط فِي عسل نحل مَكَانَهُ كجلبي وزمانه كصيفي ولونه كأبيض
(و) الثَّالِث (وَأَن لَا يكون) الْمُسلم فِيهِ (معينا) بل يشْتَرط أَن يكون دينا لِأَن لفظ السّلم مَوْضُوع لَهُ فَلَو أسلم فِي معِين كَأَن قَالَ أسلمت إِلَيْك هَذَا الثَّوْب فِي هَذَا العَبْد فَقيل لم ينْعَقد سلما لانْتِفَاء الدِّينِيَّة وَلَا بيعا لاخْتِلَاف اللَّفْظ(2/292)
(و) الرَّابِع (أَن لَا يكون) الْمُسلم فِيهِ (من) مَوضِع (معِين) لَا يُؤمن ان فِيهِ فَلَو أسلم فِي تمر قَرْيَة صَغِيرَة أَو بُسْتَان أَو ضَيْعَة أَي فِي قدر مَعْلُوم مِنْهُ لم يَصح لِأَنَّهُ قد يَنْقَطِع بجائحة وَنَحْوهَا وَظَاهر كَلَامهم أَنه لَا فرق فِي ذَلِك بَين السّلم الْحَال والمؤجل وَهُوَ كَذَلِك
أما إِذا أسلم فِي تمر نَاحيَة أَو قَرْيَة عَظِيمَة صَحَّ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِع غَالِبا
(و) الْخَامِس (أَن يكون) الْمُسلم فِيهِ (مِمَّا يَصح بَيْعه) لِأَنَّهُ بيع شَيْء مَوْصُوف فِي الذِّمَّة
وَيشْتَرط فِيهِ لفظ السّلم
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلَيْسَ لنا عقد يخْتَص بِصِيغَة إِلَّا هَذَا وَالنِّكَاح وَيُؤْخَذ من كَون السّلم بيعا أَنه لَا يَصح أَن يسلم الْكَافِر فِي الرَّقِيق الْمُسلم وَهُوَ الْأَصَح كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَمثل الرَّقِيق الْمُسلم الرَّقِيق الْمُرْتَد
شُرُوط لصِحَّة عقد الْمُسلم فِيهِ (ثمَّ لصِحَّة) عقد (الْمُسلم فِيهِ) حِينَئِذٍ (ثَمَانِيَة شَرَائِط) الأول (أَن يصفه بعد ذكر جنسه ونوعه بِالصِّفَاتِ الَّتِي يخْتَلف بهَا الْغَرَض) اخْتِلَافا ظَاهرا وينضبط بهَا الْمُسلم فِيهِ وَلَيْسَ الأَصْل عدمهَا لتقريبه من المعاينة
وَخرج بالقيد الأول مَا يتَسَامَح بإهمال ذكره كالكحل وَالسمن فِي الرَّقِيق وَبِالثَّانِي مَا لَا يَنْضَبِط كَمَا مر وبالثالث كَون الرَّقِيق قَوِيا على الْعَمَل أَو ضَعِيفا أَو كَاتبا أَو أُمِّيا أَو نَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ وصف يخْتَلف بِهِ الْغَرَض اخْتِلَافا ظَاهرا مَعَ أَنه لَا يجب التَّعَرُّض لَهُ لِأَن الأَصْل عَدمه
(و) الثَّانِي (أَن يذكر قدره) أَي الْمُسلم فِيهِ (بِمَا يَنْفِي الْجَهَالَة عَنهُ) من كيل فِيمَا يُكَال أَو وزن فِيمَا يُوزن للْحَدِيث الْمشَار
إِلَيْهِ أول الْبَاب أَو عد فِيمَا يعد أَو ذرع فِيمَا يذرع قِيَاسا على مَا قبلهمَا
وَيصِح سلم الْمكيل وزنا وَالْمَوْزُون الَّذِي يتأنى كَيْله كَيْلا وَحمل الإِمَام إِطْلَاق الْأَصْحَاب جَوَاز كيل الْمَوْزُون على مَا يعد الْكَيْل فِي مثله ضابطا فِيهِ فَلَا يَصح أَن يسلم
فِي قتاب الْمسك وَنَحْوه كَيْلا
وَقيل يَصح كاللآلىء الصغار
وَفرق بِكَثْرَة التَّفَاوُت فِي الْمسك وَنَحْوه بالثقل على الْمحل وتراكمه بِخِلَاف اللُّؤْلُؤ لَا يحصل بذلك تفَاوت كالقمح والفول
وَاسْتثنى الْجِرْجَانِيّ وَغَيره النَّقْدَيْنِ أَيْضا فَلَا يَصح فيهمَا إِلَّا بِالْوَزْنِ وَيشْتَرط الْوَزْن فِي الْبِطِّيخ والقثاء والباذنجان
وَمَا أشبه ذَلِك مِمَّا لَا يضبطه الْكَيْل لتجافيه فِي الْمِكْيَال كقصب السكر والبقول وَلَا يَكْفِي(2/293)
فِيهَا الْعد لِكَثْرَة التَّفَاوُت فِيهَا وَالْجمع فِيهَا بَين الْعد وَالْوَزْن مُفسد لِأَنَّهُ يحْتَاج مَعَه إِلَى ذكر الجرم فيورث عزة الْوُجُود
وَيصِح فِي اللوز والجوز وَإِن لم يقل اختلافه وزنا وَكَذَا كَيْلا قِيَاسا على الْحُبُوب وَالتَّمْر وَلَو عين كَيْلا فسد السّلم وَلَو كَانَ حَالا إِن لم يكن ذَلِك الْكَيْل مُعْتَادا ككوز لَا يعرف قدر مَا يسع
فَإِن كَانَ الْكَيْل مُعْتَادا بِأَن عرف قدر مَا يسع وَلم يفْسد السّلم وَيَلْغُو تَعْيِينه كَسَائِر الشُّرُوط الَّتِي لَا غَرَض فِيهَا
(و) الثَّالِث (إِن كَانَ) السّلم (مُؤَجّلا ذكر وَقت مَحَله) بِكَسْر الْمُهْملَة أَي وَقت حُلُول الْأَجَل فَيجب أَن يذكر الْعَاقِد أَََجَلًا مَعْلُوما وَالْأَجَل الْمَعْلُوم مَا يعرفهُ النَّاس كشهور الْعَرَب أَو الْفرس أَو الرّوم لِأَنَّهَا مَعْلُومَة مضبوطة
وَيصِح التَّأْقِيت بالنيروز وَهُوَ نزُول الشَّمْس برج الْمِيزَان وبعيد الْكفَّار إِن عرفه الْمُسلمُونَ وَلَو عَدْلَيْنِ مِنْهُم أَو المتعاقدان فَإِن أطلق الشَّهْر حمل على الْهلَال وَهُوَ مَا بَين الهلالين لِأَنَّهُ عرف الشَّرْع ذَلِك بِأَن يَقع العقد أول الشَّهْر فَإِن انْكَسَرَ شهر بِأَن وَقع العقد فِي أَثْنَائِهِ والتأجيل بِالْأَشْهرِ حسب الْبَاقِي بعد الأول المنكسر بِالْأَهِلَّةِ
وتمم الأول ثَلَاثِينَ مِمَّا بعْدهَا
نعم إِن وَقع العقد فِي الْيَوْم الْأَخير من الشَّهْر اكْتفى بِالْأَشْهرِ بعده بأهلة تَامَّة كَانَت أَو نَاقِصَة وَالسّنة الْمُطلقَة تحمل على الْهِلَالِيَّة دون غَيرهَا لِأَنَّهَا عرف الشَّرْع قَالَ تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج} وَلَو قَالَا إِلَى يَوْم كَذَا أَو شهر كَذَا أَو سنة كَذَا حل بِأول جُزْء مِنْهُ وَلَو قَالَ فِي يَوْم كَذَا أَو شهر كَذَا أَو سنة كَذَا لم يَصح على الْأَصَح أَو قَالَا إِلَى أول شهر كَذَا أَو آخِره صَحَّ وَحمل على الْجُزْء الأول كَمَا قَالَه الْبَغَوِيّ وَغَيره
وَيصِح التَّأْجِيل بالعيد وجمادى وربيع وَنَفر الْحَج وَيحمل على الأول من ذَلِك لتحقيق الِاسْم
نعم لَو قَالَ بعد عيد الْفطر إِلَى الْعِيد حمل على الْأَضْحَى لِأَنَّهُ الَّذِي يَلِي العقد قَالَه ابْن الرّفْعَة
(و) الرَّابِع (أَن يكون) الْمُسلم فِيهِ (مَوْجُودا عِنْد الِاسْتِحْقَاق) أَي عِنْد وجوب التَّسْلِيم لِأَن المعجوز عَن تَسْلِيمه يمْتَنع بَيْعه فَيمْتَنع السّلم فِيهِ فَإِذا أسلم فِي مُنْقَطع عِنْد الْحُلُول كالرطب فِي زمن الشتَاء لم يَصح وَكَذَا لَو أسلم مُسلم كَافِرًا فِي عبد مُسلم
نعم إِن كَانَ فِي يَد الْكَافِر وَكَانَ السّلم حَالا صَحَّ وَلَو ظن تَحْصِيل الْمُسلم فِيهِ بِمَشَقَّة عَظِيمَة كَقدْر كثير من الباكورة(2/294)
وَهِي أول الْفَاكِهَة لم يَصح فَإِن كَانَ الْمُسلم فِيهِ يُوجد بِبَلَد آخر صَحَّ السّلم فِيهِ إِن اعْتقد نَقله غَالِبا مِنْهُ للْبيع وَنَحْوه من الْمُعَامَلَات وَإِن بَعدت الْمسَافَة للقدرة عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا يَصح السّلم فِيهِ لعدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ
وَلَو أسلم فِيمَا يعم وجوده فَانْقَطع وَقت حُلُوله لم يَنْفَسِخ لِأَن الْمُسلم فِيهِ يتَعَلَّق بِالذِّمةِ فَأشبه إفلاس المُشْتَرِي بِالثّمن فَيتَخَيَّر الْمُسلم بَين فَسخه وَالصَّبْر حَتَّى يُوجد فَيُطَالب بِهِ دفعا للضَّرَر وَلَو علم قبل الْمحل انْقِطَاعه عِنْده فَلَا خِيَار قبله لِأَنَّهُ لم يدْخل وَقت وجوب التسلم
وَالْخَامِس أَن يكون وجوده (فِي الْغَالِب) من الْأَزْمَان فَلَا يَصح فِيمَا ينْدر وجوده كلحم الصَّيْد بِمحل يعز وجوده فِيهِ لانْتِفَاء الوثوق بِتَسْلِيمِهِ
نعم لَو كَانَ السّلم حَالا وَكَانَ الْمُسلم فِيهِ مَوْجُودا عِنْد الْمُسلم إِلَيْهِ بِموضع ينْدر فِيهِ صَحَّ كَمَا فِي الِاسْتِقْصَاء وَلَا فِيمَا لَو استقصى وَصفه عز وجوده كاللآلىء الْكِبَار واليواقيت وَجَارِيَة وَأُخْتهَا أَو خَالَتهَا أَو عَمَّتهَا أَو وَلَدهَا أَو شَاة وسخلتها فَإِن اجْتِمَاع ذَلِك بِالصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَة فِيهَا نَادِر
(و) السَّادِس (أَن يذكر) فِي السّلم الْمُؤَجل (مَوضِع قَبضه) إِذا عقا بِموضع لَا يصلح للتسليم كالبادية أَو يصلح ولحمل الْمُسلم فِيهِ مُؤنَة لتَفَاوت الْأَغْرَاض فِيمَا يُرَاد من الْأَمْكِنَة
أما إِذا صلح للتسليم وَلم يكن لحمله مُؤنَة فَلَا يشْتَرط مَا ذكر وَيتَعَيَّن مَكَان العقد للتسليم للْعُرْف وَيَكْفِي فِي تَعْيِينه أَن يَقُول تسلم لي فِي بَلْدَة كَذَا إِلَّا أَن تكون كَبِيرَة كبغداد وَالْبَصْرَة فَيَكْفِي إِحْضَاره فِي أَولهَا
وَلَا يُكَلف إِحْضَاره إِلَى منزل
وَلَو قَالَ فِي أَي الْبِلَاد شِئْت فسد
أَو فِي أَي مَكَان شِئْت من بلد كَذَا
فَإِن اتَّسع لم يجز وَإِلَّا جَازَ أَو بِبَلَد كَذَا وبلد كَذَا فَهَل يفْسد أَو يَصح وَينزل على تَسْلِيم النّصْف بِكُل بلد وَجْهَان أصَحهمَا كَمَا قَالَ الشَّاشِي الأول
قَالَ فِي الْمطلب وَالْفرق بَين تَسْلِيمه فِي بلد كَذَا حَيْثُ صَحَّ وتسليمه فِي شهر كَذَا حَيْثُ لَا يَصح اخْتِلَاف الْغَرَض فِي الزَّمَان دون الْمَكَان فَلَو عين مَكَانا فخرب وَخرج عَن صَلَاحِية التَّسْلِيم تعين أقرب مَوضِع صَالح لَهُ على الأقيس فِي الرَّوْضَة من ثَلَاثَة أوجه أما السّلم الْحَال فَيتَعَيَّن فِيهِ مَوضِع العقد للتسليم
نعم إِن كَانَ غير صَالح للتسليم اشْترط الْبَيَان كَمَا قَالَه ابْن الرّفْعَة فَإِن عينا غَيره تعين بِخِلَاف الْمَبِيع الْمعِين لِأَن السّلم يقبل التَّأْجِيل فَقبل شرطا يتَضَمَّن تَأْخِير التَّسْلِيم بِخِلَاف الْمَبِيع وَالْمرَاد بِموضع العقد تِلْكَ الْمحلة لَا نفس مَوضِع العقد
(و) السَّابِع (أَن يتقابضا) أَي الْمُسلم وَالْمُسلم إِلَيْهِ بِنَفسِهِ أَو نَائِبه رَأس مَال السّلم وَهُوَ الثّمن فِي مجْلِس العقد قبضا حَقِيقِيًّا (قبل التَّفَرُّق) أَو التخاير لِأَن اللُّزُوم كالتفريق كَمَا مر فِي بَاب الْخِيَار إِذْ لَو تَأَخّر لَكَانَ فِي معنى بيع الدّين بِالدّينِ إِن كَانَ(2/295)
رَأس المَال فِي الذِّمَّة وَلِأَن فِي السّلم غررا فَلَا يضم إِلَيْهِ غرر تَأْخِير رَأس المَال وَلَا بُد من حُلُول رَأس المَال كالصرف فَلَو تفَرقا قبله أَو ألزماه بَطل العقد أَو قبل تَسْلِيم بعضه بَطل فِيمَا لم يقبض وَفِيمَا يُقَابله من الْمُسلم فِيهِ وَصَحَّ فِي الْبَاقِي بِقسْطِهِ وَخرج بِقَيْد الْحَقِيقِيّ مَا لَو أحَال الْمُسلم الْمُسلم إِلَيْهِ بِرَأْس المَال وَقَبضه الْمُسلم إِلَيْهِ فِي الْمجْلس فَلَا يَصح ذَلِك سَوَاء أذن فِي قَبضه الْمُحِيل أم لَا لِأَن الْحِوَالَة لَيست قبضا حَقِيقِيًّا فَإِن الْمحَال عَلَيْهِ يُؤَدِّي عَن جِهَة نَفسه لَا عَن جِهَة الْمُسلم
نعم إِن قَبضه الْمُسلم من الْمحَال عَلَيْهِ أَو من الْمُسلم إِلَيْهِ بعد قَبضه بِإِذْنِهِ وَسلم إِلَيْهِ فِي الْمجْلس صَحَّ
وَلَا يشْتَرط تعْيين رَأس المَال فِي العقد بل الصَّحِيح جَوَازه فِي الذِّمَّة فَلَو قَالَ أسلمت إِلَيْك دِينَارا فِي ذِمَّتِي فِي كَذَا ثمَّ عين الدِّينَار فِي الْمجْلس قبل التخاير جَازَ ذَلِك لِأَن الْمجْلس حَرِيم العقد فَلهُ حكمه فَإِن تفَرقا أَو تخايرا قبله بَطل العقد
(و) الثَّامِن (أَن يكون العقد ناجزا لَا يدْخلهُ خِيَار الشَّرْط) لَهما وَلَا لأَحَدهمَا لِأَنَّهُ لَا يحْتَمل التَّأْجِيل وَالْخيَار أعظم غررا مِنْهُ لِأَنَّهُ مَانع من الْملك أَو من لُزُومه وَاحْترز بِقَيْد الشَّرْط عَن خِيَار الْمجْلس فَإِنَّهُ يثبت فِيهِ لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا وَالسّلم بيع مَوْصُوف فِي الذِّمَّة كَمَا مر
تَتِمَّة لَو أحضر الْمُسلم إِلَيْهِ الْمُسلم فِيهِ الْمُؤَجل قبل وَقت حُلُوله فَامْتنعَ الْمُسلم من قبُوله لغَرَض صَحِيح بِأَن كَانَ حَيَوَانا يحْتَاج لمؤونة لَهَا وَقع أَو وَقت إغارة أَو كَانَ ثمرا أَو لَحْمًا يُرِيد أكله عِنْد الْمحل طريا أَو كَانَ مِمَّا يحْتَاج إِلَى مَكَان لَهُ مؤونة كالحنطة الْكَثِيرَة لم يجْبر على قبُوله فَإِن لم يكن للْمُسلمِ غَرَض صَحِيح فِي الِامْتِنَاع أجبر على قبُوله سَوَاء أَكَانَ للمؤدي غَرَض صَحِيح فِي التَّعْجِيل كفك رهن أَو ضَمَان أَو مُجَرّد بَرَاءَة ذمَّته أم لَا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الرَّوْض لِأَن عدم قبُوله لَهُ تعنت فَإِن أصر على عدم قبُوله أَخذه الْحَاكِم لَهُ وَلَو أحضر الْمُسلم فِيهِ الْحَال فِي مَكَان التَّسْلِيم لغَرَض غير الْبَرَاءَة أجبر الْمُسلم على قبُوله أَو لفرضها أجبر على الْقبُول أَو الْإِبْرَاء
وَلَو ظفر الْمُسلم بِالْمُسلمِ إِلَيْهِ بعد الْمحل فِي غير مَحل التَّسْلِيم وطالبه بِالْمُسلمِ فِيهِ ولنقله مُؤنَة وَلم يتحملها الْمُسلم عَن الْمُسلم إِلَيْهِ لم يلْزمه الْأَدَاء وَلَا يُطَالِبهُ بِقِيمَتِه وَإِن امْتنع الْمُسلم
من قبُوله فِي غير مَحل التَّسْلِيم لغَرَض صَحِيح لم يجْبر على قبُوله لتضرره بذلك فَإِن لم يكن لَهُ غَرَض صَحِيح أجبر على قبُوله إِن كَانَ للمؤدي غَرَض صَحِيح كتحصيل بَرَاءَة الذِّمَّة وَلَو أنْفق كَون رَأس مَال السّلم بِصفة الْمُسلم فِيهِ فَأحْضرهُ الْمُسلم إِلَيْهِ وَجب قبُوله(2/296)
فصل فِي الرَّهْن
وَهُوَ لُغَة الثُّبُوت وَمِنْه الْحَالة الراهنة
وَشرعا جعل عين مَالِيَّة وَثِيقَة بدين يسْتَوْفى مِنْهَا عِنْد تعذر وفائه
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {فرهان مَقْبُوضَة} قَالَ القَاضِي مَعْنَاهُ فارهنوا واقبضوا لِأَنَّهُ مصدر جعل جَزَاء للشّرط بِالْفَاءِ فَجرى مجْرى الْأَمر كَقَوْلِه تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} وَخبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رهن درعه عِنْد يَهُودِيّ يُقَال لَهُ أَبُو الشَّحْم على ثَلَاثِينَ صَاعا من شعير لأَهله
والوثائق بالحقوق ثَلَاثَة شَهَادَة وَرهن وَضَمان فالشهادة لخوف الْجحْد والآخران لخوف الإفلاس
أَرْكَان الرَّهْن وأركانه أَرْبَعَة مَرْهُون ومرهون بِهِ وَصِيغَة وعاقدان وَقد بَدَأَ بِذكر الرُّكْن الأول وَهُوَ الْمَرْهُون فَقَالَ (وكل مَا جَازَ بَيْعه) من الْأَعْيَان (جَازَ رَهنه) فَلَا يَصح رهن دين وَلَو مِمَّن هُوَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غير مَقْدُور على تَسْلِيمه وَلَا رهن مَنْفَعَة كَأَن يرْهن سُكْنى دَاره مُدَّة لِأَن الْمَنْفَعَة تتْلف فَلَا يحصل بهَا استيثاق وَلَا رهن عين لَا يَصح بيعهَا كوقف ومكاتب وَأم ولد
وَيصِح رهن الْمشَاع من الشَّرِيك وَغَيره وَيقبض بِتَسْلِيم كُله كَمَا فِي البيع فَيكون بِالتَّخْلِيَةِ فِي غير الْمَنْقُول وبالنقل فِي الْمَنْقُول وَلَا يجوز نَقله بِغَيْر إِذن الشَّرِيك فَإِن أَبى الْإِذْن فَإِن رَضِي الْمُرْتَهن بِكَوْنِهِ فِي يَد الشَّرِيك جَازَ وناب عَنهُ فِي الْقَبْض وَإِن تنَازعا نصب الْحَاكِم عدلا يكون فِي يَده لَهما ويستثني من مَنْطُوق كَلَام المُصَنّف صُورَتَانِ لَا يَصح رهنهما وَيصِح بيعهمَا الأولى الْمُدبر رَهنه بَاطِل وَإِن جَازَ بَيْعه لما فِيهِ من الْغرَر لِأَن السَّيِّد قد يَمُوت فَجْأَة فَيبْطل مَقْصُود الرَّهْن
الثَّانِيَة الأَرْض المزروعة يجوز بيعهَا وَلَا يجوز رَهنهَا
وَمن مَفْهُومه صُورَة يَصح رَهنهَا وَلَا يَصح بيعهَا الْأمة الَّتِي لَهَا ولد غير مُمَيّز لَا يجوز إِفْرَاد أَحدهمَا بِالْبيعِ وَيجوز بِالرَّهْنِ وَعند الْحَاجة يباعان وَيقوم الْمَرْهُون مِنْهُمَا مَوْصُوفا بِكَوْنِهِ حاضنا أَو محضونا ثمَّ يقوم مَعَ الآخر فالزائد على قِيمَته قيمَة الآخر ويوزع الثّمن عَلَيْهِمَا بِتِلْكَ النِّسْبَة فَإِذا كَانَت قيمَة الْمَرْهُون مائَة وَقِيمَته مَعَ الآخر مائَة وَخمسين فالنسبة بالأثلاث فَيتَعَلَّق حق الْمُرْتَهن بِثُلثي الثّمن
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الْمَرْهُون بِهِ فَقَالَ (فِي الدُّيُون) أَي وَشرط الْمَرْهُون بِهِ كَونه دينا فَلَا يَصح بِالْعينِ الْمَضْمُونَة كالمغصوبة والمستعارة وَلَا بِغَيْر الْمَضْمُونَة كَمَال الْقَرَاض وَالْمُودع لِأَنَّهُ تَعَالَى ذكر الرَّهْن فِي المداينة فَلَا يثبت فِي غَيرهَا وَلِأَنَّهَا لَا تستوفى من ثمن الْمَرْهُون وَذَلِكَ مُخَالف لغَرَض الرَّهْن عِنْد البيع(2/297)
تَنْبِيه يُؤْخَذ من ذَلِك مَسْأَلَة كَثْرَة الْوُقُوع وَهِي أَن الْوَاقِف يقف كتبا ويشرط أَن لَا يخرج مِنْهَا كتاب من مَكَان يحبسها فِيهِ إِلَّا برهن وَذَلِكَ لَا يَصح كَمَا صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَإِن أفتى الْقفال بِخِلَافِهِ وَضعف بَعضهم مَا أفتى بِهِ الْقفال بِأَن الرَّاهِن أحد الْمُسْتَحقّين والراهن لَا يكون مُسْتَحقّا إِذْ الْمَقْصُود بِالرَّهْنِ الْوَفَاء من ثمن الْمَرْهُون عِنْد التّلف وَهَذَا الْمَوْقُوف لَو تلف بِغَيْر تعد وَلَا تَفْرِيط لم يضمن وعَلى إِلْغَاء الشَّرْط لَا يجوز إِخْرَاجه برهن وَلَا بِغَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يخرج مُطلقًا
نعم إِن تعذر الِانْتِفَاع بِهِ فِي الْحل الْمَوْقُوف فِيهِ ووثق بِمن ينْتَفع بِهِ فِي غير ذَلِك الْمحل أَن يردهُ إِلَى مَحَله بعد قَضَاء حَاجته جَازَ إِخْرَاجه كَمَا أفتى بِهِ بعض الْمُتَأَخِّرين
وَيشْتَرط فِي الدّين الَّذِي يرْهن بِهِ ثَلَاثَة شُرُوط الأول كَونه ثَابتا فَلَا يَصح بِغَيْرِهِ كَنَفَقَة زَوجته فِي الْغَد لِأَن الرَّهْن وَثِيقَة حق فَلَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ
وَالثَّانِي كَونه مَعْلُوما للعاقدين فَلَو جهلاه أَو أَحدهمَا لم يَصح
وَالثَّالِث كَونه لَازِما أَو آيلا إِلَى اللُّزُوم فَلَا يَصح فِي غير ذَلِك كَمَال الْكِتَابَة وَلَا بِجعْل الْجعَالَة قبل الْفَرَاغ من الْعَمَل وَيجوز الرَّهْن بِالثّمن فِي مُدَّة الْخِيَار لِأَنَّهُ آيل إِلَى اللُّزُوم وَالْأَصْل فِي وَضعه اللُّزُوم بِخِلَاف مَال الْكِتَابَة وَجعل الْجعَالَة وَظَاهر أَن الْكَلَام حَيْثُ قُلْنَا ملك المُشْتَرِي الْمَبِيع ليملك البَائِع الثّمن كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الإِمَام وَلَا حَاجَة لقَوْل المُصَنّف (إِذا اسْتَقر ثُبُوتهَا) أَي الدُّيُون (فِي الذِّمَّة) بل هُوَ مُضر إِذْ لَا فرق بَين كَونه مُسْتَقرًّا كَثمن الْمَبِيع الْمَقْبُوض وَدين الْمُسلم وَأرش الْجِنَايَة أَو غير مُسْتَقر كالأجرة قبل اسْتِيفَاء الْمَنْفَعَة
وَسكت المُصَنّف عَن الرُّكْنَيْنِ الْأَخيرينِ
أما الصِّيغَة فَيشْتَرط فِيهَا مَا مر فِيهَا فِي البيع فَإِن شَرط فِي الرَّهْن مُقْتَضَاهُ كتقدم الْمُرْتَهن بالمرهون عِنْد تزاحم الْغُرَمَاء أَو شَرط فِيهِ مصلحَة لَهُ كإشهاد بِهِ أَو مَا لَا غَرَض فِيهِ كَأَن يَأْكُل العَبْد الْمَرْهُون كَذَا صَحَّ العقد ولغا الشَّرْط الْأَخير وَإِن شَرط مَا يضر الْمُرْتَهن أَو الرَّاهِن كَأَن لَا يُبَاع عِنْد الْمحل أَو أَن منفعَته للْمُرْتَهن أَو أَن تحدث زوائده مَرْهُونَة لم يَصح الرَّهْن فِي الثَّلَاث لإخلال الشَّرْط بالغرض مِنْهُ فِي الأولى ولتغير قَضِيَّة العقد فِي الثَّانِيَة ولجهالة الزَّوَائِد وَعدمهَا فِي الثَّالِثَة
وَأما العاقدان فَيشْتَرط فيهمَا أَهْلِيَّة التَّبَرُّع وَالِاخْتِيَار كَمَا فِي البيع وَنَحْوه
فَلَا يرْهن الْوَلِيّ أيا كَانَ أَو غَيره مَال الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَلَا يرتهن لَهما إِلَّا لضَرُورَة أَو غِبْطَة ظَاهِرَة فَيجوز لَهُ الرَّهْن والارتهان فيهمَا دون غَيرهمَا مثالهما للضَّرُورَة أَن يرْهن على مَا يقترض لحَاجَة الْمُؤْنَة ليوفي مِمَّا ينْتَظر من غلَّة أَو حُلُول دين أَو نَحْو ذَلِك كنفاق مَتَاع كاسد وَأَن يرتهن على مَا يقْرضهُ أَو يَبِيعهُ مُؤَجّلا لضَرُورَة نهب أَو نَحوه
ومثالهما للغبطة أَن يرْهن مَا يُسَاوِي مائَة على ثمن مَا اشْتَرَاهُ بِمِائَة نَسِيئَة وَهُوَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ وَأَن يرتهن على ثمن مَا يَبِيعهُ نَسِيئَة لغبطة
وَلَا يلْزم الرَّهْن إِلَّا بِقَبْضِهِ كَمَا مر فِي البيع بِإِذن من الرَّاهِن أَو إقباض مِنْهُ مِمَّن يَصح عقده للرَّهْن
وللعاقد إنابة غَيره فِيهِ(2/298)
كالعقد لَا إنابة مقبض من رَاهن أَو نَائِبه لِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى اتِّحَاد الْقَابِض والمقبض
(وللراهن الرُّجُوع فِيهِ) أَي الْمَرْهُون (مَا لم يقبضهُ) الْمُرْتَهن أَو نَائِبه وَيحصل الرُّجُوع قبل قَبضه بِتَصَرُّف يزِيل ملكا كَهِبَة مَقْبُوضَة لزوَال مَحل الرَّهْن وَبرهن مَقْبُوض لتَعلق حق الْغَيْر بِهِ وتقيدهما بِالْقَبْضِ هُوَ مَا جزم بِهِ الشَّيْخَانِ
وَقَضيته أَن ذَلِك بِدُونِ قبض لَا يكون رُجُوعا
لَكِن نقل السُّبْكِيّ وَغَيره عَن النَّص وَالْأَصْحَاب أَنه رُجُوع وَصَوَّبَهُ الْأَذْرَعِيّ وَهُوَ الْمُعْتَمد وَيحصل الرُّجُوع أَيْضا بِكِتَابَة وتدبير وإحبال لِأَن مقصودها الْعتْق وَهُوَ منَاف للرَّهْن وَلَا يحصل بِوَطْء وتزويج لعدم منافاتهما لَهُ وَلَا بِمَوْت عَاقد وجنونه وإغمائه وتخمر عصير وإباق رَقِيق وَلَيْسَ لراهن مقبض رهن وَلَا وَطْء وَإِن كَانَت مِمَّن لَا تحبل وَلَا تصرف يزِيل ملكا كوقف أَو ينقصهُ كتزويج فَلَا ينفذ شَيْء من هَذِه التَّصَرُّفَات إِلَّا إِعْتَاق مُوسر وإيلاده وَيغرم قِيمَته وَقت إِعْتَاقه وإحباله وَتَكون رهنا مَكَانَهُ بِغَيْر عقد لقيامها مقَامه وَالْولد الْحَاصِل من وَطْء الرَّاهِن حر نسيب وَلَا يغرم قِيمَته
وَإِذا لم ينفذ الْعتْق والإيلاد لكَونه مُعسرا فانفك الرَّهْن نفذ الإيلاد لَا الْإِعْتَاق لإن الْإِعْتَاق قَول فَإِذا رد لَغَا والإيلاد فعل لَا يُمكن رده فَإِذا زَالَ الْحق ثَبت حكمه
وللراهن انْتِفَاع بالمرهون لَا ينقصهُ كركوب وسكنى لَا بِنَاء وغراس لِأَنَّهُمَا ينقصان قيمَة الأَرْض ثمَّ إِن أمكن بِلَا اسْتِرْدَاد الْمَرْهُون انْتِفَاع يُريدهُ الرَّاهِن مِنْهُ لَهُ يسْتَردّ وَإِلَّا فيسترده كَأَن يكون دَارا يسكنهَا وَيشْهد عَلَيْهِ بالاسترداد إِن اتهمه وَله بِإِذن الْمُرْتَهن مَا منعناه مِنْهُ وَله رُجُوع عَن الْإِذْن قبل تصرف الرَّاهِن كَمَا للْمُوكل الرُّجُوع قبل تصرف الْوَكِيل فَإِن تصرف بعد رُجُوعه لَغَا تصرفه كتصرف وَكيل عَزله مُوكله
وعَلى الرَّاهِن الْمَالِك مؤونة الْمَرْهُون كَنَفَقَة رَقِيق وعلف دَابَّة وَأُجْرَة سقِِي أشجر وَلَا يمْنَع من مصلحَة الْمَرْهُون كفصد وحجامة وَهُوَ أَمَانَة بيد الْمُرْتَهن
القَوْل فِي ضَمَان الْمَرْهُون (وَلَا يضمنهُ الْمُرْتَهن) بِمثل وَلَا قيمَة إِذا تلف (إِلَّا بِالتَّعَدِّي) بالتفريط فَيضمنهُ حِينَئِذٍ لخُرُوج يَده عَن الْأَمَانَة وَلَا يسْقط بتلفه شَيْء من الدّين وَيصدق الْمُرْتَهن فِي دَعْوَى التّلف بِيَمِينِهِ وَلَا يصدق فِي الرَّد عِنْد الْأَكْثَرين وَهُوَ الْمُعْتَمد
ضَابِط كل أَمِين ادّعى الرَّد على من ائتمنه صدق بِيَمِينِهِ إِلَّا الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر
الْمَرْهُون مَحْبُوس مَا بَقِي من الدّين دِرْهَم (وَإِذا قضى) بِمَعْنى أدّى الرَّاهِن (بعض الْحق) أَي الدّين الَّذِي تعلق بِهِ الرَّهْن (لم يخرج) أَي لم يَنْفَكّ (شَيْء من الرَّهْن حَتَّى يقْضِي) أَي يُؤَدِّي (جَمِيعه) لتَعَلُّقه بِكُل جُزْء من الدّين كرقبة الْمكَاتب وينفك أَيْضا بِفَسْخ الْمُرْتَهن وَلَو بِدُونِ الرَّاهِن لِأَن الْحق لَهُ وبالبراءة من جَمِيع الدّين
وَلَو رهن نصف عبد بدين وَنصفه بآخر فِي صَفْقَة أُخْرَى فبرىء من أَحدهمَا انْفَكَّ قسطه لتَعَدد الصَّفْقَة بِتَعَدُّد العقد
وَلَو رهناه بدين فبرىء أَحدهمَا مِمَّا عَلَيْهِ انْفَكَّ نصِيبه لتَعَدد الصَّفْقَة بِتَعَدُّد الْعَاقِد
وَلَو رَهنه عِنْد اثْنَيْنِ فبرىء من دين أَحدهمَا انْفَكَّ قسطه لتَعَدد مُسْتَحقّ الدّين
فروع لَو رهن شخص آخر عَبْدَيْنِ فِي صَفْقَة وَسلم أَحدهمَا لَهُ كَانَ مَرْهُونا على جَمِيع المَال كَمَا لَو سلمهما وَتلف أَحدهمَا وَلَو مَاتَ الرَّاهِن عَن وَرَثَة ففدى أحدهم نصِيبه لم يَنْفَكّ كَمَا فِي الْمُورث وَلَو مَاتَ الْمُرْتَهن عَن وَرَثَة فوفى أَحدهمَا مَا يَخُصُّهُ من الدّين لم يَنْفَكّ نصِيبه كَمَا لَو وفى مُوَرِثه بعض دينه وَإِن خَالف فِي ذَلِك ابْن الرّفْعَة
القَوْل فِي اخْتِلَاف عاقدي الرَّهْن تَتِمَّة لَو اخْتلف الرَّاهِن وَالْمُرْتَهن فِي أصل الرَّهْن أَو فِي قدره صدق الرَّاهِن الْمَالِك بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل عدم مَا يَدعِيهِ الْمُرْتَهن هَذَا إِن كَانَ رهن تبرع أما الرَّهْن الْمَشْرُوط فِي بيع فَإِن اخْتلفَا فِي اشْتِرَاطه فِيهِ أَو اتفقَا عَلَيْهِ وَاخْتلفَا فِي شَيْء مِمَّا مر(2/299)
غير الأولى فيتحالفان فِيهِ كَسَائِر صور البيع إِذا اخْتلفَا فِيهَا وَلَو ادّعى أَنَّهُمَا رهناه عبدهما بِمِائَة وأقبضاه وَصدقه أَحدهمَا فَنصِيبه رهن بِخَمْسِينَ مُؤَاخذَة لَهُ بِإِقْرَارِهِ وَحلف المكذب لما مر وَتقبل شَهَادَة الْمُصدق عَلَيْهِ لخلوها عَن التُّهْمَة
وَلَو اخْتلفَا فِي قبض الْمَرْهُون وَهُوَ بيد رَاهن أَو مُرْتَهن وَقَالَ الرَّاهِن غصبته أَو أقبضته على جِهَة أُخْرَى كإعارة صدق بِيَمِينِهِ
وَمن عَلَيْهِ أَلفَانِ مثلا بِأَحَدِهِمَا رهن فَأدى ألفا وَقَالَ أديته عَن ألف الرَّهْن صدق بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ أعلم بِقَصْدِهِ وَكَيْفِيَّة أَدَائِهِ وَإِن لم ينْو شَيْئا جعله عَمَّا شَاءَ مِنْهُمَا
وَمن مَاتَ وَعَلِيهِ دين تعلق بِتركَتِهِ كمرهون وَلَا يمْنَع التَّعَلُّق إِرْثا فَلَا يتَعَلَّق الدّين بزوائد التَّرِكَة وللوارث إِِمْسَاكهَا بِالْأَقَلِّ من قيمتهَا وَالدّين وَلَو تصرف الْوَارِث وَلَا دين فظطرأ دين بِنَحْوِ رد مَبِيع بِعَيْب تلف ثمنه
وَلم يسْقط الدّين بأَدَاء أَو إِبْرَاء أَو نَحوه فسخ التَّصَرُّف لِأَنَّهُ كَانَ سائغا لَهُ فِي الظَّاهِر
فصل فِي الْحجر
وَهُوَ لُغَة الْمَنْع وَشرعا الْمَنْع من التَّصَرُّفَات الْمَالِيَّة
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح} الْآيَة
وَقَوله تَعَالَى {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها} الْآيَة
القَوْل فِي أَنْوَاع الْحجر (وَالْحجر) يضْرب (على) جمَاعَة الْمَذْكُورَة مِنْهَا هُنَا (سِتَّة) وَالْحجر نَوْعَانِ نوع شرع لمصْلحَة الْمَحْجُور عَلَيْهِ وَنَوع شرع لمصْلحَة الْغَيْر
فالنوع الأول الَّذِي شرع لمصْلحَة نَفسه يضْرب على ثَلَاثَة فَقَط الأول الْحجر على (الصَّبِي) أَي الصَّغِير ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى وَلَو مُمَيّزا إِلَى بُلُوغه فينفك بِلَا قَاض لِأَنَّهُ حجر ثَبت بِلَا قَاض فَلَا يتَوَقَّف زَوَاله على فك قَاض
وَعبر فِي الْمِنْهَاج ككثير بِبُلُوغِهِ رشيدا
قَالَ الشَّيْخَانِ وَلَيْسَ اخْتِلَافا حَقِيقِيًّا بل من عبر بِالثَّانِي أَرَادَ الْإِطْلَاق الْكُلِّي وَمن عبر بِالْأولِ أَرَادَ حجر الصِّبَا وَهَذَا أولى لِأَن الصِّبَا سَبَب مُسْتَقل بِالْحجرِ وَكَذَا التبذير وأحكامهما مُتَغَايِرَة
(و) الثَّانِي الْحجر على (الْمَجْنُون) إِلَى إِفَاقَته مِنْهُ فينفك بِلَا فك قَاض كَمَا مر فِي الصَّبِي
(و) الثَّالِث الْحجر على الْبَالِغ (السَّفِيه المبذر لمَاله) كَأَن يرميه فِي بَحر أَو نَحوه أَو يضيعه بِاحْتِمَال غبن فَاحش فِي مُعَاملَة أَو يصرفهُ فِي محرم لَا فِي خير كصدقة وَلَا فِي نَحْو مطاعم وملابس وَشِرَاء إِمَاء كَثِيرَة للتمتع وَإِن لم تلق بِحَالهِ لِأَن المَال يتَّخذ لينْتَفع ويلتذ بِهِ وَقَضيته أَنه لَيْسَ بِحرَام وَهُوَ كَذَلِك
نعم إِن صرفه فِي ذَلِك بطرِيق الِاقْتِرَاض لَهُ وَلم يكن لَهُ مَا يُوفيه بِهِ فَحَرَام(2/300)
(و) النَّوْع الثَّانِي الَّذِي شرع لمصْلحَة الْغَيْر يضْرب على (الْمُفلس) وَهُوَ (الَّذِي ارتكبته الدُّيُون) الْحَالة اللَّازِمَة الزَّائِدَة على مَاله إِذا كَانَت لآدَمِيّ فيحجر عَلَيْهِ وجوبا فِي مَاله إِن اسْتَقل أَو على وليه فِي مَال موليه إِن لم يسْتَقلّ بِطَلَبِهِ أَو بسؤال الْغُرَمَاء وَلَو بنوابهم كأوليائهم فَلَا حجر بالمؤجل لِأَنَّهُ لَا يُطَالب بِهِ فِي الْحَال
وَإِذا حجر بِحَال لم يحل الْمُؤَجل لِأَن الْأَجَل مَقْصُود لَهُ
فَلَا يفوت عَلَيْهِ
وَلَو جن الْمَدْيُون لم يحل دينه وَمَا وَقع فِي أصل الرَّوْضَة من تَصْحِيح الْحُلُول بِهِ نسب فِيهِ إِلَى السَّهْو وَلَا يحل إِلَّا بِالْمَوْتِ أَو الرِّدَّة الْمُتَّصِلَة بِالْمَوْتِ أَو استرقاق الْحَرْبِيّ كَمَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن النَّص وَلَا بدين غير لَازم كنجوم كِتَابَة لتمكن الْمَدْيُون من إِسْقَاطه وَلَا بدين مسَاوٍ لمَاله أَو نَاقص عَنهُ وَلَا بدين لله تَعَالَى وَإِن كَانَ فوريا كَمَا قَالَه الْإِسْنَوِيّ خلافًا لما بَحثه بعض الْمُتَأَخِّرين
وَالْمرَاد بِمَالِه مَاله الْعَيْنِيّ أَو الديني الَّذِي يَتَيَسَّر الْأَدَاء مِنْهُ بِخِلَاف الْمَنَافِع وَالْمَغْصُوب وَالْغَائِب وَنَحْوهمَا وَيُبَاع فِي الدُّيُون بعد الْحجر عَلَيْهِ مَسْكَنه وخادمه ومركوبه وَإِن احْتَاجَ إِلَى خَادِم أَو مركوب لزمانته أَو منصبه لِأَن تَحْصِيلهَا بالكراء أسهل فَإِن تعذر فعلى الْمُسلمين وَيتْرك لَهُ دست ثوب يَلِيق بِهِ وَهُوَ قَمِيص وَسَرَاويل ومنديل ومكعب وَيُزَاد فِي الشتَاء جُبَّة أَو فَرْوَة
وَلَا يجب عَلَيْهِ أَن يُؤجر نَفسه لتقية الدّين لقَوْله تَعَالَى {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة} وَإِذا ادّعى الْمَدْيُون أَنه مُعسر أَو قسم مَاله بَين غُرَمَائه وَزعم أَنه لَا يملك غَيره وأنكروا مَا زَعمه فَإِن لزمَه الدّين فِي مُقَابلَة مَال كَشِرَاء أَو قرض فَعَلَيهِ الْبَيِّنَة بإعساره فِي الصُّورَة الأولى وَبِأَنَّهُ لَا يملك غَيره فِي الثَّانِيَة وَإِن لزمَه لَا فِي مُقَابلَة مَال سَوَاء أَكَانَ بِاخْتِيَارِهِ كضمان وصداق أم بِغَيْر اخْتِيَاره كأرش جِنَايَة صدق بِيَمِينِهِ
(و) يضْرب على (الْمَرِيض) الْمخوف عَلَيْهِ بِمَا ستعرفه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْوَصِيَّة
(فِيمَا زَاد على الثُّلُث) لحق الْوَرَثَة حَيْثُ لَا دين وَفِي الْجَمِيع إِن كَانَ عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق
(و) يضْرب على (العَبْد الَّذِي لم يُؤذن لَهُ التِّجَارَة) لحق سَيّده وعَلى الْمكَاتب لحق سَيّده وَللَّه تَعَالَى زَاد الشَّيْخَانِ فِي هَذَا النَّوْع وعَلى الرَّاهِن فِي الْعين الْمَرْهُونَة لحق الْمُرْتَهن وعَلى الْمُرْتَد لحق الْمُسلمين
وَأورد عَلَيْهِمَا فِي الْمُهِمَّات ثَلَاثِينَ نوعا فِيهَا الْحجر لحق الْغَيْر وَسَبقه إِلَى بَعْضهَا شَيْخه السُّبْكِيّ
فَمن أَرَادَ فَليُرَاجع ذَلِك فِي الْمُهِمَّات وَقَلِيل من صَار لَهُ همة لذَلِك
(وَتصرف) كل من (الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالسَّفِيه) فِي مَاله (غير صَحِيح) أما الصَّبِي فَإِنَّهُ مسلوب الْعبارَة وَالْولَايَة إِلَّا مَا(2/301)
اسْتثْنى من عبَادَة مُمَيّز وَإِذن فِي دُخُول وإيصال هَدِيَّة من مُمَيّز مَأْذُون
وَأما الْمَجْنُون فمسلوب الْعبارَة من عبَادَة وَغَيرهَا وَالْولَايَة من ولَايَة النِّكَاح وَغَيرهَا
وَأما السَّفِيه فمسلوب الْعبارَة فِي التَّصَرُّف المالي كَبيع وَلَو بغبطة أَو بِإِذن الْوَلِيّ وَيصِح إِقْرَاره بِمُوجب عُقُوبَة كَحَد وقود وَتَصِح عِبَادَته بدنية كَانَت أَو مَالِيَّة وَاجِبَة لَكِن لَا يدْفع المَال من زَكَاة وَغَيرهَا بِلَا إِذن من وليه وَلَا تعْيين مِنْهُ للمدفوع إِلَيْهِ لِأَنَّهُ تصرف مَالِي
أما الْمَالِيَّة المندوبة كصدقة التَّطَوُّع فَلَا تصح مِنْهُ فَإِن زَالَ الْمَانِع بِالْبُلُوغِ والإفاقة والرشد صَحَّ التَّصَرُّف من حِينَئِذٍ
وَالْبُلُوغ يحصل إِمَّا بِكَمَال خمس عشرَة سنة قمرية تحديدية وابتداؤها من انْفِصَال جَمِيع الْوَلَد أَو بإمناء لآيَة {وَإِذا بلغ الْأَطْفَال مِنْكُم الْحلم} والحلم الِاحْتِلَام وَهُوَ لُغَة مَا يرَاهُ النَّائِم وَالْمرَاد بِهِ هُنَا خُرُوج الْمَنِيّ فِي نوم أَو يقظة بجماع أَو غَيره
وَوقت إِمْكَان الإمناء كَمَال تسع سِنِين قمرية بالاستقراء وَهِي تحديدية بِخِلَاف الْحيض فَإِن السنين فِيهِ تقريبية
أَو حيض فِي حق أُنْثَى بِالْإِجْمَاع وَأما حبلها فعلامة على بُلُوغهَا بالإمناء فَلَيْسَ بلوغا لِأَنَّهُ مَسْبُوق بالإنزال فَيحكم بعد الْوَضع بِالْبُلُوغِ قبله بِسِتَّة أشهر وَشَيْء والرشد يحصل ابْتِدَاء بصلاح دين وَمَال حَتَّى من كَافِر كَمَا فسر بِهِ آيَة {فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا} بِأَن لَا يفعل فِي الأول محرما يبطل الْعَدَالَة من كَبِيرَة أَو إِصْرَار على صَغِيرَة وَلم تغلب طَاعَته على مَعَاصيه
ويختبر رشد الصَّبِي فِي الدّين وَالْمَال ليعرف رشده وَعدم رشده قبل بُلُوغه لآيَة {وابتلوا الْيَتَامَى} واليتيم إِنَّمَا يَقع على غير الْبَالِغ فَوق مرّة بِحَيْثُ يظنّ رشده فَلَا تَكْفِي الْمرة لِأَنَّهُ قد يُصِيب فِيهَا اتِّفَاقًا
أما فِي الدّين فبمشاهدة حَاله فِي الْعِبَادَات بقيامه بالواجبات واجتنابه الْمَحْظُورَات والشبهات وَأما فِي المَال فيختلف بمراتب النَّاس فيختبر ولد تَاجر بمشاحة فِي مُعَاملَة وَيسلم لَهُ المَال ليشاحح لَا ليعقد ثمَّ إِن أُرِيد العقد عقد وليه
ويختبر ولد زارع بزراعة وَنَفَقَة عَلَيْهَا بِأَن ينْفق على القوام بمصالح الزَّرْع
وَالْمَرْأَة بِأَمْر غزل وصون نَحْو أَطْعِمَة من نَحْو هرة
فَلَو فسق بعد بُلُوغه رشيدا فَلَا حجر عَلَيْهِ أَو بذر بعد ذَلِك حجر عَلَيْهِ القَاضِي لَا غَيره وَهُوَ وليه أَو جن بعد ذَلِك فَوَلِيه وليه فِي الصغر وَولي الصَّغِير أَب فَأَبُو أَب وَإِن علا كولي النِّكَاح فوصي فقاض ويتصرف بمصلحة وَلَو كَانَ تصرفه بِأَجل بِحَسب الْعرف وبعرض وَأخذ شُفْعَة وَيشْهد حتما فِي بَيْعه لأجل ويرتهن بِالثّمن رهنا وافيا وَيَبْنِي عقاره بطين وآجر وَلَا يَبِيعهُ إِلَّا لحَاجَة كَنَفَقَة أَو غِبْطَة بِأَن يرغب فِيهِ بِأَكْثَرَ من ثمن مثله وَهُوَ يجد مثله بِبَعْض ذَلِك الثّمن أَو خيرا مِنْهُ بكله ويزكي مَاله ويمونه بِالْمَعْرُوفِ فَإِن ادّعى بعد كَمَاله بيعا بِلَا مصلحَة على وَصِيّ أَو أَمِين حلف الْمُدَّعِي أَو ادّعى ذَلِك على أَب أَو أَبِيه حلفا لِأَنَّهُمَا غير متهمين بِخِلَاف الْوَصِيّ والأمين أما القَاضِي فَيقبل قَوْله بِلَا تَحْلِيف(2/302)
(وَتصرف الْمُفلس) بعد ضرب الْحجر عَلَيْهِ فِي مَاله (يَصح) فِيمَا يُثبتهُ (فِي ذمَّته) كَأَن بَاعَ سلما طَعَاما أَو غَيره أَو اشْترى شَيْئا بِثمن فِي ذمَّته
أَو بَاعَ فِيهَا لَا بِلَفْظ الثّمن أَو اقْترض أَو اسْتَأْجر صَحَّ وَثَبت الْمَبِيع وَالثمن وَنَحْوهمَا فِي ذمَّته إِذْ لَا ضَرَر على الْغُرَمَاء فِيهِ (دون) تصرفه فِي شَيْء من (أَعْيَان مَاله) المفوت فِي الْحَيَاة بالإنشاء مُبْتَدأ كَأَن بَاعَ أَو اشْترى بِالْعينِ أَو أعتق أَو أجر أَو وقف فَلَا يَصح لتَعلق حق الْغُرَمَاء بِهِ كالمرهون وَلِأَنَّهُ مَحْجُور عَلَيْهِ بِحكم الْحَاكِم فَلَا يَصح تصرفه على مراغمة مَقْصُود الْحجر كالسفيه
وَخرج بِقَيْد الْحَيَاة مَا يتَعَلَّق بِمَا بعد الْمَوْت وَهُوَ التَّدْبِير وَالْوَصِيَّة فَيصح مِنْهُ
وبقيد الْإِنْشَاء الْإِقْرَار فَلَو أقرّ بِعَين
أَو دين وَجب قبل الْحجر قبل فِي حق الْغُرَمَاء وَإِن أسْند وُجُوبه إِلَى مَا بعد الْحجر بمعاملة أَو لم يُقَيِّدهُ بمعاملة وَلَا غَيرهَا لم يقبل فِي حَقهم وَإِن قَالَ عَن جِنَايَة بعد الْحجر قبل فيزاحمهم الْمَجْنِي عَلَيْهِ لعدم تَقْصِيره وبقيد مُبْتَدأ رد مَا كَانَ اشْتَرَاهُ قبل الْحجر ثمَّ اطلع على عيب فِيهِ بعد الْحجر إِن كَانَت الْغِبْطَة فِي الرَّد وَيصِح نِكَاحه وطلاقه وخلعه زَوجته واستيفاؤه الْقصاص وإسقاطه الْقصاص وَلَو مجَّانا إِذْ لَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مَال وَيصِح استلحاقه النّسَب ونفيه بِاللّعانِ
(وَتصرف الْمَرِيض) الْمُتَّصِل مَرضه بِالْمَوْتِ (فِيمَا زَاد على الثُّلُث) من مَاله (مَوْقُوف) تنفيذه (على إجَازَة) جَمِيع (الْوَرَثَة) بالقيود الْآتِي بَيَانهَا فِي الْوَصِيَّة (من بعده) أَي بعد مَوته لَا قبله وَلَو حذف لَفْظَة من لَكَانَ أخصر
(وَتصرف العَبْد) أَي الرَّقِيق
قَالَ ابْن حزم لفظ العَبْد يَشْمَل الْأمة فَكَأَنَّهُ قَالَ الرَّقِيق الَّذِي يَصح تصرفه لنَفسِهِ لَو كَانَ حرا يَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام مَا لَا ينفذ وَإِن أذن فِيهِ السَّيِّد كالولايات والشهادات وَمَا ينفذ بِغَيْر إِذْنه كالعبادات وَالطَّلَاق وَمَا يتَوَقَّف على إِذن كَالْبيع وَالْإِجَارَة فَإِن لم يُؤذن لَهُ بِالتِّجَارَة لم يَصح شِرَاؤُهُ بِغَيْر إِذن سَيّده لِأَنَّهُ مَحْجُور عَلَيْهِ لحق سَيّده كَمَا مر فيسترده البَائِع سَوَاء أَكَانَ فِي يَد العَبْد أم فِي يَد سَيّده فَإِن تلف فِي يَد العَبْد فَإِنَّهُ (يكون فِي ذمَّته يتبع بِهِ بعد عتقه) لثُبُوته بِرِضا مَالِكه وَلم يَأْذَن فِيهِ السَّيِّد
وَالضَّابِط فِيمَا يتلفه العَبْد أَو يتْلف تَحت يَده إِن لزم بِغَيْر رضَا مُسْتَحقّه كإتلاف أَو تلف بِغَصب تعلق الضَّمَان بِرَقَبَتِهِ وَلَا يتَعَلَّق بِذِمَّتِهِ وَإِن لزم بِرِضا مُسْتَحقَّة كَمَا فِي الْمُعَامَلَات فَإِن كَانَ بِغَيْر إِذن السَّيِّد تعلق بِذِمَّتِهِ يتبع بِهِ بعد عتقه سَوَاء رَآهُ السَّيِّد فِي يَد العَبْد أم لَا أَو بِإِذْنِهِ تعلق بِذِمَّتِهِ وَكَسبه وَمَال تِجَارَته وَإِن تلف فِي يَد السَّيِّد كَانَ للْبَائِع تضمين السَّيِّد لوضع يَده عَلَيْهِ وَله مُطَالبَة العَبْد أَيْضا بعد الْعتْق لتَعَلُّقه بِذِمَّتِهِ لَا قبله لِأَنَّهُ مُعسر وَإِن أذن لَهُ سَيّده فِي التِّجَارَة تصرف بِالْإِجْمَاع بِحَسب الْإِذْن لِأَنَّهُ تصرف مُسْتَفَاد من الْإِذْن فاقتصر على الْمَأْذُون فِيهِ فَإِن أذن لَهُ فِي نوع لم يتجاوزه(2/303)
كَالْوَكِيلِ وَلَيْسَ لَهُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَة النِّكَاح وَلَا يُؤجر نَفسه وَلَا يتَبَرَّع لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل التَّبَرُّع وَلَا يُعَامل سَيّده وَلَا رَقِيقه الْمَأْذُون لَهُ فِي التِّجَارَة بِبيع وَشِرَاء وَغَيرهمَا لِأَن تصرفه للسَّيِّد وَيَد رَقِيق السَّيِّد كالسيد بِخِلَاف الْمكَاتب وَلَا يتَمَكَّن من عزل نَفسه وَلَا يصير مَأْذُونا لَهُ بسكوت سَيّده وَيقبل إِقْرَاره بديون الْمُعَامَلَة
وَمن عرف رق شخص لم يجز لَهُ مُعَامَلَته حَتَّى يعلم الْإِذْن لَهُ بِسَمَاع سَيّده أَو بِبَيِّنَة أَو شيوع بَين النَّاس وَلَا يَكْفِي قَول العَبْد أَنا مَأْذُون لي لِأَنَّهُ مُتَّهم وَلَا يملك العَبْد بِتَمْلِيك العَبْد سَيّده وَلَا بِتَمْلِيك غَيره لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا للْملك لِأَنَّهُ مَمْلُوك فَأشبه الْبَهِيمَة
فصل فِي الصُّلْح
وَمَا يذكر من إشراع الروشن فِي الطَّرِيق وَالصُّلْح لُغَة قطع النزاع وَشرعا عقد يحصل بِهِ ذَلِك وَهُوَ أَنْوَاع صلح بَين الْمُسلمين وَالْكفَّار وَبَين الإِمَام والبغاة وَبَين الزَّوْجَيْنِ عِنْد الشقاق وَصلح فِي الْمُعَامَلَات وَهُوَ المُرَاد هُنَا
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَالصُّلْح خير} وَخبر الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا وَلَفظه يتَعَدَّى للمتروك بِمن وَعَن وللمأخوذ بعلى وَالْبَاء غَالِبا وَهُوَ قِسْمَانِ صلح على إِقْرَار وَصلح على إِنْكَار
وَقد بَدَأَ بالقسم الأل فَقَالَ (وَيصِح الصُّلْح مَعَ الْإِقْرَار فِي الْأَمْوَال) الثَّابِتَة فِي الذِّمَّة فَلَا يَصح على غير إِقْرَار من إِنْكَار أَو سكُوت كَمَا قَالَه فِي الْمطلب عَن سليم الرَّازِيّ وَغَيره كَأَن ادّعى عَلَيْهِ دَارا فَأنْكر أَو سكت ثمَّ تصالحا عَلَيْهَا أَو على بَعْضهَا أَو على غير ذَلِك كَثوب أَو دين لِأَنَّهُ فِي الصُّلْح على غير الْمُدَّعِي بِهِ صلح محرم للْحَلَال إِن كَانَ الْمُدَّعِي صَادِقا لتَحْرِيم الْمُدَّعِي بِهِ أَو بعضه عَلَيْهِ أَو مُحَلل لحرام إِن كَانَ الْمُدَّعِي كَاذِبًا بِأَخْذِهِ مَا لَا يسْتَحقّهُ
وَيلْحق بذلك الصُّلْح على الْمُدعى بِهِ أَو بعضه فَقَوْل الْمِنْهَاج إِن جري(2/304)
على نفس الْمُدعى بِهِ صَحِيح وَإِن لم يكن فِي الْمُحَرر وَلَا غَيره من كتب الشَّيْخَيْنِ
وَالْقَوْل بِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيم لِأَن على وَالْبَاء يدخلَانِ على الْمَأْخُوذ وَمن وَعَن على الْمَتْرُوك مَرْدُود بِأَن ذَلِك جري على الْغَالِب كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَبِأَن الْمُدَّعِي الْمَذْكُور مَأْخُوذ ومتروك باعتبارين غَايَته أَن إِلْغَاء الصُّلْح فِي ذَلِك للإنكار ولفساد الصِّيغَة باتحاد الْعِوَضَيْنِ
وَقَوله صالحني عَمَّا تدعيه لَيْسَ إِقْرَارا لِأَنَّهُ قد يُرِيد بِهِ قطع الْخُصُومَة وَيسْتَثْنى من بطلَان الصُّلْح على الْإِنْكَار مسَائِل مِنْهَا اصْطِلَاح الْوَرَثَة فِيمَا وقف بَينهم إِذا لم يبْذل أحدهم عوضا من خَالص ملكه وَمِنْهَا مَا إِذا أسلم على أَكثر من أَربع نسْوَة وَمَات قبل الِاخْتِيَار أَو طلق إِحْدَى زوجتيه وَمَات قبل الْبَيَان أَو التَّعْيِين ووقف الْمِيرَاث بَينهُنَّ فاصطلحن وَمِنْهَا مَا لَو تداعيا وَدِيعَة عِنْد رجل فَقَالَ لَا أعلم لأيكما هِيَ أَو دَارا فِي يدهما وَأقَام كل بَيِّنَة ثمَّ اصطلحا وَإِذا تصالحا ثمَّ اخْتلفَا فِي أَنَّهُمَا تصالحا على إِقْرَار أَو إِنْكَار فَالَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن القَوْل قَول مدعي الْإِنْكَار لِأَن الأَصْل أَن لَا عقد وَلَو أُقِيمَت عَلَيْهِ بَيِّنَة بعد الْإِنْكَار جَازَ الصُّلْح كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ لِأَن لُزُوم الْحق بِالْبَيِّنَةِ كلزومه بِالْإِقْرَارِ
وَلَو أقرّ ثمَّ أنكر جَازَ الصُّلْح وَلَو أنكر فصولح ثمَّ أقرّ كَانَ الصُّلْح بَاطِلا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
(و) يَصح الصُّلْح أَيْضا فِي كل (مَا يُفْضِي) أَي يؤول (إِلَيْهَا) أَي الْأَمْوَال كالعفو عَن الْقصاص كمن ثَبت لَهُ على شخص قصاص فَصَالحه عَلَيْهِ على مَال بِلَفْظ الصُّلْح كصالحتك من كَذَا على مَا تستحقه عَليّ من قصاص فَإِنَّهُ يَصح أَو بِلَفْظ البيع فَلَا
القَوْل فِي أَنْوَاع الصُّلْح (وَهُوَ) أَي الصُّلْح ضَرْبَان صلح عَن دين وَصلح عَن عين وكل مِنْهُمَا (نَوْعَانِ) فَالْأول من نَوْعي الدّين وَعَلِيهِ اقْتصر المُصَنّف (إِبْرَاء) وَسَيَأْتِي فِي كَلَامه
وَالثَّانِي من نَوْعي الدّين وَتَركه المُصَنّف اختصارا مُعَاوضَة وَهُوَ الْجَارِي على غير الْعين المدعاة
فَإِن صَالح عَن بعض أَمْوَال الرِّبَا على مَا يُوَافقهُ فِي الْعلَّة اشْترط قبض الْعِوَض فِي الْمجْلس وَلَا يشْتَرط تَعْيِينه فِي نفس الصُّلْح على الْأَصَح وَإِن لم يكن العوضان ربوبين فَإِن كَانَ الْعِوَض عينا صَحَّ الصُّلْح وَإِن لم يقبض فِي الْمجْلس وَإِن كَانَ دينا صَحَّ على الْأَصَح وَيشْتَرط تَعْيِينه فِي الْمجْلس
وَالنَّوْع الأول من نَوْعي الْعين وَتَركه المُصَنّف اختصارا صلح الحطيطة وَهُوَ الْجَارِي على بعض الْعين المدعاة كمن صَالح من دَار على بَعْضهَا أَو من ثَوْبَيْنِ على أَحدهمَا وَهَذَا هبة لبَعض الْعين المدعاة لمن هُوَ فِي يَده فَيشْتَرط لصِحَّته الْقبُول ومضي مُدَّة إِمْكَان الْقَبْض
وَيصِح فِي الْبَعْض الْمَتْرُوك بِلَفْظ الْهِبَة وَالتَّمْلِيك وشبههما وَكَذَا بِلَفْظ الصُّلْح على الْأَصَح كصالحتك من الدَّار على ربعهَا وَلَا يَصح بِلَفْظ البيع لعدم الثّمن
(و) الثَّانِي من نَوْعي الْعين وَعَلِيهِ اقْتصر المُصَنّف (مُعَاوضَة) وَسَيَأْتِي فِي كَلَامه
القَوْل فِي صلح الْإِبْرَاء (فالإبراء) الَّذِي هُوَ النَّوْع الأول من نَوْعي الدّين (اقْتِصَاره من حَقه) من الدّين الْمُدعى بِهِ(2/305)
(على بعضه) وَيُسمى صلح الحطيطة وَيصِح بِلَفْظ الْإِبْرَاء والحط وَنَحْوهمَا كالوضع والإسقاط لما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن كَعْب بن مَالك طلب من عبد الله بن أبي حَدْرَد رَضِي الله عَنْهُمَا دينا لَهُ عَلَيْهِ فارتفعت أصواتهما فِي الْمَسْجِد حَتَّى سمعهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج إِلَيْهِمَا ونادى يَا كَعْب فَقَالَ لبيْك يَا رَسُول الله فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَن ضع الشّطْر فَقَالَ قد فعلت فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُم فاقضه وَإِذا جرى ذَلِك بِصِيغَة الْإِبْرَاء كأبرأتك من خَمْسمِائَة من الْألف الَّذِي لي عَلَيْك أَو نَحْوهَا مِمَّا تقدم كوضعتها أَو أسقطتها عَنْك لَا يشْتَرط الْقبُول على الْمَذْهَب سَوَاء أقلنا الْإِبْرَاء إِسْقَاط أم تمْلِيك
وَكَونه إِسْقَاطًا وتمليكا اخْتِلَاف تَرْجِيح أوضحته فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
وَيصِح بِلَفْظ الصُّلْح فِي الْأَصَح كصالحتك عَن الْألف الَّذِي لي عَلَيْك على خَمْسمِائَة وَهل يشْتَرط الْقبُول فِي هَذِه الْحَالة فِيهِ خلاف مدركه مُرَاعَاة اللَّفْظ أَو الْمَعْنى وَالأَصَح مَا دلّ عَلَيْهِ كَلَام الشَّيْخَيْنِ هُنَا اشْتِرَاطه وَلَا يَصح هُنَا الصُّلْح بِلَفْظ البيع كَنَظِيرِهِ فِي الصُّلْح عَن الْعين (وَلَا يجوز) أَي وَلَا يَصح (فعله) أَي تَعْلِيق الصُّلْح بِمَعْنى الْإِبْرَاء (على شَرط) كَقَوْلِه إِذا جَاءَ رَأس الشَّهْر فقد صالحتك
القَوْل فِي صلح الْمُعَاوضَة (والمعاوضة) الَّذِي هُوَ النَّوْع الثَّانِي من نَوْعي الْعين (عدوله عَن حَقه) الْمُدعى بِهِ (إِلَى غَيره) كَأَن ادّعى عَلَيْهِ دَارا أَو شِقْصا مِنْهَا فَأقر لَهُ بذلك وَصَالَحَهُ مِنْهُ على ثوب أَو نَحْو ذَلِك كَعبد صَحَّ (وَيجْرِي عَلَيْهِ) أَي عى هَذَا الصُّلْح (حكم البيع) من الرَّد بِعَيْب وَثُبُوت الشُّفْعَة وَمنع تصرفه فِي الْمصَالح عَلَيْهِ قبل قَبضه وفساده بالغرر والجهالة والشروط الْفَاسِدَة إِلَى غير ذَلِك سَوَاء أعقد بِلَفْظ الصُّلْح أم بِغَيْرِهِ لِأَن حد البيع يصدق على ذَلِك
وَلَو صَالح من الْعين على دين فَإِن كَانَ ذَهَبا أَو فضَّة فَهُوَ بيع أَيْضا وَإِن كَانَ عبدا أَو ثوبا مثلا مَوْصُوفا بِصفة السّلم فَهُوَ سلم تثبت فِيهِ أَحْكَامه وَإِن صَالح من الْعين المدعاة على منفعَته لغير الْعين المدعاة كخدمة عبد مُدَّة مَعْلُومَة فإجارة تثبت أَحْكَام الْإِجَارَة فِي ذَلِك لِأَن حد الْإِجَارَة صَادِق عَلَيْهِ فَإِن صَالح على مَنْفَعَة الْعين فَهُوَ عَارِية تثبت أَحْكَام الْعَارِية فِيهَا فَإِن عين مُدَّة فإعارة مُؤَقَّتَة وَإِلَّا فمطلقة
وَلَو قَالَ صالحني عَن دَارك مثلا بِكَذَا من غير سبق خُصُومَة فَأَجَابَهُ فَالْأَصَحّ بُطْلَانه لِأَن لفظ الصُّلْح يَسْتَدْعِي سبق الْخُصُومَة سَوَاء كَانَت عِنْد حَاكم أم لَا
تَنْبِيه قد علم مِمَّا تقرر أَن أَقسَام الصُّلْح سَبْعَة البيع وَالْإِجَارَة وَالْعَارِية وَالْهِبَة وَالسّلم وَالْإِبْرَاء والمعاوضة من دم الْعمد
وَبَقِي مِنْهَا أَشْيَاء أخر مِنْهَا الْخلْع كصالحتك من كَذَا على أَن تُطَلِّقنِي طَلْقَة
وَمِنْهَا الْجعَالَة كصالحتك من كَذَا على رد عَبدِي
وَمِنْهَا الْفِدَاء كَقَوْلِه لحربي صالحتك من كَذَا على إِطْلَاق هَذَا الْأَسير
وَمِنْهَا الْفَسْخ كَأَن صَالح من الْمُسلم فِيهِ على رَأس المَال
تَتِمَّة لَو صَالح من دين حَال على مُؤَجل مثله أَو صَالح من مُؤَجل على حَال مثله لَغَا الصُّلْح لِأَنَّهُ وعد فِي الأولى من الدَّائِن بإلحاق الْأَجَل وَصفَة الْحُلُول لَا يَصح إلحاقها وَفِي الثَّانِيَة وعد من الْمَدْيُون بِإِسْقَاط الْأَجَل وَهُوَ لَا يسْقط فَلَو صَالح من عشرَة حَالَة على خَمْسَة مُؤَجّلَة برىء من خَمْسَة وَبَقِي خَمْسَة حَالَة لِأَنَّهُ سامح بحط الْبَعْض ووعد بتأجيل الْبَاقِي والوعد لَا يلْزم والحط(2/306)
صَحِيح
وَلَو عكس بِأَن صَالح من عشرَة مُؤَجّلَة على خَمْسَة حَالَة لَغَا الصُّلْح لِأَن صفة الْحُلُول لَا يَصح إلحاقها والخمسة الْأُخْرَى إِنَّمَا تَركهَا فِي مُقَابلَة ذَلِك فَإِذا لم يحصل الْحُلُول لَا يَصح التّرْك
القَوْل فِي الروشن وَحكمه (وَيجوز للْإنْسَان أَن يشرع) بِضَم أَوله وَإِسْكَان ثَانِيه أَي يخرج (روشنا) أَي جنَاحا وَهُوَ الْخَارِج من نَحْو الْخشب وساباطا وَهُوَ السَّقِيفَة على حائطين وَالطَّرِيق بَينهمَا (فِي طَرِيق نَافِذ) ويعبر عَنهُ بالشارع وَقيل بَينه وَبَين الطَّرِيق اجْتِمَاع وافتراق لِأَنَّهُ يخْتَص بالبنيان وَلَا يكون إِلَّا نَافِذا وَالطَّرِيق يكون ببنيان أَو صحراء نَافِذا أَو غير نَافِذ وَيذكر وَيُؤَنث (بخيث لَا يضر) كل من الْجنَاح والساباط (الْمَارَّة) فِي مرورهم فِيهِ فَيشْتَرط ارْتِفَاع كل مِنْهُمَا بِحَيْثُ يمر تَحْتَهُ الْمَاشِي منتصبا من غير احْتِيَاج إِلَى أَن يطأطىء رَأسه لِأَن مَا يمْنَع ذَلِك إِضْرَار حَقِيقِيّ وَيشْتَرط مَعَ هَذَا أَن يكون على رَأسه الحمولة الْعَالِيَة كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَإِن كَانَ ممر الفرسان والقوافل فيرفع ذَلِك بِحَيْثُ يمر تَحْتَهُ الْمحمل على الْبَعِير مَعَ أخشاب المظلة لِأَن ذَلِك قد يتَّفق وَإِن كَانَ نَادرا
وَالْأَصْل فِي جَوَاز ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصب بِيَدِهِ الشَّرِيفَة ميزابا فِي دَار عَمه الْعَبَّاس رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ إِن الْمِيزَاب كَانَ شَارِعا لمسجده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِن فعل مَا منع مِنْهُ أزيل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ضَرَر وَلَا ضرار فِي الْإِسْلَام والمزيل لَهُ الْحَاكِم لَا كل أحد لَهُ لما فِيهِ من توقع الْفِتْنَة لَكِن لكل أحد مُطَالبَته بإزالته لِأَنَّهُ من إِزَالَة الْمُنكر
تَنْبِيه مَا ذكر من جَوَاز إِخْرَاج الْجنَاح غير المضر هُوَ فِي الْمُسلم أما الْكَافِر فَلَيْسَ لَهُ الإشراع إِلَى شوارع الْمُسلمين وَإِن جَازَ استطراقه لِأَنَّهُ كإعلاء الْبناء على الْمُسلم فِي الْمَنْع
وَيمْنَعُونَ أَيْضا من آبار حشوشهم فِي أفنية دُورهمْ
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَيُشبه أَن لَا يمنعوا من إِخْرَاج الْجنَاح وَلَا من حفر آبار حشوشهم فِي محالهم وشوارعهم المختصة بهم فِي دَار الْإِسْلَام كَمَا فِي رفع الْبناء(2/307)
وَهُوَ بحث حسن وَحكم الشَّارِع الْمَوْقُوف حكم غَيره فِيمَا مر كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الشَّيْخَيْنِ
وَالطَّرِيق مَا جعل عِنْد إحْيَاء الْبَلَد أَو قبله طَرِيقا أَو وَقفه الْمَالِك
وَلَو بِغَيْر إحْيَاء كَذَلِك
وَصرح فِي الرَّوْضَة نقلا عَن الإِمَام بِأَنَّهُ لَا حَاجَة فِي ذَلِك إِلَى لفظ قَالَ فِي الْمُهِمَّات وَمحله فِيمَا عدا ملكه أما فِيهِ فَلَا بُد من لفظ يصير بِهِ وَقفا على قَاعِدَة الْأَوْقَاف انْتهى
وَهَذَا ظَاهر وَحَيْثُ وجدنَا طَرِيقا اعتمدنا فِيهِ الظَّاهِر وَلَا يلْتَفت إِلَى مبدأ جعله طَرِيقا فَإِن اخْتلفُوا عِنْد الْإِحْيَاء فِي تَقْدِيره قَالَ النَّوَوِيّ جعل سَبْعَة أَذْرع لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الِاخْتِلَاف فِي الطَّرِيق أَن يَجْعَل عرضه سَبْعَة أَذْرع
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ اعْتِبَار قدر الْحَاجة والْحَدِيث مَحْمُول عَلَيْهِ اه
وَهَذَا ظَاهر فَإِن كَانَ أَكثر من سَبْعَة أَذْرع أَو من قدر الْحَاجة على مَا مر لم يجز لأحد أَن يستولي على شَيْء مِنْهُ وَإِن قل وَيجوز إحْيَاء مَا حوله من الْموَات بِحَيْثُ لَا يضر بالمار وَأما إِذا كَانَت الطَّرِيق مَمْلُوكَة يسبلها مَالِكهَا فتقديرها إِلَى خيرته وَالْأَفْضَل لَهُ توسيعها
وَيحرم الصُّلْح على إشراع الْجنَاح أَو الساباط بعوض وَإِن صَالح عَلَيْهِ الإِمَام لِأَن الْهَوَاء لَا يفرد بِالْعقدِ
وَيحرم أَن يبْنى فِي الطَّرِيق دكة أَو غَيرهَا أَو يغْرس فِيهَا شَجَرَة
وَلَو اتَّسع الطَّرِيق وَأذن الإِمَام وانتفى الضَّرَر لمنع الطروق فِي ذَلِك الْمحل ولتعثر الْمَار بهما عِنْد الازدحام وَلِأَنَّهُ إِذا طَالَتْ الْمدَّة أشبه موضعهَا الْأَمْلَاك وَانْقطع أثر اسْتِحْقَاق الطَّرِيق فِيهِ بِخِلَاف الأجنحة وَنَحْوهَا
القَوْل فِي الروشن وَفتح الْبَاب فِي الدَّرْب الْمُشْتَرك (وَلَا يجوز) إِخْرَاج روشن (فِي الدَّرْب الْمُشْتَرك) وَهُوَ غير النَّافِذ الْخَالِي عَن نَحْو مَسْجِد كرباط وبئر موقوفين على جِهَة عَامَّة لغير أَهله ولبعضهم (إِلَّا بِإِذن من الشُّرَكَاء) كلهم فِي الأولى وَمن باقيهم مِمَّن بَابه أبعد عَن رَأسه من مَحل الْمخْرج أَو مُقَابِله فِي الثَّانِيَة
فَلَو أَرَادوا الرُّجُوع بعد الْإِخْرَاج بِالْإِذْنِ قَالَ فِي الْمطلب فَيُشبه منع قلعه لِأَنَّهُ وضع بِحَق وَمنع إبقائه بِأُجْرَة لِأَن الْهَوَاء لَا أُجْرَة لَهُ وَيعْتَبر إِذن الْمُكْتَرِي إِن تضرر كَمَا فِي الْكِفَايَة
وَأهل غير النَّافِذ من نفذ بَابه إِلَيْهِ لَا من لاصق جِدَاره من غير نُفُوذ بَاب إِلَيْهِ وتختص شركَة كل مِنْهُم بِمَا بَين بَابه وَرَأس غير النَّافِذ لِأَنَّهُ مَحل تردده
(وَيجوز) لمن لَهُ بَاب (تَقْدِيم الْبَاب) بِغَيْر إِذن بَقِيَّة الشُّرَكَاء (فِي الدَّرْب الْمُشْتَرك) إِذا سد الْبَاب الْقَدِيم لِأَنَّهُ ترك بعض حَقه فَإِن لم يسده فلشركائه مَنعه لِأَن انضمام الثَّانِي إِلَى الأول يُورث زحمة ووقوف الدَّوَابّ فِي الدَّرْب فيتضررون بِهِ
وَلَو كَانَ بَابه آخر الدَّرْب فَأَرَادَ تَقْدِيمه وَجعل الْبَاقِي دهليزا لداره جَازَ (وَلَا يجوز) لمن لَهُ بَاب فِي رَأس الدَّرْب الْمُشْتَرك (تَأْخِيره) أَي الْبَاب الْجَدِيد إِلَى أَسْفَل الدَّرْب سَوَاء أقرب من الْقَدِيم أم(2/308)
بعد عَنهُ وَسَوَاء أَسد الأول أم لَا (إِلَّا بِإِذن) مِمَّن تَأَخّر بَاب دَاره (من الشُّرَكَاء) عَن بَاب دَار المريد لذَلِك لِأَن الْحق فِي زِيَادَة الاستطراق لمن تَأَخّر دَاره فَجَاز لَهُ إِسْقَاطه بِخِلَاف من بَابه بَين المفتوح وَرَأس الدَّرْب أَو مُقَابل للمفتوح كَمَا فِي الرَّوْضَة عَن الإِمَام أَي المفتوح الْقَدِيم كَمَا فهمه السُّبْكِيّ وَغَيره
وَفهم البُلْقِينِيّ أَنه الْجَدِيد فَاعْترضَ عَلَيْهِ بِأَن الْمُقَابل للمفتوح مشارك فِي الْقدر المفتوح فِيهِ فَلهُ الْمَنْع
وَخرج بالخالي عَن نَحْو مَسْجِد مَا لَو كَانَ بِهِ ذَلِك فَلَا يجوز الْإِخْرَاج بقيده السَّابِق عِنْد الْإِضْرَار وَإِن أذن الْبَاقُونَ وَلَا يَصح الصُّلْح بِمَال على إِخْرَاج جنَاح أَو فتح بَاب لِأَن الْحق فِي الاستطراق لجَمِيع الْمُسلمين
تَتِمَّة يجوز لمن لاصق جِدَاره الدَّرْب الْمُفْسد أَن يفتح فِيهِ بَابا لاستضاءة وَغَيرهَا سَوَاء أسمره أم لَا لِأَن لَهُ رفع الْجِدَار فبعضه أولى لَا فَتحه لتطرق بِغَيْر إذْنهمْ لتضررهم بمرور الفاتح أَو بمرورهم عَلَيْهِ
وَلَهُم بعد الْفَتْح بإذنهم الرُّجُوع مَتى شاؤوا وَلَا غرم عَلَيْهِم وللمالك فتح الطاقات لاستضاءة وغرها بل لَهُ إِزَالَة بعض الْجِدَار وَجعل شباك مَكَانَهُ وَفتح بَاب بَين داريه وَإِن كَانَتَا تفتحان إِلَى دربين أَو درب وشارع لِأَنَّهُ تصرف مصادف للْملك فَهُوَ كَمَا لَو أَزَال الْحَائِط بَينهمَا وجعلهما دَارا وَاحِدَة وَترك بابيهما بحالهما
وَلَو تنَازعا جدارا أَو سقفا بَين ملكيهما فَإِن علم أَنه بنى مَعَ بِنَاء أَحدهمَا فَلهُ الْيَد لظُهُور أَمارَة الْملك بذلك وَإِن لم يعلم ذَلِك فَلَهُمَا الْيَد لعدم الْمُرَجح فَإِن أَقَامَ أَحدهمَا بَيِّنَة أَنه لَهُ أَو حلف وَنكل الآخر قضى لَهُ بِهِ وَإِلَّا جعل بَينهمَا لظَاهِر الْيَد فينتفع بِهِ كل مِمَّا يَلِيهِ
فصل فِي الْحِوَالَة
وَهِي بِفَتْح الْحَاء أفْصح من كسرهَا لُغَة التَّحَوُّل والانتقال وَشرعا عقد يَقْتَضِي نقل دين من ذمَّة إِلَى ذمَّة أُخْرَى وَتطلق على انْتِقَاله من ذمَّة إِلَى أُخْرَى وَالْأول هُوَ غَالب اسْتِعْمَال الْفُقَهَاء
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع خبر الصَّحِيحَيْنِ مطل الْغَنِيّ ظلم وَإِذا أتبع أحدكُم على مَلِيء فَليتبعْ بِإِسْكَان التَّاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَي فَليَحْتَلْ كَمَا رَوَاهُ هَكَذَا الْبَيْهَقِيّ وَيسن قبُولهَا على مَلِيء لهَذَا الحَدِيث(2/309)
وَصَرفه عَن الْوُجُوب الْقيَاس على سَائِر الْمُعَاوَضَات
وَيعْتَبر فِي الِاسْتِحْبَاب كَمَا بَحثه الْأَذْرَعِيّ أَن يكون المليء وفيا وَلَا شُبْهَة فِي مَاله وَالأَصَح أَنَّهَا بيع دين بدين جوز للْحَاجة وَلِهَذَا لم يعْتَبر التَّقَابُض فِي الْمجْلس وَإِن كَانَ الدينان ربوبيين
القَوْل فِي أَرْكَان الْحِوَالَة وأركانها سِتَّة محيل ومحتال ومحال عَلَيْهِ وَدين للمحتال على الْمُحِيل وَدين للْمُحِيل على الْمحَال عَلَيْهِ وَصِيغَة وَكلهَا تُؤْخَذ مِمَّا يَأْتِي وَإِن سمي بَعْضهَا شرطا كَمَا قَالَ (وشرائط) صِحَة (الْحِوَالَة أَرْبَعَة) بل خَمْسَة كَمَا ستعرفه الأول (رضَا الْمُحِيل) (و) الثَّانِي (قبُول الْمُحْتَال) لِأَن للْمُحِيل إِيفَاء الْحق من حَيْثُ شَاءَ فَلَا يلْزم بِجِهَة وَحقّ الْمُحْتَال فِي ذمَّة الْمُحِيل فَلَا ينْتَقل إِلَّا بِرِضَاهُ لِأَن الذمم تَتَفَاوَت وَالْأَمر الْوَارِد للنَّدْب كَمَا مر
تَنْبِيه إِنَّمَا عبر بِالْقبُولِ المستدعي للْإِيجَاب لإِفَادَة أَنه لَا بُد من إِيجَاب الْمُحِيل كَمَا فِي البيع
وَهِي دقيقة حَسَنَة وَلَا يشْتَرط رضَا الْمحَال عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَحل الْحق وَالتَّصَرُّف كَالْعَبْدِ الْمَبِيع وَلِأَن الْحق للْمُحِيل فَلهُ أَن يَسْتَوْفِيه بِغَيْرِهِ كَمَا لَو وكل غَيره بِالِاسْتِيفَاءِ
(و) الثَّالِث (كَون الْحق) أَي الدّين الْمحَال بِهِ وَعَلِيهِ لَازِما وَهُوَ مَا لَا خِيَار فِيهِ وَلَا بُد أَن يجوز الِاعْتِيَاض عَنهُ كَالثّمنِ بعد زمن الْخِيَار وَإِن لم يكن (مُسْتَقرًّا فِي الذِّمَّة) كالصداق قبل الدُّخُول وَالْمَوْت وَالْأُجْرَة قبل مُضِيّ الْمدَّة وَالثمن قبل قبض الْمَبِيع بِأَن يحِيل بِهِ المُشْتَرِي البَائِع على ثَالِث وَعَلِيهِ كَذَلِك بِأَن يحِيل البَائِع غَيره على المُشْتَرِي سَوَاء اتّفق الدينان فِيهِ بِسَبَب الْوُجُوب أم اخْتلفَا كَأَن كَانَ أَحدهمَا ثمنا وَالْآخر أُجْرَة أَو قرضا فَلَا تصح بِالْعينِ لما مر أَنَّهَا بيع دين بدين وَلَا بِمَا لَا يجوز الِاعْتِيَاض عَنهُ كَدين السّلم فَلَا تصح الْحِوَالَة بِهِ وَلَا عَلَيْهِ وَإِن كَانَ لَازِما وَلَا تصح الْحِوَالَة للساعي وَلَا للْمُسْتَحقّ بِالزَّكَاةِ مِمَّن هِيَ عَلَيْهِ وَلَا عَكسه وَإِن تلف الذّهاب بعد التَّمَكُّن لِامْتِنَاع الِاعْتِيَاض عَنْهَا وَتَصِح على الْمَيِّت لِأَنَّهُ لَا يشْتَرط رضَا الْمحَال عَلَيْهِ وَإِنَّمَا صحت عَلَيْهِ مَعَ خراب ذمَّته لِأَن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ للمستقبل أَي لم تقبل(2/310)
ذمَّته شَيْئا بعد مَوته وَإِلَّا فذمته مَرْهُونَة بِدِينِهِ حَتَّى يقْضى وَظَاهره أَنه لَا فرق بَين أَن يكون لَهُ تَرِكَة أَو لَا وَهُوَ كَذَلِك وَإِن كَانَ فِي الثَّانِي خلاف وَلَا تصح على التَّرِكَة لعدم الشَّخْص الْمحَال عَلَيْهِ وَتَصِح بِالدّينِ الْمثْلِيّ كالنقود والحبوب وبالمتقوم كالعبيد وَالثيَاب وبالثمن فِي زمن الْخِيَار بِأَن يحِيل بِهِ المُشْتَرِي البَائِع على إِنْسَان وَعَلِيهِ بِأَن يحِيل البَائِع إنْسَانا على المُشْتَرِي لِأَنَّهُ آيل إِلَى اللُّزُوم بِنَفسِهِ وَالْجَوَاز عَارض فِيهِ
وَيبْطل الْخِيَار بالحوالة بِالثّمن لتراضي عاقديها وَلِأَن مقتضاها اللُّزُوم فَلَو بَقِي الْخِيَار فَاتَ مقتضاها وَفِي الْحِوَالَة عَلَيْهِ يبطل فِي حق البَائِع لرضاه بهَا لَا فِي حق مُشْتَر لم يرض فَإِن رَضِي بهَا بَطل فِي حَقه أَيْضا فِي أحد وَجْهَيْن رَجحه ابْن الْمقري وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَتَصِح حِوَالَة الْمكَاتب سَيّده بالنجوم لوُجُود اللُّزُوم من جِهَة السَّيِّد والمحال عَلَيْهِ فَيتم الْغَرَض مِنْهُمَا دون حِوَالَة السَّيِّد غَيره عَلَيْهِ بِمَال الْكِتَابَة فَلَا تصح لِأَن الْكِتَابَة جَائِزَة من جِهَة الْمكَاتب فَلَا يتَمَكَّن الْمُحْتَال من مُطَالبَته وإلزامه
وَخرج بنجوم الْكِتَابَة وَلَو كَانَ للسَّيِّد على الْمكَاتب دين مُعَاملَة وأحال عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَصح كَمَا فِي زَوَائِد الرَّوْضَة
وَلَا نظر إِلَى سُقُوطه بالتعجيز لِأَن دين الْمُعَامَلَة لَازم فِي الْجُمْلَة وَلَا تصح بِجعْل الْجعَالَة وَلَا عَلَيْهِ قبل تَمام الْعَمَل وَلَو بعد الشُّرُوع فِيهِ لعدم ثُبُوت دينهَا حِينَئِذٍ بِخِلَافِهِ بعد التَّمام
(و) الرَّابِع (اتِّفَاق) أَي مُوَافقَة (مَا فِي ذمَّة الْمُحِيل) للمحتال من الدّين الْمحَال بِهِ (و) مَا فِي ذمَّة (الْمحَال عَلَيْهِ) للْمُحِيل من الدّين الْمحَال عَلَيْهِ (فِي الْجِنْس) فَلَا يَصح بالدارهم على الدَّنَانِير وَعَكسه وَفِي الْقدر فَلَا يَصح بِخَمْسَة على عشرَة وَعَكسه لِأَن الْحِوَالَة مُعَاوضَة إرفاق جوزت للْحَاجة فَاعْتبر فِيهَا الِاتِّفَاق فِيمَا ذكر كالقرض
(و) فِي (النَّوْع والحلول والتأجيل) وَفِي قدر الْأَجَل وَفِي الصِّحَّة والتكسير إِلْحَاقًا لتَفَاوت الْوَصْف بتفاوت الْقدر
تَنْبِيه أفهم كَلَام المُصَنّف أَنه لَا يعْتَبر اتِّفَاقهمَا فِي الرَّهْن وَلَا فِي الضَّمَان وَهُوَ كَذَلِك بل لَو أحَال بدين أَو على دين بِهِ رهن أَو ضَامِن أَنْفك الرَّهْن وبرىء الضَّمَان لِأَن الْحِوَالَة كَالْقَبْضِ وَالْخَامِس الْعلم بِمَا يُحَال بِهِ وَعَلِيهِ قدرا وَصفَة بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبرَة فِي السّلم
القَوْل فِي أثر عقد الْحِوَالَة الصَّحِيح (وتبرأ بهَا) أَي بالحوالة الصَّحِيحَة (ذمَّة الْمُحِيل) من دين الْمُحْتَال وَيسْقط دينه عَن الْمحَال عَلَيْهِ وَيلْزم دين محتال محالا عَلَيْهِ أَي يصير نَظِيره فِي ذمَّته فَإِن تعذر أَخذه مِنْهُ بفلس أَو غَيره كجحد للدّين أَو وَمَوْت لم يرجع على محيل كَمَا لَو أَخذ عوضا عَن الدّين وَتلف فِي يَده وَإِن شَرط يسَار الْمحَال عَلَيْهِ أَو جَهله فَإِنَّهُ لَا يرجع على الْمُحِيل كمن اشْترى شَيْئا وَهُوَ مغبون فِيهِ
وَلَا عِبْرَة بِالشّرطِ الْمَذْكُور لِأَنَّهُ مقصر بترك الفحص عَنهُ وَلَو شَرط الرُّجُوع عِنْد التَّعَذُّر بِشَيْء مِمَّا ذكر لم تصح الْحِوَالَة وَلَو شَرط الْعَاقِد فِي الْحِوَالَة راهنا أَو ضمينا هَل يَصح أَو لَا رجح ابْن الْمقري الأول وَصَاحب الْأَنْوَار الثَّانِي وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَلَا يثبت(2/311)
فِي عقدهَا خِيَار شَرط لِأَنَّهَا لم تبن على المعاينة وَلَا خِيَار مجْلِس فِي الْأَصَح وَإِن قُلْنَا مُعَاوضَة لِأَنَّهَا على خلاف الْقيَاس
تَتِمَّة لَو فسخ بيع بِعَيْب أَو غَيره كإقالة وَقد أحَال مُشْتَر بَائِعا بثمر بطلت الْحِوَالَة لارْتِفَاع الثّمن بانفساخ البيع لَا إِن أحَال بَائِع بِهِ ثَالِثا على المُشْتَرِي فَلَا تبطل الْحِوَالَة لتَعلق الْحق بثالث بِخِلَافِهِ فِي الأولى
وَلَو بَاعَ عبدا وأحال بِثمنِهِ على المُشْتَرِي ثمَّ اتّفق الْمُتَبَايعَانِ والمحتال على حُرِّيَّته أَو ثبتَتْ بِبَيِّنَة يقيمها العَبْد أَو شهِدت حسبَة بطلت الْحِوَالَة لِأَنَّهُ بَان أَن لَا ثمن حَتَّى يُحَال بِهِ فَيرد الْمُحْتَال مَا أَخذه على المُشْتَرِي وَيبقى حَقه كَمَا كَانَ وَإِن كذبهما الْمُحْتَال فِي الْحُرِّيَّة وَلَا بَيِّنَة حلفاه على نفي الْعلم بهَا ثمَّ بعد حلفه يَأْخُذ المَال من المُشْتَرِي لبَقَاء الْحِوَالَة ثمَّ يرجع بِهِ المُشْتَرِي على البَائِع لِأَنَّهُ قضى دينه بِإِذْنِهِ الَّذِي تضمنته الْحِوَالَة
وَلَو قَالَ الْمُسْتَحق عَلَيْهِ للْمُسْتَحقّ وَكلتك لتقبض لي ديني من فلَان
وَقَالَ الْمُسْتَحق أحلتين بِهِ
أَو قَالَ الأول أردْت بِقَوْلِي أحلتك بِهِ الْوكَالَة
وَقَالَ الْمُسْتَحق بل أردْت بذلك الْحِوَالَة صدق الْمُسْتَحق عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ أعرف بإرادته وَالْأَصْل بَقَاء الْحَقَّيْنِ وَإِن قَالَ الْمُسْتَحق عَلَيْهِ أحلتك فَقَالَ الْمُسْتَحق وكلتني أَو قَالَ أردْت بِقَوْلِي أحلتك الْوكَالَة صدق الثَّانِي بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل بَقَاء حَقه
نعم لَو قَالَ أحلتك بِالْمِائَةِ الَّتِي لَك على عَمْرو فَلَا يحلف مُنْكرا الْحِوَالَة لِأَن هَذَا لَا يحْتَمل إِلَّا حَقِيقَتهَا فَيحلف مدعيها
وللمحتال أَن يحِيل وَأَن يحتال من الْمحَال عَلَيْهِ على مدينه
فصل فِي الضَّمَان
وَهُوَ فِي اللُّغَة الِالْتِزَام وَشرعا يُقَال لالتزام حق ثَابت فِي ذمَّة الْغَيْر أَو إِحْضَار عين مَضْمُونَة أَو بدن من يسْتَحق حُضُوره(2/312)
وَيُقَال للْعقد الَّذِي يحصل بِهِ ذَلِك وَيُسمى الْمُلْتَزم لذَلِك ضَامِنا وزعيما وكفيلا وَغير ذَلِك كَمَا بَينته فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع أَخْبَار كَخَبَر الزعيم زعيم غَارِم رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه
وَخبر الْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحمل عَن رجل عشرَة دَنَانِير
أَرْكَان الضَّمَان وأركان ضَمَان المَال خَمْسَة ضَامِن ومضمون لَهُ ومضمون عَنهُ ومضمون بِهِ وَصِيغَة
القَوْل فِي شُرُوط الضَّامِن إِذا علمت ذَلِك فنبدأ بِشَرْط الضَّامِن فَنَقُول (وَيصِح ضَمَان) من يَصح تبرعه وَيكون مُخْتَارًا فَيصح الضَّمَان من سَكرَان وسفيه لم يحْجر عَلَيْهِ ومحجور فلس كشرائه فِي الذِّمَّة وَإِن لم يُطَالب إِلَّا بعد فك الْحجر لَا من صبي وَمَجْنُون ومحجور وسفيه ومريض مرض الْمَوْت عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق لمَاله ومكره وَلَو بإكراه سَيّده وَصَحَّ ضَمَان رَقِيق بِإِذن سَيّده لَا ضَمَانه لسَيِّده وكالرقيق الْمبعض إِن لم تكن مُهَايَأَة أَو كَانَت وَضمن فِي نوبَة سَيّده فَإِن عين للْأَدَاء جِهَة فَذَاك وَإِلَّا فمما يكسبه بعد الْإِذْن فِي الضَّمَان وَمِمَّا بيد مَأْذُون لَهُ فِي التِّجَارَة
القَوْل فِي شُرُوط الْمَضْمُون وَيشْتَرط فِي الْمَضْمُون كَونه حَقًا ثَابتا حَال العقد فَلَا يَصح ضَمَان مَا لم يجب كَنَفَقَة مَا بعد الْيَوْم للزَّوْجَة وَيشْتَرط فِي (الدُّيُون) الْمَضْمُونَة أَن تكون لَازِمَة
وَقَول المُصَنّف (المستقرة فِي الذِّمَّة) لَيْسَ بِقَيْد بل يَصح ضَمَانهَا وَإِن لم تكن مُسْتَقِرَّة كالمهر قبل الدُّخُول أَو الْمَوْت وَثمن الْمَبِيع قبل قَبضه لِأَنَّهُ آيل إِلَى الِاسْتِقْرَار لَا كنجوم كِتَابَة لِأَن للْمكَاتب إِسْقَاطهَا بِالْفَسْخِ فَلَا معنى للتوثق عَلَيْهِ
وَيصِح الضَّمَان عَن الْمكَاتب بغَيْرهَا لأَجْنَبِيّ لَا للسَّيِّد بِنَاء على أَن غَيرهَا يسْقط من الْمكَاتب بعجزه وَهُوَ الْأَصَح وَيصِح بِالثّمن فِي مُدَّة الْخِيَار لِأَنَّهُ آيل إِلَى اللُّزُوم بِنَفسِهِ فَألْحق باللازم وَصِحَّة الضَّمَان فِي الدُّيُون مَشْرُوطَة بِمَا (إِذا علم) الضَّامِن (قدرهَا) وجنسها وصفتها لِأَنَّهُ إِثْبَات مَال فِي الذِّمَّة لآدَمِيّ بِعقد فَأشبه البيع وَالْإِجَارَة وَلَا بُد أَن يكون معينا فَلَا يَصح ضَمَان غير الْمعِين كَأحد الدينَيْنِ وَالْإِبْرَاء من الدّين الْمَجْهُول جِنْسا أَو قدرا أَو صفة بَاطِل لِأَن الْبَرَاءَة متوقفة على الرِّضَا وَلَا يعقل مَعَ الْجَهَالَة(2/313)
وَلَا تصح الْبَرَاءَة من الْأَعْيَان
وَيصِح ضَمَان رد كل عين مِمَّن هِيَ فِي يَده مَضْمُونَة عَلَيْهِ كمغصوبة ومستعارة كَمَا يَصح بِالْبدنِ بل أولى لِأَن الْمَقْصُود هُنَا المَال وَيبرأ الضَّامِن بردهَا للمضمون لَهُ وَيبرأ أَيْضا بتلفها فَلَا يلْزمه قيمتهَا كَمَا لَو مَاتَ الْمَكْفُول بِبدنِهِ لَا يلْزم الْكَفِيل الدّين
وَلَو قَالَ ضمنت مِمَّا لَك على زيد من دِرْهَم إِلَى عشرَة صَحَّ وَكَانَ ضَامِنا لتسعة إدخالا للطرف الأول لِأَنَّهُ مبدأ الِالْتِزَام وَقيل عشره إِدْخَال للطرفين فِي الِالْتِزَام
فَإِن قيل رجح النَّوَوِيّ فِي بَاب الطَّلَاق أَنه لَو قَالَ أَنْت طَالِق من وَاحِدَة إِلَى ثَلَاث وُقُوع الثَّلَاث وَقِيَاسه تعْيين الْعشْرَة
أُجِيب بِأَن الطَّلَاق مَحْصُور فِي عدد فَالظَّاهِر اسْتِيفَاؤهُ بِخِلَاف الدّين
وَلَو ضمن مَا بَين دِرْهَم وَعشرَة لزمَه ثَمَانِيَة كَمَا فِي الْإِقْرَار
القَوْل فِي شَرط الصِّيغَة وَشرط فِي الصِّيغَة للضَّمَان وَالْكَفَالَة الْآتِيَة لفظ يشْعر بالالتزام كضمنت دينك الَّذِي على فلَان أَو تكفلت بِبدنِهِ وَلَا يصحان بِشَرْط بَرَاءَة أصيل لمُخَالفَته مقتضاهما وَلَا بتعليق وَلَا بتوقيت
وَلَو كفل بدن غَيره وَأجل إِحْضَاره لَهُ بِأَجل مَعْلُوم صَحَّ للْحَاجة كضمان حَال مُؤَجّلا بِأَجل مَعْلُوم
وَيثبت الْأَجَل فِي حق الضَّامِن وَيصِح ضَمَان الْمُؤَجل حَالا وَلَا يلْزم الضَّامِن تَعْجِيل الْمَضْمُون وَإِن الْتَزمهُ حَالا كَمَا لَو الْتَزمهُ الْأَصِيل
القَوْل فِي مَا يَتَرَتَّب على الضَّمَان الصَّحِيح (وَلِصَاحِب الْحق) وَلَو وَارِثا (مُطَالبَة من شَاءَ من الضَّامِن) وَلَو مُتَبَرعا (والمضمون عَنهُ) بِأَن يطالبهما جَمِيعًا أَو يُطَالب أَيهمَا شَاءَ بِالْجَمِيعِ أَو يُطَالب أَحدهمَا بِبَعْضِه وَالْآخر بباقيه أما الضَّامِن فلخبر الزعيم غَارِم وَأما الْأَصِيل فَلِأَن الدّين بَاقٍ عَلَيْهِ
وَلَو برىء الْأَصِيل من الدّين برىء الضَّامِن مِنْهُ وَلَا عكس فِي إِبْرَاء الضَّامِن بِخِلَاف مَا لَو برىء بِغَيْر إِبْرَاء كأداء
وَلَو مَاتَ أَحدهمَا وَالدّين مُؤَجل حل عَلَيْهِ لِأَن ذمَّته خربَتْ بِخِلَاف الْحَيّ فَلَا يحل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يرتفق بالأجل
وَإِنَّمَا يُخَيّر فِي الْمُطَالبَة (إِذا كَانَ الضَّمَان) صَحِيحا (على مَا بَيناهُ) فِيمَا تقدم من كَون الدّين لَازِما مَعْلُوم الْقدر وَالْجِنْس وَالصّفة وَشرط فِي الْمَضْمُون لَهُ
هُوَ الدَّائِن معرفَة الضَّامِن عينه لتَفَاوت النَّاس فِي اسْتِيفَاء الدّين تشديدا وتسهيلا وَمَعْرِفَة وَكيله كمعرفته كَمَا أفتى بِهِ ابْن الصّلاح وَإِن أفتى ابْن عبد السَّلَام بِخِلَافِهِ لِأَن الْغَالِب أَن الشَّخْص لَا يُوكل إِلَّا من هُوَ أَشد مِنْهُ فِي الْمُطَالبَة وَلَا يشْتَرط رِضَاهُ لِأَن الضَّمَان مَحْض الْتِزَام لم يوضع على قَوَاعِد المعاقدات وَلَا رضَا الْمَضْمُون عَنهُ وَهُوَ الْمَدِين وَلَا مَعْرفَته لجَوَاز التَّبَرُّع بأَدَاء دين غَيره بِغَيْر إِذْنه ومعرفته (وَإِذا غرم الضَّامِن) الْحق لصَاحبه (رَجَعَ) بِمَا غرمه (على الْمَضْمُون عَنهُ إِذا كَانَ الضَّمَان وَالْقَضَاء) للدّين (بِإِذْنِهِ) أَي الْمَضْمُون عَنهُ لَهُ فيهمَا لِأَنَّهُ صرف مَاله إِلَى مَنْفَعَة الْغَيْر بِإِذْنِهِ هَذَا إِذا أدّى من مَاله
أما لَو أَخذ من سهم الغارمين فَأدى بِهِ الدّين فَإِنَّهُ لَا يرجع كَمَا ذَكرُوهُ فِي قسم الصَّدقَات وَإِن انْتَفَى إِذْنه فِي الضَّمَان وَالْأَدَاء فَلَا رُجُوع لَهُ لتبرعه فَإِن أذن فِي الضَّمَان فَقَط وَسكت عَن الْأَدَاء رَجَعَ فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ أذن فِي سَبَب الْأَدَاء وَلَا يرجع إِذا ضمن بِغَيْر الْإِذْن وَأدّى بِالْإِذْنِ لِأَن وجوب الْأَدَاء بِسَبَب الضَّمَان وَلم يَأْذَن فِيهِ
نعم لَو أدّى بِشَرْط الرُّجُوع رَجَعَ كَغَيْر الضَّامِن وَحَيْثُ ثَبت الرُّجُوع فَحكمه حكم الْقَرْض حَتَّى يرجع فِي الْمُتَقَوم بِمثلِهِ صُورَة كَمَا قَالَه القَاضِي حُسَيْن
وَمن أدّى دين غَيره بِإِذن وَلَا ضَمَان رَجَعَ وَإِن لم يشرط الرُّجُوع للْعُرْف بِخِلَاف مَا إِذا أَدَّاهُ بِلَا إِذن لِأَنَّهُ مُتَبَرّع وَإِنَّمَا يرجع مؤد وَلَو ضَامِنا إِذا أشهد بذلك وَلَو رجلا ليحلف مَعَه لِأَن ذَلِك حجَّة أَو أدّى بِحَضْرَة مَدين وَلَو(2/314)
مَعَ تَكْذِيب الدَّائِن أَو فِي غيبته لَكِن صدقه الدَّائِن لسُقُوط الطّلب بِإِقْرَارِهِ
القَوْل فِي ضَمَان الْمَجْهُول (وَلَا يَصح ضَمَان) الدّين (الْمَجْهُول) قدره أَو قِيمَته أَو صفته لِأَنَّهُ إِثْبَات مَال فِي الذِّمَّة بِعقد فَأشبه البيع إِلَّا فِي إبل دِيَة فَيصح ضَمَانهَا مَعَ الْجَهْل بصفتها لِأَنَّهَا مَعْلُومَة السن وَالْعدَد وَلِأَنَّهُ قد اغتفر ذَلِك فِي إِثْبَاتهَا فِي ذمَّة الْجَانِي فيغتفر فِي الضَّمَان وَيرجع فِي صفتهَا إِلَى غَالب إبل الْبَلَد
(وَلَا) يَصح ضَمَان (مَا لم يجب) كضمان مَا سيقرضه زيدا وَنَفَقَة الزَّوْجَة الْمُسْتَقْبلَة وَتَسْلِيم ثوب رَهنه شخص وَلم يتسلمه كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة (إِلَّا) ضَمَان (دَرك الْمَبِيع) أَو الثّمن بعد قبض مَا يضمن كَأَن يضمن لمشتر الثّمن أَو لبائع الْمَبِيع
إِن خرج مُقَابِله مُسْتَحقّا أَو مَبِيعًا ورد أَو نَاقِصا لنَقص صفة شرطت أَو صنجة أَي وزن ورد وَذَلِكَ للْحَاجة إِلَيْهِ
وَمَا وَجه بِهِ القَوْل بِبُطْلَانِهِ من أَنه ضَمَان مَا لم يجب
أُجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ إِن خرج الْمُقَابل كَمَا ذكر تبين وجوب رد الْمَضْمُون وَلَا يَصح قبل قبض الْمَضْمُون لِأَنَّهُ إِنَّمَا يضمن مَا دخل فِي ضَمَان البَائِع أَو المُشْتَرِي
تَتِمَّة لَو صَالح الضَّامِن عَن الدّين الْمَضْمُون بِمَا دونه كَأَن صَالح عَن مائَة بِبَعْضِهَا أَو بِثَوْب قِيمَته دونهَا لم يرجع إِلَّا بِمَا غرم لِأَنَّهُ الَّذِي بذله
نعم لَو ضمن ذمِّي لذِمِّيّ دينا على مُسلم ثمَّ تصالحا على خمر لم يرجع لتعلقها بِالْمُسلمِ وَلَا قيمَة للخمر عِنْده وحوالة الضَّامِن الْمَضْمُون لَهُ كالأداء فِي ثُبُوت الرُّجُوع وَعَدَمه وَلَو ضمن اثْنَان ألفا لشخص كَانَ لَهُ مُطَالبَة كل مِنْهُمَا بِالْألف لِأَن كلا مِنْهُمَا ضَامِن للألف على الْمَكْفُول قَالَه الْمُتَوَلِي
فصل فِي كَفَالَة الْبدن
وَتسَمى أَيْضا كَفَالَة الْوَجْه
وَهِي بِفَتْح الْكَاف اسْم لضمان الْإِحْضَار دون المَال (وَالْكَفَالَة بِالْبدنِ) أَي ببدن من يسْتَحق حُضُوره مجْلِس الحكم عِنْد الاستدعاء (جَائِزَة إِذا كَانَ على الْمَكْفُول بِهِ حق) لله تَعَالَى أَو حق (لآدَمِيّ) للْحَاجة إِلَى ذَلِك واستؤنس لَهَا بقوله تَعَالَى حِكَايَة عَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام {لن أرْسلهُ مَعكُمْ حَتَّى تؤتون موثقًا من الله لتأتنني بِهِ}(2/315)
بِخِلَاف عُقُوبَة الله تَعَالَى
وَإِنَّمَا تصح كَفَالَة بدن من ذكر بِإِذْنِهِ وَلَو بنائبه وَلَو كَانَ من ذكر صَبيا أَو مَجْنُونا بِإِذن وليه أَو مَحْبُوسًا وَإِن تعذر تَحْصِيل الْغَرَض فِي الْحَال أَو مَيتا قبل دَفنه ليشهد على صورته إِذا تحمل الشَّاهِد عَلَيْهِ كَذَلِك وَلم يعرف اسْمه وَنسبه قَالَ فِي الْمطلب وَيظْهر اشْتِرَاط إِذن الْوَارِث إِذا اشترطنا إِذن الْمَكْفُول وَظَاهر أَن مَحَله فِيمَن يعْتَبر إِذْنه وَإِلَّا فَالْمُعْتَبر إِذن وليه فَإِن كفل بدن من عَلَيْهِ مَال شَرط لُزُومه لَا علم بِهِ لعدم لُزُومه للْكَفِيل وكالبدن الْجُزْء الشَّائِع كثلثه والجزء الَّذِي لَا يعِيش بِدُونِهِ كرأسه
ثمَّ إِن عين مَحل تَسْلِيم فِي الْكفَالَة فَذَاك وَإِلَّا تعين محلهَا كَمَا فِي السّلم فيهمَا وَيبرأ الْكَفِيل بِتَسْلِيم الْمَكْفُول فِي مَحل التَّسْلِيم الْمَذْكُور بِلَا حَائِل كتسليمه نَفسه عَن الْكَفِيل فَإِن غَابَ لزمَه إِحْضَاره إِن أمكن بِأَن عرف مَحَله وَأمن الطَّرِيق وَلَا حَائِل وَلَو كَانَ بمسافة الْقصر ويمهل مُدَّة إِحْضَاره
بِأَن يُمْهل مُدَّة ذَهَابه وإيابه على الْعَادة وَظَاهر أَنه إِن كَانَ السّفر طَويلا أمْهل مُدَّة إِقَامَة الْمسَافَة وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام غير يومي الدُّخُول وَالْخُرُوج
ثمَّ إِن مَضَت الْمدَّة الْمَذْكُورَة وَلم يحضرهُ حبس إِلَّا أَن يتَعَذَّر إِحْضَار الْمَكْفُول بِمَوْت أَو غَيره أَو يُوفي الدّين فَإِن وفاه ثمَّ حضر الْمَكْفُول قَالَ الْإِسْنَوِيّ فَالْمُتَّجه أَن لَهُ الِاسْتِرْدَاد وَلَا يُطَالب كَفِيل بِمَال وَلَا عُقُوبَة وَإِن فَاتَ التَّسْلِيم بِمَوْت أَو غَيره لِأَنَّهُ لم يلتزمه وَلَو شَرط أَنه يغرم المَال وَلَو مَعَ قَوْله إِن فَاتَ التَّسْلِيم للمكفول لم تصح الْكفَالَة لِأَن ذَلِك خلاف مقتضاها
فصل فِي الشّركَة
هِيَ بِكَسْر الشين وَإِسْكَان الرَّاء وبفتح الشين مَعَ كسر الرَّاء وإسكانها لُغَة الِاخْتِلَاط وَشرعا ثُبُوت الْحق فِي شَيْء لاثْنَيْنِ فَأكْثر على جِهَة الشُّيُوع
هَذَا وَالْأولَى أَن يُقَال هِيَ عقد يَقْتَضِي ثُبُوت ذَلِك
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع خبر السَّائِب بن يزِيد أَنه كَانَ شريك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل المبعث وافتخر بشركته بعد المبعث وَخبر يَقُول الله أَنا ثَالِث الشَّرِيكَيْنِ مَا لم يخن أَحدهمَا صَاحبه فَإِذا خانه خرجت من بَينهمَا وَالْمعْنَى أَنا مَعَهُمَا بِالْحِفْظِ والإعانة فأمدهما بالمعونة فِي أموالهما وَأنزل الْبركَة فِي تجارتهما فَإِذا وَقعت بَينهمَا الْخِيَانَة رفعت الْبركَة والإعانة عَنْهُمَا وَهُوَ معنى خرجت من بَينهمَا
القَوْل فِي أَنْوَاع الشّركَة وَمَا يجوز مِنْهَا وَهِي أَرْبَعَة أَنْوَاع شركَة أبدان بِأَن يشْتَرك اثْنَان ليَكُون بَينهمَا كسبهما ببدنهما
وَشركَة مُفَاوَضَة ليَكُون بَينهمَا كسبهما ببدنهما أَو مَالهمَا وَعَلَيْهِمَا مَا يعرض من غرم
وَشركَة وُجُوه(2/316)
بِأَن يشتركا ليَكُون بَينهمَا ربح مَا يشتريانه بمؤجل أَو حَال لَهما ثمَّ يبيعانه وَشركَة عنان بِكَسْر الْعين على الْمَشْهُور من عَن الشَّيْء ظهر وَهِي الصَّحِيحَة
وَلِهَذَا اقْتصر المُصَنّف عَلَيْهَا دون الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة فباطلة لِأَنَّهَا شركَة فِي غير مَال كالشركة فِي احتطاب واصطياد ولكثرة الْغرَر فِيهَا لَا سِيمَا شركَة الْمُفَاوضَة
نعم إِن نويا بالمفاوضة وفيهَا مَال شركَة الْعَنَان صحت
وأركان شركَة الْعَنَان خَمْسَة عاقدان ومعقود عَلَيْهِ وَعمل وَصِيغَة ذكر المُصَنّف بَعْضهَا وَذكر شُرُوطًا خَمْسَة فَقَالَ (وللشركة) الْمَذْكُورَة (خمس شَرَائِط) وَالْخَامِس مِنْهَا على وَجه ضَعِيف وَهُوَ المبدوء بِهِ فِي كَلَامه بقوله (أَن تكون على ناض) أَي مَضْرُوب (من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير) لَا على التبر والسبائك وَنَحْو ذَلِك من أَنْوَاع الْمثْلِيّ وَالأَصَح صِحَّتهَا فِي كل مثلي أما النَّقْد الْخَالِص فبالإجماع وَأما الْمَغْشُوش فَفِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا كَمَا فِي زَوَائِد الرَّوْضَة جَوَازه إِن اسْتمرّ رواجه وَأما غير النَّقْد من الْمِثْلِيَّات كالبر وَالشعِير وَالْحَدِيد فعلى الْأَظْهر لِأَنَّهُ إِذا اخْتَلَط بِجِنْسِهِ ارْتَفع التَّمْيِيز فَأشبه النَّقْدَيْنِ وَمن الْمثْلِيّ تبر الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَتَصِح الشّركَة فِيهِ فَمَا أطلقهُ الْأَكْثَرُونَ هُنَا من منع الشّركَة فِيهِ وَلَعَلَّ مِنْهُم المُصَنّف مَبْنِيّ على أَنه مُتَقَوّم كَمَا نبه عَلَيْهِ فِي أصل الرَّوْضَة وَهِي لَا تصح فِي الْمُتَقَوم إِذْ لَا يُمكن الْخَلْط فِي المتقومات لِأَنَّهَا أَعْيَان متميزة وَحِينَئِذٍ قد يتْلف مَال أَحدهمَا أَو ينقص فَلَا يُمكن قسْمَة الآخر بَينهمَا
إِذا علمت ذَلِك فَالْمُعْتَمَد حِينَئِذٍ أَن الشُّرُوط أَرْبَعَة فَقَط الأول مِنْهَا (أَن يتَّفقَا) أَي المالان (فِي الْجِنْس وَالنَّوْع) دون الْقدر إِذا لَا مَحْذُور فِي التَّفَاوُت فِيهِ لِأَن الرِّبْح والخسران على قدرهما
(و) الثَّانِي (أَن يخلطا الْمَالَيْنِ) بِحَيْثُ لَا يتميزان لما مر فِي امْتنَاع الْمُتَقَوم وَلَا بُد من كَون الْخَلْط قبل العقد فَإِن وَقع بعده وَلَو فِي الْمجْلس لم يكف إِذْ لَا اشْتِرَاك حَال العقد فيعاد العقد بعد ذَلِك
وَلَا يَكْفِي الْخَلْط مَعَ إِمْكَان التَّمْيِيز لنَحْو اخْتِلَاف جنس كدراهم ودنانير أَو صفة كصحاح ومكسرة وحنطة جَدِيدَة وحنطة عتيقة أَو بَيْضَاء وسوداء لِإِمْكَان التَّمْيِيز وَإِن كَانَ فِيهِ عسر
تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَام المُصَنّف أَنه لَا يشْتَرط تَسَاوِي المثلثين فِي الْقيمَة وَهُوَ كَذَلِك فَلَو خلطا قَفِيزا مُقَومًا بِمِائَة قفيز مقوم بِخَمْسِينَ صَحَّ وَكَانَت الشّركَة أَثلَاثًا بِنَاء على قطع النّظر فِي الْمثْلِيّ عَن تَسَاوِي الْأَجْزَاء فِي الْقيمَة وَإِلَّا فَلَيْسَ هَذَا القفيز مثلا لهَذَا القفيز وَإِن كَانَ مثلِيا فِي نَفسه
وَلَو كَانَ كل مِنْهُمَا يعرف مَا لَهُ بعلامة لَا يعرفهَا غَيره وَلَا يتَمَكَّن من التَّمْيِيز هَل تصح الشّركَة نظرا إِلَى حَال النَّاس أَو لَا نظرا إِلَى حَالهمَا قَالَ فِي الْبَحْر يحْتَمل وَجْهَيْن انْتهى
وَالْأَوْجه عدم الصِّحَّة أخذا من عُمُوم كَلَام الْأَصْحَاب وَمحل هَذَا الشَّرْط إِن أخرجَا مالين وعقدا فَإِن كَانَ ملكا مُشْتَركا مِمَّا تصح فِيهِ الشّركَة أَو لَا كالعروض بِإِرْث وَشِرَاء(2/317)
وَغَيرهمَا وَأذن كل مِنْهُمَا للْآخر فِي التِّجَارَة تمت الشّركَة لِأَن الْمَعْنى الْمَقْصُود بالخلط حَاصِل وَمن الْحِيلَة فِي الشّركَة فِي المتقومات أَن يَبِيع أَحدهمَا بعض عرضه بِبَعْض عرض الآخر كَنِصْف بِنصْف أَو ثلث بثلثين ثمَّ يَأْذَن لَهُ بعد التَّقَابُض وَغَيره مِمَّا شَرط فِي البيع فِي التَّصَرُّف فِيهِ لِأَن الْمَقْصُود بالخلط حَاصِل بل ذَلِك أبلغ من الْخَلْط لِأَن مَا من جُزْء هُنَا إِلَّا هُوَ مُشْتَرك بَينهم وَهُنَاكَ وَإِن وجد الْخَلْط فَإِن مَال كل وَاحِد ممتاز عَن مَال الآخر وَحِينَئِذٍ فيملكانه بِالسَّوِيَّةِ إِن بيع نصف بِنصْف
فَإِن بيع ثلث بثلثين لأجل تفاوتهما فِي الْقيمَة ملكاه على هَذِه النِّسْبَة
(و) الثَّالِث (أَن يَأْذَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه فِي التَّصَرُّف) بعد الْخَلْط وَفِي هَذَا الشَّرْط إِشَارَة إِلَى الصِّيغَة وَهِي مَا يدل على الْإِذْن من كل مِنْهُمَا للْآخر فِي التَّصَرُّف لمن يتَصَرَّف من كل مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا لِأَن المَال الْمُشْتَرك لَا يجوز لأحد الشَّرِيكَيْنِ التَّصَرُّف فِيهِ إِلَّا بِإِذن صَاحبه وَلَا يعرف الْإِذْن إِلَّا بِصِيغَة تدل عَلَيْهِ فَإِن قَالَ أَحدهمَا للْآخر اتّجر أَو تصرف اتّجر فِي الْجَمِيع فِيمَا شَاءَ وَلَو لم يقل فِيمَا شِئْت كالقراض وَلَا يتَصَرَّف الْقَائِل إِلَّا فِي نصِيبه مَا لم يَأْذَن لَهُ الآخر فيتصرف فِي الْجَمِيع أَيْضا فَإِن شَرط أَن لَا يتَصَرَّف أَحدهمَا فِي نصيب نَفسه لم يَصح العقد لما فِيهِ من الْحجر على الْمَالِك فِي ملكه فَلَو اقْتصر كل مِنْهُمَا على اشتركنا لم يكف الْإِذْن الْمَذْكُور وَلم يتَصَرَّف كل مِنْهُمَا إِلَّا فِي نصِيبه لاحْتِمَال كَون ذَلِك إِخْبَارًا عَن حُصُول الشّركَة فِي المَال وَلَا يلْزم من حُصُولهَا جَوَاز التَّصَرُّف بِدَلِيل المَال الْمَوْرُوث شركَة
(و) الرَّابِع (أَن يكون الرِّبْح والخسران على قدر الْمَالَيْنِ) بِاعْتِبَار الْقيمَة لَا الْأَجْزَاء سَوَاء شرطا ذَلِك أم لَا تساوى الشريكان فِي الْعَمَل أم تَفَاوتا فِيهِ لِأَن ذَلِك ثَمَرَة الْمَالَيْنِ فَكَانَ ذَلِك على قدرهما كَمَا لَو كَانَ بَينهمَا شَجَرَة فأثمرت أَو شَاة فنتجت فَإِن شرطا خِلَافه بِأَن شرطا التَّسَاوِي فِي الرِّبْح والخسران مَعَ التَّفَاضُل فِي الْمَالَيْنِ أَو التَّفَاضُل فِي الرِّبْح والخسران مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ فسد العقد لِأَنَّهُ مُخَالف لموضوع الشّركَة وَلَو شرطا زِيَادَة فِي الرِّبْح للْأَكْثَر مِنْهُمَا عملا بَطل الشَّرْط كَمَا لَو شرطا التَّفَاوُت فِي الخسران فَيرجع كل مِنْهُمَا على الآخر بِأُجْرَة عمله فِي مَال الآخر كالقراض إِذا فسد وتنفذ التَّصَرُّفَات مِنْهُمَا لوُجُود الْإِذْن وَالرِّبْح بَينهمَا على قدر الْمَالَيْنِ ويتسلط كل مِنْهُمَا على التَّصَرُّف إِذا وجد الْإِذْن من الطَّرفَيْنِ بِلَا ضَرَر فَلَا يَبِيع نَسِيئَة للغرر
وَلَا بِغَيْر نقد الْبَلَد وَلَا يَشْتَرِي بِغَبن وَلَا يُسَافر بِالْمَالِ الْمُشْتَرك لما فِي السّفر من الْخطر فَإِن سَافر ضمن فَإِن بَاعَ صَحَّ البيع وَإِن كَانَ ضَامِنا وَلَا يَدْفَعهُ لمن يعْمل فِيهِ لِأَنَّهُ لم يرض بِغَيْر يَده فَإِن فعل ضمن هَذَا كُله إِذا فعله بِغَيْر إِذن شَرِيكه فَإِن أذن(2/318)
لَهُ فِي شَيْء مِمَّا ذكر جَازَ وَيشْتَرط فِي الْعَاقِد أَهْلِيَّة تَوْكِيل وتوكل لِأَن كلا مِنْهُمَا وَكيل عَن الآخر فَإِن كَانَ أَحدهمَا هُوَ الْمُتَصَرف اشْترط فِيهِ أَهْلِيَّة التَّوَكُّل وَفِي الآخر أَهْلِيَّة التَّوْكِيل فَقَط حَتَّى يجوز كَونه أعمى كَمَا قَالَه فِي الْمطلب
القَوْل فِي الشّركَة عقد جَائِز (وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا) أَي الشَّرِيكَيْنِ (فَسخهَا) أَي الشّركَة (مَتى شَاءَ) وَلَو بعد التَّصَرُّف لِأَنَّهَا عقد جَائِز من الْجَانِبَيْنِ وينعزلان عَن التَّصَرُّف بِفَسْخ كل مِنْهُمَا فَإِن قَالَ أَحدهمَا للْآخر عزلتك أَو لَا تتصرف فِي نَصِيبي لم يَنْعَزِل العازل فيتصرف فِي نصيب الْمَعْزُول (وَمَتى مَاتَ أَحدهمَا أَو جن) أَو أُغمي عَلَيْهِ أَو حجر عَلَيْهِ بِسَفَه (بطلت) أَي انْفَسَخت لما مر أَنه عقد جَائِز من الْجَانِبَيْنِ
وَاسْتثنى فِي الْبَحْر إِغْمَاء لَا يسْقط بِهِ فرض صَلَاة فَلَا فسخ بِهِ لِأَنَّهُ خَفِيف وَظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب يُخَالِفهُ
تَتِمَّة يَد الشَّرِيك يَد أَمَانَة كَالْمُودعِ وَالْوَكِيل فَيقبل قَوْله فِي الرِّبْح والخسران وَفِي التّلف إِن ادَّعَاهُ بِلَا سَبَب أَو بِسَبَب خَفِي كالسرقة فَإِن ادَّعَاهُ بِسَبَب ظَاهر كحريق طُولِبَ بِبَيِّنَة بِالسَّبَبِ ثمَّ بعد إِقَامَتهَا يصدق فِي التّلف بِهِ بِيَمِينِهِ فَإِن عرف الْحَرِيق دون عُمُومه صدق بِيَمِينِهِ أَو وعمومه صدق بِلَا يَمِين
وَلَو قَالَ من فِي يَده المَال هُوَ لي وَقَالَ الآخر هُوَ مُشْتَرك أَو قَالَ من فِي يَده المَال هُوَ مُشْتَرك
وَقَالَ الآخر هُوَ لي صدق صَاحب الْيَد بِيَمِينِهِ لِأَنَّهَا تدل على الْملك وَلَو قَالَ صَاحب الْيَد اقْتَسَمْنَا وَصَارَ مَا فِي يَدي لي وَقَالَ الآخر بل هُوَ مُشْتَرك صدق الْمُنكر بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل عدم الْقِسْمَة وَلَو اشْترى أَحدهمَا شَيْئا وَقَالَ اشْتَرَيْته للشَّرِكَة أَو لنَفْسي وَكذبه الآخر صدق المُشْتَرِي لِأَنَّهُ أعرف بِقَصْدِهِ
فصل فِي الْوكَالَة
هِيَ بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا لُغَة التَّفْوِيض يُقَال وكل أمره إِلَى فلَان فوضه إِلَيْهِ وَاكْتفى بِهِ وَمِنْه {توكلت على الله} وَشرعا تَفْوِيض شخص مَا لَهُ فعله مِمَّا يقبل النِّيَابَة إِلَى غَيره ليفعله فِي حَيَاته
وَالْأَصْل فِيهَا من الْكتاب الْعَزِيز قَوْله تَعَالَى {فَابْعَثُوا حكما من أَهله وَحكما من أَهلهَا} وَمن السّنة أَحَادِيث مِنْهَا خبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث السعاة لأخذ الزَّكَاة
القَوْل فِي أَرْكَان الْوكَالَة وأركانها أَرْبَعَة مُوكل ووكيل وموكل فِيهِ وَصِيغَة
وَبَدَأَ المُصَنّف بالموكل فَقَالَ (وكل مَا جَازَ للْإنْسَان التَّصَرُّف فِيهِ بِنَفسِهِ) بِملك أَو ولَايَة (جَازَ لَهُ أَن يُوكل فِيهِ) غَيره لِأَنَّهُ إِذا لم يقدر على التَّصَرُّف بِنَفسِهِ فبنائبه أولى
وَهَذَا فِي الْغَالِب وَإِلَّا فقد اسْتثْنى مِنْهُ مسَائِل طردا وعكسا(2/319)
فَمن الطَّرْد الظافر بِحقِّهِ فَلَا يُوكل فِي كسر الْبَاب وَأخذ حَقه
وكوكيل قَادر وَعبد مَأْذُون لَهُ وسفيه مَأْذُون لَهُ فِي نِكَاح وَمن الْعَكْس كأعمى يُوكل فِي تصرف وَإِن لم تصح مُبَاشَرَته لَهُ للضَّرُورَة وكمحرم يُوكل حَلَالا فِي النِّكَاح بعد التَّحَلُّل فَيصح تَوْكِيل ولي عَن نَفسه أَو موليه من صبي وَمَجْنُون وسفيه لصِحَّة مُبَاشَرَته لَهُ وَسكت المُصَنّف عَن شَرط الْمُوكل فِيهِ وَشَرطه أَن يملكهُ الْمُوكل حِين التَّوْكِيل فَلَا يَصح التَّوْكِيل فِيمَا لَا يملكهُ وَمَا سيملكه وَطَلَاق من سينكحها لِأَنَّهُ لَا يُبَاشر ذَلِك بِنَفسِهِ فَكيف يَسْتَنِيب غَيره إِلَّا تبعا فَيصح التَّوْكِيل بِبيع مَا لَا يملكهُ تبعا للمملوك كَمَا نقل عَن الشَّيْخ أبي حَامِد وَغَيره وَيشْتَرط أَن يقبل نِيَابَة فَيصح التَّوْكِيل فِي كل عقد كَبيع وَهبة وكل فسخ كإقالة ورد بِعَيْب وَقبض وإقباض وخصومة من دَعْوَى وَجَوَاب وتملك مُبَاح كإحياء واصطياد وَاسْتِيفَاء عُقُوبَة لَا فِي إِقْرَار فَلَا يَصح التَّوْكِيل فِيهِ وَلَا فِي الْتِقَاط وَلَا فِي عبَادَة كَصَلَاة إِلَّا فِي نسك من حج أَو عمْرَة وَدفع نَحْو زَكَاة ككفارة وَذبح نَحْو أضْحِية كعقيقة
وَلَا يَصح فِي شَهَادَة إِلْحَاقًا لَهَا بِالْعبَادَة وَلَا فِي نَحْو ظِهَار كَقَتل وَلَا فِي نَحْو يَمِين كإيلاء
وَلَا بُد أَن يكون الْمُوكل فِيهِ مَعْلُوما وَلَو من وَجه كوكلتك فِي بيع أَمْوَالِي وَعتق أرقائي لَا فِي نَحْو كل أموري ككل قَلِيل وَكثير وَإِن كَانَ تَابعا لمُعين
وَالْفرق بَينه وَبَين مَا مر بِأَن التَّابِع ثمَّ معِين بِخِلَافِهِ هُنَا وَيجب فِي تَوْكِيله فِي شِرَاء عبد بَيَان نَوعه كتركي وَفِي شِرَاء دَار محلّة وسكة وَلَا يجب بَيَان ثمن فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِأَن غَرَض الْمُوكل قد يتَعَلَّق بِوَاحِد من ذَلِك نفيسا كَانَ ذَلِك أَو خسيسا ثمَّ مَحل بَيَان مَا ذكر إِذا لم يقْصد التِّجَارَة وَإِلَّا فَلَا يجب بَيَان شَيْء من ذَلِك
وَأَشَارَ إِلَى الْوَكِيل بقوله (أَو يتوكل فِيهِ عَن غَيره) فأو هُنَا تقسيمية أَي شَرط الْوَكِيل صِحَة مُبَاشَرَته التَّصَرُّف الْمَأْذُون فِيهِ لنَفسِهِ وَإِلَّا فَلَا يَصح توكله لِأَنَّهُ إِذا لم يقدر على التَّصَرُّف لنَفسِهِ فلغيره أولى فَلَا يَصح تَوْكِيل صبي وَمَجْنُون ومغمى عَلَيْهِ وَلَا تَوْكِيل امْرَأَة فِي نِكَاح وَلَا محرم ليعقده إِحْرَامه وَهَذَا فِي الْغَالِب وَإِلَّا فقد اسْتثْنِي من ذَلِك مسَائِل مِنْهَا للْمَرْأَة فتتوكل فِي طَلَاق غَيرهَا وَمِنْهَا السَّفِيه وَالْعَبْد فيتوكلان فِي قبُول النِّكَاح بِغَيْر إِذن الْوَلِيّ وَالسَّيِّد لَا فِي إِيجَابه وَمِنْهَا الصَّبِي الْمَأْمُون فيتوكل فِي الْإِذْن فِي دُخُول دَار وإيصال هَدِيَّة وَإِن لم تصح مُبَاشَرَته لَهُ بِلَا إِذن وَيشْتَرط تعْيين الْوَكِيل فَلَو قَالَ لاثْنَيْنِ وكلت أَحَدكُمَا فِي بيع كَذَا(2/320)
لم يَصح
نعم لَو قَالَ وَكلتك فِي بيع كَذَا مثلا وكل مُسلم صَحَّ كَمَا بَحثه بعض الْمُتَأَخِّرين وَعَلِيهِ الْعَمَل
وَشرط فِي الصِّيغَة من مُوكل وَلَو بنائبه مَا يشْعر بِرِضَاهُ كوكلتك فِي كَذَا أَو بِعْ كَذَا كَسَائِر الْعُقُود وَالْأول إِيجَاب وَالثَّانِي قَائِم مقَامه
أما الْوَكِيل فَلَا يشْتَرط قبُوله لفظا أَو نَحوه إِلْحَاقًا للتوكيل بِالْإِبَاحَةِ أما قبُوله معنى وَهُوَ عدم رد الْوكَالَة فَلَا بُد مِنْهُ فَلَو رد فَقَالَ لَا أقبل أَو لَا أفعل بطلت
وَلَا يشْتَرط فِي الْقبُول هُنَا الْفَوْر وَلَا الْمجْلس وَيصِح تَوْقِيت الْوكَالَة نَحْو وَكلتك فِي كَذَا إِلَى رَجَب وَتَعْلِيق التَّصَرُّف نَحْو وَكلتك الْآن فِي بيع كَذَا وَلَا تبعه حَتَّى يَجِيء رَمَضَان لَا تَعْلِيق الْوكَالَة نَحْو إِذا جَاءَ شعْبَان فقد وَكلتك فِي كَذَا
فَلَا يَصح كَسَائِر الْعُقُود لَكِن ينفذ تصرفه بعد وجود الْمُعَلق عَلَيْهِ للْإِذْن فِيهِ
القَوْل فِي الْوكَالَة عقد جَائِز (و) الْوكَالَة وَلَو بِجعْل غير لَازِمَة من جَانب الْمُوكل وَالْوَكِيل فَيجوز (لكل وَاحِد مِنْهُمَا فَسخهَا مَتى شَاءَ) وَلَو بعد التَّصَرُّف سَوَاء تعلق بهَا حق ثَالِث كَبيع الْمَرْهُون أم لَا (وتنفسخ) حكما (بِمَوْت أَحدهمَا) وبجنونه وبإغمائه وَشرعا بعزل أَحدهمَا بِأَن يعْزل الْوَكِيل نَفسه أَو يعزله الْمُوكل سَوَاء أَكَانَ بِلَفْظ الْعَزْل أم لَا كفسخت الْوكَالَة أَو أبطلتها أَو رفعتها وبتعمده إنكارها بِلَا غَرَض لَهُ فِيهِ بِخِلَاف إِنْكَاره لَهَا نِسْيَانا أَو لغَرَض كإخفائها من ظَالِم وبطرو رق وَحجر كحجر سفه أَو فلس عَمَّا لَا ينفذ مِمَّن اتّصف بهَا وبفسقه فِيمَا فِيهِ الْعَدَالَة شَرط كوكالة النِّكَاح والوصايا وبزوال ملك مُوكل عَن مَحل التَّصَرُّف أَو منفعَته كَبيع ووقف لزوَال الْولَايَة وإيجار مَا وكل فِي بَيْعه وَمثله تَزْوِيجه وَرَهنه مَعَ قبض لإشعارها بالندم عَن التَّصَرُّف بِخِلَاف نَحْو الْعرض على البيع
القَوْل فِي ضَمَان الْوَكِيل (وَالْوَكِيل) وَلَو بِجعْل (أَمِين فِيمَا يقبضهُ) لمُوكلِه (وَفِيمَا يصرفهُ) من مَال مُوكله عَنهُ ((وَلَا يضمن) مَا تلف فِي يَده من مَال مُوكله
(إِلَّا بالتفريط) فِي حَقه كَسَائِر الْأُمَنَاء
تَنْبِيه لَو عبر بِالتَّعَدِّي لَكَانَ أولى لِأَنَّهُ يلْزم من التَّعَدِّي التَّفْرِيط وَلَا عكس لاحْتِمَال نِسْيَان وَنَحْوه
وَيصدق بِيَمِينِهِ فِي دَعْوَى التّلف وَالرَّدّ على الْمُوكل لِأَنَّهُ ائتمنه بِخِلَاف دَعْوَى الرَّد على غير الْمُوكل كرسوله
وَإِذا تعدى كَأَن ركب الدَّابَّة أَو لبس الثَّوْب تَعَديا ضمن كَسَائِر الْأُمَنَاء وَلَا يَنْعَزِل لِأَن الْوكَالَة إِذن فِي التَّصَرُّف وَالْأَمَانَة حكم يَتَرَتَّب عَلَيْهَا وَلَا يلْزم من ارتفاعه بطلَان الْإِذْن بِخِلَاف الْوَدِيعَة فَإِنَّهَا مَحْض ائتمان فَإِذا بَاعَ وَسلم الْمَبِيع زَالَ الضَّمَان عَنهُ وَلَا يضمن الثّمن وَلَو رد الْمَبِيع عَلَيْهِ بِعَيْب عَاد الضَّمَان
القَوْل فِي تصرف الْوَكِيل (وَلَا يجوز) للْوَكِيل (أَن يَبِيع وَيَشْتَرِي) بِالْوكَالَةِ الْمُطلقَة (إِلَّا بِثَلَاثَة شَرَائِط) الأول أَن يعْقد (بِثمن الْمثل) إِذا لم يجد(2/321)
رَاغِبًا بِزِيَادَة عَلَيْهِ فَإِن وجده فَهُوَ كَمَا لَو بَاعَ بِدُونِهِ فَلَا يَصح إِذا كَانَ بِغَبن فَاحش وَهُوَ مَا لَا يحْتَمل غَالِبا بِخِلَاف الْيَسِير وَهُوَ مَا يحْتَمل غَالِبا فيغتفر فَبيع مَا يُسَاوِي عشرَة بِتِسْعَة مُحْتَمل وبثمانية غير مُحْتَمل
وَالثَّانِي كَون الثّمن (نَقْدا) أَي حَالا فَلَا يَبِيع نَسِيئَة وَالثَّالِث أَن يَبِيع (بِنَقْد الْبَلَد) أَي بلد البيع لَا بلد التَّوْكِيل فَلَو خَالف فَبَاعَ على أحد هَذِه الْأَنْوَاع وَسلم الْمَبِيع ضمن بدله لتعديه بِتَسْلِيمِهِ بِبيع فَاسد فيسترده إِن بَقِي وَله بَيْعه بِالْإِذْنِ السَّابِق وَلَا يضمن ثمنه وَإِن تلف الْمَبِيع غرم الْمُوكل بدله من شَاءَ من الْوَكِيل وَالْمُشْتَرِي والقرار عَلَيْهِ
تَنْبِيه لَو كَانَ بِالْبَلَدِ نقدان لزمَه البيع بأغلبهما فَإِن اسْتَويَا فِي الْمُعَامَلَة بَاعَ بأنفعهما للْمُوكل فَإِن اسْتَويَا تخير بَينهمَا فَإِذا بَاعَ بهما قَالَ الإِمَام فِيهِ تردد للأصحاب وَالْمذهب الْجَوَاز
وَلَو وَكله لبيع مُؤَجّلا صَحَّ وَإِن أطلق الْأَجَل وَحمل مُطلق أجل على عرف فِي البيع بَين النَّاس فَإِن لم يكن عرف راعي الْوَكِيل الأنفع للْمُوكل
وَيشْتَرط الْإِشْهَاد وَحَيْثُ قدر الْأَجَل اتبع الْوَكِيل مَا قدره الْمُوكل فَإِن بَاعَ بِحَال أَو نقص عَن الْأَجَل كَأَن بَاعَ إِلَى شهر مَا قَالَ الْمُوكل بِعْهُ إِلَى شَهْرَيْن صَحَّ البيع إِن لم يَنْهَهُ الْمُوكل وَلم يكن عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَر كنقص ثمن أَو خوف أَو مؤونة حفظ وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيّ حمله على ماإذا لم يعين المُشْتَرِي وَإِلَّا فَلَا يَصح لظُهُور قصد الْمُحَابَاة
فرع لَو قَالَ لوَكِيله بِعْ هَذَا بكم شِئْت فَلهُ بَيْعه بِغَبن فَاحش لَا بنسيئة وَلَا بِغَيْر نقد الْبَلَد أَو بِمَا شِئْت أَو بِمَا ترَاهُ فَلهُ بَيْعه بِغَيْر نقد الْبَلَد لَا بِغَبن وَلَا بنسيئة أَو بكيف شِئْت فَلهُ بَيْعه بنسيئة لَا بِغَبن وَلَا بِغَيْر نقد الْبَلَد أَو بِمَا عز وَهَان فَلهُ بَيْعه بِعرْض وغبن لَا بنسيئة وَذَلِكَ لِأَن كم للعدد فَشَمَلَ الْقَلِيل وَالْكثير وَمَا للْجِنْس فَشَمَلَ النَّقْد وَالْعرض لكنه فِي الْأَخِيرَة لما قرن بعز وَهَان شَمل عرفا الْقَلِيل وَالْكثير أَيْضا وَكَيف للْحَال فَشَمَلَ الْحَال والمؤجل
(وَلَا يجوز) للْوَكِيل (أَن يَبِيع) مَا وكل فِيهِ (من نَفسه) وَلَا من موليه وَإِن أذن لَهُ فِي ذَلِك لِأَنَّهُ مُتَّهم فِي ذَلِك بِخِلَاف غَيرهمَا كأبيه وَولده الرشيد وَله قبض ثمن حَال ثمَّ يسلم الْمَبِيع الْمعِين إِن تسلمه لِأَنَّهُمَا من مقتضيات البيع فَإِن سلم الْمَبِيع(2/322)
قبل قبض الثّمن ضمن قِيمَته وَقت التَّسْلِيم لتعديه وَإِن كَانَ الثّمن أَكثر مِنْهَا فَإِذا غرمها ثمَّ قبض الثّمن دَفعه إِلَى الْمُوكل واسترد مَا غرم
أما الثّمن الْمُؤَجل فَلهُ تَسْلِيم الْمَبِيع وَلَيْسَ لَهُ قبض الثّمن إِذا حل إِلَّا بِإِذن جَدِيد وَلَيْسَ لوكيل بشرَاء شِرَاء معيب لاقْتِضَاء الْإِطْلَاق عرفا السَّلِيم وَله تَوْكِيل بِلَا إِذن فِيمَا لم يتأت مِنْهُ لكَونه لَا يَلِيق بِهِ أَو كَونه عَاجِزا عَنهُ عملا بِالْعرْفِ لِأَن التَّفْوِيض لمثل هَذَا لَا يقْصد مِنْهُ عينه فَلَا يُوكل الْعَاجِز إِلَّا فِي الْقدر الَّذِي عجز عَنهُ وَلَا يُوكل الْوَكِيل فِيمَا ذكر عَن نَفسه بل عَن مُوكله (وَلَا) يجوز لَهُ أَن (يقر على مُوكله) بِمَا يلْزمه (إِلَّا بِإِذْنِهِ) على وَجه ضَعِيف وَالأَصَح عدم صِحَة التَّوْكِيل فِي الْإِقْرَار مُطلقًا فَإِذا قَالَ لغيره وَكلتك لتقر عني لفُلَان بِكَذَا فَيَقُول الْوَكِيل أَقرَرت عَنهُ بِكَذَا أَو جعلته مقرا بِكَذَا لم يَصح لِأَنَّهُ إِخْبَار عَن حق فَلَا يقبل التَّوْكِيل كَالشَّهَادَةِ لَكِن الْمُوكل يكون مقرا بِالتَّوْكِيلِ على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة لإشعاره بِثُبُوت الْحق عَلَيْهِ وَمحل الْخلاف إِذا قَالَ وَكلتك لتقر عني لفُلَان بِكَذَا كَمَا مثلته
فَلَو قَالَ أقرّ عني لفُلَان بِأَلف لَهُ عَليّ كَانَ إِقْرَارا قطعا
وَلَو قَالَ أقرّ لَهُ عَليّ بِأَلف لم يكن إِقْرَارا قطعا صرح بِهِ صَاحب التَّعْجِيز
تَتِمَّة أَحْكَام عقد الْوَكِيل كرؤية الْمَبِيع ومفارقة مجْلِس وتقابض فِيهِ تتَعَلَّق بِهِ لَا بالموكل لِأَنَّهُ الْعَاقِد حَقِيقَة وَللْبَائِع مُطَالبَة الْوَكِيل كالموكل
بِثمن إِن قَبضه من الْمُوكل سَوَاء اشْترى بِعَيْنِه أم فِي الذِّمَّة فَإِن لم يقبضهُ مِنْهُ لم يُطَالِبهُ إِن كَانَ الثّمن معينا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهِ وَإِن كَانَ فِي الذِّمَّة طَالبه بِهِ إِن لم يعْتَرف بوكالته بِأَن أنكرها أَو قَالَ لَا أعرفهَا فَإِن اعْترف بهَا طَالب كلا مِنْهُمَا بِهِ وَالْوَكِيل كضامن وَالْمُوكل كأصل فَإِذا غرم رَجَعَ بِمَا غرمه على الْمُوكل وَلَو تلف ثمن قَبضه وَاسْتحق مَبِيع طلبه مُشْتَر بِبَدَل الثّمن سَوَاء اعْترف المُشْتَرِي بِالْوكَالَةِ أم لَا والقرار على الْمُوكل فَيرجع الْوَكِيل بِمَا غرمه لِأَنَّهُ غره
وَمن ادّعى أَنه وَكيل بِقَبض مَا على زيد لم يجب دَفعه لَهُ إِلَّا بِبَيِّنَة بوكالته إِنْكَار الْمُوكل لَهَا وَلَكِن يجوز لَهُ دَفعه إِن صدقه فِي دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ محق عِنْده أَو ادّعى أَنه محتال بِهِ أَو أَنه وَارِث لَهُ أَو وَصِيّ أَو موصى لَهُ مِنْهُ وَصدقه وَجب دَفعه لَهُ لاعْتِرَافه بانتقال المَال إِلَيْهِ(2/323)
فصل فِي الْإِقْرَار
وَهُوَ لُغَة الْإِثْبَات من قر الشَّيْء أذا ثَبت وَشرعا إِخْبَار الشَّخْص بِحَق عَلَيْهِ فَإِن كَانَ بِحَق لَهُ على غَيره فدعوى أَو لغيره على غَيره فشهادة
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {أأقررتم وأخذتم على ذَلِكُم إصري} أَي عهدي {قَالُوا أقررنا}
وَخبر الصَّحِيحَيْنِ اغْدُ يَا أنيس إِلَى امْرَأَة هَذَا فَإِن اعْترفت فارجمها وأجمعت الْأمة على الْمُؤَاخَذَة بِهِ
أَرْكَان الْإِقْرَار وأركانه أَرْبَعَة مقرّ ومقر لَهُ وَصِيغَة ومقر بِهِ
القَوْل فِي أَنْوَاع الْمقر بِهِ (وَالْمقر بِهِ) من الْحُقُوق (ضَرْبَان) أَحدهمَا (حق الله تَعَالَى) وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى مَا يسْقط بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَا وَشرب الْخمر وَقطع السّرقَة وَعَلِيهِ اقْتصر المُصَنّف وَإِلَى مَا لَا يسْقط بِالشُّبْهَةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَة
(و) الثَّانِي (حق الْآدَمِيّ) كَحَد الْقَذْف لشخص (فَحق الله تَعَالَى) الَّذِي يسْقط بذلك إِذا أقرّ بِهِ
(يَصح الرُّجُوع فِيهِ عَن الْإِقْرَار بِهِ) لِأَن مبناه على الدرء والستر وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرض لما عز بِالرُّجُوعِ بقوله لَعَلَّك قبلت لَعَلَّك لمست أبك جُنُون وللقاضي أَن يعرض لَهُ بذلك لما ذكر وَلَا يَقُول لَهُ ارْجع فَيكون آمرا لَهُ بِالْكَذِبِ
وَخرج بِالْإِقْرَارِ مَا لَو ثَبت بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَصح رُجُوعه كَمَا لَا يَصح رُجُوعه عَمَّا لَا يسْقط بِالشُّبْهَةِ
(و) الضَّرْب الثَّانِي (حق الْآدَمِيّ) إِذا أقرّ بِهِ (لَا يَصح الرُّجُوع فِيهِ عَن الْإِقْرَار بِهِ) لتَعلق حق الْمقر لَهُ بِهِ إِلَّا إِذا كذبه الْمقر لَهُ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي شُرُوط الْمقر لَهُ
القَوْل فِي شُرُوط صِحَة الْإِقْرَار ثمَّ شرع فِي شُرُوط الْمقر فَقَالَ (وتفتقر صِحَة الْإِقْرَار) فِي الْمقر (إِلَى ثَلَاثَة شَرَائِط) الأول (الْبلُوغ) فَلَا يَصح إِقْرَار من هُوَ دون الْبلُوغ وَلَو كَانَ مُمَيّزا لرفع الْقَلَم عَنهُ فَإِن ادّعى بلوغا بإمناء مُمكن بِأَن اسْتكْمل تسع سِنِين صدق فِي ذَلِك وَلَا يحلف عَلَيْهِ وَإِن فرض ذَلِك فِي خُصُومَة بِبُطْلَان تصرفه مثلا لِأَن ذَلِك لَا يعرف إِلَّا مِنْهُ وَلِأَنَّهُ إِن كَانَ صَادِقا فَلَا يحْتَاج إِلَى يَمِين وَإِلَّا فَلَا فَائِدَة فِيهَا لِأَن يَمِين الصَّغِير غير منعقدة
وَإِذا لم يحلف فَبلغ مبلغا يقطع فِيهَا بِبُلُوغِهِ قَالَ الإِمَام فَالظَّاهِر أَيْضا أَنه لَا يحلف لانْتِهَاء الْخُصُومَة وكالإمناء فِي ذَلِك الْحيض
(و) الثَّانِي (الْعقل) فَلَا يَصح إِقْرَار مَجْنُون ومغمى عَلَيْهِ وَمن زَالَ عقله بِعُذْر كشرب دَوَاء أَو إِكْرَاه على شرب خمر لِامْتِنَاع تصرفهم وَسَيَأْتِي حكم السَّكْرَان إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الطَّلَاق
(و) الثَّالِث (الِاخْتِيَار) فَلَا يَصح وَيُمكن إِقْرَار مكره بِمَا أكره عَلَيْهِ لقَوْله تَعَالَى {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} جعل الْإِكْرَاه مسْقطًا لحكم الْكفْر فبالأولى مَا عداهُ
وَصُورَة إكراهه أَن يضْرب لِيُقِر فَلَو ضرب ليصدق فِي الْقَضِيَّة فَأقر حَال الضَّرْب أَو(2/324)
بعده لزمَه مَا أقرّ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مكْرها إِذْ الْمُكْره من أكره على شَيْء وَاحِد وَهَذَا إِنَّمَا ضرب ليصدق
وَلَا ينْحَصر الصدْق فِي الْإِقْرَار قَالَ الْأَذْرَعِيّ والولاة فِي هَذَا الزَّمَان يَأْتِيهم من يتهم بِسَرِقَة أَو قتل أَو نَحْوهمَا فَيَضْرِبُونَهُ لِيُقِر بِالْحَقِّ وَيُرَاد بذلك الْحق الْإِقْرَار بِمَا ادَّعَاهُ خَصمه وَالصَّوَاب أَن هَذَا إِكْرَاه سَوَاء أقرّ فِي حَال ضربه أم بعده وَعلم أَنه لَو لم يقر بذلك لضرب ثَانِيًا انْتهى
وَهَذَا مُتَعَيّن
(وَإِن كَانَ) بِحَق آدَمِيّ كإقراره (بِمَال) أَو نِكَاح (اعْتبر فِيهِ) مَعَ مَا تقدم (شَرط رَابِع) أَيْضا (وَهُوَ الرشد) فَلَا يَصح إِقْرَار سَفِيه بدين أَو إِتْلَاف مَال أَو نَحْو ذَلِك قبل الْحجر أَو بعده نعم يَصح إِقْرَاره فِي الْبَاطِن فَيغرم بعد فك الْحجر إِن كَانَ صَادِقا فِيهِ وَخرج بِالْمَالِ إِقْرَاره بِمُوجب عُقُوبَة كَحَد وقود وَإِن عُفيَ عَنهُ على مَال لعدم تعلقه بِالْمَالِ
القَوْل فِي شُرُوط الْمقر لَهُ وَأما شُرُوط الْمقر لَهُ وَلم يذكرهَا المُصَنّف فَمِنْهَا كَون الْمقر لَهُ معينا نوع تعين بِحَيْثُ يتَوَقَّع مِنْهُ الدَّعْوَى والطلب فَلَو قَالَ لإِنْسَان أَو لوَاحِد من بني آدم أَو من أهل الْبَلَد عَليّ ألف لم يَصح إِقْرَاره على الصَّحِيح
وَمِنْهَا كَون الْمقر لَهُ فِيهِ أَهْلِيَّة اسْتِحْقَاق الْمقر لَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُصَادف مَحَله وَصدقه مُحْتَمل وَبِهَذَا يخرج مَا إِذا أقرَّت الْمَرْأَة بصداقها عقب النِّكَاح لغَيْرهَا أَو الزَّوْج بِبَدَل الْخلْع عقب المخالعة لغيره أَو الْمَجْنِي عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ عقب اسْتِحْقَاقه لغيره فَلَو قَالَ لهَذِهِ الدَّابَّة عَليّ كَذَا لم يَصح لِأَنَّهَا لَيست أَهلا لذَلِك فَإِن قَالَ عَليّ بِسَبَبِهَا لفُلَان كَذَا صَحَّ حملا على أَنه جنى عَلَيْهَا أَو اكتراها أَو استعملها تَعَديا كصحة الْإِقْرَار لحمل هِنْد
وَإِن أسْندهُ إِلَى جِهَة لَا تمكن فِي حَقه كَقَوْلِه أقرضنيه أَو بَاعَنِي بِهِ شَيْئا وَيَلْغُو الْإِسْنَاد الْمَذْكُور وَهَذَا مَا صَححهُ الرَّافِعِيّ فِي شرحيه وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَمَا وَقع فِي الْمِنْهَاج من أَنه إِذا أسْندهُ إِلَى جِهَة لَا تمكن فِي حَقه لَغْو ضَعِيف
وَمِنْهَا عدم تَكْذِيبه للْمقر فَلَو كذبه فِي إِقْرَاره لَهُ بِمَال ترك فِي يَد الْمقر لِأَن يَده تشعر بِالْملكِ ظَاهرا وَسقط إِقْرَاره بمعارضة الْإِنْكَار حَتَّى لَو رَجَعَ بعد التَّكْذِيب قبل رُجُوعه سَوَاء قَالَ غَلطت فِي الْإِقْرَار أم تَعَمّدت الْكَذِب وَلَو رَجَعَ الْمقر لَهُ عَن التَّكْذِيب لم يقبل فَلَا يعْطى إِلَّا بِإِقْرَار جَدِيد
القَوْل فِي شُرُوط صِيغَة الْإِقْرَار وَأما شُرُوط الصِّيغَة وَلم يذكرهَا المُصَنّف أَيْضا فَيشْتَرط فِيهَا لفظ صَرِيح أَو كِنَايَة تشعر بِالْتِزَام وَفِي مَعْنَاهُ الْكِتَابَة مَعَ النِّيَّة وَإِشَارَة أخرس مفهمة كَقَوْلِه لزيد عَليّ أَو عِنْدِي كَذَا
أما لَو حذف عَليّ أَو عِنْدِي لم يكن إِقْرَارا إِلَّا أَن يكون الْمقر بِهِ معينا كَهَذا الثَّوْب فَيكون إِقْرَارا وَعلي أَو فِي ذِمَّتِي للدّين وَمَعِي أَو عِنْدِي للعين
وَجَوَاب لي عَلَيْك ألف أَو لَيْسَ لي عَلَيْك ألف ببلى أَو نعم أَو(2/325)
صدقت أَو أَنا مقرّ بهَا أَو نَحْوهَا كأبرأتني مِنْهُ إِقْرَار كجواب اقْضِ الْألف الَّذِي لي عَلَيْك بنعم أَو بقوله أَقْْضِي غَدا أَو أمهلني أَو حَتَّى أفتح الْكيس أَو أجد الْمِفْتَاح مثلا أَو نَحْوهَا كابعث من يَأْخُذهُ لَا جَوَاب ذَلِك بزنه أَو خُذْهُ أَو اختم عَلَيْهِ أَو اجْعَلْهُ فِي كيسك أَو أَنا مقرّ أَو أقرّ بِهِ أَو نَحْوهَا كهي صِحَاح أَو رُومِية فَلَيْسَ بِإِقْرَار لِأَن مثل ذَلِك يذكر للاستهزاء
القَوْل فِي شُرُوط الْمقر بِهِ وَأما شَرط الْمقر بِهِ وَلم يذكرهُ أَيْضا فشرطه أَن لَا يكون ملكا للْمقر حِين يقر بِهِ فَقَوله دَاري أَو ديني الَّذِي عَلَيْك لعَمْرو لَغْو لِأَن الْإِضَافَة إِلَيْهِ تَقْتَضِي الْملك لَهُ فتنافى الْإِقْرَار لغيره لَا قَوْله هَذَا لفُلَان وَكَانَ ملكي إِلَى أَن أَقرَرت بِهِ فَلَيْسَ لَغوا اعْتِبَارا بأوله
وَكَذَا لَو عكس فَقَالَ هَذَا ملكي هَذَا لفُلَان غَايَته أَنه إِقْرَار بعد إِنْكَار وَأَن يكون بِيَدِهِ وَلَو مَآلًا ليسلم بِالْإِقْرَارِ للْمقر لَهُ حِينَئِذٍ فَلَو لم يكن بِيَدِهِ حَالا ثمَّ صَار بهَا عمل بِمُقْتَضى إِقْرَاره بِأَن يسلم للْمقر لَهُ حِينَئِذٍ فَلَو أقرّ بحريّة شخص بيد غَيره ثمَّ اشْتَرَاهُ حكم بهَا وَكَانَ شِرَاؤُهُ افتداء لَهُ وبيعا من جِهَة البَائِع فَلهُ الْخِيَار دون المُشْتَرِي
القَوْل فِي حكم الْإِقْرَار بِمَجْهُول (وَإِذا أقرّ بِمَجْهُول) كشيء وَكَذَا صَحَّ إِقْرَاره و (رَجَعَ لَهُ فِي بَيَانه) فَلَو قَالَ لَهُ عَليّ شَيْء أَو كَذَا قبل تَفْسِيره بِغَيْر عِيَادَة مَرِيض ورد سَلام ونجس لَا يقتنى كخنزير سَوَاء أَكَانَ مَالا وَإِن لم يتمول كفلس وحبتي بر أم لَا كقود وَحقّ شُفْعَة وحد قذف وزبل لصدق كل مِنْهَا بالشَّيْء مَعَ كَونه مُحْتَرما وَإِن أقرّ بِمَال وَإِن وَصفه بِنَحْوِ عظم كَقَوْلِه مَال عَظِيم أَو كَبِير أَو كثير قبل تَفْسِيره بِمَا قل من المَال وَإِن لم يتمول كحبة بر وَيكون وَصفه بالعظم وَنَحْوه من حَيْثُ أَثم غاصبه
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أصل مَا أبني عَلَيْهِ الْإِقْرَار أَن ألزم الْيَقِين وأطرح الشَّك وَلَا أسْتَعْمل الْغَلَبَة
وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ أَو عِنْدِي شَيْء شَيْء أَو كَذَا كَذَا
لزمَه شَيْء وَاحِد لِأَن الثَّانِي تَأْكِيد
فَإِن قَالَ شَيْء وَشَيْء أَو كَذَا وَكَذَا لزمَه شَيْئَانِ لاقْتِضَاء الْعَطف الْمُغَايرَة وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ كَذَا دِرْهَم بِرَفْع أَو نصب أَو جر أَو سُكُون أَو كَذَا دِرْهَم بالأحوال الْأَرْبَعَة أَو قَالَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَم بِلَا نصب لزمَه دِرْهَم فَإِن ذكره بِالنّصب بِأَن قَالَ كَذَا وَكَذَا درهما لزمَه دِرْهَمَانِ لِأَن التَّمْيِيز وصف فِي الْمَعْنى فَيَعُود إِلَى الْجَمِيع
وَلَو قَالَ الدَّرَاهِم الَّتِي أَقرَرت بهَا نَاقِصَة الْوَزْن أَو مغشوشة فَإِن كَانَت دَرَاهِم الْبَلَد الَّتِي أقرّ بهَا كَذَلِك أَو وصل قَوْله الْمَذْكُور بِالْإِقْرَارِ قبل قَوْله
وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ دِرْهَم فِي عشرَة فَإِن(2/326)
أَرَادَ معية فأحد عشر أَو حسابا عرفه فعشرة وَإِن أَرَادَ ظرفا أَو حسابا لم يعرفهُ أَو أطلق لزمَه دِرْهَم لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن
القَوْل فِي الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِقْرَار (وَيصِح الِاسْتِثْنَاء) بإلا أَو إِحْدَى أخواتها (فِي الْإِقْرَار) وَغَيره لِكَثْرَة وُرُوده فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَكَلَام الْعَرَب ذَلِك بِشُرُوط الأول وَعَلِيهِ اقْتصر المُصَنّف (إِذا وَصله بِهِ) أَي اتَّصل الْمُسْتَثْنى بالمستثنى مِنْهُ عرفا فَلَا تضر سكتة تنفس وعي وتذكر وَانْقِطَاع صَوت بِخِلَاف الْفَصْل بسكوت طَوِيل وَكَلَام أَجْنَبِي وَلَو يَسِيرا
وَالشّرط الثَّانِي أَن يَنْوِي قبل فرَاغ الْإِقْرَار لِأَن الْكَلَام إِنَّمَا يعْتَبر بِتَمَامِهِ فَلَا يشْتَرط من أَوله وَلَا يَكْفِي بعد الْفَرَاغ وَإِلَّا لزم رفع الْإِقْرَار بعد لُزُومه
وَالشّرط الثَّالِث عدم استغراق الْمُسْتَثْنى للمستثنى مِنْهُ فَإِن استغرقه نَحْو لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا عشرَة لم يَصح فَيلْزمهُ عشرَة وَلَا يجمع مفرق فِي استغراق لَا فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَلَا فِي الْمُسْتَثْنى وَلَا فيهمَا فَلَو قَالَ لَهُ عَليّ دِرْهَم وَدِرْهَم وَدِرْهَم إِلَّا درهما لزمَه ثَلَاثَة دَرَاهِم وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ ثَلَاثَة دَرَاهِم إِلَّا دِرْهَمَيْنِ ودرهما لزمَه دِرْهَم لِأَن المستنثى إِذا لم يجمع مفرقه لم يلغ إِلَّا مَا يحصل بِهِ الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ دِرْهَم فَيبقى الدرهمان مستثنيين
وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ ثَلَاثَة إِلَّا درهما ودرهما ودرهما لزمَه دِرْهَم لِأَن الِاسْتِغْرَاق إِنَّمَا يحصل بالأخير
وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ ثَلَاثَة دَرَاهِم إِلَّا درهما ودرهما لزمَه دِرْهَم لجَوَاز الْجمع هُنَا إِذْ لَا استغراق وَالِاسْتِثْنَاء من إِثْبَات نفي وَمن نفي إِثْبَات فَلَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة إِلَّا ثَمَانِيَة لزمَه تِسْعَة لِأَن الْمَعْنى إِلَّا تِسْعَة لَا تِسْعَة لَا تلْزم إِلَّا ثَمَانِيَة تلْزم فَيلْزمهُ الثَّمَانِية وَالْوَاحد الْبَاقِي من الْعشْرَة
وَمن طرق بَيَانه أَيْضا أَن تجمع كلا من الْمُثبت والمنفي وَتسقط الْمَنْفِيّ مِنْهُ فالباقي هُوَ الْمقر بِهِ فالعشرة وَالثَّمَانِيَة فِي الْمِثَال مثبتان ومجموعهما ثَمَانِيَة عشر والتسعة منفية فَإِن أسقطتها من الثَّمَانِية عشر بَقِي تِسْعَة وَهُوَ الْمقر بِهِ
وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة إِلَّا ثَمَانِيَة إِلَّا سَبْعَة إِلَّا سِتَّة إِلَّا خَمْسَة إِلَّا أَرْبَعَة إِلَّا ثَلَاثَة إِلَّا اثْنَيْنِ إِلَّا وَاحِدًا لزمَه خَمْسَة لِأَن الْأَعْدَاد المثبتة هُنَا ثَلَاثُونَ والمنفية خَمْسَة وَعِشْرُونَ فَيلْزم الْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَة
وَلَك طَرِيق أُخْرَى وَهِي أَن تخرج الْمُسْتَثْنى الْأَخير مِمَّا قبله وَمَا بَقِي مِنْهُ يخرج مِمَّا قبله فَتخرج الْوَاحِد من الِاثْنَيْنِ وَمَا بَقِي تخرجه من الثَّلَاثَة وَمَا بَقِي تخرجه من الْأَرْبَعَة وَهَكَذَا حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى الأول
وَلَك أَن تخرج الْوَاحِد من الثَّلَاثَة ثمَّ مَا بَقِي من الْخَمْسَة ثمَّ مَا بَقِي من السَّبْعَة ثمَّ مَا بَقِي من التِّسْعَة وَهَذَا أسهل من الأول ومحصل لَهُ فَمَا بَقِي فَهُوَ الْمَطْلُوب
وَلَو قَالَ لَيْسَ لَهُ عَليّ شَيْء إِلَّا خَمْسَة لزمَه خَمْسَة أَو قَالَ لَيْسَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا خَمْسَة لم يلْزمه شَيْء لِأَن الْعشْرَة إِلَّا خَمْسَة خَمْسَة فَكَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ لَهُ عَليّ خَمْسَة فَجعل النَّفْي الأول مُتَوَجها إِلَى مَجْمُوع الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ وَإِن خرج عَن قَاعِدَة أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَإِنَّمَا لزمَه فِي الأول خَمْسَة لِأَنَّهُ نفي مُجمل فَيبقى عَلَيْهِ مَا اسْتَثْنَاهُ
وَلَو قدم الْمُسْتَثْنى(2/327)
على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ صَحَّ كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَصَحَّ الِاسْتِثْنَاء من غير جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَيُسمى اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا كَقَوْلِه لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا إِن بَين بِثَوْب قِيمَته دون ألف فَإِن بَين بِثَوْب قِيمَته ألف فالبيان لَغْو وَيبْطل الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ بَين مَا أَرَادَهُ بِهِ فَكَأَنَّهُ تلفظ بِهِ وَهُوَ مُسْتَغْرق وَصَحَّ أَيْضا من معِين كَغَيْرِهِ كَقَوْلِه هَذِه الدَّار لزيد إِلَّا هَذَا الْبَيْت أَو هَؤُلَاءِ العبيد لَهُ إِلَّا وَاحِدًا وَحلف فِي بَيَان الْوَاحِد لِأَنَّهُ أعرف بمراده حَتَّى لَو مَاتُوا بقتل أَو دونه إِلَّا وَاحِدًا وَزعم أَنه الْمُسْتَثْنى صدق بِيَمِينِهِ أَنه الَّذِي أَرَادَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ لاحْتِمَال مَا ادَّعَاهُ
وَقد ذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره فَوَائِد مهمة لَا يحتملها هَذَا الْمُخْتَصر فَلْيُرَاجِعهَا من أَرَادَ
(وَهُوَ) أَي الْإِقْرَار (فِي حَال الصِّحَّة وَالْمَرَض) وَلَو مخوفا (سَوَاء) فِي الحكم بِصِحَّتِهِ فَلَو أقرّ فِي صِحَّته بدين لإِنْسَان وَفِي مَرضه بدين لآخر لم يقدم الأول بل يتساويان كَمَا لَو ثبتا بِالْبَيِّنَةِ
وَلَو أقرّ فِي صِحَّته أَو مَرضه بدين لإِنْسَان وَأقر وَارثه بعد مَوته بدين لآخر لم يقدم الأول فِي الْأَصَح لِأَن إِقْرَار الْوَارِث كإقرار الْمُورث لِأَنَّهُ خَلِيفَته فَكَأَنَّهُ أقرّ بالدينين
القَوْل فِي إِقْرَار الْمَرِيض تَتِمَّة لَو أقرّ الْمَرِيض لإِنْسَان بدين وَلَو مُسْتَغْرقا ثمَّ أقرّ لآخر بِعَين قدم صَاحبهَا كَعَكْسِهِ لِأَن الْإِقْرَار بِالدّينِ لَا يتَضَمَّن حجرا فِي الْعين بِدَلِيل نُفُوذ تصرفه فِيهَا بِغَيْر تبرع
وَلَو أقرّ بِإِعْتَاق أَخِيه فِي الصِّحَّة عتق وَورثه إِن لم يَحْجُبهُ غَيره أَو بِإِعْتَاق عبد فِي الصِّحَّة وَعَلِيهِ دين مُسْتَغْرق لتركته عتق لِأَن الْإِقْرَار إِخْبَار لَا تبرع وَيصِح إِقْرَاره فِي مَرضه لوَارِثه على الْمَذْهَب كَالْأَجْنَبِيِّ لِأَن الظَّاهِر أَنه محق لِأَنَّهُ انْتهى إِلَى حَالَة يصدق فِيهَا الْكَاذِب وَيَتُوب فِيهَا الْفَاجِر وَفِي قَول لَا يَصح لِأَنَّهُ مُتَّهم بحرمان بعض الْوَرَثَة
وَيجْرِي الْخلاف فِي إِقْرَار الزَّوْجَة بِقَبض صَدَاقهَا من زَوجهَا فِي مرض مَوتهَا وَفِي إِقْرَاره لوَارِثه بِهِبَة أقبضها لَهُ فِي حَال صِحَّته وَالْخلاف الْمَذْكُور فِي الصِّحَّة وَعدمهَا وَأما التَّحْرِيم فَعِنْدَ قَصده الحرمان لَا شكّ فِيهِ كَمَا صرح بِهِ جمع مِنْهُم الْقفال فِي فَتَاوِيهِ وَقَالَ إِنَّه لَا يحل للْمقر لَهُ أَخذه
انْتهى
وَالْخلاف فِي الْإِقْرَار بِالْمَالِ أما لَو أقرّ بِنِكَاح أَو عُقُوبَة فَيصح جزما وَإِن أفْضى إِلَى المَال بِالْعَفو أَو بِالْمَوْتِ قبل الِاسْتِيفَاء لضعف التُّهْمَة
فصل فِي الْعَارِية
وَهِي بتَشْديد الْيَاء وَقد تخفف اسْم لما يعار ولعقدها من عَار إِذا ذهب وَجَاء بِسُرْعَة وَمِنْه قيل للغلام الْخَفِيف عيار لِكَثْرَة ذَهَابه ومجيئه
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى} وَفسّر جُمْهُور الْمُفَسّرين قَوْله تَعَالَى {وَيمْنَعُونَ الماعون} بِمَا يستعيره الْجِيرَان بَعضهم من بعض كالدلو والفأس والإبرة وَخبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/328)
اسْتعَار فرسا من أبي طَلْحَة فَرَكبهُ وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَيْهَا وَهِي مُسْتَحبَّة وَقد تجب كإعارة الثَّوْب لدفع حر أَو برد وَقد تحرم كإعارة الْأمة من أَجْنَبِي وَقد تكره كإعارة العَبْد الْمُسلم من كَافِر
القَوْل فِي أَرْكَان الْإِعَارَة وأركانها أَرْبَعَة معير ومستعير ومعار وَصِيغَة
وَقد بَدَأَ المُصَنّف بالمستعار فَقَالَ (وكل مَا أمكن الِانْتِفَاع بِهِ) مَنْفَعَة مُبَاحَة (مَعَ بَقَاء عينه) كَالْعَبْدِ وَالثَّوْب فَخرج بالقيد الأول مَا لَا ينْتَفع بِهِ فَلَا يعار مَا لَا نفع فِيهِ كالحمار الزَّمن وَأما مَا يتَوَقَّع نَفعه فِي الْمُسْتَقْبل كالجحش الصَّغِير فَالَّذِي يظْهر فِيهِ أَن الْعَارِية إِن كَانَت مُطلقَة أَو مُؤَقَّتَة بِزَمن يُمكن الِانْتِفَاع بِهِ صحت وَإِلَّا فَلَا وَلم أر من ذكر ذَلِك وَخرج بالقيد الثَّانِي مَا لَو كَانَت منفعَته مُحرمَة فَلَا يعار مَا ينْتَفع بِهِ انتفاعا محرما كآلات الملاهي وَلَا بُد أَن تكون منفعَته قَوِيَّة فَلَا يعار النقدان للتزين إِذْ منفعَته بهما أَو الضَّرْب على طبعهما مَنْفَعَة ضَعِيفَة قَلما تقصد ومعظم منفعتهما فِي الْإِنْفَاق والإخراج نعم إِن صرح بالتزين أَو الضَّرْب على طبعهما أَو نوى ذَلِك كَمَا بَحثه بَعضهم صحت لاتخاذه هَذِه الْمَنْفَعَة مقصدا وَإِن ضعفت وَيَنْبَغِي مَجِيء هَذَا الِاسْتِثْنَاء فِي المطعوم الْآتِي
وَخرج بالقيد الثَّالِث مَا لَو كَانَت منفعَته فِي إذهاب عينه فَلَا يعار المطعوم وَنَحْوه فَإِن الِانْتِفَاع بِهِ إِنَّمَا هُوَ بالاستهلاك فَانْتفى الْمَقْصُود من الْإِعَارَة
فَإِن اجْتمعت هَذِه الشُّرُوط فِي المعار (جَازَت إعارته إِذا كَانَت مَنَافِعه أثارا) بِالْقصرِ أَي بَاقِيَة كَالثَّوْبِ وَالْعَبْد كَمَا مر فَخرج بالمنافع الْأَعْيَان فَلَو أَعَارَهُ شَاة للبنها أَو شَجَرَة لثمرها أَو نَحْو ذَلِك لم يَصح وَلَو أَعَارَهُ شَاة أَو دَفعهَا لَهُ وَملكه درها ونسلها لم يَصح وَلَا يضمن آخذها الدّرّ والنسل لِأَنَّهُ أخذهما بِهِبَة فَاسِدَة وَيضمن الشَّاة بِحكم الْعَارِية الْفَاسِدَة
(وَتجوز) إِعَارَة جَارِيَة لخدمة امْرَأَة أَو ذكر محرم لِلْجَارِيَةِ لعدم الْمَحْذُور فِي ذَلِك
وَفِي معنى الْمَرْأَة وَالْمحرم الْمَمْسُوح وَزوج الْجَارِيَة ومالكها كَأَن يستعيرها من مستأجرها أَو الْمُوصى لَهُ بمنفعتها
وَيلْحق بالجارية الْأَمْرَد الْجَمِيل كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ لَا سِيمَا مِمَّن عرف بِالْفُجُورِ
قَالَ الْإِسْنَوِيّ وسكتوا عَن إِعَارَة العَبْد للْمَرْأَة وَهُوَ كَعَكْسِهِ بِلَا شكّ وَلَو كَانَ الْمُسْتَعِير أَو المعار خُنْثَى امْتنع احْتِيَاطًا وَيكرهُ كَرَاهَة تَنْزِيه اسْتِعَارَة وإعارة فرع أَصله لخدمة واستعارة وإعارة كَافِر مُسلما صِيَانة لَهما عَن الإذلال(2/329)
تَنْبِيه سكت المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى عَن شُرُوط بَقِيَّة الْأَركان فَيشْتَرط فِي الْمُعير صِحَة تبرعه وَلِأَنَّهَا تبرع بِإِبَاحَة الْمَنْفَعَة فَلَا تصح من صبي وَمَجْنُون ومكاتب بِغَيْر إِذن سَيّده ومحجور عَلَيْهِ بِسَفَه وفلس أَن يكون مُخْتَارًا فَلَا يَصح من مكره وَأَن يكون مَالِكًا لمَنْفَعَة المعار وَإِن لم يكن مَالِكًا للعين لِأَن الْإِعَارَة إِنَّمَا ترد على الْمَنْفَعَة دون الْعين فَتَصِح من مكتر لَا من مستعير لِأَنَّهُ غير مَالك للمنفعة وَإِنَّمَا أُبِيح لَهُ الِانْتِفَاع فَلَا يملك نقل الْإِبَاحَة
وَيشْتَرط فِي الْمُسْتَعِير تعْيين وَإِطْلَاق تصرف فَلَا تصح لغير معِين كَأَن قَالَ أعرت أَحَدكُمَا
وَلَا لصبي وَمَجْنُون وسفيه إِلَّا بِعقد وليهم إِذا لم تكن الْعَارِية مَضْمُونَة كَأَن اسْتعَار من مُسْتَأْجر
وللمستعير إنابة من يَسْتَوْفِي لَهُ الْمَنْفَعَة لِأَن الِانْتِفَاع رَاجع إِلَيْهِ
وَيشْتَرط فِي الصِّيغَة لفظ يشْعر بِالْإِذْنِ فِي الِانْتِفَاع كأعرتك أَو بِطَلَبِهِ كأعرني مَعَ لفظ الآخر أَو فعله وَإِن تَأَخّر أَحدهمَا عَن الآخر كَمَا فِي الْإِبَاحَة وَفِي معنى اللَّفْظ الْكِتَابَة مَعَ نِيَّة وَإِشَارَة أخرس مفهمة
وَلَو قَالَ أعرتك فرسي مثلا لتعلفه بعلفك أَو لتعيرني فرسك فَهُوَ إِجَارَة لَا إِعَارَة نظرا إِلَى الْمَعْنى فَاسِدَة لجَهَالَة الْمدَّة والعوض توجب أُجْرَة الْمثل وَمؤنَة رد المعار على الْمُسْتَعِير من مَالك أَو من نَحْو مكتر إِن رد عَلَيْهِ فَإِن رد على الْمَالِك فالمؤنة عَلَيْهِ كَمَا لَو رد على الْمُكْتَرِي
وَخرج بمؤنة رده مُؤْنَته فتلزم الْمَالِك لِأَنَّهَا من حُقُوق الْملك وَإِن خَالف القَاضِي وَقَالَ إِنَّهَا على الْمُسْتَعِير
وَتجوز (الْعَارِية مُطلقَة) من غير تَقْيِيد بِزَمن (ومقيدة بِمدَّة) كشهر فَلَا يفْتَرق الْحَال بَينهمَا
نعم المؤقتة فَيجوز فِيهَا تَكْرِير الْمُسْتَعِير مَا استعاره لَهُ فَإِذا اسْتعَار أَرضًا لبِنَاء أَو غراس جَازَ لَهُ أَن يَبْنِي أَو يغْرس الْمرة بعد الْأُخْرَى مَا لم تنقص الْمدَّة أَو يرجع الْمُعير وَفِي الْمُطلقَة لَا يفعل ذَلِك إِلَّا مرّة وَاحِدَة فَإِن قلع مَا بناه أَو غرسه لم تكن لَهُ إِعَادَته إِلَّا بِإِذن جَدِيد إِلَّا إِن صرح لَهُ بالتجديد مرّة بعد أُخْرَى وَسَوَاء أَكَانَت الْإِعَارَة مُطلقَة أم مُؤَقَّتَة وَلكُل من الْمُعير أَو الْمُسْتَعِير رُجُوع فِي الْعَارِية مَتى شَاءَ لِأَنَّهَا جَائِزَة من الطَّرفَيْنِ فتنفسخ بِمَا تَنْفَسِخ بِهِ الْوكَالَة وَنَحْوهَا من موت أَحدهمَا وَغَيره وَيسْتَثْنى من رُجُوع الْمُعير مَا إِذا أعَار أَرضًا لدفن ميت مُحْتَرم فَلَا يرجع الْمُعير فِي مَوْضِعه الَّذِي دفن فِيهِ وَامْتنع أَيْضا على الْمُسْتَعِير ردهَا فَهِيَ لَازِمَة من جهتهما حَتَّى يندرس أثر المدفون إِلَّا عجب الذَّنب وَهُوَ مثل حَبَّة خَرْدَل فِي طرف العصعص لَا يكَاد يتَحَقَّق بِالْمُشَاهَدَةِ مُحَافظَة على حُرْمَة الْمَيِّت وَلَهُمَا الرُّجُوع قبل وَضعه فِي الْقَبْر لَا بعد وَضعه وَإِن لم يوار بِالتُّرَابِ كَمَا رَجحه فِي الشَّرْح الصَّغِير خلافًا للمتولي
وَذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره مسَائِل كَثِيرَة مُسْتَثْنَاة من الرُّجُوع فَلَا نطيل بذكرها فَمن أرادها فَلْيُرَاجِعهَا من تِلْكَ الْكتب
وَلَكِن الهمم قد قصرت وَإِن أعَار لبِنَاء أَو غراس وَلَو إِلَى مُدَّة ثمَّ رَجَعَ بعد أَن بنى الْمُسْتَعِير أَو غرس فَإِن شَرط عَلَيْهِ قلع ذَلِك لزمَه قلعه فَإِن امْتنع قلعه الْمُعير وَإِن لم يشْتَرط عَلَيْهِ ذَلِك فَإِن اخْتَارَهُ الْمُسْتَعِير قلع مجَّانا وَلَزِمَه تَسْوِيَة الأَرْض
وَإِن لم يخْتَر قلعه خير الْمُعير بَين ثَلَاثَة أُمُور وَهِي تملكه بِعقد بِقِيمَتِه مُسْتَحقّ الْقلع حِين التَّمَلُّك أَو قلعه بِضَمَان أرش نَقصه أَو تبقيته بِأُجْرَة فَإِن لم يخْتَر الْمُعير شَيْئا ترك حَتَّى يخْتَار أَحدهمَا مَا لَهُ اخْتِيَاره وَلكُل مِنْهُمَا بيع ملكه مِمَّن شَاءَ وَإِذا رَجَعَ الْمُعير قبل إِدْرَاك زرع لم يعْتد قلعه لزمَه تبقيته إِلَى قلعه وَلَو عين مُدَّة وَلم يدْرك فِيهَا لتقصير من الْمُسْتَعِير قلعه الْمُعير مجَّانا كَمَا لَو حمل نَحْو سيل كهواء بذرا إِلَى أرضه فنبت فِيهَا فَإِن لَهُ قلعه(2/330)
مجَّانا
القَوْل فِي ضَمَان الْمُسْتَعَار (وَهِي) أَي الْعين المستعارة (مَضْمُونَة على الْمُسْتَعِير) إِذا تلفت بِغَيْر الِاسْتِعْمَال الْمَأْذُون فِيهِ وَإِن لم يفْرض كتلفها بِآفَة سَمَاوِيَّة لخَبر على الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤَدِّيه وَحِينَئِذٍ يضمنهَا (بِقِيمَتِهَا) مُتَقَومَة كَانَت أَو مثلية (يَوْم تلفهَا) هَذَا مَا جزم بِهِ فِي الْأَنْوَار
واقتضاه كَلَام جمع وَقَالَ ابْن أبي عصرون يضمن الْمثْلِيّ بالمثلي وَجرى عَلَيْهِ السُّبْكِيّ وَهَذَا هُوَ الْجَارِي على الْقَوَاعِد فَهُوَ الْمُعْتَمد
وَلَو اسْتعَار عبدا عَلَيْهِ ثِيَاب لم تكن مَضْمُونَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يَأْخُذهَا وَلم يستعملها بِخِلَاف إكاف الدَّابَّة قَالَه الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ
تَنْبِيه يسْتَثْنى من ضَمَان الْعَارِية مسَائِل مِنْهَا جلد الْأُضْحِية الْمَنْذُورَة فَإِن إعارته جَائِزَة وَلَا يضمنهُ الْمُسْتَعِير إِذا تلف فِي يَده
وَمِنْهَا الْمُسْتَعَار للرَّهْن إِذا تلف فِي يَد الْمُرْتَهن فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ وَلَا على الْمُسْتَعِير
وَمِنْهَا مَا لَو اسْتعَار صيدا من محرم فَتلف فِي يَده لم يضمنهُ فِي الْأَصَح
وَمِنْهَا مَا لَو أَعَارَهُ الإِمَام شَيْئا من بَيت المَال لمن لَهُ حق فِيهِ فَتلف فِي يَد الْمُسْتَعِير لم يضمنهُ
وَمِنْهَا مَا لَو اسْتعَار الْفَقِيه كتابا مَوْقُوفا على الْمُسلمين لِأَنَّهُ من جملَة الْمَوْقُوف عَلَيْهِم أما مَا تلف بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُون فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يضمنهُ للْإِذْن فِيهِ
تَتِمَّة لَو قَالَ من فِي يَده عين كدابة وَأَرْض لمَالِكهَا
أعرتني ذَلِك فَقَالَ لَهُ مَالِكهَا بل أجرتك أَو غصبتني
وَمَضَت مُدَّة لمثلهَا أُجْرَة صدق الْمَالِك كَمَا لَو أكل طَعَام غَيره وَقَالَ كنت أبحته لي وَأنكر الْمَالِك أما إِذا لم تمض مُدَّة لمثلهَا أُجْرَة وَالْعين بَاقِيَة فَيصدق من بِيَدِهِ الْعين بِيَمِينِهِ فِي الأولى وَلَا معنى لهَذَا الِاخْتِلَاف فِي الثَّانِيَة
وَلَو ادّعى الْمَالِك الْإِعَارَة وَذُو الْيَد الْغَصْب فَلَا معنى للنزاع فِيمَا إِذا كَانَت الْعين بَاقِيَة وَلم تمض مُدَّة لَهَا أُجْرَة فَإِن مَضَت فذو الْيَد مقرّ بِالْأُجْرَةِ لمنكرها وَلَو اخْتلف الْمُعير وَالْمُسْتَعِير فِي رد الْعَارِية صدق الْمُعير بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل عدم الرَّد وَلَو اسْتعْمل الْمُسْتَعِير الْعَارِية جَاهِلا بِرُجُوع الْمُعير لم تلْزمهُ أُجْرَة
فَإِن قيل(2/331)
الضَّمَان لَا فرق فِيهِ بَين الْجَهْل وَعَدَمه أُجِيب بِأَن ذَلِك عِنْد عدم تسليط الْمَالِك وَهنا بِخِلَافِهِ وَالْأَصْل بَقَاء السلطنة وَبِأَن الْمَالِك مقصر بترك الْإِعْلَام
فصل فِي الْغَصْب
وَهُوَ لُغَة أَخذ الشَّيْء ظلما وَقيل أَخذه ظلما جهارا وَشرعا اسْتِيلَاء على حق الْغَيْر بِلَا حق
وَالْأَصْل فِي تَحْرِيمه قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} أَي لَا يَأْكُل بَعْضكُم مَال بعض بِالْبَاطِلِ
وأخبار كَخَبَر إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَدخل فِي التَّعْرِيف الْمَذْكُور مَا لَو أَخذ مَال غَيره يَظُنّهُ مَاله فَإِنَّهُ غصب وَإِن لم يكن بِهِ إِثْم
وَقَول الرَّافِعِيّ إِن الثَّابِت فِي هَذِه حكم الْغَصْب لَا حَقِيقَته مَمْنُوع وَهُوَ نَاظر إِلَى أَن الْغَصْب يَقْتَضِي الْإِثْم مُطلقًا وَلَيْسَ مرَادا وَإِن كَانَ غَالِبا فَلَو ركب دَابَّة لغيره أَو جلس على فرَاشه فغاصب وَإِن لم ينْقل ذَلِك وَلم يقْصد الِاسْتِيلَاء
(وَمن غصب مَالا) أَو غَيره (لأحد) وَلَو ذِمِّيا وَكَانَ بَاقِيا (لزمَه رده) على الْفَوْر عِنْد التَّمْكِين وَإِن عظمت الْمُؤْنَة فِي رده وَلَو كَانَ غير مُتَمَوّل كحبة بر أَو كلب يقتنى لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤَدِّيه فَلَو لَقِي الْغَاصِب الْمَالِك بمفازة وَالْمَغْصُوب مَعَه فَإِن استرده لم يُكَلف أُجْرَة النَّقْل وَإِن امْتنع فَوَضعه بَين يَدَيْهِ برىء إِن لم يكن لنقله مُؤنَة وَلَو أَخذه الْمَالِك وَشرط على الْغَاصِب مُؤنَة النَّقْل لم يجز لِأَنَّهُ ينْقل ملك نَفسه وَلَو رد الْغَاصِب الدَّابَّة لإصطبل الْمَالِك برىء إِن علم الْمَالِك(2/332)
بِهِ بمشاهدة أَو إِخْبَار ثِقَة وَلَا يبرأ قبل الْعلم وَلَو غصب من الْمُودع أَو الْمُسْتَأْجر أَو الْمُرْتَهن برىء بِالرَّدِّ إِلَى كل من أَخذ مِنْهُ لَا إِلَى الْمُلْتَقط لِأَنَّهُ غير مَأْذُون لَهُ من جِهَة الْمَالِك فِي الْمُسْتَعِير والمستام وَجْهَان أوجههمَا أَنه يبرأ لِأَنَّهُمَا مَأْذُون لَهما من جِهَة الْمَالِك لكنهما ضامنان
تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَام المُصَنّف أَنه لَا يجب على الْغَاصِب مَعَ رد الْعين المغتصبة بِحَالِهَا شَيْء وَيسْتَثْنى مَسْأَلَة يجب فِيهَا مَعَ الرَّد الْقيمَة وَهِي مَا لَو غصب أمة فَحملت بَحر فِي يَده ثمَّ ردهَا لمَالِكهَا فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ قيمتهَا للْحَيْلُولَة لِأَن الْحَامِل بَحر لاتباع ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ
قَالَ وعَلى الْغَاصِب التَّعْزِير لحق الله تَعَالَى واستيفاؤه للْإِمَام وَلَا يسْقط بإبراء الْمَالِك
وَيسْتَثْنى من وجوب الرَّد على الْفَوْر مَسْأَلَتَانِ الأولى مَا لَو غصب لوحا وأدرجه فِي سفينة وَكَانَت فِي لجة وَخيف من نَزعه هَلَاك مُحْتَرم فِي السَّفِينَة وَلَو للْغَاصِب على الْأَصَح فَلَا ينْزع فِي هَذِه الْحَالة
الثَّانِيَة تَأْخِيره للإشهاد وَإِن طَالبه الْمَالِك
فَإِن قيل هَذَا مُشكل لاستمرار الْغَصْب
أُجِيب بِأَنَّهُ زمن يسير اغتفر للضَّرُورَة لِأَن الْمَالِك قد يُنكره وَهُوَ لَا يقبل قَوْله فِي الرَّد
(و) لزمَه مَعَ رده (أرش نَقصه) أَي نقص عينه كَقطع يَده أَو صفته كنسيان صَنْعَة لَا نقص قِيمَته (و) لزمَه مَعَ الرَّد (و) الْأَرْش (أُجْرَة مثله) لمُدَّة إِقَامَته فِي يَده وَلَو لم يسْتَوْف الْمَنْفَعَة وَلَو تفاوتت الْأُجْرَة فِي الْمدَّة ضمن فِي كل بعض من أبعاض الْمدَّة أُجْرَة مثله فِيهِ وَإِذا وَجَبت أجرته فدخله نقص فَإِن كَانَ بِسَبَب الِاسْتِعْمَال كلبس الثَّوْب وَجب مَعَ الْأُجْرَة أَرْشه على الْأَصَح وَإِن كَانَ بِسَبَب غير الِاسْتِعْمَال كَأَن غصب عبدا فنقصت قِيمَته بِآفَة سَمَاوِيَّة كسقوط عُضْو بِمَرَض وَجب مَعَ الْأُجْرَة الْأَرْش أَيْضا ثمَّ الْأُجْرَة حِينَئِذٍ لما قبل حُدُوث النَّقْص أُجْرَة مثله سليما وَلما بعده أُجْرَة مثله معيبا وَإِطْلَاق المُصَنّف شَامِل لذَلِك كُله (فَإِن تلف) الْمَغْصُوب المتمول عِنْد الْغَاصِب بِآفَة أَو إِتْلَاف كُله أَو بعضه (ضمنه) الْغَاصِب بِالْإِجْمَاع أما غير المتمول كحبة بر وكلب يقتني وزبل وحشرات وَنَحْو ذَلِك فَلَا يضمنهُ وَلَو كَانَ مُسْتَحقّ الزبل قد غرم على نَقله أُجْرَة لم يُوجِبهَا على الْغَاصِب
وَيسْتَثْنى من ضَمَان المتمول إِذا تلف مسَائِل مِنْهَا مَا لَو غصب الْحَرْبِيّ مَال مُسلم أَو ذمِّي ثمَّ أسلم أَو عقدت لَهُ ذمَّة بعد التّلف فَإِنَّهُ لَا ضَمَان وَلَو كَانَ بَاقِيا وَجب رده
وَمِنْهَا مَا لَو غصب عبدا وَجب قَتله لحق الله تَعَالَى بردة أَو نَحْوهَا فَقتله فَلَا ضَمَان على الْأَصَح وَمِنْهَا مَا لَو قتل الْمَغْصُوب فِي يَد الْغَاصِب واقتص الْمَالِك من الْقَاتِل فَإِنَّهُ لَا شَيْء على الْغَاصِب لِأَن الْمَالِك أَخذ بدله قَالَه فِي الْبَحْر
تَنْبِيه قَول المُصَنّف تلف لَا يتَنَاوَل مَا إِذا أتْلفه هُوَ أَو أَجْنَبِي لكنه مَأْخُوذ من بَاب أولى وَلذَا قلت أَو إِتْلَاف لَكِن لَو أتْلفه الْمَالِك فِي يَد الْغَاصِب أَو أتْلفه من لَا يعقل أَو من يرى طَاعَة الْأَمر بِأَمْر الْمَالِك برىء من الضَّمَان نعم لَو صال الْمَغْصُوب على الْمَالِك فَقتله دفعا لصياله لم يبرأ الْغَاصِب سَوَاء أعلم أَنه عَبده أم لَا لِأَن الْإِتْلَاف بِهَذِهِ الْجِهَة كتلف العَبْد نَفسه وَخرج بقولنَا عِنْد الْغَاصِب مَا لَو تلف بعد الرَّد فَإِنَّهُ لَا ضَمَان وَاسْتثنى من ذَلِك مَا لَو رده على الْمَالِك بِإِجَارَة أَو رهن أَو وَدِيعَة وَلم يعلم الْمَالِك فَتلف عِنْد الْمَالِك فَإِن ضَمَانه على الْغَاصِب وَمَا لَو قتل بعد رُجُوعه إِلَى الْمَالِك بردة أَو جِنَايَة فِي يَد الْغَاصِب فَإِنَّهُ يضمنهُ
وَيضمن مَغْصُوب تلف (بِمثلِهِ إِن كَانَ لَهُ مثل) مَوْجُود والمثلي مَا حصره كيل أَو وزن وَجَاز السّلم فِيهِ كَمَاء وَلَو أَعلَى وتراب ونحاس ومسك وقطن(2/333)
وَإِن لم ينْزع حبه ودقيق ونخالة كَمَا قَالَه ابْن الصّلاح وَإِنَّمَا ضمن بِمثلِهِ الْآيَة {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم} وَلِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّالِف وَمَا عدا ذَلِك مُتَقَوّم وَسَيَأْتِي كالمذروع والمعدود وَمَا لَا يجوز السّلم فِيهِ كمعجون وغالية ومعيب وَأورد على التَّعْرِيف الْبر الْمُخْتَلط بِالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يجوز السّلم فِيهِ مَعَ أَن الْوَاجِب فِيهِ الْمثل لِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّالِف فَيخرج الْقدر الْمُحَقق مِنْهُمَا
وَأجِيب بِأَن إِيجَاب رد مثله لَا يسْتَلْزم كَونه مثلِيا كَمَا فِي إِيجَاب رد مثل الْمُتَقَوم فِي الْقَرْض وَبِأَن امْتنَاع السّلم فِي جملَته لَا يُوجب امْتِنَاعه فِي جزأيه الباقيين بحالهما ورد الْمثل إِنَّمَا هُوَ بِالنّظرِ إِلَيْهِمَا وَالسّلم فيهمَا جَائِز وَيضمن الْمثْلِيّ بِمثلِهِ فِي أَي مَكَان حل بِهِ وَإِنَّمَا يضمن الْمثْلِيّ بِمثلِهِ إِذا بَقِي لَهُ قيمَة فَلَو أتلف مَاء بمفازة مثلا ثمَّ اجْتمعَا عِنْد نهر وَجَبت قِيمَته بالمفازة وَلَو صَار الْمثْلِيّ مُتَقَوّما أَو مثلِيا أَو الْمُتَقَوم مثلِيا كجعل الدَّقِيق خبْزًا أَو السمسم شيرجا أَو الشَّاة لَحْمًا ثمَّ تلف ضمنه بِمثلِهِ إِلَّا أَن يكون الآخر أَكثر قيمَة فَيضمن بِهِ فِي الثَّانِي وبقيمته فِي الآخرين وَالْمَالِك فِي الثَّانِي مُخَيّر بَين المثلين
أما لَو صَار الْمُتَقَوم مُتَقَوّما كإناء نُحَاس صِيغ مِنْهُ حلي فَيجب فِيهِ أقْصَى الْقيم كَمَا يُؤْخَذ مِمَّا مر
وَخرج بِقَيْد الْوُجُود مَا إِذا فقد الْمثل حسا أَو شرعا كَأَن لم يُوجد بمَكَان الْغَصْب وَلَا حواليه أَو وجد بِأَكْثَرَ من ثمن مثله فَيضمن بأقصى قيم الْمَكَان الَّذِي حل بِهِ الْمثْلِيّ من حِين غصب إِلَى حِين فقد الْمثْلِيّ لِأَن وجود الْمثل كبقاء الْعين فِي وجوب تَسْلِيمه فَيلْزمهُ ذَلِك كَمَا فِي الْمُتَقَوم وَلَا نظر إِلَى مَا بعد الْفَقْد كَمَا لَا نظر إِلَى مَا بعد تلف الْمُتَقَوم
وَصُورَة الْمَسْأَلَة إِذا لم يكن الْمثل مفقودا عِنْد التّلف كَمَا صوره الْمُحَرر وَإِلَّا ضمن الْأَكْثَر من الْغَصْب إِلَى التّلف (أَو) يضمن الْمَغْصُوب (بِقِيمَتِه إِن لم يكن لَهُ مثل) بِأَن كَانَ مُتَقَوّما فَيلْزمهُ قِيمَته إِن تلف بِإِتْلَاف
أَو بِدُونِهِ حَيَوَانا كَانَ أَو غَيره وَلَو مكَاتبا ومستولدة (أَكثر مَا كَانَت من يَوْم) أَي حِين (الْغَصْب إِلَى يَوْم) أَي حِين (التّلف) وَإِن زَاد على دِيَة الْحر لتوجه الرَّد عَلَيْهِ حَال الزِّيَادَة فَيضمن الزَّائِد وَالْعبْرَة فِي ذَلِك بِنَقْد مَكَان التّلف إِن لم يَنْقُلهُ وَإِلَّا فَيتَّجه كَمَا فِي الْكِفَايَة اعْتِبَار نقد أَكثر(2/334)
الْأَمْكِنَة وتضمن أَبْعَاضه بِمَا نقض من الْأَقْصَى إِلَّا إِن أتلفت بِأَن أتلفهَا الْغَاصِب أَو غَيره من رَقِيق وَلها أرش مُقَدّر من حر كيد وَرجل فَيضمن بِأَكْثَرَ الْأَمريْنِ مِمَّا نقص وَنصف قِيمَته لِاجْتِمَاع الشبهين فَلَو نقص بقطعها ثلثا قِيمَته لزماه النّصْف بِالْقطعِ وَالسُّدُس بِالْغَصْبِ
نعم إِن قطعهَا الْمَالِك ضمن الْغَاصِب الزَّائِد على النّصْف فَقَط وزوائد الْمَغْصُوب الْمُتَّصِلَة كالسمن والمنفصلة كَالْوَلَدِ مَضْمُونَة على الْغَاصِب كالأصل وَإِن لم يطْلبهَا الْمَالِك بِالرَّدِّ
وَيضمن مُتَقَوّم أتلف بِلَا غصب بِقِيمَتِه وَقت تلف لِأَنَّهُ بعده مَعْدُوم وَضَمان الزَّائِد فِي الْمَغْصُوب إِنَّمَا كَانَ بِالْغَصْبِ وَلم يُوجد هُنَا
وَلَو أتلف عبدا مغنيا لزمَه تَمام قِيمَته أَو أمة مغنية لم يلْزمه مَا زَاد على قيمتهَا بِسَبَب الْغناء على النَّص الْمُخْتَار فِي الرَّوْضَة لِأَن استماعه مِنْهَا محرم عِنْد خوف الْفِتْنَة وَقَضيته أَن العَبْد الْأَمْرَد الْحسن كَذَلِك فَإِن تلف بسراية جِنَايَة ضمن بالأقصى من الْجِنَايَة إِلَى التّلف لأَنا إِذا اعْتبرنَا الْأَقْصَى بِالْغَصْبِ فَفِي نفس الْإِتْلَاف أولى
تَتِمَّة لَو وَقع فصيل فِي بَيت أَو دِينَار فِي محبرة وَلم يخرج الأول إِلَّا بهدم الْبَيْت وَالثَّانِي إِلَّا بِكَسْر المحبرة فَإِن كَانَ الْوُقُوع بتفريط صَاحب الْبَيْت أَو المحبرة فَلَا غرم على مَالك الفصيل وَالدِّينَار وَإِلَّا غرم الْأَرْش فَإِن كَانَ الْوُقُوع بتفريطهما فَالْوَجْه كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ أَنه إِنَّمَا يغرم النّصْف لاشْتِرَاكهمَا فِي التَّفْرِيط كالمتصادمين وَلَو أدخلت بَهِيمَة رَأسهَا فِي قدر وَلم تخرج إِلَّا بِكَسْرِهَا كسرت لتخليصها وَلَا تذبح المأكولة لذَلِك
ثمَّ إِن صحبها مَالِكهَا فَعَلَيهِ الْأَرْش لتَفْرِيطه فَإِن لم يكن مَعهَا فَإِن تعدى صَاحب الْقدر بوضعها بِموضع لَا حق لَهُ فِيهِ أَو لَهُ فِيهِ حق لكنه قدر على دفع الْبَهِيمَة فَلم يَدْفَعهَا فَلَا أرش لَهُ وَلَو تعدى كل من مَالك الْقدر والبهيمة فَحكمه حكم مَا مر عَن الْمَاوَرْدِيّ
وَلَو ابتلعت بَهِيمَة جَوْهَرَة لم تذبح لتخليصها وَإِن كَانَت مأكولة بل يغرم مَالِكهَا إِن فرط فِي حفظهَا قيمَة الْجَوْهَرَة للْحَيْلُولَة فَإِن ابتلعت مَا يفْسد بالابتلاع غرم قِيمَته للفيصولة
فصل فِي الشُّفْعَة
وَهِي إسكان الْفَاء وَحكي ضمهَا لُغَة الضَّم
وَشرعا حق تملك قهري يثبت للشَّرِيك الْقَدِيم على الشَّرِيك الْحَادِث فِيمَا ملك بعوض
وَالْأَصْل فِيهَا خبر البُخَارِيّ عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شُفْعَة وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي أَرض أَو ربع أَو حَائِط
وَالرّبع الْمنزل والحائط الْبُسْتَان
وَالْمعْنَى فِيهِ دفع ضَرَر مُؤنَة الْقِسْمَة واستحداث الْمرَافِق كالمصعد وَالْمُنَوّر والبالوعة فِي الْحصَّة الصائرة إِلَيْهِ
وَذكرت عقب الْغَصْب لِأَنَّهَا تُؤْخَذ(2/335)
قهرا فَكَأَنَّهَا مُسْتَثْنَاة من تَحْرِيم أَخذ مَال الْغَيْر قهرا
وأركانها ثَلَاثَة آخذ ومأخوذ مِنْهُ ومأخوذ والصيغة إِنَّمَا تجب فِي التَّمَلُّك
القَوْل فِي أَرْكَان الشُّفْعَة وأركانها ثَلَاثَة آخذ ومأخود مِنْهُ ومأخوذ
والصيغة إِنَّمَا تجب فِي التَّمَلُّك
وَبَدَأَ المُصَنّف بِشُرُوط الْآخِذ فَقَالَ (وَالشُّفْعَة وَاجِبَة) أَي ثَابِتَة للشَّرِيك (بالخلطة) أَي خلْطَة الشُّيُوع وَلَو كَانَ الشَّرِيك مكَاتبا أَو غير عَاقل كمسجد لَهُ شقص لم يُوقف بَاعَ شَرِيكه يَأْخُذ لَهُ النَّاظر بِالشُّفْعَة (دون) خلْطَة (الْجوَار) بِكَسْر الْجِيم فَلَا تثبت للْجَار وَلَو ملاصقا لخَبر البُخَارِيّ الْمَار وَمَا ورد فِيهِ مَحْمُول على الْجَار الشَّرِيك جمعا بَين الْأَحَادِيث
وَلَو قضى بِالشُّفْعَة للْجَار حَنَفِيّ لم ينْقض حكمه وَلَو كَانَ الْقَضَاء بهَا لشافعي كَنَظِيرِهِ من الْمسَائِل الاجتهادية
وَلَا تثبت أَيْضا لِشَرِيك فِي الْمَنْفَعَة فَقَط كَأَن ملكهَا بِوَصِيَّة وَتثبت لذِمِّيّ على مُسلم ومكاتب على سَيّده كعكسهما وَلَو كَانَ لبيت المَال شريك فِي أَرض فَبَاعَ شَرِيكه كَانَ للْإِمَام الْآخِذ بِالشُّفْعَة إِن رَآهُ مصلحَة وَلَا شُفْعَة لصَاحب شقص من أَرض مُشْتَركَة مَوْقُوف عَلَيْهِ إِذا بَاعَ شَرِيكه نصِيبه وَلَا لشَرِيكه إِذا بَاعَ شريك آخر نصِيبه كَمَا أفتى بِهِ البُلْقِينِيّ لِامْتِنَاع قسْمَة الْوَقْف عَن الْملك ولانتفاء ملك الأول عَن الرَّقَبَة
نعم على مَا اخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ وَالنَّوَوِيّ من جَوَاز قسمته عَنهُ لَا مَانع من أَخذ الثَّانِي وَهُوَ الْمُعْتَمد إِن كَانَت الْقِسْمَة قسْمَة إِفْرَاز
القَوْل فِي شُرُوط الْمَأْخُوذ بِالشُّفْعَة وَيشْتَرط فِي الْمَأْخُوذ وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي أَن يكون (فِيمَا يَنْقَسِم) أَي فِيمَا يقبل الْقِسْمَة إِذا طلبَهَا الشَّرِيك بِأَن لَا يبطل نَفعه الْمَقْصُود مِنْهُ لَو قسم بِأَن يكون بِحَيْثُ ينْتَفع بِهِ بعد الْقِسْمَة من الْوَجْه الَّذِي كَانَ ينْتَفع بِهِ قبلهَا كطاحون وحمام كبيرين وَذَلِكَ لِأَن عِلّة ثُبُوت الشُّفْعَة فِي المنقسم كَمَا مر دفع ضَرَر مُؤنَة الْقِسْمَة وَالْحَاجة إِلَى إِفْرَاد الْحصَّة الصائرة للشَّرِيك بالمرافق وَهَذَا الضَّرَر حَاصِل قبل البيع وَمن حق الرَّاغِب فِيهِ من الشَّرِيكَيْنِ أَن يخلص صَاحبه مِنْهُ بِالْبيعِ لَهُ فَلَمَّا بَاعَ لغيره سلطه الشَّرْع على أَخذه مِنْهُ (دون مَا لَا يَنْقَسِم) بِأَن يبطل نَفعه الْمَقْصُود مِنْهُ لَو قسم كحمام وطاحون صغيرين وَبِذَلِك علم أَن الشُّفْعَة تثبت لمَالِك عشر دَار صَغِيرَة إِن بَاعَ شَرِيكه بقيتها لَا عَكسه لِأَن الأول يجْبر على الْقِسْمَة دون الثَّانِي (و) أَن يكون (فِي كل مَا لَا ينْقل من الأَرْض) بِأَن يكون أَرضًا بتابعها كشجر وثمر غير مؤبر وَبِنَاء وتوابعه من أَبْوَاب وَغَيرهَا غير نَحْو ممر كمجرى نهر لَا غنى عَنهُ فَلَا شُفْعَة فِي بَيت على سقف وَلَو مُشْتَركا وَلَا فِي شجر أفرد بِالْبيعِ أَو بيع مَعَ مغرسه فَقَط وَلَا فِي شجر جَاف شَرط دُخُوله فِي بيع أَرض لانْتِفَاء التّبعِيَّة وَلَا فِي نَحْو ممر دَار لَا غنى عَنهُ فَلَو بَاعَ دَاره وَله شريك فِي ممرها(2/336)
الَّذِي لَا غنى عَنهُ فَلَا شُفْعَة فِيهِ حذرا من الْإِضْرَار بالمشتري بِخِلَاف مَا لَو كَانَ لَهُ غنى عَنهُ بِأَن كَانَ للدَّار ممر آخر أَو أمكنه إِحْدَاث ممر لَهَا إِلَى شَارِع أَو نَحوه وَمثل المُصَنّف لما لَا ينْقل بقوله (كالعقار) بِفَتْح الْعين وَهُوَ اسْم للمنزل وللأرض والضياع كَمَا فِي تَهْذِيب النَّوَوِيّ وتحريره حِكَايَة عَن أهل اللُّغَة (وَغَيره) أَي الْعقار مِمَّا فِي مَعْنَاهُ كالحمام الْكَبِير إِذا أمكن جعله حمامين وَالْبناء وَالشَّجر تبعا للْأَرْض كَمَا تقدم
تَنْبِيه قد علم من كَلَام المُصَنّف أَن كل مَا ينْقل لَا يثبت فِيهِ شُفْعَة وَهُوَ كَذَلِك إِن لم يكن تَابعا كَمَا مر
وَمن الْمَنْقُول الَّذِي لَا تثبت فِيهِ شُفْعَة الْبناء على الأَرْض المحتكرة فَلَا شُفْعَة فِيهِ كَمَا ذكره الدَّمِيرِيّ وَهِي مَسْأَلَة كَثِيرَة الْوُقُوع وَأَن يملك الْمَأْخُوذ بعوض كمبيع وَمهر وَعوض خلع وَصلح دم فَلَا شُفْعَة فِيمَا لم يملك وَإِن جرى سَبَب ملكه كالجعل قبل الْفَرَاغ من الْعَمَل وَلَا فِيمَا ملك بِغَيْر عوض كإرث وَوَصِيَّة وَهبة بِلَا ثَوَاب وَيشْتَرط فِي الْمَأْخُوذ مِنْهُ وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث تَأَخّر سَبَب ملكه عَن سَبَب ملك الْآخِذ فَلَو بَاعَ أحد الشَّرِيكَيْنِ نصِيبه بِشَرْط الْخِيَار لَهُ فَبَاعَ الآخر نصِيبه فِي زمن الْخِيَار بيع بت فَالشُّفْعَة للْمُشْتَرِي الأول وَإِن لم يشفع بَائِعه لتقدم سَبَب ملكه على سَبَب ملك الثَّانِي لَا للثَّانِي وَإِن تَأَخّر عَن ملكه ملك الأول لتأخر سَبَب ملكه عَن سَبَب ملك الأول
وَكَذَا لَو باعا مُرَتبا بِشَرْط الْخِيَار لَهما دون المُشْتَرِي سَوَاء أجازا مَعًا أم أَحدهمَا قبل الآخر بِخِلَاف مَا لَو اشْترى اثْنَان دَارا أَو بَعْضهَا مَعًا فَلَا شُفْعَة لأَحَدهمَا على الآخر لعدم السَّبق
وَيَأْخُذ الشَّفِيع الشّقص من المُشْتَرِي (بِالثّمن) الْمَعْلُوم (الَّذِي وَقع عَلَيْهِ) عقد (البيع) أَو غَيره فَيَأْخُذ فِي ثمن مثلي كنقد وَحب بِمثلِهِ إِن تيَسّر وَإِلَّا فبقيمته
وَفِي مُتَقَوّم كَعبد وثوب بِقِيمَتِه كَمَا فِي الْغَصْب
وَتعْتَبر قِيمَته وَقت العقد من بيع وَنِكَاح وخلع وَغَيرهَا لِأَنَّهُ وَقت ثُبُوت الشُّفْعَة وَلِأَن مَا زَاد فِي ملك الْمَأْخُوذ مِنْهُ
وَخير الشَّفِيع فِي ثمن مُؤَجل بَين تَعْجِيله مَعَ أَخذه حَالا وَبَين صبره إِلَى الْحُلُول ثمَّ يَأْخُذ وَإِن حل الْمُؤَجل بِمَوْت الْمَأْخُوذ مِنْهُ لاخْتِلَاف الذمم وَإِن ألزم بِالْأَخْذِ حَالا بنظيره من الْحَال أضرّ بالشفيع لِأَن الْأَجَل يُقَابله قسط من الثّمن وَعلم بذلك أَن الْمَأْخُوذ مِنْهُ لَو رَضِي بِذِمَّة الشَّفِيع لم يُخَيّر وَهُوَ الْأَصَح
وَلَو بيع مثلا شقص وَغَيره كَثوب أَخذ الشّقص بِقدر حِصَّته من الثّمن بِاعْتِبَار الْقيمَة فَلَو كَانَ الثّمن مِائَتَيْنِ وَقِيمَة الشّقص ثَمَانِينَ وَقِيمَة المضموم إِلَيْهِ عشْرين أَخذ الشّقص بأَرْبعَة أَخْمَاس الثّمن وَلَا خِيَار للْمُشْتَرِي بتفريق الصَّفْقَة عَلَيْهِ لدُخُوله فِيهَا عَالما بِالْحَال
وَخرج بالمعلوم الَّذِي قدرته فِي كَلَامه مَا إِذا اشْترى بجزاف نَقْدا كَانَ أَو غَيره امْتنع الْأَخْذ بِالشُّفْعَة لتعذر الْوُقُوف على الثّمن وَالْأَخْذ بِالْمَجْهُولِ غير مُمكن وَهَذَا من الْحِيَل المسقطة للشفعة وَهِي مَكْرُوهَة لما فِيهَا من إبْقَاء الضَّرَر
وصورها كَثِيرَة(2/337)
مِنْهَا أَن يَبِيعهُ الشّقص بِأَكْثَرَ من ثمنه بِكَثِير ثمَّ يَأْخُذ بِهِ عرضا يُسَاوِي مَا تَرَاضيا عَلَيْهِ عوضا عَن الثّمن أَو يحط عَن المُشْتَرِي مَا يزِيد عَلَيْهِ بعد انْقِضَاء الْخِيَار
وَمِنْه أَن يَبِيعهُ بِمَجْهُول مشَاهد ويقبضه ويخلطه بِغَيْرِهِ بِلَا وزن فِي الْمَوْزُون أَو يُنْفِقهُ أَو يتلفه
وَمِنْهَا أَن يَشْتَرِي من الشّقص جُزْءا بِقِيمَة الْكل ثمَّ يَهبهُ الْبَاقِي
وَمِنْهَا أَن يهب كل من مَالك الشّقص وَآخذه للْآخر بِأَن يهب لَهُ الشّقص بِلَا ثَوَاب ثمَّ يهب لَهُ الآخر قدر قِيمَته فَإِن خشِي عدم الْوَفَاء بِالْهبةِ وكلا أمينين ليقبضاهما مِنْهُمَا مَعًا بِأَن يَهبهُ الشّقص ويجعله فِي يَد أَمِين ليقبضه إِيَّاه ثمَّ يتقابضا فِي حَالَة وَاحِدَة
وَمِنْهَا أَن يَشْتَرِي بمتقوم قِيمَته مَجْهُولَة كفص ثمَّ يضيعه أَو يخلطه بِغَيْرِهِ فَإِن كَانَ غَائِبا لم يلْزم البَائِع إِحْضَاره وَلَا الْإِخْبَار بِقِيمَتِه وَلَو عين الشَّفِيع قدر ثمن الشّقص كَقَوْلِه للْمُشْتَرِي اشْتَرَيْته بِمِائَة دِرْهَم وَقَالَ المُشْتَرِي لم يكن الثّمن مَعْلُوم الْقدر حلف على نفي الْعلم بِقَدرِهِ لِأَن الأَصْل عدم علمه بِهِ فَإِن ادّعى الشَّفِيع علم المُشْتَرِي بِالثّمن وَلم يعين لَهُ قدرا لم تسمع دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لم يدع حَقًا لَهُ
تَنْبِيه لَو ظهر الثّمن مُسْتَحقّا بعد الْأَخْذ بِالشُّفْعَة فَإِن كَانَ معينا كَأَن اشْترى بِهَذِهِ الْمِائَة بَطل البيع وَالشُّفْعَة لعدم الْملك وَإِن اشْترى بِثمن فِي الذِّمَّة وَدفع عَمَّا فِيهَا فَخرج الْمَدْفُوع مُسْتَحقّا أبدل الْمَدْفُوع وَبَقِي البيع وَالشُّفْعَة
وَإِن دفع الشَّفِيع مُسْتَحقّا لم تبطل الشُّفْعَة
وَإِن علم أَنه مُسْتَحقّ لِأَنَّهُ لم يقصر فِي الطّلب وَالْأَخْذ سَوَاء أَخذ بِمعين أم لَا فَإِن كَانَ معينا فِي العقد احْتَاجَ تملكا جَدِيدا
وكخروج مَا ذكر مُسْتَحقّا خُرُوجه نُحَاسا
وَللْمُشْتَرِي تصرف فِي الشّقص لِأَنَّهُ ملكه وللشفيع فَسخه بِأخذ الشّقص سَوَاء كَانَ فِيهِ شُفْعَة كَبيع أم لَا كوقف وَهبة لِأَن حَقه سَابق على هَذَا التَّصَرُّف وَله أَخذ بِمَا فِيهِ شُفْعَة من التَّصَرُّف كَبيع لذَلِك وَلِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ الْعِوَض فِيهِ أقل أَو من جنس هُوَ عَلَيْهِ أيسر
القَوْل فِي طلب الشُّفْعَة على الْفَوْر (وَهِي) أَي الشُّفْعَة بعد علم الشَّفِيع بِالْبيعِ (على الْفَوْر) لِأَنَّهَا حق ثَبت لدفع الضَّرَر
فَكَانَ على الْفَوْر كالرد بِالْعَيْبِ
وَالْمرَاد بِكَوْنِهَا على الْفَوْر هُوَ طلبَهَا وَإِن تَأَخّر التَّمَلُّك
وَاسْتثنى من الْفَوْرِيَّة عشر صور ذكرتها فِي شرح الْمِنْهَاج مِنْهَا أَنه لَو قَالَ لم أعلم أَن لي الشُّفْعَة وَهُوَ مِمَّن يخفى عَلَيْهِ ذَلِك وَمِنْهَا مَا لَو قَالَ الْعَاميّ لَا أعلم أَن الشُّفْعَة على الْفَوْر فَإِن الْمَذْهَب هُنَا وَفِي الرَّد بِالْعَيْبِ(2/338)
قبُول قَوْله فَإِذا علم بِالْبيعِ مثلا فليبادر عقب علمه بِالشِّرَاءِ على الْعَادة وَلَا يُكَلف البدار على خلَافهَا بالعدو وَنَحْوه بل يرجع فِيهِ إِلَى الْعرف فَمَا عده الْعرف تقصيرا وتوانيا كَانَ مسْقطًا ومالا فَلَا (فَإِن أَخّرهَا) أَي الشُّفْعَة مَعَ الْعلم بِالْبيعِ مثلا بِأَن لم يطْلبهَا (مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا) بِأَن لم يكن عذر (بطلت) أَي الشُّفْعَة لتَقْصِيره وَخرج بِالْعلمِ مَا إِذا لم يعلم فَإِنَّهُ على شفعته وَلَو مضى سنُون وَلَا يُكَلف الْإِشْهَاد على الطّلب إِذا سَار طَالبا فِي الْحَال أَو وكل فِي الطّلب فَلَا تبطل شفعته بِتَرْكِهِ
وَخرج بِعَدَمِ الْعذر مَا إِذا كَانَ مَعْذُورًا كَكَوْنِهِ مَرِيضا مَرضا يمْنَع من الْمُطَالبَة لَا كصداع يسير أَو كَانَ مَحْبُوسًا ظلما أَو بدين وَهُوَ مُعسر وعاجز عَن الْبَيِّنَة أَو غَائِبا عَن بلد المُشْتَرِي فَلَا تبطل شفعته بِالتَّأْخِيرِ فَإِن كَانَ الْعذر يَزُول عَن قرب كالمصلي والآكل وقاضي الْحَاجة وَالَّذِي فِي الْحمام كَانَ لَهُ التَّأْخِير أَيْضا إِلَى زَوَاله وَلَا يُكَلف الْقطع على خلاف الْعَادة وَلَا يُكَلف الِاقْتِصَار فِي الصَّلَاة على أقل مَا يجزىء بل لَهُ أَن يَسْتَوْفِي الْمُسْتَحبّ للمنفرد فَإِن زَاد عَلَيْهِ فَالَّذِي يظْهر أَنه لَا يكون عذرا
وَلم أر من تعرض لذَلِك
وَلَو حضر وَقت الصَّلَاة أَو الطَّعَام أَو قَضَاء الْحَاجة جَازَ لَهُ أَن يقدمهَا وَأَن يلبس ثَوْبه فَإِذا فرغ طَالب بِالشُّفْعَة وَإِن كَانَ فِي ليل فحتى يصبح وَلَو أخر الطّلب بهَا وَقَالَ لم أصدق الْمخبر بِبيع الشَّرِيك الشّقص لم يعْذر إِن أخبرهُ عَدْلَانِ أَو عدل وَامْرَأَتَانِ بذلك وَكَذَا إِن أخبرهُ ثِقَة حر أَو عبد أَو امْرَأَة فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ إِخْبَار وَخبر الثِّقَة مَقْبُول ويعذر فِي خبر من لَا يقبل خَبره كفاسق وَصبي وَلَو مُمَيّزا
وَلَو أخبر الشَّفِيع بِالْبيعِ بِأَلف فَترك الشُّفْعَة فَبَان بِخَمْسِمِائَة بَقِي حَقه فِي الشُّفْعَة لِأَنَّهُ لم يتْركهُ زاهدا بل للغلاء فَلَيْسَ مقصرا وَإِن بَان بِأَكْثَرَ مِمَّا أخبر بِهِ بَطل حَقه لِأَنَّهُ إِذا لم يرغب فِيهِ بِالْأَقَلِّ فبالأكثر أولى وَلَو لَقِي الشَّفِيع المُشْتَرِي فَسلم عَلَيْهِ أَو سَأَلَهُ عَن الثّمن أَو قَالَ لَهُ بَارك الله لَك فِي صفقتك لم يبطل حَقه
أما فِي الأولى فَلِأَن السَّلَام سنة قبل الْكَلَام وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَن جَاهِل الثّمن لَا بُد لَهُ من مَعْرفَته وَقد يُرِيد الْعَارِف إِقْرَار المُشْتَرِي وَأما فِي الثَّالِثَة فَلِأَنَّهُ قد يَدْعُو بِالْبركَةِ ليَأْخُذ صَفْقَة مباركة
(وَإِذا تزوج امْرَأَة) أَو خَالعهَا (على شقص) فِيهِ شُفْعَة وَهُوَ بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْقَاف اسْم للقطعة من الأَرْض وللطائفة من الشَّيْء كَمَا اتّفق عَلَيْهِ أهل اللُّغَة (أَخذه الشَّفِيع) أَي شريك الْمُصدق أَو المخالع من الْمَرْأَة فِي الأولى وَمن المخالع فِي(2/339)
الثَّانِيَة (بِمهْر الْمثل) مُعْتَبرا بِيَوْم العقد لِأَن الْبضْع مُتَقَوّم وَقِيمَته مهر الْمثل وَتجب فِي الْمُتْعَة مُتْعَة مثلهَا لَا مهر مثلهَا لِأَنَّهَا الْوَاجِبَة بالفراق والشقص عوض عَنْهَا
وَلَو اخْتلفَا فِي قدر الْقيمَة الْمَأْخُوذ بهَا الشّقص الْمَشْفُوع صدق الْمَأْخُوذ مِنْهُ بِيَمِينِهِ قَالَه الرَّوْيَانِيّ (وَإِن كَانَ الشفعاء جمَاعَة) من الشُّرَكَاء (استحقوها على قدر الْأَمْلَاك) لِأَنَّهُ حق مُسْتَحقّ بِالْملكِ فقسط على قدره كالأجرة وَالثَّمَرَة فَلَو كَانَت أَرض بَين ثَلَاثَة لوَاحِد نصفهَا وَلآخر ثلثهَا وَلآخر سدسها فَبَاعَ الأول حِصَّته أَخذ الثَّانِي سَهْمَيْنِ وَالثَّالِث سَهْما وَهَذَا مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَقيل يَأْخُذُونَ بِعَدَد الرؤوس وَاعْتَمدهُ جمع من الْمُتَأَخِّرين
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ إِن الأول خلاف مَذْهَب الشَّافِعِي وَلَو بَاعَ أحد الشَّرِيكَيْنِ بعض حِصَّته لرجل ثمَّ بَاقِيهَا لآخر فَالشُّفْعَة فِي الْبَعْض الأول للشَّرِيك الْقَدِيم لانفراده بِالْحَقِّ فَإِن عَفا عَنهُ شَاركهُ المُشْتَرِي الأول فِي الْبَعْض الثَّانِي لِأَنَّهُ صَار شَرِيكا مثله قبل البيع الثَّانِي فَإِن لم يعف عَنهُ بل أَخذه لم يُشَارِكهُ فِيهِ لزوَال ملكه وَلَو عَفا أحد شفيعين عَن حَقه أَو بعضه سقط حَقه كالقود وَأخذ الآخر الْكل أَو تَركه فَلَا يقْتَصر على حِصَّته لِئَلَّا تتبعض الصَّفْقَة على المُشْتَرِي أَو جضر أَحدهمَا وَغَابَ الآخر أخر الْأَخْذ إِلَى حُضُور الْغَائِب لعذره فِي أَن لَا يَأْخُذ مَا يُؤْخَذ مِنْهُ أَو أَخذ الْكل فَإِذا حضر الْغَائِب شَاركهُ فِيهِ لِأَن الْحق لَهما فَلَيْسَ للحاضر الِاقْتِصَار على حِصَّته لِئَلَّا تتبعض الصَّفْقَة على المُشْتَرِي لَو لم يَأْخُذهُ الْغَائِب
وَمَا اسْتَوْفَاهُ الْحَاضِر من الْمَنَافِع كالأجرة وَالثَّمَرَة لَا يزاحمه فِيهِ الْغَائِب
وتتعدد الشُّفْعَة بِتَعَدُّد الصَّفْقَة أَو الشّقص فَلَو اشْترى اثْنَان من وَاحِد شِقْصا أَو اشْتَرَاهُ وَاحِد من اثْنَيْنِ فَللشَّفِيع أَخذ نصيب أَحدهمَا وَحده لانْتِفَاء تبعيض الصَّفْقَة على المُشْتَرِي أَو وَاحِد شقصين من دارين فَللشَّفِيع أَخذ أَحدهمَا لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى تبعيض شَيْء وَاحِد فِي صَفْقَة وَاحِدَة
تَتِمَّة لَو كَانَ لمشتر حِصَّة فِي أَرض كَأَن كَانَت بَين ثَلَاثَة أَثلَاثًا فَبَاعَ أَحدهمَا نصِيبه لأحد صَاحِبيهِ اشْترك مَعَ الشَّفِيع فِي الْمَبِيع بِقدر حِصَّته لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الشّركَة فَيَأْخُذ الشَّفِيع فِي الْمِثَال السُّدس لَا جَمِيع الْمَبِيع كَمَا لَو كَانَ المُشْتَرِي أَجْنَبِيّا
وَلَا يشْتَرط فِي ثُبُوت الشُّفْعَة حكم بهَا من حَاكم لثبوتها بِالنَّصِّ وَلَا حُضُور ثمن كَالْبيع وَلَا حُضُور مُشْتَر وَلَا رِضَاهُ كالرد بِعَيْب
وَشرط فِي تملك بهَا رُؤْيَة شَفِيع الشّقص وَعلمه بِالثّمن كالمشتري وَلَيْسَ للْمُشْتَرِي مَنعه من رُؤْيَته
وَشرط فِيهِ أَيْضا لفظ يشْعر بالتملك وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان كتملكت أَو أخذت بِالشُّفْعَة مَعَ قبض مُشْتَر الثّمن أَو مَعَ رِضَاهُ بِكَوْن الثّمن فِي ذمَّة الشَّفِيع وَلَا رَبًّا أَو مَعَ حكم لَهُ بِالشُّفْعَة إِذا حضر مَجْلِسه وَأثبت حَقه فِيهَا وَطَلَبه(2/340)
فصل فِي الْقَرَاض
وَهُوَ مُشْتَقّ من الْقَرْض وَهُوَ الْقطع
سمي بذلك لِأَن الْمَالِك قطع لِلْعَامِلِ قِطْعَة من مَاله يتَصَرَّف فِيهَا وَقطعَة من الرِّبْح
وَيُسمى أَيْضا مُضَارَبَة ومقارضة
وَالْأَصْل فِيهِ الْإِجْمَاع وَالْحَاجة وَاحْتج لَهُ الْمَاوَرْدِيّ بقوله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} وَبِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَارب لِخَدِيجَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بمالها إِلَى الشَّام وأنفذت مَعَه عَبدهَا ميسرَة
وَحَقِيقَته تَوْكِيل مَالك بِجعْل مَاله بيد آخر ليتجر فِيهِ وَالرِّبْح مُشْتَرك بَينهمَا
القَوْل فِي أَرْكَان الْقَرَاض وأركانه سِتَّة مَالك وعامل وَعمل وَربح وَصِيغَة وَمَال وَيعرف بَعْضهَا من كَلَام المُصَنّف وباقيها من شَرحه
(وللقراض أَرْبَعَة شَرَائِط) الأول (أَن يكون) عقده (على ناض) بِالْمدِّ وَتَشْديد الْمُعْجَمَة وَهُوَ مَا ضرب (من الدَّرَاهِم) الْفضة الْخَالِصَة (و) من (الدَّنَانِير) الْخَالِصَة وَفِي هَذِه إِشَارَة إِلَى أَن شَرط المَال الَّذِي هُوَ أحد الْأَركان أَن يكون نَقْدا خَالِصا وَلَا بُد أَن يكون مَعْلُوما جِنْسا وَقدرا وَصفَة وَأَن يكون معينا بيد الْعَامِل فَلَا يَصح على عرض وَلَو فُلُوسًا وتبرا وحليا وَمَنْفَعَة لِأَن فِي الْقَرَاض إغرارا إِذْ الْعَمَل فِيهِ غير مضبوط وَالرِّبْح غير موثوق بِهِ وَإِنَّمَا جوز للْحَاجة فاختص بِمَا يروج بِكُل حَال وتسهل التِّجَارَة بِهِ
وَلَا على نقد مغشوش وَلَو رائجا لانْتِفَاء خلوصه
نعم إِن كَانَ غشه مُسْتَهْلكا جَازَ قَالَه الْجِرْجَانِيّ
وَلَا على مَجْهُول جِنْسا أَو قدرا أَو صفة وَلَا على غير معِين كَأَن قارضه على مَا فِي الذِّمَّة من دين أَو غَيره
وَكَأن قارضه على إِحْدَى صرتين وَلَو متساويتين وَلَا يَصح بِشَرْط كَون المَال بيد غير الْعَامِل كالمالك ليوفي مِنْهُ ثمن مَا اشْتَرَاهُ الْعَامِل لِأَنَّهُ قد لَا يجده عِنْد الْحَاجة
وَشرط فِي الْمَالِك مَا شَرط فِي مُوكل وَفِي الْعَامِل مَا شَرط فِي وَكيل وهما الركنان الْأَوَّلَانِ لِأَن الْقَرَاض تَوْكِيل وتوكل وَأَن يسْتَقلّ الْعَامِل بِالْعَمَلِ ليتَمَكَّن من الْعَمَل مَتى شَاءَ فَلَا يَصح شَرط عمل غَيره مَعَه لِأَن انقسام الْعَمَل يَقْتَضِي انقسام الْيَد وَيصِح شَرط إِعَانَة مَمْلُوك الْمَالِك مَعَه فِي الْعَمَل وَلَا يَد للمملوك لِأَنَّهُ مَال فَجعل عمله تبعا لِلْمَالِ وَشَرطه أَن يكون مَعْلُوما بِرُؤْيَة أَو وصف وَإِن شرطت نَفَقَته عَلَيْهِ جَازَ
(و) الشَّرْط الثَّانِي (أَن يَأْذَن رب المَال لِلْعَامِلِ فِي التَّصَرُّف) فِي البيع وَالشِّرَاء (مُطلقًا) وَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى الرُّكْن الرَّابِع(2/341)
وَهُوَ الْعَمَل فشرطه أَن يكون فِي تِجَارَة
وَأَشَارَ بقوله مُطلقًا إِلَى اشْتِرَاط أَن لَا يضيق الْعَمَل على الْعَامِل فَلَا يَصح على شِرَاء بر يطحنه ويخبزه أَو غزل ينسجه ويبيعه لِأَن الطَّحْن وَمَا مَعَه أَعمال لَا تسمى تِجَارَة بل أَعمال مضبوطة يسْتَأْجر عَلَيْهَا وَلَا على شِرَاء مَتَاع معِين كَقَوْلِه وَلَا تشتر إِلَّا هَذِه السّلْعَة لِأَن الْمَقْصُود من العقد حُصُول الرِّبْح وَقد لَا يحصل فِيمَا يُعينهُ فيختل العقد (أَو) أَي لَا يضر فِي العقد إِذْنه (فِيمَا لَا يَنْقَطِع وجوده غَالِبا) كالبر ويضر فِيمَا ينْدر وجوده كالياقوت الْأَحْمَر وَالْخَيْل البلق لحُصُول الْمَقْصُود وَهُوَ الرِّبْح فِي الأول دون الثَّانِي وَلَا يَصح على مُعَاملَة شخص كَقَوْلِه وَلَا تبع إِلَّا لزيد أَو لَا تشتر إِلَّا مِنْهُ
(و) الشَّرْط الثَّالِث وَهُوَ الرُّكْن الْخَامِس (أَن يشْتَرط) الْمَالِك (لَهُ) أَي لِلْعَامِلِ فِي صلب العقد
(جُزْءا) وَلَو قَلِيلا (مَعْلُوما) لَهما (من الرِّبْح) بجزأيه كَنِصْف أَو ثلث فَلَا يَصح الْقَرَاض على أَن لأَحَدهمَا معينا أَو مُبْهما الرِّبْح أَو أَن لغَيْرِهِمَا مِنْهُ شَيْئا لعدم كَونه لَهما
والمشروط لمملوك أَحدهمَا كالمشروط لَهُ فَيصح فِي الثَّانِيَة دون الأولى أَو على أَن لأَحَدهمَا شركَة أَو نَصِيبا فِيهِ للْجَهْل بِحِصَّة الْعَامِل أَو على أَن لأَحَدهمَا عشرَة أَو ربح صنف لعدم الْعلم بالجزئية وَلِأَنَّهُ قد لَا يربح غير الْعشْرَة أَو غير ربح ذَلِك الصِّنْف فيفوز أَحدهمَا بِجَمِيعِ الرِّبْح أَو على أَن للْمَالِك النّصْف مثلا لِأَن الرِّبْح فَائِدَة رَأس المَال فَهُوَ للْمَالِك إِلَّا مَا ينْسب مِنْهُ لِلْعَامِلِ وَلم ينْسب لَهُ شَيْء مِنْهُ بِخِلَاف مَا لَو قَالَ على أَن لِلْعَامِلِ النّصْف مثلا فَيصح وَيكون الْبَاقِي للْمَالِك لِأَنَّهُ بَين مَا لِلْعَامِلِ وَالْبَاقِي للْمَالِك بِحكم الأَصْل
وَصَحَّ فِي قَوْله قارضتك وَالرِّبْح بَيْننَا وَكَانَ نِصْفَيْنِ كَمَا لَو قَالَ هَذِه الدَّار بَين زيد وَعَمْرو
وَشرط فِي الصِّيغَة وَهُوَ الرُّكْن السَّادِس مَا مر فِيهَا فِي البيع بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا عقد مُعَاوضَة كقارضتك أَو عاملتك فِي كَذَا على أَن الرِّبْح بَيْننَا فَقبل الْعَامِل لفظا
(و) الرَّابِع من الشُّرُوط (أَن لَا يقدر) أَحدهمَا الْعَمَل (بِمدَّة) كَسنة سَوَاء أسكت أم مَنعه التَّصَرُّف أم البيع بعْدهَا أم الشِّرَاء لاحْتِمَال عدم حُصُول الْمَقْصُود وَهُوَ الرِّبْح فِيهَا فَإِن مَنعه الشِّرَاء فَقَط بعد مُدَّة كَقَوْلِه وَلَا تشتر بعد سنة صَحَّ لحُصُول الاسترباح بِالْبيعِ الَّذِي لَهُ فعله بعْدهَا وَمحله كَمَا قَالَ الإِمَام أَن تكون الْمدَّة يَتَأَتَّى فِيهَا الشِّرَاء لغَرَض الرِّبْح بِخِلَاف نَحْو سَاعَة
تَنْبِيه قد علم من امْتنَاع التَّأْقِيت امْتنَاع التَّعْلِيق لِأَن التَّأْقِيت أسهل مِنْهُ بِدَلِيل احْتِمَاله فِي الْإِجَارَة وَالْمُسَاقَاة وَيمْتَنع أَيْضا تَعْلِيق التَّصَرُّف بِخِلَاف الْوكَالَة لمنافاته غَرَض الرِّبْح وَيجوز تعدد كل من الْمَالِك وَالْعَامِل فللمالك أَن يقارض اثْنَيْنِ مُتَفَاضلا(2/342)
ومتساويا فِي الْمَشْرُوط لَهما من الرِّبْح كَأَن يشرط لأَحَدهمَا ثلث الرِّبْح وَللْآخر الرّبع أَو يشرط لَهما النّصْف بِالسَّوِيَّةِ سَوَاء أشرط على كل مِنْهُمَا مُرَاجعَة الآخر أم لَا ولمالكين أَن يقارضا وَاحِدًا وَيكون الرِّبْح بعد نصيب الْعَامِل بَينهمَا بِحَسب المَال
فَإِذا شرطا لِلْعَامِلِ نصف الرِّبْح وَمَال أَحدهمَا مِائَتَان وَمَال الآخر مائَة قسم النّصْف الآخر أَثلَاثًا فَإِن شرطا غير مَا تَقْتَضِيه النِّسْبَة فسد العقد وَإِن فسد قِرَاض صَحَّ تصرف الْعَامِل للْإِذْن فِيهِ وَالرِّبْح كُله للْمَالِك لِأَنَّهُ نَمَاء ملكه وَعَلِيهِ لِلْعَامِلِ إِن لم يقل وَالرِّبْح لي أُجْرَة مثله لِأَنَّهُ لم يعْمل مجَّانا وَقد فَاتَهُ الْمُسَمّى ويتصرف الْعَامِل وَلَو بِعرْض بمصلحة لِأَن الْعَامِل فِي الْحَقِيقَة وَكيل لَا بِغَبن فَاحش وَلَا بنسيئة بِلَا إِذن
وَلكُل من الْمَالِك وَالْعَامِل رد بِعَيْب إِن فقدت مصلحَة الْإِبْقَاء فَإِن اخْتلفَا عمل بِالْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِك وَلَا يُعَامل الْعَامِل الْمَالِك كَأَن يَبِيعهُ شَيْئا من مَال الْقَرَاض لِأَن المَال لَهُ وَلَا يَشْتَرِي بِأَكْثَرَ من مَال الْقَرَاض رَأس مَال وربحا وَلَا يَشْتَرِي زوج الْمَالِك ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى وَلَا من يعْتق عَلَيْهِ لكَونه بعضه بِلَا إِذن مِنْهُ فَإِن فعل ذَلِك بِغَيْر إِذْنه لم يَصح الشِّرَاء فِي غير الأولى وَلَا فِي الزَّائِد فِيهَا لِأَنَّهُ لم يَأْذَن فِي الزَّائِد فِيهَا ولتضرره بانفساخ النِّكَاح وتفويت المَال فِي غَيرهَا إِلَّا إِن اشْترى فِي ذمَّته فَيَقَع لِلْعَامِلِ
وَلَا يُسَافر بِالْمَالِ بِلَا إِذن لما فِيهِ من الْخطر فَإِن أذن لَهُ جَازَ لَكِن لَا يجوز فِي الْبَحْر إِلَّا بِنَصّ عَلَيْهِ وَلَا يمون مِنْهُ نَفسه حضرا وَلَا سفرا وَعَلِيهِ فعل مَا يعْتَاد فعله كطي ثوب وَوزن خَفِيف كذهب
القَوْل فِي ضَمَان مَال الْقَرَاض (وَلَا ضَمَان على الْعَامِل) بِتَلف المَال أَو بعضه لِأَنَّهُ أَمِين فَلَا يضمن (إِلَّا بعدوان) مِنْهُ كتفريط أَو سفر فِي بر أَو بَحر بِغَيْر إِذن وَيقبل قَوْله فِي التّلف إِذا أطلق فَإِن أسْندهُ إِلَى سَبَب فعلى التَّفْصِيل الْآتِي فِي الْوَدِيعَة وَيملك الْعَامِل حِصَّته من الرِّبْح بقسمة لَا بِظُهُور لِأَنَّهُ لَو ملكهَا بالظهور لَكَانَ شَرِيكا فِي المَال فَيكون النَّقْص الْحَاصِل بعد ذَلِك محسوبا عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِك لكنه إِنَّمَا يسْتَقرّ ملكه بِالْقِسْمَةِ إِن نض رَأس المَال وَفسخ العقد حَتَّى لَو حصل بعد الْقِسْمَة فَقَط نقص جبر بِالرِّبْحِ الْمَقْسُوم ويستقر ملكه أَيْضا بنضوض المَال وَالْفَسْخ بِلَا قسْمَة وللمالك مَا حصل من مَال قِرَاض كثمر ونتاج وَكسب وَمهر وَغَيرهَا من سَائِر الزَّوَائِد العينية الْحَاصِلَة بِغَيْر تصرف الْعَامِل لِأَنَّهُ لَيْسَ من فَوَائِد التِّجَارَة
(وَإِذا حصل) فِيمَا بِيَدِهِ من المَال (ربح وخسران) بعده بِسَبَب رخص أَو عيب حَادث (جبر الخسران) الْحَاصِل برخص أَو عيب حَادث (بِالرِّبْحِ) لاقْتِضَاء الْعرف ذَلِك
وَكَذَا لَو تلف بعضه بِآفَة سَمَاوِيَّة بعد تصرف الْعَامِل بِبيع أَو شِرَاء قِيَاسا على مَا مر
وَلَو أَخذ الْمَالِك بعضه قبل ظُهُور ربح وخسر رَجَعَ رَأس المَال للْبَاقِي بعد الْمَأْخُوذ أَو أَخذ بعضه بعد ظُهُور ربح فَالْمَال الْمَأْخُوذ ربح(2/343)
وَرَأس مَال مِثَاله المَال مائَة وَالرِّبْح عشرُون وَأخذ عشْرين فسدسها وَهُوَ ثَلَاثَة وَثلث من الرِّبْح لِأَن الرِّبْح سدس المَال فيستقر لِلْعَامِلِ الْمَشْرُوط لَهُ مِنْهُ وَهُوَ وَاحِد وَثُلُثَانِ إِن شَرط لَهُ نصف الرِّبْح أَو أَخذ بعضه بعد ظُهُور خسر فالخسر موزع على الْمَأْخُوذ وبالباقي مِثَاله المَال مائَة والخسر عشرُون وَأخذ عشْرين فحصتها من الخسر ربع الخسر فَكَأَنَّهُ أَخذ خَمْسَة وَعشْرين فَيَعُود رَأس المَال إِلَى خَمْسَة وَسبعين وَيصدق الْعَامِل فِي عدم الرِّبْح وَفِي قدره لموافقته فِيمَا نَفَاهُ للْأَصْل وَفِي شِرَاء لَهُ أَو للقراض وَإِن كَانَ خاسرا وَلَو اخْتلفَا فِي الْقدر الْمَشْرُوط لَهُ تحَالفا كاختلاف الْمُتَبَايعين فِي قدر الثّمن وللعامل بعد الْفَسْخ أُجْرَة الْمثل وَيصدق فِي دَعْوَى رد المَال للْمَالِك لِأَنَّهُ ائتمنه كَالْمُودعِ بِخِلَاف نَظِيره فِي الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر
فَائِدَة كل أَمِين ادّعى الرَّد على من ائتمنه صدق بِيَمِينِهِ إِلَّا الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر
القَوْل فِي الْقَرَاض عقد جَائِز تَتِمَّة الْقَرَاض جَائِز من الطَّرفَيْنِ لكل من الْمَالِك وَالْعَامِل فَسخه مَتى شَاءَ وينفسخ بِمَا تَنْفَسِخ بِهِ الْوكَالَة كموت أَحدهمَا وجنونه لما مر أَنه تَوْكِيل وتوكل ثمَّ بعد الْفَسْخ أَو الِانْفِسَاخ يلْزم الْعَامِل اسْتِيفَاء الدّين لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قَبضته ورد قدر رَأس المَال لمثله بِأَن ينضضه وَإِن كَانَ قد بَاعه بِنَقْد على غير صفته أَو لم يكن ربح لِأَنَّهُ فِي عُهْدَة رد رَأس المَال كَمَا أَخذه هَذَا إِذا طلب الْمَالِك الِاسْتِيفَاء أَو التنضيض وَإِلَّا فَلَا يلْزمه ذَلِك إِلَّا أَن يكون لمحجور عَلَيْهِ وحظه فِيهِ
وَلَو تعاقدا على نقد وَتصرف فِيهِ الْعَامِل فَأبْطل السُّلْطَان ذَلِك النَّقْد ثمَّ فسخ العقد فَلَيْسَ للْمَالِك على الْعَامِل إِلَّا مثل النَّقْد الْمَعْقُود عَلَيْهِ على الصَّحِيح فِي الزَّوَائِد
فصل فِي الْمُسَاقَاة
وَهِي لُغَة مَأْخُوذَة من السَّقْي بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْقَاف الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِيهَا غَالِبا لَا سِيمَا فِي الْحجاز فَإِنَّهُم يسقون من الْآبَار لِأَنَّهُ أَنْفَع أَعمالهَا
وحقيقتها أَن يُعَامل غَيره على نخل أَو شجر عِنَب ليتعهده بالسقي والتربية على أَن الثَّمَرَة لَهما
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع خبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامل أهل خَيْبَر وَفِي رِوَايَة دفع إِلَى يهود خَيْبَر نخلها وأرضها بِشَطْر(2/344)
مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر أَو زرع وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَيْهَا لِأَن مَالك الْأَشْجَار قد لَا يحسن تعهدها أَو لَا يتفرغ لَهُ
وَمن يحسن ويتفرغ قد لَا يملك الْأَشْجَار فَيحْتَاج ذَلِك إِلَى الِاسْتِعْمَال وَهَذَا إِلَى الْعَمَل وَلَو اكترى الْمَالِك لَزِمته الْأُجْرَة فِي الْحَال وَقد لَا يحصل لَهُ شَيْء من الثِّمَار ويتهاون الْعَامِل فدعَتْ الْحَاجة إِلَى تجويزها
وأركانها سِتَّة عاقدان وَعمل وثمر وَصِيغَة ومورد الْعَمَل
وَالْمُصَنّف ذكر بَعْضهَا وَنَذْكُر الْبَاقِي فِي الشَّرْح (وَالْمُسَاقَاة جَائِزَة) للْحَاجة إِلَيْهَا كَمَا مر وَلَا يَصح عقدهَا إِلَّا (على) شجر (النّخل وَالْكَرم) هَذَا أحد الْأَركان وَهُوَ المورد أما النّخل فللخبر السَّابِق وَلَو ذُكُورا كَمَا اقْتَضَاهُ إِطْلَاق المُصَنّف وَصرح بِهِ الْخفاف وَيشْتَرط فِيهِ أَن يكون مغروسا معينا مرئيا بيد عَامل لم يبد صَلَاحه وَمثله الْعِنَب لِأَنَّهُ فِي معنى النّخل بِجَامِع وجوب الزَّكَاة وَتَأْتِي الْخرص وَتَسْمِيَة الْعِنَب بِالْكَرمِ ورد النَّهْي عَنْهَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تسموا الْعِنَب كرما إِنَّمَا الْكَرم الرجل الْمُسلم رَوَاهُ مُسلم
وَاخْتلفُوا أَيهمَا أفضل وَالرَّاجِح أَن النّخل أفضل لوُرُود أكْرمُوا عماتكم النّخل المطعمات فِي الْمحل وَأَنَّهَا خلقت من طِينَة آدم وَالنَّخْل مقدم على الْعِنَب فِي جَمِيع الْقُرْآن وَشبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّخْلَة بِالرجلِ الْمُؤمن فَإِنَّهَا تشرب برأسها وَإِذا قطعت مَاتَت وَينْتَفع بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَشبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عين الدَّجَّال بِحَبَّة الْعِنَب لِأَنَّهَا أصل الْخمر وَهِي أم الْخَبَائِث فَلَا تصح الْمُسَاقَاة على غير نخل وعنب اسْتِقْلَالا كتين وتفاح ومشمش وبطيخ لِأَنَّهُ يَنْمُو من غير تعهد بِخِلَاف النّخل وَالْعِنَب وَلَا على غير مرئي وَلَا على مُبْهَم كَأحد البستانين كَمَا فِي سَائِر عُقُود الْمُعَاوضَة وَلَا على كَونه بيد غير الْعَامِل كَأَن جعل بِيَدِهِ وبيد الْمَالِك كَمَا فِي الْقَرَاض وَلَا على ودي يغرسه ويتعهده وَالثَّمَرَة بَينهمَا كَمَا لَو سلمه بذرا ليزرعه وَلِأَن الْغَرْس لَيْسَ عمل الْمُسَاقَاة فضمه إِلَيْهِ يُفْسِدهَا وَلَا على مَا بدا صَلَاح ثمره لفَوَات مُعظم الْأَعْمَال وَشرط فِي الْعَاقِدين وهما الرُّكْن الثَّانِي وَالثَّالِث مَا مر فيهمَا فِي الْقَرَاض وَتقدم بَيَانه
وَشريك مَالك كأجنبي فَتَصِح مساقاته لَهُ إِن شَرط لَهُ زِيَادَة على حِصَّته وَشرط فِي الْعَمَل وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع أَن لَا يشْتَرط على الْعَاقِد مَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَو شَرط ذَلِك كَأَن شَرط على الْعَامِل أَن يَبْنِي جِدَار الحديقة أَو على الْمَالِك تنقية النَّهر لم يَصح العقد(2/345)
وَشرط فِي الثَّمر وَهُوَ الرُّكْن الْخَامِس شُرُوط ذكر المُصَنّف مِنْهَا شرطين بقوله (وَلها شَرْطَانِ أَحدهمَا أَن يقدرها) العاقدان (بِمدَّة مَعْلُومَة) يُثمر فِيهَا الشّجر غَالِبا كَسنة أَو أَكثر كَالْإِجَارَةِ فَلَا تصح مُؤَبّدَة وَلَا مُطلقَة وَلَا مُؤَقَّتَة بِإِدْرَاك الثَّمر للْجَهْل بوقته فَإِنَّهُ يتَقَدَّم تَارَة ويتأخر أُخْرَى وَلَا مُؤَقَّتَة بِزَمن لَا يُثمر فِيهِ الشّجر غَالِبا لخلو الْمُسَاقَاة عَن الْعِوَض وَلَا أُجْرَة لِلْعَامِلِ إِن علم أَو ظن أَنه لَا يُثمر فِي ذَلِك الزَّمن وَإِن اسْتَوَى الاحتمالان أَو جهل الْحَال فَلهُ أجرته لِأَنَّهُ عمل طامعا وَإِن كَانَت الْمُسَاقَاة بَاطِلَة (و) الشَّرْط (الثَّانِي أَن يعين) الْمَالِك (لِلْعَامِلِ جُزْءا) كثيرا كَانَ أَو قَلِيلا (مَعْلُوما) كالثلث (من الثَّمَرَة) الَّتِي أوقع عَلَيْهَا العقد
وَالشّرط الثَّالِث اختصاصهما بالثمرة فَلَا يجوز شَرط بَعْضهَا لغَيْرِهِمَا وَلَا كلهَا للْمَالِك
قَالَ فِي الرَّوْضَة
وَفِي اسْتِحْقَاق الْأُجْرَة عِنْد شَرط الْكل للْمَالِك وَجْهَان كالقراض أصَحهمَا الْمَنْع
وَشرط فِي الصِّيغَة وَهُوَ الرُّكْن السَّادِس مَا مر فِيهَا فِي البيع
غير عدم التَّأْقِيت بِقَرِينَة مَا مر آنِفا كساقيتك أَو عاملتك على هَذَا على أَن الثَّمَرَة بَيْننَا فَيقبل الْعَامِل لَا تَفْصِيل أَعمال بِنَاحِيَة بهَا عرف غَالب فِي الْعَمَل عرفه العاقدان فَلَا يشْتَرط فَإِن لم يكن فِيهَا عرف غَالب أَو كَانَ وَلم يعرفاه اشْترط
وَيحمل الْمُطلق على الْعرف الْغَالِب الَّذِي عرفاه فِي نَاحيَة (ثمَّ الْعَمَل فِيهَا على ضَرْبَيْنِ) هَذَا شُرُوع فِي بَيَان حكمهَا الأول (عمل يعود نَفعه على الثَّمَرَة) لزيادتها أَو صَلَاحهَا أَو يتَكَرَّر كل سنة كسقي وتنقية مجْرى المَاء من طين وَنَحْوه وَإِصْلَاح أجاجين يقف فِيهَا المَاء حول الشّجر ليشربه شبهت بأجاجين الغسيل جمع إجانة وتلقيح النّخل وتنحية حشيش وقضبان مضرَّة بِالشَّجَرِ وتعريش للعنب إِن جرت بِهِ عَادَة وَهُوَ أَن ينصب أَعْوَاد أَو يظللها وَيَرْفَعهُ عَلَيْهَا
ويحفظ الثَّمر على الشّجر
وَفِي البيدر عَن السّرقَة وَالشَّمْس وَالطير بِأَن يَجْعَل كل عنقود فِي وعَاء يهيئه الْمَالِك كقوصره وقطعه وتجفيفه (فَهُوَ) كُله (على الْعَامِل) دون الْمَالِك لاقْتِضَاء الْعرف ذَلِك فِي الْمُسَاقَاة
قَالَ فِي الرَّوْضَة وَإِنَّمَا اعْتبر التّكْرَار لِأَن مَا لَا يتَكَرَّر يبْقى أَثَره بعد فرَاغ الْمُسَاقَاة وتكليف الْعَامِل مثل هَذَا إجحاف بِهِ (و) الضَّرْب الثَّانِي (عمل يعود نَفعه إِلَى الأَرْض) من غير أَن يتَكَرَّر كل سنة وَلَكِن يقْصد بِهِ حفظ الْأُصُول كبناء حيطان الْبُسْتَان وحفر نهر وَإِصْلَاح مَا انهار من النَّهر وَنصب الْأَبْوَاب والدولاب وَنَحْو ذَلِك وآلات الْعَمَل كالفأس والمعول والمنجل والطلع الَّذِي يلقح بِهِ النّخل والبهيمة الَّتِي تدير(2/346)
الدولاب (فَهُوَ) كُله (على رب المَال) دون الْعَامِل لاقْتِضَاء الْعرف ذَلِك وَيملك الْعَامِل حِصَّته من الثَّمر بالظهور إِن عقد قبل ظُهُوره وَفَارق الْقَرَاض حَيْثُ لَا يملك فِيهِ الرِّبْح إِلَّا بِالْقِسْمَةِ كَمَا مر بِأَن الرِّبْح وقاية لرأس المَال وَالثَّمَر لَيْسَ وقاية للشجر أما إِذا عقد بعد ظُهُوره فيملكها بِالْعقدِ
وَخرج بالثمر الْجَدِيد والكرناف والليف فَلَا يكون مُشْتَركا بَينهمَا بل يخْتَص بِهِ الْمَالِك كَمَا جزم بِهِ فِي الْمطلب تبعا للماوردي وَغَيره
قَالَ وَلَو شَرط جعله بَينهمَا على حسب مَا شرطاه فِي الثَّمر فَوَجْهَانِ فِي الْحَاوِي اه
وَالظَّاهِر مِنْهُمَا الصِّحَّة كَمَا نَقله الزَّرْكَشِيّ وَغَيره عَن الصَّيْمَرِيّ وَلَو شَرطهَا لِلْعَامِلِ بَطل قطعا وعامل الْمُسَاقَاة أَمِين بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب وَلَا يَصح كَون الْعِوَض غير الثَّمر فَلَو ساقاه بِدَرَاهِم أَو غَيرهمَا لم تَنْعَقِد مُسَاقَاة وَلَا إِجَارَة إِلَّا إِن فصل الْأَعْمَال وَكَانَت مَعْلُومَة
وَلَو ساقاه على نوع بِالنِّصْفِ على أَن يساقيه على آخر بِالثُّلثِ فسد الأول للشّرط الْفَاسِد وَأما الثَّانِي فَإِن عقده جَاهِلا بِفساد الأول فَكَذَلِك وَإِلَّا فَيصح
تَتِمَّة الْمُسَاقَاة لَازِمَة كَالْإِجَارَةِ فَلَو هرب الْعَامِل أَو عجز بِمَرَض أَو نَحوه قبل الْفَرَاغ من الْعَمَل وتبرع غَيره بِالْعَمَلِ بِنَفسِهِ أَو بِمَالِه بَقِي حق الْعَامِل فَإِن لم يتَبَرَّع غَيره وَرفع الْأَمر إِلَى الْحَاكِم اكترى الْحَاكِم عَلَيْهِ من يعْمل بعد ثُبُوت الْمُسَاقَاة وهرب الْعَامِل مثلا وَتعذر إِحْضَاره من مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال وَإِلَّا اكترى بمؤجل إِن تَأتي
نعم إِن كَانَت الْمُسَاقَاة على الْعين فَالَّذِي جزم بِهِ صَاحب الْعين الْيُمْنَى والنشائي أَنه لَا يكترى عَلَيْهِ لتمكن الْمَالِك من الْفَسْخ ثمَّ إِن تعذر اكتراؤه اقْترض عَلَيْهِ من الْمَالِك أَو غَيره ويوفي نصِيبه من الثَّمر
ثمَّ إِن تعذر اقتراضه عمل الْمَالِك بِنَفسِهِ أَو أنْفق بإشهاد بذلك شَرط فِيهِ رُجُوعا بِأُجْرَة عمله أَو بِمَا أنفقهُ وَلَو مَاتَ المساقي فِي ذمَّته قبل تَمام الْعَمَل وَخلف تَرِكَة عمل وَارثه إِمَّا مِنْهَا بِأَن يكتري عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حق وَاجِب على مُوَرِثه أَو من مَاله أَو بِنَفسِهِ وَيسلم لَهُ الْمَشْرُوط فَلَا يجْبر على الْإِنْفَاق من التَّرِكَة وَلَا يلْزم الْمَالِك تَمْكِينه من الْعَمَل بِنَفسِهِ إِلَّا إِذا كَانَ أَمينا عَارِفًا بِالْأَعْمَالِ فَإِن لم تكن تَركه فللوارث الْعَمَل وَلَا يلْزمه وَلَو أعْطى شخص آخر دَابَّة ليعْمَل عَلَيْهَا أَو يتعهدها وفوائدها بَينهمَا لم يَصح العقد لِأَنَّهُ فِي الأولى يُمكنهُ إِيجَار الدَّابَّة فَلَا حَاجَة إِلَى إِيرَاد عقد عَلَيْهَا فِيهِ غرر وَفِي الثَّانِيَة الْفَوَائِد لَا تحصل بِعَمَلِهِ
فصل فِي الْإِجَارَة
وَهِي بِكَسْر الْهمزَة أشهر من ضمهَا وَفتحهَا لُغَة اسْم للأجرة وَشرعا تمْلِيك مَنْفَعَة بعوض بِشُرُوط تَأتي
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع آيَة {فَإِن أرضعن لكم} وَجه الدّلَالَة أَن الْإِرْضَاع بِلَا عقد تبرع لَا يُوجب أُجْرَة وَإِنَّمَا يُوجِبهَا(2/347)
ظَاهرا العقد فَتعين
وَخبر مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْمُزَارعَة وَأمر بالمؤاجرة وَالْمعْنَى فِيهَا أَن الْحَاجة دَاعِيَة إِلَيْهَا إِذْ لَيْسَ لكل أحد مركوب ومسكن وخادم فجوزت لذَلِك كَمَا جوز بيع الْأَعْيَان
وأركانها أَرْبَعَة صِيغَة وَأُجْرَة وَمَنْفَعَة وعاقدان مكر ومكتر
وَأَشَارَ المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى أحد الْأَركان وَهُوَ الْمَنْفَعَة بقوله (وكل مَا أمكن الِانْتِفَاع بِهِ) مَنْفَعَة مَقْصُودَة مَعْلُومَة قَابِلَة للبذل وَالْإِبَاحَة بعوض مَعْلُوم (مَعَ بَقَاء عينه) مُدَّة الْإِجَارَة (صحت إِجَارَته) بِصِيغَة وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي كآجرتك هَذَا الثَّوْب مثلا فَيَقُول الْمُسْتَأْجر قبلت أَو اسْتَأْجَرت
وتنعقد أَيْضا بقول الْمُؤَجّر لدار مثلا أجرتك مَنْفَعَتهَا سنة مثلا على الْأَصَح فَيقبل الْمُسْتَأْجر فَهُوَ كَمَا لَو قَالَ أجرتك وَيكون ذكر الْمَنْفَعَة تَأْكِيدًا كَقَوْل البَائِع بِعْتُك عين هَذِه الدَّار ورقبتها فَخرج بِمَنْفَعَة الْعين وبمقصوده التافهة كاستئجار بياع على كلمة لَا تتعب وبمعلومة الْقَرَاض والجعالة على عمل مَجْهُول ويقابلة لما ذكر مَنْفَعَة الْبضْع فَإِن العقد عَلَيْهَا لَا يُسمى إِجَارَة وبعوض هبة الْمَنَافِع وَالْوَصِيَّة بهَا وَالشَّرِكَة والإعارة وبمعلوم الْمُسَاقَاة والجعالة على عمل مَعْلُوم بعوض مَجْهُول كَالْحَجِّ بالرزق وَدلَالَة الْكَافِر لنا على قلعة بِجَارِيَة مِنْهَا بِبَقَاء عينه مَا تذْهب عينه فِي الِاسْتِعْمَال كالشمع للسراج فَلَا تصح الْإِجَارَة فِي هَذِه الصُّور وَذكرت لَهَا شُرُوطًا أخر أوضحتها فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
وَإِنَّمَا تصح إِجَارَة مَا أمكن الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ هَذِه الشُّرُوط (إِذا قدرت منفعَته) فِي العقد (بِأحد أَمريْن) الأول أَن يكون بِتَعْيِين (مُدَّة) فِي الْمَنْفَعَة المجهولة الْقدر كالسكنى وَالرّضَاع وَسقي الأَرْض وَنَحْو ذَلِك إِذْ السُّكْنَى وَمَا يشْبع الصَّبِي من اللَّبن وَمَا تروى بِهِ الأَرْض من السَّقْي يخْتَلف وَلَا يَنْضَبِط فاحتيج فِي منفعَته إِلَى تَقْدِيره بِمدَّة (أَو) أَي وَالْأَمر الثَّانِي بِتَعْيِين مَحل (عمل) فِي الْمَنْفَعَة الْمَعْلُومَة الْقدر فِي نَفسهَا كخياطة الثَّوْب وَالرُّكُوب إِلَى مَكَان فتعيين الْعَمَل فِيهَا طَرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا فَلَو قَالَ لتخيط لي ثوبا لم يَصح(2/348)
بل يشْتَرط أَن يبين مَا يُرِيد من الثَّوْب من قَمِيص أَو غَيره وَأَن يبين نوع الْخياطَة أَهِي رُومِية أَو فارسية إِلَّا أَن تطرد عَادَة بِنَوْع فَيحمل الْمُطلق عَلَيْهِ
تَنْبِيه بَقِي على المُصَنّف قسم ثَالِث وَهُوَ تقديرهما بهما مَعًا كَقَوْلِه فِي اسْتِئْجَار عين استأجرتك لتعمل لي كَذَا شهرا
أما لَو جمع بَين الزَّمن وَمحل الْعَمَل كاكتريتك لتخيط لي هَذَا الثَّوْب بَيَاض النَّهَار لم يَصح لِأَن الْعَمَل قد يتَقَدَّم وَقد يتَأَخَّر
كَمَا لَو أسلم فِي قفيز حِنْطَة بِشَرْط كَون وَزنه كَذَا لَا يَصح لاحْتِمَال أَن يزِيد أَو ينقص وَبِهَذَا انْدفع مَا قَالَه السُّبْكِيّ من أَنه لَو كَانَ الثَّوْب صَغِيرا يقطع بفراغه فِي الْيَوْم فَإِنَّهُ يَصح
وَشرط فِي الْعَاقِدين وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث مَا شَرط فِي الْمُتَبَايعين وَتقدم بَيَانه ثمَّ نعم إِسْلَام المُشْتَرِي شَرط فِيمَا إِذا كَانَ الْمَبِيع عبدا مُسلما وَهنا لَا يشْتَرط فَيصح من الْكَافِر اسْتِئْجَار الْمُسلم إِجَارَة ذمَّة وَكَذَا إِجَارَة عين على الْأَصَح مَعَ الْكَرَاهَة وَلَكِن يُؤمر بِإِزَالَة ملكه عَن الْمَنَافِع على الْأَصَح فِي الْمَجْمُوع بِأَن يؤجره لمُسلم
وَلَا تَنْعَقِد الْإِجَارَة بِلَفْظ البيع على الْأَصَح لِأَن لفظ البيع مَوْضُوع لملك الْأَعْيَان فَلَا يسْتَعْمل فِي الْمَنَافِع كَمَا لَا ينْعَقد البيع بِلَفْظ الْإِجَارَة وكلفظ البيع لفظ الشِّرَاء وَلَا يكون كِنَايَة فِيهَا أَيْضا لِأَن قَوْله بِعْتُك يُنَافِي قَوْله سنة مثلا فَلَا يكون صَرِيحًا وَلَا كِنَايَة خلافًا لما بَحثه بَعضهم من أَنه فِيهَا كِنَايَة وَترد الْإِجَارَة على عين كإجارة معِين من عقار ورقيق وَنَحْوهمَا كاكتريتك لكذا سنة وَإِجَارَة الْعقار لَا تكون إِلَّا على الْعين وعَلى ذمَّة كإجارة مَوْصُوف من دَابَّة وَنَحْوهَا لحمل مثلا وإلزام ذمَّته عملا كخياطة وَبِنَاء ومورد الْإِجَارَة الْمَنْفَعَة لَا الْعين على الْأَصَح سَوَاء أوردت على الْعين أم على الذِّمَّة
وَشرط فِي الْأُجْرَة وَهِي الرُّكْن الرَّابِع مَا مر فِي الثّمن فَيشْتَرط كَونهَا مَعْلُومَة جِنْسا وَقدرا وَصفَة إِلَّا أَن تكون مُعينَة فَيَكْفِي رؤيتها فَلَا تصح إِجَارَة دَار أَو دَابَّة بعمارة أَو علف للْجَهْل فِي ذَلِك فَإِن ذكر مَعْلُوما وَأذن لَهُ خَارج العقد فِي صرفه فِي الْعِمَارَة أَو الْعلف صحت وَلَا لسلخ الشَّاة بجلدها وَلَا لطحن الْبر مثلا بِبَعْض دقيقه كثلثه للْجَهْل بثخانة الْجلد وبقدر الدَّقِيق وَلعدم الْقُدْرَة على الْأُجْرَة حَالا
وَفِي معنى الدَّقِيق النخالة
وَتَصِح إِجَارَة امْرَأَة مثلا بِبَعْض رَقِيق حَالا لإرضاع بَاقِيه للْعلم بِالْأُجْرَةِ وَالْعَمَل الْمُكْتَرِي لَهُ إِنَّمَا وَقع فِي ملك غير الْمُكْتَرِي تبعا
وَيشْتَرط فِي صِحَة إِجَارَة الذِّمَّة تَسْلِيم الْأُجْرَة فِي الْمجْلس وَأَن تكون حَالَة كرأس مَال السّلم لِأَنَّهَا سلم فِي الْمَنَافِع فَلَا يجوز فِيهَا تَأْخِير الْأُجْرَة وَلَا تأجيلها وَلَا الِاسْتِبْدَال عَنْهَا وَلَا الْحِوَالَة بهَا وَلَا عَلَيْهَا وَلَا الْإِبْرَاء مِنْهَا
وَإِجَارَة الْعين لَا يشْتَرط فِي صِحَّتهَا تَسْلِيم الْأُجْرَة فِي الْمجْلس مُعينَة كَانَت الْأُجْرَة أَو فِي الذِّمَّة كَالثّمنِ فِي الْمَبِيع ثمَّ إِن عين لمَكَان التَّسْلِيم مَكَانا تعين وَإِلَّا فموضع العقد
وَيجوز فِي الْأُجْرَة فِي إِجَارَة الْعين تَعْجِيل الْأُجْرَة وتأجيلها إِن كَانَت الْأُجْرَة فِي الذِّمَّة كَالثّمنِ(2/349)
(وإطلاقها يَقْتَضِي تَعْجِيل الْأُجْرَة) فَتكون حَالَة كَالثّمنِ فِي البيع الْمُطلق (إِلَّا أَن يشْتَرط التَّأْجِيل) فِي صلب العقد فتتأجل كَالثّمنِ وَيجوز الِاسْتِبْدَال عَنْهَا وَالْحوالَة بهَا وَعَلَيْهَا وَالْإِبْرَاء مِنْهَا فَإِن كَانَت مُعينَة لم يجز التَّأْجِيل لِأَن الْأَعْيَان لَا تؤجل وتملك فِي الْحَال بِالْعقدِ سَوَاء كَانَت مُعينَة أَو مُطلقَة أم فِي الذِّمَّة ملكا مراعى بِمَعْنى أَنه كل مَا مضى زمن على السَّلامَة بَان أَن الْمُؤَجّر اسْتَقر ملكه من الْأُجْرَة على مَا يُقَابل ذَلِك إِن قبض الْمُكْتَرِي الْعين أَو عرضت عَلَيْهِ فَامْتنعَ فَلَا تَسْتَقِر كلهَا إِلَّا بِمُضِيِّ الْمدَّة سَوَاء انْتفع الْمُكْتَرِي أم لَا لتلف الْمَنْفَعَة تَحت يَده وتستقر فِي إِجَارَة فَاسِدَة أُجْرَة مثل بِمَا يسْتَقرّ بِهِ مُسَمّى فِي صَحِيحه سَوَاء أَكَانَت مثل الْمُسَمّى أم أقل أم أَكثر
وَهَذَا هُوَ الْغَالِب وَقد تخالفها فِي أَشْيَاء مِنْهَا التَّخْلِيَة فِي الْعقار وَمِنْهَا الْوَضع بَين يَدي الْمُكْتَرِي
وَمِنْهَا الْعرض عَلَيْهِ وامتناعه من الْقَبْض إِلَى انْقِضَاء الْمدَّة فَلَا تَسْتَقِر فِيهَا الْأُجْرَة فِي الْفَاسِدَة ويستقر بهَا الْمُسَمّى فِي الصَّحِيحَة
وَشرط فِي إِيجَار الدَّابَّة إِجَارَة عين لركوب أَو حمل رُؤْيَة الدَّابَّة كَمَا فِي البيع وَشرط فِي إِجَارَتهَا إِجَارَة ذمَّة لركوب ذكر جِنْسهَا كإبل أَو خيل ونوعها كبخاتي أَو عراب وذكورة أَو أنوثة وَصفَة سَيرهَا من كَونهَا مهملجة أَو بحرا أَو قطوفا لِأَن الْأَغْرَاض تخْتَلف بذلك
وَشرط فِي إِجَارَة الْعين والذمة للرُّكُوب ذكر قدر سري وَهُوَ السّير لَيْلًا أَو قدر تأويب وَهُوَ السّير نَهَارا حَيْثُ لم يطرد عرف فَإِن اطرد عرف حمل ذَلِك عَلَيْهِ
وَشرط فيهمَا لحمل رُؤْيَة مَحْمُول إِن حضر أَو امتحانه بيد أَو تَقْدِيره حضر أَو غَابَ وَذكر جنس مَكِيل وعَلى مكري دَابَّة لركوب إكاف وَهُوَ مَا تَحت البرذعة وبرذعة وحزام وثفر وبرة وَهِي الْحلقَة الَّتِي تجْعَل فِي أنف الْبَعِير وخطام وَهُوَ زِمَام يَجْعَل فِي الْحلقَة وَيتبع فِي نَحْو سرج وَحبر وكحل وخيط وصبغ وَنَحْو ذَلِك عرف مطرد بَين النَّاس فِي مَحل الْإِجَارَة لِأَنَّهُ لَا ضَابِط لَهُ فِي الشَّرْع وَلَا فِي اللُّغَة فَمن اطرد فِي حَقه من الْعَاقِدين شَيْء من ذَلِك فَهُوَ عَلَيْهِ فَإِن لم يكن عرف أَو اخْتلف الْعرف فِي مَحل الْإِجَارَة وَجب الْبَيَان وَتَصِح الْإِجَارَة مُدَّة تبقى فِيهَا الْعين الْمُؤجرَة غَالِبا فيؤجر الرَّقِيق وَالدَّار ثَلَاثِينَ سنة وَالدَّابَّة عشر سِنِين وَالثَّوْب سنة أَو سنتَيْن على مَا يَلِيق بِهِ وَالْأَرْض مائَة سنة أَو أَكثر
(وَلَا تبطل الْإِجَارَة) سَوَاء كَانَت وَارِدَة على الْعين أم على الذِّمَّة (بِمَوْت أحد الْمُتَعَاقدين) وَلَا بموتهما بل تبقى إِلَى انْقِضَاء الْمدَّة لِأَنَّهَا عقد لَازم فَلَا تَنْفَسِخ بِالْمَوْتِ كَالْبيع ويخلف الْمُسْتَأْجر وَارثه فِي اسْتِيفَاء الْمَنْفَعَة وتنفسخ بِمَوْت الْأَجِير الْمعِين لِأَنَّهُ مورد العقد لَا لِأَنَّهُ عَاقد فَلَا يسْتَثْنى ذَلِك من عدم الِانْفِسَاخ لَكِن اسْتثْنى مِنْهُ مسَائِل مِنْهَا مَا لَو آجر عَبده الْمُعَلق عتقه بِصفة فَوجدت مَعَ مَوته فَإِن الْإِجَارَة تَنْفَسِخ بِمَوْتِهِ على الْأَصَح
وَمِنْهَا مَا لَو أجر أم وَلَده وَمَات فِي الْمدَّة فَإِن الْإِجَارَة تَنْفَسِخ بِمَوْتِهِ
وَمِنْهَا(2/350)
الْمُدبر فَإِنَّهُ كالمعلق عتقه بِصفة
وَاسْتثنى غير ذَلِك مِمَّا ذكرته فِي شرح الْبَهْجَة وَغَيره وَلَا تَنْفَسِخ بِمَوْت نَاظر الْوَقْف من حَاكم أَو منصوبه أَو من شَرط لَهُ النّظر على جَمِيع الْبُطُون
وَيسْتَثْنى من ذَلِك مَا لَو كَانَ النَّاظر هُوَ الْمُسْتَحق للْوَقْف آجر بِدُونِ أُجْرَة الْمثل فَإِنَّهُ يجوز لَهُ ذَلِك فَإِذا مَاتَ فِي أثْنَاء الْمدَّة انْفَسَخت كَمَا قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلَو أجر الْبَطن الأول من الْمَوْقُوف عَلَيْهِم الْعين الْمَوْقُوفَة مُدَّة وَمَات الْبَطن الْمُؤَجّر قبل تَمامهَا وَشرط الْوَاقِف لكل بطن مِنْهُم النّظر فِي حِصَّته مُدَّة اسْتِحْقَاقه فَقَط أَو أجر الْوَلِيّ صَبيا أَو مَاله مُدَّة لَا يبلغ فِيهَا الصَّبِي بِالسِّنِّ فَبلغ فِيهَا بالاحتلام وَهُوَ رشيد انْفَسَخت فِي الْوَقْف لِأَن الْوَقْف انْتقل اسْتِحْقَاقه بِمَوْت الْمُؤَجّر لغيره وَلَا ولية عَلَيْهِ وَلَا نِيَابَة
وَلَا تَنْفَسِخ فِي الصَّبِي لِأَن الْوَلِيّ تصرف فِيهِ على الْمصلحَة
(وَتبطل) أَي وتنفسخ الْإِجَارَة فِي الْمُسْتَقْبل (بِتَلف) كل (الْعين الْمُسْتَأْجرَة) كانهدام كل الدَّار لزوَال الِاسْم وفوات الْمَنْفَعَة بِخِلَاف الْمَبِيع الْمَقْبُوض لَا يَنْفَسِخ البيع بتلفه فِي يَد المُشْتَرِي لِأَن الِاسْتِيلَاء فِي البيع حصل على جملَة الْمَبِيع والاستيلاء على الْمَنَافِع الْمَعْقُود عَلَيْهَا لَا يحصل إِلَّا شَيْئا فَشَيْئًا
وَلَا تَنْفَسِخ الْإِجَارَة بِسَبَب انْقِطَاع مَاء أَرض استؤجرت لزراعة لبَقَاء الِاسْم مَعَ إِمْكَان ريعها بِغَيْر الْمُنْقَطع بل يثبت الْخِيَار للعيب على التَّرَاخِي
وتنفسخ بِحَبْس غير مكتر للمعين مُدَّة حَبسه إِن قدر بِمدَّة سَوَاء أحبسه الْمكْرِي أم غَيره لفَوَات الْمَنْفَعَة قبل الْقَبْض وَلَا تَنْفَسِخ بِبيع الْعين الْمُؤجرَة للمكتري أَو لغيره وَلَو بِغَيْر إِذن الْمُكْتَرِي وَلَا بِزِيَادَة أُجْرَة وَلَا بِظُهُور طَالب بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا وَلَو كَانَت إِجَارَة وقف لجريانها بالغبطة فِي وَقتهَا كَمَا لَو بَاعَ مَال موليه ثمَّ زَادَت الْقيمَة أَو ظهر طَالب بِالزِّيَادَةِ وَلَا بِإِعْتَاق رَقِيق وَلَا يرجع على سَيّده بِأُجْرَة مَا بعد الْعتْق لِأَنَّهُ تصرف فِيهِ حَالَة ملكه فَأشبه مَا لَو زوج أمته وَاسْتقر مهرهَا بِالدُّخُولِ ثمَّ أعْتقهَا لَا ترجع عَلَيْهِ بِشَيْء
تَنْبِيه يجوز إِبْدَال مستوف ومستوفى بِهِ كمحمول من طَعَام وَغَيره ومستوفي فِيهِ كَأَن اكترى دَابَّة لركوب فِي طَرِيق إِلَى(2/351)
قَرْيَة بِمثل المستوفي والمستوفى بِهِ والمستوفى فِيهِ أَو بِدُونِ مثلهَا الْمَفْهُوم بِالْأولَى
أما الأول فَكَمَا لَو أكرى مَا اكتراه لغيره وَأما الثَّانِي وَالثَّالِث فلأنهما طَرِيقَانِ للاستيفاء كالراكب لَا مَعْقُود عَلَيْهِمَا
وَلَا يجوز إِبْدَال مُسْتَوفى مِنْهُ كدابة لِأَنَّهُ إِمَّا مَعْقُود عَلَيْهِ أَو مُتَعَيّن بِالْقَبْضِ إِلَّا فِي إِجَارَة ذمَّة فَيجب إِبْدَاله لتلف أَو تعييب
وَيجوز الْإِبْدَال مَعَ سَلامَة مِنْهُمَا بِرِضا مكتر لِأَن الْحق لَهُ
(وَلَا ضَمَان على الْأَجِير) فِي تلف مَا بِيَدِهِ لِأَنَّهُ أَمِين على الْعين المكتراة لِأَنَّهُ لَا يُمكن اسْتِيفَاء حَقه إِلَّا بِوَضْع الْيَد عَلَيْهَا وَلَو بعد مُدَّة الْإِجَارَة إِن قدرت بِزَمن أَو مُدَّة إِمْكَان الِاسْتِيفَاء إِن قدرت بِمحل عمل استصحابا لما كَانَ كالوديع فَلَو اكترى دَابَّة وَلم ينْتَفع بهَا فَتلفت أَو اكتراه لخياطة ثوب أَو صبغه فَتلف لم يضمن سَوَاء انْفَرد الْأَجِير بِالْيَدِ أم لَا كَأَن قعد الْمُكْتَرِي مِنْهُ حَتَّى يعْمل أَو أحضر منزله ليعْمَل كعامل الْقَرَاض (إِلَّا بعدوان) كَأَن ترك الِانْتِفَاع الدَّابَّة فَتلفت بِسَبَب كانهدام سقف إصطبلها عَلَيْهَا فِي وَقت لَو انْتفع بهَا فِيهِ عَادَة سلمت وَكَأن ضربهَا أَو نخعها باللجام فَوق عَادَة فيهمَا أَو أركبها أثقل مِنْهُ أَو أسكن مَا اكتراه حدادا أَو قصارا دق وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك أَو حمل الدَّابَّة مائَة رَطْل شعير بدل مائَة رَطْل بر أَو عَكسه أَو حملهَا عشرَة أَقْفِزَة بر بدل عشرَة أَقْفِزَة شعير فَيصير ضَامِنا لَهَا لتعديه بِخِلَاف مَا لَو حملهَا عشرَة أَقْفِزَة شعير بدل عشرَة أَقْفِزَة بر فَإِنَّهُ لَا يضمن لخفة الشّعير مَعَ استوائهما فِي الحجم
تَنْبِيه لَا أُجْرَة لعمل كحلق رَأس وخياطة ثوب بِلَا شَرط أُجْرَة وَإِن عرف ذَلِك الْعَمَل بهَا لعدم التزامها مَعَ صرف الْعَامِل منفعَته
هَذَا إِذا كَانَ حرا مُطلق التَّصَرُّف أما لَو كَانَ عبدا أَو مَحْجُورا عَلَيْهِ بِسَفَه أَو نَحوه فَلَا إِذْ لَيْسُوا من أهل التَّبَرُّع بمنافعهم وَهَذَا بِخِلَاف دَاخل الْحمام بِلَا إِذن لِأَنَّهُ استوفى مَنْفَعَة الْحمام بسكونه فِيهِ وَبِخِلَاف عَامل الْمُسَاقَاة إِذا عمل مَا لَيْسَ عَلَيْهِ بِإِذن فَإِنَّهُ يسْتَحق الْأُجْرَة للْإِذْن فِي أصل الْعَمَل الْمُقَابل بعوض
تَتِمَّة لَو قطع الْخياط ثوبا وخاطه قبَاء وَقَالَ لمَالِكه بذا أَمرتنِي
فَقَالَ الْمَالِك بل أَمرتك بِقطعِهِ قَمِيصًا صدق الْمَالِك بِيَمِينِهِ كَمَا لَو اخْتلفَا فِي أصل الْإِذْن فَيحلف أَنه مَا أذن لَهُ فِي قطعه قبَاء وَلَا أُجْرَة عَلَيْهِ إِذا حلف
وَله على الْخياط أرش نقص الثَّوْب لِأَن الْقطع بِلَا إِذن مُوجب للضَّمَان وَفِيه وَجْهَان فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا بِلَا تَرْجِيح أَحدهمَا أَنه يضمن مَا بَين قِيمَته صَحِيحا ومقطوعا وَصَححهُ ابْن أبي عصرون وَغَيره
لِأَنَّهُ أثبت بِيَمِينِهِ أَنه لم يَأْذَن فِي قطعه قبَاء
وَالثَّانِي مَا بَين قِيمَته مَقْطُوعًا قَمِيصًا ومقطوعا قبَاء وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيّ وَقَالَ لَا يتَّجه غَيره وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر لِأَن أصل الْقطع مَأْذُون فِيهِ وعَلى هَذَا لَو لم يكن بَينهمَا تفَاوت أَو كَانَ مَقْطُوعًا قبَاء أَكثر قيمَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَيجب على الْمكْرِي تَسْلِيم مِفْتَاح الدَّار إِلَى الْمُكْتَرِي إِذا سلمهَا إِلَيْهِ لتوقف الِانْتِفَاع عَلَيْهِ فَإِذا تسلمه الْمُكْتَرِي فَهُوَ فِي يَده أَمَانَة فَلَا يضمنهُ بِلَا تَفْرِيط وَهَذَا فِي مِفْتَاح غلق مُثبت
أما القفل الْمَنْقُول ومفتاحه فَلَا يسْتَحقّهُ(2/352)
الْمُكْتَرِي وَإِن اُعْتِيدَ وعمارتها على الْمُؤَجّر سَوَاء أقارن الْخلَل العقد كدار لَا بَاب لَهَا أم عرض لَهَا دواما فَإِن بَادر وَأَصْلَحهَا فَذَاك وَإِلَّا فللمكتري الْخِيَار وَرفع الثَّلج عَن السَّطْح فِي دوَام الْإِجَارَة على الْمُؤَجّر لِأَنَّهُ كعمارة الدَّار وتنظيف عَرصَة الدَّار من ثلج وكناسة على الْمُكْتَرِي إِن حصلا فِي دوَام الْمدَّة فَإِن انْقَضتْ الْمدَّة أجبر على نقل الكناسة دون الثَّلج
وَلَو كَانَ التُّرَاب أَو الرماد أَو الثَّلج مَوْجُودا عِنْد العقد كَانَت إِزَالَته على الْمُؤَجّر إِذْ بِهِ يحصل بِهِ التَّسْلِيم التَّام
فصل فِي الْجعَالَة
وجيمها مُثَلّثَة كَمَا قَالَه ابْن مَالك وَهِي لُغَة اسْم لما يَجْعَل للْإنْسَان على فعل شَيْء
وَشرعا
الْتِزَام عوض مَعْلُوم على عمل معِين مَعْلُوم أَو مَجْهُول عسر علمه
وَذكرهَا المُصَنّف كصاحب التَّنْبِيه وَالْغَزالِيّ وتبعهم فِي الرَّوْضَة عقب الْإِجَارَة لاشْتِرَاكهمَا فِي غَالب الْأَحْكَام إِذْ الْجعَالَة لَا تخَالف الْإِجَارَة إِلَّا فِي أَرْبَعَة أَحْكَام صِحَّتهَا على عمل مَجْهُول عسر علمه كرد الضال والآبق وصحتها مَعَ غير معِين وَكَونهَا جَائِزَة وَكَون الْعَامِل لَا يسْتَحق الْجعل إِلَّا بعد تَمام الْعَمَل
وَذكرهَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ تبعا لِلْجُمْهُورِ عقب بَاب اللَّقِيط لِأَنَّهَا طلب الْتِقَاط الضَّالة
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع وَإِلَّا خبر الَّذِي رقاه الصَّحَابِيّ بِالْفَاتِحَةِ على قطيع من الْغنم كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ الراقي كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم
والقطيع ثَلَاثُونَ رَأْسا من الْغنم
وَأَيْضًا الْحَاجة قد تَدْعُو إِلَيْهَا فجازت كَالْإِجَارَةِ ويستأنس لَهَا بقوله تَعَالَى {وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير} وَكَانَ مَعْلُوما عِنْدهم كالوسق وَلم أستدل بِالْآيَةِ لِأَن شرع من قبلنَا لَيْسَ شرعا لنا وَإِن ورد فِي شرعنا مَا يقرره
وأركانها أَرْبَعَة عمل وَجعل وَصِيغَة وعاقد
وَشرط فِي الْعَاقِد وَهُوَ الرُّكْن الأول اخْتِيَار وَإِطْلَاق تصرف مُلْتَزم وَلَو غير الْمَالِك فَلَا يَصح الْتِزَام مكره وَصبي وَمَجْنُون ومحجور سفه وَعلم عَامل وَلَو مُبْهما بالالتزام فَلَو قَالَ إِن رده زيد فَلهُ كَذَا
فَرده غير عَالم بذلك
أَو من رد آبقي فَلهُ كَذَا فَرده من لم يعلم ذَلِك لم يسْتَحق شَيْئا
وأهلية عمل معِين فَيصح مِمَّن هُوَ أهل لذَلِك وَلَو عبدا وصبيا ومجنونا ومحجور سفه وَلَو بِلَا إِذن بِخِلَاف صَغِير لَا يقدر على الْعَمَل(2/353)
لِأَن منفعَته مَعْدُومَة كاستئجار أعمى للْحِفْظ
(والجعالة جَائِزَة) من الْجَانِبَيْنِ فَلِكُل من الْمَالِك وَالْعَامِل الْفَسْخ قبل تَمام الْعَمَل وَإِنَّمَا يتَصَوَّر الْفَسْخ ابْتِدَاء من الْعَامِل الْمعِين وَأما غَيره فَلَا يتَصَوَّر الْفَسْخ مِنْهُ إِلَّا بعد الشُّرُوع فِي الْعَمَل فَإِن فسخ الْمَالِك أَو الْعَامِل الْمعِين قبل الشُّرُوع فِي الْعَمَل أَو فسخ الْعَامِل بعد الشُّرُوع فِيهِ فَلَا شَيْء لَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ
أما فِي الأولى فَلِأَنَّهُ لم يعْمل شَيْئا وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَنَّهُ لم يحصل غَرَض الْمَالِك
وَإِن فسخ الْمَالِك بعد الشُّرُوع فِي الْعَمَل فَعَلَيهِ أُجْرَة الْمثل لما عمله الْعَامِل لِأَن جَوَاز العقد يَقْتَضِي التسليط على رَفعه وَإِذا ارْتَفع لم يجب الْمُسَمّى كَسَائِر الفسوخ لَكِن عمل الْعَامِل وَقع مُحْتَرما فَلَا يفوت عَلَيْهِ فَرجع إِلَى بدله وَهُوَ أُجْرَة الْمثل
(وَهِي) أَي لفظ الْجعَالَة أَي الصِّيغَة فِيهَا وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي (أَن يشْتَرط) الْعَاقِد الْمُتَقَدّم ذكره (فِي رد ضالته) الَّتِي هِيَ اسْم لما ضَاعَ من الْحَيَوَان كَمَا قَالَه الْأَزْهَرِي وَغَيره أَو فِي رد مَا سواهَا أَيْضا من مَال أَو أَمْتعَة وَنَحْوهَا أَو فِي عمل كخياطة ثوب (عوضا) كثيرا كَانَ أَو قَلِيلا (مَعْلُوما) لِأَنَّهَا مُعَاوضَة فافتقرت إِلَى صِيغَة تدل على الْمَطْلُوب كَالْإِجَارَةِ بِخِلَاف طرف الْعَامِل لَا يشْتَرط لَهُ صِيغَة فَلَو عمل أحد بقول أَجْنَبِي كَأَن قَالَ زيد يَقُول من رد عَبدِي فَلهُ كَذَا وَكَانَ كَاذِبًا فَلَا شَيْء لَهُ لعدم الِالْتِزَام فَإِن كَانَ صَادِقا فَلهُ على زيد مَا الْتَزمهُ إِن كَانَ الْمخبر ثِقَة وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا لَو رد عبد زيد غير عَالم بِإِذْنِهِ والتزامه
وَلمن رده من أقرب من الْمَكَان الْمعِين قسطه من الْجعل فَإِن رده من أبعد مِنْهُ فَلَا زِيَادَة لَهُ لعدم التزامها أَو من مثله من جِهَة أُخْرَى فَلهُ كل الْجعل لحُصُول الْغَرَض
وَقَوله عوضا مَعْلُوما إِشَارَة إِلَى الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ الْجعل فَيشْتَرط فِيهِ مَا يشْتَرط فِي الثّمن فَمَا لَا يَصح ثمنا لجهل أَو نَجَاسَة أَو لغَيْرِهِمَا يفْسد العقد كَالْبيع وَلِأَنَّهُ مَعَ الْجَهْل لَا حَاجَة إِلَى احْتِمَاله هُنَا كَالْإِجَارَةِ بِخِلَافِهِ فِي الْعَمَل وَالْعَامِل وَلِأَنَّهُ لَا يكَاد أحد يرغب فِي الْعَمَل مَعَ جَهله بالجعل
فَلَا يحصل مَقْصُود العقد
وَيسْتَثْنى من ذَلِك مَسْأَلَة العلج إِذا جعل لَهُ الإِمَام إِن دلنا على قلعة جَارِيَة مِنْهَا وَمَا لَو وصف الْجعل بِمَا يُفِيد الْعلم وَإِن لم يَصح كَونه ثمنا لِأَن البيع لَازم فاحتيط لَهُ بِخِلَاف الْجعَالَة وَشرط فِي الْعَمَل وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع كلفة وَعدم تعينه فَلَا جعل فِيمَا لَا كلفة فِيهِ وَلَا فِيمَا تعين عَلَيْهِ كَأَن قَالَ من دلَّنِي على مَالِي فَلهُ كَذَا وَالْمَال بيد غَيره أَو تعين عَلَيْهِ الرَّد لنَحْو غصب وَإِن كَانَ فِيهِ كلفة لِأَن مَا لَا كلفة فِيهِ وَمَا تعين عَلَيْهِ شرعا لَا يقابلان بعوض وَمَا لَا يتَعَيَّن شَامِل للْوَاجِب على الْكِفَايَة كمن حبس ظلما فبذل مَالا لمن يتَكَلَّم فِي خلاصه بجاهه أَو غَيره فَإِنَّهُ جَائِز كَمَا نَقله النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَعدم تأقيته لِأَن تأقيته قد يفوت الْغَرَض فَيفْسد وَسَوَاء اكان الْعَمَل الَّذِي يَصح العقد عَلَيْهِ مَعْلُوما أَو مَجْهُولا عسر علمه للْحَاجة كَمَا فِي الْقَرَاض بل أولى فَإِن لم يعسر علمه اعْتبر ضَبطه إِذْ لَا حَاجَة إِلَى احْتِمَال الْجَهْل
فَفِي بِنَاء حَائِط يذكر مَوْضِعه وَطوله وَعرضه وارتفاعه وَمَا يبْنى بِهِ وَفِي الْخياطَة يعْتَبر وصفهَا وَوصف الثَّوْب
(فَإِذا ردهَا) أَي الضَّالة أَو رد غَيرهَا من المَال الْمَعْقُود عَلَيْهِ أَو فرغ من عمل الْخياطَة مثلا (اسْتحق) الْعَامِل حِينَئِذٍ على(2/354)
الْجَاعِل (ذَلِك الْعِوَض الْمَشْرُوط) لَهُ فِي مُقَابلَة عمله وللمالك أَن يتَصَرَّف فِي لجعل الَّذِي شَرطه لِلْعَامِلِ بِزِيَادَة أَو نقص أَو بتغيير جنسه قبل الْفَرَاغ من عمل الْعَامِل سَوَاء أَكَانَ قبل الشُّرُوع أم بعده كَمَا يجوز فِي البيع فِي زمن الْخِيَار بل أولى كَأَن يَقُول من رد عَبدِي فَلهُ عشرَة
ثمَّ يَقُول فَلهُ خَمْسَة أَو عَكسه أَو يَقُول من رده فَلهُ دِينَار ثمَّ يَقُول فَلهُ دِرْهَم فَإِن سمع الْعَامِل ذَلِك قبل الشُّرُوع فِي الْعَمَل اعْتبر النداء الْأَخير وللعامل مَا ذكر فِيهِ وَإِن لم يسمعهُ الْعَامِل أَو كَانَ بعد الشُّرُوع اسْتحق أُجْرَة الْمثل لِأَن النداء الْأَخير فسخ للْأولِ وَالْفَسْخ من الْمَالِك فِي أثْنَاء الْعَمَل يَقْتَضِي الرُّجُوع إِلَى أُجْرَة الْمثل فَلَو عمل من سمع النداء الأول خَاصَّة وَمن سمع النداء الثَّانِي اسْتحق الأول نصف أُجْرَة الْمثل وَالثَّانِي نصف الْمُسَمّى الثَّانِي
وَالْمرَاد بِالسَّمَاعِ الْعلم وَأُجْرَة الْمثل فِيمَا ذكر لجَمِيع الْعَمَل لَا للماضي خَاصَّة
تَتِمَّة لَو تلف الْمَرْدُود قبل وُصُوله كَأَن مَاتَ الْآبِق بِغَيْر قتل الْمَالِك لَهُ فِي بعض الطَّرِيق وَلَو بِقرب دَار سَيّده أَو غصب أَو تَركه الْعَامِل أَو هرب وَلَو فِي دَار الْمَالِك قبل تَسْلِيمه لَهُ فَلَا شَيْء لِلْعَامِلِ وَإِن حضر الْآبِق لِأَنَّهُ لم يردهُ بِخِلَاف مَا لَو اكترى من يحجّ عَنهُ فَأتى بِبَعْض الْأَعْمَال وَمَات حِينَئِذٍ يسْتَحق من الْأُجْرَة بِقدر مَا عمل
وَفرقُوا بَينهمَا بِأَن الْمَقْصُود من الْحَج الثَّوَاب وَقد حصل بِبَعْض الْعَمَل وَهنا لم يحصل شَيْء من الْمَقْصُود وَإِذا رد الْآبِق على سَيّده فَلَيْسَ لَهُ حَبسه لقبض الْجعل لِأَن الِاسْتِحْقَاق بِالتَّسْلِيمِ وَلَا حبس قبل الِاسْتِحْقَاق وَكَذَا لَا يحْبسهُ لِاسْتِيفَاء مَا أنفقهُ عَلَيْهِ بِإِذن الْمَالِك وَيصدق الْمَالِك بِيَمِينِهِ إِذا أنكر شَرط الْجعل لِلْعَامِلِ بِأَن اخْتلفَا فِيهِ فَقَالَ الْعَامِل شرطت لي جعلا وَأنكر الْمَالِك
أَو أنكر سعي الْعَامِل فِي رد الْآبِق بِأَن قَالَ لم ترده وَإِنَّمَا رَجَعَ بِنَفسِهِ لِأَن الأَصْل عدم الشَّرْط وَالرَّدّ فَإِن اخْتلف الْمُلْتَزم من مَالك أَو غَيره وَالْعَامِل فِي قدر الْجعل بعد فرَاغ الْعَمَل تحَالفا وَفسخ العقد وَوَجَب لِلْعَامِلِ أُجْرَة الْمثل كَمَا لَو اخْتلفَا فِي الْإِجَارَة
فصل فِي الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة وكراء الأَرْض
فالمزارعة تَسْلِيم الأَرْض لرجل ليزرعها بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا وَالْبذْر من الْمَالِك
وَالْمُخَابَرَة كالمزارعة لَكِن الْبذر من الْعَامِل
وكراء الأَرْض سَيَأْتِي
فَلَو كَانَ بَين الشّجر نخلا كَانَ أَو عنبا أَرض لَا زرع فِيهَا صحت الزِّرَاعَة عَلَيْهَا مَعَ الْمُسَاقَاة على الشّجر تبعا للْحَاجة إِلَى ذَلِك إِن اتَّحد عقد وعامل بِأَن يكون عَامل الْمُزَارعَة هُوَ عَامل الْمُسَاقَاة وعسر إِفْرَاد الشّجر بالسقي وقدمت الْمُسَاقَاة على الْمُزَارعَة لتَحْصِيل التّبعِيَّة وَأَن تفَاوت الجزءان المشروطان من الثَّمر وَالزَّرْع وَخرج بالمزارعة المخابرة فَلَا تصح تبعا للمساقاة لعدم وُرُودهَا كَذَلِك (وَإِذا) أفردت الْمُزَارعَة أَو المخابرة بِأَن (دفع) مُطلق التَّصَرُّف (إِلَى رجل أَرضًا) أَي مكنه مِنْهَا (ليزرعها) وَكَانَ الْبذر من الْمَالِك (وَشرط لَهُ) أَي لِلْعَامِلِ (جُزْءا) كثيرا كَانَ أَو قَلِيلا (مَعْلُوما) كالثلث (من زَرعهَا) وَهُوَ الْمُسَمّى بالمزارعة أَو كَانَ الْبذر من الْعَامِل وَشرط للْمَالِك مَا مر وَهُوَ الْمُسَمّى بالمخابرة (لم يجز) فِي الصُّورَتَيْنِ للنَّهْي عَن الأولى فِي مُسلم وَعَن الثَّانِيَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمعْنَى فِي الْمَنْع فيهمَا أَن تَحْصِيل مَنْفَعَة الأَرْض مُمكنَة بِالْإِجَارَة فَلم يجز الْعَمَل فِيهَا بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا كالمواشي(2/355)
بِخِلَاف الشّجر فَإِنَّهُ لَا يُمكن عقد الْإِجَارَة عَلَيْهِ فجوزت الْمُسَاقَاة للْحَاجة والمغل فِي المخابرة لِلْعَامِلِ لِأَن الزَّرْع يتبع الْبذر وَعَلِيهِ للْمَالِك أُجْرَة مثل الأَرْض وَفِي الْمُزَارعَة للْمَالِك لِأَنَّهُ نَمَاء ملكه وَعَلِيهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَة مثل عمله وَعمل دوابه وَعمل مَا يتَعَلَّق بِهِ من آلاته سَوَاء أحصل من الزَّرْع شَيْء أم لَا أخذا من نَظِيره فِي الْقَرَاض وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يرض بِبُطْلَان منفعَته إِلَّا ليحصل لَهُ بعد الزَّرْع فَإِذا لم يحصل لَهُ وَانْصَرف كل الْمَنْفَعَة للْمَالِك اسْتحق الْأُجْرَة
وَطَرِيق جعل الْغلَّة لَهما فِي صُورَة إِفْرَاد الأَرْض بالمزارعة أَن يسْتَأْجر الْمَالِك الْعَامِل بِنصْف الْبذر شَائِعا ليزرع لَهُ النّصْف الآخر فِي الأَرْض ويعيره نصف الأَرْض شَائِعا أَو يسْتَأْجر الْعَامِل بِنصْف الْبذر شَائِعا وَنصف مَنْفَعَة الأَرْض كَذَلِك ليزرع لَهُ النّصْف الآخر من الْبذر فِي النّصْف الآخر من الأَرْض فيكونان شَرِيكَيْنِ فِي الزَّرْع على المناصفة وَلَا أُجْرَة لأَحَدهمَا على الآخر لِأَن الْعَامِل يسْتَحق من مَنْفَعَة الأَرْض بِقدر نصِيبه من الزَّرْع وَالْمَالِك من منفعَته بِقدر نصِيبه من الزَّرْع وَطَرِيق جعل الْغلَّة لَهما فِي المخابرة وَلَا أُجْرَة أَن يسْتَأْجر الْعَامِل نصف الأَرْض بِنصْف الْبذر وَنصف عمله وَمَنَافع دوابه وآلاته أَو بِنصْف الْبذر ويتبرع بِالْعَمَلِ وَالْمَنَافِع
وَلَا بُد فِي هَذِه الْإِجَارَة من رِعَايَة الرُّؤْيَة وَتَقْدِير الْمدَّة وَغَيرهمَا من شُرُوط الْإِجَارَة
(وَإِن أكراه إِيَّاهَا) أَي الأَرْض للمزارعة (بِذَهَب أَو فضَّة) أَو لَهما مَعًا أَو بعروض كالفلوس وَالثيَاب (أَو شَرط لَهُ طَعَاما مَعْلُوما فِي ذمَّته) قدره وجنسه ونوعه وَصفته عِنْده وَعند الْمُكْتَرِي (جَازَ) ذَلِك على الْمَذْهَب الْمَنْصُوص بل نقل بَعضهم فِيهِ الْإِجْمَاع
تَتِمَّة لَو أعْطى شخص آخر دَابَّة ليعْمَل عَلَيْهَا أَو يتعهدها وفوائدها بَينهمَا لم يَصح العقد لِأَنَّهُ فِي الأولى يُمكنهُ إِيجَار الدَّابَّة فَلَا حَاجَة إِلَى إِيرَاد عقد عَلَيْهَا فِيهِ غرر وَفِي الثَّانِيَة الْفَوَائِد لَا تحصل بِعَمَلِهِ
وَلَو أَعْطَاهَا لَهُ ليعلفها من عِنْده بِنصْف درها فَفعل ضمن لَهُ الْمَالِك الْعلف وَضمن الآخر للْمَالِك نصف الدّرّ وَهُوَ الْقدر الْمَشْرُوط لَهُ لحصوله بِحكم بيع فَاسد وَلَا يضمن الدَّابَّة لِأَنَّهَا غير مُقَابلَة بعوض
وَإِن قَالَ لتعلفها بِنِصْفِهَا فَفعل فالنصف الْمَشْرُوط مَضْمُون على العالف لحصوله بِحكم الشِّرَاء الْفَاسِد دون النّصْف الآخر
فصل فِي إحْيَاء الْموَات
وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم وَالْوَاو الأَرْض الَّتِي لَا مَالك لَهَا
وَلَا ينْتَفع بهَا أحد قَالَه الرَّافِعِيّ
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ هُوَ الَّذِي لم يكن غامرا(2/356)
وَلَا حريما لعامر قرب من العامر أَو بعد
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع أَخْبَار كَخَبَر من عمر أَرضًا لَيست لأحد فَهُوَ أَحَق بهَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
(وإحياء الْموَات جَائِز) بل هُوَ مُسْتَحبّ كَمَا ذكره فِي الْمُهَذّب وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ النَّوَوِيّ وَلِحَدِيث من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَلهُ فِيهَا أجر وَمَا أكلت العوافي أَي طلاب الرزق مِنْهَا فَهُوَ صَدَقَة رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره وَقَالَ ابْن الرّفْعَة وَهُوَ قِسْمَانِ أُصَلِّي وَهُوَ مَا لم يعمر قطّ وطارىء وَهُوَ مَا خرب بعد عِمَارَته
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ بقاع الأَرْض إِمَّا مَمْلُوكَة أَو محبوسة على الْحُقُوق الْعَامَّة أَو الْخَاصَّة وَإِمَّا منفكة عَن الْحُقُوق الْعَامَّة أَو الْخَاصَّة وَهِي الْموَات
وَإِنَّمَا يملك المحيي مَا أَحْيَاهُ (بِشَرْطَيْنِ) الأول (أَن يكون المحيي مُسلما) وَلَو غير مُكَلّف إِذا كَانَت الأَرْض بِبِلَاد الْإِسْلَام وَلَو بحرم أذن فِيهِ الإِمَام أم لَا بِخِلَاف الْكَافِر وَإِن أذن فِيهِ الإِمَام لِأَنَّهُ كالاستعلاء وَهُوَ مُمْتَنع عَلَيْهِ بِدَارِنَا
وَقَالَ السُّبْكِيّ عَن الْجَوْزِيّ بِضَم الْجِيم من أَصْحَابنَا إِن موَات الأَرْض كَانَ ملكا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رده على أمته
وللذمي والمستأمن الاحتطاب والاحتشاش والاصطياد بِدَارِنَا وَلَا يجوز إحْيَاء فِي عَرَفَة وَلَا الْمزْدَلِفَة وَمنى لتَعلق حق الْوُقُوف بِالْأولِ وَالْمَبِيت بالآخرين
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَيَنْبَغِي إِلْحَاق المحصب بذلك لِأَنَّهُ يسن للحجيج الْمبيت بِهِ انْتهى
لَكِن قَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ لَيْسَ ذَلِك من مَنَاسِك الْحَج فَمن أَحْيَا شَيْئا مِنْهُ ملكه انْتهى
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
أما إِذا كَانَت الأَرْض ببلادهم فَلهم إحياؤها لِأَنَّهُ من حُقُوقهم وَلَا ضَرَر علينا فِيهِ وَكَذَا للْمُسلمِ إحياؤها إِن لم يذبونا عَنْهَا بِخِلَاف مَا يذبونا عَنْهَا أَي وَقد صولحوا على أَن الأَرْض لَهُم
(و) الشَّرْط الثَّانِي (أَن تكون الأَرْض) الَّتِي يُرَاد ملكهَا بِالْإِحْيَاءِ (حرَّة) وَهِي الَّتِي (لم يجر عَلَيْهَا ملك لمُسلم) وَلَا لغيره
فَإِن جرى عَلَيْهَا ملك وَإِن كَانَ للآن خرابا فَهُوَ لمَالِكه مُسلما كَانَ أَو كَافِرًا فَإِن جهل مَالِكه والعمارة إسلامية فَمَال ضائع الْأَمر فِيهِ إِلَى رَأْي الإِمَام فِي حفظه أَو بَيْعه
وَحفظ ثمنه أَو اقتراضه على بَيت المَال إِلَى ظُهُور مَالِكه أَو جَاهِلِيَّة فَيملك بِالْإِحْيَاءِ كالركاز نعم إِن كَانَ ببلادهم وذبونا عَنهُ وَقد صولحوا على أَن الأَرْض لَهُم فَظَاهر أَنا لَا نملكه بِالْإِحْيَاءِ وَلَا يملك بِالْإِحْيَاءِ حَرِيم عَامر لِأَنَّهُ مَمْلُوك لمَالِك العامر وحريم العامر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ لتَمام الِانْتِفَاع بالعامر فالحريم لقرية محياة نَاد وَهُوَ مُجْتَمع الْقَوْم(2/357)
للْحَدِيث ومرتكض الْخَيل وَنَحْوهَا ومناخ إبل وَهُوَ الْموضع الَّذِي تناخ فِيهِ ومطرح رماد وسرجين وَنَحْوهَا كمراح غنم وملعب صبيان
والحريم لبئر استقاء محياة مَوضِع نازح مِنْهَا وَمَوْضِع دولاب إِن كَانَ الاستقاء بِهِ وَهُوَ يُطلق على مَا يَسْتَقِي بِهِ النازح وَمَا يَسْتَقِي بِهِ بالدابة وَنَحْوهمَا كالموضع الَّذِي يصب فِيهِ النازح المَاء ومتردد الدَّابَّة إِن كَانَ الاستقاء بهَا والموضع الَّذِي يطْرَح فِيهِ مَا يخرج من مصب المَاء أَو نَحوه والحريم لبئر قناة مَا لَو حفر فِيهِ نقص مَاؤُهَا أَو خيف انهيارها
وَيخْتَلف ذَلِك بصلابة الأَرْض ورخاوتها وَلَا يحْتَاج إِلَى مَوضِع نازح وَلَا غَيره مِمَّا مر فِي بِئْر الاستقاء والحريم لدار ممر وفناء لجدرانها ومطرح نَحْو رماد ككناسة وثلج
وَلَا حَرِيم لدار محفوفة بدور بِأَن أَحييت كلهَا مَعًا لِأَن مَا يَجْعَل حريما لَهَا لَيْسَ بِأولى من جعله حريما لأخرى ويتصرف كل من الْملاك فِي ملكه عَادَة وَإِن أدّى إِلَى ضَرَر جَاره أَو إِتْلَاف مَاله كمن حفر بِئْر مَاء أَو حش فاختل بِهِ جِدَار جَاره أَو تغير بِمَا فِي الحش مَاء بئره فَإِن جَاوز الْعَادة فِيمَا ذكر ضمن بِمَا جَاوز فِيهِ كَأَن دق دقا عنيفا أزعج الْأَبْنِيَة أَو حبس المَاء فِي ملكه فانتشرت النداوة إِلَى جِدَار جَاره
وَله أَن يتَّخذ ملكه وَلَو بحوانيت بزازين حَماما وإصطبلا وطاحونة وحانوت حداد إِن أحكم جدرانه بِمَا يَلِيق بمقصوده لِأَن ذَلِك لَا يضر الْملك وَإِن ضرّ الْمَالِك بِنَحْوِ رَائِحَة كريهة
القَوْل فِي صفة الْإِحْيَاء الَّذِي يكون بِهِ الْملك (وَصفَة الْإِحْيَاء) الَّذِي يملك بِهِ الْموَات شرعا (مَا كَانَ فِي الْعَادة) الَّتِي هِيَ الْعرف الَّذِي يعد مثله (عمَارَة للمحيا) وَيخْتَلف ذَلِك بِحَسب الْغَرَض مِنْهُ
وضابطه أَن يهيىء الأَرْض لما يُريدهُ فَيعْتَبر فِي مسكن تحويط الْبقْعَة بِأَجْر أَو لبن أَو طين أَو أَلْوَاح خشب بِحَسب الْعَادة وَنصب بَاب وسقف بعض الْبقْعَة ليهيئها للسُّكْنَى
وَفِي زريبة للدواب أَو غَيرهَا كثمار وغلال التحويط وَنصب الْبَاب لَا السّقف عملا بِالْعَادَةِ وَلَا يَكْفِي التحويط بِنصب سعف أَو أَحْجَار من غير بِنَاء
وَفِي مزرعة جمع نَحْو تُرَاب كقصب وَشَوْك وحولها لينفصل الْمحيا عَن غَيره وتسويتها بطم منخفض وكسح مستعل وَيعْتَبر حرثها إِن لم تزرع إِلَّا بِهِ فَإِن لم يَتَيَسَّر
إِلَّا بِمَا يساق إِلَيْهَا فَلَا بُد مِنْهُ لتتهيأ للزِّرَاعَة وتهيئة مَاء لَهَا إِن لم يكفها مطر مُعْتَاد وَفِي بُسْتَان تحويط وَلَو بِجمع تُرَاب حول أرضه وتهيئة مَاء لَهُ بِحَسب الْعَادة وغرس ليَقَع على الأَرْض اسْم الْبُسْتَان
وَمن شرع فِي إحْيَاء مَا يقدر على إحيائه وَلم يزدْ على كِفَايَته أَو نصب عَلَيْهِ عَلامَة كنصب أَحْجَار أَو أقطعه لَهُ إِمَام فمتحجر لذَلِك الْقدر وَهُوَ مُسْتَحقّ لَهُ دون غَيره وَلَكِن لَو أَحْيَاهُ آخر ملكه وَلَو طَالَتْ عرفا مُدَّة تحجره بِلَا عذر وَلم يحيي قَالَ لَهُ الإِمَام أحيي أَو اترك فَإِن استمهل بِعُذْر أمْهل مُدَّة قريبَة
تَنْبِيه من أَحْيَا مواتا فَظهر فِيهِ مَعْدن ظَاهر وَهُوَ مَا يخرج بِلَا علاج كنفط وكبريت وقار وموميا أَو مَعْدن بَاطِن وَهُوَ مَا لَا يخرج إِلَّا بعلاج كذهب وَفِضة وحديد ملكه لِأَنَّهُ من أَجزَاء الأَرْض وَقد ملكهَا بِالْإِحْيَاءِ
وَخرج بظهوره مَا لَو علمه قبل الْإِحْيَاء فَإِنَّهُ إِنَّمَا يملك الْمَعْدن الْبَاطِن دون الظَّاهِر كَمَا رَجحه ابْن الرّفْعَة وَغَيره أوقر النَّوَوِيّ عَلَيْهِ صَاحب التَّنْبِيه
أما بقعتهما فَلَا يملكهَا بإحيائها مَعَ علمه بهما لفساد قَصده لِأَن الْمَعْدن لَا يتَّخذ دَارا وَلَا بستانا وَلَا مزرعة أَو نَحْوهَا والمياه الْمُبَاحَة من الأودية كالنيل والفرات والعيون فِي الْجبَال وَغَيرهَا وسيول الأمطار يَسْتَوِي النَّاس فِيهَا لخَبر النَّاس شُرَكَاء فِي ثَلَاثَة فِي المَاء والكلأ وَالنَّار فَلَا(2/358)
يجوز لأحد تحجرها وَلَا للْإِمَام إقطاعها بِالْإِجْمَاع فَإِن أَرَادَ قوم سقِِي أراضيهم من الْمِيَاه الْمُبَاحَة فَضَاقَ المَاء عَنْهُم سقى الْأَعْلَى فالأعلى وَحبس كل مِنْهُم المَاء حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بذلك فَإِن كَانَ فِي أَرض ارْتِفَاع وانخفاض أفرد كل طرف بسقي وَأما أَخذ من هَذَا المَاء الْمُبَاح فِي إِنَاء أَو بركَة أَو حُفْرَة أَو نَحْو ذَلِك ملك على الْأَصَح كالاحتطاب والاحتشاش
وَحكى ابْن الْمُنْذر فِيهِ الْإِجْمَاع وحافر بِئْر بموات لَا للتَّمْلِيك بل للارتفاق بهَا لنَفسِهِ مُدَّة إِقَامَته هُنَاكَ أولى بهَا من غَيره حَتَّى يرتحل لحَدِيث من سبق إِلَى مَا لم يسْبق إِلَيْهِ مُسلم فَهُوَ أَحَق بِهِ والبئر المحفورة فِي الْموَات للتَّمَلُّك أَو فِي ملكه يملك الْحَافِر ماءها لِأَنَّهَا نَمَاء ملكه كالثمرة وَاللَّبن
القَوْل فِي شُرُوط بذل المَاء (وَيجب) عَلَيْهِ (بذل المَاء بِثَلَاثَة شَرَائِط) بل بِسِتَّة كَمَا ستعرفه) الأول (أَن يفضل عَن حَاجته) لنَفسِهِ وماشيته وشجره وزرعه (و) الشَّرْط الثَّانِي (أَن يحْتَاج إِلَيْهِ غَيره لنَفسِهِ) فَيجب بذل الْفَاضِل مِنْهُ عَن شربه لشرب غَيره الْمُحْتَرَم من الْآدَمِيّين وَقَوله (أَو لبهيمته) أَي وَيجب بذل مَا فضل عَن مَاشِيَته وزرعه لبهيمة غَيره المحترمة لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ الْكلأ
تَنْبِيه أطلق المُصَنّف الْحَاجة وقيدها الْمَاوَرْدِيّ بالناجزة وَقَالَ فَلَو فضل عَنهُ الْآن وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَال وَجب بذله لِأَنَّهُ يسْتَخْلف وَخرج بِقَيْد الْمُحْتَرَم غير كالزاني الْمُحصن وتارك الصَّلَاة وَكَذَا تَارِك الْوضُوء فِي الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَالْمُرْتَدّ وَالْحَرْبِيّ لِأَنَّهُ يسْتَخْلف وَخرج بِقَيْد الْمُحْتَرَم غَيره كالزاني الْمُحصن وتارك الصَّلَاة وَكَذَا تَارِك الْوضُوء فِي الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَالْمُرْتَدّ وَالْحَرْبِيّ وَالْكَلب الْعَقُور والبهيمة المأكولة إِذا وطِئت مُحْتَرمَة فَإِن الْأَصَح أَنَّهَا لَا تذبح فَيجب الْبَذْل لَهَا
(و) الشَّرْط الثَّالِث (أَن يكون) المَاء الْفَاضِل عَمَّا تقدم (مِمَّا يسْتَخْلف) بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي يخلفه مَاء غَيره (فِي بِئْر أَو عين) فِي جبل أَو غَيره وَأما الَّذِي لَا يخلف كالقار فِي إِنَاء أَو حَوْض مسدود فَلَا يجب بذل فَضله على الصَّحِيح وَالْفرق أَنه فِي صُورَة الِاسْتِخْلَاف لَا يلْحقهُ ضَرَر بالاحتياج إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل بِخِلَافِهِ فِي غَيره
وَالشّرط الرَّابِع أَن يكون بِقرب المَاء كلأ مُبَاح ترعاه الْمَوَاشِي وَإِلَّا فَلَا يجب على الْمَذْهَب لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ الْكلأ أَي من حَيْثُ إِن الْمَاشِيَة إِنَّمَا ترعى بِقرب المَاء فَإِذا منع من المَاء فقد منع من الْكلأ
وَالشّرط الْخَامِس أَن لَا يجد مَالك الْمَاشِيَة عِنْد الْكلأ مَاء مُبَاحا وَإِلَّا فَلَا يجب بذله
وَالشّرط السَّادِس أَن لَا يكون على صَاحب الْبِئْر فِي وُرُود الْمَاشِيَة إِلَى مَائه ضَرَر فِي زرع وَلَا مَاشِيَة فَإِن لحقه فِي وُرُودهَا ضَرَر منعت لَكِن يجوز للرعاة استقاء فضل المَاء لَهَا وَلَا يجب بذله لزرع الْغَيْر كَسَائِر المملوكات وَإِنَّمَا وَجب بذله للماشية لحُرْمَة الرّوح وَلَا يجب بذل فضل الْكلأ لِأَنَّهُ لَا يسْتَخْلف فِي الْحَال ويتمول فِي الْعَادة وزمن رعيه يطول بِخِلَاف المَاء وَحَيْثُ لزمَه بذل المَاء للماشية لزمَه أَن يُمكنهَا من وُرُود الْبِئْر إِن لم يضر بِهِ وَإِلَّا فَلَا كَمَا مر وَحَيْثُ وَجب الْبَذْل لم يجز أَخذ عوض عَلَيْهِ وَإِن صَحَّ بيع الطَّعَام للْمُضْطَر لصِحَّة النَّهْي عَن بيع فضل المَاء رَوَاهُ مُسلم
وَلَا يجب على من وَجب عَلَيْهِ الْبَذْل إِعَارَة آلَة الاستقاء
تَتِمَّة يشْتَرط فِي بيع المَاء التَّقْدِير بكيل أَو وزن لَا بري الْمَاشِيَة وَالزَّرْع وَالْفرق بَينه وَبَين جَوَاز الشّرْب من مَاء السقاء بعوض أَن الِاخْتِلَاف فِي شرب الْآدَمِيّ أَهْون مِنْهُ فِي شرب الْمَاشِيَة وَالزَّرْع وَيجوز الشّرْب وَسقي الدَّوَابّ من الجداول والأنهار الْمَمْلُوكَة إِن كَانَ السَّقْي لَا يضر بمالكها إِقَامَة للْإِذْن الْعرفِيّ مقَام اللَّفْظِيّ قَالَه ابْن عبد السَّلَام
ثمَّ قَالَ نعم لَو كَانَ النَّهر لمن لَا يعْتَبر إِذْنه(2/359)
كاليتيم والأوقاف الْعَامَّة فعندي فِيهِ وَقْفَة انْتهى
وَالظَّاهِر الْجَوَاز
والقناة أَو الْعين الْمُشْتَركَة يقسم مَاؤُهَا عِنْد ضيقه عَنْهُم بِنصب خَشَبَة فِي عرض النَّهر فِيهَا ثقب مُتَسَاوِيَة أَو مُتَفَاوِتَة على قدر الحصص من الْقَنَاة أَو الْعين وللشركاء الْقِسْمَة مُهَايَأَة وَهِي أَمر يتراضون عَلَيْهِ كَأَن يسْقِي كل مِنْهُم يَوْمًا أَو بَعضهم يَوْمًا وَبَعْضهمْ أَكثر بِحَسب حِصَّته
وَإِن سقى زرعه بِمَاء مَغْصُوب ضمن المَاء بِبَدَلِهِ وَالْغلَّة لَهُ لِأَنَّهُ الْمَالِك للبذر فَإِن غرم الْبَدَل وتحلل من صَاحب المَاء كَانَت الْغلَّة أطيب لَهُ مِمَّا لَو غرم الْبَدَل فَقَط وَلَو أشعل نَارا فِي حطب مُبَاح لم يمْنَع أحدا الِانْتِفَاع بهَا وَلَا الاستصباح مِنْهَا فَإِن كَانَ الْحَطب لَهُ فَلهُ الْمَنْع من الْأَخْذ مِنْهَا كَالْمَاءِ لَا الاصطلاء بهَا وَلَا الاستصباح مِنْهَا
فصل فِي الْوَقْف
هُوَ والتحبيس والتسبيل بِمَعْنى وَهُوَ لُغَة الْحَبْس
يُقَال وقفت كَذَا أَي حَبسته
وَلَا يُقَال أوقفته إِلَّا فِي لُغَة تميمية وَهِي رَدِيئَة وَعَلَيْهَا الْعَامَّة وَهُوَ عكس حبس فَإِن الفصيح أحبس وَأما حبس فلغة رَدِيئَة
وَشرعا حبس مَال يُمكن الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه بِقطع التَّصَرُّف فِي رقبته على مصرف مُبَاح مَوْجُود وَيجمع على وقُوف وأوقاف
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} فَإِن أَبَا طَلْحَة لما سَمعهَا رغب فِي وقف بيرحاء وَهِي أحب أَمْوَاله إِلَيْهِ
وَخبر مُسلم إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَالصَّدَََقَة الْجَارِيَة مَحْمُولَة عِنْد الْعلمَاء على الْوَقْف كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ
القَوْل فِي أَرْكَان الْوَقْف وأركانه أَرْبَعَة وَاقِف وَمَوْقُوف وَمَوْقُوف عَلَيْهِ وَصِيغَة
وَالْمُصَنّف ذكر بَعْضهَا معبرا عَنهُ بِالشُّرُوطِ فَقَالَ (وَالْوَقْف) أَي من مُخْتَار أهل تبرع (جَائِز) أَي صَحِيح وَهَذَا هُوَ الرُّكْن الأول وَهُوَ الْوَاقِف فَيصح من كَافِر وَلَو لمَسْجِد وَمن مبعض لَا من مكره ومكاتب
ومحجور عَلَيْهِ بفلس أَو غَيره
وَلَو بِمُبَاشَرَة وليه
القَوْل فِي شُرُوط صِحَة الْوَقْف وَقَوله (بِثَلَاثَة شَرَائِط) ذكر أَرْبَعَة وَأسْقط خَامِسًا وسادسا وسابعا وثامنا كَمَا ستعرفه الشَّرْط الأول وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الْمَوْقُوف (أَن يكون مِمَّا ينْتَفع بِهِ) عينا معينا (مَعَ بَقَاء عينه) مَمْلُوكا للْوَاقِف
نعم يَصح وقف الإِمَام من بَيت المَال وَلَا بُد أَن يقبل النَّقْل من ملك شخص إِلَى ملك آخر ويفيد لَا بفواته نفعا مُبَاحا مَقْصُودا وَسَوَاء كَانَ النَّفْع فِي الْحَال أم لَا كوقف عبد وجحش صغيرين وَسَوَاء كَانَ عقارا أم مَنْقُولًا كمشاع وَلَو مَسْجِدا كمدبر ومعلق عتقه بِصفة
قَالَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا ويعتقان بِوُجُود الصّفة وَيبْطل الْوَقْف بعتقهما
وَبِنَاء وغراس وضعا بِأَرْض بِحَق فَلَا يَصح وقف مَنْفَعَة لِأَنَّهَا لَيست بِعَين وَلَا مَا فِي الذِّمَّة وَلَا أحد عبديه لعدم تعيينهما وَلَا مَا لَا يملك للْوَاقِف كمكتري وموصي بمنفعته لَهُ وحر(2/360)
وكلب وَلَو معلما وَلَا مُسْتَوْلدَة ومكاتب لِأَنَّهُمَا لَا يقبلان النَّقْل وَلَا آلَة لَهو وَلَا دَرَاهِم لزينة لِأَن آلَة اللَّهْو مُحرمَة والزينة مَقْصُودَة وَلَا مَا لَا يُفِيد نفعا كزمن لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَلَا مَا لَا يُفِيد إِلَّا بفواته كطعام وَرَيْحَان غير مزروع لِأَن نَفعه فِي فَوته ومقصود الْوَقْف الدَّوَام بِخِلَاف مَا يَدُوم كمسك وَعَنْبَر وَرَيْحَان مزروع
(و) الشَّرْط الثَّانِي وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ (أَن يكون) الْوَقْف (على أصل مَوْجُود) فِي الْحَال وَهُوَ على قسمَيْنِ معِين وَغير معِين فَإِن وقف على معِين اشْترط إِمْكَان تَمْلِيكه فِي حَال الْوَقْف عَلَيْهِ بِوُجُودِهِ فِي الْخَارِج فَلَا يَصح الْوَقْف على وَلَده وَهُوَ لَا ولد لَهُ وَلَا على فُقَرَاء أَوْلَاده وَلَا فَقير فيهم فَإِن كَانَ فيهم فَقير وغني صَحَّ وَيُعْطِي مِنْهُ أَيْضا من افْتقر بعد كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ
وَلَا على جَنِين لعدم صِحَة تملكه وَسَوَاء أَكَانَ مَقْصُودا أم تَابعا حَتَّى لَو كَانَ لَهُ أَوْلَاد وَله جَنِين عِنْد الْوَقْف لم يدْخل
نعم إِن انْفَصل دخل مَعَهم إِلَّا أَن يكون الْوَاقِف قد سمى الموجدين أَو ذكر عَددهمْ فَلَا يدْخل كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ
تَنْبِيه قد علم مِمَّا ذكر أَن الْوَقْف على الْمَيِّت لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا يملك وَبِه صرح الْجِرْجَانِيّ وَلَا على أحد هذَيْن الشخصين لعدم تعْيين الْمَوْقُوف عَلَيْهِ وَلَا على نفس العَبْد لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا للْملك
فَإِن أطلق الْوَقْف عَلَيْهِ فَإِن كَانَ لَهُ لم يَصح لِأَنَّهُ يَقع للْوَاقِف وَإِن كَانَ لغيره فَهُوَ وقف على سَيّده وَأما الْوَقْف على الْمبعض فَالظَّاهِر أَنه إِن كَانَ مُهَايَأَة وَصدر الْوَقْف عَلَيْهِ يَوْم نوبَته فكالحر أَو يَوْم نوبَة سَيّده فكالعبد وَإِن لم تكن مُهَايَأَة وزع على الرّقّ وَالْحريَّة
وَلَو وقف على بَهِيمَة مَمْلُوكَة لم يَصح الْوَقْف لِأَنَّهَا لَيست أَهلا للْملك بِحَال فَإِن قصد بِهِ مَالِكهَا فَهُوَ وقف عَلَيْهِ وَخرج بالمملوكة الْمَوْقُوفَة كالخيل الْمَوْقُوفَة فِي الثغور وَنَحْوهَا فَيصح الْوَقْف على عَلفهَا وَيصِح على ذمِّي معِين مِمَّا يُمكن تَمْلِيكه لَهُ فَيمْتَنع وقف الْمُصحف وَكتب علم وَالْعَبْد الْمُسلم عَلَيْهِ وَلَا يَصح الْوَقْف على مُرْتَد وحربي
وَلَا وقف الشَّخْص على نَفسه لِأَن الْأَوَّلين لَا دوَام لَهما مَعَ كفرهما وَالثَّالِث لتعذر تمْلِيك الْإِنْسَان ملكه لنَفسِهِ لِأَنَّهُ حَاصِل وَتَحْصِيل الْحَاصِل محَال
(و) الشَّرْط الثَّالِث أَن يكون الْوَقْف مُؤَبَّدًا على (فرع لَا يَنْقَطِع) سَوَاء أظهر فِيهِ جِهَة قربَة كالوقف على الْفُقَرَاء وَالْعُلَمَاء(2/361)
والمجاهدين والمساجد والربط أم لم تظهر كالأغنياء وَأهل الذِّمَّة والفسقة لِأَن الصَّدَقَة عَلَيْهِم جَائِزَة وَلَو وقف شخص على الْأَغْنِيَاء وَادّعى شخص أَنه غَنِي لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة بِخِلَاف مَا لَو وقف على الْفُقَرَاء وَادّعى شخص أَنه فَقير وَلم يعرف لَهُ مَال فَيقبل بِلَا بَيِّنَة نظرا للْأَصْل فيهمَا
تَنْبِيه قَضِيَّة عطف المُصَنّف قَوْله وَفرع لَا يَنْقَطِع على مَا قبله أَنَّهُمَا شَرط وَاحِد وَلِهَذَا عد الشُّرُوط ثَلَاثَة وَالَّذِي فِي الرَّوْضَة أَنهم شَرْطَانِ كَمَا قررت بِهِ كَلَامه
(و) الشَّرْط الرَّابِع (أَن لَا يكون فِي مَحْظُور) بِالْحَاء الْمُهْملَة والظاء المشالة أَي محرم كعمارة الْكَنَائِس وَنَحْوهَا من متعبدات الْكفَّار للتعبد فِيهَا أَو حصرها أَو قناديلها أَو خدامها أَو كتب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل أَو السِّلَاح لقطاع الطَّرِيق لِأَنَّهُ إِعَانَة على مَعْصِيّة وَالْوَقْف شرع للتقرب فهما متضادان
وَشرط فِي الصِّيغَة وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع لفظ يشْعر بالمراد كَالْعِتْقِ بل أولى وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان وصريحة كوقفت وسلبت وحبست كَذَا على كَذَا أَو تَصَدَّقت بِكَذَا على كَذَا صَدَقَة مُحرمَة أَو مُؤَبّدَة أَو مَوْقُوفَة أَو لَا تبَاع أَو لَا توهب أَو جعلت هَذَا الْمَكَان مَسْجِدا وكنايته كحرمت وأبدت هَذَا للْفُقَرَاء لِأَن كلا مِنْهُمَا لَا يسْتَعْمل مُسْتقِلّا وَإِنَّمَا يُؤَكد بِهِ فَلَا يكون صَرِيحًا وكتصدقت بِهِ مَعَ إِضَافَته لجِهَة عَامَّة كالفقراء
وَألْحق الْمَاوَرْدِيّ بِاللَّفْظِ أَيْضا مَا لَو بنى مَسْجِدا بنيته بموات
وَالشّرط الْخَامِس التَّأْبِيد كالوقف على من لم ينقرض قبل قيام السَّاعَة كالفقراء أَو على من ينقرض ثمَّ على من لَا ينقرض كزيد ثمَّ الْفُقَرَاء فَلَا يَصح تأقيت الْوَقْف
فَلَو قَالَ وقفت هَذَا على كَذَا سنة لم يَصح لفساد الصِّيغَة فَإِن أعقبه بمصرف كوقفته على زيد سنة ثمَّ على الْفُقَرَاء صَحَّ وَرُوِيَ فِيهِ شَرط الْوَاقِف وَهَذَا فِيمَا لَا يضاهي التَّحْرِير أما مَا يضاهيه كالمسجد والمقبرة والرباط كَقَوْلِه جعلته مَسْجِدا سنة فَإِنَّهُ يَصح مُؤَبَّدًا كَمَا لَو ذكر فِيهِ شرطا فَاسِدا وَهُوَ لَا يفْسد بِالشّرطِ الْفَاسِد وَلَو قَالَ وقفت على أَوْلَادِي أَو على زيد ثمَّ نَسْله وَنَحْوه مِمَّا لَا يَدُوم وَلم يزدْ على ذَلِك من يصرف إِلَيْهِ بعدهمْ صَحَّ لِأَن الْمَقْصُود بِالْوَقْفِ الْقرْبَة والدوام فَإِذا تبين مصرفه ابْتِدَاء سهل إدامته على سَبِيل الْخَيْر وَيُسمى مُنْقَطع الآخر فَإِذا انقرض الْمَذْكُور صرف إِلَى أقرب النَّاس إِلَى الْوَاقِف يَوْم انْقِرَاض الْمَذْكُور وَيخْتَص الْمصرف وجوبا بفقراء قرَابَة الرَّحِم لَا الْإِرْث فِي الْأَصَح فَيقدم ابْن بنت على ابْن عَم وَلَو كَانَ الْوَقْف مُنْقَطع الأول كوقفته على من سيولد لي ثمَّ على الْفُقَرَاء لم يَصح لِأَن الأول بَاطِل لعدم إِمْكَان الصّرْف إِلَيْهِ فِي الْحَال فَكَذَا مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَو كَانَ الْوَقْف مُنْقَطع الْوسط كوقفت على أَوْلَادِي ثمَّ على رجل مُبْهَم ثمَّ على الْفُقَرَاء صَحَّ لوُجُود الْمصرف فِي الْحَال والمآل ثمَّ بعد أَوْلَاده يصرف للْفُقَرَاء
وَالشّرط السَّادِس بَيَان الْمصرف فَلَو اقْتصر على قَوْله وقفت كَذَا وَلم يذكر مصرفه لم يَصح لعدم ذكر مصرفه وَلَو ذكر الْمصرف إِجْمَالا كَقَوْلِه وقفت هَذَا على مَسْجِد كَذَا كفي وَصرف إِلَى مَصَالِحه عِنْد الْجُمْهُور(2/362)
وَالشّرط السَّابِع أَن يكون مُنجزا فَلَا يَصح تَعْلِيقه كَقَوْلِه إِذا جَاءَ زيد فقد وقفت كَذَا على كَذَا لِأَنَّهُ عقد يَقْتَضِي نقل الْملك فِي الْحَال لم يبن على التغليب والسراية فَلَا يَصح تَعْلِيقه على شَرط كَالْبيع وَالْهِبَة وَمحل الْبطلَان فِيمَا لَا يضاهي التَّحْرِير
أما مَا يضاهيه كجعلته مَسْجِدا إِذا جَاءَ رَمَضَان فَالظَّاهِر صِحَّته كَمَا ذكره ابْن الرّفْعَة وَمحله أَيْضا مَا لم يعلقه بِالْمَوْتِ فَإِن علقه بِهِ كَقَوْلِه وقفت دَاري بعد موتِي على الْفُقَرَاء فَإِنَّهُ يَصح قَالَ الشَّيْخَانِ وَكَأَنَّهُ وَصِيَّة لقَوْل الْقفال إِنَّه لَو عرضهَا للْبيع كَانَ رُجُوعا وَلَو نجز الْوَقْف وعلق الْإِعْطَاء للْمَوْقُوف عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ جَازَ نَقله الزَّرْكَشِيّ عَن القَاضِي حُسَيْن
وَلَو قَالَ وقفت على من شِئْت أَو فِيمَا شِئْت وَكَانَ قد عين لَهُ مَا شَاءَ أَو من يَشَاء عِنْد وَقفه صَحَّ وَأخذ ببيانه وَإِلَّا فَلَا يَصح للْجَهَالَة
وَلَو قَالَ وقفت فِيمَا شَاءَ الله كَانَ بَاطِلا لِأَنَّهُ لَا يعلم مَشِيئَة الله تَعَالَى
وَالشّرط الثَّامِن الْإِلْزَام فَلَو قَالَ وقفت هَذَا على كَذَا بِشَرْط الْخِيَار لنَفسِهِ فِي إبْقَاء وَقفه أَو الرُّجُوع فِيهِ مَتى شَاءَ أَو شَرطه لغيره أَو شَرط عوده إِلَيْهِ بِوَجْه مَا كَانَ شَرط أَن يَبِيعهُ أَو شَرط أَن يدْخل من شَاءَ وَيخرج من شَاءَ لم يَصح قَالَ الرَّافِعِيّ كَالْعِتْقِ
قَالَ السُّبْكِيّ وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامه من بطلَان الْعتْق غير مَعْرُوف
وَأفْتى الْقفال بِأَن الْعتْق لَا يبطل بذلك لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على الْغَلَبَة والسراية
القَوْل فِي الْوَقْف على شُرُوط الْوَاقِف (وَهُوَ) أَي الْوَقْف (على مَا شَرط الْوَاقِف) سَوَاء أقلنا الْملك لَهُ أم للْمَوْقُوف عَلَيْهِ أم ينْتَقل إِلَى الله تَعَالَى بِمَعْنى أَنه يَنْفَكّ عَن اخْتِصَاص الْآدَمِيّين كَمَا هُوَ الْأَظْهر إِذْ مبْنى الْوَقْف على اتِّبَاع شَرط الْوَاقِف (من تَقْدِيم أَو تَأْخِير أَو تَسْوِيَة أَو تَفْصِيل) أَو جمع وترتيب وَإِدْخَال من شَاءَ بِصفة وإخراجه بِصفة مِثَال التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كَقَوْلِه وقفت على أَوْلَادِي بِشَرْط أَن يقدم الأورع مِنْهُم فَإِن فضل شَيْء كَانَ للباقين
وَمِثَال التَّسْوِيَة كَقَوْلِه بِشَرْط أَن يصرف لكل وَاحِد مِنْهُم مائَة دِرْهَم وَمِثَال التَّفْضِيل كَقَوْلِه بِشَرْط أَن يصرف لزيد مائَة ولعمرو خَمْسُونَ
وَمِثَال الْجمع خَاصَّة كَقَوْلِه وقفت على أَوْلَادِي وَأَوْلَادهمْ فَإِن ذَلِك يَقْتَضِي التَّسْوِيَة فِي أصل الْإِعْطَاء والمقدار بَين الْكل وَهُوَ جَمِيع أَفْرَاد الْأَوْلَاد وَأَوْلَادهمْ ذكورهم وإناثهم لِأَن الْوَاو لمُطلق الْجمع لَا للتَّرْتِيب كَمَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ وَنقل عَن إِجْمَاع النُّحَاة وَإِن زَاد على ذَلِك مَا تَنَاسَلُوا أَو بَطنا بعد بطن لِأَن الْمَزِيد للتعميم فِي النَّسْل(2/363)
وَمِثَال التَّرْتِيب خَاصَّة كَقَوْلِه وقفت على أَوْلَادِي ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَادِي أَو الْأَعْلَى فالأعلى أَو الأول فَالْأول أَو الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب لدلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ
وَمِثَال الْجمع وَالتَّرْتِيب كَقَوْلِه وقفته على أَوْلَادِي وَأَوْلَاد أَوْلَادِي فَإِذا انقرضوا فعلى أَوْلَادهم ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَادهم مَا تَنَاسَلُوا
فَتكون الْأَوْلَاد وَأَوْلَاد الْأَوْلَاد مشتركين وبعدهم يكونُونَ مرتبين وَحَيْثُ وجد لفظ التَّرْتِيب فَلَا يصرف للبطن الثَّانِي شَيْء مَا بَقِي من الْبَطن الأول أحد
وَهَكَذَا فِي جَمِيع الْبُطُون لَا يصرف إِلَى بطن وَهُنَاكَ من بطن أقرب مِنْهُ إِلَّا أَن يَقُول من مَاتَ من أَوْلَادِي مِنْهُم فَنصِيبه لوَلَده فَيتبع شَرطه وَلَا يدْخل أَوْلَاد الْأَوْلَاد فِي الْوَقْف على الْأَوْلَاد لِأَنَّهُ لَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْوَلَد حَقِيقَة
وَيدخل أَوْلَاد الْبَنَات فِي الْوَقْف على الذُّرِّيَّة وعَلى النَّسْل وعَلى الْعقب وعَلى أَوْلَاد الْأَوْلَاد لصدق اللَّفْظ بهم أما فِي الذُّرِّيَّة فَلقَوْله تَعَالَى {وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان} إِلَى أَن ذكر عِيسَى وَلَيْسَ هُوَ إِلَّا ولد الْبِنْت والنسل والعقب فِي مَعْنَاهُ إِلَّا إِن قَالَ على من ينْسب إِلَيّ مِنْهُم فَلَا يدْخل أَوْلَاد الْبَنَات فِيمَا ذكر نظرا للقيد الْمَذْكُور
هَذَا إِن كَانَ الْوَاقِف رجلا فَإِن كَانَ امْرَأَة دخلُوا فِيهِ بِجعْل الانتساب فِيهَا لغويا لَا شَرْعِيًّا فالتقييد فِيهَا لبَيَان الْوَاقِع لَا للإخراج وَمِثَال الإدخال بِصفة والإخراج بِصفة كوقفته على أَوْلَادِي الأرامل وأولادي الْفُقَرَاء فَلَا تدخل المتزوجة وَلَا يدْخل الْغَنِيّ فَلَو عَادَتْ أرملة أَو عَاد فَقِيرا عَاد الِاسْتِحْقَاق وتستحق غير الرَّجْعِيَّة فِي زمن عدتهَا كَمَا قَالَه فِي الزَّوَائِد تفقها
تَتِمَّة الْمولى يَشْمَل الْأَعْلَى وَهُوَ من لَهُ الْوَلَاء والأسفل وَهُوَ من عَلَيْهِ الْوَلَاء فَلَو اجْتمعَا اشْتَركَا لتناول اسْمه لَهما
وَالصّفة وَالِاسْتِثْنَاء يلحقان المتعاطفات بِحرف مُشْرك كالواو وَالْفَاء وَثمّ إِن لم يتخللها كَلَام طَوِيل لِأَن الأَصْل اشتراكهما فِي جَمِيع المتعاطفات سَوَاء أتقدما عَلَيْهَا أم تأخرا أم توسطا كوقفت هَذَا على محتاجي أَوْلَادِي وأحفادي وإخوتي أَو على أَوْلَادِي وأحفادي وإخوتي المحتاجين أَو على أَوْلَادِي وأحفادي وإخوتي والمحتاجين أَو على أَوْلَادِي المحتاجين وأحفادي أَو على من ذكر إِلَّا من يفسق مِنْهُم وَالْحَاجة هُنَا مُعْتَبرَة بِجَوَاز أَخذ الزَّكَاة كَمَا أفتى بِهِ الْقفال فَإِن تخَلّل المتعاطفات مَا ذكر كوقفت على أَوْلَادِي على أَن من مَاتَ مِنْهُم وأعقب فَنصِيبه بَين أَوْلَاده للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِلَّا فَنصِيبه لمن فِي دَرَجَته
فَإِذا انقرضوا صرف إِلَى إخوتي المحتاجين أَو إِلَّا من لم يفسق مِنْهُم اخْتصَّ بذلك بالمعطوف الْأَخير وَنَفَقَة الْمَوْقُوف وَمؤنَة تَجْهِيزه وعمارته من حَيْثُ شَرطهَا الْوَاقِف من مَاله أَو من مَال الْوَقْف وَإِلَّا فَمن مَنَافِع الْمَوْقُوف ككسب العَبْد وغلة الْعقار فَإِذا انْقَطَعت مَنَافِعه فالنفقة وَمؤنَة التَّجْهِيز لَا الْعِمَارَة فِي بَيت المَال وَإِذا شَرط الْوَاقِف نظرا لنَفسِهِ أَو لغيره اتبع شَرطه وَإِلَّا فَهُوَ للْقَاضِي. وَشرط النَّاظر: عَدَالَة، وكفاية، ووظيفته عمَارَة وَإِجَارَة(2/364)
وَحفظ أصل وغلة وَجَمعهَا وقسمتها على مستحقيها فَإِن فوض لَهُ بَعْضهَا لم يتعده ولواقف نَاظر عزل من ولاه النّظر عَنهُ وَنصب غَيره مَكَانَهُ
فصل فِي الْهِبَة
تقال لما يعم الصَّدَقَة والهدية وَلما يقابلهما وَاسْتعْمل الأول فِي تَعْرِيفهَا وَالثَّانِي فِي أَرْكَانهَا وَسَيَأْتِي ذَلِك وَالْأَصْل فِيهَا على الأول قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى} وَالْهِبَة بر وَقَوله تَعَالَى {وَآتى المَال على حبه} الْآيَة
وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شَاة أَي ظلفها
وانعقد الْإِجْمَاع على اسْتِحْبَاب الْهِبَة بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا وَقد يعرض لَهَا أَسبَاب تخرجها عَن ذَلِك مِنْهَا الْهِبَة لأرباب الولايات والعمال
وَمِنْهَا مَا لَو كَانَ الْمُتَّهب يَسْتَعِين بذلك على مَعْصِيّة وَهِي بِالْمَعْنَى الأول تمْلِيك تطوع فِي حَيَاة
فَخرج بالتمليك الْعَارِية والضيافة وَالْوَقْف وبالتطوع غَيره كَالْبيع وَالزَّكَاة فَإِن ملك لاحتياج أَو لثواب آخِره فصدقة أَيْضا أَو نَقله للمتهب إِكْرَاما لَهُ فهدية
القَوْل فِي أَرْكَان الْهِبَة (وأركانها) بِالْمَعْنَى الثَّانِي المُرَاد عِنْد الْإِطْلَاق ثَلَاثَة صِيغَة وعاقد وموهوب وعرفه المُصَنّف بقوله (وكل مَا جَازَ بَيْعه جَازَ هِبته) بِالْأولَى لِأَن بَابهَا أوسع
فَإِن قيل لم حذف المُصَنّف التَّاء من جَازَ هِبته أُجِيب بِأَن تَاء تَأْنِيث الْهِبَة غير حَقِيقِيّ أَو لمشاكلة جَازَ بَيْعه
تَنْبِيه يسْتَثْنى من هَذَا الضَّابِط مسَائِل مِنْهَا الْجَارِيَة الْمَرْهُونَة إِذا اسْتَوْلدهَا الرَّاهِن أَو أعْتقهَا وَهُوَ مُعسر فَإِنَّهُ يجوز بيعهَا للضَّرُورَة وَلَا تجوز هبتها لَا من الْمُرْتَهن وَلَا من غَيره
وَمِنْهَا الْمكَاتب يَصح بيع مَا فِي يَده وَلَا تصح هِبته
وَمِنْهَا هبة الْمَنَافِع فَإِنَّهَا تبَاع بِالْأُجْرَةِ وَفِي هبتها وَجْهَان أَحدهمَا أَنَّهَا لَيست بِتَمْلِيك بِنَاء على أَن مَا وهبت مَنَافِعه عَارِية وَهُوَ مَا جزم بِهِ الْمَاوَرْدِيّ
وَغَيره(2/365)
وَرجحه الزَّرْكَشِيّ
وَالثَّانِي أَنَّهَا تمْلِيك بِنَاء على أَن مَا وهبت مَنَافِعه أَمَانَة وَهُوَ مَا رَجحه ابْن الرّفْعَة والسبكي وَغَيرهمَا وَهُوَ الظَّاهِر
وَاسْتثنى مسَائِل غير ذَلِك ذكرتها فِي شرح الْبَهْجَة وَغَيره
وَمَفْهُوم كَلَام المُصَنّف أَن مَا لَا يجوز بَيْعه كمجهول ومغصوب لغير قَادر على انْتِزَاعه وضال وآبق لَا تجوز هِبته بِجَامِع أَنَّهُمَا تمْلِيك فِي الْحَيَاة
وَاسْتثنى أَيْضا من هَذَا مسَائِل مِنْهَا حبتا الْحِنْطَة وَنَحْوهمَا من المحقرات كشعيرة فَإِنَّهُمَا لَا يجوز بيعهمَا وَتجوز هبتهما كَمَا جرى عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاج وَهُوَ الْمُعْتَمد لانْتِفَاء الْمُقَابل لَهما وَإِن قَالَ ابْن النَّقِيب إِن هَذَا سبق قلم
وَمِنْهَا حق التحجير فَإِنَّهُ يَصح هِبته وَلَا يَصح بَيْعه وَمِنْهَا صوف الشَّاة المجعولة أضْحِية ولبنها وَمِنْهَا الثِّمَار قبل بَدو الصّلاح يجوز هبتها من غير شَرط بِخِلَاف البيع وَيسْتَثْنى مسَائِل غير ذَلِك ذكرتها فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
وَشرط فِي الْعَاقِد وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي مَا مر فِي البيع فَيشْتَرط فِي الْوَاهِب الْملك وَإِطْلَاق التَّصَرُّف فِي مَاله فَلَا يَصح من ولي فِي مَال مَحْجُوره وَلَا من مكَاتب بِغَيْر إِذن سَيّده وَيشْتَرط فِي الْمَوْهُوب لَهُ أَن يكون فِيهِ أَهْلِيَّة الْملك لما يُوهب لَهُ من مُكَلّف وَغَيره وَغير الْمُكَلف يقبل لَهُ وليه فَلَا تصح لحمل وَلَا لبهيمة وَلَا لرقيق نَفسه فَإِن أطلق الْهِبَة لَهُ فَهِيَ لسَيِّده
(وَلَا تلْزم) أَي لَا تملك (الْهِبَة) الصَّحِيحَة غير الضمنية وَذَات الثَّوَاب الشاملة للهدية وَالصَّدَََقَة (إِلَّا بِالْقَبْضِ) فَلَا تملك بِالْعقدِ لما روى الْحَاكِم فِي صَحِيحه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهْدى إِلَى النَّجَاشِيّ ثَلَاثِينَ أُوقِيَّة مسكا ثمَّ قَالَ لأم سَلمَة إِنِّي لأرى النَّجَاشِيّ قد مَاتَ وَلَا أرى الْهَدِيَّة الَّتِي أهديت إِلَيْهِ إِلَّا سترد فَإِذا ردَّتْ إِلَيّ فَهِيَ لَك فَكَانَ كَذَلِك
وَلِأَنَّهُ عقد إرفاق كالقرض فَلَا تملك إِلَّا بِالْقَبْضِ وَخرج بالصحيحة الْفَاسِدَة فَلَا تملك بِالْقَبْضِ
وَبِغير الضمنية كَمَا لَو قَالَ أعتق عَبدك عني مجَّانا فَإِنَّهُ يعْتق عَنهُ وَيسْقط الْقَبْض(2/366)
فِي هَذِه الصُّورَة كَمَا يسْقط الْقبُول إِذا كَانَ التمَاس الْعتْق بعوض كَمَا ذَكرُوهُ فِي بَاب الْكَفَّارَات وَبِغير ذَات الثَّوَاب ذَاته فَإِنَّهُ إِذا سلم الثَّوَاب اسْتَقل بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ بيع
تَنْبِيه شَمل كَلَامه هبة الْأَب لِابْنِهِ الصَّغِير أَنَّهَا لَا تملك إِلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَامهم فِي البيع وَنَحْوه خلافًا لما حَكَاهُ ابْن عبد الْبر
وَلَا بُد أَن يكون الْقَبْض بِإِذن الْوَاهِب فِيهِ إِن لم يقبضهُ الْوَاهِب سَوَاء كَانَ فِي يَد الْمُتَّهب أم لَا فَلَو قبض بِلَا إِذن وَلَا إقباض لم يملكهُ وَدخل فِي ضَمَانه سَوَاء أقبضهُ فِي مجْلِس العقد أم بعده وَلَا بُد للْمَوْهُوب لَهُ من إِمْكَان السّير إِلَيْهِ إِن كَانَ غَائِبا وَقد سبق بَيَان الْقَبْض إِلَّا أَنه هُنَا لَا يَكْفِي الْإِتْلَاف وَلَا الْوَضع بَين يَدَيْهِ بِغَيْر إِذْنه لِأَنَّهُ غير مُسْتَحقّ الْقَبْض بِخِلَاف البيع فَلَو مَاتَ الْوَاهِب أَو الْمَوْهُوب لَهُ قَامَ وَارِث الْوَاهِب مقَامه فِي الْإِقْبَاض وَالْإِذْن فِي الْقَبْض ووارث الْمُتَّهب فِي الْقَبْض وَلَا تَنْفَسِخ بِالْمَوْتِ وَلَا بالجنون وَلَا بالإغماء لِأَنَّهَا تؤول إِلَى اللُّزُوم كَالْبيع فِي زمن الْخِيَار
القَوْل فِي الرُّجُوع فِي الْهِبَة (وَإِذا قبضهَا الْمَوْهُوب لَهُ) أَي الْهِبَة الشاملة للهدية وَالصَّدَََقَة (لم يكن للْوَاهِب) حِينَئِذٍ (الرُّجُوع فِيهَا إِلَّا أَن يكون) الْوَاهِب (والدا) كَذَا سَائِر الْأُصُول من الْجِهَتَيْنِ وَلَو مَعَ اخْتِلَاف الدّين على الْمَشْهُور سَوَاء أقبضها الْوَلَد أم لَا غَنِيا كَانَ أم فَقِيرا صَغِيرا أم كَبِيرا لخَبر لَا يحل لرجل أَن يُعْطي عَطِيَّة أَو يهب هبة فَيرجع فِيهَا إِلَّا الْوَالِد فِيمَا يُعْطي وَلَده رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وصححاه وَالْولد يَشْمَل كل الْأُصُول إِن حمل اللَّفْظ على حَقِيقَته ومجازه وَإِلَّا ألحق بِهِ بَقِيَّة الْأُصُول بِجَامِع أَن لكل ولادَة كَمَا فِي النَّفَقَة وَحُصُول الْعتْق وَسُقُوط الْقود
تَنْبِيه مَحل الرُّجُوع فِيمَا إِذا كَانَ الْوَلَد حرا أما الْهِبَة لوَلَده الرَّقِيق فهبة لسَيِّده وَمحله أَيْضا فِي هبة الْأَعْيَان
أما لَو وهب لوَلَده دينا لَهُ عَلَيْهِ فَلَا رُجُوع سَوَاء قُلْنَا إِنَّه تمْلِيك أم إِسْقَاط إِذْ لَا بَقَاء للدّين فَأشبه مَا لَو وهبه شَيْئا فَتلف وَشرط رُجُوع الْأَب أَو أحد سَائِر الْأُصُول بَقَاء الْمَوْهُوب فِي سلطنة الْوَلَد
وَيدخل فِي السلطنة مَا لَو أبق الْمَوْهُوب أَو غصب فَيثبت الرُّجُوع فيهمَا وَخرج بهما مَا لَو جنى الْمَوْهُوب أَو أفلس الْمُتَّهب وَحجر عَلَيْهِ فَيمْتَنع الرُّجُوع نعم لَو قَالَ أَنا أؤدي أرش الْجِنَايَة وأرجع مكن فِي الْأَصَح وَيمْتَنع الرُّجُوع أَيْضا بِبيع الْوَلَد الْمَوْهُوب أَو وَقفه أَو عتقه أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا يزِيل الْملك عَنهُ وَقَضِيَّة كَلَامهم امْتنَاع الرُّجُوع بِالْبيعِ وَإِن كَانَ البيع من أَبِيه الْوَاهِب وَهُوَ كَذَلِك وَلَا يمْنَع الرُّجُوع رَهنه وَلَا هِبته قبل الْقَبْض لبَقَاء السلطنة لِأَن الْملك لَهُ وَأما بعد الْقَبْض فَلَا رُجُوع لَهُ لزوَال سلطنته وَلَا يمْنَع أَيْضا تَعْلِيق عتقه وَلَا تَدْبيره وَلَا تَزْوِيج الرَّقِيق وَلَا زراعة الأَرْض وَلَا إِجَارَتهَا لِأَن الْعين بَاقِيَة بِحَالِهَا نعم يسْتَثْنى من الرُّجُوع مَعَ بَقَاء السلطنة صور مِنْهَا مَا لَو جن الْأَب فَإِنَّهُ لَا يَصح رُجُوعه حَال جُنُونه وَلَا رُجُوع وليه بل إِذا أَفَاق كَانَ لَهُ الرُّجُوع ذكره القَاضِي أَبُو الطّيب
وَمِنْهَا مَا لَو أحرم والموهوب صيد فَإِنَّهُ لَا يرجع فِي الْحَال لِأَنَّهُ لَا يجوز إِثْبَات يَده على الصَّيْد فِي حَال الْإِحْرَام وَمِنْهَا مَا لَو ارْتَدَّ الْوَالِد وفرعنا على وقف ملكه وَهُوَ الرَّاجِح فَإِنَّهُ لَا يرجع لِأَن الرُّجُوع لَا يقبل الْوَقْف(2/367)
كَمَا لَا يقبل التَّعْلِيق فَلَو حل من إِحْرَامه أَو عَاد إِلَى الْإِسْلَام والموهوب بَاقٍ على ملك الْوَلَد رَجَعَ
فروع لَو وهب لوَلَده شَيْئا ووهبه الْوَلَد لوَلَده لم يرجع الأول فِي الْأَصَح لِأَن الْملك غير مُسْتَفَاد مِنْهُ وَلَو وهبه لوَلَده فوهبه الْوَلَد لِأَخِيهِ من أَبِيه لم يثبت للْأَب الرُّجُوع لِأَن الْوَاهِب لَا يملك الرُّجُوع فالأب أولى وَلَو وهبه الْوَلَد لجده ثمَّ الْجد لوَلَده فالرجوع للْجدّ فَقَط وَلَو زَالَ ملك الْوَلَد عَن الْمَوْهُوب وَعَاد إِلَيْهِ بِإِرْث أَو غَيره لم يرجع الأَصْل لِأَن الْملك غير مُسْتَفَاد مِنْهُ حَتَّى يرجع فِيهِ
وَلَو زرع الْوَلَد الْحبّ أَو فرخ الْبيض لم يرجع الأَصْل فِيهِ كَمَا جزم بِهِ ابْن الْمقري وَإِن جزم البُلْقِينِيّ بِخِلَافِهِ لِأَن الْمَوْهُوب صَار مُسْتَهْلكا وَلَو زَاد الْمَوْهُوب رَجَعَ فِيهِ بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَة كالسمن دون الْمُنْفَصِلَة كَالْوَلَدِ الْحَادِث فَإِنَّهُ يبْقى للمتهب لحدوثه على ملكه بِخِلَاف الْحمل الْمُقَارن للهبة فَإِنَّهُ يرجع فِيهِ وَإِن انْفَصل
القَوْل فِي مَا يتَحَقَّق فِي الرُّجُوع فِي الْهِبَة وَيحصل الرُّجُوع برجعت فِيمَا وهبت أَو استرجعته أَو رَددته إِلَى ملكي
أَو نقضت الْهِبَة أَو نَحْو ذَلِك كأبطلتها أَو فسختها وَلَا يحصل الرُّجُوع بِبيع مَا وهبه الأَصْل لفرعه وَلَا بوقفه وَلَا بهبته وَلَا بإعتاقه وَلَا بِوَطْء الْأمة
وَلَا بُد فِي صِحَة الْهِبَة من صِيغَة وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع وَتحصل بِإِيجَاب وَقبُول لفظا من النَّاطِق مَعَ التواصل الْمُعْتَاد كَالْبيع
وَمن صرائح الْإِيجَاب وَهبتك ومنحتك وملكتك بِلَا ثمن وَمن صرائح الْقبُول قبلت ورضيت وَيقبل الْهِبَة للصَّغِير وَنَحْوه مِمَّن لَيْسَ أَهلا للقبول الْوَلِيّ وَلَا يشْتَرط الْإِيجَاب وَالْقَبُول فِي الْهَدِيَّة وَلَا فِي الصَّدَقَة بل يَكْفِي الْإِعْطَاء من الْمَالِك وَالْأَخْذ من الْمَدْفُوع لَهُ
القَوْل فِي الْعُمْرَى والرقبى (و) تصح بعمرى ورقبى فالعمرى كَمَا (إِذا أعمر شَيْئا) كَأَن قَالَ أعمرتك هَذَا أَي جعلته لَك عمرك أَو حياتك أَو مَا عِشْت وَإِن زَاد فَإِذا مت عَاد لي لخَبر الصَّحِيحَيْنِ الْعُمْرَى مِيرَاث لأَهْلهَا وَخرج بقولنَا جعلته لَك عمرك مَا لَو قَالَ جعلته لَك عمري أَو عمر زيد فَإِنَّهُ لَا يَصح لِخُرُوجِهِ عَن اللَّفْظ الْمُعْتَاد لما فِيهِ من تأقيت الْملك فَإِن الْوَاهِب أَو زيدا قد يَمُوت أَو لَا بِخِلَاف الْعَكْس فَإِن الْإِنْسَان لَا يملك إِلَّا مُدَّة حَيَاته وَلَا يَصح تَعْلِيق الْعُمْرَى كإذا جَاءَ فلَان أَو رَأس الشَّهْر فَهَذَا الشَّيْء لَك عمرك
والرقبى كَمَا إِذا قَالَ جعلته لَك رقبى (أَو أرقبه) كَأَن قَالَ أرقبتكه أَي إِن مت قبلي عَاد لي وَإِن مت قبلك اسْتَقَرَّتْ لَك (كَانَ) ذَلِك الشَّيْء (للمعمر) فِي الأولى (أَو للمرقب) فِي الثَّانِيَة بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول فيهمَا (ولورثته من بعده) وَيَلْغُو الشَّرْط الْمَذْكُور فِي الْعُمْرَى والرقبى لخَبر أَبُو دَاوُد لَا تعمروا وَلَا ترقبوا فَمن أعمر شَيْئا أَو أرقبه فَهُوَ لوَرثَته أَي لَا تعمروا وَلَا ترقبوا طَمَعا فِي أَن يعود إِلَيْكُم فَإِن مصيره الْمِيرَاث
والرقبى من الرقوب فَكل مِنْهُمَا يرقب موت الآخر(2/368)
وَالْهِبَة إِن أطلقت بِأَن لم تقيد بِثَوَاب وَلَا بِعَدَمِهِ فَلَا ثَوَاب فِيهَا وَإِن كَانَت لأعلى من الْوَاهِب أَو قيدت بِثَوَاب مَجْهُول كَثوب فباطلة أَو بِمَعْلُوم فَبيع نظرا إِلَى الْمَعْنى
وظرف الْهِبَة إِن لم يعْتد رده كقوصرة تمر هبة أَيْضا وَإِلَّا فَلَا وَإِذا لم يكن هبة حرم اسْتِعْمَاله إِلَّا فِي أكل الْهِبَة مِنْهُ إِن اُعْتِيدَ
تَتِمَّة يسن للوالد وَإِن علا الْعدْل فِي عَطِيَّة أَوْلَاده بِأَن يُسَوِّي بَين الذّكر وَالْأُنْثَى لخَبر البُخَارِيّ اتَّقوا الله واعدلوا بَين أَوْلَادكُم وَيكرهُ تَركه لهَذَا الْخَبَر
وَمحل الْكَرَاهَة عِنْد الاسْتوَاء فِي الْحَاجة وَعدمهَا وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَة وعَلى ذَلِك يحمل تَفْضِيل الصَّحَابَة لِأَن الصّديق فضل السيدة عَائِشَة على غَيرهَا من أَوْلَاده وَفضل عمر ابْنه عَاصِمًا بِشَيْء وَفضل عبد الله بن عمر بعض أَوْلَاده على بَعضهم رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ
وَيسن أَيْضا أَن يُسَوِّي الْوَلَد إِذا وهب لوَالِديهِ شَيْئا وَيكرهُ لَهُ ترك التَّسْوِيَة كَمَا مر فِي الْأَوْلَاد فَإِن فضل أَحدهمَا فالأم أولى لخَبر إِن لَهَا ثُلثي الْبر وَالإِخْوَة وَنَحْوهم لَا يجْرِي فيهم هَذَا الحكم وَلَا شكّ أَن التَّسْوِيَة بَينهم مَطْلُوبَة لَكِن دون طلبَهَا فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع وَأفضل الْبر بر الْوَالِدين بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَفعل مَا يسرهما من الطَّاعَة لله تَعَالَى وَغَيرهَا مِمَّا لَيْسَ بمنهي عَنهُ وعقوق كل مِنْهُمَا من الْكَبَائِر وَهُوَ أَن يُؤْذِيه أَذَى لَيْسَ بالهين مَا لم يكن مَا آذاه بِهِ وَاجِبا وصلَة الْقَرَابَة وَهِي فعلك مَعَ قريبك مَا تعد بِهِ واصلا مَأْمُور بهَا وَتحصل بِالْمَالِ وَقَضَاء الْحَوَائِج والزيارة وَالْمُكَاتبَة والمراسلة بِالسَّلَامِ وَنَحْو ذَلِك
فصل فِي اللّقطَة
وَهِي بِضَم اللَّام وَفتح الْقَاف وإسكانها لُغَة الشَّيْء الْمُلْتَقط وَشرعا مَا وجد من حق مُحْتَرم غير مُحْتَرز لَا يعرف الْوَاجِد(2/369)
مُسْتَحقّه
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع الْآيَات الآمرة بِالْبرِّ وَالْإِحْسَان إِذْ فِي أَخذهَا للْحِفْظ وَالرَّدّ بر وإحسان وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي ذَلِك كَخَبَر مُسلم وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه (وَإِذا وجد) أَي الْحر (لقطَة فِي موَات أَو طَرِيق) وَلم يَثِق بأمانة نَفسه فِي الْمُسْتَقْبل وَهُوَ آمن فِي الْحَال خشيَة الضّيَاع أَو طرُو الْخِيَانَة (فَلهُ أَخذهَا) جَوَازًا لِأَن خيانته لم تتَحَقَّق وَالْأَصْل عدمهَا وَعَلِيهِ الِاحْتِرَاز (و) لَهُ (تَركهَا) خشيَة استهلاكها فِي الْمُسْتَقْبل وَلَا يضمن بِالتّرْكِ فَلَا ينْدب لَهُ أَخذهَا وَلَا يكره لَهُ التّرْك
وَخرج بِالْحرِّ الرَّقِيق فَلَا يَصح الْتِقَاطه بِغَيْر إِذن سَيّده وَإِن لم يَنْهَهُ لِأَن اللّقطَة أَمَانَة وَولَايَة ابْتِدَاء وتمليك انْتِهَاء وَلَيْسَ هُوَ من أَهلهَا فَإِن الْتقط بِإِذْنِهِ صَحَّ وَكَأن سَيّده هُوَ الْمُلْتَقط وَأما بِغَيْر إِذن سَيّده فَمن أَخذهَا مِنْهُ كَانَ هُوَ الْمُلْتَقط سيدا كَانَ أَو أَجْنَبِيّا وَلَو أقرها فِي يَده سَيّده واستحفظه عَلَيْهَا ليعرفها وَهُوَ أَمِين جَاءَ وَإِلَّا فَلَا وَيصِح اللقط من مكَاتب كِتَابَة صَحِيحَة لِأَنَّهُ مُسْتَقل بِالْملكِ وَالتَّصَرُّف وَخرج بالموات الْمَمْلُوك فَلَا تُؤْخَذ مِنْهُ للتَّمَلُّك بعد التَّعْرِيف بل هِيَ لصَاحب الْيَد فِيهِ إِذا ادَّعَاهَا وَإِلَّا فَلِمَنْ كَانَ مَالِكًا قبله وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى المحيي فَإِن لم يَدعهَا كَانَت لقطَة كَمَا قَالَه الْمُتَوَلِي وَأقرهُ فِي الرَّوْضَة
وَبِغير الواثق بِنَفسِهِ الواثق بهَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَأَخذهَا أولى من تَركهَا) فَهُوَ مُسْتَحبّ (إِن كَانَ على ثِقَة) من نَفسه (من الْقيام بهَا) لما فِيهِ من الْبر بل يكره تَركهَا وَسن إِشْهَاد بهَا مَعَ تَعْرِيف شَيْء من اللّقطَة زَائِدَة كَمَا فِي الْوَدِيعَة وحملوا الْأَمر بِالْإِشْهَادِ فِي خبر أبي دَاوُد من الْتقط لقطَة فليشهد ذَا عدل أَو ذَوي عدل وَلَا يكتم وَلَا يعيب على النّدب جمعا بَين الْأَخْبَار
وَتَصِح لقطَة الْمبعض لِأَنَّهُ كَالْحرِّ فِي الْملك وَالتَّصَرُّف والذمة ولقطته لَهُ ولسيده فِي غير مُهَايَأَة فيعرفانها ويتملكانها بِحَسب الرّقّ وَالْحريَّة كشخصين التقطا
وَفِي مناوبة لذِي نوبَة كباقي الأكساب كوصية وَهبة وركاز والمؤن كَأُجْرَة طَبِيب وحجام وَثمن دَوَاء فالأكساب لمن حصلت فِي نوبَته والمؤن على من وَجب سَببهَا فِي نوبَته وَأما أرش الْجِنَايَة فيشتركان فِيهِ لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بِالرَّقَبَةِ وَهِي مُشْتَركَة وَالْجِنَايَة عَلَيْهِ كالجناية مِنْهُ كَمَا بَحثه الزَّرْكَشِيّ وَكَلَام الْمِنْهَاج يشملهما
وَكره اللقط لفَاسِق لِئَلَّا تَدعُوهُ نَفسه إِلَى الْخِيَانَة فَيصح اللقط مِنْهُ كَمَا يَصح من مُرْتَد وَكَافِر مَعْصُوم فِي دَار الْإِسْلَام كاصطيادهم واحتطابهم وتنزع اللّقطَة مِنْهُم وتسلم لعدل لأَنهم لَيْسُوا من أهل الْحِفْظ لعدم أمانتهم
وَيضم لَهُم مشرف فِي التَّعْرِيف فَإِن تمّ التَّعْرِيف تملكوا
وَتَصِح من(2/370)
صبي وَمَجْنُون وَينْزع اللّقطَة مِنْهُمَا وليهما ويعرفها ويتملكها لَهما إِن رَآهُ حَيْثُ يجوز الِاقْتِرَاض لَهما لِأَن التَّمْلِيك فِي معنى الِاقْتِرَاض فَإِن لم يره حفظهَا وَسلمهَا للْقَاضِي وكالصبي وَالْمَجْنُون السَّفِيه إِلَّا أَنه يَصح تَعْرِيفه دونهمَا وَمن أَخذ لقطَة لَا لخيانة بِأَن لقطها لحفظ أَو تملك أَو اخْتِصَاص أَو لم يقْصد خِيَانَة وَلَا غَيرهَا أَو قصد أَحدهمَا ونسيه فأمين وَإِن قصد الْخِيَانَة بعد أَخذهَا مَا لم يتَمَلَّك أَو يخْتَص بعد التَّعْرِيف وَيجب تَعْرِيفهَا وَإِن لقطها لحفظ وَإِن أَخذهَا للخيانة فضامن وَلَيْسَ لَهُ تَعْرِيفهَا وَلَو دفع لقطَة لقاض لزمَه قبُولهَا
القَوْل فِيمَا يجب على الْمُلْتَقط (وَإِذا أَخذهَا) أَي اللّقطَة الْمُلْتَقط الواثق بِنَفسِهِ أَو غَيره (فَعَلَيهِ) حِينَئِذٍ (أَن يعرف) بِفَتْح حرف المضارعة (سِتَّة أَشْيَاء) وَهِي فِي الْحَقِيقَة ترجع إِلَى أَرْبَعَة وَترك معرفَة اثْنَيْنِ كَمَا سَيظْهر الأول أَن يعرف (وعاءها) وَهُوَ بِكَسْر الْوَاو وَالْمدّ مَا هِيَ فِيهِ من جلد أَو غَيره
(و) الثَّانِي أَن يعرف (عفاصها) وَهُوَ بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَأَصله كَمَا فِي تَحْرِير التَّنْبِيه عَن الْخطابِيّ الْجلد الَّذِي يلبس رَأس القارورة وَهِي مُرَاد المُصَنّف كصاحب التَّنْبِيه لِأَنَّهُمَا جمعا بَين الْوِعَاء والعفاص والمحكي فِي تَحْرِير التَّنْبِيه عَن الْجُمْهُور أَن العفاص هُوَ الْوِعَاء وَلذَلِك قَالَ فِي الرَّوْضَة فَيعرف عفاصها وَهِي الْوِعَاء من جلد وخرقة وَغَيرهمَا انْتهى
فَأطلق العفاص على الْوِعَاء توسعا (و) الثَّالِث أَن يعرف (وكاءها) وَهُوَ بِكَسْر الْوَاو وبالمد مَا ترْبط بِهِ من خيط أَو غَيره
(و) الرَّابِع أَن يعرف (جِنْسهَا) من نقد أَو غَيره
(و) الْخَامِس أَن يعرف (عَددهَا) كاثنين فَأكْثر
(و) السَّادِس أَن يعرف (وَزنهَا) كدرهم فَأكْثر
أما كَونهَا ترجع إِلَى أَربع فَإِن العفاص والوعاء وَاحِد كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور وَالْعدَد وَالْوَزْن يعبر عَنْهُمَا بِالْقدرِ فَإِن معرفَة الْقدر شَامِلَة للوزن وَالْعدَد والكيل وَالزَّرْع
وَالسَّابِع وَهُوَ الْمَتْرُوك من كَلَامه أَن يعرف صنفها أهروية أم مروية
وَالثَّامِن أَن يعرف صفتهَا من صِحَة وتكسير وَنَحْوهمَا وَمَعْرِفَة هَذِه الْأَوْصَاف تكون عقب الْأَخْذ كَمَا قَالَه الْمُتَوَلِي وَغَيره
وَهِي سنة كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ وَغَيره وَهُوَ الْمُعْتَمد وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام الْجُمْهُور
وَفِي الْكَافِي أَنَّهَا وَاجِبَة وَجرى عَلَيْهِ ابْن الرّفْعَة وَينْدب كتب الْأَوْصَاف كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَأَنه التقطها فِي وَقت كَذَا
(و) يجب عَلَيْهِ (أَن يحفظها) لمَالِكهَا (فِي حرز مثلهَا) إِلَى ظُهُوره لِأَنَّهَا فِيهَا معنى الْأَمَانَة وَالْولَايَة والاكتساب فالأمانة وَالْولَايَة أَولا والاكتساب آخرا بعد التَّعْرِيف
وَهل الْمُغَلب فِيهَا الْأَمَانَة وَالْولَايَة لِأَنَّهُمَا ناجزان أَو الِاكْتِسَاب لِأَنَّهُ الْمَقْصُود وَجْهَان فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا من غير تَرْجِيح والمرجح فِيهَا تَغْلِيب الِاكْتِسَاب لِأَنَّهُ يَصح الْتِقَاط الْفَاسِق وَالذِّمِّيّ فِي دَار الْإِسْلَام وَلَوْلَا أَن الْمُغَلب ذَلِك لما صَحَّ التقاطهما
(ثمَّ إِذا أَرَادَ) الْمُلْتَقط (تَملكهَا عرفهَا سنة) أَي من يَوْم التَّعْرِيف تحديدا وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن السّنة لَا تتأخر فِيهَا(2/371)
القوافل غَالِبا وتمضي فِيهَا الْفُصُول الْأَرْبَعَة
قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة
وَلِأَنَّهُ لَو لم يعرف سنة لضاعت الْأَمْوَال على أَرْبَابهَا وَلَو جعل التَّعْرِيف أبدا لامتنع من التقاطها فَكَانَ فِي السّنة نظر لِلْفَرِيقَيْنِ مَعًا
وَلَا يشْتَرط أَن تكون السّنة مُتَّصِلَة بل تَكْفِي وَلَو مفرقة على الْعَادة إِن كَانَت غير حقيرة وَلَو من الاختصاصات فيعرفها أَولا كل يَوْم مرَّتَيْنِ طَرفَيْهِ أسبوعا ثمَّ كل يَوْم مرّة طرفه أسبوعا أَو أسبوعين ثمَّ فِي كل أُسْبُوع مرّة أَو مرَّتَيْنِ ثمَّ كل شهر كَذَلِك بِحَيْثُ لَا ينسى أَنه تكْرَار لما مضى
وَإِنَّمَا جعل التَّعْرِيف فِي الْأَزْمِنَة الأول أَكثر لِأَن طلب الْمَالِك فِيهَا أَكثر قَالَ الزَّرْكَشِيّ قيل ومرادهم أَن يعرف كل مُدَّة من هَذِه المدد ثَلَاثَة أشهر وَلَو مَاتَ الْمُلْتَقط فِي أثْنَاء الْمدَّة بنى وَارثه على ذَلِك كَمَا بَحثه الزَّرْكَشِيّ وَلَو الْتقط اثْنَان لقطَة عرفهَا كل وَاحِد نصف سنة كَمَا قَالَ السُّبْكِيّ إِنَّه الْأَشْبَه وَإِن خَالف فِي ذَلِك ابْن الرّفْعَة لِأَنَّهَا لقطَة وَاحِدَة والتعريف من كل مِنْهُمَا لكلها لَا لنصفها لِأَنَّهَا إِنَّمَا تقسم بَينهمَا عِنْد التَّمَلُّك
تَنْبِيه قد يتَصَوَّر التَّعْرِيف سنتَيْن وَذَلِكَ إِذا قصد الْحِفْظ فعرفها سنة ثمَّ قصد التَّمْلِيك فَإِنَّهُ لَا بُد من تَعْرِيفه سنة من حِينَئِذٍ وَيبين فِي التَّعْرِيف زمن وجدان اللّقطَة وَيذكر ندبا اللاقط وَلَو بنائبه بعض أوصافها فِي التَّعْرِيف فَلَا يستوعبها لِئَلَّا يعتمدها الْكَاذِب فَإِن استوعبها ضمن لِأَنَّهُ قد يرفعهُ إِلَى من يلْزم الدّفع بِالصِّفَاتِ
ويعرفها فِي بلد الِالْتِقَاط (على أَبْوَاب الْمَسَاجِد) عِنْد خُرُوج النَّاس لِأَن ذَلِك أقرب إِلَى وجد صَاحبهَا (و) يجب التَّعْرِيف (فِي الْموضع الَّذِي وجدهَا فِيهِ) وليكثر مِنْهُ فِيهِ لِأَن طلب الشَّيْء فِي مَكَانَهُ أَكثر وَخرج بقوله على أَبْوَاب الْمَسَاجِد الْمَسَاجِد فَيكْرَه التَّعْرِيف فِيهَا كَمَا جزم بِهِ فِي الْمَجْمُوع وَإِن أفهم كَلَام الرَّوْضَة التَّحْرِيم إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام فَلَا يكره التَّعْرِيف فِيهِ اعْتِبَارا بِالْعرْفِ وَلِأَنَّهُ مجمع النَّاس وَمُقْتَضى ذَلِك أَن مَسْجِد الْمَدِينَة والأقصى كَذَلِك
وَلَو أَرَادَ الْمُلْتَقط سفرا استناب بِإِذن الْحَاكِم من يحفظها ويعرفها فَإِن سَافر بهَا أَو استناب بِغَيْر إِذن الْحَاكِم مَعَ وجوده ضمن لتَقْصِيره وَإِن الْتقط فِي الصَّحرَاء وَهُنَاكَ قافلة تبعها وَعرف فِيهَا إِذْ لَا فَائِدَة فِي التَّعْرِيف فِي الْأَمَاكِن الخالية فَإِن لم يرد ذَلِك فَفِي بلد يقصدها قربت أَو بَعدت سَوَاء أقصدها ابْتِدَاء أم لَا حَتَّى لَو قصد بعد قَصده الأول بَلْدَة أُخْرَى
وَلَو بلدته الَّتِي سَافر مِنْهَا عرف فِيهَا وَلَا يُكَلف الْعُدُول عَنْهَا إِلَى أقرب الْبِلَاد إِلَى ذَلِك الْمَكَان وَيعرف حقير لَا يعرض عَنهُ غَالِبا متمولا كَانَ أَو مُخْتَصًّا وَلَا يتَقَدَّر بِشَيْء بل هُوَ مَا يغلب على الظَّن أَن فاقده لَا يكثر أسفه عَلَيْهِ وَلَا يطول طلبه لَهُ غَالِبا إِلَى أَن يظنّ إِعْرَاض فاقده عَنهُ غَالِبا وَعَلِيهِ مُؤنَة التَّعْرِيف إِن قصد تملكا وَلَو بعد لقطه للْحِفْظ أَو مُطلقًا وَإِن لم يتَمَلَّك لوُجُوب التَّعْرِيف عَلَيْهِ فَإِن لم يقْصد التَّمَلُّك كَأَن لقط لحفظ أَو أطلق وَلم يقْصد تَمْلِيكًا أَو اختصاصا فمؤنة التَّعْرِيف على بَيت المَال أَو على مَالك بِأَن يرتبها الْحَاكِم فِي بَيت المَال أَو يقترضها على الْمَالِك من اللاقط أَو غَيره أَو يَأْمُرهُ بصرفها ليرْجع على الْمَالِك أَو يَبِيع بَعْضهَا إِن رَآهُ وَإِنَّمَا لم تلْزم اللاقط لِأَن الْحَظ فِيهِ للْمَالِك فَقَط
مَا الحكم إِذا لم يجد صَاحبهَا (فَإِن لم يجد صَاحبهَا) بعد تَعْرِيفهَا (كَانَ لَهُ أَن يتملكها بِشَرْط الضَّمَان) إِذا ظهر مَالِكهَا وَلَا يملكهَا الْمُلْتَقط بِمُجَرَّد مُضِيّ مُدَّة التَّعْرِيف بل لَا بُد من لفظ أَو مَا فِي مَعْنَاهُ كتملكت لِأَنَّهُ تملك مَال بِبَدَل فافتقر إِلَى ذَلِك كالتملك بشرَاء
وَبحث ابْن الرّفْعَة فِي لقطَة لَا تملك كخمر وكلب أَنه لَا بُد فِيهَا مِمَّا يدل على نقل الِاخْتِصَاص فَإِن تَملكهَا فَظهر الْمَالِك وَلم يرض ببدلها وَلَا تعلق بهَا حق لَازم يمْنَع بيعهَا لزمَه ردهَا لَهُ بزيادتها الْمُتَّصِلَة وَكَذَا الْمُنْفَصِلَة إِن حدثت قبل التَّمَلُّك تبعا للقطة فَإِن تلف حسا أَو شرعا بعد(2/372)
التَّمَلُّك غرم مثلهَا إِن كَانَت مثلية أَو قيمتهَا إِن كَانَت مُتَقَومَة وَقت التَّمَلُّك لِأَنَّهُ وَقت دُخُولهَا فِي ضَمَانه وَلَا تدفع اللّقطَة لمدعيها بِلَا وصف وَلَا حجَّة إِلَّا أَن يعلم اللاقط أَنَّهَا لَهُ فَيلْزمهُ دَفعهَا لَهُ وَإِن وصفهَا لَهُ وَظن صدقه جَازَ دَفعهَا لَهُ عملا بظنه بل يسن نعم إِن تعدد الواصف لم يدْفع إِلَّا بِحجَّة فَإِن دَفعهَا لَهُ بِالْوَصْفِ فثبتت لآخر بِحجَّة حولت لَهُ عملا بِالْحجَّةِ فَإِن تلفت عِنْد الواصف فللمالك تضمين كل مِنْهُمَا والقرار على الْمَدْفُوع لَهُ وَإِذا تملك الْمُلْتَقط بعد التَّعْرِيف وَلم يظْهر لَهَا صَاحب فَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِي إنفاقها فَإِنَّهَا كسب من أكسابه لَا مُطَالبَة عَلَيْهِ بهَا فِي الدَّار الْآخِرَة
فصل فِي بعض النّسخ وَهُوَ فِي أَقسَام اللّقطَة وَبَيَان حكم كل مِنْهَا
وَاعْلَم أَن الشَّيْء الْمُلْتَقط قِسْمَانِ
وَيعلم مَال وَغَيره
وَالْمَال نَوْعَانِ حَيَوَان وَغَيره
وَالْحَيَوَان ضَرْبَان آدَمِيّ وَغَيره
وَيعلم غَالب ذَلِك من كَلَامه رَحمَه الله تَعَالَى فِي قَوْله (واللقطة) أَي بِالنّظرِ إِلَى مَا يفعل فِيهَا (على أَرْبَعَة أضْرب أَحدهَا مَا يبْقى على الدَّوَام) كالذهب وَالْفِضَّة (فَهَذَا) أَي مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْفَصْل قبله من التَّخْيِير بَين تَملكهَا وَبَين إدامة حفظهَا إِذا عرفهَا وَلم يجد مَالِكهَا هُوَ (حكمه) أَي هَذَا الضَّرْب (و) الضَّرْب (الثَّانِي مَا لَا يبْقى على الدَّوَام) بل يفْسد بِالتَّأْخِيرِ (كالطعام الرطب) كالرطب الَّذِي لَا يتتمر والبقول (فَهُوَ) أَي الْمُلْتَقط (مُخَيّر) فِيهِ (بَين) تملكه ثمَّ (أكله) وشربه (وغرمه) أَي وَغرم بدله من مثل أَو قيمَة (أَو بَيْعه) بِثمن مثله (وَحفظ ثمنه) لمَالِكه (و) الضَّرْب (الثَّالِث مَا يبْقى) على الدَّوَام لَكِن (بعلاج) بِكَسْر الْمُهْملَة (كالرطب) الَّذِي يتجفف (فيفعل) الْمُلْتَقط (مَا فِيهِ الْمصلحَة) لمَالِكه (من بَيْعه) بِثمن مثله (وَحفظ ثمنه) لَهُ (أَو تجفيفه وَحفظه) لمَالِكه إِن تبرع الْمُلْتَقط بالتجفيف وَإِلَّا فيبيع بعضه بِإِذن الْحَاكِم إِن وجده وينفقه على تجفيف الْبَاقِي
وَالْمرَاد بِالْبَعْضِ الَّذِي يُبَاع مَا يُسَاوِي مُؤنَة التجفيف(2/373)
(و) الضَّرْب (الرَّابِع مَا يحْتَاج إِلَى نَفَقَة كالحيوان) آدَمِيّ أَو غَيره فالآدمي وَتَركه المُصَنّف اختصارا لندرة وُقُوعه فَيصح لقط رَقِيق غير مُمَيّز أَو مُمَيّز زمن نهب بِخِلَاف زمن الْأَمْن لِأَنَّهُ يسْتَدلّ بِهِ على سَيّده فيصل إِلَيْهِ وَمحل ذَلِك فِي الْأمة إِذا التقطها للْحِفْظ أَو للتَّمَلُّك وَلم تحل لَهُ كمجوسية ومحرم بِخِلَاف من تحل لَهُ لِأَن تملك اللّقطَة كالاقتراض وَينْفق على الرَّقِيق مُدَّة الْحِفْظ من كَسبه فَإِن لم يكن لَهُ كسب فَإِن تبرع بالانفاق عَلَيْهِ فَذَاك وَإِن أَرَادَ الرُّجُوع فلينفق بِإِذن الْحَاكِم
فَإِن لم يجده أشهد وَإِذا بيع ثمَّ ظهر الْمَالِك وَقَالَ كنت أَعتَقته قبل قَوْله وَحكم بِفساد البيع
وَأما غير الْآدَمِيّ وَعَلِيهِ اقْتصر المُصَنّف لغَلَبَة وَقَوله فَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَهُوَ ضَرْبَان) الأول (حَيَوَان لَا يمْتَنع بِنَفسِهِ) من صغَار السبَاع كشاة وَعجل وفصيل والكسير من الْإِبِل وَالْخَيْل وَنَحْو ذَلِك مِمَّا إِذا تَركه يضيع بكاسر من السبَاع أَو بخائن من النَّاس فَإِن وجده بمفازة (فَهُوَ مُخَيّر) فِيهِ (بَين) تملكه ثمَّ (أكله وَغرم ثمنه) لمَالِكه (أَو تَركه) أَي إِمْسَاكه عِنْده (والتطوع بالانفاق عَلَيْهِ) إِن شَاءَ فَإِن لم يتَطَوَّع وَأَرَادَ الرُّجُوع فلينفق بِإِذن الْحَاكِم فَإِن لم يجده أشهد كَمَا مر فِي الرَّقِيق (أَو بَيْعه) بِثمن مثله (وَحفظ ثمنه) لمَالِكه ويعرفها ثمَّ يتَمَلَّك الثّمن
وَخرج بِقَيْد الْمَفَازَة الْعمرَان فَإِذا وجده فِيهِ فَلهُ الْإِمْسَاك مَعَ التَّعْرِيف وَله البيع والتعريف وتملك الثّمن وَلَيْسَ لَهُ أكله وَغرم ثمنه على الْأَظْهر لسُهُولَة البيع فِي الْعمرَان بِخِلَاف الْمَفَازَة فقد لَا يجد فِيهَا من يَشْتَرِي ويشق النَّقْل إِلَيْهِ والخصلة الأولى من الثَّلَاث عِنْد استوائها فِي الأحظية أولى من الثَّانِيَة وَالثَّانيَِة أولى من الثَّالِثَة
وَزَاد الْمَاوَرْدِيّ خصْلَة رَابِعَة وَهِي أَن يَتَمَلَّكهُ فِي الْحَال ليستبقيه حَيا لدر أَو نسل قَالَ لِأَنَّهُ لما استباح تملكه مَعَ استهلاكه فَأولى أَن يستبيح تملكه مَعَ استبقائه هَذَا كُله فِي الْحَيَوَان الْمَأْكُول فَأَما غَيره كالجحش وصغار مَا لَا يُؤْكَل فَفِيهِ الخصلتان الأخيرتان وَلَا يجوز تملكه حَتَّى يعرفهُ سنة على الْعَادة
(و) الضَّرْب الثَّانِي (حَيَوَان يمْتَنع) من صغَار السبَاع كذئب ونمر وفهد (بِنَفسِهِ) إِمَّا بِفضل قُوَّة كَالْإِبِلِ وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير وَإِمَّا بِشدَّة عدوه كالأرنب والظباء الْمَمْلُوكَة وَإِمَّا بطيرانه كالحمام (فَإِن وجده) الْمُلْتَقط (فِي الصَّحرَاء) الآمنة وَأَرَادَ أَخذه للتَّمَلُّك لم يجز
و (تَركه) وجوبا لِأَنَّهُ مصون بالامتناع من أَكثر السبَاع مستغن بالرعي إِلَى أَن يجده صَاحبه لطلبه لَهُ وَلِأَن طروق النَّاس فِيهَا لَا يعم فِيمَن أَخذه للتَّمَلُّك ضمنه وَيبرأ من الضَّمَان بِدَفْعِهِ إِلَى القَاضِي لَا برده إِلَى مَوْضِعه وَخرج بِقَيْد التَّمَلُّك إِرَادَة أَخذه للْحِفْظ فَيجوز للْحَاكِم ونوابه وَكَذَا للآحاد على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة لِئَلَّا يضيع بِأخذ خائن
وَخرج بِقَيْد الآمنة مَا لَو كَانَ فِي صحراء زمن نهب فَيجوز لقطه للتَّمَلُّك لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يضيع بامتداد الْيَد الخائنة إِلَيْهِ (وَإِن وجده فِي الْحَضَر) ببلدة أَو قَرْيَة أَو قريب مِنْهُمَا كَانَ لَهُ أَخذه للتَّمَلُّك وَحِينَئِذٍ (فَهُوَ مُخَيّر) فِيهِ (بَين الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة) الَّتِي تقدم ذكرهَا قَرِيبا (فِيهِ) أَي الضَّرْب الرَّابِع فِي الْكَلَام على الضَّرْب الأول مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي لَا يمْتَنع فأغنى عَن إِعَادَتهَا هُنَا وَإِنَّمَا جَازَ أَخذ هَذَا الْحَيَوَان فِي الْعمرَان دون الصَّحرَاء الآمنة للتَّمَلُّك لِئَلَّا يضيع بامتداد الْأَيْدِي الخائنة إِلَيْهِ بِخِلَاف الصَّحرَاء الآمنة فَإِن طروق النَّاس بهَا نَادِر(2/374)