لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (125)
مسألة وجوب تخميس الغنيمة وقسم باقيها
تأليف
الإمام العلامة محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي
(676 هـ)
رحمه الله تعالى
تحقيق الدكتور
عبد الرؤوف بن محمد بن أحمد الكمالي
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الأولى
1430 هـ - 2009 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم العامل المفيد: محيي الدين -رحمه الله-:
الحمد لله الذي أعز الإسلام، وأوضح لعباده طرق الأحكام، ونصب لهم من وجوه الدلالة ما يميز الحلال من الحرام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم .
أما بعد:
فقد سأل سائلون عن حكم الغنائم المنقولة الحاصلة بالقهر من أموال الكفار، كالجواري، والصبيان والدواب والأثاث، إذا لم تخمس ولم تقسم القسمة الشرعية، ولم يكن الإمام قال قبل الاغتنام: ((من أخذ شيئاً فهو له))، هي حلالٌ لمن تصير إليه والحالة هذه؟(1/25)
قلت: الجواب:
أنه إنما يحل منها السلب للقاتل بشرطه، والأكل منها في دار الحرب وقبل الوصول إلى عمارة دار الإسلام.
وكذلك علف الدواب بشرطه، والنفل بشرطه.
وما سواه، لا يحل لأحدٍ أخذ شيءٍ منه.
ولا يحل وطء السبايا، ولا الاستمتاع بهن بقبلةٍ ولمسٍ ونظرٍ وغير ذلك.(1/26)
وسبب التحريم شيئان:
أحدهما: عدم القسمة الشرعية.
والثاني: عدم التخميس.
فإن التخميس والقسمة واجبان بإجماع المسلمين وإن اختلفوا في كيفية صرف الخمس ومستحقيه، وفي كيفية القسم بين الفرسان والرجالة، وفي غير ذلك من تفصيل مسائل القسم، فذلك غير قادحٍ في أصل إجماعهم على وجوب أصل التخميس والقسمة.
وقد تظاهر على ما ذكرته: دلائل الكتاب والسنة المستفيضة وإجماع الأمة.
قال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}.(1/27)
وثبت في ((الصحيحين))، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس: ((آمركم بأربع))، فذكرهن، قال: ((وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)).
وفي ((صحيح مسلم))، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس: ((وأعطوا الخمس من الغنائم)).
وفي ((الصحيحين))، عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعثه من السرايا لأنفسهم خاصةً النفل سوى قسم عامة الجيش)).
قال: والخمس في ذلك كله واجب.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل قبل أن تنزل فريضة الخمس في المغنم، فلما نزلت الآية: {واعلموا(1/28)
أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه}، ترك النفل الذي كان ينفل، وصار ذلك إلى خمس الخمس: سهم الله تعالى وسهم النبي صلى الله عليه وسلم )). حديثٌ صحيح، رواه البيهقي بإسناد صحيح.
والأحاديث في إيجاب الخمس وفي تخميس النبي صلى الله عليه وسلم ، كثيرةٌ مشهورة، في ((الصحيحين)) وفي غيرهما.
والإجماع منعقدٌ على وجوب التخميس كما سبق، وإن اختلفوا في كيفية صرف الخمس.
وأما قسمة الأخماس الأربعة من المنقول، فمجمعٌ عليها، وإنما اختلفوا في العقار.(1/29)
وفي الاحتجاج لما قدمناه بدلالة الإجماع أبلغ كفاية، ومع هذا، فقد تظاهرت الأحاديث المستفيضة في ((الصحيحين)) وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر وغيرها.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم، أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، لنا أهلٌ وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟)) فقالوا: أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا وقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم)).
فلما صلى صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم)).(1/30)
فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال عيينة بن بدر: أما أنا وبنو فزارة فلا!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أمسك منكم بحقه، فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيءٍ نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم)).(1/31)
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا. فقال: ((يا أيها الناس، والذي نفسي بيده، لو كان لكم عدد شجر تهامة نعماً؛ لقسمته عليكم)).
ثم قام إلى جنب بعيرٍ وأخذ من سنامه وبرةً، فجعلها بين أصبعيه فقال: ((أيها الناس، والله ما لي [من] فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردودٌ عليكم، فأدوا الخياط والمخيط؛ فإن الغلول عارٌ ونارٌ وشنار على أهله يوم القيامة)).
فجاءه رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر، فقال: يا رسول الله، أخذت هذا لأخيط به برذعة بعيرٍ لي دبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أما حقي منهما فلك)). فقال الرجل: أما إذا بلغ الأمر هذا، فلا حاجة لي بها. فرمى بها من يده))، رواه البيهقي بإسنادٍ صحيح.(1/32)
فصل: قال الشيخ أبو محمد الجويني في آخر كتابه ((التبصرة في الوسوسة)):
أصول الكتاب والسنة والإجماع متطابقةٌ على تحريم وطء السراري اللواتي يجلبن اليوم من الروم والهند والترك، إلا أن ينتصب [في المغانم] من جهة الإمام من يحسن قسمتها فيقسمها من غير حيفٍ؛ لأن الخمس واجبٌ في قليل الغنيمة وكثيرها.
قال: ((ولا خلاف [في] أن الجارية المشتركة يحرم وطؤها على جميع الشركاء. ولا فرق في التحريم بين من قل نصيبه أو كثر)).
فصل: إن قيل: ما تقولون في قائلٍ يقول الآن بإباحة المنقول من الغنائم من غير تخميسٍ ولا قسمةٍ شرعية.
ويزعم أن العلماء اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً مشهوراً وخفياً، وفعلت الأئمة فيها أفعالاً مختلفةً، فقسم بعضهم المال والعقار، ووقف بعضهم العقار، ورده بعضهم على الكفار بخراج، وإن الاختلاف فيه كبير، مؤذنٌ بأن حكم الغنيمة والفيء راجعٌ إلى رأي الإمام، يفعل فيه ما رآه مصلحةً.(1/33)
فإذا فعل الإمام [الذي] تجب طاعته شيئاً من ذلك؛ جاز وحل التصرف في تلك الأموال؟!
قال هذا القائل: وكيفما قسمت هذه الأموال في هذه الأزمان من زيادةٍ ونقصان وإعطاءٍ وحرمان، جاز، حتى لو أعطى السلطان الفرسان دون الرجالة أو عكسه، أو خصص بعض الجيش بالغنيمة، أو خص بعضهم بأكثر، جاز.
قال: وبالجملة، كيف فعل السلطان لزم حكمه، وحل ذلك المال لآخذه، وملكه بتسلمه.
قلنا: هذه الجملة غلطٌ فاحش، وخطأٌ بين، وقائلها جسورٌ، هجامٌ على خرق الإجماع؛ فإن هذه الجملة مخالفةٌ لإجماع الأمة الذي لا يحل لمكلفٍ مخالفته، بل هي مخالفةٌ لنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويكفي في ردها منابذة قائلها جميع الأمة من السلف والخلف، وقد قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}.(1/34)
ومع هذا، فنتبرع بتفصيل نقضها كلمةً كلمةً، فنقول:
لا يلزم من اختلافهم في قسمة العقار عدم تخميس المنقول وعدم قسمته كما ادعاه القائل المذكور.
وأما تهويل هذا القائل بكثرة الاختلاف فباطل منه؛ إذ لا يلزم من ذلك عدم وجوب تخميس الغنيمة المنقولة وقسمة باقيها.
وأما قوله: ((يجوز في قسمتها الزيادة والنقصان، والإعطاء والحرمان، وإعطاء الفرسان دون الرجالة وعكسه))، فمخالفٌ لإجماع الأمة، وللأحاديث الصحيحة:
منها: حديث عبد الله بن شقيقٍ التابعي -المجمع على توثيقه وجلالته- عن رجلٍ من بلقين رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، فقلت: يا رسول الله، ما تقول في الغنيمة؟ قال: ((لله خمسها، وأربعة أخماسٍ للجيش)). قلت: فما أحدٌ أولى [به] من أحدٍ؟ قال: (([لا]، ولا السهم تستخرجه من جنبك، لست أحق به من أخيك المسلم)) حديثٌ صحيح، رواه البيهقي بإسنادٍ صحيح. ولا يضر جهالة اسم هذا الصحابي؛ لأنهم عدول.(1/35)
فإن احتج القائل المذكور، بأن استقراء أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه وقسمته الغنائم تقتضي ذلك؛ فأول ذلك غنائم بدرٍ: قسم منها لمن لم يشهدها، وربما فضل بعض حاضريها، حتى قال بعض العلماء: كانت غنائم بدرٍ خاصةٌ له صلى الله عليه وسلم ، يفعل بها ما يشاء.
قلنا: هذه دعاوي باطلة:
أما استقراء أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس فيها ما يقوله هذا القائل، وإن وجد في بعض المغازي ما يوهم بعض ذلك، فذلك في قضية عينٍ لا عموم لها فلا حجة فيها، ولا يحل لأحدٍ منابذة النصوص والإجماع بسببها، ولا إيهام ضعفة الناس أن هذا من شرع النبي صلى الله عليه وسلم الشائع المعروف المستمر في المغانم كلها.
وكيف يتجاسر على هذا من له أدنى إلمامٍ بمطالعة الأحاديث؟!
وقد روى أبو داود في ((سننه)) وغيره من أصحاب السنن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمةً، أمر بلالاً فنادى في الناس، فيجيئون بغنائمهم فيخمسها ويقسمها، فجاء رجلٌ من بعد ذلك بزمامٍ من شعرٍ، فقال: يا رسول الله: هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة. فقال: ((أسمعت بلالاً نادى ثلاثاً؟)) قال: نعم، قال: ((فما منعك أن تجيء به؟)) فاعتذر(1/36)
[إليه]، فقال: كن: أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله عنك)). إسناده حسن.
وأما إعطاؤه صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه -ولم يشهد بدراً- أسهمه منها، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنها قضية عينٍ لا عموم لها، فلا يجوز الاحتجاج بها في كل غنيمةٍ مطلقاً كما يدعيه هذا القائل.
الثاني: أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه ذلك من الخمس، وسماه سهماً، لأنه على صورته.
وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم بعض حاضري بدرٍ، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنها قضية عين.
والثاني: أنه فضله على سبيل النفل.
وهذان الجوابان إنما يحتاج إليهما على قول من يقول: لم تكن غنائم بدرٍ خاصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/37)
أما من يقول: كانت كلها له صلى الله عليه وسلم خاصةً يفعل بها ما يشاء، كغيرها من أمواله المختصة، فلا يحتاج إلى جواب؛ إذ لا شبهة فيها للقائل المذكور.
فإن قال القائل المذكور: قد نقلت في الغنائم أحوالٌ مختلفةٌ، فيمكن أنه فعل ذلك على سبيل المصلحة ومقتضى الحاجة.
قلنا: ليس بلازمٍ وقوعها على حسب ما يقوله القائل المذكور، بل كانت بحسب الغنائم والغانمين ومستحقي النفل والرضخ وغير ذلك.
فإن ادعى القائل خلاف هذا، فليأت به مفصلاً، ولا قدرة له عليه على وجهٍ تقوم به الحجة.
فإن قال هذا القائل: إن الشافعي رحمه الله تناقض قوله في هذه المسألة؛ حيث أوجب تخميس الغنيمة وقسمة باقيها بين الحاضرين بالسوية، مع أنه يقول: إن مكة فتحت عنوةً ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم منقولها ولا عقارها، ولا سبى بها ذريةً، فقد رأى أن يدع غنائمها لمن كانت في يده ولا يقسمها بين غانميها، فلولا جوازه ما فعله.
قلنا: هذا غلطٌ فاحش، ونقلٌ باطل، واختراعٌ على الشافعي رحمه الله؛ فإن مذهب الشافعي المعروف في جميع كتبه وكتب جميع أصحابه المشهورة والخفية: أن مكة فتحت صلحاً، وأما عبارة الغزالي في ((الوسيط))، فموهمةٌ خلاف هذا، وهي مؤولةٌ عند أصحابنا إحساناً للظن(1/38)
بالغزالي، ولو لم يمكن تأويلها لعدت غلطاً مردوداً، لكنها ظاهرة التأويل، وتأويلها يعرف من لفظها.
ويا عجباً لمن يخالط أصحاب الشافعي أو يطالع شيئاً من كتبه، أو كتابين فصاعداً من كتب أصحابه: كيف ينقل عن الشافعي ومذهبه هذا النقل الذي يرده عليه كل كتابٍ لهم، وكل مبتدئٍ بالتفقه له مؤانسةً؟!
وكيف يحل لأحدٍ أن ينسب إلى الشافعي -الذي محله من العلوم محله- التناقض من غير مطالعة كتبه أو كتابين من كتب أصحابه؟
وما أظن مرتكب هذا النقل طالع في هذه المسالة غير ((الوسيط)).
ويا عجباً لمن يرتكب خلاف إجماع الأمة من غير أن يحتاط لدينه وعرضه بإمعان النظر فيما يحاوله من المقالات المردودة بالإجماع، وبالنصوص الظاهرة، والدلالات المتظاهرة.
فإن قال هذا القائل: قد قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنينٍ، فأكثر لأهل مكة منها ولأشرافٍ من غيرهم، وأجزل لهم العطاء، حتى أعطى الرجل الواحد مائةً من الإبل، والآخر ألف شاةٍ، ومعلومٌ أن نصيب الواحد من الحاضرين لا يبلغ هذا العدد.(1/39)
قلنا: ليس لهذا القائل في جميع ما قاله ويقوله شبهةٌ يتعلق بها سوى هذا.
وجوابه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها قضية عينٍ يتطرق إليها احتمالاتٌ؛ فلا حجة فيها، فكيف يجوز لمنصف أن يتمسك بها في مخالفة الإجماع؟
الثاني: أنه يحتمل أن ذلك العطاء لم يكن مختصاً بالمعطى، بل كان له ولقومه التباع له؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعط هذا العطاء المذكور إلا أشراف القبائل ورؤساءهم، فأعطى الشريف المطاع ذا الأتباع نصيبه ونصيب تباعه ليقسمه بينهم.
الثالث: أن تلك الزيادة يحتمل أنها كانت من الأنفال ومن الخمس، وإذا كان كذلك لم يجز التعلق به عموماً لو لم يعارضه شيء، كيف وهو مخالف للنصوص الصحيحة الصريحة والإجماع في وجوب التخميس وقسمة الباقي بالسوية؟(1/40)
فإن قيل: هذا التأويل يدفعه قول بعض الأنصار الثابت عنهم في ((الصحيح)): أنهم عتبوا وقالوا: إن هذا لهو العجب؛ إن سيوفنا تقطر من دمائهم، وإن غنائمنا تقسم بينهم!! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعث إليهم، فحضروا، فقال: ((ألا ترضون أن يذهب الناس بالغنائم وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟)).
قلنا: جوابه ما أجاب به الشافعي وغيره من العلماء: أن هذا العطاء لقريش إنما كان من الخمس.
قال: ويسوغ أن يقولوا: نحن غنمنا الخمس، والخمس غنيمتنا؛ لأنهم غنموه حقيقةً كما غنموا باقي الغنيمة، وكان عتبهم لكون غيرهم رجح [عليهم، و] التنفيل والإعطاء من الخمس إنما يكونان على حسب الفضائل والسوابق في الإسلام.
وليس الأمر كما ظنوا، بل ذلك بحسب المصلحة واجتهاد الإمام، وكانت المصلحة يومئذٍ في تألف قريشٍ وغيرهم ممن أعطي.
قال الشافعي: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الخمس: ((هو لي، وهو مردودٌ فيكم))، فلما أعطاه الأبعدين عتب بعض الأنصار الذين هم أولياؤه وحلفاؤه وملازموه.
وهذا التأويل متعينٌ؛ لأنه ثبت في ((الصحيح)): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس غنائم حنينٍ وقسم الباقي.(1/41)
الدليل عليه: حديث ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد رجوعه من حنينٍ، فقال: يا رسول الله: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ قال: ((اذهب فاعتكف يوماً)). قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه جاريةً من الخمس، فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس [سمع عمر بن الخطاب أصواتهم، يقولون: أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقالوا: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا الناس]، قال عمر رضي الله عنه: يا عبد الله اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها))، رواه مسلم في ((صحيحه)) بلفظه والبخاري بمعناه، وفي روايته -أيضاً- التصريح بإعطاء عمر جاريةً من الخمس يوم حنين.
وقد روى الشافعي وغيره بأسانيدهم عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس وأصحابه من خمس الخمس.
فيتعين المصير إلى ما قلناه.
فإن قيل: قد جاء في بعض روايات الصحيح: أنه لم يعط الأنصار شيئاً.
قلنا: هو محمولٌ عند العلماء على أنه لم يعطهم شيئاً من الخمس.(1/42)
ومما يحمل على القطع بهذا التأويل: حديث عمرو بن شعيبٍ السابق في أول المسألة؛ فإن الأنصار قالوا: ((وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ))، ومعلومٌ أن قولهم هذا كان بعد القسمة؛ فقد ثبت في ((صحيح البخاري)) وغيره التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد على هوازن بعد القسمة.
ولو ثبت أنه لم يعطهم شيئاً من جميع الغنيمة، لم يكن فيه دلالةٌ لقول القائل المذكور؛ لأنها قضية عين.
فإن احتج صاحب هذه المقالة: بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم سواد العراق بين الغانمين واستغلوه سنين ثم استنزلهم عنها، وعوض بعضهم.
ثم رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يردها إلى أهلها من الغانمين لولا شيءٌ منعه. ثم رأى الأئمة بعده تمليكها لأربابها والحكم بتمكينهم من جميع التصرفات فيها.
قلنا: احتجاجه بفعل عمر رضي الله عنه احتجاجٌ باطل، بل هو صريح في الحجة عليه؛ لأن عمر رضي الله عنه قسمها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، وتسلمها المقسوم عليهم، وبقيت في أيديهم سنين، وأملاكهم مستقرةٌ عليها، وتصرفاتهم نافذة فيها، ثم اشترى بعضها واتهب بعضها برضى مالكيها، فتملكها لبيت المال، ثم وقفها للمصلحة التي رآها للمسلمين في(1/43)
ذلك، وهذا لا يمنعه أحد من العلماء، بل هو دليل لصحة ملكهم وتأكد حقهم.
وأما ما ذكره القائل المذكور من رأي علي رضي الله عنه، فإن قصد به أن علياً كان هم بنقض فعل عمر، فليأت بدليلٍ صريحٍ له في ذلك، ولا قدرة له عليه، ولو وجد ذلك، لم يكن فيه دلالةٌ لما حاوله هذا القائل من عدم وجوب القسمة بالسوية، بل فيه تصريحٌ بالرد على هذا القائل؛ لأنه قال: هم بردها إلى الغانمين، فدل على استحقاقهم لها.
وإن قصد أن علياً هم بردها إلى الغانمين بطريقٍ آخر، أو لم يدر ما قصد، لم يكن فيه دليلٌ لما يدعيه هذا القائل.
وأما ما نقله عن الأئمة بعد علي، فإن أراد أنهم قرروا ما فعله عمر من وقفها على المسلمين، لم يكن فيه حجةٌ، وإن أراد شيئاً آخر له فيه شبهةٌ، فلا بد له من إثباته بإسنادٍ صحيح، ولا قدرة له عليه.
فإن قال هذا القائل: لو تتبع متتبعٌ المغازي وأراد أن يبين أن غنيمةً واحدةً قسمت على جميع ما يقال في كتب الفقه من التخميس والتنفيل والرضخ والسلب، وكيفية إعطاء الفارس والراجل، وتعميم الحاضرين، لم يكد يجد ذلك منقولاً من طريقٍ معتمد.
قلنا: هذا فاسد؛ لأنه لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود، وقد قامت دلائل شرعيةٌ مفرقةٌ مقررةٌ لما في كتب الفقه، فلا يجوز العدول عنه لعدم اطلاع الباحث على غنيمةٍ وجد جميع تلك الجزئيات فيها.
وما نظير من يتعلق بهذا الخيال إلا من يقول: لا يشترط نية الصلاة ولا ترتيب أركانها، ولا يشرع فيها مجافاة المرفق عن الجنب في الركوع والسجود وتسوية الظهر في الركوع، والافتراش في الجلوس بين السجدتين(1/44)
والدعاء فيه، وغير ذلك من الأمور الشرعية في الصلاة بالإجماع؛ لأن مجموعها لم ينقل في حديثٍ واحدٍ عن صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا صلاة أحدٍ من أصحابه ولا من بعدهم.
ولو فتش المفتشون وتظاهر المعتنون على أن يجدوا حديثاً يجمع جميع ما يشرع في الصلاة، لم يجدوه، ولا يلزم من هذا أن لا يكون ذلك مشروعاً؛ لأنه ثابتٌ بأدلةٍ صحيحةٍ لمفرداته، وإذاً تثبت الجملة بمجموع تلك الأحاديث.
وهكذا القول في قسمة الغنيمة.
فإن قال هذا القائل: قد روى موسى بن عقبة في ((المغازي)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم لنساءٍ حضرن خيبر كما قسم للرجال، وهذا مخالفٌ لما يقوله الفقهاء: من أن النساء يرضخ لهن ولا يسهم لهن، ومقتضاه: أن الإمام يتصرف بحسب المصلحة.
قلنا: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وغيرهما من أصحاب السنن.
وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الخطابي قال: إسناده ضعيف لا تقوم بمثله حجة. وإذا(1/45)
لم تقم بمثله حجةٌ لو لم يخالف غيره، فكيف وهو مخالف للحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذي النساء من الغنيمة، فأما سهمٌ فلم يضرب لهن بسهم)) رواه مسلم في ((صحيحه)).
ومعنى ((يحذي)): يعطي، وهو الرضخ.
الجواب الثاني: إن ثبت، كان محمولاً على الرضخ. وقوله: ((قسم للنساء كما قسم للرجال)) يعني: سوى بين الصنفين في أصل العطاء لا في قدر المعطى.
ويؤيد هذا التأويل: حديث ابن عباس الذي ذكرناه.
فإن قيل: قد ثبت في الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم أسهم من غنائم خيبر لجعفر بن أبي طالب ورفقته أصحاب السفينتين، وهذا مما تعلق به القائل المذكور.(1/46)
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنها قضية عينٍ فلا حجة فيها لما ادعاه القائل المذكور.
الثاني: أن هذا الإعطاء محمولٌ على أنه كان برضا الغانمين. وقد جاء في ((صحيح البخاري)) ما يؤيده. وفي رواية البيهقي التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم المسلمين، فأشركوهم في سهمانهم.
فإن قال القائل المذكور: إن الخمس ليس بواجبٍ الآن؛ لأن ابن جريرٍ نقل ذلك عن بعض الناس. قال: وإنما كان واجباً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
قلنا: هذا غلطٌ من قائله وناقله الساكت عن توثيقه، وأقبح من ذلك من جعله عمدةً له في منابذة الكتاب والسنة وإجماع الأمة في وجوب(1/47)
الخمس في كل الأزمان، وقد سبق بيان الآية والأحاديث في التخميس، وقد نقلوا الإجماع فيه كما سبق.
فإن قيل: كيف يصح نقل الإجماع مع مخالفة من حكاه عنه ابن جرير؟
قلنا: هذا خلاف باطلٌ؛ لأنه لو ثبت عمن يعتد بقوله في الإجماع، لكان محجوجاً بإجماع من قبله، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز إحداث قولٍ مخالفٍ لإجماع سابقٍ مستقر.
فإن قيل: لو أفتى مفتٍ في هذه الأزمان بعدم وجوب الخمس استرواحاً إلى هذه الحكاية لابن جرير، أمصيبٌ هو أم مخطئٌ؟
قلنا: مخطئٌ ومنابذٌ للنص والإجماع.
فإن قال هذا القائل: قد صح عن ابن عباسٍ في ((صحيح مسلم)) ((أن نجدة الحروري كتب إليه يسأله عن الخمس: لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: إنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذاك)).
قلنا: هذا حجةٌ عليه لا له؛ لأن ابن عباس يرى الخمس واجباً، وأنه يجب صرف خمس الخمس إلى ذوي القربى كما يقوله الشافعي وموافقوه،(1/48)
لكن بعض ولاة الأمر لا يرى ذلك، بل يرى كرأي مالكٍ وغيره: أن الخمس واجبٌ، ويجب صرفه فيمن يراه الإمام من الأصناف الخمسة المذكورين في الآية الكريمة، بحيث لا يصرف في غيرهم.
وهذا الذي قاله ابن عباس وبعض ولاة التخميس، مبطلٌ لدعوى هذا القائل المتمسك به.
وهذا النوع من عجيب الأدلة، وهو: أن تكون شبهة الخصم حجةٌ ظاهرةٌ عليه.
وليس في حديث ابن عباس أن قومه قالوا: لا يجب التخميس من أصله، كما يدعيه هذا القائل.
فإن قال: أراد ابن عباسٍ بقومه الذين أبوا ذلك: الخلفاء الراشدين، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قلنا: ليس في حديث ابن عباس ما يقتضي ذلك ولا ما يدل عليه، بل يحتمل أنه أراد بقومه من بعد الخلفاء الراشدين؛ وذلك لأن نجدة الحروري إنما سأل ابن عباس بعد وفاة الخلفاء الراشدين ببضعٍ وعشرين سنة.
ففي رواية أبي دود التصريح بأنه سأله في فتنة ابن الزبير، وكانت فتنة ابن الزبير بعد بضع وستين من الهجرة، وكانت وفاة علي رضي الله عنه ليلة الجمعة، لثلاث عشرة مضت من رمضان سنة أربعين.(1/49)
وإذا كان الأمر هكذا، فكيف يحل لأحدٍ أن ينسب هذا إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويقطع به عليهما بصيغة الجزم، وأن ابن عباس أرادهما ونسب ذلك إليهما؟!
ولو ثبت ذلك عنهما، لم يكن فيه دلالةٌ لما يرويه هذا القائل، بل يكون جوابه ما قدمناه، وهو أنهما لم يخالفا في أصل التخميس، بل في صرفه، ونحن لا ننكر الخلاف في مصرفه، وإنما ننكر على من يقول: لا تخميس أصلاً، كما تبوح به هذا القائل.
فإن قيل: ففي ((سنن أبي داود)) بإسناد صحيح: ((أن نجدة الحروري حين حج في فتنة ابن الزبير، أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى، ويقول: لمن تراه؟ فقال ابن عباس: لقربى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقنا، فرددناه عليه وأبينا أن نقبله)).
قلنا: ليس في هذه مخالفةٌ لما قلناه، وقد قال الشافعي-رحمه الله: يجوز أن ابن عباس أراد بقوله: ((أبى ذلك علينا قومنا)) من بعد الصحابة، يزيد بن معاوية وأهله.
فإن قال: فقد روي عن أبي بكرٍ وعمر أنهما أسقطا سهم ذوي القربى.
قلنا: جوابه ما سبق، وهو أنه لو صح ذلك عنهما لم يلزم منه عدم التخميس، بل يصرف إلى غيرهم من الأصناف الأربعة.
ويا عجباً لمن يخالف الإجماع! كيف يحتج بمثل هذا على رد(1/50)
الإجماع؟! وكيف لا يخفى عليه أنه لا يلزم من منع سهم ذوي القربى منع أصل التخميس؟!
وما أعتقد احتجاج من يحتج بهذا إلا من لطف الله تعالى وحمايته لهذا الدين الكريم، وأن من نابذ إجماع حملته، لا يقدر على حجة، ولا يلهم شبهةً تتجه.
قال الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم خذلان من خذلهم)).
فإن قال هذا القائل: قد روي أن عمر وعلياً رضي الله عنهما اتفقا على تفرقة سهم ذوي القربى في مصالح المسلمين.
قلنا: هذا احتجاجٌ فاسد؛ لأنهما لم يتفقا على إبطال التخميس كما يقوله القائل المذكور، بل صرفاه في بعض مصارف الخمس، وهذا غير محل النزاع الذي نحن فيه.(1/51)
فإن احتج هذا القائل: بأن كثيراً من العلماء قالوا: مال الفيء ومال الغنيمة شيءٌ واحد، وحينئذٍ يجب حمل آيتي الفيء والغنيمة على أن ذلك مردودٌ إلى رأي الإمام.
قلنا: هذا احتجاجٌ باطلٌ لوجهين:
أحدهما: أن من يدعي الاجتهاد المطلق والتمسك بالحجج الشرعية فيما يرومه من مخالفة الإجماع، كيف يصح اعتماده في ذلك على تقليده لبعض العلماء المخالفين للجمهور في جعل الفيء والغنيمة شيئاً واحداً؟
الثاني: أنه لو ثبت كونهما شيئاً واحداً، لم يلزم من ذلك عدم تخميس الغنيمة المنصوص عليه في الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
فإن قيل: آية الغنيمة مخصوصةٌ بالإجماع؛ لأنه يخص منها السلب والنفل؛ فإنهما لا يخمسان عند الشافعي، والعام إذا خص، لم يبق قطعي الدلالة.
قلنا: أما قوله في السلب فصحيح.
وأما قوله في النفل فباطل، بل الصحيح من مذهب الشافعي والراجح عند أئمة أصحابه: أن التنفيل الآن يكون من خمس الخمس.
وأما قوله: لم يبق قطعي الدلالة، فكون الدلالة قطعيةٌ ليس بشرطٍ في الفروع الظنيات، والله أعلم.(1/52)
(فصل) فإن قال صاحب هذه المقالة: إن الغلول من الغنيمة إنما يحرم إذا كانت الغنيمة تقسم على الوجه المشروع، فإن تغير الحال وعلم التصرف في الأموال جوراً، جاز لمن ظفر بقدر حقه أن يتملكه ويكتمه، ولو حلف عليه مورياً كان مصيباً محسناً.
ثم وصل هذا القائل بهذا اللفظ أن قال: وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علياً إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس، فأخذ منه جاريةً، وأصبح ورأسه يقطر، فقال خالد لبريدة بن الحصيب: ألا ترى ما يصنع هذا؟ قال بريدة: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((فإن له في الخمس أكثر من هذا)).
قال هذا القائل: فقد قبض علي من الخمس ما لم يعينه النبي صلى الله عليه وسلم له، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حقه من الخمس، فكذلك من الغنيمة، من أخذ منها حقه جاز.
قلنا: هذا القول مشتملٌ على أباطيل من أوجهٍ:
أحدها: أنه قولٌ مخترعٌ لمجرد دعوى لا برهان لها، وليس كل مدعٍ تقبل دعواه لمجرد قوله.
الثاني: أن مجموع قوله مع استشهاده بقضية علي رضي الله عنه يقتضي أنه نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه يتصرف خلاف التصرف الجائز، وأنه(1/53)
إنما جاز لعلي أخذ الجارية؛ لأنه لا يصل فيما بعد إلى حقه؛ لعدم القسمة الشرعية، وأنها إنما تقسم جوراً.
وهذه جسارة ممن يتعمدها من قبائح الكبائر، وإن لم يتعمدها فصورتها قبيحة، ويا ليت قائلها مثل بغيرها، وما أدري أي سببٍ أوقعه في الاحتجاج بها في هذا الحكم الذي ادعاه.
ولولا ضرورة خوف الاغترار به، لما تجاسرت على حكايته.
والصواب عندنا في قصة علي رضي الله عنه: أنه ظن أنه يجوز لمن له حق في مال مشتركٍ، الاستبداد بقسمته، وأخذ قدر حقه من غير قسمة إمامٍ ولا اجتماع المستحقين، فأخذ الجارية لنفسه بهذا التأويل.
وعذره النبي صلى الله عليه وسلم في أخذها بهذه الشبهة وقال: ((إن له في الخمس أكثر منها)).
ولا يمتنع خفاء مثل هذا على علي رضي الله عنه؛ فقد خفي عليه وعلى غيره مسائل مثل هذه أو أظهر قبل استقرار الأحكام، ولا نقص عليه في خفاء مثل هذا؛ فإنه ليس مما يدرك بالضرورة، ولا هو مما اشتهر من دين الإسلام في ذلك الوقت.
وليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أقر الجارية لعلي، ولو أقرها كان ابتداء تقرير، لا أنه صحح أخذه أولاً.
وليس في الحديث أن علياً وطئها، وأما قوله: ((فأصبح ورأسه يقطر))، فلا يلزم منه أنه وطئها، وكيف يحل اعتقاد أنه وطئها مع وجوب الاستبراء؟(1/54)
الثالث من الأباطيل: أنه جزم بأنه يأخذ قدر حقه مستبداً به. وهذا غلطٌ فاحش، والصواب: أنه إنما يجوز أن يأخذ -من المشترك الذي تعذرت قسمته-، قدراً يعلم أن كل واحدٍ من الغانمين وأهل الخمس قد وصل إليه مثل نسبة حقه، كما قلنا فيما لو ورث جماعةٌ مالاً أو اتهبوه أو شروه صفقةً وغصب ذلك، وسلم إلى بعضهم قدر حقه، فإنه لا يجوز الاستبداد به، بل يلزمه أن يوصل إلى شركائه قدر حصصهم مما وصله. وهذا من القواعد المقررة المعروفة.
الرابع: قوله: ((لو حلف عليه مورياً كان محسناً))، وما دليل هذا الإحسان في هذا الفعل؟ وبماذا صار هذا الحلف راجحاً على تركه كما يدعيه هذا القائل؟ والله أعلم.
فصل: إن قيل: ما تقولون في بلدٍ للكفار قصده عسكرٌ للمسلمين، فهرب المقاتلون منه، فوجدوا فيه النساء والصبيان والعامة من الرجال والدواب والأثاث، فغنموا ذلك، فهل هذا غنيمةٌ أم فيءٌ تفريعاً على مذهب الشافعي والجمهور في الفرق بين الفيء والغنيمة؟
قلنا: هو غنيمة؛ لأن الغنيمة: ما أخذ بإيجاف الخيل والركاب، والفيء: ما تركوه وجلوا عنه خوفاً من المسلمين، ونحو هذا، وقد وجدت صفة الغنيمة في هذا المسؤول عنه.
فإن قيل: لو قال قائل: إن هذا المسؤول عنه فيءٌ على مذهب الشافعي وموافقيه، وزعم هذا القائل أنه يجوز التصرف فيه من غير تخميسٍ؛ لكونه فيئاً.(1/55)
قلنا: هذا غلطٌ من وجهين:
أحدهما: أن هذا المذكور ليس فيئاً، وإنما هو غنيمة كما ذكرنا.
والثاني: أن الفيء والغنيمة في وجوب التخميس [متفقان]، وإنما يختلفان في مصرف الأخماس الأربعة، والله أعلم.
فصل: إن قيل: ما طريق من صار في يده شيءٌ من الغنيمة المذكورة بشراء أو استيلاءٍ أو هديةٍ من بعض الناس ونحو ذلك؟
قلنا: طريقه: ما ذكره الشيخ أبو محمدٍ الجويني، في آخر كتابه ((التبصرة)) والأصحاب: أنه إن علم المستحقين له وتمكن من الرد إلى جميعهم، رده إليهم، وإن عجز لزمه دفعه إلى القاضي كسائر الأموال الضائعة، ويفعل فيها القاضي ما يفعله في الأموال الضائعة، والله أعلم.
فصل: قال الشيخ أبو محمدٍ في ((التبصرة)): لو غزت طائفةٌ وغنمت وليس فيهم أميرٌ من جهة السلطان يقسم غنيمتهم، فحكموا رجلاً منهم أو من غيرهم حتى قسمها بينهم.
فإن قلنا بالأصح -وهو جواز التحكيم- صحت هذه القسمة، بشرط كون المحكم أهلاً للحكم، وإلا فلا.(1/56)
فصل: قال الشيخ أبو محمد: لو أعتق بعض الغانمين جاريةً من الغنيمة من غير قسمةٍ صحيحة، وهو موسرٌ، عتقت حصته وسرى العتق إلى الباقي في الحال على المذهب الصحيح.
فإن أراد تزويجها، فالاحتياط أن ينضم إذن الحاكم إلى إذن المعتق في التزويج؛ لأنه حصة الخمس منها.
[و] إذا عتقت إنما تعتق على أحد الأقوال للشافعي بعد دفع القيمة، فالاحتياط: أن يدفع قيمة خمسها إلى الحاكم ليصرفها مصرف الخمس.
فإن كان معه شركاء في القسمة، دفع قيمة حصصهم إليهم إن كانوا حاضرين معلومين، وإن كانوا غائبين لا يعرفون دفع حصصهم إلى الحاكم يفعل فيها ما يفعل في أموال الغائبين المجهولين.
وإنما أمرنا بضم إذن الحاكم إلى إذن المعتق؛ مخافة أن يكون بعض الغانمين الغائبين أعتق حصته قبل إعتاق هذا الغانم، فيكون ولاؤها لغائبٍ، وولاية تزويجها -حينئذٍ- للقاضي.(1/57)
قال الشيخ أبو محمد: وإذا كان أبضاع السراري على هذا الحال في عصرنا، فالاحتياط اجتنابهن مملوكاتٍ وحرائر، والله أعلم.(1/58)