[مسألة: باع أمة وابنا لها قد كانت ولدته عنده]
مسألة وسئل سحنون عمن باع أمة وابنا لها قد كانت ولدته عنده فأقام في يدي المشتري، ثم ادعى البائع أنه ابنه؛ قال: إن كان حين ولد عنده لم يكن له نسب معروف، فإن القول قوله، وينفسخ البيع بينهما، ويلحق به النسب، وتكون به أم ولد؛ قلت: أرأيت إن أقام في يديه حتى ولد له في يد المشتري، ثم جني عليه جناية خطأ فمات، فادعاه البائع؛ قال: فالقول قوله إذا كان له ولد، لأنه يلحق به النسب، ولا يتهم أن يكون إنما رجا أن يجر المال إلى نفسه، ألا ترى لو أن رجلا لاعن امرأته ولها ولد، ثم ولد لذلك الولد ولد، ثم جني على ابن الملاعنة، فادعى أنه ابنه؛ أنه يلحق به النسب، ويثبت له الميراث، ولا يتهم أن يكون إنما أراد أن يجر إلى نفسه الميراث، وإنما يتهم إن لم يكن له ولد، لأنه إذا لم يكن له ولد، فإنما أراد أن يجر الميراث إلى نفسه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أنه لا يتهم في استلحاق الولد إذا كان له ولد وإن كان قد جني عليه جناية (فمات منها) يجب له باستلحاقه حظه من ديته، إن كان ابنه حرا، أو جميع الدية إن كان عبدا، لأن استلحاقه لولده بعد موته، استلحاق لولد ولده، واستلحاق النسب يرفع التهمة في الميراث على ما قاله في استلحاق الولد الذي لاعن به بعد أن جني عليه جناية مات منها؛ لأن استلحاق ولد الولد يرفع التهمة عنه في ميراث ولده إن كان له مال، وفي ديته إن كان قتل خطأ أو عمدا على القول بأنه مخير في العمد(14/281)
بين أن يقتل أو يأخذ الدية؛ وقد مضى قبل هذا في هذه النوازل في استلحاق الملاعن ولده بعد موته ما فيه بيان هذه المسألة؛ وأما إذا استلحق الولد الذي باع مع أمه وقد كان ولد عنده ولم يكن له نسب وهو حي، فلا اختلاف في أنه يلحق به، ويفسخ البيع فيه؛ ويرد إليه ولدا وأمه أم ولد - وإن كان الولد قد أعتق وينتقض العتق، وقيل إنه لا ينتقض، إلا أن يتهم في الجارية بميل إليها، أو زيادة في حالها، أو يكون معدما؛ فيمضي بما ينوبها من الثمن، ويرد الابن بما ينوبه منه، ويتبع به دينار في ذمته إن لم يكن له مال، وقيل: إنها ترد مع ابنها وإن اتهم فيها، إلا أن يكون معدما؛ وقيل: إنها ترد مع ابنها، وإن كان معدما، ويتبع بالثمن دينا في ذمته، إلا أن يتهم فيها، وكذلك إن باعها وهي حامل فولدت عند المشتري إلى ما يلحق في مثله الأنساب، ولم يطأ المشتري ولا زوج؛ وإذا رد الولد دون الأم لاتهامه فيه، أو لعدمه على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك، فيكون على البائع في الولد قيمته يوم يرد إليه، وقد مضى القول على هذا مستوفى في سماع يحيى من كتاب الاستبراء، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في ثلاثة أولاد من أمته أحدهم ولدي]
مسألة وسئل سحنون عن رجل قال في ثلاثة أولاد من أمته: أحدهم ولدي، قال: الصغير منهم حر على كل حال؛ لأنه إن كان المستلحق الكبير، فالأوسط والصغير حران، بحرية أمهم وإن كان الأوسط، فالصغير حر أيضا؛ وإن كان الصغير، فالكبير والأوسط عبدان؛ فالصغير حر على كل حال، وإنما الشك في الكبير والأوسط ولهما تفسير.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول عليها(14/282)
مستوفى، فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[: أربع بنات استلحقت إحداهن أخا]
ومن كتاب المدنيين وسئل ابن القاسم عن أربع بنات استلحقت إحداهن أخا، أو استلحقت أخا وأختا؛ قال: إن استلحقت أخا لم يكن عليها غرم، لأنه لو ثبت نسبه، كان حقه فيما صار في يد العصبة؛ ولو استلحقت أخا وأختا نظر إلى أصل الفريضة لو كان الأخ معهم فأكمل لها، ثم نظر إلى ما فضل في يديها فرددته، فكان بين الأخ والأخت على فرائض الله؛ لأن الأخ لو كان لا يدخل مع الأخت، ثم كانت هي وارثة وحدها فكان لها النصف فأقرت بأخ وأخت؛ لا ينبغي أن يكون فضل ما تفضله أن لو ثبت نسبها للأخت دون الأخ حتى يستتم الثلثان، فليس هو كذلك؛ ولكن الإقرار بينهما جميعا يقتسمونه على فرائض الله؛ وأصل هذا أن ينظر ما لو ثبت نسبه ببينة فكأن يكون بين جميع من ثبت له البينة على فرائض الله، وكذلك كل من أقر لهم في فضل ما في يديه يرجع عليهم على فرائض الله، وكل من أقر بشيء يكون ما أقر له ليس في يديه فضل أن لو ثبت نسبه فلا ينقص من حقه شيء، ويكون حقه فيما ورث العصبة من ذلك؛ هذا ما سمعت، وهو مما لا اختلاف فيه؛ وقال ابن كنانة: ذلك للأخت دون الأخ، لأن(14/283)
حق الأخ فيما بين العصبة لم يصر إليها منه شيء؛ قال: ولو أنها إذا استلحقته كان معها قبل ذلك أخ قد كان ورث معها، ثم استلحقت هذا بعد؛ فإنه إذًا يأخذ مما بيدها قدر ما ينوبه، لأن له في يديها حقا قل ذلك أو كثر، من أجل الأخ الذي معها قبل ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في الأربع بنات إذا استلحقت إحداهن أخا لم يكن عليها غرم؛ لأنه لو ثبت نسبه كان حقه فيما صار في يدي العصبة هو المشهور في المذهب، وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى ذكر الاختلاف في ذلك، ووجه القول فيه؛ فقوله في آخر المسألة في هذا: هذا ما سمعت، وهو مما لا اختلاف فيه، ليس بصحيح، لما قد ذكرناه من الاختلاف في ذلك، وأما قوله ولو استلحقت أخا وأختا نظر إلى أصل الفريضة لو كان الأخ معهم- يريد لو كان الأخ والأخت معهم، لأنها إنما أقرت بهما جميعا، فما فضل في يديهما مما يجب لها على الإنكار لهما على ما يجب لها على الإقرار بهما، كان بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، هذا قول ابن القاسم - وهو الصحيح في النظر، بدليل ما احتج به في الرواية، وظاهر قول ابن كنانة أن الفضل الذي يراه ابن القاسم بين الأخ والأخت، هو الذي يراه هو للأخت دون الأخ، وذلك مما لا يصح أن يحمل على ظاهره، وإنما معناه أن ما فضل بيدها على الإنكار لهما جميعا على ما يجب لها على الإقرار بها وحدها يكون لها؛ فمحصول قوله أن إقرار الواحدة من البنات الأربع بأخ وأخت، كإقرارها بأخت لا أكثر سواء، والذي في الواضحة أيضا في هذا(14/284)
مشكل، وهذا بيانه، إذ لا يصح في النظر خلافه؛ وقول ابن كنانة هذا خلاف ما حكيناه عنه في رسم العتق من سماع عيسى من أن المقر به من الورثة يرجع على من أقر به منهم أو على من أنكره، على التفسير الذي ذكرناه هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: تقر بعد وفاة زوجها أنها قد كانت أحلت جارية لها لزوجها]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم
قال: وسألت ابن القاسم عن المرأة تقر بعد وفاة زوجها، أنها قد كانت أحلت جارية لها لزوجها، وأن ولدها هذا منه، هل تعتق هي وولدها عليها؟ فقال ابن القاسم: نعم، ولا تقوم عليه في ماله، ويمنعها الولد من الربع، لأنها استلحقته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، ورأيت لابن دحون أنه قال فيها: والجارية لها مملوكة، لأنها لما أقرت أنها أباحتها لزوجها فهو زنى يدرأ فيه الحد بهذه الشبهة؛ ولو كان معها شاهدان بإقرار الزوج على ذلك، لأخذت قيمتها من ماله، وعتقت عن الميت، لأنها أم ولده؛ فإذا لم يكن إلا دعوى الزوجة، فالجارية باقية على ملكها، والابن حر، (بإقرارها) أنها أباحتها لزوجها وتدفع ما أقرت له به وهو الثمن وليس ذلك عندي بصحيح، بل قول ابن القاسم أنها تعتق هي وولدها عليها هو الصحيح، ولا تقوم عليه في ماله، إذ لا يعرف ذلك إلا من قولها، فهي مدعية في القيمة، لإقرارها أن الواجب أن تعتق عليه، ويؤخذ منه لها القيمة، وبالله التوفيق.(14/285)
[مسألة: يقران بأخ أنه أخوهما ولهما إخوة]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الأخوين يقران بأخ أنه أخوهما ولهما إخوة، قال: يثبت نسبه بشهادتهما.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن النسب يثبت بإقرارهما جميعا إذا كانا عدلين؛ لأن النسب يثبت بشهادة شاهدين، وشهادتهما جائزة، إذ لا تهمة عليهما فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: المولى عليه يستلحق أخا]
مسألة وسألت ابن القاسم عن المولى عليه يستلحق أخا أيلزمه في ماله ما يلزم غيره؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قوله (إن) المولى عليه إذا استلحق أخا لا يلزمه في ماله ما يلزم غيره، ظاهره مثل المشهور من قول مالك أن المولى عليه لا تجوز أفعاله وإن كان حسن النظر، إذا أطلق القول ولم يقيد ذلك بشرط أن يكون سيئ النظر، خلاف المشهور من قوله أن أفعاله جائزة إذا كان حسن النظر لنفسه- وإن كان مولى عليه، وبالله التوفيق.
[: يقر للرجل أنه أخوه أو ابن عمه]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ قيل لأصبغ: الرجل يقر للرجل أنه أخوه أو ابن عمه- وهو صحيح أو مريض) وكيف لو أقر به أو استلحقه عند الموت؟ فقال: فلان وارثي، أو فلان أخي، أو فلان ابن عمي أو لا وارث لي(14/286)
إلا فلان؛ فقال: إذا أقر الرجل بأحد هؤلاء الذين ذكرت في صحة أو مرض، فإن كان له وارث يعرف من قرابته أو مواليه، فلا يجوز إقراره، ولا استلحاقه واحدا من هؤلاء من قريب ولا بعيد إلا الولد - ولد الصلب بخاصة، فإن الرجل يستلحق في حياته وعند موته ولدا إذا زعم أنه ولد صلبه دنية، ولا يتهم فيه- كان له ولد من صلبه غير الذي استلحق، أو أخوه، أو عصبة، أو موالي، فاستلحاقه جائز إذا زعم أنه ولد لصلبه، قوله فيه مقبول، وهو فيه مصدق؛ وأما إذا كان له أخ وابن عم أو موالي أو عصبة معروفة ثابتة، فأقر لرجل من الناس أنه أخوه، أو أنه) ابن عمه، أو أنه ابن أخيه، أو أنه وارثه، أو أنه مولاه؛ فإقراره باطل لا يجوز، ولا يثبت له نسب، والعصابة المعروفة من القرابة والموالي المعروفين، أولى بالميراث من هذا المستلحق، لا يحجب ولا يرث شيئا إذا كان ثم وارث معروف؛ وليس بقوله أن هذا وارثه أو أخوه، يحجب أهل الميراث المعروفين عن حقهم؛ لأن الأخ لا يستلحق، ولا يستلحق إلا الولد دنية للصلب؛ قال: وهذا إذا كان له وارث ثم معروف، فأما لو أن رجلا لا وارث له يعرف من قريب، أو مولى نعمة، فأقر بأخ أو ابن عم أو مولى أو أقر لرجل أنه وارثه، أن إقراره جائز، والمقر له له الميراث إذا أحاط به، كان إقراره في صحة أو مرض، لأنه لا يتهم ههنا أن ينزع الميراث من وارث معروف إلى هذا المقر(14/287)
له الذي لا يعرف إلا بقوله، فالميراث للمقر له المستلحق حتى يأتي وارث معروف النسب أو الولاء، مثل ما لو أن رجلا لا وارث له يعلم، فحضرته الوفاة فقال: فلان أخي، أو فلان وارثي، أو ابن عمي، أو مولاي أعتقني أو أعتق أبي، كان ميراثه للمقر له، إلا أن يأتي وارث يعرف، أو مولى، فيكون أولى بالميراث من هذا المقر له، وهذا المقر له أيضا إذا لم يكن له وارث يعرف، ليس يعطى المال على أن نسبه ثابت بإقرار الميت في صحة أو مرض، نسبه (غير) ثابت على كل حال، كان ثم وارث غيره أو لم يكن، وإنما يعطى المال إذا لم يكن ثم وارث معروف بأن الميت أقر بأنه أولى الناس بماله، فبهذا يعطاه، وليس بأن نسبه ثابت باستلحاقه إياه؛ قلت: فإن أقر بهذا الرجل أنه وارثه- وله ورثة معروفون، ولم يمت المقر حتى مات أوراثه المعروفون الذين كانوا يدفعون المقر له، أيجعل المال لهذا المقر له؟ قال: نعم، لأنه ليس له وارث معروف يدفعه، فكأنه إنما أقر له الساعة ولا وارث له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة، وما تقدم في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وقد مضى من الكلام عليه- ما فيه بيان لهذه المسألة؛ ورأيت لبعض أهل النظر أنه قال: مساواة أصبغ في هذه الرواية بين أن يقول فلان وارثي، أو فلان أخي، أو فلان ابن عمي، خلاف قول ابن القاسم في المدونة، إذ لم يجز(14/288)
شهادة الشهود للرجل أن فلانا مولاه دون تفسير حتى يقولوا مولاه أعتقه؛ وليس مذهب ابن القاسم أن شهادتهم لا تجوز بحال حتى يقولوا أعتقه، وإنما معناه أنها لا تجوز إذا سئلوا فأبوا أن يفسروا؛ فالواجب عنده أن يسألوا عن تفسير ما به شهدوا، فإن فات ولم يسألوا حتى فات سؤالهم، جازت الشهادة، بدليل قوله وأقر الميت أن هذا مولاه، أو شهدا على شهادة أحد أن هذا مولاه؛ وأما أن يقولا هو مولاه ولا يشهدان على عتقه، ولا على إقراره، ولا على شهادة أحد، فلا أرى ذلك شيئا؛ وهو قول أشهب أنه إن لم يقدر على كشفهم حتى ماتوا جازت الشهادة، وقضى بها في المال وغيره، وسحنون لا يجوز الإقرار بحال، لأن بيت المال عنده كالنسب القائم. والذي أقول به في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم إذا قال: فلان وارثي فلم يفسر شيئا حتى مات، أن يكون له جميع الميراث، لأن الظاهر من قوله فلان وارثي، أنه المحيط بميراثه؛ وهذا فيمن يظن به أنه لا يخفى عليه من يرثه ممن لا يرثه؛ وأما الجاهل الذي لا يعلم من يرثه ممن لا يرثه، فلا يرثه بقوله فلان وارثي حتى يقول هو ابن عمي أو ابن ابن عمي، أو ابن عم عمي، أو ابن ابن عم عمي، أو مولاي أعتقني، أو أعتق أبي، أو أعتق من أعتقني، أو (من) أعتق أبي، أو ولد من أعتقني، أو (من) أعتق أبي، أو من أعتق من أعتقني، وما أشبه ذلك؛ وكذلك إذا قال: فلان أخي قاصدا بذلك إلى الإشهاد بالميراث، مثل أن يقول: أشهدكم أن هذا أخي يرثني، إن مت، ومثل أن يقال له: هل لك وارث فيقول: نعم هذا أخي، وما أشبه ذلك، وأما إن قال على غير سبب: هذا أخي، أو فلان أخي- ولم يزد على ذلك، فلا يرث من ماله إلا السدس، لاحتمال أن يكون أخاه لأمه، ولو لم يقل هذا أخي، ولا فلان أخي؛ وإنما سمعوه يقول: يا أخي يا أخي، لم يجب له بذلك(14/289)
ميراث، لأن الرجل قد يقول أخي، أخي- للرجل الذي لا قرابة بينه وبينه- يقر به بذلك إلا أن تطول المدة السنين بأن يدعو كل واحد منهما (صاحبه) باسم الأخوة أو العمومة، فيكون ذلك حيازة للنسب، ويتوارثان بذلك، ويشبه- على قول سحنون الذي تقدم له في نوازله- ألا يكون له الميراث بقوله فلان أخي، أو فلان وارثي- حتى يفسر، إذ قد قال- وهو المشهور من مذهبه - أنه لا ميراث له وإن فسر، لأن بيت المال كالنسب القائم، وبالله التوفيق.
[مسألة: استلحق ولد ولد فقال هذا ابن ابني وابنه ميت]
مسألة قلت فإن استلحق ولد ولد فقال: هذا ابن ابني- وابنه ميت، هل يلحق به إذا كان له وارث معروف، كما يلحق به ابنه لصلبه؛ قال: لا، ولد الولد في هذا بمنزلة الأخ، والعصبة، والمولى، لا يجوز له استلحاقه إذا كان له وارث معروف، مثل ما أخبرتك في الأخ وغيره، وذلك أن ابنه الذي زعم أن هذا ولده لو كان حيا فأنكر أن يكون ابنه، لم يكن للجد أن يستلحقه، ولا يلحق بولده ولدا هو له منكر، ولا يلحق بالجد إلا أن يقر به الأب؛ فلهذا لم يكن للجد أن يستلحق ابن ابنه، كما يستلحق ابنه بصلبه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يجوز للرجل أن يلحق بولده ولدا هو له منكر، وقد قيل: إن الجد إذا استلحق ولد ولده لحق به، لأنه مقر بنسب بنوة لحقت به، حكى ذلك أبو إسحاق التونسي في كتابه، وليس(14/290)
ذلك بصحيح إلا على الوجه الذي نذكره، وذلك أن استلحاق الجد على وجهين، فإن قال: هذا ابن ولدي، أو ولد ابني، لم يصدق؛ وإن قال: أبو هذا ابني، أو والد هذا ابني صدق؛ والأصل في هذا أن الرجل إنما يصدق في إلحاق ولد فراشه، لا في إلحاق ولد فراش غيره، وهذا ما لا ينبغي أن يختلف فيه، وقد مضى في نوازل سحنون ما فيه بيان هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: كان له ورثة موالي أو غير ذلك من الأوراث]
مسألة قلت له: فإن كان له ورثة موالي، أو غير ذلك من الأوراث، فقال لرجل من الناس: هذا أخي- وهو صحيح أو مريض؛ هل يثبت نسبه؟ قال: نعم، إذا كان الذي زعم أنه أبوه- مقرا له بذلك، فإن نسبه ثابت منه، وذلك أن الأب هو الذي استلحقه- وهو مقر له بأنه ابنه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال من أنه لا يثبت نسبه إلا بإقرار الأب له بذلك وهو مما لا اختلاف فيه، إذ لا يجوز للرجل أن يلحق بغيره ولدا هو له منكر باتفاق، وقد مضى بيان ذلك في المسألة التي قبلها، وبالله التوفيق.
[: هلك وترك ابنة وأختا وادعت الابنة أنه هلك مسلما وهي مسلمة]
ومن نوازل أصبغ قيل لأصبغ: رجل هلك وترك ابنة وأختا وادعت الابنة أنه هلك مسلما وهي مسلمة، وادعت الأخت أنه هلك نصرانيا- والأخت نصرانية، ولا يعرف في أصل على كفر؛ فقال أصبغ: إن هاتين كلتاهما إنما تدعيان النصف، ولأن الأخت لا ترث إلا النصف،(14/291)
والنصف الآخر على أي ذلك كان للميت، فهو لغيرهما؛ فهما يدعيان في النصف فأراه بينهما بعد أن يتحالفا، ويكون النصف الآخر لجميع المسلمين.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن كانت الأخت لا تدعي إلا النصف، وأما إن ادعت الكل- وقالت من ديننا أن ترث الأخت الجميع وصدقها في ذلك أهل دينها من الأساقفة، فيكون ذلك حكم المال يدعي أحد الرجلين أو المرأتين نصفه، والثاني جميعه، فيكون لمدعي النصف الربع، ولمدعي الكل الثلاثة الأرباع- على المشهور من مذهب ابن القاسم، ولمدعي النصف الثلث، ولمدعي الكل الثلثان- على المشهور من مذهب مالك، إذ قد روي عن كل واحد منها مثل قول الآخر، والله الموفق.
[مسألة: هلك وترك ابنا وابنة فادعى الولد أنه هلك مسلما]
مسألة قلت: فلو هلك وترك ابنا وابنة، فادعى الولد أنه هلك مسلما، وادعت البنت أنه هلك نصرانيا، فقال: يكون لابنه الربع لأنها تدعي النصف وقد أسلمت النصف الآخر ولم تدع فيه، ويكون للابن ثلاثة أرباع، لأنه يدعي المال كله.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة على قياس قوله في المسألة التي قبلها من أن الابنة تدعي نصف المال وعلى المشهور من مذهب ابن القاسم؛ وعلى المشهور من مذهب مالك، يكون المال بينهما أثلاثا، للابن الثلثان، وللابنة الثلث، وذلك بعد أيمانهما جميعا في هذه المسألة، وفي التي قبلها؛ فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان للحالف منهما ما ادعاه، فإن نكلا جميعا، كان ذلك كحلفهما جميعا؛ ولو ادعت الابنة الكل على ما ذكرناه في المسألة التي قبلها، لكان المال بينهما بشطرين بعد أيمانهما قولا واحدا، وبالله التوفيق.(14/292)
[مسألة: هلك وترك ولدين قد بلغا وابنا صغيرا فقال أحدهما هلك أبونا مسلما]
مسألة قلت: فلو هلك وترك ولدين قد بلغا وابنا صغيرا، فقال أحدهما: هلك أبونا مسلما، وقال الآخر: نصرانيا؛ فقال أصبغ: كلاهما مقر للصغير بالنصف، فالنصف له كاملا ويجيز على الإسلام، ولهما جميعا النصف، قال سحنون: فإن مات الصبي قبل البلوغ، حلفا جميعا واقتسما ميراثه؛ وإن مات أحدهما قبل بلوغ الصبي، فإن كان للميت ورثة معروفون، كانوا أحق بميراثه، وإن لم يكن له ورثة أخر، فإذا كبر الصبي يوما ما فادعاه كان له.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: فإن مات الصبي قبل البلوغ حلفا جميعا واقتسما ميراثه، مفسر لقول أصبغ في أن ميراث الصبي إذا مات قبل البلوغ، يقتسم أخواه المسلم والنصراني ميراثه بينهما بنصفين، ولا اختلاف بينهما في هذا؛ لأن كل واحد منهما يدعي أنه على دينه، فهو أولى بميراثه، ومخالف له في وجهين، أحدهما ما يكون له معهما من ميراث أبيهم، والثاني هل يجبر على الإسلام بعد بلوغه، أو يكون له أن يختار أي دين شاء، فلسحنون في كتاب ابنه أنهما يحلفان جميعا، ويوقف للصغير ثلث ما بيد كل واحد منهما حتى يكبر فيدعي مثل دعوى أحدهما، فيأخذ ما وقف له من سهمه، وهو ثلثه، يريد ويأخذ مما بيده تمام نصفه، لاستوائهما جميعا في الدعوى بعد يمينه، ويرد إلى الآخر ما وقف له من سهمه؛ فإن ادعى إذا كبر أن أباه كان على دين ثالث، أخذ ما وقف له من نصيب كل واحد منهما بعد يمينه أيضا، ووجه هذا القول، أنه لما كان الصغير(14/293)
لا يعرب عن نفسه، وقفنا له ثلث المال، لاحتمال أن يدعي جميعه بدين ثالث يدعي أنه كان عليه أبوه، ولأخويه الكبيرين ثلثان، ثلث لكل واحد منهما لتساويهما في الدعوى، ثم يقول كل واحد منهما لصاحبه: تخل لنا عن ثلثك، إذ لا حق لك في الميراث إذ مات أبونا على خلاف دينك، وليس أحدهما بالسعد من صاحبه في هذه الدعوى، فيبقى ثلث كل واحد منهما بيده؛ وقد بين أصبغ وجه قوله في الرواية بما لا مزيد عليه، فإن مات الصغير قبل البلوغ، حلفا جميعا واقتسما الثلث بينهما بنصفين على ما قاله سحنون في الرواية، إذ لا يختلفان في هذا، وقول سحنون في الرواية إذا مات أحد الكبيرين، أنه إن كان له ورثة كانوا أحق بميراثه، وإن لم يكن له ورثة، وقف ميراثه إلى أن يكبر؛ فإن ادعاه، كان له؛ ليريد أنه إن اختار دين الميت منهما، كان له ميراثه الذي وقف له- استحسان على غير حقيقة القياس، وكان القياس أن يوقف له قدر حظه من الميراث إذا كان له ورثة، كما يوقف له جميعه إذا لم يكن له ورثة، والذي يأتي في هذا على مذهب أصبغ الذي يرى أن يجبر على الإسلام، ألا يوقف له الميراث؛ ويتخرج الحكم له به على قولين، أحدهما: أنه يحكم له بحكم الإسلام من أجل أنه يجبر عليه، ولا يترك على النصرانية، فيرث المسلم ولا يرث النصراني، والثاني: أنه لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يبلغ ويجيب إليه، أو يجبر عليه، فلا يرث واحد منهما، إذ لا يدري هل هو مسلم أو نصراني من أجل أنه تبع لأبيه في الدين، ولا يعرف دين أبيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي وترك أخوين وترك امرأته حبلى]
مسألة قيل لأصبغ: رجل توفي وترك أخوين، وترك امرأته حبلى، فولدت غلاما؛ فقال أحد الأخوين: ولدته ميتا ولم يستهل؛ وقال الآخر: بل ولدته حيا وقد استهل صارخا، وقالت المرأة: ولدته حيا واستهل؛ فقال: ابدأ بالإقرار فأعطهم عليه على أنه استهل، فللمرأة(14/294)
إذا استهل ثمن الميراث وهو ثلاثة من أربعة وعشرين، ويبقى من المال أحد وعشرون قيراطا لابنها، فلها من ميراث ابنها ثلثه، وهو سبعة من أحد وعشرين، فصار لها عشرة، ويبقى من المال أربعة عشر بين الأخوين لكل واحد منهما سبعة، سبعة، وعلى الإنكار، لها ربع ميراث زوجها إذا خرج الصبي ميتا، وهو ستة من أربعة وعشرين، ويبقى من المال ثمانية عشر بين الأخوين، لكل واحد منهما تسعة، تسعة، على الإنكار؛ فقد أخذ الأخ الذي أنكر سبعة في الإقرار، ويبقى له سهمان يرجع لهما على المرأة، فيصير له تسعة، ويبقى للمرأة ثمانية؛ لأنه مرة يصير لها ربع الميراث- وهو ستة من أربعة وعشرين، ومرة يصير لها ثمن من أربعة وعشرين، وهو ثلثه، وثلث أحد وعشرين، وهو سبعة وذلك عشرة، فلها نصف ما بين هذا وهذا؛ فصار لها ثمانية، وللأخ الذي أقر سبعة، فاستقامت على أربعة وعشرين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن الزوجة التي ادعت أن ابنها استهل تقول: لي ميراثي في زوجي الثمن ثلاثة أسهم من أربعة وعشرين، وميراثي في ابني الذي استهل وهو ثلث ما بقي بعد ثمني وذلك سبعة أسهم، فجميع مالي عشرة أسهم، وليس لواحد منكما إلا ميراثه في ابن أخيه وهو ولدي الذي استهل- وذلك سبعة أسهم، سبعة أسهم- لكل واحد منكما، فيقول المنكر منهما لاستهلال الولد بل ليس لك إلا الربع وهو ستة أسهم من أربعة وعشرين لي نصف الباقي-(14/295)
وهو تسعة أسهم، فيأخذ المنكر لاستهلال الابن من الأخوين تسعة أسهم، ويقال للمقر منهما باستهلال (الابن) ليس لك إلا سبعة أسهم ميراثك في الابن، فادفع السهمين إلى الزوجة إلى الستة الأسهم التي لها في ميراث زوجها، إذا لم يستهل الولد يكون بيدها ثمانية أسهم؛ ولو أقر الأخ الآخر لدفع إليها أيضا سهمين، فاستوفت بهما جميع حقها الواجب لها على استهلال الولد- وذلك عشرة أسهم؛ وأقل ما تنقسم منه هذه الفريضة أربعة وعشرون كما ذكر، لأنه يحتاج فيها إلى إقامة ثلاث فرائض: فريضة على إنكار الاستهلال من أربعة، من أجل أن للزوجة الربع- إذا لم يستهل الولد، وفريضة على الإقرار بالاستهلال من ثمانية من أجل أن للزوجة الثمن- إذا استهل المولود، وفريضة ميراث الولد من ثلاثة، من أجل أن للأم الثلث، فيستغنى عن الأربعة بالثمانية، ويضرب ثلاثة في ثمانية يكون أربعة وعشرين، منقسمة على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقر في صحته بأخ ثم يقر بعد زمان بولاء لرجل]
مسألة قيل لأصبغ: ما تقول في الرجل يقر في صحته بأخ ثم يقر) بعد زمان بولاء لرجل ثم يموت؛ وكيف إن كان أقر بالولاء قبل إقراره بالأخ، وكيف إن كان أقر بالأخ أولا ثم ثبت الولاء بعد ذلك ببينة؛ قال: أرى النسب أولى على كل حال، كان هو الأول أو الثاني.
قال محمد بن رشد: قوله أرى النسب أولى على كل حال، لا يعود(14/296)
على قوله في السؤال: وكيف إن أقر بالأخ أولا ثم ثبت الولاء بعد ذلك ببينة؟ إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز الإقرار بوارث إلا إذا لم يكن للميت وارث معروف بنسب وولاء، وإنما يعود على الإقرار بالولاء وبالنسب، فرأى النسب أولى على كل حال، تقدم أو تأخر، ومعنى ذلك عندي إذا قال: فلان مولاي ولم يقل أعتقني، لأنه إذا قال: أعتقني ثبت له بذلك الولاء والميراث، فوجب أن يكون أولى من الإقرار بالنسب؛ وإذا لم يقل أعتقني، فلا يكون له بإقراره بأنه مولاه إلا الميراث- قاله سحنون؛ فهاهنا يصح أن يكون الإقرار بالنسب أولى من الإقرار بالولاء تقدم أو تأخر؛ وكذلك على قياس هذا لو قال: فلان ابن عمي، وفلان أخي؛ لوجب أن يكون الأخ أولى بالميراث تقدم أو تأخر، لأن الإقرار بهذا وهو بمنزلة إقامة البينة على هذا وهذا؛ وقرر ابن الماجشون الإقرار بالولاء أولى من الإقرار بالنسب، من أجل أن الولاء ثبت بالإقرار، كما يثبت به نسب الولد الملحق، ولم يشترط ابن الماجشون أن يقول في إقراره به، أعتقني، فظاهر قوله أن الولاء يثبت بالإقرار- قال أعتقني أو لم يقل، وسنزيد هذه المسألة بيانا في نوازل سحنون من كتاب الولاء إذا وصلنا إليها إن شاء الله، وبه التوفيق.
تم كتاب الاستلحاق بحمد الله وحسن عونه، والصلاة الكاملة على سيدنا مولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(14/297)
[: كتاب الولاة] [المولود يتنفس ولم يستهل صارخا وهلك وهلكت أمه قبله فهل يرثها]
(كتاب الولاة) من سماع ابن القاسم من كتاب مرض وله أم ولد
وسئل مالك عن المولود يمكث يوما وليلة وهو حي فيما يرون يتنفس- وأكثر من ذلك- ولم يستهل صارخا، وإن عطس، وإن رضع، وهلك وهلكت أمه قبله، فهل يرثها؟ وإن لم يستهل أو لم يتحرك، فهل يرث؟ قال مالك: لا يرث ولا يورث، ولا يصلى عليه، حتى يستهل صارخا؛ قال سحنون: الرضاع يدل على حياة الصبي، ولا يمكن أن يرضع إلا بعد الاستهلال؛ قلت: فلو بال؟ قال: قد يبول الميت يخرج منه، وكذلك تحريكه لا يعد حياة، ألا ترى أن تحريكه في بطن أمه لا يعد شيئا.
قال محمد بن رشد: اتفق أهل العلم على أن المولود لا يرث ولا يورث ولا يصلى عليه، إلا أن يولد حيا، وعلامة حياته الاستهلال بالصراخ؛ بدليل الحديث: «ما من مولود إلا طعن الشيطان في خاصرته، ألا تسمعون إلى(14/299)
صراخه، إلا عيسى ابن مريم، فإنه لما جاء طعن في الحجاب» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فإذا استهل المولود صارخا علمت حياته) ، وإذا لم يستهل صارخا لم يعتبر بحركته، لأن المقتول من بني آدم يتحرك بعد القتل، وقد كان يتحرك في بطن أمه، فلم يعتد بتلك الحركة؛ وكذلك بوله إن بال لا يعتد به، ولا يعد ذلك حياة له، لأن الميت قد يبول، فليس بوله على عادة الأحياء، وإنما يخرج البول منه باسترخاء المواسك بالموت، وأما إن رضع وعطس) فقول سحنون: إن الرضاع يدل على حياته، ولا يمكن أن يرضع إلا بعد أن يستهل صحيح، وعبد العزيز بن أبي سلمة يقول ذلك في العطاس، فقيل: إن سحنون فرق بين الرضاع والعطاس، لاحتمال أن يكون ما سمع من عطاسه ريح خرجت منه؛ والصحيح ألا فرق بينهما، إذ لا يشبه العطاس خروج الريح منه، وكذلك التنفس أيضا يدل على الحياة، ولا يمكن أن يكون إلا بعد الاستهلال، بدليل الحديث الذي ذكرناه، فوجب ألا يحمل قول مالك في هذه الرواية على ظاهره من أنه لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث إذا كان لم يستهل، وإن تنفس وعطس ورضع، لأن نفسه وعطاسه ورضاعه (دون أن يستهل) خرق للعادة التي أجراها الله بما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خرق هذه العادة في عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإنما المعنى في ذلك أنه لما سئل عن المولود يولد فيمكث يوما وليلة وأكثر من ذلك يتنفس ويعطس ويرضع ولم يستهل؛ رأى(14/300)
ذلك من المحال الممتنع فقال إنكارا على السائل وردا لقوله: لا يرث ولا يورث، ولا يصلى عليه حتى يستهل؛ بمعنى أن ذلك لا يصح أن يكون إلا بعد الاستهلال، وقد قال بعض العلماء على طريق الإنكار لهذا السؤال الذي إنما يقصد به إلى تلبيس وإبطال الحديث، لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل وإن طعن بالرمح وضرب بالسيف وقاد الجيوش، فإذا شهد من تقبل شهادته بأن المولود أقام يوما وليلة وأكثر من ذلك يتنفس ويعطس، ويرضع، ولم يستهل، أجيزت شهادتهم وحمل أمرهم على أنهم لم يسمعوا استهلاله بالصراخ الذي هو علامة حياته، وجاءت السنة بأنه لا يصلى عليه حتى يستهل صارخا بعد أن يولد؛ فقد يكون خفيفا لا يسمعه من لَهَا واشتغل، وقد قال عبد الوهاب في المعونة: وعلامة الحياة هي الصياح أو ما يقوم مقامه من طول المكث إذا طال به مدة يعلم أنه لو لم يكن حيا لم يبق إليها، ومعنى قوله: إنه إذا شهد على ذلك كان كالشهادة على استهلاله، للعلم بأن ذلك لا يكون منه إلا بعد أن يستهل، قال: ولا يصلى عليه إلا أن يستهل صارخا، تحرك أو لم يتحرك، خلافا لأبي حنيفة والشافعي؛ لأن الصلاة إنما هي على من عرفت حياته قبل موته، وبالله التوفيق.
[: رجل من مصر يغيب إلى المدينة فيموت بها]
ومن سماع أشهب من كتاب الأقضية وسئل مالك عن رجل من أهل مصر يغيب إلى المدينة فيموت(14/301)
بها، أترى أن يقسم ورثته بمصر ماله إذا علموا بموته، أم يؤخروا ذلك حتى يعلموا أتزوج في غيبته أم لا؟ فقال: إن شك في أمره لم يقسم ورثته ميراثه حتى يعلم ذلك، وإن استوقن ولم يشك فيه، قسم ميراثه بين ورثته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إن شك في أمره بسبب أدخل عليهم الشك في ذلك، لم يقسم ميراثه حتى يبحث عن ذلك، ويوقف على الحقيقة فيه بالكتاب إلى ذلك البلد وهو محمول على أنه لم يتزوج فيه حتى يعلم أنه قد تزوج فيه فيؤخر قسم ميراثه حتى تحضر أو توكل، أو يقسم لها القاضي ويوقف لها حظها، وقد مضت هذه المسألة في سماع أشهب من كتاب العتق وتكررت ها هنا، وبالله التوفيق.
[: يقول عند موته فلان مولاي ولا يقول أعتقني ولا ولد له]
ومن نوازل سحنون وسئل سحنون عن الذي يقول عند موته: فلان مولاي ولا يقول أعتقني ولا ولد له، فهذا يكون له الميراث ولا يكون له الولاء، إلا أن يقول أعتقني، قيل لسحنون: فلو كان في الصحة فقال: فلان مولاي لم يزل بذلك مقرا حتى مات ولا يذكر أنه أعتقه؛ فقال: إقراره في الصحة والمرض سواء، له الميراث ولا يكون له الولاء؛ قيل لسحنون فلو أن رجلا كان مقرا في حياته أن فلانا مولاه، فلما مرض قال: فلان ابن عمي لرجل آخر- ولا وارث له، أو قال: ابن عمي ولم يقل(14/302)
لأب وأم، ثم مات؟ قال: لا يكون له شيء ولا يرثه بالشك والميراث للمولى، لأنه قد انعقد له الولاء؛ قيل له: فإن قال: فلان مولاي في مرضه ثم قال بعد ذلك: فلان ابن عمي ولا وارث لي غيره- ثم مات، قال: يؤخذ بإقراره الأول ولا يكون للذي أقر به أنه ابن عمه شيء؛ قيل: فأقر بذلك في صحته ولا يعرف ذلك إلا بقوله، وهل يفترق إن كان إقراره بالولاء قبل إقراره بالأخ؟ قال: إذا لم يعلم ذلك إلا بقوله، فالنسب أولى من الولاء؛ وإذا كانت البينة على الولاء وأقر بالنسب، كان الولاء أقرب من النسب.
قال محمد بن رشد: هذه مسائل ملتبسة غير بينة المعاني، فأنا أذكر أصلها الذي تبنى عليه وترد بالتأويل إليه، الأصل في ذلك عنده على مذهبه، أنه إذا أقر فقال: فلان مولاي أعتقني، ثبت له بذلك الولاء، وكان بمنزلة إذا قامت عليه البينة، يكون إقراره له بذلك أولى من الإقرار بالنسب تقدم أو تأخر، كان في الصحة أو المرض؛ وإن قال: فلان مولاي ولم يقل أعتقني، وجب له بذلك الميراث، ولم يجب له به الولاء؛ كان ذلك من إقراره أيضا في الصحة أو في المرض، فإن أقر مع هذا بنسب لرجل آخر، كان النسب أولى من الولاء- تقدم أو تأخر؛ كان في الصحة أو في المرض. فقوله: قيل لسحنون فلو أن رجلا كان مقرا في حياته أن فلانا مولاه، معناه أنه كان مقرا في حياته أن فلانا أعتقه؛ فلذلك قال: إنه أحق من الذي أقر له في مرضه، بأنه ابن عمه؛ وأن الميراث له؛ لأنه قد انعقد له الولاء. وقوله بعد ذلك: فإن قال: فلان مولاي في مرضه، ثم قال بعد ذلك: فلان ابن عمي لا وارث لي غيره، ثم مات؛ أنه يؤخذ بإقراره الأول، ولا يكون للذي أقر به أنه ابن عمه شيء، معناه أيضا أنه قال في مرضه: فلان مولاي أعتقني. فقوله: إنه(14/303)
يؤخذ بإقراره الأول، إنما قاله من أجل أنه قد انعقد له الولاء بقوله: أعتقني ليس من أجل أنه أقر بذلك أولا. وقوله: قيل له فأقر بذلك في صحته ولا يعرف ذلك إلا بقوله لم يقع له جواب، والجواب في ذلك على ما أصلناه من مذهبه وبيناه، أنه إن كان لم يقل أعتقني، فإقراره بالنسب أولى على كل حال- وإن كان إقراره بالولاء متقدما في صحته؛ وإن كان قال: أعتقني، فهو أولى من إقراره بالنسب- تقدم أو تأخر. وقوله لما سأله هل يفترق- إن كان إقراره بالولاء قبل إقراره بالأخ، أنه إذا لم يعلم ذلك إلا بقوله، فالنسب أولى من الولاء؛ معناه إذا لم يقل أعتقني. وقوله: إنه إذا كانت البينة على الولاء وأقر بالنسب، كان الولاء أقرب من النسب- صحيح؛ وكذلك على ما أصلناه وبيناه من مذهبه: لو لم يكن على الولاء بينة، وقال في إقراره به: أعتقني؛ لكان الولاء أولى من النسب المقر به، فهذا بيان مذهب سحنون في هذه المسألة، وابن الماجشون يرى الإقرار بالولاء أولى من الإقرار بالنسب، من أجل أن الولاء يثبت بالإقرار، كما يثبت به نسب الولد المستلحق؛ ولم يشترط ابن الماجشون أن يقول في إقراره به: أعتقني، فظاهر قوله أن الولاء يثبت بالإقرار- وإن لم يقل أعتقني؛ وظاهر قول أصبغ في نوازله من كتاب الاستلحاق، أن الولاء لا يثبت بالإقرار، وإن قال: أعتقني، فرددناه هناك بالتأويل إلى مذهب سحنون ها هنا؛ وإن حملناه على ظاهره تحصل فيمن أقر بولاء لرجل وبنسب لآخر- ثلاثة أقوال، أحدها: أن النسب أولى من الولاء تقدم الإقرار به أو تأخر، كان في الصحة أو في المرض. والثاني: أن الإقرار بالولد أولى من النسب -تقدم الإقرار به أو تأخر، كان في الصحة أو(14/304)
في المرض. والثالث: أنه إن قال: أعتقني، كان أولى من النسب؛ وإن لم يقل أعتقني، كان النسب أولى منه -تقدم أو تأخر أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه من العبد) بإذن شريكه- والشريك لا مال له، أو له مال؛ فقال: أما من له المال، فإن العبد يعتق جميعه عليه، وإن لم يكن له مال، أعتق عليه نصيبه من العبد، ولم يعتق نصيب صاحبه؛ قلت: فإن مات العبد وترك مالا؟ قال: يرثه المتماسك بالرق دون صاحبه، فإن أعتق هذا العبد عبدا آخر بإذن هذا المتمسك بالرق، فمات هذا المعتق وترك مالا، قال: يرثه الرجلان جميعا الذي تمسك بالرق، ومولى العبد المعتق ولا مال له.
قال محمد بن رشد: قوله: إن ميراث ما أعتقه هذا العبد المعتق نصفه بإذن المتمسك بالرق (بين الذي تمسك بالرق وبين مولى العبد المعتق) لنصفه ولا ماله، هو قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه، خلاف قوله في رواية يحيى عنه- حسبما وقع من الروايتين جميعا في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب العتق، وقد مضى القول على ذلك (هنالك) فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(14/305)
[مسألة: توفي وترك ابنا خنثى وابن ابن خنثى أيضا]
مسألة وسئل عمن توفي وترك ابنا خنثى، وابن ابن خنثى أيضا، قال: فللأول ثلاثة أرباع المال، أصلها من أربعة وعشرين، فيقال لابن الابن: إن كنت ذكرا كان لك الربع الباقي كله، فخذ نصفه- وهو ثلاثة أسهم، ثم يقال له: لو كنت أنثى كان لك السدس فخذ نصفه وهو سهمان فيصير له خمسة ويفضل سهم من أربعة وعشرين للعصبة.
قال محمد بن رشد: بنى سحنون جوابه هذا على مذهب ابن القاسم في التداعي فأخطأ في بنائه عليه، وتفسير ما ذهب إليه: أن الابن يدعي جميع المال، لأنه يقول بأنه ذكر، وأن ابن الابن أنثى، وابن ابن الابن يدعي نصف المال لأنه يقول بأنه ذكر- وأن الابن أنثى؛ فيقال لابن الابن قد أقررت للابن بالنصف، فادفعه إليه، والنصف الثاني يقسم بينكما بنصفين لتداعيكما فيه؛ فيحصل للابن ثلاثة أرباع المال، ولابن الابن الربع؛ ثم يقول العصبة لابن الابن إنما لك من هذا الربع السدس، لأنكما جميعا أنثيان فيقول: بل هو لي كله، لأني ذكر فيحصل التداعي بينها في نصف السدس فيقسم بينهما فيحصل للعصبة ربع السدس، وهو سهم من أربعة وعشرين كما قال؛ وموضع الخطأ في هذا البناء تقديره فيه: أن العصبة(14/306)
تقول لابن الابن إنما لك من هذه الربع السدس، لأنها لم تقر لابن الابن بالسدس من الربع الباقي بيده؛ وإنما أقرت له بالسدس من النصف تكملة الثلثين، على أنهما جميعا أنثيان، والسدس الذي أقرت له به قد أخذ منه الابن نصفه بدعواه أنه ذكر، وهذا بين؛ والصحيح في بناء المسألة على مذهب ابن القاسم في التداعي أن الابن يقول لابن الابن وللعصبة أنتما مقران لي بالنصف غير منازعين لي فيه، لأني إن كنت أنثى فلي النصف، كنت أنت ذكرا على ما تدعي أو أنثى على ما تدعيه العصبة، فأسلماه إلي، فيأخذ النصف ستة من اثني عشر، ثم يقول ابن الابن للعصبة أنتم مقرون لي من هذا النصف بالسدس تكملة الثلثين لأنكم تدعون أني أنثى فأسلموه لي، فيأخذ منه السدس سهمين، ويبقى بأيدي العصبة الثلث أربعة أسهم، ثم يرجع الابن فيقول لابن الابن هذا السدس الذي بيدك هو لي لأني ذكر، فيقول له بل هو لي، لأنك أنثى فيقسم بينهما، فيأخذ منه سهما ويبقى بيده سهم، ثم يرجع إلى العصبة فيقول لهم هذا الثلث الذي بأيديكم هو لي لأني ذكر، فيقول له العصبة بل هو لنا، لأنكما جميعا أنثيان، فيقسم بينهما فيأخذ منهم سهمين من الأربعة الأسهم فيكمل له ثلاثة أرباع المال، لأنه كان بيده النصف ستة أسهم، وأخذ من ابن الابن سهما واحدا، ومن العصبة سهمين فذلك تسعة أسهم من اثني عشر سهما، ثم يرجع ابن الابن على العصبة فيقول لهم هذان السهمان اللذان بأيديكما هما لي لأني ذكر، فتقول له العصبة بل هما لنا لأنكما جميعا أنثيان فيقسم بينه وبينهم بنصفين، فيأخذ منهم ابن الابن سهما واحدا، فيصير بيده سهمان وهو السدس، ويبقى بيد العصبة سهم واحد وهو نصف السدس، وكذلك يجب لهم نصف السدس والسدس لابن الابن، والثلاثة الأرباع للابن(14/307)
على ما رتبه أهل الفرائض في عمل الفريضة من إقامة أربع فرائض، فريضة على أنهما ذكران، وفريضة على أنهما أنثيان، وفريضة على أن الابن ذكر- وابن الابن أنثى، وفريضة على أن الابن أنثى وابن الابن ذكر، وضرب الفرائض بعضها في بعض إلا أن تتداخل وأضعافها أربع مرات، وقسمتها على الفرائض وأعطي كل واحد منهم ربع ما اجتمع له، لأن عملهم في مسائل الخنثى كلها إنما يخرج على مذهب ابن القاسم في التداعي؛ ويأتي في هذه على مذهب مالك في التداعي الذي يرى القسمة فيه على حساب عول الفرائض، أن يقسم المال بينهم أجزاء من أحد عشر، لأن الابن يدعي الكل، وابن الابن يدعي النصف، والعصبة تدعي الثلث؛ وعلى هذا القول قال ابن حبيب في ابن ذكر وابن خنثى: إن المال يقسم بينهما أسباعا، فلا يصح في المسألة إلا هذان القولان، أحدهما على مذهب مالك. والثاني على مذهب ابن القاسم وما سواهما خطأ، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بحرية كل جارية يشتريها إلا وطئها]
مسألة وقال: في رجل حلف بحرية كل جارية يشتريها إلا وطئها، فاشترى جارية من ذوات المحارم، وهو عالم أنها تحرم عليه أو جاهل، هل تعتق عليه في الأمرين جميعا؟ قال أصبغ: لا أرى عليه شيئا، ولا أرى مخرج يمينه في مثل هذا إلا فيمن يجوز له الوطء، فأما من لا يجوز وليس هذا الذي أراد، إلا أن يكون أغلق على نفسه بكل معنى، سحنون يقول إذا اشترى أما وابنتها صفقة واحدة- وقد حلف بهذه اليمين، فإنه إذا وطئ واحدة أعتقت الأخرى.(14/308)
قال محمد بن رشد: قول أصبغ في هذه المسألة صحيح على القول بمراعاة المقصد المظنون في الأيمان وحملها عليه، لا على ما تقتضيه الألفاظ وهو المشهور في المذهب، إلا أنه أصل مختلف فيه- أعني في المذهب؛ واختلف فيه قول ابن القاسم في المدونة من ذلك أنه قال فيمن حلف ألا يدخل على فلان بيتا فدخل عليه المسجد، أنه لا حنث عليه والمسجد بيت من البيوت، لأن الله عز وجل قد سمى المساجد بيوتا، فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] وقال فيمن حلف ألا يأكل لحما. فأكل لحم الحوت، أو ألا يأكل بيضا فأكل بيض السمك، أنه حانث، إلا أن تكون له نية- وإن كان لحم الحوت وبيض السمك ليس بلحم ولا بيض عند الناس في عرف كلامهم، واختلف في ذلك أيضا قول أصبغ، لأن قوله في هذه المسألة خلاف ما حكى عنه ابن حبيب من أنه من حلف أن يطأ امرأته الليلة فألفاها حائضا، ولم يعلم حين حلف أنها حائض؛ أنه حانث، ولا يبرأ إن وطئها، لأنه وطء فاسد، وهذا الاختلاف داخل في مسألة سحنون، فتفرقته بين المسألتين قول ثالث في المسألة؛ ووجهه أنه قد كان له أن يطأ التي لم يطأ منهما لو شاء، فصار قد قصد إلى ترك وطئها بوطء الأخرى، فهي استحسان، خارجة عن القياس على كل واحد من الأصلين، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغلامه إن جئتني بدينار كل شهر فأنت حر]
مسألة وسئل سحنون عن رجل قال لغلامه: إن جئتني بدينار كل شهر، فأنت حر، قال: ما أعرفه، وما هذا بشيء وهو عبد.(14/309)
قال محمد بن رشد: لما عم الشهور بقوله كل شهر، احتمل أن يريد حياة السيد، فيكون قوله وصية له بالعتق على هذا الشرط، وأن يريد حياة العبد؛ فلا يصح بذلك عتق، لأنه إنما أعتقه بعد موته؛ وعلى هذا حمل سحنون قوله، ولذلك قال: إنه عبد؛ والذي يأتي على أصولهم في هذه المسألة أن يسأل السيد ما أراد بذلك فيوقف عند قوله فيه، فإن لم يسأل حتى مات، لم يكن له وصية بعتق، لأن الوصايا لا تكون بالشك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لجارية له إن ولدت غلاما فأنت حرة]
مسألة وسئل عن رجل قال لجارية له: إن ولدت غلاما فأنت حرة، وإن ولدت جارية فأختك حرة، فولدت غلاما وجارية، قال: إن كان ولد الغلام أولا، فالأم حرة، وابنتها؛ وإن كانت الجارية أولا، فالأخت حرة، وإن لم يعلم أيهما ولد قبل، فالأم والأخت حرة، لأنا قد علمنا أن العتق قد وقع على واحد منهما، واعتقنا الابنة أيضا بالشك.
قال محمد بن رشد: قوله إن كان ولد الغلام قبل فالأم حرة وبنتها صحيح، لأنها عتقت بولادتها الغلام وهي حامل بالابنة، فوجب لها العتق بعتق أمها، إذ لا تلد حرة مملوكة، لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ذات رحم، فولدها بمنزلتها» . فلا يخرج من رحم الحرة إلا حر، وقد يخرج من رحم الأمة حر- يريد وتعتق الأخت أيضا بولادتها الابنة بعد الابن، وقوله: وإن كانت الجارية أولا فالأخت حرة- يريد وهي أيضا حرة بولادتها الابن(14/310)
بعد الابنة وقوله: وإن لم يعلم أيهما ولد قبل، فالأم والأخت حرة، لأنا قد علمنا أن العتق وقع على كل واحدة منهما يبين ما قلناه، وقد وقع في بعض الكتب: لأنا قد علمنا أن العتق وقع على واحد منهما بإسقاط كل، وهو خطأ في النقل والله أعلم، إذ لا يصح ألا يكون لوضعها الثاني منها حكم، إلا لو قال: أول ولد تلدينه، فإن كان ذكرا فأنت حرة، وإن كان أنثى فأختك حرة؛ وفي كتاب ابن حبيب وما حكاه الفضل بيان ما تأولنا عليه قول سحنون هذا. وقوله: واعتقنا الابنة أيضا بالشك، وهو على القول بالعتق في الشك، والاختلاف في ذلك في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: المكاتب يمرض وله ولد معه في الكتابة فيعتقه سيده]
مسألة وسئل سحنون عن المكاتب يمرض وله ولد معه في الكتابة، فيعتقه سيده لئلا يرث أباه، قال: عتقه إياه جائز، قيل له: فإن مات أبوه من مرضه؟ قال: لا يرث.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول سحنون هذا خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة في أن المكاتبين كتابة واحدة لا يجوز للسيد عتق أحدهما إلا برضى أصحابه الذين معه في الكتابة، لأن كل واحد منهم حميل بما على أصحابه، وكذلك من دخل على المكاتب في كتابته من ولده، ويحتمل أن يتأول قوله على ما في المدونة، فيقال: معناه إذا رضي بذلك الأب، فيجوز كما قال ويخرج عن الكتابة، فلا يرث أباه إن مات من مرضه، لخروجه عن كتابته، ويوضع عنه ما نابه منها، وهذا أولى من حمل قوله على ظاهره من الخلاف، وبالله التوفيق.(14/311)
[مسألة: مكاتبة ولدت من زنى ووطئها سيدها فأحبلها]
مسألة وسئل عن مكاتبة ولدت من زنى ووطئها سيدها فأحبلها، قال: لا يكون لها الخيار في أن تكون أم ولد، لأنها حينئذ تعتق على رق ولدها، وولدها لما ولدوا في الكتابة، صاروا مثلها.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح بين مثل ما في المدونة أن ذلك ليس لها إذا كان غيرها معها في كتابتها إلا برضاهم، قال سحنون فيها: ويكون معها ممن يجوز رضاه وولدها الذي ولدته من زنى في هذه المسألة ممن لا يجوز رضاه- لصغره فقوله هذا مثل قوله في المدونة ولو كان وطؤه إياها وإحباله لها بعد أن كبر ولدها من الزنى، لكان ذلك لها برضاه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لأمته كل ولد تلدينه فهو حر]
مسألة وسئل عن الرجل يقول لأمته كل ولد تلدينه فهو حر، هل يتسلط عليها البيع؟ فقال: أما من قال في الرجل يقول لغلامه أنت حر إذا قدم فلان، أنه يبيعه إذا شاء؛ فإنه يقول في مسألتك أنه يبيعها إذا شاء، وأما من قال في الغلام يكون موقوفا، فإنه يقول في هذه: إنه لا يبيعها حتى تيئس من الولد، ولا يحمل مثلها، وقد اختلف فيه.
قال محمد بن رشد: تنظيره للمسألة التي سئل عنها بالمسألة التي نظرها بها صحيح، لأن فلانا قد يقدم وقد لا يقدم، فليس بأجل آت على كل حال، فتلزم فيه الحرية باتفاق؛ وكذلك الجارية التي أعتق ما يكون لها من(14/312)
ولد قد يكون لها ولد وقد لا يكون، ولو سمى أجلا فقال لها: ما ولدت من كذا وكذا فهو حر، لما كان له أن يبيعها حتى يحل الأجل- كالمعتق إلى أجل، وأما إذا لم يضرب أجلا فلكلا القولين وجه من النظر، فوجه القول بأنه ليس له أن يبيع الأمة ولا العبد اتباع ظاهر اللفظ، ووجه القول بأن له أن يبيع كل واحد منهما الاعتبار بالمعنى وألا يحجر على أحد بيع عبده ولا أمته إلا بيقين، وبالله التوفيق.
[مسألة: غلام لرجل دخل في غلمان لرجل ثلاثة فأعتق صاحب الغلام غلامه]
مسألة وسئل عن غلام لرجل دخل في غلمان لرجل ثلاثة، فأعتق صاحب الغلام غلامه، أو كان قد أعتقه قبل أن يدخل بينهم، فيقال لصاحب الثلاثة: إن كنت تعلم غلمانك فأخرجهم، وإلا عتقوا كلهم، وليس له أن يقول لصاحبه أدخلت علي ضررا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن صاحب العبد لم يتعد فيما صنع من عتق عبده، لأنه تمحى منه بعتقه لما اختلط بعبد غيره، ووجب على صاحب الأعبد الثلاثة عتقهم، إذ لا يدري من هو الحر منهم، ولو مات واحد منهم، أو أعتقه، لما أعتق عليه الباقي منهم إلا على الاختلاف في العتق بالشك، وقد مضى هذا المعنى في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب العتق، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغلامه أنت حر إن لم أعتقك]
مسألة وسئل عن رجل قال لغلامه: أنت حر إن لم أعتقك، قال: يوقف عليه حتى يموت، فيعتق من ثلثه إن لم يعتقه حتى مات.(14/313)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو على المشهور في المذهب من أن الحالف ليفعلن فعلا ولا يضرب له أجلا، لا يحنث إلا بالموت، أو بفوات الفعل الذي حلف ليفعلنه بعد أن مضت من المدة ما كان يمكنه فيه فعله فلم يفعله، وقد مضى بيان هذا وذكر الاختلاف فيه في سماع أبي زيد من كتاب العتق، وفي غيره من المواضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لأربع جوار له كلما وطئت منكن واحدة فواحدة حرة]
مسألة وسئل سحنون عن رجل قال لأربع جوار له كلما وطئت منكن واحدة، فواحدة حرة؛ فوطئ واحدة، قال: يختار من الثلاثة واحدة للعتق، فإن لم يختر حتى وطئ أخرى، أعتق الباقيتين ولم يكن له خيار.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، أن له أن يختار واحدة من الثلاث البواقي إذا وطئ واحدة، ولا اختلاف في ذلك؛ وإنما يختلف إذا لم يختر شيئا حتى مات حسبما مضى من الاختلاف في ذلك، والكلام عليه في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب العتق؛ وأما قوله: إنه إذا لم يختر حتى وطئ أخرى، فإنه يعتق الباقيتين ولا يكون له خيار، ففيه نظر؛ والصواب: أن يختار أيضا اثنتين من الثلاث، لأن التي وطئ أولا باقية لم تعتق؛ فإن لم يختر أيضا حتى وطئ أخرى، فههنا يعتق الثلاث كلهن، لأنه قد وجب عليه عتق ثلاث ولم يبق له سوى التي وطئ آخرا غير الثلاث؛ ووجه ما ذهب إليه، أنه لم ير لمن وطئ منهن حقا في العتق، فقال: إنه إذا وطئ واحدة، ثم وطئ أخرى، لم يبق ممن له حق في العتق إلا اثنان، فوجب أن(14/314)
يعتقا جميعا، لأن عليه عتق واحدة منهما بوطء الأولى، وعتق الأخرى بوطء الثانية، وهو بعيد والله أعلم.
[مسألة: قال لسيد أبيه أعتقه وأنا أخدمك ما عشت]
مسألة وسئل عن رجل قال لسيد أبيه: أعتقه وأنا أخدمك ما عشت، فأعتقه على ذلك فخدمه الابن ثم عثر على مكروه ذلك؛ قال سحنون: العتق ماض والخدمة ساقطة، وليس عليه من قيمة أبيه شيء، وقال أبو زيد وأصبغ: يضمن الابن قيمة أبيه ويقاصه بما خدم في القيمة.
قال محمد بن رشد: قول أبي زيد وأصبغ هو الصواب، لأنه شراء فاسد، كما لو اشتراه منه بخدمته إياه حياته، فأعتق عليه ثم عثر على مكروه ذلك بعد أن خدمه الابن، لكان الحكم في ذلك ما قالاه من وجوب قيمة أبيه عليه إذ قد فات بالعتق، ويقاص في ذلك بما خدم، ولا وجه لقول سحنون - عندي، ولو كان العتق ماضيا كما قال والخدمة ساقطة، لوجب أن يرجع عليه بقيمة ما خدمه، فيذهب حق السيد في عتق عبده- وهو لم يعتقه- إلا على عوض، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق أمة واشترط عليها رضاع صبي]
مسألة قال سحنون: من أعتق أمة واشترط عليها رضاع صبي كانت حرة وسقط الشرط، لأنه لا يجوز أن يعتق عبدا ويشترط خدمته، ولكن يعتقها ويشترط عليها دنانير، ثم يستأجرها ليس بها، فإذا انقضت إجارتها قاصها.(14/315)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أنه لا يجوز للرجل أن يعتق عبده ويشترط عليه خدمة بعد العتق - قاله في المدونة وغيرها، ويجوز أن يعتقه على أن يشترط عليه دنانير بعد العتق؛ واختلف هل له أن يلزم ذلك العبد وإن كره، فقال مالك: ذلك له- وهو قوله في المدونة في الذي يقول- لعبده أنت حر بتلا وعليك كذا وكذا، أن ذلك يلزمه؛ واختلف في ذلك قول ابن القاسم في المدونة، فإذا أعتق أمته واشترط عليها دنانير برضاها، أو ألزمها إياها على القول بأن ذلك له؛ جاز ما قال سحنون من أن يستأجرها على الرضاع بإجارة ثابتة في ذمته، فإذا وجبت لها الأجرة بانقضاء أمد الرضاع، قاصها بذلك فيما له عليها من الدنانير التي اشترطها عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغلامه إن تركت شرب الخمر فأنت حر]
مسألة قال: ومن قال لغلامه: إن تركت شرب الخمر فأنت حر، فقال له بعد أيام: قد تركت شرب الخمر، أن ذلك ليس له حتى تعرف للعبد توبة عن شرب الخمر وحال حسنة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأن العبد مدع لما يوجب الحرية له، فلا يصدق في ذلك حتى يعرف صدقه، بظهور صلاح حاله، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في وصيته لغلامين له أطولكما عمرا فهو حر]
مسألة وعمن قال في وصيته لغلامين له: أطولكما عمرا فهو حر، قال: يحبس خراج أكثر الغلامين خراجا ويتقاضى الورثة خراج الآخر حتى يموت أحدهما فيكون للباقي في خراجه من مقر الخراج الموقوف، وإذا لم يحملهما الثلث عتق من كل واحد منهما ما يحمل الثلث، وما بقي يصير رقيقا للورثة.(14/316)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: من أنه إذا حمل الثلث العبدين جميعا، وجب أن تنفذ وصية الميت في أن تنفذ الحرية لأطولهما عمرا بأن يوقفا جميعا على الورثة، ويباح لهم أخذ خراج أقلهما خراجا، ويوقف خراج أكبرهما حتى يعلم موت أحدهما، أن الحرية تجب للآخر منهما؛ وأما إن لم يحملهما الثلث، فتحول الوصية ويرجع إلى أن يعتق من كل واحد منهما بقدر ما يحمل الثلث على ما قال؛ مثل أن يكون الثلث عشرين، وقيمة أحدهما عشرة، والثاني عشرون؛ فيعتق من كل واحد منهما ثلثاه، إلا أن يجيز الورثة الوصية، فيصنع في ذلك ما قاله إذا حملهما الثلث، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في مرضه غلامي حر فلم يزد على هذا]
مسألة وقال فيمن قال في مرضه: غلامي حر- فلم يزد على هذا فهو وصية، إلا أن يقول بتل، وكذلك ما وهب في مرضه إذا رجع فيه بعد أن صح، إلا أن يبتله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن المرض حال الوصية، فوجب أن يحمل قوله على أنه وصية، ويصدق إن صح وأراد الرجوع فيها، إلا أن ينص على التبتيل؛ وإنما يختلف إذا قال في صحته: عبدي حر بعد موتي، ولم يكن ذلك منه عند سفر، ولا على وجه يظهر منه قصده إلى الوصية؛ هل يصدق أنه أراد به الوصية فيكون له أن يبيعه، أو لا يصدق في ذلك ويحمل على التدبير، والقولان في المدبر من المدونة، ولا يدخل هذا الاختلاف في مسألتنا هذه، لما ذكرناه من أن المرض حال الوصية، وبالله التوفيق.(14/317)
[مسألة: قال لرجل ضربت غلامي فقال إن كنت ضربته فغلامي حر]
مسألة وفي رجل قال لرجل: ضربت غلامي، فقال: إن كنت ضربته فغلامي حر، فلم يكن ضربه إلا أنه خنقه، قال: هو حانث.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه حانث يريد فيما يحكم به عليه، ولا يصدق إن ادعى أنه نوى ذلك، ولو أتى مستفتيا غير مطلوب باليمين وادعى هذه النية، لصدق فيها.
[مسألة: واجر عبده ثم أعتقه]
مسألة ومن واجر عبده ثم أعتقه، فإن الكراء للعبد يرجع على السيد فيأخذه منه إذا عتق.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا خلاف ظاهر ما في كتاب العتق الثاني من المدونة وغيره- إن العتق إنما يقع بعد انقضاء أمد الإجارة، كالمعتق إلى أجل، والإجارة للسيد؛ وقال أشهب: يحلف بالله ما أراد عتقه إلا بعد انقضاء أمد الإجارة، فإن نكل عن اليمين، كانت الإجارة للعبد؛ وعلى هذا يختلف فيمن أكرى داره للعام، ثم باعها قبل تمام العام؛ فقيل: إن البيع ينعقد فيها من يوم عقداه، ويجب للمشتري من حينئذ، ويأخذ كراء بقية العام وقيل: إن (البيع فاسد، إلا كون يستثني البائع بقية المدة- وهذا إذا علم المبتاع بالكراء؛ وأما إذا لم يعلم، فالكراء له، وهو عيب- إن شاء أخذ الدار على ذلك، وإن شاء ردها. وقيل: إن الدار لا تجب له ولا بعد انقضاء أمد الكراء ولا شيء له في الكراء، إلا أن يشترطه فيجوز في قول، ويكون البيع فاسدا) وأما إن لم يعلم المبتاع بالكراء على هذا القول، فهو عيب إن(14/318)
شاء أن يلتزم الدار على أنه لا شيء له في الكراء، وإن شاء ردها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول اعتقوا كل عبد لي قديم]
مسألة وعن الرجل يقول: اعتقوا كل عبد لي قديم، فإنه يعتق من عبيده كل عبد تقادم مكثه عنده على ما يرى، ولا ينظر في هذا إلى سنة.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله: ولا ينظر في هذا إلى سنة، خلاف ما في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا أنه إن كان من عبيده من له عنده سنة وأكثر من سنة، ومن له عنده أقل من سنة، فلا عتق لمن كان له عنده منهم أقل من سنة، وإن لم يكن منهم من له عنده سنة فأكثر، فيعتق من له منهم عنده الستة أشهر، والخمسة، والأربعة، وأقل، وأكثر، ويحتمل أن يكون سحنون إنما تكلم على هذا الوجه، فلا يكون قوله مخالفا لقول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في وصيته أقدم رقيقي عندي أحرار]
مسألة قال أصبغ عن ابن وهب عمن قال: في وصيته أقدم رقيقي عندي أحرار، وعنده رقيق ولدوا عنده صغار، وقد اشترى بعد ذلك رقيقا؛ فقال: أقدم رقيقه عنده في المملكة يعتقون، لأنه لم يقل أكبر.(14/319)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: سافر بعبد لامرأته فباعه في سفره]
مسألة وقال سحنون في رجل سافر بعبد لامرأته، فباعه في سفره ثم رجع فوجد امرأته قد ماتت وأوصت بعتق ذلك الغلام- والثلث يحمله، ولا يعلم موضع الغلام ولا حي هو أو ميت، فإن المال يكون موقوفا أبدا إلى يوم الحساب، لأنه لا يدري لمن يكون حين لم يدر هل أدركه العتق أم قد كان مات قبل موتها؟ وكذلك لو استوفى أنه أدركه العتق قبل موتها، لوقف المال أبدا؛ وللسلطان أن يجتهد في ذلك رأيه، فإن رأى أن يضمن الزوج قيمته على أقرب عهدهم بالغلام وما كانت قيمته يومئذ، فعلى أن رآه أفضل؛ وكذلك قال أصحابنا في الذي يوصي بعتق غلام فلا يعلم موضع الغلام، أنه يقوم الغلام قيمة أقرب عهدهم به، فيحسب في ثلث مال الميت.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المال يكون موقوفا أبدا، يريد الثمن الذي باعه به الزوج، لأنه هو الذي يجب صرفه على المشتري إن وجد العبد فأعتق. وقوله: إلى يوم الحساب- يريد أن يؤيس من وجود العبد قبل ذلك، فإذا أيس من وجوده، فلا معنى لتوقيفه؛ فإن علم أنه مات قبلها، كان الثمن للورثة، وإن علم أنها ماتت قبله، جعل الثمن في عتق؛ وكذلك أن جهل ذلك، لأنه محمول على الحياة حتى يعلم موته، أو يمضي له من السنين ما لا يحيا إلى مثلها. وقوله: إن للسلطان أن يضمن الزوج قيمته على أقرب عهدهم بالغلام، وما كانت قيمته يومئذ، معناه أن رأى أن يضمن الزوج قيمته يوم باعه على ما عرف من صفته في أقرب عهدهم به، لأنه محمول على تلك الصفة التي عرف عليها حتى يعلم تغيره عنها؛ ومعنى ذلك إن كانت قيمته(14/320)
على هذه الصفة أكثر من الثمن الذي باعه له، فتكون الزيادة على الثمن الذي باعه به ميراثا للورثة؛ وأما الثمن الذي باعه به، فقد مضى ما يكون الحكم فيه من توقيفه، وهذا إذا لم يجعل الزوج كالوكيل لها، وحمل بيعه إياه على العداء منه عليها، وفي ذلك اختلاف؛ قال مالك في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات: هو سفيرها، فدل ذلك من قوله على أنه يحكم له بحكم الوكيل فيما باع لامرأته واشترى لها، ومثله من الدليل في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس، ووقع في سماع زونان من كتاب الدعوى والصلح ما يدل على أنه محمول في ذلك على غير الوكالة (حتى تعلم الوكالة) وصرف سحنون الأمر في القضاء بهذا إلى اجتهاد السلطان، يدل على أن مذهبه القول بتصويب المجتهدين وهو الصواب، وفي ذلك اختلاف معلوم، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في صحته لغلامين له نصفكما حر]
مسألة وسئل عن رجل قال في صحته لغلامين له: نصفكما حر، أنه يعتق من شاء منهما، ولو قال: أنصافكما حر، عتقا جميعا.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يقول في صحته لغلامين له: نصفكما حر، أنه يعتق من شاء منهما؛ بعيد في النظر، وشذوذ في القول؛ أنه إنما يكون له أن يعتق من شاء منهما إذا قال لهما: أحدكما حر، وأما إذا قال: نصفكما حر، فالواجب في ذلك على أصولهم، أن يعتق نصفهما بالسهم، كان ذلك في الصحة أو في المرض، أو في الوصية بعد الموت، غير أن ذلك إن كان في الصحة فخرجت القرعة على عبد قيمته أكثر من نصف قيمتهما، عتق عليه جميعه؛ إذ لا يصح التبعيض في عتق الصحيح إن خرجت القرعة على عبد قيمته أقل من نصف قيمتهما، عتقا جميعا. وقد قيل: إن قوله:(14/321)
نصفكما حر بمنزلة قوله: أنصافكما حر يعتقان جميعا، حكى ذلك ابن حبيب عن أصبغ، وأما إذا قال: أنصافكما حر في صحته، فلا اختلاف في أنهما يعتقان عليه جميعا؛ وقد مضى هذا في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب العتق، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت إن فعلت كذا وكذا فغلامي الذي لي على زوجي حر]
مسألة وسئل سحنون عن امرأة قالت: إن فعلت كذا وكذا فغلامي الذي لي على زوجي حر، فحنثت؛ قال: يعتق عليها إذا قبضته إن كان يحمله ثلث مالها. قال أصبغ في رجل حنث بعتق رقيقه وله رقيق قد أسلم فيها مضمونة، أو كانت امرأة لها على زوجها رقيق مضمونة، لا حنث عليها فيها؛ لأنها ليست (لها) بملك بعد ولاء له، ولم يقع حنثه على شيء بعينه، والضامن لها يأتي من حيث شاء، ولا أرى لها في الحرية نصيبا.
قال محمد بن رشد: في المدنية لابن القاسم من رواية عيسى عنه مثل قول سحنون، وزاد أنه للحالف يبيعه، ولا يهبه ولا يصالح عنه؛ فإذا قبضه، أعتق عليه؛ وقال ابن كنانة: إن قبضه أعتق عليه، وإن باعه ولم يقبضه سقط عنه الحنث فيه؛ ونص ما في المدونة: قال عثمان بن كنانة في امرأة تزوجت رجلا بنقد مسمى انتقدته، وبرأس موصوف- كالئا عليه، ثم حلف بالحرية؛ قال: إن قبضت ذلك الرأس من زوجها وقع الحنث عليها فيه، وعتق ساعة تأخذه، لأن ذلك قد كان وجب لها يوم حلفت؛ قال: وإن صالحت زوجها على عرض أو عين تأخذه منه في ذلك الرأس، لم يقع عليها فيه حنث، ولم تجبر على أخذ الرأس؛ قال عيسى بن دينار، قال ابن القاسم: أرى أن(14/322)
تجبر على أخذه ويعتق عليها؛ ولو كان لا يكون عليها عتق (إذا لم تأخذه ما كان عليها عتق) إذا أخذته، لأنه قد كان لها عليه ملك يجب عليها اليمين فيه- وإن كان مضمونا، فقد جرى فيه العتق وليس لها أن تبيعه، وكذلك الذي يسلف في عبد فيحلف بالحرية، ثم يحنث، أنه ليس أن يبيع ويجبر على أخذه ويعتق عليه، وقول أصبغ هو الذي يوجبه القياس والنظر، لأن العبد المسلم فيه ليس المسلم فيه مالكا له حتى يقبضه، ولو حلف قبل أن يقبضه أنه ما يملك عبدا، لما كان عليه حنث؛ فوجب ألا يحنث فيه إذا حلف بالحرية؛ وتفرقة ابن كنانة استحسان، وقول ابن القاسم إغراق فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغلامه اذهب بهذا الكتاب فاجعله في يد فلان وأنت حر]
مسألة وقال سحنون في رجل قال لغلامه: اذهب بهذا الكتاب فاجعله في يد فلان- وأنت حر، فذهب فألفاه قد مات، فوضعه في يده وهو ميت، قال: هو حر.
قال محمد بن رشد: إنما وجبت له الحرية بوصوله بالكتاب إليه دون توان ولا تفريط لا يجعله في يده، إذ ليس الغرض جعله في يده، إذ لو وجده حيا فوصل الكتاب إليه- ولم يجعله في يديه، لوجبت له الحرية؛ وكذلك إذا وجده قد مات، الحرية له واجبة- وإن وجده قد دفن فلم يجعله في يده، إذ لا معنى لجعله في يده وهو ميت، إلا أن يكون قد فرط في الوصول حتى مات- ولو لم يفرط لأدركه حيا، فلا تجب له الحرية إن قال الحالف: إنما أردت توصيل الكتاب إليه بعينه لغرض لي في ذلك، ولو كان غرضه في الكتاب يتم له بتوصيله إلى ورثته، لوجبت له الحرية، وبالله التوفيق.(14/323)
[: نذر عتق رقبة لله فأراد أن يعتق عبدا له في نذره]
من نوازل أصبغ سئل أصبغ عمن نذر عتق رقبة لله، فأراد أن يعتق عبدا له في نذره، فقال له: إذا سافرت لي سفرتين إلى موضع كذا، فأنت حر عن نذري، أو إذا أخدمتني سنة فأنت حر عن نذري الذي جعلت لله علي؛ قال: لا أراها مجزية، وأراها ناقصة؛ قال: ولو كان قال له: أنت حر إلى يومين أو ثلاثة عن نذري، وما يشبهه مما ليس فيه كبير خدمة ولا مؤنة، رأيتها مجزية، لأن هذا كالبتل، وقال أصبغ: أرى الشهر كثيرا في العتق إلى أجل - يريد سيده انتزاع ماله إذا تدانا حلول عتقه بالشهر ينتزعه إن شاء، وذلك أن الشهر في هذا ليس بمشرف على العتق، والشهر يكون حدا من الحدود، فضلا في أنواع العلم؛ من ذلك الذي يحلف لينتقلن، فينتقل فيؤمر ألا يرجع حتى يقيم شهرا، ومن ذلك الزكاة لا تقدم قبل الحول بشهر، فكذلك هذا- عندي- له الانتزاع في الشهر، وأراه كثيرا؛ وقد يجرح في مثل هذا فيكون جرحه للسيد ولا يكون له، ويكون ذلك أمرا بينا لا ريبة فيه من ظلم من قضاء، ولو تقارب عتقه اليوم واليومين بجرح لا يشكل على أحد أن يكون جرحه له، ويقضى له به؛ لأنه قد أوفى وأشرف على العتق كشروف المدبر بمرض سيده المرض المقرب للموت، فاستدل بهذا وأشباهه، والأول غير مشكوك، والورثة مقام السيد لما يكون له وعليه.(14/324)
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله؛ لأنه إذا أعتقه بعد أن يسافر له سفرتين، أو بعد أن يخدمه سنة، فهو عتق مؤجل؛ لا يجزئه عما نذر من العتق البتل؛ وأما إذا أعتقه إلى أيام يسيرة، أو ما أشبه ذلك من السفر إلى الموضع القريب، فهو يجزئه كما قال، لأنه في معنى البتل؛ إذ لا كبير مؤنة على العبد في ذلك، ورأى الشهر في ذلك كثيرا على قياس ما ذكره من انتزاع مال العبد المعتق إلى أجل من تقديم الزكاة قبل حلول حولها، وما أشبه ذلك من الأشياء التي ذكرها؛ وفي ذلك اختلاف، ففي كتاب ابن المواز أن الشهر قليل إذا توافى حلول أجل عتق المعتق إلى أجل بالشهر ونحوه، فليس له أن ينتزع ماله مثله في كتاب ابن عبد الحكم؛ وفي جواز تقديم الزكاة قبل حلول حولها اختلاف كثير، قيل: إنها لا تجزئ قبل الحول كالصلاة، وقيل: إنها لا تجزئ إلا قبل الحول باليوم واليومين، وقيل بالعشرة الأيام ونحوها؛ وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وقيل بالشهر، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه من كتاب الزكاة، وقيل الشهر والشهران، وهو قول مالك في رواية زياد عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: مريض دخل عليه غلامان له فقال لهما أحدكما حر]
مسألة وسئل عن مريض دخل عليه غلامان له، فقال لهما: أحدكما حر، فخرجا ثم دخل أيضا أحدهما مع غلام له آخر، فقال لهما: أحدكما حر، فمات الرجل؛ قال أصبغ: الورثة بمثابته كما يكون له في حياته إن كان قوله هذا (في حياته) يوقعوا بين الأولين العتق على من شاءوا، فإن أوقعوه على الذي لم يدخل ثانية، جمع الآخر مع الذي دخل ثانية فأوقعوا العتق على من شاءوا منهما أيضا ورق الآخر؛ وإن أوقعوا في أول على الداخل ثانية، بطل عتق الذي(14/325)
كان معه أولا، وعتق الذي كان معه آخرا، لأن التوقيع دار إليه وحده.
قال محمد بن رشد: سأله عن الذي يقول ذلك وهو مريض ثم يموت فلم يجب عليه، وأجاب على من قال ذلك في حياته- أي في صحته- ثم مات على القول بأن الورثة يتنزلون منزلته في الاختيار إذا قال في صحته: عبد من عبيدي حر، وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال حسبما بيناه في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب العتق؛ والذي يأتي في هذه المسألة على قياس القول بأن العتق يجري فيهم بالحصص: أن يعتق من كل واحد من الثلاثة إلا عبد نصفه، والذي يأتي فيهما على قياس القول بأن يعتق ثلثهم بالقرعة إن كانوا ثلاثة، أو ربعهم إن كانوا أربعة؟ أو نصفهما إن كانا اثنين، أن يعرف قيمة كل واحد منهم، فإن كان في التمثيل قيمة الذي دخل أولا مع الذي تكرر دخوله عشرة، وقيمة الذي دخل معه عشرون، وقيمة الثالث الذي دخل آخرا مع الذي كان دخل مع الأول ثلاثون، أسهم بين اللذين دخلا أولا، وقيمة أحدهما عشرة، والثاني عشرون، على ما نزلناه؛ فإن خرج السهم منهما على الذي قيمته عشرون، أعتق منه ثلاثة أرباعه بخمسة عشر، لأنها هي نصف قيمتهما، وإن خرج السهم منهما على الذي قيمته عشرة، عتق كله، وعتق من الآخر ربعه بخمسة تتمة نصف قيمتهما التي هي خمسة عشر، ثم يرجع إلى الذي دخل آخرا وقيمته ثلاثون مع الذي كان دخل مع الأول وقيمته عشرون، فيسهم بينهما أيضا، فإن خرج السهم على الذي قيمته عشرون، وهو الذي دخل ثانية، عتق باقيه، وعتق من الآخر سدسه- بخمسة تمام نصف قيمتهما، وإن خرج السهم على الذي دخل آخرا- وقيمته ثلاثون، عتق منه خمسة أسداسه بخمسة وعشرين التي هي نصف(14/326)
قيمتهما؛ والذي يأتي فيها على قياس القول بأنه يعتق واحد منهم بالقرعة- قل عددهم أو كثر، أن يقرع بين الأولين؛ فيعتق من خرج السهم عليه منهما ثم يقرع على الذي دخل ثانية مع الذي دخل معه آخرا، فإن خرجت القرعة على الثالث الذي لم يقرع عليه بعد، أعتق، وإن خرجت على الآخر الذي قد أقرع عليه، أعتق إن كانت القرعة لم تخرج عليه أولا، وبقي الثالث وحده رقيقا؛ وإن كانت القرعة قد كانت خرجت عليه أولا فأعتق، لم يعتق سواه؛ لأن القرعة خرجت عليه في المرتين جميعا؛ وهذا هو الحكم في الذي قال ذلك- وهو مريض ثم مات ولم يجب عليه، لأن القرعة هو وجه الحكم في هذا في المرض والوصية بعد الموت، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغلامه إن جرحت فلانا فأنت حر فيجرحه]
مسألة وسئل عمن قال لغلامه: إن جرحت فلانا فأنت حر فيجرحه، فقام المجروح يطلبه بجرحه؛ قال: يخير سيده، فإن فداه بدية الجرح، وإلا بيع فأخذ عقل جرحه؛ فإن كان فيه فضل عن جرحه، عتق ثم رجع، فقال: الأرش على السيد والعبد حر؛ لأنه كان أمره بذلك على أن يحمل عنه الأرش.
قال محمد بن رشد: قوله: فإن فداه بدية الجرح وإلا بيع، معناه فإن فداه بدية الجرح أعتق، وإلا بيع إلى آخر قوله، والقول الذي رجع إليه من أن الأرش على السيد- والعبد حر مكانه، هو الأظهر أنه لا يباع منه بقدر الجرح إلا أن لا يكون للسيد مال، وبالله التوفيق.(14/327)
[مسألة: المعتقة إلى أجل]
مسألة وقال أصبغ: الحجة في المعتقة إلى أجل لا توطأ؛ لأن سيدها لا يقدر على أن يحدث فيها ما ينقص عتقها قبل الأجل، وكذلك الكتابة، وليس كذلك المدبرة؛ لأنه يدخل على المدبرة من الدين ما ينقض عتقها بعد موته؛ وأما أم الولد فإنه يعتقها وطؤه إياها وماؤه فيها، فذلك لا يزول عنه إلا بموته.
قال محمد بن رشد: هذه تفاريق بينة بين هذه الوجوه لا إشكال فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قيل له أعرض علينا جاريتك فقال يا فلان ادع فلانة هي حرة]
مسألة وفيمن قيل له: أعرض علينا جاريتك، فقال: يا فلان ادع فلانة هي حرة، فلم تخرج وقال: إنما أردت إن جاءت؛ قال: هو حانث ولا يقبل قوله إذا كانت عليه بينة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، قوله: إنه لا يقبل قوله، صحيح إذا كانت عليه بينة، وبالله التوفيق.
[مسألة: له عبدان فقال أحدكما حر ولا خيار لي فيكما]
مسألة وعن رجل له عبدان، فقال: أحدكما حر ولا خيار لي فيكما، على هذا أعتق أحدكما؛ قال أصبغ: هما حران جميعا، وأرى قوله لا خيار لي فيهما قطعا للعبودية، إلا أن تكون له نية تخرج إلى وجه.(14/328)
قال محمد بن رشد: قوله إلا أن تكون له نية تخرج إلى وجه، مثل أن يقول له: إنما أردت أني لا أختار وإنما أعتق من خرج السهم عليه منكما، إلى مثل أن يقول: إنما لا أختار أحدكما وإنما أعتق نصف كل واحد منكما؛ وادعاؤه الوجه الأول أظهر، وهو مصدق فيما يدعيه من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأذن لامرأته أن تحلف بحرية رقيقها في أمر]
مسألة وقال أصبغ في الرجل يأذن لامرأته أن تحلف بحرية رقيقها في أمر- وحريتها أكثر من الثلث فتحلف، ثم يريد أن يرد عليها؛ قال أصبغ ذلك له، وكذلك لو أن امرأة خطبها خاطب، فحلفت بعتق رقيقها ألا تتزوجه فعلم ذلك، ثم أجابته وتزوجها على علم، كان له الرد أيضا إذا جاوز ذلك ما يجوز لها، وليس تقدمه عليها بعد علمه حجة عليه، وكذلك يقول أهل العلم.
قال محمد بن رشد: أما إذا أذن لها زوجها بالحلف، فإنما قال: إن له أن يرد عليها إذا حنث، لأن من حجته أن يقول: إنما أذنت لها أن تحلف لتبر في يمينها ولا تحنث، ولو علمت أنها تحنث، لما أذنت لها أن تحلف، وأما التي حلفت بعتق رقيقها ألا تتزوج رجلا ثم تزوجته، فهي مسألة قد مضت في رسم أسلم من سماع عيسى، والكلام عليها مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبيع أم ولده على أن يعتقها المشتري]
مسألة وسئل أصبغ عن الرجل يبيع أم ولده على أن يعتقها المشتري عتقا يبتدئه بعد الاشتراء، فاشتراها وأعتقها، ثم علم السلطان بذلك؛ قال: يمضي عتق المشتري فيها، ويكون ولاؤها لسيدها الذي باعها؛ ولا أرى أن يرجع عليه المشتري من الثمن بشيء، ولو(14/329)
باعها منه بيعا لم يشترط عليه فيها عتقا، فأعتقها المشتري من قبل نفسه، فإن السلطان يردها إلى سيدها أم ولد، وينفسخ عتق المشتري ويرجع بالثمن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأنه إذا اشتراها منه على أن يعتقها فليس بشراء، وإنما أعطاه ما أعطاه على عتقها بمنزلة ما لو قال له: خذ مني كذا وكذا وأعتق أم ولدك، وأما إذا اشتراها منه بغير شرط العتق فأعتقها، فهو شراء فاسد يجب فسخه وردها أم ولد إلى سيدها- وإن كان المشتري قد أعتقها، إذ لا يصح له فيما عتق، لوجوب حريتها بولادتها من سيدها الذي باعها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قتل وليه عمدا وهو وارثه وللمقتول موال]
مسألة وسئل عن رجل قتل وليه عمدا- وهو وارثه- وللمقتول موال، فقال: لا أرى أن يرث ولاءهم، لأنه في الولاء والميراث متهم بتهمة واحدة، وولاؤهم لأقعد الناس فيه بعده، لأن الولاء ليس بنسب فلا يزول.
قال محمد بن رشد: لا أذكر لأحد من أصحاب مالك نص خلاف في هذا، وفيه- عندي- نظر؛ لأنه إنما يصح على قياس القول بأن الولاء يورث على المعتق، كما يورث عنه ماله؛ فيكون أحق بميراث مواليه- إذا ماتوا، من ورث عنه ماله على ما قضى به ابن الزبير في أبي عمرو ذكوان مولى عائشة، لأنه جعله لطلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ورآه أحق به من القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، من أجل أن أباه عبد الله ورث عائشة دون القاسم، لأن أباه عبد الرحمن كان أخا عائشة لأبيها وأمها، وكان والد القاسم: محمد أخاها لأبيها دون أمها؛ والذي يأتي في هذه المسألة على قياس ما عليه الجمهور وجماعة الفقهاء الأمصار، أن(14/330)
الولاء لا يورث عن المعتق وإن أحق الناس بميراث مولاه، أقرب الناس به يوم مات المولى، لا من ورث مولاه الذي أعتقه، أن يكون ميراث مولى المقتول عمدا للقاتل إن كان أقرب الناس إلى المقتول يوم مات المولى، إن كان بعد موت لا يمكن أن يحيا إليها المقتول لو لم يقتل، لأنه إن مات في يده كان يمكن أن يحيا إليها المقتول، اتهم القاتل في أنه إنما قتله ليرث ماله، وليرث مولاه إن مات؛ وإذا مات بعد مدة لا يمكن أن يحيا إليها المقتول لو لم يقتل، ارتفعت عنها التهمة في ذلك، فكان له ميراثه؛ لأنه إنما منع ميراث المقتول من أجل أنه اتهم على أنه إنما قتله ليرثه، فكذلك المولى يحرم ميراثه في الموضع الذي يتهم فيه على أنه إنما قتل مولاه ليرثه، ولا يحرم إياه في الموضع الذي تنتفي عنه التهمة في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني مات وترك امرأته حاملا وترك أولادا مسلمين]
مسألة وقال في النصراني مات وترك امرأته حاملا وترك أولادا مسلمين وعصبة نصارى فولدت المرأة جارية فأقرها إخوتها على الإسلام وسموها باسم الإسلام، وأسلمت الأم أيضا ثم ماتت المولودة؛ فقال: يرثها إخوتها وأمها؛ وتدفن في مقابر مسلمين، ولا يرثها عصبة أبيها النصراني؛ وهذا بين، ألا ترى أن الرجل يشتري الصغيرة من السبي فيسلمها ويسميها باسم الإسلام، ويجريها على ذلك وهي صغيرة، فتكون مسلمة ويعمل فيها ما يعمل في المسلمة؛ وهذا قول مالك وغيره من أهل العلم فاعرفه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنها إذا ولدت بعد موت أبيها النصراني وأقرها إخوتها على الإسلام، وسموها باسم الإسلام، وأسلمت الأم أيضا؛ أنه يحكم لها بحكم الإسلام في جميع الأحوال من الموارثة، والصلاة(14/331)
عليها، والدفن في مقابر المسلمين، وسائر ما يلزم في شريعة الإسلام؛ بدليل قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه» - الحديث يدل مجمله على عمومه، على أنه إذا لم يكن له أبوان يهودانه أو ينصرانه، فهو على ما ولد عليه من فطرة الإسلام؛ وفي تأويل الحديث اختلاف كثير، وقد اختلف في الصغير من السبي فقيل: إنه يحكم له بحكم الإسلام بملك سيده إياه، وقيل: إنه لا يحكم له به حتى ينويه سيده، وقيل: إنه لا يحكم له به حتى يرتفع عن حداثة الملك شيئا، في ويزييه بزي الإسلام، ويشرعه شرائعه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، والذي ذهب إليه في هذه الرواية؛ وقد قيل: إنه لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب إليه بعد أن يعقل، وقيل: حتى يجيب إليه بعد أن يبلغ؛ وقيل في هذا كله سواء سبي مع أبويه أو دونهما، وقيل: إنما هذا إذا سبي دون أبويه، وأما إذا سبي معهما أو مع أحدهما، فله حكم من سبي معه منهما؛ وقيل: إنما يراعى في ذلك الأب، ولا يلتفت فيه إلى الأم- ما لم تفرق الأملاك بينهما؛ وقيل: إن له حكمهما أو حكم أحدهما- وإن فرقت الأملاك بينهما، فاستدلاله في الرواية بمسألة الصغيرة من السبي على المسألة التي سأله عنها مع ما فيها من الاختلاف الذي قد ذكرته، إنما وجهه أنه إذا كان قد قيل في المسبية أنه يحكم لها بحكم الإسلام بتسمية سيدها إياها باسم الإسلام وإجرائها على ذلك، وهي قد ولدت في بيت الكفر على دين الكفر، ثم سبيت مع أبويها، فأحرى أن يقال ذلك في التي ولدت في بلد الإسلام بعد أن(14/332)
مات أبوها ثم أسلمت أمها، فأقرها إخوتها على الإسلام وسموها باسمه، فلا يدخل فيها الخلاف الذي في المسبية، وبالله التوفيق.
[مسألة: مات وترك امرأته حاملا فولدت توأما]
مسألة وفي رجل مات وترك امرأته حاملا فولدت توأما، فشهدت امرأتان أن أحدهما استهل فلم تعرفاه؛ قال أصبغ: إن كان غلامين فله الميراث؛ لأن ميراثهما واحد، وإن كان جاريتين فكذلك، وإن كان غلاما وجارية، فهذا موضع شك، وأخاف ألا يكون لهما شيء؛ ولو كان له امرأتان فولدتا فشهدت امرأتان أن أحدهما استهل ولا يعرفانه، فلا ميراث لواحد منهما، لأنه قد اختلف الأمهات والمواريث، وليس يورث أحد بالشك.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانا غلامين أو جاريتين، فكما قال: لا إشكال فيه؛ وأما إذا كان غلاما وجارية، فقوله أخاف ألا يكون لهما شيء، ليس بصحيح، والواجب أن يجعل له ميراث أنثى الذي هو أدنى المرتبتين كما قال ابن القاسم في رسم أوصى من سماع (عيسى) من كتاب الشهادات إذا كان واحدا فشهد على استهلاله ولم يدر إن كان ذكرا أو أنثى؛ وأما إذا كانت امرأتان فبين أنه لا ميراث لواحد منهما، إذ لا يدرى من هي أم المستهل منهما التي يستحق ميراثه، وبالله التوفيق.(14/333)
[: أخبر بنفاس أمته وأخبر أنه غلام فقال هو حر عن أبيه]
ومن كتاب المدنيين قال: وسألت ابن القاسم عن رجل أخبر بنفاس أمته، وأخبر أنه غلام، فقال: هو حر عن أبيه، فإذا هي جارية؛ هل يجوز عتقها؟ فقال: لا يلزمه عتقها إلا أن يكون أراد ما وضعت حر فإن لم يرد ذلك، وإنما أراد أن يعتقه لأنه غلام، فلا يلزمه عتقها، ورواه أبو زيد.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، وهو مصدق فيما يذكره من أنه إنما أراد أن يعتقه، لأنه غلام دون يمين تلزمه في ذلك، لأن نيته مطابقة لما لفظ به؛ وقد قال ابن أبي حازم في المدنية والمبسوطة: إنه يعتق، لأنه إنما أراد عتق ما وضعت وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[: المكاتب يبيعه سيده فيعتقه الذي ابتاعه]
ومن سماع محمد بن خالد قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن المكاتب يبيعه سيده فيعتقه الذي ابتاعه، قال: لا يرد عتقه ويمضي ذلك، وقال ابن نافع: يرد عتقه إذا باعه من قبل أن يعجز ويرجع رقيقا، ويرد إلى صاحبه على كتابته حتى يعجز أو يؤدي.
قال محمد بن رشد: هذا الاختلاف في المدونة، وفيها قول ثالث لأشهب وسحنون - وهو الفرق بين أن يعلم المكاتب بالبيع أو لا يعلم، لأنه إذا رضي بالبيع فقد رضي بتعجيز نفسه؛ وهذا الذي تقتضيه الروايات بحملها على ظاهرها، والأولى أن تحمل على ما سنذكره في سماع عيسى من كتاب المكاتب- إن شاء الله، وبالله التوفيق.(14/334)
[مسألة: المدبر يباع فيموت عند المبتاع]
مسألة وقال ابن القاسم في المدبر يباع فيموت عند المبتاع، إن الموت فوت، ويرجع على البائع بما بين قيمته مدبرا وقيمته غير مدبر. وقال ابن نافع: إذا فات عند المبتاع بموت أو عتق، لم يرجع على البائع لشيء، قال محمد بن خالد: وقول ابن نافع عندنا أقيس وأحب إلينا - والله اعلم بالصواب.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية في المدبر يباع فيموت عند المبتاع أنه يرجع على البائع بما بين قيمته مدبرا وقيمته غير مدبر، معناه من الثمن الذي باعه به على حكم من اشترى عبدا فاطلع على عيب به بعد أن مات عنده، وهذا إذا كان البائع دلس له به- ولم يعلمه أنه مدبر، ولو اشتراه منه وهو يعلم بتدبيره فمات عنده، لم يكن له عليه رجوع؛ وقول ابن القاسم هذا يحمل على التفسير لمذهبه في المدونة، لأنه على أصله فيها إذ قال: إنه إذا حدث عند المبتاع له عيب يرده، وما نقص العيب عنده على حكم البيع المردود بالعيب، وإنما لم ير في المدونة للمشتري رجوعا على البائع بقيمة عيب التدبير إذا مات عنده، فقال: إن المصيبة فيه من المشتري، ويحبس البائع من الثمن قدر قيمته لو كان يحل بيعه على رجاء العتق له وخوف الرق عليه، ويجعل الباقي في عتق؛ لأنه إنما تكلم على أنه علم بالتدبير- والله أعلم؛ فإذا علم بالتدبير، لم يكن له رجوع على البائع بعيب التدبير، ولزم البائع أن يجعل ما زاد الثمن الذي أخذ فيه على قيمته على الرجاء والخوف في المدبر، وإذا لم يعلم المبتاع بالتدبير رجع على البائع بقيمة عيب التدبير على ما قاله في هذه الرواية- ولم يكن على البائع فيما(14/335)
بقي عنده من الثمن شيء؛ وقول ابن نافع الذي اختاره محمد بن خالد أنه لا رجوع له على البائع إذا فات عنده بموت أو عيب، وجهه أنه إذا فات عنده بموت في حياة السيد البائع له، فقد تبين بطلان التدبير، وإن ما كتبه من تدبيره إياه لم يضره وإن عتق فقد صح البيع، إذ لا يصح نقض البيع بعد أن أعتق، إذ قد قيل: إنه يجوز بيعه إياه على أن يعتق؛ فعلى قوله لا يجب على البائع أن يتمحى في شيء من الثمن إذا فات عند المبتاع بموت أو عتق، وهو قول ابن القاسم من رواية عيسى عنه في المدنية، وستأتي هذه المسألة في سماع أصبغ من كتاب المدبر، فنزيدها فيه بيانا- إن شاء الله، وبه التوفيق.
[: قال لعبدين له إن جئتما بمائتي دينار فأنتما حران إن رضيتما]
من سماع أبي زيد وقال في رجل قال لعبدين له: إن جئتما بمائتي دينار فأنتما حران إن رضيتما، فقال أحدهما: لا أرضى، وقال الآخر: أنا أدفع المائتين؛ قال: يكونان حرين وإن كره أحدهما، ويتبع من أدى الذي لم يرض أن يكون (حرا) .
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في الذي يكاتب عبده على نفسه وعلى عبد للسيد غائب، أن الكتابة تلزم الغائب. وإن أباها ولم يرض بها، وهو على القول بأن للسيد أن يجبر عبده على الكتابة، إذ لا ضرر في ذلك عليه، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك وابن القاسم، والله الموفق.(14/336)
[مسألة: قال في عبد بينه وبين رجل نصيبي منك حر]
مسألة قال ابن القاسم: إذا قال في عبد بينه وبين رجل: نصيبي منك حر إلى آخرنا موتا أنا أو شريكي، وقال شريكه أيضا: هو حر، إلى موت الآخر منا، فمن مات أولا فنصيبه من العبد حر من الثلث، وخدم نصف ورثته إلى موت شريكه، وإن قالا: هو حر إلى موتنا؛ فمن مات أولا فنصيبه من العبد حر من الثلث، ونصيب الباقي حر من رأس المال.
قال محمد بن رشد: أما قوله فمن مات أولا أن نصيبه من العبد يكون حرا من الثلث، ويخدم ثلثه إلى موت شريكه. وقوله: وإن قالا هو حر إلى موتنا- يريد وكذلك إن قالا: هو حر إلى موتنا، إذ لا فرق بين اللفظين في المعنى. وأما قوله: ونصيب الباقي من رأس المال، فهو غلط؛ لأن الحكم فيه أن يكون من الثلث، لأنه إنما يعتق بعد موته، هذا ما لا إشكال فيه، وإنما يكون حظ الآخر موتا منهما من رأس المال، إذا قال كل واحد منهما: نصيبي حر إلى موت الأول منا، فهذا هو الذي سبق إليه فأجاب عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: دبره إلى آخرهما موتا]
مسألة وإن دبره إلى آخرهما موتا، فمن مات أولا كان نصيبه حرا من الثلث يخدم، حصة ورثة الميت- إلى موت الآخر؛ فإذا مات الآخر كان حظه أيضا حرا من الثلث.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، وكذلك العتق أيضا(14/337)
يكون حظ كل واحد منهما من الثلث على ما بيناه في المسألة التي فوقها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت في جاريتها إن ولدت غلاما فأنت حرة شكرا لله]
مسألة وقال في امرأة قالت في جاريتها: إن ولدت غلاما فأنت حرة شكرا لله، فولدت غلاما ميتا؛ قال: تعتق.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها في سماع أبي زيد من كتاب العتق قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: استعار من رجل عبدا في يوم لا يعمل فيه العبد لسيده شيئا]
مسألة وقال في رجل استعار من رجل عبدا في يوم لا يعمل فيه العبد لسيده شيئا، فقال: هو اليوم حر، يريد أن هذا اليوم لا يعمل لي فيه شيئا، إنه يحلف ما أراد عتقا ولا يعتق عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يحلف ما أراد عتقا ولا يعتق عليه، هو على القول بلحوق يمين التهمة، إذ لا يصح أن يحقق عليه الدعوى في أنه أراد بذلك العتق، لأن نيته لا سبيل إلى معرفتها إلا من قبله، وهي نية تدل على صدقه فيها- تخصيصه الحرية بذلك اليوم الذي لا يعمل له فيه شيئا، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبدا شتم رجلا فاستعدى عليه سيده فقال هو حر مثلك]
مسألة قال: ولو أن عبدا شتم رجلا فاستعدى عليه سيده، فقال: هو حر مثلك، قال: أراه حرا قد أعتقه.(14/338)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن ظاهر قوله الحرية، ولا يصدق أنه لم يرد بذلك الحرية- إن ادعى ذلك، إذ ليس له سبب يدل على تصديقه كالمسألة التي قبلها، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى قبل رجل عبدا فوجده قد أعتقه]
مسألة قال: لو أن رجلا ادعى قبل رجل عبدا فوجده قد أعتقه، فقال له: أعتقت عبدي؟ قال: قد والله فعلت، ولم تكن بينة إلا بإقراره، عتق العبد وغرم القيمة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن العتق يلزمه بعتقه إياه قبل أن يقربه المدعي، وتلزمه القيمة للمدعي بإقراره له به ولو قامت للمدعي بينة على أنه له، لبطل العتق فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك ثلاثة أعبد]
مسألة وقال في رجل هلك وترك ثلاثة أعبد، فشهد وارث أن أباه أعتق أحد الثلاثة الأعبد، فصار له عبد في الميراث؛ قال: أرى أن يسهم بينهم، فإن وقع عليه السهم عتق، وإن لم يقع عليه السهم، (عتق منه ثلثه) .
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه شهد أن أباه قال في مرضه: أحد هؤلاء الأعبد الثلاثة حر، وكذلك لو شهد أنه قال ذلك في صحته على القول بأنه إن لم يختر حتى مات، عتق واحد منهم بالقرعة؛(14/339)
ويأتي على القول بأن العتق يجري فيهم- أن يعتق عليه ثلثه؛ وعلى القول بأن الورثة ينزلون منزلته في الاختيار، لا يعتق على الشاهد هذا العبد الذي صار إليه من الأعبد الثلاثة بالميراث، إلا أن يختاره للعتق، ولا اختلاف في المسألة إن كان قال ذلك في مرضه، للاتفاق على أن الحكم في ذلك أن يعتق واحد منهم بالسهم؛ ولو أشهد أنه أعتق واحدا منهم بعينه في صحته، أو في مرضه، والثلث يحمله، ولا يدري من هو منهم؛ لعتق عليه العبد الذي صار إليه منهم بالميراث، على القول بوجوب الحكم بالعتق في الشك، وقد مضى هذا في غير ما موضع، والاختلاف في ذلك منصوص عليه في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق وعليه دين للناس]
مسألة قيل له: أرأيت لو أن رجلا أعتق وعليه دين للناس، فقال الغرماء: نحن نمضي عتقك ونطلبك، إن رزقك الله يوما ما من الدهر، قال: عتقه جائز، قيل له: فإن سيد العبد يقول: لا أحب أن يكون علي دين فردوه، قال: لا يقبل قوله، لأنه لو نظر في هذا (أول مرة لم يعتق، أفلا نظر في هذا) قبل أن يعتق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه ولا اختلاف، لأن الحق في رد العتق إنما هو للغرماء، وأما هو فقد رضي إذا أعتقه- أن تكون ديون الغرماء باقية في ذمته، وبالله التوفيق.
[مسألة: كان عليه لرجلين دين فذكر حق واحد]
مسألة وسئل سحنون عن رجل كان عليه لرجلين دين، فذكر حق(14/340)
واحد، أو من حقوق مختلفة- والدين خمسون دينارا، وللغريم عبد قيمته خمسون دينارا ولا مال له غيره، فأعتقه الغريم، فأجاز أحد الرجلين، وأبى الآخر أن يجيز العتق، قال: يعتق نصف العبد ويباع نصفه للذي لم يجز، ويكون دين الذي أجاز العتق في ذمة الغريم- كما كان إذا أفاد مالا أخذه منه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه ولا كلام، إذ لا يلزم من لم يجز إجازة من أجازوا إن أدى ذلك إلى تبعيض العتق، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال غلامي حر إن لم أبعه]
مسألة قال أبو زيد: وسألت ابن وهب عن رجل قال: غلامي حر إن لم أبعه، ثم قال بعد ذلك: هو حر إن بعته؛ قال: لا شيء عليه حتى يموت السيد فيعتق في ثلثه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأن اليمين الأولى هو فيها على حنث يقدر على البر فيه طول حياته، فإذا لم يفعل حتى مات، علم أنه إنما أراد أن يعتقه بعد موته، فيعتق في ثلثه، واليمين الثانية هو فيها على بر فلا تأثير لها في حكم اليمين الأولى؛ فإن باعه عتق عليه باليمين الثانية، ورد الثمن إلى المبتاع على المشهور المعلوم في المذهب؛ وإن لم يبعه حتى مات، عتق عليه من ثلثه باليمين الأولى، وهو على المشهور في المذهب من أن من حلف أن يفعل فعلا، تحمل يمينه على التأخير حتى يريد التعجيل، وقد قيل: إن يمينه تحمل على التعجيل حتى يريد التأخير- حسبما مضى القول فيه في سماع أبي زيد من كتاب العتق، وفي غير ما موضع؛ فعلى هذا القول يعجل عليه العتق باع أو لم يبع؛ لأنه إن لم يبع، عتق عليه باليمين الأولى، وإن باع، عتق عليه باليمين الثانية، وهذا كله بين والحمد لله.(14/341)
[مسألة: يقول لأمته وهي حامل بين حملها إذا وضعت فأنت حرة]
مسألة وسألت أشهب عن الرجل يقول لأمته- وهي حامل بين حملها- إذا وضعت فأنت حرة، ثم يموت السيد قبل أن تضع؛ قال: إذا لم تضع حتى مات فلا عتق لها.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا على أصله فيمن أعتق أو طلق إلى أجل قد لا يأتي وإن كان الأغلب منه أن يأتي، أنه بمنزلة من أعتق أو طلق إلى أجل قد يأتي وقد لا يأتي، وإن كان الأغلب منه أنه لا يأتي، أو استوى الوجهان في ذلك لا يطلق عليه حتى يأتي الأجل، ولا يعتق عليه حتى يأتي الأجل أيضا: فإن أتى الأجل وهو صحيح، كان حرا من رأس المال؛ وإن أتى الأجل وهو مريض، كان حرا من الثلث؛ وإن لم يأت الأجل إلا بعد موته، لم يكن له عتق، وقد روى مثله ابن وهب عن مالك، خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك والمشهور في المذهب من أن حكم الأجل الذي الأغلب منه أن ما يأتي حكم الأجل الذي يعلم منه أنه يأتي، يعجل الطلاق فيه، كما يعجل على من طلق إلى أجل معلوم، ويكون من أعتق إليه وهو صحيح، كمن أعتق إلى أجل معلوم، يكون العبد حرا إلى ذلك الأجل من رأس المال، سواء جاء الأجل والسيد صحيح أو مريض، أو بعد أن مات، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا ينقل الولاء من قبل الأب أبدا إنما ينتقل من قبل الأخ]
مسألة قال ابن القاسم: لا ينقل الولاء من قبل الأب أبدا؛ إنما ينتقل من قبل الأخ.
قال محمد بن رشد: هذا الكلام مشكل، ومعناه- والله أعلم- أن الولاء إذا وجب للأب لا ينتقل عنه إلى غيره ما دام حيا، والأخ للأب قد(14/342)
يجب له الولاء فينتقل عنه وهو حي إلى أخ يولد لأبيه من أم أخيه الذي كان ورث الولاء عنه، لأن الشقيق أولى بالولاء من الأخ للأب، لأن الولاء لا يورث عن الأب ويورث عن الأخ، لأنه يورث عن كل واحد منهما، هذا ما لا اختلاف فيه والحمد لله.
[مسألة: يعتق على الرجل إذا ملكه من ذوي الأرحام]
مسألة
وسئل ابن كنانة عمن يعتق على الرجل إذا ملكه من ذوي الأرحام، فقال: الوالدان والأجداد والجدات الأربع ومن فوقهن من الأجداد، والولد وولد الولد، وبنو البنات.
قال محمد بن رشد: سكت عن الأخوة، فظاهر قوله: إنهم لا يعتقون على من ملكهم وهو مذهب الشافعي، خلاف المعلوم من مذهب مالك وأصحابه؛ وقد مضى في رسم العتق من سماع أشهب من كتاب العتق، تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: نصراني أعتقه مسلم]
مسألة وسئل ابن كنانة عن نصراني أعتقه مسلم، لمن ميراثه؟ فقال: يرفع إلى بيت المال، إلا أن يكون له ذو رحم نصراني من عتاقه المسلمين فيرثه، فإن لم يكونوا من عتاقه المسلمين، لم يكن لهم ميراث وكان ميراثه لجميع المسلمين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في آخر رسم العتق من سماع أشهب من كتاب العتق، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(14/343)
[مسألة: يهلك اليهودي وله ابن نصراني]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت أهل الملل من أهل الكفر، هل يتوارثون بالنسب، مثل أن يهلك اليهودي وله ابن نصراني، أو ما أشبه هذا من اختلاف أهل الأديان؛ قال: كان ابن القاسم يقول: يتوارث أهل الملل، ثم رجع فقال: لا يتوارثون، وقوله الأول أحب إلينا.
قال محمد بن رشد: قوله الأول الذي اختار أصبغ هو الأظهر - إن تركوا على ما يدعونه من دينهم الذي عهدوا أن يقروا عليه، وبالله تعالى التوفيق.
تم كتاب الولاء والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أثيرا.(14/344)
[: كتاب الخدمة] [جعل لرجل خدمة غلامه سنة فقبضه يستعمله ثم أراد أن يبيعه منه قبل السنة]
(كتاب الخدمة) من سماع ابن القاسم من كتاب
الرطب باليابس أخبرنا العتبي قال: أخبرنا سحنون، قال ابن القاسم وسئل عن رجل جعل لرجل خدمة غلامه سنة، فقبضه يستعمله؛ ثم أراد أن يبيعه منه قبل السنة، أيصلح ذلك؟ قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز ذلك، لأنه أنزل أمره على أنه رد عليه الخدمة، واشترى منه الرقبة؛ ولو أنزل أمره على أنه إنما باعه منه بعد انقضاء السنة على أن يبقى على ما كان له من اختدامه- إلى انقضاء السنة- لما جاز، فلا يبعد أن يحمل على البيع؛ على هذا فلا يجوز إذا وقع على غير بيان، ولو نص على أنه إنما يبيعه منه على أن يقبضه بالبيع بعد انقضاء السنة التي أخدمه إياها، لما جاز باتفاق؛ ولو أخدمه إياه سنة وجعل الرقبة بعد السنة لرجل آخر، لما جاز للذي أخدم إياه أن يشتري الرقبة من الذي وهبت له قبل انقضاء السنة، إلا أن يكون لم يبق منها إلا ما يجوز لمن باع عبده أن يستثنيه من خدمته- وهو اليوم واليومان والثلاثة، وبالله التوفيق.(14/345)
[مسألة: قال لغلامه قد تصدقت عليك بخراجك]
مسألة قال: وقال مالك: من قال لغلامه: قد تصدقت عليك بخراجك، ثم أنت من بعد موتي حر، فهو بمنزلة أم الولد؛ فإن قال: قد تصدقت عليك بخراجك، فإنه يستخدمه ولا يضربه؛ قال ابن القاسم: وإن قال: قد تصدقت عليك بعملك، كان حرا مكانه؛ وسئل عنها سحنون فقال: العمل والخراج والخدمة- عندي واحد، فإذا قال الرجل لعبده: قد تصدقت عليك بعملك، أو بخراجك، أو بخدمتك؛ فإن كان أراد ما عاش العبد فهو حر الساعة، وإن كان ما عاش السيد، فليس له منه إلا حياة السيد فقط ولا يكون حرا.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي قال لغلامه: قد تصدقت عليك بخراجك، ثم أنت من بعد موتي حر؛ إنه بمنزلة أم الولد- يريد في أنه لا يستخدمه طول حياته إلا في القدر الذي تستخدم فيه أم الولد لا في العتق؛ لأن أم الولد تعتق إذا مات سيدها، من رأس ماله، وهذا لا يعتق إلا من الثلث، وكذلك في كتاب ابن المواز، قال محمد: لأن هذا قد بين أنه لا يعتق إلا بعد موته، وأما إذا قال: قد تصدقت عليك بخراجك، ولم يقل ثم أنت حر من بعد موتي، فإنه يستخدمه كما يستخدم أم الولد حياته، ولا عتق له من رأس المال ولا من الثلث، بخلاف قوله: قد تصدقت عليك بخدمتك أو بعملك؛ فسوى سحنون بين الخدمة والخراج والعمل؛ ومثله لابن القاسم في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات فقال: إنه(14/346)
إن قال: قد تصدقت عليك بخدمتك أو بخراجك؛ أو بعملك ما عشت، فأنت حر، وإن قال: ما عشت أنا، فليس له من خدمته إلا ما عاش السيد ولا يكون حرا، وفي قول سحنون إنه إن كان أراد ما عاش العبد فهو حر الساعة، وإن كان أراد ما عاش السيد، فليس له منه إلا حياة السيد؛ دليل على أنه يصدق فيما يذكر أنه نواه من ذلك دون يمين؛ فإن قال: لم يكن لي نية، فالذي يوجبه النظر، أن يحمل على حياة العبد ويكون حرا مكانه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعمر خادما أو عبدا حياته ولا مال له]
مسألة قال: قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: من أعمر خادما أو عبدا حياته ولا مال له، ثم أفاد مالا أو ولد له ولد؛ قال مالك: ما ولد للأمة، أو كان للعبد من ولد من أمة يملكها؛ فهو على مثابتها يخدمان المعمر حياته، وما كان من مال فهو موقوف على أيديهما يأكلان منه، ويكتسبان بالمعروف، وليس للمعمر ولا للمعمر أن ينزعه منهما، ما عاشا، فإذا ماتا ورثهما سيدهما الذي يملك رقابهما؛ وإن قتل العبد عمدا أو خطأ، فإن قتله لسيده مثل الميراث؛ قال ابن القاسم وإن قتله سيده خطأ فلا شيء عليه؛ وإن قتله عمدا، كان عقله عليه في السنين التي أعمر، فإن فضل فضل، كان له؛ قال عيسى بن دينار تفسيره: أن يغرم سيده القاتل(14/347)
القيمة فتوقف للمعمر، فيستأجر له منها من يخدمه مكانه، فإن مات قبل أن يستنفد القيمة، رجع ما بقي من قيمته إلى سيده؛ قال سحنون: وقد كان عبد الرحمن يقول: يشتري بتلك القيمة عبدا مكانه، وكذلك لو أخدمه أو أعمره أمة ثم عدا عليها فأحبلها صاحب الرقبة، أن عليه أن يشتري أخرى مكانها.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة على نصها في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، ومضى الكلام عليها هناك مستوفى، فغنينا بذلك عن إعادته ها هنا، وبالله التوفيق.
[: يخدم الرجل عبدا له سنة ثم هو حر]
ومن كتاب المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن رجل يخدم الرجل عبدا له سنة ثم هو حر، فيريد العبد أن يشتري خدمته ممن أخدمه، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا إشكال فيه، لأنها خدمة مؤقتة معلومة، فله أن يبيعها ممن شاء؛ فإن باعها من العبد كان حرا، لأنه إذا ملك خدمته إلى الأجل الذي أعتق إليه بشراء أو هبة، وجبت حريته؛ ولو كانت الخدمة حياة المخدم، لجاز للعبد أن يشتريها إذا كان مرجعه بعدها إلى الحرية، لأنه يملك بذلك حريته، ولم يجز لغيره أن يشتريها- لا السيد المخدم ولا سواه؛ ولو كان المرجع بعد موت المخدم إلى السيد، لجاز للسيد شراء الخدمة باتفاق. وللمخدم شراء الخدمة على اختلاف،(14/348)
وينزل ورثة كل واحد منهما منزلة موروثه فيما يجوز له من ذلك، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[: أخدم رجلا خادما سنين ثم هو حر]
ومن كتاب اغتسل على غير نية
قال ابن القاسم: قال مالك: من أخدم رجلا خادما سنين ثم هو حر، ثم أراد بعد ذلك أن ينزع ماله فليس ذلك له، قال عيسى: قال لي ابن القاسم: له أن ينتزع ماله إلا أن يتقارب ذلك أو يمرض، وأنكر سحنون رواية عيسى عن ابن القاسم وخط عليها.
قال محمد بن رشد: هذا الاختلاف جار على الاختلاف في النفقة على المخدم، هل تكون على المخدم أو على المخدم، وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، فلا معنى لإعادته، ومضى في رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب النكاح، الكلام على حكم انتزاع مال العبد في جميع الأموال، فلا معنى لإعادته.
[: أوصى لبعض من يرثه بخدمة غلام من غلمانه حتى يستغني عنه ثم هو حر]
ومن سماع أشهب وابن نافع من مالك
قال سحنون: أخبرنا أشهب قال: سئل مالك عن رجل أوصى لبعض من يرثه بخدمة غلام من غلمانه حتى يستغني عنه ثم هو حر، فلما هلك الموصي قال من يرثه: إنه لا تجوز وصية لوارث، فدخلوا(14/349)
معه في الخدمة وتحاصوا فيها؛ فقال الذي أوصى له بالخدمة: فأنا أضع له ما كان لي وهو إليها محتاج لم يستغن؛ وقال الورثة: إنما تريد إضرارنا وأن تقطع عنا ما لنا معك من الخدمة وهو لم يستغن عنه بعد؛ قال مالك: إنما يوضع عنه بقدر الذي كان نصيب الموصى له الأول والآخرون الذين معه على حقوقهم؛ وإنما مثل ذلك مثل رجل أوصى لوارث بمائة دينار على غريم، فلما هلك الموصي ثبتت له الوصية، فلما عرف أن الورثة يدخلون معه وضعها للغريم، وأبى الورثة الذين دخلوا معه ذلك، فإنما يوضع عنه حقه، ومن بقي من الورثة على حقوقهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها، لأن الحرية إنما وجبت للعبد بعد حد استغناء الموصى له من الورثة بخدمته عن خدمته، وكلهم إشراك في الخدمة؛ إذ لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يجيزها الورثة، فوجب ألا يعتق العبد قبل حد استغناء الموصى له من الورثة بخدمته عن خدمته إلا برضى جميع الورثة، وللعبد حظ من ترك له منهم حظه من الخدمة، أكان الموصى له أو غيره، وكذلك الغريم إنما يكون له من الدَّين الذي عليه حظ من وضع له حظه منه كان الوصي له أو غيره، وبالله التوفيق.
[: أوصى في جارية له أن تخدم ابنه حتى يبلغ النكاح]
ومن سماع ابن دينار من ابن القاسم من كتاب نقدها نقدها
قال عيسى: قال ابن القاسم في رجل أوصى في جارية له أن(14/350)
تخدم ابنه حتى يبلغ النكاح، ثم تخير فإن اختارت العتق فهي حرة، وأوصى مع ذلك بوصايا- والثلث لا يحمل ذلك كله؛ قال: تخير الجارية الساعة، فإن اختارت العتق وكان الثلث لا يسعها، برئ برقبتها فيعتق منها ما حمل الثلث- الساعة، وسقطت عنه الخدمة وجميع الوصايا، وإن كان الثلث يسعها وفضلة، إلا أن الثلث يضيق عن الوصايا، فإن الوارث وأهل الوصايا يتحاصون في خدمة الجارية إلى الأجل، وفيما فضل عن قيمتها من الثلث يتحاص أهل الوصايا في ذلك بوصاياهم، ويحاص الابن بقيمة الخدمة إلى أن يبلغ النكاح، فما فضل للأجنبيين أخذوه، وما صار للوارث كان الورثة مخيرين إن شاءوا أمضوه، وإن شاءوا دخلوا معه فيه فاقتسموه على فرائضهم، فإذا بلغ الأجل، فإن اختارت الجارية العتق أعتقت وسقطت الوصايا، وإن اختارت أن تباع بيعت، وأتم لأهل الوصايا وصاياهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم، فأنا أبين ما قد يشكل منها، إذ لا اعتراض فيها؛ لأن العتق مبدأ على جميع الوصايا والجارية مخيرة في العتق إلى أجل. فإذا اختارت العتق ولم يحملها الثلث، وجب أن يعتق منها ما حمل الثلث معجلا، وسقط جميع الوصايا! وإن حملها الثلث، أو حملها وزيادة عليها، كان الأمر فيها في المحاصة على ما قال، فإن رجعت الجارية عند الأجل عن اختيار العتق وأحبت البيع، بيعت وأتم لأهل الوصايا وصاياهم- كما قال- إن كان في ثمنها وفاء بما بقي من وصاياهم؛ وإن لم يكن فيه وفاء بذلك تحاصوا فيه بما بقي من وصاياهم، يضرب كل واحد منهم فيه بما بقي له من وصيته، ويدخل الورثة (فيه)(14/351)
معهم، فيضربون فيه بما انتقصوهم في المحاصة أولا؛ مثال ذلك أن يكون أوصى لرجل بعشرة، ولرجل بعشرين، ولابنه بخدمة الجارية حتى يبلغ النكاح- وقيمتها ثلاثون، (وقيمة الخدمة ثلاثون) وترك من المال تسعين؛ فاختارت الجارية العتق، فالثلث على هذا أربعون، لأن الميت ترك تسعين - والجارية وقيمتها ثلاثون، فتوقف الجارية من الثلث بثلاثين، ويبقى منه بعدها عشرة، فيتحاص في هذه العشرة وفي الخدمة التي قيمتها ثلاثون أهل الوصايا، وللابن الموصى له بالخدمة أو جميع الورثة إن لم يجيزوا له الوصية، فيضرب فيها الورثة بثلاثين والموصى له بعشرين، والموصى له بعشرة، بعشرة؛ فيحصل للورثة نصف جميع الخدمة، ونصف العشرة؛ ويحصل للموصى له بالعشرين ثلث الخدمة بعشرة، وثلث العشرة ثلاثة وثلث؛ وللموصى له بعشرة سدس الخدمة بخمسة وسدس العشرة بواحد وثلثين؛ فيكون كل واحد منهم قد استوفى ثلثي ما أوصى له به، وبقي له من وصيته الثلث، وتعتق الجارية عند انقضاء الخدمة على ما اختارته، فإن رجعت عما كانت اختارته من العتق وأحبت البيع بيعت، فإن بيعت بثلاثين أو بأكثر من ذلك أتم من العشرين منها- وصايا أهل الوصايا، لأن الذي بقي لكل واحد منهم من وصيته ثلثها، ومبلغ الجميع عشرون، فيأخذ الورثة عشرة، لأنها ثلث وصيتهم الباقي لهم، ويأخذ الموصى لهما- العشرة الباقية؛ لأنها ثلث وصيتهما الباقي لهما، فيقتسمانها بينهما أثلاثا على قدر وصاياهما، وترجع العشرة الباقية من ثمن الجارية ميراثا بين جميع الورثة، إذ قد استوفى جميع الموصى لهم وصاياهم، وإن بيعت الجارية بأقل من عشرين، تحاص الورثة والموصى لهما في ذلك بما بقي من وصاياهم وذلك ثلثها، عشرة للورثة،(14/352)
وعشرة للموصى لهما: ثلاثة، وثلث للواحد، وستة وثلثان للآخر، فإن كانت الجارية بيعت باثني عشر، أخذ منها الورثة ستة، فاقتسموها بينهم على الميراث إن لم يجيزوها للابن، وأخذ منها الموصى له بعشرين - أربعة، والموصى له بعشرة - اثنين، وبالله التوفيق.
[: يقول لعبده أخدم فلانا عشر سنين ثم فلانا بعده عشرة أخرى ثم أنت حر]
ومن كتاب العرية
وسألت ابن القاسم عن رجل يقول لعبده أخدم فلانا عشر سنين، ثم فلانا بعده عشرة أخرى، ثم أنت حر، فيجني على رجل في خدمة الأول، فيقال للمخدم الأول: أتفديه بجنايته؟ فإن افتداه اختدمه بقية السنين، ثم أخذه المخدم الآخر بلا غرم، فاختدمه أيضا عشر سنين؛ فإن أبى المخدم الأول أن يفتديه، أسلمه إلى المجني عليه فاختدمه وقاصه بخدمته في دية جرحه، فإن أدى دية جرحه قبل انقضاء العشر سنين، رجع إلى المخدم الأول يخدمه بقية العشر سنين، فإن انقضت العشر سنين قبل أن يستوفي دية جرحه، قيل للمخدم الأخير: أتفديه ببقية دية الجرح؟ فإن فداه، أخذه فاختدمه؛ وإن أبى، اختدمه المجروح؛ فإن أدى ما بقي عليه من دية الجرح قبل انقضاء العشر سنين، رجع أيضا إلى المخدم الآخر فاختدمه بقية العشر سنين؛ فإن انقضت العشر سنين قبل أن يؤدي دية الجرح، عتق وكان ما بقي من دية الجرح دينا يتبع به، قال: وسبيله في هذا سبيل المدبر، والمعتق إلى أجل - إذا جنى(14/353)
أحدهما على رجل، وفي رواية سحنون قال ابن القاسم: ويقال للمخدم الأول أد قيمة هذه الجناية واختدم العبد سنينك، فإن فعل، اختدمه؛ فإذا انقضت السنة، قيل للمخدم الثاني، أد إلى الأول جميع ما أدى واختدمه سنتك؛ فإن أبى الأول أن يفتديه، قيل للثاني أد إلى المجروح عقل جرحه واختدمه سنتك فقط، ثم يخرج حرا؛ وليس له أن يقول: اختدمه سنتي وسنة المخدم الأول، فإن أبى، أسلمه إلى المجروح يختدمه سنتين، فإن كان فيها وفاء، وإلا اتبع العبد مما بقي من جنايته دينا في ذمته، وعتق العبد بعد سنتين.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذه المسألة جار على الاختلاف في مسألة العبد الموصى بخدمته لرجل، وبرقبته لآخر، يجني جناية، الواقعة في كتاب جنايات العبيد من المدونة، وقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال، أحدها: أن الحق في الافتكاك لصاحب الخدمة، من أجل أنه هو المقدم بها على صاحب الرقبة، فهو المبدأ بالتخيير بين الافتكاك والإسلام. والثاني: أن الحق في ذلك لصاحب الرقبة الذي المرجع إليه وهو المبدأ بالتخيير. والثالث: أن الحق في ذلك لصاحب الرقبة أيضا الذي المرجع أيضا إليه، إلا أنه يبدأ صاحب الخدمة بالتخيير، من أجل أنه هو المقدم بها على صاحب الرقبة؛ فهذه الثلاثة الأقوال كلها تدخل في هذه المسألة، لأن المخدم الأول في هذه المسألة مقدم على المخدم الثاني، كما أن المخدم الأول في مسألة المدونة مقدم على صاحب الرقبة، ورواية عيسى عن ابن القاسم هذه قول رابع في المسألة، وهو على قياس القول بأن الحق في(14/354)
الافتكاك لصاحب الخدمة، وهو المبدأ بالتخيير بين الافتكاك والإسلام يدخل أيضا في مسألة المدونة، فيتحصل في كل واحدة من المسألتين أربعة أقوال، أحد الأقوال في هذه المسألة رواية عيسى المذكورة أنه إن افتداه المخدم الأول اختدمه بقية السنين، ثم أخذه المخدم الثاني بلا غرم فاختدمه أيضا عشر سنين، كما قال في مسألة المدونة على القول بأن المبدأ بالتخيير صاحب الخدمة أنه إن افتكه خدمه إلى الأجل، ثم أسلمه إلى الذي بتل له ولم يكن عليه قليل ولا كثير؛ وأما قوله في رواية عيسى هذه: فإن أبى المخدم أن يفتديه أسلمه إلى المجني عليه، فاختدمه وقاصه بخدمته في دية جرحه، فإن أدى دية جرحه قبل انقضاء العشر سنين، رجع إلى المخدم الأول يختدمه بقية العشر سنين إلى آخر قوله؛ فهو خلاف لما في المدونة، والذي يأتي في هذه المسألة على قياس قوله في المدونة إن أبى المخدم الأول أن يفتديه وأسلمه، أن يسقط حقه ويكون المخدم الثاني بالخيار بين أن يفتكه أو يسلمه؛ فإن أفتكه اختدمه سنة فقط، وإن أسلمه اختدمه المجروح؛ فإن استوفى منه دية جرحه قبل انقضاء (العشرين عاما، عتق واتبعه بما بقي من جنايته- دينا ثابتا في ذمته، وهذا هو القول الثاني في هذه المسألة؛ ويأتي في مسألة المدونة على قياس قوله في هذه الرواية، إن أبى المخدم أن يفتك وأن يختدمه المجني عليه، وقاصه بخدمته في حياته، فإن استوفاها قبل انقضاء) أجل الخدمة، كان لصاحب الرقبة، وإن انقضى أجل الخدمة قبل أن يستوفي دية جرحه، كان صاحب الرقبة بالخيار بين أن يفتكه بما بقي من دية جرحه، أو يسلمه إليه عبدا. والقول الثالث في هذه المسألة رواية سحنون عن ابن القاسم، وهي تأتي على قياس القول الذي اختاره سحنون في المدونة وقال فيه: إن أحسن قوله مما جمعه عليه غيره من كبار أصحاب مالك، فإن الحق في الافتكاك(14/355)
للذي إليه مرجع الرقبة، إلا أن المبدأ بالتخيير صاحب الخدمة، يدل على ذلك قوله في أول المسألة، قال ابن القاسم: ويقال للمخدم الأول: أد قيمة هذه الجناية واختدم العبد سنتك، لأن قوله: ويقال بالواو، دليل على أن قوله: ويقال، معطوف على كلام محذوف، سكت عنه للعلم به وهو أن الحق في ذلك للمخدم الثاني، من أجل أن المرجع إليه ويخير الأول ابتداء على ما قال من أجل أن العبد بيده، وهو مقدم في الاختدام على ما قال إلى آخر قوله. والقول الرابع في هذه المسألة، يأتي على قياس القول بأن الحق في الافتكاك إلى صاحب المرجع- وهو المخدم الثاني، أو صاحب الرقبة- وهو مبدأ بالتخيير، فإن افتكه اختدمه الأول، فإذا انقضت سنوه رجع إلى المخدم الثاني الذي فكه فيختدمه؛ فإذا انقضت سنوه، أعتق؛ وإن أسلمه، قيل للمخدم الأول: إن أحببت أن تفتكه فافتكه، فإن افتكه خدمه، فإن انقضت سنوه لم يكن للمخدم الثاني إليه سبيل، إلا أن يدفع إليه ما افتكه به؛ فإن أبى من ذلك، كان أحق به يختدمه سني المخدم الثاني؛ ويأتي على قياس رواية عيسى أنه إن أبى المخدم الثاني أن يفتديه وأسلمه، اختدمه المجروح ويقاصه بخدمته في دية جرحه؛ فإن استوفى دية جرحه قبل أن تنقضي سنو المخدم الأول، اختدمه المخدم الأول بقية سنيه، ثم استخدمه المخدم الثاني سنيه في عتق وإن لم يستوف دية جرحه حتى مضت سنو الأول وبعض سني الثاني استخدمه الثاني بقية سنيه ثم عتق، وإن انقضت سنو الثاني أيضا قبل أن يستوفي دية جرحه، عتق واتبعه بما بقي من دية جرحه دينا ثابتا في ذمته؛ وهذا هو القول الخامس، وقوله إلى المجني عليه إذا أسلم إليه أنه يختدمه ويقاصه بخدمته في دية جرحه؛ معناه أنه يؤاجر من غيره وتدفع إليه إجارته في دية جرحه، وإن اختدمه هو، فلا يدفع إليه على شرط المقاصة؛ لأنه يدخله(14/356)
فسخ الدين في الدين، ولكنه يؤاجر منه؛ فإذا اجتمع قبله من إجارته شيء، قضى به في ماله من دية جرحه؛ وقد مضى في سماع أصبغ من كتاب الحبس نظير هذه المسألة والكلام عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخدم عبده الرجل عشر سنين ثم هو حر]
مسألة وسئل عن رجل يخدم عبده الرجل عشر سنين ثم هو حر، هل للعبد أن يعتق عبده بغير إذن سيده؟ أو هل للسيد أن يأذن له في ذلك بغير إذن المخدم؟ قال: لا يجوز للعبد عتق إلا برضى سيده ورضى المخدم، فإن أذنا جميعا فأعتق، كان ولاؤه لسيده، ولم يرجع ولاء ذلك العبد إلى العبد المعتق إلى الأجل - وإن أعتق؛ لأنه لو رضي المخدم أن يأخذ السيد ماله، جاز له ولم يكن للعبد فيه حجة، إلا أن يتقارب أجل عتقه.
قال محمد بن رشد: هذا على القول بأنه ليس لسيد العبد المخدم أن ينتزع ماله إلا برضى المخدم، وقد مضى الاختلاف في ذلك، والقول فيه في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: أوصى بخدمة عبدين له لرجلين إلى أجل ثم هما حران]
ومن كتاب استأذن سيده
وسألته عن رجل أوصى بخدمة عبدين له لرجلين إلى أجل، ثم هما حران، لكل رجل عبد وهما أجنبيان وأجنبي ووارث، فلم يحملهما الثلث؛ قال: تسقط الخدمة عنهما ويعتقان بالسهم.(14/357)
قال محمد بن رشد: قوله يعتقان بالسهم، يريد يعتق ما حمل الثلث منهما بالسهم خرج فيه بعض أحدهما أو أحدهما وبعض الآخر، لأن وجه العمل في ذلك، أن يقوم كل واحد منهما ثم يسهم بينهما، فإن كان قيمة أحدهما ثلاثين، والثاني ستين، والثالث أربعين؛ فإن خرج السهم على الذي قيمته ستون، عتق منه ثلثاه ورق الآخر، وإن خرج على الذي قيمته ثلاثون عتق، وعتق من الآخر سدسه بقيمة الثلث؛ وهذا هو المعلوم من مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها- أن القرعة تكون في الموصى بعتقهم، وفي المبتلين في المرض؛ وقد وقع في رسم الوصايا من سماع أصبغ بعد هذا في الموصى بعتقهم إلى أجل أنهم يتحاصون إذا بعدت الآجال، وإن كان بعضها أبعد من بعض، فيحتمل أن يكون ذلك اختلافا من قوله، ويحتمل أن يتأول ذلك على أنه إنما أراد الابتداء بمن قرب أجل عتقه على من بعد إذا كانا بعيدين جميعا، فعبر على الاستهام بالمحاصات، لأنه إذا أسهم بينهما فلم يبدأ أحدهما على صاحبه، وقوله: إن الخدمة تسقط إذا لم يحملها الثلث، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن العتق يبدأ عند ضيق الثلث على ما سواه من الوصايا، وبالله التوفيق.
[: العبد يكون بين الرجلين فيخدم أحدهما نصيبه رجلا سنة]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه
وسألت ابن القاسم عن العبد يكون بين الرجلين فيخدم أحدهما نصيبه رجلا سنة، ثم يعتق نصيبه ذلك المخدم، أيقوم عليه نصيب صاحبه؟ قال: لا عتق له فيه حتى تتم السنة، وحدوده وشهادته شهادة عبد؛ فإذا انقضت السنة، عتق عليه نصيبه، وقوم(14/358)
نصيب صاحبه عليه؛ قلت: ولا يؤخذ منه نصيب صاحبه فيوقف إلى السنة خوفا أن تأتي السنة وهو معدم، قال: إن كان يخاف على ماله توى قبل السنة أخذت منه قيمة نصيب صاحبه ووقفت، وإن كانت له أموال مأمونة من دور وأرضين، أو كان مليا لم يؤخذ منه شيء حتى تأتي السنة؛ قلت: أرأيت لو أنه أخدم نصيبه سنة فلم يحدث فيه عتقا، فأعتق صاحبه الذي لم يخدم نصيبه؛ أيقوم عليه نصيب هذا المخدم الساعة؟ قال: لا يقوم عليه نصيب صاحبه المخدم حتى تأتي السنة، ولكن إن كان يخاف عليه عدم، أو ذهاب ما في يديه، أخرجت القيمة من يديه ووقفت إلى الأجل، فإذا حل الأجل، قومت عليه.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أخدم نصيبه من العبد رجلا سنة ثم أعتقه، أنه لا عتق له فيه حتى تتم سنة - صحيح، مثل ما في المدونة وغيرها، ولا اختلاف فيه إذ ليس له أن يبطل ما وجب للمخدم فيه بعتقه إياه، ومعنى ذلك- عندي- إذا كان المخدم قد قبضه، وأما إذا كان لم يقبضه حتى أعتقه، فيعجل العتق والتقويم ويبطل الإخدام على المشهور في المذهب المنصوص عليه في المدونة وغيرها من أن الرجل إذا تصدق على رجل بعبد ثم أعتقه قبل أن يقبضه المتصدق عليه، إن العتق ينفذ، والصدقة تبطل؛ وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في سماع محمد بن خالد من كتاب الصدقات. وأما قوله: فإذا انقضت السنة قوم عليه، ففيه اختلاف: قيل إنه يعجل عليه تقويمه ويكون كله حرا إلى ذلك الأجل إلا أن يشاء أن يعتق نصيبه(14/359)
منه إلى ذلك الأجل- وهو مذهبه في المدونة، وقيل: إن الشريك مخير بين أن يقومه عليه الآن، وبين أن يتماسك بحظه حتى يحل الأجل فيقومه عليه عند حلوله؛ وقد مضى هذا مع زيادة بيان فيه في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب العتق، وأما إذا أعتق الشريك الذي لم يخدم نصيبه منه، فقوله: إنه لا يقوم عليه نصيب صاحبه المخدم حتى تأتي السنة صحيح لا اختلاف فيه، لأن في تعجيل تقويمه عليه إبطالا لخدمة المخدم فيه فليست كمسألة رسم سلف من سماع عيسى من كتاب الحبس، فلا يدخلها من الاختلاف شيء مما دخل فيها، وبالله التوفيق.
[: أوصى بثلث ماله لرجل ولآخر بخدمة عبده ما عاش ثم هو حر]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسألته عن الذي أوصى بثلث ماله لرجل، ولآخر بخدمة عبده، ما عاش ثم هو حر، وكان العبد هو الثلث، أو كان الثلث أكثر من العبد؛ قال: إذا كان العبد هو الثلث بعينه، قلنا: كم ثمن العبد حين خرج من الثلث، قيل: مائة دينار، قلنا: فهذا ثلثه، قلنا: بكم ثمن خدمة هذا العبد ما عاش هذا الموصى له بالخدمة؟ قيل: خمسون، قلنا: فهذه مائة وخمسون، فيكون لصاحب المائة ثلثا الخدمة، ويكون لصاحب الخمسين ثلثها إلى الأجل، ثم يعتق، وإن كان الثلث أكثر من ثمن العبد بخمسين دينارا، والمسألة كما هي، فالوصية مائتا دينار بقيمه العبد، فللذي أوصى له بالثلث أن يحاص بخمسين ومائة دينار، وصاحب الخدمة بخمسين، لأن قيمة الخدمة خمسون، فقد صار الآن الذي يتحاص فيه هؤلاء مائة(14/360)
دينار، الخمسون الناض، والخمسون قيمة الخدمة، فللذي أوصى له بالثلث ثلاثة أرباع هذه المائة، وللذي أوصى له بالخدمة ربعها، فيعطي كل رجل وصيته في الذي أوصى له فيه، فيعطي الخمسين الناضة الذي أوصى له بالثلث خالصا، ويرجع إلى الخدمة فيكون له نصفها، وللموصى له بالخدمة نصفها؛ وكذلك أيضا لو أوصى لرجل بمائة دينار، ولآخر بخدمة عبده - ما عاش ثم هو حر؛ كان العمل فيها على ما فسرت لك، قطع لكل إنسان وصيته في الشيء الذي أوصى له به؛ وقد اختلف قول مالك فيها: فمرة كان يقول إذا كانت الوصية أكثر من الثلث وضعت وصيته في جميع مال الميت، ومرة كان يقول يقطع لصاحبها مبلغ الثلث في ذلك الشيء بعينه، وهو قول ابن كنانة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة المعنى لا إشكال فيها ولا اختلاف، إلا في قوله: إنه يقطع للذي أوصى له بخدمة العبد إذا لم يحملها الثلث بما حمل منها في الخدمة، وأن قول مالك اختلف في ذلك؛ فإنه خلاف لما يأتي في سماع موسى، ولما في المدونة، أيضا؛ لأنه إنما ذكر فيها اختلاف مالك إذا أوصي له بشيء بعينه فلم يحمل ذلك الثلث، وأما إذا أوصى له بخدمة أو بسكنى، فقال: إنه لا يقطع له في ذلك وتكون وصية شائعة في ثلث جميع مال الميت، وإنه قول مالك والرواة كلهم لا اختلاف بينهم فيه، وقد بان بهذه الرواية اختلاف في ذلك، ويتفضل فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يقطع له في الشيء الذي أوصى له به- كان خدمة أو رقبة. والثاني: أنه لا يقطع له بما حمل الثلث في ذلك، وتكون له وصية شائعة في جميع الثلث كانت وصية بخدمة أو برقبة. والثالث: الفرق في ذلك بين أن يوصي(14/361)
له بالخدمة أو بالرقبة؛ ولو كان الثلث أقل من قيمة العبد، لكان الورثة بالخيار بين أن يجيزوا الوصية، وبين أن يعتقوا من العبد ما حمل الثلث منه بتلا، وتبطل الوصية بالخدمة والمال؛ لأن العتق مبدأ على الوصايا، هذا قوله في المدونة وزاد فيها وهذا عليه أكثر الروايات، وفي هذه الزيادة دليل على أن في ذلك اختلافا، والخلاف فيه محتمل، لأن الذي يوجبه القياس والنظر، أن يعتق منه ما حمل الثلث بعد موت الذي أوصى له بخدمته ما عاش، ويتحاص فيما قابل ما يعتق من الخدمة الموصى له بالخدمة والموصى له بالثلث، لأن الموصي قد بدأ الخدمة على العتق، فوجب أن يبدأ في البعض الذي حمل منه الثلث، كما يبدأ في الجميع إذا حمله الثلث، وبالله التوفيق.
[: أخدم رجلا نصف عبد له حياته ثم عتق النصف الباقي]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب إلى أجل وقال في رجل أخدم رجلا نصف عبد له حياته، ثم عتق النصف الباقي، قال: يقوم عليه ويخرج العبد حرا، ويؤخذ من السيد نصف القيمة، فيستأجر للمخدم منها من يخدمه، فإن هلك العبد وقد بقي من المال شيء، رجع ما بقي إلى السيد الذي أعتق عليه، وإن هلك المخدم وقد بقي من المال شيء رجع أيضا إلى السيد الذي أعتق عليه، وذلك إذا كانت الخدمة إلى حياة المخدم، وإن استنفد المخدم نصف القيمة قبل أن يموت، فلا حق على السيد الذي أعتق.(14/362)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على قياس قوله في أمهات الأولاد من المدونة في الذي يخدم جاريته رجلا ثم يطؤها فيولدها، والاختلاف في تلك، هل تؤخذ منه أمة تخدم مكانها، أو يستأجر له من القيمة من يخدم مكانها- داخل في هذه، فقد قال: إنه يؤخذ منه القيمة فيشتري بها نصف عبد يكون مكان المعتق، ولكن الاستئجار بالقيمة أولى وأصوب؛ لأن العبد إذا اشترى خشي عليه الهلاك، فإن لم يكن له مال يقوم عليه فيه، بقي على حاله يخدم الرجل إلى وقت الخدمة، ثم يعتق بقيته كله إن بلغ الأجل وسيده حي، وإن مات السيد قبل بلوغ الأجل، كان النصف الذي كان أعتقه عتيقا، والنصف الباقي رقيقا، إلا أن يكون قد رفع ذلك إلى السلطان في حياة السيد، فحكم بإنفاذ العتق إلى انقضاء وقت الخدمة، فينفذ ذلك من حكمه ويكون عتيقا كله من رأس المال، وقد ذهب بعض أهل النظر إلى أن هذه المسألة يعارضها ما تقدم في رسم يوصي، وما في المدونة وغيرها من أن من أخدم جاريته رجلا ثم أعتقها، أنها لا تعتق عليه بعد انقضاء الخدمة، وليس ذلك بصحيح، والفرق بين المسألتين بين وهو أنه أعتق في هذه المسألة نصف عبده الذي لا إخدام فيه، ففعل من ذلك ما يجوز له، والمسألة التي عارضها بها فعل سيد العبد فيها ما لا يجوز له من عتق ما قد أخدمه، والله الموفق.
[: عبد بين اثنين أخدم أحدهما مصابته رجلا ثم أراد الآخر البيع]
ومن كتاب العشور وقال في عبد بين اثنين أخدم أحدهما مصابته رجلا، ثم أراد الآخر البيع قال: يبيع نصيبه وحده إن شاء، ولا يبيع الآخر معه،(14/363)
وكذا إن آجره، قلت: وله أن يؤاجر نصيبه بغير إذن صاحبه؟ قال: نعم، وكذلك الدار.
قال محمد بن رشد: قوله يبيع نصيبه إن شاء وحده ولا يبيع معه الآخر، معناه ولا يلزمه أن يبيع معه، إذ ليس ذلك له، للحق الذي للمخدم في اختدامه، وكذلك إذا آجر نصيبه من العبد، أو كانت دارا فأسكن نصيبه منها رجلا، أو إكراه منه؛ وفي أول سماع أصبغ عن أشهب خلاف هذا أن من حق شريكه إذا دعاه إلى البيع معه أن يبيع معه، وتنفسخ الإجارة، ويبطل الإخدام، وكذلك الدار على مذهبه إذا كانت لا تنقسم وقاله أصبغ أو لم يعجبه اشتراط النقد؛ ولكلا القولين وجه، فوجه قول ابن القاسم في هذه الرواية، أنه لما فعل في نصيبه ما يجوز له من إخدامه أو إجارته، لم يكن لشريكه أن يبطل ذلك عليه، وهو لم يتعد فيما فعل؛ ووجه قول أشهب أنه لما كان الحكم بين الشريكين فيما لا ينقسم إذا دعا أحدهما إلى الانفصال من صاحبه فيه لينفرد بحظه منه أن يباع، فيقتسما الثمن بينهما، إذ قد لا يجد من يشتري حصته منه على الإشاعة بحال، أو لا يجد من يشتريها منه إلا بأقل من نصف قيمتها كلها لضرر الشركة ولم يكن لشريكه أن يبطل عليه هذا الحكم الواجب له بما يعقده في نصيبه من الإجارة، أو يفعله من الإخدام، وهذا القول أظهر، وإياه اختار أصبغ، ولم يعجبه اشتراط النقد في الإجارة، لما للشريك والحق في فسخها أو فسخ ما بقي منه أن دعيا إلى البيع، ولم ير أشهب في النقد في ذلك بأسا. وقوله في ذلك أظهر من قول أصبغ، لأن الخيار الذي للشريك في فسخ الإجارة، أمر يوجبه الحكم له إن دعا إلى ذلك، فوجب ألا يكون له تأثير في المبيع من النقد إذ قد سلم العقد من أن(14/364)
ينعقد على خيار، كما أن الخيار الذي للسيد في فسخ نكاح عبده إذا تزوج بغير أمره، أو للوصي في فسخ نكاح يتيمه إذا تزوج بغير أمره، لا تأثير له في فساد النكاح، إذ لم ينعقد بين المتناكحين على خيار، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين رجلين أعتق أحدهما مصابته إلى سنة وأعتق الآخر بتلا]
مسألة وقال في عبد بين رجلين أعتق أحدهما مصابته إلى سنة، وأعتق الآخر بتلا: إن بعض أهل العلم يقول: تقوم خدمته سنة فتؤخذ من الذي أعتق بتلا، فتدفع إلى المخدم ويخرج العبد حرا كله الساعة، لأن الخدمة رق؛ قيل له: لا يكون على حاله يعتق منه هذا النصف البتل، ويكون الآخر عتيقا بعد سنة؛ فقال: قد كنا نقول هذا القول ثم استحسنا هذا الآخر، ثم رجع ابن القاسم عن هذا فقال: أحسن ما فيه أن يكون على حاله؛ لأنه ظلم أن يؤخذ منه قيمة خدمة السنة ويكون ولاؤه لغيره.
قال محمد بن رشد: القول الذي كان يقوله أولا ثم رجع إليه آخرا، هو المشهور في المذهب المنصوص عليه في المدونة وفي غيرها موضع من كتب العتق من العتبية، من ذلك ما وقع في رسم أوصى من سماع عيسى منه، وهو الأظهر، لأن الأول هو الذي ابتدأ الفساد، فلا يقوم على الثاني وقد بين في الرواية وجه القول الذي كان استحسنه ابن القاسم، والحجة له في رجوعه عنه إلى القول الأول المشهور في المذهب بما لا يزيد عليه، وبالله التوفيق.(14/365)
[مسألة: بتل أحدهما مصابته فقال الآخر أنا أعتق إلى سنة]
مسألة قال ابن القاسم: وإن بتل أحدهما مصابته، فقال الآخر: أنا أعتق إلى سنة؟ قيل له: إما أن تعتق الساعة، وإما أعتقناه. يريد قومنا على هذا المعتق وأعتقناه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، أنه إذا أعتق أحدهما مصابته منه بتلا، فليس لشريكه أن يعتق مصابته منه إلى أجل؛ ويقال له: إما أن تعتق حظك منه بتلا، وإما أن يقوم على الذي أعتق حظه منه بتلا - فيكون كله حرا، وإنما يختلف إذا بادر فأعتق حصته منه إلى أجل، فقيل: إنه يخير أيضا بين أن يعجل عتقه الساعة، أو يقوم على الأول؛ وهو قول ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب العتق، وفي المدونة وروايته عن مالك، ورواية أشهب عنه أيضا؛ والوجه في ذلك أن يقوم العبد بين الشريكين على الذي أعتق نصيبه منه، حق للشريك في إفساد حظه منه عليه، وحق للعبد في تبتيل عتق جميعه، فإذا ترك الشريك حقه في التقويم وأعتق حظه منه إلى أجل، كان من حق العبد أن يقوم على الأول فيبتل عتقه، إلا أن يبتل الثاني عتق نصيبه، فلا يكون للعبد حجة، ولبعض الرواة في المدونة - وهو المخزومي - أنه يعجل العتق على الذي أعتقه إلى أجل، ولا يقوم على الأول، وهو اختيار سحنون، ووجه قوله: إنه لما أعتق نصيبه إلى أجل، فقد أفاته بالعتق، ووجب له ولاؤه؛ فلم يجب أن يقوم على الأول لوجهين، أحدهما: أنه قد ترك حقه في التقويم عليه، والثاني: أنه قد فوت نصيبه بالعتق ووجب له ولاؤه، فلا يصح أن يفسخ ذلك، وإذا لم يصح(14/366)
فسخه، وجب أن يعجل عتقه لحق العبد في تعجيل عتقه، وهذا القول أظهر - والله أعلم، وقد مضى هذا كله في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب العتق، وبالله التوفيق.
[: تصدق على ابن له بخدمة جارية له حياته]
ومن كتاب البراءة
وسئل عن رجل تصدق على ابن له بخدمة جارية له حياته، فإذا مات، فهي لابن له آخر مبتولة، ثم إن الأول وطئها فحملت؛ قال: يدرأ عنه الحد للشبهة، لأني سألت مالكا عن الرجل يخدم جارية له حياته، أو إلى أجل من الآجال، ثم هوي بها فأراد أن يتزوجها، قال مالك: لا أرى أن يتزوجها؛ قال ابن القاسم: وقد بلغني عن مالك أنه رآه بمنزلة الذي يتزوج أمة له فيها شرط فمسألتك مثلها، أرى أن يدرأ عنه الحد، ويقوم عليه بخدمة حياة هذا الواطئ على قدر الرجاء فيها والخوف، فيعطي المبتولة له قيمتها يوم ترجع على قدر ذلك، وتكون أم ولد للواطئ؛ قلت: فلو كان المبتولة له هذا الواطئ؟ قال: يخرج الواطئ قيمتها، فيخارج للمخدم منها من يخدمه ما عاش، فإن نجزت القيمة قبل موته، فلا شيء على الواطئ (وإن مات المخدم وبقي من المال بقية، رد على الواطئ) ما بقي من القيمة.(14/367)
قال محمد بن رشد: يتحصل فيمن وطئ الجارية التي أخدمها حياته، ثم جعل مرجعها لغيره فحملت منه- أربعة أقوال، أحدها: أنه بمنزلة من وطئ أمة له فيها شرك فحملت منه، يدرأ عنه الحد، وإن كان عالما بأن وطأه إياها لا يحل له، وتقوم عليه يوم وطئها على الرجاء فيها والخوف عليه؛ يقال: كم كانت تساوي على أن تكون للمشتري بعد موت المخدم لو كان يحل بيعها على ذلك، فيغرم ذلك للذي إليه مرجع الرقبة، وتكون له أم ولد، ولا يكون عليه من قيمة الولد شيء - إن كان له مال، فإن لم يكن له مال، جرى ذلك على الاختلاف في الأمة تكون بين الشريكين يطؤها أحدهما، فتحمل ولا مال له. وهذا هو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وفي سماع محمد بن خالد بعد هذا- قياسا على ما سمعه من مالك في أنه لا يجوز له أن يتزوجها، والثاني: أنه يحد إلا أن يعذر بالجهالة فلا يحد، وتقوم عليه بعد العقوبة؛ وهو قول ابن وهب، واختيار أصبغ. والقول الثالث: أنه يحد ولا يعذر في ذلك بالجهالة، كالمرتهن والمستعير، ولا يلحق به الولد؛ وهو قول أشهب وابن الماجشون، ومطرف ومحمد بن سلمة المخزومي، وأبي المصعب الزهري، قال ابن الماجشون في المبسوطة: ولم أقل أنا هذا، بل القرآن قاله، فسل القرآن عنه يخبرك بتعديه وجنايته، قال جل ثناؤه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] إلى قوله: {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]- إلى قوله: {هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] ، أفليس من كان عاديا، حقيقا بالحد؟ قال محمد بن مسلمة؛ ولقد أنزله من أسقط عنه الحد وقوم عليه الجارية - أحسن حالا ممن وطئ زوجته، أو ما ملكت يمينه؛ لأنه ملكه بفجوره، ما لا ملك له فيه بأن باعه على مالكه كرها. والقول الرابع: أن الحد يدرأ عنه بالشبهة، ويلحق به(14/368)
الولد، ويقوم عليه فيغرم قيمته للذي بتلت له، ويقر الجارية على خدمتها، إلا أن يخاف عليه أن يطأها أيضا فإن خيف ذلك ولم يؤمن خورجت عليه، فأعطى خراجها حتى يموت، ثم تصير إلى الذي بتلت له؛ وكذلك الخدمة المؤقتة إلى المدة الطويلة التي تتجاوز عمر المخدم، ولو كانت الخدمة إنما هي الأيام اليسيرة التي لا تشبه الرق ولا الملك، لم يعذر بالجهالة وحده ولم يلحقه الولد قولا واحدا، واختلف التأويل في الخدمة إلى السنين الكثيرة التي لا تتجاوز عمر المخدم، هل يدخل فيها الاختلاف الذي في الخدمة إلى موت المخدم أم لا؟ فقيل: إنه يدخل في ذلك، وقيل: إنه لا يدخل فيه ويحد قولا واحدا، والأظهر أنه يدخل في ذلك، وأما إن وطئها الذي إليه مرجع الرقبة- وهي في اختدام المخدم- قبل أن ترجع إليه، فقال في الرواية: إن الواطئ يخرج قيمتها فيخارج للمخدم منها من يخدمه ما عاش، فإن نجزت القيمة قبل موته، فلا شيء على الواطئ؛ وإن مات المخدم وبقي من المال بقية، رد على الواطئ، وهو مثل أحد القولين في المدونة - إذا أخدم الرجل جاريته رجلا عشر سنين ثم وطئها فحملت. والقول الثاني: أنه يؤخذ من الواطئ في مكانها أمة تخدمه في مثل خدمتها، فإن ماتت هذه الأمة والأولى حية والمخدم حي، فلا شيء على الواطئ، وإن مات المخدم قبلها، رجعت إلى الواطئ وقد قيل: إنه يؤخذ منه قيمة الأمة المخدمة التي أولدها فيشتري منها أمة تخدم مكانها، فإذا مات المخدم صارت إلى الذي أخرج قيمتها، وهو قول المخزومي، وإن لم يكن له مال، كانت له أم ولد، وبقيت على خدمتها- قاله ابن القاسم في سماع محمد بن خالد بعد هذا في بعض الروايات، وهو صحيح على قياس قوله؛ وهذا كله على القول بأن من(14/369)
أخدم عبده رجلا حياته، أو سنين مسماة- ومرجعه بعد الخدمة إلى غيره - أن الذي جعل له مرجع الرقبة يستحقها من الآن، فيرثه إن مات، ويأخذ قيمته إن قتل، لأن الأول قد تبرأ منه وأسلمه، فإنما يختدمه للمخدم على ملك الذي له مرجع الرقبة، وهو قول ابن القاسم في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى بعد هذا؛ وأما على القول بأن من أخدم عبده رجلا سنين مسماة أو حياة المخدم، ورجع مرجع رقبته بعد الخدمة إلى غيره لا يستحقه الذي إليه مرجع الرقبة إلا بعد انقضاء الإخدام، وأنه تكون قيمته إن قتل، وميراثه إن مات- لسيده الذي أخدمه، وهو قول ابن القاسم في رسم القضاء العاشر من سماع أصبغ واختيار أصبغ فيه، والقولان لمالك في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الجنايات فيحد إن كانت أمة فوطئها الذي إليه مرجع الرقبة، ولا يلحق به ولدها، إذ لم يجب له على هذا القول بعد، وإنما يستخدمها الذي أخدم إياها (على ملك الذي أخدمه إياها وبالله التوفيق) .
[: قال لغلامه أخدم فلانا عشر سنين وأنت حر]
ومن كتاب العتق قال: وسألته عمن قال لغلامه: أخدم فلانا عشر سنين- وأنت حر، وإن أبيت فلا عتق لك ولا شرط، أو قال: ما أبقت أو غبت فعليك قضاؤه، فأبق. قال ابن القاسم: أرى الشرط عليه ثابتا- إن أبق، وإن لم يشترط ثم أبق، لم أر عليه قضاء ما أبق وهو حر. قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن لسيده شرطه الذي اشترطه، إذ ليس فيه غرر، ولا فساد، ولا إبطال واجب، ولا إيجاب باطل، ولا تحليل حرام ولا تحريم حلال؛ وما كان سبيل هذا من الشروط، فهو الذي(14/370)
قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم» . وعنى أنه في القرآن، فأجازه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث بريرة: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل - وإن كان مائة شرط» ، لأن العبد لم يكن له على سيده حق في العتق إلى العشرة الأعوام، أبق فيها أو لم يأبق، فيكون بما اشترط عليه من أنه لا حرية له إن أبق في العشرة الأعوام، قد أبطل حقا واجبا له عليه في ذلك، وما شرطه أن عليه قضاء ما أبق، فإن كان أراد أن يقضيه بعد حريته، فلا يلزم الشرط بذلك، إذ لا تتم حرية عبد وعليه خدمة. وإن كان أراد أنه لا يعتق إن أبق حتى يخدم الأيام التي أبق فيها زائدا على العشرة الأعوام، فالشرط بذلك جائز عامل، والسيد مصدق فيما يذكره من ذلك، ولا قضاء عليه فيما أبق إذا لم يشترط ذلك، لأن الحرية وجبت له بانقضاء العشرة الأعوام خدمها أو لم يخدمها- لمرض، أو تفرق أو إباق، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعطى عبدا يختدمه حياته]
مسألة قال: وسألته عن رجل أعطى عبدا يختدمه حياته، فأعطاه هو بعض أقاربه يخدمه على مثل هذا؛ قال: لا بأس بذلك، وكذلك السكنى في الدور وغير ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا إشكال فيه، لأنه(14/371)
حقه، فجاز أن يعطيه لمن شاء عطية، لأن هبة المجهول جائزة، وإنما الذي لا يجوز له أن يواجره حياته؛ ويجوز أن يواجره المدة القريبة، السنة والسنتين، والأمر المأمون بالنقد وغير النقد على ظاهر ما قاله في المدونة، وأما الأجل البعيد فلا يجوز بالنقد؛ واختلف فيه إذا لم ينقد؛ فلم يجزه في المدونة، وأجازه في رسم الأقضية الرابع من سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات؛ فإن وقع الكراء في السنين الكثيرة على القول بأن ذلك لا يجوز فعثر على ذلك، وقد مضى بعضها، فإن كان الذي بقي يسيرا لم يفسخ، وإن كان كثيرا فسخ قاله في كتاب محمد، وهو بين في المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال غلامي يخدم فلانا سنة ثم هو له وعليه دين]
مسألة قال: وسألته عن رجل قال: غلامي يخدم فلانا سنة ثم هو له وعليه دين هل يكف عنه غرماؤه إلى أمد هذه الخدمة؟ قال: أرى ألا يعدى عليه غرماؤه ببيعه حتى يقضي السنة، ويجب له بتلا؛ لأن للغرماء إجازته إن أحبوا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يعدى عليه غرماؤه ببيعه حتى تنقضي السنة، ويجب له بتلا؛ يدل على أنه لو مات، لكان ميراثه لسيده الذي أخدمه إياه، ولو قتل، لكان له قيمته؛ وذلك خلاف قوله في أول سماع يحيى بعد هذا، مثل قوله في رسم القضاء العاشر من سماع أصبغ من هذا الكتاب، ومثل قوله أيضا في رسم عتق من سماع عيسى من كتاب الجنايات؛(14/372)
وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك أيضا - على ما حكاه في سماع أصبغ من هذا الكتاب، وفي رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الجنايات، والذي يأتي في هذه المسألة على قياس رواية يحيى بعد هذا، وأحد قولي مالك، أن يباع للغرماء، ولا ينظر انقضاء أمد الخدمة، وهو قول مطرف؛ حكى ابن حبيب عنه أنه يباع ويتسلط الدين عليه، وإن كان في مدة الخدمة، لأنه صيرها ملكا له؛ قال: وهذا ما لا شك فيه ولا اختلاف عندنا، وقد مضى هذا المعنى أيضا في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس في الذي يحبس الحبس على الرجل، فيقول: هو لك حياتي، ثم هو في سبيل الله أو صدقة؛ لأن الاختلاف في ذلك هل يكون بعد موته في السبيل من ثلثه، أو من رأس ماله، على هذا الأصل، وبالله التوفيق.
[: يخدم الرجل العبد إلى أجل ويبتله بعد الأجل صدقة على رجل]
من سماع يحيى من ابن القاسم
من كتاب يشتري الدور
قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يخدم الرجل العبد إلى أجل، ويبتله بعد الأجل صدقة على رجل، ثم يقتل العبد، أو يموت؛ قال: يرث ما ملك عنه العبد، ويأخذ عقله إن قتل الذي تصدق به عليه بعد الخدمة؛ وذلك أن السيد قد كان تبرأ من جميع العبد ومنافعه، إذ جعل الخدمة إلى أجل لرجل والرقبة بعد الخدمة لآخر؛ فمن كان إليه مرجع العبد بعد أجل الخدمة، فهو(14/373)
أحق بميراثه وعقله. قلت: فإن لم يتصدق به بعد الخدمة على أحد فقتله السيد، قال: إن قتله خطأ فلا شيء عليه، وإن قتله عمدا غرم قيمته فاستؤجر بها للمخدم مثله إلى انقضاء أجل المخدمة؛ فإن بقي بعد انقضاء أجل الخدمة من قيمته شيء، رجع إلى سيده القاتل، وإن فنيت القيمة في إجارة من استؤجر للمخدم قبل انقضاء الأجل، فلا غرم على سيد العبد بعد إخراج جميع قيمة العبد المقتول. قلت: وكذلك لو قتله السيد وقد كان بتله لرجل صدقة عليه بعد أجل الخدمة، أكنت تستأجر من قيمته التي يغرم للسيد - أجيرا للمخدم، فإن بقي من تلك القيمة شيء بعد انقضاء أجل الخدمة، كان للذي تصدق عليه برقبته، وإن لم يبق شيء فلا شيء له، ويكون المخدم أحق بالتبدئة في استئجار أجير - بقية العبد المقتول من الذي تصدق عليه بالرقبة؛ فقال: لا يكون هذا الذي وصفت لك إلا في أن يقتله السيد عمدا، ومرجعه إليه بعد الخدمة؛ فأما إذا بتله لرجل بعد الخدمة ثم قتله عمدا، فهو بمنزلة أجنبي قتله، لأن مرجعه إلى غيره، فهو يغرم قيمته، ويكون الذي بتلت له الرقبة أحق به.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يخدم الرجل العبد وبتله بعد الأجل صدقة على غيره، أنه إن مات العبد أو قتل، يأخذ إن مات ماله أو قيمته إن قتل الذي تصدق به عليه بعد الخدمة؛ خلاف نص قوله(14/374)
في رسم القضاء العاشر من سماع أصبغ بعد هذا، وخلاف لأصله في مسألة رسم العتق من سماع عيسى قبل هذا- حسبما بيناه؛ وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك أيضا حسبما قاله في سماع أصبغ من هذا الكتاب، وفي رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الجنايات، فسواء على قوله في هذه الرواية قتل العبد في خدمة السيد الذي أخدمه أو أجنبي من الناس عمدا أو خطأ، تبطل الخدمة وتكون القيمة للذي جعل له المرجع بعد الخدمة؛ وأما إن لم يتصدق به سيده بعد الخدمة على أحد ههنا إن قتله سيده خطأ، فلا شيء عليه كما قال، لأنه أخطأ على نفسه بالقتل، فبطلت الخدمة؛ وإن قتله عمدا، لزمته قيمته كما قال، ويستأجر منها للمخدم من يخدمه مكان العبد الذي قتله، لأنه قصد إلى إتلاف الخدمة عليه؛ فإن فنيت القيمة قبل أجل الخدمة، لم يلزمه أكثر من ذلك؛ وإن انقضى الأجل قبل تمام القيمة، رجع ما بقي منها إلى السيد؛ وقد قيل: إنه يأتي بعبد يخدم المخدم مكان العبد الذي قتل، فإذا انقضى أجل الخدمة، رجع إليه عبده؛ وإن مات قبل الأجل، لم يكن عليه في بقية الأجل شيء، والقولان في المدونة؛ وقد قيل: إنه يشتري بالقيمة عبد يخدم المخدم مكانه، وهو قول المخزومي؛ وأما إن قتله أجنبي، فتلزمه قيمته لسيده، وتبطل الخدمة- قتله عمدا أو خطأ، وبالله التوفيق.
[: يقول يخدم فلان غلامي فلانا وفلانا ما عاشا ثم هو حر]
ومن كتاب الأقضية قال: وأخبرني ابن القاسم أنه سمع مالكا يقول في الرجل يقول: يخدم فلان غلامي فلانا وفلانا ما عاشا- ثم هو حر، فيموت أحد الرجلين، إن الخدمة كلها للباقي، ولا عتاقة للعبد(14/375)
حتى يموت الباقي؛ قال: قال مالك: فإن قال: يخدم فلانا يوما، وفلانا يوما، ثم هو حر بعد موتهما فمات أحدهما؛ رجع نصيبه من الخدمة إلى السيد، أو إلى ورثته إن مات. قلت لابن القاسم: فإن قال أحدهما للعبد: حظي من خدمتك عليك صدقة، قال: لا يعتق منه بذلك شيء، ولكن يكون رقه موقوفا، ويخدم نفسه النصف، والمخدم الباقي النصف؛ قيل له: فإن ترك له الباقي نصيبه من الخدمة، قال: يعتق كله؛ قلت: فإن مات أحدهما فرجع نصيبه من الخدمة إلى السيد، ثم ترك الشريك نصيبه من الخدمة للعبد؛ قال: لا يعتق حتى يموت المخدم الذي ترك نصيبه، قلت: لم وقد مات أحدهما وترك الآخر نصيبه من الخدمة للعبد؟ قال: لأن السيد قد ورث خدمة الميت منهما وثبت ذلك له، فترك الباقي حظه من الخدمة لا يضر السيد، كما لم يضر أحدهما حين ترك شريكه الخدمة- وهما باقيان، ولكن يخدم نفسه النصف، ويخدم السيد النصف حتى يموت المخدم الثاني؛ قال: وقال مالك: لا يجوز لواحد منهما أن ينزع مال العبد المخدم إذا جعل حرا إلى أجل.
قال محمد بن رشد: قد قيل إن نصيب من مات منهما من الخدمة يرجع إلى السيد وإن لم تقسم الخدمة بينهما بأن يقول لهذا يوم، ولهذا يوم؛ وقيل أيضا: إن نصيب من مات منهما يرجع على صاحبه، وإن كان قد قسم الخدمة بينهما، وتفرقته ههنا بين أن يقسم الخدمة بينهما أو لا يقسمها، قول ثالث في المسألة؛ والثلاثة الأقوال كلها لمالك، وقد مضى بيان ذلك في أول سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، وقوله: إنه إذا تصدق أحدهما على(14/376)
العبد بحظه من خدمته، أنه لا يعتق بذلك منه شيء- يريد حتى يموت المخدم الثاني؛ فإذا مات المخدم الثاني، عتق جميعه، ويخدم ما دام المخدم الثاني حيا- نفسه يوما، والمخدم الثاني يوما، ويسقط على مذهبه حق السيد في رجوع حظه من خدمة العبد إليه إن مات قبل المخدم الثاني بالهبة؛ لأنه حكم لما يرجع إلى السيد من الخدمة بحكم الميراث الذي يسقط حق الوارث فيه بهبة الموروث إياه قبل وفاته؛ فرأى أن الخدمة إذا وهبها المخدم للعبد في حياته، استوجبه العبد ولم يكن للسيد فيها حق، فإذا وهب المخدم الثاني حظه من الخدمة أيضا، عتق كله كما قال- على أصله في أن حق السيد فيما يرجع إليه من خدمة العبد بموت أحدهما قبل صاحبه، يبطل بالهبة؛ وفي ذلك من قول ابن القاسم نظر، إذ ليس يرجع إلى السيد خدمة حظ من مات منهما قبل صاحبه على سبيل الميراث، وإنما يرجع إليه، لأنه أبقاه لنفسه على ما يوجبه الحكم إذا قسم الخدمة بينهما فكان القياس ألا يبطل حقه في رجوع خدمة حظ من مات منهما قبل صاحبه إليه بهبته إياه، وهب كل واحد منهما حظه من ذلك، أو وهب ذلك أحدهما؛ ألا ترى لو قال: رجل يخدم عبدي فلانا سنة، ثم فلانا سنة، ثم فلانا سنة، ثم هو حر؛ فوهب المخدم الأول خدمته للعبد، لم يسقط بذلك حق المخدم الثاني في خدمة السنة الثانية، إذ ليست ترجع إليه بميراث عن المخدم الأول، لوجب أن تكون للعبد خدمته السنة التي وهب إياها، وللمخدم الثاني خدمة السنة الثانية، ثم يعتق العبد؛ فكان القياس على هذا في مسألتنا، إذا تصدق أحدهما على العبد بحظه من خدمته، أن يخدم نفسه يوما، والمخدم الثاني يوما- حتى يموت أحدهما؛ فإذا مات المخدم الواهب لخدمته أولا، رجع حظه من خدمته للسيد، وخدم يوما للسيد أو لورثته إن كان قد مات، ويوما للمخدم الثاني حتى يموت فيعتق جميعه؛ وإن مات المخدم الذي لم(14/377)
يهب خدمته أولا، رجع أيضا حظه من الخدمة إلى السيد فخدم نفسه يوما، والسيد وورثته إن كان قد مات يوما حتى يموت المخدم الأول الذي وهب حظه من الخدمة، فيعتق جميعه؛ وكذلك أيضا كان القياس على هذا إذا تركا جميعا الخدمة للعبد ألا يبطل بذلك حق السيد فيما يجب له من الحق في رجوع خدمة من مات منهما قبل صاحبه إليه، وأن يكون الحكم في ذلك أن يكون رق العبد موقوفا، فتكون خدمته لنفسه خاصة- خالصا- ما داما حيين حتى يموت أحدهما؛ فإذا مات أحدهما، رجع حظه من خدمة العبد إلى السيد، فخدم نفسه يوما، والسيد يوما، حتى يموت الثاني فيعتق جميعه؛ وأما إذا ما مات أحدهما قبل أن يهب حظه من خدمة العبد للعبد، فاستحق ذلك السيد، فلا إشكال فيما قاله في الرواية أن من حق السيد في اختدام حظه منه إلى أن يموت المخدم الثاني، لا يسقط بهبة المخدم الثاني لحظه من خدمة العبد ويكون السيد على حقه في خدمة نصفه، فيخدم له يوما، ولنفسه يوما، حتى يموت المخدم الثاني فيعتق جميعه؛ ولابن لبابة في المنتخب في هذه المسألة كلام مختل فاسد، قول ابن القاسم فيها ما لم يقله، وتأول عليه فيها ما لم يرده؛ وألزمه الاضطراب على ما قوله إياه، وتأوله عليه؛ ومعنى ما ذهب ابن لبابة في المسألة إليه- أن ابن القاسم لم يعجل عتق نصف العبد بشك إذا وهب أحدهما خدمة حظه، من أجل أن اليقين حاصل في رق النصف الآخر، وعجل عتقه بشك إذا وهبا جميعا خدمته من أجل أن اليقين حاصل في النصف الآخر، وطول الكلام في ذلك بتخليط لا يصح، إن لا يمكن تعجيل عتق بعض العبد بهبة أحدهما لحظه من الخدمة؛ لأن ما بقي فيه شعبة من الرق، فأحكامه أحكام عبد، ولا يصح لأحدهما فيه عتق، إذ لا يملك واحد منهما من رقبته شيئا وإنما يعتق بعتق السيد إياه على(14/378)
الشرط الذي شرطه، فلم يضطرب ابن القاسم في قوله- كما زعم ابن لبابة، بل جرى فيه على أصل واحد- غير صحيح- حسبما بيناه وقررناه؛ وأما على القول بأن حظ من مات منهما يرجع إلى صاحبه، وأنَّ قسم الخدمة بينهما، فإن ترك أحدهما للعبد حظه من خدمته خدم نفسه يوما، وصاحبه يوما- حتى يموت فيعتق؛ وإن ترك كل واحد منهما له حظه من خدمته، عجلت حريته، ولا إشكال في هذا؛ وقد مضى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وفي أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس- الكلام على ما قاله مالك في آخر المسألة من أنه لا يجوز لواحد منهما أن ينتزع مال العبد المخدم إذا جعل حرا إلى أجل، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: أخدم عبدا له رجلا فقبضه المخدم فخدمه أياما]
من سماع سحنون قال سحنون في رجل أخدم عبدا له رجلا فقبضه المخدم فخدمه أياما، ثم إن السيد أعتقه؛ قال: عتقه جائز ويرجع المخدم على السيد بقيمة ما بقي له من الخدمة.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا خلاف ما تقدم لابن القاسم في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى، وخلاف قوله في المدونة وغيرها من أنه لا عتق له فيه حتى تنقضي الخدمة، أو الإجارة- إن كان في الإجارة، وإنما يقول ابن القاسم: إنه يكون عليه قيمة الخدمة إذا قتل العبد، أو كانت أمة فأولدها، على ما مضى القول فيه في أول رسم من سماع يحيى من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.(14/379)
[: المخدم يطأ الجارية التي اختدم فاعتذر فيها بالجهالة]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله
ابن القاسم قال: وسألته عن المخدم يطأ الجارية التي اختدم فاعتذر فيها بالجهالة، أيدر عنه الحد؟ فقال: نعم، ولو تعمد ذلك بمعرفة. قال ابن القاسم: ولا يجوز للمخدم أن يتزوجها؛ قال مالك: لأنه فيها بمنزلة الشريكين في الجارية. قلت: فإن وطئها المخدم فأحبلها، قال: تكون أم ولد ويغرم قيمتها، فيستأجر منها للمخدم. قلت: فإن لم يكن له مال، قال: يأخذ ولده ويخدم الجارية إلى الأجل.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم البراءة من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: العبد بين الرجلين يخدم أحدهما حصته رجلا]
من سماع أصبغ من أشهب من كتاب
البيوع والعيوب قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن العبد بين الرجلين يخدم أحدهما حصته رجلا، قال: ذلك جائز، فإن قام صاحبه بالبيع، باع معه؛ فإذا باع انفسخت الخدمة وسقطت؛ قيل له: فإن علم صاحبه بإخدامه فأجاز، ثم أراد القيام بالبيع بعد ذلك؛ قال: ذلك له، قال أصبغ: ثم العمل في ذلك والأمر على القول الأول، قال أصبغ: قيل لأشهب: إن كان إنما رهن أحدهما حصته، قال: فالرهن جائز؛ فإن(14/380)
قام صاحبه بالبيع بيع، فإذا بيع، فإن كان الحق دنانير عجلت للمرتهن، وإن كان عن رضى، وقف الثمن حتى الأجل؛ قيل له: فإن واجر أحدهما حصته؟ قال: فالإجارة أيضا جائزة، فإن قام صاحبه بالبيع، فذلك له؛ فإذا بيع انفسخت الإجارة؛ قال أصبغ: إنما البيع هاهنا كالقتل، لو قتل بطلت الخدمة، وكان العقل للمخدم فكذلك الثمن؛ قال أصبغ: قلت لأشهب: فينتقد في الأجرة إذا أجر حصته؟ قال: لا بأس؛ قال أصبغ: لا يعجبني الاشتراط، وأرى فيه مقاررة، وكالبيع والسلف؛ لأن البيع ينقض الإجارة ولا يدري متى يقوم بالبيع، ويباع إذا كان القيام به لغيره.
قال محمد بن رشد: قد مضى لابن القاسم في رسم العشور من سماع عيسى خلاف قول أشهب وأصبغ في هذا السماع في الإجارة والخدمة، ومضى الكلام على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وأما قوله في- الرهن إذا قام الشريك ببيعه بيع- وكان الحق دنانير، أن الثمن يعجل؛ معناه: إلا أن يأتي الراهن برهن مثله، وقد قيل: إنه لا يعجل ويوضع على يدي عدل، وهو الذي في المدونة في الرهن يبيعه الراهن بإذن المرتهن، وهو أيضا قول مالك في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب الرهون، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: أخدم رجلا سنة عبدا ثم هو لآخر بتلا]
ومن كتاب القضاء العاشر
وسئل عن رجل أخدم رجلا سنة) عبدا ثم هو لآخر(14/381)
بتلا، فمات العبد قبل السنة وترك مالا، قال: هو لسيده- يعني المخدم؛ قال أصبغ: وذلك أنه مات قبل أن يجب لفلان ولا يجب له إلا ببلوغ الوقت الذي جعله له عنده- فلم يبلغه، وهو شبيه بالحرية، ولو جعله حرا بعد خدمة أحد فمات عن مال قبل ذلك، كان السيد أولى به، أو جرح- وقد اختلف قول مالك في البتل بعد الخدمة، وهذا أحب إلينا إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول عليها في الرسم الأول من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: أوصى الرجل بخدمة عبده لرجل ما عاش]
ومن كتاب الوصايا وسمعت ابن القاسم يقول: إذا أوصى الرجل بخدمة عبده لرجل ما عاش، وأوصى لقوم بوصايا- ولا مال له غيره، فأمضى الورثة ما أوصى به صاحبهم من الخدمة فبيع ثلث العبد وعمر المخدم، وقومت خدمة العبد على قدر غررها، فحاص صاحبها أصحاب الثلث في ثمن ثلث رقبة العبد، فأخذها لنفسه وصنع بما شاء؛ واختدم أيضا ثلثي العبد حتى يموت، فإذا مات رجع الثلثان إلى الورثة (قاله أصبغ) .
(قال محمد بن رشد: نقل أبو إسحاق التونسي هذه المسألة من كتاب ابن المواز بلفظ أبين من هذا فقال: يباع ثلث العبد، فيتحاص في ثمن ثلث رقبة العبد مع أصحاب الوصايا والمخدم بقيمة خدمته على غررها، فما(14/382)
صار له من ذلك أخذه بتلا، ثم يختدم مع ذلك أيضا ثلثي العبد حتى يموت، فإذا مات رجع الثلثان إلى الورثة) . قال أبو إسحاق: وفي هذا نظر؛ لأنه جعله يأخذ ما وقع له في المحاصة، ثم يأخذ ثلثي الخدمة وهو قد ضرب بها، فإنما ينبغي أن يدفع إلى الورثة ثلثي ما وقع له في المحاصة، لأنه عوض عن ثلثي الخدمة التي أسلموها له؛ وأما ثلث ما وقع في الحصاص فيأخذه، إذ لا يقرر الورثة إذا بيع ثلث العبد- أن يمضوا له خدمة ذلك، الجزء الذي يقع له في الحصاص فأخذ ثمنه عوضا منه، وكلام أبي إسحاق صحيح (بين) ، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عبدي يخدم فلانا عشر سنين ثم هو حر]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول: إذا أوصى رجل فقال: عبدي يخدم فلانا عشر سنين ثم هو حر، فلم يحمله الثلث، عتق منه ما حمل الثلث، وسقطت الخدمة والوصية؛ وإن أوصى فقال: عبدي يخدم فلانا شهرا ثم هو حر، وفلان يخدم سنة ثم هو حر، بدئ بصاحب الشهر إذا كان الشيء القريب من الأمر- هكذا، ولو أوصى فقال فلانا يخدم سنة ثم هو حر، وفلانا سنتين ثم هو حر، وفلانا يخدم عشر سنين- ثم هو حر، وفلانا عشرين سنة ثم هو حر؛ رأيت في ذلك كله أن يتحاصوا- وقاله أصبغ - إذا طالت الخدمة: فإن افترقا في الوقت فهو حصاص- وإن تباعد ما(14/383)
بينهما؛ وإذا قلت الخدمتان بدئ بالأول فالأول- وإن افترق ما بينهما.
قال محمد بن رشد: أما إذا رضي بخدمة عبده عشر سنين ثم هو حر، فلم يحمله الثلث، فلا اختلاف في أنه يعتق منه ما حمل الثلث وتسقط الوصية بالخدمة وغير الخدمة إن أوصى بوصايا مع الخدمة والعتق؛ لأن العتق بعينه يبدأ على ما سواه من الوصايا، وقد قال عبد الوهاب في المعونة (إنه) يبدأ على الزكاة- وهو بعيد في القياس؛ ووجهه اتباع ظاهر الحديث المروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه أمر أن تبدأ العتاقة على الوصايا فعم ولم يخص، وقد مضى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب المدبر جملة من ترتيب الوصايا في التبدئة، فلا معنى لإعادته؛ وقال في هذه الرواية: (إنه) يبدأ المعتق على شهر، على المعتق إلى سنة، وإنه لا يبدأ المعتق إلى سنة على المعتق إلى سنتين (ولا المعتق إلى عشر سنين على المعتق إلى عشرين سنة؛ ولم ينص هل يبدأ المعتق إلى سنة على المعتق إلى عشر سنين؛ والذي أقول به أنه يبدأ عليه على ظاهر هذه الرواية، ولا ينبغي أن يختلف في هذا، وإنما الاختلاف هل يبدأ المعتق إلى سنة على المعتق إلى سنتين) . والثلاث ونحو ذلك أم لا؛ ولا اختلاف في أنه لا يبدأ المعتق (إلى العشر سنين على المعتق) إلى عشرين سنة قال في(14/384)
هذه الرواية ويتحاصون في الثلث، والمعلوم من مذهب ابن القاسم أنه يعتق ما حمل الثلث منهما بالسهم، فهو الذي نص عليه في رسم استأذن من سماع عيسى، ويحتمل أن يفسر بذلك ما في هذه الرواية، ولا تحمل على ظاهرها من الخلاف المعلوم من مذهبه، وبالله التوفيق.
[: أخدم عبده رجلا عبدا له إلى أجل]
ومن كتاب الوصايا الصغير قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل أخدم عبده رجلا، عبدا له إلى أجل، ثم حضرت المخدم الوفاة، فأوصى بثلث ماله لرجل، وبذلك العبد المخدم لرجل آخر، قال: يضرب للموصى له بالعبد بقيمة العبد في الرجوع يوم يرجع على ما يساوي يومئذ مع صاحب الثلث، فما أصابه في ذلك الثلث فله، وتدخل وصيته في جميع الثلث إذا حالت، وقطع له بالثلث، قال أصبغ: وتفسير ذلك أن يكون مبلغ الثلث إذا أضيفت قيمة العبد بعد انقضاء الخدمة إلى التركة (ستين دينارا) وقيمة العبد على رجوعه من ذلك عشرين دينارا، فالثلث بينهم أرباعا، لصاحب الثلث ثلاثة، ولهذا واحد، فإذا رجع العبد بعد انقضاء الخدمة، اقتسما ثلثه على قدر ذلك أيضا؛ لأن ثلثه باقي الثلث، وثلثاه للورثة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بيّنة صحيحة المعنى، على ما فسرها به أصبغ، ومعنى ذلك إذا لم يجز الورثة الوصية، وقطعوا الموصى لهم بالثلث، وأما إذا أجازوا الوصية، فلا محاصّة في ذلك، إلا أنه يختلف: هل يلزمهم أن يبدءوا بالعبد على مرجوعه للموصى له به، وبثلث جميع المال(14/385)
مع العبد إلى الموصى له بالثلث، أو لا يلزمهم أكثر من أن يبدءوا إلى الموصى له بالثلث- ثلث المال سوى العبد، وبالعبد إلى الموصى له بالعبد على مرجوعه، فيكون ثلثاه للموصى له به، والثلث بينهما، والأول هو قول سحنون وأشهب، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وعلى رواية علي بن زياد عنه فيها أيضا، والثاني هو قول ابن القاسم (في رسم) يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الوصايا، ولم يختلف إذا أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بمائة دينار، فأجاز الورثة ذلك في أن عليهم أن يدفعوا الثلث كاملا للموصى له بالثلث، والمائة كاملة للموصى (له) بها، لا يدخل عليه الموصى له بالثلث في شيء منها، وما اتفقوا عليه، يقضي على ما اختلفوا فيه، وقد مضى هذا المعنى بزيادة بيان فيه في الرسم المذكور من سماع يحيى من كتاب الوصايا، وبالله التوفيق.
[: أوصى لرجل بوصايا ولرجل بخدمة عبد ما عاش]
ومن سماع موسى بن معاوية من ابن القاسم قال موسى بن معاوية: قال ابن القاسم في رجل أوصى لرجل بوصايا، ولرجل بخدمة عبد ما عاش، فلم يحمل ذلك الثلث، ووقع فيها العول، قال: يعمر المخدم ثم ينظر إلى قيمة تلك الخدمة على الرجاء والخوف فيها، أيتم ذلك أو لا يتم- لو كانت تواجر لغررها، فيحاص بها أهل الوصايا فيما قطع لهم من العبد وجميع(14/386)
ثلث المال، فيكون لكل واحد منهم الذي أوصى له به في حصته من الثلث.
قال ابن القاسم: ولو أخدمه عشر سنين ثم هو حر، بدئ بالعبد؛ لأنها عتاقة، ثم يُقوَّم، فإن كان العبد ثلث المال، قُومت تلك العشر سنين بحالها على الرجاء فيها والخوف لها، يقال: من يستأجر هذا (العبد) عشر سنين على أنه إن بقي فله خدمته، وإن مات لم يرجع بشيء، فعلى هذا تكون قيمة الخدمة، ثم يتحاصون في الخدمة مع أهل الوصايا بقدر وصاياهم، وصاحب الخدمة بقيمة الخدمة في خدمة العبد تلك السنين، فإن بلغ، عتق، وإن مات قبل ذلك، سقطت وصاياهم.
قال ابن القاسم: ولو فضل عن قيمة العبد فضلة من الثلث، تحاصوا الخدمة وفيما فضل من الثلث حتى تكون للذي أوصى لهم بالتسمية مما فضل من الثلث والخدمة بقدر ما أوصى لهم، ويكون للذي أوصى لهم بالخدمة من الخدمة ومما فضل من الثلث بقدر الذي يصيبه من قيمة الخدمة، يتعاولون جميعا في الخدمة، وفيما بقي من الثلث على ما فسرت لك.
قال ابن القاسم: ولو كان العبد أكثر من ثلث الميت خُير الورثة في أن يمضوا عتق العبد إلى الأجل، فإن فعلوا تحاصوا جميعا في الخدمة، وإن أبرأ، عتق منه ما حمل الثلث بتلا، وسقطت الوصايا والخدمة.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى لرجل بوصايا، ولرجل بخدمة عبد له ما عاش، فلم يحمل ذلك الثلث، ووقع فيها العول، أن المخدم يعمر ثم ينظر إلى قيمة الخدمة على الرجاء والخوف، فيحاص بها أهل الوصايا فيما قطع لهم من العبد وجميع ثلث المال، بيّن صحيح على(14/387)
أصولهم، والوجه في ذلك أن يعمر الموصى له بخدمة العبد ما عاش، فإن عمر ثمانين سنة- وسنه أربعون، قيل: كم قيمة خدمة هذا العبد عشرين سنة على أنه إن مات العبد قبل تمام العشرين سنة، لم يكن للمستأجر شيء، فإن قيل: عشرة دنانير- وقيمة العبد عشرون، وقد ترك المتوفى أربعين دينارا سوى العبد، وأوصى لرجلين بعشرة، عشرة، فالثلث على هذا عشرون، والوصايا ثلاثون: عشرة، عشرة- لكل واحد من الرجلين، وعشرة للموصى له بخدمة العبد، فيكون جميع الثلث بينهم أثلاثا: ثلث للعبد، وثلث الأربعين على هذه الرواية في أن الموصى له بخدمة العبد، يكون حظه في المحاصة شائعا في جميع الثلث، وعلى القول بأنه يقطع له فيما أوصى له به، وهو قول ابن القاسم الذي تقدم في رسم جاع من سماع عيسى، وأحد قولي مالك يكون له ثلث العبد، ويكون للرجلين الموصى لهما بعشرة، عشرة- ثلث الأربعين بينهما بنصفين: ستة وثلثان لكل واحد منهما، واختلف إن عاش أكثر مما عمر- والعبد حي لم يمت، هل يعمر ثانية ويرجع على الموصى لهما أم لا؟ وكذلك اختلف أيضا إن مات قبل الأجل الذي عمر إليه، أو مات العبد قبل ذلك، هل يرجع الموصى لهما عليه فيما فضل عنده أم لا؟ فقيل: إنه يرجع عليهما ويرجعان عليه، وقيل: إنه لا يرجع عليهما ولا يرجعان عليه، وقيل: إنهما يرجعان عليه ولا يرجع عليهما، وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذا في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب الوصايا، وفي رسم العتق من سماع عيسى منه وفي آخر رسم الوصايا الأول من سماع أصبغ منه، ولا اختلاف في أن لكل واحد منهما الرجوع على صاحبه- إن حمل الثلث الوصية، أو إن لم يحملها فأجازها الورثة، وأما إذا أوصى(14/388)
بخدمة عبده لرجل عشر سنين، وأوصى بوصايا ثم هو حر، فإن لم يحمله الثلث، عتق منه ما حمل الثلث، وسقطت الوصايا بالخدمة وغير الخدمة؛ لأن العتق مُبَدَّأ على ما سواه من الوصايا، ولا اختلاف في هذا، وكذلك لا اختلاف إذا حمله الثلث- ولم يكن فيه فضل عنه في أن الموصى له بالخدمة يتحاص مع أصحاب الوصايا في الخدمة، ويعتق بعد انقضائها، واختُلف إذا كان في الثلث فضل عن العبد، فقيل: إنه يتحاص مع أصحاب الوصايا في الخدمة، ويعتق بعد انقضائهما، واختلف إذا كان في الثلث فضل عن العبد، فقيل: إنه يتحاص مع أصحاب الوصايا في الخدمة ويعتق بعد انقضائها إذا كان في الثلث فضل عن العبد، فقيل: إنه يتحاص مع أصحاب الوصايا (في الخدمة) وفيها فضل عنها، وهو قوله في هذه الرواية، وقيل: إنه يقطع له في خدمة العبد بما نابه في المحاصات، وهو قول ابن القاسم في رسم جاع من سماع عيسى، وقد تقدم القول هناك على ذلك، وأنه يتحصل فيه ثلاثة أقوال، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بخدمة جارية له أن تخدم ابنه ما عاش]
مسألة قال ابن القاسم في رجل أوصى بخدمة جارية له أن تخدم ابنه ما عاش، فإذا مات تكاتب بعشرين دينارا، قال ابن القاسم: إن وسعها الثلث وقفت لخدمة الابن إن أجاز ذلك الورثة، وإن أبوا، اقتسموا خدمتها على فرائض الله، ما عاش الموصى له،(14/389)
ومن مات من الورثة فورثته على حقه من الخدمة، حتى يموت الموصى له بالخدمة، فإذا مات كوتبت بعشرين دينارا، فإن أدت، عتقت وتكون كتابتها بين من ورث الميت على فرائض الله، وإن عجزت رقت وكانت رقيقا بين من ورث الميت على فرائض الله، قال أصبغ: ويكون ولاؤها إن أدت وعتقت للميت الموصي بكتابتها، وعصبته الذين يرثون الولاء من الرجال، قال ابن القاسم: وإن لم يحملها الثلث، خُيِّر الورثة بين أن ينفذوا ما قال، فتكون موقوفة على الابن في خدمته إلى الأجل، ويقتسمون الخدمة إن لم يجيزوا له ذلك، ويكاتبوها بعد ذلك، وبين أن يعتقوا منها ما حمل الثلث بتلا، ويسقط عنها الخدمة حتى تتم الوصية، وبين أن يعجلوا لها الكتابة بما قال صاحبهم، قال ابن القاسم: وإن أبى واحد منهم، كانوا بمنزلتهم إذا أبوا جميعا، وإن أبى واحد منهم الكتابة أو الخدمة الموصى له بالخدمة أو غيره، أعتقوا منها ما حمل الثلث.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في رسم الوصايا من سماع أصبغ من كتاب المكاتب، وسقط منها هناك قول ابن القاسم في أخرها: وإن أبى واحد منهم إلى آخر المسألة، وبه تتم المسألة وتصح؛ لأنه تفسير ما تقدم من قوله، ومن قول أصبغ في سماعه من كتاب المكاتب حسبما ذكرناه هناك، وبالله التوفيق.
تم كتاب الخدمة بحمد الله وحسن عونه، والصلاة الكاملة على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(14/390)
[: كتاب العتق الأول] [رجل قال لغلامه اشتر لنفسك جارية فلتطأها فما ولد لك منها فهو حر]
(كتاب العتق الأول) من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب قطع الشجر قال: وسئل مالك: عن رجل قال لغلامه: اشتر لنفسك جارية فلتطأها، فما ولد لك منها فهو حر، فعمد الغلام فاشتراها من ماله سرا من سيده، فولد له منها، ثم علم السيد فأبى أن يعتق الولد وكره له أن يعمل ذلك سرا، قال: أرى ولده ذلك حرا- وإن كان اشتراها سرا، إلا أن يعلم أن السيد (إنما) أراد أن يستصلح عبده ولا يغيب عنها إلى الأرض النائية (التي) يكره السيد أن يتغرب إليها، يقول: إنما كان أعطاه هذا ليقيم عنده أو ما ولدت له عنده فهو حر، ولم يرد ما ولدت له في الأرض التي كرهت له أن يذهب إليها، ويغيب عني فيها، فهذا وجه هذا- عندي- والله أعلم.(14/391)
قال محمد بن رشد: قوله: اشتر لنفسك جارية فلتطأها- يريد اشترها بمالك لنفسك؛ لأنه إذا اشتراها بماله بإذن سيده، جاز له أن يطأها، ولو كان مأذونا له في التجارة، لكان له أن يشتريها ويطأها، وإن لم يأذن له سيده في ذلك؛ لأن للعبد المأذون له أن يتسرى في ماله بغير إذن سيده على ما قاله في المدونة، وعلى ما جاء من أن عبيدا لعبد الله بن عمر كانوا يتسرون في أموالهم ولا يستأذنونه، وقد روى محمد بن يحيى السبائي عن مالك أن العبد لا يتسرى في ماله إلا بإذن سيده، ومعنى ذلك في غير المأذون له في التجارة حتى تتفق الروايات، وقد وقع في بعض الروايات اشتر لنفسك جارية بمالي أو بمالك، والرواية بإسقاط ذلك أصوب؛ لأنه لا يجوز له أن يطأها بمال السيد- وإن كان السيد قال له اشترها لنفسك بمالي تطؤها، إلا أن يكون وهبه الثمن على ما قاله في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، أو أسلفه إياه على ما قاله في رسم الطلاق من سماع أشهب منه؛ لأنه إذا قال له: اشترها من مالي لنفسك تطؤها، فلم يملكه رقبتها، وإنما أذن له في شرائها لنفسه ليطأها، وذلك تحليل منه له فرجها، وقول السيد فما ولد لك منها فهو حر، إيجاب أوجبه على نفسه يلزمه بظاهر قوله فعل ذلك في بلده بعلم سيده، أو في غير بلده سرا من سيده، فلا يصدق السيد إن فعل العبد ذلك سرا من سيده في غير بلده- في أنه لم يرد ذلك، إلا أن يعلم قصد السيد إلى استصلاح عبده بذلك لئلا يغيب (عنه) بأن يعلم أنه كان كثير المغيب عن مولاه، فاستماله بما وعده به من عتق ولده، لئلا يغيب عنه، فإذا غاب عنه وتسرى في بلد آخر وولد له فيه، لم يلزمه العتق، لمغيبه(14/392)
عنه، ومخالفته ما جرى عليه بساط يمينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إن ولد لي ولد ذكر فرقيقي أحرار]
مسألة وسئل: عمن قال: إن ولد لي ولد ذكر، فرقيقي أحرار، وكانت امرأته حاملا فأراد أن بيعهم وهبتهم، قال: لا يبيع منهم شيئا وهم أحرار- إن ولدت ذكرا.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله: إنه لا يبيع منهم شيئا- إن كانت امرأته يوم قال هذا (القول) حاملا؛ لأنه نذر عتقهم إن وضعت امرأته ذكرا، فوجب ألا يخرجهم عن ملكه حتى يعرف ما تضع، ولو لم تكن امرأته يوم قال هذا القول- حاملا، لتخرج جواز بيعهم على اختلاف قول مالك، وابن القاسم في الذي يقول: عبدي حر إن قدم فلان، فمالك لا يرى أن يبيعه، وابن القاسم لا يرى ببيعه بأسا، ولا فرق بين المسألتين؛ لأنه لا يدري متى يقدم فلان؟ وهل يقدم أو لا يقدم؟ وهل يولد له ذكر أو لا يولد له ذكر؟ ولا يقع شيء من ذلك باختياره، ولو قال: إن فعلت كذا أو فعل فلان كذا وكذا، فعبيدي أحرار، لم يمنع من بيع ولا وطء؛ لأنه على بر، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى عبدا بثمن إلى أجل وجعله حرا]
مسألة
قال مالك: من اشترى عبدا بثمن إلى أجل وجعله حرا- إن لم يقضه إلى ذلك الأجل، لا يباع حتى يحل الأجل ويدفع إليه حقه،(14/393)
فإن جاء الأجل وعليه دين محيط برقبة العبد لم يعتق، وكان البائع أحق به من غيره من الغرماء.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يباع حتى يحل الأجل، هو مثل ما في المدونة وغيرها في الحالف بعتق عبده ليفعلن فعلا إلى أجل، أنه لا يباع حتى يحل الأجل فيبر أو يحنث؛ لأنه مرتهن بيمينه في البيع، ولو كاتب أمة، كان له أن يطأها على أحد قولي مالك في المدونة، وقوله: إن الأجل إذا حل وعليه دين محيط برقبة العبد لم يعتق، وكان البائع أحق به من غيره من الغرماء، صحيح لا اختلاف فيه- إن كان الدين الذي عليه سوى ثمن العبد يحيط برقبة العبد؛ لأنه إذا وجب رد العتق بسبب الدين، كان البائع أحق به، وأما إذا لم يحط برقبة العبد، أو لم يكن عليه دين سوى ثمن العبد- والبائع هو الذي استحلفه، فقيل: إنه لا يرد عتقه في الثمن للبائع؛ لأنه لما استحلفه فقد رضي بعتقه فيتبعه بدينه ويعتق العبد كله- إن لم يكن عليه دين سوى ثمنه، وإن كان عليه دين سوى ثمنه، بيع منه بالدين وأعتق الباقي، وإن كان الدين الذي عليه سوى ثمن العبد يحيط برقبة العبد، كان البائع أحق به، وإن شاء أن يتركه ويحاص الغرماء بالثمن فيه، كان ذلك له، وهو قول ابن وهب، وقيل: إنه يرد عتقه في الثمن، وإن كان البائع هو الذي استحلفه، وهو قول ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى، ووجهه أن البائع يقول: رجوت أن يكون له وفاء إن حنث عند الأجل، ولو لم أطمع بذلك ما استحلفته، واختلف على هذا القول إن أراد البائع لما حل الأجل أن يؤخره بدينه، ويقر العبد بيده لعله يجد وفاء فيعتق، فقال ابن القاسم في المدونة: ذلك له؛ لأنه خير للعبد، وروى محمد بن يحيى السبائي عن(14/394)
مالك فيها: أن ذلك ليس له؛ لأن العتق قد وجب بحلول الأجل، إلا أن يرده البائع بدينه، فإن أخره به، أعتق العبد، وليس له أن يؤخره بالثمن ويقر العبد بيده فيحرمه العتق، وهو القياس، وقول ابن القاسم استحسان، وبالله التوفيق.
[مسألة: فر عبده فقال اخرج إلي يا فلان وأنت حر]
مسألة وقال مالك فيمن فر عبده- يعني لحق بالعدو، فقال: اخرج إلي يا فلان- وأنت حر، ثم خرج، فقال: إنما أردت أن أستخرجك، فقال: إن كان أشهد أنه أراد أن يقول ذلك ليستنقذ عبده ويأخذه؟ فلا عتق عليه، وإن لم يشهد، فهو حر.
قال محمد بن رشد: هذا أصل مختلف فيه، قد قال مالك في رسم أخذ يشرب خمرا من كتاب المديان والتفليس في الذي يكون له على الرجل الحق فيجحده ويدعوه إلى الصلح، فيصالحه وشهوده غُيَّب ويشهد في السر أنه إنما يصالحه؛ لأنه جحده، فخاف أن يذهب حقه، وأنه على حقه إذا حضرته بينته، أن الصلح يلزمه ولا ينتفع بذلك، وقال أصبغ في نوازله من كتاب الدعوى والصلح: إنه ينتفع بالإشهاد في الغيبة البعيدة، والتحرز من هذا الاختلاف: يكتب في كتب الاصطلاحات: وأسقط عنه الاسترعاء (والاسترعاء) في الاسترعاء، ومن الكتاب من يزيد ما تكرر وتناهى ولا معنى له؛ لأن الاسترعاء هو أن يشهد قبل الصلح في السر أنه إنما يصالحه لوجه كذا، فهو غير ملتزم للصلح، والاسترعاء في الاسترعاء، هو أن يشهد أنه لا يلتزم الصلح، وأنه متى صالح وأشهد على نفسه في كتاب الصلح أنه أسقط عنه الاسترعاء في السر فإنه لا يلتزم ذلك، ولا يسقط عنه القيام به، فلا يتصور في ذلك منزلة ثالثة، وهذا الاسترعاء في السر، إنما ينفع عند من يراه(14/395)
نافعا فيما خرج على غير عوض، وأما ما خرج على عوض من العقود كلها، فلا اختلاف في أن الاسترعاء فيها غير نافع، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال الرجل لعبده اعمل لي كذا وكذا وأنت حر]
مسألة وقال مالك: إذا قال الرجل لعبده اعمل لي كذا وكذا- وأنت حر، فرد ذلك العبد، قال سحنون: يعني لم يقبل العبد فرده على سيده، ثم بدا له فقال: أنا أعمله، فقال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: في قوله فرد ذلك العبد، دليل بين على أن السيد لا يجبر عبده على الكتابة، وقد روي عنه أن له أن يكاتبه كرها، حكى ذلك عنه إسماعيل القاضي في كتاب الأحكام له، والاختلاف في ذلك أيضا من قول ابن القاسم قائم من المدونة - حسبما قد ذكرناه في هذا الكتاب، ووجه قول من قال: أن له أن يجبره على الكتابة، هو إنه إذا كان له أن يؤاجره السنة والسنتين، ويأخذ أجرته وهو باق على رقه، فيكاتبه مدة معلومة على مقدار ما يعلم إنه يطيق أداءه في تلك المدة من عمله، واكتسابه لأزم له، ليس له أن يمتنع منه؛ لأن ذلك يمضي به إلى الحرية من غير ضرر يلحقه فيه وقوله في الرواية: أنه إذا رد فليس له أن يرجع إلى القبول، بين صحيح على القول بأنه يجبره على الكتابة، وعلى القول بأنه لا يجبره عليها؛ لأنه على القول بأنه يجبره على الكتابة كالتمليك في الطلاق الذي للرجل أن يجبر زوجته عليه، فإذا ملكها واختارت زوجها، لم يكن لها أن ترجع إلى اختيار نفسها، وعلى القول بأنه لا يجبره على الكتابة كالمبايعة لو قال الرجل للرجل: إن شئت سلعتي هذه فهي لك بكذا وكذا، فرد ذلك، وقال: لا أشاؤها بذلك، لم يكن له أن يرجع إلى قبولها وأخذها بذلك الثمن، إلا أن يشاء البائع، ولو افترقا من المجلس قبل أن يرد ذلك العبد، أو يقبل في الذي قال له سيده كذا وكذا- وأنت حر، لم يكن له أن يقبل بعد انقضاء المجلس قولا واحدا على القول بأن الرجل ليس له أن يجبر عبده على الكتابة؛ لأن ذلك كالمبايعة لو قال الرجل(14/396)
للرجل: لك سلعتي بكذا وكذا، فلم يقبل حتى انقضى المجلس، لم يكن له بعد المجلس قول، وأما على القول بأن الرجل يجبر عبده على الكتابة، فيكون له القبول بعد انقضاء المجلس على القول بأن للمملكة أن تقضي بعد انقضاء المجلس، ما لم توقف فترد، وقد قال ابن دحون: إن قول مالك في الرجل يوصي بتخير أمته فتختار الرد، أن لها أن ترجع إلى العتق- ما لم تبع، معارض لهذه المسألة، وليس ذلك بصحيح؛ لأن تخيير الرجل أمته بين العتق والبيع، بخلاف الوصية لها بذلك؛ لأن مواجهته إياها بالتخيير، يقتضي الجواب منها بالرد أو القبول، وليس كذلك الوصية لها بذلك؟ وقد مضى بيان هذا في سماع عيسى من كتاب الوصايا، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق الرجل في مرضه ولم يجد إلا شاهدا واحدا على عتقه]
مسألة قال: إذا أعتق الرجل في مرضه ولم يجد إلا شاهدا واحدا على عتقه، فاليمين على الورثة ما علموا بعتق صاحبهم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، ظاهره أنه أوجب عليهم اليمين، ما علموا، وإن لم يحقق عليهم الدعوى بأنهم علموا، وذلك إذا كانوا ممن يظن منهم أنهم علموا على ما قال في كتاب العيوب والأقضية من المدونة، وقد قيل: إنه لا يمين عليهم إلا أن يدعي عليهم العلم، وهو الذي يأتي على ما في كتاب النكاح الثاني وكتاب بيع الغرر، والاختلاف(14/397)
في هذا على اختلافهم في لحوق يمين التهمة؛ لأنها يمين تهمة، وقد وقع لأصبغ في رسم محض القضاء من سماعه أن اليمين لا تجب على الورثة للعبد، وإن حقق الدعوى عليهم في العلم، وكان له شاهد على الميت بالعتق- وهو بعيد، وأما إذا لم يكن له شاهد على الميت بالعتق، فلا يجب له على الورثة اليمين- وإن ادعى عليهم العلم، وحقق به الدعوى عليهم؛ لأن اليمين إذا لم تجب على السيد، فأحرى ألا تجب على الورثة، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يعتق يريد في الوصية ثم يمرض العبد مرضا شديدا يخاف عليه]
مسألة قال ابن القاسم في العبد يعتق- يريد في الوصية ثم يمرض العبد مرضا شديدا يخاف عليه، أرى أن يعتق إذا اجتمع المال لا يؤخر لمرضه إذا اجتمع المال، ولا يعجل لمرض إن تأخر المال.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن المال إذا اجتمع، وجب أن تنفذ الوصية له بالعتق، ولا يؤخر ذلك رجاء أن يصح- مخافة أن يموت فتبطل الوصية، وإذا لم يجتمع المال، لم يصح أن يعتق مخافة أن يموت، ولعل المال يهلك ولا يجتمع، فيكون قد أعتق وهو لا يخرج من الثلث، ولا أن يعتق منه ما حمل الثلث ما اجتمع من المال فيبعض العتق؟ وإن دعا إلى ذلك العبد على مذهبه في المدونة خلاف قول أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغلام لأبيه في حياة أبيه يوم أملكك فأنت حر]
مسألة وسئل مالك: عمن قال لغلام لأبيه في حياة أبيه: يوم أملكك فأنت حر، فهلك الأب وملكه، قال: أو كان قال ذلك له يوم قاله وهو سفيه، فلا أرى له عتقا، وإن كان يومئذ حليما، فأراه يعتق عليه.(14/398)
قال محمد بن رشد: هذا هو المعلوم في المذهب المشهور من قول مالك وجميع أصحابه، أن من أعتق ما لم يملك بشرط ملكه إياه، أو طلق ما لم ينكح بشرط نكاحه إياها، أن ذلك لازم له إذا خص ولم يعم، والأصل في لزوم ذلك له، قول الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] إلى قوله {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] ومن أهل العلم من ألزمه ذلك خص (أو عم) وهو القياس، ومنهم من لم يلزمه ذلك- خص أو عم- تعلقا بظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك» وتفرقة مالك بين أن يخص أو يعم استحسان، فتفرقته في الرواية (بين أن يكون) يوم قاله سفيها أو حليما - صحيحة بينة؛ لأن السفيه لا يلزمه العتق لكونه محجورا عليه في ماله بقول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] الآية وإنما موضوع الكلام هل هو محمول على الرشد في حياة أبيه حتى يعلم سفهه، أو على السفه حتى يعلم رشده، فالمشهور أنه محمول على السفه حتى يعلم رشده، وهو نص قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه من كتاب الصدقات والهبات، وقيل: إنه بالبلوغ محمول على الرشد حتى يعلم سفهه على ظاهر قوله في كتاب النكاح الأول من المدونة إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، وقد مضى الكلام على هذا في غير ما موضع من هذا الكتاب وغيره، وبالله التوفيق.(14/399)
[: كان لزوجها امرأة أخرى فآثر الأخرى عليها في مبيت ليال]
ومن كتاب القبلة
وقال في امرأة كان لزوجها امرأة أخرى فآثر الأخرى عليها في مبيت ليال، فقالت: إن بت معك تحت سقف بيت حتى تبيت معي مثل ما بت عند الأخرى، فجاريتي حرة لوجه الله، قال مالك: يبيت معها في غير بيت في حجرة ويترك الأخرى حتى يفرغ من تلك الليالي.
قال أصبغ: أراها حانثة حيثما بات معها؛ لأنها إنما حلفت على الاجتناب والمنع حتى يفعل، ولا يبرها أن تبيت معه في الحجرة، ولو باتت معه في جوف الماء، لرأيتها حانثة، قال أصبغ: والذي يبرها- عندي- أن تبيت معه في الحجرة قدر الأيام التي كان عند صاحبتها ولا يمسها فيها، فإن مسها، حنثت، فإذا فرغ منها، بات معها في البيت، إلا أن تكون صمدت لنفسها صمدا المصاب في الحجرة، فلا تبر حتى يصيبها في الحجرة (في) تلك الليالي.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة بين؛ لأن الذي يدل عليه بساطها الذي خرجت يمينها عليه، إنها لما آثر عليها الأخرى، أرادت أن تعاقبه على ذلك بأن لا تبيت معه تحت سقف حتى يوفيها عدد الأيام التي آثر عليها فيها الأخرى، فإذا بات معها في الحجرة عدد تلك الأيام، برت في يمينها- كما قال- أصابها فيها أو لم يصبها، إلا أن تكون نوت أن يصيبها(14/400)
فيها أو لا يصيبها فيها، فتكون في ذلك على نيتها والنية (في ذلك) محتملة للوجهين، إذ قد يحتمل أن تكون أرادت معاقبته على ما فعل من الإيثار عليها، بأن لا تبيت معه تحت سقف بيت، مع أن يصل منه في تلك الليالي إلمام بها إلى ما عسى أن يكون ألم به من الأخرى، ويحتمل أيضا أن تكون أرادت معاقبته على ذلك بأن تحرمه في عدد تلك الليالي الميت معها تحت سقف البيت، والمصاب لها فيها، وعلى هذا حمل أصبغ يمينها فقال: إنها حانثة، حيثما بات معها ولو في جوف الماء- إن أصابها فيها، ورأى أن الذي يبرها أن تبيت معه في الحجرة عدد تلك الليالي ولا يصيبها فيها، فحمل يمينها على غير المصاب، إلا أن تكون نوت المصاب، ورأى مالك إذا لم يكن لها نية إنها تبر- أصابها أو لم يصبها، وبالله التوفيق.
[مسألة: المتوارثين إذا ماتا جميعا فلم يدر أيهما مات قبل صاحبه]
مسألة قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: بلغني أنه قتل طلحة بن عبيد الله، وابنه محمد بن طلحة يوم الجمل، فاختصموا في ميراثه، فلم يورث أحد منهم من صاحبه، فأصلحت بينهم عائشة.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب مالك وجميع أصحابه، والشافعي وأصحابه، وكافة أهل المدينة، وأكثر أهل العلم أن المتوارثين إذا ماتا جميعا بغرق، أو هدم، أو قتل، أو موت في بلدين، فلم يدر أيهما مات قبل صاحبه، إنه لا يورث أحد منهما من صاحبه، ويكون ميراث كل واحد منهما لورثته من الأحياء؛ لأن الميراث لا يكون بالشك، ومن أهل(14/401)
العلم من ذهب إلى أنه يورث كل واحد منهما من صاحبه فيما كان له من مال، دون ما ورثه عنه، مثال ذلك أن يموت رجل وابنه ولكل واحد منهما ولد، ولا يدرى من مات منهما قبل صاحبه، ويترك كل واحد منهما ستين دينارا، فيورث الأب من ابنه سدس الستين التي ترك عشرة، ويورث الابن من أبيه نصف ما ترك إن لم يكن له إلا أخ واحد- ثلاثين، فيحصل لولد الابن ثمانون دينارا، ولولد الأب أربعون، إذ لا يجعل لواحد منها ميراث فيما ورثه عنه، وهذا هو أحد قولي أبي حنيفة، ومذهب سفيان الثوري، وجماعة سواهما، وفي ذلك بين الصحابة اختلاف أيضا، فلكلا القولين وجه، فوجه القول الأول هو ما تقدم من أنه لا يورث بالشك، ووجه القول الثاني أنه لا يقطع ميراث أحد بشك؛ لأن ميراث أحدهم واجب لصاحبه بلا شك، فلا يقطع ميراث واحد منهما بشك، وبالله التوفيق.
[مسألة: عقب الرجل إنما هو من يرجع نسبه إليه من ولده وولد ولده]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: العقب الولد الذكور والإناث من ولد الصلب، وولد ولدهم من الذكور والإناث من ولد الذكور.
قال محمد بن رشد: هذا ما لم يختلف فيه قول مالك، ولا قول أحد من أصحابه المتقدمين، كلهم يقول: إن عقب الرجل إنما هو من يرجع نسبه إليه من ولده وولد ولده- وإن سفلوا، فبنت الرجل من عقبه، وبنت ابنه وبنت ابن ابنه- وإن سفل؛ لأن كل واحدة منهن تنتسب إليه وترثه إذا لم يكن فوقها من يحجبها، وليس ولد بنت الرجل ذكرا كان أو أنثى من عقبه؛ لأنه لا ينتسب إليه ولا يرثه، وإنما هو من عقب بنته، فالأصل في هذا عند مالك(14/402)
مراعاة النسب والميراث، فإذا أوصى الرجل لولد رجل، أو لعقبه، أو حبس على ولد رجل، أو على عقبه، لم يدخل في ذلك أولاد البنات عند مالك، واختلف الشيوخ بالتأويل على مذهبه في الذرية، فمنهم من قال: (إنه) لا فرق على مذهب مالك بين الولد والعقب والذرية والنسك؛ لأن ولد البنات لا يدخلون في ذلك، ومنهم من قال: إنهم يدخلون في الذرية والنسل على مذهبه، ولا يدخلون في الولد والعقب، وقد فرغنا من تفسير هذه المسألة في غير هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[: حلف بعتق رقيقه في شيء ألا يفعله فأراد فعل ذلك]
ومن كتاب حلف ألا يبيع رجلا (سلعة) سماها وسئل: عن رجل حلف بعتق رقيقه في شيء ألا يفعله، فأراد فعل ذلك، وأراد أن يتصدق برقيقه على ولده وأمه صدقة صحيحة ليس فيها دلسة، قال: لا، حتى يبيعهم في الأسواق، قال ابن القاسم: قيل لمالك: فإن الرجل الحالف قد فعل، قال: فما أراه يخرج من المأثم.
قال ابن القاسم: وأرى إن كانت صدقة صحيحة تحاز عنه، فأرجو أن يكون خفيفا، وإن كان شيئا يليه فأراه حانثا.
قال سحنون وعيسى: إن تصدق بها على ولده الكبار فلا حنث عليه، وإن كانوا صغارا، فإنه حانث- ولي هو حيازتها، أو جعل ذلك إلى غيره يحوزها لهم، فأراه حانثا.
قال محمد بن رشد: قوله: لا حتى يبيعهم في الأسواق، معناه أنه لا ينبغي له أن يفعل ذلك، وقول مالك: إن فعل، فما أراه يخرج من المأثم،(14/403)
يدل على أنه لا يحنث عنده فيهم فيعتقون عليه، ومعناه إذا فعل ذلك الشيء - إذا حلف بعتق رقيقه إلا يفعله بعد أن حاز ولده وأمه عنه الرقيق بالصدقة، وأما لو فعل ذلك الشيء قبل أن يحاز عنه الرقيق بالصدقة، لوجب أن يعتقوا عليه على قياس قول ابن القاسم وروايته عن مالك في الذي يتصدق بالعبد ثم يعتقه، إن العتق أولى به من الصدقة، وقد مضى الكلام على ذلك في سماع محمد بن خالد من كتاب الصدقات والهبات، وهذا في الولد الكبير، وأما الولد الصغير فالحنث يلزمه فيهم، وإن حوزهم غيره على ما قاله سحنون وعيسى، يريدان إن كان لهما مال ويغرم لهما القيمة، فقولهما تفسير لقول ابن القاسم ففي الولد الكبير إن حاز لم يحنث فيهم، ولم يلزمه العتق، وإن لم يحز حنث فيهم ولزمه العتق، ولم يكن للولد شيء، وفي الولد الصغير إن كان له مال حنث فيهم ولزمه العتق، وكانت عليه القيمة، كما لو أعتقهم وولي هو حيازتهم، أو جعل ذلك إلى غيره، وإن لم يكن له مال لم يحنث فيهم، ولم يلزمه عتقهم، هذا تحصيل القول في هذه المسألة وقد كان بعض الناس يحمل الروايات على ظاهرها من الخلاف، فيقيم منها ثلاثة أقوال؛ أحدها: إن الحنث لا يقع عليه فيهم بعد الصدقة بهم- كان الولد صغيرا أو كبيرا، بدليل قوله أولا فما أراه يخرج من المأثم.
والثاني: الفرق بين أن يكون الولد صغيرا أو كبيرا- على ظاهر قول سحنون وعيسى.
والثالث: الفرق بين أن تحاز عنه الصدقة، أو يكون هو الذي يليها- كان الولد صغيرا أو كبيرا- على ظاهر قول ابن القاسم، وليس ذلك- عندي- بصحيح، وخشي عليه الإثم بالفرار من الحنث بالصدقة بهم على مثل أمه وولده الذي يعلم أنه لو أراد عتقهم بالحنث فيهم بعد أن تصدق بهم عليهم، لم ينازعوه في ذلك، وبالله التوفيق.(14/404)
[: قال مماليكي أحرار ولا نية له]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك: عمن قال: كل مملوكا لي ذكر حر، يريد بذلك الرجال، قال ذلك على ما أراد ولا يضره ما قال: كل مملوك لي حر- إذا قال رجل، أو أراد بذلك الرجال- ولم يرد بذلك النساء، قال سحنون: ولو قال: مماليكي أحرار ولا نية له، عتق ذكور رقيقه دون إناثهم، قيل له: ولو قال: رقيقي أحرار، فقال: هذا خلاف عندي، وأرى أن يعتق ذكور رقيقه وإناثهم، قيل له: فلو قال عبيدي أحرار وكل عبد لي حر، قال: ليس يعتق عليه في هذا إلا ذكور عبيده دون الإناث، وهو بمنزلة من حلف ألا يأكل عجوة، فأكل صيحانيا.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في هذه المسألة في بعض الروايات كل مملوك له ذكر حر، وسقط من بعضها ذكر، وسقوطه هو الصواب؛ لأنه إذا قال ذكر لم يحتج أن ينوي ذلك، وقوله ذلك على ما أراد ولا يضره ما قال: كل مملوك لي حر- إذا قال رجل، أو أراد بذلك الرجال- ولم يرد به النساء، يدل على أنه يقبل منه نيته ويصدق فيها- وإن كانت على قوله بينة، وذلك خلاف ظاهر ما في المدونة من أنه قال: كل مملوك لي حر- وله مكاتبون، ومدبرون، وأمهات أولاد، أنهم يعتقون عليه كلهم، وأما قول سحنون فيمن قال: مماليكي أحرار أو كل مملوك لي حر، أو عبيدي أحرار، أو(14/405)
كل عبد لي حر، أنه محمول على الذكران دون الإناث، فهو بعيد؛ لأنه لفظ يقع على الذكران والإناث، قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] أراد الذكر والأنثى، وقد حكى عنه ابنه أنه رجع عن ذلك فقال: يعتق الذكور والإناث- ولو أتى مستفتيا على القول بأنه يقع على الذكر والأنثى، فقال: أردت الذكر والأنثى لنرى في ذلك قولا واحدا، وأما إذا قال: رقيقي أحرار، فلا اختلاف في وقوعه على الذكر والأنثى، ولا في أنه لا ينوى في ذلك- إن ادعى أنه أراد الذكران أو الإناث، إلا أن يأتي مستفتيا، وقوله في الرواية: إذا قال رجل وأراد بذلك الرجال، صوابه إذا قال رجل أو أراد بذلك الرجال، فالواو ههنا بمعنى أو؛ لأنه إذا قال رجل فلا يحتاج أن ينوى في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف في جارية له إن وطئها فرقيقه أحرار]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يحلف في جارية له إن وطئها فرقيقه أحرار، فأراد وطئها فوهب رقيقه لولده، ثم أتى الجارية فوطئها، قال: ما أحب له إلا أن يبيعهم في السوق، فأما أن يعطيهم ولده فلا، قيل له: فإنه فعل ووطئ، قال: ما أرى ذلك له مخرجا، فقيل له: أتراهم أحرارا فوقف وقال: ما أرى ذلك مخرجا له، قال سحنون مثله، قال عيسى: إن كانوا صغارا، يحنث، وإن كانوا كبارا، فلا حنث عليه، قال أصبغ وهو قول ابن القاسم، قيل لعيسى: سواء عندك إن حازها الأب على ولده الصغار فكانت على يديه، أو جعلها على يدي غيره يحوزها لهم، فهو حانث، قال: نعم، وقد ذكر ابن القاسم في كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها من قول مالك مثل هذا سواء، وزاد فيها ابن القاسم من عنده وقال: أرى إن كانت صدقة(14/406)
صحيحة تحاز عنه، فأرجو أن يكون خفيفا، وإن كان شيئا يليه فأراه حانثا.
قال محمد بن رشد: قال مالك في هذه الرواية في الهبة مثل ما تقدم من قوله في رسم حلف في الصدقة، فدل ذلك على ألا فرق عنده بين الهبة والصدقة- وإن كانت الهبة تعتصر والصدقة لا تعتصر، ورأيت لابن دحون أنه قال: لا تجوز هبته للكبار؛ لأن له الاعتصار، إلا أن يقول لله أو للثواب، فيجوز ذلك، ومعنى قوله: أنه لا تجوز هبته للكبار، من أجل أن الصدقة تعتصر، كما لا تجوز الصدقة على الصغار، من أجل أن للأب أن يعتق عبد ابنه الصغير، وأن يوصي بعتقه وأن يحلف بعتقه- إذا كان له مال، وليس قوله: - عندي- بصحيح؛ لأن الهبة مال له موهوب له حتى تعتصر، فإذا خرج العبيد عن ملكه بالهبة، وجب ألا يحنث فيهم- وإن كان له أن يعتصرهم، إلا أن يكون وهبهم ونيته الاعتصار بعد أن يطأ جاريته، فلا يخرجه ذلك من يمينه، ويحنث فيهم وإن كان قد وهبهم، كما إذا تصدق بهم على وجه الدلسة ليسترجعهم بعد الحنث، فلا يبر بذلك، ويعتقون على معنى ما تقدم في رسم حلف، وما وقع في هذه الرواية من أن سحنون يقول مثل قول مالك، وأن ابن القاسم يقول مثل قول عيسى، يبين صحة ما ذهبا إليه من أن تفسير كلام بعضهم ببعض، ولا يحمل على ظاهره من الخلاف، وبالله التوفيق.
[مسألة: سأل رجلا أمرا يخبره فقال فاحلف أنك لا تخبره أحدا ولتكتمه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل سأل رجلا أمرا يخبره، فقال: فاحلف أنك لا تخبره أحدا، ولتكتمه، قال كل مملوك لي حر- إن(14/407)
أخبرت به أحدا، واستثنى في نفسه- إلا فلانا، أترى ذلك له ثنيا؟ قال: لا، ولا أرى الثنيا إلا ما حرك به لسانه، فأما استثناؤه في نفسه، فلا أرى ذلك له ثنيا، وسئل مالك: عن هذا، فقال: إن حرك به لسانه فله ثنياه، قيل لابن القاسم: فإن لم يعلم المحلوف له، قال: نعم وليس عليه أن يعلمه، سحنون لم يكن في كتابه وأنكره، ورأى أن ليس له ثنيا- وإن حرك به لسانه؛ لأن اليمين للذي استحلفه ولم يعجبه قول مالك فيها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة بعينها متكررة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب النذور، ومضى الكلام عليها هناك مستوفى، فاكتفينا بذلك عن إعادته مرة ثانية هنا، ومضت أيضا في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وفي غير ما موضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تعتق الرجل فيموت المعتق وثم ولدها وأخوها]
مسألة وسئل مالك: عن المرأة تعتق الرجل فيموت المعتق وثم ولدها وأخوها، من ترى أحق بالصلاة عليه؟ قال: ابنها، ما لأخيها وما له، ابنها أحق بميراثها والصلاة عليها، (ومن أعتقت كذلك) .
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن ابن المرأة أحق بها من أخيها في ميراثها والصلاة عليها، فهو أحق بالصلاة على مولاها، وإنما الاختلاف إن أراد الابن أن يقدم أجنبيا، أو من هو أبعد من الأخ، فقيل ذلك له لأنه حقه يجعله لمن شاء، وهو قول ابن الماجشون وأصبغ في الواضحة، ودليل ما في أخر أول رسم من سماع أشهب من كتاب الجنائز، وقيل: ليس(14/408)
ذلك له، والأخ أولى من الأجنبي الذي قدمه الابن؛ لأن الابن إذا أبى أن يأخذ حقه، وجب لمن بعده، كالشفيع، إذ لو وجبت له الشفعة، إنما له أن يأخذ أو يترك، وليس له أن يعطي حقه لمن شاء، وهو قول ابن عبد الحكم، وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع عبدا بثمن فكساه إزارا ثمنه ثمانية دراهم]
مسألة وسئل مالك: عن رجل ابتاع عبدا بثمن، فكساه إزارا ثمنه ثمانية دراهم، فكلمه رجل في أن يبيعه منه، فحلف بحريته إن باعه منه بربح خمسة دراهم حتى يزاد، وكانت نيته ما زاد من قليل أو كثير أن يقبله، فزاده درهما، أترى عليه شيئا لموضع الإزار الذي كساه- وقد بعته منه، وقلت له: نسأل عن يمينه، فإن لم يكن علي شيء فهو لك، وإن كان علي شيء، فإن شئت أن تأخذه على ذلك، وإن شئت أن تتركه، قال مالك: لا أرى أن تترك ثمن الإزار لموضع الحنث، ولم يقل له في الشرط شيئا، ثم قال له: فإني قد دفعته منذ ستة أيام إلى حجام يعلمه، وشارطته عليه يعلمه سنة بدينار، فقال: كم أقام عنده؟ قال: خمسة أيام، قال: أرض الحجام من عندك، فقال له: ما ترى علي حنثا؟ قال: لا، ولا أرى هذا من ناحية ما حلف، وهذه أيام يسيرة.
قال محمد بن رشد، هذه مسألة بينة كلها لا إشكال في أنه يحنث إن ترك ثمن الإزار؛ لأنه إذا اشتراه بلا إزار وباعه بالإزار، فقد وقع عليه بعض الثمن وصار قد باعه بأقل مما حلف عليه فحنث، ولا في أنه لا يحنث بما(14/409)
أرضى به الحجام؛ لأن ذلك مما لم يقصده في يمينه، ولا وقع عليه حلفه، كما أنه لا يلزم أن يعد في ثمنه- ما أنفق عليه في طعامه؛ لأن ذلك مما لم يقصده، ولا وقعت عليه يمينه، إلا أن يكون لذلك عرف كالنخاسين الذين يشترون الدواب ويبيعونها مرابحة فيقولون: اشتريتها بكذا، وأنفقت عليها كذا، وأبيعكها بربح كذا، فلو حلف التاجر منهم في دابة قد اشتراها للتجارة ألا يبيعها إلا بربح كذا، يحنث إذا لم يعد نفقته، ولو حلف رجل في جارية عنده أو دابة لم يشترها لتجارة ألا يبيعها إلا بربح كذا، لم يحنث إن لم يعد نفقته، إلا أن يكون نوى في يمينه أن يعد نفقته في الثمن، فلا يبر إلا بذلك، وقال: إنه لم يقل في الشرط شيئا وهو شرط جائز لا يقدح في صحة البيع؛ لأنه أوجبه له على نفسه، فكذلك الثمن إن لم يدخل عليه فيه حنث فذلك جائز، كمن قال: أوجبت لك سلعتي بكذا وكذا- إن جاء اليوم فلان، وما أشبه هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا]
مسألة وسئل: عن العبد يكون نصفه حرا، ونصفه مملوكا، يحتاج الذي له فيه الرق حاجة شديدة، أله أن يأخذ من مال عبده ما يأكل ويكتسي؟ قال: لا، الغني في هذا والفقير سواء بمنزلة واحدة، ليس لهم أن يأخذوا من ذلك شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن العبد إذا أعتق بعضه أقر ما له بيده للشرك الذي له في نفسه، فليس للذي له فيه الرق أن يأخذ من(14/410)
ماله شيئا إلا برضاه غنيا كان أو فقيرا، إذ ليس الفقر بالذي يوجب له في ماله حقا لم يكن واجبا قبل، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا يمرض]
مسألة وسئل: عن العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا يمرض، أترى أن ينفق عليه الذي له فيه الرق؟ قال: لا أرى عليه إلا قدر نفقة نصيبه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه كالعبد بين الشريكين، فلا يلزمه من نفقته إلا بقدر ما له منه- وإن مرض، وبالله التوفيق.
[: يشتري العبد رقبة ثم يبدو له أن يبدله بخير منه وأكثر ثمنا]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل: عن الذي يشتري العبد رقبة ثم يبدو له أن يبدله بخير منه وأكثر ثمنا، قال مالك: ما أرى بذلك بأسا، إلا أن يكون اشتراه بشرط، فإن لم يكن اشتراه بشرط وأراد أن يبدله بخير منه، فما أرى بأسا.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يكون معنى ما سأله عنه: من اشترى العبد رقبة أن يشتريه لعتقه في رقبة واجبة عليه، أو عمن أوصى بذلك إليه بأن يقول للبائع: بعني هذا العبد أعتقه في رقبة واجبة علي، أو في وصية فلان، ويحتمل أن يكون اشتراه ينوي ذلك فيه ولم يعلم بذلك البائع،(14/411)
فأما إن كان اشتراه ينوي ذلك فيه دون أن يعلم بذلك البائع، فلا إشكال في أن له أن يبدله بخير منه، وأما إن كان أعلم بذلك البائع، فإعلامه بذلك عدة منه له بعتقه، وقد اختلف في ذلك، فقيل: إن العدة بخلاف الشرط، فلا يلزم المبتاع، ولا يكون للبائع في ذلك كلام، حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة عن مالك نحو هذه المسألة، فعلى هذا القول يكون للمشتري أيضا أن يبدله بخير منه، وقيل: إن العدة في ذلك كالشرط ولا يلزم المبتاع العتق إلا أنه يكون البائع بالخيار بين أن يسترجع أو يدعه، وهو قول مالك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، فعلى هذا القول لا يكون للمشتري أن يبدله بخير منه إلا برضى البائع، وأما إذا اشتراه بشرط على أن يعتقه، فقيل: إن العتق يلزمه وهو قول أشهب، خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة والعتبية، فقوله في هذه الرواية: إلا أن يكون اشتراه بشرط العتق يأتي على قول أشهب: أن العتق يلزمه، والذي يأتي في ذلك على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وسماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع من العتبية أن له أن يبدله بخير منه برضى البائع، وأما إن كان اشتراه على إيجاب العتق، فلا اختلاف في أن ليس له أن يبدله بخير منه؛ لأن العتق قد وجب له، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجدون الرقبة الرخيصة بالثمن اليسير يعتقها أهلها على أن ولاءها للذين يبيعونها]
مسألة وقال مالك: استشارني هؤلاء الذين يقسمون الخمس، وذكروا أنهم يجدون الرقبة الرخيصة بالثمن اليسير يعتقها أهلها على أن ولاءها للذين يبيعونها، فقلت: لا، ولكن اشتروها- وإن أغليتم- على أن ولاءها للمسلمين.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في هذه الرواية الذين يقسمون الخمس، وحكاها ابن المواز: الذين يقسمون الزكاة، والحكم في ذلك سواء؛ لأن ما يعتق من الخمس أو من الزكاة، فولاؤه للمسلمين واشتراط(14/412)
البائعين لها، أن يكون الولاء لهم شرط باطل لا يحل ولا يجوز، ولا ينفذ إن وقع؛ لنهي رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه وإبطاله له- بقوله في حديث بريرة: «ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله، فهو باطل- وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» فقول مالك: لا، ولكن اشتروها وإن أغليتم على أن ولاءها للمسلمين، معناه: لا يشتروها على أن ولاءها للذين يبيعونها، فإن ذلك لا يجوز ولا يلزم، ولكن اشتروها بغير شرط، فيكون ولاؤها للمسلمين؛ لأنها اشتريت من مال المسلمين.
هذا معنى قوله: لأنه أمرهم أن يشتروها بشرط أن يكون ولاؤها للمسلمين؛ لأن الحكم يوجب ذلك وإن لم يشترطوه، ويحتمل أن يكون أراد بقوله على أن ولاءها للمسلمين أن يعلموهم أن اشتراط الولاء لا ينفعهم، وأن الولاء للمسلمين على كل حال، يشترون منهم على هذا، ولا يغرونهم بأن يشتروا منهم على أن الولاء لهم، وذلك لا يصح لهم، والله الموفق.
[: كانت تبيت مع عمها في سطح وبينهما ستر فنزل عنها عمها]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته وسئل مالك: عن امرأة كانت تبيت مع عمها في سطح- وبينهما ستر، فنزل عنها عمها، فقالت: لم نزلت عني؟ فقال: أكره أن أضيق عليك، فقالت: ما تضيق علي، فأبى، فقالت: كل مملوك لي حر إن لم تبت معي في السطح، فمرض عمها فأنزل من السطح إلى الكن، قال مالك: تنزل فتبيت معه حتى تسأل وتثبت، كأنه لم يره عليها بالواجب، قال ابن القاسم: ليس عليها شيء، وإنما أرادت(14/413)
وجه الضيق لنزوله عنها، ولم ترد ناحية المرض.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة، أنها حلفت أن يبيت معها في السطح مدة، ما وقتتها وسمتها، أو أرادتها ونوتها، كانقضاء المصيف ونحوه مما جرت العادة فيه بالمبيت في السطوح، فحمل ابن القاسم يمينها على البساط الذي خرجت عليه يمينها، من أنها إنما كرهت أن يترك المبيت معها في السطح، من أجل التضييق عليها، فلم ير عليها حنثا، إذ لم يترك المبيت معها من أجل التضييق عليها، وإنما تركه من أجل المرض، وهو المشهور في المذهب أن يمين الحالف إذا لم تكن له نية تحمل على بساط، ولا تحمل على مقتضى اللفظ إلا عند عدم البساط- على ما قاله مالك في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق في (مسألة المغيب، وقيل: إن يمين الحالف إذا لم تكن له نية، يحمل على ما يقتضيه اللفظ، ولا يراعى البساط، وهو قول مالك في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك، وقاله في سماع سحنون في كتاب الأيمان بالطلاق في) مسألة البالوعة، ولهذا الاختلاف توقف مالك في هذه المسألة، فقال: تنزل وتبيت معه حتى تسأل وتثبت، وقوله: كأنه لم يره عليها بالواجب، يريد نزولها ومبيتها معه في غير السطح، وكذلك هو غير ظاهر؛ لأنها إنما حلفت أن يبيت معها في السطح، فإما أن يحمل يمينها على البساط، فلا يكون عليها شيء كما قال ابن القاسم، وإما أن يحمل على اللفظ، فتكون قد حنثت إذا لم يبت معها في السطح؛ لأنها عمت ولم تستثن مرضا ولا غيره، ووجه قوله: تنزل فتبيت (معه) لاحتمال في أن تكون إنما كرهت مفارقته لها في المبيت، فإذا لم(14/414)
تفارقه فيه، لم يكن عليها حنث، وليس ذلك ببين، وبالله التوفيق.
[مسألة: نذرت إن تسرر عليها زوجها فكل مملوك لها حر لوجه الله]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة نذرت إن تسرر عليها زوجها، فكل مملوك لها حر لوجه الله، أو تزوج عليها إن أتيت مني ما يأتي الرجل من امرأته، فتسرر، فقالت: لا يحنثني في يميني وأنا راضية بأن لا تأتيني، فرضي بذلك الزوج ورضيت به، قال: لا أرى عليها في يمينها شيئا، وأرى ذلك صوابا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن ذلك جائز إذا رضيا به جميعا؛ لأن الوطء حق لكل واحد منهما على صاحبه، فلو لم يرض الزوج بذلك، لكان له تحنيثها بالوطء، ولو رضيت هي بالحنث ورجعت عما كانت رضيت به من أن تبقى معه على غير جماع، لكان ذلك لها على ما قال، في المدونة في التي قالت لزوجها أن يتزوج عليها ويجعل أيامها لصاحبتها ثم شحت بعد ذلك، أن لها الرجوع في حقها من القسم، وكذلك لو رجع هو وأراد وطئها بعد أن كان رضي بالمقام معها على غير وطء، كان ذلك له، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري العبد رقبة ثم يريد أن يبدله بخير منه]
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل يشتري العبد رقبة، أيستقيل منه؟ قال: نعم، إلا أن يكون اشتراه على أنه حرفي العتق، فلا يستقيل منه.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة على قياس ما مضى(14/415)
بيانه في الرسم الذي قبل هذا في الذي يشتري العبد رقبة ثم يريد أن يبدله بخير منه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق الرجل عبده عند موته ولم يكن له في المنظرة ارتفاع قيمة]
مسألة قال مالك: ينبغي للورثة إذا أعتق الرجل عبده عند موته ولم يكن له في المنظرة ارتفاع قيمة، وكانت له مخبرة ترتفع بها قيمته، أن يبينوا ذلك عندما يقوم.
قال محمد بن رشد: بيان ما ترتفع به قيمة العبد الموصى بعتقه عند التقويم للورثة لا عليهم، فلو قال: لهم أن يبينوا ذلك وليس عليهم أن يكتموه، لكان أبين، إذ هو الذي أراد، وكذلك قال في سماع موسى بن معاوية من كتاب الوصايا: أنه يقوم على خيره وبصره وأمانته، ولا يحل لأهله كتمان ذلك منه، ومثله أيضا بمعناه في رسم الوصايا من سماع أشهب من كتاب الوصايا، وذكره أيضا في الرسم الذي بعد هذا من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: نعت في كل شهر مرة أيعتق في الكفارات]
مسألة وسئل: عن الذي نعت في كل شهر مرة، أيعتق في الكفارات؟ قال: لا، هذا مصاب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه من العيوب المفسدة الفادحة، فلا تجوز في الرقاب الواجبة، وبالله التوفيق.(14/416)
[مسألة: حلف بعتق جارية له إن لم يبعها]
مسألة وسئل: عن رجل حلف بعتق جارية له- إن لم يبعها، قال: لا يطؤها ولا يتصدق بها ولا يهبها حتى يبيعها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه فيها على حنث، فلا يجوز له وطؤها؛ لأنه لا يبر إلا ببيعها، وإن تصدق بها أو وهبها، ردت الصدقة والهبة وأقرت في يده، فإن لم يبعها حتى مات، عتقت في ثلثه على ما في المدونة وغيرها، من ذلك ما وقع في رسم بع، ورسم باع شاة من سماع عيسى، وفي غيره من المواضع، وبالله التوفيق.
[: حلف بعتق ما يملك في مال له أراد بيعه ألا ينقصه من مائتي دينار]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك: عن رجل حلف بعتق ما يملك في مال له أراد بيعه ألا ينقصه من مائتي دينار، فباعه بمائتي دينار، ثم إنه وضع له بعد ذلك، فأرسل إلى مالك فيه الأمير، فقال: إن وضع له في مجلسه، فأرى أن قد وقع عليه الحنث، وإن وضع له بعد يومين أو ثلاثة، فأحلفه بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد إلا عقد البيع، وما هذا الذي أردت بألا أضع، فإن حلف لم أر عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: أوجب عليه مالك الحنث إذا وضع له من الثمن في مجالسه، إما لأنه لم يصدقه في أنه إنما وضع عنه بنية حادثة له بعد أن باع بما-حلف عليه؛ لأن العتق مما يحكم عليه فيه، وإما؛ لأنه حنثه بالمعنى؛ لأن الحالف ألا يبيع سلعته إلا بكذا، إنما مقصده الانتفاع بالثمن بعد تقرره له عليه، فإذا رده إليه في المجلس أو وضعه عنه؟ فكأنه لم يبع(14/417)
به، إذ لم يتقرر له عليه، ولا قبضه ولا انتفع به، وهذا هو الأظهر من مراده، بدليل ما يأتي له في رسم صلى نهارا بعد هذا من هذا الكتاب، وبدليل ما في رسم الجنائز من سماع أشهب من كتاب النذور؛ لأنه اتقى عليه الحنث في ذلك، ويمينه بما لا يحكم عليه فيه، وصدقه مع يمينه بعد البيع باليومين والثلاثة أنه إنما أراد ألا يضع عنه في عقد البيع، ولم يرد ألا يضع عنه بعد ذلك شيئا، ولو كانت يمينه مما لا يحكم عليه بها، لصدق دون يمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يعتق والعبد زراع وهو بموضعه أرفع في القيمة]
مسألة وسئل مالك: عن العبد يعتق والعبد زراع، وهو بموضعه أرفع في القيمة، وإن جلب إلى الفسطاط وذكر منه عمله، لم يكن له من القيمة كقدره في موضعه، أين ترى أن يقوم؟ قال: أرى أن يقوم في موضعه الذي كان فيه.
قال محمد بن رشد: هذا يبين قوله في الرسم الذي قبل هذا ويكشف عن معناه- حسبما بيناه، وبالله التوفيق.
[: قال لصاحبه كل مملوك لي حر إن لم أطل هجرانك]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل: عن رجل قال لصاحبه: كل مملوك لي حر- إن لم أطل هجرانك، فأقام أياما ثم أراد أن يكلمه، قال مالك: لا أرى أن يكلمه سنة.
قال محمد بن رشد: في المبسوطة لمالك أنه لم يسم شيئا، إلا أنه(14/418)
حلف ليهجرنه، فإنه يهجره شهرا، وهو على قياس قوله في هذه: أنه يهجره سنة- إذا حلف أن يطيل هجرانه- وهو قول ابن كنانة، وابن الماجشون يقول: إنه إن حلف ليهجرنه (أنه) يبر بثلاثة أيام، وإن حلف ليطيلن هجرانه يبر بالشهر ونحوه، واختلف في ذلك قول ابن القاسم فله في كتاب الرهون من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، مثل قول ابن الماجشون؛ لأنه قال فيه: إنه يبر بثلاثة أيام إذا حلف على الهجران- ولم يعم شيئا، فعلى قياس قوله إذا حلف ليطيلنه، أنه يهجره شهرا ونحوه، وحكى عنه ابن حبيب أنه لا يبر إذا حلف ليهجرنه إلا بشهر ونحوه، فعلى قياس ما حكى عنه إذا حلف ليطيلنه لا يبر إلا بالعام ونحوه، مثل قول مالك، وقول ابن الماجشون، وما في العتبية لابن القاسم أظهر؛ لأنه إذا لم يسم شيئا، كان الوجه في ذلك أن يبر بأكثر ما يجوز الهجر إليه- وهو الثلاثة الأيام- على ما جاء في الحديث من أنه لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام.
وإذا حلف ليطيلنه بر بالحد الذي اعتزل فيه رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزواجه إذ هجرهن وهو المشهور، ومن قال: إنه لا يبر إذا لم يسم شيئا إلا بالشهر اعتبارا باعتزال النبي عليه السلام أزواجه شهرا لم يبر إذا حلف ليطيلنه إلا بالعام؛ لأنه حد في أشياء كثيرة من الأحكام، وروى يحيى عن ابن القاسم أنه إن أطال هجرانه- ولم يتم السنة فلا حنث عليه، (قال) : وليس الشهر والشهران والثلاثة والخمسة والستة بطول، وكأنه رأى ذلك في الثمانية، وبالله التوفيق.(14/419)
[مسألة: استأذن سيده في عتق عبد له فأذن له بعتقه]
مسألة قال ابن القاسم: كل عبد استأذن سيده في عتق عبد له فأذن له بعتقه من مكاتب، أو أم ولد، أو مدبر، أو عبد- لا تدبير فيه، أو معتق إلى أجل، فما كان من ذلك ما لو شاء السيد أن يأخذ ماله أخذه، فذلك إذا استأذن سيده في عتق عبد فأذن له، فأعتق ثم أعتق بعد ذلك، لم يرجع إلى العبد المعتق من ولائه شيء، وكل ما كان من ذلك ما لو شاء سيده أن يأخذ ماله لم يأخذه، فذلك إذا استأذن سيده في عتق عبد له فأعتقه ثم أعتق العبد بعد ذلك، فذلك يرجع إليه ولاء ما أعتق ومن ذلك المكاتب لا يأخذ ماله، والمعتق إلى أجل إذا قرب عتقه، لم يكن لسيده أن يأخذ ماله، والمدبر وأم الولد إذا مرض سيدهما، فهذا الذي إذا أذن لهم سيدهم في عتق، رجع إليهم الولاء إذا أعتقوا، وأما إذا كان إذنه ذلك في مدبره وأم ولده- وهو صحيح، والمعتق إلى أجل في طول الزمان الذي يأخذ فيه مال المعتق، فإنما أذنه ههنا لنفسه لا لأم الولد، ولا للمدبر، ولا لمعتق إلى سنين من ولايتهم شيء؛ لأنه كان ينتزع أموالهم ولا يمنع منها، وإنما أذنه لنفسه، وإن أعتق مدبر عبدا له في صحته من سيده، أو أم ولد، أو معتق إلى أجل، أو عبد ليس فيه تدبير ولا عتق بغير علم السيد، فلم يعلم السيد بذلك حتى عتق العبد، أو أم الولد، أو المدبر، أو المعتق إلى سنين، فولاء ما أعتقوا لهم، وعتقهم جائز، ولا يردون ذلك إذا كان سيدهم لم(14/420)
يعلم بذلك ولم يرده، وإن علم فرده ثم عتقوا بعد ذلك، لم يلزمهم عتق ما أعتقوا، وكانوا رقيقا لهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف أحفظه- في شيء من الوجوه المذكورة فيها؛ لأن إذن السيد لعبده الذي له أن ينتزع ماله في أن يعتق عبده، وإجازته لعتقه إذا أعتقه من غير أن يستأذنه، كما لو أعتقه هو؛ لأن عتقه إياه انتزاع منه له، فوجب أن يكون الولاء له، ولا يرجع إلى العبد، إن عتق- ولو لم يعلم السيد بعتقه، أو علم فلم يقض برد ولا إجازة حتى عتق، لنفذ عليه العتق، ولا أعرف في هذا النص خلافا، وقد يدخل فيه الخلاف بالمعنى، إذ قد قيل في فعل المرأة فيما زاد على الثلث، أنه على الرد حتى يجاز، (وهو في هذا) أحرى أن يكون على الرد حتى يجاز؛ لأن تحجير السيد على عبده، أقوى من تحجير الزوج على امرأته، وهذا إذا بقي العبد بيده حتى يعتق، وأما إن فوته من يده قبل أن يعتق ببيع أو هبة، فلا يرد- قاله في الاعتكاف من المدونة في الصدقة، والعتق مثله، إلا أن يفرق بينهما بحرمة العتق، وهو يعيد، وأما إن رد السيد عتقه ثم أعتق هو، فلا يعتق عليه وإن كان بيده قولا واحدا لا يدخل فيه الاختلاف الذي في الزوجة تعتق عبدها- وهو أكثر من الثلث، فيرده الزوج ثم يموت عنها أو يطلقها- وهو في يدها، وأما إذا أذن لعبده أن يعتق عبده في حال ليس له فيها أن ينتزع ماله من مكاتب، أو معتق إلى أجل قد قرب أجل عتقه، أو مدبر، أو أم ولد مرض سيدهما، أو أجاز عتقه في تلك الحال، فولاؤه له ما لم يعتق، فإن عتق أدى إلى كتابته إن كان مكاتبا، أو بانقضاء الأجل إن كان معتقا إلى أجل أو(14/421)
بموت السيد إن كانت له أم ولد أو مدبرة فحملها الثلث، رجع الولاء له، وكذلك إذا علم بعتقه، فلم يقض برد ولا إجازة، واختلف فيما أعتق المدبر في مرض السيد بإذنه إذا صح من مرضه ثم مات، فيعتق في ثلثه؟ فقيل: يرجع إليه الولاء، وقيل: لا يرجع إليه؛ لأن السيد لما صح كان للسيد انتزاع ماله، فصار كالعبد بإذن سيده (ولم يختلفوا في المكاتب يعتق بإذن سيده) ثم يعجز فيعتقه سيده، أن الولاء لا يرجع إلى المكاتب، ولا فرق بين المسألتين في المعنى، وأما إن رد السيد عتقه ثم ثبتت حريته بعد بأداء الكتابة إن كان مكاتبا أو انقضاء الأجل إن كان معتقا إلى أجل أو موت السيد إن كانت أم ولد أو مدبرة فحملها الثلث- والعبد بيده لم يفوته قبل، فيتخرج ذلك على الاختلاف في الزوجة تعتق عبدها- وهو أكثر من الثلث فيرد الزوج عتقها ثم يموت عنها، أو يطلقها وهو في يدها لم تفوته؛ لأن تحجير السيد على هؤلاء أضعف من تحجيره على عبده الذي ليس فيه عقد عتق، فهو يشبه تحجير الزوج على امرأته، وبالله التوفيق.
[مسألة: اختلف هو وامرأته فحلف بعتق جاريته إن لم يتزوج عليها]
مسألة وسئل: عن رجل كانت بينه وبين امرأته منازعة في جارية له، فحلف بعتق جاريته إن لم يتزوج عليها إلى سنة، فمكثت المرأة عنده تسعة أشهر، ثم إنها ماتت ولم يتزوج، أترى عليه في الجارية حنثا؟ قال: لا حنث عليه وهو على بر، إنما هو بمنزلة رجل حلف بعتق رقيقه ليقضين فلانا حقه إلى أجل سماه، فمات الرجل قبل(14/422)
الأجل، فهو (على بر) ولا حنث عليه فيهم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الحالف بعتق عبده ليفعلن فعلا إلى أجل، هو على بر إلى ذلك الأجل- إن مات هو أو مات العبد قبل الأجل، لم يكن عليه شيء باتفاق، وكذلك يبر باتفاق إن ماتت الزوجة التي حلف ليتزوجن عليها قبل الأجل، كمن حلف بعتق عبده ليضربن فلانا إلى أجل فمات فلان قبل الأجل، لا حنث عليه باتفاق، إذ لا يمكن أن يتزوج عليها بعد موتها، ولا أن يضرب الرجل بعد موته، فالمسألة أبين من الحجة؛ لأن الذي يحلف ليقضين فلانا حقه إلى أجل، يمكنه قضاء الورثة، فإن كان قصد بيمينه إبراء ذمته من الدين، فلا يبر إلا بقضاء الورثة قبل الأجل، وإن كان إنما أراد عين المحلوف عليه ليقضينه إلى الأجل، فلا حنث عليه إذا مات قبل الأجل، كالزوجة التي حلف ليتزوجن عليها إلى أجل، فماتت قبل الأجل، فحمل يمينه على ظاهر اللفظ من أنه أراد عين المحلوف عليه.
والأظهر أن يحمل إذا لم تكن له بينة على أنه إنما أراد إبراء ذمته من الدين، فلا يبر إلا بقضاء الورثة قبل الأجل- حسبما ذكرناه في هذا الرسم من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، ولا اختلاف في أن الجارية التي حلف بحريتها إن لم يتزوج على امرأته إلى ستة- مرتهنة بيمينه، ليس له أن يبيعها حتى يبر بالتزويج عليها قبل الأجل أو بموتها، واختلف هل له أن يطأ الجارية أم لا؟ على قولين في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد كان بين اثنين فقال أحدهما للغلام قد وهبت لك نصيبي منك]
مسألة
وسئل: عن عبد كان بين اثنين، فقال أحدهما للغلام: قد وهبت لك نصيبي منك، قال: أرأيت لو كان لأحدهما؟ فقال: قد وهبتك(14/423)
لنفسك، فكأنه يقول: هو عتق، فكان شأنه عنده شأن ما يعمل به في العتق، قال ابن القاسم: وذلك رأيي، ووجهه ما سمعنا من قول مالك: إذا وهب له شقصا منه، عتق وقوم عليه ما بقي (لأن ولاءه له قال: وهو رأي سحنون. قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن الرجل إذا قال لعبده: قد وهبت لك نفسك إنه حر- قبل العبد أو لم يقبل، وأنه إذا وهبه نصفه أعتق عليه كله، وكذلك إذا وهبه نصيبه منه، عتق وقوم ما بقي عليه، وفي قوله) : لأن ولاءه له، دليل على أنه إنما أعتق على العبد لا عليه- وهو مذهبه؛ لأنه يقول للذي يوصي لعبده بجزء منه: أنه يعتق على نفسه في ماله إن كان (له) فكان القياس على هذا أن يقوم على نفسه في مال إن كان له لا على سيده، ووجه قوله: إنه يقوم على سيده، هو أن السيد يتهم أنه أراد بما فعل من هبة حظه منه له أن يعتق حظه ولا يقوم عليه حظ شريكه، ومذهب ابن وهب أن الجزء الموهوب له منه يعتق على سيده لا عليه، فلا إشكال على مذهبه في وجوب تقويمه عليه، وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا، وبالله التوفيق.
[مسألة: أن بلالا قال لأبي بكر لما ولي ائذن لي أن أخرج إلى الشام]
مسألة قال: وقال مالك: بلغني أن بلالا قال لأبي بكر لما ولي: ائذن لي أن أخرج إلى الشام في الجهاد، فقال له أبو بكر: لا، فقال له بلال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله فخل سبيلي؟ فقال له أبو بكر: قد خليتك.(14/424)
قال محمد بن رشد: أراد أبو بكر - والله أعلم- أن يحبسه للأذان كما كان عليه في حياة النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلا ينتقل عن مرتبته في ذلك، فإنما أراد بحبسه النظر له في ذلك وللمسلمين لا لنفسه، فلما اختار الجهاد وألح عليه فيه، أذن له في الخروج، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتقت المرأة ثلث خادم لها وهي ذات زوج]
مسألة قال مالك: إذا أعتقت المرأة ثلث خادم لها- وهي ذات زوج- وليس لها مال غيرها، جاز ذلك عليها، وإن كره زوجها؟ قال ابن القاسم: ولا يعتق عليها إلا الثلث إذا كره زوجها، ولو أعتقتها كلها وليس لها مال غيرها ولم يجز ذلك الزوج، لم يجز منها ثلث ولا غيره، قال مالك: وذلك من الأضرار.
قال محمد بن رشد: قوله: جاز ذلك عليها وإن كره زوجها، معناه أن الثلث الذي أعتقه يجوز عتقه، أجازه الزوج أو لم يجزه، فإن أجازه عتق عليها جميع الخادم، وإن لم يجزه، لم يعتق منها إلا الثلث- كما قال ابن القاسم، فهو مفسر لقول مالك هذا في روايته عنه، وقال أشهب وابن الماجشون إن لم يجزه ورده، لم يعتق منها شيء- كما إذا أعتقت جميعها، وروياه عن مالك، فقولهما وروايتهما على قياس القول في أن من أعتق بعض عبده يجب عليه عتق جميعه بالسراية، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك في هذه الرواية، على قياس القول بأنه لا يعتق باقيه حتى يعتق عليه، فإن أجاز فعلها عتق عليها باقيه، وإن لم يجز فعلها، لم يعتق فيها إلا الثلث الذي أعتقت، وفي ذلك من قوله نظر؛ لأن عتق الثلث يعيب الثلثين، فإذا أنفذ لها عتق الثلث، فقد جاز قضاؤها في أكثر من ثلث مالها، ولا اختلاف فيما قاله ابن القاسم إنها إذا أعتقت جميعها فلم يجزه لم يعتق منها شيء، من أجل(14/425)
تبعيض العتق، وإنما اختلف إذا قضت بأكثر من الثلث فيما عدا العتق، فابن القاسم يقول: إن للزوج أن يرد الجميع، وغيره يرى أنه إنما يرد ما زاد على الثلث، وقد اختلف في المرأة ذات الزوج تدبر جاريتها ولا مال لها سواها، فروى ابن القاسم عن مالك في سماعه من كتاب المدبر أن ذلك لها، وقاله ابن القاسم ومطرف، وأباه ابن الماجشون وسحنون، وأحكام قضاء المرأة في مالها دون إذن زوجها، وقعت مفترقة في غير ما موضع من هذا الكتاب ومن غيره من الكتب، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات، فغنينا بذكره هناك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلفت على ابنتها إن صاحبتها في سفر فكل مملوك لها حر لوجه الله]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة حلفت على ابنتها إن صاحبتها في سفر: فكل مملوك لها حر لوجه الله، فتكارت هذه من جمال، وهذه من جمال، فكانتا تلتقيان في سفرهما، وكانتا تسيران وتتحدثان وتنزلان، ولكنهما مع جمالين مفترقين، قال مالك: لا أراها إلا وقد حنثت، قال ابن القاسم وذلك رأيي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنهما إذا كانتا تسيران معا وتتحدثان وتنزلان جميعا في منزل واحد، فقد اصطحبتا وإن كانتا مع جمالين، ولو تكاريا من جمال واحد، فركبت كل واحدة منهما جملها ولم تسر مع صاحبتها- مصاحبة لها، ولا نزلت معها في موضع واحد لما حنثت، وإنما ينظر إلى ما جرت يمينها، فإن كان ذلك من أجل كونهما مع جمال واحد، فإذا انتقلت إلى جمال أخر فلا تحنث، وإن كان ذلك من أجل(14/426)
اجتماعهما على نفقة واحدة وطعام واحد، فإذا انتقلت عن ذلك إلى أن تكون منفردة عنها في طعامها لم تحنث، وإذا لم يكن ليمينها بساط تحمل عليه ولا كانت لها نية، حنثت بكل ما يقع عليه اصطحاب، هذا الذي يأتي على أصولهم في هذه المسألة، وقد رأيت لابن دحون إنه قال في هذه المسألة: لو كانت يمينها في سفر ففارقتها وأكرت من جمال أخر، لم تحنث- وإن كانتا في رفقة واحدة، وإنما حنثها في هذه؛ لأنها حلفت وهي في الحضر ثم خرجت معها في رفقة واحدة، والرفقة كلهم أصحاب، والذي قلته وأصلته في المسألة هو أوضح، وبالله التوفيق.
[: باع غلاما له ممن يعتقه واشترط في ذلك على الغلام بأنه لا يفارقه حتى يموت]
ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان وسئل: عن رجل باع غلاما له ممن يعتقه واشترط في ذلك على الغلام بأنه لا يفارقه حتى يموت، قال: هذا لا ينفعه، وهذا شرط باطل، فإن عتق، ذهب حيث شاء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إذ لا يجوز للرجل أن يعتق عبده ويشترط عليه خدمة وعملا بعد العتق، وإنما اختلف إذا اشترط عليه مالا يؤديه إليه بعد العتق، مثل أن يقول له: أنت حر بتلا وعليك كذا وكذا، فألزمه مالك المال قبل أو لم يقبل، واختلف في ذلك قول ابن القاسم، فإذا وقع البيع على هذا من الشرط كان البائع بالخيار بين أن يسقط الشرط أو يسترد البيع، فإن فات البيع بالعتق، سقط الشرط على ما قاله، وبالله التوفيق.(14/427)
[: استدفع امرأة قرطا فصرته في خرقة]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك: عن رجل استدفع امرأة قرطا فصرته في خرقة، ثم إن زوجها أصابه رمد فعالج دواء لعينه، فسألها خرقة ليجعل فيها ذلك الدواء، وناولته الخرقة ونسيت موضع القرط، فرمى بها وأقامت في التراب يومين، ثم إنه وجدها بعد ذلك فصر فيها دواء، ثم جعله في الزنفلجة وهو لا يعلم أن القرط فيها، ثم سألها عن القرط وطلبت القرط من غدوة إلى ضحوة، فغضب الرجل فقال: كل مملوك حر- إن لم يكن قد ضاع منك أو سرق، فقال: لا أرى عليه حنثا.
قيل له: أرأيت يا أبا عبد الله لو كانت الخرقة لم تكن ملقاة في التراب إلا على وجه التناول ووضعها في الزنفلجة قال: أرجو ألا يكون عليه شيء- إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: الزنفلجة عند العرب: مخلاة الراعي، وقول مالك في هذه المسألة: إنه لا حنث عليه بين؛ لأنه حلف لقد ضاع القرط منها أو تلف، وهو قد ضاع منها لما صرته في الخرقة ثم نسيته ودفعت إليه الخرقة وهي لا تظن أنه فيها فرمى بها في التراب، ثم أخذها وهو لا يعلم أن القرط فيها، فظن أنه قد تلف، فحلف لقد ضاع منها أو سرق، فلما حلف لقد ضاع منها وهو قد ضاع منها وجب ألا يحنث، وإن كانت الخرقة لم تكن ملقاة في التراب إلا على وجه التناول، فهو أيضا غير حانث؛ لأن الضياع من المرأة في القرط حاصل، وقد قيل: إن قول مالك في هذه المسألة معارض لقوله في مسألة السوط من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان(14/428)
بالطلاق في رسم طلق بن حبيب؛ لقوله فيها: أنه حانث إلا أن تكون له نية حسبما ذكرناه هناك من تأويل قوله، والصواب الفرق بين المسألتين حسبما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[: سألت زوجها أن يخبرها بكلام فأبى فقالت كل مملوك لي حر إن لم تخبرني]
ومن كتاب كتب عليه ذكر حق وقال مالك في امرأة سألت زوجها أن يخبرها بكلام فأبى، فقالت: كل مملوك لي حر- إن لم تخبرني إن كلمتك شهرا، وذهب ثم يؤامر نفسه، ثم أخبرها بعد ذلك بيوم، فقال: أرى أن تكلمه؛ لأنها كانت على البر، فإذا أخبرها- وإن افترقا من ذلك المجلس، ثم كلمته بعدما يخبرها بيوم، وإنما كان يستأمر فيه، فلا أرى عليها حنثا.
قال محمد بن رشد: حمل مالك في هذه المسألة يمين المرأة على زوجها أن يخبرها بالكلام على التأخير حتى تكون لها نية في التعجيل، ولذلك قال: أرى أن تكلمه؛ لأنها كانت على بر، وذلك خلاف قول ابن القاسم في سماع أبي زيد في الذي يحلف بحرية جاريته على أخيه أن يصنع له، فصنع له بعد أن مطله أشهرا، أنه حانث؛ لأنه حمل يمينه على التعجيل حتى يريد به التأخير، والقولان في المبسوطة لمالك، قال: وسئل مالك: عن رجل حلف لرجل بطلاق امرأته البتة إن لم تعطني ثوبك هذا، فقال: إن أعطاه إياه قبل أن يفترقا، فقد خرج من يمينه، وإن افترقا ولم يعطه إياه، فقد حنث، قال ابن(14/429)
نافع لا حنث عليه إلا أن يكون أراد في مقامك هذا، وهو قول مالك، وكذلك اختلف أيضا إذا حلف الرجل أن يفعل شيئا، هل هو محمول على التعجيل حتى يريد التأخير، أو على التأخير، حتى يريد التعجيل والقولان بينان في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب النذور حسبما بيناه هناك، والقولان جاريان على الاختلاف في الأمر هل يقتضي الغور أم لا؟ والمشهور في الحالف على نفسه أن يفعل فعلا أنه محمول على التأخير حتى يريد التعجيل، وفي الحالف على غير مواجهة أن يفعل فعلا، محمول على التعجيل حتى يريد التأخير، من ذلك قولهم فيمن حلف بطلاق امرأته ليفعلن فعلا إنه لا يطأ امرأته حتى يفعل، ويضرب له أجل الايلاء إن طلبت امرأته الوطء، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه محمول على التأخير في المسألتين حتى يريد التعجيل.
والثاني: أنه محمول فيهما على التعجيل حتى يريد التأخير.
والثالث: الفرق بين المسألتين، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى غلاما ليعتقه فقال سيد الغلام لا أبيعه إلا بستين]
مسألة وقال مالك في رجل اشترى غلاما ليعتقه، فقال سيد الغلام: لا أبيعه إلا بستين، وقال المشتري: لا آخذه إلا بخمسين، فلما رأى ذلك العبد، قال لسيده: بعني بخمسين دينارا واكتب علي العشرة ادفع إليك في كل شهر دينارا، فكتب عليه العشرة بعلم من المشتري فاشتراه بخمسين وأعتقه على هذا الشرط، أيكون للذي أعتق العبد على هذا الشرط الولاء كله، ويعجل للذي باعه سدس الولاء، قال: الولاء للذي اشتراه فأعتقه، وليس للذي باعه واشترط عليه أن يعطيه عشرة دنانير من ولائه قليل ولا كثير، وولاؤه للذي ابتاعه فأعتقه.(14/430)
قال محمد بن رشد: قوله: ليس للبائع من ولاية قليل ولا كثير بين؛ لأن المشتري بالخمسين هو الذي أعتقه، فلا حق للبائع في ولائه بالعشرة التي اشترط أن يأخذها من العبد بعد عتقه، وإنما هو كمن أعتق عبده على أن يؤدي بعد العتق عشرة دنانير لرجل أخر، فليس للذي يأخذ العشرة دنانير منه مدخل في ولائه بوجه من الوجوه، وظاهر هذه الرواية أن العشرة تجب للبائع على العبد إذا كتبها عليه بعلم المشتري، وهو نص ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وفي العشرة ليحيى عن ابن القاسم أن العشرة تسقط عن الغلام علم المشتري ولم يعلم، قال: وإن كان باع بغير العتق، سقط عنه الغرم وفسخ البيع، إلا أن يفوت فيرد إلى القيمة، فأما سقوطها عنه إذا لم يعلم، فهو بين، إذ ليس له أن يعيب العبد الذي باعه بما كتب عليه من الدين، ومثله في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وأما سقوطها عنه إذا علم، فالاختلاف في ذلك- عندي- جار على الاختلاف في الرجل يقول لعبده: أنت حر بتلا وعليك كذا وكذا، فقول مالك في المدونة: إن المال يلزمه، وعليه يأتي قوله في هذه المسألة، وقول ابن القاسم فيها: إن المال يسقط عنه، وعليه يأتي ماله في العشرة في هذه المسألة، وقد اختلف في ذلك قول ابن القاسم في المدونة، وأما قوله في العشرة: إن البيع يفسخ إن كان باع بغير العتق إلا أن يفوت فيرد إلى القيمة، وتسقط العشرة، فمعناه إن علم المشتري واشترى على هذا؛ لأن الفساد فيه بين؛ لأنه باع عبده بستين دينارا، يتبع منها ذمة العبد بعشرة دنانير، وذلك غرر بين، وأما إن لم يعلم المشتري بذلك، فلا وجه لفساد البيع، وفي سقوط العشرة عنه إذا لم يعلم المشتري بها، واشتراه على غير العتق باختلاف، قيل: إنها لا تسقط عنه ويكون المشتري بالخيار بين أن يمسك أو يرد كعيب اطلع عليه أو هو الذي يأتي على ما في كتاب الكفالة من المدونة، وقد(14/431)
مضى بيان هذا في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.
[: أعتقت بغير إذن زوجها جارية لها فرد زوجها عتقها]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وقال مالك في امرأة أعتقت بغير إذن زوجها- جارية لها فرد زوجها عتقها، قال مالك: إن كانت الجارية تكون ثلث مالها- ولها مال تكون الجارية ثلث المال أو أقل من الثلث فإن عتقها جائز، وأما إن كانت الجارية أكثر مالها أو جله، فإن ذلك لا يجوز منها شيء إلا أن يجيز زوجها، سحنون والعتق جائز حتى يرده الزوج، ولكنه موقوف لا تجوز شهادته.
قال محمد بن رشد: في الواضحة لمالك من رواية ابن القاسم عنه مثل قول سحنون: إنه جائز حتى يرده الزوج، وقال مطرف وابن الماجشون ذلك مردود حتى يجيزه الزوج، وأنكرا رواية ابن القاسم عن مالك، وقالا ذلك بخلاف ذي الدين يعتق وعليه دين، فعتقه محمول على الجواز حتى يرده الغرماء، فلا يجوز للغرماء الرد إلا من بعد بينات وإثبات، وأما الزوج فلا يكلف إثبات ما يجب له به الرد؛ لأن فعلها على غير الجواز؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجوز لامرأة قضاء في ذي بال من المال إلا بإذن زوجها» والأظهر أن فعلها محمول على الجواز حتى يرده الزوج؛ لأن الزوج إذا لم يعلم أو علم فلم يقض برد ولا إجازة حتى مات عنها أو طلقها، يلزمها ما فعلت من العتق وغيره، وينفذ عليها، هذا هو المشهور في(14/432)
المذهب، وقد ذكر ابن المواز عن بعض أصحاب مالك: أن العصمة إذا زالت والعبد في يدها تسترقه، وهو على قياس القول بأن فعلها على الرد حتى يجيزه الزوج، وقد مضى في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الصدقات القول في أحكام قضاء المرأة في مالها دون إذن زوجها- مستوفى، فاكتفينا بذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: حر كانت تحته امرأة ثلثها حر]
مسألة وسئل: عن حر كانت تحته امرأة ثلثها حر، وثلثاه رقيق، وله منها ولد ثلثه حر وثلثاه رقيق، فأراد الذين لهم فيه الرق أن يبيعوا ما لهم من الرق، فأعطوا ثمنا وأرادوا البيع من رجل، فطلب زوج الجارية أبو الغلام أن يأخذه بالذي أعطوه، قال: أرى ذلك له؛ لأنه لا يدخل على الذين باعوه مضرة؛ ولأن ذلك منفعة للذين يبتاعون الجارية وابنها؛ لأن ابنها يعتق حين يشتريه أبوه، فهو منفعة لهم، ولا أراه يدخل على الأخير ضرر، فلا أرى إلا ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الزوج إذا أراد أن يأخذهم بالثمن الذي أعطوا بهم، فبيعهم من غيرهم بذلك الثمن إضرار بالولد في غير منفعة تصير إليهم، فلا يمكنون من ذلك، إذ لا مضرة عليهم في بيعهم من الزوج، ولا منفعة لهم في بيعهم من سواه، ولو باعوها وحدها دون ولدها، لم يكن أحق بها بما يعطي فيها، إلا أن تكون حاملا، إذ لا تكون له أم ولد إذا اشتراها، وإن كانت قد ولدت منه قبل الشراء، إلا أن يشتريها وهي حامل منه، وفي ذلك اختلاف، قد روى عن مالك: أنها لا تكون له أم ولد حتى يكون أصل الحمل بعد الشراء، وقد مضى هذا في أول رسم من سماع عيسى من كتاب النكاح، وكذا يجب في كل شيء مشترك لا شفعة فيه(14/433)
إذا باع بعض الأشراك أنصباءهم، أن يكون لمن بقي منهم أن يأخذ ذلك بالثمن الذي يعطي فيه، ما لم ينفذ العتق، وبالله التوفيق.
[: العبد المعتق نصفه فيما بينه وبين سيده]
ومن كتاب البز وسئل مالك: عن العبد يكون نصفه رقيقا، ونصفه حرا، كيف يعملان في خدمته؟ قال: يصطلحان على الأيام، قيل له: أفيواجره شهرا ويعمل العبد شهرا لنفسه؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: حكم العبد المعتق نصفه فيما بينه وبين سيده، حكم العبد بين الشريكين، جائز أن يختدمه هذا شهرا، وهذا شهرا- عندما لك، روى ذلك عنه ابن القاسم في المجموعة، ومثله يأتي في رسم العتق من سماع أشهب وقال ابن المواز: لا يجوز ذلك إلا في مثل الخمسة الأيام ونحوها، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضرب عبدا له بالسوط لأمر عتب عليه فيه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل ضرب عبدا له بالسوط لأمر عتب عليه فيه، فأصاب عينه ففقأها، أترى أن يعتق عليه؟ قال: لا أرى ذلك.
قال ابن القاسم: وإنما يعتق في ذلك ما كان على وجه العمد، ولا يعتق في الخطأ.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يعتق العبد في المثلة، إلا أن تكون على وجه العمل الذي يكون فيه القصاص بين(14/434)
الأحرار، واختلف إن فقأ عينه، فقال السيد: أخطأت وكنت أؤدبه، وقال العبد: بل تعمد ذلك، فقيل: القول قول العبد؛ لأن العداء قد ظهر فلا يصدق السيد، وقيل: القول قول السيد؛ لأن له أن يؤدب عبده، فهو محمول على ذلك حتى يثبت القصد إلى المثلة واختلف في ذلك قول سحنون، ولو قصد إلى الضرب عمدا في غير أدب، فأصاب عينه ففقأها- ولم يرد ذلك، لجرى ذلك على الاختلاف في شبه العمد، هل فيه قصاص، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد نصفه حر ونصفه رقيق عتب عليه سيده في شيء صنعه]
مسألة وسئل: عن عبد نصفه حر، ونصفه رقيق- عتب عليه سيده في شيء صنعه، أترى أن يضربه ويؤدبه؟ قال: ليس له أن يؤدبه إلا بالسلطان.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحرية شائعة في جميعه وإن كانت الحرية تبعا للرق في جريان أحكام الرق عليه في الميراث، والشهادة، والإمامة، وسقوط الزكاة في ماله، وإن كان يملك ملكا تاما ليس لسيده انتزاعه منه، واختلف في زكاة الفطر عنه، فقيل: إنها على سيده؛ لأنه يرثه إن مات، وهو قول مالك في رواية مطرف، وابن الماجشون، وقولهما، وقول المغيرة وغيره من مشايخ المدينة، واختيار ابن حبيب، وقيل: إنها عليه وعلى سيده، وهو قول أشهب، وقيل: إن على السيد من زكاة الفطر بقدر ماله، وليس عليه هو شيء وهو قول ابن القاسم وابن وهب وروايتهما عن مالك، وقول ابن عبد الحكم وأصبغ، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع أهبا بثمن ثم انتقلها إلى منزله]
مسألة وسئل مالك: عن رجل باع أهبا بثمن، ثم انتقلها إلى منزله(14/435)
فأقامت عنده خمسة أيام، ثم جاءه يتقاضاه ثمنها فمطله، فقال: أتحب أن أقيلك منها؟ قال: نعم، قال: فارددها من حيث أخذتها، فردها، ثم حلف البائع أن عليه عتق رقبة إن كان لي عليك أن أحلف عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأستحلفنك أنك ما خلطتها بشيء، قال ذلك له إن يبعه- أن يحلفه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن له أن يحلفه إن ادعى عليه أنه خلطها، وحقق الدعوى عليه في ذلك باتفاق، وإن لم يحققها عليه فعلى اختلاف، وبالله التوفيق.
[مسألة: استباعه عبد له فحلف بحريته ألا يبيعه]
مسألة وسئل: عن رجل استباعه عبد له فحلف بحريته ألا يبيعه، فوهبه لبعض ذوي قرابة، أترى عليه في يمينه شيئا؟ قال: إن كان أراد ألا يفارقه فقد فارقه، فكأنه رأى إن أراد ذلك فقد حنث.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أنه كان إن أراد ألا يفارقه فقد فارقه، وفي قوله فكأنه رأى إن أراد ذلك فقد حنث- نظر؛ لأنه يتهم في إبطال الهبة بما يدعي من النية، والذي يوجبه النظر أن يصدق في ذلك إن كان لم يدفع العبد إلى الموهوب له، كمن وهب عبدا ثم أعتقه قبل أن يقبضه الموهوب له (وأما إن كان دفع العبد إلى الموهوب) ثم ادعى بعد ذلك أنه أراد إلا يفارقه، فلا يصدق في ذلك، إلا أن يصدقه الموهوب له، فإن صدقه، أعتق، وإن لم تكن له نية، حملت يمينه على، ما لفظ به من(14/436)
البيع، ولم يلزمه في هبته شيء لقرابته ولا لغير قرابته، إلا أن يكون وهبه للثواب فعتق عليه، ويرد الثواب؛ لأن الهبة للثواب بيع من البيوع، وذلك على مذهب مالك فيمن قال: إن بعت عبدي فهو حر، فباعه، أنه يعتق على البائع، وأجاز في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب بعد هذا أن يهبه لمن لا يريد منه ثوابا، وكره أن يهبه لبعض أهله مخافة أن ينجر إليه منه على ذلك ثواب، وقال ابن نافع: أكره الهبة؛ لأني أخاف الدلسة في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعتق العبد، ويعتق أباه رجل أخر]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يعتق العبد، ويعتق أباه رجل أخر، فيكتب فلان بن فلان أو فلان مولى فلان، فقال: بل أرى أن يكتب فلان بن فلان ولا أرى أن يدع ذلك، فقيل له: فإن قال المولى: فإني أخاف أن يقطع ولائي، قال: فيكتب فلان بن فلان ويجعل فيه نفسه مولى فلان فيجمعهما جميعا، فقيل له: فالرجل المعتق الذي لا يعرف أبوه يكتب ذلك فلان بن فلان، فقال: إنهم ليفعلون ذلك، فقيل له: إن مولاه يريد ألا يدعه، وذلك إنه يقول: أني أخاف أن يقدم هذا حتى ينقطع علم أني مولاه، ويثبت له هذا النسب الذي لا يعرف، قال: إن علم ذلك منع، وإن هذه أمور إنما تكتب حين ينزل- يريد الموت.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أن الاختيار في معتق الرجل يعتق أباه رجل أخر، أن يكتب فلان مولى فلان- يجمع النسب والولاء(14/437)
لكل واحد منهما، وأن المعتق الذي لا يعرف أبوه يكتب فلان مولى فلان ولا يكتب فلان بن فلان منتسبا بذلك إلى من لا يعرف أنه أبوه، لئلا ينقطع علم ولائه ويثبت له هذا النسب الذي لا يعرف، وذلك ما لا يحل له؟ وأما إن كتب فلان بن فلان ملغزا بذلك غير منتسب إلى أحد، فذلك مكروه له- حسبما يأتي في رسم نذر، وبالله التوفيق.
[: عبد كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك: عن عبد كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه، فلما بلغ الآخر أعتق نصيبه، قال مالك: العتق جائز والولاء بينهما، قال: ولو أنه إذ بلغ عتق صاحبه قال: لا أعتق، ولكني أطلب حقي فيه وكان صاحبه موسرا، ثم بدا له أن يعتق، لم أر ذلك له، قال مالك: إذا رد ذلك حين بلغه وقال: لا أعتق، ولكن أطلب حقي فيه، فليس له بعد ذلك أن يرجع إلى العتق، ورأى أن يعتق على الأول.
قال محمد بن رشد: تقويم العبد على الموسر المعتق لحظه منه، يجتمع فيه ثلاثة حقوق: حق لله عز وجل، وحق للعبد، وحق للشريك الذي لم يعتق، (فحق الله تعالى، وحق العبد في إكمال العتق له، فليس للعبد(14/438)
أن يرضى بترك تقويمه- يعني أن يبقى بعضه رقيقا من أجل حق الله تعالى في إكمال حريته وحق الشريك الذي لم يعتق) في التقويم على المعتق من أجل أنه قد أعاب عليه حظه بعتقه لحظه؛ لأن ذلك ينقص من قيمته له إن تركه إن شاء- بشرط أن يعتق حظه منه من أجل حق الله عز وجل في إكمال حريته، فإذا رضي بترك حقه في التقويم وأعتق حظه، جاز ذلك وكان الولاء بينهما كما قال، ولا اختلاف في ذلك، والواجب أن يخير في ذلك ابتداء، وكذلك حكى ابن حبيب عن مالك أنه لا يقوم على الأول حتى يعرض على شريكه أن يعتق، فإن أعتق فذلك له وإن أبى قوم على الأول، واختلف إن أبى أن يعتق- واختار التقويم، ثم بدا له أن يرجع إلى العتق، فقال في هذه الرواية ومثله في المدونة: ليس ذلك له، والوجه في ذلك أنه لما ترك حقه في العتق وجب التقويم على الأول وصار حقا له لا يخرج عن يده إلا برضاه، وحكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، وعن مالك من رواية ابن وهب، وعن ابن القاسم من رواية ابن عبد الحكم وأصبغ، أن له أن يرجع إلى العتق ما لم يقوم، ووجه هذا القول إنه رأى قوله أنا أقوم، عدة منه بذلك لم يجب بعد، فله أن يرجع عنها، وكذلك لو قال: أنا أعتق حظي ولا أقوم، ثم أراد أن يرجع إلى التقويم لم يكن ذلك له على القول الأول، وكان له على القول الثاني، إذ لا فرق ويلزم الرجوع عن التقويم إلى العتق، وعن العتق إلى التقويم، وبالله التوفيق.
[مسألة: كانت له جارية فحلف بعتقها إن كلم رجلا من الناس]
مسألة وسئل: عن رجل كانت له جارية فحلف بعتقها إن كلم رجلا من الناس، ثم إن تلك الجارية ولدت أولادا فكلمه بعدما ولدت، قال(14/439)
إني لأستحب لولدها أن يدخلوا معها في العتق- وما هو بالبين؟ وأما الذي يحضرني الآن في رأيي فإني أرى أن يدخل ولدها معها في عتقها.
قال محمد بن رشد: القياس ألا يدخل معها ولدها في العتق؛ لأنه فيها على بر، وله أن يطأ ويبيع، إلا أن قول مالك قد اختلف في ذلك، مرة كان يقول يعتق ولدها، ومرة كان يقول تعتق بغير ولدها، ولكن الذي ثبت عليه من ذلك واستحسنه على كره- أن تعتق هي وولدها على ما قاله في هذه الرواية، وفي رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى، وفي رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، ورسم العرية من سماع عيسى من كتاب الوصايا، وأما اليمين التي تكون فيها على حنث، مثل أن يحلف بعتقها ليفعلن فعلا- ولا يضرب لذلك أجلا، فالقياس أن يعتق ولدها بعتقها وهو المشهور من قول مالك، وقد روي عن مالك أن ولدها لا يدخل في اليمين- وهو قول المغيرة المخزومي، وإن ضرب أجلا ليمينه بعتقها ليفعلن فعلا فهو أخف، وفي دخول ولدها في اليمين اختلاف؛ لأن مالكا إذا رأى في أحد قوليه أن الولد يدخل في اليمين التي يكون فيه على بر، وله أن يطأ ويبيع، فأحرى أن يرى ذلك في هذه اليمين التي يمنع فيها من البيع، ويختلف في جواز الوطء له، وبالله التوفيق.(14/440)
[: حلف إلا يقاطع مكاتبه على مائة دينار فحلف بحريته]
ومن كتاب صلى نهارا وسئل: عن رجل حلف إلا يقاطع مكاتبه على مائة دينار فحلف بحريته، فإن فعل فهو حر، فقاطعه بأكثر من مائة، ثم أراد أن يقطع عنه، قال مالك: ما أحب ذلك له بحدثان ذلك ولكن لو أقام أياما، لم أر بذلك بأسا، وأكره ذلك بحدثانه.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم طلق بن حبيب القول في بيان معنى هذه المسألة، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قاطع مكاتبا بينه وبين امرأته ثم إنه دعاه بعد القطاعة فقال له لم ترض امرأتي]
مسألة وسئل: عن رجل قاطع مكاتبا بينه وبين امرأته ثم إنه دعاه بعد القطاعة، فقال له: لم ترض امرأتي، فقال رجل: كان معهما جالسا- وهو يلعب- أنا أشهد أن امرأته قد أجازت، فقال: كل مملوك لي حر لوجه الله، لئن شهدت على ذلك إن لم أكسه ثوبين يعني مكاتبه، فقال: ما كنت إلا ألعب ما أشهد، قال مالك: ما أرى عليه شيئا من الثوبين ولكن يتورع ويدفعهما إن كان أمرهما يسيرا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أنه لا شيء عليه؛ لأنه لم يشهد بما قاله ولا حققه، بل أقر على نفسه أنه ما اعتقده، وإنما قاله هازلا، فلم يلزمه حنث.(14/441)
[: عبد نصفه حر ونصفه مملوكا أيعتق الذي له فيه الرق نصفه]
ومن كتاب نذر سنة يصومها وسئل مالك: عن عبد نصفه حر ونصفه مملوكا أيعتق الذي له فيه الرق نصفه، ويشترط نصف ماله،، قال: ليس ذلك له، وأرى أن يعتق ويقر المال بيد العبد البائع، قال ابن القاسم: وذلك أن المال للعبد المعتق كله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن العبد إذا أعتق بعضه ملك ماله، ولم يكن للذي بقي له فيه الرق انتزاعه ولا أخذ شيء منه، فإذا لم يكن له انتزاعه لم يجز له في المعتق استثناؤه؛ لأنه إنما له أن يستثني في العتق ما له أن ينتزع قبل العتق، وما يكون أحق به في البيع، وإن لم يستثنه، قال ابن المواز: قال: فلو كان بمعنى الكتابة جاز ذلك له، وقوله صحيح، وذلك مثل أن يقول له: أعتقك على أن يكون لي نصف مالك فيرضى بذلك، وأما إذا أعتقه واستثنى ماله دون رضاه، فلا يجوز ذلك له، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بعتق غلام له إن لم يقض رجلا ماله]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف بعتق غلام له إن لم يقض رجلا ماله، أفله أن يبيعه إذا لم يكن عنده شيء يقضيه؛ لأنه يقول: أبيع وأقضي، قال: لا أرى أن يبيعه حتى يقضيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنها يمين هو فيها على حنث، فليس له أن يبيعه على ما في المدونة وغيرها، فإن باعه رد البيع(14/442)
ووقف، فإن بر بالقضاء فلا شيء عليه، وإن لم يقضه حتى مات، عتق في ثلثه على معنى ما في المدونة وغيرها، وهو نص ما في رسم باع شاة من سماع عيسى بعد هذا، ومثله حكى ابن المواز عن مالك، وزاد أنه إن قضاه قبل أن يرد البيع فلا يرد، ومثل هذا في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ بعد هذا، أنه لا حنث عليه إن أوفاه حقه ويجوز البيع، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلفت في أمر لتفعلنه ودعت شركاءها إلى أن تقاسمهم]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة لها شرك في عشرة رؤوس، وحلفت في أمر لتفعلنه ودعت شركاءها إلى أن تقاسمهم حتى تأخذ من ذلك حصتها، فقاسمتهم فصار لها رأس، أترى اليمين ترجع عليها في ذلك الرأس الذي صار لها منهم، قال: نعم أرى أن ترجع عليها اليمين فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن حقها من العبيد الذين حلفت بحريتهم قد تميز بالقسمة فيما صار لها منهم، فوجب أن ترجع اليمين عليها فيهم، ولا تجوز لها القسمة فيهم إلا بالقرعة؛ لأنها هي التي قيل فيها: إنها تمييز حق، وأما القسمة على التراضي فلا تجوز فيهم؛ لأنها بيع من البيوع باتفاق، والبيع فيهم لا يجوز باتفاق؛ لأنها يمين هي فيها على حنث لو لم تبر حتى ماتت، لعتق حظها منهم في ثلثها، ولو كانت يمينها إلى أجل فحنثت بمضي الأجل في حياتها وصحتها قبل القسمة، لعتق عليها(14/443)
حظها منهم وحظ شركائها بالقسمة على الحكم فيمن أعتق شركا له في عبد، إذ لا فرق بين أن يبتدئ عتقهم، أو يحنث بالعتق فيهم، وقد قيل: إنها تقاسم أشراكها فيهم بعد الحنث، ولا يعتق عليها منهم، إلا ما صار لها نصيبها- قاله محمد بن المواز، فقيل: إنه خلاف لما في المدونة من أنه من حنث بعتق رقيقه وله أشقاص من عبيد، أنهم يعتقون عليه، ويقوم عليه بقية العبيد الذين لهم فيهم الشقوص، وقيل: إنه فرق بين أن يكون له شريك واحد في جميعهم، أو شريك في كل رأس، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني يسلم على يدي رجل فيريد أن يكتب فلان بن فلان]
مسألة وسئل مالك: عن النصراني يسلم على يدي رجل فيريد أن يكتب فلان بن فلان، فقال: إني لأكره ذلك، وقوم يعتقون عبيدا لهم فيكتبون كذلك فيكذبون في قولهم، قال: وما يعجبني أن يفعل ذلك، قيل له: فإن النصراني يكون اسمه جريجا أو يحيى فيسمى باسم أهل الإسلام، قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: الذي كره مالك للذي يسلم على يدي الرجل فيكون ولاؤه لجميع المسلمين، أو للذي يعتقه الرجل فيكون ولاؤه له، أن يكتب فلان بن فلان، هو أن يلغز بذلك فيكتب فلان بن عبد الله أو ابن عبد الرحمن، فيظن من سمعه أن أباه رجل من المسلمين، فكره ذلك من أجل أنه ينحو إلى الكذب فيما يظنه السامعون- وإن كان لم يكذب هو فيما قاله: من أن أباه هو عبد الله أو عبد الرحمن، وأما أن ينتسب إلى غير أبيه من أهل الكفر، أو أهل الإسلام، فهذا ما لا يحل ولا يجوز، فقد جاء الحديث(14/444)
بالنهي عن ذلك، وإن فاعله ملعون، وأما أن يبدل الرجل اسمه باسم يختاره إذا أسلم من أسماء الإصلاح، فهذا جائز؛ لأنه لا بأس به كما قال في الرواية، وبالله التوفيق.
[: أوصى في جوار له أن يحبسن سبعين سنة ثم هن أحرار]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ خرقة لفرجه وسئل مالك: عن محمد بن سليمان، وكان أوصى في جوار له أن يحبسن سبعين سنة، ثم هن أحرار، قال مالك: هو غير جائز، وأرى أن ينظر السلطان فيه، فإن رأى أن يبعن بعن، وإن رأى أن يعتقن أعتقن (وعجل عتقهن) ولا يتركن هكذا، قال ابن القاسم وهو رأيي، وسئل عنها ابن الماجشون فقال: ينظر إلى ما سمي من الأجل، فإن كان أجلا لا يبلغه أعمارهن بعد، وكان ذلك بمنزلة من أعتق عبدا بعد موته، وإن كان أجلا يبلغه أعمارهن وقفن إلى الأجل، وخرجن أحرارا إن حملهن الثلث- ثلث الميت.
قال محمد بن رشد: وجه النظر الذي صرفه مالك إلى الإمام في هؤلاء الجواري اللائي أوصى سيدهن أن يعتقن بعد سبعين سنة، هو أن ينظر فمن كان لها من السن ما يعلم حقيقة أنها لا تعيش سبعين سنة، مثل أن تكون بنت أربعين أو خمسين أو ستين، فإنها تباع؛ لأنها تعلم أن العتق لا يدركها، فهي كمن أوصى لها بالعتق بعد موتها، ومن كان لها منهن من(14/445)
السنين ما يمكن أن تعيش سبعين سنة مثل أن تكون بنت عشر سنين، أو بنت عشرين، فإنه يعجل عتقها، إذ لا يجوز أن تباع- ولعل العتق سيدركها، ولا أن تحبس سبعين سنة، لما في ذلك من الضرر عليها بقصد السيد إلى ذلك في ظاهر أمره، فهذا معنى ما ذهب إليه مالك - والله أعلم؛ لأنه صرف الأمر في ذلك إلى السلطان ليعمل فيه بهواه من غير نظر، وأما ابن الماجشون فرأى الحد في ذلك ما يعمر إليه المفقود على الاختلاف في ذلك من ثمانين إلى مائة في المشهور في المذهب، فمن كان سنها منهن ينتهي إلى حد التعمير وقفت، ومن كان سنها منهن لا ينتهي إلى حد التعمير ويقصر عنه بيعت، وهو القياس، إلا أنه إغراق، فالعدول عنه إلى ما قاله مالك على سبيل الاستحسان أحسن، وقد بينا وجهه، وبالله التوفيق.
[مسألة: المملوك إذا عمي]
مسألة وسئل مالك: عن المملوك إذا عمي أترى أن يعتق؟ قال: وكان الذي سأله سمع في ذلك شيئا، فأنكر ذلك وقال: ما علمت أنه يعتق.
قال محمد بن رشد: السؤال عن هذا مثل ما في كتاب الزكاة الثاني من المدونة من السؤال على أهل البلاء من العبيد، هل يعتقون على ساداتهم لما أصابهم من البلاء نحو الجذام والعمى؟ فقال: إنهم لا يعتقون، والذي ذهب إليه من رأى أنهم يعتقون على ساداتهم، هو ذهاب الانتفاع بهم لما حل بهم من هذه البلايا شبيها بما قيل فيمن وطئ أمة له من ذوات محارمه اللائي لا يعتقن عليه فحملت منه، أنها تعتق عليه من أجل أنه لا منفعة فيها، إذ ليس له أن يستخدمها ولا يطأها- وهي لا تشبهها، وبالله التوفيق.(14/446)
[: حلف لرجل له عليه حق بالعتق والطلاق ليقضينه حقه أو ليرضينه منه لأجل كذا]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
رواية سحنون من كتاب الأقضية قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك: عمن حلف لرجل له عليه حق بالعتق والطلاق ليقضينه حقه أو ليرضينه منه لأجل كذا وكذا، فأرضاه ببعض حقه لذلك الأجل، وأخره (بما بقي منه) إلى أجل أخر ولم يشترط عليه حين أكلأه إلى الأجل الآخر شيئا- طلاقا ولا غيره، أفترى عليه اليمين كما هي؟ فقال: إني أخاف ذلك وما هو بالبين، فقيل له: فإن الأجل لم يأت، أفترى أن يكلىء صاحبه؟ قال: نعم، قيل له: أترجو أن يكون ذلك مخرجا؟ قال: نعم، إني لأرجو ذلك وما هو بالبين، قال ابن نافع: لا يلزمه اليمين في التأخير الثاني إلا أن يشترط ذلك المحلوف إليه.
قال محمد بن رشد: الخوف على الحالف في بقاء اليمين عليه في الأجل الثاني في هذه المسألة ضعيف؛ لأنه قد بر بإرضائه إياه قبل الأجل، فلا تبقى عليه اليمين في الأجل الثاني إلا بشرط- كما قال ابن نافع، وقد قال ابن دحون: إن قول مالك أبين من قول ابن نافع؛ لأن الحالف حلف أن يرضي غريمه وقد أرضاه بما دفع إليه عند الأجل، وبالوقت الذي جعلاه للباقي، فالرضي متعلق بسببين: بأجل الباقي، وبما دفع، فاليمين باقية عليه حتى يفي له بالباقي إلى الأجل الذي اتفقا عليه، هذا نصر قول ابن دحون - وليس ببين لما ذكرناه من أن الحالف قد بر في الأجل الأول، فلا تبقى اليمين(14/447)
عليه في الأجل الآخر إلا بشرط، وقد قيل في الذي يحلف لأقضين فلانا حقه إلى أجل- إلا أن يشاء أن يؤخره فأخره، أن اليمين لا تبقى عليه في الأجل الثاني- حسبما ذكرناه في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، فكيف بهذه المسألة التي قد بر فيها قبل، الأجل، وقد مضى في رسم سلف دينارا من سماع عيسى من كتاب النذور، القول فيما يبر به من حلف ليرضين فلانا من حقه- مستوفى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: الموسر يكون له أب مملوك أيشتري عليه فيعتق]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل: عن الموسر يكون له أب مملوك أيشتري عليه فيعتق؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يحكم عليه بذلك، إذ ليس هو واجب عليه وجوب الفرائض التي تتعين في المال كالزكاة، ولكنه من الحقوق الواجبة له عليه بحق إحسانه إليه، روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» أي فيعتقه بشرائه إياه، لا أنه يكون مملوكا له حتى يستأنف له العتق، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لغريم بعتق جاريته إن لم يقضه لأجل سماه]
مسألة وسئل: عمن حلف لغريم بعتق جاريته إن لم يقضه لأجل سماه فلما كان اليوم الذي ينقضي فيه الأجل باعه بتلك الدنانير جاريته، قال: لا أرى ذلك يخرجه من يمينه؛ لأن عليه العهدة حتى(14/448)
تحيض، قيل له: أرأيت إن أحاله على رجل؟ أيجزئه ذلك من يمينه؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قوله: لأن عليه العهدة حتى تحيض، معناه: لأن الضمان منه حتى تحيض، وهذا إذا كانت رقيقة يواضع مثلها، أو كانت قد وطئها سيدها؟ وأما إن كانت من الوخش لم يطأها سيدها، فيبر بدفعها إليه في الدين قبل حلول الأجل ولو لم يبر، إذ لا عهدة فيها على ما مضى في نوازل سحنون من كتاب العيوب؛ لأنه بيع يقتضي المناجزة خوف الدين بالدين، ولا اختلاف فيمن حلف على القضاء أن لا يبر بالإحالة، وإنما يبر بالإحالة من حلف ليرضين رجلا من حقه على الشرطين اللذين ذكرناهما في رسم سلف دينارا من سماع عيسى من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلفت بحرية جارية لها إن باعتها]
مسألة وسئل: عن امرأة حلفت بحرية جارية لها إن باعتها، قالت: هي حرة إن بعتها عشر سنين، ثم ندمت فأرادت بيعها، فهل لها في ذلك مخرج؟ فقال: لا، إلا أن تعتقها، أو تهبها لمن لا تريد منه ثوابا، وأما أن تهبها لبعض أهلها، فإني أكره ذلك، قال ابن نافع: أكره الهبة؛ لأني أخاف الدلسة في ذلك.
قال محمد بن رشد: كره مالك أن تهبها لبعض أهلها مخافة أن ينجز إليها من قبله على ذلك ثوابا، والهبة للثواب بيع من البيوع، وأبقى ذلك ابن نافع في الهبة لأجنبي، فكرهها بكل حال، ولو تصدقت بها لم يكن للكراهية في ذلك وجه، وهذا إذا لم تكن أرادت بيمينها ألا تفارقها، ولا كان ثم بساط يدل على ذلك، ولو حلفت بحريتها إن لم تبعها إلى عشر سنين، لم يكن لها(14/449)
أن تهبها على حال، ولا أن تتصدق بها؛ لأن الحالف بعتق عبيده أن يفعل كذا وكذا إلى أجل كذا وكذا، ليس له أن يبيعهم؛ لأنهم مرتهنون باليمين- قاله في المدونة وغيرها، وقد رأيت لابن دحون على هذه المسألة كلاما مختلا غير صحيح، فلم أر لذكره وجها، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لرجل في ذكر حق له عليه بحرية جارية له إن لم يقضه إلى أجل سماه]
مسألة وسئل مالك عمن حلف لرجل في ذكر حق له عليه بحرية جارية له إن لم يقضه إلى أجل سماه، إلا أن تدخل عليه عرجة في بيع جاريته التي حلف بها، فيؤخر سبعة أيام، فباعها عند الأجل فطلب منه الاستبراء، فقال له مالك: أهذه العرجة التي أردت؟ قال: نعم هذه هي التي أردت إلا أن يدخل علي في بيعها دخل، قال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ولا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه لما حلف بحرية جاريته أن يقضيه حقه إلى الأجل، إلا أن تدخل عليه عرجة في بيعها، دل ذلك على أنه إنما أراد أن يقضيه حقه من ثمنها، فلما باعها وطلب منه المشتري الاستبراء، أي المواضعة، كان المعنى في ذلك، أنه أبى أن يدفع إليه الثمن حتى تخرج من المواضعة على ما يوجبه الحكم، فأشبه أن يكون هذا هو الذي خشي الحالف، ولذلك استثنى في يمينه بما استثنى، فلذلك رأى مالك أن يصدق في ذلك مع يمينه، وقد قال غيره: إنما أجيز له هذا إذا باعها لوقت يمكن فيه استبراؤها قبل أن ينقضي الأجل فيطول ذلك بها، فهذا الذي تقبل منه نيته، فأما إن تركها إلى أخر الوقت فلم يدخل عليه دخل هو أدخله على نفسه، ولم يتكلم مالك في الرواية على هذين الوجهين، وإنما تكلم على أنه باعها عند الأجل، ولم يكن بين يمينه وبين بيعه إلا أيام(14/450)
يسيرة لا يستبرأ في مثلها السبعة الأيام ونحوها- على ما ذكره، وقد مضى توجيه قوله في إيجاب اليمين عليه فيما ادعاه من نيته، وأما إذا باعها لوقت يمكن فيه استبراؤها فيطول ذلك بها، فتقبل منه نيته دون يمين، وإذا حلف وبينه وبين الأجل من المدة ما يستبرأ فيه فترك بيعها- إلى أخر الوقت فطلب منه الاستبراء، فلا يصدق أنه أراد ذلك؛ لأنه أمر أدخله على نفسه، فوجه يصدق فيه مع يمينه، ووجه يصدق فيه دون يمين، ووجه لا يصدق فيه، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[: امرأة وقع لها على جاريتها شيء فقالت كل مملوك لي حر إن عفوت عنك]
ومن كتاب العتق وسئل مالك: عن امرأة وقع لها على جاريتها شيء، فقالت: كل مملوك لي حر- إن عفوت عنك، إلا أن يعفو عنك السلطان، فأرادت بيع رقيقها وتعفو عنه، ولا تبلغ به السلطان، فقال: ليس لها أن تبيع رقيقها في هذا الموضع، إنما حلفت لتبلغن به السلطان فلا أرى بيع رقيقها في هذا الموضع، قال أشهب: وإنما فرق بين الذي يقول كل مملوك لي حر إن ضربتك، وبين الذي يقول: إن عفوت عنك؛ لأن الذي يقول: إن ضربتك فهو على البر- أبدا حتى يضربه؛ لأنه تارك للضرب، فهذا يجوز له بيع رقيقه، وأن الذي يقول: إن عفوت عنك هو على الحنث أبدا حتى يأخذ الغير؛ لأنه تارك لأخذ الغير بأخذه، وذلك أن الذي يقول: إن عفوت عنك هو إن لم أضربك.
قال محمد بن رشد: حمل مالك وأشهب في هذه الرواية يمين(14/451)
الحالف على المعنى الذي ظهر من قصدها، لا على لفظها؛ لأنها أرادت بقولها: إن عفوت عنك إن لم أرفع أمرك إلى السلطان فيأخذ لي بحقي منك على ما ظهر من قصدها، وهذا يتخرج على قولين؛ لأن المعنى الذي صرف يمينها إليه مظنون ليس بمعلوم- حسبما بيناه في رسم جاع من سماع عيسى من كتاب النذور، ففرق بين يمينها ألا تعفو عنه، ويمينها ألا تضربه، بأن جعل يمينها على ألا تعفو عنه على الحنث؛ لأن المعنى فيه عنده لتضربنه، ومن حلف بعتق عبده ليفعلن فعلا لا يجوز له أن يبيعه حتى يفعل ذلك الفعل، فإن مات قبل أن يفعل عتق في ثلثه، بخلاف من حلف ألا يفعل فعلا، هذا يجوز له أن يبيعه؛ لأنه على بر، فإن باعه لم يكن عليه شيء، فإن اشتراه بعد ذلك، رجعت عليه اليمين؛ لأنه يتهم أنه باع على أن يشتريه منه بشرط لتنحل عنه اليمين، فقد قيل: إنه إذا اشتراه من غير الذي باعه منه، لم ترجع عليه اليمين، وقيل: إنه إذا بيع عليه في الدين، أو اشتراه ممن بيع عليه في الدين، أن اليمين لا ترجع عليه، وهو قول أشهب، ومذهب ابن القاسم أن اليمين ترجع عليه إلا أن يعود (إليه) بميراث؛ لأن التهمة في الميراث مرتفعة على كل حال، وقول أشهب حتى يأخذ الغير، معناه حتى يأخذ جزاء الجناية عليه؛ لأن الغير القود، قال ذلك ابن لبابة، واستدل على ذلك بقول الشاعر:
هلا سكتم فتخفي بعض سوءتكم ... إذ لا يغير في قتلاكم غير
وقال الكسائي: الغير الدية، وجمعه أغيار. وقال أبو عمرو:(14/452)
الغير جمع الدية وواحده غيرة، وقال أبو عبيد: إنما سميت الدية غيرا؛ لأن القتل وجب فغير بأخذ الدية، وبالله التوفيق.
[: يحلف بالعتق في غلام له ألا يحله من الحديد]
ومن كتاب الأقضية الثالث وقال مالك: ما تقولون في رجل يحلف بالعتق في غلام له ألا يحله من الحديد، ولا يدخل المدينة سنة محددة ونحاه عن المدينة حتى مات على ذلك ولم تمض السنة، فأراد الورثة أن يحلوه من الحديد ويدخلوه المدينة قبل أن تتم السنة، فقال له ابن كنانة: أما هو فقد مات على البر (ولم يحلف ليجرده سنة- عاش أو مات فقد مات على البر) وصار لغيره، فليس عليهم أن يعفوا عن هذا العبد حتى تمضي السنة، فلا يباع، فيقضي دين الميت إن كان عليه دين، أو يقسم على أهل الميراث من ورثته؛ لأنه مات على البر، قال مالك: إنما يخاف على الورثة أن يكونوا في ذلك بمنزلة الميت، أرأيت إن قال: هو حر إن لم أضربه فمات قبل أن يضربه، فقال له ابن كنانة: إن هذا ليس مثله، هذا قد مات حانثا إذ مات قبل أن يضربه، ولو أراد الورثة أن يضربوه بعد الموت، لم يخرجه ذلك عن الحنث، فكما كانوا لا يقدرون على إخراجه في هذا من الحنث؛ لأنه مات على الحنث، فكذلك لا يقدرون على إحناثه بعد موته في هذا الآخر؛ لأنه مات على البر، قال مالك:(14/453)
أرأيت لو أنه حين مات أمر بضربه؟ فقال (له ابن كنانة: هذا له شيء، أخر فقيل له: لعلك قد قلت فيهما شيئا؟ قال: لا بعد، قال أشهب:) القول قول ابن كنانة في الوجهين جميعا.
قال محمد بن رشد: لا إشكال في أن الذي حلف ألا يحل غلامه من الحديد ولا يدخله المدينة سنة، لا حنث عليه إذا مات قبل السنة؛ لأنه مات على البر، إذ لا يحنث إلا بحله من الحديد قبل السنة، ولا شيء على الورثة في حله من الحديد قبل تمام السنة على ما قاله ابن كنانة، ولم يعترض مالك عليه فيما اعترض عليه به وهو يعتقد خلاف قوله، وإنما أراد بذلك اختبار معرفته، والوقوف على صحة نظره، والله أعلم، وليس في قول ابن كنانة ولم يحلف ليجرده سنة- عاش أو مات، دليل على أنه لو حلف على ذلك لحل الورثة محله، لحنثوا ولزمهم عتقه إن حلوه قبل السنة، إذ لم يرد ذلك، وإنما أراد أنه لو حلف على ذلك، لكانت وصيته له بالعتق على شرط أن يحلوه من الحديد قبل تمام السنة، فإن حلوه منه قبل تمام السنة، خرج حرا من ثلث مال الميت، وهو الذي نحا إليه مالك بقوله: أرأيت لو أنه حين مات أمر بضربه؟ فقال له ابن كنانة: هذا له شأن أخر يريد أنه إن أوصى بذلك، كانت وصية للعبد بالعتق إن حلوه من الحديد قبل تمام السنة، فهذا معنى ما ذهب إليه مالك وابن كنانة، ووجه قولهما فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يغيب إلى المدينة فيموت بها أيقسم ورثته بمصر ماله إذ علموا موته]
مسألة وسئل: عن الرجل من أهل مصر يغيب إلى المدينة فيموت بها، أيقسم ورثته بمصر ماله إذ علموا موته، أم يؤخرون ذلك حتى يعلموا أتزوج في غيبته أم لا قال: إن شك في أمره لم يقتسم(14/454)
ورثته ميراثهم حتى يعلموا ذلك، وإن استوقن ولم يشك فيه، قسم ماله بين ورثته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: أنه إن شك في أمره لم يقتسم ميراثه حتى يبحث عن حقيقة ذلك، ويرتفع الشك فيه، وإن لم يشك فيه، قسم ميراثه، فهو محمول على أنه لم يتزوج في غيبته حتى يعلم أنه قد تزوج فيها، فيؤخر قسم الميراث حتى تحضر أو توكل أو يقسم لها القاضي ويوقف لها حظها، أو يشك في ذلك، فيؤخر القسمة حتى يبحث عن الحقيقة في ذلك، وبالله التوفيق.
[: وقف على سبيل فحلف بعتق ما يملك إن شرب منه]
ومن الأقضية قال: وسئل عن رجل وقف على سبيل فحلف بعتق ما يملك إن شرب منه (قطرة فأراد أن ينصرف، فدفعه إنسان فيه، فشك أن يكون قد دخل بطنه منه شيء) ، فقال: هو أعلم أدخل بطنه أم لا؟ قال محمد بن رشد: قوله: هو أعلم إن كان دخل حلقه أم لا، يدل على أنه حانث إن هو علم أنه دخل حلقه- وإن كان لم يشرب إلا مكرها بغير اختياره، فهذه الرواية مخالفة للمعلوم في المذهب المنصوص عليه فيه من أن من حلف ألا يفعل فعلا فأكره على فعله لا يحنث، إذ لا فرق إذا حلف ألا يشرب من السبيل بين أن يكره على الشرب منه بالضرب أو التهديد أو يصب(14/455)
الماء في حلقه، أو يلقى في النهر فيمضي من الماء إلى جوفه، فعلى هذه الرواية لا ينتفع الحالف على ترك الفعل بالإكراه على الفعل إلا أن ينوي ذلك، كالحالف على الفعل يكره على الترك ويحال بينه وبينة، فمن قولهم: أنه لا ينتفع بذلك إلا أن ينوي، إلا أن أمنع أو أغلب، وقد مضى في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق- وجه الفرق عندهم بين الوجهين، والقياس ألا فرق بين الإكراه على الفعل والترك، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا ينتفع الحالف بالإكراه على الفعل إذا حلف على ألا يفعل، ولا على الترك إذا حلف أن يفعل، إلا أن ينوي ذلك بقلبه، أو يقوله بلفظه، وهو قوله في هذه الرواية، والقول الثاني وهو المشهور المعلوم في المذهب: أنه ينتفع بالإكراه على الفعل وإن لم تكن له نية، ولا ينتفع بالإكراه على الترك إلا أن تكون له نية، وقد مضى الفرق بينهما في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وفي غير ما موضع منه، والقول الثالث: أنه ينتفع بالإكراه في الوجهين جميعا وإن لم تكن له نية وهو القياس، إذ لا فرق فيه بين الإكراه على الفعل وعلى الترك، وبالله التوفيق.
[مسألة: جاء إلى امرأته بجاريتها يشفع لها فلما رأتها معه قالت أنت حرة]
مسألة وسئل: عن رجل جاء إلى امرأته بجاريتها يشفع لها، فلما رأتها معه، قالت: أنت حرة إن نفعك ممشاه، ولأجلدنك مائة، فجلدتها مائة، فولى الرجل مغضبا فقال: هي حرة من مالي إن دخلت عليك شهرا (فقالت المرأة: هي حرة إن كلمتك شهرا ثم شهرا، ثم ندمت فأرادت أن تهبها له هبة لا ترجع فيها ولا تعود إليها، قال: لا والله ما أرى ذلك، هي إنما تهبها له تفر من يمينها، فلا أرى ذلك، ثم أتى من الغد فقيل له: إن امرأة حلفت بحرية جاريتها- أما كلمت(14/456)
ابنها شهرا) ثم ندمت، ألها مخرج تهب الجارية لابنها وتكلمه فقال: لا، ما أرى ذلك، ولكن شهر قريب، وأرى أن ينتقل عنها وتكف عن كلامه هذا الشهر، ولا تدخل فيما لا ينبغي لها ولا يصلح.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير مالك للتي حلفت بحرية جاريتها ألا تكلم زوجها شهرا- أن تهب له الجارية وتكلمه، ولا للتي حلفت بحرية جاريتها ألا تكلم ابنها شهرا أن تهب له الجارية وتكلمه مخافة الدلسة في ذلك، بأن ترد الجارية إليها بعد انقضاء الشهر، ولو صحت الهبة في ذلك، لم تحنث بتكليمه بعد ذلك، كما لو باعتها من غيره، أو وهبتها لسواه ثم كلمته، لم يكن عليه شيء؛ لأنها يمين هي فيها على بر، فلا تمنع من بيعها ولا من هبتها باتفاق، وقد مضى ذلك في رسم العتق، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة كلاما لا يصح، فلم أر لذكره وجها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يموت زوجها وهي حامل ألها أن تتعجل ثمنها]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة يموت زوجها- وهي حامل، ألها أن تتعجل ثمنها؟ قال: لا، حتى تضع حملها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يعجل الثمن، وإن كان هو الواجب لها- وإن انفش الحمل، قال مالك في المبسوطة: فإن جهلوا ذلك فأعطوها ميراثها تم تلف المال بعد ذلك أو هلك، أو نقص، لم أر أن يرجعوا عليها بشيء مما أعطوها، قال ابن القاسم - مفسرا- لقول مالك: أما من قاسمها فلا يرجع عليها بشيء، وأما الحمل فإنه يرجع على من كان من الورثة(14/457)
مليئا فيقاسمهم ما في أيديهم ويتبع هو وهم- المعدمين؛ لأنهم فعلوا ما لا يجوز لهم، بخلاف الوارث يطرأ على الورثة بعد أن اقتسموا؛ لأنهم فعلوا ما يجوز لهم، ولو أعطاها الورثة والناظر للحمل ثمنها، أو صالحوها عليه، لجاز ذلك ولم يكن للورثة ولا للحمل رجوع عليها بما تلف من المال أو هلك أو نقص، وقد مضى بيان هذا في رسم مرض وله أم ولد من سماع ابن القاسم من كتاب الدعوى والصلح، وبالله التوفيق.
[: عتق شركا له في عبد فلما أريد أن يقوم عليه قال إنه سارق آبق]
ومن كتاب العتق قال: وسمعته يسأل عمن عتق شركا له في عبد، فلما أريد أن يقوم عليه، قال: إنه سارق آبق- وشريكي يعلم ذلك، فاستحلفوه، قال: ليس ذلك على شريكه، ولكن يسأل شريكه عما ذكر، فإن أقر له بذلك فذلك، وإن أنكر، لم يكن عليه يمين، ويقوم على المعتق صحيحا سليما.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب عن ابن القاسم من رواية أصبغ عنه أنه يقوم سليما لا عيب فيه ولا يحلف بدعواه، إلا أن يقيم شاهدا، قال أصبغ: ثم رجع فقال: بل يحلف وبه آخذ، قال القاضي: ولا وجه لإسقاط اليمين عنه إذا حقق عليه الدعوى، إلا أنه لم يجعل شركتهما في العبد خلطة- وعليه اليمين، وقال محمد بن عبد الحكم: عليه اليمين وأي خلطة أبين من هذا؟ وأما إذا لم يحقق عليه الدعوى، فينبغي أن يختلف في إيجاب اليمين عليه على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، وإن أقام شاهدا واحدا حلف مع شاهده، وكذلك قال أشهب: إنه إن أقام شاهدا واحدا حلف(14/458)
معه، وإن نكل حلف، وقول أشهب هو الصواب، وستأتي المسألة متكررة في أول سماع أبي زيد بعد هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد بين الرجلين فيعتق أحدهما حصته منه فلا يقوم عليه حتى يموت]
مسألة وسألته: عن العبد بين الرجلين فيعتق أحدهما حصته منه فلا يقوم عليه حتى يموت، أيقوم عليه في ماله بعد موته؟ فقال: إن كان موته بحداثة العتق لم يطل ذلك ولم يؤخر حتى طال ذلك، رأيت أن يقوم عليه كله في ماله فيعتق عليه كله من رأس ماله لا يكون في الثلث يعتق عليه إذا كان ذلك من موته بحداثة عتقه، لم يطل ذلك ويؤخر.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن المواز في كتابه عن مالك من رواية أشهب عنه، وهو خلاف معتق بعض عبده ذلك لا تتم باقيه- وإن مات بحدثانه، وهذا حق قد ثبت عليه لشريك ولم يفرط، قال: فإن طال ذلك لم يقوم قي الثلث ولا في رأس مال، وروى مطرف عن مالك في الواضحة مثل رواية أشهب، وشبيهها بالمتمتع بالعمرة إلى الحج يموت ولم يهد، فإن لم يفرط أهدي عليه من رأس المال، قاله ابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وتحصيل هذه المسألة أن تقول فيها: اختلف في الرجل يعتق شقصا من عبده، أو من عبد بينه وبين شريكه في صحته، ثم مرض قبل أن يعتق عليه بقية عبده، أو قبل أن يقوم عليه حظ شريكه، فعثر على ذلك في مرضه- على ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول ابن القاسم(14/459)
في المدونة أنه يعتق عليه بقية عبده ويقوم عليه حظ شريكه في الثلث، قيل: بعد الموت لا في المرض، وقيل: بل يحكم بالتقويم في المرض ولا يقوم حتى يموت، فإن مات أعتق في ثلثه ما بقي من نصيبه، أو ما حمل الثلث منه، وقوم فيه حظ شريكه، أو ما حمل من الثلث منه أيضا، وهو قول أصبغ، والنظر يوجب ألا يعجل تقويم نصيب الشريك في المرض إلا برضاه، إذ لا يدري هل يخرج من الثلث أم لا؟ فمن حجته ألا يقوم نصيبه إلا إلى عتق متيقن، وقيل: إنه يقوم في المرض ولا ينفذ عتقه حتى يموت، فان مات جعلت تلك القيمة في ثلثه، فإن لم يحملها الثلث، نفذ من ذلك ما حمل الثلث، وما لم يحمل الثلث، بقي رقيقا للورثة، أو الشريك الذي لم يعتق، والثاني: قول بعض الرواة في المدونة أنه لا يعتق عليه في الثلث بقية عبده، ولا يقوم عليه حظ شريكه على ما ذكرناه من الاختلاف في تعجيل التقويم أو تأخيره، ولا يعتق عليه فيه بقية عبده، واتفقوا فيما علمت أنه إن لم يعثر على ذلك حتى مات، أنه لا يعتق عليه بعد الموت بقية نصيبه، ولا يقوم عليه حظ شريكه، لا من رأس المال ولا من الثلث فيه حظ شريكه.
والثالث: قول ابن الماجشون في الواضحة إنه يقوم عليه في الثلث- وهو ظاهر ما في المدونة.
والثاني: أنه يقوم عليه بعد الموت حظ شريكه إن كان موته بحدثان عتق نصيبه، وهذا إذا طال ذلك، واختلف- إذا لم يطل- على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يعتق عليه أيضا بعد الموت بقية نصيبه ولا يقوم عليه حظ شريكه لا من رأس المال ولا من الثلث؛ لأن ذلك حق قد وجب لشريكه ولا يعتق عليه بقية نصيبه إن كان العبد كله له، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه في العتبية، ورواية مطرف، وابن الماجشون عنه في الواضحة.
والثالث: أنه يعتق عليه بعد الموت بقية نصيبه، ويقوم عليه نصيب شريكه إن غامصه الموت، وأما التفليس فلا(14/460)
خلاف في أنه يسقط التقويم والتتميم، وأما إن أعتق الرجل شقصا من عبده، أومن عبد بينه وبين شريكه في المرض، فلا خلاف بينهم في أن ذلك كله يكون من الثلث ما أعتق منه، وما بقي إن مات من ذلك المرض ولم يصح منه، واختلف في تعجيل التقويم في المرض على قولين؛ أحدهما: أنه لا يعجل التقويم ولا ينظر في ذلك إلا بعد الموت- وهو المنصوص في المدونة.
والثاني: أنه يعجل التقويم في المرض وهو قول قائم من المدونة، وإذا عجل التقويم فيه على هذا القول لم ينفذ العتق حتى يصح أو يموت، فإن صح نفذ ذلك كله من رأس المال، وإن مات جعلت تلك القيمة في الثلث، فنفذ ذلك كله من رأس المال، وإن مات جعلت تلك القيمة في الثلث، فنفذ فيه ما حمل منها وكان الباقي رقيقا للورثة وللشريك وسواه، كان له مال، أو لم يكن، وقد قيل: إن هذا إنما يكون إذا لم يكن له مال مأمون، وأما إن كان له مال مأمون فيعتق عليه في المرض جميعه- إن كان له، ويقوم عليه فيه حظ شريكه- إن كان له فيه شريك، وهو أحد قولي مالك في المدونة، وذهب ابن الماجشون إلى أنه إذا عتق شقصا له من عبد في مرضه، لم يقوم عليه حظ شريكه في المرض، ولا بعد الموت- إن مات من مرضه ذلك ولم يصح، بخلاف إذا كان العبد كله له فأعتق بعضه في مرضه، وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي وأوصى في عبد بينه وبين أخر أن مصابتي منه حر]
مسألة قال: وسمعته سأل عمن توفي وأوصى في عبد بينه وبين أخر: أن مصابتي منه حر، وأن يعتق عليه مصابة شريكه، فأبى ذلك شريكه، أترى أن تقوم عليه حصة شريكه، أو يعتق نصيبه وحده؟ فقال: نعم يعتق عليه كله بالقيمة.(14/461)
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه لا ينفذ وصيته بعتق مصابة شريكه، ولا يقوم عليه إلا برضاه، روي عن سحنون أنه قال: رأيت فيه رواية لابن وهب عن مالك وهي هل أن شريكه إن أبى لا يستتم نصيب شريكه ويعتق نصيبه وحده؟ قال أبو إسحاق التونسي: والأشبه ما روى ابن وهب، ولا أدري من أين أنكرها سحنون - وهو كما قال أبو إسحاق؛ لأن القياس كان إذا أوصى بعتق حظه من العبد أن يقوم عليه بقيته في ثلثه، وإن لم يوص بذلك كما يقوم عليه حظ شريكه في ثلث إذا أعتق نصيبه منه في مرضه، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن يقوم عليه في ثلث نصيب شريكه وإن لم يوص بذلك، وهو القياس على قول مالك في الذي يعتق حظه من العبد أن يقوم عليه بقيته في مرضه.
والثاني: أنه لا يقوم عليه، وإن أوصى بذلك، إلا أن يشاء الشريك وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، وهذان القولان جاريان على قياس.
والثالث: أنه لا يقوم عليه إلا أن يوصي بذلك وهو قول مالك في هذه الرواية استحسانا، وبالله التوفيق.
[مسألة: جارية بين رجلين أعتق أحدهما مصابته منها فلم يقوم عليه حتى ولدت أولادا]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن جارية بين رجلين أعتق أحدهما مصابته منها فلم يقوم عليه حتى ولدت أولادا، أتقوم عليه هي وولدها؟ قال: نعم يقومون عليه جميعا، ويعتقون عليه هم وأمهم- إن كان له مال، ورواها ابن القاسم عن مالك في كتاب طلق بن حبيب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن ولدها بمنزلتها فكما يعتق عليه مصابته من ولدها، فكذلك يقوم عليه مصابة شريكه من ولدها، كما يقوم عليه مصابته منها، وبالله التوفيق.(14/462)
[مسألة: جارية بين أيتام يليهم رجل وبين أمهم لهم ثلاثة أرباعها ولأمهم ربعها]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن جارية بين أيتام يليهم رجل وبين أمهم لهم، ثلاثة أرباعها ولأمهم ربعها، فولدت الجارية غلاما فأرسلت الأم إلى والي الأيتام: إني أريد عتق هذا الصبي، فبادر إليه ولي الأيتام فأعتقه، فلما علمت بذلك أمهم خافت أن يقوم عليه مصابتها فعهدت إلى ربعها فأعتقته وقيمته يوم أعتقته سبعة دنانير، ثم قيمة اليوم مائة دينار، فهل ترى لوليها عتق غلامنا وبأي قيمة يقوم عليه إن جاز عتقه، وأرأيت إن لم يجز عتقه أيخاف أن يقوم على أمنا كله؟ فقال: إن رد عتقه قوم على أمكم كله ولكن لم يرد عتقه، وقد أعتق وهو يغرم قيمته، فقيل له: أفرأيت إن رد أيقوم عليها كله؟ فقال: نعم إن رد عتقه قوم عليها كله ولكن لم يرد عتقه وقد أعتق هو.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على أصولهم؛ لأن من أعتق عبد من إلى نظره جاز عتقه له- إن كان له قال: ولزمته قيمته، فلما أعتق الغلام الذي بين أيتامه وبين أمهم، وجب أن يعتق عليه حظ أيتامه منه بقيمته يوم أعتقه، وأن يقوم عليه حظ أمهم منه، فمنع من ذلك عتقها هي له، فلو لم تعتق هي حظها، لعتق على ولي الأيتام بقيمته يوم يقوم عليه، ولو لم يكن لولي الأيتام مال لما جاز عتقه لحظ أيتامه من العبد، ولوجب أن يرد ويقوم على الأم التي أعتقت حصتها منه بقيته يوم يقوم عليه وقد ذكر ابن المواز هذه المسألة من رواية أشهب عن مالك بمعنى ما قلناه،(14/463)
فقال: وإن أعتق ولي الأيتام عبدا- لأمهم ربعه، وباقيه لهم، جاز عتقه وغرم القيمة (لها) ولهم، قال محمد: إن كانت قيمته يوم العتق عشرة، وقيمته يوم قيام الأم مائة، أدى قيمة حصة الأيتام على عشرة وأدى للأم على حساب مائة يوم قيامها، وذكر ابن المواز أن أشهب روى عن مالك: أن عتق الأم مملوك ابنهما جائز إذا كان لها مال، قال محمد: وكانت وصية، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ثلث غلامي هذا حر]
مسألة قال: وسمعته يسأل عمن أوصى فقال: ثلث غلامي هذا حر، فقال: لا يعتق منه إلا ثلثه، وثلثاه رقيق، فقيل له: لا يعتق كله؟ فقال: لا فقيل: أفرأيت لو قال- وهو صحيح-: ثلثك حر، قال مالك: يعتق عليه كله، ليس عتقه ثلثه في وصيته بمنزلة عتقه ثلثه في الصحة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة لا أعرف فيها نص خلاف، ويدخل فيها الاختلاف بالمعنى، إذ قد قيل فيمن أعتق شقصا من عبد له: أنه يعتق عليه جميعه بالسراية، فيجب على قياس هذا القول- إذا أوصى بعتق ثلث عبده- أن يعتق جميعه إذا حمله الثلث، أو ما حمل منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: جارية خاصمت في عتق ثلثها فخاصمت في ذلك ومرضت شهرين]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن جارية خاصمت في عتق ثلثها فخاصمت في ذلك ومرضت شهرين، فثبت ذلك لها، فأرادوا أن يتركوا لها من كل يوم ثلثه، فقال: أما من كل يوم ثلثه فلا، ولكن(14/464)
ينبغي أن يتركوا لها من كل شهر عشرة أيام، ومن كل ثلاثة أشهر شهرا، فقيل له: أترى عليها خدمة ما مرضت أو خاصمت؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم البز من سماع ابن القاسم نحو هذا في مقدار ما يقتسمون عليه الخدمة، وإنما قال: إنهم ليس لهم أن يتركوا لها من كل يوم ثلثه؛ لأن ذلك من التضييق عليها، ولو دعت هي إلى أن يكون لها من كل يوم ثلثه، لم يكن ذلك لها؛ لأن ذلك من التضييق عليهم أيضا، ولو دعت هي أو هم إلى أن يكون لها من كل ثلاثة أيام يوم، وأراد الآخر منهم أكثر من ذلك، لكان القول قول من أراد منهم أن يكون لها يوم من ثلاثة أيام، فقوله في الرواية: إنهم يتركون لها من كل شهر عشرة أيام، أو من كل ثلاثة أشهر شهرا، معناه إذا اتفقا على ذلك، وأما إذا اختلفا فيه، فالقول قول من أراد منهم أن يكون لها عشرة أيام من كل شهر، فالقول أبدا قول من دعا منهم إلى الأقل، وأن يكون لها شهر من كل ثلاثة أشهر- نهاية ما يجوز، وإن اتفقا على عدد الأيام واختلفا في التبدئة، أسهم بينهم في ذلك.
وقوله: إنه لا شيء عليها لهم فيما مرضت أو خاصمت فيه صحيح؛ لأن المرض مصيبة دخلت عليهما جميعا بقدر حقوقهما، فلا شيء لواحد منهما على صاحبه، والخصام أمر ألجأهما إليه، إذ لو شاءوا لأقروا لها بحقها، فلا شيء لهم عليها (في ذلك) وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد الحر بعضه أينتزع منه ماله]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن العبد الحر بعضه، أينتزع منه ماله؟ فقال: لا ينتزع ماله من يده، ويمنع من أن يعتق أو يتصدق أو(14/465)
يسرف، ويأكل ويكتسي بالمعروف، فإذا مات ورثه الذي له فيه الرق.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه شريك في نفسه فليس للذي فيه الرق أن يأخذ من ماله شيئا إلا بإذنه، ولا هو أن يتلف شيئا من ماله إلا بإذنه.
[مسألة: المعتق نصفه أله أن يتجر في أيامه التي له]
مسألة وسمعته: يسأل عن المعتق نصفه أله أن يتجر في أيامه التي له؟ قال: نعم ويطحن ويحمل على رأسه ويعمل ما شاء، فقيل: يتجر ببعض ماله الموقوف بيده التجارة المأمونة، فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه في حكم المأذون له في التجارة، إذ ليس للذي له فيه الرق أن يحجر عليه في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين رجلين أعتق أحدهما مصابته منه واستثنى ماله]
مسألة قال: وسألته عن عبد بين رجلين أعتق أحدهما مصابته منه واستثنى ماله، فقال لي: لا أعرف في عتق العبد بين الشريكين استثناء ماله، إنما يجوز ذلك في الرجل الواحد يملك العبد كله فيعتقه ويستثني ماله، فأما إذا كان بين شريكين فأعتق أحدهما مصابته منه واستثنى ماله، فإني لا أرى ذلك له، وأرى أن يقوم عليه بماله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن استثناء ماله انتزاع له، وهو لا يجوز له أن ينتزع شيئا من ماله من أجل شركته له في نفسه، وبالله التوفيق.(14/466)
[مسألة: الروم ينزلون بعض أرض الإسلام ثم يخصي بعضهم بعد نزولهم العبد من عبيدهم]
مسألة وسمعته يسأل: عن الروم ينزلون بعض أرض الإسلام ثم يخصي بعضهم بعد نزولهم العبد من عبيدهم، أترى أن يعتق على خاصيه؟ فقال: لم يعتق إنما ينزلون على أنهم آمنون، لا والله ما أرى أن يعتق عليهم، أرى أنهم كأنهم خصوه في بلادهم.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على قياس قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الجهاد، ومن كتاب التجارة إلى أرض الحرب في أن المستأمنين في بلاد المسلمين من الحربيين لا ينتزع منهم أسرى المسلمين، ولا عبيدهم المسلمون، ولا يباع عليهم من أسلم من رقيقهم، ويرجعون بذلك كله إن شاءوا خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب، وحكى أنه إجماع من مالك وأصحابه، إلا ابن القاسم من أنه بياع عليهم من أسلم من رقيقهم، ويؤخذ منهم من كان عندهم من أسرى المسلمين بقيمتهم، ولا يكون ذلك من الختر بعهودهم، فيأتي ذلك على قياس ما ذهب إليه ابن حبيب في هذا إنهم يعتقون عليهم إذا خصوهم، كما يعتق على المعاهد عبده إذا خصاه- على مذهب من يرى ذلك من أصحاب مالك، وهو قول أشهب في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى بعد هذا، خلاف قول ابن القاسم فيه؛ لأنه حكم لهم فيمن أسلم من رقيقهم بحكم المعاهدين، فكذلك هذا، والله أعلم.(14/467)
[مسألة: عتق السفيه إذا لم يكن عليه ولاية من أب ولا سلطان]
مسألة قال: وسمعته يسأل على السفيه الذي لا يولى عليه، أيجوز عتقه؟ قال: نعم- لعمري إنه يجوز عتقه إذا كان يلي ماله.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية عتق السفيه إذا لم يكن عليه ولاية من أب ولا سلطان، وكذلك سائر أفعاله- وإن كان متصل السفه من حين بلوغه معلنا به، هذا ظاهر هذه الرواية، وهو المشهور من قول مالك، وقد روى ابن وهب عنه أن أفعاله لا تجوز، وإن لم يتصل سفهه من حين بلوغه ولا كان معلنا به، هذا ظاهر روايته عنه، وقعت هذه الرواية عنه في المبسوط، وفي كتاب ابن المواز، وفي النكاح من الواضحة - وهو المشهور من مذهب ابن القاسم، وفي المسألة قول ثالث وهو الفرق بين أن يكون معلنا بالسفه من حين البلوغ، أو غير معلن به- وهو قول أصبغ، وقول رابع- وهو الفرق بين أن يتصل سفهه من حين بلوغه أو لا يتصل، فإن اتصل سفهه لم تجز أفعاله، وإن سفه بعد أن أنس منه الرشد جازت أفعاله، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وأما المولى عليه، فأفعاله غير جائزة وإن علم رشده، هذا هو المشهور من مذهب مالك، وقد روي عنه أن أفعاله جائزة إذا علم رشده وهو الذي يأتي على رواية ابن وهب عن مالك، وعلى ما في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الشهادات في إجازة شهادته، مثل المشهور من قول ابن القاسم، فالمشهور عن مالك الاعتبار بالولاية دون الحال، والمشهور عن ابن القاسم الاعتبار بالحال دون الولاية، وقد روي عن مالك مثل المشهور عن ابن القاسم، وهو ما ذكرناه عنه من رواية ابن وهب، ومن رواية أشهب، وعن ابن القاسم مثل المشهور عن مالك، روى ذلك زونان عنه، وبالله التوفيق.(14/468)
[مسألة: عتاقة الصغير]
مسألة قال: وسمعته يقول: لا تجوز عتاقة الصغير ولا طلاقه، وإن كان كبيرا مولى عليه، جاز طلاقه- ولم يجز عتقه.
قال محمد بن رشد: أما الصغير فلا اختلاف في أنه لا يجوز طلاقه ولا عتقه، ولا شيء من أفعاله، وأما المولى عليه فقد مضى تحصيل الاختلاف في جواز أفعاله إذا كان معلوما بالرشد، ولا اختلاف في أنه محمول على السفه حتى يعلم رشده، فإذا علم رشد كان في ذلك الاختلاف الذي ذكرناه كما لا اختلاف في الذي لا ولاية عليه من أب ولا سلطان أنه محمول على الرشد على يعلم سفهه، فإذا علم سفهه كان في ذلك الاختلاف الذي ذكرناه في المسألة التي قبل هذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: المعتق وهو مولى عليه ثم يلي نفسه]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن المعتق وهو مولى عليه ثم يلي نفسه، أترى عليه عتقا؟ قال: لا، إلا أن يتمخى من ذلك، قيل له: أفترى أن يفعل؟ قال: أما الصغير الذي أعتق في حال صغره فلا، وأما الكبير فعسى، وروى محمد بن خالد عن ابن القاسم أنه لا يلزمه العتق، وإن بلغ حال الرضى.
قال محمد بن رشد: أما الصغير فبين أنه ليس عليه إذا بلغ وملك أمر نفسه- أن يتمخى مما أعتق في صغره؛ لأنه لم يكن مكلفا ولا مخاطبا بأحكام الشريعة، ولا ممن توجه إليه قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث» - فذكر فيهم(14/469)
الصبي حتى يحتلم، فوجب ألا يلزمه التمخي مما عقده على نفسه من عتقه لعبده (وإنما اختلف) ، إذا حلف بعتق عبده- وهو صغير، فحنث وهو كبير مالك لأمر نفسه، وحكم النصراني في هذا حكم الصغير، وأما الكبير الذي لحقته الولاية لسفهه، فوجب تمخيه مما أعتقه وهو مولى عليه، هو أنه أعرف بنفسه إن كان في الحين الذي أعتق فيه عبده من السفهاء الذين أمر الله ألا يمكنوا من أموالهم، ولا تجوز فيها أفعالهم؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، فيكون الحكم عليهم بالولاية صحيحا في الباطن، كما هو في الظاهر، فلا يلزمهم العتق، وإن كان على خلاف تلك الحال فيلزمه العتق؛ لأن الحكم الظاهر لا يحل الأمر في الباطن كما هو عليه، وهذا عندي- إذا لم يعلم الولي بعتقه حتى رشد، والعبد في يده، أو علم فأجاز عتقه، إذ ليس له أن يجيزه على ما يأتي في رسم الرهون من سماع عيسى، وأما إذا رده فهو مردود لا يلزمه التمخي منه إذا رشد، ولا يدخل في هذا الاختلاف الذي في المرأة ذات الزوج تعتق عبدها وهو أكثر من ثلث مالها فيرده الزوج ثم يموت عنها أو يطلقها، وهو في يدها؛ لأن التحجير على السفيه (في ماله) أقوى من تحجير الزوج على امرأته فيما زاد على ثلث مالها، واختلف في الصغير يحلف بعتق عبده، وهو صغير ويحنث وهو كبير، وفي المولى عليه يحلف وهو مولى عليه ثم يحنث بعد رشده، وفي العبد يحلف- وهو عبد ثم يحنث وهو حرث، فقيل: إن العتق يجب عليهم كلهم، وهو قول ابن كنانة؛ لأنه قال ذلك في الصغير فهو فيمن سواه ممن ذكرناه معه أحرى، والوجه في ذلك أنه جعل فعله لمن حلف عليه بعتق عبده(14/470)
ألا يفعله رضى منه بعتقه، وقيل: إنه لا يجب العتق على واحد منهم؛ لأن الإيمان يوم تقع، - وهو قول ابن القاسم في سماع محمد بن خالد، واختلف قول مالك في السفيه يحنث بعد رشده في عتق عبده، فله في رسم يوصي من سماع عيسى أنه لا يعتق عليه، وروى أشهب عنه أنه يعتق عليه، والعبد أشد من السفيه على ما قاله في سماع محمد بن خالد، فيتحصل في جملة المسألة أربعة أقوال؛ أحدها: أن العتق يلزمه فيهم كلهم.
والثاني: أنه لا يجب على واحد منهم.
والثالث: أنه لا يجب إلا على العبد؛ لأنه أشدهم على ما قاله في سماع محمد بن خالد.
والرابع: أنه يجب على العبد وعلى السفيه- إذا رشد، ولا يجب على الصبي، وبالله التوفيق.
[مسألة: عتق المولى عليه المحتلم الذي لا يتهم بسفه]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن عتق المولى عليه المحتلم الذي لا يتهم بسفه وهو في ذلك مولى عليه، أيجوز عتقه؟ قال: لا، فقيل له: ماذا؟ قال: لا يجوز عتقه.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور من قول مالك، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك فيما تقدم قبل هذا في هذا الرسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق السفيه المولى عليه أم ولده]
مسألة (قال أشهب:) قلت: لمالك إذا أعتق السفيه المولى عليه أم ولده، جاز عليه عتقها واتبعها مالها؟ قال: نعم يجوز عليه عتقها ويتبعها مالها، وإنما ذلك- عندي- بمنزلة السفيه المولى عليه(14/471)
يتزوج المرأة بالمال العظيم، ثم يطلقها فيجوز طلاقه عليهما ويكون لها كل ما أمهرها، فكذلك هو إذا أعتق أم ولده- ولها مال ولم يستثنه، عتقت عليه واتبعها مالها.
قال محمد بن رشد: قيل: إن عتق السفيه لأم ولده لا يجوز، بخلاف طلاقه- وهو قول المغيرة، وابن نافع - في كتاب ابن سحنون، خلاف المعلوم من قول مالك وأصحابه في أن عتقه إياها جائز، إذ ليس له فيها إلا الاستمتاع كالزوجة، واختلف هل يتبعها مالها إذا جاز عتقها على ثلاثة أقوال؛ أحدها: قوله في هذه الرواية: أنه يتبعها، إذا لم يستثنه- وإن كان كثيرا.
والثاني: قوله في رسم يشتري الدور من سماع يحيى أنها لا يتبعها مالها- وإن لم يستثنه- قليلا كان أو كثيرا، وقد قيل: إنه يتبعها إن كان يسيرا، ولا يتبعها إن كان كثيرا- وإن لم يستثنه، وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب- مراعاة لقول من يرى أن العبد لا يملك، وهو قول أكثر أهل العلم، وفي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» - تعلق للطائفتين، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إن كلمت فلانا إلا وأنا ناس فغلامي حر]
مسألة قال: وسمعته يسأل عمن قال: إن كلمت فلانا- إلا وأنا ناس- فغلامي حر، فلقيه فكلمه ثم زعم، أنه كلمه ناسيا، فقال ذلك إليه إذا اشترط.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه لا يصدق في أنه إنما كلمه(14/472)
ناسيا، إذ لا يعرف ذلك إلا من قبله، ولو لم يستثن في يمينه إلا وأنا ناس فادعى أنه نوى ذلك بقلبه وعقد عليه يمينه، أو استثناه بلفظ وحرك به لسانه، لم يصدق في ذلك مع قيام البينة عليه ومن أهل العلم- خارج المذهب- من يرى أنه لا يحنث بالنسيان- وإن لم ينو ذلك ولا استثناه؛ لأنه مغلوب بالنسيان، فهو كالمكره، وبدليل قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تجاوز الله لأمتي (عن) الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف في أم ولد له بعتق ما يملك إن أخدمها]
مسألة قال: وسئل عن رجل حلف في أم ولد له بعتق ما يملك إن أخدمها، ولا اشترى لها خادما، فقال: إن أعطاها دنانير فاشترت بها لنفسها، لم أر عليه حنثا، قيل له: إنهم يقولون لا يجوز لها أن تشتري إلا بإذنه، فإذا اشترت بغير إذنه فأقر ذلك لها، فقد أخدمها واشترى لها، فقال: لا، وذلك لها تشتري.
قال محمد بن رشد: حمل يمينه في هذه المسألة على اللفظ ولم يراع المعنى، وذلك خلاف قوله في المدونة في الذي يحلف ألا يكسو امرأته فأعطاها دراهم فاشترت بها ثوبا- أنه حانث، وهو خلاف المشهور في المذهب من أن يمين الحالف إذا لم تكن له نية، تحمل على المعني، وما يدل عليه البساط، ومثل ما في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك، ومثل ما في سماع سحنون من كتاب الأيمان بالطلاق في مسألة البالوعة، والذي يأتي في هذه المسألة على ما في المدونة(14/473)
أنه حانث ولا ينوي إذا ادعى أنه إنما أراد ألا يخدمها خادما وألا يشتريها هو لها، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بعتق ما يملك في أرض له إن أكراها فلانا العام]
مسألة وسئل: عمن حلف بعتق ما يملك في أرض له إن أكراها فلانا العام، فوجد وكيلا له قد أكراها ذلك الرجل، فأبى أن يمضي ذلك، فهل له من يمينه مخرج إن أكراها أخا له؟ فقال: أما- والله- رجل يريد أن يدخله فيها، فلا أرى ذلك يخرجه من يمينه، أو يتكاراها أخوه- وهو شريك له في المال، ولكن لو خاصموه حتى يقضى عليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الحالف لما وجد وكيله قد أكرى الأرض من المحلوف عليه قبل يمينه، خشي إن سلمها له أن يطالب باليمين فلا، يجد من يشهد له على كراء الوكيل إياها منه- قبل يمينه فيعتق عليه عبيده، فأبى أن يمضيها له مخافة ذلك، وسأله هل له مخرج في أن تصير الأرض إلى المحلوف عليه بالكراء، ولا يحنث بأن يكريها من أخيه أو من شريكه، فلم ير له مخرجا في أن يكريها ممن يظن به أنه يريد أن يدخله فيها، وأرى له مخرجا في تصييرها إليه بأن يخاصمه فيما يدعي من كراء وكيله إياها منه قبل يمينه حتى يقضي عليه فيسلم من الحنث، وإن لم يقض عليه إلا بإقراره له بما ادعاه عليه من أن وكيله أكراه إياها قبل يمينه، إذ لا اختلاف في أنه لا حنث عليه- إذا حلف- وهو لا يعلم كراء وكيله(14/474)
إياها على معنى ما يأتي في رسم سلف من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، وفي رسم العرية من سماع عيسى من كتاب النذور، ولو حلف ألا يكريها منه وهو عالم بكراء وكيله إياها منه، لكان بمنزلة الذي يحلف ألا يبيع السلعة بعد أن باعها، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى في سماع سحنون، ونوازل أصبغ من كتاب الأيمان بالطلاق، فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع رجلا بيعا فسأله أن يضع عنه فحلف بالعتق ألا يفعل فيقضيه حقه كله]
مسألة وسئل: عمن باع رجلا بيعا، فسأله أن يضع عنه، فحلف بالعتق ألا يفعل فيقضيه حقه كله، فإذا قبضه قال له: إن رأيت أن تهب لي شيئا فافعل، أيجوز له أن يهب له؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم من قوله في رسم طلق ابن حبيب من سماع ابن القاسم، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بعتق جاريته ليضربنها]
مسألة وسئل: عن الذي يحلف بعتق جاريته ليضربنها، أترى أن يضربها في قدميها ويوجعها؟ قال: لا أرى ذلك يخرجه من يمينه، يقول الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، يذهب هذا يضربها في قدميها، ما أرى ذلك له.(14/475)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يبر إلا بالمعنى الذي قصد إليه (وهذا لم يقصد إليه) إذ لم تجر العادة أن يضرب الرجل عبده ولا أمته في قدميه، وإنما ذلك من فعل المؤدبين لصبيانهم، فلو حلف المؤدب على ضرب صبي، لم يضربه في قدميه، ولو حلف الرجل ألا يضرب أمته فضربها في قدميها لحنث بذلك؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكمل الوجوه.
[مسألة: يحلف بعتق جاريته ليضربنها]
مسألة قيل له: أرأيت الذي يحلف بعتق جاريته ليضربنها، فقال: إن كان حلف ليضربنها ضربا لا ينبغي له، فأرى أن يمنع من ضربها وتعتق عليه.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة وغيرها أنه إن حلف على ما يجوز له من الضرب، لم يحل بينه وبين ضربه، وإن حلف على ما لا يجوز له منه، لم يمكن من ضربه وأعتق عليه، وقال في المدونة في الذي يحلف ليجلدن غلامه مائة سوط: أن العبد يوقف ولا يبيعه حتى ينظر أيجلده أم لا؟ ومعناه إذا كان ذلك لجرم اجترمه يستوجب به مثل ذلك الأدب، وما يحلف عليه الرجل من ضرب عبده أو أمته بحريته، ينقسم على ثلاثة أقسام: يسير كالعشرة الأسواط ونحوها، وكثير كالثلاثمائة ونحوها (وما هو أكثر منها) وما بين ذلك، فأما اليسير مثل العشرة الأسواط ونحوها، فإنه يمكن من ذلك ويصدق في أنه قد أذنب ما يستوجب به ذلك من الأدب، وقد(14/476)
قال ابن أبي زيد: إنه يمكن من ذلك ولا يعتق عليه- وإن كان لغير ذنب أحدثه وهو بعيد، وأما الكثير كالثلاثمائة ونحوها، وما هو أكثر منها، فإنه لا يمكن من ذلك ويعتق عليه، وأما ما بين ذلك ففيه اجتهاد الإمام، والذي أراه فيه أنه إن حلف بحريته على مثل الثلاثين سوطا أو نحوها، يمكن من البر ولم يعتق عليه إذا زعم أن ذلك لذنب استوجبه، فإن كان من أهل الخير والدين، صدق في ذلك دون يمين، وإن كان مجهول الحال، صدق في ذلك مع يمينه، ومنع من بيعه حتى يبر بضربه، فإن لم يضربه حتى مات عتق في ثلثه، وإن كان مسخوطا غير مؤتمن، كلف إقامة البينة على ذلك، ولم يمكن من ضربه وأوجر عليه حتى يموت فأعتق في ثلثه، فإن حلف على مثل المائة سوط ونحوها، فإن كان من أهل الخير والدين والفضل المستبين، صدق في الجرم الذي زعم أنه استوجب به ذلك مع يمينه، وإن لم يكن على هذه الصفة، كلف إقامة البينة على ذلك، فإن عجز عن ذلك، لم يمكن من ضربه، وأوجر عليه حتى يموت فيعتق في ثلثه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال جاريتي حرة إن دخلت الدار إلى شهر]
مسألة وسمعته: يسأل فقيل له: إني أعطيت لجارية امرأتي مالا عظيما، فلما خشيت أن أبيعها قالت: هي حرة إن بعتها عشر سنين، وقد فسدت عليها الجارية فساد سوء وخبثت، فهل ترى في ذلك مخرجا؟ فقال: لا إلا أن تعتقها أو تهبها لمن لا تريد منه ثوابا، فقيل له بعد ذلك: إنما حلفت بحرية جاريتها إن باعتها عشر سنين ثم ندمت، فأرادت بيعها، فلزوجها أن يرد هذه اليمين عليها إذا لم يكن لها مال غيرها؟ فقال: لا والله.(14/477)
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على قوله إلا أن تعتقها أو تهبها لمن لا تريد منه ثوابا في رسم البز من سماع ابن القاسم، ورسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، ورأيت لابن دحون في هذه المسألة كلاما غير صحيح، قال: جواز هبتها الجارية إنما يجوز على قول ابن القاسم، فأما على قياس مذهب مالك فلا يجوز، وإن كانت على بر في يمينها، فاليمين إلى أجل، ومذهب مالك أن من قال: جاريتي حرة إن دخلت الدار إلى شهر، أنه لا يبيع ولا يهب؛ لأنها معلقة بيمين إلى أجل، فهو حق للمملوكة، تقول: لا أباع ولا أوهب، لعل الحالفة تحنث في الأجل، وابن القاسم يرى أن بيعها وهبتها جائزة، كما لو كانت اليمين إلى غير أجل، وقوله: غلط بين لا اختلاف بينهم في أن الحالف بحرية عبده ألا يفعل فعلا هو على بر، وله أن يبيع- سمى أجلا أو لم يسمه، وإن الحالف بحريته ليفعلن فعلا هو على حنث وليس له أن يبيع- سمى أجلا أو لم يسم، وإنما يفترق الأجل من غير الأجل في الوطء إن كانت أمة، فليس له أن يطأ إن كانت اليمين إلى غير أجل، وله أن يطأ إن كانت إلى أجل على اختلاف في ذلك من قول مالك في المدونة، ومن قول ابن القاسم أيضا، فقوله ومذهب مالك أن من قال جاريتي حرة- إن دخلت الدار إلى شهر، أنه لا يبيع ولا يهب؛ لأنها معلقة بيمين إلى أجل- خطأ، وإنما قال ذلك مالك فيمن قال جاريتي حرة إن لم أدخل الدار- إلى شهر، وهذا بين، وليس أحد بمعصوم من الغلط وأما قوله في التي حلفت بحرية جاريتها إن باعتها عشر سنين، أنه ليس لزوجها أن يرد هذه اليمين، فمعناه ليس له أن يرد اليمين قبل حنثها، فأما إذا حنثت فيها بالبيع، فله أن يرد العتق كله، إذ لا مال لها غيرها، وتعود رقيقا ولا ترجع اليمين عليها لأنها قد حنثت، ورد الزوج العتق فهو ملك جديد قاله ابن دحون وهو(14/478)
صحيح، وكذلك لو حلف بحريتها إن لم تبعها عشر سنين، ليس له أن يرد يمينها إلا أن تحنث، وكذلك لو حلفت بحريتها ألا تبيعها أبدا، ليس له أن يرد يمينها إلا أن تحنث، وأما لو حلفت أن تبيعها، فقالت: هي حرة إن لم أبعها فليس له أن يرد يمينها في حال؛ لأنها لا تحنث- إن حنثت- إلا بعد الموت، فتعتق في ثلثها، وبالله التوفيق.
[مسألة: ذات زوج قالت كل مملوك لي حر إن خرجت من هذا المنزل]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن ذات زوج قالت: كل مملوك لي حر- إن خرجت من هذا المنزل، وقال زوجها: كل مملوك لي حر- إن لم تخرجي ورقيقها نصف مالها، قال: تبيع رقيقها في السوق ولا ترجع إليهم، ولا تبيعهم من أهلها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن له أن يخرجها ويحنثها إذ من حقه أن يسكن بها حيث شاء، فإذا أخرجها بعد أن باعت رقيقها لم يلزمها شيء، فإن اشترتهم قبل أن يخرجها، رجعت عليها اليمين، وكذلك إن وهبوا لها إلا أن يرجعوا إليها بميراث- على ما قاله في المدونة وغيرها وإن رجعوا إليها بشراء أو هبة بعد أن أخرجها لم يلزمها فيهم شيء، إلا أن تكون باعتهم على أن يردوا عليها بعد أن يخرجها فرارا من اليمين فيعتقون عليها، ولخوف الدلسة في ذلك بهذا، فقال: إنما تبيعهم في السوق ولا تبيعهم من أهلها، وبالله التوفيق.
[مسألة: عليه رقبة واجبة أيجزئ عنه أن يبتاع بعض أقاربه يعتقه]
مسألة قال: وسألته عمن عليه رقبة واجبة، أيجزئ عنه أن يبتاع بعض أقاربه يعتقه مكان رقبة عليه؟ فقال لي: ما كان من أقاربه يعتق(14/479)
عليه إذا ملكه فلا يجزئ عنه؛ لأنه لا يقدر على ملكه، فكيف يجزئ عنه؟ لا يجزئ عنه إلا، من يجوز له أن يملكه ملكا تاما، وهذا لا يقدر أن يملكه حتى يعتق عليه، فمن كان يعتق عليه من أقاربه إذا ملكه، فلا يجزئ عنه في الرقاب الواجبة، وتقول: إن الذي يعتق عليه من أقاربه فلا يجوز له ملكه- الولد والوالد والأخ والأخوات والجد والجدات من قبل الأم والأب، وولد البنات، وولد البنين، ومن كان من أقاربه- إذا ملكه لم يعتق عليه، وجاز له ملكه إياه، فلا بأس أن يشتريه فيعتقه برقبة عليه واجبة، وذلك يجزئ عنه إذا ملكه لم يعتق عليه، مثل عمه وعمته وابن عمه وخاله وما أشبههم، فإنه إذا ملكهم لم يعتقوا عليه، فعتقهم يجزئ عنه في الرقاب الواجبة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا اختلاف فيها في المذهب، إلا ما يروى عن ابن وهب من أنه قال: يعتق على الرجل ذوو رحمه - وهم السبعة الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه وهو شذوذ في المذهب، فمذهب مالك الذي عليه جماعة أصحابه- حاشا ابن وهب - أن الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم بلفظ وحيزهم ذوو المحارم من الآباء وإن علوا، والأبناء وإن سفلوا، والأخوة والأخوات ما كانوا، فيدخل في هذا أولاد البنات والأجداد من قبل الأم، والجدات الأربع، ويجمع هذا أنه يعتق على الرجل كل من له عليه ولادة ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يعتق على(14/480)
الرجل ذوو رحمه المحرم كلهم- على ما روي عن النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من رواية ابن عمر أنه قال: «من ملك ذا رحم محرم عتق عليه» وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، ولا مخالف لهما من الصحابة؟ وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأكثر أهل العراق، ومذهب الليث بن سعد، وأبي سلمة بن عبد الرحمن وابن وهب - من أصحاب مالك على ما ذكرناه، وذهب الشافعي إلى أنه لا يعتق على الرجل إلا الأب وإن علا، والابن وإن سفل- وهو ظاهر قول ابن كنانة في سماع أبي زيد من كتاب الولاء، وبالله التوفيق.
[مسألة: الخصي أيجوز في الرقاب الواجبة]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن الخصي أيجوز في الرقاب الواجبة؟ قال: نعم في رأيي هو رجل من المسلمين، وسمعته يسأل عن الأعرج أيجوز في الرقاب الواجبة؟ قال: نعم في رأيي هذا أعرج، والآخر أعور، وسمعته يسأل عن عتق المقعد أيجزئ في الرقاب الواجبة؟ قال: لا أحب ذلك ولا الأعمى أيضا، وقد سمعت أن رجلا قال للحسن البصري: أيجوز ولد الزنى في الرقاب الواجبة؟ فقال: لله الصفاء والخيار، فقيل لمالك: أتستحسن هذا؟ فقال: والله إني لأستحسنه، قال عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267](14/481)
يعمد الرجل إذا أراد أن يعتق أعتق هذا العبد، وإذا أراد أن يتصدق تصدق بهذا الطعام.
قال محمد بن رشد: أما الخصي فأجازه في هذه الرواية في الرقاب الواجبة، وكرهه في المدونة ولم يجزه في رسم لم يدرك من سماع عيسى بعد هذا، والأظهر إجازته اعتبارا بالضحايا، وأما الأعرج فأجازه في هذه الرواية، واختلف قوله فيه في المدونة، واختلاف قوله يرجع إلى أنه إن كان عرجا خفيفا أجزأ، وإن كان عرجا فاحشا لم يجز على ما حكى ابن القاسم أنه سمع منه وهو الذي في رسم لم يدرك من سماع عيسى المذكور، أما المقعد والأعمى، فلا اختلاف في أنه لا يجزئ، وإنما اختلفوا في الأعور، فأجازه في هذه الرواية، وفي المدونة، ولم يجزه ابن الماجشون في كتاب ابن شعبان اعتبارا بالضحايا، وأما ولد الزنى فعتقه جائز في الكفارات بإجماع من مالك وأصحابه، ولم يقل الحسن أنه لا يجزئ، وإنما قال: لله الصفاء، والخيار، بمعنى أنه ينبغي أن يتخير لله أنفس العبيد، وأعلاهم ثمنا، ولا يقصد إلى أدناهم مرتبة، وأقلهم ثمنا، كما قال عروة بن الزبير - لبنيه: يا بني لا يهد أحدكم لله من البدن ما يستحيي أن يهديه لكريمه، فإن الله أكرم الكرماء، وأحق من اختير له، وما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة قال في ولد الزنى: «هو شر الثلاثة» إنما قاله في رجل بعينه- لمعنى كان فيه، وذلك أنه كان يؤذي النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فقال فيه: «أما إنه مع مائة ولد زنى هو أشر الثلاثة» روي عن عائشة أنها قالت لما بلغها ما تحدث به أبو هريرة في هذا عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يرحم الله أبا(14/482)
هريرة، أساء سمعا فأساء إجابة، لم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل يؤذي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت المعنى الذي ذكرته في ذلك، وما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يدخل الجنة ولد زنى» معناه الذي يكثر منه الزنا حتى ينتسب إليه لتحققه به، كما يقال للمتحققين بالدنيا العاملين لها أبناء الدنيا، ويقال للمسافر ابن السبيل، ومن مثل هذا كثير، وعلى هذا يتأول ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن عتق ولد الزنى فقال: لا خير فيه، نعلان يعان بهما، أحب إلي من عتق ولد الزنى» .
وقد قيل لابن عمر: يقولون ولد الزنا شر الثلاثة، فقال بل هو خير الثلاثة قد أعتق عمر عبيدا من أولاد الزنا، ولو كان خبيثا ما فعل، وإنما قال ابن عمر فيه: إنه خير الثلاثة من أجل أنه لا يؤاخذ بما اقترفه أبواه من الزنى، لقول الله عز وجل: {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] ، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، فهو خير الثلاثة لا شرهم إذا لم يعمل شرا.
وقال ربيعة: إني لا أجد شأنه في الإسلام تاما، ولا يجزئ في الرقاب مجنون ولا مجذوم ولا أشل، ولا يابس الشق، ولا مقطوع الإبهام، ولا مقطوع الإصبعين، واختلف في مقطوع الإصبع الواحدة، فقال ابن القاسم: لا يجزئ، وقال غيره: يجزئ واختلف أيضا في الأصم، فقال ابن القاسم عن مالك: إنه لا يجزئ وقال ابن القاسم في المقطوع الأذنين على(14/483)
قياس قوله: إنه لا يجزئ، وقد روي عن ابن القاسم في الأصم أنه لا يجزئ، واختلف في ذلك قول أشهب، واختلف في الأبرص أيضا فلم يجزه ابن القاسم في المدونة، وأجازه غيره فيها إذا لم يكن مرضا، ولا يجزئ من فيه عقد عتق من مدبر أو مكاتب أو أم ولد، أو معتق إلى أجل، وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن يعتق عنه رقاب]
مسألة قال: وسمعته يقول: لا تشتر الرقبة الواجبة بشرط العتق، قيل: أرأيت من أوصى أن يعتق عنه رقاب؟ قال: لا، إلا ما كان من الوصايا في الرقاب الواجبة.
قال محمد بن رشد: فإن اشتراها بشرط، لم يجز- قاله في المدونة وغيرها؛ لأنها بعض رقبة من أجل أن البائع وضع من الثمن بسبب العتق، وبالله التوفيق.
[مسألة: أيعتق الجد عن ابنة ابنته إذا ملكته]
مسألة وسمعته يسأل: أيعتق الجد عن ابنة ابنته إذا ملكته؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قد مضى مثل هذا فوق هذا، ولا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم- أعلمه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أيملك الرجل أخته وأمه من الرضاعة]
مسألة وسمعته يسأل: أيملك الرجل أخته وأمه من الرضاعة؟ فقال: نعم في رأيي وغير ذلك خير، قيل له: ولا يعتقان عليه؟ قال: نعم.(14/484)
قال محمد بن رشد: هذا أيضا صحيح بين لا اختلاف فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصت في جارية لها حامل بأنها حرة وما في بطنها مملوك]
مسألة قال: وسمعته يسأل: عن امرأة أوصت في جارية لها حامل بأنها حرة وما في بطنها مملوك، ثم توفيت المرأة ووضعت الجارية ما في بطنها بعد وفاة سيدتها، فقال الورثة: أنت حرة وما في بطنك مملوك على ما أوصت به المرأة، فقالت الجارية: لا، بل ولدي بمنزلتي حر معي بحريتي، فقال: قد صدقت الجارية، هي حرة وولدها الذي ولدت إذا كانت إنما وضعت بعد وفاة سيدتها، فالولد حر مع أمه، لا تعتق جارية- وجنينها مملوك، فقيل له: إنها قد استثنت الولد في عتقها الجارية، فقال: إن هذا الاستثناء لا يجوز، لا تعتق الجارية وجنينها مملوك إذا كانت إنما وضعت بعد أن وجب ذلك لها بعد موت سيدتها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه - أعلمه- في المذهب؛ لأن الجنين لما كان لا يجوز بيعه لم يجز استثناؤه في البيع ولا في العتق، ولا اختلاف فيه أعلمه- في المذهب، ويلزم على قياس قول من أجاز البيع في الجارية واستثناء ما في بطنها، وجعل الولد مبقى على ملك البائع غير مبيع، وهو مذهب الأوزاعي والحسن بن حيي، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر أنه يجوز عتق الجارية واستثناء ما في بطنها إذ هو في العتق أبين، وبالله التوفيق.(14/485)
[مسألة: قال عند موته مسلمو رقيقي أحرار]
مسألة قال أشهب في رجل قال عند موته: مسلمو رقيقي أحرار، فلما مات الرجل ادعى رقيقه كلهم أنهم مسلمون، وادعى ولد الميت إنهم كلهم نصارى، وليست ثم بينة تعرف من كان مسلما، ولا من كان منهم نصرانيا، على من تكون البينة؟ أعلى الورثة إنهم نصارى، أو على العبيد أن يأتوا بالبينة أنهم كانوا مسلمين حتى مات سيدهم؟ وإن كانوا كلهم مسلمين ولم يسعهم الثلث، كيف يصنع بهم؟ قال أشهب: البينة على الورثة إنهم نصارى، إذا ادعى العبيد أنهم مسلمون، ولو قال الميت: نصارى رقيقي أحرار، فادعوا أنهم نصارى، وقال الورثة: بل هم مسلمون، فعلى الورثة البينة أنهم مسلمون، وفي سماع عبد الرحمن بن أشرس عن مالك مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن من ادعى خلاف ما قال الميت فهو المدعي، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر؟ إلا أنه لا يمين هاهنا على المنكر؛ لأن العتق قد وجب له بكونه على الدين الذي قال الميت أن يعتق من كان عليه، فعلى من أراد أن يرقه البينة، فإن لم تكن له بينة، لم يكن على المدعى عليها الرق يمين، إذ لا يمين على من ادعي عليه أنه عبد، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك امرأة حاملا وترك أولادا]
مسألة وسألته: عن رجل هلك وترك امرأة حاملا، وترك أولادا، كيف يصنع في ميراثه؟ فقال: يوقف الميراث ولا يقسم منه شيء حتى تضع المرأة، قيل له: فإن قالت الورثة: نحن نجعل الحمل ذكرا ونعزل له(14/486)
ميراثه، فقال: ليس ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن الواجب أن يوقف الميراث ولا يقسم حتى يوضع الحمل، فإن عزلوا للحمل ميراثه- على أنه ذكر، وقسموا بقية الميراث، لم يكن لهم رجوع على ما وقفوه للحمل إن نقص ما في أيديهم أو هلك، وإن تلف ما وقفوه للحمل رجع عليهم إن وجدهم أملياء، وإن كان بعضهم أملياء وبعضهم عدماء، رجع على الأملياء فقاسمهم فيما وجده في أيديهم، واتبع عدماء وهو وهم، كالغريم يطرأ على الورثة، لا كالوارث يطرأ على الورثة؛ لأنهم تعدوا فيما صنعوا من اقتسامهم بقية التركة، ولو لم يتلف ما وقفوا للحمل وكان قد نما ما في أيديهم، لكان له الرجوع في ذلك؛ لأن قسمتهم لا تجوز، ولو نما ما وقفوه للحمل، وكان لهم في ذلك حق؛ لأنهم قد رضوا بما أخذوا، فالقسمة تجوز عليهم، ولا تجوز عليه، ولو كان للحمل ناظر فقسم عليه، جازت القسمة لهم وعليهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك أبويه وامرأته حاملا فأراد أبواه أن يتعجلا ميراثهما]
مسألة وسئل: عن رجل هلك وترك أبويه وامرأته حاملا فأراد أبواه أن يتعجلا ميراثهما؛ لأنهما يرثان الثلث على كل حال، قال: ليس ذلك لهما.
قال محمد بن رشد: إنما يرثان الثلث على كل حال إذا كان ترك ولدا، وأما إن لم يترك ولدا، فيرثان الثلث إن وضعت المرأة ولدا حيا (أو ابنة حية) وأما إن وضعته ميتا، فيرثان ثلاثة أرباع المال بينهما- على الثلث والثلثين، وللزوجة الربع، فالواجب أن يوقف الميراث حتى تضع المرأة على(14/487)
كل حال، فإن كان ترك الميت ولدا وجعلوا الحمل ذكرا وعزلوا له الميراث، واقتسموا ما بقي، كان قياسها والحكم فيها على ما تقدم في المسألة التي قبلها، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد أعتقه رجل وامرأة فكان إذا سئل مولى من أنت فقال مولى فلان]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن عبد أعتقه رجل وامرأة، فكان إذا سئل مولى: من أنت؟ فقال: مولى فلان، ولا ينتسب إلى المرأة، قال: ينتسب إليهما جميعا فيقول مولى فلان وفلانة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال كان من الحق عليه أن يقر بالولاء لكل واحد منهما؛ لأنه نسب يجب به الميراث عند عدم النسب، كما يجب بالنسب، وبالله التوفيق.
[مسألة: أسلم فتسمى باسم إسحاق وأبوه نصراني]
مسألة وسمعته يسأل: عن رجل أسلم فتسمى باسم إسحاق، وأبوه نصراني، فإذا قيل له: من أنت؟ قال: أنا إسحاق بن عبد الله، قال: ترك ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: أما تسميته إذا أسلم باسم من أسماء الإسلام، فلا كراهة في ذلك، وإنما الذي كره له الألغاز في قوله: إنه ابن عبد الله، فيظن السامع له أنه ابن رجل من المسلمين، فينحو ذلك إلى الكذب، فلذلك كرهه، فقال: تركه أحب إلي، وقد مضى مثل هذا في رسم البز ورسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وقد قيل: إن الألغاز في مثل هذا مما لا(14/488)
يقصد به مكرا ولا خديعة جائز، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وقد مضى في أول سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق حكم اللغز في اليمين، وما يجوز منه مما لا يجوز، وفي سماع أبي زيد أيضا من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لعبده أنت سائبة أنه يحكم عليه بحريته]
مسألة وقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا في السائبة أنه حر وولاؤه للمسلمين هم يرثونه ويعقلون عنه.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك يدل على أنه من قال لعبده: أنت سائبة، أنه يحكم عليه بحريته، ولا يصدق إن قال: لم أرد به الحرية، إلا أن يكون قوله قد خرج على سبب يدل على أنه لم يرد به الحرية، مثل قول أصبغ من رأيه في رسم البيوع الثاني من سماعه خلاف روايته عن ابن القاسم فيه: أنه لا يكون حرا إلا أن يريد بذلك الحرية، أو يقول له: اذهب فأنت حر وأنت سائبة وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق سائبة إنه بمنزلة من أعتق عن جماعة المسلمين]
مسألة وسألته: عمن أعتق سائبة، أليس هو عندك بمنزلة من أعتق عن جماعة المسلمين، فولاؤه لهم، وميراثه لهم، وعقله عليهم، فقال لي: بل هو عندي بمنزلة من أعتق عن جماعة المسلمين، فولاؤه لهم، وميراثه لهم، وعقله عليهم.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن أعتق سائبة: إنه بمنزلة من أعتق عن جماعة المسلمين، يدل على أنه إكراه عنده في عتق السائبة مثل قول أصبغ في رسم البيوع الثاني من سماعه، خلاف روايته فيه عن ابن القاسم في كراهة ذلك، لما فيه من هبة الولاء، فإن وقع جاز ومضى، وكان الولاء للمسلمين،(14/489)
وحكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن نافع مثل قول ابن القاسم، وعن ابن الماجشون: إن عتق السائبة لا يجوز لأحد أن يفعله، فإن فعله كان الولاء له، إن عرف، وإن جهل، فالولاء لجميع المسلمين، وعقله عليهم، وقول ابن الماجشون أظهر، لقول النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لمن أعتق؛» لأن الولاء إنما كان له من أجل أن نوجب العتق لا من أجل أنه ولي إعتاقه، ولا من أجل أنه كان له) بدليل إجماعهم أن من أعتق عبده عن غيره، يكون الولاء للمعتق عنه، وأن من ولى عتق عبد رجل، يكون الولاء لصاحب العبد، فلما كان ثواب عتق السائبة للذي أعتقه سائبة، وجب أن يكون الولاء له، ففي عتق السائبة على ما بيناه ثلاثة أقوال: الجواز، وهو قول مالك في هذه الرواية، وقول أصبغ في سماعه بعد هذا، والكراهة- وهو قول ابن القاسم، والمنع وهو قول ابن الماجشون في الواضحة، وقول ابن نافع في المبسوطة، وبالله التوفيق.
[مسألة: مات النصراني الذي أعتقه المسلم]
مسألة وقال لي المخزومي: إذا مات النصراني الذي أعتقه المسلم، فإنه لا يرثه مولاه أبدا، وإنما ميراثه لولده وإخوته إن لم يكن له ولد، وبني عمه إن لم يكن له ولد ولا إخوة، فإن لم يكن له أحد من الناس ممن أخذ ميراثه من النصراني، ولم يعرض له فيهم؛ لأنهم لا يكلفون في أصل دينهم البينة، ولو كلفوا البينة على ذلك، لم يأتوا إلا بمن على دينهم، ونحن لا نجيز شهادة غير(14/490)
العدول من المسلمين، فكيف نجيزه من النصارى ممن أراده منهم: وقال: أن نتوارث وأهل ديننا هكذا لم يحل بينهم وبينه، وإن كان الذي أعتقه مسلما فإن أسلموه، ولم يطلبه منهم طالب، أدخلناه بيت مال المسلمين معزولا، لا يكون فيئا حتى يرثه الله، أو يأتي طالب.
قال محمد بن رشد: حكم المخزومي في هذه الرواية في ميراث النصراني يعتقه المسلم بحكم ميراث الذمي على ما وقع لمالك في المبسوطة من أن الذمي إذا مات ولا وارث له لم يعرض لماله؛ لأنهم قد عوهدوا على أن لا يعرض لأموالهم.
قال مالك: لا أرى أن يؤخذ مال الذمي الذي يموت ولا يدع إرثا، وقد فرق بينهما، واختلف في كل واحد منهما اختلافا كثيرا، فالذي يتحصل في ميراث النصراني يعتقه المسلم ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول المخزومي هذا: أن ميراثه لأهل دينه لا يعرض لهم فيه، وإن لم يكن له ورثة.
والثاني: أن ميراثه لورثته من أهل دينه على ما يقوله أساقفتهم، فإن لم يكن له وارث من أهل دينه كان لجماعة المسلمين يجعل في بيت مالهم قياسا على الذمي يموت، أن ماله يكون لورثته من أهل دينه، فإن لم يكن له ورثة، كان ميراثه لجميع المسلمين.
والثالث: أن ميراثه لجماعة المسلمين دون ورثته من أهل دينه، وهو نص قول محمد بن مسلمة المخزومي في المبسوطة، ومذهب ابن القاسم فيما يتناول عليه إلا أن تكون له قرابة من عتاقة(14/491)
المسلمين، فيكونون أحق بميراثه من جماعة المسلمين على ما قاله ابن كنانة في سماع أبي زيد من كتاب الولاء والرابع: أن ميراثه لمولاه المسلم المعتق له، قاله عبد الله بن نافع في المبسوطة، وهو بعيد، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» والذي يتحصل في ميراث الذمي من أهل الجزية ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ميراثه لأهل دينه لا يعرض لهم فيه- وإن لم يكن له ورثة، وهو قول مالك في المبسوطة، وقول المخزومي؛ لأنه إذا قال ذلك في النصراني الذي يعتقه المسلم، فأحرى أن يقوله في الذمي من أهل الجزية.
والثاني: أن ميراثه لورثته من أهل دينه، فإن لم يكن له ورثة من أهل دينه، فميراثه للمسلمين وهو قول ابن حبيب.
والثالث: الفرق بين أن تكون الجزية مجملة عليهم أو على جماعتهم، وهو قول ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد كانت تحته حرة فولدت منه غلاما]
مسألة قال: وأخبرني ابن وهب أنه سمع مالكا يسأل عن عبد كانت تحته حرة فولدت منه غلاما، فكبر فصار رجلا، ثم اشترى أباه فعتق عليه، أترى ولاء أبيه يرجع إلى ولاء ابنه؟ فإن ناسا شكوا في ذلك وقالوا: ما نراه، إلا كالسائبة، فقال: ولاؤه لموالي ابنه ينتقل ذلك إليهم، وإنما جر ابنه إليهم ما يجره غيره، ولو اشتراه فأراهم مواليه، يرجع ولاء الأب والابن إليهم.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الأمهات ولاؤه لموالي أم ابنه وهو صواب؛ لأن موالي ابنه هم موالي أم ابنه؛ لأن ولاء ولد الحرة من(14/492)
العبد لموالي الأم، قال سحنون في كتاب ابنه: وهذا قول جميع أصحابنا، إلا ابن دينار، فإنه قال: هو كالسائبة، وولاؤه للمسلمين، والذي قاله مالك وتابعه عليه جمهور أصحابه من أن ولاء أبيه يرجع إلى موالي ابنه هو الصحيح؛ لأن من اشترى من يعتق عليه، فولاؤه له، فإذا اشترى هذا الرجل أباه فعتق عليه كان ولاؤه له وانجر إلى مواليه وهم موالي أمه؟ وإن مات الأب بعد أن مات ابنه ولم يترك ولدا ولا عصبة، وترك مولاه الذي أعتق أمه، كان ميراث الأب له، ولو كان هذا الذي اشترى أباه فعتق عليه معتقا، لجر ولاءه إلى مولاه الذي أعتقه، ولوجب إن مات الأب بعد أن مات ابنه ولم يترك ولدا ولا عصبة وترك مولاه الذي أعتقه، أن يكون ميراث الأب لموالي الابن الذي أعتقه؛ لأن الرجل يرث بالولاء من أعتق من أعتقه (وولد من أعتق من أعتقه) ومولى من أعتق من أعتقه، ووجه ما ذهب إليه ابن دينار أنه لما كان الابن لا يرث أباه بالولاء، وإن أعتق عليه من أجل أن النسب مقدم على الولاء، لم ير أن يجره إلى مواليه وليس بصحيح، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد له امرأة حرة فولدت له أولادا فمرض مرضا شديدا فأعتقه سيده غدوة]
مسألة قال: وأخبرني ابن وهب أنه سمعه يسأل عن عبد له امرأة حرة فولدت له أولادا فمرض مرضا شديدا فأعتقه سيده غدوة، ومات العبد عشية، لمن ولاء ولده من الحرة؟ فقال: ولاء ولده منها للذي أعتق أباهم إذا أعتقه وهو حي قبل أن يموت، فذلك أبين لشأنه أن يكون الولاء لسيده الذي أعتقه، ويرثه ورثته الأحرار، فقيل لي: إنه أعتقه عند موته، فقال له هو كما قيل لك إن ولاء ولده لموالي أبيهم الذي كان أعتقه دون موالي أمه إذا كان أعتقه، وهو حي.(14/493)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا أعتقه وهو حي قبل أن يموت وإن كان في حال اليأس من الحياة، فإنه يكون له بذلك ولاء ولده من الحرة، ويكون أحق بميراثه من موالي أمه؛ لأنه لو كان حرا فمات له وارث وهو في حال اليأس من شدة المرض لورثه، ولو أعتقه وهو مجروح منفوذ المقاتل قبل أن يموت، لتخرج ذلك على قولين، وبالله التوفيق.(14/494)
[: كتاب العتق الثاني] [قال لرجل في غلام له هو حر إن لم آخذه بخمسة وعشرين دينارا]
(كتاب العتق الثاني) من سماع عيسى بن دينار من كتاب نقدها نقدها وسئل: عن رجل قال لرجل في غلام له هو حر- إن لم آخذه بخمسة وعشرين دينارا- إن أعطيتني إياه، فأعطاه إياه وقال: هو لك، قال: فذلك له، قال ابن القاسم -: إن شاء أخذه وإن شاء تركه ولا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أعطاه إياه وقال: هو لك، فله أن يأخذه وأن يتركه، فإن أخذه بر في يمينه- ولم يكن عليه شيء، وإن تركه، حنث ولم يلزمه شيء؛ لأنه إنما حنث بما في ملك غيره، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم» فإذا لم يلزمه النذر فيما لا يملك، فأحرى ألا يلزمه الحنث فيه، فقوله وإن شاء تركه ولا حنث عليه، معناه وإن شاء تركه ولا شيء عليه، وقد رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة: البيع لازم للمشتري، إلا أن يعفو عنه البائع، وإنما أجاب فيها على الحنث أنه لا يحنث اشتراه أو تركه، فأما البيع(14/495)
فقد لزمه، قال: المسألة المتصلة تبين هذا، وليس قوله بصحيح؛ لأنه لم يلزم نفسه الأخذ، وإنما حلف أن يأخذ، ومن حلف على شيء فله أن يبر، وأن يحنث، فليس للبائع أن يلزمه ما قد جعل لنفسه فيه الخيار، والمسألة التي بعدها لا تشبهها؛ لأنه لما قال له: بعني غلامك وهو حر، كان قد أوجب ذلك على نفسه، وفي ذلك اختلاف حسبما نذكره، وأما هذه المسألة فخارجة من الاختلاف، إذ لم يلزم نفسه الأخذ، وإنما حلف عليه، (وبالله التوفيق) .
[مسألة: قال بعني غلامك بعشرة دنانير على أنه حر]
مسألة ومن قال: بعني غلامك بعشرة دنانير على أنه حر، فقال: نعم، فقال: قد بدا لي أن ذلك لازم له.
قال محمد بن رشد: اختلف في الرجل يقول للرجل: بعني سلعتك بكذا وكذا، فيقول له: قد فعلت، فيقول: قد بدا لي، أو يقول له: خذ سلعتي بكذا وكذا، أو اشتر سلعتي بكذا وكذا، فيقول: قد فعلت، فيقول: قد بدا لي، فقيل: إن ذلك كالمساومة يدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في المساومة، وقيل: إن قوله بعني سلعتك، إيجاب منه على نفسه شراءها بمنزلة أن لو قال: قد اشتريتها، وإن قوله خذ سلعتي بكذا أو لشرائها بكذا، إيجاب منه لبيعها بمنزلة أن لو قال قد بعتها منك بكذا. فقوله: إن ذلك لازم له هو (على) أحد هذين القولين؛ لأن قوله على إنه حر، لا تأثير له في إيجاب الشراء على نفسه، تخرج به المسألة من الخلاف، وقد مضى تحصيل(14/496)
القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع أشهب وكتاب العيوب، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال للرجل بكم عبدك قال بعشرة قال هو حر إن بعتنيه بذلك]
مسألة وسئل: عن رجل قال للرجل: بكم عبدك؟ قال: بعشرة، قال: وتبيعه بعشرة، قال: نعم، قال هو حر إن بعتنيه بذلك - إن لم آخذه، فقال: قد بعتك، فقال: أحب إلي أن يشتريه وينقده ثم يستقيله.
قال محمد بن رشد: قال في هذه المسألة: أحب إلي أن يشتريه وينقده ثم يستقيله- زيادة على قوله فيها في أول رسم إن شاء أخذه، وإن شاء تركه- ولا حنث عليه، وإنما استحب له ذلك؛ لأنه إذا اشتراه بر في يمينه، وإن لم يشتره حنث، وإذا حنث احتمل أن يعتق عليه إن رضي صاحبه أن يمضيه له بقيمته، وقد قال ذلك ابن القاسم في أحد قوليه في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات في العبد بين الشريكين يتصدق أحدهما بجميع العبد على غير شريكه، فلا يبعد أن يقال بالقياس على ذلك من أعتق عبد رجل يلزمه عتقه- إن رضي صاحبه أن يأخذ منه فيه قيمته، ويحمل عليه بأن هذا هو الذي أراد العبد أن يعتق ما ليس له، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل سأل ابنا له امرأته أو أجنبيا أن يهب له غلاما ليعتقه]
مسألة وقال في رجل سأل ابنا له امرأته، أو أجنبيا من الناس في مرضه أن يهب له غلاما له على أن يعتقه يتقرب به إلى الله ففعل به ذلك على ذلك وأعتقه، ثم مات فقام أهل الدين يريدون أن(14/497)
يردوا عتقه، أن عتقه ماض، وليس لأهل الدين فيه شيء؛ لأنه ليس بمال له، وإنما أعطاه الذي أعطاه على أن يعتقه. قال عيسى: وهو في الصحة كذلك، وهو خارج من رأس المال في المرض، كل ذلك من رأس المال يكون.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه لم يتقرر له عليه ملك إذ وهبه إياه بشرط العتق وولائه له؛ لأن الولاء كان يكون له لو أعتقه عنه فكذلك إذا أعتقه هو بما اشترط عليه من عتقه، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إليه رأس ليبيعه فأعطي به عطاء فقال هو حر من مالي إن بعته ثم باعه]
مسألة وقال فيمن دفع إليه رأس ليبيعه فأعطي به عطاء، فقال: هو حر من مالي إن بعته ثم باعه، أنه لا شيء عليه، ولا يعتق عليه، ولو استعين به في شراء رأس فسام به، فقيل له بكذا وكذا، فقال: هو حر من مالي إن أخذته بهذا، ثم أخذه بذلك- والمشتري له واقف، قال: لا شيء عليه أيضا؛ لأنه إنما وجبت الصفقة لغيره.
قال محمد بن رشد: هذا على قياس قوله في المدونة في الذي يقول لعبد لا يملكه: أنت حر من مالي إنه لا يعتق عليه، وإن رضي سيده أن يبيعه منه؛ لأنه إذا قال ذلك في غير اليمين، فأحرى أن يقوله في اليمين، والقياس أن يلزمه في غير اليمين إذا قال في مالي ورضي سيده أن يبيعه منه بقيمته، وأما إذا قال: عبدي فلان حر- إن فعلت كذا وكذا- ولم يقل في مالي، فالقياس ألا يعتق عليه- وإن رضي سيده أن يبيعه منه بقيمته على ما قاله في هذه الرواية في الذي باع عبدا لغيره فحلف بحريته- إن باعه أو اشترى(14/498)
عبدا لغيره فحلف بحريته إن اشتراه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم» . ويشبه أن يعتق عليه إن رضي الذي باعه منه، أو الذي اشتراه له أن يمضيه بقيمته على أحد قولي ابن القاسم في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات في العبد بين الشريكين يتصدق أحدهما بجميعه على غير شريكه فيه أنه يكون له إن رضي شريكه أن يسلم حظه منه بقيمته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لجاريته هي حرة إن وجد بها الثمن أو أكثر]
مسألة وفيمن قال لجاريته: هي حرة إن وجدبها الثمن أو أكثر- اليوم- إن لم يبعها، فبعث بها مع رجل يبيعها له وبجارية أخرى صغيرة فباعها الرسول وأرسل إليه يستأمره في الخيار، فقال للرسول: قل له يشترط الخيار في الصغيرة فأخطأ الرسول فقال للموكل يقول لك اشترط الخيار في الكبيرة ففعل، وباع على ذلك، فقال: هو حانث، ورأيته فيها قويا لا يشك. يريد إذا كان اليوم الذي حلف عليه قد انقضى وبقي له الخيار، قال: ولو أن الموكل باعها واشترط الخيار ولم يأمره أن يشترط ذلك، ثم رجع إليه وأخبره بذلك، فقال: اذهب فأنفذ له البيع، فرجع الوكيل فلم يجد المشتري، وغابت الشمس وانقضى ذلك اليوم، قال: إن أشهد الوكيل أنه قد أنفذ له البيع، لم أر على الرجل شيئا، وإن كان لم(14/499)
يشهد على ذلك حين لم يجده وانقضى ذلك اليوم وغابت الشمس، خفت أن يحنث.
قال محمد بن رشد: قال في المسألة الأولى: إنه حانث، لذا كان اليوم الذي حلف عليه قد انقضى وبقي له الخيار مستبصرا في ذلك قويا فيه لا يشك، وقال في المسألة الثانية: إنه إن لم يشهد الوكيل على إمضاء البيع للمشتري حتى انقضى ذلك اليوم وغابت الشمس، خفت أن يحنث، والحنث في الثانية أبين منه في الأولى، وذلك أنه لم يكن من الحالف في المسألة الأولى تفريط في ترك البيع حتى انقضى النهار، بل كان مغلوبا عليه في ذلك بخطى الرسول عليه، وأما المسألة الثانية فالتفريط جاء من قبل الحالف، إذ كان قادرا على أن يشهد هو على إمضاء السلعة للمشتري بالخيار الذي اشترطه الوكيل فيها فإذا لم يفعل وصرف الأمر في ذلك إلى الوكيل، فقد فرط ووجب أن يحنث بلا شك، إلا أن قوله في المسألة الأولى إنه حانث هو المشهور في المذهب المنصوص عليه في المدونة وغيرها: أن من حلف ليفعلن فعلا لا يعذر في تركه بالغلبة على ذلك، إلا أن تكون له فيه نية (بخلاف الحالف أن لا يفعل فعلا هذا يعذر فيه بالإكراه على الفعل- وإن لم تكن له فيه نية) وقد قيل: إنه لا يعذر بالإكراه على الفعل إلا أن ينويه، وهو الذي يأتي على قول مالك الذي تقدم في رسم الأقضية من سماع أشهب، وقد مضى القول على ذلك هنالك وما يتحصل في المسألة من الاختلاف، وبالله التوفيق.(14/500)
[مسألة: يقول متى ما حدث بي حدث الموت كل مملوك لي حر]
مسألة وعن الرجل يقول: متى ما حدث بي حدث الموت، كل مملوك لي حر - وله مماليك، وكسب أيضا مماليك بعد، ثم يموت، قال: يعتقون كلهم ما كان عنده، وما أفاد إذا وسعهم الثلث.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا عم فقال في وصيته ثيابي، أو رقيقي لفلان أو رقيقي أو عبيدي، أو مماليكي، أو كل مملوك لي حر، أن الوصية تكون فيما كان له من الثياب، أو العبيد، يوم يموت، كانوا هم أو غيرهم، أو هم وغيرهم، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب الوصايا، وتكررت المسألة أيضا في مواضع من سماع أشهب منه وفي سماع عيسى في رسم باع شاة منه أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون لها الجارية المولدة الرائعة فتحلف بعتقها ألا تبيعها ولا تهبها ولا تزوجها]
مسألة وعن المرأة تكون لها الجارية المولدة الرائعة فتحلف بعتقها ألا تبيعها ولا تهبها ولا تزوجها، فتأتي الجارية السلطان فتخبره أنها لا تقدر على الصبر بغير رجل، وأنها تخاف على نفسها، قال: لا أرى أن تحنث إلا أن يكون الذي عملت برا- أنها أو أدق به ضررا، فتمنع من ذلك، فإن كان لها نية أني لا أبيعها طائعة، فباعها السلطان، فلا أرى عليها حنثا، وإن لم تكن لهانية، فلا تباع عليها.
قال محمد بن رشد: ليس على الرجل أن يزوج عبده ولا أمته إذا(14/501)
سأله واحد منهما ذلك؛ لأن قوله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ليس على الوجوب في العبيد والإماء، بدليل قوله: "والصالحين"، إذ لم يكن عاما في جميعهم كالمعتقة التي لم تحمل على الوجوب، لقوله فيها: حقا على المتقين وعلى المحسنين فلهذا لم ير في هذه الرواية أن تحنث المرأة في يمينها ألا تبيع جاريتها ولا تهبها ولا تزوجها، إلا أن يتبين أنها أرادت بذلك الضرر، فإن تبين ذلك، منعت منه كما قال: بأن تباع عليها إذا كانت لها نية أنها إنما حلفت ألا تبيعها طائعة يريد وتصدق في ذلك مع يمينها على ما قاله في أخر سماع أشهب من كتاب الإيمان بالطلاق: وإن لم تكن لها نية، أعتقت عليها ولم تبع لوجوب العتق عليها فيها ببيعها. وهذا معنى قوله: وإن لم تكن لها نية فلا تباع عليها وتعتق. وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها إتباعا لظاهر قوله فيها ألا يبيع السلطان الجارية إلا باجتماع شيئين أن يعلم أنها قصدت الضرر، وأن يعلم أنها أرادت: لا أبيع طائعة، فحينئذ يبيع، وإن انفرد أحدهما، لم تبع عليها: وليس ذلك بصحيح؛ لأن النية لا تعلم إلا من قبلها، فإذا تبين إرادتها الضرر (بمنعها) حنثت وأعتقت عليها، إلا أن تكون لها نية تدعيها فتصدق فيها وتباع عليها، وهذا الذي قلناه من أنه ليس على الرجل أن يزوج عبده ولا أمته إذا سأله واحد منهما ذلك، هو نص ما في رسم شك من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وبالله التوفيق.(14/502)
[مسألة: قال اشهدوا أن غلامي فلان حر بخمسين دينارا]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل قال: اشهدوا أن غلامي فلان حر بخمسين دينارا، وهو حر إن رضي أن يبيعه بخمسين دينارا، فقال فلان قد رضيت، فقال: هو حر وهو بيع، فإن قال: لا أرضى وقد بدا لي، قال: ليس ذلك له وهو حر، قال: فإن قال صاحبه: قد بدا لي بعد ما قال قد رضيت، قال: ليس ذلك له قد باع، قال: وإنما الذي قال مالك الذي يقول: اشهدوا أن غلامي فلان حر من مالي، إن فعلت كذا وكذا- فيفعله، قال: ليس عليه شيء، قال ابن القاسم: والذي يقول لرجل: تبيعني غلامك بخمسين دينارا وهو حر على الإيجاب، فقال: نعم، فقال: قد بدا لي، فقال: ليس ذلك له وهو حر، وهو بمنزلة ما لو قال: غلامي فلان لي بخمسين دينارا إن رضي وهو حر فرضي، فالبيع له لازم، ولم تزده الحرية إلا قوة.
قال محمد بن رشد: إنما الذي قال: اشهدوا أن غلام فلان لي بخمسين دينارا، وهو حر إن رضي فلان أن يبيعه بذلك، فهو كما قال من أنه حر ولا رجوع لواحد منهما فيما رضي به؛ لأنه بيع قد انبرم بينهما وتم بما أشهد به المبتاع على نفسه من التزامه العبد بالخمسين، وإمضاء البائع له البيع فيه بذلك لقوله: قد رضيت، وإذا التزم المبتاع الشراء لزمته الحرية، وأما قول مالك في الذي يقول: اشهدوا أن غلام فلان حر من مالي، فإن فعلت كذا وكذا، فقد مضى الكلام فيه فوق هذا في هذا الرسم وما يدخله من الاختلاف، فلا معنى لإعادته؟ وأما الذي يقول لرجل: تبيعني غلامك(14/503)
بخمسين دينارا- وهو حر على الإيجاب، فقال: نعم، فقوله فيه: إن ذلك يلزمه، بمنزلة ما لو قال غلام فلان لي بخمسين دينارا- إن رضي- صحيح، وإنما كان بمنزلته، من أجل قوله على الإيجاب، ولو قال: تبيعني غلامك بخمسين دينارا أو هو حر- ولم يقل على الإيجاب، فقال له: نعم، لما كان بمنزلة قوله: غلام فلان لي بخمسين دينارا؛ لأن قوله: غلام فلان لي بخمسين دينارا إن رضي، إيجاب منه على نفسه شراءه بخمسين دينارا. وقوله: تبيعني غلامك بخمسين دينارا مساومة، يختلف إن قال له البائع: قد بعتك إياه بالخمسين، هل يلزمه الشراء أم لا؟ وقد مضى بيان هذا في أول الرسم، وقد مضى تحصيل القول فيه في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يدفع إلى رجل مائة دينار ويقول له اشترني لنفسي من سيدي]
مسألة وسألته: عن العبد يدفع إلى رجل مائة دينار، ويقول له: اشترني لنفسي من سيدي، فيشتريه لنفس العبد، ويستثني ماله، قال: يكون حرا ولا يرجع السيد البائع على العبد، ولا على المشتري بشيء، ويكون ولاؤه للبائع، ومن سماع أصبغ بن الفرج قال ابن القاسم: ولا ينظر في هذا أعتقه بعد الاشتراء أو لم يعتقه، ليس للمبتاع في هذا عتق، قال عيسى بن دينار قلت: فلو كان قال: اشترني ولم يقل لنفسي، فاشتراه المشتري لنفسه وليس للعبد واستثنى ماله، قال: يكون عبدا له ولا يرجع البائع على المشتري بشيء، فإن أعتقه المشتري كان ولاؤه له؛ لأنه اشتراه بمال قد كان استثناه، قال عيسى: قلت لابن القاسم: فلو لم يستثن ماله فعتقه المشتري ثم عثر(14/504)
على ذلك، قال مالك: يرجع البائع فيأخذ من المشتري مائة دينار أخرى، ويكون ولاؤه للمبتاع، فإن لم يكن عنده شيء، بيع من العبد المعتق قدر المائة، فإن فضل من رقبته فضل عن المائة، عتق منه ما بقي، وإن نقصت رقبته عن المائة، كان ما نقض دينا يتبع به المشتري، وإن قال: اشترني بهذه المائة لنفسك، فاشتراه ولم يستثن ماله، كانت المائة للسيد واتبعه بمائة أخرى، قال أصبغ: وإن اختلف المشتري والعبد ولم يستثن ماله، فقال العبد: أعطيته للمشتري لنفسي، وقال المشتري: أعطاني اشتريه لنفسي، فالقول قول المشتري؛ لأنه ضامن غارم، وأن الولاء قد وجب له والشراء قد عرف والعبد مدع، وكذلك إن كان استثنى ماله أيضا، فالقول. قول المستثني بظاهر الاشتراء حتى يعرف خلافه ببينة للعبد على معاملته على ذلك، أو على إقرار من المشتري بذلك قبل اشترائه، قال أصبغ: وإن اختلف السيد والمشتري إذا لم يستثن ماله فتداعيا، فقال السيد: إنما أعطيتني من مال عبدي، ولم يعرف كيف كان ذلك، فأنكر المشتري فالقول قول المشتري؛ لأن السيد مدع عليه للمائة ليغرمه إياه ثانية، وعلى المشتري اليمين، فإن حلف برئ وإن نكل حلف السيد واستحق، ورد بذلك عتق العبد حتى يباع له فيها إذ لم يكن له مال غيره، عرفت بينهما مخالطة وملابسة قبل ذلك، أو لم تعرف؛ لأن هذا سبب قد أوجب اليمين عليه.
قال محمد بن رشد: تلخيص قول ابن القاسم في هذه المسألة أنه إن اشترى العبد للعبد بالمائة التي دفعها إليه فاستثنى ماله، كان حرا ولم يكن للسيد في ذلك كلام، وإن لم يستثن ماله، (كان للسيد إذا علم أن يأخذ عبده وتكون المائة له، وإن اشتراه المشتري لنفسه لا للعبد، فاستثنى ماله، كان العبد له، ولم يكن للسيد في ذلك كلام، وإن لم يستثن ماله، كان للسيد،(14/505)
إذا علم أن يرجع عليه بالمائة- ولا اعتراض في ذلك- إذا لم يستثن ماله) اشتراه لنفسه أو للعبد، وأما إن استثنى ماله ففي ذلك نظر من أجل أن المشتري علم بالمائة التي للعبد وجهل ذلك السيد، فمن حجته أن يقول لو علمت أن له هذه المائة لما بعته بماله، فيكون له أن ينقض البيع ويأخذ عبده على ما قالوا في الصبرة إذا علم المشتري كيلها وجهل ذلك البائع- قال ذلك ابن أبي زيد، ووجه قول ابن القاسم، أن المال لم يقع عليه حصة من الثمن لأنه ملغى، فلكلا القولين وجه، ومرض الأصيلي هذا الشراء من وجه أخر، وهو أن وكالته العبد على شرائه من سيده لا تجوز إلا بإذن سيده، فإن اشتراء العبد- على قياس قوله- للعبد بالمائة التي دفعها إليه، واستثنى ماله- ولم يعلم السيد أنه إنما يشتريه للعبد، كان للسيد ألا يجيز ذلك، وإن أعلمه بذلك، لم يكن له فيه كلام؛ لأنه هو البائع للعبد من نفسه، وأما إذا اشتراه بالمائة لنفسه لا للعبد، فلا كلام في ذلك للسيد على ما ذهب إليه الأصيلي، خلاف ما ذهب إليه ابن أبي زيد، وقول ابن أبي زيد هو الصحيح في المسألة، وأما قول أصبغ: إنه إن اختلف المشتري والعبد- ولم يستثن ماله، فقال العبد: أعطيته يشتريني لنفسي، وقال المشتري: أعطاني اشتريه لنفسي، فالقول قول المشتري؛ لأنه ضامن غارم، والولاء قد وجب له، فهو الصحيح، إلا أنه لم يبين أن كان يكون القول قوله بيمين أو غير يمين، والذي يأتي في ذلك على أصولهم أنه إن كان المشتري قد أعتقه، كان القول قوله بغير يمين؛ لأن العبد يريد إرفاق نفسه لسيده بما يدعيه من أنه أعطاه المائة ليشتريه بها لنفسه؟ ولو أقر له المشتري بذلك بعد أن أعتقه، لوجب ألا(14/506)
يصدق؛ لأنه يريد إرفاق العبد، فوجب أن يكون القول قوله أنه اشتراه لنفسه دون يمين، وأما إن كان لم يعتقه، فالقول قول المشتري مع يمينه، فإن نكل عن اليمين، حلف العبد وكان القول قوله ورجع العبد إلى سيده، فإن نكل العبد عن اليمين كان للسيد أن يحلف ويأخذ عبده، فإن نكل عن اليمين أيضا بقي العبد للمشتري، وأما قوله وكذلك إن كان قد استثنى ماله أيضا، فالقول قول المشتري، فمعناه دون يمين؛ لأن العبد في دعواه إنما أعطاه المائة ليشتريه بها لنفسه لا للمشتري، مدع للعتق، فلا يمين له عليه في ذلك، إلا أن يأتي بشاهد واحد أنه عامله على ذلك، ولو كان المشتري قد أعتق العبد، لكان الولاء له، إلا أن يقيم سيده البينة على أن العبد إنما أعطاه المائة على أن يشتريه بها لنفسه لا للمشتري، ولو أقام على ذلك شاهدا واحدا لم يحلف معه؛ لأن الولاء لا يستحق باليمين مع الشاهد، ولو مات العبد بعد أن مات المشتري ولا ولد له عصبة لكان للسيد أن يحلف مع الشاهد الواحد ويستحق المال على مذهب ابن القاسم، خلاف قول أشهب؛ لأنه لا يستحق المال إلا بعد ثبات الولاء، وأما قول أصبغ: إنه إن اختلف السيد والمشتري فتداعيا في المائة، زعم السيد أنه أعطاه إياها من مال عبده فالقول قول المشتري، فهو بين لا إشكال فيه ولا اختلاف، وأما قوله: إنه إن نكل عن اليمين وكان ذلك بعد أن أعتق العبد ولا مال له غير العبد، أن السيد يحلف ويرد بذلك عتق العبد، فهو قول ضعيف ينحو إلى قول مالك في موطئه، والذي روى ابن القاسم عن مالك أنه لا يرد عتق العبد بالنكول هو القياس؛ لأنه يتهم على أن ينكل عن اليمين ليرد عتق العبد بيمين السيد، ألا ترى أنه لو أقر(14/507)
له بما ادعاه من أنه دفع إليه المائة من مال عبده، لما صح أن يرد بذلك عتق العبد كما لو أعتق رجل عبده ولا مال له غيره، ثم أقر لرجل بدين لم يرد عتقه بإقراره، وأما لو اختلف السيد والمشتري وقد استثنى ماله، لكان القول قول المشتري دون يمين، كان المشتري قد أعتق العبد أو لم يعتقه؛ لأنه إن كان قد أعتقه فهو مدع لولائه، وإن كان لم يعتقه فهو مدع لحريته، ولا يمين في واحد من الوجهين، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون بين الرجلين فيأذن له أحدهما بعتق عبد له]
مسألة وسألت ابن القاسم في العبد يكون بين الرجلين فيأذن له أحدهما بعتق عبد له، فيعتقه فيغير ذلك الآخر ويأباه، قال يرد عتقه، ولا يجوز إلا باجتماع منهما على الآخر، قلت: ولا يقوم حظ شريكه على الذي أذن له، قال: لا يقوم عليه ويرد عتقه، قلت لعيسى أرأيت إن حلف أحدهما بعتق عبد من عبيد عبيدهما فحنث أيقوم عليه أم لا؟ قال: أرى أن يقوم عليه، قيل: وكذلك لو ابتدأ عتقه من غير حنث وقع عليه، قال: يقوم عليه أيضا، قيل: وكيف تؤخذ القيمة منه أقيمته كلها أم نصف القيمة، قال: ذلك إلى شريكه إن شاء أخذ نصف القيمة، وإن شاء أخذ القيمة كلها وأقرت في يد العبد؛ لأنه لا ينتزع أحدهما ماله دون صاحبه.
قال محمد بن رشد: قول عيسى ليس بخلاف لقول ابن القاسم، والفرق بين أن يأذن له في عتق عبده فيعتقه، وبين أن يعتقه هو أو يحلف بعتقه فيحنث هو، أنه إذا أذن له في عتقه فالعتق في حظه منه، إنما هو من العبد والثواب له، ألا ترى الولاء يكون له إذا لم يعلم الشريك بذلك، أو علم(14/508)
فلم يرده حتى عتق؛ لأنه أذن له في عتقه في حال لا يجوز له فيه انتزاع ماله على الأصل الذي تقدم في رسم من سماع ابن القاسم، وإذا أعتقه هو أو حنث بعتقه، فالعتق منه لا من العبد، والثواب له لا للعبد، وفي رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ مسألة كان الشيوخ يحملونها على الخلاف لهذه، وليست بخلاف لها؛ لأنها مسألة أخرى، تلك إنما الشركة فيها في العبد المعتق لا في العبد المعتق، وهذه الشركة فيها في العبد المعتق، فقف على الفرق بين المسألتين فإنه بين، ولو أعتق نصف عبده بإذن أحد الشريكين، فأجاز ذلك الشريك الآخر، لتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أنه يعتق جميعه عليهما، والثاني: أنه لا يعتق منه إلا النصف الذي أعتق على الذي أعتقه- على اختلافهم في الدار بين الرجلين يبيع أحدهما نصفها على الإشاعة، هل يقع البيع على نصف حظه ونصف حظ شريكه، أو على النصف الذي له؟ ولو أعتق نصفه بإذنهما جميعا، لعتق جميعه، كما لو أعتق عبد لرجل نصف عبده، بإذن سيده، لعتق جميعه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعتق عبد مدبره أو أم ولده عند الموت]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يعتق عبد مدبره أو أم ولده عند الموت، هل يجوز عتقه؟ قال ابن القاسم: إن كان له مال، أخرج قيمته له من ثلث ماله ولم يرد عتقه، وإن لم يكن له رد عتقه، قلت: ولم يجوز عتقه وإن كان له مال وهو في حال لا يجوز له أخذ مال واحد منهما؟ قال لي: أرأيت الرجل أيجوز له أن يأخذ مال ابنه الذي يلي في حياته أو عند موته، أو يجوز له أن يعتق عبده إذا لم يكن له مال، قلت لا، قال: فلو أن رجلا أعتق عبد ابنه الذي يليه عند(14/509)
الموت، أما كان يجوز عتقه إذا كان له مال ويعطي الابن قيمة العبد من الثلث؟ قلت: بلى، قال: فالمدبرة وأم الولد أقوى في أن يجوز العتق عليهما إذا كان له مال، ويعطيان القيمة؛ لأن المدبرة وأم الولد قد يجوز له يوما ما أن يأخذ اموالهما، وأما مال الولد، فلا يجوز له أخذه أبدا إلا على وجه الفرض له فيه بالمعروف إذا احتاج، ولأن المدبر وأم الولد قد قال جل الناس وعامة أهل المشرق ومن مضى من فقهائهم: النخعي وغيره- أنهما لا يتبعهما أموالهما، وإنما يعتقان بأبدانهما، فهو في مال المدبر، وأم الولد، أجوز منه في مال ابنه، قال عيسى وقال أشهب يرد عتقه فيما أعتق من رقيقهما، وإن كان له مال.
قال محمد بن رشد: لسحنون في كتاب ابنه مثل قول أشهب: أنه لا يجوز عتقه عند موته لعبيدهما، قال: وكذلك إن أوصى بعتقهم؛ لأنه لا ينتزع حينئذ أموالهم، فإن قيل يعطون أثمانهم من ثلثه، قيل: هذا غلط؛ لأن الميت لم يرد هذا، وقول أشهب وسحنون هو القياس على المذهب، وقول ابن القاسم استحسان مراعاة للاختلاف- حسبما ذكره، وبالله التوفيق.
[: يعتق العبد وعليه دين]
- ومن كتاب العرية- وسألته: عن الرجل يعتق العبد- وعليه دين إن بيع العبد كله- كان فيه أكثر من دينهم، وإن بيع بعضه لم يكن فيه قضاء الدين إلا أن يباع كله؛ لأنه إذا دخله شعبة من حرية، نقص ذلك من ثمنه،(14/510)
قال: إذا لم يكن فيما بيع منه قضاء الدين، وليس يكون فيه قضاء الدين إلا أن يباع كله، بيع كله وجعل ما بقي بعد الدين في حرية، وذلك رأيي أن يجعل ما بقي منه في حرية، وقد سمعت عن مالك أنه ليس عليه ذلك أن يجعله في رقبة بواجب، ولكن أستحب ذلك وأستحسنه.
وسئل عنها سحنون فقال: قولي في هذه المسألة كقولي في رجل دبر عبده في مرضه ثم مات وعليه دين ولا مال له غيره، والذي عليه من الدين أقل من قيمته، يكون ربعه أو ثلثه، فإن بيع ذلك الجزء منه لم يبع إلا بأقل من قيمته، فالذي آخذ به فيها- وهو الحق إن شاء الله- أن ينظر إلى ما على الميت من الدين، فإن كان عشرة أو عشرين، والعبد قيمته مائة دينار إذا بيع كله، فإنه يوقف العبد ويقال: من يشتري من هذا العبد بما على صاحبه من الدين- وهو دينار أو عشرة، أو ما كان من الدين، فإنه الآن يقول: من يريد أن يشتري أنا آخذ ربعه بعشرة، ويقول آخر: أنا آخذ خمسه بعشرة، ويقول آخر: أنا آخذ سدسه بعشرة، فإذا وقف على شيء لا ينقص منه، بيع منه حينئذ، هكذا يكون أرفع لثمنه، وأزيد لقيمة ما بيع منه، وأعدل من أن يقال من يشتري ربع هذا العبد، أو خمسه أو جزءا منه؛ لأن ذلك يكون أكثر لثمنه بجزء هذا- على ما قلت لك، فإنه قول كثير من أصحاب مالك.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا هو قول ابن القاسم بعينه، وإنما قلب السوم، فابن القاسم يقول: إذا كان عليه عشرة دنانير دينا، من يشتري ربع هذا الغلام بعشرة، فإن لم يجد مشتريا، قال: من يشتري ثلثه بعشرة، ثم يزيد في الجزء حتى يجد مشتريا، وسحنون يقول: كم تشترون(14/511)
من هذا الغلام بعشرة دنانير؟ فيقول مشتر ثلثه، وآخر ربعه، وآخر خمسه، حتى يقف على حد مسمى لا يجد من ينقص منه، فكلا القولين واحد في المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأمة تكون بين الرجلين ولها ولد هو بينهما أيضا]
مسألة وسألته: عن الأمة تكون بين الرجلين ولها ولد هو بينهما أيضا، فيعتق أحدهما نصيبه من الجارية ويستلحق الآخر الولد ويدعي أنه ولده، قال: يلحق به الولد ويكون عليه نصف قيمته لصاحبه، ويعتق نصيبه في الأمة.
قال محمد بن رشد في كتاب ابن حبيب: إنه لا قيمة عليه في الولد ولا في الأمة؛ لأن إقراره بالولد لو علم منه قبل العتق، لم يكن عليه في الولد قيمة، وإنما كانت تكون عليه نصف قيمة الأمة، فلما لم يعلم ذلك منه إلا بعد العتق سقطت عنه القيمة في الأمة، وهو أظهر من قول ابن القاسم؛ لأن استلحاق الولد يرفع عنه التهمة، فوجب أن يكون استلحاقه للولد بمنزلة أن لو أقر أنه وطئها فجاءت بولد لا يلزمه إلا نصف قيمة الأمة، ووجه قول ابن القاسم، أنه لم ير استلحاقه له يرفع التهمة عنه فيما يلزمه من نصف قيمته لو أعتقه، فعلى قياس قوله لو استلحق الولد قبل العتق، لوجب أن يكون عليه الأكثر من نصف قيمة الأمة، أو نصف قيمة الولد، فلا يلزم ابن القاسم على هذا التعليل ما ألزمه ابن حبيب من قوله؛ لأن إقراره بأن الولد له لو علم قبل العتق لم يكن عليه في الولد قيمة، وإنما كانت تكون عليه نصف قيمة الأمة، إذ لا يوافقه على أصله في أن استلحاقه للولد يرفع التهمة عنه، وسيأتي في رسم إن خرجت بعد هذا عكس هذه المسألة- إذا وطئ أحدهما(14/512)
الجارية فولدت، فقال الآخر: قد كنت أعتقتها قبل ذلك، ونتكلم عليها إذا وصلنا إليها إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعتق نصف عبده والعبد خالص له]
مسألة وسألته عن الرجل يعتق نصف عبده، والعبد خالص له، فيجهل أمره، فلا يستتم عتقه عليه؛ ثم يقول له بعد ذلك أعطني كذا وكذا، وأتم لك عتقك ففعل العبد؛ ثم يعلم العبد بأنه لم يكن عليه غرم شيء، وأن استتمام عتقه كان على سيده واجبا، وقد أفلس السيد، وقام عليه غرماؤه، أو مات وهو مليء أو معدم؛ قال: أرى أن يرجع عليه بما دفع إليه إن مات فيما ترك، وإن فلس دخل مع الغرماء؛ وإن كان مليئا غرم له ذلك نقدا، وإن كان عديما، أتبعه به دينا.
قال محمد بن رشد: هذا أصل قد اختلف فيه: من دفع ما لا يجب عليه دفعُه جاهلا، ثم أراد الرجوع فيه؛ من ذلك الذي يثيب على الصدقة، ثم يريد الرجوع في الثواب، ويدعي الجهل، ولها نظائر كثيرة؛ في المدونة والعتبية، قد تكلمنا عليها في غير ما موضع، وأشبعنا القول فيه في رسم أوصى، من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات، وقلنا هناك: إنها مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه ليس له أن يرجع فيما أنفذ بحال، وإن علم أنه جهل؛ إذ لا عذر له في الجهل. والثاني: أن له أن يرجع في ذلك إن ادعى الجهل، وكان يشبه ما ادعاه مع يمينه على ذلك، وقيل بغير يمين. والثالث: أنه ليس له أن يرجع في ذلك، إلا أن يعلم أنه جهل، بدليل يقيمه على ذلك، وهو قول سحنون في نوازله، من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.(14/513)
[مسألة: يحلف بعتق غلامه في دين عليه أن يقضيه إلى شهر]
مسألة وسئل عن الرجل يحلف بعتق غلامه في دين عليه أن يقضيه إلى شهر، فلم يقضه، فأعتق السلطان عليه؛ أيتبعه ماله أم لا؟ وعمن مثل بعبده، هل يتبعه ماله أم لا؟ قال ابن القاسم: قال مالك: كلاهما يعتق بماله، ورواها أشهب في كتاب العتق أيضا عن مالك.
قال محمد بن رشد: العبد يملك على مذهب مالك، فماله له ما لم ينتزعه منه سيده، أو يبعه؛ لأن بيعه إياه انتزاع منه لماله بالسنة الثابتة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من قوله: «من باع عبدا، وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» .
فإذا أعتقه ولم يستثن ماله، تبعه على ما مضى من السنة في ذلك؛ إذ ليس له أن ينتزعه منه وهو حر بعد أن أعتقه، وكذلك إذا حنث فيه بالعتق يتبعه ماله، كما قال في الرواية؛ إذ ليس له أن ينتزعه منه بعد أن حنث فيه بالعتق، فصار حرا وإن كان ذلك قبل أن يعتقه عليه السلطان؛ لأن أحكامه أحكام حر من يوم الحنث، لا من يوم الحكم، وكذلك الذي يمثل بعبده فيعتقه عليه السلطان يتبعه ماله كما قال في الرواية؛ إذ ليس له أن ينتزعه منه وهو حر بعتق السلطان عليه إياه بالمثلة، ولو انتزعه بعد أن مثل به قبل أن يعتقه عليه السلطان، لجاز له انتزاعه منه؛ إذ ليس هو حرا بنفس المثلة، وأحكامه أحكام عبد حتى يعتق عليه، إلا أن ينتزعه منه بعد أن أشرف السلطان على الحكم عليه بالعتق، فلا يكون ذلك له، قاله أصبغ فيما حكاه عنه ابن حبيب، وبالله التوفيق.(14/514)
[مسألة: العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا]
مسألة قال عيسى: سئل ابن القاسم عن العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا، فيعتق بإذن الذي له فيه الرق، أو بغير إذنه؛ فقال: إذا أعتقه بغير إذنه، فإنه يرد عتقه إن شاء؛ وأما إن أعتق بإذنه فولاء ما أعتق بينه وبين الذي أعتق النصف، فيكون ولاء ما أعتق هذا العبد الذي نصفه حر بين الذي له فيه الرق، وبين الذي أعتق النصف، ما كان الذي نصفه حر فيه الرق؛ وإن مات على ذلك وفيه الرق، فهو بينهما أيضا؛ فإن أعتق العبد الذي نصفه حر يوما ما، رجع إليه ولاء ما أعتق؛ لأنه مما لا يجوز للذي فيه الرق انتزاع ماله، فكل من لا يجوز لسيده انتزاع ماله، فما أعتق بإذنه فولاؤه يرجع إليه إذا أعتق؛ وقد قال في سماع يحيى، من كتاب الصلاة: إن ميراث ما أعتق هذا العبد الذي نصفه حر بإذن الذي له فيه الرق، للذي تمسك بالرق خالصا، وهو أحق بميراث مواليه من الشريك المعتق الأول.
قال محمد بن رشد: رواية يحيى أصح في النظر؛ لأنه لما لم يصح أن يرث هذا العبد المعتق سيده الذي أعتقه، من أجل أن بعضه عبد؛ وجب أن يكون ميراثه لمن يرث سيده الذي أعتقه، وهو الذي له بعض رقبته؛ لأن العبد إذا كان بعضه حرا، وبعضه رقيقا، فميراثه للذي له فيه الرق، فكما يرثه بالرق الذي له فيه دون الذي أعتق بعضه، فكذلك يرث مولاه بالرق الذي له فيه دون الذي أعتق بعضه؛ ووجه رواية عيسى أنه لما كان الرجل يرث معتق عبده، وجب إذا كان له بعض عبد ألا يرث من معتقه إلا بقدر ما له من(14/515)
رقبته؛ ولما كان الباقي من ميراثه لا يصح أن يرثه الذي أعتقه من أجل ما فيه من الرق، جعله للذي أعتق بقيته، وليس ذلك ببين، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لعبده يوم أعتق فأنت حر فأعتق العبد في ملكه]
مسألة قال عيسى: وسئل عن عبد قال لعبده: يوم أعتق فأنت حر، فأعتق العبد في ملكه؟ قال: يعتق عليه، قيل له: فإن قال: اخدمني عشر سنين، وأنت حر فعتق؛ هل يلزمه ما جعل له؟ قال: نعم يلزمه، قلت: فلمن يكون ولاؤهما، وإنما عتقا بما عقد لهما في ملك سيده؛ قال: ولاؤهما له، وإنما هما بمنزلة ما أعتق، فلم يعلم به سيدهما حتى أعتقه، ولم يستثن ماله فولاؤه له؛ وإنما هذا إذا صنع ذلك بغير إذن سيده، وأما إن كان ذلك بإذن سيده فولاؤهما لسيده، وإن لم يعتقا إلا بعد عتق العبد الذي جعل لهما ذلك؛ قلت: فإن كانت جارية ففعل ذلك بإذن سيده، قال: أما الجارية فإذا أذن له سيده، فليس للعبد ولا لسيده أن يطأها، ولا أن يبيعها؛ لأنها معتقة إلى أجل؛ وأما الذي قال لجاريته: يوم أعتق فأنت حرة، فهذا يطأ، ويبيع إن شاء، قال ابن نافع: الولاء في مثل جميع هذه للسيد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسائل بين، والأصل فيها أن من أعتق عبده وهو عبد، أو فيه بقية من رق، فلم يعلم بذلك سيده حتى عتق، فالولاء له؛ وإن علم فأجازه، أو كان العتق بإذنه؛ أفترى في ذلك من له أن ينتزع ماله، ممن ليس له ذلك؟ وقد مضى القول على هذا المعنى مجودا في رسم من سماع ابن القاسم، والله الموفق.(14/516)
[مسألة: تحضره الوفاة فيدخل عليه أحد ولديه فيشهده أنه أعتق فلانا]
مسألة قال عيسى بن دينار: ثم سألت ابن القاسم عن الذي تحضره الوفاة وله ولدان، فيدخل عليه أحدهما، فيقول له أبوه: اشهد أني قد أعتقت غلامي فلانا، ثم يخرج فيدخل عليه الآخر فيسأله أن يوصي، فيقول له: اشهد أن رأسا من رقيقي حر، ولم يترك إلا ثلاثة أرؤس، ويكون ماله كثيرا، أو لا يكون له مال غيرهم، قال ابن القاسم: لا أرى لواحد منهما شهادة يقطع بها، ويؤمر للذي شهد على عبد بعينه أن يشتري بحصته منه رقبة، إن باعه أشراكه، وإن أمسكوا فلا يستخدم حصته منه؛ فإن صار له كله، عتق عليه، ويؤمر الذي شهد على رأس منهم في ثلث قيمة أولئك الأرؤس الثلاث مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أرى لواحد منهما شهادة؛ معناه أنها لا تلفق؛ لأنها مختلفة؛ وإذا لم تلفق بطلت؛ إذ لا يثبت العتق بشهادة واحد؛ وقد قيل: إنه يقرع بين العبيد بشهادة الذي شهد أنه أعتق رأسا من رقيقه، ولم يعينه، فإن خرجت القرعة على العبد الذي سماه الشاهد الآخر، لفقت الشهادة؛ لأنها قد اتفقت فيما يوجبه الحكم؛ وقد مضى هذا في نوازل سحنون، من كتاب الوصايا، ومضى في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب الشهادات، تحصيل القول فيما تلفق فيه الشهادات مما لا تلفق فيه.
وقوله: إذا بطلت الشهادة؛ أن الشاهد يؤمر أن يشتري بحصته من العبد الذي شهد بعتقه رقبة يعتقها إن باعه أشراكه، فإن لم يبيعوا وأمسكوا، فلا يستخدم حصته(14/517)
منه؛ معناه إذا لم يجد من يشتري منه حصته منه على انفراد، ولو وجد من يشتريها منه إذا لم يرد أشراكه البيع، لاستحب له أيضا أن يبيعها ويجعل ذلك في عتق، وكذلك قال في المدونة وغيرها.
وقوله: إنه إن صار له كله عتق عليه صحيح؛ لأنه إنما منع أن تعتق عليه حصته منه من أجل الضرر الداخل في ذلك على أشراكه؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة لا يراعي هذا الضرر، فرأى أن تعتق عليه حصته منه، قاله في أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب الشهادات، ومثله للمغيرة في نوازل سحنون منه؛ ويتخرج في المسألة قول ثالث، وهو أن يعتق عليه حظه منه، ويقوم عليه حظ أشراكه؛ لأنه يتهم أن يكون أراد أن يعتق حظه، ولا يقوم عليه حظ أشراكه.
وقد مضى بيان ذلك في أول رسم، من سماع ابن القاسم، من الكتاب المذكور؛ فإن رجع عما شهد به بعد أن ملكه كله، لم يعتق عليه عند أشهب، وهو قول غيره في العتق الثاني من المدونة؛ وما يلزم الذي شهد على عتق عبد بعينه من عتقه عليه إن ملكه كله ويؤمر به من أن يجعل ثمن حصته منه في عبد يعتقه، يلزم مثله الذي شهد على رأس منهم بغير عينه في ثلث قيمة أولئك الأرؤس، وذلك بأن يقوموا، فإن كانت قيمتهم سواء، أسهم بينهم على أيهم تخرج وصية الميت، فالذي يخرج السهم عليه يؤمر أن يبيع حصته منه فيجعله في رقبة، وإن ملكه كله عتق عليه، وذلك إن حمله الثلث؛ وإن لم يحمله الثلث، فيكون هذا الحكم فيما حمله منه، إلا أن تكون الشهادة عليه بالعتق في الصحة، فلا ينظر في ذلك إلى الثلث، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إن دخلت هذه الدار فجاريتي حرة]
مسألة وأما الذي قال: إن دخلت هذه الدار فجاريتي حرة، فولدت(14/518)
قبل أن يدخلها، ثم دخلها ولها ولد، فإنها تعتق بولدها كذلك؛ قال لي مالك عن الاستثقال للعتق.
قال محمد بن رشد: القياس ألا يدخل والدها معها في العتق؛ لأنه فيها على بر، وله أن يطأ ويبيع، إلا أن قول مالك قد اختلف في ذلك، مرة كان يقول يعتق ولدها، ومرة كان يقول تعتق بغير ولدها؛ ولكن الذي ثبت عليه واستحسنه على كره أن تعتق هي وولدها على ما قاله في هذه الرواية، وما تقدم في رسم باع غلاما، من سماع ابن القاسم، وما يأتي في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى، وفي رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ؛ وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم باع غلاما المذكور، من سماع ابن القاسم، وفي رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب الوصايا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: بتلت عتق نصف جارية لها وهي صحيحة وكاتبت نصفها]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يسأل عن امرأة بتلت عتق نصف جارية لها، وهي صحيحة، وكاتبت نصفها، ولم تعلم بذلك حتى ماتت؛ قال: لا يعتق منها إلا النصف التي أعتقت، وتمضي على الكتابة بالنصف، وسئل عن الرجل دبر نصف عبده، وكاتب نصفه، فقال: إن علم به قبل الموت كان مدبرا كله، وإن لم يعلم به حتى مات، عتق نصفه في ثلث الميت، ومضى على الكتابة في نصفه؛ قال: ولو لم يعثر على ذلك إلا وهو مريض، فإنهما يعتقان جميعا في ثلث الميت؛ فإن خرجا سقطت الكتابة، وإن لم يخرجا عتق منهما ما أعتق، وكان ما بقي منهما على الكتابة.
قال محمد بن رشد: سقطت مسألة التدبير في بعض الروايات،(14/519)
ولا تصح المسألة إلا بثبوتها؛ لأن قوله قال: ولو لم يعثر على ذلك إلا وهو مريض إلى آخر المسألة، إنما هو تمام مسألة التدبير، ولا يصح أن تعاد إلى مسألة المرأة فتجعل من تمامها، لاستحالة ذلك في اللفظ؛ إذ هو بلفظ التذكير وخطابه في المعنى؛ إذ لا يصح أن يكون في ثلثها ما أعتقه في صحتها؛ وقد أصلح من الشيوخ من سقطت من كتابه مسألة التدبير المسألة بأن ردها على التأنيث فطرح قوله، وهو مريض إلى آخر المسألة، وجعل مكانه، وهي مريضة، فإنه يعتق جميعها في ثلث الميت إن حملها، وسقطت الكتابة؛ وإن لم يحملها عتق منها ما عتق من مبلغ الثلث، وكان ما بقي منها على الكتابة، وذلك خطأ؛ لأن الواجب إذا أعتقت نصف جارية لها، وهي صحيحة فلم يعثر على ذلك حتى مرضت؛ أن يكون ذلك بمنزلة إذا لم يعثر على ذلك حتى ماتت، يعتق منها النصف الذي أعتقت ويمضي على الكتابة في النصف على القول بأن من أعتق نصف عبد له وهو صحيح، فلم يعثر على ذلك حتى مرض، لا يعتق عليه باقيه في الثلث إلا بعد الموت؛ وعلى القول بأن من أعتق نصف عبد له في صحته، فلم يعثر على ذلك حتى مرض، يعتق عليه باقيه في الثلث؛ يعتق عليها النصف الذي أعتقت في صحتها؛ فإن ماتت من مرضها، والثلث يحمل النصف الذي كاتبت، أعتق في ثلثها، وسقطت عنه الكتابة؛ وإن لم يحمل الثلث جميعه، أعتق منه ما حمل ثلثها، وسقط عنه من الكتابة بقدر ذلك؛ وكان ما(14/520)
بقي منه على الكتابة؛ وقد قال بعض من ذهب إلى تصحيح هذا الإصلاح، معنى ذلك أنها كانت ذات زوج؛ ولذلك قال: إن النصف الذي أعتقت في صحتها يكون في ثلثها، وذلك أيضا خطأ من التأويل؛ لأنه إن كان ثلث مالها لا يحمله فأجازه الزوج، وجب أن يجوز وتكون من رأس المال؛ وإن لم يجزه، وجب أن يبطل كله، ولا يجوز منه قدر الثلث؛ وهذا أمر متفق عليه في العتق؛ وأما في غير العتق، فقد قيل: إن الزوج إذا لم يجزه جاز الثلث، وبطل الزائد عليه، فساوى بين من أعتق بعض عبده، أو دبر بعضه بين التدبير والعتق في ألا يلزمه عتق الباقي ولا تدبيره حتى يحكم عليه به؛ فإن لم يحكم به عليه حتى مات لم يحكم به عليه بعد الموت؛ لأن تتميم عتقه عليه، إذا أعتق بعضه ليس فيه أثر؛ وإنما قيس على ما جاءت به البينة من أنه من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل، فعتق الرجل بعض عبده مقيس على عتقه شقصا له في عبد، وتدبير الرجل بعض عبده مقيس على عتق بعض عبده، فإن عثر عليه في حياته كان مدبرا كله، وإن لم يعثر عليه حتى مات، لم يكن منه مدبرا إلا ما دبر، وكذلك إذا دبر بعض عبده وكاتب بقيته، فعثر على ذلك قبل أن يموت، تبطل الكتابة في نصفه؛ إذ لا يجوز للرجل أن يكاتب نصف عبده، ويكون مدبرا كله، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع شقصا له في عبد واستثنى ماله]
مسألة وقال: من باع شقصا له في عبد، واستثنى ماله، فسخ البيع.(14/521)
قال محمد بن رشد: دليل هذه الرواية أنه لو لم يستثن ماله، لم يفسخ البيع إن سلم البائع المال للمشتري، على قياس ما في رسم كتب عليه ذكر حق، من سماع ابن القاسم، من كتاب جامع البيوع، خلاف ما في رسم استأذن، من سماع عيسى منه، وخلاف ما في سماع أشهب أيضا من كتاب الشركة، وبالله التوفيق.
[: الولد يشهد أن أباه أعتق عبدا سماه]
ومن كتاب له أوصى بمكاتبه
بوضع نجم من نجومه وسألته عن الولد يشهد أن أباه أعتق عبدا سماه، وشهد بذلك غير ولد ممن يرث الميت، قال: لا تجوز شهادة واحد في العتق، ولا يعتق منه قليل ولا كثير، لا ما ينوبه ولا غيره، غير أنه إن ملكه يوما ما، أو ملك منه شيئا عتق عليه جميع ما يملك، فإن الذي ملك منه كله أو بعضه، فإنه يعتق عليه، ولا يحل له أن يسترق عبدا يزعم أنه حر، قلت: ولم لا يعتق منه مصابته فيه، وإن لم يملك منه شيئا؟ قال: كذلك قال مالك: لا يعتق منه شيء إلا أن يملكه، قال ابن القاسم: وما صار منه في حظه من دنانير، أو دراهم، أو غير ذلك من العروض، فإنه لا يأكله ويؤمر أن يجعله في عتق رقبة إن كان يبلغ رقبة، أو في شركة عبد يعتق إن لم يبلغ رقبة، أو في قطاعة مكاتب يجعله في عتق ولا يأكله، يؤمر بذلك وله أن يقضي عليه به، فإن ملكه يوما ما عتق عليه إن كان يحمله ثلث الميت يوم(14/522)
مات، أو ما كان يحمل منه، ليس عليه أن يعتق منه أكثر مما كان يحمل منه ثلث الميت يوم مات، إن كان إنما زعم أنه أعتقه في المرض، ولو كان شهد أنه أعتقه في الصحة، لم يجز له أن يملك منه شيئا أبدا؛ ومتى ما ملك منه شيئا؛ عتق عليه، غير أنه إن كان إنما يزعم أنه أعتقه في المرض، فإنه إن ملك منه شيئا نظر، فإن كان هو ثلث الميت بعينه، ولم يكن معه من الوصايا شيء إلا وهو مبدأ عليه، فإنه متى ما ملك منه شيئا، عتق عليه إن ملكه كله عتق عليه كله؛ وإن ملك بعضه عتق عليه ما ملك منه؛ وإن كان معه من الوصايا من العتق أو غيره ما يكون غيره مبدأ عليه، أو يكون هو وإياه في الثلث، إسوة الغرماء، فإنه إذا ملكه يوما ما نظر إلى ما كان يعتق منه في ثلث الميت مع تلك الوصايا، لو ثبت عتقه يومئذ بشاهد آخر، فأعتق منه إذا ملكه مبلغ ذلك إن كان يعتق جميعه مع تلك الوصايا عتق جميعه، وإن كان نصفا فنصفا، وإن كان ثلثا فثلثا، يعتق منه مبلغ ما كان يعتق منه معهم لو ثبت عتقه بشاهدين؛ وأما إذا لم يملكه، وإنما صار له منه دنانير، أو دراهم أو غير ذلك من العروض، فإنه ينظر إلى ما صار إليه من قيمته؛ فإن كان قدر ما يعتق منه في الثلث أو أدنى، جعل جميع ذلك في عتق؛ قال ابن القاسم: إن كان كله، وإن كان أكثر مما كان يعتق منه أخرج مقدار الذي كان يعتق منه، فجعله في عتق واحتبس الفضلة، فهكذا يصنع فيما يصير له من شهد في عتق عبد من جميع الورثة(14/523)
ولدا كان أو غير ذلك، امرأة كان أو رجلا، قاطع الشهادة كان أو غير قاطعها، إذا كان يملك ماله، ويجوز فيه قضاؤه، ويقبض ما ورث، ولا يولى عليه؛ فهذا الذي يجب عليهم أن يفعلوه من غير أن يقضى عليهم فيه، فكم من ليس بقاطع الشهادة، ولا يولى عليه في ماله لإصلاحه في ماله، وحسن نظره، وعسى أن يكون والد الميت، أو أخا، أو غير ذلك، فأولئك كلهم إذا شهدوا في عبد أن صاحبهم المالك أعتقه، فعليهم أن يصنعوا فيما يصير لهم مثل ما ذكرت لك، ولو شهد رجلان منهم ممن ليس بقاطع الشهادة، إلا أنهما ليس يولى عليهما في أموالها، فإن العبد لا يعتق بشهادتهما، ولكن كل من ردت شهادته، كان عليه أن يصنع فيما يصير له فيه مثل ما وصفت لك، وكذلك أيضا الرجلان العدلان من ولده يشهدان لعبد أن أباهما أعتقه، فإنه إن كان العبد ممن لا يتحمل بولايته ولا يتهمان في جر ولاء مثله لدناءته، فإن شهادتهما جائزة، ويعتق بشهادتهما.
وإن كان ليس معهما غيرهما ممن يرث ولاء الميت إنما معهما بنات ونساء ومن لا يرث ولاء، فإن شهادتهما جائزة، ولا يتهمان في جر ولاء العبد الدني ويعتق بشهادتهما؛ وإن شهدا في عبد نبيل يرغب في ولائه ويتحمل بولايته، أو في عبد دني إلا أن له أولادا من امرأة حرة مثلهم يرغب في ولائهم، فإنه إن كان كل من ورث الميت يرث الولاء، جازت شهادتهما، وإن كان معهما بنات أو أخوات أو من لا يرث ولاء، لم تجز شهادتهما وردت؛(14/524)
لأنهما يجران إلى أنفسهما، ويتهمان في جر الولاء، ولا يعتق منه قليل ولا كثير، لا من مصابتهما ولا غيره، ويصنعان فيما يصير لهما منه من رقبته أو من ثمنه مثل ما وصفت لك في الشاهد الواحد، والشاهدين اللذين هما غير قاطعي الشهادة، فكل من ردت شهادته عدلا كان أو غير عدل إذا كان مالكا لماله، لا يولى عليه فيه صنع فيما يصير له من العبد، مثل ما وصفت لك، قال: ولو شهد رجل واحد من ورثته في عبد بعضه حر، أن الميت أوصى بعتقه، عتق من العبد نصيب الشاهد منه فقط، ولم يعتق منه غيره؛ لأنه لا يتهم هاهنا، ولم يدخل فسادا بشهادته إذا كان بعضه حرا.
قلت: أرأيت إن شهد رجل أو رجلان من ورثته في عتق عبد نصفه حر، أن صاحبهم أعتق بقيته، والعبد مما يتحمل بولايته، ويرغب فيه، ومعهم من الوراث من لا يرث ولاء، أتجوز شهادتهم أم لا؟ قال ابن القاسم: لا تجوز شهادتهم إذا كان العبد يتهمون فيه على جر ولائه، وكان معهم من الورثة من لا يرث ولاء، وإن كان بعضه حرا؛ لأن جر قليل الولاء وكثيره سواء، قال ابن القاسم: لا يعتق من العبد إذا ملك شقصا أحد ممن شهد له، وردت شهادته أكثر مما ملك منه، ولا يعتق عليه نصيب شريكه فيه بالقيمة، وإنما يعتق منه الذي ملك، فلا يعتق عليه غيره.
وما ملكوا من العبد فعتق، فإن ولاء ما عتق منه للميت، ولمن ورث الميت، قال ابن القاسم: ولو كان الذي شهد ليس للميت وارث غيره، جازت شهادته وعتق بشهادته وحده العبد في ثلث الميت، أو ما حمل الثلث منه، كان جائز الشهادة، أو غير(14/525)
جائز الشهادة، إذا كان لا يولى عليه في ماله؛ وكذلك أيضا الشهيدان إذا لم يكن معهما وارث غيرهما جازت شهادتهما، وأعتق العبد بشهادتهما في ثلث الميت، كانا جائزي الشهادة، أو غير جائزي الشهادة إذا كان لا يولى عليهما في أموالهما، قال: وكل من ملك ممن ذكرت لك في هذه المسألة من الشهداء من رقبة العبد شيئا، فإنه يجبر على عتق ما ملك منه على حال ما وصفت لك، ومن لم يملك منه شيئا، وإنما صار له في مصابته منه دراهم أو دنانير، فإنه يؤمر أن يجعل ذلك في رقبة، ولا يجبر على ذلك كما يجبر على عتق ما يملك منه؛ قلت: فالسفيه مولى عليه، والصغير والبكر من النساء المولى عليهما، يشهد أحدهم بهذه الشهادة في حال ولايته، ثم ملك من ذلك العبد شيئا، هل يعتق عليه؟ قال: لا؛ لأن مالكا قال لي في السفيه يحلف بعتق بعض رقيقه في شيء ألا يفعله، فتحسن حاله، ثم يفعل وهو حسن الحال؛ أترى أن يعتق عليه؟ قال: لا، ولا أراه يخرج من المأثم، ولا يقضى عليه بذلك؛ لأن الأيمان يوم تقع.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها صحاح بينة، مثل ما في المدونة، وما فيها من الزيادة عليها مفسرة لما فيها؛ ولما سأله عن الابن يشهد أن أباه أعتق عبدا له سماه، لم لا يعتق عليه حظه منه؟ قال له كذلك قال مالك، فاكتفى بذلك منه دون أن يبين له العلة؛ والعلة في ذلك هي الضرر الذي يدخل على سائر الوراث بعتق بعض العبد؛ لأن ذلك ينقص قيمته إذا أعتق ربعه، قد لا تساوى ثلاثة أرباعه إلا نصف ثمن جميعه، ولهذه(14/526)
العلة جاءت السنة فيمن أعتق شقصا له في العبد، أن يقوم العبد على أن جميعه مملوك، فيعطي شركاؤه حصصهم منه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه منه على أن نصيبه حر، ألا ترى أنه إذا شهد على موروثه بعتق عبد بعضه حر، عتق عليه نصيبه منه على ما قاله في الرواية؛ لارتفاع علة الضرر في ذلك، فقوله في الذي شهد أن أباه أعتق عبدا سماه، أنه إن ملكه يوما ما، أو ملك منه شيئا، أعتق عليه جميع ما يملك، كان الذي يملك منه كله أو بعضه صحيح؛ لأنه إذا ملكه كله، لم يكن على أحد ضرر في عتقه عليه، وإذا ملك منه بعضه باشتراء أو هبة، فوجب أن يعتق عليه ما اشترى، لإقراره أنه حر، وجب أن يعتق عليه ما ورثه منه أيضا لارتفاع علة الضرر في ذلك بدخول العتق فيه بما اشتراه منه، أو وهب له؛ مثال ذلك أن يكون للرجل ثلاثة من الولد، فيشهد أحدهم على أبيه أنه أعتق عبدا له سماه، فلا يعتق عليه حظه منه، فإن اشترى حظ أخيه الثاني عتق عليه ثلثا العبد، الثلث الذي ورثه والثلث الذي اشتراه، ولا يقوم عليه حظ أخيه الثالث على ما قاله في الرواية، وقد قيل: إنه يقوم عليه، وهو الذي يأتي على قول أصبغ في نوازله، من كتاب الشهادات، في الرجلين يشتريان العبد من الرجل، ثم يشهد أحدهما على البائع أنه كان قد أعتقه، والاختلاف في تقويمه عليه جار عندي على اختلافهم في ولاء ما أعتق عليه منه بإقراره أن غيره أعتقه، هل يكون له أو للذي زعم أنه أعتقه، فمن يرى أن الولاء يكون للمشهود عليه بالعتق، لا يقوم عليه حظ الشريك، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، ومن يرى أن الولاء يكون للذي أعتق عليه، وهو مذهب أشهب والمخزومي، يرى أن يقوم عليه.
وإلى هذا ذهب أصبغ، والله أعلم، وقد قيل: إنه يعتق عليه ما ورثه منه، قاله عبد العزيز بن أبي سلمة، في أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب(14/527)
الشهادات، والمغيرة في نوازل سحنون منه، فهي ثلاثة أقوال في المسألة، وكان القياس على مذهب ابن القاسم وروايته عنه إذا لم يعتق عليه حظه الذي ورثه منه للضرر الداخل في ذلك على أشراكه، ألا يعتق عليه ما اشتراه منه أيضا للضرر الداخل في ذلك أيضا على أشراكه، إلا أن يشتري جميعه، وقوله في السفيه المولى عليه، والبكر من النساء المولى عليه، والصغير يشهد أحدهم بهذه الشهادة، ثم يملك من ذلك العبد شيئا في حال ملكه لأمر نفسه، أنه لا يعتق عليه، فقد مضى القول عليه في رسم العتق، من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف في جارية له بحريتها إن لم يبعها بعشرين دينارا إن وجد]
مسألة وسألته عن رجل حلف في جارية له بحريتها، إن لم يبعها بعشرين دينارا إن وجد، وإن لم يبعها بنقصان عشرة دينار من رأس ماله إن وجد من يشتريها، فعرض فلم يجد من يأخذها بوضيعة عشرة دنانير، ولا من يشتريها بعشرين دينارا، قال: لا يحال بينه وبين وطئها، ويعرضها أبدا ما عاش؛ فإن لم يجد من يأخذها بذلك حتى مات، فلا حرية لها، ولا حنث عليه، وإن وطئها فحملت منه، عتقت عليه ساعة حملت.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة يختلف منها في موضعين؛ أحدهما: هل له أن يطأ في حال العرض أم لا؟ والثاني: إن عرض فوجد الثمن الذي حلف عليه، هل يحنث إن لم يبعها، أو لا يحنث؟ ويكف عن وطئها؛ لأنه على حنث، ولم يبعها حتى مات، عتقت في ثلثه، والاختلاف في هذا إنما(14/528)
هو إذا لم تكن له نية في التعجيل ولا في التأخير، على أي الوجهين تحمل يمينه من ذلك، وأما إذا عرض فلم يجد الثمن الذي حلف عليه، فلا اختلاف في أن له أن يطأ، فإن مات قبل أن يجد الثمن، فلا شيء عليه ولا عتق لها، ويلزمه أن حال السوق بزيادة، أن يعود إلى العرض على القول بأن يمينه تحمل على التأخير إذا لم تكن له نية، وهو مذهبه في هذه الرواية، بدليل قوله، فإن لم يجد من يأخذها بذلك حتى مات، فلا حرية لها ولا حنث عليه، وإن وطئها فحملت منه عتقت عليه ساعة حملت؛ إذ لو حمل يمينه على التعجيل؛ لكان قد بر إذا عرضها في ذلك السوق، فلم يجد بها الثمن الذي حلف عليه، وقد مضى في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب الإيلاء، ما يبين ما قلناه في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع من عبده نفسه بمائة دينار نقدا]
مسألة وسئل عن رجل باع من عبده نفسه بمائة دينار نقدا، ومائة ثوب موصوف إلى أجل، هل يكون الآن حرا، ويكون ذلك دينا عليه يتبع به؟ قال ابن القاسم: هو حر الآن، كان للعبد مال أو لا مال له؛ لأنه حين باعه نفسه، قد علم أنه سيعتق بملكه نفسه وهو بمنزلة رجل باع عبدا إلى سنة فأعتقه مشتريه، والبائع يعلمه فلم يعثر على ذلك حتى حلت السنة، فلم يجد عنده شيئا، فأراد رده، فليس ذلك له، وهو القياس بعينه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن البيع ينقل الملك، فإذا ملك العبد نفسه بالشراء عتق، ووجب عليه ما التزم من الثمن إلى أجله، فلا يدخل في هذه المسألة الاختلاف الحاصل بينهم فيمن قال لعبده: أنت حر على(14/529)
أن عليك كذا وكذا نقدا، أو إلى أجل كذا وكذا حسبما نذكره إن شاء الله في رسم الصبرة، من سماع يحيى، من كتاب المكاتب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لعبده أنت حر قبل موتي بيوم أو يومين]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لعبده: أنت حر قبل موتي بيوم أو يومين، أو شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين ما كان من الأجل، قال ابن القاسم: إن كان سيده مليئا أسلم العبد إلى السيد واختدمه حتى يموت، ثم ينظر في موته والأجل، فإذا كان الأجل في حين كان يجوز للسيد فيه القضاء في ماله كله، عتق العبد من رأس المال، ونظر إلى كراء خدمته بعد الأجل، فأعطيه من رأس مال سيده، وإن كان حل الأجل في مرض السيد، وفي حين كان لا يجوز للسيد القضاء في ماله إلا في الثلث، فإنه لا يعتق العبد إلا من الثلث، ويرده الدين ولا كراء له في خدمته، وإن كان السيد غير مليء خرج العبد ووقف خراجه، فإذا مضت السنتان أو الأجل ما كان حبس ذلك الخراج، فكلما مضى شهر بعد السنتين، أعطى خراج شهر من أول السنتين الماضيتين بقدر ما ينوب لكل شهر من الخراج، فعلى هذا يكون العمل فيها قرب الأجل أو بعد.(14/530)
قال محمد بن رشد: اختلف في الرجل يعتق عبده إلى قبل موته بأجل سماه على أربعة أقوال؛ أحدها قول ابن القاسم هذا في هذه الرواية: أنه لا يعجل عليه عتقه بالشك، ويترك في خدمته إن كان له مال حتى يموت، فإذا مات نظر في الأجل الذي سمى، فإن كان حل والسيد مريض من مرضه الذي مات منه عتق من ثلثه؛ لأن موته كشف أن العتق وجب له في مرضه الذي مات فيه، وإن كان حل وهو صحيح عتق من رأس ماله، وأعطى من رأس ماله أيضا قيمة خدمته، فإن كان الأجل في التمثيل سنة استؤجر سنة ووقف خراجها، فكل ما مضى شهر بعد السنة، وقف خراج هذا الشهر، وأعطى السيد خراج شهر من أول السنة؛ هكذا أبدا، وتكون نفقته وكسوته من خراجه، فإن استؤجر في هذه المسألة على أن نفقته وكسوته على سيده، أسقط من إجارته نفقته وكسوته، ووقف الباقي، وإن استؤجر على أن نفقته وكسوته على المستأجر، وقفت الإجارة كلها، وذلك يخرج إلى شيء واحد؛ فإن مات العبد في حياة سيده أخذ السيد ما وقف له، حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم، والذي يأتي على قياس قوله أن يبقى موقوفا حتى يموت السيد فيعلم بموته هل وجب للعبد العتق قبل موته من رأس مال سيده أم لا؟ فإن تبين أن العتق قد كان وجب له قبل أن يموت من رأس المال، كان ما وقف لورثته؛ وقال المدنيون على قياس هذه الرواية: إنه من أراد أن يستخدم لعبده طول حياته، ويكون حرا من رأس ماله بعد وفاته، فيعتقه إلى قبل السبب الذي يكون منه وفاته من أجل يسميه، وذلك لا يصح؛ إذ ليس للرجل بعد وفاته أكثر من ثلث ماله؛ والواجب إذا فعل ذلك أن يعجل عتقه باتفاق؛ لأن العتق قد حصل له بيقين، إما بقوله، وإما بموته، فلا يصح أن يمكن من اختدامه بشك؛ إذ لا يدرى لعله حر من الآن.
والقول الثاني: أنه(14/531)
يعجل عتقه من الآن، ولا ينتظر به موت سيده، لاحتمال أن يكون لم يبق بينه وبين موته إلا مثل الأجل الذي سمي، أو أقل، فلا يسترقه بالشك، وهو أحد قولي ابن القاسم. حكى محمد بن المواز أن قوله اختلف في ذلك. والقول الثالث: أنه يكون كالمدبر يعتق بعد موته من الثلث؛ لأنه عتق لا يكشفه إلا الموت، وهو قول أشهب.
والقول الرابع: أنه لا يعتق من رأس المال، ولا من الثلث، وهو قول أشهب أيضا، حكى البرقي عنه القولين جميعا، ووجه هذا القول أنه لا يعتق عليه بالشك؛ إذ لا يدرى هل وجب له العتق بعد، أو لم يجب له إلى الأجل من رأس المال، أو من الثلث، وقد لا يكون له الثلث، وهذا القول هو أضعف الأقوال في هذه المسألة، وقول ابن القاسم في هذه الرواية أظهرها وأبينها، وأما إن قال الرجل لعبده: أنت حر قبل موتك بكذا وكذا، فيعجل عتقه على مذهب ابن القاسم، ولا عتق له على مذهب أشهب، وبالله التوفيق.
[: بايع رجلا واستحلفه بعتق غلامه ليدفعن إليه حقه إلى أجل فحنث]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسمعته يقول في رجل بايع رجلا، واستحلفه بعتق غلامه ليدفعن إليه حقه إلى أجل فحنث، وليس له مال غيره؛ فأراد هذا الذي استحلفه أن يرد عتقه ولا يجيزه، لمكان ماله عليه حتى يستوفي ماله؛ قال ذلك له، ولا أرى أن يجوز عتق أحد وعليه دين، وإن كان هو الذي استحلفه، وأن بعض الناس يقولون: ليس له أن يرد عتقه، ولكن هذا رأي؛ وقال عبد الله بن وهب: ليس له أن يرد عتقه؛ لأنه أذن له في عتقه حين استحلفه، ولكن إن كان عليه دين لغيره، فقاموا به لم(14/532)
يجز له عتق، وضرب معهم المستحلف بحقه؛ قلت فموضع يكون له فيه شيء، وموضع لا يكون له فيه شيء؟ قال: كذلك يكون الاستحسان.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، وقول ابن وهب؛ ولكن إن كان عليه دين لغيره، فقاموا به، لم يجز له عتق، وضرب معهم المستحلف بحقه، معناه إذا كان الذي لغيره يحيط برقبة العبد؛ لأنه إذا أحاط برقبته ووجب رد عتقه بذلك؛ كان البائع أحق بعبده، وإن شاء تركه، وحاص الغرماء، فيضرب معهم فيه بحقه؛ وأما إن كان الدين الذي عليه لغيره لا يحيط برقبة العبد، فيباع منه بذلك، ولا يدخل في ذلك البائع، ويعتق الباقي من العبد، هذا معنى قول ابن وهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين رجلين أعتق أحدهما مصابته بتلا]
مسألة وقال في عبد بين رجلين، أعتق أحدهما مصابته بتلا، وأعتق الآخر مصابته إلى أجل، أنه يقال للذي أعتق إلى أجل: إما عجلت عتقه الساعة، وإلا قوم على الأول، وكذلك لو أعتق أحدهما مصابته إلى موت إنسان سماه، وأعتق الآخر مصابته إلى موت آخر؛ سماه أن العبد يخدمهما على حاله، فإن مات فلان الذي سماه المعتق الأول أولا، أعتق نصيبه، وقيل لشريكه: أما أعتقت مصابتك الساعة، وإلا قوم على الأول؛ فإن مات فلان الذي سماه(14/533)
المعتق الآخر أولا أعتق نصيبه فقط، ولم يقوم عليه نصيب صاحبه؛ لأنه لم يبتدئ له فسادا، من قبل أن عبدا لو كان بين رجلين فيعتق أحدهما مصابته إلى أجل قوم عليه كله، فكان عتيقا إلى ذلك الأجل، وإن لم يكن له مال يقوم عليه فيه، عتق عليه نصيبه إلى الأجل الذي سماه؛ فإن أعتق الذي له فيه الرق بعد ذلك نصيبه بتلا قبل الأجل الذي أعتق عليه الأول، لم يقوم على الثاني؛ لأنه ليس هو ابتدأ الفساد، وإنما الأول هو الذي ابتدأ فساده؛ فكذلك إذا مات فلان الذي أعتق الثاني مصابته بعد موته قبل موت الذي أعتق الأول مصابته بعد موته، لم يعتق عليه إلا مصابته، ولم يقوم عليه ما بقي؛ وموت فلان إنما هو أجل من الآجال، مثل ما وصفنا؛ قال ابن القاسم: وإن ناسا ليقولون: إذا أعتق الرجل شقصا له في عبد إلى أجل، لم يقوم عليه حظ صاحبه حتى يحل الأجل؛ ولست أقول أنا ذلك؛ لأنه ليس بمنزلة المدبر؛ لأن المدبر يتقاومانه فيفسخ التدبير، وهذا لا يفسخ؛ وأن الذي يدبر شقصا له في عبد، أن الذي له فيه الرق إن رضي أن يدفعه إلى شريكه بالقيمة؛ لزمه ذلك، ولم يترك حتى يموت، فهذا مثله.
[: أعتق كل واحد منهما إلى موت صاحبه]
ومن كتاب المكاتب والمدبر والبيوع
من سماع أصبغ قيل لابن القاسم: فلو أعتق كل واحد منهما إلى موت صاحبه، فقلت أنا: ليس هذا من هذا، ثم سألته بعد ذلك عنها إذا قال: كل(14/534)
واحد منهما لصاحبه نصيبي حر إلى موتك، فقال: لا أدري ما هذا؟ فقلت: لا تكون فيه قيمة؟ قال: لا أرى ذلك، قلت: ويكون عليه ما جعلاه؟ قال: نعم، ثم قال لي من الغد نظرت فيها البارحة، قال أصبغ: فلا أدري ما قال، غير أني ظننت، وهو قولي: إنه يترك إلى موتهما، فإن مات أحدهما قبل صاحبه، عتق نصيب الحي مكانه، وترك نصيب الميت إلى موت الحي، ولم يقوم على الحي نصيب الميت؛ لأنه ليس هو مبتدئ الفساد، لم يزده إلا خيرا؛ وجعله بمنزلة ما لو أنه أعتق الأول إلى أجل، ثم أعتق الثاني إلى أجل دونه؛ أنه لا يقوم على الثاني عند أجله؛ لأنه لم يزده إلا خيرا حين كان أجله دون أجل المبتدئ؛ قال أصبغ: وهما من رأس المال.
قال محمد بن رشد: قوله في أول هذه المسألة في العبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه بتلا، ثم يعتق الآخر نصيبه إلى أجل، أنه يقال للذي أعتق إلى أجل: إما عجلت عتقه الساعة، وإلا قوم على الأول؛ هو مثل قوله في المدونة وروايته عن مالك، ورواية أشهب أيضا؛ والوجه في ذلك أن تقويم العبد بين الشريكين على الذي أعتق نصيبه منه، حق للشريك في إفساد حظه منه عليه، وحق للعبد في تبتيل عتق جميعه؛ فإذا ترك السيد حقه في التقويم، وأعتق حظه منه إلى أجل كان من حق العبد أن يقوم على الأول فيبتل عتقه، إلا أن يبتل الثاني عتق نصيبه، فلا يكون للعبد حجة، ولبعض الرواة في المدونة، وهو المخزومي أنه يعجل العتق على الذي أعتقه إلى أجل، ولا يقوم على الأول، وهو اختيار سحنون؛ ووجه قوله، أنه لما أعتق نصيبه إلى أجل، فقد أفاته بالعتق، ووجب له ولاؤه؛(14/535)
فلم يجب أن يقوم على الأول لوجهين؛ أحدهما: أنه قد ترك حقه في التقويم عليه. والثاني: أنه قد فوت نصيبه بالعتق، ووجب له ولاؤه، فلا يصح أن يفسخ ذلك، وإذا لم يصح فسخه، وجب أن يعجل عتقه لحق العبد في تعجيل عتقه، وهذا القول أظهر، والله أعلم.
وأما الشريكان في العبد الذي يعتق كل واحد منهما حظه فيه إلى موت إنسان سماه، فقوله في ذلك أنه إن مات الذي أسماه المعتق الأول أولا عتق نصيبه، وقيل لشريكه: أما عتقت مصابتك الساعة، وإلا قوم على الأول؛ فهو صحيح على قياس قوله فيما تقدم.
وفي المدونة في الذي يعتق حظه من العبد تبلا، ثم يعتق شريكه حظه منه إلى أجل؛ ويأتي في ذلك على قياس قول المخزومي أن يبقى نصيبه على حاله معتقا إلى موت الذي سماه، ولا يعجل عليه عتقه؛ إذ لم يتعد فيما صنع، ولا يقوم على الأول إذ قد ثبت فيه الولاء للثاني بعتقه إلى موت الذي سماه، وأما قوله: إنه إن مات الذي سماه المعتق الآخر أولا أعتق نصيبه قط، ولا يقوم عليه نصيب صاحبه، فهو صحيح؛ لأنه بمنزلة العبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه منه إلى أجل، ثم يعتق الآخر نصيبه منه بثلاث؛ أنه يبقى على حاله نصفه حر، ونصفه معتق إلى أجل، ولا يقوم على الذي بتل حظه منه؛ لأنه لم يبتدئ فيه فسادا، ولأن الولاء قد ثبت للأول؛ وقد قال بعض أهل العلم واستحسنه ابن القاسم، ثم رجع عنه في رسم العشور، من سماع عيسى، من كتاب الخدمة أن خدمته تقوم على الذي بتل حظه منه؛ لأن الخدمة رق فيعجل عتقه، ووجه القول الذي رجع إليه، ما ذكره في الرواية من أنه رآه ظلما أن يؤخذ منه قيمة الخدمة، ويكون ولاؤه لغيره؛ ويأتي على قياس هذا القول الذي استحسنه ابن القاسم، ثم رجع عنه في مسألتنا إذا مات الذي سماه المعتق الآخر أولا، أن يعتق نصيبه(14/536)
ويقوم عليه خدمة حظ الأول إلى موت الذي سماه على غررها، فيعجل عتق جميعه؛ وأما الذي يعتق حظه من العبد إلى أجل، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: قوله في هذه الرواية، وفي المدونة، أنه يقوم عليه، ويكون حرا إلى ذلك الأجل، إلا أن يشاء أن يعتق نصيبه منه إلى ذلك الأجل على ما قاله في رسم جاع بعد هذا.
والثاني: أنه لا يقوم عليه حتى يحل الأجل، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه على ما وقع في رسم جاع بعد هذا؛ فإن خشي عليه العدم أخذت منه القيمة، ووقفت حتى يحل الأجل على ما قاله في رسم يوصي، من سماع عيسى، من كتاب الخدمة. والثالث: أن الشريك مخير بين أن يقومه عليه الآن، وبين أن يتماسك بحظه حتى يحل الأجل، فيقومه عليه عند حلوله؛ فإن تماسك لم يكن له أن يبيعه قبل السنة إلا من شريكه، وهو قول عبد الملك؛ واختلف إن أراد أن يقومه عليه فألفاه عديما، هل له أن يقومه عليه عند الأجل إن أيسر أم لا؟ فقال ابن الماجشون: ذلك له، وقال المغيرة وسحنون: إن عدمه اليوم قاطع للتقويم عليه بعد ذلك إن أيسر؛ وقول أصبغ فيما سئل عنه ابن القاسم في رسم المكاتب من سماعه في العبد بين الرجلين يعتق كل واحد نصيبه إلى موت صاحبه، ليس هذا من هذا؛ يريد ليست هذه المسألة مما تشبه المسألة التي تقدمت في الذي أعتق كل واحد منهما حظه من العبد الذي بينهما إلى موت رجل سماه، معناه عندي أنها ليست تشبهها إذا قالا ذلك معا، أو تقدم أحدهما صاحبه بالقول، ولم يعلم الأول منهما؛ وأما إذا تقدم أحدهما صاحبه بالقول، وعرف الأول منهما فهي تشبهها؛ والجواب فيها على ما تقدم في الأولى، أن ينظر إلى الذي ابتدأ بالعتق إلى موت صاحبه، فإن مات صاحبه قبله، عتق عليه نصيبه، وقوم عليه نصيب الميت، إلا أن يشاء ورثته أن يعتقوه فذلك لهم، وإن مات قبل(14/537)
عتق نصيب صاحبه بموته وبقي نصيبه، يخدم ورثته حتى يموت الآخر فيعتق من رأس المال، ولا يقوم نصيب المعتق أولا على الثاني؛ لأن الثاني لم يبتدئ عتقه، إنما ابتداه الأول، وهو الذي يقوم عليه نصيب صاحبه إذا مات؛ إلا أن يبت الورثة عتقه، فذلك لهم؛ وإذا لم يتقدم أحدهما صاحبه بالقول، أو تقدمه به، ولم يعلم الأول منهما؛ فالذي نص عليه ابن القاسم في هذه الرواية هنا، وقاله أصبغ أيضا تأويلا عليه، وأخذ به؛ وهو قول ابن القاسم أيضا في سماع أبي زيد، أنه لا تقويم في ذلك على الذي عتق عليه نصيبه بموت صاحبه قبله، فيعتق نصيب الحي منهما بموت الميت، ونصيب الميت على الورثة بموت الحي من رءوس أموالهما، ويرد عتق نصيب واحد منهما الدين المستحدث.
ولا تقويم في ذلك على واحد منهما إذا أعتق نصيبه بموت صاحبه؛ إذ لا يدري هل هو الذي ابتدأ الفساد أم صاحبه؟ وقول أصبغ وجعله بمنزلة ما لو أنه أعتق الأول إلى أجل، ثم أعتق الثاني إلى أجل دونه، أنه لا يقوم على الثاني؛ معناه أنه إذا لم يدر أيهما الأول، أو كان ذلك من قولهما معا، كان ذلك بمنزلة إذا أعتق الأول إلى أجل، ثم الثاني إلى أجل دونه في أنه لا تقويم في ذلك على من أعتق حظه أولا بموت صاحبه قبله، وسيأتي في رسم العتق بعد هذا إذا أعتق أحد الشريكين حظه من العبد إلى أجل، ودبر الآخر حظه منه، فنتكلم عليها إن شاء الله.
[مسألة: عبد بين ثلاثة نفر بميراث أو بشراء فقال أحدهم نصيبي حر]
مسألة وقال ابن القاسم في عبد بين ثلاثة نفر بميراث أو بشراء، فقال أحدهم: نصيبي حر، فلم يوجد له مال يقوم عليه فيه، فيعتق منه نصيبه؛ ثم قال الآخر: نصيبي ونصيب صاحبي حر إن رضي؛ فقال(14/538)
صاحبه: قد رضيت وقد أمضيته له، فقال المعتق المشتري: قد رضيت أيضا، ثم قال: قد بدا لي، أو قال: لا أرضى؛ أنه لا يلزمه من ذلك شيء، إلا أن يقول: نصيبي ونصيب صاحبي لي بخمسين دينارا، وهو حر إن رضي، فقال صاحبه: قد رضيت؛ فذلك لازم للمشتري رضي المشتري أو لم يرض إذا كان صاحبه قد رضي، وكان قد سمى له ثمنا، وإنما ذلك بمنزلة ما لو قال: غلام فلان حر من مالي إن رضي، فقال فلان: قد رضيت، وقلت أنا: لا أرضى، أو قلت: قد رضيت، ثم بدا لي أنه لا يلزمني من ذلك شيء، إلا أن يقول غلام فلان علي بخمسين دينارا إن رضي وهو حر، فقال فلان: قد رضيت، فقلت: قد بدا لي، إن ذلك لازم له؛ وإنما هو بمنزلة من قال: غلام فلان لي بخمسين دينارا إن رضي، وليس فيه حرية، ورضي بذلك سيد العبد، فذلك يلزمه؛ فلما لزمه البيع، لزمه فيه العتق، قال عيسى: أما الذي أعتق الشريك الثاني نصيبه ونصيب صاحبه الثالث، فأرى أن يقوم عليه ويعتق عليه سمى له ثمنا أو لم يسم له؛ لأن بعض أهل العلم قد رأى أن يقوم على الثاني ولم يعتقه، فكذلك إذا أعتق نصيبه ونصيب صاحبه، فذلك الذي لا شك فيه.
قال محمد بن رشد: إنما رأى عيسى بن دينار أن يقوم عليه إذا أعتقه، وإن لم يسم له ثمنا، مراعاة لقول من رأى من أهل العلم، وهو ابن نافع من أصحاب مالك أن يقوم عليه، وإن لم يعتقه؛ فلو قال رجل في عبد بينه وبين رجل: نصيب شريكي من هذا العبد حر من مالي، لم يلزمه ذلك على مذهبه، وإن قال شريكه: أنا أرضى أن آخذ منه قيمته فيه؛ إذ ليس في هذا(14/539)
الموضع اختلاف يراعى فيتحصل على هذا فيمن أعتق عبد غيره، فرضي صاحبه أن يأخذ منه فيه قيمته أربعة أقوال؛ أحدها: أن ذلك يلزمه، وإن كان قال: هو حر من مالي، إلا أن يقول: هو حر في مالي بكذا وكذا، فرضي صاحبه أن يمضيه له بذلك الثمن الذي سمى فيه. والرابع: الفرق بين أن يكون قال ذلك في عبد لا يجب عتقه عليه باتفاق، أو في عبد يجب أن يعتق عليه في قول قائل، وقد مضى في أول رسم، من سماع عيسى بيان هذا الاختلاف، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق ثلث عبده وهو صحيح فلم يعلم به حتى مات]
مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم: قال مالك: من أعتق ثلث عبده، وهو صحيح، فلم يعلم به حتى مات، لم يعتق إلا ذلك الثلث؛ ولو علم به وهو مريض، عتق ما بقي من الثلث؛ قال عيسى: وهو مخالف للذي يعتق ثلث عبده في مرضه بتلا، ذلك يعتق عليه كله في ثلثه، وإن لم يعلم بما صنع من عتق ثلثه إلا بعد موته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم العتق، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: قال أحد غلامي حر فينظر فيهما فإذا أحدهما مدبر]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك
وسألته عن رجل قال: أحد غلامي حر، فينظر فيهما فإذا أحدهما مدبر؛ قال: يقومان وتعرف قيمتهما، ثم يسهم بينهما، فإن(14/540)
خرج سهم المدبر، وكانت قيمته أدنى من نصف قيمتها جميعا، عتق في المملوك بقية النصف مع قيمتهما؛ وإن أحاط المدبر بنصف قيمة جميعهما، فلا عتق للذي ليس فيه تدبير، وإن خرج سهم الذي ليس فيه تدبير، وهو نصف قيمتهما، بدئ بالمدبر فيعتق، ثم يعتق هذا إن حمله الثلث أو ما حمل منه.
قال محمد بن رشد: قوله فإن خرج سهم الذي ليس فيه تدبير، وهو نصف قيمتهما بدئ بالمدبر فيعتق، ثم يعتق هذا إن حمله الثلث، أو ما حمل منه، معناه إن حمله الثلث مع المدبر، وإن لم يحمل الثلث المدبر، ووقع عليه السهم، عتق منه ما حمل الثلث؛ وكذلك إذا وقع السهم على الآخر، ولم يحمل الثلث إلا أقل من المدبر، لم يعتق إلا ما حمل الثلث من المدبر، فالمدبر يبدأ ولا يعتق الذي ليس بمدبر كله إلا إذا وقع السهم عليه، وهو نصف قيمتهما، والثلث يحملهما، فيخرج عتق المدبر بالتدبير، ويخرج عتق الآخر بالوصية؛ لأن معنى المسألة أنه قال ذلك في مرضه الذي مات منه؛ ولو كانت قيمة العبد أكثر من نصف قيمتهما وخرج سهمه، بدئ بالمدبر، ولم يعتق من العبد إلا مقدار نصف قيمتهما، وإن كان الثلث واسعا، وسيأتي في سماع عبد الملك بن الحسن إذا قال: اقرعوا بين فلان وفلان يريد المدبر، وآخر من عبيده، وبالله التوفيق.
[مسألة: أبق غلامه فطلبه فلم يجده فأوصى إليه أني عند النخاسين]
مسألة وقال في رجل أبق غلامه، فطلبه فلم يجده، فأوصى إليه أني عند النخاسين، فإن كان لك حاجة ببيعي فهلم فبعني، وأتى سيده فوجده، فقيل له: بعه، فقال: هو حر إن بعته هذه الثلاثة الأيام؛ ثم(14/541)
أعطاه رجل به عطاء، فقال هو لك بعد ثلاثة أيام، قال: هو حانث، والغلام حر.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا أوجب له فيه البيع بعد ثلاثة أيام، فقد باعه، وهو بيع جائز لا بأس به على ما قاله في رسم للمدبر، والعتق من سماع أصبغ بعد هذا، فوجب أن يحنث بهذا العقد، وإن كان لا ينتقل الملك به إلى المبتاع إلا بعد الثلاثة الأيام؛ لأنه يحنث فيما لا شيء به لو حلف أن يبيعه اليوم، لما بر بهذا البيع، وإن كان يحنث بعقد البيع الفاسد على ما قاله بعد هذا؛ وإن كان الملك لا ينتقل به إلا أن يفوت؛ وقد قيل: إنه لا ينتقل به، وإن فات، فأحرى أن يحنث بهذا البيع الذي هو صحيح ينتقل به الملك على كل حال، وإن كان لا ينتقل به إلا بعد الأجل، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لعبده أنت حر إن بعتك فباعه بيعا حراما]
مسألة قال ابن القاسم: كل من قال لعبده: أنت حر إن بعتك، فباعه بيعا حراما؛ فهو حر.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، ومثل ما حكى ابن حبيب في الواضحة؛ ويلزم ألا يحنث على قياس القول بأن البيع الفاسد لا ينتقل به الملك، ومصيبته من البائع، وإن تلف عند المبتع؛ وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب(14/542)
جامع البيوع في بعض الروايات؛ ولو حلف أن يبيعه لما بر بالبيع الفاسد، إلا أن يفوت عند المبتاع قبل الأجل إن كانت يمينه إلى أجل؛ لأنه يحنث بما لا يبر به، وعلى القول بأن الملك لا ينتقل بالبيع الفاسد، لا يبر به على حال، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول جاريتي حرة إن لم أسافر سفرا أو إن لم أضربها]
مسألة
وسألت ابن القاسم عن الذي يقول: جاريتي حرة إن لم أسافر سفرا، أو إن لم أضربها، أو إن لم أضرب عبدي، أو إن لم أنحر بعيري؛ قال ابن القاسم: أنظر أبدا كل شيء حلف إن لم يفعله، ولم يضرب أجلا، فإنه لا يطأ جاريته ولا بناتها إن حدث لها بنات بعد اليمين حتى يفعله؛ ولا يبيعهم ولا يهبهم، ولا يتصدق بهم حتى يفعله؛ وإن ضرب أجلا، خير بين البنات والأم في الوطء إلى الأجل، وليس له أن يبيع واحدة منهن، ولا يتصدق بها، ولا يهب حتى الأجل، فإن بر، وإلا كانت هي وولدها أحرارا؛ وإذا حلف على شيء ألا يفعله، فإنه يطأ، ويبيع، ويتصدق؛ فإن حنث فيما حلف عليه ألا يفعله، فكانت عنده الجارية التي حلف عليها، عتقت عليه، وما كان لها من ولد بعد اليمين، فقد اختلف قول مالك فيها: مرة كان يقول: تعتق بولدها، ومرة كان يقول: تعتق بغير ولدها؛ ولكن الذي ثبت عليه من ذلك واستحسن على كره أن تعتق هي وولدها؛ قال ابن القاسم: وعلى ذلك رأيي، ولست أعيب قول من قال: لا تعتق إلا هي وحدها.(14/543)
قال محمد بن رشد: أما الذي حلف بحرية جاريته أن يفعل فعلا، فقال: جاريتي حرة إن لم أفعل كذا وكذا؛ فإن لم يضرب أجلا، فلا يطأ، ولا يبع، ويدخل ولدها في اليمين؛ لأنه على حنث هذا هو القياس، وقد روى عن مالك أن ولدها لا يدخل في اليمين، وهو قول المغيرة المخزومي؛ وأما إن ضرب ليمينه أجلا، فيتخرج في دخول ولدها في اليمين قولان متكافئان على اختلاف قول مالك في المدونة في جواز الوطء له، مرة قال فيها: إن له أن يطأ؛ لأنه على بر مثل قوله في هذه الرواية؟ ومرة قال: إنه ليس له أن يطأ؛ إذ ليس له أن يبيع من أجل أنها مرتهنة بيمينه في البيع، وأما إذا حلف بحريتها ألا يفعل فعلا، فسواء ضرب أجلا أو لم يضرب، هو على بر؛ فالقياس ألا يدخل ولدها في اليمين، وقد اختلف قول مالك في ذلك حسبما وقع هنا، وفي رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، وفي رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، وفي رسم العرية من سماع عيسى، من كتاب الوصايا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال كل رأس أملكه إلى ثلاثين سنة فهو حر فورث رقيقا]
مسألة قال: وسئل مالك عن رجل قال: كل رأس أملكه إلى ثلاثين سنة فهو حر، فورث رقيقا، فقال ابن كم هذا الرجل الحالف؟ قال: ليس هو بكبير، قال: فما ورثه فهو حر، ولا يعتق عليه أنصباء أصحابه، لا يعتق عليه إلا ما ورث قط، إلا أن تكون له نية في الاشتراء والصدقة أو الهبة، ولم يرد الميراث، فيدين ويحلف على ما نوى.
قال محمد بن رشد: قال في الذي حلف بحرية ما يملك من العبيد(14/544)
إلى ثلاثين سنة، أن ذلك يلزمه إذا لم يكن كبيرا، ولم يجد في ذلك حدا، والحد فيه حد التعمير في الاختلاف من السبعين سنة إلى مائة وعشرين. وقوله: إن ادعى أنه لم يرد الميراث، فيدين ويحلف على ما نوى، يدل أنه نواه مع قيام البينة عليه؛ إذ لو لم تكن عليه بينة، وأتى مستفتيا، لصدق دون يمين؛ وإنما نواه مع البينة مراعاة للاختلاف في أصل المسألة؛ إذ قد قيل: إنه لا يلزمه حرية ما يملك لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك» وهو قول الشافعي وجماعة من أهل العلم، وكان القياس على أصل مذهبه في إلزام العتق له ألا تقبل منه النية مع البينة؛ لأنها نية مخالفة لظاهر قوله، وإلى هذا ذهب ابن المواز، قال في الذي يقول: إن كلمت فلانا، فكل عبد ملكه من الصقالبة فهو حر؛ أن اليمين تلزمه إذا لم يقل أبدا في كل ما كان في ملكه من الصقالبة يوم حلف، وفيما استفاد منهم بعد ذلك، إلا أن يقول: أردت في المستقبل، ولا شيء عليه، إلا أن تكون عليه بينة؛ وكذلك قوله: إنه لا يعتق عليه إلا ما ورث، ولا يعتق عليه أنصباء أصحابه، هو أيضا مراعاة للاختلاف الذي ذكرته في أصل المسألة، وكان القياس إذا أعتق عليه حظه مما ورث من العبيد، أن يقوم عليه الباقي منهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال كل مملوك أملكه في شهر رجب فهو حر]
مسألة قال أشهب في رجل قال: كل مملوك أملكه في شهر رجب فهو حر، فورث نصف عبد فحنث في الذي حلف عليه؛ قال: تعتق عليه حصته، ويستتم عليه عتقه؛ قلت له: كيف وإنما دخل عليه بميراث؛ قال: لأنه إنما أعتق عليه بحلفه.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف قول ابن القاسم في المسألة التي(14/545)
قبلها؛ أنه لا يعتق عليه أنصباء أصحابه، وهو القياس على ما ذكرناه؛ وقول ابن القاسم استحسان مراعاة للخلاف، وقد قيل: إن قول أشهب ليس بخلاف لقول لابن القاسم، وأن معنى مسألة أشهب أنه حلف، فقال: إن فعلت كذا وكذا، فكل مملوك أملكه في شهر رجب حر، فورث نصف عبد، ثم فعل ما حلف عليه؛ فإنه يعتق عليه النصف، ويقوم عليه باقيه؛ والأظهر أنه خلاف لقول ابن القاسم؛ لأنه إنما اعتل لما سأله كيف يقوم عليه، وهو إنما دخل عليه بميراث، بأنه أعتق عليه بحنثه، ولم يعتل بأنه حنث في يمينه بعد أن ملك النصف، وإن كان تقويمه عليه إذا حنث بعد أن ملك نصفه أبين، فقد قال ابن كنانة في السفيه المولى عليه يحلف بحرية عبده، ثم يحنث بعد أن عاد حليما، وولي نفسه والعبد في يديه أنه يعتق عليه؛ وقاله أيضا في الصغير يحلف في حال صغره، ثم يحنث بعد بلوغه، وقد مضى الكلام على هذا في رسم العتق الثاني، من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بحرية جاريته على شيء أن يفعله إلى أجل]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يحلف بحرية جاريته على شيء أن يفعله إلى أجل، أو إلى غير أجل، فلحقه دين بعد اليمين، هل تباع الجارية؟ قال: نعم، تباع كان إلى أجل، أو إلى غير أجل؛ كان الدين قبل اليمين، أو بعد اليمين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن العتق لا يجب إلا بالحنث، إما بالموت إن لم تكن اليمين إلى أجل، أو بالأجل إن كانت إلى أجل، والدين سابق له، فوجب أن تباع.(14/546)
[مسألة: قال لرجل اذهب إلى غلامي فقل له يلقاني في مكان كذا وكذا]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة
الإمام إلا الجلوس وسئل عن رجل قال لرجل: اذهب إلى غلامي فقل له يلقاني في مكان كذا وكذا، فإن لم يفعل فهو حر، فتوانى الغلام، وأبى أن يجيب؛ قال: لا حنث عليه، قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل أرسل رسولا إلى غلام له إن لم يأت غدا فهو حر، قال: إن بلغه الرسول، وكان السيد إنما أرسل إليه استعجالا، فتأخر العبد عنه ليحنثه، وليخرج حرا، فلا حرية له؛ وقد قال مالك في الذي يقول لغلامه في غريمه: إن فارقته فأنت حر، ففارقه فلا حرية له؛ وقد ذكر ذلك عمر بن عبد العزيز وربيعة، وإن كان الرسول لم يبلغ العبد، فلا حرية له أيضا.
قال محمد بن رشد: أما إذا لم يبلغ الرسول العبد، فلا إشكال في أنه لا يعتق؛ وأما إذا بلغه الرسول، فاختلف قول مالك في ذلك، فكان في بدء أمره يقول بقوله في هذه الرواية: أنه لا حنث عليه، قال: وليس ذلك بمنزلة من يقول لامرأته: أنت طالق، إن خرجت إلى مكان كذا وكذا لمكان يسميه، ثم تخرج بغير إذنه، فأرى الطلاق يلزم هذا، ولا يلزم سيد العبد الحرية، وفرق بين ذلك أن الرجل يعاقب امرأته بطلاقها، ولا يعاقب عبده بالعتق، قال ابن نافع: وفرق بين ذلك أيضا، أن للرجل أن يملك امرأته في يمينه، فإن أحنثته وجب ذلك عليه، ولا يملك عبده في يمينه بأن يجعل ذلك بيده حتى يعتق نفسه، ثم رجع فقال: هو حانث، واختلف في ذلك أيضا قول ابن القاسم وأصبغ، وجاءت عن عمر بن العزيز في ذلك قضيتان، قضى أولا بعتق(14/547)
الغلام على سيده، ثم رفع إليه آخر، فلم يعتقه على سيده، وقال: أخشى أن يكون ذلك ذريعة لتحنيث العبيد لساداتهم؛ وقال ابن الماجشون والمخزومي بقول مالك الأول: أنه لا حنث عليه، وقال معرف بقول مالك الثاني: أنه حانث، وقال أصبغ في أحد قوليه محتجا لقوله: إنه لا حنث عليه، انظر أبدا كل شيء حلف عليه سيده من أمر يأمره به، أو ينهاه عنه، ليبره في ذلك، فخالفه فحنثه ليعتق نفسه، فلا عتق له.
قال: وقد قال بعض الناس: إن الطلاق مثل ذلك سواء إذا حلف على امرأته بمثل ذلك، ولم يقله أصحابنا، ولست ممن يقوله، ويرى أنها طالق إن حنثته، وقوله في الطلاق بمنزلة التمليك، وقال أشهب في الطلاق مثل ذلك، وأنه سواء في العتق والفرقة.
والفرق بين العتق والطلاق في هذه المسائل بين بالمعنى الذي فرق به مالك بينهما، وقد رأيت لابن دحون أنه قال فيها هذه المسائل خارجة عن أصول المدونة وغيرها، والفتوى على خلافها، والحنث يلزم السيد في كل هذا إذا لم يأته العبد، بلغه الرسول أو لم يبلغه؛ لأنه قد جعل أمره في يدي غلامه ويدي رسوله، فقد سبب حنث نفسه، أو ملك أمره لغيره، فهو حانث في جميع ذلك إذا لم يأته الغلام، وليس قوله بصحيح؛ أما إذا لم يبلغه الرسول، فلا إشكال في أنه لا حنث عليه، ولا اختلاف؛ وأما إذا بلغه الرسول، أو كان هو الذي شافهه؛ فالصحيح في النظر ما قاله ابن القاسم في هذه الرواية، ورواه عن مالك من أنه لا حنث عليه؛ لأن الرجل إذا نهى عبده عن الشيء، وقال له: إن فعلت فأنت حر، فبين أنه لم يرد بذلك حريته، وإنما أراد به ضد ذلك من ترك حريته، وسواء ملكته إياه كمثل ما يقول الرجل لابنه في الشيء ينهاه عن فعله ويتوعده عليه. افعل كذا وكذا وأعطيك ألف مثقال، فمن نظر إلى معنى يمينه، قال: لا حنث عليه، وهو قول مالك الأول،(14/548)
ومن لم ينظر إلى المعنى، واتبع ما يوجبه ظاهر لفظه ويقتضيه، قال: هو حانث؛ وإلى هذا رجع مالك، وقوله الأول أظهر؛ لأنا إنما تعبدنا بالمفهوم من معنى الكلام دون ظاهره، قال تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] فظاهره الأمر، والمراد به النهي والوعيد، ومن مثل هذا كثير، فكذلك مسألتنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قيل له في عبد من ربه قال ما له رب إلا الله]
مسألة قال عيسى: وسئل عن رجل قيل له في عبد من ربه؟ قال: ما له رب إلا الله؛ أو قيل له: أمملوك هذا العبد؟ فقال: لا، ما هو مملوك، أو قيل له: ألك هذا العبد؟ قال: ما هو لي؛ إنه لا شيء عليه في هذا كله، وهو بمنزلة ما لو قيل لرجل ألك امرأة؟ قال: ما لي امرأة، أو قيل له في امرأته أهذه امرأتك؟ فقال: ما هي امرأتي؛ أنه لا شيء عليه في هذا ونحوه، إذا لم يرد به طلاقا، قال عيسى: إذا لم يرد به طلاقا ولا عتقا، فإن عليه اليمين بالله ما أراد به طلاقا ولا عتقا.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك، لا شيء عليه في هذا كله، أنه لا يمين عليه فيه، ويدل على ذلك أيضا من مذهبه مساواته بين أن يقول في عبده: ما هو مملوك، أو ما له رب إلا الله، وبين أن يقول: ما هو لي؛ إذ لا اختلاف ولا إشكال في أنه لا يمين عليه في قوله في عبده ما هو لي؛ إذ ليس في قوله ما هو لي، إقرار به لأحد بعينه، خلاف قول عيسى بن دينار من رأيه، أنه يحلف ما أراد بذلك طلاقا ولا عتقا، ولابن القاسم في أول رسم الرهون بعد هذا مثل قول عيسى في إيجاب اليمين عليه، ومثله في المدونة في الذي(14/549)
قال لعبد: أنت حر اليوم من هذا العمل، فاختلف في ذلك قول ابن القاسم، والاختلاف في هذا على اختلافهم في يمين التهمة؛ لأن العبد يقول: أردت بذلك عتقي، وهو يقول: لم أرد بذلك عتقك، ولو ادعى العبد أنه قد كان أعتقه قبل ذلك، واحتج عليه بقوله ما هو مملوك، للزمته اليمين قولا واحدا، بمنزلة إذا ادعى عليه العتق، وأقام على ذلك شاهدا واحدا، فإن نكل عن اليمين، فقيل: إنه يعتق عليه، وقيل: إنه يحبس حتى يحلف، إلا أن يطول سجنه فيخلى عن سبيله، وقد وقع في أول رسم، من سماع ابن القاسم، من كتاب الطلاق السنة، في قول ابن القاسم إيجاب اليمين في نحو هذه المسألة بزيادة فيها عليها، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ولا يجوز في الرقاب الواجبة خصي]
مسألة قال: ولا يجوز في الرقاب الواجبة خصي، ولا أقطع، ولا أشل، ولا أصم، ويجوز الأعور، والأعرج الخفيف العرجة، وروى أشهب من كتاب العتق عن مالك في الخصي والأعرج يجزئان في الرقاب الواجبة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم العتق، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: قال إن أنا مت في هذا البيت فجاريتي حرة]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب إلى أجل وسئل مالك عن رجل نزل فندقا، فكان في بيت منه فمرض،(14/550)
فقال: إن أنا مت في هذا البيت، فجاريتي حرة؛ فصح من مرضه ذلك، وخرج من ذلك الفندق، ثم رجع إلى ذلك البلد، فنزل في ذلك البيت، فمرض فمات فيه؛ أتعتق جاريته؟ فقال: أرى أن تعتق، إلا أن تكون تعرف أنه إنما أراد في مرضه ذلك الأول.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال على أصولهم في أن الحالف لم تكن له نية تحمل يمينه على ما يقتضيه لفظه، إذا لم يكن له بساط يدل على خلاف لفظه، وبالله التوفيق.
[مسألة: زوج أمته عبده ثم قال لها إن لم أبعك إلى سنة فأنت حرة]
مسألة وسئل عن رجل زوج أمته عبده، ثم قال لها: إن لم أبعك إلى سنة، فأنت حرة، وما أشبه ذلك. قالت: اشهدوا أنه إن لم يفعل وجاءني العتق فقد اخترت نفسي، قال: ليس ذلك لها، وفرق بينها وبين الحرة التي يقول لها: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فتقول: اشهدوا أنه إن فعل هذا، فقد اخترت نفسي، فهذه الحرة إن تزوج عليها فهي طالق، وفرق بينها وبين الأمة ولم يرها مثلها.
قال محمد بن رشد: الفرق بين الحرة والأمة أن الخيار للأمة إذا أعتقت تحت العبد لمن يجعله الزوج لها، وإنما وجب لها بالسنة إذا عتقت وزوجها عبد، فليس لها أن تختار نفسها قبل أن يجب ذلك لها، وقد لا يجب لها؛ إذ قد يعتق زوجها قبل أن تعتق هي، وأما الحرة فالزوج جعل الخيار لها بشرط تزوجه عليها، فكان لها أن تقضي بما جعل لها، وقد روى أصبغ عن أشهب في رسم النكاح من سماعه، من كتاب النكاح، أن ذلك ليس(14/551)
لها، وطلاقها قبل أن يتزوج عليها باطل، وهو القياس على مسألة الأمة هذه، وعلى قولهم في أن أخذ الشفيع بالشفعة قبل وجوبها له باطل، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لعبده أنت حر إن بعتك إلا ممن يجيزك البحر]
مسألة وقال في رجل قال لعبده: أنت حر إن بعتك إلا ممن يجيزك البحر، وأنه باعه من رجل وحلف له بحريته أن يجيزه البحر، ثم باعه الذي اشتراه منه، أوبق منه قبل أن يجيزه على من يعتق، قال ابن القاسم: أرى أن يعتق على الأول إن لم يجزه الذي باعه البحر يعني البائع الثاني، وذلك أن مالكا سئل عن عبد حلف سيده، وقال: أنت حر إن بعتك من فلان، وقال المحلوف عليه: هو حر إن ابتعته، فباعه منه على من يعتق، قال على البائع، وروى أصبغ مثله، وقال: لو كانت يمينه ألا أبيعك إلا ممن يحلف أن يجيزك البحر، لم يكن فيه شيء، وكان على المشتري أن يجيزه، وكان على البائع القيام عليه بذلك إذا تعدى وتركه حتى يجيزه؛ وروى محمد بن خالد قال: سألت ابن القاسم عن الرجل يبيع الجارية من الرجل على أن يجيزها البحر، وقد كان حلف بحريتها ليبيعنها ممن يجيزها البحر، وهو رجل أندلسي، فباعها من رجل بذلك الشرط، واجتهد في ذلك، فوطئها المشتري فحملت منه أو أعتقها؛ فقال لابن القاسم: إذا فاتت بحمل أو عتق، سلك بها مسلك التي تباع على أن تتخذ أم ولد، قلت لابن القاسم: ولا يكون على الذي حلف شيء؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: اختلف في الحالف أن يفعل فعلا هل يحمل على التعجيل حتى يريد التأخير، أو على التأخير حتى يريد التعجيل حسبما(14/552)
مضى القول فيه في رسم كتب عليه ذكر حق، من سماع ابن القاسم؛ فقول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في هذه المسألة في الذي يحلف بحرية عبده ألا يبيعه إلا ممن يجيزه البحر، فباعه واستحلف المشتري بحريته أن يجيزه البحر، فلم يفعل حتى باعه أوبق منه؛ أنه يعتق على الأول إن لم يجزه المشتري حتى باعه أوبق منه، هو على قياس القول بأن يمينه محمولة على التعجيل؛ لأنه رآهما جميعا البائع والمشتري حانثين بتأخير إجازته البحر، فلما استويا في الحنث، كان البائع منهما هو أحق أن يعتق عليه؛ لأنه مرتهن بيمينه، قياسا على ما قاله مالك في الذي يحلف بحرية عبده ألا يبيعه من رجل، ويحلف ذلك الرجل بحريته إن اشتراه منه، والذي يأتي في هذه المسألة على قياس القول بأن اليمين محمولة على التأخير حتى يريد التعجيل، ألا يقع الحنث عليهما إلا بموت المشتري والعبد بيده، فإن باعه رد البيع فيه ووقف بيده، فإن لم يبر فيه بإجازته البحر حتى مات، حنثا جميعا، وعتق على البائع، ورد الثمن للمشتري، ولا يبر الحالف أن يبيع عبده ممن يجيزه البحر على رواية عيسى هذه إلا بإجازة المشتري إياه، لا بأن يبيعه بشرط ممن يجيزه البحر، ولا بأن يبيعه بغير شرط، ويستحلف المشتري أن يجيزه، إلا أن ينوي ذلك على ما قاله في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، وظاهر رواية محمد بن خالد هذه عن ابن القاسم، بل هو نص قوله في آخر المسألة أنه يبر ببيعه على أن يجيزه بشرط؛ لأنه الظاهر من مقصد الحالف، فقد قيل: إن يمين الحالف إذا لم تكن له نية يحلف على ما يظهر من مقصده، وقد اختلف إن باعه على هذا من الشرط على أربعة أقوال؛ أحدها: أنه بيع جائز، وهو قول ابن وهب في الدمياطية. والثاني: أنه بيع فاسد يفسخ على كل حال، فإن فات بما يفوت به البيع الفاسد، كانت فيه القيمة بالغة ما بلغت. والثالث: أنه يفسخ إلا أن يشاء البائع أن يترك الشرط، فإن لم يعثر على ذلك حتى فات، كان فيه(14/553)
الأكثر من القيمة أو الثمن؛ وقيل: يرجع البائع على المبتاع بقدر ما نقص من الثمن بسبب الشرط، وهو القول الرابع؛ والذي يأتي في هذه المسألة إذا فاتت الجارية عند المشتري بحمل أو عتق على القول بأن البائع الحالف لا يبر ببيعها على الشرط، وإنما يبر بأن يجيزها المشتري على ظاهر ما لفظ به في يمينه، وهو مذهبه في رواية عيسى هذه عنه، ونص قوله في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ على ما ذكرناه أن يرد على البائع ويعتق عليه ويرد الثمن على المشتري إن كانت فاتت بعتق، فإن كانت فاتت بإيلاء، كان على المشتري قيمة الولد، وقاصه بذلك من الثمن، فكانت قيمته أقل من الثمن، ورجع عليه ببقية الثمن، وإن كانت قيمة الولد أكثر، لم يرجع عليه البائع بشيء على ما قاله في رسم العتق بعد هذا السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: استأذنته امرأته في عتق جارية لها مرارا]
مسألة وسئل مالك عن رجل استأذنته امرأته في عتق جارية لها مرارا، وأكثرت عليه وكل ذلك يأبى، فلما رأت ذلك، دعت شهودا في السر، فأشهدتهم على عتقها، وأمرتهم بكتمان ذلك، ثم دخل عليها زوجها فاستأذنته في عتقها، فقال: أكثرت علي، إن أعتقتها فأنت طالق البتة، قال مالك: لا شيء عليه، إلا أن يكون أراد بذلك، إن كنت أعتقتها فأنت طالق البتة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا شيء عليه؛ لأنه إنما حلف ألا تفعل ما لا يمكنها أن تفعله؛ إذ قد كانت فعلته؛ ومثله في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب النذور، ولو قال لها: إن أعتقتها فأنت طالق البتة، وهو عالم بأنها قد كانت أعتقتها؛ لكان ذلك بمنزلة الذي يحلف ألا يبيع(14/554)
السلعة بعد أن باعها؛ وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى في سماع سحنون، ونوازل أصبغ من كتاب الأيمان بالطلاق، ومضى في رسم العتق، من سماع أشهب، من هذا الكتاب الكلام في الذي يحلف ألا يكري رجلا أرضا له فوجد وكيلا له، قد أكراها ذلك الرجل، وبيان ما فيها من الإشكال، فلا وجه لإعادته.
[: دفع إليه سيده مائة شاة وقال اعمل فيها حتى تصير ثلاثمائة وأنت حر]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار وسئل ابن القاسم عن عبد دفع إليه سيده مائة شاة، وقال: اعمل فيها حتى تصير ثلاثمائة، وأنت حر، فمات السيد فأراد الورثة أخذ الغنم منه، وقال العبد: لا أدفعها لكم؛ قال: إن رضوا أن يعتقوه ويأخذوها منه فذلك لهم، وإلا كانت في يديه حتى يعلم أنه لا يكون فيما بقي منها ثلاثمائة شاة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن ذلك يلزم الورثة، وليس لهم أن يأخذوا الغنم منه إلا أن يعتقوه، يدل على أنه أجاز ذلك على وجه الكتابة، يريد ويضرب له في ذلك أجل، كمن كاتب عبده على عدد يسميه، ولم يضرب له أجلا. وقوله: إن لم يرض الورثة بعتقه، أن الغنم تكون في يديه حتى يعلم أنه لا يكون فيما بقي منها ثلاثمائة، معناه إلى الأجل الذي ضرب له في ذلك، وهذا هو مذهب أصبغ، وقوله في أول رسم من سماعه، من كتاب المكاتب أنه يجبر على ذلك إذا وقع، ويراها كتابة لازمة على سنة الكتابة، تلزم الورثة ولا يردها الدين المستحدث؛ غير أنه يكره ذلك ابتداء، لما فيه من الغرر، على ما قاله في رسم أول عبد ابتاعه، فهو(14/555)
حر، من سماع يحيى، من كتاب المكاتب؛ وذلك خلاف قول ابن القاسم، في سماع يحيى، من كتاب المكاتب. وفي أول سماع أصبغ منه أن ذلك ليس بكتابة، وإنما هو بمنزلة من أعتق عبده إلى أجل مجهول، قد يكون وقد لا يكون، فلا يلزم الورثة ويرده الدين المستحدث، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه من كتاب المكاتب، إن شاء الله.
[مسألة: حلف ألا يكلم فلانا أبدا ولا يدخل دار فلان أبدا بحرية رقيقه]
مسألة قال ابن القاسم: لو أن رجلا حلف ألا يكلم فلانا أبدا، ولا يدخل دار فلان أبدا بحرية رقيقه، فحنث فرد الغرماء عتقه فبيعوا، ثم اشتراهم بعد ذلك، أو تصدق بهم عليه، أو وهبوا له؛ أن اليمين ترجع عليه إذا رجعوا في ملكه بوجه من الوجوه غير الميراث؛ فإن كلم فلانا، أو دخل دار فلان، عتقوا عليه، ولزمه الحنث؛ ولو كان أعتقهم عتقا بتلا في غير يمين، فرد الغرماء عتقه وباعوهم واقتضوا دينهم، ثم اشتراهم بعد ذلك؛ لم يلزمه عتقهم، وكانوا مماليكه.
قال محمد بن رشد: إنما قال في الذي يحلف بعتق رقيقه ألا يفعل فعلا فحنث، فرد العتق فأعتقهم فبيعوا، ثم اشتراهم بعد ذلك، أو تصدق بهم عليه، أو وهبوا له؛ أن اليمين ترجع عليه إذا رجعوا في ملكه بوجه من وجوه الملك غير الميراث، ومن قولهم: إن من حلف ألا يفعل فعلا، ففعله مرة فحنث، أنه لا يحنث بفعله مرة أخرى؛ لأن العتق لما رد فبيع في الدين، كان كأن لم يحنث؛ إذ لم يلزمه بالحنث عتق على ما قالوا فيمن حلف(14/556)
بعتق عبد ألا يفعل فعلا، فباع العبد ثم فعل ذلك الفعل، ثم اشتراه ففعله ثانية، أن العتق يلزمه؛ إذ لم يلزمه بالفعل الأول، والعبد في غير ملكه شيء، وقد وقع في رسم يدير ماله، من سماع عيسى، من كتاب النذور ما ظاهره خلاف هذا، أن اليمين لا ترجع عليه إن اشتراه، إلا أنه محتمل للتأويل على ما ذكرناه هناك؛ وإن حمل على ظاهره، فالوجه في ذلك أنه لما حنث بعتقهم مرة، وجب أن يعتبر بحنثه؛ وإن كان قد رد العتق في الدين، فلا يحنث فيهم ثانية إن اشتراهم؛ إذ لا يحنث في اليمين الواحدة مرتين، فلكلا القولين وجه؛ وأما الذي أعتق عبيده بغير يمين، أو بيمين على فعل لا يتكرر، فرد عتقهم في الدين، فلا اختلاف في أنه لا شيء عليه إن اشتراهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته كل أمة أتسراها فهي حرة]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: كل أمة أتسراها فهي حرة، فاشترى خادما تخدمه فوطئها؛ فقال: هي حرة، وابن كنانة يقول في مثل هذا لا تكون حرة إلا أن تحمل.
قال محمد بن رشد: التسري عند ابن القاسم الوطء المجرد، فلذلك رآها حرة بوطئه إياها، وإن كان إنما اشتراها للخدمة، ولم يرد حبسها، وذلك بين من مذهبه بما قال في سماع أبي زيد من كتاب الأيمان بالطلاق، من أنه يبر بذلك إذا حلف أن يتسرى على امرأته؛ وذهب ابن كنانة إلى أن تسري الجارية إنما هو الوطء لها مع استصحاب النية في اتخاذها(14/557)
لذلك؛ ولذلك رأى إذا اشتراها للخدمة، أنها لا تكون حرة بوطئه إياها إلا أن تحمل؛ لأنها إذا حملت لم يكن له فيها إلا الاستمتاع بوطئها، فتعتق علية؛ إذ لا يصح له ذلك فيها من أجل يمينه عليه بحريتها، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بعتق ما يملك ألا يقع بينه وبين أخيه معاملة أبدا]
مسألة وسئل عن رجل حلف بعتق ما يملك ألا يقع بينه وبين أخيه معاملة أبدا، وكان اشترى منه شيئا فجحده، ثم طال به الزمان، فاستودعه الحالف مالا وهب له عشرة دنانير وأسلفه عشرة، قال: هو حانث بما أسلفه واستودعه؛ لأن هذا معاملة؛ إلا أن تكون له نية حين حلف على بيع الدين خاصة، وذلك الذي نوى وحلف عليه فيدين.
قال محمد بن رشد: السلف والاستيداع ليس بمعاملة على الحقيقة، إلا أن فيه من معنى المعاملة ما دل عليه بساط يمينه أنه أراده، وحلف عليه، وهو جحود ما كان له عليه؛ ولذلك قال: إنه حانث بما أسلفه واستودعه، فجوابه صحيح على القول بمراعاة البساط في الأيمان إذا عدمت النية فيها. وهو المشهور في المذهب؛ وأما على القول بأنه لا يراعي البساط في الأيمان، وإنما ينظر فيها إلى مقتضى اللفظ، فلا يحنث بالسلف ولا بالإيداع، ولو باعه بالنقد، ولم يعامله بالدين، فحنث على القول بأنه لا يراعي البساط في الأيمان، وإنما ينظر فيها إلى اللفظ، ولو عامله بالدين، لحنث على القولين جميعا، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.(14/558)
[مسألة: قال في غلامه إن باعه فهو حر فباعه على أنه بالخيار]
مسألة وقال في رجل: قال في غلامه: إن باعه فهو حر، فباعه على أنه بالخيار؛ فقال: لا يلحقه الحنث حتى يقطع الخيار.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بيع الخيار لا يجب إلا بعد إمضاء ممن له الخيار فيه، فإذا كان الخيار للبائع الحالف لم يحنث إن رد سلعته، وأما إن أمضاها ولم يكن ليمينه أجل، فيحنث بكل حال كما قال؛ ولو كانت يمينه إلى أجل فأمضى البيع فيها بعد الأجل، لحنث على القول بأن بيع الخيار إذا أمضى، فكأنه لم يزل ماضيا لمشتريه من يوم العقد، ولم يحنث على القول بأنه إنما وجب الشراء له يوم أمضى البيع؛ ولو كان الخيار لغير الحالف من البائع أو المشتري؛ لحنث الحالف باتفاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: أذن الرجل لعبد له نصفه حر بعتق]
مسألة وقال: إذا أذن الرجل لعبد له نصفه حر بعتق، فولاء ما أعتقه العبد للعبد إذا أذن، وكذلك كل من لا يجوز لك أخذ ماله إذا أذنت له بعتق، ولاء ما أعتق له إذا أعتق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة
قد مضت، والكلام عليها مستوفى في رسم مضى، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أمة كانت بين شريكين فوطئها أحدهما فحملت]
مسألة وسئل عن أمة كانت بين شريكين فوطئها أحدهما فحملت، فقال الذي لم يطأ: قد كنت أعتقتها منذ سنة؛ قال: إن كان الواطئ مليئا بقيمتها لم يقبل قوله؛ لأنه إنما أراد أن يفسدها عليه، وتقوم على الواطئ، وإن كان الواطئ معدما، جاز العتق على الذي قال: كنت أعتقتها منذ سنة، وعتق أيضا نصيب الواطئ؛ لأنه إنما كان له فيها(14/559)
الاستمتاع، فقد قطع بعتق شريكه؛ لأنه من وطئ أمة جزء منها حروسا له فحملت، أعتقت كلها؛ لأنه لا استمتاع له فيها، وليس له أن يطأ أمة نصفها حر ونصفها رقيق.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان الواطئ مليئا بقيمتها، يريد بنصف قيمتها؛ لأن ذلك هو الذي يلزمه غرمه، وإذا قومت عليه على ما قال، فالحكم في ذلك أن تكون نصف القيمة موقوفة لا يأخذها الشريك، إلا أن يكذب نفسه فيما كان ادعاه من أنه كان أعتقها منذ سنة، وإن رجع الواطئ إلى تصديقه فيما ادعاه من أنه كان أعتقها منذ سنة قبل أن يكذب هو نفسه، رجعت إليه القيمة الموقوفة، وأعتق نصيبه في الأمة؛ إذ لا يستطيع أن يطأها، ونصفها أم ولد، ونصفها حر، وأما قوله: وإن كان الواطئ معدما، جاز العتق على الذي قال قد كنت أعتقتها وعتق نصف الواطئ؛ فهو صحيح على أحد قولي مالك في المدونة، وهو القول الذي رجع إليه في أن الأمة بين الشريكين إذا وطئها أحدهما فحملت، ولا مال له يباع نصفها للذي لم يطأ، فيدفع إليه وإن كان في ذلك نقصان عن نصف قيمتها يوم حملت، اتبعه بذلك وبنصف قيمة الولد؛ إذ لا يصح أن يباع له نصفها فيعطاه، وهو يقول: إنه حر قد كان أعتقه منذ سنة، وأما على القول بأنه يتبع بنصف قيمتها، وتكون له أم ولد، ولا يكون عليه من قيمة الولد شيء، فلا يعتق عليه نصيبه في الأمة، وتكون له أم ولد، ويتبعه الشريك بنصف قيمتها يوم حملت إن أكذب نفسه فيما ادعاه من عتقها، وإن رجع هو إلى تصديقه قبل أن يكذب هو نفسه، أعتق عليه نصيبه في الأمة، وسقطت القيمة عن ذمته؛(14/560)
ورأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة، ولا تقوم على الواطئ في ولده؛ لأن الأمة حملت وهي حرة من ملك الذي لم يطأ؛ قال: وولاء الولد بينهما إن ثبت العتق الأول ببينة؛ فأما قوله: إنه لا تقوم على الواطئ في ولده فهو صحيح، وأما تعليله لذلك بأن الأمة حملت وهي حرة من ملك الذي لم يطأ، فليس بصحيح؛ إذ لو حملت وهو لم يعتق نصيبه، لما كان له في الولد قيمة، وإنما كان يجب على الواطئ أن تقوم عليه يوم وطئها دون أن يكون عليه شيء في ولدها؛ وأما قوله: إن ولاء الولد بينهما إن ثبت العتق للأول ببينة فهو غلط ظاهر؛ إذ لا يكون الولاء له إلا لو ملكه ملكا صحيحا، وبالله التوفيق.
[: قال الرجل لامرأته كل جارية أتخذها أم ولد فأمرها بيدك]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وقال مالك: إذا قال الرجل لامرأته: كل جارية أتخذها أم ولد فأمرها بيدك، فاشترى جارية فأراد أن يمسها في كل طهر مرة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا وطئها لا يدري لعلها قد حملت ووجب الخيار في عتقها لامرأته، ولا يصح له أن يطأ ما لغيره الخيار في عتقها؛ ويأتي على قول أشهب في الذي يقول لجاريته: إذا حملت فأنت حرة؛ أن له أن يطأ ويعاود أبدا حتى يتبين الحمل، من أجل أن الشك عنده لا يؤثر في اليقين؛ إذ يكون لهذا الرجل أن يطأ أبدا حتى يتبين بها حمل، فيكون أمرها بيد امرأته، وبالله التوفيق.(14/561)
[مسألة: حلفت بحرية مالها إن تزوجت فلانا ثم تزوجته ورقيقها أكثر من ثلثها]
مسألة وسئل عن امرأة حلفت بحرية مالها إن تزوجت فلانا، ثم تزوجته ورقيقها أكثر من ثلثها؛ فلما وجبت عقدة النكاح أنكر عليها زوجها، وقال: إنا ننكر عليك؛ لأن رقيقك أكثر من ثلث مالك، هل تحنث في يمينها، أم لأنها إنما وقع عليها الحنث ولها زوج؟ قال ابن القاسم: إن كان زوجها لم يعلم بيمينها حتى تزوجها، فله أن ينكر عليها، وإن كان علم بيمينها فتقدم على ذلك، جاز ذلك عليها، ولم يكن له أن ينكر ذلك عليها، وهو بمنزلة ما لو أذن لها.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن لزوجها أن ينكر عليها ويرد عتقها، وإن علم بيمينها، وهو قول أصبغ في نوازله من كتاب الولاء، قال: وهو قول أهل العلم، وفي كتاب ابن المواز أنه ليس له أن يرد ذلك، وإن لم يعلم بيمينها؛ قال ابن المواز: لأن عقد نكاحها لم يكن قبل حنثها؛ وإنما وقع هذا الاختلاف؛ لأن الحنث والنكاح وقعا معا ممن غلب وقوع النكاح قبل الحنث والزوج رد ذلك، ومن غلب وقوع الحنث قبل النكاح، لم ير للزوج رده، فتفرقة ابن القاسم في هذه الرواية بين أن يكون الزوج علم بيمينها، أو لم يعلم جيدة؛ لأنها لا تخرج عن أحد القولين؛ وأما إذا كان الحنث بعد النكاح، فللزوج أن يرده، وإن كانت اليمين قبل النكاح؛ بدليل قول ابن المواز: إن عقد نكاحها لم يقع قبل حنثها، وقد وقع لابن أبي حازم وابن كنانة في المدونة من قولهما ما يدل أنه ليس للزوج أن يرد يمينها بأكثر من ثلث مالها، وإن حنثت به بعد النكاح إذا كان حلفها به قبل النكاح، وبالله التوفيق.(14/562)
[مسألة: قالت لابنها قد أحللت لك جاريتي هذه والغلام له امرأة]
مسألة وعن امرأة من أهل البادية قالت لابنها: قد أحللت لك جاريتي هذه، والغلام له امرأة، وهو ساكن مع امرأته، والجارية عند الأم، فأعتقت الأم الجارية فتعلق بها ابنها، وقال: قد كنت أحللتها لي، قالت: إنما هو كلام قلته، والجارية عندي منذ سنة لم تحزها ولم أدفعها إليك؛ قال: إن كان الابن وطئها فلا عتق لها فيها، وإن كان لم يطأها ولم يحز شيئا، فعتقها جائز؛ وإن كان قد حاز أو وطئ، فلا عتق لها؛ لأنه ضمنها، ولزمته قيمتها، وأنه إذا لم تمكنه منها ولم يقبضها، وإن أحللتها له، فضمانها منها إذا هلكت؛ قال عيسى عتقها جائز إلا أن تحمل.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن كان قد حاز أو وطئ، فلا عتق لها؛ لأنه قد ضمنها ولزمته قيمتها إلى آخر قوله، معناه إذا حازها وغاب عليها، فرأى القيمة لازمة له بالغيبة عليها، وإن لم يطأها؛ لأنه لا يصدق إذا غاب عليها في أنه لم يطأ؛ هذا معنى الرواية عندي؛ إذ لو قبضها ولم يغب عليها لما لزمته قيمتها، ولكان ضامنا لها، ولجاز عتق أمه لها، وقد رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة ذكره للحوز فيها ليس بجيد؛ لأنه لو حازها ولم يطأ فماتت، لم تلزمه قيمتها؛ وإنما تلزمه القيمة بالوطء، فالحوز بغير وطء لا ينفعه، وعتق السيدة ماض فيها على كل حال حتى يطأ؛ فإذا وطئ، لزمته القيمة، وصارت في ملكه؛ فلا عتق حينئذ للأم فيها؛ هذا نص قوله، والمعنى في الرواية إنما هو ما قلته، وقال ابن كنانة في امرأة أحلت لزوجها فرج جاريتها، قال: إن حملت قومت عليه، وإن لم يكن له مال، كان(14/563)
دينا عليه يتبع به؛ قال: وإن لم تحمل ردت عليها؛ ظاهره مليا كان أو معدما، وهو بعيد؛ ومعناه عندي إن لم يكن له مال، ولم يكن في ثمنها وفاء بقيمتها يوم وطئها؛ والصواب ما في المدونة أنه إن لم يكن له مال بيعت فيما لزمه من قيمتها، فإن لم يكن في ثمنها وفاء بقيمتها يوم وطئها، اتبع بالباقي دينا ثابتا في ذمته؛ قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم: قال مالك: تقوم عليه حملت أو لم تحمل، يريد فإن كان عديما ولم تحمل، بيعت فيما لزمه من قيمتها على ما قاله في المدونة؛ واختار عيسى قول ابن كنانة، واختار ابن نافع قول مالك، وهو الصواب عندي؛ لأنه إذا ردت إليها بعد أن وطئ لعدمه، آل ذلك إلى عارية الفروج؛ إذ قد تحلها له، وهو عديم فتأخذها منه بعد أن وطئها، فيتم لهما ما عملا عليه من عارية فرجها، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالحرية فحنث ولعبيده عبيد]
مسألة قال: وقال مالك: لو أن رجلا حلف بالحرية فحنث، ولعبيده عبيد، وقع الحنث عليه في عبيده، ولم يقع عليه في عبيد عبيده؛ ولو أنه حلف بطلاق امرأته أنه ما يملك عبدا، ولجاريته عبد؛ أن الحنث يلزمه.
قال محمد بن رشد: الفرق بين المسألتين أن الحنث يدخل بأقل الوجوه، فوجب أن يحنث الحالف ما يملك عبدا إذا كان لجاريته عبد؛ لأنه يملك انتزاعه منها؛ ويجري هذا على الاختلاف في الذي يحلف ألا يركب دابة رجل، فركب دابة عبده؛ وأما الذي يحلف بحرية عبيده ولعبيده عبيد فيحنث، فلا يعتق عليه عبيد عبيده؛ لأنهم ليسوا بملك له حتى ينتزعهم، وإن كان يملك انتزاعهم، وبالله التوفيق.(14/564)
[مسألة: يقول لجاريته إذا حملت فأنت حرة]
مسألة وسئل عن الرجل يقول لجاريته: إذا حملت فأنت حرة، فقال: يطؤها في كل طهر مرة، فقيل له: ولم لا يطؤها أبدا حتى يتبين حملها، ولا يدري أتحمل أم لا؟ فقال: قال لي مالك: جل النساء على الحمل، فإذا كان الشيء غالبا على الناس حتى لا يشذ من ذلك إلا القليل، حمل الناس في ذلك الأمر على الذي يصيب جل الناس، ولم ينظر إلى الشيء الشاذ.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله يطؤها في كل طهر مرة، أنه لا يلزمه شيء إن كانت حاملا يوم قال ذلك لها، أو كان قد وطئها في ذلك الطهر، وأنه لا يلزمه شيء إلا في حمل مؤتنف، وهو مذهب سحنون فيها، حكى عنه ابن عبدوس أنه لا يلزمه شيء إذا قال إذا حملت، إلا في حمل مؤتنف، وذلك خلاف مذهبه في المدونة؛ وفي سماع سحنون بعد هذا، ومن هذا الكتاب، والذي يأتي على مذهبه في المدونة، وهو قوله في سماع سحنون أنه إذا كانت حاملا يوم قال ذلك لها، أعتقت عليه؛ لأنها حامل أبدا فيما بقي من حملها؛ وإذا كان قد وطئها في ذلك الطهر قبل أن يقول ذلك لها، وقف عنها ووقف خراجها حتى يعلم إن كانت حاملا أم لا؟ وإن كان لم يطأها فيه، فلا شيء عليه حتى يطأها؛ فإذا وطئها فيه، وقف عنها، ووقف خراجها؛ فإن تبين بها حمل، أعتقت ودفع إليها ما وقف من خراجها؛ وإن حاضت ولم يكن بها حمل، كان له أن يبيعها إن شاء، فإن لم يبعها حتى وطئها في الطهر الذي بعده، وقف عنها أيضا ووقف خراجها حتى يعلم إن كان بها حمل أم لا؛ هكذا يفعل أبدا في كل طهر يطؤها فيه، وأشهب(14/565)
يرى أن له أن يطأها أبدا، ولا يمنع من شيء مما أحله الله له منها حتى يتبين حملها؛ وكذلك يختلف على هذا في الذي يقول لزوجته: إذا حملت أو إن كنت حاملا، فأنت طالق؛ فقوله في المدونة أنه إن كان وطئها في ذلك الطهر طلقت عليه بالشك، ولا يستأنى بها حتى يعلم أكانت حاملا أم لا؟ وقال سحنون وأشهب: إنه يستأنى بها ولا يعجل عليه الطلاق حتى يعلم أنها حامل؛ فإن مات، ورثته إن لم تكن حاملا؛ وإن ماتت هي قبل أن يتبين أمرها، لم يرثها بالشك، ويأتي على مذهب أشهب أن له أن يطأها في مدة الاستيناء بها، وسحنون يقول: إنه إذا قال لها: إذا حملت فأنت طالق، أنه لا يلزمه طلاقها إلا في حمل مستأنف، وهو ظاهر هذه الرواية على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بحرية ماله ألا يحدث في رقيقه بيعا ولا صدقة إلا بإذنه]
مسألة وسئل عن رجل حلف بحرية ماله ألا يحدث في رقيقه بيعا ولا صدقة إلا بإذنه، وأنه سأل ابنه عتق رأس من رقيقه، فأذن له الابن بعتق ذلك الرأس، فأعتقه الأب وقال الأب للشهود: أشهدكم يا هؤلاء، أن كل ما أعتق ابني وما أحدث في رقيقي فأمره جائز، والابن سفيه، فخرج الابن من عند أبيه، فباع من رقيق أبيه عشرة أرؤس بأربعمائة دينار وأربعين دينارا، واقتضى الثمن، أفترى ما صنع جائزا؟
قال ابن القاسم: البيع جائز على الأب، على ما أحب أو كره، إلا أن يكون بيعا لا يشبه أن يباع مثلهم به، يعرف أنه قد ترك من أثمانهم محاباة لمن باعهم، وإن كان الابن سفيها، وإنما ذلك بمنزلة رجل وكل وكيلا ببيع رقيقه، فبيعه جائز، إلا ما حابى أو داهن؛ فالسفيه وغير السفيه إذا رضي ببيعه ووكله سواء فيما يجوز(14/566)
لهما، ويرد عليهما وبيعهما جائز، إلا أن يأتي في ذلك بيع محاباة ببينة، لا يتبايع الناس بمثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف؛ لأن للرجل أن يوكل على نفسه في حياته من رضي توكيله إياه من رشيد أو سفيه، فيلزمه من فعل السفيه ما يلزمه من فعل الرشيد؛ والتوكيل في الحياة بخلاف الوصية بعد الوفاة، ليس له أن يوصي بمال ولده إلى غير عدل، ولا إلى سفيه، ولو أوصى بتنفيذ ثلثه إلى سفيه، أو إلى غير عدل لجاز؛ لأن الثلث له حيا وميتا يجوز أمره فيه، وبالله التوفيق.
[: يقول لعبدين له أنتما حران إن شئتما]
ومن كتاب الثمرة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لعبدين له أنتما حران إن شئتما، فشاء أحدهما وأبى الآخر؛ قال: من شاء الحرية منهما فهو حر؛ وكذلك لو قال لامرأتيه: أنتما طالقان إن شئتما، فإن التي شاءت منهما طالق؛ قال أصبغ مثله، وقد قال لي في غير هذا الكتاب لا يكون ذلك إلا أن يجتمعا على المشيئة في العتق والطلاق.
قال محمد بن رشد: القول للذي حكى أنه قال في غير هذا الكتاب، هو قوله في المدونة، وقوله: إن من شاء الحرية منهما أو الطلاق، فذلك له؛ هو مثل قوله في سماع أبي زيد، من كتاب الصدقات والهبات في الذي يتصدق بالشيء على رجلين، ويقول: إن قبلتماه فهو لكما، فيقبل أحدهما؛ وله في رسم إن أمكنتني، من سماع عيسى، من كتاب الأيمان(14/567)
بالطلاق، قول ثالث أنهما يعتقان جميعا بفعل الواحد منهما، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[: يغيب عنها زوجها فتعتق رأسا اليوم وتعتق من الغد رأسا آخر]
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابة قال: وسألت ابن القاسم عن المرأة يغيب عنها زوجها فتعتق رأسا اليوم، وتعتق من الغد رأسا آخر، ثم تعتق بعد ذلك أيضا رأسا آخر، وذلك متواتر، ثم يجيء زوجها فيرد ذلك؛ قال: إن كان الرأس الذي أعتقت أولا الثلث، جاز عتقه، وبطل عتق الآخرين؛ وإن كان أكثر من الثلث بطل عتقهم جميعا هو ومن بعده، ولا ينظر فيمن أعتقت بعد الأول كان الثلث أو أقل، وإنما ينظر في الأول، فإن كان أكثر من الثلث رد عتقه؛ وأما عتق الآخرين فمردود على كل حال.
قال محمد بن رشد: تكلم في هذه الرواية إذا قرب بين ما تصدقت به، أو أعتقت شيئا بعد شيء، وتكلم في رسم المكاتب بعد هذا إذا بعد ما بين ذلك، ورأيت لابن دحون أنه قال ابن الماجشون يقول: إذا أعتقت المرأة أكثر من الثلث جاز الثلث، ورد الزوج ما بقي؛ وابن القاسم يقول: يرد كل شيء؛ فعلى قول ابن الماجشون ينظر إن كان المعتق الأول أقل من الثلث، عتق من الثاني بقية الثلث، وإن كان الثلث، عتق عندهما جميعا؛ وإن بقيت من الثلث بقية، عتق من الثاني عند ابن الماجشون بمقدار ما بقي؛ وإن حمل الثلث كله، عتق كله عندهما، وهذا الذي حكى ابن دحون عن ابن(14/568)
الماجشون، لا أعرفه له إلا في الهبة والصدقة؛ وأما في العتق فلا؛ لأنه إنما يقول فيه بقول ابن القاسم، من أجل أن العتق لا ينقض، وقد مضى في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات، تحصيل القول في هذه المسألة إذا قرب ما بين الأمدين بمثل اليوم واليومين، أو بمثل الشهر والشهرين، أو بعدما بينهما بمثل الستة الأشهر أو السنة؛ وما يتفق عليه من ذلك، وما يختلف فيه منه، وسائر أحكام قضاء المرأة في مالها دون إذن زوجها ملخصا مبينا؛ فاكتفينا بذكره هناك عن إعادته هنا، ومضى أيضا في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، التكلم على فعلها هل هو على الجواز حتى يرد، أو على الرد حتى يجاز، وما يتعلق بذلك من الأحكام، وبالله التوفيق.
[: يقول كل أسود أشتريه فهو حر]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسئل عن الرجل يقول: كل أسود أشتريه فهو حر، فشارك رجلا فاشترى الرجل سودا، فقال: إن كانا متفاوضين، فقد حنث فيما اشترى؛ وإن كان نهاه، فلا حنث عليه؛ وإن كان وكل رجلا أو شاركه، ولم ينهه حتى اشترى، فهو حانث.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، من أن الرجل إذا حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها من الفسطاط، فوكل رجلا يزوجه فزوجه من الفسطاط؛ أن النكاح يلزمه وتطلق عليه؛ إلا أن يكون نهاه عن نساء الفسطاط، فلا يلزمه النكاح؛ فكذلك هذا إذا نهاه وكيله أو(14/569)
شريكه عن شراء السودان، لم يلزمه الشراء؛ وإن لم ينهه، لزمه الشراء وعتق عليه جميع السودان؛ إن اشتراهم له وكيله؛ وإن اشتراهم الشريك، قاسمه فيهم فعتق عليه حظه منهم على ما قاله محمد بن المواز في الذي حلف بعتق رقيقه فحنث، وله شريك في أرؤس، وقد قيل: إن ذلك ليس بخلاف لما في المدونة من أنه يعتق عليه حظه من جميعهم، ويقوم عليه بقيتهم على ما ذكرناه من الفرق بين المسألتين في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم؛ وإذا قال ذلك في حنثه بعتق ما يملك، فأحرى أن يقوله في هذه المسألة، للاختلاف الحاصل بين أهل العلم في العتق قبل الملك، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون بين الرجلين فيعتقانه جميعا معا إلى السنة]
مسألة وسألته عن العبد يكون بين الرجلين فيعتقانه جميعا معا إلى السنة، فإذا مضت ستة أشهر بتل أحدهما نصيبه؛ فقال: لا يقوم عليه حظ صاحبه، وهو على حاله إلى الأجل؛ قلت: فإن مات عن مال قبل الأجل، لمن يكون؟ قال: للذي بقي له فيه الخدمة.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه تقوم خدمته إلى الأجل على الذي بتل نصيبه، قال ابن القاسم في رسم العشور، من سماع عيسى، من كتاب الخدمة، واستحسنه في العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما حصته منه إلى أجل، ثم يعتق الآخر حصته منه بتلا؛ لأن الخدمة رق، ثم رجع عن ذلك ورآه ظلما أن تؤخذ منه قيمة الخدمة ويكون الولاء لغيره؛ ولا فرق بين المسألتين، وأما قوله: إنه ماله يكون إن مات قبل الأجل للذي بقيت له فيه(14/570)
الخدمة، فهو صحيح؛ لأن الخدمة رق، ومن مات وفيه شعبة من رق، فماله للذي بقي له فيه الرق، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون خالصا لرجل فيعتقه إلى سنة]
مسألة وسألته عن العبد يكون خالصا لرجل فيعتقه إلى سنة، فإذا مضت له ستة أشهر بتل نصفه؛ قال: يعتق عليه جميعه الساعة.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن لا إشكال فيه؛ لأن العبد جميعه له؛ فكما يعتق عليه بقيته إذا أعتق بعضه، فكذلك يعتق عليه ما بقي له فيه من الخدمة لأنها رق، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه منه إلى سنة]
مسألة وسألته عن العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه منه إلى سنة، قال: يقال للآخر يعتق إلى أجله، فإن أعتق جاز، وإن أبى قوم على المعتق حظ صاحبه، وكانت له خدمته إلى الأجل؛ وذلك خوف أن يؤخر التقويم عليه إلى الأجل، فيفلس أو يموت، ولم يحكه عن مالك؛ قال عيسى: قال لي ابن أبي حسان: قال لي مطرف عن مالك: إنه لا يقوم عليه إلى الأجل؛ وكان مما احتج به أن قال: يعمد الرجل الذي العبد بينه وبين صاحبه، فيعالجه على أن يبتاع منه نصيبه، فيأبى عليه، فيذهب فيعتق نصيبه إلى أربعين سنة، فيقوم عليه فيذهب بخدمته؛ لا أرى أن يقوم عليه إلى الأجل، قال ابن القاسم: ولو قال قائل هذا القول لم أعبه، وفيه متكلم.(14/571)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم أوصى، وذكرنا هناك فيها قولا ثالثا، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: قال في أم ولده وأراد أن يأخذ له قسما إنها حرة]
ومن كتاب الرهون وعن رجل قال في أم ولده، وأراد أن يأخذ له قسما: إنها حرة، هل يلزمه ذلك وتعتق عليه؛ قال: لا، وأرى أن يحلف بالله ما أراد عتقها.
قال محمد بن رشد: معناه أراد أن يأخذ لها قسما من العطاء باسم الحرية، ومثل هذا في المدونة في ذلك، قال في جارية له هي حرة؛ لأنه مر على عاشر ونحو هذا، فقال: إنه لا تعتق عليه إذا علم أنه دفع عن نفسه بذلك ظلما، ولم يذكر في ذلك يمينا؛ وقد ذكره في الذي قال لعبده: أنت حر اليوم من هذا العمل، واليمين في هذا يمين تهمة، فإذا تبين أنه لم يرد بذلك الحرية، لم يجب عليه يمين؛ وإذا احتمل أن يريد بذلك الحرية، لزمته اليمين على اختلاف؛ ولو ادعى العبد أنه قد كان أعتقه قبل ذلك؛ لكان قوله في مثل هذه الأشياء هو حر شبهة توجب عليه اليمين باتفاق، وقد مضى هذا في رسم لم يدرك، وبالله التوفيق.(14/572)
[مسألة: السفيه يعتق فيجيز وليه عتقه ثم ينكر بعد أن احتلم]
مسألة وعن السفيه يعتق فيجيز وليه عتقه، ثم ينكر بعد أن احتلم، ويقول: أجاز لي وليي ما لم يكن ينبغي له أن يجاز على أنه لا يجاز عتقه، أجازه وليه أو لم يجزه حتى يجتمع له عقله، فيعتق أو يدع؛ ولو جاز هذا؛ لكان يشبه ذلك أن يحبس عليه رقيقه إذا أعتقهم، وهو سفيه حتى إذا اجتمع عقله عتقوا عليه، ولكانت أموال الناس التي خالطه بها من خالطه أولا بأن يبت في ماله من العتاقة؛ ولو جازت العتاقة هكذا، لما انبغى لورثته أن يرثوا رقيقه الذي أعتق إذا مات؛ فأمر السفيه مثل الصبي الذي لا يعقل؛ فلا يجوز منه شيء إلا ما قد جوز للسفيه من الوصية عند الموت.
قال محمد بن رشد: ثم ينكر ذلك بعد أن احتلم، معناه بعد أن رشد وملك أمر نفسه، فعبر بالاحتلام عن الرشد، والمسألة كلها صحيحة بينة، وقد مضى التكلم عليها وعلى ما كان في معناها مجودا في رسم العتق، من سماع أشهب، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه يشتري الجارية بغير إذن وليه فيعتقها]
مسألة قال أصبغ في السفيه يشتري الجارية بغير إذن وليه فيعتقها: إن عتقه باطل؛ ولو أنه وطئها فأحبلها، كانت له أم ولده، ولم يلزم السفيه من غرم الثمن قليل ولا كثير؛ قال عيسى بن دينار: رأى أن ترد الجارية على البائع، ويرد البائع الثمن على السفيه، ويكون الولد ولده، ولا يكون على السفيه من قيمة الولد شيء، ولو أن(14/573)
رجلا أسلف سفيها مالا، أو باع منه شيئا، فاشترى به المولى عليك أمة فحملت منه، كانت أم ولد له، ولم يكن للمبتاع أو المسلف أخذها منه ورد عليه ذلك الشيء الذي ابتاع بالمال.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في نوازل سحنون من كتاب المديان، مثل قول عيسى بن دينار هنا في السفيه يشتري الأمة فيولدها، ولا خلاف بينهم في العتق أنه ينقض، وترد الأمة إلى بائعها؛ والفرق بين العتق والإيلاد على قول أصبغ هذا، أن العتق من فعله وكسبه، وليس الإيلاد من فعله وكسبه؛ وإنما فعل من وطئه إياها الذي كان سببا لإيلادها الذي لا يقع باختياره، فقد يريده ولا يرزقه، وقد يرزقه ولا يريده؛ ما يجوز له إذا باعها صاحبها منه وسلطه عليها، وقول عيسى بن دينار ما وقع لأصبغ في نوازل سحنون من كتاب المديان والتفليس، في مساواتهما بين العتق والإيلاد استحسان، ووجهه أن الحمل وإن لم يكن من كسب السفيه ولا فعله، فالأمة عين مال البائع؛ والقول الأول هو القياس ألا فرق بين أن يولد الأمة التي اشتراها، أو التي اشتراها من مال استسلفه، أو من ثمن سلعة باعها، كما لا يفترق ذلك في المديان، للعلة التي ذكرناها، وبالله التوفيق.
[: قال لعبده إذا قدمت الإسكندرية فأنت حر]
ومن كتاب أوله يدير ماله وسئل عمن قال لعبده: إذا قدمت الإسكندرية فأنت حر، ثم بدا له أن لا يخرج؛ قال: أرى أن يعتق إلى مثل القدر الذي يبلغ، ولو قال له: مر معي إلى الإسكندرية، وأنت حر، فمثل ذلك.(14/574)
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: إن كان السيد أراد خدمة العبد له، والقيام به حتى يصل الإسكندرية، فلا يلزمه شيء إذا لم يسافر؛ وإن كان إنما أراد عتقه إلى انقضاء زمن يصل به إلى الإسكندرية، فلم يسافر، نظر القدر الذي يصل في مثله لو خرج، فيعتق العبد بعده؛ وهذا الذي قاله لا كلام فيه؛ لأنه إذا علمت نية السيد، ارتفع الإشكال من المسألة؛ ونيته لا تعلم إلا من قبله، فإنما الكلام هل يصدق في نيته أم لا؟ وما يكون الحكم في المسألة إن لم تكن له نية، أو مات قبل أن يخبر بنيته، فيجب على أصولهم أن يصدق في نيته مع يمينه، إلا أن يأتي مستفتيا، فلا يكون عليه يمين، وأما إذا لم تكن له نية، أو مات قبل أن تعلم له نية؛ فيتخرج في ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها قوله في الرواية: أن ذلك كالأجل المعلوم؛ ويكون العبد حرا إلى مقدار البلوغ إلى الإسكندرية، خرج السيد أو لم يخرج، مات أو عاش؛ وهو الذي يأتي على ما في سماع عبد الملك، من كتاب الأيمان بالطلاق، عن ابن القاسم في الذي يقول لامرأته: إذا بلغت معي موضع كذا وكذا، فأنت طالق تلك الساعة.
والثاني: أن ذلك كالأجل المجهول الذي قد يكون وقد لا يكون، وليس الأغلب منه أن يكون، فلا يعتق العبد إلا أن يخرج السيد إلى الإسكندرية ويصل إليها؛ وهذا القول يأتي على ما في رسم استأذن من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق في الذي يقول لامرأته: إذا قدمت بلد كذا وكذا فأنت طالق؛ لأنها لا تطلق عليه حتى تصل إلى البلد. والثالث: الفرق بين أن يقول ذلك له قبل أن يخرج أو بعد أن يخرج؛ فإن قال ذلك قبل أن يخرج، لم يعتق إلا بوصول السيد إلى ذلك البلد، إن خرج إليه؛ وإن قال ذلك بعد أن خرج، كان العبد معتقا إلى(14/575)
مقدار الوصول إلى ذلك البلد، وصل إليه أو رجع من الطريق؛ روى هذه التفرقة زياد بن جعفر عن مالك في الذي يقول لامرأته: إذا قدمت بلد كذا وكذا فأنت طالق؛ أنه إن قال ذلك لها قبل أن يخرج، لم يلزمه طلاق حتى يقدم البلد، وإن قال ذلك لها بعد أن خرج، كانت طالقا مكانتها، كمن طلق امرأته إلى أجل معلوم؛ وفي رسم المدبر والعتق بعد هذا من سماع أصبغ، عن أشهب في العبد يستأذن سيده في الخروج إلى موضع، فيقول له: اخرج إليه، فإذا بلغته فأنت حر، أنه ليس له أن يمنعه من الخروج؛ قال ابن المواز: إلا أن يبدو للعبد في الخروج، وهو قول رابع في المسألة أن ذلك تمليك للعبد في العتق يلزم السيد ولا يلزم العبد، فيكون مخيرا بين أن يخرج إلى البلد فتجب له الحرية، أو لا يخرج فيبقى في العبودية، وبالله التوفيق.
[: يحلف في عبد له بحريته ألا يبيعه]
ومن كتاب الجواب وسألت عن الرجل يحلف في عبد له بحريته ألا يبيعه، فيبيعه ويقبض الثمن فيستهلكه، ثم يعثر على ذلك ولا مال له؛ قال ابن القاسم: يرد العبد إن أدرك ويعتق ويخرج حرا، ويتبعه المشتري بالثمن دينا؛ لأنه حنث بحريته حين باعه، ووقعت حريته، وعنده به وفاء، وهو الثمن الذي قبض منه حين باعه هو له وفاء؛ لأنه لو عثر عليه ساعتئذ، عتق العبد ورد ذلك الثمن، فالثمن حين بقي في يديه هو مال المشتري ووفاؤه، فهو بمنزلة من أعتق وعليه دين وعنده وفاء بدينه، ثم تلف ذلك الوفاء بعد ذلك، فالعبد حر، ولا سبيل للدين عليه، ويتبع السيد بدينه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها، ولو كان عليه يوم باعه دين يستغرق الثمن، لبيع في الثمن ولم ينفذ فيه العتق، إلا أن تكون(14/576)
قيمته أكثر من الثمن، فيباع منه بالثمن على التبعيض، ويعتق الباقي، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول في مرضه جاريتي فلانة تخدم ابنتي حتى تنكح ثم هي حرة]
مسألة وسألت عن الرجل يقول في مرضه جاريتي فلانة تخدم ابنتي حتى تنكح، ثم هي حرة، فيجيز الورثة الوصية لابنته، فيعرض لابنته مرض بعد مبلغ النكاح حتى لا ينكحها أحد، ويمسك عنها الأزواج وقد عنست، وهل يختلف إذا قال حتى تنكح، أو إذا بلغت النكاح، قال ابن القاسم: نعم تختلف، أما قوله: حتى تنكح، فلا عتق لها أبدا عرض لابنته مرض، أو لم يعرض، عنست أو لم تعنس، فلا عتق للمملوكة حتى تنكح الجارية، إلا أن يأتيها الأزواج فتردهم وتأبى النكاح، فإذا كان ذلك وعرف ذلك، عتقت المملوكة، وإن تزوجت، عتقت المملوكة عند العقدة، ولم تحبسها إلى الدخول، وإن ماتت الابنة قبل مبلغ النكاح، خدمت الورثة إلى مقرار النكاح ثم عتقت، وإن لم تخرج الجارية من الثلث، خير الورثة فإما أجازوا وكان سبيلها سبيل ما وصفت لك، وإن أبوا عتق من الجارية مبلغ ثلث الميت ساعتئذ، ورق ما بقي، وسقطت وصية الابنة في الخدمة، ولم يكن لها من الخدمة قليل ولا كثير، ولم يقع لها على الجزء الذي عتق منها من الخدمة شيء.
وأما قوله: إذا بلغت ابنتي مبلغ النكاح فهي حرة، فإذا بلغت الابنة النكاح، وأمكن ذلك منها، عتقت الجارية، قلت: ما حد ذلك البلوغ الحيضة؟ قال: وبعد ذلك بقليل علة ما يرى ويجتهد، وما(14/577)
ليس فيه ضرر، وقد تحيض الجارية وتقيم السنة والسنتين قبل أن تنكح، ويمكن ذلك منها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على أصولهم لا إشكال فيه، ولا موضع للقول.
[مسألة: أم أم الأب بمنزلة أم الأب إذا لم تكن أم الأب حية]
مسألة وسألت عن الجدة جدة الأب في ميراثها أي جدة هي؟ وأنه ذكر لنا في أمر الأب أنها ترث هي بعينها، فإن لم تكن هي بعينها، وكانت أبعد فلا ترث، قال ابن القاسم: فليس كما ذكر لكم هذا خطأ، أم الأب وأمهاتها بمنزلة أم الأم وأمهاتها إلى أبد، يرثن إذا لم تكن أم الأب بعينها، ولا أم الأم بعينها، فأمهاتهن في مثابتهن إلى أبد، يرثن بعد ذلك أو قرب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن أم أم الأب بمنزلة أم الأب، إذا لم تكن أم الأب حية، وكذلك ما بعدن، ويحجب الأقرب منهن الأبعد، كما أن أم أم الأم بمنزلة أم الأم إذا لم تكن أم الأم حية، وكذلك ما بعدن، ويحجب الأقرب منهن الأبعد، وإنما الاختلاف في الجدة أم الجد للأب، والجدة أم الجد للأم، فمالك لا يورث واحدة منهما، ومن أهل العلم من يورثهما جميعا، فيورث أربع جدات؛ اثنتان من قبل الأب، واثنتان من قبل الأم، وهو مذهب ابن مسعود من الصحابة، ومنهم من يورث ثلاث جدات؛ اثنتان من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم، وهو مذهب الأوزاعي، وفي ذلك أثر يروى عن النبي عليه الصلاة(14/578)
والسلام: ورث الجدات اثنتان من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم، وإن اجتمعت الجدتان جميعا على مذهب مالك، فالسدس بينهما إلا أن تكون التي من قبل الأم أقرب، فيكون السدس لها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأخت للأب والأم إذا كانت هي والجد وكان لها إخوة لأبيها]
مسألة وسألت عن الأخت للأب والأم إذا كانت هي والجد، وكان لها إخوة لأبيها، هل تعاد بهم الجد؟ قال ابن القاسم: نعم تعاد بهم، وهذا مما لا شك فيه، ولا اختلاف ولا كلام لأحد.
قال محمد بن رشد: معنى تعاد بهم الجد، تعدهم عديه من العدد؛ لأن الجد ينزل مع الإخوة الأشقاء، والذين للأب منزلة أخ، فيقاسمهم للذكر مثل حظ الأنثيين، إلا أن يكون الثلث أفضل له من المقاسمة، فلا ينقص من الثلث شيئا، من اجل أن الإخوة للأم يرثون الثلث مع الإخوة أشقاء والذين للأب، ولا يرثون شيئا مع الجد، فكان الجد أحق بهذا الثلث الذي حجب عنه الإخوة للأم، فللجد مع الأخت الواحدة الثلثان، ومع الأختين والأخ الواحد النصف، ومع الأخ والأخت الخمسان، ومع الأخوين فما زاد من الإخوة الثلث، لا ينقص منه شيئا كان الإخوة أشقاء أو لأب، فلما كان هذا حكمه مع الأشقاء إذا انفردوا، ومع الذين لأب إذا انفردوا؛ وجب أن يكون هذا حكمه معهم.
إذا اجتمعوا جميعا في المقاسمة، ثم يكون الإخوة الأشقاء أحق بما بعد نصيب الجد من الإخوة للأب؛ لأنهم يحبونهم، فلا يحصل للإخوة للأب مع الجد والإخوة الأشقاء شيء، إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة، فيفضل من المال بعد نصيب الجد أكثر من النصف، فيكون الفاضل عن النصف الواجب لها للإخوة للأب، للذكر مثل حظ الأنثيين،(14/579)
مثال ذلك أن يترك المتوفى جدا وأختا شقيقة وأخوين للأب، فما زاد فإن الأخت الشقيقة تعاد الجد بالإخوة للأب، فترده بسببهم من النصف الذي كان يجب له معها لو انفردت دون الإخوة للأب إلى الثلث؛ لأنه أفضل له من مقاسمة جميعهم، وتأخذ هي من الثلثين الباقيين بعد نصيب الجد النصف؛ إذ ليس لها أكثر من النصف الذي فرضه الله عز وجل لها، ويكون السدس الفاضل من المال للإخوة للأب، يقتسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فهذا معنى قول ابن القاسم في الرواية: إن الأخت الشقيقة تعاد الجد بأخويها لأبيها؛ وأما قوله وهذا مما لا شك فيه ولا اختلاف ولا كلام لأحد، معناه على مذهب مالك، ومن اتبع زيد بن ثابت على ذلك، ولم يتابع أحد من الصحابة زيد بن ثابت على قوله بذلك، وقد روي عن ابن عباس أنه سأل زيد بن ثابت عن قوله في معادة الإخوة الأشقاء الجد بالإخوة للأب، فقال له: إنما أقول برأيي كما تقول برأيك، وفي ميراث الجد مع الإخوة اختلاف كثير ليس هذا موضع ذكره.
وقد قال جماعة من أهل العلم: إنه لا ميراث للإخوة ما كانوا مع الجد؛ لأنه ينزل بمنزلة الأب إذا لم يكن أب في أنه يحجبهم، كما ينزل ابن الابن بمنزلة الابن إذا لم يكن الابن في أنه يحجبهم، وهو مذهب جماعة من الصحابة، منهم: أبو بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وابن الزبير، وعائشة أم المؤمنين، والصحيح في النظر أنه لا يحجبهم؛ لأنهم أقرب إلى الميت منه؛ إذ يدلون إليه بأبيهم، والأب أقرب من الجد، بخلاف ابن الابن؛ لأنه أقرب إلى الميت من الأخ؛ لأن الأخ يدلي إلى الميت بالأب وابن الرجل وابن ابنه، وإن سفل أقرب إليه من أبيه، فوجب أن لا يحجب أخاه الذي إنما يدلي إلى الميت بأبيه، وبالله التوفيق.(14/580)
[: قال لغلامه إن قضيت عني فلانا ما له علي فأنت حر]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني
من حلق رأسك وسئل عن رجل قال لغلامه: إن قضيت عني فلانا ما له علي، فأنت حر، فتصدق عليه صاحب الحق بالحق، قال: هو حر إذا تصدق به عليه؛ قلت: فلو كان تصدق به على سيد الغلام فقبل أو لم يقبل؛ قال ابن القاسم: إن قبل السيد كان على العبد أن يؤديه أيضا إلى سيده، وإن لم يقبل، كان عليه غرمه للغريم، ولا يتعلق إلا بأدائه، إلا أن يتصدق به على نفسه، ورواه أيضا سحنون.
قال محمد بن رشد: هذا كله بيّن على ما قاله؛ لأن الغريم إذا تصدق على العبد بالدين الذي على سيده، فقد حصل للسيد غرضه في أن يتأدى الدين عنه دون منة تكون عليه، وإذا تصدق به على السيد، كان من حقه ألا يقبل ذلك، فيوجب على نفسه بذلك منة، ووجب ألا يعتق العبد حتى يؤدي الدين عن سيده، فيسقط عنه دون منة تكون للغريم عليه، إذا قيل كان من حقه ألا يعتق العبد حتى يؤدي ذلك إلى سيده، كما لو قضاه سيده؛ إذ لا فرق بين أن يقضيه إياه أو يهبه له الغريم في أن العبد لا يعتق حتى يؤدي ذلك إلى سيده، وبالله التوفيق.
[مسألة: يؤاجر عبده سنين فيعتقه فيولد للعبد أولاد من أمته وهو في إجارته]
مسألة وسئل عن الرجل يؤاجر عبده سنين فيعتقه فيولد للعبد أولاد من أمته، وهو في إجارته، هل ترى أولاده أحرارا؟ قال: نعم، هم أحرار ساعة يولدون، وليس يوقفون إلى انقضاء خدمة أبيهم؛ لأنه ليس لأحد فيهم خدمة؛ وهو بمنزلة أن لو أعتقهم هم أنفسهم، لم يكن للمستأجر أن يمنعه من ذلك؛ لأنهم ليسوا مع أبيهم في الإجارة.(14/581)
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأن ولد العبد من أمته بمنزلته، فما ولد له من أمته بعدما أعتق، فهو حر؛ لأنه إنما منع من ابتال حريته ما للمستأجر من الحق في خدمته قبل العتق، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغلامه وهو حر صحيح أنت حر إلى سنة]
مسألة قال: وسألت أشهب بن عبد العزيز عمن قال لغلامه، وهو حر صحيح: أنت حر إلى سنة، إلا أن أموت دون السنة؛ فإن مت دون السنة، فأنت حر حين أموت، فمات السيد قبل السنة؛ قال ابن القاسم ينظر في ثلثه: فإن خرج منه عتق، وإن لم يحمله الثلث، عتق منه ما حمل الثلث واستخدم الورثة البقية إلى السنة؛ وهو بمنزلة من قال لغلامه: أنت حر لأولنا موتا لنفسه، ولرجل آخر، فمات السيد قبل الأجنبي، قال مالك: ينظر في الثلث، فإن خرج منه عتق، قال ابن القاسم: فإن لم يحمله الثلث، عتق منه ما حمل الثلث واستخدم البقية إلى موت الآخر، وليس بينهما فرق؛ وهو بمنزلة من قال: أنت حر إلى موت فلان، إلا أن أموت قبل ذلك، ومسألة أشهب قال: أنت حر لأولنا انقضاء أنا أو السنة، فليس بينهما فرق، فهذا مثل مسألة مالك سواء؛ وقد قال مالك: يقوم رقبته وليس خدمته، وقال أشهب بن عبد العزيز: لا يقوم في ثلث إلا خدمته، وليس رقبته؛ لأنه إنما فيه خدمة.
قال محمد بن رشد: قول أشهب أظهر؛ لأن العتق في الرقبة قد ثبت، وإنما بقي فيه الخدمة إلى أجل، وهو قول ابن القاسم في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الوصايا في الذي يعتق عبدا له إلى أجل، ثم يوصي في مرضه بوضع الخدمة عنه، وبعتاقة عبيد سواه، ولا يحمل ذلك(14/582)
ثلثه، أنه يحاصهم بقيمة خدمته لا بقيمة رقبته، ووجه قول مالك في هذه الرواية، أنه يقوم رقبته، هو أن الحرية تبع للرق، وأنه في جميع أحكامه أحكام عبد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجارية تكون بين الرجلين فيقاومانها فيما بينهما فيبلغا بها ثمنا أضعافا]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الجارية تكون بين الرجلين فيقاومانها فيما بينهما فيبلغا بها ثمنا أضعافا، فيعمد أحدهما فيعتقها، قال: وقعت هذه المسألة بالمدينة في جارية كانت بين رجل وامرأة، فوقع له فيها هوى واستتبعتها نفسه، فسأل امرأته أن تبيع منه نصيبها فأبت، فرفع أمرها إلى ابن عمران قاضي المدينة، فأمر ببيعها ممن يزيد، فزاد زوج المرأة فيها حتى بلغها ستمائة دينار، فألزموه ذلك، فأتى زوجها إلى المخزومي فقال له: ما الحيلة قد بلغت ستمائة دينار، وقد قصمت ظهري، فقال له المخزومي: أعتق حظك منها، فلا يلزمك إلا القيمة ففعل؛ فرفع ذلك إلى ابن عمران، وأخبر بما بلغت وبعتقه إياها؛ فقال: اذهبوا بها إلى السوق فصيحوا بها، فإن زادت على ستمائة دينار فألزموه ذلك، وإلا ألزموه الستمائة دينار وأعتقوها عليه؛ فرفع ذلك إلى مالك، فأعجبه ذلك، ورأى أنه الحق المستقيم، وأنه أبين من القمر.
قال مالك: لو أن رجلا وقف برأس له في السوق وأعطي به ثمنا، فعدا عليه إنسان فقتله؛ أنه يكون له ذلك الثمن إلا أن تكون قيمته أكثر من الثمن، فيعطى القيمة، وذلك إذا كان قتله بحدثان ما أعطى به ذلك، قال ابن القاسم: ولقد كان ابن أبي حازم يضحك بالذي أمر به المخزومي(14/583)
الرجل من عتق الجارية، ويقول: دمر المسكين، فكان يسره ذلك، قال: وأراهما كانا يتعارضان.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في الذي وقف برأس له في السوق، فأعطي به ثمنا، فعدا عليه عاد فقتله، أنه يكون عليه الأكثر من قيمته، أو مما أعطي فيه يبين ما وقع من قوله في أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب الغصب، أنه يلزمه الثمن الذي أعطي به، وأن معناه إن كانت قيمته أقل، وأما إن كانت أكثر، فيلزمه الأكثر على ما قاله هاهنا، وعلى قياس ما قضى به ابن عمران على الرجل، وسحنون يقول في مسألة مالك إنه لا يلزمه إلا القيمة، قاله في سماع ابن القاسم من كتاب الغصب، وذلك خلاف ما قضى به ابن عمران على الرجل في الجارية التي زاد فيها، مثل مذهب المخزومي على ما أشار به على الرجل من عتق حظه في الجارية، وبالله التوفيق.
[: وهب لرجل بعض من يعتق عليه من ذوي قرابته أو أوصى له أو تصدق به عليه]
ومن كتاب القطعان قال ابن القاسم: قال مالك: من وهب لرجل بعض من يعتق عليه من ذوي قرابته، أو أوصى له، أو تصدق به عليه فهو حر قبله المعطي أو لم يقبله، قال مالك: وأرى أن يبدأ على الوصايا مثل العتق بعينه، والولاء للموصى له به، أو الموهوب له، أو المتصدق به عليه؛ وإن أوصى له ببعضه، أو تصدق ببعضه، أو وهب له بعضه فقبله، استتم عليه ما بقي، وإن لم يقبله، عتق منه عليه ما أوصى له به، أو تصدق به عليه، ويبدأ أيضا على الوصايا، ويكون ولاء ذلك للموهوب له، أو الموصي به، قال ابن القاسم: من تصدق على رجل بمن يعتق عليه، أو وهبه له في صحته، أنه حر قبله أو لم(14/584)
يقبله، وولاؤه له، مثل قول مالك في المرض والوصية، وإنما هو عندي بمنزلة من قال: غلامي حر عن أبي، أو عن فلان، والولاء للأب أو لفلان، وكذلك لو تصدق عليه بنصفه، أو وهبه له، فإنه إن قبله، استتم عليه عتقه، وكان الولاء كله له، وإن لم يقبله، عتق منه ما تصدق به عليه، وليس له أن يرد ذلك؛ ويكون ولاؤه له على كل حال، قبله أو لم يقبله، قال عيسى: لا يعجبني قوله في الولاء، وقد سمعته يقول: إن قبل فالولاء له، وإن لم يقبل، فالولاء للمتصدق.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا وهب له من يعتق عليه، أو تصدق به عليه، أو أوصى له به، فحمله الثلث؛ أن الولاء له، قبله أو لم يقبله؛ وأنه إذا وهب له شقصا منه، أو أوصى له به، فلم يحمله الثلث؛ أنه إن قبل، قوم عليه الباقي؛ وإن لم يقبل أعتق عليه ما وهب له منه، أو ما حمله الثلث منه، وكان الولاء له على كل حال، هو قوله في المدونة؛ ووجه ذلك أنه لما وهب له، أو تصدق به عليه، أو أوصى له به، وقد علم أنه يعمق عليه إذا ملكه، ولم يكن على يقين من قبوله إياه، حمل عليه أنه أراد عتقه عنه، فكان الولاء له قبل أو لم يقبل؛ ووجه القول الثاني: أنه لما علم أنه يعتق عليه فأوصى له به، أو وهبه إياه أو تصدق به عليه، فقد قصد إلى عتقه، فكأنه قال: إنه قبله، وإلا فهو حر، وكان القياس إذا لم يقبل، أن يرجع إلى الواهب، أو المتصدق، أو إلى ورثة الموصي، كان الكل أو البعض، وقد قاله علي بن زياد، عن مالك في المدونة إذا لم يحمله الثلث، وكذلك على قياس قوله إذا تصدق عليه ببعضه، أو وهب له بعضه؛ فيتحصل على هذا في المسألة إذا لم يقبل قوله أربعة أقوال؛ أحدها: أن الولاء له. والثاني: أن الولاء للواهب أو المتصدق. والثالث: أنه يرجع ملكا لواهبه أو للمتصدق به أو لورثة(14/585)
الموصي. والرابع: الفرق بين أن يتصدق عليه بالكل، أو يهبه إياه، أو يوصي له به، فيحمله الثلث؛ وبين أن يتصدق عليه بشقص منه، أو يهبه إياه، أو يوصي له به، أو يحمله فلا يحمله، فإن كان الكل عتق، وكان الولاء له؛ وإن كان البعض، رجع إلى الواهب، أو المتصدق، أو إلى ورثة الموصي ملكا، ولا اختلاف في أنه إذا قبل يعتق عليه، ويكون الولاء له إن كان جميعه؛ وإن كان بعضه عتق عليه وقوم عليه الباقي، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وقد مضى في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات، التكلم على هذه المسألة أيضا، وفي كل واحد من الموضعين زيادة على ما في الموضع الآخر، والله الموفق.
[مسألة: المرأة تعتق مدبرها عن أبيها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المرأة تعتق مدبرها عن أبيها، قال: لا أحب ذلك لها؛ فإذا فعلت، فالولاء لها، قيل له: فالمكاتب هل هو عندك في هذا مثل المدبر؟ قال: ما أشبهه به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الكتابة والتدبير عقدان لازمان يوجبان الولاء، إلا أن يطرأ ما ينقضهما من عجز المكاتب، أو دين يستغرق تركة المدبر، فوجب إذا أعتق واحدا منهما عن أبيه، أن يكون الولاء له لا لأبيه؛ إذ لا يملك نقل الولاء عن نفسه إلى أبيه؛ لنهي النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن هبة الولاء وبالله تعالى التوفيق، لا شريك له.
تم كتاب العتق الثاني، والحمد لله.(14/586)
[: كتاب العتق الثالث] [: يبدأ الدين فيؤدى وينظر إلى ثلث ما بقي]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب العتق الثالث
ومن كتاب أوله باع شاة وسألته: عن رجل حضرته الوفاة فدعا موالي له كان كاتبهم فقال: إني قد كنت حنثت فيكم بعتق قبل أن أكاتبكم فما أخذت منكم فهو في مالي فخذوه، وعليه دين للناس، وقد كان أخذ منهم عرضا من إبل أو غنم ورقيق فتناسل ذلك، وهو معروف.
قال ابن القاسم: يبدأ الدين فيؤدى وينظر إلى ثلث ما بقي، فإن كان ثلثه يحمل ما لهم، الذي أخذ منهم، دفع ذلك إليهم، أو ما حمل ثلثه من ذلك، وما أقر به أنه قد كان حنث فيهم فذلك باطل لا يعتقون عليه بذلك، ويقال لهم: أدوا ما بقي عليكم من الكتابة فإن أدوا عتقوا وإلا رقوا.
قال محمد بن رشد: قوله، فيما أقر في مرضه الذي مات منه أنه أخذه من مواليه في كتابتهم بعد أن كان حنث بعتقهم: إن ذلك يكون في ثلثه - معناه: إذا كان يورث بكلالة إذ لو كان يورث بولده لجاز ذلك من رأس ماله، على ما في المدونة وغيرها، وهو مثل أحد قولي ابن القاسم في كتاب المكاتب من المدونة خلاف المشهور من أن ذلك يبطل ولا يكون في رأس المال ولا في الثلث، إذ لم يرد به الثلث، وكان يلزم على قياس قوله أن يعتق الموالي أيضا من الثلث لإقراره أنهم أحرار بما حنث فيه من عتقهم.(15/5)
فقوله في هذه المسألة متناقض، إذ فرق بين عتقهم وما أخذوه منهم في كتابتهم، فقال: إن العتق يبطل، وما أخذه منهم في الكتابة يكون في ثلثه.
وقد قيل: إن ذلك ليس بتناقض، وإنه إنما قال فيما قبض من الكتابة: إنها تكون من الثلث؛ لقوله: فخذوه؛ لأن ذلك بمنزلة أن لو قال في العبيد: فأنفذوا ذلك لهم، إذ لو قال ذلك لعتقوا في الثلث، على ما زاده ابن حبيب عن ابن القاسم من رواية أصبغ عنه في هذه المسألة، وعلى ما مضى في رسم أمهات الأولاد من سماع عيسى من كتاب الوصايا، وليس ذلك بصحيح؛ لأن قوله لرقيقه في المال: خذوه لأنه لكم - لا يشبه قوله لورثته في الرقيق: أنفذوا لهم الحرية، فالتناقض في المسألة ظاهر، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال رأس من رقيقي حر إن شفاني الله فشفاه الله]
مسألة قال ابن القاسم: من شهد عليه بعتق كان منه في الصحة لم يكن يستطيع أن يخرج منه حتى يوقفه على من أحب من رقيقه، مثل أن يشهد عليه أنه قال: رأس من رقيقي حر إن شفاني الله أو قدم أبي، فشفاه الله أو قدم أبوه، وأثبتته البينة في الصحة فإن ذلك يقال له أوقع على من أحببت، فإن فعل كان ذلك له، وإن لم يفعل حتى مات جرى العتق في جميع رقيقه، إن كانوا ثلاثة أعتق أثلاثهم، وإن كانوا أربعة أعتق أرباعهم.
ومن شهد عليه أنه أعتق رأسا من رقيقه سماه فنسيه الشهود فجحد أو لم يجحد حتى مات فلا عتق لمن بقي.
وإن قال قد أعتقت جارية من جواري وتزوجتها وشهد عليه بذلك ولم يسمها وجهلوا أن يسألوه حتى مات وهو صحيح كان بمنزلة(15/6)
من قال: رأس من رقيقي حر، وجرت الحرية في عددهم على حال ما سميت لك.
قلت: أرأيت لو أن رجاله ثلاثة أرؤس فأقر عند موته أن أحدهم حر ونسوا أن يسألوه من هو حتى مات، أكانوا يرقون كلهم؟ قال: بل يعتق منهم أثلاثهم، وكذلك الذي أقر أنه أعتق جارية من جواريه وتزوجها فجهل الشهود أن يسألوه: من هي؟ فالعتق يجري فيهن على ما فسرت لك ولا ميراث لواحدة منهن، ولو أن أولئك الجواري هلك بعضهن وبقي بعض فلم يعلم الذي أعتق أهي فيمن مات أو فيمن بقي رأيت ألا يعتق من البواقي إلا ما يعتق منهن لو كن أحياء إن كن عشرا فمات خمس عتقت من الخمس أعشارهن، كما يعتق منهن لو كن أحياء، لأنا حين لم ندر أهي فيمن هلك أو فيمن بقي؟ لم يحمل على الورثة أكثر من الذي يصيبهم أن لو كانوا أحياء وهو عشر القيمة، قال: ولو كان باع بعضهم وبقي بعض ردت العتاقة فيمن بقي إن كانوا عشرة فباع خمسة وبقي خمسة عتق ممن بقي خمس كل واحدة منهن؛ لأنه قد علمنا حين باعهم أن العتاقة فيمن بقي.
قلت: فلو أن الرقيق قالوا لواحد منهم: هذا هو الذي أعتق سيدنا، وقد أعلمنا بهم - لم يعتق بقولهم ولم يقبل واتهموا في أن يدفعوا عن أنفسهم الضرر، ضرر العتق.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أحفظه في أن من قال رأس من رقيقي حر، يسأل: هل أراد واحدا منهم بعينه أم لا؟ ويصدق فيما قاله من ذلك، قيل: بيمين، وهو قول ابن القاسم في سماع محمد بن خالد بعد هذا، قاله إذا قال: لم أرد واحدا منهم بعينه، وقيل: بغير يمين، قاله في المدونة، إذا قال: أردت(15/7)
فلانا منهم، ولا فرق بين الموضعين، والاختلاف في هذا على اختلافهم في لحوق يمين التهمة.
ولا أعرف نص خلاف في أن له أن يعتق ما شاء منهم إذا قال لم أرد واحدا منهم بعينه، فلو أراد على هذا القول أن يسهم بينهم تحريا للعدل بينهم فيعتق من خرج سهمه لكان ذلك له، ولو أبى أن يعتق واحدا منهم لوجب أن يعتق الإمام عليه أحدهم بالقرعة ولو قال لما سئل أردت واحدا منهم بعينه فنسيت من هو منهم لوجب على قياس قولهم أن يعتقوا عليه كلهم؛ إذ لا يجوز له أن يسترقهم وأحدهم حر، ولو أعتق هو أحدهم لم يعتق عليه الباقون منهم إلا على الاختلاف في القضاء على الرجل بعتق ما شك فيه من عتق عبيده، والقولان في العتق الأول من المدونة.
وأما إذا مات قبل أن يختار فاختلف قول ابن القاسم في ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: قوله في هذه الرواية: إن العتق يجري فيهم كلهم بالسوية إن كانوا ثلاثة عتق ثلث كل واحد منهم، أو كانوا أربعة عتق ربع كل واحد منهم، وإن كانوا أكثر من ذلك أو أقل فعلى هذا.
والثاني: أنه يعتق واحد منهم بالسهم يريد من غير أن يعتبر في ذلك ما يقع الواحد من جميعهم، وهو قوله في سماع عيسى أيضا على ما حكى عنه سحنون في رسم الصلاة من سماع يحيى.
والثالث: قوله في سماع محمد بن خالد، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى: إن الورثة منزلون منزلة الميت في الاختيار.
وفي المسألة قول رابع: وهو قول مالك الذي حكى سحنون في سماع محمد بن خالد أنه بلغه عنه، أنه يعتق ثلثهم بالسهم إن كانوا ثلاثة، أو ربعهم إن كانوا أربعة، فقد يعتق منهم على هذا القول أقل من عبد وأكثر من عبد مثل أن يكونوا ثلاثة أعبد قيمة أحدهم مائة وقيمة الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلاثمائة، لأنه إن خرج السهم على الذي قيمته مائتان عتق جميعه لا أكثر، لأن قيمته ثلث قيمتهم ثلاثتهم، وإن خرج السهم على الذي قيمته ثلاثمائة عتق منه ثلثاه، وإن خرج السهم على الذي(15/8)
قيمته مائة عتق جميعه وأعيد السهم ثانية على الباقين، فإن خرج السهم على الذي قيمته مائتان عتق منه نصفه، وإن خرج على الذي قيمته ثلاثمائة عتق منه ثلثه.
وفي المسألة قول خامس: وهو قول سحنون في رسم الصلاة من سماع يحيى: أنه إن اتفق الورثة على اختيار واحد كان لهم ذلك، وإن اختلفوا أقرع بينهم، فأعتق واحد منهم، على ما رواه عيسى في أحد الروايتين عنه.
وفيها أيضا قول سادس: وهو قول سحنون في سماع محمد بن خالد: أنه إن اتفق الورثة على اختيار واحد كان ذلك لهم، وإن اختلفوا أقرع بينهم فأعتق ثلثهم بالسهم إن كانوا ثلاثة، أو ربعهم إن كانوا أربعة على ما حكى أنه بلغه عن مالك.
وجه القول الأول: أن العتق لما كان أصله في الصحة ومات المعتق الذي كان له الخيار ولم تصح القرعة في ذلك؛ لأن السنة إنما جاءت فيها في الذي أعتق عند موته - وجب أن يجري العتق في جميعهم، إذ لا مزية لواحد منهم في العتق على صاحبه.
ووجه القول الثاني: أن تنفيذ العتق لما كان بعد الموت أشبه الوصية فجازت في ذلك القرعة، فوجب أن يعتق واحد منهم بها، قلت قيمته أو كثرت، إذ قد علم أن الميت إنما أعتق عبدا واحدا منهم.
ووجه القول الثالث: أن التخيير في عتقهم حق كان للميت فوجب أن يرثه ورثته عنه.
ووجه القول الرابع: أن تنفيذ العتق لما كان بعد الموت وأثبتته الوصية وجازت في ذلك القرعة - وجب أن يعتق بها ثلثهم إن كانوا ثلاثة أو ربعهم إن كانوا أربعة، إذ لا يدري هل أراد الميت أقلهم قيمة أو أكثرهم، فكان العدل في ذلك أوسط القيم باعتبار عددهم، فعلى هذا القول لو أوصى رجل بعتق رأس من رقيقه لعتق ثلثهم بالسهم إن كانوا ثلاثة أو ربعهم إن كانوا أربعة، وعلى القول الثاني يعتق واحد منهم بالسهم، قلت قيمته أو كثرت.(15/9)
والمغيرة يقول، فيمن أوصى بعتق رأس من عبيده: إن العتق يجري في جميعهم؛ لأنه لا يرى القرعة بحال، فقوله في ذلك مضارع لقول أهل العراق.
وأما قولا سحنون فهما جميعا استحسان، إذ لا يخرج فيما اختاره في كل قول منهما عما تقدم من الاختلاف الذي قد مضى توجيهه.
والذي يأتي على قياس القول بأن الورثة ينزلون منزلة الميت في الاختيار إذا اختلفوا في ذلك أن يعتق على كل واحد منهم حضه من العبد الذي اختاره.
ولو قال الرجل في صحته: أنصاف رقيقي أو أثلاثهم أو أرباعهم أحرار - عتق جميعهم عليه.
ولو بتل في مرضه الذي مات منه عتق أنصافهم أو أثلاثهم قوم باقيهم في ثلثه إن حمل ذلك ثلثه أو ما حمل منه، ولو أوصى بذلك لم يعتق منهم إلا ما عتق، وأما إذا قال: ثلث رقيقي أحرار أو نصفهم أو ربعهم - فيعتق ثلثهم أو ربعهم أو نصفهم بالسهم، كان ذلك في الصحة أو في المرض أو في الوصية بعد الموت، غير أن ذلك إن كان في الصحة فخرجت القرعة على عبد قيمته أكثر من ذلك الجزء عتق عليه جميعه، إذ لا يصح التبعيض في عتق الصحيح، وكذلك إن خرجت القرعة على عبد قيمته أقل من ذلك الجزء ثم خرجت بعده على عبد قيمته أكثر من ذلك الجزء يعتق جميعه.
وقد قيل: إن قوله: نصف رقيقي أو ثلثهم أو ربعهم - بمنزلة قوله: أنصافهم أو أثلاثهم أو أرباعهم، حكاه ابن حبيب عن أصبغ.
وأما قوله في الرواية في الذي شهد عليه أنه أعتق رأسا من رقيقه سماه فنسيه الشهود فجحد أو لم يجحد حتى مات: إنه لا عتق لمن بقي - معناه: أنه لا عتق لمن بقي منهم إن مات بعضهم، ولا لواحد منهم إن لم يمت أحد، فهو المشهور أن الشهادة تبطل، وقد قيل: إنها تجوز، وهو الذي يأتي على ما في(15/10)
أصل الأسدية من كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة الذي طلق إحدى امرأتيه ولم يدر أيتهما المطلقة من أن الشهود شكوا فلم يعرفوا أيتهما المطلقة أن كانت التي دخل بها أو التي لم يدخل، ومثله في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب الوصايا، وقد مضى القول على ذلك هنالك وفى رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى منه مستوفى، وهو قول ابن وهب أيضا في سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات، فهذا وجه القول فيما أشكل من هذه المسألة وسائرها بين لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف أن يبيع عبده إلى شهر فباعه بيعا فاسدا قبل الشهر]
مسألة وسألته: عن رجل حلف في عبد له بحريته أن يبيعه إلى شهر فباعه قبل شهر بيعا فاسدا فمضى الشهر ثم رد عليه أو مات، فهل يحنث؟ أو باعه فوجد به عيب، علمه أو لم يعلمه فرد عليه هل يحنث؟ قال ابن القاسم: أما العيب الذي رد عليه وقد فات الأجل فهو حانث، علم أو لم يعلم بالعيب، فهو بمنزلة من حلف على جارية بحريتها أن يبيعها فوجدها حاملا أنها تعتق، وأما البيع الفاسد فإنه إن فات الأجل وهو على حاله أو لم يتغير بنماء أو نقصان حتى يكون قد فات الرد فيه رأيته يرد ويعتق عليه، وإن كان قد فات قبل الأجل لم أر عليه شيئا ورأيته رقيقا، لأن الأجل لم يفت حتى ضمنه المشتري فلذلك لم يعتق عليه.
قال محمد بن رشد: أما الذي حلف أن يبيع عبده إلى شهر فباعه بيعا فاسدا قبل الشهر، فقوله: إنه إن مات قبل الأجل فقد بر وإن مضى الأجل وهو على حاله فقد حنث، سواء رد عليه أو فات بعد الأجل، لا أعرف نص خلاف إلا أن الخلاف يدخل فيه بالمعنى من مسألة الذي يبيع عبده بيعا فاسدا قبل يوم الفطر فيمضي يوم الفطر وهو بيد المشتري ثم يرده عليه بعد يوم الفطر أو لا يرده(15/11)
عليه لفواته عنده قبل يوم الفطر أو بعده، إذ قد قيل: إن فطرته على المشتري، وإن رد على البائع بعد يوم الفطر؛ لأنه لو تلف عنده لكانت مصيبته منه، وهو قول ابن القاسم، فيأتي على قياس قوله هذا أن يبر بالبيع الفاسد، وإن رد عليه بعد أن قبضه المشتري، وهو قول أشهب في سماع أصبغ من كتاب النذور: إن الحالف ليقضين رجلا حقه يبر بالقضاء الفاسد وإن نقض ورد، وقيل أيضا: إن فطرته على المشتري إن لم يرد على البائع وإن كان لم يفت عنده إلا بعد يوم الفطر؛ لأنه إذا لم يرد على البائع فكأنه لم يزل ملكا للمشتري من يوم قبضه، وهو قول ابن الماجشون، فعلى قياس قوله يبر البائع بالبيع الفاسد إذا فات بيد المشتري وإن لم يفت عنده إلا بعد الأجل.
وتفرقة ابن القاسم في هذه الرواية بين أن يفوت العبد عند المشتري قبل الأجل أو بعده هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب، لأن البر لا ينبغي أن يكون إلا بأكمل الوجوه، وعلى القول بأن البيع الفاسد لا ينتقل به الملك ويكون المصيبة فيه من البائع وإن تلف بيد المشتري وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع في بعض الروايات لا يبر الحالف بالبيع الفاسد على حال، وهو قول رابع في المسألة.
وأما إذا حلف أن لا يبيعه فإنه يحنث بالبيع الفاسد على ما يأتي له في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ قولا واحدا، لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه إلا على القول بأن البيع الفاسد لا ينتقل به الملك.
وأما قوله في الذي حلف أن يبيع عبده إلى أجل ثم رد عليه بعيب بعد الأجل: إنه حانث، فهو على قياس القول بأن الرد بالعيب نقض بيع بدليل استشهاده بمسألة أم الولد، وهو خلاف المشهور من قوله: لأن المشهور من قوله أنه ابتداء بيع، فعلى قوله المشهور لا يحنث إذا رد عليه بعيب بعد الأجل أو قبله؛ لأنه لو اشتراه قبل الأجل لم يعتق عليه عنده، وقع ذلك من قوله في المدنية من رواية عيسى عنه، وقال: إن من قال خلاف هذا فقد أخطأ،(15/12)
وللمغيرة في المدنية: أن من حلف بحرية عبده ليبيعنه إلى أجل فباعه قبل الأجل - أنه يحنث إن ألفاه الأجل عنده، ومن قول ابن القاسم في المدونة وغيرها أن من حلف بحرية عبده أن لا يفعل فعلا فباعه ثم اشتراه أو وهب له أن اليمين ترجع عليه ويحنث بحريته إن فعل ذلك الفعل، إلا أن يعود إليه بميراث.
ووجه ذلك: أنه يتهم على إسقاط اليمين عن نفسه ببيعه إياه ليرد عليه، فعلى قياس هذا يجب أن يحنث إذا رجع إليه قبل الأجل إلا أن يرجع إليه بميراث.
فيتحصل على هذا في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يحنث بمضي الأجل إن اشتراه قبل الأجل أو رد عليه، وهو قول المغيرة في المدنية، والذي يأتي على قول ابن القاسم في المدونة.
والثاني: أنه لا يحنث في الوجهين جميعا، وهو على قياس القول بأن الرد بالعيب ابتداء بيع، وعلى أنه لا يحنث بالشراء.
والثالث: الفرق بين أن يشتريه أو يرد عليه بالعيب، وهو على قياس القول بأن الرد بالعيب نقض بيع، وهذا كله إذا لم يعلم بالعيب، وأما إذا علم به فلا اختلاف في أنه لا يبر إذا رد عليه قبل الأجل أو بعده؛ لأنه يتهم على أنه إنما باعه وهو عالم بالعيب ليرد عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف في جاريته بالحرية أن يتخذها أم ولد فيبيعها]
مسألة وسألته: عن الرجل يحلف في جاريته بالحرية أن يتخذها أم ولد فيبيعها، هل يحنث فيها حين باعها أو يرد ذلك البيع، وتكون عنده موقوفة بحالها؟ أو قال، وهي في ملكه: والله لا أتخذها أبدا، هل تعتق عليه ساعة حلف بذلك أو لا تعتق عليه أبدا حتى يموت؟
قال ابن القاسم: أرى أن ترد وتكون في ملكه حتى يبر أو يموت فتعتق في ثلثه، وكذلك قال مالك فيمن حلف في رقيقه بحريتهم على أمر أن يفعله ثم باعهم: إنه يرد بيعهم ويوقفوا في يديه حتى يبر أو يموت فيعتقوا في ثلثه.(15/13)
قلت: فإن فلس سيدهم قبل أن يبر وقد حلف بحريتهم قبل الدين أو بعده يباعوا في الدين؟ قال ابن القاسم: يباعوا في الدين للغرماء كانت يمينه فيهم قبل الدين أو بعده، وليس هم بمنزلة المدبر؛ لأنه هو إن أراد أن يبر بر وسقطت عنه اليمين، وأن المدبر ليس له أمر يبر فيهم.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى أن ترد وتكون في ملكه حتى يبر أو يموت فتعتق في ثلثه، هو مثل ما في المدونة من قوله وروايته عن مالك، خلاف قول ابن دينار فيها: إنه إذا رد البيع فيها أعتقت على البائع، قال: لأنه لا ينقض صفقة مسلم إلى رق، وإنما ينقض إلى عتق، وقد ذهب بعض الشيوخ إلى أن ما وقع من قول مالك في رسم العتق بعد هذا هو مثل قول ابن دينار في المدونة، وليس ذلك بصحيح على ما سنذكره إذا وصلنا إليه إن شاء الله.
وقوله: إنهم يباعون في الدين كانت يمينه فيهم قبل الدين أو بعده وأنهم ليسوا بمنزلة المدبرين صحيح للعلة التي ذكرها، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه يعارض ذلك ما وقع في أول رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ بعد هذا: أن هذه اليمين التي تكون فيها على حنث أقوى من المدبرة، لأن المدبرة توطأ وهذه لا توطأ وليس ذلك ببين، لأنه إنما أراد أنها أقوى منها في أن ولدها يدخلون معها، وليست بأقوى منها في ذلك، بل هي أضعف، إذ قد اختلف في دخول ولدها معها في اليمين حسبما مضى القول فيه في رسم بع ولا نقصان عليك، ولم يختلف في دخول ولد المدبرة معها في التدبير، ورأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة: ولو اشتراهم بعد بيع السلطان عليه للغرماء لرجعت اليمين عليه؛ لأنهم بيعوا وهو على حنث.
فأما قوله: إن اليمين ترجع عليه فهو صحيح، وأما تعليله ذلك بقوله: لأنهم بيعوا وهو على حنث، فليس بصحيح، لأن اليمين ترجع عليه على مذهبه، وإن كان على بر، فهو نص قوله في المدونة، خلاف قول غيره فيها، وبالله التوفيق.(15/14)
[مسألة: يحلف أن لا يبيع سلعة فتغصب منه فيجدها قد نقصت]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يحلف بحرية عبده أن لا يبيعه فيغتصبه منه إنسان فينقص عنده، فهل له أن يأخذ قيمته؟ قال: إن كان الذي نقصه أمر جاءه من الله وأخذ قيمته فقد حنث، لأنه كان مخيرا على الغاصب، إما أن يأخذه بعينه ولا شيء عليه في العيب، وبين أن يسلمه ويأخذ قيمته، فإذا أسلمه وأخذ قيمته كان بائعا له، ولو أصابه غيره فأخذ له أرشا أو لم يأخذ له فأسلمه كان حانثا إذا رضي بالقيمة من غاصبه، ولو أنه أخذه وأخذ ما أخذ الغاصب في جرحه أو اتبع الجارح بما جنى على عبده لم يكن عليه شيء، فقد قال ابن القاسم في رسم القطعان في الرجل يحلف أن لا يبيع سلعة فتغصب منه فيجدها قد نقصت، قال: إن كان نقصانا يسيرا فأخذ قيمتها حنث، وإن كان نقصانا فاحشا يكون الثلث فأكثر فأخذ له ثمنا فلا شيء عليه، وقال أيضا في كتاب المكاتب: إن كانت السلعة قائمة فهو حانث، وإن كانت قد فاتت فأخذ قيمتها أو سلعة مثلها فلا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب النذور، وقلنا فيها هنالك: إن الذي يتحصل من هذه الروايات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يحنث بأخذ القيمة منه إذا فاتت عنده فواتا يوجب له تضمين القيمة إياه، يسيرا كان النقصان أو كثيرا، بأي وجه كان، وهو الذي في كتاب المكاتب.
والثاني: أنه يحنث بأخذ القيمة منه فيها، وإن فاتت ووجب له تضمين القيمة إياه، يسيرا كان النقصان أو كثيرا، بأي وجه كان، وهو الذي في هذا الرسم.
والثالث: أنه يحنث بأخذ القيمة منه فيها، إن كان النقصان يسيرا، ولا يحنث إن كان النقصان كثيرا أكثر من الثلث.(15/15)
ووجه القول الأول أن ذلك ليس ببيع لأن البيع إنما يكون برضا المتبايعين، والغاصب مجبور على أخذ القيمة منه.
ووجه القول الثاني: أن ذلك بيع من أجل أنه مخير بين أن يأخذ سلعته ويضمنه ما نقص يسيرا كان النقصان أو كثيرا وبين أن يسلمها إليه ويأخذ منه قيمتها، فأشبه من حلف أن لا يبيع سلعة قد باعها على أنه فيها بالخيار أنه يحنث إن أمضاها له وإن كان المبتاع مجبورا على أداء الثمن فيها للعقد المتقدم.
والقول الثالث: لا يخرج عن القولين فهو استحسان على غير حقيقة القياس.
وقد تؤول ما في كتاب المكاتب على أنه إنما أراد بما ذكره فيه من الفوات فوات عينها فترجع المسألة على هذا التأويل إلى قولين: أحدهما: أنه حانث بكل حال، والثاني: الفرق بين القليل والكثير، والصحيح أن تحمل الرواية على ظاهرها، وقد بينا وجه ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: كل ولد يلحق بأبيه ويخرج حرا فولاؤه لأبيه]
مسألة وعن الأمة يكون بعضها حرا وبعضها رقيقا يطؤها الذي له فيها الرق، فتحمل فتعتق - هل على الذي كان أعتق بعضها من ولاء الولد شيء أم لا؟ قال: لا، الولد بينهما.
قال محمد بن رشد: روى ابن المواز عن ابن القاسم مثل رواية عيسى هذه، وقال من رأيه، والصواب أن يكون الولاء لأبيه، والنسب أملك به، وعلى الأب عتق، وبالحمل عتق الأم، وكل ولد يلحق بأبيه ويخرج حرا، فولاؤه لأبيه ولو أعتق المتمسك بالرق ثم تزوجها رجل، فولاء ولده لمواليه دون مواليها، والذي قاله محمد بن المواز هو الصحيح، لأن كل ولد يولد للحر ويلحق به نسبه فولاؤه لموالي أبيه، فإن كان مولى ولا يكون الولاء لموالي الأم(15/16)
إلا إذا كان النسب منقطعا من الأب مثل أن يكون ولد زنا أو منفيا بلعان أو كافرا حربيا، وبالله التوفيق.
[: باع عبدا من رجل فأعتقه المشتري]
ومن كتاب العتق وسئل ابن القاسم عن رجل باع عبدا من رجل فأعتقه المشتري فجاءه البائع فتقاضاه الثمن فأنكر أن يكون اشتراه، وقال: إنما استأجرته منك فخذ عبدك وقد علم البائع بالعتق.
قال: إن كان له مال يوم أعتقه فيه وفاء ثمنه فلا أرى له أن يأخذه، وإن لم يكن له مال يوم أعتقه في ثمنه فضل عن دينه فأرى أن يأخذه ويبيع منه قدر دينه، ويعتق ما بقي منه إذا لم يكن علم بعتقه ولم يكن له مال يوم أعتقه.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسألة أنه إن كان للمشتري وفاء بالثمن فلا يصح له أن يأخذه لأنه مقر أنه حر بعتق المشتري إياه بعلمه، وإن لم يكن له مال ولا كان في قيمته فضل عن ثمنه كان له أن يأخذه، لأن الثمن الذي له عليه يرد عتقه فيه.
وأما إن كان في قيمته فضل عن ثمنه مثل أن يكون باعه منه بمائة وقيمته خمسون ومائة، فلا يأخذه إلا أن يكون لم يعلم بعتقه إياه فيأخذه ويبيع منه ثلثيه بمائة ويعتق ثلثه، وإنما لم ير أن يأخذه إذا علم بعتقه وكان فيه فضل لوجوب عتقه عليه، لأنه إذا أعتق عليه الفضل بإقراره أنه أعتقه أعتق عليه باقيه، وإنما يجب أن يعتق عليه باقيه على القول بأن ما أعتق عليه منه بإقراره بأن المشتري أعتقه يكون ولاؤه له لا للمشتري.
فقول ابن القاسم في هذه المسألة خلاف ما مضى من قوله في رسم(15/17)
يوصي لمكاتبه من أن من شهد على ابنه بعتق عبد له فملك منه شقصا زائدا على ميراثه منه أنه يعتق عليه جميع ما ملكه منه، ولا يقوم عليه باقية، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، والذي يأتي في هذه المسألة على قياس قوله في رسم يوصي لمكاتبه أنه لا يقوم عليه باقية أن يكون له أن يأخذ العبد إذا كان في قيمته فضل عن ثمنه وإن كان عالما بعتق المشتري إياه فيباع منه بقدر الثمن ويعتق عليه باقية الباقي.
وقوله فيها: إنه إن كان له مال يوم أعتقه فيه وفاء ثمنه فلا أرى له أن يأخذه - يريد: ويعتق عليه بإقراره أن المشتري أعتقه، على ما يأتي من قوله في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، هو على قياس أحد قولي ابن القاسم في المدونة في العبد بين الشريكين يشهد أحدهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه منه وهو موسر أنه يعتق عليه نصيبه؛ لأنه مقر على نفسه بوجوب عتقه على شريكه بالتقويم، وكذلك هذا يعتق عليه العبد لإقراره على نفسه بوجوب عتقه على المشتري بالشراء، إذ قد أعتقه بعد أن اشتراه، فالمعنى في المسألتين سواء، يدخل الاختلاف في هذه ... تلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وورثته ابنته وابنه فشهدوا أن أباهما أعتق هذا العبد واختلفا]
مسألة وسألته: عن رجل هلك فورثته ابنته وابنه فشهدوا أن أباهما أعتق هذا العبد واختلفا، فقال الابن: هذا، وقالت الابنة: هذا.
قال: لا شهادة لهما، فإن ملك أحدهما من شهد له أعتق عليه كله أو ما حمل ثلث الميت، قال: وإن اجتمعا على عبد واحد عتق في ثلث الميت أو ما حمل الثلث منه إذا لم يكن للميت وارث غيرهما.(15/18)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا شهادة لهما، إذ لا يثبت العتق بشاهد واحد، ولا تجوز فيه شهادته، وقد مضى في رسم العرية ورسم يوصي لمكاتبه تحصيل القول فيما يلزم من شهد من الورثة بعتق على موروثه فلا معنى لإعادته، فإن اجتمعا جميعا على عبد واحد ولم يكن للميت وارث غيرهما جاز إقرارهما على أنفسهما، وعتق في ثلث الميت، كما قال: إن كان إنما شهدا أنه أعتقه في مرضه أو أوصى بعتقه، وهذا بين لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: إخوة ثلاثة شهد اثنان منهم بعتق عبد وقال الثالث لا]
مسألة وسألته: عن إخوة ثلاثة، شهد اثنان منهم بعتق عبد، وقال الثالث: لا، بل هو هذا، ولا وارث له غيرهم.
قال: يعتق الذي شهد له الشهيدان إن حمله الثلث ولا يعتق الذي أقر له الواحد إلا أن يملكه كله أو بعضه فيعتق عليه منه ما حمل الثلث، فإن لم يملكه كله وملك منه بعضه عتق منه عليه ما ملك، ولم يقوّم عليه حظوظ شركائه، قال: وإن لم يصر له منه إلا مال أمر بأن لا يأكله وأن يجعله في رقبة يعتقها، فإن لم يكن فيه ما يعتق به رقبة استتم به قطاعة مكاتب أو أعتق هو وقوم عبدا، قال عيسى: وهذا إذا كان الذي شهد للواحد مكذبا لشاهدي الآخر، وأما إذا كان الذي شهد لهذا غير مكذب لشهادة الأولين للآخر فإنما يعتق عليه من الذي شهد له، إذا ملكه ما كان يحمل الثلث منه مع الآخر أو تحاصا فيه.
قال محمد بن رشد: قوله: شهد اثنان منهم بعتق عبد - معناه: أنه أوصى بذلك أو بتل عتقه في مرضه الذي مات منه، بدليل قوله: يعتق الذي شهد له الشهيد إن حمله الثلث.(15/19)
وقوله: ولا يعتق الذي أقر له الواحد، يريد: ولا حظه الذي صار له بالميراث منه.
وقوله: إلا أن يملكه كله أو بعضه، يريد: إلا أن يملك بقيته فيستخلصه بذلك منه، أو يملك منه جزءا زائدا إلى ميراثه منه فيعتق عليه منه ما حمل الثلث.
وقوله: فيعتق عليه ما حمل الثلث، معناه: دون الآخر الذي أعتق من الثلث بالشهادة؛ لأنه مكذب لها، على ما قاله عيسى من أن هذا إذا كان الذي شهد للواحد مكذبا لشاهدي الآخر، فقول عيسى بن دينار في هذا مفسر لقول ابن القاسم في هذه الرواية - خلاف قوله في سماع أبي زيد بعد هذا من هذا الكتاب، وخلاف ما مضى من قوله أيضا في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الوصايا، إذ قد نص في هذين الموضعين جميعا على أنه إنما يعتق عليه ما حمل الثلث منه مع صاحبه الذي عتق بالشهادة، والذي في هذه الرواية هو الصحيح في النظر، وأما قول عيسى بن دينار إذا كان الذي شهد لهذا غير مكذب لشهادة الأولين فإنما يعتق عليه من الذي شهد له إذا ملكه ما كان يحمل الثلث منه مع الآخر لو تحاصا فيه، فلا ينبغي أن يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، لأن المنصوص لابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب الوصايا أنه يسهم بينه وبين العبد الذي أعتق بالشهادة، فإن خرج السهم عليه عتق إن حمله الثلث أو ما حمل منه، وهو الصحيح في النظر، لأن هذا هو الذي كان يجب لهذا العبد لو ثبت ما أقر به الوارث من أنه أوصى بعتق العبدين جميعا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الطلاق والعتق بشهادة النساء]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل حلف بالحرية أو بطلاق إن لم يكن بفلانة عيب بموضع كذا وكذا مما لا يراه إلا النساء وهي حرة أو(15/20)
أمة مملوكة، فقالت الحرة: لا أمكن أحدا ينظر إليها لا امرأة ولا غيرها، وقال الرقيق والزوجة: ليس ذلك بنا، أو أذنت الحرة في أن ينظر إليها امرأة، فنظرت، فقالت: ليس بها ما قال، هل يحنث بالعتق والطلاق بقولها؟ قال: لا يحنث، وهو يدين وليس نظر النساء بشيء.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال، إذ لا يجب الطلاق والعتق بشهادة النساء، وبالله التوفيق.
[مسألة: التدبير لا يلزم به التقويم]
مسألة قال: وسألته: عن عبد بين رجلين، قال له أحدهما: اخدمني عشر سنين وأنت حر، وقال له الآخر: أنت مدبر.
قال: أرى أن يترك على حاله في العتق والتدبير، فإن مات الذي دبر قبل عشر سنين وترك ما لا يخرج نصيبه من ثلثه عتق نصيبه وبقي النصف الآخر إلى الأجل الذي أعتق إليه، وإن مات ولا مال له أو كان له من المال ما لا يتم في ثلثه عتق نصفه، عتق منه ما عتق في ثلثه، وقوم ما بقي من الرق في النصف على الذي أعتق إلى عشر سنين فكان حرا إلى عشر سنين، وإن انقضت العشر سنون قبل موت الذي دبر، قوم على هذا الذي أعتق إلى عشر سنين نصف صاحب المدبر فيعتق عليه كله وانفسخ التدبير الذي دبر إلا إن شاء الذي دبر أن يعجل عتق نصيبه فيكون ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن التدبير لا يلزم به التقويم كالعتق، إذ قد يرده الدين، وإنما التقويم فيه أو المقاومة على اختلاف قول مالك حق للذي لم يدبر من أجل الفساد الذي أدخله عليه فيه بتدبير حظه منه، فإن شاء قومه عليه أو قاومه فيه على اختلاف قول مالك، وإن شاء(15/21)
تمسك بحظه منه، فسواء في هذه المسألة علم الأول منهما أو لم يعلم، بخلاف إذا أعتق كل واحد منهما حظه منه إلى موت صاحبه أو إلى موت رجل سماه، وقد مضى الكلام على ذلك في رسم أوصى.
فإن كان الذي أعتق نصيبه إلى عشر سنين هو الأول منهما لم يصح أن يقوم عليه نصيب شريكه المدبر، إذ قد يجب له العتق بالتدبير قبل العشر سنين لا سيما وقد قيل، وهو أحد قولي مالك: إنه لا يقوم على من أعتق حظه من عبد إلى أجل حظ شريكه حتى يحل الأجل، فإن مات الذي دبر حظه قبل العشر سنين فرده الدين أو لم يحمله الثلث قوم على ما قال ما رق منه على الذي أعتق إلى عشر سنين على القول بتعجيل التقويم على من أعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه إلى أجل.
وإن كان الذي دبر نصيبه هو الأول منهما لم يكن لشريكه عليه حجة فيما كان يجب له عليه من التقويم أو المقاومة إذ قد أفات نصيبه بعتقه إلى أجل، فإن حل الأجل قبل أن يموت شريكه الذي دبر نصيبه قوم عليه حظ شريكه المدبر كما قال على قياس قوله في المدونة في المدبر بين الرجلين يبتل أحدهما نصيبه: إنه يقوم عليه نصيب شريكه المدبر، ولا يقوم عليه على القول بأنه لا يقوم على من أعتق حظه من عبد حظ شريكه الذي كان دبره قبل من أجل أن التدبير عقد قوي لازم يصح به الولاء للمدبر، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري بيع البراءة ويعجل له العتق]
مسألة وسئل عن رجل، قال: ابتاعوا غلاما فأعتقوه، أو قال: غلام بني فلان فأعتقوه، هل يوقف في الأيام الثلاثة أو يشتري بيع البراءة ويعجل له العتق.
قال: أرى أن يشتري بيع البراءة ويعجل له العتق ولا يخاطر به.(15/22)
قال محمد بن رشد: أما إذا كان عبدا معينا فكما قال، لا ينبغي أن يشتري على العهدة فيخاطر به، إذ قد يموت في الأيام الثلاثة فتبطل الوصية له بالعتق.
وأما إذا كان غير معين فالصواب أن يشتري على العهدة، لأنه إن مات في الثلاثة الأيام أو أصابه فيها عيب كان من البائع، واشتري غيره للعتق في الوصية، وإن اشتري على البراءة وعجل له العتق قد يصيبه عيب في الثلاثة الأيام فلا يمكن رده، ويكون قد أعتق عنه عبدا معيبا، وهذا بين، فلا ينبغي أن يحمل كلامه في الرواية إلا على العبد المعين بقوله: اشتروا غلام بني فلان فأعتقوه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخبر عن الرجل أنه قد أعتق عبده ثم يشتريه بعد ذلك]
مسألة وسئل: عن الرجل يخبر عن الرجل أنه قد أعتق عبده ثم يشتريه بعد ذلك.
قال: إن كان خبره على وجه أنه قد علم ذلك منه، يخبر عنه بأنه قد أعتقه عندي ليس يخبره عن أحد أخبره به رأيت أن يعتق عليه.
قال الإمام القاضي: هذا تفسير قوله في المدونة، وأشهب يرى أنه لا يعتق عليه إلا أن يقيم على قوله بعد أن اشتراه، وأما إن كذب نفسه فلا يعتق عليه، وإذا أعتق عليه فولاؤه عند ابن القاسم للذي أخبر عنه أنه أعتقه، وقال أشهب والمخزومي: ولاؤه للذي أعتق عليه، وقد ذكرنا هذا في رسم أوصى وما يلزم من تقويم الشقص على هذا الاختلاف، والله الموفق.
[مسألة: مراعاة المال المأمون]
مسألة وقال في المدبر والعبد يوصى بعتقه فيعتق أحدهما عبدا قبل أن يقوما بعد موت السيد.(15/23)
قال: منزلة من أعتقا بمنزلتهما إن كان للسيد أموال مأمونة فماتا أو مات من أعتقا قبل التقويم ورثهم ورثتهم من الأحرار وإن لم تكن له أموال مأمونة فلا عتق لهما ولا لمن أعتقا حتى يقوما في الثلث، فإن خرجا حرين في القيمة عتق من عتقا وكان ولاؤهم لهما.
قال محمد بن رشد: هذا على مذهبه في المدونة في مراعاة المال المأمون، وقد قيل: إنه لا يراعى، وهو قول بعض الرواة في المدونة، فقيل المريض لا ينظر فيه إلا بعد الموت والتقويم كانت له أموال مأمونة أو لم تكن وهو القياس، وبالله التوفيق.
[مسألة: ملك من يعتق عليه]
مسألة قال في الذي يشتري أباه أو أخاه فلا يدفعه إليه البائع حتى يأتيه بالثمن فيهلك العبد قبل أن يأتيه أو يقتل.
قال: إذا ملكه المشتري فهو حر وإن لم يقبضه، لأن ضمانه منه فهو في جراحه وميراثه وعقله، بمنزلة الحر إذا كان لمشتريه مال.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن من ملك من يعتق عليه بوجه من وجوه الملك فبنفس الملك يكون حرا دون أن يستأنف له العتق أو يحكم له به، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه، ومعنى ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: هو «لا ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» معناه: فبعته بشرائه إياه الذي هو سبب لعتقه، لا أنه يكون له ملكا بعد الشراء حتى يعتقه، وفي القرآن ما ينفي أن يكون ولد الرجل عبدا له، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] .(15/24)
وإذا انتفى الملك مع النبوة فأحرى أن ينتفي مع الأبوة، وقد مضى في رسم العتق من سماع أشهب تحصيل القول فيمن يعتق على الرجل بالملك من ذوي محارمه إذا ملكهم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بحرية غلامه أن لا ينقصه من ألف دينار فيبيعه إلى أجل سنة]
مسألة وسئل: عن الرجل يحلف بحرية غلامه أن لا ينقصه من ألف دينار فيبيعه إلى أجل سنة.
قال: لا يحنث إذا لم يكن سمي تأخيرا حين حلف.
قال محمد بن رشد: في قوله في هذه المسألة: لا يحنث إذا لم يكن سمى تأخيرا حين حلف - نظر؛ لأنه إذا لم يحنث إذا لم يسم تأخيرا فأحرى أن لا يحنث إذا سمى تأخيرا، فمراده أنه لا يحنث وإن لم يكن سمي تأخيرا حين حلف، وإنما تكلم على الوجه الذي قد يشكل، وهو إذا لم يسم التأخير ولا نواه في يمينه، إذ لا إشكال في أنه لا حنث عليه إذا سمى التأخير ونواه، وقد قال ابن دحون فيها: إنها مسألة حائلة اللفظ، والجواب: قال: وإنما جوابها أنه لا يحنث إذا نوى تأخيرا حين حلف، فأما قوله: إنها مسألة حائلة اللفظ فليس بجيد، إذ له وجه يصح به، فهو ما بيناه من أنه تكلم على الوجه الذي قد يشكل في المسألة، وسكت عن الوجه الذي لا يشكل اتكالا على فهم السائل فلا يقام من قوله دليل على أنه يحنث إذا سمى تأخيرا حين حلف ونوى ذلك.
وأما قوله: إن الجواب فيها أنه لا يحنث إذا نوى تأخيرا حين حلف فليس بصحيح، لأن فيه دليلا على أنه يحنث إذا لم ينو تأخيرا حين حلف، والصواب أنه لا حنث عليه إذا لم تكن له نية وإنما يحنث إذا نوى النقد أو سماه(15/25)
أو كان ليمينه بساط يدل على أنه أراد النقد، ولو حلف على رجل بعينه أن لا يبيعه منه بأقل من عشرة وقد سأله أن ينقصه منها فحلف أن لا يفعل ثم باعه منه بعشرة إلى أجل لتخرج ذلك على الاختلاف فيمن حلف أن لا يضع عن رجل شيئا من دين له عليه فأخره به، وقد مضى الكلام على ذلك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب وكتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بحرية جارية له على أمر أن يفعله فولدت بعد اليمين]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يحلف بحرية جارية له على أمر أن يفعله فولدت بعد اليمين أولادا فباعها وبقي أولادها في يده.
قال ابن القاسم: يرد البيع وتكون موقوفة هي وولدها حتى يموت السيد فيعتقون في ثلثه أو يبر فيصنع بها ما شاء، ولا يطأ جارية إن كانت فيهم، وهذا كله قول مالك، فإن ماتت فولدها موقوف بمنزلتها.
قلت: فإن أعتقها الذي اشتراها أو ولدت منه أولادا أو دبرها.
قال: إن كان إلى أجل رد عتقه وأوقفت إلى أجل حتى يبر أو يحنث، وإن كان إلى غير أجل لم أر أن يرد عتقه، لأنها إنما تعتق في الثلث، ولعلها أن ترق فيلحقها الدين وقد عتقت وقد جاءها ما هو أثبت، والمدبرة والمدبر بمنزلة إذا أعتق لم يرد وإنما يعتق في الثلث، لأنه قد جاء ما هو أثبت، فأمرهما واحد.
ولو كانت جارية فاتخذت أم ولد فإن كانت اليمين إلى أجل وفات الأجل وهي في يد المبتاع عتقت ورد الثمن وقاص بولدها من ثمن أمهم، فإن كانت قيمتهم أدنى من ثمن أمهم رجع على البائع ببقية الثمن، فإن كانوا سواء فلا شيء على البائع، وإن كانت قيمة الولد أكثر لم يرجع عليه البائع بشيء، قال: وإن مات السيد قبل(15/26)
الأجل كانت أم ولد لمن اشتراها لأنه مات على بر فلم يحنث فيها، وإن عتقت ردت وأوقفت فإن مات السيد قبل الأجل جاز عتق من أعتقها وإن أتى الأجل ولم يبر عتقت عليه ورد الثمن إلى المشتري، وإن بر جاز عتق من أعتقها.
وقال ابن كنانة: يعتق ما في يديه من ولدها وما باع فليس عليه في ذلك حنث، وقال أشهب: لا شيء عليه من قيمة ولدها منه، قال عيسى: أرى إن باعهم قبل الحنث فأعتقهم المشتري فأرى عتقهم جائزا ولا يرد البيع كان إلى أجل أو غير أجل.
وقد سئل مالك: عمن حلف بعتق جارية ليضربنها فأنسي يمينه حتى باعها من رجل فأصابها ذلك الرجل فحملت منه، ثم شهد عليه شاهدان أنه قد كان حلف بعتقها ليضربنها.
قال مالك: قد عتقت منه حين باعها قبل أن يضربها ويرد ثمنها إلى الذي كان باعها منه، قال ابن القاسم: إذا فاتت بحمل عتقت ورد على المشتري الثمن ولم يكن له عليها سبيل، وإن لم تحمل ردت فيبر فيها بضربها، قال عبد الله بن نافع: إن لم تحمل رأيت أن ترد إلى سيدها.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي حلف بحرية جارية له على أمر أن يفعله فولدت بعد اليمين: إن ولدها بمنزلتها يدخلون في اليمين معها - هو القياس والمشهور في المذهب، وقد قيل: إن ولدها لا يدخلون في اليمين، وهو قول المغيرة المخزومي، وقد ذكرنا ذلك في رسم بع ولا نقصان عليك، وأما إذا باعها قبل أن يبر فيها بفعل ما حلف ليفعلنه، فالمشهور أن البيع يرد وتبقى الأمة في يد البائع حتى يبر أو يحنث بموته فيعتق في ثلثه، وكذلك إذا دبرها وإن كان لم يجب في الرواية على التدبير، ولابن دينار في المدونة في(15/27)
الذي يحلف بعتق جاريته ليضربنها فيبيعها: إن البيع يرد ويعتق عليه، قال: لأني لا أنقض صفقة مسلم إلى رق، ولا أنقضها إلا إلى عتق، فتعليله يدل على أنه لا فرق عنده بين أن يكون يمينه على ضربها أو على ما سوى ذلك من الأفعال، وهو بعيد أن يعتق عليه إذا كانت يمينه على ما سوى ضربها، لأن البر يمكنه بعد بيعها بفعل ما حلف ليفعلنه، وأما إذا حلف بحريتها ليضربنها فباعها فعتقها عليه ببيعه إياها وجه، وهو لا يمكنه البر فيها بضربها بعد بيعها، فوجب أن يحنث وتعتق عليه، وقد حكى ذلك ابن حبيب عن مالك. وقول ابن كنانة في هذه الرواية: إنه ليس عليه فيما باع حنث - قول ثالث في المسألة. ووجهه أنه لما باعها قبل أن يحنث فيها لم يكن عليه شيء.
وأما إن لم يعثر على ذلك حتى أعتقها المشتري أو أولدها فينفذ عتقه فيها وإيلاده لها، ولا ترد على البائع على ما قاله ابن القاسم في هذه الرواية، ومعنى ذلك إذا كانت يمينه بغير ضربها، وأما إذا كانت يمينه بضربها فتعتق على البائع ويرد الثمن على المشتري، على ما قاله ابن القاسم في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ إذا أولدها المشتري، وعلى ما قاله مالك في هذه الرواية إذا أعتقها؛ إذ لا فرق بين العتق والإيلاد في هذا الموضع عند ابن القاسم، لأنه لا يرى على المبتاع قيمة الولد على ما قاله في سماع أصبغ، وهو الذي يدل عليه قول مالك: قد عتقت منه حين باعها، لأنها إذا كانت قد عتقت عليه حين باعها فإنما وطئ المبتاع حرة، ومن رأى أن عتقها لا يجب على البائع إلا بفواتها بالحمل من المشتري احتمل أن يوجب عليه قيمة الولد، والأظهر ألا يجب عليه فيه قيمة إذ لم يتقدم الحمل على العتق وإنما وقعا معا، وليس قول ابن القاسم في هذه الرواية بخلاف لقول مالك فيها.
وأما إذا حلف بحريتها أن يفعل فعلا إلى أجل فباعها قبل الأجل فعثر على ذلك قبل أن يفوت فيرد البيع ويقر بيد البائع حتى يبر أو يحنث، ويأتي على تعليل ابن دينار أن يرد البيع ويعتق على البائع، وكذلك يأتي على ما(15/28)
حكاه ابن حبيب عن مالك إن كانت يمينه ليضربنها حسبما مضى إذا كانت يمينه إلى غير أجل.
وأما إذا لم يعثر على ذلك حتى أولدها أو أعتقها والأجل لم يحل، فقال ابن القاسم في الرواية: إن العتق يرد إن أعتقها ويوقف إلى الأجل حتى يبر أو يحنث، يريد فإن بر فيها بفعل ما حلف ليفعلنه أو مات قبل الأجل مضى البيع ونفذ عتق المبتاع فيها، وإن حنث بحلول الأجل عتقت عليه ورد الثمن إلى المشتري، وكذلك يجب في الإيلاد على مذهبه خلاف قول عيسى بن دينار من رأيه: إن البيع لا يرد إذا أعتقهم المشتري، ويمضي العتق كانت اليمين إلى أجل أو إلى غير أجل، وكذلك لا يرد البيع فيها إذا أولدها على مذهبه كانت اليمين إلى أجل أو إلى غير أجل، وهو الذي ذكرناه من مذهب ابن القاسم إذا فات عند المشتري بحمل أو عتق، إنما معناه إذا كانت يمينه بغير ضربها، وأما إذا كانت يمينه بحريتها ليضربنها إلى أجل فباعها ولم يعثر على ذلك حتى أعتقها المشتري أو أولدها فتعتق على البائع ويرد الثمن على المشتري أعتقها أو أولدها على ما قاله مالك إذا كانت اليمين إلى غير أجل، ولا خلاف في هذا الوجه إلا ما يتخرج من الاختلاف في وجوب القيمة في الولد على المشتري حسبما وصفناه إذا كانت اليمين إلى غير أجل.
وأما إن لم يعثر على ذلك حتى فات الأجل فإنها تعتق على البائع ويرد الثمن على المشتري في العتق والإيلاد، ويكون عليه في الإيلاد قيمة الولد إلا أن يكون أكثر من الثمن، ومعنى ذلك عندي إذا كان الإيلاد قبل حلول الأجل، وقال أشهب: لا شيء عليه من قيمة ولده منها، ومعنى ذلك عندي إذا كان الإيلاد بعد حلول الأجل، فعلى هذا لا يكون قول أشهب مخالفا لقول ابن القاسم، ومن حمله على الخلاف فإنما ذلك إذا كان الإيلاد قبل الأجل، فيكون وجه قول أشهب أن البائع لما باع الجارية منه وهو قد حلف بعتقها فقد سلطه على إيلادها وترك حقه في ولدها.
وأما إذا كان الإيلاد بعد حلول الأجل فلا إشكال في أنه لا قيمة عليه في(15/29)
الولد، لأنه إنما أولد حرة، وإنما قال ابن القاسم: إنه لا يكون على المبتاع في الولد أكثر من الثمن، لأن البائع إذا باعها فقد رضي بالثمن فلا يكون له فسخ البيع في الولد أكثر من ذلك.
وإنما ينقض البيع بعد العتق أو الإيلاد ويرد الثمن إلى المشتري إذا كانت على اليمين بينة أو أقر بذلك المبتاع، وأما إن لم يصدقه المشتري ولا قامت بذلك بينة فهي أم ولد له، وينتظر البائع بالثمن بتصديق المبتاع، فإن يئس من ذلك جعل ثمنها في رقبة يعتقها، قال ذلك أشهب وحكاه ابن سحنون عن أبيه.
ولا اختلاف في أن البائع إن كانت يمينه ليضربنها لا يبر بضربها بعد العتق أو الإيلاد.
واختلف هل يبر بضربها بعد أن باعها، فقال أشهب: إنه يبر بذلك وإن نقصها بضربه غرم النقصان، وقال ابن القاسم: لا يبر بذلك لأنه ضرب عدي على غير الوجه الذي حلف عليه، بخلاف حلفه على ما سوى ذلك من قضاء دين أو غير ذلك.
واختلف أيضا إذا حلف ليضربنها فكاتبها ثم ضربها بعد الكتابة، فقال ابن القاسم في كتاب ابن المواز: يبر بذلك، وقال أشهب: لا يبر بذلك مثل قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في رسم المدبر والعتق من سماعه بعد هذا، قال مالك: ولا ينقض كتابتها ولكن يوقف ما يؤدي، فإن عتقت بالأداء تم فيها الحنث، وصارت حرة وأخذت كل ما أدت، وإن عجزت ضربها إن شاء فبر، قال أشهب: ولو كان ضرب لا يجوز له عجل عليه الحنث، وقال سحنون في المجموعة: فإن مات السيد ولم تؤد الكتابة وله مال يحمل ثلث الأمة عتق فيه وسقط عنها باقي الكتابة، وكان ما وقف ردا عليها، وإن كان عليه دين يحيط مضت على الكتابة وكان للغرماء النجوم فإن ودت تم عتقها وإن عجزت كانت وما أخذ منها في دين سيدها، وبالله التوفيق.(15/30)
[مسألة: تلد ثم تهلك هي وولدها في ساعة واحدة]
مسألة وقال ابن نافع لي في المرأة تلد ثم تهلك هي وولدها في ساعة واحدة، قال: يحلف أبو الصبي أو ورثته مع شهادة النساء أن الأم ماتت قبله ويستحقون ميراثه، لأنه مال، ورواها أصبغ في كتاب الكراء والأقضية، وقال: نظيرها من قوله شهادتهن أنه ذكر أو أنثى يجوز أن ذلك جائز ويحلف معهن.
قال محمد بن رشد: أما شهادة النساء في المرأة تلد ثم تهلك هي وولدها في ساعة واحدة على أيهما مات أولا بلا اختلاف في إجازتها على ما قال؛ لأنها شهادة على مال لا تتعدى إلى ما سواه.
وأما شهادتهن أنه ذكر أو أنثى فلا يجوز على قول ربيعة وسحنون في المدونة: إن شهادة النساء لا تجوز على الاستهلال ولا على قتل الخطأ إلا مع حضور البدن، لأنه يمكن بقاء البدن حتى يراه الرجال فيشهدون على أنه ذكر أو أنثى، وهو قول مطرف عن مالك وأشهب عن مالك أيضا في كتاب ابن سحنون، وهو القياس لأنه لا يصير نسبا قبل أن يصير مالا على ما قاله ابن القاسم في رواية أصبغ عنه في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب الشهادات، وقد مضى هناك الكلام على هذا مستوفى، وبالله التوفيق.
[: تزوج أمة فولدت له غلاما فلمن ولاء الولد]
ومن كتاب النسمة
قال ابن القاسم في رجل تزوج أمة فولدت له غلاما فكبر الغلام ثم مات أبوه، فتزوج ابنه هذا حرة، فولدت له ولدا بعد وفاة الجد الحر والأب المملوك حي.(15/31)
قال: ولاؤه لموالي أمه ولا يجر الجد المتوفى ولاء ولده الذين ولدوا بعد موته، إنما يجر ما كان حيا.
قال: ولو توفي الجد وأمه به حامل جر ولاءه وكان ولاؤه لموالي الجد إذا حملت به قبل وفاة الجد.
قال: والأب المملوك هاهنا لا يحجب ولا يجر وهو بمنزلة الميت والكافر.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن ولد العبد من الحرة إذا كان جده قد مات قبل ولادتهم وقبل أن يحمل بهم، لموالي أمهم إن كانت معتقة ثم لمن يجب له ذلك بسببهم، وهم الأقرب فالأقرب من العصبة الرجال، فإن كانت حرة لم تعتق فولاؤهم لموالي أبيها، وإن كانت ابنة زنا أو منفية بلعان أو أمة أو كافرة فولاؤهم لموالي أمها، فإن أعتق أبوهم لجر الولاء إلى مواليه عن موالي الأم، ولو مات الجد بعد ولادة الأولاد لكان ولاؤهم لمواليه ما دام ابنه عبدا فإن أعتق جر ولاء الولد إلى مواليه عن موالي الجد، وبالله التوفيق.
[: يقول في كلام واحد نصف غلامي هذا حر ونصفه صدقة على فلان]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يقول في كلام واحد نسقا: نصف غلامي هذا حر ونصفه صدقة على فلان، أو يقول: نصفه صدقة على فلان ونصفه حر.
قال: إن بدأ بالعتاقة فهو حر كله، وإن بدأ بالصدقة فالنصف عتق والنصف الذي تصدق به يقوم عليه إن كان له مال، ثم قال لي(15/32)
أيضا: بل أراه عتيقا كله، وذلك أن مالكا قال لي في الرجل يتصدق بالعبد ثم يعتقه قبل أن يحوزه المتصدق عليه: إن العتق عليه أولى به، فأرى هذا الذي أعتق نصفا وتصدق بنصف أنه قد أعتقه قبل أن يحاز من يديه، فهو بذلك عتيق كله، قال: وأحب ذلك إلي أن يعتق، قال أصبغ: القول الآخر ليس بشيء وليس بحجة، إنما يكون حجة إذا تصدق به ثم لم يعتق إلا بعد حين بقدر ما يمكن أن يعلم المتصدق عليه بصدقته فلا يقوم ولا يحوز حتى يعتق المتصدق فجوز عتقه، وأما إن تصدق ثم يعتق في مقامه ذلك وفي كلامه، فهذا متلف لصدقته نادم راجع فيه وليس ذلك له، وعليه أن يغرم له نصف القيمة بمنزلة الشريك.
قال محمد بن رشد: أما إذا بدأ بالصدقة فالقول الأول الذي رجع عنه من أن النصف عتيق ويقوم عليه النصف الذي تصدق أولا هو القياس، وذلك أنه لما تصدق بنصفه أولا صار المتصدق عليه شريكا معه فيه قبل أن يعتق حصته منه، فوجب أن يقوم عليه كالعبد بين الشريكين يعتق أحدهما حظه منه أنه يقوم عليه إن كان موسرا.
أما القول الثاني فإنما يتخرج على القول بأن الرجل إذا أعتق بعض عبده يكون حرا كله بالسراية دون أن يعتق عليه، وهو خلاف المشهور في المذهب.
ووجهه أنه لما أعتق نصف عبده بعد أن تصدق بالنصف الآخر قبل أن يقبض منه راعى قول المخالف في أن الصدقة باقية على ملك المتصدق منه، فجعل العتق يسري إليه فبطلت بذلك الصدقة.
والقول الأول أظهر لأنه هو الذي يأتي على المذهب في أن الصدقة تجب بالعقد، وعلى المشهور فيه من أن من أعتق شقصا من عبده فالباقي منه(15/33)
باق على ملكه ما لم يعتق عليه، ولا يكون حرا بعتق ما أعتق منه.
وأما إذا بدأ بالعتاقة فلم يختلف قوله في أنه يكون حرا كله وتبطل الصدقة إلا أنه إنما يأتي على قياس القول بالسراية، فيلزم على مذهبه في المدونة في أن من أعتق بعض عبده لا يكون باقيه حرا بعتق ما أعتق منه حتى يعتق عليه، وأنه إن لم يعتق عليه حتى وهبه أو تصدق به يقوم عليه ما وهب منه أو تصدق به أنه يكون عليه للمتصدق عليه نصف قيمته، إذا قال: نصف عبدي حر ونصفه صدقة على فلان. وفي المدنية لابن كنانة: أن الرجل إذا قال: نصف عبدي صدقة على فلان ونصفه حر كان ذلك جائزا على ما قال، يريد: ويقوم عليه النصف الذي تصدق به، فليس قوله بخلاف لقول ابن القاسم.
قال: ولو بدأ بالعتاقة كان حرا كله، ولم يكن للمتصدق عليه شيء.
ففي كل واحدة من المسألة قولان، والتفرقة بينهما قول ثالث، ويتخرج في المسألة قول رابع وهو أن تكون التفرقة بينها بالعكس، فيلزمه قيمة النصف الذي تصدق به إن بدأ بالعتاقة، ولا يلزمه إن بدأ بالصدقة وهو الأظهر، لأن العتق أو الطلاق لا يقع في الصحيح من الأقوال بنفس تمام اللفظ به، وإنما يقع بعد مهلة يتقرر فيها، وذلك بين من قوله في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة في الذي يقول لامرأته قبل الدخول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، في نسق واحد أنه يلزمه ثلاث تطليقات، إذ لو كان الطلاق يقع عليه بنفس تمام اللفظ به لما لزمته إلا طلقة واحدة لكونها قبل الدخول بائنة. فإذا قال الرجل في نسق واحد: نصف عبدي حر، ونصفه صدقة على فلان أو نصفه صدقة على فلان ونصفه حر صار المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى، والمتأخر في اللفظ متقدما في المعنى، وهذا بين.
وقوله: إن النصف يقوم إذا بدأ بالصدقة هو خلاف ما في سماع زونان من كتاب الصدقات والهبات أن العبد كله يقوم فيكون للمتصدق عليه نصف القيمة(15/34)
وهو ظاهر الحديث ووجه القياس، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال الغلام حرإن لم أوفك يوما كذا وكذا فحنث]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم: عن رجل قال لخصم له: احلف لي بِحُرِّيَّة غلامك فلان لتوافيني دار القاضي يوما كذا وكذا، قال: ليس الغلام لي إنما هو لامرأتي، فقال لي: احلف بِحُرِّيَّتِهِ وإن كان لامرأتك، فقال الرجل: فلان - لذلك الغلام - حر إن لم أوفك يوما كذا وكذا، فحنث، فقام الغلام بحريته، فادعته المرأة وهو لا يُعْرَفُ لها إلا بالذي كان من إقرار الزوج أنه لها حين أراد الخصم أن يحلفه.
فقال: إن كان العبد معروفا للرجل فهو حر ولا حق فيه للمرأة بذلك الإقرار، قال: وإن كان معروفا للمرأة فهو لها ولا حرية للعبد ولا حنث على الرجل فيما لم يكن يملك من رقبة العبد يوم حلف.
قلت: أرأيت قول مالك إن كان معروفا للرجل إذا كان لا يعرف إلا في خدمته وعمله وإليه ينسب، غير أن الذين يعرفونه لها في يدي الرجل لا يشهدون على أصل الشراء ولا ميراث ولا يعرفون أصل ملكه له إلا أنهم يعرفونه في خدمته.
فقال: قد يستخدم الرجل عبيد امرأته فإذا كان مجهول ملك الأصل لم يعرف للرجل ولا للمرأة فهو للمرأة لإقرار الزوج به لها حين أراد الخصم أن يحلفه ولا لك عليه حنث وهو للمرأة بذلك الإقرار.
قلت: أرأيت لو لم يكن حلف فادعته المرأة بذلك الإقرار،(15/35)
وقال الرجل: والله إن كان ذلك مني إلا لأدفع اليمين عني، وما هو إلا لي وهو مجهول ملك للأصل يعرف في خدمة السيد وينسب إليه.
قال: تحلف المرأة بالله الذي لا إله إلا هو ويكون القول قولها إذا كان العبد في خدمته ولم يعرف أصله لها ولا له.
قال محمد بن رشد: ما نص عليه في هذه الرواية من أنه إذا لم يعرف أصل الملك له وإن كان الظاهر أنه له لنسبته إليه لكونه في يديه واختدامه يعمل إقراره به لغيره وإن كان سببه الاعتذار ويستحقه المقر له بيمينه إذا ادعاه ملكا لنفسه قديما بغير ذلك الإقرار هو دليل ما في رسم العشور من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح، ومفسر لما وقع في سماع أشهب من كتاب الدعوى والصلح ولما في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات ولسائر الروايات.
وأما إذا عرف أصل الملك له فلا يلزمه الإقرار به لغيره إذا كان سببه الاعتذار، وسواء على مذهب مالك، قال: هو لفلان أو قد وهبته لفلان، أو قد بعته منه أو تصدقت به عليه على ما قال في أول سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات، خلاف قول أصبغ في تفرقته بين ذلك، وقد اختلف إذا خطبت إليه ابنته، فقال: قد زوجتها فلانا على ثلاثة أقوال، قد مضى تحصيلها في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب النكاح، وفي رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول في مرضه قد كنت أعتقت أمتي فلانة وتزوجتها]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يقول في مرضه: قد كنت أعتقت أمتي فلانة وتزوجتها، أتكون بذلك حرة من رأس المال أو من الثلث؟ وكيف إن سمى لها صداقا، أيكون ذلك لها؟
قال: لا حرية لها في رأس مال ولا ثلث، ولا صداق لها ولا(15/36)
ميراث، وذلك أن العتاقة لم تثبت لها فكيف يجب لها صداق؟ وهي أمة بحالها، وكيف ترث وهي أمة ليست من الأزواج؟
قال: وسمعت مالكا يقول في الرجل يقول في مرضه: إني قد كنت أعتقت فلانا غلامي وأنا صحيح ولا يعرف ذلك إلا بقوله: إنه عبد لا يعتق في رأس مال ولا في ثلث لأنه لم يرد أن يوصي له بشيء ولا يثبت الذي أقر له به في مرضه إلا أن يثبته ببينة عدل أن ذلك كان في الصحة.
قال: وإن أوصى بوصايا لم تدخل تلك الوصايا في العبد لأنه حين أقر له أنه أعتقه في الصحة ثم أوصى بالوصايا فقد أحب أن لا تقع الوصايا فيه، وكذلك قال مالك.
قلت: فإن بتل عتقها في مرضه وثلثها واسع مأمون ثم تزوجها ومسها.
قال: أراها حرة، وأرى لها الصداق في الثلث بمنزلة الأجنبية لو تزوجها في المرض ومسها، وذلك أنه حين بتلها والثلث واسع مأمون جازت شهادتها ووارثت أقاربها وتمت حريتها وجرت الحدود عليها ولها ولم يكن له الرجوع في عتاقتها إذا بتلها ولا يؤخر عتقها انتظار موته، لأنه ثلثه واسع مأمون، ولا ميراث لها لأنه لو تزوج أجنبية في مرضه لم ترث فهي بمنزلتها.
قال: وإن بتل معها غيرها حتى يخشى ضيق الثلث عليهم أو كان ثلثه يخشى ضيقه عليها حين بتلها وحدها فلا تتم عتاقتها إلا بنظر السلطان وإحصاء المال بعد الموت، فإن تزوجها في هذه الحال كان النكاح مفسوخا ولا صداق لها في ثلث ولا في غيره؛ لأن(15/37)
النكاح وقع ولا يدري أمن الأحرار يكون أم من الإماء، إذ لا يعرف أيسعها الثلث أم يضيق عنها، ولا يجوز للرجل أن ينكح أمته.
قال محمد بن رشد: قوله في الأمة التي أقر في مرضه أنه قد كان أعتقها في صحته وتزوجها: إنه لا عتق لها من رأس مال ولا ثلث على ما قاله مالك في الذي يقول في مرضه: قد كنت أعتقت عبدي فلانا في صحتي، هو المشهور في المذهب المنصوص عليه في المدونة وغيرها، ويدخل الخلاف في ذلك من مسألة الذي يقر في مرضه في أمة له أنها قد ولدت منه ولا ولد معها.
ويتحصل في ذلك إن كان يورث ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعتق من رأس المال، والثاني: أنه لا يعتق من رأس المال ولا ثلث، والثالث: أنه يعتق من الثلث.
وإن كان يورث بكلالة قولان: أحدهما: أنه يعتق من الثلث، والثاني: أنه لا يعتق من رأس مال ولا ثلث، ولا يدخل هذا الاختلاف فيمن أقر في مرضه أنه قد كان تصدق في صحته بكذا وكذا، والفرق بين الموضعين أن العتق لا يفتقر إلى حيازة، والصدقة تفتقر إليها، فلو قامت على ذلك بينة لنفذ العتق وبطلت الصدقة، فعلى المشهور من الأقوال أنها لا تعتق من رأس مال ولا ثلث لا يكون لها شيء من الصداق، والذي أقر لها به كمال، قال: إذ لا يجوز للرجل إنكاح أمته، وأما على القول بأنها تعتق من رأس المال يكون لها ما أقر لها به من الصداق، لأنه دين أقر لها به كما لو أقر في مرضه أنه تزوج فلانة لأجنبية وأصدقها كذا وكذا، وأما على القول بأنها تعتق من الثلث فيكون لها ما أقر لها به من الصداق في الثلث أيضا، ولا ميراث لها على حال بإقراره لها في مرضه أنها زوجة له.
ولو علم إقراره في صحته بعتقها وأنه تزوجها وأقر لها في مرضه بأنه كان(15/38)
سمى لها من المهر كذا وكذا لكان لها الميراث لكونها في ملكه وتحت حجابه على أحد التأويلين اللذين ذكرناهما في مسألة رسم الجواب من سماع عيسى من كتابه الأقضية، ولكان لها ما أقر لها في مرضه من تسمية صداقها إن كان يورث بولد ولو لم تكن في ملكه وتحت حجابه لما كان لها منه ميراث إلا أن يكون قد علم إقرارها هي أيضا بنكاحها إياه مع طول الزمان وفشو ذلك في الجيران على اختلاف في ذلك قد مضى القول في بيانه في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الشهادات، وفي رسم الأقضية منه من كتاب النكاح.
وأما قوله: إنه لا تدخل في ذلك الوصايا ويكون في ثلث ما بعده، فهو أمر لا اختلاف فيه؛ لأنه لما أقر في مرضه أنه أعتقه في صحته فقد أراد أن يكون خارجا من رأس ماله، وأن تكون الوصايا في ثلث ما بعده إلا أن يكون له مدبر في الصحة فإنه يدخل في ذلك، لأنه مال لم يعلم به إذا مات، وهو يرى أنه غير موروث عنه، فرجع بالحكم موروثا عنه لأن مدبر الصحة يدخل فيما علم الميت من المال وفيما لم يعلم، وكذلك إن كان التدبير في المرض على القول بأنه يدخل أيضا فيما علم الميت وفيما لم يعلم.
وأما قوله في الذي بتل عتق أمة في مرضه وتزوجها وله مال واسع مأمون: إنه يكون بمنزلة من تزوج أجنبية في مرضه - فهو صحيح على القول بمراعاة المال المأمون، وقد قيل: إنه لا يعتبر بالمال المأمون، وهو قول بعض الرواة في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعتق نصف عبده وهو صحيح ولا يرفع ذلك إلى السلطان حتى يموت المعتق]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يعتق نصف عبده وهو صحيح ولا يرفع ذلك إلى السلطان حتى يموت المعتق، أيكون حرا كله أم لا؟
فقال: لا يعتق منه إلا ما أعتق السيد في صحته، قال: ومثل(15/39)
ذلك الرجل يمثل بعبده المثلة البينة المشهورة التي لا يشك أن الإمام يعتق العبد على السيد بها فلا يرفع إلى الإمام حتى يموت السيد أنه لا يعتق، قال: وكل أمر لا يتم عتاقته إلا بنظر السلطان فإن مات الذي كان السلطان يعتقه عليه لم يجز للسلطان أن يعتقه على الورثة.
ولكن من اشترى من إذا ملكه عتق عليه فهو حر ساعة يملكه، لا يرفع مثل هذا إلى السلطان، فإن جهل الأمر فاستخدمه المشتري حتى مات فإنه يعتق على الورثة لأنه عتيق ساعة ملكه السيد، وقال: ألا ترى أن كل ميراث وقع له من يوم اشتراه قريبه الذي يعتق عليه بالسنة فهو لا يمنع من أخذه ولا يحجب عنه وحدوده تامة وعقله عقل حر والذي يعتق سيده بعضه وهو صحيح لا يتم له شيء من حالات الأحرار إلا بنظر الإمام وحكمه.
قال: وكذلك الذي يمثل به سيده.
قال: وكذلك أيضا الذي يعتق نصيبه من عبده وهو مليء ولا ينظر في أمره حتى يموت، فإنه لا يقوم على ورثته، فحاله حال الذي يعتق سيده بعضه وهو صحيح، والذي يمثل به سيده ولا ينظر في أمرهم حتى يموت السيد إن هؤلاء لا يعتقون على الورثة وإنما يعتق على الورثة الذي إذا ملكه المشتري أعتق عليه ساعتئذ.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يعتق نصف عبده وهو صحيح فلا يحكم عليه بعتق باقيه حتى يموت: إنه لا يعتق منه إلا النصف الذي أعتق وهو المشهور في المذهب، وقد قيل: إنه يكون حرا كله بعتقه لبعضه لسريان العتق في جميعه على الإشاعة، حكى عبد الوهاب القولين في ذلك على المذهب.(15/40)
وجه القول الأول: أن تتميم عتقه عليه ليست فيه سنة وإنما تتم عليه بالقياس على ما جاءت به السنة في العبد بين الشريكين يعتق أحدهما حصته منه، فإذا لم يعتق عليه نصيب شريكه إلا بالحكم كان ذلك حكم العبد يكون للرجل فيعتق بعضه.
ووجه القول الثاني: أنه إذا أعتق بعض عبده فقد سرت الحرية في جميعه، وإذا وجب أن يكون حرا كله بعتق جارحه منه كيده أو رجله كان أحرى أن يكون حرا كله بعتق نصفه لسريان الحرية في جميعه، والفرق بين ذلك وبين العبد بين الشريكين أن الحرية إنما تسري إلى ملك المعتق لا إلى ملك من سواه، ولأن الرجل إذا أعتق شقصه من العبد قد لا يقوم حظ شريكه وإن كان موسرا إذا لم يرد شريكه أن يقومه عليه فأعتق حصته منه، فإذا كان التقويم موقوفا على اختيار الشريك وجب ألا يكون حرا حتى يقومه عليه فأعتق حصته منه، وإذا أعتق الرجل بعض عبده ولا دين عليه لا بد من عتق باقيه، فالحكم في ذلك مبني على التغليب، ولما لم يكن للرجل أن ينقض حق نفسه سرت الحرية في جميعه.
والشافعي يقول: إذا أعتق حظه من العبد وهو موسر عتق جميعه بالسراية، وهو بعيد، إذ من حق الشريك أن يعتق نصيبه منه ولا يقومه عليه.
وأما المعتق بالمثلة فلا يكون إلا بالحكم على المشهور في المذهب، وقال أشهب وابن عبد الحكم: إن المثلة إذا كانت مشهورة بينه كان العبد حرا بها دون حكم السلطان، ووجه ذلك اتباع ظاهر ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «من حرق مملوكه بالنار أو مثل به فهو حر، ولاؤه لله ورسوله» ، ووجه قول ابن القاسم الذي هو المشهور في المذهب، ما جاء في نص(15/41)
الحديث: «من مثل بعبده فأعتقوه» ، ولم يقل فهو حر.
وأما من يعتق على الرجل فلا اختلاف في أنه يكون حرا بنفس الملك دون حكم.
واستدلاله بالميراث وسائر أحكام الحرية على الفرق بين من يعتق على الرجل وبين من يعتق بعض عبده بقوله: ألا ترى أن الميراث يجب لمن اشتراه من يعتق عليه من يوم اشتراه، وتكون أحكامه أحكام حر من يومئذ، والذي أعتق بعض عبده لا يجب له الميراث ولا تكون أحكامه أحكام حر حتى يعتق عليه باقيه ليس بصحيح، لأن ذلك هو نفس المسألة، ولا يقاس الشيء على نفسه، وإنما يقاس على غيره، فلا يصح أن يذكر ذلك إلا على بيان افتراق حكم المسألتين، لا على سبيل الاستدلال على الفرق بينهما، وبالله التوفيق.
[: يعتق عبده النصراني ثم يسلم]
ومن كتاب الصبرة وسئل: عن النصراني يسلم وقد كان أعتق أو دبر أو كاتب فيريد أن يرجع في ذلك كله، ويقول: قد كان الرجوع لي جائزا في ديني.
قال: سمعت مالكا يقول في النصراني يعتق عبده النصراني ثم يسلم فيتعلق به يريد استرقاقه، قال: لا أرى أن يحال بينهما. قال ابن القاسم: وأنا أرى المدبر والمكاتب بمنزلة ذلك، لا أرى أن يمنع رد واحد منهما في الرق وفسخ ما كان جعل له إن أحب ذلك ما كانا على دينهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: ما كانا على دينهما - معناه: أنه لا يمنع بعد الإسلام من رد الكتابة والتدبير الذي أوجبه له ما كانا على دينهما، فليس قوله بخلاف لقول مالك، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .(15/42)
فلا يلزم الكافر إذا أسلم الوفاء بما نذر ولا بما عقده على نفسه من العقود لله إذ كان لا يعرف الله ولا يؤمن به فلا يتوجه إليه في ذلك الحال خطاب الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وما روي «أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام، فقال: "ف بنذرك» ، معناه أنه أمره أن يفي لله عز وجل بطاعة يطيعه بها في الإسلام مكان النذر الذي لم يمكن منه طاعة حتى يعمل حسنة مكان النذر الذي لو عمله في حال شركه لم يكن كذلك؛ لأن "ف" لا تستعمل إلا فيما ليس بواجب، وإنما تستعمل في الواجب "أوف"، وإن كان قد جاء في بعض الآثار "أوف" فمعناه ما ذكرناه، إذ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما النذر ما ابتغي به وجه الله عز وجل» ، وقد علمنا أن المشرك لم يرد بنذره ولا بعتقه وجه الله عز وجل، وهذا إذا كان لما أعتقه لم يخل سبيله ولا خرج عن يده، وأما إن كان لما أعتقه خلى سبيله وأطلقه ثم أراد أن يرجع في عتقه بعد أن أسلم فلا يكون ذلك له على ما في كتاب الجنايات من المدونة، ويكون ذلك على ما يأتي في رسم يشتري الدور والمزارع بعد هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول أحد عبيدي حر]
مسألة وسئل: عن الرجل يقول أحد عبيدي حر فيقوم به عبيده إن له أن يعتق أيهم أحب، ولورثته إن مات قبل أن ينفذ العتق لأحدهم مما(15/43)
كان للميت، فإن نظر في أمره وقد مات العبيد كلهم إلا واحدا كان عتيقا ولم يجب له أن يجعل العتاقة لمن قد مات ويلزم الورثة مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والكلام عليها مستوفى في رسم باع شاة من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قول الرجل لعبده أو لأمته ائتني بكذا وكذا وأنت حرة]
مسألة وسئل: عن الرجل يقول لأمته ائتني بمائة دينار وأنت حرة فتلد قبل أن تأتي بالمائة ثم تأتي بها، أيعتق ولدها بعتقها؟
قال: لا أرى ذلك إلا لها خاصة لا يدخل الولد في شيء من هذا.
قلت: أيجوز لسيدها أن يرجع فيما جعل لها من العتق بغرم المائة؟ قال: لا.
قلت: أفيجوز له بيعها؟ قال: لا حتى يتلوم لها السلطان، فإن جاءت بالمائة دينار وإلا أمكنه من بيعها أو بطول الزمان وهي تاركة لغرم المائة لا تعتق بذلك فإن باعها بعد طول الزمان جاز بيعه إياها.
قلت: فإذ لا يجوز لسيدها أن يرجع فيما جعل لها، ولا يجوز له بيعها إلا بما ذكرت من تلوم السلطان أو بعد طول زمان، فما الذي أخرج الولد عما عقد لها قبل أن تحمل به؟
قال: لأن الذي عقد لها ليست كتابة ولا عتاقة إلى أجل فيجري من ذلك للولد ما جرى للأم، ألا ترى أنه لو مات ولم يأت(15/44)
بشيء لم يكن على ورثته أن يعتقوها وإن جاءت بالمائة الدينار إلا أن يرضوا إذا لم يوص لها بذلك ولم ينفعها ما قال لها في صحته، قال: ومثل ذلك عندي الأمة تجرح الرجل فلا يقوم المجروح بأخذ عقله حتى تلد فإن سيدها إن أسلمها لم يكن عليه أن يسلم ولدها معها وقد كانت مرهونة بما وجب عليها من عقل ما جنت.
قال محمد بن رشد: قول الرجل لعبده أو لأمته ائتني بكذا وكذا وأنت حرة، أو متى ما جئتني أو إن جئتني أو إذا جئتني سواء كله عند ابن القاسم، وسواء عنده أيضا سمى لذلك أجلا أو لم يسمه، لأنه إن لم يسم لذلك أجلا كان ذلك إلى القدر الذي يؤدي إليه مثل ذلك العدد الذي سمى ذلك العبد أو تلك الأمة على ما يظهر من قدرتها على السعاية فيه باجتهاد السلطان في ذلك كله.
فقوله في هذه الرواية: إن ولدها لا يدخلون معها فيما جعل لها سيدها من هذا خلاف نص قوله في المدونة: إنهم يدخلون معها، فعلى قوله فيها يلزم ورثة السيد إذا مات ما لزمه هو من ذلك على حكم الكتابة، وقوله فيها إن ذلك لا يلزم ورثته إن مات خلاف نص ما في سماع عبد الملك بعد هذا من هذا الكتاب، وخلاف ما تقدم في رسم إن خرجت من سماع عيسى في الذي يدفع إلى عبده مائة شاة ويقول له اعمل عليها فإذا بلغت كذا وكذا فأنت حر، فعلى ما في سماع عبد الملك وما تقدم في سماع عيسى من أن ذلك يلزم الورثة يدخل الأولاد معها على حكم الكتابة مثل ما في المدونة، لأن بعض ذلك يفسر بعضا، ورواية يحيى هذه هي المخالفة لذلك كله في أن الولد لا يدخلون معها، وفي أن ورثة السيد لا يلزمهم ما لزمه هو، وإنما وقع الخلاف في هذا بين هذه الرواية وبين سائر الروايات التي ذكرناها من المدونة وغيرها من أجل أنه ليس في شيء منها قبول الأمة لذلك ورضاها به والتزامها له، ولو رضيت بذلك وقبلته والتزمته لما اختلف في أنها كتابة على حكم الكتابة يدخل(15/45)
ولدها فيها، ويلزم ورثة السيد ما لزمه هو، لأن الكتابة عقد من العقود بين العبد وسيده، فلا تتم إلا برضاهما جميعا على القول بأن السيد لا يجبر عبده على الكتابة، فالاختلاف الذي بين هذه الرواية وبين سائر الروايات في دخول الولد معها وفي لزوم ورثة سيدها ما لزمه راجع إلى هذا الاختلاف، فلم ير ابن القاسم في هذه الرواية قول الرجل لأمته ائتني بكذا وكذا وأنت حرة كتابة، إذ لم يعقد ذلك معها ولا التزمه لها، وذلك من قوله هذا على القول بأن السيد لا يجبر عبده على الكتابة فألزمه هو ما التزمه لها من عتقها إذا أتته بالمائة، ولم ير لولدها في ذلك دخولا ولا رأى ذلك لازما للورثة إذ ليست بكتابة ولا عتقا مؤجلا إذ قد يكون إن جاءت بالمائة، ولا يكون إن لم تأت بها، فأشبه قول الرجل لعبده إن جاء فلان فأنت حر في أن الولد لا يدخل في ذلك، وأن ذلك إنما يكون لها مع حياة سيدها، ورأى ذلك ابن القاسم في المدونة وفي سماع عيسى وعبد الملك كتابة وإن لم يكن منها في ذلك قبول ولا التزام على قياس القول بأن الرجل يجبر عبده على الكتابة، فهذا وجه القول عندي في هذه الرواية، وقال ابن الماجشون في الواضحة: إذا لم يقبل العبد ذلك ولا ألزمه لم يلزم السيد أيضا، وكان له أن يبيعه، فقول الرجل لعبده على مذهبه إن جئتني بكذا وكذا إلى أجل كذا وكذا إذا لم يقبل العبد بمنزلة قول الرجل لعبده إن قدم فلان في هذه السنة فأنت حر في جميع الوجوه.
وهذا الذي ذكرته من أنه لا فرق عند ابن القاسم بين أن يسمي أجلا أو لا يسميه، ولا بين قوله ائتني بكذا وكذا أو إن جئتني وإذا جئتني أو متى ما جئتني بين من قوله في المدونة من رواية عيسى عنه.
وفرق المغيرة بين قوله: إن جئتني بكذا أو إذا جئتني بكذا، فقال: إنه إذا قال: إن جئتني، يلزمه ذلك هو وورثته بعده، فليس له ولا لهم أن يبيعوه ما لم يطل الأمر جدا، وإن قال: إذا جئتني أو متى ما جئتني، لم يكن ذلك للعبد بعد موت السيد، وكان له ذلك في حياته وإن طال الزمان جدا ما كان في ملكه ولم يبعه، هذا معنى قوله.(15/46)
وساوى ابن كنانة بين أن يقول إن جئتني بكذا وكذا فأنت حر وأنا أعتقك وفرق بين أن يسمي لذلك أجلا أو لا يسميه، فقال: إنه إن لم يسم أجلا يتلوم له في ذلك على ما ذكرناه من مذهبه، وفرق بين أن يقول فأنت حر أو فأنا أعتقك، فقال: إنه إذا قال فأنا أعتقك فأتى بما سمي له من المال لا يلزمه عتقه إذا قال لم أرد إيجاب ذلك على نفسي، ويحلف ما أراد إيجاب ذلك على نفسه، وإنما أراد أن يفعل ذلك إن شاء، وقول ابن القاسم هو الفقه بعينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق حظا له في عبد ثم أعتق بعد ذلك عبدا لا مال له سواه]
مسألة وسألته: عن الرجل يعتق حظا له في عبد ثم أعتق آخر لا شركة له فيه ولا مال له غيره، أيمضي عتق الآخر ولا يعتق عليه من الأول نصيبه منه؟ أم يبطل عتق الآخر ويقوم عليه الأول؟
فقال: بل يمضي عتق الآخر ولا يقوم عليه الأول، إذ لا مال له إلا العبد الذي أنفذ عتقه قبل أن يقوم عليه الأول، وذلك أن القيمة لم تكن عليه كالدين الثابت، ألا ترى أنه لو كان ذا مال يوم أعتق نصيبه من الأول ثم داين الناس فقاموا يطلبونه بأموالهم التي داينهم بها بعد عتقه نصيبه من العبد وقام العبد يطلب أن يقوم عليه كان الغرماء أحق بماله ولو لم يقوم عليه العبد الذي أعتق بعضه، وإنما ينبغي للسلطان أن يقوم عليه فيه فيما يجد له من مال يوم يرجع إليه أمره.
قلت له: أرأيت إن أحدث بعد عتق نصيبه من العبد صدقات وهبات، أتجيزها؟
قال: نعم، ذلك عندي ماض عليه جائز لمن كان ذلك منه إليه.(15/47)
قلت له: وإن كاتب عبدا؟
قال: تمضي الكتابة ويباع ما على المكاتب بما يجوز له بيع ما عليه، ثم يقوم على المعتق من حصة شريكه في العبد بقدر ما يبلغ ما يباع به كتابة المكاتبة، فإن كان ذلك ما يعتق به جميعه قوم عليه فيه وأعتق ولا ترد الكتابة.
قلت له: فإن أحدث تدبيرا؟ قال: أرى أن يرد التدبير فيباع العبد الذي دبر ويقوم عليه الأول في ثمن المدبر إلا أن يكون في ثمن المدبر فضل عن استتمام عتق الأول فلا يباع منه إلا بقدر ما يعتق به الأول.
قلت: لم أجزت الصدقات والهبات ولم ترددها حتى يقوم عليه نصيب شريكه من العبد في ماله الذي أحدث فيه الصدقات والهبات ورددت التدبير، والتدبير كان أحق بأن يجوز له من الصدقة.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أعتق حظا له في عبد ثم أعتق بعد ذلك عبدا لا مال له سواه أو تداين ديونا قبل أن يقوم عليه العبد تستغرق ماله: إن العتق ينفذ عليه في عبده، ويكون الغرماء أحق بماله ولا يقوم عليه العبد الذي أعتق حظه إذا لم تكن القيمة عليه كالدين الثابت صحيح لا اختلاف أحفظه في المذهب في أن ملك الشريك باق على حصته من العبد حتى يقوم على الذي أعتق نصيبه منه ويعتق عليه، ويأتي على ما ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا عن الشافعي أنه يعتق عليه حظ شريكه بالسراية أن يكون التقويم أحق من ديون الغرماء الحادثة بعد عتقه لنصيبه، وأحق من عتقه للعبد الذي أعتقه بعد ذلك، وهو بعيد على ما ذكرناه، إذ لا يسري ما أعتق من ملكه إلى ملك شريكه.(15/48)
وقال في الرواية: إنه إذا أحدث بعد عتقه لنصيبه صدقات وهبات وتدبيرا إن الصدقات والهبات تنفذ ويكون أحق من التقويم، وإن التدبير يرد فيكون التقويم أحق، ولما سأله عن الفرق بين التدبير والصدقات والهبات واعترض عليه بأن الصدقات والهبات أحق أن يرد من التدبير - سكت له عن الجواب في ذلك، والجواب في ذلك: أن التدبير أحق أن يرد من الصدقات والهبات، إذ قد اختلف في التدبير، فقيل: إنه غير لازم وإن لسيده أن يبيعه، وإن للإمام أن يبيعه عليه في الدين الحادث بعد التدبير، ومالك يرى أنه يباع بعد الموت في الدين الحادث، فقد لا يحصل له في التدبير عتق، والصدقات والهبات لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في وجوبها للموهوب له وللمتصدق عليه؛ إذ قبضاها وحازاها على الواهب والمتصدق، وهو الذي أراد ابن القاسم والله أعلم، وأما إذا لم يحزها الموهوب له والمتصدق عليه عن الواهب والمتصدق، فالذي يوجبه النظر في ذلك عندي على المذهب أن يتحاصا جميعا، لأن الشريك والعبد يطلب التقويم، والموهوب له أو المتصدق عليه يطلب هبته أو صدقته، وليس أحدهما بأحق بالقضاء له من صاحبه، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: إذا قيم عليه بالتقويم قبل أن يحاز عنه الصدقة والهبة والعطية فهي مردودة حتى يعتق منها باقي العبد ويمضي ما بقي، ولقوله وجه وهو مراعاة قول من يقول من أهل العلم: إن للواهب والمتصدق أن يرجع في هبته وصدقته ما لم يقبض منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل على نفسه رقبة من ولد إسماعيل]
مسألة وسئل: عن رجل جعل على نفسه رقبة من ولد إسماعيل.
قال مالك: ليعتق رقبة، قيل له: أتجزيه رقبة من الزنج؟ قال: ليعتق رقبة أقرب إلى ولد إسماعيل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن للشرف في النسب مزية(15/49)
توجب التنافس في العبيد من أجلها والزيادة في ثمنها، والأجر على قدر ذلك لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي الرقاب أفضل؟ فقال: "أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» ، فوجب أن يجري ذلك فيما نذر، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد ينكح الحرة وأبو العبد حر فيولد للعبد من الحرة]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن العبد ينكح الحرة وأبو العبد حر فيولد للعبد من الحرة، أيجر الجد ولاء ابني ابنه من الحرة؟
قال: نعم، وهو قول مالك، قيل له: أرأيت ما ولد للعبد من الحرة وقد مات الجد، أيكون ولاؤهم لموالي الجد كما كان يجر ذلك إليهم الجد في حياته؟ قال: لا، قيل: فهل يجر الجد ولاء من ولد لابنه العبد من الحرة قبل أن يعتق الجد إذا عتق الجد؟ قال: نعم، قيل له: فلم لا يجر الجد ولاء من ولد بعد موته كما جر إليهم الجد حين أعتق ولاء من كان ولد لابنه قبل أن يعتق؟ قال: إنما مثل الذين ولدوا بعد موت الجد بمنزلة ما لو أن العبد لم يولد له من امرأته الحرة ولد حتى مات أبوه الحر ثم ولد له بعد ذلك أولاد فإن ولاءهم لا يكون لموالي الجد، ولا ينتقل عن موالي الأم، فإذا لم يجر موالي الجد ولاء ما ولد لابنه إذا لم يولد منهم أحد في حياة الجد، فكذلك إذا ولد بعضهم في حياته وبعضهم بعد موته لا يكون لهم إلا ولاء الذين ولدوا في حياة الجد الذين كانوا ثبتت مواريثهم بينهم وبين الجد.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم النسمة من سماع عيسى ومضى الكلام عليها هنالك، وهي بينة صحيحة.(15/50)
وأما الحجة التي احتج بها إذ قال إنما مثل الذين ولدوا بعد موت الجد بمنزلة ما لو أن العبد لم يولد له ... إلى آخر قوله، فهي ضعيفة، لأن السؤال إنما هو فيمن ولد لابنه العبد بعد موته هل يجر ولاءهم إلى مولاه أم لا، فلا فرق فيهم بين أن يكون لابنه العبد ولد سواهم قد ولدوا في حياته أم لا، فالجد يجر إلى مواليه عن موالي الأم ولاء ولد ابنه العبد كان قد أعتق قبل أن يولدوا أو بعد أن ولدوا، فإن عتق أبوهم بعد ذلك جر الولاء عن موالي الجد إلى مواليه الذين أعتقوه، والمعنى في هذا أن الجد لما كان وارث ابنه العبد لو مات من أجل أن العبد لا يرث كان مولاه الذي أعتقه هو وارثه إذا مات، ولما لم يكن الجد وارث ابنه العبد لو مات إذا كان هو قد مات قبله لم يكن مولاه الذي أعتقه هو وارثه، لأن مولى الجد إنما يرث بالولاء من كان يرثه الجد لو كان حيا، وهذا بين، وبالله التوفيق.
[: حكم ما للعبد المعتق بعضه]
ومن كتاب الصلاة قال: وسمعته يقول في العبد يكون بين الرجلين يعتق أحدهما حظه فلا يجد له السلطان شيئا يقومه عليه فيعتق نصفه ويرق النصف للشريك: إن ماله يوقف بيده ولا يجوز استثناؤه للمعتق ولا أخذه للمتمسك بالرق، ولكنه يوقف بين العبد.
قيل له: فإن جر جريرة تكون في رقبته؟ قال: يكون عليه غرم نصف قيمة الجريرة ويخير المتمسك بالرق في نصفه، فإن شاء أسلم نصيبه فيه إلى المجني عليه، وإن شاء افتداه، قيل له: فإن جرح العبد ممن عقل جرحه؟ قال: يقتسمان ذلك للعبد نصفه وللمتمسك بالرق نصفه، قيل له: أيدفع إلى السيد نصفه؟ قال: نعم.(15/51)
قلت: وإلى العبد نصفه يصنع به ما أحب؟ قال: بل هو مال من ماله يوقف مع ماله الأول ويسوغ للسيد تعجيل أخذ نصيبه، قيل له: أرأيت إن ولد له من أمته فأعتق السيد نصيبه من أبيه؟ فقال: ابنه بمنزلته، فإن أعتق السيد حظه من ابنه فهو عتيق كله، قيل: فمات الابن عن مال فمن يرثه وأبوه لم يعتق بعد؟ قال: يورث بالولاء للمعتق الأول نصف الميراث وللشريك نصفه، قيل له: فإن تزوج حرة وولد له فمات الابن عن مال؟ قال: ميراثه لأمه ومواليه لأنه لم يعتق فيجر ولاء أبيه، قيل له: فإن أعتق المعتق نصف عبد له بإذن المتمسك بالرق فمات عن مال قبل أن يعتق سيده الذي أعتقه؟ قال: ميراثه للذي تمسك بالرق خالصا إذ لم يجز له أن يرثه من أجل أن العبد لا يرث الحر والمتمسك بالرق أحب بميراث مواليه من الشريك المعتق الأول، وقد قال ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب العرية: إن ولاء ما أعتق هذا العبد الذي نصفه حر بين الذي له فيه الرق وبين الذي أعتق النصف ما كان هذا الذي نصفه حر فيه الرق، وإن مات العبد وفيه الرق فهو بينهما أيضا، فإن عتق العبد الذي نصفه حر يوما ما رجع إليه ولاء ما أعتق لأنه ممن لا يجوز للذي فيه الرق انتزاع ماله، فكل ما لا يجوز لسيده انتزاع ماله فما أعتق بإذنه فولاؤه يرجع إليه إذا أعتق، وكذلك المعتق إلى سنين إذا دنا أيضا انقضاء أجل سنيه أو المدبر أو أم الولد إذا مرض سيدهما فما(15/52)
أعتق هؤلاء بإذن ساداتهم أو بغير إذنهم فأجازوا ذلك لهم أو لم يعلموا به حتى عتقوا فولاء ما أعتقوه يرجع إليهم في حال لا يجوز لساداتهم أخذ أموالهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تشتمل على سبع مسائل بعضها متفق عليها، وبعضها مختلف فيها، وهي حكم ما للعبد المعتق بعضه وجنايته، والجناية عليه، وميراث ولده من أمته قبل أن يعتق الشريك فيه حظه، وبعد أن أعتق حظه منه، وميراث ولده من حرة، وميراث ما أعتق بإذن الذي له فيه الرق.
فأما ماله فلا اختلاف في أن الحكم فيه أن يقر بيده للشريك الذي له في نفسه بتحرية التجارة المأمونة، وليس له أن يهبه ولا يتصدق به، فإن عتق باقيه تبعه ماله، وليس لسيده أن يستثنيه إذ لم يكن له أن ينتزعه، فكذلك الشريك الذي أعتق نصفه أولا ليس له أن يستثني ماله كما قال في الرواية، من أجل أن العبد بين الشريكين ليس لأحدهما أن يأخذ حظه منه دون إذن شريكه.
وأما جنايته فنصفها عليه في ماله وذمته يتبع بها إن لم يكن له مال، ونصفها على الذي له نصفه إن شاء افتداه وإن شاء أسلمه كما قال، ومثله في المدونة، ولا اختلاف أحفظه في ذلك.
وأما الجناية عليه فهي بينهما على ما قاله في الرواية، وهو أحد قولي مالك في المدونة، قال فيها: وقد كان لمالك قول إذا جرح إن جرحه للسيد، ثم رجع فقال: هو بينهما، ولكلا القولين وجه، فوجه القول الأول أنه لما كان ميراثه الذي له فيه الرق من أجل أن الحرية تبع للرق كانت الجناية عليه، ووجه القول الثاني أنه شريك في نفسه، فوجب أن تكون الجناية بينهما كالعبد بين الشريكين يجنى عليه، وهو الأظهر، لأن ما نقص من رقبته بالجناية ليس للذي له فيه الرق إلا بعضه، فليس له أن يأخذه كله، والميراث بخلاف ذلك إذ لا يورث بالحرية إلا من يرث بها.(15/53)
وأما ميراث ولده من أمته، فولده من أمته بمنزلته، نصفه حر بعتاقة الشريك لنصف أبيه، ونصفه مملوك للذي يملك النصف الآخر من أبيه، فإن مات ونصفه مملوك قبل أن يعتق الشريك نصفه فيه كان ميراثه له ولا اختلاف في هذا.
وأما إن مات وهو حر كله بعد أن أعتق الشريك حظه فيه، فقال في الرواية: إنه يورث بالولاء، للمعتق الأول نصف الميراث، وللشريك نصفه، وفي هذا نظر؛ لأن أباه لم تكمل حريته فلا يجر ولاء ابنه إلى مولاه على أصله في هذه الرواية عنه في ميراث ولده من الحرة، وفي ميراث العبد الذي أعتقه بإذن الذي له فيه الرق، لأنه قال: ولده من الحرة لأمه ومواليه، كذا وقع في الرواية، وهو غلط، وصوابه: لأمه ومواليها، وإنما قال لأمه ومواليها لأن موالي أمه هم مواليه إذا كان أبوه عبدا، فلم يجعل نصف ما بقي من ماله بعد ميراث أمه للذي أعتق نصف أبيه كما جعل نصف ماله في ولده من أمته إذا أعتق الشريك حظه منها للذي أعتق نصف أبيه، فالمسألتان متعارضتان والذي يأتي في ميراث ولده من أمته إذا كملت حريته بعتق الشريك لنصيبه فيه على قياس قوله في ولده من الحرة أن يكون نصف ميراثه للشريك الذي أعتق نصفه والنصف الثاني لجماعة المسلمين، ويأتي في ميراث ولده من الحرة على قياس قوله في ولده من أمته إذا كملت حريته بعتق الشريك لنصيبه فيه أن يكون نصف ما بقي من ماله بعد ميراث أمه للذي أعتق نصف أبيه، والباقي لموالي أمه، لأن مولى الأب أحق بالميراث من مولى الأم إذا قلنا إنه يجر إلى أبيه ولاء ما أعتق منه قبل أن تكمل حريته، فالاختلاف في رواية يحيى من قول ابن القاسم في هاتين المسألتين على ما بيناه من تعارض قوله فيهما ووجوب رد كل واحد منهما إلى صاحبتها على اختلاف الروايتين عنه: رواية يحيى هذه، ورواية عيسى في رسم العرية في مسألة العبد المعتق نصفه يعتق عبدا له بإذن الذي له فيه الرق فيموت عن مال، لأن النكتة في(15/54)
المسألة إنما هي هل يجر العبد إذا أعتق بعضه إلى مولاه من ولاء ولده بقدر ما عتق منه أم لا يجره إليه على ما بيناه من اختلاف قول ابن القاسم، لتعارض قوله في ذلك، فعلى قياس القول بأنه يجره إليه يكون ميراث ما أعتق بإذن الذي له فيه الرق بين الذي فيه الرق وبين الذي أعتق النصف على ما قاله ابن القاسم في رواية عيسى، وعلى القول بأنه لا يجره إليه يكون جميع ميراثه للذي تمسك بالرق خالصا على ما قاله في رواية يحيى هذه.
فقد أتى القول بتكلمنا في هذه المسألة على سائر السبع المسائل، وقد مضى في رسم سن من سماع ابن القاسم التكلم على ولاء ما أعتق العبد أو من فيه عقد عتق من مكاتب أو مدبر بإذن سيده أو بغير إذنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعتق نصيبه من عبد بينه وبين شريكه]
مسألة قال: وسألته: عن الرجل يعتق نصيبه من عبد بينه وبين شريكه وهو معدم لا مال له، فيقول الشريك: أعتقوه عليه كله بالقيمة وأنا أرضى أتبعه به دينا عليه، فقال المعتق: لا أفعل ولا أرضى أن أتبع بشيء يكون علي دينا، وما أعتقت نصيبي إلا للذي علمت أنه لا يعتق علي غيره لعدمي، وما أردت أن أتبع بشيء من الدين، أيلزم عتقه كله أم لا؟
قال: لا يلزم عتقه كله، ولا يتبع بشيء، وتلك السنة.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الروايات في أثناء المسألة المتقدمة بعد قوله فيها: ويسوغ للسيد تعجيل أخذ نصيبه، فكتبتها بعدها لاتصال بعضها ببعض، وقد حكى ابن أبي زيد عن ابن المواز أنه يقوم عليه وإن كان عديما، ويتبع بالقيمة ويعتق العبد، وقول ابن المواز هو القياس على ظاهر الحديث أن العبد كله يقوم عليه فيلزم المعتق نصف ذلك، وهو المشهور في المذهب؛ لأن المعنى في ذلك أنه قد أدخل فسادا على(15/55)
شريكه بعتقه لحصته، إذ ينقص ذلك من قيمته، وأما قول ابن القاسم إنه لا يقوم عليه إذا كان عديما إلا برضاه فيأتي على قياس القول بأن المعتق لحصته من العبد لم يتعد على شريكه بما صنع، فلا يلزمه إلا نصف قيمته على أن نصفه حر، وهو ظاهر ما مضى في أول سماع يحيى من هذا الكتاب، ودليل ما في كتاب جنايات العبد من المدونة من قول ابن القاسم وقول غيره في كتاب أمهات الأولاد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحالف بحرية عبده أن لا يبيعه]
مسألة وقال في رجل سأل رجلا أن يبيعه عبده، فقال: هو حر إن بعتكه، وقال الآخر: امرأتي طالق إن لم أشتره منك، ثم باعه منه: إن العبد يعتق وتطلق امرأة الحالف ليشرينه، قال: وذلك لأن البيع وقع والحنث معا، فيعتق العبد بذلك، ونظر في اشتراء الحالف بالطلاق فلما رأى أن اشتراءه لم يتم له إذا عتق العبد وجب عليه الحنث لأن اشتراءه لم يكن بعد اشتراء إذ لا يثبت عليه ولا يتمسك به وهو ينقض عليه على صغار منه، فأما إذا كان البيع هكذا فالحنث لازم له؛ لأنه لا سبيل له إلى اشترائه أبدا إذا أعتق.
قال محمد بن رشد: قد قيل في الحالف بحرية عبده أن لا يبيعه: إنه لا شيء عليه إن باعه، قاله عبد العزيز بن أبي سلمة، وهو القياس؛ لأنه إن انعقد البيع فيه صار معتقا لما في ملك المشتري، وإن لم ينعقد فيه لم يلزمه شيء، فعلى هذا القول لا يكون على واحد منهما في هذه المسألة شيء؛ لأن الشراء يصح للمشتري، ووجه القول بأنه يعتق على البائع وإن لم يتم فيه البيع لوجوب عتقه به، هو أن الحنث يدخل بأقل الوجوه، كمن حلف أن لا يبيع عبده فباعه بيعا فاسدا أنه يحنث به وإن نقض البيع فيه ورد عليه، ولما وقع البيع والعتق معا، قال سحنون: إن المال يبقى للبائع ولا يكون تبعا للعبد(15/56)
كالعتق، وفي قوله نظر، لأن الذي يتناول على المذهب أن العتق وقع بأول البيع قبل تمامه، إذ لو تم البيع فيه لما لزم العتق، وإذا وقع العتق قبل تمام البيع وجب أن يكون المال تبعا للعبد، ووجه قوله أنه لما قصد إلى عتقه بالبيع، وحكم البيع أن يبقى المال فيه للبائع صار كأنه قد استثناه، وذلك بين من إرادته؛ لأنه قال: إن المال يكون للبائع؛ لأن البيع أوجب العتق، فصار البائع أولى بالمال من العبد، هذا نص قوله، وبالله التوفيق..
[مسألة: باع وقد حلف أن لا يبيع]
مسألة وقال في الرجل يحلف بحرية جارية له إن باعها فتصدق بها على ابنة له في حجره ثم يريد بيعها لابنته في بعض مصلحتها: إنه إن باعها لزمه الحنث فعتقت عليه، وغرم القيمة لابنته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأنه باع وقد حلف أن لا يبيع، فوجب أن يحنث إلا أن تكون له نية أو يكون ليمينه بساط يدل على أنه إنما حلف ألا يبيعها ليتمول ثمنها وينتفع به، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول أحد عبيدي حر وله عبيد]
مسألة وقال في الرجل، يقول: أحد عبيدي حر، وله عبيد: إنه يقال له: أعتق من شئت ولا شيء عليك غير ذلك، وسئل: عنها سحنون وذكرت له هذه الرواية من قول ابن القاسم وما روى عنه عيسى أنه يقرع بينهم، فقال: أنا أقول بكلا القولين، أقول بما روى يحيى بن يحيى أن يكون ورثته بمثابة إذا اجتمعوا على الرضا بعتق واحد منهم، فإذا اختلفوا قلت بما روى عيسى أنه يقرع بينهم فأعتقت أحدهم بالسهم.(15/57)
قلت: فإن مات قبل أن يعتق منهم أحدا وإنما كان قال ذلك في صحته، قال: يصير ورثته بمنزلته يعتقون أيهم أحبوا كما كان ذلك للميت، وليس هو بمنزلة الذي يوصي سيدهم أن يعتق رأس منهم ولا ينصه بعينه، ولأولئك مسألة قد فسرنا هنالك، وقال في رجل يقول وله نسوة إحدى نسائي طالق ولم ينو واحدة منهن: إنهن يطلقن عليه جميعا.
قال: وأما إن قال أحد عبيدي حر وله مماليك ولم ينو واحدا بعينه: إنه يقال له أعتق من شئت منهم، وإن مات ولم يعتق منهم أحدا قيل لورثته قد نزلتم منزلته فأعتقوا من بدا لكم منهم.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة أن الطلاق لا يختار فيه، بخلاف العتق، وقد روى أبو عبيد عن مالك: أن الطلاق يختار فيه كالعتق وليس بينهما فرق بين في القياس.
ووجه التفرقة في ذلك بين العتق والطلاق أن العتق يصح فيه التبعيض، بخلاف الطلاق. وقد مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى القول مستوفى في مسألة العتق هذه فلا وجه لإعادته.
[مسألة: كاتب جميع رقيقه فلم يجز ذلك الورثة]
مسألة قال يحيى: قلت لابن القاسم: أرأيت إن كاتب جميع رقيقه فلم يجز ذلك الورثة والثلث يضيق بهم أليس يعتق من كل واحد منهم ثلثه؟ قال: بلى.
قلت: ولم لا يقرع بينهم في الثلث؟ قال: أرى إذا قطع لهم الورثة الثلث أن يسهم بينهم فيه كالموصى لهم بالعتق.
قال محمد بن رشد: نفى القرعة أولا ثم رجع إليها آخرا، فهو اختلاف من قوله، فوجه القول بها القياس على الوصية بالعتق، لأنه وإن كان(15/58)
الأصل كتابة فقد عاد ذلك إلى العتق، ووجه المنع منها أن القرعة في القياس غرر فلا تكون إلا حيث جاءت فيها السنة، وهي الوصية بالعتق، فقاس عليها ابن القاسم العتق في المرض لاتفاقهما في المعنى؛ لأنه في الحالتين جميعا عتق من الثلث، والكتابة بخلاف ذلك.
وأشهب وأصبغ لا يريان القرعة، إلا في الوصية خاصة، وابن نافع لا يقول بها إلا إذا لم يكن للميت مال غيرهم اتباعا لظاهر الحديث، فهي ثلاثة أقوال، وإجازتها في الكتابة قول رابع، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بعتق رقيقه وهوصحيح ثم يقوم عليه الغرماء]
مسألة وقال في رجل حلف بعتق رقيقه وهو صحيح ثم يقوم عليه الغرماء وفي قيمة رقيقه فضل عن دينه: إن الدين يفض على العبيد: قيمتهم، فيباع من كل واحد منهم بقدر ما صار على قيمته من الدين حين فض عليهم، ثم يعتق منهم ما بقي.
وتفسير ذلك أنهم إن كانوا ثلاثة عبيد قيمة أحدهم خمسمائة والآخر ثلاثمائة، والثالث مائتان وكان الدين مائة دينار قسمت المائة الدينار على الألف الدينار التي هي قيمة العبيد، فما صار على المائة دينار من المائة الدين نظرت كم ذلك من المائتين؟ فإن كان عشرا بعث عشر رقبة وعتق ما بقي، كذلك يصنع بالثاني والثالث فيما يصير على قيمة كل واحد من المائة الدين إذا قسمت على جميع قيمتهم، وعلى هذا الحساب يقسم كل ما كان من هذا الوجه.
قال: وإن كان أعتق بعضهم قبل بعض بيع الآخر فالآخر حتى ينفذ الدين ثم يعتق ما بقي.
قال: وإن أوصى بعتاقتهم أجمعين ولا مال له غيرهم وعليه من الدين ما لا يحيط برقابهم أقرع بينهم أيهم يباع للدين ثم أخرج(15/59)
ثلث ما بقي بعد ما بيع للدين فإذا عرف مبلغ الثلث أقرع بين العبيد الباقين أجمعين أيهم يعتق في الثلث، فإن اقتسموا أثلاثا فبسبيل ذلك، وإن لم ينقسموا أثلاثا أقرع بينهم الأول فالأول حتى يستكمل إخراج الثلث في قيمة من يخرج سهمه للعتاقة.
وإن كانوا مدبرين في كلمة واحدة وعليه من الدين ما لا يحيط بجميعهم بيع من كل واحد منهم بقدر ما يصير على قيمته من الدين، ويعتق منه ثلث ما بقي، وإنما يقسم الدين على قيمتهم على ما فسرت لك في الذين يعتقون في الصحة وعلى المعتق من الدين ما لا يحيط بجميعهم ولا يسهم بينهم للبيع في الدين ولا بعد إخراج الدين للعتاقة، ولكن يباع من كل واحد ما ينوبه ويعتق منه ثلث ما بقي بعدما بيع منه للدين يتحاصون في الثلث، ولا يقرع بينهم فيه.
قال: وإن كان دبر بعضهم قبل بعض بيع للدين الآخر فالآخر، فإذا قضي جميع الدين عتق في الثلث الأول فالأول ولا يحاص بينهم ولا يسهم بينهم، ولكن يبدون في العتاقة على قدر ما بدأ بهم السيد في التدبير، ويباع الآخر فالآخر للدين كما كان أخرهم السيد في التدبير.
قال: والموصى لهم بالتدبير والمدبرون في الصحة في هذا الوجه سواء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة حسنة بينة على مذهبه في المدونة من أن القرعة إنما تكون في الوصية بالعتق إذا لم يحملهم الثلث، فيعتق منهم مبلغ الثلث بالقرعة، وكذلك إن كان عليه دين ولا مال له سواهم وقد أوصى بعتاقتهم أجمعين يسهم بينهم أيهم يباع في الدين ثم يسهم بينهم(15/60)
أيهم يعتق في ثلث ما بقي بعدما بيع منهم في الدين، وكذلك المبتلون في المرض سواء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وقد ذكرنا الاختلاف في ذلك في تكلمنا عن المسألة التي قبلها.
وأما المدبرون في الصحة أو في المرض أو في الوصية بعد الموت فلا قرعة فيهم ولا فيمن يباع منهم في الدين إن كان على الميت دين ولم يكن له مال سواهم، وإنما يباع منهم في الدين بالحصص أيضا، وكذلك إذا أعتق عبيده في صحته وعليه دين لا يحيط بهم لا يقرع بينهم فيمن يباع منهم في الدين، وإنما يباع منهم بالحصص، ووجه العمل في ذلك أن يعرف ما يقع للدين من قيمتهم، فإن كان الثلث أو الربع أو التسع أو العشر بيع من كل واحد منهم ثلثه أو ربعه أو تسعه أو عشره قلت قيمته أو كثرت، وهو الذي قاله في هذه الرواية، وإن كان في كلامه التباس فهذا معناه، وذلك أنه قال: وتفسير ذلك أنهم إن كانوا ثلاثة عبيد قيمة أحدهم خمسمائة والآخر ثلاثمائة والثالث مائتان وكان الدين مائة دينار قسمت المائة دينار على الألف دينار التي هي قيمة العبيد، فما صار على المائة الدينار من المائة الدين نظرت كم ذلك من المائتين، فإن كان عشرا بعت عشر رقبة، وكذلك تصنع بالثاني والثالث إلى آخر قوله، وموضع الالتباس من قوله، قوله فيه قسمت المائة الدين على الألف التي هي قيمة العبيد، لأن قسمة القليل على الكثير إنما هي بأن يعرف ما يقع منها بالتسمية على ما ذكرناه.
وقوله أيضا فما صار على المائة الدينار من المائة الدين إذ لا حاجة بنا أن نعرف ما يقع من الدين على كل مائة من قيمة العبيد، وإنما نحتاج أن نعرف ما يقع جملة الدين من جملة قيمة العبيد فيباع ذلك الجزء من كل واحد منهم على ما قلناه، ولابن نافع في المدنية أن المدبرين في المرض يقرع بينهم، كما يقرع بين الموصى بعتقهم وبين المبتلين، وبالله التوفيق.(15/61)
[: النصراني يعتق عبدا له ثم يريد بيعه]
من كتاب أوله يشتري الدور والمزارع للتجارة
قال يحيى: قال ابن القاسم في النصراني يعتق عبدا له ثم يريد بيعه: إنه لا ينبغي للإمام أن يمنعه من بيعه إن شاء، لأنهم يستحلون في دينهم مثل هذا، وإنما صولحوا على أن يقروا على دينهم.
قلت: فإن أسلم العبد المعتق قبل أن يرجع السيد في عتقه؟ قال: إن كان يوم أعتقه برئ منه وخلى سبيله فصارت حاله حال الأحرار فلما أسلم وهو بتلك الحال أراد النصراني سيده الرجوع فيه فليس ذلك له، وإن كان لم يزل في يديه من يوم أعتقه يستخدمه بحاله التي كان عليها عبدا حتى أسلم العبد وهو في يدي الذي أعتقه وفي خدمته فإن له أن يرجع في عتقه فيسترقه إن شاء ولا ينتفع السيد بإسلامه لأنه يقول إنما قولنا لعبيدنا أنتم أحرار لا نعدل شيئا ولا يلزمنا به في ديننا عتق أحدهم، ولم يزل هذا العبد في يدي وخدمتي بعد أن قلت هو حر حتى أسلم، فليس إسلامه بالذي يوجب له عتقا لم أكن أجزته له ولا رضيت بإتمامه له، ومثل ذلك عندي ومما يبينه أن النصراني لو طلق امرأته البتة ثم أراد حبسها لم يمنع منها، فإن حبسها بعد الطلاق البتة ثم أسلمت فأرادت أن يلزمه ذلك الطلاق لم يكن ذلك لها، لأنه أمر قد قطعه عن نفسه في دينه بما يجوز له إذا حبسها بعد ذلك، فإسلامه لا يوجب لها طلاقا قد قطعه عن نفسه في دينه، وحبسها بعده، فهو إذا أسلمت إن أسلم في عدتها كان أحق بها ولا يعد الطلاق الذي كان أولا شيئا، قال: ولكن إن كان يوم طلقها البتة خلى سبيلها حتى انقطعت منه وبانت(15/62)
عن حالها تحته ثم أسلمت فأراد ارتجاعها لم يمكن من ذلك لما قد تبين من تخلية سبيلها وبراءته منها ثم أراد أن يعتقها بالارتجاع بعد إسلامها فليس ذلك له.
قال: والعبد المعتق إن كان خلى سبيله يوم أعتقه فلما أسلم المعتق أراد المعتق ارتجاعه فليس ذلك له.
قلت: فالمدبر يدبره النصراني وهو على دينه ثم يسلم العبد المدبر فيريد سيده نقض التدبير والرجوع فيه؟ قال: ليس ذلك له إلا أن يرجع في تدبيره وهو نصراني مثله لم يسلم، فأما بعد أن أسلم المدبر فلا سبيل له إلى الرجوع فيه وإلى استخدامه ولكنه مخارج عليه.
قلت: فما فرق بين المدبر يسلم بعد التدبير فلا يكون للسيد أن يرجع فيه، والمعتق يسلم بعد العتاقة فيكون للسيد أن يبطل عتقه ويرتجعه؟
قال: لأن المعتق لما لم يزل في خدمته وعمله وبحاله التي كان عليها عبدا قلنا لن يبرأ المعتق منه فيلزمه ببراءته منه عتاقة العبد، وإنما صار حابسا له ومستخدما فكان قوله هو حر ليس بقول لأنه يلزمه في دينه، فإسلام العبد الآن لا يزيده في خدمته ولا يوجب له عتاقة لم تظهر له من سيده ببراءة منه ولا تخلية سبيل، قال: والمدبر إن كان حابسا له لم يخرجه من خدمته، فإن المدبر يعذر بأن يقول إنما جعل لي شيئا بعد موته فكيف كنت أجد سبيلا إلى أن أبين بنفسي أو أنقطع عنه بخدمتي فإذا جعل لي ... قبل أن يموت أراد نقضه لإسلامي،(15/63)
ولم يكن وجب لي عتق معجل ففرطت في استحقاقه ولا بين الرجوع منه في تدبيري قبل إسلامي فما يسقط حقي عني في حكم الإسلام؟ وأنا من أهله فبماذا يقدر مع ما مضى في ذلك من قول مالك وهو أحق من اتبع.
قلت: فمكاتبة النصراني أيجوز له الرجوع فيما عقد من كتابته؟
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن للنصراني أن يرجع في عتق عبده النصراني ما دام على النصرانية، لا يمنع من ذلك، وإن كان لما أعتقه قد كان خلى سبيله وخرج عن خدمته مثل قول ابن القاسم في كتاب المكاتب من المدونة خلاف دليل قول مالك في كتاب ... وذلك له إذا لم يخرجه من يده يدل على أن له أن يرجع في عتقه بعد إسلامه إن كان لم يخرجه من يده، خلاف ما في كتاب المكاتب من المدونة.
فتحصيل المسألة أنه إذا أعتقه وخلى سبيله فخرج من خدمته، فلما أسلم أراد أن يرجع قي عتقه لم يكن ذلك له باتفاق، وإن كان أعتقه ثم أراد أن يرجع في عتقه وهو على دينه قبل أن يخرجه عن يده كان ذلك له ولم يمنع منه باتفاق، وإن خلى سبيله وأخرجه عن خدمته ثم أراد أن يرجع في ذلك قبل إسلامه كان ذلك له على ظاهر هذه الرواية، ولم يكن ذلك له على ما في كتاب الجنايات من المدونة من دليل قول مالك، وإن كان أعتقه ثم أراد أن يرجع في عتقه بعد أن أسلم ولم يكن خرج عن خدمته كان ذلك له على ما في هذه الرواية ولم يكن ذلك له على ما في كتاب المكاتب من المدونة والتدبير، بخلاف ذلك له أن يرجع فيه قبل إسلامه لا يمنع من ذلك، وليس له أن يرجع(15/64)
فيه بعد إسلامه قولا واحدا، وقد بين ابن القاسم الوجه في ذلك بما لا مزيد عليه.
والكتابة في ذلك كالتدبير سواء على ما قاله في المدونة، ولم يقع لها في هذه الرواية جواب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف أن كل عبد يبتاعه إلى سنة فهو حر]
مسألة وسألته: عن الرجل يحلف أن كل عبد يبتاعه إلى سنة فهو حر فيشتري كتابة مكاتب قبل انقضاء السنة التي حلف إليها.
قال: ينتظر بالمكاتب، فإن أدى لم يكن عليه حنث، وإن رق عتق عليه ولزمه الحنث فيه.
قلت: أرأيت إن عجز المكاتب بعد انقضاء السنة، قال: يعتق عليه ولزمه الحنث فيه.
قلت: أرأيت إن عجز المكاتب بعد انقضاء السنة؟ قال: يعتق عليه أيضا، لأنه عقد اشتراءه في السنة التي حلف بحرية ما يشتري فيها.
قال محمد بن رشد: سحنون يقول: إنه لا حنث عليه إن لم يعجز حتى انقضت السنة، وقول ابن القاسم أظهر لأنه إنما ملكه بعد السنة بما عقد فيه قبل السنة، فذلك عنده بمنزلة من تزوج في العدة ودخل بعد العدة، وفي ذلك اختلاف قد مضى تحصيله في موضعه، ولا اختلاف في أنه يعتق عليه إذا عجز في السنة، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه يعتق أم ولده أيتبعها مالها]
مسألة وسئل: عن السفيه يعتق أم ولده أيتبعها مالها؟
فقال: لا أرى ذلك لها، لأن عتقها لم يمض على تجويز(15/65)
العتاقة، وإنما أمضاه مالك لأنه رأى العتق قد كان سبق إليها بالولادة، فلما أعتقها كان إنما ترك ما كان له من الاستمتاع بها، فلذلك رأيت لا يتبعها مالها، لأني رأيت إن أتبعها مالها كنت قد جوزت للسفيه القضاء في ماله، قال ابن وهب: مثل ذلك، وقال سحنون مثله تافها كان أو غير تافه لأنه لا يتبعها مالها.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما مضى من قول مالك في رسم العتق من سماع أشهب، وقد مضى هنالك القول على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه يمثل بعبده أيعتق عليه]
مسألة قال يحيى: قلت لابن القاسم: فالسفيه يمثل بعبده أيعتق عليه؟ قال: لا، ووجه ما يأخذ به أن أنظر إلى كل من إذا ابتدأ عتاقه جاز عتقه فإنه إذا مثل أعتق عليه، وكل من إذا ابتدأ عتاقه لم يجز عتقه، فإنه إذا مثل بعبده لم يعتق عليه، وسئل ابن وهب عن السفيه يمثل بعبده، فقال: أرى أن يعتق عليه، قيل له: أفيتبع العبد ماله؟ قال: لا، قيل له: فالمرأة تمثل بخادم لها لا تملك غيرها فيرد الزوج عتقها؟ قال: لا يكون للزوج هاهنا رد، وإنما وقع العتق عليها بحكم قد مضت سنته فهي بالمثلة عليها حرة رضي الزوج أو كره، قال سحنون في مثلة المرأة ذات الزوج بعبدها أو بخادمها وقيمتها أكثر من ثلث مالها: لا أرى أن يعتق عليها وذلك مثل عتقها، وكذلك قال لنا ابن القاسم.
قيل لسحنون: فالعبد يمثل بعبده؟ قال: لا يعتق عليه، وهو قول ابن القاسم والذي يمثل بعبده فلا يعتق عليه حتى يموت فلا يعتقون عليه بعد الموت.(15/66)
قال يحيى: قلت لابن القاسم: فالمريض يمثل بعبده في مرضه؟ قال: يعتق عليه في ثلثه فإن صح فمن رأس ماله، قيل له: فالمديان الذي لا مال له إلا العبد وليس فيه وفاء لما عليه يمثل به؟ قال: لا يعتق عليه، ولو جاز مثل هذا لمثل المفلس بجميع عبيده فأعدم الناس أموالهم واستفاد بذلك موالي يعتقد ولاءهم.
قال محمد بن رشد: اختلف في السفيه والعبد والمديان والمرأة ذات الزوج يمثلون بعبيدهم، فقيل: إنه لا يعتق على واحد منهم عبده بالمثلة إلا أن يجيز ذلك للمديان غرماؤه وللمرأة ذات الزوج زوجها، وهو مذهب ابن القاسم في هذه الرواية على ما أصله فيها من أنه لا يعتق بالمثلة إلا على من يجوز له عتق عبيده، ونص قوله في الواضحة على ما حكاه ابن حبيب عنه وهو أيضا مذهب سحنون في هذه الرواية، لأنه إذا قال ذلك في المرأة ذات الزوج فأحرى أن يقوله فيمن سواه منهم لأن أبعدهم من أن يعتق عليه بالمثلة المديان الذي لا وفاء عنده بدينه إلا العبد الذي مثل به للعلة التي ذكرها في الرواية من أنه يتهم في أن يمثل به ليعتق عليه فيكون له ولاؤه ولا يأخذه الغريم، ويليه العبد لقوة تحجير سيده عليه، وإذ قد قيل إنه لا يملك وإن ماله لسيده، ويليه السفيه للإجماع في أنه يحجر عليه في جميع ماله لقول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ} [النساء: 5] وتليه المرأة ذات الزوج لأن الزوج إنما يحجر عليها في ثلث مالها، وقد قيل إنه لا تحجير له عليها في شيء منه، فمن قال إنه لا يعتق على المرأة ذات الزوج عبدها بالمثلة إذا لم يحملها ثلثها أو لم يكن لها مال سواه فأحرى أن يقول ذلك فيمن سواها من المذكورين، وهو مذهب سحنون على ما ذكرناه، ومن يقول إنه يعتق على المديان عبده بالمثلة وإن كان الدين مستغرقا له فأحرى أن يقول ذلك فيمن سواه من المذكورين وهو قول أشهب، ومن يقول ذلك في السفيه وهو(15/67)
قول ابن وهب في هذه الرواية فأحرى أن يقوله في المرأة ذات الزوج وقد لا يقوله في العبد ولا في المديان، ومن يقول ذلك في العبد فأحرى أن يقوله في السفيه وفي المرأة ذات الزوج وقد لا يقوله في المديان.
فيتخرج على هذا في جملتهم خمسة أقوال:
أحدها: أنه يعتق على كل واحد منهم عبده بالمثلة.
والثاني: أنه لا يعتق على واحد منهم بها.
والثالث: أنه لا يعتق على واحد منهم بها عبده إلا على المرأة ذات الزوج.
والرابع: أنه يعتق بها على المرأة والسفيه ولا يعتق بها على العبد ولا على المديان.
والخامس: أنه يعتق بها عليهم كلهم إلا على المديان، وإذا أعتق على العبد بها عبده على القول بأنه يعتق عليه فولاؤه لسيده لا له، قاله ابن حبيب في الواضحة.
واختلف فيمن أعتق منهم عليه عبده بالمثلة على القول بأنه يعتق بها عليه، هل يتبعه ماله أم لا؟ فروي عن ابن القاسم في السفيه أنه يعتق عليه عبده بالمثلة ولا يتبعه ماله وهو قول ابن وهب في هذه الرواية، وروى ابن المواز عنه أن ماله يتبعه، قال: وأظنه قول أشهب لأنه روى عن مالك في السفيه يعتق أم ولده أنها تكون حرة ويتبعها مالها خلاف قول ابن القاسم.
وأما إذا أعتق على المالك لأمر نفسه عبده بالمثلة فإنه يتبعه ماله ولا اختلاف أحفظه في ذلك، ويكون له ولاؤه، وقد قيل: إنه لا يكون له ولاؤه، ويكون لجماعة المسلمين، وولاؤه على ظاهر ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «من حرق عبده بالنار أو مثل به مثلة فهو حر وهو مولى الله عز وجل ورسوله» ، قال الليث: وهذا أمر معمول به، فظاهر قوله أن الولاء لا يكون له، قال ابن المواز: والقياس في السفيه أن لا يعتق عليه بالمثلة، ومن قال إنه يعتق عليه بها لم أعب قوله، والذي أقوله به أن القياس أن يعتق على كل واحد منهم عبده بالمثلة حاشا المديان، لأنها جناية توجب العتق بالسنة، وذلك من حق العبد، فوجب أن يحكم له بحقه على كل واحد منهم كما لو جنى على(15/68)
غيره، ألا ترى أن المرأة ذات الزوج والسفيه لو قتلا عبدا لأحد لكانت قيمته في أموالهما، ولو قتل العبد عبدا لأحد لكانت جنايته في رقبته وماله، فعبده إذا مثل به أحرى أن يعتق عليه، ولا يلزم هذا في المديان، لأنه لو جنى على أحد بقتل عبده لم يكن المجني عليه أحق بجنايته من الغرماء، والقياس إذا لم يتهم في تمثيله به لجر ولائه أن يحاص الغرماء بقيمته، فيعتق منه بقدر ذلك.
وقوله في الرواية في الذي يمثل بعبده فلا يعتق عليه حتى يموت: لا يعتق عليه بعد الموت - بين صحيح، لأن عتقه عليه بالمثلة عقوبة له، فلو أعتق عليه بعد الموت لكانت الورثة هم المعاقبون بفعله، وأما المريض إذا مثل بعبده فيعتق عليه في ثلثه إن مات من مرضه، لأن الثلث له حيا وميتا، وإن صح فمن رأس ماله كما قال، ولا اختلاف في هذا أحفظه، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني يمثل بعبده والعبد مسلم أو نصراني]
مسألة قيل لسحنون: ما تقول في النصراني يمثل بعبده والعبد مسلم أو نصراني؟ فقال: كان أشهب يقول يعتق عليه ما مثل من رقيقه كفارا كانوا أو مسلمين، وكان ابن القاسم يأبى ذلك ويقول لا يعتق على النصراني ما مثل من عبيده النصارى، لأن النصراني لو أعتقه ثم باعه لم أعرض له، قال أصبغ: قال ابن القاسم: ولو مثل النصراني بعبده بعد أن أسلم لعتق عليه.
قال محمد بن رشد: واتفقا جميعا ابن القاسم وأشهب في الحربي المعاهد ينزل بأمان فيمثل بعبده أنه لا يعتق عليه، وهو قول مالك في رسم العتق من سماع أشهب، ويأتي على ما حكى ابن حبيب عن أصحاب مالك أنه يعتق بالمثلة على كل واحد منهما، وقول ابن القاسم أنه لا يعتق على واحد منهما هو الأظهر، لأن العتق بالمثلة إنما هي عقوبة لحرمة المسلم، فوجب أن لا يعتق عليه بالمثلة إلا أن يمثل به بعد إسلامه سواء كان ذميا أو معاهدا كما قال ابن القاسم.(15/69)
ولو مثل المسلم بعبده النصراني لعتق عليه لأنه حكم بين مسلم ونصراني، فيحكم فيه بحكم الإسلام، ووجه قول أشهب أنه حمل الحديث بالعتق على من مثل بعبده على العموم في المسلمين والكفار من أهل الذمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يمثل بامرأته]
مسألة قال سحنون: كان مالك يقول في الذي يمثل بامرأته: إنها تطلق عليه، بمنزلة بيعه لها، لأنه ليس بمأمون على غيرها.
قال محمد بن رشد: قول مالك في الذي يمثل بامرأته إنها تطلق عليه يريد طلقة بائنة، كذلك روى زياد بن جعفر عنه في المدنية، وقال ابن القاسم فيها: ما سمعت بهذا قط، وأرى أن لا يفرق بينهما ويكون بينهما القصاص والقود، إلا أن يرى السلطان للتفرقة بينهما وجها، قال عيسى مثل أن يخافه عليها، والذي أقول به في هذا أنه ليس باختلاف من القول، وإنما معناه أنه لا يفرق بينهما بالمثلة إلا أن تطلب هي الفرقة وتدعي أنها تخافه على نفسها فيفرق بينهما بطلقة بائنة.
وأما بيعه لها فقول مالك إنما تطلق عليه يريد أيضا بطلقة واحدة بائنة على ما في سماع عيسى من كتاب الحدود وفي كتاب الاستبراء من كتاب أسن، على ما وقع في سماع عبد المالك من كتاب طلاق السنة، وهو قول ابن نافع فيه: إنها طلقة بائنة، وقد روى محمد بن عبد الحكم عن مالك أنها تطلق عليه بالبتة. قال محمد: وأنا أقول: لا يقع عليه طلاق، ويؤدب على فعله، وترد إليه زوجته، وهو قول ابن وهب في سماع عبد الملك من كتاب طلاق السنة ومثله ما في أول سماع ابن القاسم منه في الذي يزوج امرأته، إذ لا فرق في المعنى بين أن يزوجها أو يبيعها، وفي المجموعة أنها تحرم عليه بالبتات إذا زوجها بنى بها الزوج أو لم يبن بها، فهي ثلاثة أقوال أظهرها أنها طلقة واحدة بائنة، وبالله التوفيق.(15/70)
[: أوصى لأمة له وهو مريض]
ومن كتاب المكاتب
قال: وسألته: عن رجل أوصى لأمة له وهو مريض، فقال إن مت قبل سبعة أشهر أو نحو ذلك ففلانة حرة إلا أن تحدث حدثا من زنا يعرف، فمات قبل السبعة وولدت الجارية بعد موته قبل ستة أشهر فسئلت ممن هذا الولد؟ فقالت: من فاحشة، ثم ادعت بعد أنه من سيدها وأتت بشهيدي عدل يشهدان أنه كان مقرا بوطئها، قال يلحق به الولد وتلحق الأمة بالأحرار من رأس المال، ولا يضرها إقرارها الذي أقرت به أن ولدها من فاحشة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقد تكلم عليها ابن دحون بكلام صحيح، فقال: ولو لم ترجع عن إقرارها بالزنا للحق الولد بالسيد وحدت وكانت حرة لأن إقرارها بالزنا لا ينفي الولد عن والده وهو يشهد عليه بإقراره بالوطء، وإقرارها أيضا لا يوجب ملكها لأن إلحاق الولد بالأب يوجب أنها أم ولد، فهي حرة وإن حدت على إقرارها بالزنا، ولا تحد حتى تتمادى على الإقرار، ولا يجوز لها استرقاق نفسها، ولا معنى لقوله قبل ستة أشهر إذا أتت به لما يلحق به الأنساب وثبت إقراره بالوطء لحق به وإن ادعت أنه من زنا حدث ولم يضر ذلك الولد وهي حرة، والله الموفق.
[مسألة: تحلف بالحرية لتفعلن كذا فتريد ترك ذلك]
مسألة قال: وسألته: عن المرأة تحلف بالحرية لتفعلن كذا، فتريد ترك ذلك لتحنث نفسها، فينكر ذلك زوجها عليها ويرد يمينها.
قال: حالها في الحنث الواقع عليها والذي تحنث به نفسها وابتداء عتاقتها سواء ما رد الزوج فهو مردود إذا جاوزت قيمة رقيقها ثلث مالها.(15/71)
قلت: أرأيت ما يحنثها به الزوج مما لو شاء تركها فيه على بر؟ مثل أن تقول رقيقي أحرار إن وطئتني الليلة وأياما تذكرها، أو تقول رقيقي أحرار إن ضربت أمتي هذه الليلة أو نحو ذلك مما يخاف به تعدي زوجها عليها أو على رقيقها أو تكون هي المتعدية في يمينها مثل أن تقول إن وطئتني أبدا أو ضربتني أبدا وقد وجب عليها الأدب مرارا لما ارتكبت.
قال محمد بن رشد: أما يمينها على نفسها بعتق رقيقها وهم أكثر من ثلث مالها ألا تفعل شيئا أو أن تفعله إلى أجل تسميه فلزوجها أن يرد يمينها قبل أن تحنث [أو بعد أن تحنث فإن رد يمينها قبل أن تحنث] ، اكْتَفَى بذلك ولم يكن عليه أن يرد فعلها بعد الحنث، وإن سكت على يمينها ولم ينكره كان له أن يرده إذا حنث ولم يضره سكوته على يمينها، قاله في الرسم الذي بعد هذا.
وأما إذا حلفت عليه فحنثها هو فسكت في الرواية عن الجواب على ذلك، وقال ابن دحون فيها قياسها أنه إن حنثها كان له رد يمينها ورفع العتق عنها، وإن كان هو حنثها لأنه قد كان له أن يرد يمينها قبل أن يحنثها فلا يلزمها حنث بعد رده ليمينها، وليس قوله في ذلك بصحيح، والذي يوجبه النظر في ذلك أنه إن حنثها فيما له أن يحنثها فيه مما تكون متعدية عليه في اليمين به مثل أن تحلف بعتق رقيقها أن لا يطأها أو ألا يكلم فلانا أو ألا يضرب عبده في شيء استوجب الأدب عليه فله أن يحنثها ويرد يمينها بالعتق فلا يعتقون عليها،(15/72)
وأما إن حنث فيما ليس له أن يحنثها فيه مما لا تكون متعدية عليه في اليمين به مثل أن تحلف بحرية رقيقها أن لا يضرب أمتها أو ألا يضربها إذ لم تصنع شيئا استوجب عليه الضرب فتعدى وضربها أو ضرب أمتها فإنها تحنث ويلزمها العتق ولا يكون له أن يرده لأنه مختار لتحنيثها في غير شيء يجب له، وإلى هذا نحا ابن أبي زيد، فإنه قال في النوادر عقب هذه المسألة: لم يذكر لها جوابا، ويتبين لي في الوطء أن له رد العتق إن وطئها، وأما ضرب الأمة فلا رد له، فمعنى قوله في الوطء الذي يكون في الحلف عليه متعدية عليه، وأما لو حلف أن لا يطأها هذه الليلة لعذر لها في ذلك من مرض أو نحوه فحنثها ووطئها لم يكن له أن يرد العتق، ومعنى قوله في ضرب الأمة الضرب الذي يكون متعديا فيه على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بعتق عبد له سماه فيكاتبه أو يدبره أو يوصي له]
مسألة وسألته على الرجل يحلف بعتق عبد له سماه فيكاتبه أو يدبره أو يوصي له بعتقه إلى أجل.
فقال: أما الوصية له بالعتاقة وتدبيره في الصحة والمرض فلا يوجب عليه حنثا، لأنه يرجع في الوصية إن شاء فيبطل ما جعل له فيها، والتدبير لا يعتق العبد فيه إلا بعد الموت والدين يلحقه أحيانا فيبطل تدبيره فلا أرى التدبير يوجب عليه حنثا، قال: وأما إن كاتبه فإنه ينتظر به أداؤه وعجزه فإن أدى ما عليه عتق بالكتابة وحنث سيده في سائر رقيقه، وإن عجز فرق فلا حنث عليه.
قلت: ولم لا نراه حانثا إذا دبره إن سلم من البيع في دين يكون على سيده إذا وسعه ثلث ماله وكان مال سيده مأمونا حتى لا يشك أن الحرية وجبت له ساعة مات سيده، أما ترى حينئذ أن(15/73)
الحنث وقع على سيده في الرقيق بموته لأنه قد كان عقد له عقدا في الصحة لا يستطيع الرجوع فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، ولا فرق في القياس والنظر بين الكتابة وبين التدبير والوصية إلا في كون حنثه في التدبير والوصية بعد الموت، فالقياس على قوله في الكتابة أن ينظر إذا مات في العبد الذي أوصى بعتقه أو دبره، وقد كان حلف ألا يعتقه فعتق عبدا له آخر فإن خرج من الثلث وقد بقيت منه بقية أعتقت فيما بقي منه العبد الذي حلف بعتقه أن لا يعتق هذا العبد الذي أوصى بعتقه أو دبره فيه، لأن حنثه فيه بعتقه إنما يحصل بعد الموت، فوجب أن يكون من الثلث، واعتراضه عليه بقوله.
قلت: ولم لا تراه حانثا إذا دبره إن سلم من البيع إلى آخر قوله اعتراض صحيح لازم له، ولذلك سكت عن الجواب، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد الذي سماه أحدهما حر]
مسألة قال: وسألته: عن الأخوين يرثان العبد فيشهد أحدهما أن أباه أعتقه في وصيته منهم عبد أو نصه باسمه ويشهد أخوه أن أباه أوصى بعتق عبد من عبيده نصه الأب فأنسيت اسمه، فما أدري أي عبد هو.
قال: أما العبد الذي نصه أحد الأخوين فهو حر إن وسعه الثلث لأن أحدهما قطع له الشهادة وشكك الآخر فيه نفسه فلا ينبغي لواحد منهما أن يسترقه ولا شيئا منه.
قلت: أفيحكم عليهما بذلك حكما لازما لهما؟ فقال: لا، ولكني آمرهما بذلك وأورعهما عن استرقاقه، لأن الشهادة لم تتم للعبد إذ لم يشهد له إلا واحد.(15/74)
قلت: ثم يصنعان ببقية العبيد ماذا؟ فقال: يقتسمانهم فما صار للذي أبت فيها الشهادة حل له استرقاقهم، وما صار للشك في وصية أبيه أمرناه أن يحتاط على نفسه بالبراءة من جميعهم، ولا يسترق منهم أحدا، وذلك أنه لا يدري أيهم أعتق لأنه لو ثبتت الشهادة كان المشهود له عتيقا كله إن كان يسعه ثلث مال الموصي.
قلت: فإن كانا عبدين كيف الأمر فيهما ولا مال للميت غيرهما؟
فقال: أرى لهما أن يعتقا من الذي بت أحد الأخوين له الشهادة مبلغ ثلث مال الميت، فإن كان ذلك قدر قيمة ثلثي العبد فذلك له.
ويرق لهما ثلثه، سدس لكل واحد، ثم يقتسمان الباقي، فيطيب للقاطع الشهادة نصفه بما انقطع عنه من الشك في عمله، ويقال للشاك: احتط على نفسك، فإنا لا ندري لعل الوصية كانت إلى هذا؟ فانظر إلى مبلغ ثلث الميت من قيمة العبد فَابْرَأْ مما كان ينوبك من ذلك، فإن كان مبلغ الثلث قدر ثلثي العبد فقد كان يعتق منه ذلك ويرق ثلثه لو ثبت أن الوصية كانت له، فلا يبقى بيد الشاك إلا سدسه، وهو نصف ما كان يبقى بعد إنفاذ الوصية منه، فيعتق ثلثه ويرق للشاك سدسه، ويطيب للمستيقن نصفه، فعلى هذا الحساب يحمل ما أشبه هذا من أمور أهل الشك في الوصايا من الورثة احتياطا عليهم ونظرا لهم، ولا يلزمون ذلك حكما عليهم، ولكن يؤمرون به احتياطا لهم.
قال محمد بن رشد: قوله في الأخوين اللذين شهد أحدهما على أبيه أنه أوصى بعتق عبد من عبيده سماه والثلث يحمله، وقال الآخر: لا أدري(15/75)
هل هو هذا العبد أو غيره من عبيده لأني نسيته: إن العبد الذي سماه أحدهما حر لأن الواحد قطع له الشهادة، والآخر شك فيه، إلا أنه لا يحكم بذلك عليهما ويورعا عن استرقاقه لا يصح عندي على أصولهم، لأن أحدهما يقطع بوجوب حريته، والآخر يقول لا أدري هل هو هذا العبد أو غيره من العبيد، فالواجب أن يقال للشاك في أي عبد هو الذي أوصى أبوه بعتقه: أنت لا تشك في أن الحرية واجبة لأحدهم فإما أن تحتاط لنفسك فتعتق حظك من كل واحد منهم لاحتمال أن يكون هو الموصى له بالعتق، وإما أن يتقلد أن الوصية كانت لفلان منهم، وإما أعتقنا عليك حظك من كل واحد منهم إذ لا نمكنك من أن تملك حظك من جميعهم وأنت مقر لأحدهم بالحرية، فإن أعتق حظه من العبد الذي سماه أخوه حكم بحرية جميعهم، وكذلك إن أبى أن يعتق حظه من كل واحد منهم لحكم بحرية جميع العبد الذي سمى أخوه، لأنه إذا أعتق حظ أخيه منه بأحد الوجهين وجب عتق جميعه، لأنه مقر أن نصيبه حر بالوصية، وإما أن يتقلد الشاك أن الوصية كانت لغير الذي سمى أخوه فأعتق نصيبه منه، فلا يعتق على الذي سمى العبد نصيبه منه، للضرر الداخل في ذلك على أخيه وإنما يؤمر أن يجعل ثمنه في عتق أن يبيع العبد كله أو وجد لحظه منه ثمنا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وعلى ما مضى في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى وفي غير ما موضع من هذا الكتاب إلا أن يملك العبد كله أو يملك شيئا زائدا منه إلى نصيبه فيه فيعتق عليه جميع ما ملك منه، فإذا أعتق العبد الذي سماه أحدهما بالوصية فقوله في بقية العبيد إنهما يقتسمانهم فما صار للذي أبت فيه الشهادة حل له استرقاقهم إلى آخر قوله في المسألة فهو صحيح بين وهذا الاعتراض الذي ذكرناه في هذه المسألة يدخل في المسألة الأخرى، إذا كانا عبدين ولم يكن للميت مال غيرهما، فتدبر ذلك تجده صحيحا، وقد ذكرها ابن المواز عن ابن القاسم على نحو ما وقعت هاهنا، فقال: إنه يعتق ثلثا العبد إن لم يدع غيرهما وقيمتهما سواء، ولا يعتق من الآخر شيء، ويقال للشاك: اجعل نصيبك(15/76)
من ثمن الآخر يريد إن بيع في رقبة يعتقها.
قال محمد: وإنما أعتق ابن القاسم ثلثي المعتق حين لم ينكر الأخ قول أخيه فيه وأمر الشاك أن يجعل ما يأخذ من ثمن الآخر في رقبة لشكه، قال في كتاب آخر عن أشهب مثل ما ذكرها هنا إلا أنه قال يتقاومان الباقي، فإن صار للذي نص العبد الآخر لم يعتق عليه من هذا شيء، وإن صار للشاك لم يأمره أن يملك نصيبه، إذ قد يكون فيه العتق ويقضى بذلك عليه وثلثه رقيق ما لم يرجع قبل أن يقضي عليه فيقول ذكره أنه الذي قال أخي.
وقول أشهب إنهما يتقاوماه معناه إن أراد ذلك، إذ لا يجبر على المقاومة من أباها من الشريكين.
وأما قوله إنه يقضي عليه بعتق حظه من العبد إن صار له في المقاومة ما لم يرجع قبل أن يقضي عليه بذلك فهو خلاف مذهب ابن القاسم في أنه لا يقضي عليه بالعتق في الشك، وبالله التوفيق.
[مسألة: ما أعتقت المرأة من عبيدها إذا فرقت العتاقة في أزمان شتى]
مسألة قال: وسألته: عن امرأة ليس لها مال إلا ثلاثة أرؤس فأعتقت اليوم رأسا، ثم بعد زمان رأسا، ثم بعد ذلك أيضا الثالث، والقيم مختلفة.
فقال: ينظر إلى قيمة الأول، فإن كان قدر ثلث جميع قيمتهم فأدنى فعتاقته جائزة، ثم انظر إلى ما بين عتاقته وعتاقة الثاني فإن كان زمانا قريبا يعرف بقربه أنها مضرة في عتقها الثاني فالعتاقة الثانية مردودة، وإن تباعد ما بين ذلك جدا حتى لا يتهم في الضرر نظرت إلى قيمة الثاني فإن كانت ثلث جميع قيمته وقيمة الثالث فأدنى، أجزت عتاقته أيضا، وأما الثالث فلا عتاقة له على حال من الأحوال، لأنها أعتقته ولا مال لها غيره.(15/77)
قال: وإن كانت قيمة الأول أكثر من ثلث جميع قيم الثلاثة الأرؤس لم يجز عتقه، ثم إن كانت قيمة الثاني أكثر من ثلث جميع قيم الثلاثة لم يجر عتقه أيضا، وإن كانت قيمة الثاني بعد أن تبطل عتاقة الأول أقل من ثلث جميع قيم الثلاثة أو الثلث فقط جازت عتاقته، فعلى هذا النحو يكون ما أعتقت المرأة من عبيدها إذا فرقت العتاقة في أزمان شتى.
قال محمد بن رشد: لم يجز في هذه الرواية القرب الذي يجوز فيه الأول إن كان الثلث فأقل، ويبطل الثاني من البعد الذي يعتق فيه الأول إن كان الثلث فأقل والثاني إن كان ثلث قيمته وقيمة الثلث، فأقل، والقرب في ذلك اليوم واليومان على ما قاله في رسم حمل صبيا من سماع عيسى إلى الشهر والشهرين على ما قاله ابن حبيب في الواضحة وحكاه عن أصبغ، لأن ذلك يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، وقال ابن حبيب إذا لم يكن بين ذلك إلا اليوم واليومان ونحوهما فهو بمنزلة إذا كان في فور واحد يريد الأول وإن كان أقل من الثلث إذا كان مع الثاني أكثر من الثلث، وأما البعد فهو الستة أشهر فأكثر على ما حكاه ابن حبيب، وقد قيل: العام لأنه حد في غير ما مسألة، وقد قيل: إنها إذا تصدقت بثلث مالها فلا ينفذ لها عطية في باقيه قرب ذلك أو بعد، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.
[يقول أول عبد أبتاعه فهو حر]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر قال يحيى: وسألت عبد الرحمن بن القاسم عن الرجل يقول أول عبد أبتاعه، فهو حر، فيبتاع رقيقا في صفقة واحدة، أيكون حانثا في جميعهم؟(15/78)
فقال: نعم، وإنما مثل ذلك عندي الرجل يقول أول عبد أبتاعه فهو حر فيبتاع شقصا من عبد أنه يقوم عليه ما بقي من العبد فإذا ابتاع عبيدا في صفقة واحدة كان الحنث عليهم في جميعهم أوجب.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب عن ابن الماجشون في الميراث أنهم يعتقون عليه جميعا، وإذا قاله في الميراث الذي لم يدخله على نفسه فأحرى أن يقوله في الشراء الذي أدخله على نفسه، وقد قيل إنه يعتق أحدهم بالسهم، وقيل يختار واحدا فيعتقه، والقولان لابن القاسم في أول سماع سحنون في الذي يقول من يشري بكذا فهو حر، فيأتيه ثلاثة من عبيده في مرة، إذ لا فرق بين المسألتين على ما نذكره هناك من أحد التأويلين إن شاء الله تعالى.
وجه القول بأنهم يعتقون جميعا هو أنهم لما ملكهم معا ولم يتقدم أحدهم في الملك على صاحبه كان كل واحد منهم في حكم المتقدم إذ قد علم أنه ذلم يتقدم سواه منهم عليه، وهو في الشراء أيضا لما اشتراهم معا فقد قصد إلى عتق جميعهم.
ووجه القول بأنه يختار واحدا منهم فيعتقه هو أنه لم يعتق إلا عبدا واحدا فلا يلزمه أكثر مما ألزمه نفسه ولما كان كل واحد منهم في حكم الأول وهو لم يعتق إلا واحدا كان له أن يختار من شاء منهم.
وأما القول بالقرعة فوجهه أنه لما لم يكن لواحد منهم مزية في العتق على صاحبه كانت القرعة وجه العدل فيما بينهم، وله أن يقرع بينهم إن شاء على القول بأنه يختار واحدا منهم وليس له أن يختار على القول بأنه يقرع بينهم، وبالله التوفيق.(15/79)
[مسألة: اشترى عبدا فاستحق من يده]
مسألة قال: وسألته: عن الرجل يقول للرجل أعتق غلامك فلانا ولك مائة دينار فيأخذها ويعتق غلامه ذلك، ثم يأتي رجل يستحق ذلك الغلام عبدا، أو يستحق ذلك العبد بحرية بعد من أصله.
قال: إذا استحق عبدا رجع صاحب المائة على المعتق بها فأغرمه إياها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو ما لا إشكال فيه، لأنه قد انكشف أنه أخذ مال الرجل باطلا إذا أعتق بأخذه إياه ما لا يجوز له عتقه، إما لأنه حر من أصله وإما لأنه ملك لغيره، وذلك كمن اشترى عبدا فاستحق من يده فله أن يرجع بالثمن على بائعه منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون ابنته أمة فيريد سيدها بيعها]
مسألة وسألته: عن الرجل تكون ابنته أمة فيريد سيدها بيعها فلما خاف أبوها تغربها عن بلده أتى رجلا، فقال له: اشتر ابنتي وأنا أعينك في ثمنها بمائة دينار، فيشتريها بالثمن الكثير ويستعين بالمائة أو عسى أن لا يشتريها إلا بتلك المائة أو نحوها أيجوز لمشتريها أخذ المائة من أب الأمة؟ وكيف إن أخذها بشرط أن يحبسها أو يتخذها أو بغير شرط؟
قال: أما إذا أعانه بالمائة على شرط الحبس أو الاتخاذ فإن فرجها يحرم عليه بذلك، ويلزمه رد المائة دينار، لأنه أعطاها إياه على ما لا يحل له، فإن أعطاها على غير شرط ولا عدة يفسد عليه مسيسها فلا بأس أن يأخذها منه، فإذا كان ذلك من الأب على وجه(15/80)
العون للمشتري والصلة له لما رأى من ضعفه عن اشترائها فهو له ولا يلزمه ردها.
قلت له: فإن عجل بيعها، فقال الأب: إنما أعينك بالمائة لما رجوت من حبسك إياها قال ينظر في أمره:
فإن كان يرى أنه إنما يعين مثله مثل المشتري لهذا الوجه فهو كالشرط يرد المائة على الأب ويجتنب المسيس حتى يردها، وإن كان مثل الأب إنما يعين مثل المشتري على وجه الصلة والمعروف حلت له أمته، وحل له حبس المائة وباع إذا شاء وحبس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة تبين ما وقع في المدونة من قوله في الرجل يعطي الرجل المال يشتري به ابنه أو ابنته يعينه به فيفعل الرجل! إنه لا يعتق المشتري منها على واحد منهما، وهما رقيق للمشتري.
وقوله في الرواية إذا عجل بيعها إنه ينظر فيما قال الأب من أنه إنما أعانه بالمائة لما رجاه من حبسها، فإن تبين إنما أعانه بالمائة لهذا الوجه كان ذلك كالشرط ولزمه رد المائة، وإن تبين أنه إنما أعانه بها على وجه الصلة له لا لهذا الوجه كانت المائة له، وفعل بالجارية ما شاء من بيع أو حبس، صحيح ولم يبين إذا لم يتبين الأمر في ذلك على ما هو محمول؟ والذي أراه في ذلك أنه إذا عجل بيعها من غير سبب لبيعه إياها فالأب يصدق فيما ادعاه من نيته مع يمينه على ذلك، ويسترجع مائته، والله الموفق.
[مسألة: تحلف امرأته بالحرية لتفعلن شيئا]
مسألة قال: وسألته: عن الرجل تحلف امرأته بالحرية لتفعلن شيئا أو لا تفعل شيئا تذكره فتخاف حنثها ويريد أن يرد يمينها لكي لا يعتق عليها رقيقها لما جاوزت يمينها من ثلث مالها، فقلت متى ترى أن(15/81)
تشهد على رده عليها أحين تحلف أم حتى تحنث؟
قال: بل حتى تحنث، وذلك أن التي تقول كل شيء لها حر إن فعلت كذا وكذا فهي على بر ما لم تفعله، فما عليه إن سكت ما كانت على بر، والتي تقول إن أفعل كذا وكذا فكل شيء لها حر لعلها أن لا تحنث إلا بالموت ويكون حنثها كالوصية، فهذا لا يجوز له رد يمينها فيه إلا أن تكون قالت إن لم أفعل كذا وكذا إلى أجل كذا وكذا فكل شيء لها حر، فهذه لعلها أن تفعل الذي حلفت عليه قبل محل الأجل فتبر، ففي كل ذلك لا أرى عليه في سكوته شيئا حتى يجب الحنث، فإذا وجب الحنث لزمه الإنكار وجاز له أن يفعل فيبطل بذلك عتاقة رقيقها إن كانت قيمتهم أكثر من ثلث مالها.
قلت: أرأيت التي تقول إن لم أفعل كذا وكذا إلى أجل كذا وكذا فرقيقي أحرار فعجل الزوج برد يمينها، وقال: اشهدوا أنها إن حنثت فلا حرية لرقيقها، ثم حنثت عند الأجل فسكت الزوج اكتفاء بالشهادة الأولى أيجزيه ذلك أم لا؟ قال: إذا رد عليها قبل أن تحنث ثم حنثت فلم يرد عليها فذلك يجزيه ولا شيء عليها، وذلك أن الرد الأول يرد عليها عتقها ولا أرى عليه أن يرد عليها مرة أخرى.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة أبين وأكمل من التي تقدمت في رسم المكاتب فهي تبينها، وقد مضى الكلام على ما فيها من الزيادة على هذه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(15/82)
[مسألة: يعطي الرجل من قرابته نصف عبده في مرض المعطى على أن يعتقه]
مسألة وسألته: عن الرجل يعطي الرجل من قرابته نصف عبده في مرض المعطَى على أن يعتقه.
فقال: إن أعطاه إياه على أن يوصي بعتق نصفه فأوصى له بذلك ومات الموصي عتق ذلك النصف ولم يدخل في ثلث الميت ولم يلحقه دين الميت، وذلك أنه إنما أعطيه على العتق شرطا ويرق النصف الباقي لسيده المعطي.
قال: وإن أعطاه إياه على أن يبتله في مرضه فقبل وبتله عتق ذلك النصف من غير ثلثه ولم يلحقه دين وعتق النصف الباقي عليه في ثلثه وقوم للسيد المعطَى فأُعطي قيمة النصف الباقي من ثلث الميت وعجل ذلك النصف الذي قوم في ثلث الميت، وإن كان عليه دين يحيط بماله لم يقوم عليه ذلك النصف، وعتق النصف الذي أعطَى.
قال: وإن أعطيه في صحته على أن يعتق ذلك النصف فقبل وأعتقه جاز عتق ذلك النصف عليه، وقوم عليه النصف الباقي فعتق العبد كله، فإن لم يكن له مال أعتق منه النصف الذي أعطي ويبلغ ماله من النصف الباقي وإن لم يكن له شيء البتة لم يعتق من العبد إلا النصف الذي أعطَى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه إذا أعطى نصف العبد في المرض على أن يعتقه بتلا في مرضه أو على أن يوصي له بالعتق لا يدخل ذلك النصف في ثلثه إذا لم يملكه قبل أن يعتقه، لأنه إنما ملك إياه بشرط العتق.(15/83)
فإن أعطيه على أن يوصيَ له بالعتاقة فأوصى له بها أعتق إن مات من مرضه قارعا من رأس ماله، وإن صح من مرضه كان له ملكا ولم يصح له الرجوع فيما أوصى به من عتقه إذ لم يملك إياه إلا بشرط الوصية له بالعتق، فهو يعتق متى مات من رأس ماله، فله حكم الوصية في أنه لا يعتق إلا بعد موت الموصَى الذي أعطي إياه، وله حكم المعتق إلى أجل، لأنه يعتقه بموته من رأس ماله.
فهذه المسألة من نوادر المسائل لأنه يعتق عليه ذلك النصف بعد موته من رأس ماله، وكذا لو وهب لرجل عبد على أن يوصى له بالعتق لكان هذا حكمه.
وأما إذا أعطاه نصف عبده على أن يبتل عتقه في مرضه فذلك النصف الذي بتل في مرضه على الشرط حر على كل حال، لا يلحقه دين على ما قال، وقال إنه يقوم عليه النصف الذي للمعطي في ثلثه، وفي ذلك اختلاف قيل إنه لا يقوم عليه في ثلثه إلا بعد الموت، وهو المنصوص عليه في المدونة، وقيل إنه يعجل تقويمه عليه في مرضه ولا يبتل له العتق حتى يموت، فإن مات من مرضه ذلك جعلت تلك القيمة في ثلثه، وإن صح عتق من رأس ماله، وسواء كان له مال مأمون أو لم يكن، وقد قيل إنما يكون هذا إذا لم يكن له مال مأمون، وأما إن كان له مال مأمون فيعجل تقويمه في مرضه، وتنفذ الحرية له، فهذه التفرقة قول ثالث في المسألة وفيها قول رابع، وهو أنه لا يقوم عليه حظ شريكه عاش أو مات، قاله ابن الماجشون، وبالله التوفيق.
تم الكتاب الثالث من العتق والحمد لله.(15/84)
[: كتاب العتق الرابع]
[: يقول من يبشرني بغلام يولد لي فهو حر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه
كتاب العتق الرابع
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول من يبشرني بغلام يولد لي فهو حر فيأتيه ثلاثة من عبيده في مرة قال أحب ما فيه أن يقرع بينهم ويخرج واحدا حرا، ثم رجع فقال يختار واحدا بعينه، فإن مات ولم يختر اختاره الورثة وعتق من رأس المال، قال ابن القاسم: وكل ما كان قبل هذا فهو باطل.
قال محمد بن رشد: قيل إنهم يعتقون كلهم قاله ابن القاسم في كتاب ابن المواز وهو قوله الذي تقدم له في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى في الذي يقول أول عبد أملكه فهو حر فيشتري رقيقا في صفقة واحدة إنهم يعتقون جميعا، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى، وهذا إذا جعلت (من) بمعنى (الذي) ورفعت (يبشرني) ، فأما إن جعلت (من) للشرط وجزمت (يبشرني) فلا مخالف في أنهم يعتقون كلهم، لأن كل واحد قد بشره إذ جاءوا معا، و (من) في الشرط تقتضي العموم.
وقوله على القول بأنه يختار أنه إن لم يختر حتى مات اختار الورثة وعتق من رأس المال هو على أحد أقواله في الذي يقول أحد عبيدي حر فلا يعلم بذلك إلا عند موته، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم باع شاة من سماع(15/85)
عيسى، ولو أراد أن يقرع بينهم على القول بأنه يختار كان ذلك له، ولو أراد أن يختار على القول بأنه يسهم بينهم لم يكن له ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يختار واحدا من العبيد في العتق]
مسألة قلت: فلو أن رجلا قال وهو مريض وسمى ثلاثة رجال غيب: أول من يقدم منهم فهو وصي فقدموا كلهم فقال ينبغي للسلطان أن يختار واحدا عدلا.
قال محمد بن رشد: هذا على قياس قوله الذي رجع إليه في المسألة التي قبلها إنه يختار واحدا من العبيد في العتق.
ويأتي على قياس القول بأنهم يعتقون كلهم أنهم يكونون أوصياء كلهم، ولا يبعد أن يقرع بينهم إذا استوت أحوالهم ولم يظهر أن بعضهم أولى بالإيصاء من بعض، على قياس القول بالقرعة بين العبيد في العتق، وبالله التوفيق.
[مسألة: قول لغلامه إن جئتني بدينار كل شهر حتى أموت فأنت حر]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لغلامه إن جئتني بدينار كل شهر حتى أموت فأنت حر، قال: أراه حرا في الثلث.
قلت له: أفله أن يبيعه؟ قال: ما أحب ذلك، وإن رهقه دين؟
قال محمد بن رشد: قوله أراه حرا في الثلث معناه إن جاءه بالدينار كل شهر حتى يموت، لأنه إنما جعل له العتق بعد موته على هذا الشرط، واستحب أن لا يبيعه إلا أن يرهقه دين من ناحية الوفاء بالعهد إذ لم ير ذلك واجبا عليه كالتدبير من أجل الشرط الذي شهد عليه، وبالله التوفيق.(15/86)
[مسألة: يقول لجاريته إذا حملت فأنت حرة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يقول لجاريته إذا حملت فأنت حرة، قال: إن كانت حاملا فهي حرة، وإن لم يتبين أوقفت وحيل بينه وبينها وأوقف خراجها، فإن تبين حملها عتقت وكان كل ما أوقف من خراجها لها وإن حاضت ولم تكن حبلى فإن شاء أن يبيعها باعها.
قال محمد بن رشد: أوجب ابن القاسم في هذه الرواية على القائل لجاريته إذا حملت فأنت حرة الحنث إن كانت حاملا يوم قال لها ذلك، والوجه في ذلك أنها حامل أبدا فيما تبقى من حملها، كالذي يحلف أن لا يسكن الدار وهو ساكن فيها أنه يحنث في التمادي في السكنى، فقال: إنها تعتق إن كانت يومئذ حاملا، ويوقف خراجها إن لم يتبين حملها، فإن تبين حملها أعتقت ودفع إليها ما وقف من خراجها، وإن حاضت فتبين أنه ليس لها حمل باعها إن شاء، فإن لم يبعها ووطئها وقف خراجها أيضا لاحتمال أن تكون قد حملت من هذا الوطء، فإن حاضت أخذ خراجها، وكذلك يفعل، يوقف خراجها كلما وطئها فإن حاضت أخذ كلما وقف من خراجها، وإن لم تحض وتبين بها حمل أعتقت ودفع إليها ما وقف من خراجها، وهو مذهبه في المدونة، وخلاف قول سحنون فيما حكى عنه ابن عبدوس من أن من قال لزوجته وهي حامل: إذا حملت فأنت طالق، إنها لا تطلق بهذا الحمل إلا بحمل يؤتنف، وقد مضى من قول ابن القاسم في رسم أسلم من سماع عيسى ما ظاهره مثل قول سحنون، والكلام عليه هنالك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقطع يد غلامه فيموت السيد ولم يحكم عليه فيه]
مسألة قال ابن القاسم في الذي يقطع يد غلامه فيموت السيد ولم يحكم عليه فيه: إنه لا يعتق على ورثته، وإن رفع أمره إلى السلطان(15/87)
قبل أن يموت السيد عتق عليه إلا أن يكون على السيد دين يحيط بماله.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يمثل بعبده فلا يعتق عليه حتى يموت السيد لا يعتق على ورثته، هو مثل ما تقدم في رسم يشتري الدور والمزارع، ولا اختلاف فيه على المشهور من أنه لا يكون حرا بنفس المثلة، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم الكبش من سماع يحيى.
وأما إن رفع أمره إلى السلطان قبل أن يموت السيد فقوله إنه يعتق عليه إلا أن يكون على السيد دين يحيط بماله بين إن كان ذلك في مرضه إذ لا يعتق عليه في المرض بالمثلة إلا من ثلثه، وأما إن كان ذلك في صحته فالقياس أن يحاص الغرماء بقيمته إن كانت المثلة عليه قبل ديونهم فيعتق منه بقدر ذلك، لأن ذلك حق قد وجب له قبل ديونهم، وكذلك إن كانت المثلة عليه بعد ديونهم إذا لم يتهم على أنه إنما مثل به ليعتق عليه فيكون له ولاؤه ولا يأخذه الغرماء وقد مضى ما بين هذا في رسم الكبش من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون للرجل وللعبد مال فيقول له السيد أنت حر ولي نصف مالك]
مسألة وسألت أشهب: عن العبد يكون للرجل وللعبد مال فيقول له السيد أنت حر ولي نصف مالك، أو يقول له نصفك حر ولي نصف مالك، فإن العتق جائز وله ما اشترط من المال، لأنه كان يجوز أخذه، قيل لأشهب: فإن كان عبدا بين ابنين أعتق أحدهما نصيبه وهو موسر، واشترط ماله فإن العتق جائز ويقوم عليه وليس له في المال شيء؛ لأنه لم يكن له أخذ شيء منه.
قلت لأشهب: فإن أعتق مصيبته منه واشترط نصف ماله؟(15/88)
قال: عتقه جائز وليس له من المال شيء.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله، لأن العبد إذا كان جميعه له فله أن يستثني ماله أجمع أو ما شاء منه إذا أعتقه أو أعتق شقصا منه، لأن له أن ينزعه منه كله أو ما شاء منه دون أن يعتقه، فإن كان إنما أعتق منه بعضه فيعتق عليه جميعه ويكون له ما استثنى من ماله.
وأما إذا كان العبد بينه وبين آخر فلا يجوز له إذا أعتق نصيبه منه أن يستثني ماله ولا شيئا منه موسرا كان يقوم عليه أو معسرا لا يقوم عليه لعسره، إذ ليس لأحد الشريكين أن يأخذ في العبد من ماله شيئا دون إذن شريكه، ويقوم عليه إن كان موسرا ويكون المال للعبد، وإن كان معدما بقي نصفه رقيقا، وأقر جميع مال العبد بيده.
ولو أعتق أحد الشريكين في العبد حظه منه على أن يكون له ماله كله أو بقدر حصته منه بإذن شريكه لجاز ذلك موسرا كان أو معسرا، فإن كان موسرا قوم عليه وكان له ما استثنى من ماله أو جميعه إن كان استثنى جميعه وإن كان معسرا بقي نصفه رقيقا وأقر ما بقي من ماله إن كان المعتق لنصيبه لم يستثن جميعه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لجاريته إن جئتني بمائة دينار إلى سنة فأنت حرة فتلد قبل السنة]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يقول لجاريته: إن جئتني بمائة دينار إلى سنة فأنت حرة فتلد قبل السنة وتأتي بالمائة، هل يعتق ولدها؟
قال: لا يعتق ولدها، وكذلك قال مالك، وليس له أن يبيعها حتى تنقضي السنة وتؤجل فلا تأتي بشيء، وكذلك إذا أعتقها في وصية وهي حامل بعد موته فولدت قبل موت السيد، قال مالك: لا(15/89)
يعتق ولدها ورواها يحيى من كتاب الصبرة وزاد فيها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الولد لا يعتق بعتقها خلاف نص قوله في المدونة، فعلى هذه الرواية في أن ولدها لا يدخل معها لا يلزم ورثته ذلك بعد موته، وعلى ما في المدونة من أن ولدها يدخلون معها يلزم ورثته ذلك بعد موته، فقوله في هذه الرواية خلاف ما تقدم في رسم إن خرجت من سماع عيسى، وخلاف ما يأتي في سماع عبد الملك من أن ذلك يلزمهم، وقد مضى في رسم الصبرة من سماع [يحيى] تحصيل القول في هذه المسألة والكلام عليها مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: المجوسي إذا أسلم ولده قبل أن يقسم ماله]
مسألة قال: وسئل ابن القاسم: عن المجوسي إذا أسلم ولده قبل أن يقسم ماله أو النصراني فيموت فلا يقسم ماله حتى أسلم ولده أو بعضهم كيف يقتسمون؟ أقسم الإسلام أو الشرك؟
قال: قسم الشرك، وإنما ذلك في المجوس الذين ليسوا بأهل ذمة، فإن أسلم أولاد أولئك قبل أن يقتسموا الميراث قسم على قسم الشرك، ثم قال: ألا ترى إلى الحديث «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ؟ إنما ذلك في المجوس من أهل الذمة.
قال محمد بن رشد: قوله: وإنما ذلك في المجوس - إشارة منه إلى الحديث الذي جاء «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وأيما دار أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام» ، يقول: إنما الحديث في المجوس الذين لا ذمة لهم هم الذين تقسم مواريثهم إذا أدركها الإسلام قبل القسم على قسم الإسلام، وأما المجوس الذين لهم ذمة فتقسم(15/90)
مواريثهم وإن أسلموا قبل قسمتها على دينهم كاليهود والنصارى من أهل الذمة، وذلك خلاف مذهبه في المدونة في أن الحديث إنما هو في المجوس كانت لهم ذمة أو لم تكن، تقسم مواريثهم إذا أدركها الإسلام قبل القسم على قسم الإسلام، وروى أشهب عن مالك وهو قول ابن نافع وغيره من كبار أهل المذهب أن الحديث على عمومه في المجوس وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، كانت لهم ذمة أو لم تكن، تقسم مواريث جميعهم إذا أدركها الإسلام قبل القسم على قسم الإسلام، قيل إذا أسلموا كلهم، وأما إن أسلم بعضهم فيقسم بينهم على قسم دينهم، وقد وقف مالك في رواية أشهب عنه إذا أسلم بعضهم فقال لا أدري، وقيل: سواء أسلموا كلهم أو بعضهم يقسم بينهم على قسم الإسلام، وهو قول عمر بن عبد العزيز في المدونة على ما جاء عنه من أن ناسا مسلمين ونصارى جاءوه من أهل الشام في ميراث بينهم فقسم بينهم على فرائض الإسلام.
ولكلا القولين وجه، فوجه القول الأول: أن حق من لم يسلم منهم لا ينتقل بإسلام من أسلم منهم، ووجه القول الثاني: اتباع ظاهر قوله في الحديث أدركها الإسلام إذ لم يفرق فيه بين أن يسلموا كلهم أو بعضهم، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال، تتفرع إلى ستة على ما بيناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: وصية من أنفذت مقاتله]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الذي يشق جوفه أو أمعاؤه أو يذبح فهو فيما هو فيه حتى يموت بعض ولده أتورثه؟ قال: نعم، إلا المذبوح فإنه لا يورث، وأما الذي يشق جوفه فعمر بن الخطاب في ذلك حجة.
قلت: فإن قتله رجل في تلك الحال، أيقتل به؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: أما المذبوح فلا اختلاف في أنه لا يورث ممن(15/91)
مات ولا يقتل من أجهز عليه، وأما الذي تنفذ مقاتله ففرق في هذه الرواية بين توريثه ممن مات والقصاص ممن قتله، وقد قيل إنه يقتل به من قتله وهو قول ابن القاسم في رواية أبي زيد عنه في كتاب الديات، والقياس أن لا يفرق بين القصاص والميراث فيورث ممن مات على قياس رواية أبي زيد، ولا يورث ممن مات على قياس قوله في هذه الرواية إنه لا يقتل به من قتله، وهو قول أشهب إنه لا يقتل به إلا الأول، فهي قولان وتفرقة، ويدخل هذا الاختلاف أيضا في البهيمة تنفذ مقاتلها وحياتها باقية هل تصح تذكيتها أم لا؟ والمنصوص أن التذكية فيها لا تصح وهو الأظهر، ولا اختلاف في إجازة وصية من أنفذت مقاتله لما ثبت من فعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحضرة جماعة الصحابة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق ابن أمته من رجل عربي هل يثبت له ولاؤه]
مسألة وسئل ابن كنانة: عن رجل أعتق ابن أمته من رجل عربي، هل يثبت له ولاؤه؟ فقال: لا، ولكن يصير إلى نسب أبيه وعشيرته، ولا يرثه الذي أعتقه، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن كنانة هذا أن من أعتق ابن أمته من رجل عربي لا يكون له ولاؤه ولا يرثه هو ولا أحد ممن يرث الولاء عنه من قرابته، ويكون ميراثه إن مات ولا وارث له يعرف قعدده من أبيه لجماعة المسلمين، وهو ظاهر ما وقع في كتاب العيوب من المدونة في الذي ابتاع أمة فإذا نسبها من العرب فأراد أن يردها من أجل أن العرب يجرون ولاءها، ولا يكون ولاؤها لولده، ولذلك قال يحيى بن عمر، واحتج بمسألة مالك في المدونة، وإلى هذا ذهب ابن أبي زيد أيضا، لأني رأيت له قد قال في قول ابن كنانة هذا في العربي خاصة، وقد قال بعض الأندلسيين فيما حكى عنه عبد الحق: جميع أصحاب مالك يجمعون أن الولاء لمن أعتق ما لم يكن المعتق من العرب فلا يكون لمن أعتقه ولاؤه إلا أشهب، فقال: ولاؤه لمن(15/92)
أعتقه، وقول أشهب هو الصحيح الذي لا يصح القول بخلافه، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لمن أعتق» ولم يفرق بين عجمي ولا عربي، ويحتمل أن يتأول قول ابن كنانة فيرد بالتأويل إلى قول أشهب، لأن الولاء لا يورث به إلا بعد انقطاع النسب فيكون معنى قوله إن الولاء لا يورث به في العربي إلا بعد انقطاع النسب فيكون معنى قوله إن الولاء لا يورث به في العربي إلا بعد انقطاع النسب، وكذلك مسألة المدونة هي محتملة مثل هذا التأويل، وبالله التوفيق.
[: اجتمعوا أو اختلفوا على عتق واحد]
من سماع محمد بن خالد من عبد الرحمن بن القاسم
قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن الذي يقول عبدي حر إن فعلت كذا وكذا وله أعبد فيحنث فيما حلف فيه، فيقال له: من أردت من رقيقك؟ فيقول: ما أردت عبدا بعينه فيحلف على ذلك، ثم يقال له أعتق من شئت من رقيقك فيموت من قبل أن يفعل. قال ابن القاسم: أرى أن يكون لورثته مثل ما كان له، ويعتقون من أحبوا، هذا أحب القول إلي في ذلك.
قال سحنون: بلغني عن مالك أنه قال: يعتق ثلثهم بالسهام إن كانوا ثلاثة، وإن كانوا أربعة عتق ربعهم على هذا الحساب، وأنا آخذ بقول ابن القاسم إذا اجتمعوا على عتق واحد، وإن اختلفوا أخذت بقول مالك.(15/93)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم باع شاة من سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد إذا أعتق عبدا له بغير إذن سيده]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم على المولى عليه يحلف بيمين وهو مولى عليه فلا يحنث فيها وهي عتاقة حتى يبلغ حال الرضا فيحنث بها، أيلزمه اليمين؟ قال: لا، وهو قول مالك.
قلت لابن القاسم: فالنصراني والصبي والعبد كذلك؟ قال: نعم إلا أن العبد أشدهم، وذلك أن العبد إذا أعتق عبدا له بغير إذن سيده فلم يعلم بعتقه حتى عتق هو، مضى عتق العبد عليه وكان ولاؤه له، قال ابن القاسم: والمولى عليه إن كان قد أعتق عبدا له بغير علم وليه فلم يعلم بذلك الولي حتى ولي المولى عليه ماله فإنه يرجع في عبده إن شاء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم العتق من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.
[مسألة: المولى عليه يستلحق أخا له أيلزمه في ماله]
مسألة قلت لابن القاسم: فالمولى عليه يستلحق أخا له، أيلزمه في ماله كما يلزم غيره؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن نسبه لا يلحق بأبيه باستلحاقه إياه، فإنما هو مقر له بمال، وإقراره لا يجوز، وبالله التوفيق.(15/94)
[مسألة: العبد يعتق وله جارية فيتبعه ماله والجارية حامل]
مسألة قال: وسألته: عن العبد يعتق وله جارية فيتبعه ماله والجارية حامل، فقال مالك: الولد للسيد.
قلت لابن القاسم: فإن العبد بعد أن أعتق وتبعه ماله أعتق الجارية وهي حامل؟ فقال ابن القاسم: لا يتم عتقها حتى تضع ما في بطنها.
قلت لابن القاسم: هل تباع عليه في الدين بعد أن أعتق إذا كان عتقه إياها في الحين الذي أعتق فيه جائز، فقال: لا، وإنما ذلك بمنزلة الرجل يعتق عبده إلى أجل ثم يقوم عليه الغرماء بعد ذلك، فلا يباع لهم في دينهم إذا كان يوم أعتقه جائز القضاء.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يعتق ولد أمة حامل إن الولد للسيد هو مثل ما في كتاب طلاق السنة من المدونة، وإنما قال ذلك؛ لأن ولد العبد من أمته بمنزلته، فوجب أن يكون ما في بطنها رقيقا لسيده وإن تبعته الجارية في الحرية؛ لأنها ماله، ولا تكون له بهذا الحمل أم ولد، كما لا تكون له أم ولد بما ولدته له في حال العبودية إلا أن يملك ذلك الحمل، فتكون به أم ولد على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ لأنه عتق عليه بملكه إياه، ولا تكون له أم ولد على مذهب أشهب ورواية ابن عبد الحكم عن مالك؛ لأن الرق قد مسه في بطن أمه وأما ما ولدته في حال العبودية فلا تكون له به أم ولد باتفاق في المذهب خلافا لأهل العراق.
واختلف قول مالك فيما ولدته أمة المدبر أو المكاتب في حال التدبير أو الكتابة، هل تكون به أم ولد أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: الفرق بين المدبر والمكاتب.(15/95)
وأما قوله إن عتقها لا يتم إن أعتقها حتى تضع ما في بطنها فمثله في المدونة، والوجه في ذلك أنه لا يصح أن تكون حرة وما في بطنها رقيق للسيد، فوجب أن يوقف حتى تضع، وتكون أحكامها أحكام أمة حتى تضع كالمعتقة إلى أجل، واختلف إن أخلفها الحمل أو ماتت قبل أن تضع، فقيل: إن أحكامها أحكام حرة من يوم أعتقها العبد المعتق، وهو قول سحنون على القول بأنه لا يحكم للحمل حتى يوضع في غير ما وجه من اللعان والنفقة ووجوب الحرية للأمة يتوقف عنها سيدها وهي حامل إذ قد قيل إنه لا يلاعن على الحمل حتى يوضع، ولا يحكم بالنفقة للحامل المطلقة المبتوتة حتى يوضع الحمل، ولا تجب الخدمة للأمة يتوفى عنها سيدها وهى حامل حتى تضع لاحتمال أن ينفش الحمل في ذلك كله، والمشهور أنه يحكم للحمل بظهوره في هذا كله، فعلى هذا تكون أحكام هذه الأمة أحكام أمة على كل حال كالمعتقة إلى أجل وإن أخلفها الحمل أو مات قبل أن تضع.
وقوله إنها لا تباع في الدين بعد أن أعتق إذا كان عتقه إياها في الحين الذي أعتق فيه جائزا يريد إذا لم يكن عليه دين يوم أعتق صحيح؛ لأنه إن كان عليه دين يوم أعتق فلا بد من أن تباع فيه، إذ لا يجوز عتق المديان إلا أنها لا تباع حتى تضع ما في بطنها فيأخذ السيد الولد على ما قاله في المعتق إلى أجل، سواء أنه إن كان يوم أعتقه جائز القضاء، يريد لا دين عليه لم يعتق، وإن كان عليه دين يوم أعتق بيع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يترك أولادا ولدوا في إسلامه وأولادا في نصرانيته]
مسألة قال محمد بن خالد: قال ابن القاسم في الرجل يتوفى ويترك أولادا ولدوا في إسلامه وأولادا صغارا ولدوا في نصرانيته: إن ماله يوقف حين يبلغ ولده النصارى، فإن أسلموا ورثوا، وإن لم يسلموا كان الميراث للمسلمين من وُلده.(15/96)
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية خلاف نص قوله في النكاح الثالث من المدونة، أن النصراني إذا أسلم وله ولد صغار بنو خمس سنين أو ست أو نحو ذلك مما لم يعقلوا دينهم النصرانية فهم مسلمون ولهم الميراث. قال سحنون: وكذلك يقول أكثر الرواة إنهم مسلمون بإسلام أبيهم، وقد حكى ابن حبيب عن ابن القاسم أن من أبى الإسلام من الصغار يوم أسلم أبوهم يجبرون على الإسلام بالضرب والسجن، ولا يبلغ بهم القتل بعد البلوغ، وهو مثل ظاهر قوله في هذه الرواية، ومثل ما حكى في المدونة من أنه كتب إلى مالك من بلد آخر وهو قاعد عنده في رجل أسلم وله ولد صغار فأقرهم أبوهم حتى بلغوا اثني عشر سنة أو شبه ذلك فأبوا أن يسلموا، أترى أن يجبروا على الإسلام، فكتب إليهم مالك أن لا يجبرهم، والمشهور عن مالك المنصوص عليه في المدونة وغيرها أنهم مسلمون بإسلام أبيهم إذا كانوا صغارا لم يعقلوا دينهم يوم أسلم، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون، وقالا: إنه قول مالك وجميع أصحابه بالمدينة، وهو أصح القولين، يشهد بصحته ظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه» ولنا في التكلم على هذا الحديث مسألة مستغرقة لجميع معانيها في الوقوف عليها بيان صحة الاستدلال به على صحة هذا القول.
والأم في هذا بخلاف الأب، وقد حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أنهما قالا له وقد روى وجاءت به الآثار: أن إسلام الأم إسلام للولد الصغار.
فيتحمل في المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: أن الولد الصغار مسلمون بإسلام من أسلم من الأبوين، والثاني: أنهم لا يكونون مسلمين بإسلام من أسلم منهما،(15/97)
والثالث: أنهم يكونون مسلمين بإسلام الأب منهما دون الأم، ويحتمل أن يريد ابن القاسم بالولد الصغار في هذه الرواية الذين لم يبلغوا الحلم وقد عقلوا دينهم، فيكون قوله فيها على هذا التأويل مثل قوله وروايته عن مالك في المدونة في الذي أسلم وله بنون حزاورة، أن المال يوقف إلى أن يبلغوا الحلم، فإن أسلموا ورثوه، وإن لم يسلموا لم يكن لهم فيه حق، ولا اختلاف بينهم إذا كانوا حزاورة قد عقلوا دينهم يوم أسلم أبوهم لا يكون إسلامهم في إسلامه، وإذا لم يكن إسلامهم في إسلامه فالصحيح ما ذهب إليه ابن الماجشون وحكاه عن مالك مطرف وابن الماجشون وجماعة أصحابهم بالمدينة، من أنه لا ميراث لهم، وإن قالوا نحن على الإسلام، لأنهم كمن دخل الإسلام بعد موت أبيه، واختلف إذا أسلموا قبل البلوغ وهم حزاورة قبل أبيهم أو دونه هل يعد إسلامهم قبل البلوغ إسلاما يقتلوا عليه إن رجعوا عنه بعد البلوغ وثبت لهم به جميع أحكام الإسلام أم لا؟ فذهب سحنون إلى أنه لا يعد إسلامهم قبل البلوغ إسلاما يقتلون عليه ولا يتوارثون به ولا توطأ به الأمة المجوسية، وهو ظاهر ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، لأنه قال فيه إنهم يجبرون على الإسلام، ولم يقل إنهم يقتلون عليه، وفي كتاب النكاح الثالث منها دليل على أنهم يقتلون إن رجعوا عن الإسلام بعد البلوغ إلا أنه قال في المسألة إنه لا يفرق بينه وبين امرأته المجوسية بهذا الإسلام، إلا أن يثبت عليه حتى يبلغ، فهو يضعف الدليل على قتله إن رجع بعد البلوغ، ومن قوله في المدونة أنه يطأ به الأمة المجوسية، فهو اضطراب من قوله فيها، والأصح أنه إسلام يحكم له بحكمه في جميع الأشياء ويقتل عليه إن رجع عنه بعد البلوغ بدليل إجماعهم على أنه يصلي عليه بهذا الإسلام ويباع به العبد على سيده. قال سحنون وتقع به الفرقة بين الزوجين إذا كانت هي التي أسلمت، كما يباع به العبد على سيده، بخلاف إذا كان هو الذي أسلم وزوجته مجوسية، واعترض ابن عبدوس ذلك من قوله، فقال: كيف تقع الفرقة بإسلامها(15/98)
ولا تقع بإسلامه في صغرهما، وكذلك قال أبو إسحاق التونسي: ليس بينهما فرق، وما الفرق بينهما إلا بين، وهذا أن للإسلام حرمة وإن كان قبل البلوغ فعليه إذا أسلمت ضرر في البقاء في عصمته كافر ولا ضرر عليه هو إذا أسلم في البقاء على عصمة كافرة، وكذلك يقول سحنون: إن الارتداد قبل البلوغ لا يعتبر به يرث ويورث بوراثة الإسلام، كما لا يعتبر إسلامه عنده قبل البلوغ ويورث بوراثة الكفر وبالله التوفيق.
[: قال لغلامه متى ما جئتني بمائة دينار فأنت حر فأراد بيعه]
من سماع عبد الملك وسؤاله ابن القاسم قال عبد الملك بن الحسن: وسئل ابن القاسم وأنا أسمع عن رجل قال لغلامه: متى ما جئتني بمائة دينار فأنت حر، فأراد بيعه قال: فليس ذلك له حتى يرفع أمره إلى السلطان فيلوم له أو يعجزه فيصير رقيقا له، فقال له: فإن مات السيد قبل أن يأتي العبد بالمائة التي جعل له على نفسه هل يلزم ورثته ما كان يلزم أباهم أو يكون رقيقا لهم؟ فقال: بل يلزمهم مثل ذلك حتى يرفعوا أمرهم إلى السلطان فيتلوم له أو يعجزه، والورثة في هذا بمنزلة أبيهم.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية إن ذلك يلزم ورثة السيد كما يلزم السيد خلاف ما تقدم من قوله في رسم الصبرة من سماع يحيى في أن الولد لا يدخلون مع الأمة في ذلك إن كاتب الأمة لأنه إن حكم لهذا القول بحكم الكتابة لزم ذلك الورثة ودخل في ذلك الولد وهو مذهبه في هذه الرواية، وإن لم يحكم له بحكم الكتابة لم يلزم ذلك الورثة ولا دخل فيه الولد، وقد مضى القول على ذلك مستوفى في رسم الصبرة المذكور من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(15/99)
[مسألة: ليس للرجل أن يرجع فيما دبر]
مسألة وسئل وأنا أسمع عن رجل كان له مدبر فحضره الموت فقال: أقرعوا بين فلان وفلان، يريد المدبر وآخر من عبيده، قال: يقرع بينهما كما قال، فإن وقع على المدبر لم يكن للآخر عتق، وإن لم يقع على المدبر ووقع على الآخر فحملهما جميعا الثلث عتقا جميعا، وإن لم يحملهما الثلث بدئ بالمدبر ثم عتق من الآخر الذي وقع عليه السهم ما بقي من الثلث، وأخبرني محمد بن خالد عن عبد الملك بن عبد العزيز مثله سواء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إذ ليس للرجل أن يرجع فيما دبر، فإن وقع السهم على المدبر خرج الآخر عن الوصية، وإن وقع على الآخر بدئ المدبر في الثلث، ثم أعتق هو في بقية الثلث أو ما حمل باقي الثلث منه، فإن لم يكن في الثلث فضل عن قيمة المدبر لم يكن للآخر عتق ولا احتيج في ذلك إلى قرعة، والمسألة متكررة في أول رسم من سماع أصبغ من كتاب الوصايا، وقد مضى في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من هذا الكتاب إذا قال أعتقوا أحدهما ولم يقل أقرعوا بينهما، وأن الحكم في ذلك أن يقرع بينهما على نصف قيمتهما حسبما مضى بيانه، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: وصية للعبد بالكتابة]
مسألة قال: وسئل عن رجل يقول لعبده: أخدم ورثتي سنة ثم لك سنة أخرى تأتي فيها بوضيف ثم أنت حر، فأتى بالوضيف بعد السنة بشهر أو نصف شهر أو أكثر من ذلك، فقال: يعتق.(15/100)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأنها وصية للعبد بالكتابة على هذا الوجه، فإن حملها الثلث تمت له الوصية وعتق إذا خدم السنة وجاء بالوضيف، وإن أتى به قبل تمام السنة الثانية ولو أتى به في السنة الأولى لعتق بتمامها، لأن الأجل إنما مرفقه للعبد كالمكاتب إذا عجل كتابته قبل الأجل، ولو انقضت السنة الثانية ولم يأت بالوضيف لتلوم له في الإتيان به كما يتلوم للمكاتب في كتابته إذا حلت، فإن لم يأت به وعجزه السلطان كان رقيقا للورثة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي عند موته فيقول لغلامي فلان شهر من كل سنة]
مسألة وسئل وأنا أسمع عن الرجل يوصي عند موته فيقول: لغلامي فلان شهر من كل سنة، فقال: يعتق منه جزء من اثني عشر جزءا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأنه جعله شريكا للورثة في نفسه بذلك القدر، فوجب أن يكون منه ذلك القدر حرا كما لو نص على حريته، والله الموفق.
[مسألة: العبد يكون معروفا بالإباق فيرسم سيده في جبهته عبد فلان]
مسألة قال: وسألت عبد الله بن وهب عن العبد يكون معروفا بالإباق فيرسم سيده في جبهته عبد فلان، هل ترى هذا مثلة؟ قال: نعم، هي مثلة وأرى أن يعتق عليه.
قلت: فلو رسمه بمداد وإبرة كما يفعل الناس في أيديهم وأجسادهم؟ قال: يعتق عليه. قال: وسألت عنها أشهب فقال: لا يعتق عليه.
قال محمد بن رشد: إنما قال ابن وهب إنه يعتق عليه إتباعا لظاهر(15/101)
قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من مثل بعبده أو أحرقه بالنار فهو حر» إذ عم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يخص مثلة من مثلة، وهذه مثلة، وإنما قال أشهب: إنه لا يعتق عليه؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج بسبب، وهو ما فعله زنباع بعبده سندر من جبه وجذع أذنيه وأنفه، إذ وجده يقبل جارية له، فقصر الحديث على سببه، وهي المثلة بقطع عضو من الأعضاء، وقد اختلف في اللفظ العام المستقل بنفسه الوارد على سبب هل يقصر على سببه أو يحمل على عمومه، فاختلافهما في هذه المسألة راجع إلى هذا الأصل، وقول أشهب في هذه المسألة أظهر، لأن الأصل أن لا يخرج ملك أحد من يده إلا بيقين، ولا يقين في هذه المثلة للاحتمال في الحديث، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول اشهدوا أن أم ولدي قد أعتقت رقيقها وهي تجحد]
مسألة وسئل: عن الرجل يقول اشهدوا أن أم ولدي قد أعتقت رقيقها أو قد حنثت فيهم بالعتق وهي تجحد، قال: إن كان السيد صحيحا فذلك عندي انتزاع، وهم أحرار، وإن كان مريضا لم يقبل منه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إذ لا وجه للإشهاد على فعلها إلا إرادة إلزامها ذلك، وإذا ألزمها ذلك فقد انتزعهم منها وأعتقهم، فوجب أن ينفذ ذلك عليها في الحال الذي يجوز له فيه انتزاع مالها، وبالله التوفيق.(15/102)
[: يعتق الأسفل إذا ملك سيده الأعلى]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع قال أصبغ بن الفرج: سمعت ابن القاسم يقول: لو أن رجلا له عبد ولعبده عبد فغضب الرجل على عبده فوهبه لعبده نفسه جاز، وإن كانت جارية وطئها العبد الموهوب له، ولو كانت لرجل جارية وللجارية عبد فوهبها لعبدها جاز، ووطئها العبد إن شاء.
قال محمد بن رشد: في الثمانية لأبي زيد عن ابن الماجشون أنه يعتق الأسفل إذا ملك سيده الأعلى، ووجه قوله: إنه إنما ملك سيده كان له أن ينتزع نفسه منه، إذ للسيد انتزاع مال عبده، وإذا ملك نفسه بالانتزاع كان حرا، وابن القاسم لا يرى لواحد منهما عتقا، وقوله أظهر، إذ لا يستقيم ملك العبد لسيده، فيكون كل واحد منهما مالكا لصاحبه، فهبته له لا تصح إلا بعد أن ينتزعه منه، فيصيران جميعا له.
وقوله: وإن كانت جارية وطئها العبد الموهوب هو قوله بعد ذلك بعينه، ولو كانت لرجل جارية وللجارية عبد فوهبها لعبدها جاز، ووطئها العبد إن شاء، فلا وجه لتكريره، فلو قال: ولو كان لرجل عبد، وللعبد جارية فوهبه لها لحرمت عليه لكان وجه الكلام لتبيين أنها تحرم عليه إذا وهب لها، كما تحل إذا وهبت له، وإنما تحل له إذا وهبت له إن كانت هبة صحيحة يشبه إن وهب مثلها لمثله على ما قاله في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، وفي رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب منه، وبالله التوفيق.
[: قال لغلامه اعمل على هذه الدابة فإن ماتت فأنت حر]
ومن كتاب الوصايا
قال: وسئل ابن القاسم عن رجل قال لغلامه: اعمل على(15/103)
هذه الدابة، فإن ماتت فأنت حر، فمات السيد قبل الدابة، قال: فهو كما قال، وليس يعتق إلا إلى موت الدابة، فإن ماتت الدابة قبل موت السيد فهو حر، من الثلث، فإنما هو بمنزلة رجل قال: اخدم فلانا ما عشت أنا، فإن مات فلان قبلي فأنت حر، فإن مت قبل فلان فأنت حر إلى موته، فإن مات السيد قبل فهو حر من الثلث. قال أصبغ يبين ما قال: وما ناظر فليس ذلك له بنظير ولا حجة، والنظير صواب في ذاته، لأن ذلك استثناء وقيد بعضه ببعض، فله ثنياه التي عليها وضع، وأن الأول أعتق إلى آجال مهمة، كالذي يقول أنت حر إلى موت فلان أو عن دبر فلان بخدمتك لفلان، أو بغير خدمته، فهو أجل أعتقه إليه لا يرجع فيه، وهو من رأس المال، والإنسان والدابة في ذلك سواء، وهو من رأس المال إن مات السيد قبل ذلك أو بعد الدابة قبل أو بعد، قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: وللورثة أن يبيعوا الدابة بموضع لا يغيب علمها.
قيل: أرأيت إن قتل العبد الدابة خطأ أو عمدا؟ قال: إن قتل العبد الدابة خطأ عجل له العتق، وإن كان عمدا لم يعجل.، وخدم إلى قدر ما تعمر إليه الدابة، وكذلك إن بيعت وغاب عليها، وقاله أصبغ.
وسئل سحنون عن رجل قال لغلامه: أنت حر بعد موت حماري، فعمل الغلام على الحمار وحمل عليه فوق طاقته وعنف عليه حتى مات الحمار قال: نعم، قيل له: فلو لم يحمل عليه فوق طاقته ولكنه قتله قتلا، فقال: أرأيت لو أن أم ولد قتلت سيدها؟ فقلت له: عمدا قتلته؟ قال: نعم، فقلت له: تقتل به؟ قال: نعم، قال: فإن سامحها أولياء القتيل، فقيل له تعتق وليس ما جنت بالذي(15/104)
يحل عنها ما عقد لها من العتق القوي، وليست كالمدبرة تقتل سيدها، قال: فكذلك الذي سألت عنه من قاتل الحمار يعتق مكانه لأنه معتق إلى أجل ليس له بيعه ولا يلحقه الدين فليس كالمدبر، ألا ترى أن المدبر إنما يعتق من الثلث ويلحقه الدين ويتسلط عليه الغرماء بعد الموت.
قيل له: فهل على هذا العبد قيمة الحمار، إذا أعتق؟ فقال: أما أنا فلا أرى عليه شيئا، وأما على مذهب ابن القاسم قد أخبرتك أن المدبر والمعتق إلى أجل إذا جنى أحدهما على السيد أن السيد يختدمه، وفي رواية ابن أبي زيد المصري، قال ابن القاسم في رجل قال لغلامه أنت حر بعد موت دابتي قال: فليس له إلى بيع الغلام سبيل؛ لأنه مرتهن بيمين، قيل له: فإن هلك سيد العبد؟ قال: يكون العبد موقوفا حتى تموت الدابة، ولا سبيل للورثة إلى بيعه، قيل له: أفيبيع الورثة الدابة إن شاءوا؟ قال: نعم، بموضع يعرف فيه هلاك الدابة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في الذي يقول لغلامه اعمل على هذه الدابة، فإذا ماتت فأنت حر، إنه يكون حرا من الثلث إن مات السيد قبل الدابة مخالف للأصول؛ لأنه معتق إلى أجل هو آت على كل حال، ولا اختلاف في أن المعتق إلى أجل حر من رأس المال وجبت له الحرية بانقضاء الأجل قبل موت السيد أو بعد موته، وكذلك المسألة التي نظرها بها، وهو قول الرجل لغلامه اخدم فلانا ما عشت أنا، فإن مات فلان قبلي فأنت حر، وإن مت قبل فلان فأنت حر إلى موته، قوله فيها أيضا إنه حر من الثلث إن مات السيد قبل فلان مخالف للأصول، والصواب أنه حر من رأس المال على كل حال مات السيد قبل فلان أو بعده؛ لأنه معتق إلى موت فلان، وقول أصبغ(15/105)
والنظير صواب في ذاته ليس بصواب، إذ لا فرق بين المسألتين، لأنه إذا قال اخدم فلانا ما عشت أنا، فإن مات فلان قبلي فأنت حر، وإن مت قبل فلان فأنت حر إلى موته، فهو في المعنى كما قال له: أنت حر إذا مات فلان، وله خدمتك حياتي، فإذا كان هذا هو المعنى المفهوم من اللفظ فالحكم له دون اللفظ.
وقول ابن القاسم: إذا قتل العبد الدابة التي جعل حرا بعد موتها: إنه لا يعجل له العتق ويخدم إلى قدر ما تعمر إليه الدابة هو الصواب، وقول سحنون: إنه يعجل له العتق بعيد، وقياسه ذلك على أم الولد تقتل سيدها ليس بصحيح، لأن أم الولد إنما فيها من الرق ما لسيدها فيها من الاستمتاع، وهو يبطل لقتلها إياه كما يبطل بموته، إذ يستحيل أن يستمتع بها بعد موته أو قبله، فإذا بطل بقتلها إياه وجبت حريتها، والخدمة التي له في العبد إلى موت الدابة ليس للعبد أن يبطلها على السيد فيستعجل حريته بقتله إياها، فوجب أن يستوفيها بعد قتله للدابة إلى القدر التي تعمر إليه، إذ ليس بمستحيل، وكذلك يجب لو أعتق رجل عبده إلى موت رجل فقتل العبد ذلك الرجل أن لا يعتق إلا إلى حد تعميره، ومسألة المدبر يقتل سيده هي التي تشبه هذه المسألة، مسألة أم الولد، لأن المدبر لما أراد أن يتعجل العتق من ثلث سيده بقتله إياه حرم ذلك، وهذا إذا أراد أن يتعجل العتق بقتله للدابة، فوجب أن يحرم ذلك كما يحرم قاتل العمد الميراث لما أراد من استعجاله إياه قبل وجوبه له، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: الصواب ما قال سحنون: إنه إذا قتله متعمدا أن يعتق ويختدمه السيد أو ورثته بقدر الجناية عند ابن القاسم، ولا يعمر الحمار ويخدم العبد قدر ما بقي من عمره؛ لأنه لما قال له: أنت حر إلى موت حماري، فمعناه إلى موته بأجله الذي قدره الله له، فالله جل ذكره قد سبب موت الحمار بتعدي العبد عليه، فقد مات الحمار بأجله، فالعبد يعتق والجناية تلزمه عند ابن القاسم، وعلى قول سحنون وأشهب: لا شيء عليه في الجناية، وليس قول ابن دحون بشيء، لأن الدابة وإن ماتت بأجلها إذا قتلها فقد تعدى بقتله إياها فوجب أن لا يبطل(15/106)
بذلك حق سيده، باختدامه إياه إلى حين موتها، كما لا يبطل حق من أخدم عبدا حياته بقتل من قتله متعمدا من أجل أنه مات بأجله، إذ ليس ذلك بعلة، ولو صح أن يكون ذلك علة لما وجب القصاص على من قتل عمدا، ولا لزم من قتل عبد رجل شيء، ولكان لقاتل العمد ميراث من قتل عمدا.
وقول ابن دحون أيضا ويختدمه السيد أو ورثته بقدر الجناية ليس بصحيح، إذ لو وجب أن يعتق على مذهب ابن القاسم لما كان له ولا لورثته أن يختدموه بقدر الجناية كما قال، لأن الذي عليه قيمة الدابة فلا يجوز أن يختدم بها، إذ لا يختدم الحر في الدين، وإنما يؤخذ من ماله أو يتبع به دينا في ذمته إن لم يكن له مال، ولو قتل الدابة أجنبي عمدا أو خطأ لعتق العبد مكانه، قال ذلك في كتاب ابن المواز، ولا اختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال إن مت فغلامي حر]
مسألة وقال في رجل أوصى فقال: إن مت فغلامي حر، وإن صححت فغلامي فلان لغلام له آخر حر، فمات فأقام أحدهما شاهدين أنه مات وهو صحيح، وقد صح وأقام الآخر شهودا أنه هلك من مرضه، فأرى أن يعتق من كل عبد منهما نصفه، لأن العتق قد ثبت لواحد منهما، ونحن لا ندري من هو منهما، فيعتق من كل واحد منهما نصفه، إلا أن يكون بعض الشهداء أعدل فيقضي للذي هو أعدل شهودا، قال أصبغ: بل أرى الشهادة شهادة الصحة، وأراه أولا وهو المثبت له الوصية إذا قطعوا الشهادة بصحته، فهذا علم يغلب على علم الآخرين، كما لو شهد عليه في مرضه بوصية فاجتمعوا على الوصية له، وإن اختلفوا في الشهادة، فقال بعضهم صحيح العقل، وقال الآخر غامر العقل، فهم أولى؛ لأنهم علموا ما لم يعلم الآخرون.(15/107)
قال محمد بن رشد: قول أصبغ في هذه المسألة: إن شهادة الصحة أعمل أظهر من قول ابن القاسم، لأنها علمت من صحته ما جهلته الأخرى، ومثل قول أصبغ لابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات في التي مرضت فأوصت في مرضها، فشهد شهود أنها كانت صحيحة العقل وشهد آخرون أنها كانت موسوسة، لأنه إذا قال في تلك: إن شهادة الصحة أعمل فأحرى أن يقول ذلك في هذه، وإذا قال في هذه أن ينظر إلى أعدل البينتين فأحرى أن يقول ذلك في تلك، وقد ساوى أصبغ بينهما في هذه الرواية.
فيتحصل في مجموع المسألتين ثلاثة أقوال، أحدها: أنه ينظر فيهما جميعا إلى أعدل البينتين، والثاني: أن شهادة الصحة أعمل فيهما جميعا، والثالث: أن شهادة الصحة أعمل في اختلافهم هل صح من مرضه أو لم يصح، وأنه ينظر إلى أعدل البينتين في اختلافهم هل كان في حين الوصية صحيح العقل أو غامر العقل، وفي كل مسألة من هاتين المسألتين قولان، ويتخرج في اختلافهم في حين الوصية هل كان صحيح العقل أو غامر العقل قول ثالث، وهو أن شهادة المرض أعمل، ولا يقال ذلك في اختلافهم هل صح من مرضه أم لا؟ فهذا وجه القول. في هذه المسألة، وقد مضى ذلك في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: الولاء يجب للمعتق]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن وهب عن أختين اشترتا أباهما فعتق عليهما وهما من حرة كانت أمهما حرة، فتوفيت إحداهما فورثها أبوها، ثم توفي الأب قال: ترث الثانية النصف بالرحم والولادة، وترث نصف النصف الباقي بالولاء ويبقى الربع. فلها النصف نصف هذا الربع الباقي؛ لأن أباها جر ولاء ولده إليها، لأنه حين عتق جر ولاء ولده بعضهم لبعض، وكان مولاهما جميعا بجر ولاء هذه إلى هذه، فصار لها ها هنا سبعة أثمان الميراث.(15/108)
قيل له: أرأيت إن كانت إحداهما اشترته والأم حرة فتوفي الأب؟ قال: يرثان الثلثين بالرحم.، وما بقي للتي أعتقته بالولاء.
قيل له: فتوفيت الآن بعد التي لم تشتره بعد الأب وبقيت التي كانت اشترته؟ قال: فلها كل شيء بالرحم والولاء.
قيل له: فإن رجلا اعتقها ثم اشتريا أباهما فيعتق عليهما ثم توفيت إحداهما بعد ثم توفي الأب بعد ذلك؟ قال: فلهذه الباقية النصف من أبيها بالرحم ولها نصف النصف الباقي بالولاء، فذلك ثلاثة أرباع، وما بقي فلمولاهما الذي أعتقهما.
قال محمد بن رشد: قوله في الأختين اللتين اشترتا أباهما فيعتق عليهما وهما من حرة فتوفيت إحداهما فورثها الأب ثم توفي الأب، إن للباقية النصف بالرحم والولادة، ونصف النصف الباقي بالولاء، ونصف الربع الباقي بجرور الولاء، فيصير لها سبعة أثمان الميراث صحيح، وإنما ورثت نصف الربع الباقي من ميراث أبيها؛ لأن النصف الذي أعتقت أختها منه يجر إليها نصفه؛ لأنها أعتقت نصف أبيها، فهو مولى ابن مولاها، والمرأة ترث بالولاء من أعتق ولد من أعتقت، وبيان ذلك أن الولاء يجب للمعتق، ولم يجب له بسبب العتق ممن ينجر إليه عن المعتق أو يجره إليه المعتق على ما أحكمته السنة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
من ذلك أن الموالي ثلاثة، مولى الرجل الذي أعتقه، ومولى أبيه ومولى أمه، فالولاء ينجر عن السيد المعتق إلى ولده وعصبته الأقرب فالأقرب، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الولاء للكبر» والعبد المعتق يجر ولاء لده الذين لم يعتقوه، وولاء مواليهم إلى مواليه، والأمة المعتقة تجر ولاء ولدها الذين لم يعتقوا وولاء مواليهم إلى مواليها أيضا كان ولدها من زنى أو كان قد نفاهم أبوهم بلعان، أو كان عبدا أو كافرا، فلما أعتقت الابنتان أباهما في هذه(15/109)
المسألة وكانتا حرتين لم يعتقا، ثم توفي الأب بعد موت إحداهما وجب أن ترث الابنة الباقية النصف بالرحم والولادة، وترث نصف النصف الباقي بالولاء؛ لأنه أعتق عليها نصفه، وترث نصف الربع الباقي بجرور الولاء، لأن النصف الثاني الذي أعتق منه على أختها الميتة ينجر إليها نصف ولائه، لأنها أعني الباقية لما أعتق عليها نصف أبيها جر إليها الأب نصف ولاء ابنته الميتة على ما بيناه من أن العبد المعتق يجر إلى مواليه ولاء ولده، ألا ترى أنها لو ماتت بعد الأب لورثت أختها الباقية منها النصف بالرحم ونصف النصف الثاني بجرور الولاء؛ لأنها ابنة مولى، لها نصف ولائه، وإذا جر الأب إليها نصف ولاء أختها فهو يجر إليها أيضا نصف ولاء ما أعتقت على ما بيناه، والذي أعتقت إنما هو نصف أبيها الثاني، فلها ولاء نصف هذا النصف وهو الربع، فوجب لها ثلاثة أرباع ولاء أبيها، النصف بعتقها إياه والربع بجر الولاء على ما بيناه، وهذا كله بين.
ومما يزيده بيانا وإيضاحا أن الابنة الميتة لو أعتقت عبدا أجنبيا لكان للابنة الباقية نصف ولائه لأنه مولى ابنة رجل أعتق عليها نصفه، فكان لها نصف ولائه، فكذلك يكون لها نصف ولاء النصف الثاني الذي أعتقته من أبيها، لأن المرأة ترث بالولاء من أعتق ولد من أعتقت، وقد روي عن ابن القاسم في الأختين اللتين اشترتا أباهما فعتق عليهما أن الأب إن توفي قبلهما فورثتاه، ثم توفيت إحداهما أن الأخت الباقية ترث النصف بالنسب، ونصف النصف بشركة الولاء، ونصف الربع بجرور الولاء إليها، وهو غلط ظاهر، والصحيح ما ذكرناه من أن لها النصف بالنسب ونصف النصف بجرور الولاء، وهو منصوص عليه لابن الماجشون.
وأما قوله إنه إن كانت اشترته إحداهما والأم حرة فتوفي الأب إنهما ترثان الثلثين بالرحم وما بقي للتي أعتقته بالولاء، فهو بين لا إشكال فيه، وكذلك قوله إنه إن توفيت التي لم تشتره بعد الأب إن للباقية من أبيها النصف بالرحم(15/110)
ونصف النصف بالولاء؛ لأنه أعتق عليهما نصفه، وما بقي فلمولاهما الذي أعتقهما؛ لأنه أعتق الميتة منهما التي أعتق عليها نصف أبيها المتوفى، فوجب أن يكون له الباقي كما ذكر، لأنه أحق بميراث من أعتقت من أختها، لأنه هو أعتقها، وأختها إنما أعتقت أباها، ومولى المولى أحق بالميراث من مولى ابن المولى، وبالله التوفيق.
[: يقول لعبده إذا مت فأنت سائبة وهو يريد بذلك الحرية]
ومن كتاب البيوع الثاني قال: وسمعته يقول في تفسير السائبة، قال الذي يقول لعبده إذا مت فأنت سائبة، وهو يريد بذلك الحرية، أو يقول: اذهب فأنت حر، أو أنت سائبة، أو يقول أنت سائبة، وهو يريد الحرية، ولا يقول اذهب ولا أنت حر، وذلك كله سواء يعتق ويخرج حرا وهو سائبة ولاؤه للمسلمين، إلا أنه لا يعجبني أن يعتق اليوم سائبة؛ لأن ذلك هبة الولاء، وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الولاء وعن هبته، فإن فعل فهو على ما أخبرتك وقلت لك.
قال أصبغ: لا يعجبني قوله في كراهية عتق السائبة، هو جائز أبدا، كما أن جائزا أن يعتق رجل عن غيره عن ابنه أو أبيه أو من أحب والولاء للمعتق عنه، لا كراهية فيه، فكذلك المسلمون جميعا، وقد جاء عن السلف من عملهم في عتق السائبة وكلامهم فيه، فليس فيه مكروه، ولا يعجبني قوله أيضا باستثنائه في السائبة إذا قال له أنت سائبة، أو اذهب أنت سائبة، حين استثنى وهو يريد الحرية، سواء أراد الحرية أو لم يرد الحرية، هي حرة على سنة السائبة، وهي سنة فيما جاء فيه الأثر وتكلم به، أو يقول أنت سائبة فقط، وليس فيه أكثر من قوله، إلا أن يكون لقوله ذلك سبب غير الحرية.(15/111)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في آخر سماع أشهب من هذا الكتاب، قلا معنى لإعادته.
[: قال الرجل قل لغلامي يلقاني غدا فإن لم يفعل فهو حر]
ومن كتاب المدبر والعتق قال أصبغ: سألت ابن القاسم عمن قال لرجل: قل لغلامي يلقاني غدا في موضع كذا وكذا، فإن لم يفعل فهو حر، فنسي الرجل أن يقوله للعبد، أو قاله له فلم يفعل، إنه لا عتق فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم لم يدرك من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: ورثة ورثوا عبدا من ميت فقيل لهم إنه قد أعتقه]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم وسئل: عن ورثة ورثوا عبدا من ميت فقيل لهم: إنه قد أعتقه، فقال أحدهم: قد أجزت مصابتي، فقال: يعتق مصابته، ولا يقوم عليه ما بقي، وليس هو بمنزلة من ابتدأ العتق.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يعتق مصابته من أجاز خلاف مذهبه في المدونة وغيرها، مثل مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة والمغيرة المخزومي، إذ لا فرق بين أن يشهد بذلك أو يمضي قول من شهد به، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم يوصي من سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بعتق جاريته ليبيعها فتلد أولادا ثم تموت ولم تبع]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يحلف بعتق(15/112)
جاريته ليبيعها فتلد أولادا ثم تموت ولم تبع: إنها تعتق وولدها جميعا في الثلث، ولا يبدأ أحد منهم على صاحبه، وهم بالسوية، قال: وقال مالك: وإنما هي بمنزلة المدبرة تلد أولادا، إلا أن المدبرة يطأها سيدها، وهذه لا يطأها، فهي أوكد من المدبرة، وهو بمنزلة أمر عقده لهم في الصحة جميعا هي وأولادها، وقاله أصبغ كله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم باع شاة من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: من اشترى مدبرا فأعتقه فالولاء له]
مسألة قال: وقال في رجل قال لرجل: علي عتق رقبة فبعني رأسا، فباعه مدبرا وكتمه، فاشتراه وأعتقه ثم علم.
قال: عتقه جائز، وهو يجزيه في الرقبة التي كانت عليه، ومن اشترى مدبرا فأعتقه فالولاء له ولا يتبع البائع بشيء، وعتقه جائز نافذ.
قال محمد بن رشد: اختلف في المدبر يباع فيعتقه المشتري، فقيل يمضي عتقه ولا يرد، وهو قوله في هذه الرواية، فقوله: إنه يجزيه عن الرقبة التي عليه إذا دلس له البائع ولم يعلمه أنه مدبر، هو على قياس هذا القول، ولو أعلمه البائع أنه مدبر لم يجزه عن الرقبة التي عليه، وإن لم يرد عتقه على هذا القول، لأنه إذا اشتراه وهو يعلم أنه مدبر فقد اشتراه بشرط العتق، إذ لا يجوز بيع المدبر على غير العتق، والرقبة الواجبة لا تشتري بشرط العتق، وقيل: إن المدبر إذا بيع يرد البيع، وإن أعتقه المشتري، فعلى هذا القول لا يجوز عتق الرقبة الواجبة، فإن أعتقه المشتري ففات رده بموت أو عيب، وكذلك إذا اشتراه فأعتقه من زكاته يجري جوازه على هذا الاختلاف، وقد مضى الكلام على هذه المسألة بأوعب من هذا في سماع أصبغ من كتاب الوصايا قرب آخر أول رسم منه، وبالله التوفيق.(15/113)
[مسألة: قطع يد أو يدي عبده]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن قطع يد أو يدي عبده فأره صناع فإنه يضمن قيمته وعتق وليس عليه.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع أصبغ أيضا من كتاب الجنايات نصا، وفي المدونة نحوه، قال: إذا كان فسادا لا منفعة معه في العبد حتى يضمنه من تعدى عليه عتق عليه، وكان بمنزلة من مثل بعبده، وقال أصبغ: ذلك استحسان وليس بقياس، وقال ابن الماجشون في الواضحة: إنه لا يعتق عليه، وهو الأظهر، لأن السنة إنما جاءت فيمن مثل بعبده، وبالله التوفيق.
[مسألة: قول السيد لعبده اخرج إلى إفريقية فإذا بلغتها فأنت حر]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب بن عبد العزيز وسئل: عن رجل استأذنه عبده في الخروج إلى إفريقية، فقال له: اخرج فإذا بلغتها فأنت حر، ثم أراد أن يمنعه بعد ذلك من الخروج، قال: ليس ذلك له، قيل لأشهب فخرج فمات السيد والعبد في الطريق قبل أن يبلغ؟ قال: سواء مات أو لم يمت إذا بلغها فهو حر، فقيل له: أمن الثلث؟ فقال: لا، بل من رأس المال لو كان من الثلث كله.
قال محمد بن رشد: لابن المواز في هذه المسألة زيادة قال: إلا أن يبدو للعبد في الخروج، فجعل قول السيد لعبده: اخرج فإذا بلغتها فأنت حر، تمليكا منه له في العتق، يلزم السيد ولا يلزم العبد، وقد قلنا في رسم يدبر(15/114)
من سماع عيسى: إن هذه المسألة يتخرج فيها ثلاثة أقوال، وأن قول ابن المواز في هذه المسألة وقول أشهب أيضا إن حمل قوله على التفسير له قول رابع في المسألة.
[مسألة: رجل قال لغلامه اعمل هذا اليوم وأنت حر]
مسألة وسئل: عن رجل قال لغلامه: اعمل هذا اليوم وأنت حر، فقال: هو حر أبدا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه يكون حرا إن عمل ذلك اليوم؛ لأنه عتق على شرط يجب له الوفاء به كالكتابة، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين عبد ورجل آخر أعتق العبد مصابته أيقوم عليه بقيته]
مسألة وسئل: عن عبد بين عبد ورجل آخر أعتق العبد مصابته أيقوم عليه بقيته؟ قال: إن أعتقه بإذن سيده قوم على سيده في جميع ماله ويباع فيه رقبة عبده وغير ذلك، وإن كان أعتقه بغير إذنه فلا قيمة فيه أصلا، لا على السيد ولا على العبد، ولو قال السيد قوموه على العبد فيما بقي في يديه لم يقوم عليه، وإن كان أعتقه بغير إذن سيده فأجاز سيده عتقه فهو بمنزلة ما لو أعتقه بإذن سيده ابتداء سواء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا أعتقه بإذنه أو بغير إذنه فأجازه فهو المعتق له؛ لأنه كأنه انتزعه منه فأعتقه، بدليل كون الولاء له لا يرجع إلى العبد إن أعتق، بخلاف ما قال في رسم نقدها من سماع عيسى في العبد بين الشريكين، وقد ذكرنا هنالك الفرق بين المسألتين.
وقوله: لا يقوم على العبد فيما بقي من ماله إذا دعى إلى ذلك شريكه، يريد أنه لا يقوم عليه في مغيب سيده، ولو كان حاضرا لكان وجه الحكم في ذلك أن يوقف على إجازة عتقه أورده، فإن أجازه قوم عليه كما قال بمنزلة ما لو أعتق بإذنه، وإن رده فهو مردود، ولو قال السيد لما وقف على ذلك. لا أجيز(15/115)
عتقه ولا أرده لوجب أن ينفذ عتق نصيبه منه الذي أعتقه، فإن أعتق قوم عليه باقية لأن الولاء إذا لم يجز السيد عتقه ولا رده حتى أعتق، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبتاع العبد فيعتقه مكانه بحضرة البائع ثم يجحد الاشتراء]
مسألة وسئل: عن الذي يبتاع العبد فيعتقه مكانه بحضرة البائع ثم يجحد الاشتراء.
قال: إن كان مليا بالثمن لم أر للبائع أن يسترقه، وإن كان معدما ولم يكن فضل في قيمة العبد لم أر بأسا أن يسترقه.
قلت: أرأيت إذا أقر البائع بهذا من اشتراء المشتري وعتقه وجحوده والمشتري ملي أيعتق على البائع يحكم به عليه؟ فقال لي: نعم، قال أصبغ: صوابا حسنا.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إن كان مليا بالثمن لم يكن للبائع أن يسترقه هو على أحد قولي ابن القاسم في المدونة في العبد بين الشريكين يشهد أحدهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه منه وهو موسر إنه يعتق عليه نصيبه.
وقوله: إنه إن كان معدما ولم يكن في قيمته فضل عن ثمنه كان له أن يسترقه صحيح لا إشكال فيه، وإنما موضع الإشكال من المسألة إذا كان معدما وفي قيمته فضل عن الثمن هل له أن يأخذه فيباع منه بقدر الثمن ويعتق الباقي أم لا؟ فقال فيما تقدم في رسم العتق من سماع عيسى: إن ذلك له إذا لم يكن له مال يوم أعتقه ولم يكن علم بعتقه، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: باع الحالف نصيبه من العبد من غير شريكه]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن عبد بين اثنين حلف(15/116)
أحدهما بعتق نصيبه إن كلم رجلا فباع نصيبه] من رجل أجنبي فاشترى نصيب صاحبه ثم كلمه،. قال: لا حنث عليه ولا عتق لما اشترى من نصيب صاحبه.
قلت: فبادل صاحبه نصيبه ثم كلمه؟ قال: يحنث.
قلت: فاشترى نصيب صاحبه ثم باع نصيبه ثم كلمه؟ قال: يحنث إنما باع نصفه.
قلت: فباع نصيبه من صاحبه بدنانير أخذها منه ثم اشترى بعد ذلك نصيب صاحبه ثم كلمه. قال: يحنث.
قال محمد بن رشد: أما إذا باع الحالف نصيبه من العبد من غير شريكه ثم اشترى نصيب شريكه فقوله إنه لا حنث عليه فيه هو مثل ما في المدونة والواضحة، ولا اختلاف في ذلك إن كان قال للمشتري أبيع منك نصيبي من هذا العبد وهو كذا وكذا النصف إن كان النصف، وأما إن كان قال له أبيعك نصف هذا العبد وله فيه النصف فالبيع يقع على نصف جميع العبد نصف حظه ونصف حظ شريكه على ما قاله ابن القاسم في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الشفعة، فينتقض البيع في حظ الشريك وينفذ في حظه، فيبقى له ربع العبد ويكمل له إذا اشترى نصف شريكه ثلاثة أرباع العبد، ويحنث إن كلم الرجل فيعتق العبد كله ربعه بالحنث ونصفه الذي اشترى من شريكه بالحكم، والربع الذي باع من الأجنبي بالتقويم إن كان له مال خلاف ظاهر هذه الرواية وما في المدونة والواضحة، إذ لم يفرق في شيء منها إذا باع نصيبه من أجنبي بين أن يقول أبيعك نصف هذا العبد أو(15/117)
يقول أبيعك نصيبي منه وهو النصف في أن البيع إنما يقع على نصيبه خاصة في الإبهام كما يقع في البيان.
وأما إذا بادل شريكه حصته بحصته فقال في هذه الرواية إنه يحنث، وقال أصبغ في الواضحة إنه لا يحنث كما لو باع حصته من أجنبي واشترى من شريكه حصته، إذ لا فرق بين أن يبيع حصته من شريكه، أو من غيره، وعابه ابن حبيب واعترض عليه بقول ابن القاسم في الرهن المشاع يكتري الراهن حصة الشريك إن الرهن يبطل.
ووجه قوله أنه إذا عامل شريكه فيه فقد بقيت الشركة بينهما فيه على ما كانت عليه، فكانت المبادلة أقوى.
وقول أصبغ هو القياس، إذ ليست المبادلة لغوا، لأن الأملاك تنتقل بها ويصير لكل واحد منهما على صاحبه عهدة في نصيبه الذي عاوضه به.
وأما إذا باع حصته من شريكه ثم اشترى منه حصته أو اشترى منه حصته ابتداء ثم باع منه حصته أو من غيره فقال في هذه الرواية إنه يحنث ويأتي على ما في كتاب المرابحة من المدونة أنه لا يحنث، وهو الأظهر إذا سمى حصة شريكه في الابتياع ألا يقع شراؤه إلا على ما ابتاع لا شائعا في جملة العبد، ألا ترى أنه لو حلف رجل ألا يبيع شيئا وهب له فوهب نصف عبد على الإشاعة واشترى النصف الثاني لجاز له أن يبيع النصف الذي اشترى ولا يحنث إلا أن يبيع النصف مبهما ولا يسمي شيئا؛ لأنه حينئذ يقع البيع على ما اشترى وعلى ما وهب له، فالاختلاف إذا كان العبد كله لرجل فباع منه حصة مسماة هل يقع البيع على ما سمى أو على الإشاعة كما لو لم يسم، والاختلاف إذا كان العبد بين الرجلين فباع أحدهما منه مقدار حصة أو أقل ولم يسم أنها حصته هل يقع البيع على الإشاعة في حظه وحظ شريكه أو على حصته كما لو سمى؟ ولو كان عبدان بين رجلين فحلف أحدهما بعتق نصيبه ألا يفعل فعلا فقاسم شريكه(15/118)
فيهما فحصل له أحدهما لرجعت اليمين فيه، قاله ابن القاسم، وهو عندي على قياس القول بأن القسمة تميز حق، ولو باع أحدهما حصته من أحدهما بحصة شريكه من الآخر فخلص له أحدهما بذلك ثم حنث لعتق عليه نصفه بالحنث، ونصفه بالقضاء، قاله أشهب، وهو صحيح، وكذلك يلزم في القسمة على قياس القول بأنها بيع من البيوع، وقد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم الاختلاف، إذا حنت قبل القسمة فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول إن فعلت كذا وكذا فجاريتي حرة]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الذي يقول إن فعلت كذا وكذا فجاريتي حرة فتلد عنده بعد ذلك أولادا ثم يفعل ذلك: قال: سألت مالكا عنها فرأى أن تعتق هي وولدها ورأيته يصغي إليه، وهو الذي آخذ به أنا أيضا وأستحسنه، وليس يحمله القياس. قال أصبغ: هذا ليس بشيء، وليس لولدها هنا عتق؛ لأنها لم تكن مرتهنة باليمين، ولم يكن فيها على حنث هو على بر حتى يحنث، فما وضعت قبل الحنث وزايلها فليس منها، ولا يقع عليه الحنث لأن الحنث إنما هو يوم يقع وإنما يقع على رقبتها، وقد كان له بيعها قبل ذلك، وإنما الذي يدخل الولد معها ما لم يكن له بيعها إن كانت باليمين مرتهنة، ومثله الذي يحلف ليبيعها إلى وقت أو ليفعلن كذا وكذا فلا يفعله، فأما الذي يحلف أن لا يفعل فليس بيمين منعقدة، ولا أحسب ابن القاسم إلا وقد رجع وكان له قول غيره فيها، ولا أظنه عن مالك إلا وهما من روايته، فأما الرواية لها فقد رواها زعم ظاهر أو هو يغلط في روايتها.
قال محمد بن رشد: رأى أصبغ أن الولد يدخلون في اليمين الذي(15/119)
يكون الحالف فيها على حنث وليس له أن يطأ ولا يبيع، وفي اليمين التي ليس له أن يبيع فيها وإن كان له أن يطأ على اختلاف وهي اليمين ليفعلن إلى أجل، وقد قيل إن الولد لا يدخلون إلا في اليمين التي يكون فيها على حنث، وليس له أن يطأ ولا يبيع، فالمسألة يتحصل في جملتها أربعة أقوال، وقد مضت المسألة في مواضع من هذا الكتاب وغيره، وتحصيل القول فيها في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: البينة على من أدعى]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن رجل هلك فشهد عليه أنه حلف بعتق رقيقه وحنث، فادعت امرأته أنها أخذت تلك الرقيق في حقها وأقامت البينة على ذلك، ولا يدري الشهود متى أعطاها؟ ولا يدري الذين يشهدون على الحنث متى كان ذلك؟ فقال: المرأة أولى بهم إلا أن تقوم البينة على أن عتقهم وحنثه كان قبل بيعه إياهم منها، أو ثبت ذلك الذين شهدوا لهم بالحرية، وإنما ذلك إذا كانت المرأة قد حازتهم وهم في يديها، وإن لم تكن حازتهم فالعتق أولى، إلا أن تقيم البينة أن اشتراءها إياهم قبل ذلك، وقال ذلك أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأنها إذا حازت الرقيق وجب أن لا يخرجوا من يديها إلا بيقين، وهو أن تشهد البينة لهم أن عتقهم كان متقدما لأخذها إياهم في حقها لأنهم هم المدعون، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وإذا لم تحز فهي الطالبة لقبضها بما شهد لها به من أنها أخذتهم في حقها، فلا يحكم لها بقبضهم إلا بيقين، وهي أن تشهد لها البينة أن أخذها في حقها كان قبل حنثه بعتقهم، ولا يعتبر عند ابن القاسم بتاريخ أحدهما إذا جهل الأول منهما، ويعتبر على ما حكى ابن حبيب عن مالك وأصحابه حاشا المغيرة، فيأتي على هذا قولان إذا حازت(15/120)
أحدهما أنها أولى بهم وإن كان وقت الحنث معلوما، والثاني أنها أولى بهم إلا أن يكون وقت الحنث معلوما.
[مسألة: حلف بالطلاق ليبيعن غلامه ممن يخرج به إلى الشام]
مسألة وسئل: عن رجل حلف بالطلاق ليبيعن غلامه ممن يخرج به إلى الشام فباعه من رجل على ذلك فمات مشتريه قبل أن يخرجه، قال: إن كانت يمينه ونيته إنما هي ليشترطن ذلك على مبتاعه ذلك الذي أراد فليس عليه شيء في يمينه، وإن كان إنما هو على الخروج ليخرجن به أو لم تكن له نية فهو حانث، وقاله أصبغ، وقال حسنة جيدة، ومحمل اليمين الإخراج حتى ينوي غيره.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: ومحمل اليمين الإخراج حتى ينوي غيره، هو مثل ما تقدم في رسم سلف من سماع عيسى لابن القاسم من رواية عيسى عنه، وخلاف قوله فيه من رواية محمد بن خالد عنه، وقد مضى هنالك الكلام على المسألة مستوفى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بحرية غلامه أن لا يبيعه اليوم ولا غدا]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عمن حلف بحرية غلامه أن لا يبيعه اليوم ولا غدا، فقال له رجل بعنيه، فقال: قد أوجبته لك بأربعة دنانير بعد غد، فقال هو حر، وهذا بيع، قيل له: فما ترى في مثل هذا البيع أن يبيعه إياه إلى بعد غد؟ قال: ليس بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وفرقنا به من البر والحنث، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.(15/121)
[مسألة: حلف بحريته أن لا يبيعه فباعه بيعا فاسدا أو حراما]
مسألة قال ابن القاسم: ولو حلف بحريته أن لا يبيعه فباعه بيعا فاسدا أو حراما على أن يسلف أو سلف أو ما أشبهه من البيوع الفاسدة لرأيته بيعا يعتق عليه، قال: ولو قال أنت حر إن لم أبعك فباعه بيعا فاسدا فرد عليه كانت اليمين لازمة له حتى يبيعه ثانية، ولو حلف ألا يبيعه فباعه واشترط الخيار لم يكن ذلك بيعا حتى يمضيه، لأنه قد جعل ذلك لنفسه إن شاء أن يمضيه أمضاه، وإن شاء أن يرده رده، فليس يبيع حتى يمضيه، وقاله أصبغ على وجهها كلها ولها تفسير وحجج في افتراقها، وهي صواب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أصبغ أن لافتراق هذه المسائل وجوها تفترق بها، فإنما فرق بين البر والحنث بمجرد عقد البيع الفاسد يريد مع القبض، فقال: إنه يحنث به إذا حلف أن لا يبيع وإن لم يفت البيع، وقال إنه لا يبريه إذا حلف أن يبيع إلا أن يفوت البيع، لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكملها، والوجه في ذلك أن ترك البيع ليس بفعل مقصود إليه، فإذا حلف ألا يفعله فقصد إلى فعل ما هو سبب له ففعله وجب أن يحنث بفعله إياه؛ لأنه يؤول إليه، والبيع فعل مقصود إليه، فإذا حلف أن يفعله وجب أن لا يبر إلا بفعله ألا يفعل سببه إذا لم يحلف أن يفعل سببه، وإنما حلف أن يفعله فوجب أن لا يبر إلا بتمامه وهو فوت السلعة بيد المبتاع الذي به ينتقل الملك، وقد مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى إذا حلف أن يبيع إلى شهر فباع بيعا فاسدا قبله وما يتخرج في ذلك من الاختلاف.
ولكون الترك ليس بفعل مقصود إليه كان النهي أقوى من الأمر، قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» لأن الرجل قادر على الترك على كل حال، وقد لا يقوى على(15/122)
الفعل، وإنما فرق بين البيع الفاسد وبين بيع الخيار فقال إنه يحنث بعقد البيع الفاسد، يريد مع دفع السلعة على ما ذكرناه، ولا يحنث بالبيع على الخيار إذا كان الخيار له؛ لأن السلعة إن تلفت في البيع الفاسد ضمنها المبتاع ولزمه البيع فيها بالقيمة، وإن تلفت السلعة في بيع الخيار والخيار للبائع كانت مصيبتها منه بإجماع، ولم تجب للمبتاع إلا بإمضاء البيع له، فوجب أن لا يحنث إلا بإمضاء البيع لا بالعقد.
ولو حلف أن لا يبيعها إلى أجل فباعها قبل الأجل على أن الخيار له وأمضاها له بعد الأجل لتخرج وجوب حنثه بذلك على الاختلاف في بيع الخيار إذا مضى هل يمضي على العقد الأول فيكون كأنه قد باعها حين العقد أو لا يكون بائعا لها إلا في حين إمضاء البيع؟ وهذا على المشهور في المذهب من أن البيع الفاسد ينتقل الملك به فتكون المصيبة فيه بعد القبض من المبتاع وإن قامت على التلف البينة.
وأما على القول بأن الملك لا ينتقل به وأن المصيبة فيه من البائع إذا قامت البينة على التلف وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع في بعض الروايات فلا يحنث بالبيع الفاسد وإن قبض المبتاع السلعة ففاتت عنده، وبالله التوفيق.
[مسألة: شراء الجنين في بطن أمه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن باع جارية له، فلما قبض ثمنها قال: كل ذكر أشتريه بثمنها فهو حر، فاشترى جارية حاملا فولدت ذكرا: إنه يعتق عليه الذكر ولا تعتق هي، وقاله أصبغ وليس بمنزلة الذي يقول: كل ذكر اشتريته فهو حر فيشتري جارية فتلد ذكرا أنه لا شيء عليه، إلا أن يكون أراد كل ذكر يملكه فهو حر، وفي رواية أبي زيد بن أبي الغمر قال: وسئل: عن رجل باع جارية ثم قال(15/123)
كل غلام أشتريه من ثمن هذه الجارية فهو حر فاشترى جارية حاملا فولدت غلاما، قال يعتق الغلام ولا تعتق الجارية، وإن كان اشتراها وليست بحامل فولدت غلاما لم يعتق.
قال محمد بن رشد: رواية أبي زيد هذه عن ابن القاسم مثل رواية أصبغ عنه، وما فيها من الزيادة عليها تتميم لها، قد قال غيره: إنه لا يلزمه في الجنين حنث؛ لأن الشراء لم يقع عليه، وإنما وقع على الأم إذ لا يحل شراء الجنين في بطن أمه، ولم يفرق ابن القاسم ولا غيره بين أن تكون حين الشراء ظاهرة الحمل أو غير ظاهرة الحمل، فأما إذا كانت غير ظاهرة الحمل والحمل يزيد في ثمنها فقول ابن القاسم أظهر؛ لأنه قد وقع للجنين حصة من الثمن، وأما إن كانت غير ظاهرة الحمل أو ظاهرة الحمل وهي من الجواري اللائي لا يزيد الحمل في أثمانهن أو ينقص منها فقول غيره أظهر، إذ لم يقع للجنين حصة من الثمن، فيحتمل أن يرد قولهما جميعا بالتأويل إلى هذا التقسيم فلا يكون بينهما اختلاف، وذلك قولهما إن ذلك عندهما سواء، فالتفرقة قول ثالث. والله أعلم.
ولا اختلاف بينهما في أن الحمل إن لم يكن ظاهرا لا يجب للولد عتق إلا أن يشتريها بشرط أنها حامل على مذهب من يجيز ذلك، وهو قول أشهب في سماع عبد الملك من كتاب العيوب، فيعتق الولد لأنه قد حصل له بالشرط حصة من الثمن.
وقوله وليس بمنزلة الذي يمول كل ذكر أشتريه فهو حر فيشتري جارية فتلد ذكرا إنه لا شيء عليه إلا أن يكون أراد كل ذكر يملكه فهو حر ليس في كل الروايات، ويحتمل أن يكون من قول ابن القاسم وأن يكون من قول أصبغ. وقوله فيه فتلد ذكرا يريد ولم تكن حاملا يوم الشراء، إذ قال إن الولد يعتق إذا كانت حاملا يوم الشراء، وفي قوله إلا أن يكون أراد كل ذكر يملكه(15/124)
فهو حر نص منه على أن يمينه على الذكران دون الإناث تخصيص يلزمه به اليمين وهو قول ابن نافع في المبسوطة. خلاف قول مالك فيها إن ذلك عموم لا يلزمه فيه اليمين وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بعتق عبده إذ لم يضربه ثم يكاتبه]
مسألة قال أصبغ وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يحلف بعتق عبده إذ لم يضربه ثم يكاتبه: إنه يمضي على كتابته ولا يضربه ولا ينقض، فإن عجز ضربه، وإن أدى كتابته وعتق رد عليه ما أخذ منه، وقال أصبغ، وإن عجل فضربه في الكتابة لم أر ذلك ينفعه ولا يبريه؛ لأنه ضرب تعدي ليس له، وإن أدى عتق وحنث ورد ذلك إليه، وإن عجز لم يبر حتى يضربه ثانية ضربا يجوز له.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم يمضي على كتابته ولا يضربه ولا تنقض الكتابة يريد وإن ضربه لم يبر بضربه في الكتابة على ما نص عليه بعد ذلك بقوله: وإن عجز فضربه في الكتابة لم أر ذلك ينفعه ولا يبر به، ويحتمل أن يكون ذلك من قول أصبغ، فإن كان من قوله فهو مفسر لروايته عنه، وإذا لم تنتقض الكتابة فيوقف ما يؤدي منها، فإن عتق بالأداء تم الحنث فيه وصار حرا، وأخذ كل ما أدى، وإن عجز ضربه إن شاء، قال ذلك في كتاب ابن المواز، ولم ينص ابن القاسم في هذه الرواية على توقيف ما يقبض منه، فيحتمل أن تكون هذه إرادته، ويحتمل أن يريد أن ذلك لا يوقف إذا كان السيد مليا ظاهر الملا لم يخش عليه العدم، وكذلك لا يبد عند ابن القاسم بضربه وهو في ملك غيره إن باعه قبل أن يضربه، وقال أشهب: يبر بضربه وهو في ملك غيره، ولا يبر بضربه في الكتابة، وله في كتاب ابن المواز أنه يبر بضربه(15/125)
في الكتابة، ففي جملة المسألة ثلاثة أقوال، قولان وتفرقة، ولا اختلاف في أنه لا يبر بضربها بعد أن أعتقها المشتري أو أولدها، وقد مضى هذا في رسم العتق من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بحرية جاريته إن وطئها فيبيعها ثم يشتريها بعد ذلك]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن الذي يحلف بحرية جاريته إن وطئها فيبيعها ثم يشتريها بعد ذلك، قال: ترجع عليه اليمين قال: ترجع عليه اليمين قال: فورثها؟ قال: تسقط عنه اليمين قال أصبغ: ويطؤها ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب ابن القاسم، وقوله في المدونة وغيرها إن الحالف بعتق عبده أن لا يفعل فعلا فيبيع العبد أو يهبه ويفعل ذلك الفعل بعد أن رجع إليه العبد إلا أن يكون رجع إليه بميراث أو يكون ذلك الفعل مما لا يتكرر، وقد فعله والعبد خارج عن ملكه، وقد قيل: إن اليمين لا ترجع عليه إذا خرج عن ملكه ثم عاد إليه بأي وجه كان، وهو مذهب الشافعي، وإليه ذهب ابن بكير، ووجه قولهما أنه إنما حلف بذلك الملك فلا يرجع عليه في اليمين في ملك آخر كمن حلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا فطلق امرأته ثلاثا ثم تزوجها بعد زوج أن اليمين لا ترجع عليه، وفي المسألة قول ثالث، وهو أن اليمين إنما ترجع عليه إذا اشتراه من الذي باعه منه أو وهبه إياه؛ لأنه يتهم على أنه عمل معه على أن يرده إليه ليحل اليمين عن نفسه، فإذا اشتراه من غيره أو من الذي باعه منه في تفليس، أو كان قد بيع هو عليه في تفليس فاشتراه من المشتري فلا ترجع اليمين عليه لارتفاع التهمة، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة وحكاه عن مالك وعن ابنه وعن المغيرة وابن أبي(15/126)
حازم وابن دينار وغيرهم، ومن مذهب الشافعي أيضا أن الحالف بالطلاق أن لا يفعل شيئا ينحل عنه اليمين إذا خرجت عن عصمته بطلقة واحدة ثم راجعها فلا ترجع عليه، وقد مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى من معنى هذه المسألة ما فيه بيان لها وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة إن دخلت بيت أبيك]
مسألة قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن امرأة حلفت بعتق رقيقها أن لا يخرج إلى موضع سمته حتى يقدم زوجها وخرج حاجا فمات قبل أن يرجع، فقال: إن كانت أرادت إلى مقدار قدومه لقدوم الناس من الحج فلا شيء عليها، أي إذا مضى ذلك القدر، قال: وإن لم تكن لها نية فاليمين عليها أبدا.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق في الذي يقول لامرأته: أنت طالق البتة إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم أخوك من سفره، فمات قبل أن يقدم، إنه إن كانت نيته في ذلك أن يقدم الحاج ولم يرد في ذلك الموت، فإن أقامت إلى ذلك القدر ثم دخلت فلا شيء عليه، وإن لم تكن له نية فهو حانث، ولا إشكال في المسألة أنها إن كانت أرادت إلى مقدار قدومه فلها نيتها، ولا يلزمها شيء إن خرجت إلى ذلك الموضع بعد مقدار قدومه عاش أو مات، وكذلك إن لم يرد ذلك وكان ليمينها بساط يدل على ذلك على المشهور في المذهب من مراعاة البساط في الأيمان عند عدم النية فيها.
ولو كانت أرادت بذلك استرضاء زوجها، أو كان ليمينها بساط يدل على ذلك لما كان عليها شيء في خروجها إلى الموضع الذي حلفت عليه إذا مات زوجها قرب موته أو بعد، إذ لا يسترضى من قد مات، وأما إذا لم تكن لها نية، ولا كان ليمينها بساط، فحمل يمينها في هذه الرواية وفي المسألة التي ذكرناها(15/127)
من كتاب الأيمان بالطلاق على ما يقتضيه اللفظ ولم يراع المعنى والمقصد، ويأتي على مراعاته أن لا تحنث إن فات إن خرجت إلى ذلك الموضع، بعد أن يمضي من المدة ما كان يمكنه فيها القدوم لو كان حيا، إذ قد علم من قصدها أنها لم ترد بقولها حتى يقدم زوجها إلا مع استمرار حياته، إذ لا يمكن أن يقدم الميت، وعلى هذا المعنى يأتي قول مالك في أول مسألة من رسم الطلاق الأول من سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق: هي الآن من أهل القبور، وعلى هذا المعنى اختلفوا في الرجل يحلف أن لا يكلم رجلا حتى يرى الهلال فعمي قبل استهلاله، فقال مالك. هو حانث إن كلمه أبدا، وقال ابن الماجشون يكلمه إذا رىء الهلال ولا شيء عليه لأنه إنما أراد أن لا يكلمه حتى يرى الهلال من حيث يرى، وقع هذا في المبسوطة وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بعتقه ليضربنه فباعه]
مسألة وسئل عمن حلف بحرية غلامه ليوفين رجلا حقه إلى أجل فباع الغلام قبل الأجل وأوفاه حقه، قال: لا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: لأنه يبر بالقضاء بعد البيع فلا يرد البيع إذا قضاه، ولو لم يقبضه لرد البيع حتى يبرأ ويحنث بانقضاء الأجل فيعتق عليه.
ولو حلف بعتقه ليضربنه فباعه لم يبر بضربه بعد البيع على مذهب ابن القاسم، ويرد البيع على مذهبه حتى يبر بضربه ثانية، أو يحنث بمرور الأجل إن كانت يمينه إلى أجل فيعتق في ثلثه إن لم يضربه حتى مات، وأشهب يرى أنه يبر بضربه بعد أن باعه، وقد مضى ذلك فوق هذا، ومضت هذه المسألة أيضا(15/128)
في رسم نذر من سماع ابن القاسم، ومضى في رسم العتق من سماع عيسى القول في وجوب رد البيع ووجه الحكم في ذلك فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حلف بحرية جارية له ليضربنها فباعها من رجل فأحبلها المشتري]
مسألة وسئل عن رجل حلف بحرية جارية له ليضربنها فباعها من رجل فأحبلها المشتري قال: أرى أن تعتق ويرد الثمن إلى المشتري ويكون له الولد بغير قيمة، قال أصبغ: لا أرى ذلك وأراها أم ولد للمشتري كالمدبرة تباع فتفوت بالاتخاذ فلا ترد، فليست هذه بأشد منها ولا بأعظم حرمة من التدبير، وهذا إذا لم يوقت لليمين وقتا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم العتق من سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق شركا له في عبد فلم يقوم عليه حتى أعتقه الآخر]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن أمة بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه وغاب فباع الآخر حصته أو باعها كلها واتخذها المشتري أم ولد وولدت قال: تعتق على المشتري ساعتئذ وتخرج حرة، وإن كان باعه إياها على أنها أمة كلها قُوِّمت على أن نصفها حر ونصفها رقيق، فكان لبائعها قيمة ذلك النصف الرقيق إن كان أقل من نصف الثمن الذي باع به، ورجع عليه المشتري بما بقي يعني كعيب موجود، وإن كان أكثر من نصف الثمن الذي باع به لم يكن له إلا نصف الثمن، وإنما أعتقها عليه؛ لأنه لا يستطيع أن يطأها ونصفها حر.
وأمهات الأولاد لا يحبسن على منفعة غير الوطء، وقد قاله مالك فيما يشبهه، وأهل العراق يخالفوننا يقولون من أعتق شركا له(15/129)
في عبد فلم يقوم عليه حتى أعتقه الآخر فلا عتق له، ونحن نقول عتقه جائز، فإذا باع المتمسك بالرق نصيبه فأعتقها المشتري فهو في مثابة لو كان هو المعتق، فعلى هذا الأصل قست لك وبينت.
فإن قال قائل: إن العتق يكون رضى بما حدث، فإن الوطء يكون رضى، والحمل جاء من الوطء، وقد كان له أن يرد بعد الوطء قبل الحمل، فالحمل ها هنا لا يكون كالعتق. قال أصبغ مثله، وذلك الصواب، ولو لم يبع إلا النصف الذي له وكتمه الحرية في النصف الآخر ووطئ وأحبل كان قيمة الرق فيها [كلها] فيعرف مبلغه ثم [يقوم] معيبا ثانية رأيته سواء، فما نقص رجع بقدر جزئه من الثمن فصواب، وهو يرجع إلى شيء واحد ويعاقب الواطئ في هذه الوطأة.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة وإن كان باعها على أنها أمة كلها قومت على أن نصفها حر ونصفها رقيق، فكان لبائعها قيمة ذلك النصف الرقيق إن كان أقل من نصف الثمن الذي باع به ويرجع عليه المشتري بما بقي، فإن كان أكثر من نصف الثمن الذي باع به لم يكن له إلا نصف الثمن ليس بمستقيم على أصولهم؛ لأن ذلك إنما هو عيب في نصفها الرقيق بما كتمته من حرية أصلها الآخر، واستحقاق في نصفها الآخر بالحرية، فوجه الحكم في ذلك على أصولهم أن يرجع المبتاع على البائع بنصف الثمن الذي دفع إليه في النصف المستحق بالحرية وتقوَّم الجارية يوم البيع على أنها أمة كلها ويقوم نصفها الرقيق يوم البيع أيضا على أن نصفها حر فينظر ما بين نصف قيمتها على أنها كلها رقيق وما بين قيمة نصفها على أن نصفها حر فيرجع عليه بذلك الجزء في ثمن نصفها قل أو كثر، مثال ذلك أن تكون قيمتها على(15/130)
أنها رقيق كلها مائة، وقيمة نصفها على أن نصفها الآخر حر أربعون، فالعشرة التي بين الأربعين والخمسين من الخمسين خمسها، فيرجع المبتاع على البائع بخمس نصف الثمن الذي دفع إليه قل أو كثر، وهذا الذي قلت قد قالها بعد هذا، إذ لم يبع إلا النصف الذي له أنه يقوم النصف الذي باع على أن النصف الثاني رقيق، ويقوم ثانية معيبا بعيب حرية النصف الآخر. فما نقصه رجع بقدر جزئه من الثمن، وذلك صواب كما قال، إلا أنه لا يرجع مع ما ذكره أولا إلى شيء واحد كما زعم.
وقوله: فإن قال قائل: إن العتق يكون رضى بما يحدث فإن الوطء يكون رضى والحمل جاء من الوطء، وقد كان له أن يرد بعد الوطء قبل الحمل، فالحمل ها هنا لا يكون كالعتق كلام فيه استكمال إشكال لإضمار وقع فيه وتقديم وتأخير، والمعنى فيه أن المخالف يقول: إن العتق رضا بما يطلع عليه من العيوب، فيمن اشترى عبدا فأعتقه ثم اطلع على عيب فيه لم يكن له رجوع به، وليس الحمل رضا بما يطلع عليه من العيوب؛ إذ لا كسب له فيه؛ لأنه إنما فعل هو الوطء، والوطء ليس برضا؛ إذ له أن يرد بعد الوطء، يقول: فكما له أن يرد بعد الوطء فكذلك له أن يرجع بقيمة العيب بعد الحمل فنقض عليه ابن القاسم قوله بقوله: فإن الوطء يكون رضا والحمل جاء من الوطء- يقول لهم- فيلزم على قياس قولكم إذا كان العتق عندكم رضى أن يكون الوطء رضى، والحمل رضى؛ لأنه يكون عن الوطء.
وتقدير الكلام بإظهار ما فيه من الإضمار، فإن قال قائل: إن العتق يكون رضى بما يحدث ولا يكون الحمل رضى بما يحدث؛ لأنه فعل العتق ولم يفعل الحمل؛ لأنه وطئ، وقد كان له أن يرد الوطء قبل الحمل، فالحمل هاهنا لا يكون كالعتق؛ فإن الوطء يكون رضى، والحمل جاء من الوطء وبالله التوفيق، وسيأتي في سماع أبي زيد إذا باعها المعتق فنتكلم على ذلك إن شاء الله,، وبالله التوفيق.(15/131)
[مسألة: ابن لرجل وأجنبي اشتريا أب أحدهما فأعتقاه]
مسألة وسئل عن ابن لرجل وأجنبي اشتريا أب أحدهما فأعتقاه، ثم مات الأب وترك موالي فمات بعض الموالي، فقال: ولاؤهم للابن دون الأب ما دام حيا. قال أصبغ: لأن النسب قائم ولا ولاء مع النسب، وولد الابن فيهم بمثابة أبيهم لو كان حيا حتى ينقطع النسب فيصير الولاء نصفين بين الأجنبي وعصبة الابن يوم يموت الموالي ويرجع الولاء إلى غير ولد ولا نسب.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن مات من موالي الأب إن ميراثهم لابنه ولابن ابنه على ما قاله أصبغ يريد ولجميع عصبته أيضا الأقرب فالأقرب فالأقرب دون الآخر يريد دون الأجنبي الذي أعتق نصف الأب صحيح على ما قاله؛ لأن ولد الرجل ولد ولده وسائر عصبته الأقرب فالأقرب بميراث مواليه ممن أعتقه هو إذ لا ينتقل الولاء إلى مولى المولى حتى لا يكون للمولى ولد ولا عصبة، فإذا لم يكن له ولد ولا عصبة رجع الولاء إلى مولاه الذي أعتقه.
فقوله: إذا انقطع النسب إن الولاء يصير نصفين بين الأجنبي وعصبة الابن يريد أن ميراثه يكون نصفه للأجنبي الذي أعتق في حق الأب والنصف الآخر لعصبة الابن الذي أعتق النصف الآخر، يعني مواليه إن كان مولى، وإن لم يكن مولى فهو لجماعة المسلمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: المكاتب بين الرجلين فيموت أحدهما]
مسألة وسئل عن المكاتب بين الرجلين فيموت أحدهما فيوصي بعتق نصيبه وأن يستتم عتق نصيب صاحبه، قال: ليس ذلك له أن ينتقل عن صاحبه ولاء قد صار له وثبت له.
قيل له: فإن رضي صاحبه أن يجيز له ما صنع؟ قال: لا يجوز(15/132)
على حال، قال أصبغ: مثله حتى يعجز فيعتق على الميت في ثلثه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الكتابة من العقود اللازمة، وهي تثبت الولاء، فليس لأحد الشريكين أن يوصي بعتق نصيب صاحبه فينقل الولاء عنه إلى نفسه، ولا يجوز ذلك وإن رضي به شريكه لما جاء من النهي عن بيع الولاء وهبته إلا أن يعجز كما قال أصبغ: فيعتق على الميت في ثلثه بما أوصى له به، قيل: إذا رضي الشريك بذلك، وقيل: رضي أم لم يرض، وقد مضى الاختلاف في هذا وتوجيهه في رسم العتق من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين اثنين يستأذن العبد أحد مواليه بأن يعتق عبدا له]
مسألة قال ابن القاسم في عبد بين اثنين يستأذن العبد أحد مواليه بأن يعتق عبدا له فأذن له وكتم مولاه الآخر ذلك حتى أعتقاه جميعا لمن يكون ولاء العبد الذي أعتقه العبد؟ قال: للعبد الذي أعتقه وليس للذي أذن له أن يعتق عبده من ولائه شيء؛ لأنه لو أراد أيضا أن يأخذ من ماله شيئا لم يكن له ذلك إلا أن يأذنا له جميعا فيكون الولاء لهما دون العبد وإن عتق.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إذ لا يجوز إذن أحدهما في ذلك له دون صاحبه من أجل أنه ليس له أن ينتزع ماله، فإذنه كلا إذن، فوجب أن يرجع إليه الولاء إذا أعتق، وقد مضى في رسم سن من سماع ابن القاسم ما فيه بيان هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد عليه أنه كان يقر أن ولاءه لبني فلان]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه أنه كان يقر أن ولاءه لبني فلان مثل بني زهرة أو بني تميم أو ما أشبه ذلك:(15/133)
لا يكون لأحد من هؤلاء من ولائه قليل ولا كثير إذا سمى الفخذ هكذا بعينه حتى يبين لمن هو منهم خاصة؟ وإلا فليس لأحد منهم قليل ولا كثير. وقال أصبغ: حتى يسمي القوم بأعيانهم أو بني الأب بعينه عند الأب الجامع.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الولاء كالنسب، فلو ثبت لرجل أنه من بني تميم أو من بني زهر بن كلاب ولم يعرف من عصبته بأعيانهم معرفة قعددهم منه وحيث يلتقون معه من الآباء كان ميراثه لجماعة المسلمين، ولم يكن لواحد منهم للجهل بقعدده منه، وبالله التوفيق.
[: قال لعبده أنت حر قبل موتي بخمس سنين]
ومن كتاب الوصايا الصغير قال أصبغ: سئل عن رجل قال لعبده: أنت حر قبل موتي بخمس سنين.
قال: لا يعتق حتى يموت، فإذا مات عتق في الثلث، ولو قال لعبده أنت حر قبل موتك بخمس سنين قال: لا حرية له أصلا.
قال محمد بن رشد هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[: أعتق شركا له في عبد]
من سماع أبي زيد بن
أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد ابن أبي الغمر: سئل ابن القاسم عن رجل أعتق شركا له في عبد، فلما أرادوا أن يقوموه عليه قال: إنه آبق سارق(15/134)
وشريكي يعلم ذلك منه، وليس له بينة فاستحلفوه.
قال: أرى أن يقوم على أنه لا عيب فيه إلا أن يأتي المعتق ببينة، ولا أرى على الشريك يمينا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت والكلام عليها في رسم العتق من سماع أشهب فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال غلامي ميمون حر إن بعته]
مسألة وقال في رجل قال: غلامي ميمون حر إن بعته ومرزوق غلام فلان حر إن اشتريته أبدا، فباع ميمونا بمرزوق الذي حلف بعتقه أن لا يشتريه قال: يعتقان عليه جميعا.
قال محمد بن رشد: زاد ابن المواز في هذه المسألة، وعليه قيمة العبد الذي ابتاع وبزيادة تتم، وذلك أن البائع لمرزوق لما باعه من الذي حلف بحريته إن اشتراه عتق على المشتري بنفس الشراء، ولما كان بيعه إياه منه بالعبد الذي كان حلف البائع بحريته إن باعه لم يصح له ملكه لوجوب عتقه على البائع، فصار كمن باع عبده بعبد فأعتق المشتري العبد الذي اشتراه واستحق من يد البائع العبد الذي باعه بحرية، فوجب للبائع أن يرجع على المبتاع بقيمة العبد الذي باعه منه لفواته عنده بالحرية.
وهذا التوجيه إن كان البائع لمرزوق لم يعلم بيمين المبتاع له، وأما إن علم بيمينه فوجه وجوب القيمة له فيه هو أنه لما باعه منه وقد علم أنهما يعتقان جميعا على المبتاع له بنفس الابتياع، وأنه لا يأخذ في عبده إلا قيمته صار كأنه باعه منه بقيمته وهو بيع فاسد فات بالعتق فوجبت له فيه القيمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال غلامي ميمون حر إن لم أفعل]
مسألة وقال في رجل قال: غلامي ميمون حر أو مرزوق إن لم أفعل(15/135)
كذا وكذا ثم يموت قبل أن يفعله، قال: يسهم بينهما ثم يعتق من وقع السهم عليه إذا حمله الثلث، ولا يقوموا ولا يبالي من وقع عليه العتق على من كان أرفعهم أو أخفضهم إذا حمله الثلث.
قال محمد بن رشد: لما كان الحنث في أحد العبدين لا يجب إلا بالموت أشبه الوصية بعتق أحدهما، فوجب أن يسهم بينهما فيعتق من خرج السهم منهما عليه، كان أرفعهم أو أخفضهم كما قال؛ لأن الميت إنما أراد عتق واحد منهما، وقد قيل: إنه يعتق نصف قيمتهما بالسهم، وهو الذي يأتي على ما حكاه سحنون عن مالك في سماع محمد بن خالد، ولا يقال في هذه المسألة: إن العتق يجري فيهما، فيعتق من كل واحد منهما نصفه إن حمله الثلث على قياس قول ابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى؛ لأن ذلك عتق كان أصله في الصحة، والسنة قد جاءت بالقرعة في العتق عند الموت إلا على من يرى القرعة أصلا كمذهب أهل العراق وهو قول المغيرة، فيقول إن العتق يجري فيهما ولا يسهم بينهما، وأما تخيير الورثة في هذه المسألة فلا يقال به فيها، والله الموفق.
[مسألة: قالت لجارية لها إن ولدت غلاما فأنت حرة فولدت غلاما ميتا]
مسألة وقال في امرأة قالت لجارية لها: إن ولدت غلاما فأنت حرة شكرا لله، فولدت غلاما ميتا قال: تعتق.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنها إنما قالت إن ولدت غلاما ولم تقل حيا ولا ميتا، فوجب أن يحمل قولها على عمومه، ومن جهة المعنى أيضا لا فرق بين أن تلده ميتا أو حيا فيموت قبل أن يبلغ مبلغ الانتفاع به، وقد خلصت في الوجهين جميعا مما خشته من أن تضع جارية لكراهيتها لها، والله أعلم، وتعتق عليها بالحكم؛ لأنها يمين وإن خرجت مخرج النذور، ولو قالت: لله علي أن أعتقك إن ولدت غلاما لم يحكم عليها بعتقها على مذهب ابن(15/136)
القاسم خلافا لقول أشهب، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن في الحكم عليها تفويتا بالوفاء بالنذر، إذ لا يكون الوفاء دون نية، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق أم ولده على أن أسلمت له ولده الصغير منها]
مسألة وقال في رجل أعتق أم ولده على أن أسلمت له ولده الصغير منها يكون عنده: إنه يرد إليها، وليس ذلك بمنزلة الحرة يصالحها على أن تسلمهم إليه، فذلك جائز، ولا يرجعون إليها.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم أن ذلك يلزمها بمنزلة الحرة، حكى ابن المواز عنه القولين جميعا، وقد تكررت هذه المسألة في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك، وقلنا فيها هنالك: إن الأصل في هذا الاختلاف هو أنه لما أعتقها على أن أسلمت إليه ولده منها حصل إسقاطها لما يجب لها من حضانة ولدها في حال العتق معا، فمرة رأى الإسقاط مقدما على العتق فلم يلزمها إياه إذ لم تلتزمه إلا في حال رقها وفي حال لا تملك نفسها، ويقدر السيد فيه على إكراهها، فصارت في حكم المغلوبة على ذلك، ومرة رأى العتق مقدما على الإسقاط فألزمها إياه؛ إذ لم تلتزمه إلا في حال حريتها بعد عتقها، فأشبهت الحرة يصالحها على أن تسقط حقها في حضانة ولدها، والأظهر من جهة القياس أن ذلك لا يلزمها لأنهما إذا وقعا معا فقد وقع كل واحد منهما قبل كمال صاحبه، وعلى هذا الأصل وقع الاختلاف في الرجل يعتق أمته على أن تتزوجه بكذا وكذا، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، والأظهر من جهة المعنى أن ذلك يلزمها؛ لأنها اختارت عتقها على حضانة ولدها كما اختارت الزوجة نفسها على ذلك، فوجب أن يستويا، وبالله التوفيق.
[مسألة: ترك غلامين أختلف في عتقهما]
مسألة قال في رجل توفي وترك غلامين، يقال لهما: ميمون وسلام،(15/137)
فشهد رجلان عدلان أن أباه الميت قد أعتق ميمونا في صحته منه، وقال الابن: لا، بل سلام الذي أعتق في مرضه.
قال ابن القاسم: يقال للابن: أنت تقول إنما شهد الشاهدان بزور، وأن المعتق إنما هو سلام، فانظر إلى قيمة ميمون وإلى ثلث ما ترك الميت فإن كان سلام يحمله الثلث مع قيمة الغلام الآخر فسلام حر، وخرج ميمون بالشهادة حرا، وإن لم يحمله ثلث ذلك فما حمل الثلث منه عتق وخرج الآخر حرا.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن سلاما يعتق إن حمله الثلث مع قيمة الغلام الآخر مثل قوله في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الوصايا وخلاف قوله في رسم العتق من سماع عيسى من هذا الكتاب على ما فسره عيسى بن دينار من أنه يعتق إن حمله الثلث دون الآخر، وقد مضى تمام القول على هذا هنالك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ليفعلن فعلا ولم يضرب له أجلا]
مسألة وقال في رجل قال في أخ له: إن لم يصنع لنا فجاريته حرة، فأقام أشهرا يماطله، ثم صنع له بعد أشهر، فقال: أخاف أن يحنث، قال: وأراه قد حنث.
قال محمد بن رشد: خشي عليه الحنث أولا ولم يحققه عليه، ثم حققه عليه بقوله: وأراه قد حنث، وإيجابه الحنث عليه وإن كان قد صنع من أجل أنه أخره ولم يعجله يقتضي ظاهره أنه حمل يمينه على التعجيل حتى يريد التأخير، وهو خلاف المشهور في المذهب من أن من حلف ليفعلن فعلا ولم يضرب له أجلا لا يحنث إلا بالموت إذا كان يمكنه فعل ما حلف ليفعلنه طول حياته، فإن كانت يمينه بعتق أو بما فيه كفارة لزمه ذلك في ثلثه، وإن كانت(15/138)
بطلاق لم يكن عليه شيء؛ إذ لا يقع الطلاق على أحد بعد موته، وأما إذا فاته في حياته فعل ما حلف ليفعلنه مثل أن يحلف ليضربن عبده أو ليذبحن شاة فيموت العبد قبل أن يضربه أو الشاة قبل أن يذبحها فيحنث بالتفريط إن كان قد حيى أو حييت قدر ما لو أراد أن يضربه أو يذبحها أمكن ذلك.
والاختلاف في هذا جارٍ على اختلاف أهل الأصول في الأمر بالشيء هل يقتضي الفور أم لا؟ وعلى هذا اختلفوا في الحج هل هو على الفور أو على التراخي، وقد قال أبو بكر بن محمد في هذه المسألة: لا شيء عليه؛ لأنه لم يضرب أجلا فجاوزه دون أن يفعل ما حلف عليه، وقال أبو محمد: إنما عني أبو بكر إذا لم ينو الاستعجال، وابن القاسم خاف عليه أن يكون نوى الاستعجال فلذلك أحنثه، ولا اختلاف إذا كانت له نية في التعجيل أو التأخير، وإنما الاختلاف إذا عريت يمينه من النية على ما تحمل؟ والمشهور في المذهب ما ذكرناه من أنها تحمل على التأخير فلا يحنث إلا بالموت أو بفوات الفعل، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لعبده إن فارقت غريمي فأنت حر ففارقه]
مسألة وقال في رجل قال لعبده: إن فارقت غريمي فأنت حر، ففارقه قال: قد كان لا يراه عتيقا، ثم عرضته عليه مخليا وما بقي أحد فأمرني بمحوه ورآه حرا، قال: وكذلك من قال لعبده أنت حر إن دخلت دار فلان فدخلها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم لم يدرك من سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: اليمين لا يلحق إلا بتحقيق الدعوى]
مسألة وقال في رجل كان جالسا في ملإ فمر به غلام له، فقال له(15/139)
بعض القوم: ما اسم غلامك هذا؟ فقال حر، وليس اسمه حرا، قال: هو كاذب وليس عليه شيء.
قلت: فهل عليه يمين أنه لم يرد بقوله عتقا؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يمين عليه هو على القياس بأن اليمين لا يلحق إلا بتحقيق الدعوى، وقد مضى الكلام على هذا المعنى مستوفا في رسم لم يدرك ورسم الرهون من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: جارية بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه]
مسألة وقال ابن القاسم في جارية بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه ثم إن معتق النصف باعها من رجل فوطئها فحملت منه، قال: يرجع الذي حملت منه بالثمن على من اشترى منه، ويرجع المتمسك بالرق على الذي أحبلها بنصف الثمن فقط.
قال محمد بن رشد: قوله: ويرجع المتمسك بالرق على الذي أحبلها بنصف الثمن فقط كلام فيه نظر، وإنما الواجب أن يرجع عليه بقيمة نصفها فغلب حرية نصفها الآخر. إما يوم أحبلها ولا يكون عليه شيء من قيمة ولدها، وإما يوم الحكم عليه بذلك مع نصف قيمة ولدها على اختلاف قول مالك في ذلك؛ لأنه مستحق لذلك النصف من يد مشتر قد أولده، فيجري الحكم فيه على اختلاف قوله فيمن استحق أمته من يد مشتر بعد أن أولدها، ويكون من حقه أن يرجع على الشريك المعتق لحصته منها بما انتقصه من قيمة نصفها بسبب حرية النصف الآخر؛ لأنه كان من حقه أن يقومها عليه كلها على أنها أمة لا عتق فيها، فيأخذ منه نصف قيمتها على المشهور في المذهب، وهو ظاهر الحديث، وقد قيل: إن المعتق لحظه من العبد لا يلزمه لشريكه إلا قيمة حظه بعيب الحرية يقوم ذلك من قول ابن القاسم في كتاب الجنايات من المدونة ومن قول غيره في كتاب أمهات الأولاد منها، فعلى هذا القول لا يكون(15/140)
له رجوع إلا أن يكون بين الوقتين اختلاف في القيمة وعلى القول بأن لمستلحق الجارية وقد ولدت أن يأخذها وقيمة ولدها يكون للمتمسك بالرق أن يأخذ حظه منها ونصف قيمة ولدها، فيقوم على المعتق لحظه منها ويكون لها ولاء جميعها، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وقد رأيت لابن دحون فيها كلاما مختلا لا يصح، قال: إنما رجع على المشتري بنصف الثمن لأنه هو أفاتها وقد كانت القيمة تلزم المعتق إلا أنه لما باعها أفاتها الذي أحبلها، فسقطت عنه القيمة ورجعت على الذي أحبلها، والأموال تضمن بالعمد والخطأ، وتعتق الجارية إذ لا منفعة فيها للذي أحبلها؛ لأن نصفها حر ونصفها أم ولد، ولا شيء عليه في الولد لأنه غير غاصب ولا متعدي، هذا نص قوله، وقد مضى من قولنا ما يدل على خطائه فيه في غير ما موضع منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بعتق جارية له ليبيعنها]
مسألة وقال في رجل حلف بعتق جارية له ليبيعنها فولدت له أولادا أو فرط في بيعها ثم باعها أترى عليه بيع ولدها؟ قال: إذا باعها فقد بر في ولدها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إذ لم يحلف على بيع ولدها، وإنما حلف على بيعها فإذا بر فيها ببيعها لم يكن عليه في ولدها شيء، وإن لم يبعها حتى مات عتقت في ثلثه وعتق ولدها فيه أيضا على الاختلاف الذي قد مضى في غير ما موضع من هذا الكتاب وغيره، ومد مضى تحصيله في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: قيد عبده وقال أنت حر إن نزعت هذا القيد]
مسألة وقال في رجل قيد عبده وقال: أنت حر إن نزعت هذا القيد عن رجلك أبدا حتى تحفر لي مرحاضا طوله كذا وكذا، قال: ينظر(15/141)
السلطان فإن كان شيئا لا يستطيع رجل أن يحفره رأيت أن يترك؛ لأنه لا يترك وذلك، قيل له: أفيترك في القيد؟ قال: إن كان لا يقوى على ما حلف عليه عتق وحل عنه.
قال محمد بن رشد: قوله إن كان لا يقوى على ما حلف عليه عتق وحل عنه القيد يدل على أنه إن كان يقوى على حفره وهو مقيد على حاله ترك مقيدا حتى يحفره، ولم يعتق عليه، وهذا إن كان لتقييده إياه وجه من أنه يخشى إباقه وأنه إنما قيده أدبا له على شيء صنعه.
وأما إن كان قيده لغير سبب وحلف أن لا يحله منه حتى يحفر له ما حلف عليه لوجب أن يطلق عليه إلا أن يكون القيد خفيفا لا مشقة- عليه فيه، فقد قيل إن الرجل إذا حلف بحرية عبده أن يضربه الأسواط اليسيرة على غير سبب يمكن من ذلك ولا يعتق عليه، قال ذلك ابن أبي زيد، وهو ظاهر ما في الواضحة في الزوجة وهو بعيد، فلا يجب أن يحمل ذلك على ظاهرة، وإنما يتأول على أنه يصدق في أنه قد أذنب ما يستوجب ذلك الضرب اليسير، وقد مضى هذا المعنى مجودا في رسم العتق من سماع أشهب من هذا الكتاب، وفي أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين رجل وامرأته أعتق كلا منهما نصيبه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن عبد بين رجل وامرأته فقال الزوج: نصيبي منك حر إذا ماتت امرأتي، وقالت المرأة: نصيبي منك حر إذا مات زوجي. قال: إذا مات الزوج عتق نصيب امرأته من رأس ماله ولا يلحقه دين كان بعد، ويبدأ على الوصايا وخدم ورثة الزوج أبدا حتى تموت المرأة، فإذا ماتت المرأة خرج حرا كله من رأس المال ولا يلحقه دين كان بعد ويبدأ على الوصايا.(15/142)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بالطلاق أو بالحرية ليضربن غلامه مائتي سوط]
مسألة قال ابن القاسم في الرجل يحلف بالطلاق أو بالحرية ليضربن غلامه مائتي سوط أو ثلاثمائة فضربه ضربا ينهكه ويبلغه هل يعتق عليه؟ قال: لا أرى أن يعتق عليه إلا أن يكون قد بلغ به الضرب أمرا يكون فيه مثلة شديدة من الأثر، فإن كان الضرب قد بلغ به من ذهاب لحمه حتى صار مثلة، قال: ورب ضرب يذهب اللحم حتى يبلغ العظم فيصير جلدا على عظم يتآكل، فإن بلغ منه هذا حتى يصير مثلة بينة عند الناس رأيته مثل قطع الأصابع وما أشبهه ورأيت أن يعتق عليه وإلا فلا شيء عليه، ولو رفع مثل هذا إلى السلطان قبل أن يضرب الضرب الذي يعلم أنه إن ضربه إياه خيف على العبد منه رأيت أن يعتق عليه وتطلق عليه امرأته، ولا يمكن من ضربه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: لأنه إذا أثر الضرب بجسده هذا التأثير فهو تمثيل به وإن لم يقطع جارحة من جوارحه قياسا على الحرق بالنار الذي جاء فيه الأثر: قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من مثل بعبده أو أحرقه بالنار فهو حر» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لجاريته أنت حرة إن لم أبعك]
مسألة وقال في رجل قال لجاريته: أنت حرة إن لم أبعك ولو بوضيعة عشرة دنانير، فلم يعط إلا وضيعة خمسة عشر دينارا قال: لا يحنث ويطأها وإن مات لم تعتق في ثلث ولا غيره، ويتعرض بها الأسواق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها في رسم(15/143)
يوصي لمكاتبه من سماع عيسى من هذا الكتاب وفي رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الإيالة فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الجارية فتوضع للاستبراء فيعتقها المشتري]
مسألة وقال في رجل اشترى أمة فوضعت للاستبراء فحلف بعتقها لرجل ليقضينه حقه فحنث، ثم ظهر بالجارية حمل ليس هو من البائع، قال: يردها بالحمل ويأخذ الثمن ولا عتق عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قال بعض الناس فيها: إنها مسألة حائلة لابن القاسم ليست على أصله في أن للمشتري أن يسقط المواضعة عن البائع ويقبلها بعيب الحمل إن ظهر بها إذا لم يقع على ذلك، خلاف ما ذهب إليه سحنون من أن ذلك لا يجوز له لأنه يتهم في إسقاط الضمان عن البائع وتعجيل النقد على أن يتعجل الانتفاع بالجارية قال: ورواية محمد بن خالد عنه في كتاب الاستبراء يردها، وذلك أنه قال فيها في الرجل يشتري الجارية فتوضع للاستبراء فيعتقها المشتري وهي في المواضعة من قبل أن تستبرأ: إن عتقه يمضي ولا يكون له أن يردها وإن ظهر بها حمل إذا كان بائعها لا يدعي حملها؛ لأنه قد قطع ذلك عن نفسه بعتقه إياها ورضي بذلك، وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأنه إذا بتل عتقها فقد رضي بعيب الحمل إن ظهر وأسقط التبعة فيه عن البائع بقصده إلى تفويتها بالعتق، والحالف أن يقضي غريمه حقه ليس بقاصد إلى تبتيل العتق باليمين، وإنما قصد به إلى التخلص من غريمه فلا يحمل عليه إن رضي بعيب الحمل إن ظهر إذ لم يرد إلا البر بالقضاء، ولعله غلب على الحنث بالعجز عن القضاء، فوقع الحنث بغير اختياره، وهذا فرق بين بين المسألتين، فلا يحمل على ابن القاسم التناقض والاضطراب في ذلك، ويأتي على ما ذكرناه من مذهب سحنون أن عتق المشتري فيها في أمد المواضعة لا يلزمه، وأن له أن يردها إن ظهر بها حمل ويبطل العتق، وبالله التوفيق.(15/144)
[مسألة: قال إن تركته يطبخ هذا القدر فأنت حر فوجده قد طبخه]
مسألة وسئل عن رجل أرسل غلامه يستقي له على دابته فأبطأ، ثم أرسل غلاما له آخر فقال له: اذهب فخذ الدابة منه، فإن أبى عليك فاكسر القلل، وأنت حر إن تركته يستقي إن لم أبعك عبدا، فذهب فوجده قد استقى وهو مقبل، فأخذ الدابة منه فلم يمانعه فجاء الغلام بالماء فصب في البيت فقال: لا شيء عليه، أرأيت إن قال: إن تركته يطبخ هذا القدر فأنت حر فوجده قد طبخه أعليه شيء؟ فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه لا شيء عليه إذا لم يدركه قبل أن يستقي وقبل أن يطبخ القدر، ومثله ما مضى في آخر رسم سلف من سماع عيسى من هذا الكتاب، وفي رسم العرية من سماع عيسى من كتاب النذور، وقد مضى الكلام على ذلك في الموضعين، وبينا فيهما أنه لا اختلاف في ذلك، بخلاف الذي يحلف أن لا يبيع السلعة هو وقد باعها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت إن تزوجت فلانا فجاريتها حرة]
مسألة وقال في امرأة قالت: إن تزوجت فلانا فجاريتها حرة فتبيع الجارية ثم تتزوج فترد عليها الجارية بعيب. قال: تحنث، فإن ردت إلى المشتري قيمة العيب وحنثت وإن حبسها المشتري بذلك العيب ورضي لم يكن عليها حنث.
قال محمد بن رشد: أما إذا ردت عليها الجارية بعيب فقوله: إنها تحنث هو على قياس القول بأن الرد بالعيب نقض بيع، ويأتي على قياس القول بأن الرد بالعيب ابتداء بيع أن لا حنث عليها. كما لو اشترتها إلا من وجه(15/145)
أنها تتهم إذا اشترتها من الذي باعتها منه أنها عملت معه على ذلك لتبرأ من الحنث فيكون لذلك وجه إذ قال في. المدونة وغيرها إن من حلف بحرية عبده أن لا يفعل فعلا فباعه ثم اشتراه أو وهب له إن اليمين ترجع عليه ويحنث بحريته إن فعل ذلك الفعل إلا أن يعود إليه بميراث، وقد مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى ما فيه بيان هذا.
وأما قوله إنها إن ردت إلى المشتري قيمة العيب وحنثت فهو بعيد إذ لم تنتقل الجارية بذلك عن ملك المشتري فكيف تحنث البائعة بعتقها وهي في ملك غيرها، ووجه ذلك على ما فيه من البعد أن الرد لما كان قد وجب للمشتري بإقراره له بالعيب ولعله قد دلس له به كان إذا أخذ منه قيمة العيب كأنه قد ردها إليه ثم اشتراها منه ثانية بما بقي من الثمن بعد قيمة العيب، وبالله التوفيق.
[مسألة: مفلسا ورث أباه أو وهب له ماذا يكون للغرماء فيه]
مسألة قال أبو زيد: قيل لابن القاسم أرأيت لو أن مفلسا ورث أباه أو وهب له ماذا يكون للغرماء فيه؟ قال: إن ورثه لم يعتق عليه إذا كان الدين يحيط بماله، وكان الدين أولى به لأنه كشيء أفاده.
وأما ما وهب له فإنه يعتق عليه وليس لأهل الدين فيه شيء؛ لأنه لم يوهب له ليأخذه أهل الدين، وإنما أراد حين وهب له أن يعتقه، فإذا أخذه أهل الدين كان قد أضر به.
قال محمد بن رشد: أشهب يقول: إن العتق أولى به في الميراث كالهبة، وبه قال محمد بن المواز، ولا وجه للتفرقة بينهما، واعتلاله لوجوب عتقه في الهبة بأن الواهب لم يهبه إلا ليعتق لا ليأخذه أهل الدين اعتلال ضعيف، إذ لا يدري لعل الواهب إنما أراد رفق الموهوب له ليؤدي عنه ديونه من ثمنه، ولعله ممن يجهل أنه يعتق عليه، فلا يصح في المسألة إلا قولان،(15/146)
أحدهما: أنه يعتق في الوجهين على قياس القول بأنه لا يتقرر له عليه ملك وهو حر بنفس الشراء، والثاني: أنه لا يعتق عليه في الوجهين ويباع فيما عليه من الدين على قياس القول بأنه باق على ملكه حتى يعتقه أو يعتق عليه على ظاهر ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» وقد مضت هذه المسألة متكررة والقول عليها مستوفى في سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس، وذكرنا هناك ما يختلف فيه من المسائل على هذين الأصلين فلا معنى لإعادته.
[: تزوج أمة فولدت غلاما فكبر الغلام ثم مات أبوه]
ومن كتاب النسمة قال ابن القاسم في رجل تزوج أمة فولدت غلاما، فكبر الغلام ثم مات أبوه فتزوج ابنه هذا حرة فولدت له ولدا بعد وفاة الجد والأب المملوك حي قال: ولاؤه لموالي أمه ولا يجر الجد المتوفى ولاء ولده الذين ولدوا بعد موته إنما يجر ما كان حيا قال: ولو توفي الجد وأمه حامل جر ولاءه، وكان ولاءه لموالي الجد إذا حملت به قبل وفاة الجد، قال: والأب المملوك ها هنا لا يحجب ولا يضره وهو بمنزلة الميت والكافر.
قال محمد بن رشد: هذا الرسم بجملته من سماع عيسى هو في آخر سماعه، وقد مضى الكلام عليه في موضعه مستوفى، وتكرر ها هنا في بعض الكتب فلا معنى لإعادة الكلام عليه.(15/147)
[مسألة: العبد بين الرجلين يحلف أحدهما بحريته أن يضربه والآخر أن لا يضربه]
مسألة قيل لابن القاسم: أرأيت العبد بين الرجلين يحلف أحدهما بحريته أن يضربه، ويحلف الآخر بحريته أن لا يضربه، من يحنث منهما؟ قال ابن القاسم: ينظر في ذلك، فمن حلف منهما على الظلم والتعدي حنث وأعتق عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأن العبد بين الشريكين ليس لأحدهما أن يؤدبه إذا أبى ذلك عليه شريكه إلا بالسلطان، كما إذا كان بعضه حرا حسبما مضى في رسم البز من سماع ابن القاسم، فإذا حلف أحد الشريكين أن يضربه وحلف الآخر أن لا يضربه وجب أن ينظر السلطان في ذلك كما قال بأن يوقفه على المعنى الذي حلف أن يضربه من أجله، فإن كان مما لا يستوجب به الضرب أعتقه عليه وأغرمه نصف قيمته لشريكه، وإن كان مما يستوجب به الضرب وأقام بذلك بينة لا مدفع لشريكه فيها إذا كان منكرا أمكنه من البر فيه بضربه، وعتق العبد على شريكه على قوله في هذه الرواية، ورأيته عن مالك في رسم سلعة سماها ورسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق ودليل ما في كتاب التخيير والتمليك من المدونة من أن من حلف أن لا يفعل فعلا يحنث إذا قضى به عليه السلطان إلا أن يقول لم أرد مغالبة السلطان فينوى في ذلك مع يمينه على ما قاله في آخر رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق أيضا، ولا يعتق عليه على مذهب ابن الماجشون في أن من حلف أن لا يفعل فعلا فقضى به عليه السلطان لا يحنث إلا أن يقول ولا بالسلطان أو يحلف بحضرته فيتيقن بذلك إنه أراد مغالبته، وبالله التوفيق.
تم الكتاب الرابع من العتق بحمد الله تعالى(15/148)
[: كتاب المدبر]
[: دبر عبده واشترط ماله من بعد موته بغير موت السيد]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
كتاب المدبر
من سماع ابن القاسم من كتاب قطع الشجر أخبرني محمد بن عمر ابن لبابة قال: أخبرني العتبي قال: أخبرنا سحنون قال أخبرنا ابن القاسم عن مالك أنه قال: من دبر عبده واشترط ماله من بعد موته بغير موت السيد كان جائزا له.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، ومثله في سماع أصبغ عن ابن القاسم في رسم المدبر منه، قال: وهذا مما لا شك فيه، وإنما هو رجل أوصى فقال: إذا مت فعبدي حر خذوا منه ماله، ألا ترى لو أن مريضا قال في مرضه: غلامي مدبر وخذوا منه ماله أخذ منه فما استثنى في الصحة بمنزلة ما استثنى في المرض، قال: فإذا مات السيد قوم في الثلث بغير ما له ببدنه خالصا، وأخذ منه ما كان بيده فكان مالا من مال الميت يقوم فيه رقبته مع غيره من مال الميت، وقاله أصبغ، وفي المدنية لابن كنانة خلاف ذلك، قال: سئل ابن كنانة عن الرجل يدبر عبده ويستثني ماله، فقال: ليس ذلك من عمل الناس ولا مما يعرف في أمر المدبر ولا مما جاءت السنة فيه، وليس ذلك له، ويتبعه ماله كما جاءت السنة فيه، قال ابن كنانة: ومما يبين لك ذلك لو أن رجلا قال في مرضه: غلامي مدبر وخذوا منه ماله لم يؤخذ منه فهذا بين، والحجة فيه قوله؛ لأن ما استثنى في الصحة بمنزلة ما استثنى في المرض، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك في هذه المسألة هو الصحيح في(15/149)
النظر؛ لأنه إذا جاز أن يعتق الرجل عبده ويستثني ماله جاز أن يوصي بذلك وأن يدبره على ذلك، ولا يلزم ابن القاسم ما احتج به ابن كنانة من قياس امتناع جواز ذلك في الصحة على امتناعه في المرض؛ لأن جواز ذلك عنده أبين في المرض منه في الصحة، وقد استدل ابن القاسم على جوازه في الصحة بجوازه في المرض، فبان بذلك ضعف قول ابن كنانة وبطلان حجته على ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: انتزع أم ولد مدبره ثم ردها إليه]
مسألة وقال مالك فيمن انتزع أم ولد مدبره ثم ردها إليه فهي على حالها الأول عنده.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر؛ لأن قوله إنما يرجع عنده إذا ردها إليه على حالها الأول معناه على حالها الأول من حرمة إيلاده لها الذي يوجب لها أن تكون به أم ولد إذا أعتق وهي عنده، وقد اختلف في ذلك قول مالك فقال مرة: إنها تكون أم ولده إذا أمضى إلى الحرية بما ولدته في التدبير، وقال مرة: إنها لا تكون بذلك أم ولد حتى يولدها بعد أن أعتق، فكان القياس إذا انتزعها منه ثم ردها إليه أن ترجع إليه رقيقا، وتبطل الحرمة التي كان لها بإيلاده إياها على أحد قولي مالك كما لو باعها بعد أن أولدها ثم اشتراها، ويحتمل أن يكون تكلم في هذه الرواية على القول بأنه لا حرمة لها بإيلاده إياها في حال التدبير حتى يولدها ثانية بعد أن أمضى إلى الحرية، فيكون قوله صحيحا لا اعتراض فيه؛ لأنها على هذا القول أمة له لا حرمة لها بإيلاده إياها قبل أن ينتزعها فكذلك تكون بعد أن ردها إليه، وبالله التوفيق.
[: دبر رقيقا له في صحة أو في مرض]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن القاسم: قال مالك: من دبر رقيقا له في صحة أو في(15/150)
مرض فدبر بعضهم قبل بعض وعليه دين، بيع الآخر فالآخر في الدين، فإذا استوعب الدين رجع إلى الأول فالأول فعتق ما حمل الثلث ورق ما بقي.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن المدبر في الصحة أو في المرض يبدأ في الثلث الأول منهم فالأول، وإذا بدئ الأول فالأول وجب على قياس ذلك أن يباع الآخر فالآخر في الدين على ما قال في هذه الرواية.
وسحنون يقول: إن التدبير في الصحة وإن كان شيئا بعد شيء فهو بمنزلة ما لو دبرهم في كلمة واحدة؛ لأن له أن يعتق بعد تدبيره ويهب ويتصدق ولا يمنع ولا يقال له: أدخلت الضرر على المدبر، وأما إذا كان التدبير في كلمة واحدة في الصحة أو في المرض أو في الوصية بعد الموت فلا يبدأ أحد منهم على صاحبه ولا يسهم بينهم، وإنما يعتق من كل واحد منهم ما حمل الثلث من جميعهم، وكذلك إن كان عليه دين يباع من كل واحد منهم بالحصص ما نابه من الدين، اتفقت قيمتهم أو اختلفت، مثال ذلك أن يكون له ثلاثة مدبرون في كلمة واحدة قيمة أحدهم مائة، والثاني مائتان، والثالث ثلاثمائة وعليه دين مائة، فيباع من كل واحد منهم سدسه، وكذلك إن كانت قيمتهم سواء مائتان مائتان وعليه دين مائة يباع من كل واحد منهم سدسه، ولو كانت قيمة كل واحد منهم مائة مائة وعليه دين مائة لبيع من كل واحد منهم ثلثه، بخلاف الموصى بعتقهم والمبتلين في المرض، هؤلاء يقرع بينهم فيمن يباع منهم في الدين وفيمن يعتق منهم بعد الدين على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، ولابن نافع في المدنية أنه يقرع بين المدبرين كما يقرع بين الموصى بعتقهم وبين المبتلين، وقد مضى هذا في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب العتق، وبالله التوفيق.(15/151)
[مسألة: المرأة ذات الزوج تدبر ثلث جاريتها]
مسألة وسئل مالك عن المرأة ذات الزوج تدبر ثلث جاريتها، قال: يلزم ذلك، قال: وأراه أراد التدبير كله، مثل الرجل تدبر عليه كلها. قال ابن القاسم: وأرى أن تدبر عليها كلها، قال ابن القاسم: لأن عندنا من قول مالك في المرأة ذات الزوج تدبر جاريتها كلها وليس لها مال غيرها فيرد ذلك زوجها قال: ليس ذلك له، هي مدبرة كلها على حالها، قال ابن القاسم: وإنما فرق بين التدبير كله من المرأة ذات الزوج والعتق؛ لأن التدبير لا يخرج من يدها شيئا وهو موقوف معها حتى يخرج من ثلثها، فليس لزوجها في ذلك حجة، إنما هي وصية، والعتق يخرج ذلك من يديها، فهذا فرق ما بينهما، وهو وجه ما سمعت لم يروه سحنون وكرهه ورآه خطا لا شك فيه، وقاله مطرف، وأباه ابن الماجشون.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك مثل قول ابن الماجشون وسحنون ها هنا، وفي كتاب ابن سحنون أن المرأة ذات الزوج لا يجوز لها أن تدبر جاريتها إذا لم يكن لها مال غيرها إلا بإذن زوجها، قال في كتاب المدنية عبد الرحمن بن دينار: وحدثني محمد بن يحيى السبائي أنه سمع مالكا يقول في امرأة دبرت نصف عبدها ولها زوج وليس لها مال غيره: إنه لا تدبير عليها كله ولا يكون منه مدبرا إلا ما دبرت؛ لأن زوجها يمنعها من ذلك، فإن لم يكن لها زوج كان مدبرا كله، وفي قول مالك في هذه الرواية إنه لا يكون منه مدبرا إلا ما دبرت من أجل الزوج نظر على أصله في أن التدبير كالعتق للزوج أن يرد منه ما زاد على الثلث؛ إذ قال: إنه لم يكن لها مال غيره، فكان القياس على أصله أن لا يكون مدبرا منه إلا الثلث.
ولكلا القولين وجه من النظر، فوجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك(15/152)
في أن لها أن تدبر عبدها وإن لم يكن لها مال سواه أن من حقها أن تمسكه طول حياتها ولا تبيعه، فلا حجة له عليها في تدبيرها إياه، ووجه قول مالك في رواية محمد بن يحيى السبائي عنه وقول ابن الماجشون وسحنون أنها إذا دبرت عبدها ولا مال لها سواه فقد حجرت على نفسها جميع مالها وألزمت ذلك نفسها إلزاما لا رجوع لها فيه، فصار ذلك كالتفويت له، وبالله التوفيق.
[: قال غلامي مدبر عن ابني في وصية أوصى بها]
ومن كتاب المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن رجل قال: غلامي مدبر عن ابني في وصية أوصى بها عند موته وأوصى بوصايا مع ذلك.
قال ذلك جائز. قال ابن القاسم وليس له أن يرجع فيه لأنه أعتقه إلى أجل من الآجال، قال ابن القاسم ولو كانت جارية لم يطأها الأب ولا الابن، قال: وولاؤه للابن الذي دبر عنه.
قال محمد بن رشد: حمل قوله في هذه الرواية لغلامه أنت مدبر عن ابني أنه إنما أراد أنه حر عنه بعد موته فرآه معتقا إلى موت ابنه عنه، كأنه قال عبدي حر إذا مات ابني وجعل له ولاؤه، لقوله عن ابني، فهو حر على هذه الرواية من رأس المال إذا مات ابنه، مات قبله أو بعده، وذلك خلاف ما يأتي في سماع أبي زيد من أنه إنما يعتق بعد موته من ثلثه إلا أن يقول هو حر عن دبر ابني فحينئذ يكون معتقا إلى موت ابنه من رأس ماله، والكلام محتمل للوجهين، فيجب على أصولهم أن يسأل عما أريد من ذلك، فما قال قبل قوله فيه، وإنما يكون هذا الاختلاف إذا سئل فقال لم تكن لي نية ولا أدري ما أردت أو مات قبل أن يسأل، فعلى قول ابن القاسم في هذه الرواية لا يعتق حتى يموت ابنه وعلى رواية أبي زيد إذا مات من ثلثه، وولاؤه على كل القولين للابن، وبالله التوفيق.(15/153)
[: بيع المدبرة]
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان قال ابن القاسم: حدثني مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة ابنة عبد الرحمن عن عائشة أن جارية لها سحرتها وأن سنديا دخل عليها في مرضها، وأنه قال لها: إنك مسحرة قالت: من سحرني؟ قال لها: جارية في حجرها صبي وقد بال عليها، فدعت جاريتها فقالت حتى أغسل بولا في ثوبي فقالت: سحرتني؟ فقالت: نعم، قالت: وما دعاك إلى ذلك؟ قالت: أردت بذلك تعجيل العتق فأمرت أخا لها أن يبيعها من الأعراب ممن يسيء ملكها، فباعها، ثم إن عائشة أريت بعد ذلك في النوم أن اغتسلي من ماء ثلاثة آبار يمر بعضها بعضا، فاستقي لها فاغتسلت فبرئت، قال سحنون: معنى الجارية أنها كانت مدبرة.
قال محمد بن رشد: إنما قال السندي لعائشة إنها سحرت وإن الذي سحرها جارية في حجرها صبي وقد بال من ناحية الكهانة، والكاهن قد يصيب في يسير من كثير بما يلقيه إليه وليه من الجن فيما استرق من السمع فيخلط إليها مائة كذبة على ما جاء من ذلك في الحديث، والله أعلم، وقول سحنون يعني الجارية أنها كانت مدبرة، صحيح، قد قاله مالك في كتاب ابن المواز وكتاب ابن سحنون، وحكى ابن حبيب عن ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر عن ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن أنهما قالا: كانت لعائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جارية مدبرة فاتهمتها بسحر، فقالت: أما والله لأغربنك فيمن لا يرثي لك، فباعتها من الأعراب فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فبعث في طلب الجارية فأعجزته ولم يجدها، فأرسل إلى عائشة فأخذ الثمن منها، فاشترى بها جارية فجعلها مكانها على تدبيرها، وقال مطرف عن مالك: ليس العمل عندنا على حديث عائشة حين باعت مدبرة لها(15/154)
اتهمتها بسحر، وقال سحنون في كتاب ابنه ولا حجة علينا في فعل عائشة من ذلك؛ لأن الحادث الذي فعلت من السحر يوجب قتلها فكيف بيعها؟ ولا يجوز بيعها عند أحد من السلف بغير حادث، وليس قوله في ذلك عندي ببين، وإنما باعتها عائشة لأنها رأت أن تدبيرها قد بطل لما أرادت من استعجال عتقها بقتلها بالسحر الذي سحرتها به، وذلك بين من قولها في الحديث: أردت بذلك تعجيل العتق، فلما أرادت أن تتعجله قبل وقته حرمت إياه كما حرم القاتل عمدا الميراث بما أراد من تعجيله قبل وقته، فهدا وجه ما ذهبت إليه عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ولم يَرَ ذلك عمر فحكم بما رآه باجتهاده إذ كان هو الإمام، ورأى مالك ما قضى به عمر فأخذ به وترك ما ذهبت إليه عائشة، وإليه ذهب أيضا ابن القاسم في رواية أصبغ عنه على ما يأتي له في رسم المدبر من سماعه خلاف قول أصبغ فيه على ما سنبينه إن شاء الله.
[: متهم في اشترائه مال يتيمه]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
من كتاب العتق قال أشهب: وسمعت مالكا يسأل فقيل له: إن عندي يتيما في عيالي وبيني وبينه مملوك، لي ثلاثة أرباعه، وله ربعه، فأردت تدبيره فقال: ما ثمنه؟ أم يسير أم كثير؟ فقال: ما لي علم بثمنه، فقال: إني أحب أن أعلم ما ثمنه، فقال هو وصيف رباعي، فقال: ما أرى لك ذلك، يكون أنت الذي تعمل فيما بينك وبين يتيمك، ولكن لو أتيت السلطان حتى يقيمه بقيمته وينظر فيه لليتيم، فأما أن يكون أنت الذي تعامل نفسك، فلا.(15/155)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه متهم في اشترائه مال يتيمه، فالحظ له أن يأتي السلطان في ذلك حتى يكون هو الذي يحكم فيما بينه وبين يتيمه بما يراه له من السداد في القيمة، وبالله التوفيق.
[: قول الرجل لغلامه أنت مدبر إلى عشر سنين]
من سماع عيسى عن ابن القاسم من كتاب
أوله نقدها نقدها قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن رجل قال لغلامه: أنت مدبر إلى عشر سنين، قال أراه حرا إلى عشر سنين، فإن مات السيد قبل ذلك لم يعتق إلا إلى عشر سنين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله ابن القاسم؛ لأن المعنى في قول الرجل لغلامه أنت مدبر إلى عشر سنين أنت حر إلى عشر سنين، فعبر بلفظ التدبير عن لفظ الحرية إذا كان التدبير سببا لها، وبالله التوفيق.
[: وطئ العبد المدبرة فحملت]
ومن كتاب أوله عبد استأذن سيده قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن عبد استأذن سيده في تدبير جارية له فأذن له فدبرها، قال: لا يمسها السيد ولا العبد لأنها معتقة إلى أجل، وهي تخرج من رأس المال، ولا يلحقها دين وولاؤها للسيد وإن عتق العبد.
قلت: فإن وطئها العبد فحملت؟ قال: توقف هي وولدها حتى يموت العبد فتعتق.
قلت: فإن وطئها السيد فحملت؟ قال: يلحق به الولد(15/156)
وتوقف هي حتى يموت العبد فتعتق أو يموت سيدها قبل موت العبد فتعتق عند موته، ولو قال قائل: إنها تعتق عليه ساعتئذ حملت، لم أعب قوله، ولكني لست أحب أن أحمل عليه في العتق حدا، قال عيسى: تعتق عليه الساعة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة بينة كلها، إذ لا فرق في المعنى بين أن يدبرها العبد بإذن سيده أو ينتزعها منه السيد فيعتقها إلى موت العبد فهي معتقة إلى أجل، وإن وطئها العبد فحملت منه كان ولدها منه بمنزلتها في أنه يعتق بعتقها، ويعذر بالجهل في وطئها فيلحق به ولده منها، وإن وطئها السيد لحق به ولدها أيضا لأن له شبهة في وطئها، إذ هي معتقة إلى أجل، وإذا ألحق به ولدها منها كان لها حكم أم الولد في وجوب العتق لها بموته، فوجب أن تعتق إلى أولهما موتا، هو أو العبد كما قال، ولم ير ابن القاسم أن يعجل لها العتق وإن كان لا يجوز له وطؤها لأن له أن يستمتع من خدمتها طول حياته بما يستمتع به السيد من خدمة أم ولده في الشيء اليسير الذي يشبهها، ولم يراع عيسى ذلك الاستمتاع الذي له من خدمتها ليسارته، فرأى أن يعجل عليه عتقتها، والظالم قد يحمل عليه بعض الحمل.
[مسألة: المدبر يقتل سيده]
مسألة قال: وسألته عن المدبر يقتل سيده قال: إن كان قتله خطأ عتق في ماله ولم يعتق في ديته، وكانت الدية عليه دينا وليس على العاقلة منها شيء لأنه صنع وهو مملوك، وإن كان قتله عمدا قتل به، فإن استحياه الورثة بطل تدبيره وكان عبدا لهم مملوكا.
قال محمد بن رشد: قوله إن كان قتله خطأ تكون الدية عليه دينا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها، قال أصبغ في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب الديات: وهذا إذا حمله الثلث وإن لم يخرج من الثلث عتق(15/157)
منه ما حمل الثلث وكان عليه من الدية بقدر ما عتق منه، يؤخذ من ماله إن كان له مال أو يتبع به دينا إن لم يكن له مال، ولا يدخل فيما يؤخذ منه الدية ولا يعتق فيها منه شيء، وقوله صحيح تذييل لقول ابن القاسم وزيادة عليه. وقوله إنه يبطل تدبيره إن كان قتله عمدا هو على قياس ما أجمعوا عليه من أن القاتل عمدا لا ميراث له ممن قتله، وبالله التوفيق.
[مسألة: مدبرة جرحت رجلا وهي حامل فلما وضعت أسلمها سيدها إلى المجروح]
مسألة وسألت ابن القاسم عن مدبرة جرحت رجلا وهي حامل، فلما وضعت أسلمها سيدها إلى المجروح.
فقال: سيدها فيها بالخيار إن شاء أسلمها بغير ولد تختدم بدية الجرح أسلمها، وإن شاء افتداها بدية الجرح، فإن أسلمها أخدمت أو أجرت، فإن استوفى المجروح من خدمتها أو إجارتها دية الجرح رجعت إلى سيدها على ما كانت عليه من التدبير، وإن لم يستوف المجروح دية جرحه حتى توفي سيدها عتقت هي وولدها إن خرجوا من الثلث، واتبعها المجروح ببقيته دية جرحه دينا عليها، وإن لم تخرج هي وولدها من الثلث ولم يدع سيدها دينا عتق منها ومن ولدها ما خرج من الثلث، ورق ما بقي فيما عتق منها كان عليها من بقية دية الجرح بحسابه إن عتق نصفها كان عليه نصف بقيته دية المجروح، ويخير الورثة فيما رق منها إن كان نصفها أو ثلثها في أن يسلموه إلى المجروح مما يصيبه من بقية دية جرحه أو يفتكوه به، وإن كان الميت ترك دينا بيع منها ومن ولدها مقدار الدين وبيع منها أيضا بقدر دية الجرح، ثم يدفع إلى أهل الدين دينهم، وإلى المجروح بقية دية جرحه وعتق منها ومن ولدها ثلث ما بقي فيها من(15/158)
الرق ومن ولدها، وكان لولدها في هذا الموضع من العاتق أكثر مما لها، وذلك أنه دخلها الرق بما أصابها من الدين وأصاب غيرها من ولدها، ودخلها بالجناية التي جنت. دون ولدها فصارت بذلك أكثر رقا وأقل عتقا وبما رقت الأم وعتق من الولد بعضهم، وذلك إذا أحاط الدين بما ينوبها من دين سيدها ودية الجناية بقيمة رقبتها.
وتفسير ذلك أنه يباع بالدين منها ومن ولدها ثلث كل واحد منهم أو ربعه أو سدسه قدر ما يكون الدين، ثم يعتق ثلث ما بقي من رقبة كل واحد من ولدها، ثم ينظر إليها فيباع منه للجناية بعد الدين، فإن أحاطت الجناية بعد الدين بجميع رقبتها لم يكن لها عتق، ورقت كلها إذا كانت قيمتها كفاف ما حمل عليها من دين سيدها ومن الجناية، وإن كانت الجناية تحيط بجميع رقبتها سوى الدين كانت الجناية أولى برقبتها من الدين، ورجع الغرماء فيقاصوا جميع حقهم من ولدها، ويعتق منهم ثلث ما بقي من رقبة كل واحد بعد الدين ورقت الأمة كلها، وقيل لورثة الميت إن شئتم فافتكوها بالجناية وتكون لكم مملوكة ليس فيها عتق، وإن شئتم فأسلموها، فإن أسلموها كانت رقيقا للمجني عليه يبيع ويهب ويصنع ما شاء.
وإن كانت الجناية وما حمل عليها من دين سيدها أقل من قيمتها عتق منها ثلث ما بقي بعد الجناية وبعد دين سيدها، وعتق من ولدها ثلث ما بقي بعد الدين، فكان الولد ها هنا أكثر عتقا من أمهم، وإن كان الدين يحيط بجميع ولدها وزيادة، والجناية تحيط بها فالمجني عليه أولى برقبتها إلا أن يزيد أهل الدين على الجناية فيكونون أحق بها ويقاصون الغريم بالزيادة التي زادوها على(15/159)
الجناية، وإن أبوا وقالوا نحن نأخذها بدية الجناية لم يكن ذلك لهم أبدا حتى يزيدوا.
قلت: أفتكون الزيادة ها هنا درهما أو دينارا؟ وكم الزيادة التي إذا زادوها الغرماء كانوا أولى بها؟ وما قدرها؟ وكيف إن أخذوها بزيادة فباعوها بفضل على ما أخذوها به هل يقضى لصاحب الدين بذلك الفضل؟ وإن ماتت أو نقصت ممن تكون مصيبتها؟ قال ابن القاسم: إنما يقضى له بالزيادة الأولى، وأما ما باعوها به بعد ذلك فإنما الزيادة لهم خالصة والنقصان عليهم، وإن ماتت كانت منهم، وإن باعوها بأكثر مما أخذوها به من المجروح كانت الزيادة لهم، قال: ولا يقبل منهم في الزيادة إلا ما يرى أنه زيادة، وأما الدرهم والدرهمان والفلوس فإن ذلك ليس بزيادة، قال: فإنما يباع أبدا أولا للمجروح ثم الدين، الجرح أبدا مبدأ على الدين، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على أصل قوله في المدونة إلا أنها مخالفة لما في المدونة في موضع واحد، وهو إذا كان ما يقع عليها من الدين مع الجناية التي عليها يغترق رقبتها.
فقوله في هذه الرواية: إنه يباع منها بما يقع عليها من الدين ويباع منها بالجناية التي عليها وإن اغترق ذلك جميع رقبتها ولم يفضل منها شيء، هو خلاف قوله في المدونة؛ لأن من قوله فيها إذا كان ما على الميت من الدين وما على المدبر من الجناية يغترق رقبته ولا يفضل منها شيء كان أهل الجناية أحق بالرقبة إلا أن يزيد أهل الدين على أرش الجناية زيادة يحطونها على الميت من دينهم، وإنما يباع على مذهبه في المدونة من المدبر للدين وللجناية إذا كان يفضل بعد ذلك من رقبته فضل يعتق منه ثلثه، وأما إذا لم يفضل عن رقبته(15/160)
فضل فأهل الجناية أحق عنده بالرقبة إلا أن يزيد الغرماء على أرش الجناية زيادة يحطونها عن الميت من دينهم فلا اختلاف إذا لم تف الرقبة بالدين والجناية أن أهل الجناية أحق بالرقبة إلا أن يزيد أهل الدين زيادة يعطونها من دين الميت.
ولا اختلاف أيضا في أنه إذا كان في رقبة المدبر فضل عن الدين وعن الجناية يباع منه للدين وللجناية ويعتق ثلث ما بقي.
واختلف إذا كانت الرقبة كفاف الدين والجناية لا فضل فيها عنهما ولا نقصان منهما، فقال في هذه الرواية إنها تباع للدين وللجناية وقال في المدونة: إن أهل الجناية أولى، وذهب سحنون إلى تفسير قوله في المدونة بما في هذه الرواية فقال فيها: ومعنى قوله أولى أن الدين لما رد العتق كانت الجناية مقدمة على الدين فبيع منه للجناية ثم بيع منه للدين، وليس قوله بصحيح؛ لأنه قد نص في المدونة على أنه إنما يباع منه للدين وللجناية إذا كان فيه فضل عنهما جميعا فعتق ثلثه.
والأصل في هذه المسألة أن جناية المدبر لا تبطل تدبيره، والدين يبطل تدبيره، وإذا بطل تدبيره بالدين كانت الجناية أحق برقبته من الدين؛ لأن الجناية في رقبته، والدين في ذمة الميت، فإذا مات السيد ولا دين عليه وقد جنى مدبره جناية تغترق قيمة رقبته أو لا تغترقها فالواجب أن يعتق إن حمله الثلث، وتكون جناية في ذمته يتبع بها، وإن لم يحمله الثلث عتق منه ما حمل الثلث وفضت جنايته على ما عتق منه وعلى ما رق منه للورثة، فما ناب ما عتق منها اتبع به دينا، وما ناب ما رق منه كان الورثة فيه بالخيار بين أن يسلموه أو يفتكوه.
وإذا مات السيد وعليه دين يغترق المدبر بيع في الدين ويبطل تدبيره.
وإذا اجتمع الجناية والدين فلا تخلو من أن تكون الجناية والدين أقل من(15/161)
قيمة الرقبة أو أكثر منها أو مثلها، فإن كانا جميعا أقل منها بيع منها للدين وأعتق ثلث ما بقي، ولا اختلاف في هذا الوجه على ما ذكرناه، وإن كانا جميعا أكثر منها مثل أن يكون قيمته أربعين وقد جنى جناية قيمتها عشرون وعلى السيد دين أربعون أو ثلاثون فأهل الجناية أحق به؛ لأنها في رقبته يأخذوه بجنايتهم إلا أن يقول أهل الدين نحن نأخذه بأكثر من قيمة الجناية فيؤدوا إلى أهل الجناية جنايتهم ويسقط الزائد على الجناية من ديننا عن الميت، مثل أن يقولوا نحن نأخذه بثلاثين، فنؤدي إلى أهل الجناية عشرين جميع جنايتهم، وتنقطع العشرة من ديننا الذي لنا قبل الميت، فيكون ذلك لهم، إذ لا حجة لأهل الجناية إذا أعطوا جميع جنايتهم، ولا اختلاف في هذا أيضا على ما ذكرناه.
وأما إن كانت الجناية والدين يحيطان بقيمة الرقبة بلا زيادة ولا نقصان، مثل أن يكون على الميت دين عشرون، والجناية عشرون، وقيمة المدبر أربعون، فهذا هو موضع الخلاف على ما ذكرته، قيل: إنه يباع بأربعين فيأخذ أهل الدين دينهم، وأهل الجناية جنايتهم وهو قوله في هذه الرواية، وقيل: إن أهل الجناية أحق بالعبد إلا أن يقول أهل الدين نحن نأخذه بزيادة على قيمة الجناية لنقطع من ديننا، مثل أن يقولوا نحن نأخذه بثلاثين فنؤدي إلى أهل الجناية أرش جنايتهم عشرين، ويبقى لنا على الميت عشرة دنانير، وهذا قوله في المدونة، وبالله التوفيق لا شريك له.
[: دبر نصف عبده وكاتب نصفه ثم علم به قبل الموت أو بعده]
ومن كتاب العرية وسئل عن رجل دبر نصف عبده وكاتب نصفه، ثم علم به قبل الموت أو بعده.
قال: إن علم به قبل الموت كان مدبرا كله، وإن لم يعلم به(15/162)
حتى مات عتق نصفه في ثلث الميت، ومضى على الكتابة في نصفه.
قال محمد بن رشد: قوله إن علم به قبل الموت كان مدبرا كله صحيح بين؛ لأن من دبر نصف عبد له أو أعتقه إلى أجل دبر عليه جميعه إن كان دبر نصفه، أو أعتق عليه جميعه إلى الأجل إن كان أعتق نصفه إلى أجل قياسا على ما أجمعوا عليه فيمن أعتق نصف عبد له أنه يعتق عليه جميعه؛ لأن التدبير والعتق إلى أجل من عقود الحرية اللازمة، ولأن من كاتب نصف عبده تفسخ كتابته ولا تجوز.
وإنما قال إنه إن لم يعلم به حتى مات أنه يعتق نصفه في ثلث الميت ويمضي على الكتابة في نصفه لأنه إذا أعتق نصفه صحت الكتابة في النصف الآخر؛ لأن الكتابة في نصف العبد جائزة إذا كان نصفه الآخر حرا، وإنما لا تجوز الكتابة في نصفه إذا كان الباقي منه رقيقا للذي كاتبه أو لغيره، فهذا إذا حمل الثلث نصف العبد، وأما إذا لم يحمله الثلث فتفسخ الكتابة في النصف الآخر من أجل حق الورثة فيما لم يحمله الثلث من النصف المدبر إلا أن يشاء الورثة أن يكاتبوه ما لم يحمله الثلث من نصف المدبر بمثل كتابة النصف الآخر أو أقل أو أكثر، فيجوز ذلك باتفاق؛ لأنهم إذا أمضوا كتابة الميت في نصفه وكاتبوا هم ما رق لهم، فكأنهم قد كاتبوا الجميع.
ولا يدخل في هذه المسألة الاختلاف الواقع في المدونة في العبد بين الشريكين يكاتب أحد الشريكين حظه منه بغير إذن شريكه، ثم يكاتب الشريك بعد ذلك حظه منه بمثل كتابة الأول أو بأقل أو بأكثر، وبالله التوفيق.
[: التدبير عقد من عقود الحرية]
ومن كتاب أسلم وله بنون قال: وقال مالك: إذا دبر الرجل في صحته ثم مرض فبتل(15/163)
عتق عبد آخر في مرضه وأوصى بعتق آخر بعد الموت وتزوج في مرضه ودخل بها وأوصى بالزكاة فقال: تعطى المرأة صداق مثلها من الثلث، ثم يعتق المدبر الذي كان في الصحة، ثم الزكاة، ثم المبتول والمدبر في المرض، فإن بقي من الثلث شيء عتق فيه الموصى له بالعتق بعد الموت، قال: ولو اختلف المدبر والمبتول فكان أحدهما قبل صاحبه بدأ بالذي كان قبل بعد أن يخرج المدبر في الصحة والزكاة، ثم إن بقي بعد ذلك شيء عتق فيه الموصى له بالعتق بعد الموت، وقال في المدبر في الصحة هو مبدأ على الزكاة وعلى جميع العتق الذي يكون في المرض إلا أن يكون معه مدبرون دبرهم في صحته فإنه يبدأ الأول فالأول.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله تعطى المرأة صداق مثلها من الثلث أنه إن كان أصدقها أكثر من صداق مثلها بطل الزائد على صداق مثلها، وهو ظاهر ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، وقيل: إنه يحاص به أهل الوصايا ولا يبدأ، وهو قول أصبغ، وروي ذلك عن ابن القاسم، وقيل إنه يبدأ وهو قول مالك في رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب الوصايا، وروى مثله عنه ابن نافع وعلي بن زياد وابن عبد الحكم، وهو قول ابن الماجشون واختيار سحنون.
وفي قوله: إنه يعتق المدبر الذي كان في الصحة بعد ذلك اختلاف، قيل: إنه يبدأ المدبر في الصحة على صداق المريض، وهو قول ابن القاسم في العشرة، وقد روى عنه أنهما يتحاصان.
فالثلاثة الأقوال كلها لابن القاسم، ولكل قول منها وجه، فوجه قوله في هذه الرواية إنه يبدأ صداق المريض على المدبر في الصحة هو أن صداق المريض حق للزوجة في استمتاعه بها يقضى لها به عليه شاء أو أبى، سمى(15/164)
لها صداقا أو لم يسمه، فهو أوجب من التدبير الذي أوجبه على نفسه باختياره لا عوضا عن شيء، ووجه القول بأنه يبدأ المدبر في الصحة على صداق المريض هو أن التدبير عقد من عقود الحرية، فوجب أن يبدأ العتق اتباعا لما روي من أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر أن يبدأ العتق على الوصايا» ، فعم ولم يخص، ومن طريق المعنى أن المدبر في الصحة لما كان هو المتقدم اتهم المريض على القصد لإبطاله، وليس لمن دبر عبدا في صحته أن يدخل عليه ما يرد تدبيره، ألا ترى أنه إذا دبر عبدا بعد عبد يبدأ الأول على الثاني، ووجه القول بأنهما يتحاصان أنه لنا كان لهذا مزية من وجه، ولهذا مزية من وجه آخر، استويا في التأكيد، فوجب أن يتحاصا.
وإنما قال: ثم الزكاة ثم المبتول والمدبر في المرض وإن بقي من الثلث شيء عتق فيه الموصى له بالعتق بعد الموت؛ لأنه إنما تكلم عن ما سأله عنه؛ لأن هذا هو عنده حكم ترتيب الوصايا في التبدية؛ لأن من مذهبه أن عتق الظهار وقتل النفس يبدآن بعد الزكاة، ثم بعد ذلك كفارة اليمين، ثم كفارة الفطر في رمضان متعمدا، ثم كفارة التفريط، وهذا دليل ما في كتاب الصيام من المدونة، وقد قيل: إن الطعام لقضاء رمضان يبدأ على كفارة اليمين عند ابن القاسم. والأول أظهر، ثم النذر قاله ابن أبي زيد، يريد في الصحة، ثم بعد ذلك العتق المبتل في المرض، والمدبر في المرض، ثم بعد هذا كله الموصى بعتقه بعينه، والذي أوصى أن يشترى بعينه فيعتق، وجعل ابن الماجشون العتق المبتل في المرض بعد صداق المريض وبعد المدبر في الصحة فبدأهما جميعا على الزكاة التي فرط فيها وأوصى بها، وهو أظهر من قول ابن القاسم؛ لأنه يتهم على إبطال ما دبر أو أعتق في مرضه بما أوصى به من أنه فرط فيه من زكاة ماله، وتبدأ زكاة المال والحرث والماشية على زكاة الفطر، واختلف في عتق الظهار وقتل النفس إذا اجتمعا في الوصية بهما حسبما مضى القول فيه في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب الظهار.(15/165)
واختلف أيضا في المدبر في المرض والمبتول فيه أيضا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يتحاصان ولا يبدأ أحدهما على الآخر، وهو قوله في هذه الرواية. والقول الثاني: أنه يبدأ المبتل في المرض. والثالث: أنه يبدأ المدبر فيه، ولكل قول منها وجه فوجه القول بأنهما يتحاصان استواؤهما في وجوب كونهما من الثلث، ووجه تبدية المبتل المزية التي له في أنه لو صح لكان حرا من رأس ماله، ووجه تبدية المدبر على المبتل أنه فعل في التدبير في المرض ما يجوز له، وفي التبتيل فيه ما لا يجوز له؛ لأنه أراد أن يعتقه في مرضه من رأس ماله، وذلك ما لا يجوز له، ولو علم أنه يعتق من ثلث ماله لم يرض بذلك ولهذه العلة قال من قال من أهل العلم أنه لا يكون في الثلث إلا ما أريد به الثلث، وهذا القول أظهر الأقوال وأولاها بالصواب.
واختلف أيضا في الموصى بعتقه بعينه والموصى أن يشترى فيعتق، فقيل إنهما يتحاصان، وقيل يبدأ الذي في ملكه على الذي أوصى أن يشترى فيعتق، ثم بعد الموصى بعتقه بعينه الموصى بعتقه على مال إذا عجل المال، والموصى بكتابته إذا عجل الكتابة، والموصى بعتقه إلى أجل قريب الشهر ونحوه لا يبدأ أحد منهما على صاحبه، وقد قيل: إنه لا يبدأ أحد منهم على الموصى بعتقه على غير مال، ثم بعد ذلك الموصى بعتقه إلى سنة، ثم بعد ذلك الموصى بعتقه إلى سنين، والموصى بكتابته إذا لم يعجل الكتابة، والموصى بعتقه على مال إذا لم يعجل المال، وقد قيل: إن الموصى بعتقه إلى سنة كالموصى بعتقه إلى سنين على ما سيأتي القول فيه في سماع أصبغ من كتاب الخدمة، ثم بعد ذلك كله الوصية بالمال؟ بالعتق بقي عينه وبالحج حج الفريضة، وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال، فقيل: إنها كلها سواء في التحاص، وقيل: إنه يبدأ العتق ويتحاص المال مع الحج، وقيل: إنه يبدأ الحج(15/166)
ويتحاص المال مع العتق، وقيل: إنه يبدأ العتق على الحج ويتحاص مع المال ووجه هذا القول أن العتق عنده أكدها كلها ثم يليه المال ثم يليه الحج فيتحاص المال مع الحج ومع العتق لقربه من كل واحد منهما ويبدأ العتق على الحج لبعد ما بينهما.
وأما حجة التطوع فلم يختلف قول ابن القاسم في أن العتق مبدأ عليه، واختلف قوله هل يبدأ العتق عليه أو يتحاصان، وقال ابن وهب: يبدأ الحج على العتق ولم يفرق بين الضرورة وغيره.
والصحيح على مذهب مالك أن الوصية بالعتق بغير عينه وبالمال يبديان على الوصية بحجة الإسلام؛ لأنه لا يرى أن يحج أحد عن أحد فلا مزية في ذلك عنده على أصل قوله، وقد حكى ابن زرب أن الشيوخ أجمعوا على أن الوصية بالحج تبدأ على كل شيء المدبر وغيره، وكان أبو عمر الإشبيلي يرى تبدية ما أوصى به في فك أسير على جميع الوصايا المدبر في الصحة وغيره، ويحتج لذلك برواية أشهب عن مالك في كتاب الجهاد، وحكى عبد الوهاب في المدونة أن الوصية بالعتق المعين تبدأ على الزكاة وهو بعيد في القياس. [ووجهه إتباع ظاهر المروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه أمر أن تبدأ العتاقة على الوصايا» فعم ولم يخص، وبالله التوفيق.
[: مات الرجل وله مدبر]
ومن كتاب التمرة قال عيسى حدثني عبد الله بن وهب عن ربيعة والليث ويحيى بن سعيد أنهم كانوا يقولون: إذا مات الرجل وله مدبر، فإنه يجمع المدبر وماله إلى مال الميت فينظر، فإن كان ثلث جميع ذلك(15/167)
المدبر وماله عتق، وكان له ماله، وإن كان الثلث أقل وهو يحمل رقبة المدبر وبعض ماله عتق، وكان له الذي حمل من ماله مع رقبته، وإن كان ليس له مال غير المدبر وماله فإنه إن كان قيمة المدبر مائة دينار وله ثمانمائة دينار عتق المدبر، وكان له من ماله مائة دينار، فهكذا يعمل في المدبر أبدا يضم ماله إلى مال الميت إن كان ترك شيئا، وإلا فاصنع فيه مثل ما وصفت لك إن لم يترك إلا المدبر وماله، قال: وكذلك الذي يوصي بعتق عبد له عند الموت وللعبد مال يصنع به مثل ما يصنع في المدبر، وهذا رأي ابن وهب وبه يأخذ وكان له ماله وإن لم يحمله الثلث، وقال ابن القاسم عن مالك في غير هذا الكتاب في المدبر: إن حمله الثلث بماله عتق بماله، وإن لم يحمله الثلث بماله عتق منه بماله ما يحمل الثلث وأقر ماله في يديه.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن المدبر يقوم في ثلث الميت بماله، فإن حمله الثلث بماله عتق وكان ماله له، وإن لم يحمله الثلث بماله عتق منه ما حمل الثلث وأقر ماله في يديه هو القياس؛ لأن مال المدبر له ما لم ينتزعه في صحته قبل أن يموت، فوجب أن يقوم به في ثلث مال الميت؛ لأنه إذا لم يقوم به في ثلثه وأضيف إلى مال الميت وأعتق دونه فقد حصل ماله للورثة من غير أن يستثنيه السيد، وقد قيل: إن استثناءه إياه لا يجوز، فكيف إذا لم يستثنه؟ فقول ابن وهب وروايته عن ربيعة والليث ويحيى بن سعيد في تفرقتهم بين أن يحمله الثلث بماله ولا يحمله به استحسان واحتياط للعتق؛ لأنهم رأوا عتق جميعه دون مال أولى من عتق بعضه وإبقاء ماله بيده، وبالله التوفيق.(15/168)
[: يموت عن مدبر وله دين على أقوام إلى أجل بعيد إلى عشر سنين ونحوها]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسألته عن الرجل يموت عن مدبر وله دين على أقوام إلى أجل بعيد إلى عشر سنين ونحوها هل يوقف المدبر أبدا حتى يحل أجل الدين؟ قال: لا يوقف ولكن يباع ذلك الدين بعرض نقدا إن كان عينا أو بعين إن كان عرضا ثم يعتق المدبر في ثلثه أو ما حمل الثلث منه.
قلت: فإن كان الذي عليه الدين غائبا غيبة طويلة مثل مصر من الأندلس؟ قال: يكتب فيه ويستخلف عليه، ويوقف المدبر حتى ينظر فيه فإما تقوضي إن كان حالا وإما بيع هنالك إن كان إلى أجل بعيد، يباع ممن هو معه في البلد بحضرته إذا أقر بذلك.
قلت له: فإن آيس من الدين لغريم عديم هو عليه أو غيبته بعيدة لا ترجى؟ قال: يعتق من المدبر ما حمل ثلث مال الميت مما يحضر ويرق بقيته.
قلت: فإن أيسر بعد ذلك الغريم المفلس الذي آيس منه أو قدم الغائب الذي آيس منه فتقوضي منهما جميعا؟ . قال: إن كان المدبر في أيدي الورثة عتق في ثلث ما تقوضي من الدين ما حمل ثلثه، وإن كان قد خرج المدبر من أيديهم ببيع أو هبة أو صدقة أو وجه من الوجوه كان ما تقوضي من الدين لورثة الميت ولم يكن للمدبر فيه قليل ولا كثير، قال عيسى: يعتق ذلك منه حيث كان، ولا يكون للمشتري أن يرد ما بقي في يديه.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية في الدين المؤجل إلى(15/169)
عشر سنين ونحوها: إن المدبر لا يوقف إلى ذلك الأجل، ولكن يباع الدين بعرض نقدا إن كان عينا، أو بعين إن كان عرضا ثم يعتق المدبر في ثلثه أو ما حمل الثلث منه، وفي العشرة عن يحيى عن ابن القاسم أنه إن كانت الديون بعيدة الآجال والمال الغائب في بلاد بعيدة لا يصل إلا بعد طول زمان فإنه يعتق منه ثلث ما حصل، فإذا جاء المال الغائب أو حل أجل المؤجل فاقتضي أعتق منه مبلغ ثلث جميع ذلك، وهو معنى ما في المدونة؛ لأنه قال فيها: إنه إن دعا العبد الموصى بعتقه إلى أن يعتق منه مبلغ ثلث المال الحاضر ويوقف ما بقي منه إلى أن يحل أجل المال لم يكن ذلك إلا أن يكون فيه ضرر على الموصي والموصى له، فقيل: إن هذا اختلاف من قول ابن القاسم في الدين المؤجل هل يباع ويعجل عتق المدبر والموصى له بالعتق فيه أم يعتق منهما ما حمل ثلث المال الحاضر منهما ويوقف الباقي إلى أن يحل أجل الدين فيتقاص ويعتق فيه بقيمتهما.
والصواب أن لا يحمل ذلك على أنه اختلاف من قوله، وإنما المعنى في ذلك أنه رأى أن يباع الدين إذا تفاحش بعد أجله العشرة الأعوام ونحوها على ما قاله في هذه الرواية، وإذا لم يتفاحش بعده فمذهبه في المدونة أنه يوقف العبد حتى يحل الأجل، وإن دعا العبد إلى أن يعتق منه ثلثه أو ما حمل منه ثلث المال الحاضر ويوقف باقيه إلى أن يحل أجل الدين المؤجل لم يكن ذلك له إلا برضى الورثة؛ لأن الميت يكون إذا فعل ذلك قد أخذ أكثر من ثلث المال الحاضر؛ لأنه يعتق ثلثه فيه ويوقف باقيه، وأشهب يرى من حق العبد ما دعا إليه من ذلك، خلاف ما في المدونة من أن ذلك لا يكون له إلا أن يكون في توقيفه ضرر عليه وعلى الورثة لما يخشى من تلف المال الحاضر إذا وقف حتى يحل الأجل ويأتي المال الغائب، والمدبر الواحد والجماعة منهم في ذلك سواء، ويفترق الواحد من الجماعة في الموصى بعتقهم، فلا يجوز في الجماعة منهم أن يعتق منهم ما حمل ثلث المال الحاضر، ويوقف باقيهم إلى(15/170)
أن يأتي المال الغائب أو يحل أجله وإن رضي الورثة بذلك من أجل الغرر في تكرير القرعة فيهم مرة بعد أخرى..
وقوله في الرواية إنه إن آيس من الدين بعدم الغريم أو بعد الغيبة فيعتق من المدبر ما حمل منه ثلث المال الحاضر ثم أيسر الغريم وقدم الغائب أنه لا يعتق ما بقي من المدبر في ثلث ما تقوضي من المال إلا أن يكون في أيدي الورثة لم يخرج عنهم ببيع ولا هبة ولا صدقة، وهو خلاف المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه في كل ديوان، فقول عيسى بن دينار هو المعروف في المذهب الصحيح في النظر؛ لأن حق المدبر في عتق ما يبقي منه لا يسقط ببيع الورثة إياه، ولا بما سوى ذلك من هبة أو صدقة، وإنما قال عيسى بن دينار: إنه لا يكون للمشتري أن يرد ما بقي منه إن كان لم يعتق جميع ما اشتراه من أجل أنه إنما دخل فيما اشترى منه على ضرر العتق إلا أن يعتق جل ما اشتراه منه، فيكون له حينئذ أن يرد الباقي منه، ولو كان على الميت دين فبيع المدبر فيه ثم طرأ له مال عتق في ثلثه شيء منه، وإن قل لكان للمشتري أن يرد باقيه لضرر العتق فيما اشتراه، ولو كان المشتري قد أعتقه ثم طرأ للميت مال يحمله ثلثه لنقض عتق المشتري فيه، ورجع بالثمن الذي أدى فيه وأعتق في ثلث ما طرأ ولو لم يحمل ثلث ما طرأ من المال جميعه لعتق منه ما حمل الثلث، وكان للمشتري أن يرجع من الثمن بقدر ما عتق منه عن الميت في ثلث المال الطارئ، ويرجع بقيمة عيب العتق في باقيه، إذ قد فات عنده بالعتق، ولا يقدر على رده.
ووجه العمل في ذلك أن يقال: كم قيمته على أنه رقيق لم يعتق منه شيء؟ فإن قيل: مائة، قيل: كم قيمته ما لم يعتق منه عن الميت على أن ما أعتق منه عن الميت حر؟ فإن قيل: ستون وكان قد أعتق منه عن الميت الثلث، علم أن قيمة جميعه بعيب العتق فيه تسعون، فبين القيمتين عشرة، وهي من المائة عشرها، فيفض عشر الثمن، وهو قيمة عيب العتق على ما أعتق منه عن(15/171)
الميت وعلى ما أعتق منه على المشتري، فما ناب من ذلك ما أعتق منه عليه رجع بذلك على الورثة، ولا يرجع بما ناب من ذلك ما أعتق منه عن الميت؛ لأنه قد أخذ ثمن ذلك، وكذلك لو باعه السيد في صحته ثم مات فأعتقه المبتاع بعد موته وفي ثلث البائع له مجملا له أو لبعضه، الحكم في ذلك سواء، بخلاف عتق المشتري إياه في حياة البائع هذا يمضي عتقه، وإن لم يعثر على ذلك إلا بعد موته؛ لأنه لو عثر على ذلك في حياته لم يرد عتقه على أحد قولي مالك، وبالله التوفيق.
[: يقول غلامي فلان حر متى ما مات]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب المكاتب قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول: غلامي فلان حر متى ما مات، لا يغير عن حاله، كان ذلك في صحة أو في مرض، ثم أراد الرجوع فيه وبيعه وقال: إنما أردت فيه الوصية.
فقال: لا أراه إلا على حال التدبير لا يجوز لسيده أن يرجع فيه، ولا سبيل إلى بيعه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه قد نص في قوله على حكم التدبير، فلا يصدق في أنه أراد بذلك الوصية، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل يطأ الرجل مدبرة مدبره]
مسألة قال: وسألته هل يطأ الرجل مدبرة مدبره أو مدبرة أم ولده أو المعتق إلى أجل؟ فقال: لا يحل له وطء واحدة منهن.
قلت: ولم وإنما هن مدبرات؟ قال: لأنهن يعتقن بموت من(15/172)
دبرهن وإن بقي السيد بعد ذلك فهن كالمعتقات إلى أجل، قال: ولكن لو أن رجلا إذن لمدبره أو لأم ولده أن يدبر أمة يكون عتقها بعد موت الذي دبرها وموت السيد حل له الوطء كما يحل له وطء مدبرته بعينها، وذلك أنها لا تعتق إلا بعد موت السيد وموت الذي دبرها. قلت: فهل يجوز لهؤلاء التدبير إلا بإذن السيد؟ قال: لا.
قلت: فلمن ولاؤهن إذا أذن؟ قال: للسيد.
قلت: فهل يجوز له أن ينتزع منهن خدمتهن من أم الولد والمعتق إلى أجل والمدبرة؟ قال: نعم يجوز ذلك.
قلت: فإن دبر هؤلاء بغير علم السيد ولا يعلم حتى مات وعتقوا ما حال مدبرهم؟ قال: التدبير ثابت لهم، وليس لواحد منهم دبر أن يرجع في ذلك بأن يقول: لم يأذن لي سيدي ولو علم بما صنعت فسخه، ولكن إن علم ففسخ كان مفسوخا ومنتقضا، ثم لا يلزمهم إمضاء التدبير بعد موت السيد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا أعرف نص اختلاف في شيء منها، وإنما قال إنه لا يجوز له أن يطأ مدبرة مدبره ولا مدبرة أم ولده ولا مدبرة معتقه إلى أجل من أجل أنهن معتقات إلى أجل من رأس المال علي ما قاله في رسم استأذن من سماع عيسى، إذ لا فرق في المعنى بين أن يأخذ لعبده أو لمدبره أو لأم ولده أو لمعتقه إلى أجل بتدبير جاريته أو ينتزعها منه فيعتقها إلى موته، ولا فرق بين أن يأذن له في ذلك وبين أن يفعل ذلك فيجيزه.
وقوله إن ما دبر هؤلاء بغير علم السيد ولا يعلم بذلك السيد حتى مات وعتقوا لازم لهم، هو نص قوله في كل موضع لا اختلاف فيه أحفظه إلا أن(15/173)
يدخل فيه بالمعنى، فقد قال بعض أصحاب مالك في فعل المرأة ذات الزوج إذا زادت على ثلثها فلم يعلم بذلك الزوج حتى مات عنها أو طلقها إن ذلك لا يلزمها على قياس القول بأن فعلها فيما زاد على ثلث مالها على الرد حتى يجيزه الزوج، وإذا قيل ذلك في الزوج فأحرى أن يقال في السيد؛ لأن تحجير السيد على عبده أقوى من تحجير الزوج على امرأته.
وأما إذا رد السيد فعل عبده فيما فعله من تدبير عبده أو كتابته أو عتقه ثم عتق وهو في يده فلا اختلاف في أنه لا يلزمه شيء من ذلك، ولا يدخل ذلك الاختلاف الذي في المرأة ذات الزوج تعتق عبدها ولا مال لها سواه فيرث الزوج ثم يموت عنها أو يطلقها وهو بيدها؛ لأن تحجير السيد على عبده أقوى من تحجير الزوج على امرأته فيما زاد على ثلث مالها، وبالله التوفيق.
[: المدبر يكون ثمنه مائة دينار وللمدبر مائة دينارويترك سيده مائة دينار]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم
قال سحنون: سئل ابن القاسم عن المدبر يكون ثمنه مائة دينار وللمدبر مائة دينار] ويترك سيده مائة دينار فقال: قال مالك: يعتق من المدبر نصفه ويترك ماله بيده، ويكون نصفه رقيقا لورثة المدبر، وذلك أنه لما كانت قيمته مائة دينار وفي يديه مائة دينار وترك سيده مائة دينار فجميع ما ترك الميت ثلاثمائة دينار فعتق من العبد ثلث المائة وهو مائة دينار وهو نصف العبد بقيمة رقبته وماله، ولا يؤخذ ماله منه، ويكون ما بقي من رقبته وما ترك سيده من ماله لورثته، وهذا قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذا على ما تقدم من قول ابن القاسم وروايته(15/174)
عن مالك في رسم الثمرة من سماع عيسى في أن المدبر يقوم في ثلث مال الميت بماله، ويكون له ماله إن حمله الثلث، وإن لم يحمله عتق منه بماله ما حمل منه الثلث، وأقر ماله بيده، خلاف قول ابن وهب هناك وروايته عن ربيعة والليث ويحيى بن سعيد أنه إن لم يحمله الثلث بما له أضيف ماله إلى مال السيد فقوم فيه، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، إلا أن في قوله نظرا؛ لأنه قال: إن المدبر إذا كانت قيمته مائة وله مائة، ولسيده مائة، فجميع مال السيد ثلاثمائة، قيمة المدبر من ذلك بماله مائتان، فعتق منه نصفه ويقر ماله بيده، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إذا كانت قيمة المدبر مائة، وله مائة فقيمته بماله لا شك أقل من مائتين، فإنما القياس أن يقوم بماله، ويضاف ذلك إلى مال السيد فيعتق ما حمل الثلث منه بماله، إلا أن يضاف ماله إلى قيمته فتجعل ثلث قيمته، إذ لا شك في أن ذلك يكون أكثر من قيمته بماله، ومثل ما وقع في هذه الرواية حكى ابن حبيب في الواضحة، وفيه هذا الاعتراض، وبالله التوفيق.
[: دبر أمة له فولدت أولادا في تدبيرها فأبق الأولاد ومات السيد]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
وسئل سحنون عن رجل دبر أمة له فولدت أولادا في تدبيرها فأبق الأولاد ومات السيد فقام عليه الغرماء والدين يحيط برقبة الأمة ولا مال له غيرها: إنها تباع في قضاء دينهم ولا ينتظر بها الأولاد الذين أبقوا، فإن انصرف الأولاد نظر إلى ولدها وإليها ونظر إلى الدين، فإن كان يحيط بأثلاثهم وثلث الأم بيع من كل واحد ثلثه، ويعتق ثلث ما بقي من الولد والأم، ويقال لمشتري الأم: أنت بالخيار في الأم، فإن أحببت فرد، وإن أحببت أن تتمسك بما بقي من الأم رقيقا فذلك لك، والذي يصير في الأم من الرق سبعة أتساعها.(15/175)
قال محمد بن رشد: ولد المدبرة مدبر بمنزلتها في مذهب مالك وجميع أصحابه، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» ، وما روي عن زيد بن ثابت أنه أجاز بيع ولد المدبرة، وقاله علي وعثمان وابن عمر وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز في عدة من التابعين، فالمعنى في هذه المسألة صحيح واللفظ فاسد؛ لأنه قال: إنه ينظر إلى الدين، فإن كان يحيط بأثلاثهم وثلث الأم بيع من كل واحد ثلثه، والأم قد يقدم بيعها كلها في الدين بسبب إباق الأولاد قبل أن يرجعوا من إباقهم، فكيف يباع ثلثها إذا رجع الأولاد ولا يحتاج أيضا إلى بيع ثلث الأولاد، وإنما يحتاج أن يباع منهم ما يرد إلى المشتري فيما يعتق منها.
فإنما يكون صواب الكلام أن يقول: وجه العمل في ذلك إذا رجع الأولاد أن ينظر إلى الدين فإن كان يحيط بأثلاثهم وثلث الأم تبين أنه قد كان يجب أن يباع ثلث كل واحد منهم ويعتق ثلث ما بقي من كل واحد منهم وهو تسعاه، فيعتق من كل واحد من الولد تسعاه، ومن الأم التي بيعت تسعاها أيضا، ويرجع المشتري بتسعي الثمن الذي أدي فيها على الورثة، فيباع له في ذلك مما رق لهم من الأولاد ما يؤدي إليه، وإن أراد الورثة أن يؤدوا إلى المشتري تسعي الثمن من أموالهم ويتمسكوا بما رق لهم من الأولاد وهو سبعة أتساع كل واحد منهم كان ذلك لهم، ويبقى للمشتري في الأم سبعة أتساعها! يكون بالخيار كما قال بين أن يتمسك بذلك أو يرده للضرر الداخل عليه فيها باستحقاق جزء منها بالحرية.
وهذا الذي ذكرناه بين كله، ونزيده بيانا بالتنزيل فنقول: مثال ذلك أن السيد توفي وعليه ثلاثون دينارا دين، وقيمة المدبرة ثلاثون، وولدها الذين أبقوا اثنان قيمة كل واحد منهما ثلاثون ثلاثون، فقام الغرماء قبل رجوع الولد فبيعت لهم المدبرة بثلاثين وأخذوها في حقوقهم، ثم رجع الابنان فكشف(15/176)
الغيب برجوعهما أن الواجب كان أن يباع من الأب ومن كل واحد منهما ثلثه في الدين؛ لأنهما مدبران بتدبير أمهما، وأن يعتق من كل واحد منهم ثلث الباقي وهو التسعان، فيعتق من كل واحد من الولد تسعاه، ويعتق من أمهم المبيعة تسعاها. أيضا، ويكون المشتري بالخيار بين أن يرد الباقي منهما على الورثة ويرجع عليهم بجميع الثمن، وبين أن يتمسك له بما بقي له منها رقيقا ويرجع عليهم بتسعي الثمن لما أعتق منها، والورثة بالخيار فيما يرجع به المشتري عليهم يؤثره مما شاءوا مما رق لهم من الولد، وإن شاءوا من أموالهم.
ورجوع الأولاد في هذه المسألة من الإباق بعد أن بيعت الأم في الدين كمال طرأ للميت بعد بيعها، فقول سحنون فيها خلاف ما تقدم من قول ابن القاسم في رسم جاع فباع امرأته مثل قول عيسى بن دينار فيه من رأيه وما عليه الجماعة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجلين يكون بينهما العبد فيدبر أحدهما نصيبه ولا مال له غيره]
مسألة وسئل سحنون عن الرجلين يكون بينهما العبد فيدبر أحدهما نصيبه ولا مال له غيره.
قال: اختلف فيه أصحابنا من أهل الحجاز، والذي أقول أنا به: إنه إذا دبر نصيبه وهو معسر أن تدبيره ليس بشيء، إذا لم يرض شريكه، ألا ترى أن المدبر لو قال: أنا أقاويك، فقال له: كيف تقاوي صاحبك وأنت لا مال لك؟ فإن وقع عند صاحبك غرم إليك القيمة، وإن وقع عندك في المقاواة لم يكن عندك ما تدفع إليه، فكيف تقاوي وأنت لا مال لك؟ وقد أدخلت عليه الضرر، وتدبيرك(15/177)
إياه عيب تدخله على صاحبك في عبده، وليس هذا كالذي يعتق نصيبه ولا مال له أنه يعتق عليه ما أعتق؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل» ، ثم قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإن لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق» ، فإنما جاء هذا في العتق، والتدبير وليس بصريح العتق وهو يباع في الدين ولا يعتق إلا في الثلث، فلما أدخل على شريكه الضرر لشيء لم يتعجل به للعبد عتقا نفينا عن شريكه الضرر الذي أدخله عليه فخذ هذا على هذا فإنه أحسن ما سمعت ورويت.
قيل له: فلو أنه أعتق نصيبه إلى أجل ولا مال له غيره؟ فقال: له بيعه ولا ينحل عن العبد ما عقد له من العتق، والمعتق إلى أجل ليس كالمدبر، فإن شاء أن يشتريه شريكه كان ذلك له، ولم يجز اشتراؤه لغيره.
قيل له: فإن اشتراه منه شريكه ما يكون حال هذا العبد؟ فقال: يكون معتقا كله إلى الأجل الذي كان أعتق إليه نصفه قبل أن يشتريه.
قال محمد بن رشد: اختلف في العبد بين الشريكين يدبر أحدهما حظه منه وهو معسر على أربعة أقوال أحدها: قول سحنون هذا، وهو مذهب ابن الماجشون في ديوانه أن الشريك بالخيار إن شاء أجاز له ما صنع، وإن شاء فسخ تدبيره، إذ لا يلزمه مقاواته إياه من أجل أنه غريم ولأن من حقه أن يلزمه قيمته فيتبعه بها، والقول الثاني: أنه بالخيار بين أن يجيز له ما صنع(15/178)
ويتمسك بنصيبه، وإن شاء أن يتبعه بقيمة نصفه، وإن شاء أن يقاويه إياه على أنه إن وقع عنده اتبعه بما وقع به عليه، وهو أحد قولي ابن القاسم في سماعه، والقول الثالث: أنه إن شاء تمسك بنصيبه وأجاز له ما صنع، وإن شاء قاواه إياه، فإن وقع عند المدبر بيع منه بنصف ما وقع به عليه، كان أقل من نصيبه منه أو أكثر، وكان الباقي مدبرا، وإن وقع عند الذي لم يدبر كان رقيقا كله، وهذا القول حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، قال أصبغ في سماعه: وهذا هو القياس، والاستحسان إن وقع على المدبر ألا يباع منه إلا نصفه فأقل، فإن لم يف نصفه بما وقع به عليه في المقاواة اتبعه بالباقي دينا ثابتا في ذمته، واستحسان أصبغ هذا هو القول الرابع، وإذا كان له على مذهبهم أن يقاويه إياه فإن وقع على المدبر بيع منه بما وقع به عليه كان أقل من نصفه أو أكثر وما لم يكن أكثر من نصفه على ما استحسنه أصبغ فمن حقه إن شاء أن يترك المقاواة فيلزمه نصف قيمته فيباع منه بها ما بيع منه أو ما لم يكن أكثر من نصفه على ما تقدم من استحسان أصبغ؛ لأن وجه المقاومة في المدبر حيثما وقعت أن يقام قيمة عدل، ثم يقال للذي لم يدبر: إما أن تسلم إليه حظك بنصف هذه القيمة، وإما أن تزيد، فإن أسلمه إليه لزمه، وإن زاد قيل للذي دبر: إما أن تسلم إليه حظك بما زاد وإما أن تزيد، كذا أبدا حتى يقف على من وقف منهما.
وأما إذا كان الذي دبر حظه منه مليئا ففي ذلك ثلاثة أقوال أحدها: أنه يقوم على المدبر فيكون مدبرا كله، ولا يكون للذي لم يدبر أن يتمسك بنصيبه ولا أن يقاويه كالعتق سواء، وهذا القول وقع لمالك في العتق الأول من المدونة، والقول الثاني أن الشريك بالخيار، إن شاء أن يقومه عليه وإن شاء أن يقاويه إياه، وليس له أن يتمسك بنصيبه ويجيز له ما صنع، وهذا قول مالك في رواية مطرف وابن الماجشون عنه، والقول الثالث أن الشريك بالخيار بين أن(15/179)
يتمسك بحظه أو يقومه عليه أو يقاويه إياه، وهذا مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وأما قول سحنون في هذه الرواية في الذي أعتق نصيبه إلى أجل ولا مال له: إنه ليس كالمدبر فهو صحيح؛ لأن العتق إلى أجل عقد ثابت يجب به العتق للعبد عند الأجل على كل حال، فلا يصح إبطاله بالمقاواة.
وأما قوله فإن شاء أن يشتريه شريكه كان ذلك له ولم يجز اشتراؤه لغيره فلا يستقيم على حال، إذ لا يلزم شريكه أن يبيعه منه إذا لم يكن له مال، ولا يصح أن يمنع من بيعه من غيره إذا لم يجب أن يقوم عليه لعدمه، وإنما لا يكون لشريكه أن يبيعه من غيره إذا أعتق نصيبه منه وهو موسر على القول بأنه بالخيار بين أن يتمسك بحظه منه وبين أن يقومه عليه، إذ قد قيل: إنه يقومه عليه ويكون حرا إلى الأجل، وقيل: إنه لا يقوم عليه حتى يحل الأجل، وقد يحتمل أن يكون أراد بقوله ولم يجز اشتراؤه لغيره إذا أيسر فيكون لذلك وجه؛ لأنه يخرج على القول بأنه إذا أعتق نصيبه إلى أجل وهو موسر يكون الشريك مخيرا بين أن يتمسك بحظه أو يقوم عليه.
وأما قوله فإن شاء شريكه أن يشتريه كان ذلك له فلا وجه له بحال، إذ لا يصح أن يكون المعتق لحظه من العبد بالخيار في شراء حظ شريكه في قول قائل، وإنما الخلاف في هل يلزم تقويمه عليه، أو يكون الشريك في ذلك بالخيار، وبالله التوفيق.
[مسألة: توفيت وتركت زوجها وأخاها ومدبرتها ولا مال لها غير المدبرة]
مسألة وسئل سحنون عن امرأة توفيت وتركت زوجها وأخاها ومدبرتها ولا مال لها غير المدبرة وتركت على زوجها مائة وخمسين دينارا ولا مال له وقيمة المدبر خمسون دينارا.
قال، يعتق من المدبرة ثلثها ويكون ثلثاها رقيقا للأخ(15/180)
والزوج، فيكون ثلثها للزوج، وثلثها للأخ، ويكون ثلث الزوج كأنه مال طرأ، فيصير ثلث الزوج للأخ. والمدبرة، فيعتق من المدبرة أيضا نصف الثلث، فيتم من المدبرة نصفها عتيقا، ويبقى نصف جميع رقبتها رقيقا للأخ.
قيل: فإن باع الأخ المدبرة ثم أفاد الزوج إلى زمان بعد ذلك مالا ترجع المدبرة على الزوج فيعتق منها ما بقي أم كيف يصنع؟ قال: نعم يرجع عليه فيعتق منها بقدر ذلك.
قيل وهكذا يرجع أبدا كلما أفاد حتى تستتم رقبتها؟ قال: نعم.
قيل له: فإن لم يبين الذي باعها أن لها دينا على الزوج إن أفاد يوما مالا، هل يكون عيبا يردها به؟ قال: لا.
قيل: فإن أفاد الزوج مالا فرجعت الأمة على الزوج فيعتق منها بقدر ما قضى للزوج من الدين، فقال المشتري: أنا أرد لأن النصف الذي اشتريت قد فسد علي؟ فقال: إذا كان الذي أعتق منها تافها يسيرا بعد ما اشتراها فليس له ردها، وإن كان كثيرا فله ذلك.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة: إن الثلث الذي لا يعتق فيما طرأ للميت من مال إذا كان قد خرج من أيدي الورثة ببيع أو صدقة أو هبة، وأما قول سحنون: إنه إن كان الذي أعتق مما اشترى من المدبرة يسيرا فلا رد له، وإن كان كثيرا فله ذلك، فهو صحيح؛ لأنه إنما اشترى بعضها على أن باقيها حر، فقد دخل على ضرر العتق، فلا رد له فيما استحق بالعتق مما اشترى منها، إلا أن يكون جل ما اشترى منها وهو الذي أراد بقوله: وإن كان كثيرا والله أعلم لأن العروض إذا استحق على المشتري منها بعضها فليس له(15/181)
أن يرد ما بقي منها إلا أن يكون الذي استحق منها جلها، وقد تقدم هذا في رسم جاع من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: استأجر مدبرا سنة لخدمة بتسعة دنانيرثم مات السيد وقد قبض التسعة]
مسألة وسئل عن رجل استأجر مدبرا سنة لخدمة بتسعة دنانير، ثم مات السيد وقد قبض التسعة فاستهلكها وليس له مال غير المدبر ولم يستوف المؤاجر من خدمة العبد شيئا.
قال: تقسم التسعة على قيمة المدبر، فإن كانت قيمته ثلاثين دينارا فإن الثلث الذي كان يصير للعتق قد صار عليه من الدين ثلثه، وذلك ثلاثة دنانير، فيباع منه بثلاثة دنانير، ويعتق منه بقية الثلث وهو سبعة دنانير، فيكون ثلثا الخدمة للمستأجر، وثلثها بين العبد وبين الذي اشترى منه بثلاثة دنانير، فإذا تمت السنة رجع العبد إلى الورثة فقال لهم: أكملوا لي ثلث الميت لجمع ثلثيه وهو عشرون دينارا، وما صار إلى العبد وهو سبعة دنانير فجملة سبعة وعشرون، فيعتق ذلك من ثلث الميت وهو تسعة دنانير، فيزداد العبد دينارين فيكون للعبد في نفسه تسعة دنانير، وللورثة ثمانية عشرة دينارا فإن كانت الإجارة مثل الرقبة سواء فأرى أن لا يباع منه شيء، وأن تمضي الإجارة كلها؛ لأن الإجارة محيطة برقبته، فإذا انقضت السنة عتق ثلثه ورق ثلثاه.
قلت: فلو كان على السيد دين لأجنبي خمسة دنانير والمسألة على حالها وقد مات السيد ولا مال له ولم يستوف المؤاجر من أجرته شيئا؟ قال: تفض للعشرة التي أوجر بها العبد على ما يعتق من العبد وعلى ما يرق منه، فيصير على الثلث العتيق منه ثلاثة دنانير(15/182)
وثلث وتكون الخمسة التي هي للأجنبي في الثلث الذي يعتق منه؛ لأن ثلثي الورثة لا سبيل لصاحب الدين عليه؛ لأن المستأجر أحق به، ودين الأجنبي أولى من عتق المدبر فيباع من ثلث العبد بثمانية دنانير وثلث، ثلاثة وثلث للمستأجر وخمسة للأجنبي، ويعتق باقي ثلثه، فهو ديناران إلا ثلث، فإذا انقضت خدمة المستأجر ودفع ثلثي العبد إلى الورثة، رجع عليهم العبد فقال لي ثلث سيدي وقد ترك اثنين وعشرين دينارا إلا ثلثا وإنما أعتق مني دينارين إلا ثلثا، فيعتق منه ثلث الاثنين وعشرين دينارا إلا ثلثا.
قلت فلو كان دين الأجنبي خمسة عشر دينارا؟ فقال: أرى دين الأجنبي قد استغرق ثلث العبد، فلا أرى أن يعتق منه شيء، ويكون صاحب الإجارة أولى به، فإذا انقضت الإجارة بيع نصفه للدين بخمسة عشر دينارا وعتق منه ثلث ما بقي، وهو سدسه.
قلت وكذلك لو كان دين الأجنبي ثلاثين دينارا لم يعتق منه شيء وكان صاحب الإجارة أولى به إلى موتها ثم يباع كله للدين؟ قال: نعم.
قلت فلو كان دين الأجنبي سبعة دنانير والمسألة على حالها؟ قال: فلا يعتق منه شيء، وصاحب الخدمة أولى به كما فسرت ذلك، فانظر فإن كان إذا بعت بدين الأجنبي وما يصير على الثلث من الإجارة وتفضل منه فضلة تعتق منه فإنه يباع، وإن كان لا تفضل منه فضلة يعتق منها لم يبع منه شيء، وكان صاحب الخدمة أولى به، وكذلك لو كانت الإجارة تغترقه كله وليس على السيد غيرها لم يبع منه شيء، ومضى في خدمته حتى تنقضي إجارته ثم يعتق ثلثه.(15/183)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة جيدة صحيحة في المعنى بينة أدخلها ابن حبيب في الواضحة على نصها إلى قوله: فإذا انقضت السنة عتق ثلثه ورق ثلثاه، ولم يسم سحنونا فقال: وسمعت من أرضى من أهل العلم يقول، وزاد على ذلك قال: ولو كان للميت مال سواه انفسخت الإجارة وردت الدنانير من مال الميت وعتق في ثلث ما بقي، وهكذا قال ابن حبيب إذا كان ثلث ما بقي من مال الميت بعد الإجارة يحمل جميعه؛ لأن عتقه إذا وجب في الثلث وجب أن تفسخ الإجارة فيه.
وأما لو كان ما ترك الميت من المال لا يحمل ثلثه بعد الإجارة جميع رقبته، مثل أن تكون قيمة المدبر أربعين فمات سيده وقد قبض في إجارته تسعة فاستهلكها وله سوى المدبر عشرون لوجب يجب للزوج من المدبرة يقسم بين الأخ والمدبرة، فيعتق نصفه ويكون للأخ نصفه، فيكمل لها عتقها نصف لا يصح؛ لأن جميع الشركة فيها مائتا دينار، قيمة المدبرة منها خمسون دينارا ومائة وخمسون دينا على الزوج فالواجب للمدبرة على هذا التنزيل جميع قيمتها، وذلك خمسون دينارا وللأخ مما على الزوج خمسة وسبعون دينارا، وللزوج خمسة وسبعون مما عليه، وإنما الذي يصح أن يقسم الثلث الذي يصير للزوج من المدبرة من الأخ والمدبرة على قدر ما بقي أنهما من حقوقهما، فالذي بقي للمدبرة من حقها في هذه المسألة ثلاثة وثلاثون دينارا وثلث دينار؛ إذ قد أعتق منها ثلثها بستة عشر وثلثين، والذي بقي للأخ من حقه ثمانية وخمسون وثلث، فعلى هذه التجزئة يتخلص الآخر والمدبرة في الثلث الذي يصير للزوج يضرب الأخ فيه بثمانية وخمسين وثلث، وتضرب المدبرة فيه بثلاثة وثلاثين وثلث، فما حصل للمدبرة في المحاصة من الثلث المذكور كان عتيقا مضافا إلى الثلث المعتق منها. وما حصل للأخ في المحاصة كان رقيقا له مضافا إلى الثلث الذي رق له أولا فكلما أفاد الزوج مالا اقتسم الأخ والمدبرة ما أفاد من المال على قدر ما بقي لهما من حقوقهما أيضا على هذا التمثيل،(15/184)
فما صار للأخ كان له، وما صار للمدبرة عتق منها بقدر ذلك حتى يستتم عتق جميعها ويستوفي الأخ تمام الخمسة والسبعين حقه الواجب له قبل الزوج، وإنما يصح أن يقسم الثلث الحاصل للزوج بين الأخ والمدبرة بنصفين لو كان الدين الذي على الزوج مائة دينار وقيمة المدبرة خمسون دينارا ولا مال للمتوفاة غير ذلك؛ لأن الشركة حينئذ يتساوى فيه الأخ والمدبرة والزوج فيكون للمدبرة خمسون جميع قيمتها، وللأخ خمسون، وللزوج مما عليه خمسون، فتيساوى الأخ والمدبرة فيما لهما على الزوج، فيقتسمان على هذا الترتيب الحاصل للزوج على نصفين؛ لأن الذي يبقى للمدبرة من حقها مثل الذي يبقى للأخ، والذي يبقى لكل واحد منهما ثلاثة وثلاثون وثلث؛ لأن حق كل واحد منهما كان خمسون دينارا فيقبض الأخ من حقه ثلث المدبرة بستة عشرة دينارا وثلثي دينار وقبضت المرأة المدبرة من حقها ثلث قيمتها بستة عشر وثلثين أيضا، فيكمل للمدبرة عتق نصف نصيبها، ويكون للأخ نصف المدبرة رقيقا، فكلما أفاد الزوج مالا اقتسماه بينهما بنصفين أيضا؛ لأن الذي يبقى لهما من حقوقهما أبدا متساوي على هذا التنزيل حتى يكمل عتق المدبرة ويستوفي جميع حقه الخمسين، ويبقى للزوج مما عليه خمسون دينارا.
وكذلك ذكر ابن سحنون هذه المسألة عن أبيه على هذا التنزيل أن الدين الذي على الزوج مائة دينار، وأن قيمة المدبرة خمسون دينارا، وهذه الرواية تبين أن ما وقع لسحنون في هذه النوازل وما روى موسى بن معاوية عن ابن القاسم من قسمة الثلث الذي يجب للزوج بين المدبرة والأخ نصفين مع أن يكون الدين الذي على الزوج مائة وخمسون دينارا وقيمة المدبرة خمسون دينارا غلط والله أعلم لأن من قول مالك وجميع أصحابه: أن الغريم إذا كان عليه دين لرجلين لأحدهما عشرة وللآخر عشرون فتقاضيا منه شيئا أن ما تقاضياه منه يتحاصان فيه على قدر ما لهما عليه، ثم ينظر في هذه المسألة على ما صححنا من التنزيل، وهو أن يكون الدين الذي على الزوج مائة دينار(15/185)
إلى ما يجب للمدبرة على الزوج من حقها، فيباع بعرض ويعجل لها العتق على ما روى موسى عن ابن القاسم والذي يبقى لها من حقها عليه خمسة وعشرون دينارا؛ لأن جميع حقها كان خمسين دينارا، فقبضت ثلثها أولا ستة عشر وثلثين، ثم قبضت نصف الثلث بثمانية وثلث، فاستكملت نصف حقها وبقي لها النصف على الزوج، وكذلك ينبغي إذا قررنا أن الدين الذي على الزوج مائة وخمسون، وقيمة المدبرة خمسون على ما في الرواية أن ينظر إلى ما بقي لها من جميع قيمتها الخمسين بعد عتق ثلث قيمتها بستة عشر وثلثين، وبعد عتق ما يجب لها من الثلث الواجب للزوج على ما رتبناه، فيطرح ذلك من الخمسين فما فضل فهو الذي يجب للمدبرة على الزوج، وهو الذي يباع على ما روى موسى بن معاوية.
وأما قوله في رواية موسى ثم ينظر إلى ما يصيب الخادم من ذلك وهو نصف خمسين ومائة، فيباع فلا يصح عندي بوجه، وقوله: إن الأخ إن باع المدبرة أي ما صار له منها ثم أفاد الزوج إلى زمان بعد ذلك مالا أنها ترجع فيعتق منها بقدر ذلك، أي بقدر ما يجب لها مما أفاد حتى تستتم رقبتها هو مثل ما تقدم من قوله في أول مسألة من هذه النوازل، ومثل قول عيسى ابن دينار في رسم جاع من سماع عيسى.
وما عليه الجماعة خلاف قول ابن القاسم فيه أن تقسم التسعة على ما يجب عتقه من المدبر وعلى جميع بقيته المال، فالذي يجب عتقه من المدبر نصفه بعشرين؛ لأن جميع المال ستون، فثلثه عشرون، وقيمة المدبر أربعون، فيباع من نصف المدبر ثلاثة، ويعتق ما بقي من نصفه وهو سبعة عشر.
قال ابن حبيب أيضا: وهذا التفسير على أن المستأجر علم أنه مدبر، فأما لو جهل تدبيره واستأجره على أنه عبد فلما مات سيده ثبت أنه مدبر ولا مال له سواه، وفيه فضل عما استؤجر به كما فسرنا في أول المسألة لانفسخت(15/186)
الإجارة، ثم بيع منه معجلا لما استؤجر به؛ لأنه دين على السيد، ثم يعتق منه ما فضل منه، ويرق ثلثاه،. وهذا الذي قاله ابن حبيب صحيح، ومعناه إذا لم يرض المستأجر بذلك وأراد رده لأن ذلك عيب دخل عليه فيما استأجره من خدمة المدبر لانفساخ بعضها بما ثبت من التدبير الذي لم يعلم به.
وأما لو رضي المستأجر بالتمسك ببقية إجارته لجاز ذلك، وكان بمنزلة إذا استأجره وهو يعلم أنه مدبر.
والأصل في هذه المسألة أن ما وجب من عتق المدبر فلا بد أن تنفسخ فيه الإجارة إن وجب عتقه كله في ثلث مال الميت انفسخت الإجارة في جميعه وردت إلى المستأجر الإجارة من مال الميت، وإن وجب عتق ثلثه انفسخت الإجارة في ثلثه فبيع من الثلث الذي وجب عتقه بثلث الإجارة وأعتق الباقي من ذلك، فإذا انقضت الإجارة رجع المدبر على الورثة فأعتق منه بقية الثلث وهو ثلثا ما بيع منه، وكذلك إن وجب عتق نصفه أو ثلثيه في ثلث الميت فبيع منه بنصف الإجارة أو بثلثيها وأعتق الباقي، فإذا انقضت الإجارة رجع على الورثة فأعتق منه بقية الثلث وهو ثلثا ما بيع منه في الإجارة وإن لم يجب عتق شيء منه مثل أن تكون الإجارة تستغرق جميعه أو لا يستغرق جميعه وعلى الميت من الدين ما يستغرق جميعه، فالإجارة باقية لا تنفسخ، وهي مقدمة على الدين إن كان على الميت دين لأن الإجارة في عين العبد والدين في ذمة الميت إذا انقضت الإجارة بيع في الدين.
وإنما قال: إذا لم يكن له مال غير المدبر إنه يباع من ثلثه بثلث الإجارة وبجميع الدين ثم يعتق ما بقي من أجل ما بيناه من أن الإجارة مبدأة على الدين، والدين مبدأ على العتق، فوجب من أجل ذلك أن يباع من ثلث المدبر بجميع الدين وبثلث الإجارة، فإذا استوفى المستأجر خدمته ورجع ثلثا المدبر إلى الورثة رجع عليهم المدبر فيه فاستوفى منه ما بقي من حقه في العتق(15/187)
وهو ثلثا ما بيع منه في الدين لأنه بيع منه بجميع الدين من أجل أنه يبدأ على العتق ولا يجب عليه من الدين إلا ثلثه وثلثا ما بيع منه في الإجارة أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع مدبرة من رجل فزوجها المشتري من عبده]
مسألة وسئل عن رجل باع مدبرة من رجل فزوجها المشتري من عبده وأولدها العبد جارية ثم أعتق المشتري الأمة وبقي ولدها.
قال: يمضي عتقها ويكون ولدها رقيقا للمبتاع، وقاله عبد الله بن نافع.
قال محمد بن رشد: رأيت لأبي إسحاق التونسي أنه قال في هذه المسألة: قوله ويكون ولدها رقيقا للمبتاع كلام فيه نظر، إلا أن يريد بقوله: يرق أن يكون مدبرا كأمه؛ لأن ولدها من زوج إنما يجب أن يكون كأمه، وهي مدبرة فيجب أن يكون ولدها مدبرا.
فإن قيل لما أعتقها بطل تدبيرها، فكان ولدها رقيقا للمشتري، قيل: لو لزم هذا في المشتري للزم في المدبرة إذا ولدت فأعتقها المدبر أو ماتت أن يكون ولدها رقيقا؛ لأن موتها أو عتقها يبطل تدبيرها، وهذا بعيد، بل ولدها على ما كانت عليه أعتقت أو ماتت أو بقيت.
هذا نص قوله، واعتراضه صحيح، وإذا وجب أن يكون الولد مدبرا على ما قاله فيرد إلى البائع بما ينويه من الثمن إذا فض على قيمتها يوم البيع وعلى قيمة الولد يوم أعتق الأم، وهذا على القول الذي رجع إليه مالك من أن المدبر إذا أعتقه المشتري لا يرد عتقه، وأما على قوله الأول فينقض العتق وترد الأمة وولدها إلى البائع ويرد عليه جميع الثمن.(15/188)
[مسألة: جهل فوطئ مدبرة امرأته فحملت]
مسألة وسئل المغيرة عن رجل جهل فوطئ مدبرة امرأته فحملت، فلم تزل المرأة مقرة بإذنها له حتى ماتت.
قال المغيرة أرى إن كان لها وفاء بعتق المدبرة فيه عتقت في ثلثها، ولم أنتظر الذي وطئ بالخطأ أن تكون له أم ولد، وأرى ولدها عليه بالقيمة، وأرى القيمة لورثة سيدتها أو الدين إن كان عليها دين.
قال محمد بن رشد: إذنها له بوطئها شبهة تسقط عنه الحد وتوجب لحوق الولد به، ولم ير ذلك بمنزلة من اشترى مدبرة فوطئها فحملت في أن تكون أم ولد له وينفسخ التدبير من أجل أنه وطء فاسد وإن كانت القيمة تلزمه به لو كانت أمة، وهو معنى قوله: ولم أنتظر الذي وطئ بالخطأ أي بالخطيئة أن تكون له أم ولد، ولم يتكلم إذا لم يكن له وفاء تعتق فيه فأعتق بعضها أو كان عليها دين يغترق قيمتها.
فأما إذا لم يكن لها وفاء تعتق به فأعتق بعضها فيلزمه على قياس قوله من قيمتها لورثة سيدتها بقدر ما رق منها، ويكون ما رق منها رقيقا له بما لزمه من قيمته، ويلزمه من قيمة ولدها لورثة سيدتها بقدر ما رق منها.
وأما إذا كان عليها دين يغترقها فيلزمه قيمتها يوم وطئها ولا يكون عليه شيء من قيمة ولده منها، وبالله التوفيق.
[: تموت عن مدبرة]
من سماع موسى بن معاوية
من ابن القاسم قال موسى: قال ابن القاسم في المرأة تموت عن مدبرة(15/189)
ووارثها زوج وأخ ولم تترك مالا غيرها إلا مهرا على زوجها، وذلك المهر خمسون ومائة دينار، والزوج معدم وقيمتها خمسون دينارا فإنه يعتق منها ثلثها وهو ثلث خمسين، وذلك قيمتها، ويكون الثلث لزوجها والثلث لأخيها، ثم ينظر إلى الثلث الذي صار لزوجها فتأخذه الجارية والأخ فيقسمانه بينهما بنصفين؛ لأن الذي بقي لهما على الزوج سواء فيما لهما عليه، ثم ينظر إلى ما بقي على الزوج من الدين فيكون بين الجارية والأخ بعد سهم الزوج، ويقال للأخ: إن أحببت أن تبيع نصيبك فبعه، وإلا فأبيعه دينا، ثم ينظر إلى الذي يصيب الخادم من ذلك وهو نصف خمسين ومائة، فيباع بعرض ويتعجل ويدفع ذلك إلى الأخ، ويعتق من الجارية بقدر ما خرج لها من ذلك، وهو أحب إلي من أن يؤجل ذلك على الزوج وينتظر به يسره؛ لأن الأخ يموت فيورث نصيبه ويباع ويدخله المواريث ويفلس ويعجل لها عتق حتى لا يبقى لها حق على الزوج إلا أدخل فيها، ولا يستأني به فيباع ذلك الشقص منها ثم يتقاصا يوما ما فعل من يعتق إذا خرجت من يد الأخ فقد فسرت ذلك وجه الذي أرى.
وإن كان الزوج غائبا بعيد الغيبة بموضع لا يعرف فيه حاله ولا ماله لم يبع للجارية شيء مما عليه حتى يكون بموضع يجوز بيع ما عليه لها، فيكون على ما فسرت لك، وذلك بموضع يعرف فيه ملؤه من عدمه.
قال محمد بن رشد: إنما يكون ما قال من أن يعتق من المدبرة ثلثها، ويكون الثلث الذي للزوج بينها وبين الأخ إلى آخر قوله إذا لم يجيزا الوصية وقطعا للمدبرة بثلث جميع المال.
وقوله: ثم ينظر إلى الثلث الذي صار لزوجها فتأخذه الجارية والأخ(15/190)
فيقتسمانه بينهما بنصفين لأن الذي بقي لهما على الزوج سواء فيما لهما عليه، لا يصح إلا إذا كان الدين الذي على الزوج مائة وقيمة المدبرة خمسين، ولا مال للمرأة سوى ذلك، وقد مضى بيان ذلك في نوازل سحنون فلا معنى لإعادته.
وإجازة سحنون وابن القاسم في هذه الرواية بيع ما على الزوج من الدين إذا كان قريب الغيبة بموضع يعرف فيه ملؤه من عدمه خلاف المعروف من قوله في المدونة وغيرها: إن ذلك لا يجوز إلا أن يكون حاضرا مقرا، وقال في السلم الثاني من المدونة في اشتراء الكفيل ما على المتكفل به: إن ذلك لا يجوز إلا أن يكون حاضرا ولم يقل مقرا، فقيل: معناه مقرا، وقيل: هو خلاف من قول ابن القاسم في إجازة شراء الدين إن كان الذي عليه حاضرا وإن لم يكن مقرا، وقيل: إن ذلك ليس اختلافا من قوله وإنما فرق بين المسألتين، ولأصبغ في نوازله من جامع البيوع مثل قول ابن القاسم ها هنا، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: دبّر عبدا له في صحته فلما مرض قال قد كنت أعتقت فلانا]
مسألة قال ابن القاسم في رجل دبّر عبدا له في صحته، فلما مرض قال: قد كنت أعتقت فلانا لغلام له آخر.
قال: يعتق المدبر وتكون قيمة الذي ذكر أنه أعتقه في الصحة في جملة المال للمدبر يعتق بها، ولا يعتق الذي ذكر أنه أعتقه في الصحة إلا أن تقوم بينة أو يقول أعتقوه، فإن قال ذلك عتق في الثلث بعد التدبير.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بيّنة صحيحة في المعنى على(15/191)
أصولهم، وإنما قال: إن المدبر يعتق وتكون قيمة الذي ذكر أنه أعتقه في الصحة في جملة المال للمدبر يعتق بها لأنه يهتم على أنه أراد إبطال التدبير بما أقر به من أنه أعتق عبده الآخر في صحته، فوجب أن يدخل فيه، بخلاف الوصايا لا اختلاف في أن الوصايا لا تدخل في الذي أقر أنه كان أعتقه في صحته.
وقوله: إنه لا يعتق الذي ذكر أنه أعتقه في الصحة إلا أن تقوم له بينة هو نص ما في المدونة وغيرها، ويتخرج في ذلك قول آخر أنه يعتق في الثلث بعد المدبر وإن لم يقل أعتقوه، وأما إن قال: أعتقوه فلا اختلاف في أنه يعتق في الثلث بعد المدبر، ولا يدخل في هذه المسألة الاختلاف الذي ذكرناه في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الوصايا في الذي يقول في مرضه: قد كنت أعتقت عبدي في صحتي؛ لأنه يتهم مع المدبر كما يتهم مع الورثة إذا كان ورثته كلالة، وبالله التوفيق.
[: المدبر يباع فيفوت ببيعه فلا يدرى أين وقع ولا ما صار إليه]
من سماع أصبغ
[من كتاب المدبر]
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في المدبر يباع فيفوت ببيعه فلا يدرى أين وقع ولا ما صار إليه.
قال: أرى أن يجعل ثمنه كله الذي باعه به في مدبر، وليس ذلك بمنزلة فواته بالعتق والموت، هذا تكون له قيمته على الرجاء والخوف في الموت خاصة إذا مات فيصنع بها السيد ما شاء ويجعل الفضل في مدبر أو يعين به في عتق إن لم يبلغ تدبيرا، وفواته بالعتق ليس عليه قليل ولا كثير، يصنع بجميع الثمن ما شاء؛ لأنه قد صار(15/192)
إلى خير مما كان فيه ومما يرد إليه، وقاله أصبغ، وذلك في الذي قد عمي أمره لا يدرى ما حاله؟ حياة أو موت أو عتق احتياطا عليه، وليس بالواجب عليه عندي ولا القياس والقياس أنه إذا استبرئ أمره وآيس منه إياسا منقطعا فهو بمنزلة الموت ولا يكون الموت أحسن حالا وإنما هو بين أمرين عتق أو موت، فالعتق ليس فيه شيء، والموت له فيه القيمة على التدبير، فهو مثله لأنه أوكد الوجهين كامرأة المفقود حين عمي أمره أنزل أمرها في عمايته في عدتها بمنزلة الموت فاعتدت عدة وفاة ولم تعتد عدة فرقة.
قال محمد بن رشد: قوله في المدبر يباع فلا يدرى أين وقع ولا ما صار إليه إنما يجعل ثمنه كله الذي باعه به في مدبر بخلاف فواته بالعتق أو الموت صحيح بين في المعنى لأنه يخشى أن يكون حيا لم يمت ولا أعتق، فوجب نقض البيع فيه ورده إلى سيده على ما كان عليه من التدبير، فلما لم يكن ذلك وجب أن يجعل جميع الثمن في مدبر مثله.
فقول أصبغ: إن القياس إذا عمي أمره أن ينزل بمنزلة الموت ولا يكون أحسن حالا منه غلط بين، وكذلك قال محمد بن المواز: قوله غلط، قال: وقد طلب عمر رد المدبرة التي باعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فلما لم يجدها أخذ الثمن فجعله في مكانها.
وتفرقة ابن القاسم بين الموت والعتق هو نص قوله في المدونة، وعلمه في العتق أنه قد صار إلى خير مما كان فيه ومما يرد إليه ليس بعلة بينة في أنه يسوغ له جميع الثمن ولا يلزمه أن يتمخى منه شيئا لأنه وإن كان أعتق فإنما أعتقه المشتري وثواب عتقه له، فالقياس أن يلزمه أن يتمخى مما قبض زائدا(15/193)
على قيمته على الرجاء والخوف كما يفعل في الموت، وقد قال أبو إسحاق التونسي: القياس أن يكون لسيده البائع ثمنه كله إذا عند المشتري، كما يكون له جميع ثمنه إذا أعتقه المشتري؛ لأن التدبير يبطل بموته عند المشتري كما يبطل بعتقه أيضا، ولو أمكن أن يعلم أن المدبر يموت قبل سيده لجوزنا بيعه؛ إذ العتق إنما يجب له بعد موت سيده من الثلث، هذا معنى قول أبي إسحاق، قال وقد كان القياس أن يشتري بالثمن كله مدبرا مكان الأول فيكون له منه خدمته حياته كما كان له من الأول؛ لأنه إذا أخذ من ثمن الأول قيمته على الرجاء والخوف ناجزا وخدمه المدبر الذي يشترى بالفضل حياته فقد حصل له أكثر مما كان له في الأول إذ لم يكن له فيه سوى خدمته حياته، هذا معنى قول أبي إسحاق دون لفظه.
وهذا الذي قاله هو قول ابن كنانة في المدنية، قيل له: ما تقول في الذي يبيع المدبر فيموت بعتق أو غيره؟ قال: يؤمر أن يمخي من ثمنه، قال عيسى: قال ابن القاسم: هو له حلال يصنع به ما شاء، ورواية عيسى عن ابن القاسم هذه في المدنية أن الثمن له حلال في الموت والعتق يصنع به ما شاء، هو الذي ذهب إليه أبو إسحاق من أنه لا فرق بين الموت والعتق لبطلان التدبير في الوجهين جميعا، والذي اخترت أنا وبينت وجهه أنه يجب عليه أن يتمخى من الزائد على قيمته على الرجاء والخوف فيجعله في مدبر. فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال، أحدها: أنه لا يجب عليه أن يتمخى من شيء من ثمنه في الوجهين جميعا، والثاني: أنه يجب عليه أن يتمخى من جميع ثمنه في الوجهين جميعا، والثالث: أنه يجب عليه أن يتمخى مما زاد على قيمته على الرجاء والخوف جميعا، والرابع: الفرق بين الموت والعتق، ورواية ابن كنانة عن ابن القاسم في المدنية نحو قول ابن نافع، واختيار محمد بن خالد في سماعه من كتاب الولاء على ما حمله عليه بعض أهل النظر، وهو صحيح على ما ذكرناه هنالك، وبالله التوفيق.(15/194)
[مسألة: مدبر عجل له سيده بالعتق]
مسألة وسئل عن مدبر عجل له سيده بالعتق على أن يعطيه عشرة دنانير إلى شهر ثم مات السيد وترك مالا أيعتق المدبر في ثلثه وتسقط العشرة؟ قال: لا، وهي له لازمة.
قيل له: فإن أفلس العبد؟ قال: لا يحاص السيد بالعشرة، والغرماء يبدؤون عليه، وقاله أصبغ كله والعطية بتعجيل الحرية وقد تم له واتبع به ولو طرقه دين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الحرية قد وجبت للمدبر قبل موت سيده بما قاطعه عليه من العشرة إلى أجل، فلا تسقط عنه بموت سيده وإن كان ثلثه يحمله، ولا محاصة للسيد بها، إذ ليست بدين ثابت عليه، وإنما هي كالقطاعة ليس للسيد أن يقاص بها غرماء المكاتب، وبالله التوفيق.
[مسألة: المولى عليه يدبر عبده]
مسألة قال أصبغ وسمعت ابن القاسم وسئل عن المولى عليه يدبر عبده.
قال: لا يجوز تدبيره وإن حسنت حاله، ولا يلزمه، كان ذلك المال واسعا أو غير واسع، وإنما هو بمنزلة العتق، وكذلك قال مالك في العتق، قال ابن القاسم: والعتق لا يجوز منه قليل ولا كثير كان ماله واسعا أم لا.
قال محمد بن رشد: في المدونة لابن القاسم مثل قوله في هذه(15/195)
الرواية إن تدبيره بمنزلة عتقه، لا يجوز منه القليل ولا الكثير، كان ماله واسعا أو غير واسع، وقال ابن كنانة فيها: إن، كان ليس له غير ذلك العبد الذي دبر لم يجز تدبيره، وإن كان ماله واسعا ليس ذلك العبد بالذي يجحف بماله كان ذلك له وجاز، قال: وإن دبر عبدا هو وجه رقيقه أو أكثرهم ثمنا أو جارية مرتفعة هي جل ماله فإن ذلك لا يجوز، ولو كان ذلك جائزا عليه كان إذا بلغ حال الرضى قد حبس عليه من ماله بما صنع في حال الشحطة مالا يقدر أن ينتفع به إذا بلغ حال الرضى فليس يجوز له من ذلك إلا ما وصفنا.
وقول ابن القاسم هو القياس، وما ذهب إليه ابن كنانة استحسان، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدبر عبده في الصحة ويستثني ماله]
مسألة قال أصبغ وسمعته يقول في الرجل يدبر عبده في الصحة ويستثني ماله: لا بأس بذلك، وكذلك رويت عن مالك أن له أن يستثنيه ولا بأس بذلك، وقاله أصبغ، وتفسيره أن يستثنيه لبعد الموت إذا أعتق ليس استثناء انتزاع عن التدبير، وبعده ذلك يكون له استثناه أو لم يستثنه ولكن لبعد الموت وهو مقر في يديه مع ما يفيد إلى ذلك على ذلك دبر واستثنى فذلك جائز وذلك له، قال أصبغ: قال ابن القاسم: فإذا مات السيد قوم في الثلث بغير ماله ببدنه خالصا وأخذ منه كل ما كان بيديه، وكان مالا من مال الميت تقوم فيه رقبته مع غيره من مال الميت، وقاله أصبغ: قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: وهذا مما لا شك وإنما هو رجل أوصى فقال: إذا مت فعبدي فلان حر وخذوا منه ماله، ألا ترى لو أن مريضا قال في مرضه: غلامي مدبر وخذوا منه ماله أخذ منه، فما استثنى في الصحة بمنزلة ما استثنى في المرض، ولأنه حين اشترط ذلك عليه حين دبره(15/196)
في الصحة وكأنه انتزاع منه له في موضع يجوز له فيه انتزاع.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: مكاتب اشترى مدبرة فحملت]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن مكاتب اشترى مدبرة فحملت قال: أرى أن يوقف عنها، فإن أعتق المكاتب كانت أم ولد له، وإن عجز ردت إلى التدبير ورد الثمن إلى صاحبه، وكانت هي وولدها مدبرين لسيدهما، وأرى الثمن يوقف إلا أن يكون البائع مليئا.
قال محمد بن رشد: هذا على القول بأن أمة المكاتب تكون أم ولد له إذا أفضى إلى الحرية بما ولدت له في حال الكتابة قبل إفضائه إلى الحرية أو بما حملت به منه في حال الكتابة فوضعته قبل إفضائه إلى الحرية وبعد إفضائه إلى الحرية وأما على القول بأنه لا حرمة بإيلاده إياها ولا تكون بشيء من ذلك كله أم ولد، فإن البيع يتنقض فيها وترد إلى سيدها البائع لها على ما كانت عليه من التدبير.
وقد اختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا تكون له أم ولد بشيء من ذلك، والثاني: أنها تكون له أم ولد وإن كان الحمل قبل الشراء إذا كان الوضع بعده في حال الكتابة، والثالث: أنه لا تكون له أم ولد إلا أن يكون أصل الحمل بعد الشراء في حال الكتابة، وأما ما ولد له قبل الشراء فلا تكون له أم ولد إلا على مذهب أبي حنيفة، وبالله التوفيق.(15/197)
[مسألة: يهب مدبره جاهلا ويقبضه الموهوب له ويحوزه ثم يموت السيد ولا مال له]
مسألة وسئل أشهب عن الرجل يهب مدبره جاهلا ويقبضه الموهوب له ويحوزه ثم يموت السيد ولا مال له غيره.
قال: يعتق ثلثه، قلت فالثلثان الباقيان لمن هما؟ قال: للموهوب اللذان هما في يديه، قال أصبغ: وكذلك قال لي ابن القاسم فيها.
قال محمد بن رشد: قد تقدم مثل هذا من قول ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات في الصدقة، ومعناه إذا لم يعثر على ذلك حتى مات المتصدق، وأما لو عثر على ذلك في حياته لفسخت الهبة أو الصدقة، رد المدبر إلى الذي دبره؛ لأن المدبر لا يجوز بيعه ولا هبته ولا صدقته.
ولو وهبه ما رق منه إن لم يحمله الثلث وخدمته من الآن فقبضه وجازه من الآن لجاز ذلك ولم يرد، وكان للمتصدق عليه بعد موته ما رق منه؛ لأن هبة المجهول جائزة كما يجوز رهنه لجواز رهن الغرر ويكون المرتهن إذا حازه أحق به من الغرماء بعد الموت يباع له دونهم على ما قاله في المدبر من المدونة، والله الموفق.
[مسألة: يشتري المدبر وهو لا يعلم فيموت عنده]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يشتري المدبر وهو لا يعلم فيموت عنده: إن مصيبته منه ولا يرجع على البائع بشيء لا بالثمن ولا بما بين القيمتين، وكذلك قال مالك، وقاله أصبغ وقاله ابن وهب عن مالك.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في سماع محمد بن خالد من(15/198)
كتاب الولاء أنه يرجع على البائع بما بين قيمته مدبرا وقيمته غير مدبر، وهو الذي يأتي على أصله في المدونة؛ لأنه قال فيها: إذا حدث عند المبتاع به عيب فرده وما نقص العيب عنده على حكم البيع المردود بالعيب خلاف ظاهر هذه الرواية قول ابن نافع واختيار محمد بن خالد في سماعه فيما لم يعلم به من المال على القول بأن المدبر في المرض يدخل فيما علم به الميت من المال وفيما لم يعلم، ولا يكون له حكم التدبير في اللزوم له، ويصدق إن رجع عنه في أنه أراد به الوصية، وفي إعمال شهادة الشهود بما ظهر إليهم من قصد المشهود عليه اختلاف، أعملها في هذه الرواية وفي رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك، ولم يعملها في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: دبر عبدا فأبق العبد ومات السيد وأوصى بوصايا]
ومن كتاب الوصايا قال: وسئل ابن القاسم عن رجل دبر عبدا فأبق العبد ومات السيد وأوصى بوصايا.
قال: يوقف من الثلث قدر قيمته حتى ينظر في شأنه، فإن مات في إباقه ذلك ردت تلك الدنانير على أصحاب الوصايا إن كان بقي لهم شيء أو الورثة.
قيل له: إلى متى يوقف ذلك؟ قال: ينظر إلى قدر ما أتى عليه من السنين وما يعيش مثله، قال أصبغ: مسألة جيدة دقيقة من المسائل في بعض وجوهها جامعة.
قال محمد بن رشد: قوله يوقف من الثلث قدر قيمته حتى ينظر في شأنه فيه نظر، وإنما ينبغي أن ينظر، فإن كان يخرج المدبر وجميع الوصايا(15/199)
من الثلث بعد عتق المدبر ودفع إلى أهل الوصايا وصاياهم وأخذ الورثة بقية المال ولم يوقف شيء فإن كان المدبر حيا فقد أنفذت [له] الوصية وإن كان ميتا فقد سقطت فيه الوصية، والوصايا قد حملها الثلث فأنفذت وأما إن كان الثلث لا يحمل إلا الوصايا أو المدبر وتمثيل ذلك أن يكون الموصي قد ترك من المال مائتي دينار والمدبر الآبق وقيمته مائة دينار وأوصى بمائة دينار فإن كان المدبر حيا فقد عتقه وسقطت الوصايا لأن ثلث الميت قد استغرقه المدبر وكانت المائتان للورثة ميراثا وإن كان المدبر ميتا وجب لأهل الوصايا ثلث المائتين وذلك ستة وستون وثلثان؛ لأن المدبر إذا مات فكأنه لم يكن، فالواجب أن يوقف على هذا التنزيل ثلث المائتين، فإن انكشف أن المدبر حي كان الثلث الموقف للورثة، وإن كان ميتا كان لأهل الوصايا، وأما قوله إنه يوقف قيمة المدبر فليس ببين ولا صحيح، وبالله التوفيق.
[مسألة: السكوت هل يعد إذنا في الشيء وإقرارا به]
مسألة وسئل عن مكاتب دبر عبدا له فعلم السيد بذلك فلم ينكر عليه حتى عجز.
قال: لا تدبير له إلا أن يكون أمره بتدبيره، وليس السكوت والعلم شيئا.
قال محمد بن رشد: اختلف في السكوت هل يعد إذنا في الشيء وإقرارا به أم لا؟ على قولين مشهورين في المذهب منصوص عليهما لابن القاسم في غير ما وضع من كتابه أحدهما قوله في هذه الرواية وفي سماع عيسى من كتاب النكاح والصلح أنه ليس بإذن والثاني أنه إذن، وهو قوله في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، ورسم أسلم من سماع(15/200)
عيسى من كتاب النكاح، وأظهر القولين أنه ليس بإذن؛ لأن في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «والبكر تستأذن وإذنها صماتها» دليلا على أن غير البكر خلاف البكر في الصمت، وقد أجمعوا على ذلك في النكاح، فوجب أن يقاس ما عداه عليه إلا ما يعلم بمستقر العادة أن أحدا لا يسكت عليه إلا راضيا به، فلا يختلف في أن السكوت عليه إقرار به كالذي يرى حمل امرأته فيسكت ولا ينكر ثم ينكره بعد ذلك وما أشبه ذلك، وقد مضى هذا المعنى في المواضع المذكورة وفي غيرما موضع من كتابنا هذا، وبالله التوفيق.
[: دبر عبده فمات السيد فجهل الورثة فباعوه]
من سماع أبي زيد
ابن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: وسئل ابن القاسم عن رجل دبر عبده فمات السيد فجهل الورثة فباعوه ثم مات في يد المشتري أو هو قائم بعينه وكان الذي اشتراه به غنما فتوالدت وكثرت.
قال ابن القاسم: أما العبد فإن كان قائما بعينه رد فإن كان للميت مال يعتق فيه أخرج في ثلثه عتيقا، وإن كان ليس له مال يخرج من ثلثه عتق منه ما حمل الثلث ورق ما بقي، وكان المشتري بالخيار فيما رق منه إن شاء تمسك بما رق منه إن كان نصفه دفع إلى الورثة نصفه وأخذ نصف قيمة الغنم يوم قبضت منه، وأما الغنم فهي للورثة ليس له منها شيء، إنما يرجع عليهم بقيمتها يوم قبضت منه إن لم يخرج العبد كله كان بالخيار في ما بقي منه على ما بينت لك. وإن مات العبد ولسيده أموال، المذكور من كتاب الولاء أنه لا(15/201)
يرجع على البائع بشيء، فيحتمل أن يكون معنى قوله في هذه الرواية: وهو لا يعلم، أن لا يعلم بأن بيع المدبر لا يجوز، لا أنه لم يعلم أنه مدبر، فلا يكون على هذا اختلاف من قول ابن القاسم في أن المبتاع يرجع على البائع، وقد مضى في أول الرسم تحصيل القول فيما يلزم البائع في الثمن، وقد كان القياس على المذهب إذا اشتراه وهو يعلم أنه مدبر ففات عنده بموت أن تكون عليه قيمته؛ لأنه بيع فاسد لعقده فات الرد فيه بالموت على القول بأن البيع الفاسد لعقده إذا فات يرد إلى القيمة ولا يمضي، بالثمن، وإن حملت هذه الرواية على ظاهرها من أنه لا رجوع للمشتري على البائع بشيء إذا مات المدبر عنده وإن كان اشتراه وهو لا يعلم بتدبيره فيأتي مثل قول ابن نافع في كتاب الولاء وخلاف مذهبه في المدونة وخلاف ما في المدونة أيضا في أن البائع يلزمه أن يتمخى مما أخذ زائدا على قيمته على الرجاء. والخوف؛ لأنه إذا لم يجب للمبتاع عليه رجوع إذا دلس له بالتدبير فمات عنده لا يجب عليه هو أن يتمخى من شيء من الثمن، وبالله التوفيق.
[مسألة: المدبر في المرض أيدخل في المال الغائب الذي لم يعلم به الميت]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن المدبر في المرض أيدخل في المال الغائب الذي لم يعلم به الميت؟ قال: نعم، قلت فالعتق بتلا؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قوله إن المدبر في المرض يدخل فيما علم الميت من المال وفيما لم يعلم هو ظاهر ما في رسم جاع من سماع عيسى من(15/202)
كتاب الديات، ومثل نص قوله في المدنية من رواية عيسى عنه خلاف مذهبه في المدونة من أنه لا يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال إلا المدبر في الصحة، فعلى هذه الرواية إذا اجتمعا بدئ المدبر في المرض على المبتول فيه، وقد قيل إنهما يتحاصان وقيل أيضا إنه يبدأ المبتول في المرض، فعلى هذا القول يدخل المبتول في المرض فيما لم يعلم به الميت من المال، فإن اجتمعا جميعا على القول بأنه لا يدخل المبتل في المرض في المال الذي لم يعلم به الميت، وللميت مال قد علم به ومال لم يعلم به فثلث المال الذي علم به يقصر عن قيمتهما قوما جميعا في ثلث المال الذي علم به، ثم أكمل عتق المدبر منهما في ثلث المال الذي لم يعلم به أو ما حمل منه زائدا إلى ما أعتق منه مع المبتل في ثلث المال الذي علم به، مثال ذلك أن يترك المتوفى ثلاثين دينارا ومدبرا في المرض قيمته ثلاثون دينارا أو مبتلا فيه قيمته ثلاثون دينارا أيضا ويطرأ له ثلاثون دينارا لم يعلم بها الميت، فجميع مال الميت الذي علم به على هذا تسعون، الثلث من ذلك ثلاثون فيعتق من حل واحد منهما نصفه بخمسة عشر، ثم يرجع المدبر فيقول لي ثلث الثلاثين التي طرأت للميت، فيعتق منه بعشرة زائدا إلى ما أعتق منه مع المبتل، فيكمل فيه من الحرية خمسة أسداسه.
ولو كان المال الذي طرأ للميت خمسة وأربعون فأكثر لعتق باقيه في ثلث ذلك، ولو كان المال الذي علم به الميت ستين، والمال الذي طرأ له ثلاثون لعتق من كل واحد منهما في ثلث ما علم به الميت من المال ثلثاه؛ لأن جميع المال الذي علم به الميت مع قيمة المدبرين مائة وعشرون، الثلث من ذلك أربعون، فيعتق من كل واحد منهما بعشرين، ثم يرجع المدبر فيستتم باقيه في ثلث المال الطارئ، وبالله التوفيق.(15/203)
[: قال في مرضه إن مت من مرضي هذا فغلامي مدبر]
ومن كتاب الوصايا قال ابن القاسم في رجل قال في مرضه: إن مت من مرضي هذا فغلامي مدبر.
قال: إن مات فيه فهي وصية وليس تدبيرا وإن عاش فهو أيضا وصية يصنع بها ما شاء إلا أن يكون أراد بذلك تدبيرا واجبا ساعته مثل أن يكون تعمد التدبير عند الوصية وأخطأ وجه الكتاب والوصية فظن أن ذلك وجه الصواب والمأخذ وأنه التدبير، قال أصبغ: فهو تدبير حينئذ، أو يرى الشهود أنه إنما أراد التدبير ويقطعون ذلك فيما يرون، أو يوقف قبل موته ويسأل عن ذلك فيذكر أنه أراد التدبير، والقول قوله لما يذكر من إرادته.
قال محمد بن رشد: قوله إن مات فهي وصية يريد أن له حكم الوصايا في التبدئة وفيما لا يدخل فيما لم يعلم به من المال، وفي أن له أن يرجع عنه في مرضه ذلك إن شاء.
وقوله: إن عاش فهي وصية يريد إن كان كتب ذلك في كتاب ووضعه عند غيره أو أبقاه عند نفسه على اختلاف قول مالك في ذلك، وأما إن لم يكتب ذلك في الكتاب فالوصية باطلة إن لم يمت من مرضه ذلك حسبما مضى من تحصيل ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا، وقد قيل: إنه تدبير لازم لا رجوع له، حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم، ومثله في كتاب ابن سحنون لابن القاسم ولابن كنانة، وقال أصبغ: إن أراد به التدبير مثل قوله بلفظ وقول ابن القاسم في هذه الرواية، ولكلا القولين وجه؛ لأنه لفظ بلفظ التدبير وعلقه بموته من مرضه ذلك.(15/204)
والذي أقول به في هذا أنه إن مات من مرضه ذلك كان مدبرا على ما قال، يكون له حكم التدبير من التبدئة. والدخول مأمونة من دور وأرضين فهو حر ويلزمه رد قيمة الغنم إلى المشتري، وإن كان لا يخرج إلا بعضه رد بقدر ما يخرج منه، وما بقي كانت مصيبته من المشتري، وإن كان موته بعد زمان واقتسمت الأموال على أمانة لو كان بأيديهم كان حرا رأيت للمشتري أن يرجع فيما يأخذ قيمة الغنم من الورثة وتكون مصيبته منهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على ما قال؛ لأن العتق قد وجب للمدبر بموت سيده إن حمله الثلث أو ما حمل منه، فإذا باعه الورثة وعثر عليه قبل أن يموت وجب أن يرد ويعتق في ثلث الميت إن حمله الثلث، ويأخذ المبتاع غنمه إن كانت قائمة أو قيمتها إن كانت قد فاتت، والولادة فيها فوت لأنها تفوت في هذا بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة الأسواق فما فوق ذلك، وإن لم يحمل الثلث عتق منه ما حمل الثلث ورجع بقدر ذلك من قيمة الغنم إن كانت فاتت، وكان بالخيار فيما رق منه إن شاء تمسك به وإن شاء رده ورجع بجميع قيمة الغنم يوم وقع البيع فيها.
وإن مات العبد عند المشتري ولسيده أموال مأمونة كانت مصيبته من الورثة، ورجع المشتري عليهم بجميع قيمة الغنم لفواتها بالولادة؛ لأن الحرية تجب له بموت سيده إن كانت له أموال مأمونة، وإن لم تكن له أموال مأمونة وكان موته بحدثان بيعه قبل النظر في مال الميت فمصيبته من المشتري وينفذ بيعه، قاله ابن المواز، وهو مفسر لقول ابن القاسم، وإن كان موته بعد طول فمصيبته من الورثة إن علم أنه كان يخرج من الثلث ويرجع المبتاع عليهم بجميع قيمة الغنم، وإن علم أنه كان لا يخرج منه في الثلث إلا بعضه رجع على الورثة من قيمة الغنم بقدر ما كان يحمل الثلث منه، وكانت مصيبته باقية من المبتاع، هذا معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية، وبالله التوفيق.(15/205)
[مسألة: قال في مرضه جاريتي مدبرة عن ولدي إن حدث بي حدث فصح]
مسألة وسئل عن رجل قال في مرضه جاريتي مدبرة عن ولدي إن حدث بي حدث فصح.
قال فلا شيء عليه، ولا تكون مدبرة عن ولده، ولو قال في مرضه جاريتي مدبرة ولم يستثن شيئا ولم يقل إن مات من مرضه إلا قال مدبرة فقط، قال فهي مدبرة وإن صح من مرضه ذلك.
قال محمد بن رشد: أما الذي قال في مرضه جاريتي حرة إن حدث بي حدث فصح من مرضه فبين أنه لا شيء عليه كما قال؛ لأنها وصية بتقييده إياها بذلك المرض، فيبطل إذا صح منه إلا أن يكون كتب بذلك كتابا ووضعه عند غيره أو أمسكه عند نفسه على اختلاف في ذلك حسبما بيناه في رسم الوصايا من سماع أصبغ قبل هذا، وسواء قال في ذلك عن ولده أو لم يقل، الأمر في ذلك سواء إذا صح من مرضه ذلك، وإنما يفترق ذلك إن مات منه، فإن لم يقل عن ولدي أعتق بعد موته من ثلثه، قيل على حكم الوصية، وقيل على حكم التدبير حسبما مضى من الاختلاف في ذلك في رسم الوصايا من سماع أصبغ، وإن قال: عن ولدي فقيل: تعتق بموته من ثلثه، وقيل: تعتق بموت ابنه من رأس المال، والولاء للابن على كل حال حسبما مضى بيانه في رسم المحرم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغلامه أنت مدبر عن أبي]
مسألة وقال في رجل قال لغلامه أنت مدبر عن أبي: فإنه سواء كان أبوه حيا أو قد مات أبوه حين قال ذلك لا يعتق إلا بعد موت سيده الذي دبره عن أبيه ولا يعتق عند موت أبيه إلا أن يقول العبد عن دبر من(15/206)
أبي، فإن كان أبوه قد مات كان حرا الساعة قال وإن كان أبوه حيا فإنما يعتق إذا مات أبوه، وولاؤه لأبيه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية خلاف ما تقدم من قوله في رسم المحرم من سماع ابن القاسم، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وبالله التوفيق لا شريك له.
تم كتاب المدبر بحمد الله تعالى وحسن عونه(15/207)
[: كتاب المكاتب]
[: قطاعة المكاتب على أن يضع عنه ويعجل له]
كتاب المكاتب
من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب قطع الشجر قال: أخبرنا سحنون قال ابن القاسم: قال مالك فيمن قاطع عبده: إنه إن جاء به إلى الأجل أو ما أشبهه فذلك له، وإلا أخر العبد شهرا ونحوه كما يؤخر الغريم، فإن جاء به وإلا فلا قطاعة له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مثل ما في المدونة وغيرها أنه يتلوم له في القطاعة كما يتلوم له في الكتابة إذا عجز عن أدائها، وسواء كان المقاطع عبدا على ظاهر هذه الرواية أو مكاتبا؛ لأن قطاعة المكاتب على أن يضع عنه ويعجل له جائزة لأنه يتعجل العتق بذلك، وليست الكتابة بدين ثابت فيدخله ضع وتعجل.
وأما مقاطعته على أن يؤخره بالكتابة ويزيده فيها فاختلف في ذلك إذا لم يعجل عتقه، والقولان في المدونة، أجاز ذلك في كتاب المكاتب، ولم يجزه في آخر كتاب الحوالة.
وقوله فإن جاء به وإلا فلا قطاعة عليه معناه لا قطاعة له لأن حرف الجر قد تبدل بعضها من بعض، قال تعالى {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي عليها، فإذا بطلت قطاعته بالحكم بتعجيزه بعد التلوم له(15/209)
بقي على ما كان عليه من الكتابة إن كان مكاتبا حتى يعجز عن أداء كتابته عند حلولها، وعلى ما كان عليه من الرق إن كان عبدا، وقيل: إنه إن كان مكاتبا فعجز عن المقاطعة التي قوطع عليها رجع رقيقا، وهو الأظهر؛ لأن القطاعة في الكتابة إنما معناها فسخ الكتابة والانتقال عنها إلى القطاعة، وفي قوله وإلا أخر شهرا أو نحوه كما يؤخر الغريم نص منه على لزوم الحكم بتأخير الغريم إذا أعسر بالدين بعد حلول الأجل على ما مضى عليه الحكم عندنا بفتوى جميع الشيوخ من أن يؤجل الغريم بعد حلول الأجل إذا أعسر بالدين ولم يكن عنده ناض إلا أن يبيع عروضه بالاجتهاد على قدر قلة المال وكثرته بحميل يقيمه في ذلك، ولا يوكلون عليه في بيع عروضه وعقاره في الحال إذا لم يعامله الغريم على ذلك خلاف ما كان يفتي به سائر فقهاء الأمصار بالأندلس من التوكيل عليه في بيع ماله وتعجيل إنصافه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري كتابة المكاتب أيقاطعه بالذهب كما يقاطعه سيده]
مسألة وسئل مالك عن الذي يشتري كتابة المكاتب أيقاطعه بالذهب كما يقاطعه سيده؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأن مشتري الكتابة بما يجوز اشتراؤها به مما يصح اشتراء الديون به يحل محل البائع في أنه يرثه إن مات، وتكون له رقبته إن عجز، فكذلك يحل محله في جواز مقاطعته إياه وإن مات وعليه دين أو فلس لم يحاص الغرماء بما قاطعه به، قال ذلك مالك في كتاب ابن المواز لأنه ينزل في ذلك منزلة سيده الذي كاتبه.
وجواز شراء كتابة المكاتب عند مالك وأصحابه أمر متبع لا يحمله القياس؛ لأنه غرر، وقد روي عن ابن القاسم أنه قال: بلغني أن ربيعة وعبد العزيز قالا: بيع كتابة المكاتب غرر لا يجوز؛ لأنه إن عجز كانت له رقبته، وإن أدى كان ولاؤه للبائع الذي كاتبه، ووقع قول ربيعة في رسم شك من سماع ابن القاسم(15/210)
من كتاب الجامع من رواية ابن القاسم عن مالك عنه، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن بيع كتابة المكاتب لا يجوز، وبالله التوفيق.
[مسألة: مكاتب وضع عنه سيده ثلث ما عليه من كتابته في مرضه]
مسألة وسئل مالك عن مكاتب وضع عنه سيده ثلث ما عليه من كتابته في مرضه، ثم إن المكاتب عجز عن أداء الكتابة، قال: قد عتق ثلثه.
قال محمد بن رشد: معناه أنه مات من مرضه ذلك فعجز بعد موته؛ لأن وضع ثلث كتابته عنه في مرضه كالوصية له بعتق ثلثه، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه، وأما لو صح من مرضه فعجز في حياته لم يعتق عليه منه شيء، وكذلك لو أعتق ثلثه في صحته ثم عجز لم يعتق عليه منه شيء؛ لأن عتقه لما أعتق منه إنما هو وضع لما عليه من الكتابة وليس بعتق إذ ليس بمالك لرقبته، وإنما يملك منه كتابته، وكذلك إن كان المكاتب بين اثنين فأعتق أحدهما حظه منه، ثم عجز في نصيب صاحبه لم يعتق على المعتق حظه منه في قول مالك وجميع أصحابه، وفي ذلك اختلاف بين السلف ذكره في المدونة عن الليث بن سعد أنه سمع يحيى بن سعيد يقول: إن الناس قد اختلفوا في حظ المعتق منه إذا عجز، فقال ناس: يكون له حظه منه إذا عجز؛ لأنه لم يعتق له رقا وإنما ترك له مالا، وبالله التوفيق.
[: العبد بين الرجلين لا يجوز لأحدهما أن يكاتب نصيبه منه بإذن شريكه]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين
في السنة وسئل مالك عن عبد كان بين ثلاثة إخوة فكاتبه اثنان منهما بإذن أخيهما شريكهما فيه، وكان على كتابته، ثم إن اللذين كاتباه(15/211)
قاطعاه بإذن شريكهما الذي له فيه الرق وعتق نصيبهما، ثم إن الذي بقي له فيه الرق مات ورثه ورثته وخدمهم في نصيبه سنين، ثم قيل له ذلك تقوم على الذين قاطعاك.
قال مالك: أراه رقيقا ولا ينفعه ما كاتباه به بإذن شريكهما ولا مقاطعتهما إياه دون شريكهما.
قيل له: إنه قد أذن لهما؟ قال: لا ينفعه ذلك وأراه رقيقا، قال لي قبل ذلك: ويردان ما أخذا منه فيكون بينهم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على مذهبه في أن العبد بين الرجلين لا يجوز لأحدهما أن يكاتب نصيبه منه بإذن شريكه ولا بغير إذن شريكه، فإن فعل فسخ ولم يجز، وإن لم يعثر عليه حتى أدى ما كوتب عليه كان ما قبض بينهما، وكان العبد رقيقا لهما، وقد قال في موطأه: إنه الأمر المجتمع عليه عندهم؛ لأنه خلاف لما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل» الحديث، ولا فرق في هذا بين أن يقبض الشريك ما كاتبه عليه أو يقاطعه على ذلك فيقبض ما قاطعه عليه، ولا فرق أيضا بينهم وبين ورثتهم فيما يجب من فسخ الكتابة، فالمسألة بينة لا إشكال فيها، وبالله التوفيق.
[: المكاتب يضع عنه سيده ما عليه عند موته وله ولد]
ومن كتاب ليرفعن أمرا قال ابن القاسم سئل مالك عن المكاتب يضع عنه سيده ما عليه عند موته وله ولد قد ولدوا في كتابته أيقام بولده أم برقبته وحده؟ قال: بل يقام وولده معه، فإن كانوا أقل من القيمة من قيمة الكتابة عتقوا، وإن كانت قيمة الكتابة أقل من القيمة عتقوا.(15/212)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن ولده الذين ولدوا في الكتابة بمنزلته، فإذا أوصى بعتق مكاتبه أو بوضع ما عليه من كتابته فيوضع في الثلث الأقل من قيمته على ما هو عليه من ملاءة وقيمة ولده أو الأقل من قيمة الكتابة، هذا قول ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك، وقال غيره: إنما ينظر إلى الأقل من قيمة الرقبة وعدد الكتابة، ومثله لمالك في كتاب الجنايات من المدونة في موضع واحد منه.
وكذلك إذا قتل المكاتب يغرم قاتله لسيده قيمته على الحالة التي كان عليها، قاله في كتاب الجنايات من المدونة، وطرح سحنون منها قوله على الحال التي كان عليها، وقال: إنما يقوم في المثل بغير ماله؛ لأن ماله يبقى إلى سيده، ولم يرد مالك أن يقوم في القتل بماله، وإنما أراد أن يقوم بغير ماله على الحال التي كان عليها من قدرته على اكتساب المال وبصره في ذلك، والله أعلم وبه التوفيق.
[مسألة: قول العبد في تعجيل الوضيعة من أول النجوم]
مسألة وسئل مالك عن مكاتب كاتبه سيد على أربعمائة دينار وخمسين دينارا على أن يدفع له في أول سنة سبعة عشر دينارا والنجم الآخر أدنى من ذلك، ونجم آخر مثله، فأوصى إن أدى هذه الأربع نجوم وضع عنه من كتابته خمسين دينارا فتكاملت عليه أربع نجوم سوى الأول، فقال العبد: قاصوني بها فيما وضع عني سيدي من الخمسين.
قال مالك: لا أرى له شرطا في أول ولا آخر، وأرى أن تقسم تلك الخمسون الدينار على النجوم فيوضع عنه بقدر كل نجم ما يصيبه من الخمسين، وكانت وصيته وقد تداركت على العبد أربع(15/213)
نجوم لم يؤدها، قال أرى أن يقسم ذلك على ما حل وما لم يحل، ولا ينظر في ذلك إلى قول العبد لأن يعجل له، ليس ذلك له. قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه. من أن وجه الحكم في ذلك الفض على جميع النجوم إذ لم يخص الموصى الأول منها من الآخر، فلا ينظر إلى قول العبد في تعجيل الوضيعة من أول النجوم، ولا إلى قول الورثة في تأخيرها إلى آخر النجوم، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتقت نصف عبد لها بعد الموت وأمرت أن يكاتب نصفه الآخر]
مسألة وسئل عن امرأة أعتقت نصف عبد لها بعد الموت، وأمرت أن يكاتب نصفه الآخر كيف يكاتب النصف؟ قال: على قدر حاله وقوته في ذلك وجرائه عدى قدر تأديته.
قال محمد بن رشد: قوله أعتقت نصف عبد لها بعد الموت معناه أوصت بعتقه بعد موتها فالمسألة بينة على ما قال؛ لأنها إذا أوصت بعتق نصفها فلا يجب أن يعتق عليها النصف الآخر في ثلثها باتفاق في المذهب، وإذا لم يجب ذلك وجب أن تنفذ وصيتها بأن يكاتب النصف الآخر على ما قال من قدر حاله وقوته على الأداء وجرائه، ونقل ابن أبي زيد هذه المسألة في النوادر فقال فيها: أعتقت نصف عبد لها عند موتها والحكم في ذلك سواء؛ لأنها إذا أعتقت نصفها في مرضها فلم يعثر على ذلك حتى ماتت لا يعتق النصف الآخر عليها في ثلثها إلا أن يكون الموت قد عافصها على اختلاف في ذلك قد مضى تحصيله في رسم العتق من سماع أشهب من كتاب العتق، ولو أعتقت نصف عبد لها في مرضها فأوصت بأن يكاتب النصف الآخر فعثر على ذلك قبل موتها لعتق عليها باقيها في ثلثها وبطلت الوصية في ذلك بعتقها، وبالله التوفيق.(15/214)
[مسألة: يعطى المكاتب من الزكاة ما يعتق به]
مسألة وسئل عن قوم يقسمون من الصدقة وجدوا مكاتبا قد بقيت عليه بقية من كتابته أترى أن يعطى منها ما يعتق به؟ قال: ما أرى بأسا وغيره أحب إلي يعني تركه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال أحدها هذا أنه يجوز أن يعطى المكاتب من الزكاة ما يعتق به وإن كان ولاؤه للذي كاتبه، وكذلك يجوز على هذا القول أن يعطي الرجل من زكاة ماله الرجل على أن يعتق عبده وإن كان ولاؤه للمعتق، وكذلك الرقبة يكون بعضها حرا وبعضها رقيقا يجوز أن يشتري ما رق منها من الزكاة فيتم ذلك عتاقتها، وقد حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة عن مالك والقول الثاني أنه لا يجوز أن يعطى من الزكاة المكاتب وإن تمت ذلك عتاقتة من أجل أن ولاءه للذي كاتبه، وهو نص قول ابن القاسم في الواضحة أنه لا يجوز أن تجعل زكاته إلا في رقبته يكون ولاؤه لجميع المسلمين وظاهر روايته عن مالك في المدونة، والقول الثالث أنه يجوز أن يعان بذلك المكاتبون الذين لا يقدرون على أداء كتابتهم فيودوا عتقهم بقدر قله المال وكثرته من غير أن يشترط في ذلك كمال حريتهم، هذا ظاهر قول المغيرة في تأويل قول الله تعالى وفي الرقاب وظاهر ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف أنه قال: وقد أشار على مالك وعلى بن أبي حازم أن يجعل من الصدقات في المكاتبين وفي الرقاب، والقول الأول استحسان، والثاني هو القياس، وقول المغيرة ضعيف، ووجهه إتباع ظاهر قَوْله تَعَالَى {وَفِي سَبِيلِ} [التوبة: 60] قال ابن حبيب: وكان أصبغ لا يرى أن يفك أسرى المسلمين من الزكاة، ومن فعل ذلك ضمنها، وأنا لا أرى ذلك؛ لأنها رقاب قد جرى عليها الرق لأهل الشرك، فإنما يفك من رق إلى عتق، وبالله التوفيق.(15/215)
[مسألة: أعانوا المكاتب على وجه الفكاك لرقبته]
مسألة قال مالك: كان زياد قد أعانه الناس في فكاك رقبته وأسر الناس في ذلك، وفضل ما قوطع عليه مال كثير، فرده إلى من أعطاه بالحصص، وكتبهم زياد عنده فلم يزل يدعو لهم حتى مات. قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وقوله في المدونة أنهم إن كانوا أعانوا المكاتب على وجه الفكاك لرقبته ولم يكن ذلك منهم على وجه الصدقة عليه، كان عليه أن يستحل من ذلك أو يرده عليهم بالحصص كما فعل زياد مولى ابن عباس.
[: أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد]
ومن كتاب البز قال مالك في الذين يرون الاستسعاء وخطأ ما يقولون، كيف يصنعون بالصبي الصغير؟ يريد الذي ليس فيه عمل، والجارية التي تستسعى ولا تقوم على عمل؟.
قال محمد بن رشد: لم يأخذ مالك بحديث الاستسعاء وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من أعتق نصيبا أو شركا في مملوك فعليه خلاصه كله في ماله، فإن لم يكن مال استسعي العبد غير مشفوق عليه» وإنما أخذ بحديث ابن عمر الذي رواه عن نافع عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل فأعطي شركاؤه حصصهم وأعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه منه ما عتق» إما لأنه لم يصح عنده حديث أبي هريرة في(15/216)
الاستسعاء، يكون العبد ممن لا تصح السعاية منه على ما قاله في هذه الرواية وتابعه جميع أصحابه على قوله فلم يوجبوا للشريك على المعتق لحظه من العبد إذا كان معسرا قيمة، ولا على العبد سعاية، وقالوا: هو بالخيار إن شاء أعتق حظه، وإن شاء تمسك به رقيقا، وقد قيل: إن من حقه أن يضمنه القيمة فيتبعه بها في ذمته ويعتق العبد عليه، وقد مضى ذلك في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب العتق.
ومن أهل العلم خارج المذهب من رأى المعتق ضامنا لقيمة نصيبه موسرا كان أو معسرا، وقالوا: هي جناية منه عليه في نصيبه فيلزمه قيمته في اليسر والعدم ويكون له ولاؤه شاء شريكه أو أبى، وحجتهم على ما روي عن أبي الملح عن أبيه «أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك فأعتقه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال ليس لله شريك» .
ومنهم من قال: إن الشريك مخير إن شاء أعتق نصيبه وفك له نصف ولائه وإن شاء ضمن المعتق فعتق عليه جميعه وكان له ولاؤه كما يقول أصحاب مالك في الموسر.
ومنهنم من يقول: إن العبد يعتق كله على الذي أعتق حظه منه، ويكون ولاؤه له موسرا كان أو معسرا، فإن كان موسرا ضمن القيمة لشريكه، وإن كان معسرا استسعى العبد فيها، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن.
ومنهم من قال: إن الشريك مخير إذا كان المعتق لحظه معسرا بين أن يعتق حظه فيكون له نصف ولائه، وبين أن يستسعى العبد في نصف قيمته، فإذا أداها إليه عتق، وهو قول أبي حنيفة، ومن قوله أيضا في الموسر أن الشريك بالخيار إن شاء أعتق كما أعتق وكان الولاء بينهما، وإن شاء استسعى العبد في نصف القيمة، فإذا أداها عتق وكان الولاء بينهما، وإن شاء ضمن المعتق نصف القيمة فإذا أداها عتق ورجع بها المضمن على العبد استسعاه فيها وكان ولاؤه للعتق، وبالله التوفيق.(15/217)
[مسألة: القول قول المكاتب مع يمينه]
مسألة وسئل مالك عن مكاتب كوتب على كذا وكذا درهما في نجوم وزعها عليه فجاء بنجومه عددا ولم يكن في شرطه عدد ولا كيل فأبى أهله أن يأخذوا إلا كيلا وفيها زيادة في وزنها، فقال مالك: إذا أعطاهم دراهم وازنة فرادى فليس لهم غير ذلك.
قال محمد بن رشد: معنى هذا إذا كان البلد يجري فيه الفرادى والكيل ولم يكن بينهما شرط ولا ادعى أحدهما نية، وأما إن كان البلد يجيء فيه الفرادى والكيل ولم يكن بينهما شرط فقال المكاتب: إنما أردت الفرادى، وقال السيد إنما أردت الكيل، فالقول قول المكاتب مع يمينه، فإن نكل كان القول قول السيد مع يمينه، وكذلك إذا اختلفا فقال المكاتب: كان الشرط بيننا على الفرادى، وقال السيد بل كان الشرط بيننا على الكيل، فالقول قول المكاتب مع يمينه على ما يدعي من الشرط، فإن نكل كان القول قول السيد على ما يدعي منه أيضا، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على أصولهم، وبالله التوفيق.
[: الوكلاء مؤتمنون]
ومن كتاب باع غلاما
بعشرين دينارا قال مالك في مكاتب كان يبيع لسيده في ماله، كان رجل قد دفع إلى سيده سلعة يبيعها له، فزعم المكاتب أنه قد باعها وحاسبه سيد بثمنها وقبضه منه.
قال: ما أرى أن يلزم المكاتب ما أقر به من أمر تلك السلعة بشيء من ثمنها.(15/218)
قال محمد بن رشد: معنى قوله: إنه لا يلزمه غرم ثمن السلعة ويصدق مع يمينه في أنه قد حاسب سيده به وقبضه منه على أصولهم في أن الوكلاء مؤتمنون مصدقون مع أيمانهم في دفع أثمان ما وكلوا على بيعه، وفي ذلك تفصيل واختلاف قد مضى تحصيله في رسم حلف أن لا يبيع سلعه سماها من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات، وفي غير ما موضع سواه، وبالله التوفيق.
[: مكاتب بين رجلين فيريد أحدهما بيع نصيبه منه]
ومن كتاب نذر سنة يصومها وسئل عن مكاتب بين رجلين فيريد أحدهما بيع نصيبه منه.
قال: ما أعلم أن المكاتب يباع بعضه، قلت أفتكره ذلك؟ قال: نعم، إما أن يباع كله وإما أن يترك.
قال سحنون: إنما يكره بيع نجم من نجوم المكاتب، فأما ثلث ما عليه أو ربعه أو نصفه فليس به بأس، قال أصبغ مثله، وإنما يكره بيع نجم من نجومه إذا كان بعينه فإذا لم يكن بعينه لم يكن به بأس؛ لأن ذلك يرجع إلى أن يكون جزءا من الأجزاء، وقال سحنون مثله، وقال إذا اشترى نجما من عشرة أنجم واشتراه مسجلا ليس بعينه فهو جائز، وهو كأنه اشترى عشر الكتابة.
قيل له: فإن عجز المكاتب عن أداء كتابته؟ قال: يكون عشر رقبته رقيقا لهذا الذي اشترى نجما من عشرة أنجم.
قال محمد بن رشد: لم يجز مالك في هذه الرواية لأحد الشريكين في كتابة المكاتب أن يبيع حصته منها، وله مثل ذلك في سماع يحيى وفي سماع سحنون، خلاف ما له في موطأه من إجازة ذلك، ولم يختلف قوله في(15/219)
أنه لا يجوز للرجل، إذا كانت الكتابة كلها له أن يبيع جزءا منها، وأجاز ذلك ابن القاسم في سماع أصبغ مثل قول سحنون وأصبغ ها هنا في إجازة بيع جزء من أجزاء الكتابة وبيع نجم منها إذا لم يكن معينا؛ لأنه يرجع إلى جزء معلوم، وسواء اتفقت النجم في العدد أو اختلفت إذا عرف عددها وعدد كل نجم منها، جاز شراء نجم منها إذا لم يكن بعينه لأنه يرجع إلى جزء معلوم، وقد وقع في العشرة ليحيى.
قلت لم كره لأحد الشريكين بيع نصيبه من الكتابة ولو اجتمعا جميعا على بيعها لم يكن بذلك بأس؟ قال: إنما بيع الشريك نصيبه بمنزلة الذي يملكه كله فيبيع نصفه.
قلت له: فإذا كان كله لرجل فلأي شيء يمنع من بيع نصفه وقد يجوز له بيع الجميع؟ فقال: لم يختلف في هذا قول مالك، وبه مضى الأمر عندهم في المكاتب أن لا يبعض، وإنما يجوز بيعه كله وبيعه كله فيه مغمز،. وإنما يجوز إتباعا لمالك فكيف يجوز بيع بعضه؟ فهذا من قول ابن القاسم خلاف قوله من سماع أصبغ عنه، وخلاف قول سحنون وأصبغ ها هنا مثل قول مالك في هذه الرواية ومثل ما وقع له أيضا في سماع يحيى وفي سماع سحنون.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا يجوز بيع جزء من الكتابة كلها لرجل واحد فباع بعضها أو كانت بين رجلين فباع أحدهما حصته منها، وهو قول مالك في هذه الرواية، وما وقع من قوله في سماع يحيى وسماع سحنون؛ لأنه إذا لم يجز لأحد الشريكين بيع نصيبه فأحرى أن لا يجيز للذي له الكتابة كلها بيع بعضها، وقول ابن القاسم في العشرة أيضا، والثاني أن ذلك جائز في الوجهين جميعا، وهو قول سحنون وأصبغ ها هنا، وقول ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا؛ لأنهم إذا أجازوا للرجل الواحد أن يبيع بعض كتابته أو نجما غير معين منها فأحرى أن يجيزوا لأحد الشريكين في الكتابة بيع حصته(15/220)
منها، والثالث الفرق بين الوجهين، وهو قول مالك في موطأه؛ لأنه أجاز فيه لأحد الشريكين في الكتابة بيع نصيبه منها.، ولم يختلف قوله في أنه لا يجوز إذا كانت الكتابة لرجل واحد أن يبيع جزءا منها، وإنما يجوز لأحد الشريكين في الكتابة بيع حصته منها على مذهب من يجيز ذلك إذا باع حصته من أجنبي، فأما إن باعها من المكاتب فلا يجوز؛ لأن ذلك كالقطاعة، ولا يجوز لأحد الشريكين أن يقاطع المكاتب على نصيبه من الكتابه دون إذن شريكه، قال ذلك ابن الماجشون في كتاب ابن المواز، وقاله محمد بن المواز أيضا، وهو قائم من قول مالك في موطأه؛ لأنه قال فيه: إنه إذا باع أحد الشريكين في الكتابة نصيبه في الكتابة لم يكن للمكاتب في ذلك شفعة؛ لأنه يصير بمنزلة القطاعة، وليست له بذلك حرمة.
قال: وأما إذا بيعت الكتابة كلها فأحسن ما سمعت أنه أحق باشتراء كتابته ممن اشتراها إذا قوي أن يؤدي إلى سيده الثمن الذي باعه به نقدا، وذلك أن اشتراءه نفسه عتاقة، ومعنى ذلك عندي أنه أحق بها بما يعطي فيها ما لم ينفذ البيع فيها على ما قاله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب العتق في الرجل تكون تحته المرأة ثلثها حر وثلثاها رقيق، وله منها ولد أنه أحق بهم بالثمن الذي أعطى سيدهم به إن أراد بيعهم، ومثله أيضا لمالك في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب النكاح، وسيأتي في سماع أشهب بعد هذا ما ظاهره أن المكاتب أحق بكتابته إذا بيعت بعد نفوذ البيع فيها مثل ما حكى ابن حبيب عنه من رواية مطرف وعن ابن الماجشون وأشهب وابن عبد الحكم وأصبغ خلاف ما حكي عن مالك من رواية ابن القاسم عنه من أنه كان يرى ذلك حسنا ولا يرى القضاء به، وقال أبو بكر الأبهري: إنما كره لأحد الشريكين في الكتابة بيع حصته منها لأن ذلك بمنزلة مقاطعته على مال يأخذه دون شريكه، وذلك غير جائز، ووجه إجازته أنه إذا جاز بيع كتابته كلها حالة بيع بعضها كرقبة العبد يجوز بيع جميعها وبيع بعضها، وبالله التوفيق.(15/221)
[: قاطع سيده فيما بقي عليه من كتابته]
من سماع أشهب وابن نافع من
مالك
قال أشهب سمعت مالكا سئل عن مكاتب قاطع سيده فيما بقي عليه من كتابته بعبد دفعه إليه فاعترف في يديه بسرقة فأخذ منه، قال: يرجع على المكاتب بقيمة ما أخذ منه ما كان، وكذلك المكاتب يقاطعه سيده بحلي استرفعه أو ثياب استودعها ثم يعترف ذلك في يدي سيده فيؤخذ منه، أيعتق المكاتب هكذا بباطل؟ لا يؤخذ الحق بالباطل!!!
قال محمد بن رشد: قال في الذي قاطع سيده فيما بقي عليه من كتابته بعبد دفعه إليه فاعترف في يديه بسرقة فأخذ منه: إنه يرجع على المكاتب بقيمة ما أخذ منه ما كان، يريد فإن لم يكن له مال اتبع به دينا ولم يرد إلى الكتابة؛ لأن حريته قد تمت بالقطاعة، قاله أشهب في المدونة، وهو يحمل على التفسير لروايته عن مالك هذه، وفي المدونة وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة، وقد قيل: إنه إن لم يكن له مال رد مكاتبا كما كان حتى يؤدي القيمة، وهو قول ابن نافع في المدونة، وقيل: إنه إذا استحق العبد من يده رجع مكاتبا كما كان حتى يؤدي قيمته، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة، قاله في المكاتب يؤدي كتابته إلى سيده من أموال غرمائه فيأخذون ذلك منه، ولا فرق بين المسألتين؛ لأن له شبهة فيما بيديه من أموال غرمائه.
فيتحصل في المكاتب يقاطع سيده من كتابته على شيء بعينه له فيه شبهة المالك فيستحق من يد سيده ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يرجع في الكتابة حتى يؤدي إلى سيده قيمة ذلك مليئا كله أو معدما، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في المدونة في الذي يؤدي كتابته إلى سيده مما بيده من أموال(15/222)
غرمائه، والثاني: أنه لا يرجع في الكتابة إلا أن يكون معدما، وهو قول ابن نافع في المدونة، والثالث: أنه لا يرجع في الكتابة مليئا كان أو معدما، ويتبع بذلك إن كان معدما في ذمته، وهو حر بالقطاعة، وهو قول أشهب في المدونة مفسرا لروايته هذه عن مالك.
واختلف قول ابن القاسم إذا قاطع عبده القن على عبد بعينه فاستحق من يده، فمرة قال: إنه كالمكاتب يرجع عليه بقيمته، ومرة قال: إنه لا يرجع عليه بشيء لأن ذلك كالانتزاع إذا كان بعينه، حكي القولين عنه ابن المواز، ولا اختلاف إذا قاطع سيده على عبد موصوف فاستحق من يده أنه يرجع عليه بقيمته ولا يرد في الكتابة.
وأما إذا قاطع سيده على شيء بعينه لا شبهة له في ملكه اعترفه مولاه كالحلي يسترفعه أو الثياب يستودعها وما أشبه ذلك، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز له، ويرجع في الكتابة على ما كان عليه حتى يؤدي قيمة ما قطع به. قوله في هذه الرواية وكذلك المكاتب يقاطع سيده بحلي استرفعه أو ثياب استودعها ليس يريد أن ذلك مثل المسألة التي تقدمت في جميع الوجوه، وإنما يريد أنها مثلها عنده في أن للسيد الرجوع عليه وإن افترق الحكم في ذلك؛ لأنه لا يرجع إلى الرق في المسألة الأولى، على قوله، ويرجع إليه في الثانية، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: المكاتب يشتري أخاه أيدخل معه في الكتابة]
مسألة وسئل عن المكاتب يشتري أخاه أيدخل معه في الكتابة؟ فقال: ما سمعت ذلك، فقيل له: لا يدخل معه إلا الولد؟ فقال: برأسه نعم.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة؛ لأنه قال فيها: إن كان من يعتق على الرجل إذا ملكه(15/223)
يدخل في كتابة المكاتب إذا اشتراهم بإذن سيده أو وهبوا له فقبلهم بإذنه، وقال ابن نافع وغيره: لا يدخل في كتابته إلا الابن خاصة إذا اشتراه بإذن سيده لأن له أن يستحدثه.
فهي ثلاثة أقوال في المسألة لكل قول منها وجه، فوجه القول الأول: أنه لما كان إذن السيد لمكاتبه في أن يشتري من يعتق عليه إذنا له منه له في أن يدخله معه في الكتابة، إذ لا وجه في إذنه له في شرائه إلا ذلك، إذ لو أراد أن يمنعه من شرائه على أن لا يدخله معه في كتابته لم يكن ذلك له، إذ لا ضرر عليه في ذلك لأنه يبيعهم إن خشي العجز ويعتقون بعتقه إن أدوا لما أذنه له في شرائهم على أن يدخلوا معه في كتابته قد يؤدي إلى عجزه؛ لأن أثمانهم التي اشتراهم بها كان يتقوى بها على سعايته لم ير أن يدخل في كتابته إذا اشتراهم بإذنه إلا الولد والأب الذي اتفق أهل العلم أنهم يعتقون على من ملكهم ووجه القول الثاني وهو مثل قول ابن القاسم وروايته عن مالك في أنه يدخل في كتابة المكاتب كل من يعتق عليه إذا اشتراهم بإذن السيد.
فقوله إذا اشتراهم بإذنه على أن يدخلهم في كتابته فكأنه قد كاتبهم معه ولا يراعى ما يخشى من أن يؤدي ذلك إلى عجزه فيمن يعتق عليه مما سوى الأبوين والولد كما لا يراعى ذلك في الأبوين والولد، وهذا القول هو القياس على المذهب؛ لأن مراعاة الخلاف إنما هو استحسان، ووجه القول الثالث وهو قول ابن نافع أنه لا يدخل في كتابته إذا اشتراه بإذن السيد إلا الابن وحده.
[مسألة: المكاتب إذا باع سيده كتابته أهو أولى بذلك]
مسألة وسئل عن المكاتب إذا باع سيده كتابته أهو أولى بذلك؟ قال: هو أولى بكتابته إذا كان ما اشترى منها يعتق به، وإن كان لا يعتق به فليس ذلك له.(15/224)
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية عن مالك أن المكاتب أحق بكتابته إذا بيعت بعد نفوذ البيع فيها كالشفعة مثل ما في كتاب المكاتب من المدونة لعمر بن عبد العزيز وعطاء وسعيد بن المسيب، ومثل ما في كتاب أمهات الأولاد من المدونة في باب الرجل يطأ أمة مكاتبه فتحمل لغير ابن القاسم، ومثل ما حكى ابن حبيب عن مالك من رواية مطرف في أن الشفعة واجبة في الكتابة والدين خلاف ما حكي عن مالك من رواية ابن القاسم عنه من أنه لا يرى القضاء بذلك، وهو مذهبه في المدونة لأنه قال فيها: ولا شفعة في دين ولا حيوان، فيحتمل أن تتأول هذه الرواية على ذلك بأن يقال: معناها أنه يريد أنه أولى بكتابته إذا أراد سيده بيعها يأخذها بما يعطى فيها ما لم ينفذ البيع، فإن نفذ البيع فيها لم يكن له من الحق أن يأخذها من المبتاع كالشفعة إذ لا شفعة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة في شيء من الديون ولا العروض بعد نفوذ البيع فيها.
وأما إذا كان الذي بيع من كتابته حظ أحد الشريكين فليس هو أولى بذلك لوجهين: أحدهما: أن ذلك كالقطاعة لا تجوز إلا بإذن الشريك الآخر، والثاني: أنه لا حرمة له بذلك، قال ذلك في الموطأ وقد تقدم ذكره في سماع رسم نذر من سماع ابن القاسم.
[مسألة: كاتب عبده واشترط أن ما ولد له من ولد فهم عبيد]
مسألة وسمعته يسال عمن كاتب عبده واشترط أن ما ولد له من ولد فهم عبيد، فقال: لا يجوز هذا الشرط قد كاتب المسلمون.
قلت: أفتمضي الكتابة؟ قال: لا بل تفسخ الكتابة.
قيل له: أرأيت إذا قال السيد أنا أضع عنك ما اشترطت عليك من رق ولدك وأثبت على كتابتك؟ قال: إذا يكون ذلك له.(15/225)
قال محمد بن رشد: قوله: إن الكتابة تفسخ بهذا الشرط إلا أن يشاء السيد وضعه فيجوز خلاف مذهبة في المدونة من أن الشرط باطل والكتابة جائزة في هذا وفي اشتراط جنين المكاتبة في كتابتها أو وطئها طول كتابتها، وكذلك يأتي في هاتين المسألتين على رواية أشهب هذه الكتابة تفسخ إلا أن يرضى السيد بترك الشرط، وقد وقع ذلك من قول أشهب وروايته عن مالك في النوادر منصوصا عليه فيهما، وإنما يخير السيد في ذلك على هذه الرواية ما لم تفت الكتابة باستيفاء جميعها وإن لم يبق منها إلا درهم واحد وأما إذا فات باستيفاء جميعها فيبطل الشرط ويدخل الولد في الكتابة، وقال محمد بن المواز من رأيه: إنما يخير السيد في ذلك ما لم يقبض من الكتابة شيئا وأما إذا قبض منها ولو نجما واحدا فيسقط الشرط وتمضي الكتابة.
وكذلك يأتي على القياس قول مالك في هذه الرواية إذا اشترط على المكاتب أن لا يخرج من خدمته حتى يؤدي أن يكون السيد بالخيار بين أن يترك الشرط ويفسخ الكتابة، وقد قيل إن اشتراط وطء المكاتبة بخلاف هذه الشروط؛ لأنه شرط حرام فيبطل وتجوز الكتابة، وهو مذهب ابن القاسم على ما روى عنه أصبغ في سماعه بعد هذا أن اشتراط السيد على مكاتبه أن لا يخرج من خدمته حتى يؤدي يلزم وتجوز الكتابة بخلاف هذه الشروط، وأصبغ يساوي بين هذه الشروط كلها ويرى الحكم فيها أن تبطل الشروط وتجوز الكتابة.
فالشروط تنقسم على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك قسمان، أحدهما: شرط حرام كاشتراط الوطء على المكاتبة في كتابتها، وشرط فيه غرر كاشتراط كون جنين المكاتبة عبدا وكون ما ولد للمكاتب من أمته عبدا وما أشبه ذلك، فهذا القسم الحكم فيه عنده أن يبطل الشرط وتجوز الكتابة، والقسم الثاني: أن يكون الشرط لا حرام فيه ولا غرر إلا أنه مخالف لما مضى من سنة الكتابة، مثل أن يشترط عليه أن لا يخرج من خدمته وما أشبه ذلك(15/226)
فهذا يلزم فيه عنده الشرط، وتجوز الكتابة، وفي سماع عبد المالك بن الحسن عن ابن وهب من كتاب الصدقات والهبات في هذا الشرط أن الكتابة منفسخة، وإذا قال ذلك في هذا الشرط الذي لا حرام فيه ولا غرر فأحرى أن يقوله فيما سواه من الشروط التي لا تجوز لحرمتها أو لغررها.
ويتحصل على هذا في جملة المسألة خمسة أقوال، أحدها: أن الشروط التي لا تجوز كلها سواء والحكم فيها أن تفسخ الكتابة بها إلا أن يرضى السيد بترك الشرط فيجوز الكتابة، وهو قول مالك في هذه الرواية، والقول الثاني: أنها كلها سواء والحكم فيها أن تبطل الشروط وتجوز الكتابة، وهو قول أصبغ، والقول الثالث: أنها كلها سواء والحكم فيها أن تبطل الكتابة بها، وهو الذي يأتي على قول ابن وهب في سماع عبد المالك من كتاب الصدقات والهبات، والقول الرابع: تفرقة ابن القاسم التي ذكرناها بين الشرط الحرام والغرر، وبين الشرط الذي لا حرام فيه ولا غرر إلا أنه مخالف لما مضى من سنة الكتابة، والقول الخامس: الفرق بين الشرط الحرام والشرط الغرر والذي هو مخالف لما مضى عليه العمل في الكتابة، فيبطل الشرط الحرام وتجوز الكتابة، وتفسخ الكتابة فيما سوى ذلك من الشروط إلا أن يرضى السيد بتركها، وهذا القول هو تأويل بعض أهل النظر على رواية أشهب عن مالك هذه، ولو اشترط المكاتب على سيده في كتابته إياه أن يدخل فيها ما يولد له من زوجة له أمة لسيده لجاز ذلك باتفاق، وابن الماجشون يقول في شرط السيد على مكاتبه في كتابته إياه أن لا يخرج من عمله أنه يجعل له أياما من الجمعة يسعى فيها لنفسه على ما يؤدي إليه الاجتهاد ولا تفسخ الكتابة، وبالله التوفيق.
[مسألة: كاتب عبدا له واشترط عليه خدمة ثم جاء العبد بكتابته كلها]
مسألة وسئل وأنا أسمع عمن كاتب عبدا له واشترط عليه خدمة أو سفرا أو ضحية ثم جاء العبد بكتابته كلها فقال: يوضع عنه كل ما كان(15/227)
من شرط في حسر العبد من خدمة أو سفر أو غير ذلك وكل ما كان مثل الرقيق والكسوة والضحية فإنه يقوم ذلك عليه فيغرم قيمته مع كتابته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا كاتبه واشترط عليه خدمة أو سفرا في كتابته مثل أن يكاتبه بكتابة منجمة أو غير منجمة إلى خمسة أعوام أو ستة ويشترط عليه خدمة أيام من كل جمعة وضحية وكسوة كل سنة إنه إن عجل الكتابة سقط عنه كل ما كان في بدنه من خدمة وسفر إذ لا تتم عتاقة أحد وعليه بقية من رق، ولم يسقط عنه ما كان في ماله من ضحية وكسوة، فلا يعتق حتى يؤدي قيمة ذلك حالا في كتابته، وأصل ذلك أن ما كان يسقط عنه بالمرض يسقط عنه بتعجيل الأداء وهو ما كان في يديه، وما لا يسقط عنه بالمرض لا يسقط عنه بتعجيل الأداء.
وكذلك لو اشترط عليه خدمة أو سفرا بعد أداء كتابته أو ضحية في كل سنة طول حياته لسقطت عنه الخدمة والسفر بأداء الكتابة ولم تسقط عنه الضحية التي شرط عليه في كل سنة طول حياته وكان الحكم في ذلك أن يعمر ثم ينظر إلى قيمة عدد الضحايا في تعميره، فيقال له: أد قيمتها الساعة وأنت حر، وإن لم يكن له مال لم يعتق حتى يؤدي قيمتها ساعتئذ وليس إلى أجلها، قال ذلك ابن القاسم في كتاب ابن حبيب، ورواه عن مالك.
وإنما تسقط عنه الخدمة بأداء الكتابة إذا كانت الخدمة مشترطة في الكتابة وكان إنما يعتق بأداء الكتابة، مثال ذلك أن يقول له كاتبتك على أن تؤدي إلي كذا وكذا وأنت حر على أن تخدمني في كل شهر كذا وكذا وما أشبه ذلك، وأما إن كانت الكتابة مشترطة في الخدمة وكان إنما يعتق بتمام الخدمة فلا تسقط عنه الخدمة بأداء الكتابة، مثال ذلك: أن يقول له: أكاتبك على أن تخدمني كذا وكذا ثم أنت حر على أن تؤدي إلي فيها كذا وكذا، فهذا إن أدى المال قبل تمام أمد الخدمة لم يعتق إلا بانقضاء أمد الخدمة، وإن انقضى أمد(15/228)
الخدمة قبل أن تؤدي المال أعتق في أمد الخدمة وكان ما بقي من المال المشترط عليه بعد انقضاء أمد الخدمة دينا عليه يؤديه وهو حر، إذ قد بتلت حريته بانقضاء أمد الخدمة، هذا معنى ما حكاه ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ فيما سأله عنه من تفسير قول مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الكتابة على إحياء عدد من الغرس]
مسألة وسمعته يقول «كاتب سلمان الفارسي أهله على مائة ودية يحييها لهم فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا غرستها فأذني، فلما غرسها أذن رسول الله فدعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها فلم تمت منها ودية واحدة» .
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث إجازة الكتابة على هذا النحو من الغرر في حق المكاتب؛ لأنه لا يدري إذا اغترس من النخل هل يحيى أم لا؟ ففيه حجة على ما أجازوه من الكتابة على عبد فلان وهولا يدري هل يقدر على أن يتخلصه من صاحبه أم لا من أجل أنه عبده يجوز له فيما بينه وبينه عن الغرر ما لا يجوز له فيما بينه وبين غيره، والكتابة على هذا من ناحية الجعل الذي أجازه أهل العلم لما شهد بجوازه من صحيح الآثار مع ما دل عليه من حكم القرآن في قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فالكتابة على إحياء عدد من الغرس أو على عبد فلان يشبه قول الرجل لعبده إن جئتني بعبدي الآبق أو بجملي الشارد فأنت حر فالقياس على هذا إن لم يقدر على إحياء الغرس أو تخلص العبد إلى الأجل الذي يضرب له في ذلك أن يرجع في الرق، وقد قال سحنون: إنه إن لم يقدر عليه كانت عليه قيمته، وقاله أيضا محمد بن المواز، وليس ذلك على الأصول، وبالله التوفيق.(15/229)
[مسألة: المكاتب ليس له أن ينكح ولا يسافر إلا بإذن سيده]
مسألة قال وسمعته يقول: أتى إلى سعيد بن المسيب مكاتب له، فقال له إيذن لي أن أخرج إلى مكان كذا وكذا، فقال له سعيد: [لا] فانصرف عنه المكاتب فأصلح شأنه وأراد الخروج فأتي إلى سعيد بن المسبب فقيل له إن مكاتبك يخرج، فقال: موعده يوم القيامة، فقال مالك: يوقن بيوم الحساب ويعلم أن الناس سيوفون حقوقهم.
قال محمد بن رشد: هذا من قول سعيد بن المسبب مذهب مالك، ونصه في موطأه وفي المدونة وغيرها أن المكاتب ليس له أن ينكح ولا يسافر إلا بإذن سيده، اشترط ذلك عليه أو لم يشترطه إذ قد يجحف النكاح بماله فيعجز فيرجع رقيقا إلى سيده لا مال له، وقد تحل نجومه وهو غائب عن سيده فليس على ذلك كاتبه، وبالله التوفيق.
[: من اشترى كتابة مكاتب أو وهبت له أو أوصي له بها]
من سماع عيسى بن دينار
من ابن القاسم من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: سئل ابن القاسم عمن كاتب عبده فأوصى لرجل عند موته بربعه، وأعتق ربعه ثم هلك العبد بعد ذلك وترك مالا أو عجز.
قال: إن عجز فللذي أوصى له بربعه ربع الخدمة وهو ربع الرقبة، وللورثة نصفها وربع العبد حر.
فإن مات وترك مالا استوفى الذي أوصى له بالكتابة وللورثة ما(15/230)
بقي لهم عليه من الكتابة وهي ثلاثة أرباع الكتابة للذي أوصى له بربع الكتابة ربع الكتابة، وللورثة الربعان، فإن فضل فضلة كان للموصى له بالربع الثلث وللورثة الثلثان لأنه إنما ورث بالرق.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأن من اشترى كتابة مكاتب أو وهبت له أو أوصي له بها يحل محل السيد في أن له رقبته إن عجز وميراثه إن مات، وكذلك فيما اشترى منها له إن اشترى البعض منها أو وهب له أو أوصي له به لأن معنى قوله: أو أوصي له بربعه أو أوصي له بربع كتابته؛ لأن الكتابة هي التي يملك منه، وأما إذا أعتق السيد بعض مكاتبه أو حظه منه إن كان له فيه شريك أو وضع له بعض ما له عليه من الكتابة أو حظه منها إن كان له فيه شريك فذلك بخلاف إذا أوصى بذلك هو في الحياة وضع لا عتق وفي الوصية بعد الموت عتق من الثلث، هذا قوله في المدونة وغيرها، فوجب إذا أوصى رجل عند موته لرجل بربع كتابة مكاتبه وأعتق ربعه ثم مات أن يعتق منه الربع في ثلثه وأن يحل الموصى له بربعه محل الموصي، فيكون شريكا للورثة في رقبته إن عجز بالربع وللورثة الربعان، ويكون ربع العبد حرا.
وإن مات وترك مالا استوفى الذي أوصي له بالكتابة والورثة ما بقي لهم عليه من الكتابة، وهي ثلاثة أرباعها إذ قد أعتق الربع منه بالوصية ثم كل ما بقي ميراثا بين من له فيه الرق على قدر ما لهم فيه من الرق، للموصى له بربع رقبته الثلث وللورثة الثلثان على ما قال، وبالله التوفيق.
[مسألة: مات أحد المكاتبين في كتابة واحد]
مسألة وعن رجل كاتب عبدين له فمات أحدهما وترك أم ولد وولدا له منها، والعبد الباقي له مال كثير أو لا مال له، فما حال أم الولد؟ قال إذا لم يكن للعبد الباقي مال ولم يكن لها ولد بيعت، فإن كان في ثمنها وفاء للكتابة عتق العبد الباقي واتبعه السيد بالذي كان(15/231)
يصيبه من الكتابة، وإن كان لها ولد ولم يقووا وقفت هي وولدها، فإن أدى العبد الباقي جميع الكتابة عتق وعتقوا واتبعهم بما أدى عنهم مما كان يصيبهم من الكتابة، وإن عجز هو وهم رجعوا رقيقا لسيدهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن حرمة أم الولد المكاتب إنما هي لسيدها ولولده منها أو من غيرها، فإذا مات أحد المكاتبين في كتابة واحد؟ وترك أم ولده ولم يكن له ولد منها ولا من غيرها لم تكن لهم حرمة، وكانت كسائر أموال المتوفى يؤدى منه الكتابة، فإن كان فيها وفاء بها عتق العبد الباقي واتبعه السيد بالذي يصيبه من الكتابة كما كان يتبعه المتوفى لو أدى هو جميع الكتابة؛ لأن المكاتبين معا في كتابة واحدة كل واحد منهما حميل عن صاحبه بما ينوبه منها يتبعه بما أدى عنه منها إذا لم يكن بينهما رحم يوجب عتق كل واحد منهما على صاحبه إذا ملكه؛ لأن مال المتوفى منهما قد صار إلى السيد فوجب إذا أعتق فيه الباقي أن يرجع السيد عليه بما كان يرجع به عليه لو أدى عنه في حياته.
وإن لم يكن له فيها وفاء بالكتابة قبض السيد ثمنها من الكتابة، فإذا أدى الباقي بقية الكتابة عتق ونظر إلى ثمنها، فإن كان أكثر مما يجب على الميت من الكتابة اتبعه السيد بنصف ذلك.
وأما إن كان لها ولد فلا تباع إلا أن يعجز ولدها والمكاتب الباقي عن الكتابة، فإن لم يعجزوا وأدى المكاتب الباقي جميع الكتابة عتق وعتقوا واتبعهم بما أدى عنهم مما كان يصيبهم من الكتابة كما قال، وذلك نصف ما أدى إن كان أدى جميع الكتابة، وكانت حاله مع صاحبه المتوفى متساوية في القيمة والقدرة على أداء الكتابة، وبالله التوفيق.(15/232)
[: يبيع مكاتبه فيعتقه الذي اشتراه]
من كتاب استأذن سيده
قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يبيع مكاتبه فيعتقه الذي اشتراه، قال: إن أعتقه جاز عتقه، وإن لم يعتقه رد إلى الذي كاتبه ورد الثمن، وإن مات عند المبتاع قبل أن يعتقه أو أعتقه فقد ضمنه المبتاع، وليس على البائع أن يرد شيئا من الثمن ولا أن يخرج منه شيئا فيجعله في رقبته مثل ما يفعل في المدبر إذا باعه ففات بموت.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إن أعتقه المشتري جاز عتقه ولم يرد، يريد إذا كان المكاتب قد علم بالبيع على ما قاله في المدونة من أن ذلك عنده رضى بفسخ الكتابة، وهو مثل قول أشهب فيها إن يعتق يرد إذا كان المكاتب لم يعلم بالبيع، وهذا إذا لم يكن للمكاتب أموال ظاهرة لأنه إنما يكون له أن يعجز نفسه إذا لم تكن له أموال ظاهرة، وقد قال بعض الرواة في المدونة: وهو قول ابن نافع في سماع محمد بن خالد في كتاب الولاء: إن العتق يرد على كل حال، هذا الذي أقول به في تأويل ما وقع في المدونة في هذه المسألة، فعلى هذا الاختلاف في أن العتق يرد إذا كانت له أموال ظاهرة علم المكاتب بالبيع أو لم يعلم به، إذ ليس له أن يعجز نفسه إذا كانت له أموال ظاهرة، وقد كان من أدركنا من الشيوخ يحملون الروايات على ظاهرها من غير تفصيل، فيقولون فيها: إنها ثلاثة أقوال، يرد العتق، ولا يرد، والفرق بين أن يعلم المكاتب أو لا يعلم.
وأما إذا أعتق على البائع قبل أن يفوت بالعتق فلا اختلاف في وجوب رده.
وقوله في هذه الرواية إنه إن أعتقه المبتاع أو مات عنده فليس على البائع(15/233)
أن يرد شيئا من الثمن، فمعنا؟ إذا كان المباع قد علم أنه مكاتب، وأما إن كان البائع دلس له بذلك فله أن يرجع عليه بقيمة عيب الكتابة من الثمن على ما قاله في سماع يحيى بن خالد من كتاب الولاء في المدبر، وهو مذهبه في المدونة.
وأما قوله إنه ليس على البائع أن يخرج من الثمن شيئا فيجعله في رقبته كما يفعل في المدبر إذا فات بموت، فالفرق عنده بين المكاتب والمدبر في هذا والله أعلم أن التدبير ألزم من الكتابة إذ قد يقدر المكاتب وإن كان له ماله أن يذهب ماله ويعجز نفسه ولا يقدر المدبر على أن يبطل عقد التدبير فيه، وبالله التوفيق.
[: وطئ مكاتبة مكاتبه فحملت]
ومن كتاب العرية قال عيسى وسألته عن رجل وطئ مكاتبة مكاتبه فحملت.
قال: يدرأ عنه الحد ويلحق به الولد، وتخير الأمة في أن تمضي على الكتابة وفي أن تكون أم ولده، فإن أحبت أن تكون أم ولده قومت عليه وغرم قيمتها للمكاتب نقدا، ولم يكن له أن يقول أحاسبك بقيمتها من كتابتك ألا أن يشاء المكاتب لأن الأمة مال من مال المكاتب يتقوى به على كتابته، ليس للسيد أن يتعجل شيئا لم يحل له بعد، وإن اختارت الكتابة قيل للسيد الواطئ أخرج قيمتها فإن أدت كتابتها عتقت ورجعت القيمة إلى الذي أخرجها وهو الواطئ، وإن عجزت كانت القيمة لسيدها المكاتب، وكانت أم ولد للواطئ، ولم يكن له عليه في ولده شيء، وإن ماتت قبل أن يؤدي أخذ من القيمة التي وقفت قيمة الولد فتدفع إلى المكاتب،(15/234)
ورجع ما فضل من القيمة التي وقفت عن قيمة الولد إلى الواطئ لأنه يقول لا تذهب قيمة ولد مكاتبي باطلا إذ لم يؤد ما كان لي عليها، فتعتق فتحوز ولدها أو تعجز فيكون لي قيمتها على سيدي الذي وطئها فإذا فاتت بموت فلي قيمة ولدها فذلك له ويدفع إليه.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة قول مالك ومن تابعه: إن الحكم فيمن وطئ مكاتبته فحملت أن تخير بين أن تقيم على كتابتها وبين أن تكون أم ولد له، فوجب على قياس ذلك إذا وطئ مكاتبة مكاتبه فحملت ما قاله من أن تخير، فإن أحبت أن تكون أم ولد له قومت- فغرم قيمتها للمكاتب نظرا.
وأما قوله: ولم يكن له أن يقول أحاسبك بقيمتها من كتابتك إلا أن يشاء المكاتب فهو الصحيح في النظر للمعنى الذي ذكره فيه، وفيه اختلاف في كتاب ابن المواز لابن القاسم فيمن وطئ أمة مكاتبه فحملت أن القيمة تلزمه ويعتق فيها المكاتب، ويتبع سيده بفضل ما بقي، وهي له أم ولد، وعاب ذلك محمد فقال: هذا ظلم للمكاتب أن يتعجل السيد الكتابة في القيمة التي لزمته، بل يأخذ القيمة ويؤدي النجوم على حالها، فإن لم يكن للسيد شيء بيعت الكتابة عليه في القيمة أعني كتابة مكاتبه، قال أحمد بن ميسر: ويكون أولى بما بيع من ذلك، ولابن القاسم في كتاب أمهات الأولاد وقال غيره هنالك: ليس ذلك للسيد وإن كان معدما، وتباع الكتابة على السيد فيما لزمه من القيمة، ويبقى المكاتب على كتابته إلا أن يشاء أن يكون أولى بما بيع من كتابته لتعجيل العتق، مثل قول أحمد بن ميسر، فإن قصر ثمن الكتابة عن قيمة الأمة كان الباقي منها رقيقا للمكاتب إن كان ثمن الكتابة مثل نصف قيمة الأمة كان نصفها بحساب أم ولد للسيد ونصفها رقيقا للمكاتب، واتبع سيده بنصف قيمة الولد.
وقوله إنه ليس للسيد أن يقاص المكاتب مما لزمه من قيمة له عليه من(15/235)
الكتابة وإن كان معدما هو الذي يوجبه النظر، وتفرقة ابن القاسم في المدونة في ذلك بين اليسر والعدم استحسان.
وأما قوله في كتاب ابن المواز إن له المقاصة في ذلك وإن كان موسرا فهو بعيد وظلم للمكاتب كما قاله محمد، وأما إذا اختارت الكتابة فقوله إن قيمة الأمة يؤخذ من السيد ويوقف فإذا أدت كتابتها رجعت القيمة إليه، وإن عجزت كان القيمة للمكاتب وكانت الأمة أم ولد للواطئ فهو صحيح لا اختلاف فيه.
وأما قوله إنها إن ماتت قبل أن تؤدي فيؤخذ من القيمة التي وقفت قيمة الولد فيدفع إلى المكاتب، ويرجع ما بقي منه إلى الواطئ فليس ببين في وجه الحكم، وقد تكون قيمة الولد أكثر من القيمة التي وقفت؛ لأنها إنما قومت يوم الحمل دون ولد، ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أن القيمة تكون للمكاتب إذا ماتت قبل الأداء كما إذا عجزت وهو صحيح في النظر؛ لأنها إذا ماتت قبل أن تؤدي كتابتها فقد ماتت في حال الرق؛ لأن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء، فوجب أن تكون القيمة لسيده كما لو ماتت بعد أن عجزت، وبالله التوفيق.
[مسألة: يطأ مكاتبة ابنه فتحمل]
مسألة وسئل عن الرجل يطأ مكاتبة ابنه فتحمل.
قال: تخير بين أن تقوم عليه فتكون أم ولد وتبطل الكتابة، وبين أن تسعى في كتابتها، فإن أدت عتقها وإن عجزت قومت عليه، قيل له: فإنها اختارت أن تكون على كتابتها؟ قال: إذا هي اختارت أن تثبت على كتابتها قيل للولد: أخرج الآن قيمتها فأوقفها،(15/236)
فإن أدت كتابتها رجعت إليك القيمة، وإن عجزت أعطيتها ابنك وكانت الجارية أم ولد لأنا نخاف أن تعجز وقد فلست أنت فيذهب حق سيد الجارية، قيل: أرأيت إذا قوم منها عليه حين وطئها أم لا تجعل كتابتها له تسعى فيها له؟ فإن أدت عتقت وكان ولاؤه للذي عقد لها الكتابة، وإن عجزت كانت أم ولد للذي أدى قيمتها قلت: ولم - إذ رأيت - لا تسعى على هذا الواطئ، ولم تعجل له كتابتها لم تقومها عليه اليوم؟ لم لا تؤخر قيمتها إلى أن تعجز؟ فإذا عجزت قومتها عليه يوم تعجز لأنك حين تقومها عليه اليوم حين وطئها وتؤخرها إلى أن تعجز لعلها تعجز حين تعجز وقد ذهب بصرها أو يداها أو رجلاها أو أصابها أمر في جسدها فيصير هذا يأخذ قيمتها اليوم صحيحة وإنما أخذ الواطئ إياها الآن منقوصة الجسد ولعل ما دخلها من النقص قد أدت بعد أن قومت جميع كتابتها إلا دينارا واحدا فعجزت في ذلك الدينار فصارت قد أخذ قيمتها صحيحة وأخذ جميع كتابتها إلا دينارا واحدا فيدخل على الواطئ في هذا ضرر، قال: نعم كذلك هو، والظالم أحق من يحمل عليه.
قلت: وسواء الذي أصابها في جسدها بعد أن قومت على هذا الواطئ أن كان من السماء أو صنعه بها إنسان فأخذ لذلك أرشا؟ قال: ليس هو سواء، إذا كان ذلك من السماء كان كما وصفت لك، وإذا أصابها بذلك إنسان أخذ عقلها، فإن كان في عقلها ما تعتق به عتقت ورجعت القيمة إلى الواطئ، وإن كان ليس فيه ما يعتق فيه سعت فيما بقي فإن أدت عتقت وإن عجزت فض واطئها من قيمتها بما أخذ في ثمن جسدها.(15/237)
قال محمد بن رشد: لسحنون في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب فيمن وطئ مكاتبة ابنه فحملت أنه لا يجوز أن تخير بين أن تكون أم ولد للواطئ أو تبقى على كتابتها، إذ ليس لها أن تنقل ولاءها عن الابن الذي قد انعقد له إلى الأب خلاف قول ابن القاسم في هذه الرواية إنها تخير في ذلك، وقول سحنون هو الذي يأتي على قياس مذهب مالك في أنه لا يجوز بيع المكاتب ممن يعتقه من أجل نقل ولائه إلى المشتري، وإنما يجيز ذلك إذا وقع فيمضي العتق استحسانا مخافة أن يرده فتعجز عند البائع.
فقول ابن القاسم في هذه الرواية إنما يأتي على مذهب من يجيز ذلك ابتداء وهو مذهب جماعة من السلف ذكر في المدونة عن يحيى بن سعيد أنه باع مدبرا ممن أعتقه، وأن عمرو بن الحارث دخل في ذلك حين اشتراه. ولو قيل: إن ذلك يجوز في الذي يخشى عليه العجز ولا يجوز في الذي يؤمن عليه العجز في ظاهر حاله، ونظر إلى هذا في مكاتبة الابن إذا وطئها الأب فحملت لكان قولا وسطا، وإنما توقف القيمة على مذهب ابن القاسم إذا اختارت المضي على كتابتها إذا كان الأب الواطئ ممن يخشى عليه العدم.
ولما سأله لم لم تكن الكتابة للأب إذا قومت عليه فيسعى فيها، فإن أدت عتقت وكان ولاؤها للذي عقد لها الكتابة، وإن عجزت كانت أم ولد للذي أدى قيمتها، سكت له عن الجواب في ذلك. والجواب فيه: أنه لا يصح أن تكون له الكتابة على حكم من اشتراها، إذ لم يشترها ولا تعدى عليها فلزمته قيمتها، وإنما تعدى على الرقبة بوطئه إياها فلزمته قيمتها، فلا يصح أن يعدى الحكم في ذلك عن الرقبة إلى الكتابة. وأما اعتراضه عليه بأن القياس كان أن يكون التقويم فيها إذا اختارت المضي على كتابتها يوم عجزت حتى يقضي له بها، فقد سلمه، إلا أنه قال: إن الظالم أحق أن يحمل عليه، فلا وجه للقول فيه. وتفرقته على أصله في وجوب التقويم(15/238)
يوم الحمل بين أن تكون الجناية عليها من أمر من السماء أو من جناية أحل صحيحة، إذ لا يصح أن يأخذ من الجاني عليه قيمة الجناية عليها ومن الواطئ لها جميع قيمتها، فيكون قد أخذ قيمتها مرتين، وبالله التوفيق.
[: المكاتب يبتاع من بعض من يعتق على سيده إذا ملكه أيعتق عليه]
ومن كتاب يدير ماله وسألته عن المكاتب يبتاع من بعض من يعتق على سيده إذا ملكه، أيعتق عليه؟ قال لا، ويبيع ويصنع ما شاء ويطؤهن إن كن نساء وإن كانت أم سيده أو أخته؛ لأنه ليس لسيده أن ينتزع ماله، ولأن بعض الناس قد قال في العبد إنه يملك من قرابة سيده من يعتق على سيده إذا ملكهم، ولا يعتقون، ويطؤهن إن كن نساء. واحتجوا في ذلك بأنهن مال للعبد حتى ينتزعه السيد، ولأنه ليس على السيد في مال عبده زكاة، فكيف المكاتب؟ إلا أن هذا القول عندنا في العبد ليس بشيء. قال مالك: إذا ملك العبد من لو ملكه سيده عتق عليه فإنه يعتق عليه بملك العبد إياه. قال ابن القاسم في المكاتب: فإن عجز وهم عنده عتقوا عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إنما يعتق على العبد من ملك ممن يعتق على سيده من أجل أنه يملك انتزاعهم، فلما كان يملك انتزاعهم عتقوا عليه، إذ لو انتزعهم لعتقوا عليه؛ فوجب أن لا يعتق على المكاتب ما ملك ممن يعتق على سيده، إذ لا يملك سيده انتزاعهم منه بإجماع. وإذا كان قد قيل في العبد الذي يملك سيده انتزاع ماله: إنه لا يعتق عليه من قرابة سيده، فأحرى أن يقال في المكاتب الذي ليس للسيد أن ينتزع ماله كما قال، ولا اختلاف في ذلك أعلمه في المكاتب. وأما في العبد ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم لا يعتقون عليه، وهو القول الذي حكاه عن بعض(15/239)
الناس في هذه الرواية، وهي التي يأتي على حقيقة القياس بأن العبد يملك، وقيل إنهم يعتقون إذا اشتراهم وهو لا يعلم أنهم يعتقون على سيده، وهو الذي اختاره سحنون، وقال فيه: إنه أصح أقوال ابن القاسم، فقيل: إنهم يعتقون وإن اشتراهم وهو يعلم أنهم يعتقون على سيده، وقع ذلك من قول ابن القاسم في كتاب الرهون، وطرحه سحنون فقال: إنما يعتقون عليه إذا اشتراهم وهو لا يعلم. وقد قال بعض الناس: إن قول مالك في أنهم يعتقون إذا ملكهم اضطراب من قوله في أن العبد يملك، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما رأى أنهم يعتقون من أجل أن السيد يملك انتزاعهم، لا من أجل أن العبد لا يملك، وبالله التوفيق.
[: المكاتب يشتري الرجل كتابته]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب وقال ابن القاسم في المكاتب يشتري الرجل كتابته: إنه فيه بمنزلة سيده، يقاطعه كما كان سيده يقاطعه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا من قول مالك في أول رسم من سماع ابن القاسم، ومضى هنالك القول عليه فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: كان ثلاثة إخوة في كتابة واحدة فجنى أحدهم]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار
قال ابن القاسم: إذا كان ثلاثة إخوة في كتابة واحدة فجنى أحدهم فإنه يقال له: أد جنايتك، فإن لم يقو، قيل لمن بقي: أدوا الجناية وقوموا بنجومكم وإلا عجزتم، فإن لم يقوموا وعجزوا رق الاثنان وقيل للجانى: إما أن تسلم الجاني وإما أن تفتكه بقيمة الجناية. وإن(15/240)
قالوا نحن نؤدي فأدوا الجناية، فإن من أدى الجناية منهم رجع بها على الجاني بعد العتق، وليس هو بمنزلة الكتابة التي يؤدي بعضهم عن بعض، فإن أولئك لا يرجع من أدى على من لم يؤد إذا كانوا إخوة وأقارب.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم إن من أدى منهم الجناية يرجع بها على الجاني خلاف قول غيره وهو أشهب، والله أعلم، في كتاب الجنايات من المدونة إن الجناية كالكتابة لا يرجع بها من أداها عمن هو معه في كتابة واحدة إلا على من يرجع عليه بما أدى عنه من الكتابة. وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يرجع على زوجته ولا أحد ممن يعتق عليه، ويرجع على سواهم ممن لا يعتق عليه وإن كانوا من ذوي محارمه كالعم والخال، وهو مذهب ابن القاسم؟ والثاني: أنه لا يرجع على زوجته ولا أحد من ذوي محارمه وإن كان منهم من لا يعتق عليه، وهو مذهب أشهب؟ والثالث: أنه لا يرجع على زوجته ويرجع على من سواها وإن كانوا من ذوي محارمه الذين يعتقون عليه كالأب والأخ، وهو مذهب المغيرة، وقوله في نوازل سحنون بعد هذا من هذا الكتاب، فلا اختلاف في أنه لا يرجع على الزوجة ولا في أنه يرجع على ذوي رحمه الذين ليسوا من ذوي محارمه كابن العم وابن الخال وشبههم. وقد حكى ابن حبيب عن أصبغ في ثلاثة إخوة مختلفين: أخ لأب وأم، وأخ لأب، وأخ لأم، كوتبوا كتابة واحدة فأداها أحدهم كلها، أنه إن أداها الذي لأب وأم لم يرجع عليهما بشيء، وإن أداها الأخ للأم رجع على الأخ للأب ولم يرجع على الأخ للأب والأم، وإن أداها الأخ للأب رجع على الأخ للأم ولم يرجع على الأخ للأب والأم. وقوله صحيح على ما ذكرناه من أن ذوي الرحم الذين ليسوا من ذوي المحارم كالأجنبي.
واختلف أيضا في توارث المكاتبين في كتابة واحدة على ثلاثة أقوال:(15/241)
أحدها: أنه يتوارث جميع الورثة الزوجة وغيرها، روي ذلك عن مالك، ووقع اختلاف قوله في ميراث الزوجة في المبسوطة؛ والثاني: أنه يتوارث جميع الورثة إلا الزوجة، وفي المدونة ما ظاهره هذا القول؛ والثالث: أنه لا توارث بينهم إلا فيمن كان منهم يعتق بعضهم على بعض، وهذا القول هو المنصوص عليه في المدونة. ولا خلاف بين ابن القاسم وأشهب في أن الجناية كالكتابة في أنه لا يعتق الجاني ولا من معه في الكتابة إلا بعد أداء الجناية، وإنما اختلفا إذا أدى الجناية غير الجاني هل يرجع بها على الجاني إذا كان ممن لا يرجع عليه بالكتابة أم لا حسبما وصفناه من اختلافهما في ذلك. وأما الدين فمذهب ابن القاسم أن الكتابة لا تبطل بالعجز عن أدائه، فيعتق المكاتبون إذا أدوا الكتابة وإن عجزوا عن أداء الدين، ويبقى الدين بعد العتق في ذمة الذي كان في ذمته منهم، بخلاف الجناية عنده في هذا؛ لأن الدين لا يؤدى من الخراج والعمل، والكتابة والجناية يؤديان من ذلك؛ وأشهب يرى الدين كالكتابة والجناية في جميع الوجوه، وهي كلها مفترقة عند ابن القاسم، لكل واحد منها حكم غير حكم صاحبه على ما بيناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يضع عن مكاتبه عند الموت نجما من نجومه]
مسألة قال عيسى وسألت ابن القاسم عن الرجل يضع عن مكاتبه عند الموت نجما من نجومه لا يدرى من أوله أو من آخره، قال: إنه إن كانت النجوم ثلاثة وضع عنه من كل نجم ثلثه، وإن كانت أربعة فربعها، فكذلك حسابها. فإن أدى عتق، وإن عجز فإنه إن كانت النجوم عشرة عتق عشره، وإن كانت ثلاثة فثلثه، فبحساب هذا يعتق. وإنما الوضيعة عتق إذا كان في وصية في أداء كتابة، فإن أدى عتق وإن عجز رجع إلى الذي وجبت عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على قياس ما في المدونة وغيرها، ولا اختلاف فيه أحفظه، وبالله التوفيق.(15/242)
[: من أوصى بوصية لرجل أو بعتق أو كتابة]
ومن كتاب العتق قال وسألت ابن القاسم عن رجل قال كاتبوا عبدي فلانا. فأصيب يد العبد أو رجله، فبأي القيمتين يكاتب؟ أبقيمته حين أوصى أو حين مات سيده؟ أو حين جرح؟ قال قيمته يوم يكاتب، وكذلك لو قال هو حر فاعتل فإنما قيمته يوم يقوم للعتق، ولا ينظر إلى يوم أوصى ولا يوم مات ولا يوم اعتل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله ولا اختلاف فيه؛ لأنه من أوصى بوصية لرجل أو بعتق أو كتابة إنما ينظر ذلك كله إلى قيمته يوم تنفذ الوصية فيه، وبالله التوفيق.
[: يقول اخدم ابني كذا وكذا سنة ثم أنت حر فيموت قبل الأجل]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت قال وسئل عن امرأة قالت لخادمها عند موتها: ربي ولدي هذا وأدي ثلاثين دينارا ثم أنت حرة والولد صغير حين وضعته أمه ثم هلكت، فلم تلبث إلا يسيرا هلك الصبي ولها ولد غيره.
قال ابن القاسم: إذا أدت الثلاثين دينارا فهي حرة؛ لأنها إنما أرادت تربية الغلام ما عاش إلى أن يبلغ.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنها عينت الولد ولم تحد لتربيتها إياه حدا من السنين، فوجب أن يحمل ذلك على حياته، ولو حدت لتربيتها إياه حدا من السنين والأعوام لوجب أن لا يكون عليها شيء فيما اشترط عليه من تربيتها فيما بقي من المدة لأنها إنما أرادت كفالة الولد وتربيته، لا هبة خدمتها له فتكون موروثة عنه على معنى ما في المدونة في(15/243)
الذي يقول: اخدم ابني كذا وكذا سنة ثم أنت حر فيموت قبل الأجل، إنه حر إذا لم يكن من عبيد الخدمة، وإنما أريد به ناحية الكفالة والحضانة. فإذا سقطت تربية الولد عنها بموته وجب أن تجب لها الحرية بأداء الثلاثين دينارا كما قال، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال الرجل لعبده أنت حر على أن تدفع إلي كذا وكذا]
مسألة وسألت عن رجل قال لغلامه: أعتقك على أن لا تفارقني فإن فارقتني فعليك خمسون دينارا فأعتقه على ذلك، هل ترى هذا الشرط لازما له؟ قال ابن القاسم: أراه حرا وعليه خمسون دينارا، وأما ما اشترطه عليه من أن لا يفارقه فهو باطل كأنه أعتق على أن يدفع إليه خمسين دينارا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه بتل عتقه وشرط عليه بعد العتق أحد الوجهين إما أداء خمسين دينارا وإما أن لا يفارقه، وأحد الوجهين لا يجوز اشتراطه عليه بعد العتق، وهو أن لا يفارقه، فوجب أن تجب عليه الخمسون التي يجوز اشتراطها بعد العتق.
وقوله: كأنه أعتقه على أن يدفع إليه خمسين دينارا معناه كأنه أعتقه على أن يدفع إليه خمسين دينارا بعد العتق، وأما إذا قال الرجل لعبده: أنت حر على أن تدفع إلي كذا وكذا فمذهب ابن القاسم في ذلك إن قبل العبد ذلك كان حرا إذا أدى ذلك، وإن لم يقبل فلا حرية له، وفي ذلك اختلاف كثير سأذكره في رسم الصبرة من سماع يحيى إن شاء الله.
[: تحضره الوفاة فيقول لرجل خذ من عبدي فلان مائة]
ومن كتاب الرهون وعن رجل تحضره الوفاة فيقول لرجل: خذ من عبدي فلان مائة(15/244)
دينار ثم هو حر أتنجم عليه؟ قال: لا أرى أن تنجم عليه تؤخذ منه جميعا إلا أن يكون أمر أن تنجم عليه.
قال محمد بن رشد: لم ير أن تنجم عليه المائة لقوله فيها خذ لأن الظاهر من لفظ الأخذ في الشيء أخذه مجتمعا، فوجب أن يحمل على ذلك إلا أن تقترن به قرينة تدل على أنه لم يرد أخذ ذلك منه جميعا معا، فينجم عليه كما لو أمر أن تنجم عليه، فليس ذلك بخلاف لما في المدونة من أنه إذا قال لأمة له إن أديت إلي أو إذا أديت إلى ورثتي ألف درهم أو أد إلى ورثتي ألف درهم والثلث يحملها أنها إذا أدت الألف درهم فهي حرة ويتلوم له السلطان على قدر ما يرى يوزعه عليها؛ لأن لفظ الأداء للمشتري لا يقتضي في ظاهره أخذه مجتمعا معا، وبالله التوفيق.
[: اقتسام الشركاء في الكتابة]
من سماع يحيى ابن يحيى من
ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن ورثة ورثوا مكاتبا أيجوز لهم اقتسام كتابته فينظره منهم من أحب، ويتعجل من كره النظرة كما يجوز ذلك للشركاء في اقتسام الدين يكون لهم على الغريم؟ فقال: لا يجوز للورثة أن يقتسموا ما على المكاتب إلا عند انقضاء كل نجم، وذلك أن النجوم التي عليه ليست بدين ثابت فيقسم كاقتسام الدين الذي يكون للشركاء على الغريم، ومما يبين ذلك أن مالكا قال في المكاتب يكون بين الرجلين: إنه ليس لأحدهما أن يبيع نصيبه من الكتابة دون صاحبه إلا أن يبيعا جميعا، ولا تجوز القسمة إلا فيما يجوز بيعه من الديون.(15/245)
قال محمد بن رشد: أما اقتسام الشركاء في الكتابة كتابة المكاتب بينهم فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز؛ لأنهم إذا اقتسموا كتابته صار كل واحد كأنه قد كاتبه على حصته دون شركائه، وذلك ما لا يجوز؛ لأنه غرر، إذ ليست الكتابة بدين ثابت، فقد يعجز في نصيب أحدهما فيرجع حظه منه رقيقا ويؤدي إلى الآخر فيعتق حظه ويصير ذلك خلاف السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قوله: «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل» الحديث، وأما بيع أحد الشريكين نصيبه من كتابة المكاتب فقد مضى ذكر الاختلاف فبه وتحصيله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، ولا يدخل هذا الاختلاف في فسخ كتابة المكاتب بدليل قوله: ولا تجوز القسمة إلا فيما يجوز بيعه من الديون؛ لأن المعنى في ذلك ولا تجوز القسمة إلا في الديون التي يجوز بيعها إلا في الكتابة إذ ليست من الديون وإنما هي جنس من [إلغاء مبطل فترجع] إلي الرقبة، وبالله التوفيق.
[مسألة: حل النجم الثاني قبل عجزه فتعذر على المكاتب وانتظر لما يرجى له]
مسألة قلت أرأيت إن حل نجم من نجوم المكاتب فقال أحد الورثة: بدؤوني بهذا النجم واقتضوا ما أنقدكم به في القبض مما بقي عليه من نجومه أيجوز ذلك؟ قال: نعم لا بأس به، قلت فإن عجز المكاتب ولا مال له؟ قال: يرجع المقتضي بحصته في الرقبة ويغرم للشركاء حصصهم فيما كانوه بدأوه به، وذلك أنه كان منهم كالسلف عليه لهم، قلت: فإن كان حين حل النجم أعسر به فأنظروه إلا واحدا شح واقتضى ثم عجز؟ قال: يرجع المقتضي بحصته في الرقبة ولا يغرم لشركائه شيئا، وذلك أنه إنما اقتضى نصيبه ولم يبدؤوه بشيء، قال: وإن مات المكاتب عن مال وقد اقتضى أحدهم حقه من نجوم(15/246)
المكاتب وأنظره الآخر دون اقتضاء من بقي، ثم اقتسموا ما بقي وإن لم يكن فيما ترك وفاء وقد اقتضى بعضهم بعض حقه وأنظره بعض بجميع حقه اقتسموا ما ترك على حساب ما بقي لكل واحد من حصته من النجوم على قدر ما كانوا يطلبونه كما يقسم مال المفلس على قدر أموال أهل الديون.
قلت: أرأيت حين بدأوه يتقاضى نجما أو نجمين ليقتضوا مما باقي من النجوم، فقلت: إن عجز رد عليهم بقدر ما ينوبهم مما اقتضى ورجع بحصته في الرقبة أرأيت إن لم يعجز؟ فلما حلت النجوم قالوا لشركائهم: اقضنا ما قدمناك به سلفا مما لك فاقبض أنت ونحن المكاتب واقضنا ما قد صار لنا قبلك أترى ذلك عليه؟ قال: لا أرى لهم قبله شيئا إلا أن يعجز المكاتب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها؛ لأن المكاتب إذا كان بين الشريكين فيبدئ أحدهما صاحبه بنجم من نجومه على أن يأخذ النجم الآخر فيما بدأه به سلف منه له، فإن عجز المكاتب في النجم الآخر رد الذي قبض النجم الأول نصفه ورجع بحظه في رقبة المكاتب، وإن مات وترك مالا استوفى الذي لم يقبض شيئا من ماله مثل ما قبض صاحبه وكان ما بقي من ماله بينهما، وإن لم يكن فيما ترك من المال وفاء لما قبض صاحبه اتبعه بما بقي من حقه، مثال ذلك أن يكون النجم الذي قبض خمسين وترك المكاتب من المال ثلاثين فيرجع عليه بعشرة، ولو عجز أو مات قبل محل النجم الثاني لم لكن عليه رجوع حتى يحل الثاني، قاله في كتاب ابن المواز قال محمد: ولو حل النجم الثاني قبل عجزه فتعذر على المكاتب وانتظر لما يرجى له لكان على الشريك أن يعجل لشريكه سلفه ثم يتبعان المكاتب بالنجم الثاني.(15/247)
وإنما قال: إذا حل النجم الثاني ولم يمت ولا عجز إنه لا يلزمه أن يقضيه معه لأنه إنما بدأه من النجم الأول على أن يقبض هو الثاني، فكأنه قد التزم اقتضاءه هذا معنى ما ذهب إليه في الرواية.
وأما إذا حل النجم على المكاتب فأنظره أحدهما بحقه فيه وشح صاحبه فاقتضى حقه منه فلا رجوع له عليه إن عجز أو مات ولم يترك شيئا، ويكون له حظه من رقبة المكاتب في العجز، وإن ترك مالا استوفى منه الذي لم يقبض شيئا مثل ما قبض صاحبه، وكان ما بقي بينهما.
وإن لم يكن فيما ترك وفاء لما قبض صاحبه اقتسما ما ترك على قدر ما لكل واحد منهما يضرب الأول بما بقي له من النجم الأول، والثاني بجميع النجم الثاني على سنة التحاص في مال المفلس كما قال، واقتضى أحد الشريكين في المكاتب من الكتابة شيئا دون شريكه بتبدئته إياه بذلك أو بغير تبدئة خلاف حكم قطاعة أحدهما المكاتب بإذن شريكه أو بغير إذنه.
أما إذا قاطعه بإذنه ثم عجز في نصيب شريكه فهو بالخيار بين أن يرد نصف ما قاطعه به ويكون حظه في رقبة العبد، وبين أن يتمسك بقطاعته ولا يكون له في رقبة المكاتب شيء، وأما إذا قاطعه بغير إذنه ثم عجز في نصيب شريكه فليس له أن يرجع في رقبة المكاتب وإنما له ما قاطع به، وحكم الموت والعجز سواء إذا قاطعه أحدهما بغير إذن شريكه، تلزمه القطاعة ولا يكون له شيء في رقبته إن عجز، ولا في ماله إن مات؛ لأنه قد رضي بما قاطعه به، فليس له أن يرجع في رقبته إن عجز، ولا في ماله إن مات صح إلا أن لا يشاء شريكه أن يمضي له ما فعل من قطاعته إياه فيرجع عليه بنصف ما قاطع به ويكون العبد بينهما إن عجز، وإن مات ولم يف ما ترك بما قاطع به(15/248)
رجع عليه بنصف الزائد إن كان قاطعه بعشرين فمات ولم يترك إلا عشرة رجع عليه بخمسة.
وأما إذا قاطعه أحدهما في نصيبه بإذن شريكه فقال: إن الموت في ذلك كالعجز أيضا يكون الذي قاطع مخيرا بين أن يتمسك بقطاعته ولا يكون له شيء من ميراثه، وبين أن يرد نصف ما قاطع به ويكون الميراث بينهما، قاله في الموطأ، رواية يحيى ذلك غلط وقع في روايته، وإنما الحكم في ذلك أن يستوفى الذي لم يقاطع مما ترك المكاتب حقه من الكتابة أو بقية حقه منها إن كان قبض الذي قاطع، ويكون بقية المال بينهما، وهو نص قول مالك في موطأه في الباب نفسه في صدر كلامه، وبالله التوفيق.
[: يشتري ما على مكاتب لو ملك رقبته عتق عليه بالرحم]
ومن كتاب يشتري الدور والمزارع وسألته عن الرجل يشتري ما على مكاتب لو ملك رقبته عتق عليه بالرحم، فقال: أرى أن الذي على المكاتب موضوع عنه، فقيل له: ولم لم يملك رقا؟ ألا ترى أنه لو أدى ما عليه كان ولاؤه للذي عقد كتابته؟ قال: وإن كان ولاؤه للذي عقد كتابته فإن الذي اشترى الكتابة إذا كان ممن لو ملكه عتق عليه فهو إذا صار يأخذ منه كتابته فكأنه يأخذ منه ثمن رقبته، ألا ترى أنه إن عجز صار رقيقا له، فكيف يجوز له أن يقتضي منه ثمن رقبته وهو إن عجز عن أداء الذي يقتضيه منه فرق بالعجز عتق عليه بالرحم؟ قيل له: فإن ورثه؟ قال: فذلك أبين أن الكتابة موضوعة عنه ساعة يرثها من إذا ملكه عتق عليه.
قال محمد ابن رشد: ولو أوصى بكتابة من يعتق عليه لعتق عليه إن قبل الوصية، قاله أصبغ في نوازله في آخر الكتاب، ومعناه أنه تسقط عنه(15/249)
الكتابة فيعتق ويكون ولاؤه للذي عقد كتابته، وهو مذهب ابن القاسم في هذه الرواية، ولا أعرف في المذهب في ذلك نص خلاف، قال أصبغ في النوازل المذكورة: وذلك بخلاف إذا أوصى له بثمن من يعتق عليه لإنه إنما له الثمن بعد بيعه وليس بيعه في يديه، وبالله التوفيق.
[: قال أنت حر على أن عليك خمسين دينارا]
ومن كتاب الصبرة وقال فيمن قال: أنت حر على أن عليك خمسين دينارا: فالعبد بالخيار إن شاء أن تكون الخمسون دينارا عليه ويتبع بها ويعجل له الحرية فذلك له، وإن كره أن يكون غريما بها فلا عتاقة له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال أحدها قول ابن القاسم في هذه الرواية، والثاني قول مالك في المدونة إنه حر، والمال عليه بمنزلة قوله أنت حر بتلا وعليك كذا وكذا والثالث قول ابن القاسم في العتق الثاني من المدونة أنه إن قبل كان حرا إذا أدى المال كالكتابة، وإن لم يقبل فلا حرية له، إلا أن يفرق على مذهبه بين قوله أنت حر على أن عليه كذا وكذا أو أنت حر على أن تدفع إلي كذا وكذا، فقد فرق بين ذلك، وللتفرقة بينهما وجه، وقد قيل: إن هذين اللفظين سواء بخلاف قوله على أن تؤدي إلي كذا وكذا.
والصواب أن لا فرق بين أن يقول على أن تدفع أو على أن تؤدي وأن ذلك بخلاف قوله على أن عليك، فالأظهر من قوله على أن يؤدي أو على أن يدفع أن العتق بعدى الأداء، والأظهر من قوله على أن عليك أن الأداء بعد العتق، ويتخرج في المسألة قول رابع، وهو أن يكون حرا إذا أدى المال شاء أو أبى على مذهب من يرى جبر العبد على الكتابة، وهل هذا يختلف في الذي يقول لعبده أنت حر على أن تخدمني ما عشت؟ فقال المغيرة: هو كالمدبر(15/250)
لا يقدر على بيعه، وقال عيسى عن ابن القاسم في المدنية: أراه حرا الساعة، وليس عليه خدمة، قال: ولو قال: أنت حر على أن تخدمني عشر سنين كان حرا الساعة وسقطت الخدمة، وقال في آخر كتاب المدبر من المدونة ينظر في ذلك، فإن كان عجل العتق وجعل الخدمة بعده فهي ساقطة، وإن كان أراد أن يعجل عتقه بعد الخدمة فهو كما قال، لا يعتق حتى يخدم.
وإنما وقع هذا الاختلاف في هذه الألفاظ لاحتمال أن يريد بكل لفظ منها إيجاب المال على العبد بعد العتق برضاه وبغير رضاه.
فالاختلاف المذكور فيها إنما ينبغي أن يكون إذا لم يكن سؤاله عما أراد بذلك، وأما إذا أمكن ذلك ولم يفت سؤاله فيسأل، فإن قال: أردت بذلك إيجاب المال عليه بعد الحرية إن رضي صدق قوله وكان الجواب في ذلك ما قاله في هذه الرواية، وإن قال أردت بذلك إيجاب المال عليه بعد الحرية وإلزامه ذلك بتلت حريته ولزمه المال في قول مالك، ولم يلزمه عند ابن القاسم، وإن قال: أردت أن لا يعتق حتى يؤدي المال إن رضي كان ذلك على ما قال إن رضي العبد بذلك كان مكاتبا، وإن لم يرض بقي رقيقا، وإن قال: أردت إلزامه العتق بعد الأداء شاء أو أبى جرى ذلك على الاختلاف في جبر السيد عبده على الكتابة، ومسألة آخر كتاب المدبر من المدونة التي ذكرناها تدل على ما قلناه من سؤال السيد، والله الموفق.
[: قال إن بلغت غنمي ألفا وأنا حي فأنت حر]
ومن كتاب أوله أول
عبد أبتاعه فهو حر قال: وسألته عن الرجل يعطي غلامه مائة شاة أو مائة بقرة أو نحو ذلك فيقول أصلح إليها وأحسن بتفقدها، فإذا بلغت ألفا أو نحو ذلك مما يقول فأنت حر، فيموت السيد قبل أن تبلغ ما كان السيد(15/251)
ذكره من العدة التي جعل له الحرية إذا بلغتها الغنم أو البقر.
قال: لا حرية له، والورثة يبيعونه إن شاؤوا ويقتسمون الغنم والبقر، قلت: أرأيت إن صارت بعد موت السيد إلى تلك العدة قبل أن يقتسمها الورثة أو يخرجوها من يد العبد أو يكون بذلك حرا؟ فقال: لا؛ لأنه بمنزلة رجل قال: إن بلغت غنمي ألفا وأنا حي فأنت حر، فلما مات لم يلزم الورثة من ذلك الشرط شيء.
قلت: أرأيت إن أراد السيد في حياته بيع العبد أو إخراجه من الغنم أو إدخال غيره فيها لما رأى من تضييعه إياها أو أراد بيع الغنم أو شيئا منها لبعض حاجته أيمنع أم يوقف العبد وتوقف الغنم في يديه لا يبيعه ولا يبيعها ولا شيئا منها؟ وكيف إن رأى ضيعة فيها تلف الماشية على يدي العبد أيقره؟ وقال أصبغ عن رجل كاتب عبده على غنم كانت له في يد العبد على أن يبلغها ثلاثمائة أو أقل من ذلك أو أكثر إلى أجل هل تصح الكتابة؟ وكيف إن مات السيد قبل أن تتم الغنم أو ماتت الغنم كلها أو بعضها أو مات جميعها قبل الكتابة أو بعد الكتابة؟ قال أصبغ: لا تعجبني هذه الكتابة وليست من كتابة المسلمين، وأرى إن وقعت ونزلت وعقد ذلك له أن يتمه كما لو استأجره بمال دفعه إليه ويشترط له حريته بربحه فيه إذا بلغ كذا وكذا، فهو عقد عتق بشبهة فينفذ، فإن كان له أجل وجاء أجله وعجز رق وعجز، وإن لم يكن له أجل فإلى مقدار ما يرى من سعي مثله وكتابة مثله بأجل مثله، ورأيت ذلك له ثابتا، وإن مات السيد فإن أتمه بعد موت السيد فذلك له، وإن عجز عجز لعجزه في حياته بعد حد ذلك ووقته لما يرى، وإن لحق السيد دين لم أر أن يضره ذلك إن كان محدثا بعد الذي عقد له.(15/252)
وإن ماتت الغنم فإن العبد على رأس أمره إلى حده الذي كان يرى، أو إلى أجله، فإن قام بذلك فرجا من حيث طمع حتى يبلغه كان ذلك له، ولا أرى عليه إعلاق ما بقي، ولا أرى عليه في الأموات التي كان دفع الأشياء، وأرى أن تجعل الأموات ها هنا كالحية التي لم تمت ويحسبها ويقوم بما بقي، وأرى هذا إلى العبد إن شاء أن يمضي وإن شاء أمكن من نفسه، وليس للسيد إلزامه إياه، فإن فعل وإلا عجز إن شاء، وسواء عليه دفعها إلى السيد أو ماتت في يد العبد.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة ها هنا وفي أول رسم سماع أصبغ بعد هذا من هذا الكتاب، وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب العتق، فلم يرها ابن القاسم ها هنا ولا في سماع أصبغ بعد هذا كتابة وقال في ذلك: إنه إنما عتق أوجبه لعبده إن بلغت الغنم في حياته العدد الذي سمى، ورآها في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب العتق كتابة، وقال أصبغ ها هنا: إنها كتابة إذا لفظ بها بلفظ الكتابة، وهو ظاهر ما وقع له في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا، ولم يفرق ابن القاسم بين أن يلفظ بلفظ الكتابة فيقول: إذا كاتبتك على أن تقوم على هذه الغنم، وإذا بلغت كذا وكذا فأنت حر ولا يلفظ بلفظ الكتابة، فيقول له قم على هذه الغنم فإذا بلغت كذا وكذا من العدد فأنت حر، بل اختلف قوله في ذلك اختلافا واحدا؛ لأنه إذا حكم لها بحكم الكتابة ولم يلفظ بلفظ الكتابة على ما وقع من قوله في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب العتق فأحرى أن يحكم لها بحكم الكتابة إذا لفظ فيها بلفظ الكتابة وإن لم يحكم لها بحكم الكتابة إذا لفظ فيها بلفظ الكتابة على ما وقع من قوله في سماع أصبغ بعد هذا، فأحرى أن لا يحكم لها بحكم الكتابة.
وتفرقة أصبغ على ما يظهر من مذهبه بين أن يلفظ بلفظ الكتابة أو لا(15/253)
يلفظ به قول ثالث في المسألة، ومن حكم لها بحكم الكتابة إذا لفظ فيها بلفظ الكتابة أو إذا لم يلفظ به على ما ذكرناه من الاختلاف في ذلك، فلم يراع التعبير في الغنم الذي دفع إليه وأبطل الشرط في تعينها وجعله مكاتبا بعدد ما زاد من الغنم على ما دفع إليه إلى الأجل أنه سمي له أو إلى ما يضرب له من الأجل إن لم يسم له أجلا تلفت الغنم التي دفع إليه أو لم تتلف، وهو نص قول أصبغ في هذه الرواية على أصله في أن الكتابة على الشرط الفاسد تجوز ويبطل الشرط؛ لأنه قال: الغنم إن ماتت فهو على رأس أمره إلى حده الذي كان يرى أو إلى أجله يريد الذي سمي إن سمى أجلا، وبين ما ذكرناه من أن الكتابة على مذهب من يجيزها إنما يراها كتابة بما زاد العدد على ما دفع إليه، قوله: إن الغنم الذي دفع إليه محسوبة له كانت حية أو ميتة ماتت في يديه أو بعد أن دفعها إلى سيده، فإن كان كتابته بأن دفع إليه مائة من الغنم على أنه حر إذا بلغت ثلاثمائة فإنما هو مكاتب بما يتبين؛ لأن المائة التي دفع إليه محسوبة له على كل حال في الثلاث المائة التي كاتبه عليها، كانت حية أو ميتة، ماتت في يديه أو بعد أن ردها إلى سيده، ومن رآها كتابة لم يضرها عنده الدين المستحدث على ما قاله أصبغ في هذه الرواية، ومن لم يرها كتابة وإنما جعله عتقا بشرط بلوغ الغنم العدد الذي سمي في حياته رأى الدين المستحدث يبطله على ما قاله ابن القاسم في أول سماع أصبغ، فكل واحد منهما شيء على أصله.
ولما سأله يحيى في هذه الرواية: هل له على أصله فيها أنها ليست بكتابة أن يبيع العبد أو الغنم أو يدله منها لما خشي من تضييعه إياها سكت له عن الجواب على ذلك، فأما إدالته منها وإدخال غيره مكانه فيها فلا إشكال في أن ذلك له، وأما بيعه للعبد أو الغنم فيجري على ذلك على اختلاف قول مالك وابن القاسم في الذي يقول لعبده: أنت حر إذا قدم فلان هل له أن يبيعه أم لا؟ لأنه لم يجعلها كتابة وإنما رآه معتقا إلى أجل قد يأتي وقد لا يأتي، فأشبه قوله: أنت حر إذا قدم فلان، والله أعلم، وفي المدنية لابن القاسم من رواية عيسى(15/254)
عنه مثل نص قوله في هذه الرواية، وفيها لابن كنانة أنه سئل عن رجل قال لغلامه: أكاتبك على أن أعطيك عشر بقرات، فإذا صارت خمسين فأنت حر فهذه كتابتك، فرضي بذلك العبد. قال ليست هذه كتابة ومتى ما علم بهذا فسخ، قال: ولكنه إن جاء بالبقرات وقد صارت خمسين قبل أن يعلم بها وسيده حي عتق، قال: فإن مات السيد لم تكن تلك الكتابة شيئا وكان موروثا هو والبقرات، وليس قول ابن كنانة مخالفا لقول ابن القاسم؛ لأن معنى قوله: إنها ليست بكتابة ويفسخ متى ما علم بها يريد ويكون الحكم فيها إذا فسخت ما قاله بعد ذلك من أنه يعتق إن صارت البقرات خمسين في حياة سيده، وهو نص قول ابن القاسم في المدنية، وفي هذه الرواية خلاف قوله في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب العتق وخلاف قول أصبغ أيضا، وبالله التوفيق.
[: ولد المكاتبة يدخل معها في كتابته]
من سماع محمد
ابن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد سألت ابن القاسم عن رجل أوصى ورثته فقال: إن أعطتكم فلانة- في جارية له- ثلاثين دينارا فأعتقوها فغفل ورثته عنها من بعد موته حتى ولدت، ثم إنهم اقتضوا منها الثلاثين دينارا فأعطتها إياهم هل تعتق هي وولدها؟
فقال: لا يعتق غيرها وقد سألني عنها رجل بالإسكندرية فأخبرته مثل ما أخبرتك فقال لي: إنها وقعت فكتب بها إلى مالك فأجاب فيها بجوابك، قلت لابن القاسم: فرجل قال لجاريته: إن جئتني بمائة دينار إلى سنة فأنت حرة فقبلت، ثم إنها ولدت من قبل أن تأتي السنة هل تعتق هي وولدها إن هي أعطته المائة أو هل يبيعها(15/255)
من قبل أن تأتي السنة، قال ابن القاسم: أما ولدها فلا يعتق معها وليس له أن يبيعها حتى تعطي المائة عند السنة أو لا تعطي.
قال محمد بن رشد: أما قوله في المسألة الأولى إن ولد الجارية لا يعتق معها إن أعطتهم الثلاثين فهو بيّن على ما قاله؛ لأنها ولدت الولد قبل أن يجب لها العتق؛ إذ هي مخيرة بين أن تعطي الثلاثين أو لا تعطها، ويدخل في ذلك من الاختلاف بالمعنى ما في دخول ولد المحلوف بحريتها معها في اليمين التي الحالف فيها على بر، وقد مضى ذلك في غير ما موضع من كتاب العتق وغيره.
وأما قوله في المسألة الثانية: إن ولدها لا يعتق معها فهو بعيد مخالف للأصول؛ لأنهم مجمعون على أن ولد المكاتبة يدخل معها في كتابته، وهذه كتابة بينة إذا قبلت ما أعطاها السيد؛ إذ لا وجه لقبولها ذلك إلا التزامه، وإذا التزمته صارت كالمكاتبة لم يكن لها أن لا تؤدي المائة عند السنة وتعجز نفسها إلا أن لا يكون لها مال ظاهر، ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم أنها إنما قبلت أن يكون إليها ما جعل إليها من أن تأتي بالمائة إن شاءت فتعتق أو لا تأتي بها فلا تعتق، وهذا بعيد لأن ذلك يجب لها بقول السيد، وإن لم تقل: قد قبلت، وقد مضى في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب العتق ما فيه بيان هذا العتق، وبالله التوفيق.
[: ميراث مكاتب المكاتب إذا أعتق]
ومن سماع
سحنون وسؤاله ابن القاسم
قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن المكاتب يكاتب عبده فيعتق الأسفل ثم يموت عن مال وللمكاتب الأول أولاد أحرار من امرأة حرة وأولاد أحرار كانوا معه في الكتابة عجل السيد عتقهم(15/256)
برضاه، أيرثون هذا المكاتب الأسفل إذا مات وقد أعتق؟ قال: لا.
قلت له: فإن كان المكاتب الأول بقي معه في كتابه بعض ولده فمات وترك مالا فيه وفاء؟ قال ابن القاسم: يؤدي الذين معه في الكتابة بقية الكتابة، ويكون بقية المال بينهم دون الأحرار الذين عجل عتقهم وغيرهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، من أن ميراث مكاتب المكاتب إذا أعتق لا يكون لوُلد سيده المكاتب له الأحرار ما دام على كتابته؛ لأن ولاء المكاتب الأسفل إذا عتق إنما هو للمولى الأعلى ما دام المولى الأسفل على كتابته، فإن أدى كتابته رجع ولاء كتابته، فما لم يؤد كتابته لم يجب له ولاء من أعتق من مكاتبيه، فما لم يجب له لا يصح أن يرثه عنه ورثته الأحرار.
وقوله: إن المكاتب الأول إذا مات وترك مالا فيه وفاء بكتابته وله ولد معه في كتابته وولد أحرار، إن ولده الذين معه في كتابته يؤدون مما ترك بقية كتابته ويكون ما فضل لهم دون ولده الأحرار، فهذا نص قوله في المدونة والموطأ وغيرهما من الدواوين، ولا اختلاف أحفظه في أنهم أحق بميراث أبيهم من ولده الأحرار إذا مات وترك وفاء من كتابته وفضلا وإنما يختلف هل يكون أحد منهم بولاء مكاتب أبيهم الذي أدى فعتق قبل موته، فقيل: إن الولاء لا ينجر إليهم عن أبيهم إذا أدوا كتابته مما ترك ويكونون أحق به من ولده الأحرار، وقيل: إنهم لا يكونون أحق منهم ويدخلون معهم، اختلف قول مالك، وقع اختلاف قوله في ذلك في المبسوطة، وقال ابن كنانة: ليس لواحد منهم من ولاء مكاتب أبيهم شيء؛ لأنه مات قبل أن يعتق، فولاء مكاتبه للسيد ولو أدى كتابته فعتق قبل أن يموت لرجع إليه ولاء مكاتبه وورثه عنه جميع ولده الذين كانوا معه في كتابته والأحرار الذين لم يدخلوا معه في كتابته، ولو مات ولم يترك(15/257)
وفاء من كتابته فسعى ولده في بقيتها فعتقوا لم يكن لهم من ولاء مكاتبه شيء ولا للأحرار الذين لم يدخلوا في الكتابة، وكان ولاؤه للسيد، فقف على افتراق هذه المواضع الثلاثة إذا أدى المكاتب كتابته في حياته، وإذا أداها بنوه مما تخلفه وفاء بها فسعوا في بقيتها، وقد مضى في رسم إن خرجت من سماع عيسى تحصيل الاختلاف فيمن يرث المكاتب ممن هو معه في كتابته إذا مات قبل أن يؤدي كتابته فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: المكاتب إذا مات وترك وفاء بكتابته وله أم ولد وولد منها أو من غيرها]
مسألة وقال ابن القاسم، في المكاتب يموت ويترك أم ولده وولدًا له منها أو من غيرها وترك المكاتب مالا فيؤدي عنه فيعتقون، قال: لا يرجعون عليه بشيء، وكذلك لو لم يترك مالا فسعوا عتقت بأدائهم.
قلت: فإن لم يكونوا ولدها ولكنهم ولد المكاتب من غيرها؟
قال: هم بمنزلة ولدها، قلت: فإن إخوة المكاتب وليس معها ولد وقد ترك وفاء أو لم يترك وفاء؟ قال: سواء، يعتق الإخوة وتكون أما لهم، وإنما تتم حرمتها مع ولده منها ومن غيرها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المكاتب إذا مات وترك وفاء بكتابته وله أم ولد وولد منها أو من غيرها فيؤدي عنهم فيعتقون، إن الولد لا يرجعون على أم الولد بشيء كانت أمهم أو لم تكن أمهم - صحيح؛ لأنه لو أدى هذا الكتابة لم يرجع على أم ولده بشيء، فكذلك لا يرجعون هم عليها بما أدوا من ماله، كانت أمهم أو لم تكن أمهم، ولو لم يترك مالا فعتقت بسعيهم رجعوا عليها بما أدوا عنها إن لم تكن أمهم على مذهب ابن القاسم؛ إذ ليست ممن تعتق عليه، ولم يرجعوا عليها على مذهب أشهب في أن المكاتب لا يرجع على من معه في الكتابة بما أدى عنه إذا كان من ذوي محارمه، وإن كان مما لا يعتق عليه، وقد مضى هذا من قول أشهب والاختلاف(15/258)
فيه في رسم إن خرجت من سماع عيسى.
وأما قوله: إن لم يترك المكاتب ولدا وترك إخوة، فسواء ترك وفاء أو لم يترك لا يعتق الولد بعتق الإخوة، وتكون أمة لهم، هو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، ولأشهب
في كتاب ابن المواز: أنه إن ترك وفاء عتقت مع الأب والأخ، وإن لم يترك وفاء رقت، ولا تعلق في سعيها بعد ذلك، فاتفق ابن القاسم وأشهب على أنها تسعى مع الولد ولا تسعى مع الأب والأخ، واختلفا هل تعتق بعتقهما إذا ترك وفاء؟ فقال ابن القاسم: إنها لا تعتق بعتقهما، وقال أشهب: إنها تعتق بعتقهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: يطأ أم ولد مكاتبه فتحمل منه]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يطأ أم ولد مكاتبه فتحمل منه.
قال: يُحال بين المكاتب وبين وطئها حتى ينظر إلى ما يصير إليه حال المكاتب، فإن أدى عتق وكانت أم ولده، وإن عجز كانت أم ولد السيد.
قلت لابن القاسم: فإن خاف العجز فأراد بيعها؟ قال: لا يبيعها ولكن يكون على السيد قيمتها يوم تؤخذ، ويعتق المكاتب فيها، فإن فضل شيء كان له.
قلت لابن القاسم: فالولد ألا يأخذ المكاتب قيمته يستعين بها في كتابته؟ قال: لا، وهو في القندان على خلاف هذا.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إن السيد لا يجب عليه لمكاتبه شيء في أم ولده إذا وطئها فحملت منه وهو لا يخاف العجز من أجل أن أمرها لا يخلو من أن تصير ملكا له إن عجز أو حرة إن أدى كتابته ولم يعجز، وفي كلا(15/259)
الحالتين تسقط القيمة عن السيد، هذا وجه قول ابن القاسم، وفيه نظر؛ لأنه قد أفسدها على المكاتب ومنعه ما كان له من الاستمتاع بها، فكان القياس أن تكون عليه قيمتها كما لو قتلها هو أو رجل غيره، ولما لم ير عليه ابن القاسم قيمتها للوجه الذي ذكرناه لم ير عليه أيضا في الولد قيمة، وقال: الجواب فيها في القندان على خلاف هذا، فيحتمل أن يكون الذي في القندان أن يؤخذ من السيد الواطئ قيمة ولده على أنه ولد أم ولد فيوقف، فإن أدى أو عجز رجعت القيمة إليه؛ لأنها إذا أدت أو عجزت سقط حقه فيها [وإذا سقط حقه فيها] ، سقط في ولدها، وإن ماتت قبل أن تؤدي أو تعجز كانت له القيمة يستعين بها في كتابته، وأما إذا خاف المكاتب العجز فكان له أن يبيعها من أجل خوفه العجز.
فقوله: إنه يكون على السيد الواطئ قيمتها يوم تؤخذ منه ويعتق المكاتب فيها - فهو مثل ما في كتاب ابن المواز لابن القاسم في سيد المكاتب يطأ أمة مكاتبه فتحمل أنها يعتق فيما لزمه من قيمتها؛ لأن أم ولده تصير في هذا الحد كأمته في أن له بيعها، وقد مضى في رسم العرية من سماع عيسى اعتراض محمد بن المواز قول ابن القاسم في أنه يعتق فيما لزم السيد من قيمة أمته، ووجه العمل في ذلك وما في المدونة فيه، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: المكاتب إذا أعتق السيد أمته ثم عجز المكاتب وهي عنده أيعتق أم لا]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم: عن المكاتب إذا أعتق السيد أمته ثم عجز المكاتب وهي عنده أيعتق أم لا؟ قال: نعم، قلت: وكيف إن خاف العجز أله أن يبيعها أم لا؟ أو لم يخف العجز أله أن يبيعها؟ قال: نعم، قلت: وكيف إن خاف العجز أو لم يخف ولا(15/260)
يعتق على السيد إلا وهي عنده؟ وإن فيه لقولا ولكن هذا أحسنه إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على قياس قوله في المدونة في المكاتبين في كتابة واحدة يعتق السيد أحدهم ممن فيه قوة على السعاية فلا يرضى أصحابه ثم يعجزون: إنهم يعتق عليه، وكذلك أيضا لو أعتق المكاتب أو العبد عبده فردَّ ذلك السيد ثم أعتق العبد أو أدى المكاتب كتابته والعبد عنده: إنه يعتق على كل واحد منهما واختُلف.
وقد اختلف في المرأة تعتق العبد وهو أكثر من ثلث مالها فيرده الزوج ثم يموت عنها أو يطلقها، فقيل: إنه يعتق عليها، وهو قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وقيل: إنه لا يعتق عليها وهو قول أشهب، وقيل: إنها تؤمر بذلك ولا تجبر عليه، وهو قول ابن القاسم، والاختلاف في هذه المسألة داخل في مسألتنا؛ لأنه إذا لم يلزم ذلك المرأة فأحرى أن لا يلزم ذلك السيد، فالاختلاف من مذهب ابن القاسم قائم من مسألتنا هذه، وقد أشار إلى هذا بقوله: وإن فيه لقولا، ولكن هذا أحسنه، ولا اختلاف في أن له أن يبيع خاف أو لم يخف، وبالله التوفيق.
[مسألة: المكاتب يكون بين الرجلين فيريد أحدهما بيع نصيبه بإذن شريكه]
مسألة قال ابن القاسم، في المكاتب بين الشركاء فيبتاع أم المكاتب من بعض الشركاء فيه جزءا مما على المكاتب، قال: سألت مالكا على المكاتب يكون بين الرجلين، فيريد أحدهما بيع نصيبه بإذن شريكه، قال: لا يجوز إلا أن يبيعاه جميعا، فالأم عندي بمنزلته إلا أن يبتاعه كله أو لا يبتاع منه شيئا.(15/261)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الأم بمنزلة الأجنبي في ابتياع بعض كتابة المكاتبة، إذ لا يعتق المكاتب بابتياع أمه جزءا من كتابته، وإنما يعتق إذا ابتاعه كتابته كلها؛ لأنها تسقط عنه بابتياعها له على ما مضى في رسم يشتري الدور من سماع يحيى فيعتق بذلك، وقد مضى تحصيل الاختلاف في بيع جزء من كتابة المكاتب، في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وتكررت المسألة في رسم الكبش من سماع يحيى وفي رسم المدبر عن سماع أصبغ، وبالله التوفيق.
[: وهب لرجل نصف كتابته أو جلها ثم عجز]
من سماع موسى بن معاوية من ابن القاسم
قال موسى بن معاوية: قال ابن القاسم، في رجل أعطى رجلا كتابة مكاتبه في صحته فعجز عن المعطى، فقال مالك: هو للذي وهبت له كتابته، وهو بمنزلة من ابتاعه. وكذلك قال لي مالك.
قال أبو زيد بن أبي الغمر عن ابن القاسم: ولو أن رجلا أعطى رجلا في حياته وصحته كتابة مكاتبه، فعجز عنه المعطى كانت رقبته لسيده المعطي.
قال محمد بن رشد: رواية أبي زيد هذه خلاف ما يأتي له في سماعه بعد هذا، مثل رواية موسى، وقد ذكر ابن المواز عن مالك فيمن وهب لرجل نصف كتابته أو جلها ثم عجز، فإن له بقدر ذلك من رقبته ملكا مثل البيع، وقاله أشهب وأصبغ، وذكر أبو بكر بن محمد عن أشهب مثل رواية أبي زيد هذه، والقياس أن لا فرق في هذا بين البيع والهبة، وأن تكون له رقبته إذا وهبت له كتابته فعجز عما كان يكون له إذا اشتراها فعجز، وكذلك إذا وهب له منها جزءا أو نجما بغير عينه فعجز يكون له من رقبته بقدر ذلك الجزء أو بقدر النجم من عدد النجوم، ورأى على إحدى روايتي أبي زيد وأحد قولي أشهب:(15/262)
أن الواهب للكتابة إذا قصد إلى هبة المال لا إلى هبة الكتابة على ما يوجبه الحكم في شرائها من أن تكون له الرقبة إن عجز عنها، وليس ذلك بيّنا، وبالله التوفيق.
[: العبد تكون له أم ولد فيكاتبه سيده عليها ويجعل كتابتهما واحدة]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن العبد تكون له أم ولد فيكاتبه سيده عليها ويجعل كتابتهما واحدة، قال: يحرم فرجها على سيده، ويكون ذلك كالانتزاع منه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأنه إذا كاتبها معه فقد انتزعها منه، فوجب أن تحرم بذلك عليه، وبالله التوفيق.
[: المكاتب يعجز نفسه ويرضى بفسخ الكتابة]
مسألة قال ابن القاسم، في المكاتب يقول لسيده: امح عني كتابتي وارددني على حالي التي كنت عليها، هل له أن يفعل ذلك به؟ قال ابن القاسم: سألنا مالكا عن المكاتب يعجز نفسه ويرضى بفسخ الكتابة، وسمعته غير مرة، وهو يقول: إن كان له مال ظاهر لم يكن له أن يعجز نفسه، وإن كان له مال صامت لا يعرف وعجز نفسه ورضي بفسخ الكتابة رأيت ذلك له دون السلطان.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في المدونة وهو المشهور في المذهب أن المكاتب ليس له أن يعجز نفسه إذا كان له مال ظاهر وإن رضي بذلك سيده؛ لأن الكتابة يتعلق فيها حق الله تعالى، وقيل: إن للمكاتب أن يعجز نفسه وإن كان له مال ظاهر ما لم يكن له بنون صغار، قاله ابن عبد الحكم في مختصره عن مالك، ومعناه: إذا رضي بذلك سيده خلافا للشافعي في قوله: إن ذلك له وإن أبق سيده بالكتابة على رواية ابن عبد الحكم عن مالك(15/263)
كالبيع الذي لا يتعلق فيه حق لغير المتبايعين، فتجوز الإقالة بينهما فيه، والقول الأول أظهر؛ لأن الكتابة عقد من عقود الحرية فلا يجوز إبطاله إلا من ضرورة، والشافعي لا يرى في الكتابة حقا إلا للعبد، فيراه أحق بالتمسك بها وبنقضها، وقول مالك أصح؛ لأنها عقد معاوضة بتراضيهما، فإذا لم يكن للسيد الرجوع فيه وجب أن لا يكون للعبد الرجوع فيه.
وأما إذا لم يكن للمكاتب مال ظاهر فجحد أن يكون له مال باطن وأراد أن يعجز نفسه وأبى السيد ذلك عليه لم يكن له ذلك إلا بإذن السلطان كما أنه إذا أراد السيد تعجيزه وأبى هو من ذلك لم يكن ذلك إلا بالسلطان.
واختلف إذا أجابه سيده إلى ما دعا إليه من تعجيزه نفسه وصدقه فيما ادعاه من أنه لا مال له، فقال في هذه الرواية وفي المدونة: إن ذلك له دون السلطان، فإن عجز نفسه برضا سيده دون السلطان ثم ظهرت له أموال أخفاها مضى التعجيز وبقي رقيقا ولم يرجع في الكتابة إلا برضاهما جميعا. وقال سحنون: لا يكون التعجيز إلا عند السلطان، وهو قول ابن كنانة في المدنية، فعلى قولهما: إن عجز نفسه برضا سيده دون السلطان ثم ظهرت له أموال كان أخفاها وجب أن يرد على كتابته، وهذا القول أظهر على قياس القول بأن الكتابة يتعلق بها حق لله تعالى، فلا يجوز للمكاتب أن يعجز نفسه إذا كان له مال ظاهر وإن رضي سيده؛ لأنه إذا لم يكن له مال ظاهر فرضي سيده دون السلطان اتهما جميعا على إسقاط حق الله تعالى في إبطال الكتابة، والسلطان يكشف عن حال المكاتب إذا ارتفعا إليه ورضيا بالتعجيز، فإن تبين له كذبه فيما يدعي من أنه لا مال له لم يمكنه من تعجيز نفسه، وقد قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز: إنه إن اتهم بمال ولدد رأيت عليه العقوبة، وله أن يعجز نفسه إذا لم يكن له مال وإن كان صانعا، قاله ابن القاسم في كتاب ابن المواز، قال محمد: وأما إن كان له مال ظاهر فلا يعجز نفسه ويؤخذ منه لسيده شاء أو أبى، يريد بعد محله ويعتق، وبالله التوفيق.(15/264)
[: قال لغلامه أكاتبك على أن أعطيك عشر بقرات فإذا صارت خمسين فأنت حر]
من سماع أصبغ من ابن القاسم
قال أصبغ: سئل ابن القاسم: عمن قال لغلامه: أكاتبك على أن أعطيك عشر بقرات، فإذا صارت خمسين فأنت حر، هذه كتابتك. فرضي الغلام بذلك، قال: ليست هذه عندي كتابة ولا أرى لسيده أن يفسخها لما جعل له من العتق، وهو عندي مثل ما يقول رجل: اشهدوا إذا بلغت بقري هذه خمسين فغلامي حر، ويعطيه إياها، وليس له أن يبيعها ولا يفسخ ما جعل له إلا أن يرهقه. قال أصبغ: لا يعجبني قوله، وأراها كتابة، وقد يجوز في الكتابة الغرر والمجهول من المال والآجال، ومن لفظ الكتابة وفعلها ما هو أكبر من هذا وأشد، ولا أرى أن يفسخ عنه حتى يتبين عجزه عما قال بأمر بين.
قال محمد بن رشد: أصبغ يراها كتابة جائزة فلا يبطلها الدين المستحدث على أصله ومذهبه، وقد نص على ذلك في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى، وإلى قوله ذهب أحمد بن ميسر، فقال: إن له بيع الذكور وأحصى عددها وكذلك الإناث التي انقطع ولادتها ولا يفسخ ما جعل له وإن رهقه دين، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في الرسم المذكور من سماع يحيى فلا معنى لإعادته، وإنما قال أحمد: إن له بيع الذكور والإناث التي انقطع ولادتها وأحصى عددها؛ لأن من حقه أن يعدها على سيده في العدد الذي كاتبه عليه كما يعد عليه ما مات منها على ما قاله أصبغ فيما مضى من رسم سماع يحيى، وقد بينا وجهه، وبالله التوفيق.
[: يكاتب عبده ويشترط عليه غير ما مضى من عمل الناس في الكتابة]
من كتاب المدبر قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، يقول في الذي يكاتب عبده(15/265)
ويشترط عليه غير ما مضى من عمل الناس في الكتابة وغير وجه الكتابة، مثل أن لا يخرج من عمله وخدمته حتى يؤدي، وما أشبه ذلك.
فقال: أراه على كتابته، والكتابة ثابتة لازمة حتى يعجز، والشرط لازم ولا يفسخ عنه؛ لأنه ليس فيه حرام من واحد منهما لصاحبه، وإنما هو رجل قال له: إن دفعت إلي عشرة دنانير في كل شهر مع خدمتك إياي فأنت حر، فهو جائز، وغيره أحسن منه مما يعرف من وجه الكتابة، ولهذا جاز أن يشترط عليه أن يسافر معه. قال: وإن كانت خدمته بعد قضاء الكتابة بطلت عنه.
قال أصبغ: لا يعجبني ما قال في إلزامه الشرط، ولكن أرأيت إن ثبتت الكتابة وسقط الشرط كالذي يشترط وطء الأمة في كتابتها أو استثناء ولدها مما تلد أو مما يولد للمكاتب من أمته بعد ذلك رقيقا وتمضي الكتابة على سنتها حتى يعجز ويسقط الشرط ولا يكون له أن يطأ ولا يرد الولد في الرق، ولا تبطل الكتابة لشرطه، فكذلك الخدمة ونحوها إلا خدمة مؤقتة بسفر وما أشبهها حتى يعتق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في سماع أشهب، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: بيع جزء من المكاتب]
مسألة وسئل: عن بيع جزء من المكاتب نصفه أو ثلثه أو جزء منه.
قال: لا بأس بذلك، ولا بأس أن يبيع نجما من نجوم المكاتب، وذلك يرجع إلى أن يكون جزءا، وذلك إذا اشترى نجما من جميع نجومه، وليس نجما بعينه، وقاله أصبغ.(15/266)
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم خلاف ما مضى من قول مالك في سماع يحيى وسحنون، وفي رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم مثل قول أصبغ وسحنون فيه، وقد مضى هنالك القول على ذلك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: أوصى بخدمة جارية للابن له حياته فإذا مات كوتبت بعشرين دينارا]
ومن كتاب الوصايا قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم، وسئل: عمن أوصى بخدمة جارية للابن له حياته فإذا مات كوتبت بعشرين دينارا.
فقال: إن وسعها الثلث وقفت نجوم الابن إن أجاز له الورثة الخدمة وإن أبوا أن يجيزوا الخدمة اقتسموا الخدمة على الفرائض ما عاش الابن الموصى له بالخدمة، فإذا مات كوتبت بعشرين دينارا كما أوصى الميت، وتكون تلك الكتابة إن أدت بين من ورث الميت على فرائض الله، وتعتق إن أدت، وإن عجزت رقت وكانت بين من ورثه الميت على الفرائض رقيقا لهم.
قال أصبغ: وولاؤها إن أدت وعتقت للميت الموصي بكتابتها وعصبته الذين يرثون الولاء من الرجال، قال أصبغ: قال ابن القاسم: وإن لم يحملها الثلث خير الورثة بين أن ينفذ ما أوصى له به. قال أصبغ: فإن أنفذوا ذلك كان كخروجها من الثلث على مجرى ذلك سواء. قال ابن القاسم: وتكون موقوفة على الابن في خدمتها إلى الأجل، ويقتسمون الخدمة معه إن لم يجيزوا له خدمة خاصة ويكاتبوها بعد ذلك. قال أصبغ: وبين أن يعجلوا لها الكتابة الساعة وتسقط الخدمة وتسعى فيها فتؤدي وتعتق أو تعجز فترق أو يعتقوا منها ما حمل الثلث بتلا، ويسقط ما سوى ذلك كله إذا أبوا ما فوقه.(15/267)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا موضع للقول إلا قول أصبغ إذا لم يحملها الثلث إن الورثة يخيرون بين أن ينفذوا الوصية أو يعجلوا لها الكتابة وتسقط الخدمة ويعتقوا منها ما حمل الثلث بتلا، فإنما يكون ما ذكره من تعجيل الكتابة وإسقاط الخدمة إذا اتفق الورثة كلهم على ذلك الموصى له بالخدمة ومن سواه منهم، فإن أبى ذلك أحدهم أعتق منها ما حمل الثلث بتلا إلا أن يجيزوا الوصية على وجهها، وقد تكررت هذه المسألة في آخر سماع موسى بن معاوية، وزاد فيها هذه الزيادة من قول ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لثلاثة نفر بكتابة مكاتبه]
مسألة وقال، في رجل أوصى لثلاثة نفر بكتابة مكاتبه، أوصى لرجل بالنجم الأول، وللثاني بالنجم الثاني، وللثالث بالنجم الثالث، فعجز المكاتب بعدما قبض الأولان، قال: يرجع بين الثلاثة نفر رقيقا ويكون لكل واحد منهم بقيمة نجمه منه ولا يرجع الآخر على الأولين بشيء مما أخذا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة وفي مسألة رسم الوصايا الصغير بعد هذا أن الموصي لهم بجميع كتابة مكاتبه، ثم قال: يأخذ فلان منهم منها النجم الأول، وفلان النجم الثاني، وفلان النجم الثالث.
وأما لو أوصى لأحد منهم بالنجم الأول من نجوم مكاتبه، وللثاني بالنجم الثاني، وللثالث بالنجم الثالث، دون أن يتقدم من إيصائه لهم بجميع كتابته ما يكون هذا من قوله تفسيرا لما يأخذه كل واحد منهم من الكتابة التي أوصى لجميعهم بها لما كانت رقبته إن عجز إلا للموصي له بآخر نجم منها؛ لأن من أوصى له بنجم بعينه من نجوم مكاتبه لو اشتراه أو وهب له لم يكن له حق في رقبته إن عجز باتفاق إلا أن يكون النجم الذي اشتراه أو وهب إياه أو(15/268)
أوصى له به آخر نجوم المكاتب، فيكون بمنزلة من اشترى جميع الكتابة أو وهبت له وأوصى له بها في أنه يكون له رقبته إن عجز فرده.
قوله في هذه الرواية: إذا أوصى لهم بجميع كتابة مكاتبه، وقال أن يأخذ أحدهم منها النجم الأول، والثاني: النجم الثاني، والثالث: النجم الثالث، فقبض الأول النجم الأول، والثاني: النجم الثاني، ثم عجز المكاتب في النجم الثالث - إنه يرجع رقيقا بين الثلاثة نفر على قدر قيمة نجومهم، ولا يكون للآخر رجوع على الأولين بشيء مما أخذا هو أن الأول والثاني إنما قبضا حقهما الذي أوصى لهما به من غير أن يبديهما الثالث، فوجب أن لا يكون له عليهما به رجوع قياسا على ما قالوا في المكاتب بين الشريكين يحل عليه نجم من النجوم فقبض أحدهما حقه منه وينظره الآخر بنصيبه منه، ثم يعجز في النجم الثاني: إنه يكون رقيقا بينهما، ولا يكون للثاني رجوع على الأول بما قبض من النجم الأول؛ لأنه إنما قبض حقه منه دون أن يبديه به صاحبه على ما قال في رسم الكبش من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بنجم من نجوم مكاتبه]
مسألة قلت: فلو أوصى لرجل بنجم من نجوم مكاتبه، فقال الورثة: نحن ندفع إليك نجما، وقال هو: لا أرضى لعله أن يعجز فيكون لي فيه حق.
قال: إن كان النجم لم يحل فذلك له، وإن حل فذلك لهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن النجم الذي أوصى له به هو آخر نجم من نجوم المكاتب؛ لأن من أوصي له بنجم بعينه من نجوم المكاتب وليس بآخر نجم من نجومه، فلا حق له في رقبة المكاتب إن عجز.(15/269)
وقوله: إن كان النجم لم يحل فمن حق الموصي له أن لا يعجل له وأن يبقى حقه على المكاتب رجاء أن يعجز، فيكون له في رقبته حق، خلاف قوله في رسم الوصايا الصغير من سماع أصبغ من كتاب الوصايا في الذي يوصي لرجل بألف درهم على مكاتبه، فقال الورثة للموصى له: نحن نعطيك الألف وتكون جميع الكتابة لنا والعبد، فأبى ذلك، وقال: يكون لي في العبد والكتابة لعله يعجز. قال: ليس ذلك له؛ لأن الظاهر من قوله فيها: إن الكتابة لم تحل، فإذا لم يكن للموصي له في ذلك حق وإن كانت لم تحل فأحرى أن لا يكون له في ذلك حق إن كانت قد حلت.
والاختلاف في هذا جار على الاختلاف فيمن وهب كتابة مكاتب فعجز، هل تكون له رقبته أو للواهب؟ وقد مضى ذكر ذلك في سماع موسى، وقد قيل: إن تفرقته في هذه الرواية بين أن يحل النجم أو لا يحل مبين لما في سماع أصبغ من كتاب الوصايا لا خلاف له، إذ لا نص فيه على أن الألف لم تحل، فمعناه أنها قد حلت.
فيأتي هذا فيمن وهب كتابة مكاتب فعجز عنه ثلاثة أقوال فيمن تكون له الرقبة؟ أحدها: أنها تكون للواهب بخلاف البيع، والثاني: أنها تكون للموهوب كالبيع، والثالث: الفرق بين أن يكون قد حلت الكتابة أو لم تحل، وبالله التوفيق.
[: أوصى لهم الميت بالكتابة ولم يخص لواحد منهم نجما بعينه]
ومن كتاب الوصايا الصغير وسئل ابن القاسم: عن المكاتب يموت سيده وعليه ثلاثة آلاف فيوصي لرجل بالأولى وآخر بالثانية، ولآخر بالثالثة، فيستوفي الأولان منه، ثم يعجز العبد، قال: إن ردا ما أخذا رجع أنصباؤهما في العبد، وإن لم يردا رجع ما كان نصيبهما من العبد إلى ورثة الميت(15/270)
الموصي، قيل له: الذي يردان إلى من يردانه؟ قال: إلى العبد يكون في يديه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم من قولي في الرسم الذي قبل هذا أن معنى هذه المسألة أنه أوصى لهم بجميع الكتابة، ثم فسر ما يأخذ كل واحد منهم منها من النجوم.
وقوله في هذه المسألة: إنهما إن ردا ما أخذا رجع أنصباؤهما في العبد، وإن لم يردا رجع ما كان يصيبهما من العبد إلى ورثة الموصي - خلاف ما تقدم من قوله في الرسم الذي قبل هذا، ولكلا القولين وجه، وقد مضى وجه القول المتقدم ووجه هذا: أن الموصي لما أوصى لهم بالكتابة معا ثم بين ما يأخذ كل واحد منهم منها فقد ساوى بينهم في الوصية إلا فيما بدى بعضهم على بعض، فوجب إذا قبض الأولان نجميهما ثم عجز في النجم الثالث: أن لا يكون للأولين مشاركة الثالث في رقبة المكاتب، إلا أن يردا عليه ما يجب له مما قبضا من المكاتب، وهو ثلث ما قبضا منه، وهو معنى قوله: إنهما يردان ذلك إلى العبد؛ لأنهما إذا ردا ذلك إلى العبد ورجعا معه في رقبته فقد استووا جميعا فيه، وفيما قبضا منه، ولا يلزمهما أن يردا إلى الثالث ما يجب لهما مما قبضاه من المكاتب إذ لم يبدئهما بذلك، ومن حقهما أن يتمسكا بما قبضا منه ويرجع حظهما من رقبة العبد لورثة الموصي كما قال في الرواية، ولو أوصى لهم الميت بالكتابة ولم يخص لواحد منهم نجما بعينه، فحل النجم الأول والثاني، فبدأ أحدهم صاحبه بهما على أن يقبض هو النجم الثالث، فعجز فيه للزمهما أن يردا عليه ما يجب له من النجمين اللذين قبضاهما ويرجعا معه في رقبة المكاتب، على ما مضى في رسم الكبش من سماع يحيى في المكاتب بين الورثة، وهذا القول أظهر من القول الذي تقدم في الرسم الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.(15/271)
[: كاتب عبده ثم دبره]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: سئل ابن القاسم: عمن كاتب عبده ثم دبره، قال: ينظر إلى أدنى القيمتين من قيمة رقبته أو قيمة الكتابة فجعلت في ثلث الميت. وإن دبره ثم كاتبه لم يجعل في ثلثه إلا قيمة رقبته.
قال محمد بن رشد: أما إذا كاتبه ثم دبره، فقوله: إنه يجعل في الثلث الأقل من قيمة الرقبة أو قيمة الكتابة فهو بين على ما قاله، ومثله في المدونة في الذي يوصي بعتق مكاتبه، وقيل: الأقل من قيمة الرقبة أو عدد الكتابة، والقولان في المدونة.
وأما إذا دبره ثم كاتبه ففي قوله: إنه يجعل في الثلث قيمة رقبته نظر؛ لأنه إنما يقوم يوم ينظر في الثلث وهو مكاتب بعد، فلا فرق في القياس والنظر بين أن يدبره ثم يكاتبه، أو يكاتبه ثم يدبره فيما يجب أن يجعل في الثلث، وبالله التوفيق.
[مسألة: مكاتب بين رجلين أوصى أحدهما صاحبه في مرضه]
مسألة وقال، في مكاتب بين رجلين أوصى أحدهما صاحبه في مرضه، فقال: ثلث النصف الذي لي في فلان المكاتب لفلان أخي، والثلث حر، ثم هلك وهلك المكاتب عن مال، كيف يورث؟ قال: على خمسة أسهم، فيكون لشريكه ثلاثة أسهم من خمسة ويكون للذي أوصى له ثلث النصف سهم، ولورثته سهم من خمسة، وذلك بعدما يستوفون ما لهم فيه من الكتابة، وإن قال ذلك في صحته ثم هلك(15/272)
المكاتب عن مال كان للذي لم يعتق ثلاثة أسهم من ستة، ولشريكه سهمان من ستة، وللذي تصدق عليه بسدس العبد سهم من ستة، وذلك بعد أن يستوفوا من ماله بقيمة كتابتهم.
قال محمد بن رشد: هذا بين كله صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها لأن الثلث من نصف المكاتب الذي أوصى أحد الشريكين فيه بعتقه يعتق في ثلثه، وإن أعتق ثلث النصف منه بقي فيه من الرق خمسة أسداسه فيها يورث؛ لأن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء، والعبد لا يورث بالحرية حتى لا يبقى فيه شيء من الرق.
وأما إذا قال ذلك في صحته فلا يوجب ذلك له عتقا؛ لأن عتق بعض المكاتب في الصحة وضع، وليس بعتق، فوجب أن يورث على أن جميعه رقيق، فيكون للشريك فيه نصف ميراثه، وللمتصدق عليه بثلث نصفه سدس ميراثه وللمتصدق المعتق ما بقي وهو الثلث؛ لأن عتقه ليس بعتق إنما هو وضع، والله الموفق.
[مسألة: كاتب عبدا له ثم وهب لرجل نجما من نجومه ثم عجز العبد]
مسألة وقال، في رجل كاتب عبدا له، ثم وهب لرجل نجما من نجومه، ثم عجز العبد. قال: يكون له في رقبته حصة بقدر النجم الذي وهب له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه وهبه نجما من نجوم مكاتبه بغير عينه، فقد حصل شريكا معه في جميع كتابته على الإشاعة بما يقع ذلك النجم من جميع النجوم على قدر قيمة من قيمته جميعا، وصار ذلك كأنهما كاتباه جميعا، فوجب إذا عجز في آخر النجوم أن تكون رقبته بينهما كالمكاتب بين الشريكين يعجز، وهذا خلاف ما تقدم له من رواية أبي زيد عنه(15/273)
في سماع موسى بن معاوية، إذ لا فرق في هذا بين هبة جميع الكتابة أو نجما بغير عينة، وقد مضى هنالك التكلم على ذلك فلا معنى لإعادته ولابن القاسم في كتاب ابن المواز، قال: فإن وهبه نجما منها بعينه في صحته فلا يكون له من رقبته شيء إن عجز، وكأنه هبة لمال ذلك النجم، وقد مضى في رسم الوصايا ورسم الوصايا الصغير أيضا من سماع أصبغ ما ظاهره أن الموصي له بنجم بعينه يصير له من رقبة المكاتب إن عجز بقدر ذلك النجم من جميع الكتابة، وهو بعيد في المعنى، فتأولناه على أنه إنما تكلم في ذلك على نجم بغير عينه، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: العتق إلى أجل]
مسألة وقال، في رجل أعتق مكاتبه إلى عشر سنين. قال: يخير المكاتب بين أن يسقط الكتابة ويعتق إلى عشر سنين أو يكون على كتابته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن العتق إلى أجل عقد لازم لا يبطله شيء يحدث بعد، فهو أوجب من الكتابة، إذ قد يعجز عنها فيرجع رقيقا، فلذلك قال: إنه يخير بين أن يسقط الكتابة عن نفسه ويبقى معتقا إلى أجل، وبين أن تبقى كتابته، وإنما يخير بين الأمرين ما لم ينفذ عتقه إلى الأجل، وأما إن أنفذه فإما أن يخير بين أن يسقط الكتابة وبين أن يبقى على كتابته مع العتق المؤجل، فإن أدى كتابته قبل الأجل خرج حرا بأداء الكتابة وإن حل الأجل قبل الكتابة سقط عنه ما بقي عليه منها وخرج حرا، وبالله التوفيق.
[مسألة: مكاتب بين ثلاثة نفر قاطعه أحدهم بإذن صاحبه وتمسك الثاني]
مسألة وسئل: عن مكاتب بين ثلاثة نفر، قاطعه أحدهم بإذن صاحبه وتمسك الثاني، ووضع الثالث، ثم عجز المكاتب.(15/274)
قال: إن رد الذي قاطع نصف ما في يديه إلى الذي تمسك كان العبد بين الثلاثة بالسواء، وإن أبى أن يرد شيئا لم يكن له في العبد شيء، وكان العبد بين الذي تماسك وبين الذي وضع بنصفين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الذي وضع منهم حظه من الكتابة لم يسقط بوضعه حظه منها حقه في الرقبة، إن عجز عما بقي منها لشركائه، فإن عجز وبقي الذي قاطع على ما قاطع به كان المكاتب بين الذي وضع وبين الذي تماسك بنصفين كما قال، وإن أراد الذي قاطع أن يرجع على حظه في رقبة المكاتب، قيل له: رد نصف ما قاطعت به؛ لأن الذي وضع لا حق له فيما قاطعت به، إذ قد كان وضع عن المكاتب ما كان له عليه، ولو كانت مقاطعته إياه بغير إذن شريكه لم يكن له أن يرد نصف ما قاطع به ويرجع في رقبة المكاتب، ولكان الخيار في ذلك إلى الذي تماسك بالكتابة، وبالله التوفيق.
[مسألة: كاتب عبده على أن يأتيه بعبده الآبق]
مسألة وقال، في رجل كاتب عبده على أن يأتيه بعبده الآبق أو بعيره الشارد: إن الكتابة جائزة، وعليه أن يأتي بالعبد أو بالبعير، فإن لم يأت به وأيس منه عجز.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، والكتابة على هذا تشبيه للجعل الجائز، وهي جائزة، والأصل في جوازها ما جاء: من «أن سلمان الفارسي كاتب أهله على مائتي ودية يحييها لهم، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا غرستها فأذني"، فلما غرسها أذنه، فدعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم تمت منها ودية واحدة» وقد مضى هذا في رسم أشهب، وبالله التوفيق.(15/275)
[مسألة: يكاتب أمته وهي حامل لم يعلم به]
مسألة وقال، في الرجل يكاتب أمته وهي حامل لم يعلم به، أيكون مكاتبا مع أمه أم لا؟ قال لي مالك: نعم يكون مكاتبا مع أمه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ولا اختلاف فيه أعلمه، والأصل في ذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» .
[مسألة: يضع عن مكاتبه نجما من نجومه في الوصية]
مسألة
قال أبو زيد: وسئل ابن القاسم: عن تفسير المسألة التي في كتاب المكاتب من الموطأ في الذي يضع عن مكاتبه نجما من نجومه أولها أو آخرها أو وسطها في الوصية وما ذكر فيها من قسمة قيمة العبد على تلك النجوم ويقدر قربها من الأجل وبعدها.
قال ابن القاسم: تفسير ذلك أن يكون على المكاتب ثلاثمائة دينار، في كل نجم مائة، فإن كان وضع المائة الأول نُظِرَ كَمْ قِيمَتُهَا نقدا إِنْ لو بيعت في قرب محلها؛ لأن النجم الأول ليس مثل آخرها في القيمة، ويقوم على ذلك على قدر مال العبد وملائه في الأداء، فإن كان قيمتها خمسون دينارا قلنا كم قيمة الثاني بعده؟ فإن قيل: ثلاثون دينارا، قلنا: كم قيمة الثالث الذي بعدهما؟ فإن قيل: عشرون دينارا كان للذي أوصى له من ذلك نصف رقبته، ثم ينظر إلى ذلك، فإن كان أقل في القيمة من نصف قيمة رقبته أو قيمة النجم الأول فيوضع ذلك في ثلث مال الميت، فإن خرج من الثلث عتق، ولا ينظر إلى قيمة الكتابة في النجم الأول إن كان قيمة نصف رقبته أقل، ولا إلى قيمة نصف رقبته إن كانت قيمة النجم أقل؛ لأنه إذا أعتق نصفه والذي أخذ من الكتابة نصفها فيوضع ذلك في ثلث مال الميت(15/276)
على ما أحب ورثة الميت أو كرهوا، وإن وضع عنه الأوسط أو الآخر فعلى هذا يحسب، ويدخل في ثلث الميت الذي هو أقل أبدا، ولا يدخل في ثلث الميت قيمة النجم الأول ولا الثاني ولا الثالث، إن كان ذلك أكثر من قيمة ما يصيب من رقبته؛ لأنه لو وضع عنه ذلك كله لم يدخل في مال الميت إلا الذي هو أقل من قيمة الكتابة كان أو قيمة رقبته.
وكذلك النجم بعينه إنما يدخل في ثلث مال الميت قيمة أو قيمة ما يصيبه من قدر رقبته؛ لأن الوصايا تدخل معه فيكون ذلك خيرا لأهل الوصايا أن يتموا وصاياهم، وليس على الورثة في ذلك ضرر.
وإن كان النجم الأقل هو نصفه ولم يترك الميت مالا غيره خير الورثة بين أن يضعوا هذا النجم بعينه ويعتق الذي كان يصيبه من قيمة رقبته، وهو النصف، ويسقط ذلك النجم بعينه ويكون له النجمان الباقيان، فإن استوفوا فذلك، وإن عجز ورق عتق منه إلا نصفه، وإن أبوا أن يجيزوا ذلك عتق ثلثه، ووضع عنه من كل نجم ثلثه، فإن عجز كان ثلثه حرا وثلثاه رقيقا لهم، وهذا وجه ما سمعت وبلغني عنه ممن أثق به.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح من قوله وَبَيِّنٌ من تفسيره على قياس ما في المدونة وغيرها من أن من أوصى بعتق مكاتبه يوضع في ثلث الميت الأقل من قيمة رقبته أو قيمة كتابته، وقد مضى هذا في أول سماع أبي زيد وغيره، فلا معنى لإعادته.(15/277)
[: نصراني كاتب عبدا له نصرانيا بمائة قسط من خمر]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون، في نصراني كاتب عبدا له نصرانيا بمائة قسط من خمر، فأسلم المكاتب بعدما أدى نصف الخمر، قال: يكون على المكاتب نصف قيمته عبدا قنا، أو يكون عليه نصف كتابة مثله في قوته على السعاية.
قيل له: فإن أسلم السيد ولم يسلم المكاتب؟ قال: هو كما أخبرتك، من أسلم منهما فهو على ما أخبرتك.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يكون عليه لسيده إذا أسلم أحدهما نصف قيمته أو نصف كتابة مثله - ليس على سبيل التخيير لأحدهما في ذلك، وإنما هو قولان، فمرة قال: إنه يكون عليه نصف كتابة مثله؛ لأن ما بقي من الكتابة هو الذي بطل بإسلام من أسلم منهما إذ لا يصح أن يقضي بالخمر لمسلم ولا على مسلم، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة: أن يكون عليه حصة ما بقي من كتابة مثله، فإن بقي نصف الخمر والخنازير طالبه بنصف كتابة مثله، إن ثلث فثلث، وإن ربع فربع، ومرة كان يقول: عليه نصف قيمة رقبته، ووجه ذلك: أن المكاتب لما كان عبدا ما بقي عليه من كتابته شيء، فبطل ما بقي من كتابته بإسلام من أسلم منهما، وجب عليه نصف قيمة رقبته إن كان بقي عليه نصف ما كاتبه عليه من الخمر والخنازير، إذ قد كان يمكن أن يعجز عنها فيرجع رقيقا، والقول الأول أظهر، والله أعلم.
[مسألة: مكاتبة وطئها سيدها فحملت ولها مال كثير]
مسألة وسئل: عن مكاتبة وَطِئَهَا سَيِّدُهَا فحملت ولها مال كثير، هل تكون بالخيار في أن تكون على كتابتها، أم تكون أم ولد؟ قال: نعم إن أرادت أن تكون أم ولد، فذلك لها.(15/278)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه، إذ ليس ذلك منها كتعجيز المكاتب نفسه، وله مال ظاهر أن لا ترجع رقيقا باختيارها أن تكون أم ولد لسيدها ولا تنقل بذلك ولاءها عنه، ولا فيه ضرر على أحد إذا لم يكن معها أحد في كتابتها، فوجب أن يكون ذلك لها، ولو كان معها أحد في كتابتها لم يكن ذلك إلا برضاهم إلا أن تكون هي أقدر على السعي منهم وتخاف عليهم العجز بذلك، فلا يكون ذلك لهم وإن رضوا، وقال بعض الرواة: لا يكون ذلك لها وإن رضوا ورضيت، إذا كان قبلهم من السعي ما قبلها؛ لأنه لا يدري ما يئول إليه مالهم، وإذا رجعت أم ولد برضاها ورضاهم حط عنهم من الكتابة مقدار حصتها، وسواء على مذهب مالك وطئها طائعة أو أكرهها ويؤدب في الحالتين جميعا إلا أن يعذر بحبها له، وأدبه في استكراهه أشد.
وقال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي: إذا وطئ الرجل أمته فحملت كانت أم ولد له وبطلت كتابتها.
وقال ربيعة: إن طاوعته بطلت كتابتها وكانت أم ولده، وإن أكرهها فهي حرة، وَوَلَدُهَا على كل حال لَاحِقٌ به، وهذا كله في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن يكاتب عبده ويعطي رجل سماه عشرة دنانير]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى أن يكاتب عبده ويعطي رجل سماه عشرة دنانير، وليس له مال غير العبد.
قال: يقال للورثة: أتجيزون ما أوصى به الميت؟ فإن قالوا: نعم، نجيز ذلك، وإن قالوا: نحن نجيز الكتابة ولا نجيز ما أوصى به الميت لهذا الرجل، قيل لهم: كاتبوه، ثم يقال لهم: إنما لكم من هذا المكاتب الثلثان وليس لكم الثلث، فاختاروا، فإن شئتم فادفعوا إلى هذا(15/279)
الموصى له بالعشرة دنانير ما أوصى له به، ولكم ثلث كتابته، وإلا فأسلموا إليه ثلث كتابة الكاتب.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله: إنهم إذا أجازوا الكتابة فهم يخيرون بين أن يسلموا ثلثها إلى الموصى له بالعشرة، أو يسلموا له العشرة؛ لأن ثلث الكتابة هي ثلث جميع مال الميت إذا لم يكن له مال سوى العبد الذي أجازوا وصية المكاتب بكتابته، ولو لم يجيزوا الكتابة أيضا لم يكن عليهم أكثر من أن يعتقوا ثلثه بتلا بما أوصى له به من الكتابة، وتبطل وصيته بالعشرة؛ لأن الوصية بالعتق مقدمة على الوصية بالمال، وبالله التوفيق.
[مسألة: وطئ مكاتبة ابنه فأولدها]
مسألة وسئل: عمن وطئ مكاتبة ابنه فأولدها هل تكون بالخيار إن شاءت كانت أم ولد للواطئ وإن شاءت كانت على كتابتها؟ قال: ليس ذلك لها.
قيل له: لم قال لأنه ليس لها أن تنقل ولاءها عن الابن الذي قد انعقد له إلى الأب؟ قيل: فإن عجزت؟ قال: يكون الابن بالخيار إن شاء قومها على أبيه فعل، وقد روى في كتاب العرية أن لها الخيار أن تمضي على كتابتها أو تكون أم ولد للأب.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها في رسم العرية من سماع عيسى فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: وطئ مكاتبة فأحبلها فاختارت أن تكون أم ولد]
مسألة قيل له: فلو أن رجلا وطئ مكاتبة فأحبلها ولها مال كثير فيه وفاء بكتابتها وفضلة فاختارت أن تكون أم ولد أيكون لها الخيار في أن تكون على كتابتها أو تكون أم ولد؟ قال: نعم، قال سحنون:(15/280)
وتكون نفقتها على السيد في حملها بمنزلة المبتوتة إذا كانت حاملا إذا اختارت أن تمضي على كتابتها.
قال محمد بن رشد: قد مضى قبل هذا في هذه النوازل القول على وجه رضاها برجوعها أم ولد وإن كان لها مال، وأما قول سحنون: إن لها النفقة في حملها فهو القياس على ما قاله، ولأصبغ في الواضحة أنه لا نفقة لها، والذي أقول به أن لها النفقة إن أكرهها على الوطء ولا نفقة لها إن طاوعته، ويحتمل أن يفسر قول سحنون وأصبغ على هذا فلا يكون في المسألة اختلاف، وبالله التوفيق.
[مسألة: مكاتب اشترى أمته وهي امرأة سيده هل يفسخ النكاح]
مسألة قال سحنون، في مكاتب اشترى أمته وهي امرأة سيده، هل يفسخ النكاح؟ ولمن يكون حقها من زوجها؟ قال: يفسخ النكاح ويكون الصداق للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.
قال محمد بن رشد: قوله: إن النكاح يفسخ إذا اشتراها، معناه: إذا اشتراها بإذن سيدها؛ لأنه إذا اشتراها بإذنه دخلت معه في كتابته فصارت مكاتبة له، ولا يجوز للرجل أن يتزوج أمته ولا مكاتبته.
وقوله: إن الصداق يكون للبائع إلا أن يشترط المبتاع - صحيح؛ لأنه مال لها، ومال العبد للبائع إلا أن يشترطه المبتاع على ما أحكمته السنة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ومعنى ذلك: إذا كان شراؤه إياها بإذن سيده بعد أن دخل بها، وأما لو كان اشتراها بإذنه قبل أن يدخل بها لم يكن لها صداق ولا نصف صداق؛ لأن كل نكاح يفسخ قبل الدخول لفساده فلا صداق فيه، ولو اشتراها بغير إذن سيده لم تدخل في كتابته، وإذا لم تدخل في كتابته فلا يفسخ النكاح بشرائه إياها فإن احتاج إلى بيعها في الأداء عن نفسه باعها، وإن أدى خرجت حرة، وإن عجز كانت أمة له وكان لسيده أن ينتزعها منه إن شاء؛(15/281)
فإن فعل انفسخ نكاحه ووطئها بملك يمينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: مكاتب اشترى ابن مولاه هل يعتق عليه أم لا]
مسألة وقال، في مكاتب اشترى ابن مولاه، هل يعتق عليه أم لا؟ قال سحنون: يكون رقيقا في يد المكاتب.
قال محمد بن رشد: قد مضى مثل هذا من قول ابن القاسم في رسم يدير ماله من سماع عيسى والكلام عليه، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: المكاتب يموت ويترك مائة ديناردينا عليه من كتابته]
مسألة وسئل: عن المكاتب يموت ويترك مائة دينار دينا عليه من كتابته ويترك ثلاث أمهات أولاد له من كل واحدة منهن ولد واحد فشح كل واحد منهم أن تباع أمه فيما عليهم من الكتابة، وقيمة كل واحدة منهن مائة دينار.
قال: يباع من كل واحدة منهن ثلثها، قيل: فلو كانت قيمتهن مختلفة، فكانت قيمة واحدة ثلاثمائة دينار، وقيمة الأخرى مائتان، وقيمة الأخرى مائة؟ قال: يباع من كل واحدة منهن سدسها، يباع من الثمن قيمتها، ثلاثمائة سدسها خمسون دينارا، ومن التي قيمتها مائة، سدسها ستة عشر وثلثان، ومن التي قيمتها مائتان، سدسها ثلاثة وثلاثون وثلث، فجميع ذلك مائة.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه يقرع بينهن فيمن يباع في الدين اتفقت قيمتهن أو اختلفت، فإن اختلفت فخرج السهم على التي قيمتها مائة بيعت وعتقت الاثنان بعتق الولد، وإن خرج السهم على التي قيمتها مائتان بيع نصفها وعتقت الاثنتان بعتق الولد، وإن خرج السهم على التي قيمتها ثلاثمائة بيع ثلثها وعتق الباقيتان، وهذا القول أيضا لضرر الشركة في العتق في كل(15/282)
واحدة منهن، وهو الذي يأتي على ما رواه سحنون في أنه إذا لم يكن ولد إلا لواحدة منهن إلا بالقرعة سوى الأم، ولا تدخل الأم في القرعة، وعلى ما في المدونة إنما بيع التي فيها نجاتهم كانت أمة أو غير أمة، ولم ير أن يبيع أمه إذا كان في سواها من أمهات أولاد أبيه كفاف لدينه، ولم يتكلم في المدونة إذا كان لكل واحد منهن ولد، والقرعة في ذلك أولى من قول سحنون في هذه الرواية، وبالله التوفيق.
[مسألة: كاتب عبيدا له ثلاثة كتابة واحدة]
مسألة وسئل المغيرة: عن رجل كاتب عبيدا له ثلاثة كتابةً واحدةً، وبعضهم حملاء عن بعض، ثم إن بعض المكاتبين أَبِقَ وأبقى أصحابه على حالهم فعجزهم السلطان، ثم إن الآبق قدم ومعه قوة على أداء الكتابة كلها والسلطان الذي عجزهم قائم لم يمت ولم يعزل، هل يعتق لحصته من الكتابة، أو يعتق هو وأصحابه؟
قال: أرى أن الآبق من المكاتبين على كتابته إن جاء بها عتق الذين عجزوا من شركائه بما أدى عنهم من كتابتهم وكتابته.
قيل له: فهل يرجع المكاتب على شركائه في كتابته بما أدى عنهم بقدر حصصهم؟ قال: نعم، قيل: ذوو رحم كانوا أو غيرهم؟ قال: نعم، هو سواء في هذا الموضع؛ لأن المرء يتبع في دينه أباه وأخاه وابنه، ولو مات ورثوه، فهؤلاء كذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: وبعضهم حملاء عن بعض، ظاهره: أنهم لا يكونون حملاء بعضهم عن بعض إذا كوتبوا كتابة واحدة إلا أن يشترطوا ذلك، وهو خلاف ما في المدونة وغيرها.
وأما قوله في آخرها: إنه يرجع الآبق الذي أدى الكتابة على من كان معه(15/283)
فيها وإن كان ابنه أو أباه أو أخاه فهو خلاف نص مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذا في رسم إن خرجت من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[: يوصي أن يكاتب نصف عبده]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ، في الرجل يوصي أن يكاتب نصف عبده، فقال: يقال للورثة: إما أن تكاتبوا هذا العبد كله حتى تجوز فيه وصية الميت، وإما أعتقتم من نصف العبد مبلغ ثلث مال الميت؛ لأنه لا يجوز أن يكاتب نصف عبده، ولا بد من أن ينفذ له ما أوصى به له، ويعتق ثلث ما بلغ مال الميت منه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إنما يعتق ما حمل الثلث من نصفه وإن كان الثلث يحمل الرقبة كلها؛ لأن الميت لم يوص في الجميع وإنما أوصى في البعض، فللورثة حجة في أن لا يعتق منه بتلا أكثر مما أوصى به أن يكاتب منه، وهي وصية فيها قربة على وجه لا يجوز، فوجب أن تنفذ وصيته للقربة التي فيها على الوجه الذي يجوز، كما لو أوصى أن يحج عنه على أن يقدم السعي على الطواف ما أشبه ذلك من مخالفة أمر السنة في الحج، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي لرجل بثمن أبيه]
مسألة وسئل: عن رجل يوصي لرجل بثمن أبيه، يقول: بيعوا فلانا وأعطوا فلانا ثمنه ابنه، أو يقول: أعطوا ثمن فلان لفلان، فقبل ذلك الابن، أترى أن يعتق عليه؟ قال: لا أرى ذلك، والوصية جائزة له، وأرى أن يباع ويدفع إليه ثمنه.(15/284)
قلت له: أرأيت إن أوصى بكتابة مكاتبه وهو ابنه أو أبوه أو بعض من يعتق عليه، قيل: ولم رأيت ذلك في الكتابة ولم تره في ثمنه، إذا قال: أعطوا فلانا ثمن فلان؟ قال: لأنه إذا أوصى له بالكتابة أو أعطاه إياها فقد نزل منزلة الذي كاتبه إن أدى عتق، وإن عجز رق ولم يعتق عليه إن ملكه، فملك الكتابة كملك الرقبة.
وأما إذا قال: أعطوه ثمنه، فإنه يصير له الثمن بعد بيعه، ليس بيعه في يدي ابنه ولا رقبته، وإنما له ثمنه إذا بيع، فلا أرى عليه فيه عتقا.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا أوصى له بكتابة من يعتق عليه، فقيل ذلك إنه يعتق عليه، معناه: أنه أسقط عنه الكتابة فيعتق بذلك ويكون ولاؤه للذي عقد كتابته، وهو بين من قول ابن القاسم في رسم يشتري الدور من سماع يحيى.
وتفرقة أصبغ بين أن يوصي له بكتابة من يعتق عليه أو بثمنه بينة صحيحة، وقد مضى ذلك في سماع يحيى المذكور، وبالله تعالى التوفيق لا شريك له.
تم كتاب المكاتب والحمد لله(15/285)
[: استودع وديعة فدفنها في أهله فهلكت]
كتاب الوديعة من سماع ابن القاسم من مالك قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، عن مالك: فيمن استودع وديعة فدفنها في أهله وأشهد عليها، أو خلفها عند أهله أو استودعها بعض إخوانه فهلكت، قال: لا ضمان عليه في شيء من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة ليست على ظاهرها، وفيها تقديم وتأخير، وتقديرها، قال ابن القاسم عن مالك فيمن استودع وديعة فدفنها في أهله أو خلفها عند أهله أو استودعها بعض إخوانه وأشهد عليها فهلكت، قال: لا ضمان عليه في شيء من ذلك، وإنما وجب أن يقدر هذا التقدير؛ لأن من أودع وديعة فدفنها في بيته أو خلفها عند أهله لا يجب عليه الإشهاد على ذلك، إذ هو مصدق في ذلك، قاله في المدونة وغيرها، وإنما يجب عليه الإشهاد إذا استودعها غيره لحاجة دعته إلى ذلك من إرادته سفرا أو خراب منزله أو ما أشبه ذلك من الوجوه التي يعذر بها، فمعنى قوله في الرواية: أو استودعها بعض إخوانه، يريد: عند سفره أو خراب منزله مع أن يعلم ذلك، فإذا أودع الرجل وديعة فأودعها غيره فتلفت عنده، فهو ضامن لها إلا أن تكون له بينة إيداعها، ويعلم السبب الذي من أجله أودعها، إذ لا يصدق في شيء من ذلك دون أن يبينه، وإذا علم السبب صدق في أنه إنما أودع من أجله، وكان القول في ذلك قوله.(15/287)
وقوله في هذه الرواية: إنه إذا خلف الوديعة عند أهله فتلفت إنه لا ضمان عليه - هو نص قوله في المدونة: إنه لا ضمان عليه في الوديعة إذا أودعها عند امرأته وخادمه، خلاف قول أشهب: إنه ضامن في ذلك، وقد قيل: إن قول أشهب ليس بخلاف لقول ابن القاسم وروايته عن مالك، وأن المعنى في ذلك أنه يضمن إذا كان العرف والعادة أن الناس لا يسترفعون أموالهم عند أهليهم ولا يأتمنونهم على ذلك، ولا يضمن إذا كان العرف والعادة أن الناس يسترفعون أموالهم عند أهليهم ويأمنونهم على ذلك، فكل واحد منهم تكلم على غير الوجه الذي تكلم عليه صاحبه؛ لأن قولهما مختلف، فعلى هذا الاختلاف في ذلك بينهما إذا علم العرف والعادة في البلد، وإنما يختلفان إذا جهل العرف في ذلك البلد، فأشهب يضمنه حتى يقيم البينة أن العرف والعادة في البلد أن الناس يأتمنون أهليهم على أموالهم ويسترفعونهم إياها، وابن القاسم لا يضمن حتى يقيم صاحب الوديعة البينة أن العرف والعادة في البلد أن الناس لا يسترفعون أموالهم عند أهليهم ولا يأتمنونهم عليها، والأظهر أنه اختلاف من القول؛ لأن من حجة صاحب الوديعة أن يقول: أنا إنما رضيت أمانتك ولم نعلم أنك تأمر أهلك كما يفعل الناس.
ويتحصل على هذا في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا ضمان عليه وإن كان الناس لا يأتمنون أهلهم إذا كان هو مؤتمن أهله بماله، وهو ظاهر ما في المدونة، ووجه هذا القول: أن المودع لما أودعه فقد علم أنه يحرزها في منزله كما يحرز ماله.
والقول الثاني: أنه ضامن وإن كان الناس يأتمنون أهلهم، وهو ظاهر قول أشهب، ووجهه: أن صاحب الوديعة يقول: إنما رضيت أمانتك لا أمانة سواك إذ لم أعلم أنك تأتمن أهلك كما يفعل الناس.
والقول الثالث: الفرق بين أن يكون العرف والعادة في البلد أن يأتمن الناس أهليهم أو لا يأتمنون، ولو كان الرجل لا يأمن أهله على ماله ولا يسترفعها إياه لضمن الوديعة، إن دفعها إليها فتلفت، وإن كان الفرق في البلد أن الناس يسترفعون أهليهم أموالهم ويأتمنونهم عليها قولا واحدا.(15/288)
ولم يعط في المدونة جوابا بينا في العبد والأجير إذا كان في عياله فوضع عندهما ما أودع إياه فتلف، والذي يأتي على مذهبه فيها أنه لا ضمان عليه إذا كان يأتمنهما على ماله ويسترفعهما.
[: الوديعة يستودعها الرجل فيقر بها الذي هي عنده عند نفر من غير أن يشهد عليه]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان وسئل: عن الوديعة يستودعها الرجل فيقر بها الذي هي عنده عند نفر من غير أن يشهد عليه.
قال مالك: إن لهذه الأمور وجوها، أرأيتك لو تقادم هذا حتى يمر به عشرون سنة ثم مات فقام صاحبها يطلبها، ما رأيت له شيئا، وكأني رأيته إن كان قريبا أن يكون ذلك له، قال ابن القاسم: وذلك رأيي، ولو كان إنما ذلك الأشهر والسنة وما أشبهه ثم مات ثم طلب ذلك الذي أقر به لرأيته في ماله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الرجل إذا أقر بالوديعة من غير أن يشهدها عليه، ثم مات وقام صاحبها يطلبها فلم توجد في ماله، إنه لا شيء له إذا طالت المدة؛ لأنه لو كان حيا فادعى ردها أو تلفها لكان القول قوله مع يمينه، فإذا كانت على الميت اليمين فقد سقطت عنه بموته، ويلزم من كان كبيرا من الورثة أن يحلف ما يعلم لها سببا، ولم يحمل عليه إذا لم يوجد بعد طول المدة أنه قد استسلفها له إن كانت دنانير أو أكلها إن كانت طعاما، أو استهلكها إن كانت عروضا؛ لأن الأصل براءة الذمة فلا تعمر إلا بيقين، ولأن ذلك كان يكون منه لو فعله عداء فعلى من ادعاه أن يثبته، وهذا كان القياس، وإن لم تطل المدة؛ لأنه لو كان حيا فادعى أنه ردها أو تلفت لكان القول قوله في ذلك مع يمينه.(15/289)
فتفرقته بين القرب والبعد استحسان، ووجهه: أن الذي يغلب على الظن في البعد أنه ردها، وفي القرب أنه استسلفها؛ لأن الودائع في أغلب الأحوال لا تترك عند المودع الدهور والأعوام.
وقال، في العشرين سنة: إنه طول، وكذلك العشر سنين على ما قاله في موضع آخر، وقال في السنة وما أشبه ذلك: إنه يسير، فقيل: إن ذلك خلاف لما في آخر كتاب الشركة من المدونة في الشريكين يموت أحدهما، فيقيم شريكه البينة أنه قد كانت عنده مائة دينار من الشركة، فلم يوجد ولا علم لها مسقط أنها تكون في ماله، إلا أن تطول المدة، أرأيت لو كان ذلك مثل السنة لكان يؤخذ ذلك من ماله، وقيل: إنها ليست بخلاف لها وهو الصحيح؛ لأنها مسألة أخرى، والفرق بينهما أن للشريك التصرف في المال، وليس للذي يودع أن يتصرف فيما أودع إياه، وبالله التوفيق.
[: يبيع من الرجل الجارية على أن ينفق عليه حياته]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل: عن جارية وضعها رجل عند رجل فأنفق عليها ثلاثين صاعا من تمر، ثم جاء سيدها، فقال: إنما لك ثلاثون صاعا، وقال المنفق: بل لي بسوق يوم أنفقت واشتريت، والطعام يوم جاءه صاحبها أرخص، قال مالك: يحسب يوم أنفق، يعطي بذلك دراهم، قال ابن القاسم: وذلك إذا كان المنفق اشترى بالثمن، فأما إن كان طعاما أخرجه من عنده فليس له إلا مكيلة طعامه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم تفسير لقول مالك: إنه إن كان اشترى الطعام فله قيمته يوم اشتراه؛ لأن الثمن الذي اشتراه به إذ قد تعين في الشراء فلا يلزم صاحب الجارية ما عين فيه، وهذا مثل ما في كتاب السلم(15/290)
الثاني من المدونة في الذي يبيع من الرجل الجارية على أن ينفق عليه حياته: إن البيع يفسخ ويرجع المشتري على البائع بقيمة ما أنفق عليه، وفي رواية أبي زيد: أنه يغرم ما أنفق عليه، وليس ذلك باختلاف من القول، ومعناه: أنه يغرم له الثمن الذي اشترى به الطعام إن كان لم يكن في الشراء تغابن، وقيمته إن كان فيه تغابن، وقد قيل: إن ذلك اختلاف، والأول أظهر، والله أعلم، والحكم فيما يرجع به المنفق على الجارية الموضوعة عنده حكم الحميل يتحمل بالطعام، فيؤخذ به فيشتريه للمتحمل له، بخلاف من تطوع فأدى عن الرجل بغير أمره طعاما عليه اشتراه بذلك، يرجع بالأقل من مثل الطعام أو الثمن الذي اشتراه به.
[: امرأة أعطتني ذكر حق لها على زوجها ثم ماتت وسألني زوجها إعطاءه]
من سماع أشهب وابن نافع من كتاب الأقضية قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع، قالا: سئل مالك، فقيل له: امرأة أعطتني ذكر حق لها على زوجها ثم ماتت، وسألني زوجها إعطاءه الذكر، وهو زوجها ومولاها ولا وارث لها غيره، فقال: يسأل فإن كان على المرأة دين فلا تعطيه إياه، وإن كانت لا دين عليها فأشهد عليه وأعطه إياه، قيل: إن المرأة قد أوصت بوصايا، فقال له هذه المقالة: أشهد عليه وأعطه إياه.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه فرق بين الدين والوصايا، فقال: إنه لا يعطيه ذكر الحق إن كان عليها دين، ويعطيه إياه ويشهد وإن كان عليها وصايا إذا لم يكن عليها دين، وذلك لا يصح، إذ لا فرق في هذا بين الدين والوصايا، والواجب في هذا أن ينظر إلى ما عليها من الدين، فإن كان لا يفي به ما تركت من المال سوى ما لها من الحق على زوجها لم(15/291)
يدفع ذكر الحق إليه، وإن كان يفي به دفع ذكر الحق إليه وأشهد به عليه، وكذلك الوصايا أيضا ينظر إليها فإن كان لا يفي بها ثلث ما تخلفت من المال سوى ما لها على زوجها لم يدفع ذكر الحق إليه، وإن كان يفي بها دفع إليه ذكر الحق وأشهد عليه، والأولى أن لا يدفعه إليه بحال، ويضعه على يدي عدل مخافة أن يطرأ عليها ديون لم يعلم بها. فقوله: إن كان على المرأة دين فلا يعطيه إياه - معناه: دين لا يفي به ما تخلفت من المال سوى ما لها على زوجها في ذكر الحق، وبالله التوفيق.
[مسألة: بيده مال ليس له أله أن يسلفه]
مسألة وسئل: عمن بيده مال ليس له، أله أن يسلفه؟ قال: ترك ذلك أحب إلي، وقد أجازه بعض الناس فراجعه فيها، فقال: إن كان مال فيه وفاء وأشهدت على ذلك، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله: إن ترك ذلك أولى وأحسن، ومعناه: إذا كان له مال فيه وفاء، وأشهد بذلك، وأما إذا لم يكن له مال فيه وفاء فلا يجوز له ذلك وإن أشهد، ومثله في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب البضائع والوكالات من قول ابن وهب.
وقد اختلف إذا تسلف منها بغير أمر ربها ثم رد ما تسلف، هل يصدق في الرد ويبرأ بذلك من الضمان أم لا؟ على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يصدق في ذلك ويبرأ من الضمان، وهو أحد أقوال مالك، وبه أخذ ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم وأصبغ.
والثاني: أنه لا يبرأ إلا أن يرد بإشهاد، قال ذلك مالك أيضا، وبه أخذ ابن وهب وابن كنانة.
ولمالك قول ثالث: أنه لا يبرأ وإن أشهد؛ لأنه دين قد ثبت في ذمته، رواه المدنيون عنه، ورواه عنه المصريون أيضا ولم يقولوا به.
ولابن الماجشون قول رابع: وهو تفرقته بين أن يكون المال مصرورا أو منثورا.(15/292)
ولو قال له صاحبها: تسلف منها إن شئت، فتسلف لم يبره رده إياها إلا إلى ربها، قال ذلك في كتاب ابن شعبان، وهو صحيح لا اختلاف فيه، وبالله التوفيق.
[: أقر أنه كانت له عليه ثلاثة وعشرون دينارا]
ومن كتاب الأقضية وسئل، فقيل له: كانت لي عند رجل ثلاثة وعشرون دينارا وديعة، فكنت آخذ منها الشيء بعد الشيء حتى بقيت لي عنده ثمانية عشر دينارا، فسألته إياها، فقال: وضعتها في بعض حاجتي، ولكن اكتبها علي فكتبتها عليه بالشهود والبينة مؤرخة فغبت ثم رجعت فتقاضيته إياها، فجاء علي ببراءة فيها مكتوب براءة لفلان ابن فلان من أربعة دنانير ليست إلا ربعة مؤرخة ولا منسوبة من الثمانية عشر ولا من الثلاثة وعشرين، فهو يقول: هي من الثمانية عشر، وأنا أقول: من الثلاثة وعشرين التي كانت لي عليك قبل أن أكتب عليك الثمانية عشر.
قال مالك: ليست البراءة مؤرخة ولا منسوبة إلى ثمانية عشر ولا إلى ثلاثة وعشرين؟ وذكر حقي عليه مؤرخ بثمانية عشر، فقال له: أيقر لك بأنه قد كان لك عليه ثلاثة وعشرون دينارا؟ فقال: لا، فأطرق طويلا، ثم قال: إن أقمت البينة أنه قد كانت لك عليه ثلاثة وعشرون دينارا حلفت بالله ما هذه البراءة من الثمانية عشر، وكانت لك عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا أقر أنه كانت له عليه ثلاثة(15/293)
وعشرون دينارا أو أقام عليه بذلك البينة كان القول قوله: إِنَّ البراءة ليست من الثمانية عشر وإنما من الثلاثة وعشرين، ولو لم يقر بذلك ولا قامت عليه به بينة لكان القول قول المطلوب إن البراءة من الثمانية عشر باتفاق إن كان لم يكن بينهما مخالطة، وعلى اختلاف إن كانت بينهما مخالطة. وقد مضى هذا في أول سماع أبي زيد من كتاب الشهادات بزيادات لها بيان، وبالله التوفيق.
[مسألة: البينة على ما ادعى واليمين على ما أنكر]
مسألة وسئل: عمن استودع صبرة حنطة فاستنفق المستودع الحنطة، فلما جاءه الرجل فطلب قمحه، قال: قد استنفقته، أنا أعطيك مثله، قال الرجل: إني قد كنت قد صورت دينارا وطرحته في صبرة القمح، أترى له أن يحلف ويأخذ الدينار منه أم يحلف المستودع ويبرأ؟ فقال: أرأيت لو قال: جعلت فيها مائة دينار؟ أرى أن يحلف ويبرأ، قيل له: كيف يحلف؟ أيحلف أنه لم يكن في الصبرة شيء؟ أم يحلف على عمله؟ فقال: لا، ولكن يحلف ما أخذت شيئا ولا علمت لك فيها شيئا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف؛ لأن صاحب الطعام مُدَّعٍ، وقد أحكمت السنة أن البينة على ما ادعى واليمين على ما أنكر، هذا إن حقق الدعوى عليه أنه وجد الدينار وأخذه، وإما إن لم يحقق عليه الدعوى أنه وجده، يجري الأمر على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة، وبالله التوفيق.
[: استودع رجلا متاعا فعدا عليه عاد]
من سماع ابن دينار من ابن القاسم من كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار قال عيسى: قال ابن القاسم: لو أن رجلا استودع رجلا متاعا(15/294)
فعدا عليه عاد، فأغرمه على ذلك المتاع غرما لم يكن على صاحب المتاع غرم شيء مما غرم عن متاعه.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن له أن يرجع على صاحب المتاع بما أغرم على متاعه، وعلى هذا يأتي قول ابن وهب في المبسوطة في الخليطين يكون لأحدهما مائة وعشرون شاة، وللثاني ثلاثون شاة، فيأخذ الساعي منه شاتين: إن الشاة الواحدة تكون على صاحب العشرين ومائة، والثانية يتراداها بينهما على عدد غنميهما، وقد مضى بيان هذا هنالك، وهذا الاختلاف إنما هو فيما لم يعلم صاحب المتاع به، وأما ما علم به مثل المتاع يتوجه به الرجل من بلد إلى بلد مع رجل، وقد علم أن بالطريق مكانا يؤدي الناس على ما يمرون عليه من المتاع، فلا ينبغي أن يختلف في أنه يجب على رب المتاع للرجل ما أغرم على متاعه.
وقد رأيت ذلك لابن دحون، وقال: إنه بمنزلة الرجل يتعدى عليه السلطان، فيغرمه يتسلف ما يغرم، فذلك بين لازم، وهو حلال لمن أسلفه، ووجه ما ذهب إليه: أنه لما علم إذا بعث المتاع معه أنه سيغرم عليه فكأنه سأله أن يسلفه ما لزم إياه من الغرم على متاعه.
ومن هذا المعنى ما قال سحنون في الرفاق في أرض المغرب يعرض لهم اللصوص، فيريدون أكلهم فيقوم بعض أهل الرفقة فيصالحهم على مال، عليه وعلى جميع من معه، وعلى من غاب من أصحاب الأمتعة، فيريدون من غاب أن يدفع ذلك عن نفسه، قال: إذا كان ذلك مما قد عرف من سنة تلك البلاد أن إعطاء المال يخلصهم وينجيهم، فإن ذلك لازم لمن حضر ولمن غاب ممن له أمتعة في تلك الرفاق وعلى أصحاب الظهر من ذلك ما ينويهم، وإن كان يخاف أن لا ينجيهم ذلك وإن أعطوا، وكان فيهم موضع لدفع ذلك، فما أحب لهم إلا أن يدفعوا عن أنفسهم وأموالهم، فإن لم يفعلوا وأعطوا على ذلك شيئا لم يرجع بذلك على من غاب من أصحاب الأمتعة، وبالله التوفيق.(15/295)
[: يكون في يديه الودائع للناس وهويعلم أنه ينفق منها فيموت فيوصي بودائع]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
قال عيسى: وسئل: عن الرجل يكون في يديه الودائع للناس وهو يعلم أنه ينفق منها فيموت فيوصي بودائع فيوجد في تابوته وتحت غلقه كيس فيه دنانير، وفي الكيس مكتوب: إنها لفلان وعددها كذا وكذا، فيوجد العدد الذي كتب فيه أكثر من عدد ما وجد فيه من الدنانير، هل ترى نقصان عدتها مما في الكتاب في ماله؟ فقال: إن قال شهيدان: إن الخط خطه كان ذلك في ماله، وإن لم يشهد على ذلك أحد حلف الورثة أنهم لا يعلمون من ذلك شيئا ولا شيء عليهم.
قال محمد بن رشد: قد مضى مثل هذا في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس. وزاد أصبغ هناك: وكذلك لو وجد عليها خط صاحب الوديعة أنها له مع كونها في حوز المستودع وتحت غلقه لقضي له بها، وقد رأيت لابن دحون: أنه لا يُقضى له بها لاحتمال أن يكون بعض الورثة أخرجها له فكتب عليها اسمه وأخذ على ذلك جعلا.
ولا اختلاف في أنه لا يُقضى له بها إذا وجد عليه اسمه ولا يُدرى من كتبه على ما يأتي في سماع أبي زيد بعد، ولا في أنه يقضى له بها إذا وجد عليها اسمه بخط يد المتوفى المستودع إلا على مذهب من لا يرى الحكم بالشهادة على الخط في موضع من المواضع، وقد مضى تحصيل القول في الشهادة على الخط في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات، فمن أحب الوقوف على ذلك تأمله هناك.(15/296)
[مسألة: استودع رجلا قمحا فاحتمله المستودع إلى بلد فأراد بيعه فأدركه صاحبه]
مسألة قال مالك: لو أن رجلا استودع رجلا قمحا فاحتمله المستودع إلى بلد فأراد بيعه فأدركه صاحبه والقمح بيده لم يغيره لم يكن له أن يأخذه منه إلا بالمكان الذي استودعه فيه، وكذلك السلف، وكذلك السارق لو سرق بالمدينة طعاما فأخذه بمصر لم يكن عليه أن يؤديه إلا بالمدينة، ولو وجد بيده طعاما بعينه، قال عيسى: إذا كان الطعام هو طعام المسروق بعينه فله أن يأخذه حيث أدركه إن أحب.
قال محمد بن رشد: ساوى مالك في هذه الرواية بين الوديعة والسلف والسرقة في أنه ليس للمودع ولا للمقرض ولا للمسروق منه أن يأخذ طعامه إلا في البلد الذي أودعه فيه أو أسلفه فيه أو سرق منه فيه.
فأما السلف فلا خلاف فيه؛ لأنه إن لو حكم له بأخذه في غير البلد الذي أسلفه فيه لكان قد ربح الحملان.
وأما الطعام الذي أودعه أو سرق منه فاختلف إن وجده بعينه في غير البلد الذي أودعه فيه أو سرق وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
والثاني: أنه مخير بين أن يأخذ طعامه بعينه أو مثله في البلد الذي أودعه فيه أو سرق منه فيه، وهو قول عيسى بن دينار في هذه الرواية من رأيه وقول ابن نافع وأشهب في رواية أصبغ عنه من كتاب الغصب.
والثالث: تفرقة أصبغ من رأيه في سماعه من الكتاب المذكور بين أن يكون البلد قريبا أو بعيدا، فقال في القريب بقول أشهب، وفي البعيد بقول ابن القاسم، قال: والظالم يحمل عليه بعض الحمل، ولكن قاله في السرقة، والوديعة مثله، وفرق ابن القاسم بين الطعام والعروض والحيوان، فقال في الطعام ما ذكر عنه من أنه ليس له إلا(15/297)
طعامه بالموضع الذي أخذ منه، وقال في الرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم في حملهم من بلد إلى بلد، وفي الدواب ليس له إلا أخذهم حيث وجدهم، وقال في الرقيق الذي يحتاج إلى الكراء عليهم في حملهم من بلد إلى بلد، وفي البز والعروض: إنه مخير بين أن يأخذ ذلك في الموضع الذي وجده فيه وبين أن يأخذ قيمته في الموضع الذي أخذ منه، وساوى أشهب بين ذلك كله في أنه بالخيار بين أن يأخذه حيث ما وجده، وبين أن يأخذ مثل الطعام في الموضع الذي أخذه منه وقيمة العروض والحيوان في الموضع الذي أخذها فيه يوم أخذها.
وفرق أصبغ بين الطعام والعروض والحيوان، فقال في الطعام بقول ابن القاسم: إنه ليس له إلا طعامه بالموضع الذي أخذه منه إلا أن يكون قريبا على ما ذكرناه عنه من تفرقته في ذلك بين القريب والبعيد. وقال في العروض والحيوان بقول أشهب: إنه مخير أن يأخذ ذلك منه أو قيمته في الموضع الذي أخذه منه. وفرق سحنون أيضا بين الطعام والعروض والحيوان، فقال في الطعام بقول ابن القاسم: إنه ليس له إلا طعامه بالموضع الذي أخذه منه، وقال في العروض والحيوان: إنه ليس له إلا أخذ متاعه بعينه في الموضع الذي وجده فيه.
فيتحصل في العروض والحيوان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس له إلا أن يأخذها حيث وجدها، وهو قول سحنون.
والثاني: أنه مخير بين أن يأخذها وبين أن يأخذ قيمتها في البلد الذي أخرجها، وهو قول أصبغ، وظاهر روايته عن أشهب في سماعه من كتاب الغصب.
والثالث: تفرقة ابن القاسم بين العروض والرقيق الذي يحتاج إلى الكراء عليهم في حملهم من بلد إلى بلد، ويين الدواب والرقيق الذي لا يحتاج على الكراء عليهم.
وفي الطعام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس له إلا مثل طعامه في الموضع الذي أخذ منه، وهو قول ابن القاسم.
والثاني: أنه له الخيار في أن يأخذه بعينه إن شاء.
والثالث: تفرقة أصبغ بين القريب والبعيد، فلا يقول أحد منهم في(15/298)
الطعام: إنه يلزمه أن يأخذه حيث وجده، وإنما اختلفوا هل له أن يأخذه بعينه حيث وجده، أو ليس له إلا مثله في الموضع الذي أخذ منه، ولا في العروض والحيوان أنه ليس له أن يأخذها، وإنما اختلفوا هل له أن يأخذها أو هل يلزمه أن يأخذها، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[: يتكفل برجل إلى أجل على أنه إن لم يوافه فهو ضامن للمال فلا يوافه]
ومن كتاب جاع فباع امرأته
وسألته: عن الرجل يستودع الرجل الوديعة فيقبضها منه، فيقول: نقصت وديعتي، ويقول المستودع: بل هي وديعتك كلها، فيتداعيان إلى السلطان، فيقول له المستودع: أنا أريد سفرا فلا تشغلني عنه، فإذا انصرفت مما ادعيت مما حلفت عليه فهو لك قبلي، فيدعه على ذلك، فلما انصرف، قال: ما لك قبلي شيء، وإنما قلت ذلك لئلا تقطعني عن سفري، قال: لا يلزمه ذلك، ويغرم له كل ما حلف عليه المدعي.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن اليمين كانت واجبة له على المودع، فرضي بردها عليه، فلزمه ذلك، فلم يكن له عنه رجوع، ولو قال: دعني أخرج إلى سفري، فإن لم أرجع إلى وقت كذا وكذا فأنت مصدق فيما تدعي مع يمينك، لم يلزمه ذلك؛ لأنه مخاطرة خلاف هذه المسألة، حكى التفرقة بين الوجهين ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ من أن ذلك لا يلزمه في الشرط هو على قياس قول ابن القاسم في الكفالة من المدونة في الذي يتكفل برجل إلى أجل على أنه إن لم يوافه به عند الأجل فهو ضامن للمال فلا يوافه به عند الأجل أن المال لا يلزمه إن أتى به بعد ذلك قبل أن يحكم عليه، ومحمد بن(15/299)
عبد الحكم يقول: إن ذلك لا يلزم المودع وإن كان قوله على وجه الشرط ويحلف ويبرأ، فإن نكل عن اليمين حلف رب المال وأخذ تمام وديعته، ووجه قوله: أنه عذر المودع بما اعتذر به من أنه إنما قال ذلك لئلا يقطع به عن سفره، ولو رد عليه اليمين دون سبب للزمه ذلك قولا واحدا، وإنما يختلف إذا نكل عن اليمين، فقال: لا أحلف، ولم يصرح بردها على المدعي ثم أراد أن يحلف بعد ذلك، هل يكون ذلك له أم لا؟ على قولين، وأهل المشرق لا يرون رد اليمين على المدعي، فإذا نكل المدعى عليه عندهم عن اليمين كان نكوله كالإقرار ولزمه الحق، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: إنما يصح هذا الجواب على أن الوديعة كانت ببينة، أو على قول من رأى اليمين على المودع إذا انتقصت الوديعة، فإن لم تكن ببينة فكأنه رضي برد اليمين على المودع فلزمه ذلك، ولم يكن له عنه رجوع، وهو غير صحيح؛ لأنه لا خلاف في وجوب اليمين على المودع في دعوى النقصان إن لم يكن على الوديعة بينة، ولا في أن الغرم يلزمه دون أن يحلف رب الوديعة إذا كانت عليها بينة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال هذه المائة وديعة عندي لفلان أو لفلان]
مسألة وسئل: عن الرجل يستودع الرجل ثلاثين دينارا وبين يديه ثلاثون دينارا فيجعلها في قرب التي بين يديه، فتذهب منها عشرة فلا يدري من أي ذهبت؟ قال: عليه أن يدفع إلى المستودع ثلاثين تامة.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أدري من أين ذهبت - معناه: لا أدري الثلاثين التي ذهبت منها العشرة أن كانت في المودعة أو التي كانت بين يديه، إذ لو عرف المودعة من التي كانت بين يديه لعرف من أين ذهبت بوجودها ناقصة إذا وزنت، وجوابه هذا في هذه المسألة إنما يصح على قول من قال، في رجل قال: هذه المائة وديعة عندي لفلان أو لفلان: أنه يغرم لهما مائتين مائة لكل واحد منهما. وأما على قول من قال: إنهما يحلفان جميعا(15/300)
ويقتسمان المائة ولا يكون على المقر شيء، فيأتي على قياس قوله في هذه المسألة: إن ادعى المدع الثلاثين التي لم يذهب منهما شيء كانت له، قيل: بيمين، وقيل: بغير يمين، على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، وإن لم يدعها وقال لا أدري أيتهما لي، إن كانت التي لم يذهب منها شيء أو الأخرى التي ذهبت منها العشرة، فتكون مصيبة العشرة منها، ويقتسمان الخمسة الباقية بينهما بنصفين دون يمين، وقيل: بعد أن يحلف كل واحد منهما؛ لأنه لا يدري إن كانت العشرة ذهبت من متاعه أو من متاع صاحبه، فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا عن اليمين على هذا الوجه كانت الخمسون بينهما بنصفين، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كانت الثلاثون للحالف بينهما، وهذا الاختلاف في اليمين على اختلافهم في لحوق يمين التهمة، وبالله التوفيق.
[: دفع إليه ثلاثة دنانير إلى عشرته فضاع من ذلك ديناران]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألته: عن الرجل يكون معه عشرة دنانير لنفسه فيدفع إليه رجل دينارا استودعه إياه فيذهب منها دينار، كيف يكون ضمانه عليهما؟ قال: يأخذ صاحب العشرة تسعة دنانير ويقتسمان العاشر ويكون ضمان الذاهب بينهما بنصفين، قلت له: فقول مالك: إن صاحب الدينار يكون شريكا في الأحد عشر دينارا على حساب الدينار، ولا يكون عليه من ضمان الدينار الذاهب إلا سهم من أحد عشر سهما، أيؤخذ به؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب تضمين الصناع من المدونة وفي غيره من المواضع، هو اختلاف مشهور معلوم، وسواء في هذا كان المودع صاحب العشرة الدنانير أو صاحب الدينار، وسواء تقارا على تلف(15/301)
الدينار أو علم ذلك ببينة إذا دعاه المودع فصدق في ذلك بغير يمين أو بيمين إن كان متهما.
ولو دفع إليه ثلاثة دنانير إلى عشرته، فضاع من ذلك ديناران، كان لصاحب العشرة ثمانية ولصاحب الثلاثة دينار، ويقتسمان الدينارين الباقيين بينهما بنصفين، ولو ضاع من ذلك ثلاثة دنانير لكان لصاحب العشرة سبعة، ويقتسمان الثلاثة بينهما على نصفين، وعلى قول مالك: يقتسمان الأحد عشر، إن كان ضاع منها ديناران، أو العشرة إن كان ضاع منها ثلاثة دنانير على ثلاثة عشر جزءا. والحكم في الشيء يتداعى فيه الرجلان، فيقول أحدهما: لي جميعه، ويقول الآخر: لي عشره - يجري على هذا الاختلاف إذا لم يكن في يد واجد منهما باتفاق، واختلف إن كان بأيديهما جميعا، فقيل: إنه يجري على هذا الاختلاف أيضا بعد أيمانهما، وقيل: إن القول قول الذي ادعى العشر مع يمينه؛ لأنه حائز للنصف، فعلى من ادعى عليه أن له أكثر من النصف إقامة البينة، وبالله التوفيق.
[: دفع إلى رجل مائة دينار وعهد إليه أن لا يدفعها إلا إلى من أتاه بأمارة]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب: عن رجل دفع إلى رجل مائة دينار يستودعه إياها وعهد إليه أن لا يدفعها إلا إلى من أتاه بأمارة أعلمه بها لم يطلع عليها غيره، فأتى رجل بتلك الأمارة فدفع إليه المال ومات المستودع صاحب أصل المال، فقام ورثته إلى الذي قبض المال بالأمارة، فقالوا: قد وصل إليك مالنا فما الذي صنعت به، فقال: صنعت به الذي أمرني أبوكم به، وهو صاحب المال، قالوا: فما أمرك به؟ قال: ليس علي أن أخبركم بالذي أمرني به، غير أني قد صنعت بأمره، قال: أرى أن يحلف قابض المال بالأمارة بالله الذي(15/302)
لا إله إلا هو لقد فعل الذي أمره به في المال لم يتعد إلى غيره، ثم يبرأ، وسألت عن ذلك ابن القاسم، فقال لي مثل ما قال ابن وهب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر؛ لأن القياس كان فيها إذا لم يدع الورثة علم ما أمره به موروثهم قابض المال بالأمارة أن يصدق فيما زعم أن رب المال أمره أن يفعله فيه، ولا يصدق أنه قد فعله حتى يعلم ما هو، إذ من الأشياء ما لا يصدق المأمور فيها أنه قد فعله حتى يقيم البينة على ذلك، فكان الواجب أن يسأل قابض المال بالأمارة عما أمر به في المال، وهل فعله أم لا؟ وإن ذكر أنه أمره أن يفعل فيه ما هو مصدق على فعله صدق مع يمينه في أنه أمر بذلك وفي أنه قد فعله، وإن ذكر أنه أمره أن يفعل فيه ما لا يصدق على فعله حتى يقيم البينة على ذلك صدق مع يمينه في أنه أمر بذلك، ولم يصدق في أنه قد فعله حتى يقيم البينة على ذلك.
وأما إن ادعى الورثة معرفة ما أمره به موروثهم في المال فينزلون منزلته في الدعوى، ويكون القابض للمال مدعيا فيما زعم أنه أمره به فيما مما لم يقر له به الورثة وكذبوه فيه، فما لهذه المسألة عندي وجه إلا أن يتأول على أن قبض المال بالأمارة لم يعلم إلا من قبل قابضه بأن يأتي الورثة فيقول لهم كان أبوكم قد أمرني أن أقبض مالا له عند فلان بأمارة أعلمني بها فقبضته وصنعت فيه ما أمرني أبوكم، فليس عليه إذا كان الأمر على هذا أن يبين لهم ما أمره به أبوهم إذ لو شاء أن لا يقر بشيء لفعل، وبالله التوفيق.
[: يستودع الوديعة ثم يتصدق بها على رجل]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: سألت ابن القاسم: عن الرجل يستودع الوديعة ثم يتصدق بها على رجل يقول أشهدكم أني قد تصدق بالوديعة التي(15/303)
عند فلان على فلان لا يكون منه أكثر ولم يأمره أن يقبض له، ثم مات.
قال: إن علم المستودع أنه يصدق بذلك فأراها للمتصدق عليه، وإن لم يعلم فلا أرى للمتصدق عليه شيئا، قلت: من أي وجه قال؟ من قبل أنه إذا علم أنه تصدق بما في يديه فقد صار قابضا للمتصدق عليه حتى لو أراد صاحب الوديعة أخذها لكان يبتغي للمستودع أن لا يدفعها إليه، فإن دفعها إليه ضمنها.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الرواية بعينها في هذا السماع من كتاب الصدقات والهبات وشرط فيها في صحة الحيازة معرفة المستودع خلافا لما في المدونة؛ لأنه جعل فيه قبض المستخدم والمستعير قبضا للموهوب له، ولم يشترط معرفتهما، ويخرج في المسألة قول ثالث، فالقياس على ارتهان فضلة المرهن أن الحيازة لا تصح إلا أن يعلم المستودع ويرضى أن يكون حائزا للموهوب له إلا أن يفرق في ذلك بين الرهن والصدقة حسبما مضى القول فيه مجودا في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الرهون، وإنما يكون قبض المستودع قبضا للمتصدق عليه إذا علم على هذه الرواية أو علم أو لم يعلم على مذهبه في المدونة، إذا قبل الموهوب له الهبة، فأما إذا لم يعلم منه قبول حتى مات الواهب، فلا شيء له، ولا شيء على المستودع في ردها قبل قبول الموهوب له الهبة وعلمه بها، هذا إذا كان الموهوب له حاضرا، وأما إن كان غائبا تصح حيازة المستودع له وإن مات الواهب قبل أن يقبل الموهوب له، وسواء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك كان الشيء الموهوب بيد الموهوب له أو بيد حائز يحوزه له وهو حاضر إن لم يقبل حتى مات الواهب بطلت الهبة، وقال أشهب: إذا كان الشيء الموهوب بيد الموهوب له صحت له الحيازة، وإن لم يقبل حتى مات الواهب؛ لأن كون ذلك في يديه أحوز الحوز، وبالله التوفيق.(15/304)
[: أتى رجلا يستودعه مالا فقال له ادفعه إلى عبدي هذا فدفعه فاستهلكه العبد]
من سماع عبد الملك بن الحسن من أشهب قال عبد الملك بن الحسن: سئل أشهب: عن رجل أتى رجلا يستودعه مالا، فقال له الرجل: ادفعه إلى عبدي هذا، فدفعه فاستهلكه العبد.
فقال: هو في ذمة العبد، قيل: فإن كان السيد غره من العبد؟ قال: ليس عليه إلا ما قلت لك.
قال محمد بن رشد: ولا يكون ذلك في ذمة العبد بإقراره حتى تقوم بينة باستهلاكه، قال ذلك محمد بن عبد الحكم، وهو صحيح، وقد قيل: إن السيد ضامن إذا غره، وذلك على الاختلاف المعلوم في الغرور بالقول، وإذا ضمن السيد ذلك على هذا القول بيع في ذلك العبد وغيره من ماله، وبالله التوفيق.
[: سأله وديعته فإن أبى أن يعطيه إياها في ذلك الوقت لعذر]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم قال أصبغ: وسئل ابن القاسم: عن رجل جعل عند رجل مالا وديعة فأتاه يوما يتقاضاه، فقال: إني مشغول وراكب إلى موضع كذا وكذا فانتظرني إلى غد، فأبى فتصايحا حتى حلف أن لا يعطيها إياه الليلة فلما أتاه من الغد يتقاضاها إياه، قال: ذهبت، هل عليه غرمها؟
قال: إن كان إنما ذهبت من قبل أن تلقاني ضمن؛ لأنه قد أقر(15/305)
بها ولا يقبل قوله، وإن قال لا أدري متى ذهبت، وإنما عهدي بها منذ كذا وكذا أحلف وكان القول قوله، ولا ضمان عليه، وقاله أصبغ ويحلف ما علم بذهابها حين منعه ولا منعه لذلك، ولقد كان علمه على أنها ثم فيما يرى ساعتئذ ولا يعلم غير ذلك.
قال ابن القاسم: وإن قال ذهبت مني بعد ما حلفت وفارقتك رأيته ضامنا؛ لأنه قد تعدى عليه حين لم يدفع إليه حقه ساعتئذ، إلا أن يكون كان على أمر لا يستطيع الرجوع فيه، ويكون في رجوعه عليه ضرر، فلا ضمان عليه إذا كان كذلك.
قال أصبغ: ليس في هذا تعدي وليس عليه ضمان إذا كان أمره ذلك الذي منعه واحفزه عذرا غالبا عليه فيه ضرر، ولم يكن الأمر كان يمكنه عند بابه أو هو في يديه ونحوه هاهنا، وليس عليه في أخذه ومناولته تطويل ولا أمر، ولا فتح وغلق ولا استخراج ولا أمر لا يصح إلا به وبنظره وبرجوعه، فإن كان هذا كله هكذا رأيته ضامنا ومتهما بدفعه إياه له عنه، وإلا فلا ضمان عليه، فقد يعوق الرجل ما يعوق وقد ينتقل في الحين الذي يأتي فيه إعطاؤه، وقد يرد الناس الناس مثل هذا ويشتغلون ويكلمون وهم أعلم بأنفسهم وأهوائهم ومرافقهم وشأنهم، فأرى أن يحلف ويبرأ إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا اختلاف بينهم أنه إذا سأله وديعته فإن أبى أن يعطيه إياها في ذلك الوقت لعذر ذكره ثم أتاه بعد ذلك فيها فذكر أنها قد كانت تلفت قبل أن يلقاه فيها أولا أنه ضامن لها؛ لأنه لما اعتذر في دفعها إليه في ذلك الوقت فقد أقر أنها باقية لم تتلف فكذب ذلك دعواه الآن أنها قد كانت تلفت فلا يقبل قوله في ذلك إلا أن يقول: لم أعلم في ذلك الوقت أنها قد كانت تلفت ولذلك اعتذرت إليه في دفعها إليه في ذلك(15/306)
الوقت ووعدته لوقت آخر، فيحلف على ذلك كما قال أصبغ، ويسقط عنه ضمانها، وكذلك إن قال: لا أدري متى تلفت إن كان قبل طلبك إياها أو بعد ذلك، فيحلف على ذلك ويسقط عنه الضمان.
وأما إن قال: تلفت بعد ذلك، فإن كان منعه إياها لعذر ألجأه إلى ذلك، ولم يكن متعديا في منعه إياها في ذلك الوقت، فلا ضمان عليه، فإن كان منعه إياها لغير عذر تعديا منه في ذلك فهو ضامن لها.
واختلف هل هو محمول على العذر حتى يثبت التعدي أو على التعدي حتى يثبت العذر؟ وظاهر قول ابن القاسم أنه محمول على التعدي حتى يثبت العذر، وظاهر قول أصبغ أنه محمول على العذر حتى يثبت التعدي لا اختلاف في هذه المسألة إلا في هذا الوجه. وقد وقع في النوادر لمحمد بن عبد الحكم: أنه لا ضمان عليه تلفت قبل أو بعد، وليس ذلك بخلاف لشيء مما تقدم؛ لأن معنى قوله: إذا لم يعلم بذلك إلا بعد، ومعنى قوله: أو تعدى إذا كان له في صنعه عذر ولم يكن متعديا في ذلك، قال محمد بن عبد الحكم: ولو أبى أن يدفعها إليه إلا بالسلطان فتلفت في خلال الدفع لم يكن عليه في ذلك ضمان؛ لأن له في ذلك عذر، يقول: خفت شغبه وأذاه، وسيأتي القول على هذا في آخر سماع أبي زيد إن شاء الله.
[مسألة: يستودعه وديعة يبعث بها المستودع إلى صاحبها فيعدوا عليها اللصوص]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن وهب وسئل: عن الرجل يستودع الرجل وديعة يبعث بها المستودع إلى صاحبها فيعدوا عليها اللصوص فينزعونها، فيقول المستودع: لم آمرك أن تبعث بها إلي، ويقول المستودع: بل أنت أمرتني أن أبعث بها إليك، ولا بينة بينهما.
قال: المستودع ضامن؛ لأنه مُتَعَدٍّ وهو مُدَّعٍ، فإذا تعدى كان عليه الضمان، ولكن لو كان قال سقطت مني أو دفعتها إليك،(15/307)
أو سرقت مني فذهب بها لم يكن عليه شيء.
قال محمد بن رشد: إنما يضمن المودع الوديعة إذا ادعى أن ربها أمره أن يبعث بها إليه بعد يمينه أنه إنما أمره أن يبعث بها إليه ولقد تعدى عليه في البعث بها إليه بغير أمره فيحق عليه التعدي بيمينه، وهو معنى قوله في الرواية: المستودع ضامن؛ لأنه متعدٍ، فإنما قال فيه: إنه متعدٍ؛ لأن العداء قد ثبت عليه بيمين رب الوديعة.
وقوله: ولكن لو قال: سقطت مني أو دفعتها إليك أو سرقت مني فذهب بها، لم يكن عليه شيء، معناه: لم يكن عليه غرم؛ لأن اليمين عليه في دعوى الرد باتفاق، وفي دعوى التلف على اختلاف إن لم يحقق عليه الدعوى، قيل: إنه يحلف، فإن نكل عن اليمين غرم، قيل: بعد يمين رب الوديعة، وقيل: إن اليمين لا يرجع عليه، وقيل: إنه لا يمين عليه على اختلافهم في لحوق يمين التهمة وفي ردها، وقيل: إن كان من أهل التهم أحلف وإلا لم يحلف، وهو المشهور في المذهب، وأما إن حقق عليه الدعوى فلا اختلاف في وجوب اليمين عليه، وفي أن له أن يردها، وبالله التوفيق.
[مسألة: استودع وديعة وهو في المسجد أو في مجلس فجعلها على نعليه فذهبت]
مسألة قال: وسألته عن رجل استودع وديعة وهو في المسجد أو في مجلس فجعلها على نعليه فذهبت، أعليه ضمان؟ فقال: ما أرى عليه ضمانا، قلت: ولا تراه متعديا؛ لأنه إنما أعطاه إياها يحوزها، فليس هذا حوزا؟ قال لي: فإنه الآن يقول: لم يكن معي خيط أربطه به، قلت: يربطها في طرف ردائه، قال: فإنه يقول: ليس علي رداء علي برنس، قلت: فإن كان عليه رداء؟ قال: ما أرى عليه شيئا بحال.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا دفع إليه الوديعة وهو في مسجد أو في مجلس فجعلها على نعليه، يريد: بين يديه حيث ينظر إليها،(15/308)
فتلفت - إنه لا ضمان عليه؛ لأن ذلك هو وجه الحوز لها في ذلك الموضع على ما جرت به العادة، فوجب أن لا يضمن، قال مطرف وابن الماجشون: ولو نسيها في الموضع الذي دفعت إليه فيه وقام ضمنها، وكذلك لو كانت في داره فأخذها فأدخلها كمه يظنها دراهمه فسقطت فإنه يضمن، قالا: وهذه جنايات، فضمناه بالنسيان ولم يعذراه بذلك، وقد يتخرج في هذا اختلاف بالمعنى من مسألة الرجلين يدعيان مائة دينار وديعة عند رجل، فيقول المدعى عليه: لا أدري من دفعها إلي منكما؛ لأنه عذر بالنسيان على القول بأنه لا يلزمهما أكثر من أن يغرم لهما المائة فيحلفان ويقتسمانها بينهما، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في رسم يدير من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، وبالله التوفيق.
[: تكون عنده الوديعة فتطلب منه فيقول قد ضاعت مني منذ سنين]
ومن كتاب القضاء المحض قال أصبغ: سألت ابن القاسم: عن رجل تكون عنده الوديعة فتطلب منه فيقول قد ضاعت مني منذ سنين إلا أني كنت أرجو أن أجدها وكنت أطلبها وما أشبه ذلك ولم يسمع ذلك منه، وصاحبه الذي استودعه أيضا حاضر، ألا يذكر ذلك له؟ فقال: هو مصدق ولا ضمان عليه إلا أن يكون قد طلبت منه فأقر بها أنها عنده كما هي، ثم زعم أنها قد ضاعت منه سنين، فهو هاهنا ضامن وإلا فلا شيء عليه، والقراض مثل ذلك سواء، قال أصبغ: لا يعجبني وهو ضامن إذا أمسك، ولا يعرف طلبا منه ولا ذكر لصاحبها ولا لغيره، ولا وجه مصيبة تطرق ولا سماع سرقة ولا غرق ولا غير ذلك قبل ذلك، وحضور الطالب أشد وأبين بإمساكه عنه، وكل سواء إذا طال هذا جدا وادعى أمرا قريبا لا ذكر له.(15/309)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم عندي أظهر من قول أصبغ؛ لأن الأصل براءة الذمة، فالواجب فيها سببا إلا بيقين، وهو قول محمد بن عبد الحكم، قال: أصحابنا يقولون: إن سمع ذلك منه قبل ذلك الوقت الذي يسألها فيه قبل منه، وإن لم يسمع ذلك منه إلا ذلك الوقت لم يقبل، قال محمد: وأنا أرى أن يحلف ولا شيء عليه، وبالله التوفيق.
[: استودع رجلا سيفا وضمنه إياه فعدا عليه ابن له فقاتل به فانكسر]
ومن كتاب الكراء والأقضية وسئل ابن القاسم: عمن استودع رجلا سيفا وقيمته أربعة دنانير وضمنه إياه فعدا عليه ابن له فقاتل به فانكسر وقيمته يوم تعدى الابن عشر دنانير.
فقال: أرى عليه قيمته يوم استودعه إلا أن يكون القيمة يوم تعدى عليه أكثر، قال أصبغ: إن كان الضمان إنما ضمن أربعة التي هي القيمة فليس عليه غيرها والفضل على الابن المتعدي، وإن كان ضمن السيف ضمانا فعليه قيمته الكبرى كانت الأولى أو الآخرة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ إن كان الضمان إنما ضمن أربعة التي هي القيمة فليس عليه غيرها والفضل على الابن المتعدي صحيح لا اختلاف فيه ولا كلام، وقوله: وإن كان ضمن السيف ضمانا فعليه قيمته الكبرى كانت الأولى أو الآخرة هو مثل قول ابن القاسم سواء وذلك بعيد جدا، والذي يوجبه النظر على أصولهم أن تكون عليه قيمته يوم دفعه إليه على الضمان إلا أن تعلم قيمته يوم تعدى عليه الابن فيكون ذلك عليه، كان أقل من قيمته يوم دفعه إليه أو أكثر ويرجع بذلك على الابن، وإنما يصح أن يكون عليه الأكثر من القيمتين إذا لم يعلم قيمته يوم تعدى عليه الابن إلا بقوله؛ لأنه إن ادعى أن قيمته(15/310)
يوم تعدى عليه ابنه أقل لم يصدق، وإن ادعى أنها أكثر كان مقرا على نفسه، وهذا أبين وأصح، والله اعلم.
[: استودع وديعة فطلب صاحب الوديعة وديعته فقال المستودع ما أدري]
من نوازل سئل عنها أصبغ وقال أصبغ، في رجل استودع وديعة فطلب صاحب الوديعة وديعته من المستودع، فقال المستودع: والله ما أدري دفعتها إليك أم ضاعت مني؟ قال: لا أرى عليه ضمانا؛ لأنه إن كان دفعها فقد برئ وإن كانت ضاعت منه فهو فيها مؤتمن، فلا ضمان عليه إلا أن يكون المستودع إنما استودعها إياه ببينة فلا يبرأ منها بقوله: قد دفعتها إليك؛ حتى يقيم البينة بدفعها إليه وإلا غرم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا دفعها إليه بغير بينة فلا ضمان عليه، يريد: بعد أن يحلف ما هي عنده ولقد دفعها إليه أو تلفت؛ لأن القول قوله في كل واحد من الوجهين لو ادعاه بعينه، فكذلك إذا ادعى أحدهما بغير عينه، وأما إذا دفعها إليه ببينة، فبين أنه لا يبرأ منها بقوله: لا أدري إن كنت دفعتها إليك أو تلفت؛ لأنه لو ادعى أنه دفعها إليه لم يصدق، فكيف إذا قال: لا أدري إن كنت دفعتها إليك أو تلفت، ولو دفعها إليه ببينة، فقال المودع لربها: إن كنت دفعت إلي شيئا فقد ضاع؛ لبرئ منها بيمينه، قال ذلك عبد الله بن عبد الحكم، وهو على قياس قول أصبغ المذكور، وبالله التوفيق.
[مسألة: استودع وديعة فدفنها في بيته]
مسألة قلت له: فرجل استودع وديعة فدفنها في بيته أو بموضع فلما طلبها صاحبها، قال له المستودع: والله ما أدري ما فعلت، دفنتها حين دفعتها إلي، فطلبتها فلم أقدر على موضعها ولم أصبه.(15/311)
قال: أراه ضامنا، هذا مضيع لا يدري حيث دفنها إلا أن يقول: دفنتها في بيتي أو حيث يجوز لي دفنها من المواضع التي يرى أنه أحرزها فيها كما كان يحرز متاعه، فيزعم أنه طلبها في ذلك الموضع فلم يجدها، وقد اتفق أنه دفنها فيه فلا ضمان عليه فيها؛ لأنه هاهنا بمنزلة ما لو سقطت منه أو جاء عليها تلف من غير صنعه؛ لأنه فعل في دفنه ما يجوز له إذا كان يحفظ الموضع الذي دفنها فيه، وأما إذا قال: دفنتها ولا أدري حيث، فهذا متلف لها مضيع فهو ضامن.
قال محمد بن رشد: لم يعذره في هذه المسألة بنسيان الموضع الذي دفن فيه الوديعة ويدخل في هذا اختلاف بالمعنى قد ذكرته في أول رسم من سماع أصبغ قبل هذا، فلا معنى لإعادته.
[: لا يقضى بالصرة لمن وجد عليها اسمه إذا لم يكن بخط يده]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: سئل ابن القاسم: عن رجل هلك وترك ودائع ولم يوص فتوجد صرر فيها مكتوب وديعة فلان بن فلان وفيها كذا وكذا دينارا، أتراها لفلان الرجل الذي اسمه على الصرة إذا لم تكن بينة على أنه استودعها إياه إلا بقول وقد وجدوها عند الهالك كما ادعى؟
قال: ليس له فيها شيء لعله دفعه إلى أهل البيت دراهم حتى كتبوا له فوق هذه الصرر ما يريد.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أنه لا يقضى بالصرة لمن وجد عليها اسمه إذا لم يكن بخط يده ولا بخط يد المودع، وقد مضى(15/312)
تحصيل القول في ذلك في رسم أسلم من سماع عيسى قبل هذا، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: رد الرهن إذا قبضه بغيربينة]
مسألة وقال ابن القاسم، في رجل دفع إلى رجل وديعة أو رهنه رهنا ثم جاء يطلب وديعته أو جاء بافتكاك الرهن فأبى الذي في يديه الوديعة أو الرهن أن يدفع ذلك إلى أهله حتى يأتي السلطان فيعدي عليه بالدفع، فضاع ذلك الرهن أو الوديعة قبل أن يقضي عليه السلطان وبعد طلب المستودع وديعته وبعد طلب الراهن رهنه.
قال: إن كان دفع ذلك إليه بغير بينة في الرهن والوديعة فأراه ضامنا.
قال محمد بن رشد: في مساواته في هذه المسألة بين الرهن والوديعة بقوله: إن كان دفع ذلك إليه بغير بينة في الرهن فأراه ضامنا - دليل على أن القول قوله في رد الرهن إذا قبضه بغير بينة كالوديعة سواء، وذلك بعيد؛ لأن الرهن قبضه لمنفعة نفسه فلا يصدق في ضياعه ولا في رده بأن قبضه بغير بينة، والوديعة قبضها لمنفعة صاحبها ويصدق في ضياعها وفي ردها إلا أن يكون دفعت إليه ببينة، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب الرواحل والدواب، فلعله إنما تكلم في هذه الرواية على الرهن الذي لا يغيب عليه فتصح المسألة؛ لأن الرهن الذي لا يغاب عليه يصدق المرتهن في رده إذا قبضه بغير بينة كما يصدق في تلفه كالوديعة.
وقد اختلف إذا أبى المودع أن يدفع الوديعة إلى الذي أودعه إياها إلا بالسلطان، فترافعا إليه، فضاعت بين سؤاله إياه وبين إتيانه السلطان على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا ضمان عليه وإن كان قبضها منه بغير بينة؛ لأن له في ذلك(15/313)
عذرا، يقول: خفت شغبه وأذاه، وهو قول محمد بن عبد الحكم.
والثاني: أنه ضامن وإن كان قبضها منه ببينة؛ لأنه متعد، إذا منعه إلا بالسلطان وكان يقدر على أن يشهد عليه بالرد كما أشهد هو عليه بالقبض، وإلى هذا ذهب ابن دحون، فالرهن والوديعة على مذهبه سواء في هذا.
والثالث: ما ذهب إليه في هذه الرواية من تفرقته بين ما يصدق فيه في الرد وبين ما لا يصدق، وبالله التوفيق.
تم كتاب الوديعة والحمد لله(15/314)
[: استعار دابة إلى بلد فاختلفا]
كتاب العارية
من سماع ابن القاسم من مالك قال سحنون: أخبرني ابن القاسم: عن مالك فيمن استعار دابة إلى بلد فاختلفا، فقال: أعرتنيها إلى بلد كذا وكذا، وقال المعير: بل أعرتك إلى بلد كذا وكذا، فإن كان يشبه ما قال المستعير فعليه اليمين.
قال ابن القاسم: وذلك إذا ركب المستعير ورجع فالقول قوله، ولعل الدابة تعتل ويطلب منه كراء ما زاد، فإذا كان يشبه ما قال المستعير فالقول قوله مع يمينه، وإذا لم يركبها فالقول قول صاحب الدابة، وإنما ذلك بمنزلة رجل أخدم رجلا خادما أو أسكنه منزلا فسكن الرجل الدار واختدم العبد سنة، فقال المخدم: أخدمتني سنة وأسكنتني سنة وقد انقضت السنة، فالقول قول المخدم إذا جاء بما يشبه، إن قال الآخر: أخدمتك أو أسكنتك ستة أشهر لم يقبل قوله، وهو مدعٍ إلا أن يأتي المخدم أو المسكن بما لا يشبه، ولو كان لم يقبض المسكن أو المخدم ما أُعْطِيَ كان القول قول صاحب العبد أو المسكن، هذا يبين لك العارية.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف بينهم في أن القول قول المعير إذا اختلفا في العارية إلى أي بلد أعاره إياها قبل الركوب أو بعد وصوله إلى البلد(15/315)
الذي أَقَرَّ بِهِ المعير، فتفسير ابن القاسم لقول مالك في قوله: إن القول قول المستعير إذا كان يشبه وعليه اليمين بقوله، وذلك إذا ركب المستعير ورجع - صحيح.
ومثله في المدونة من رواية عبد الرحمن عن مالك، وفي الدمياطية لابن القاسم خلافه: أن القول قول المعير إذا اختلفا بعد الرجوع، بخلاف إذا كان معه في سفره فاختلفا بعد الرجوع.
ونص الرواية، قال: وسئل ابن القاسم: عن رجل استعار ثوبا فحبسه عن صاحبه شهرا أو شهرين فجاء به وقد تغير، وقال صاحبه: إنما أعرتك اليوم واليومين، وقال المستعير: إنما استعرته منك إلى أن أقدم من سفري وأتجمل به حتى أكتسي، قال: أرى إن كان حاضرا وهو معه لا يسأله عنه، فالقول قول المستعير ويحلف.
وأما السفر فإني أراه متعديا إذا حلف صاحب الثوب إلا أن يكون للمستعير بينة على ما قال، فالخلاف في المسألة إنما هو إذا غاب المستعير عن المعير بالدابة أو الثوب، فلما رجع قال له المعير: قد تعديت في وصولك بالدابة إلى حيث وصلت بها، أو في إمساكك الثوب عني طول هذه المدة إذ لم أعرك الدابة إلا إلى بلد كذا أو الثوب إلا إلى مدة كذا.
فوجه قول مالك: أن المعير لما أسلم الدابة أو الثوب إلى المستعير فقد ائتمنه وصار مدعيا عليه في تضمينه الدابة إن كانت تغيرت أو تلفت في المسافة التي يدعي أنه لم يأذن له فيها أو في تضمينه الكراء فيها إن كانت على حالها، وهو الذي اعتل به ابن القاسم بقوله في الرواية: وذلك لعل الدابة تعتل، يريد: فيكون مدعيا عليه في تضمين قيمتها أو لا تعتل، فيكون مدعيا في طلب كراء ما زاد، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، فوجب أن يكون القول قول المستعير إذا أشبه ما ادعاه.
ووجه قول ابن القاسم في الدمياطية: أن الأصل قد حصل في أنه لا يؤاخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، والمستعير مدع على المعير في المسافة التي لم يقر أنه أعاره إليها، ولا دليل له على دعواه لكونه غائبا عنه، بخلاف إذا كان حاضرا معه؛ لأن في سكوته على طلب دابته منه عند انقضاء المسافة الأولى - دليل على أنه أعاره إياها إلى الثانية، وكذلك الثوب، فقوله(15/316)
في الرواية: وإنما ذلك بمنزلة رجل أخدم رجلا خادما أو أسكنه منزلا ... إلى آخر قوله: لا يلزم المخالف. وهو قول ابن القاسم في رواية الدمياطي عنه؛ لأن الذي يأتي على قياس قوله في الرواية: أن يكون القول في الإخدام والإسكان قول رب الخادم ورب المسكن في المدة التي أخدمه إليها وأسكنه إليها إذا كان غائبا عنه ولم يكن حاضرا معه، فيكون سكوته عن طلب خادمه ومسكنه عند انقضاء المدة التي أقر أنه أخدمه وأسكنه إليها دليلا على دعوى المخدم أو المسكن، فوجب أن يكون القول قوله، إذا ادعى من ذلك لما يشبه، وبالله التوفيق.
[: يسأل الرجل أن يهبه الذهب فيقول نعم فيبدو له أن لا يفعل]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل: عن الرجل يسأل الرجل أن يهبه الذهب، فيقول: نعم، فيبدو له أن لا يفعل، أفترى ذلك يلزمه؟ قال: أما إن قال: أنا أفعل أو أنا فاعل، فما أرى ذلك يلزمه، ومن ذلك وجوه لو كان في قضاء دين فسأله، فقال: نعم، ورجال شهود عليه، فما أحراه أن يلزمه، والشهادة في ذلك أبين وما أحق إيجابه. قال ابن القاسم: إذا اقتعد الغرماء على موعد منه أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه أن يقول أشهدكم أني قد فعلت، فهذا الذي يلزمه، فأما أن يقول له نعم أنا أفعل ثم يبدو له، فلا أرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: اختلف في العدة هل يلزم القضاء بها أم لا؟ على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يلزم القضاء بها وإن لم يكن على سبب، رُوِيَ عن عمر بن عبد العزيز أنه قضي بها على ما وقع في كتاب العدة، على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وأي المؤمن واجب» ، وهذا لا حجة فيه؛ لأن(15/317)
الحديث ليس على ظاهره في الوجوب؛ لأن معناه واجب في مكارم الأخلاق ومحاسنها، بدليل تخصيصه المؤمن؛ لأنه لما لم يعم، فيقول: الوأي واجب؛ علم أنه أراد بعض المؤمنين، وهم الممدوح إيمانهم، فدل ذلك على الندب إذا لم يعلم به جميع المؤمنين؛ كقول الله تعالى في المتعة: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] و {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] .
والثاني: أنه يقضي به إن كان على سبب وإن لم يدخل بسبب عدته في السبب، وهو قول أصبغ في كتاب العدة، وقول مالك في هذه الرواية نحوه؛ لأنه قال فيها: ولو كان في قضاء دين فسأله فقال نعم ورجال شهود عليه، فما أحراه أن يلزمه ولم يحقق إيجابه؛ لأن قوله: أنا أقضي عنك دينك، وأنا أسلفك لتقضي دينك، أو أهبك لتقضي دينك عدة بسبب، فهي كالعدة على سبب، إذ لا فرق بين أن يسأله أن يسلفه أو يهبه ليقضي دينه فيقول له: نعم أنا أفعل، وبين أن يقول له ابتداء من غير أن يسأله: أنا أسلفك أو أهبك لتقضي دينك، أو أنا أقضي عنك دينك، وقوله: أنا أسلفك أو أنا أسلفك عدة على غير سبب، ففرق مالك بين الوجهين.
ومعنى قوله: ورجال شهود عليه، أي: ورجال حضور شهدوا عليه قوله من غير أن يشهدهم على نفسه.
وقوله: والشهادة في ذلك أبين وما أحقق إيجابه، معناه: إذا قال نعم أشهدكم أني أفعل أو أني فاعل، وأما لو قال: أشهدكم أني قد فعلت لما وقف عن التحقيق في إيجابه عليه، ولزم القضاء به عليه كما قال ابن القاسم.
والثالث: أنه لا يقضي بها وإن كانت على سبب إلا أن يدخل من أجل عدته في السبب، وهو معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية: إنما اقتعد الغرماء منه على موعد(15/318)
أن ذلك يلزمه بمنزلة إشهاده بإيجاب ذلك على نفسه؛ لأنهم تركوا بوعده إياهم التوثق من غريمهم فأضرت بهم عدته إن أخلفهم فيها، وهو قول سحنون في كتاب العدة: إن العدة لا تلزم إلا أن يكون على سبب فيدخل من أجل عدته في السبب، مثل أن يقول الرجل للرجل: افعل كذا وكذا وأنا أسلفك، فيفعله، فقول الرجل للذي عليه الدين أنا أقضي عنك الدين الذي عليك يفترق عند ابن القاسم من قوله للذي عليه الدين: أنا أقضيك الدين الذي لك، لا يلزمه في الأول ويلزمه في الثاني على ما بيناه.
والرابع: أن العدة لا تلزم ولا يقضي بها وإن كانت على سبب ودخل في السبب، وهو الذي يأتي على ما روى ابن نافع عن أشهب عن مالك في أول سماع أشهب بعد هذا؛ لأنه غره بما وعده فترك أن يحتال لنفسه بما يبريه من سلف أو غيره، فكان بمنزلة من قال لرجل: تزوج وأنا أنفق عنك، أو تزوج وأنا أسلفك، فتزوج فأبى أن يسلفه، فقول ابن القاسم في هذه الرواية خلاف قول مالك فيها على ما تأولناه؛ لأنه لم ير العدة تلزم بالسبب حتى يدخل فيه، ورآها مالك لازمة بالسبب، وإن لم تدخل فيه، ولم يرها في رواية أشهب لازمة بحال، وإن دخل بالسبب، وبالله التوفيق.
[: أمة أتت إلى جارة لها بقلادة استعارتها لها فأنكرت حين جاءتها بها]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وقال مالك، في أمة أتت إلى جارة لها بقلادة استعارتها لها، فأنكرت حين جاءتها بها، فقالت: ما حملك على أن استعرتها لي؟ وأنكرت ذلك وشهد عليها ناس فقبلتها منها لتردها على التي استعارتها منها، فاغتلت القلادة عندها قبل أن تردها، قال مالك: أرى أن تغرمها حين قبلتها، فلو شاءت لم تقبلها، قيل له: إن التي هي لها تزعم أنها ثمن خمسة عشر دينارا، وقالت التي قبلتها: ما ثمنها إلا ستة دنانير، قال: أرى أن تصفها التي قبلتها ثم تحلف على صفتها ثم تقوم على ذلك، ثم يلزمها غرم ما قومت به.(15/319)
قال محمد بن رشد: إنما وجب أن تغرمها إذا قبلتها فاغتلت منها قبل أن تردها؛ لأنها لما قبلتها فقد صدقتها في أنها استعارتها لها، ولو أقرت المستعيرة أنها لم تأذن لها في استعارتها لها لوجب أن يكون الضمان منها؛ لأنها كانت تكون كالرسول لها على ردها. وقوله: إن الغارمة لها هي التي يكون القول قولها في قيمتها وتحلف على صفتها - صحيح؛ لأنها هي المدعى عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: خرج إلى مسكين بشيء فلم يقبله]
مسألة وقال، في الرجل يسأله الرجل الشيء يعطيه إياه ويذكر له حاجته، ويقول: ائتني غدا، فيأتي بشيء يعطيه إياه ولا يجده، فقال مالك: ما أراد بذلك؟ فقيل: أراده لله، قال: فلينفذ ذلك لله على غيره، قيل له: فإن لقيه بعض إخوانه وأقاربه فسأله أن يوصله فوعده فذهب فلم يلقه؟ فقال: إن أحب أن ينفذه على مثل ذلك، فإن أبى فلست أراه عليه بواجب.
قال مالك، في السائل يقف عند الباب، فيأمر الرجل جاريته تعطيه شيئا فتجده قد ذهب، فقال مالك: أرى أن تعطيه غيره من المساكين، وما أراه عليه بواجب.
قال محمد بن رشد: ذكر ابن أبي زيد مسألة السائل يقف بالباب هذه - في النوادر، ووصل بها، قال: ومن خرج إلى مسكين بشيء فلم يقبله فليعطه غيره، وهو أشد من الأول وليس بينهما فرق بين. والمعنى الذي ذهب إليه ابن أبي زيد في الفرق بينهما، والله أعلم: هو أنه لما وجده فأبى أن يقبلها وقد كان له أن يقبلها فردها أشبه عنده بردها إليه بعد قبوله إياها، ولعله إنما ردها إليه ليعطيها لغيره، مثل أن يقول له: أنا لا حاجة لي بها فادفعها لغيري، فيكون ذلك قبولا منه لها، ويكون بذلك راجعا في صدقته، والاختيار في هذه(15/320)
المسائل كلها أن ينفد ذلك على غير الذي قصده بصدقته من غير وجوب، وأخفها الرجل يلقاه بعض إخوانه أو أقاربه فيسأله أن يصله، وتليها الرجل الأجنبي يلقاه الرجل فيذكر له حاجته فيعده أن يعطيه، وتليها الرجل يأمر بالشيء للسائل يسمعه فيوجد قد ذهب، وتليها أن يوجد فلا يقبل وهو أشهدها على ما وقع في النوادر، وهذا إذا لم تكن له نية إن لم يجده في أن يصرفه إلى ملكه أو يبتله لغيره، وأما إن كانت له نية فله نيته، وبالله التوفيق.
[: استعار ثوبا يوما أو يومين أو أياما مسماة ثم تعدى فلبسه أكثر مما استعاره]
ومن كتاب باع غلاما وسئل: عمن استعار ثوبا يوما أو يومين أو أياما مسماة ثم تعدى فلبسه أكثر مما استعاره، قال: يلزمه ما نقص من قيمتها بعد الأيام التي استعار إليها وإن كان قد أخلقه رده وما نقص من ثمنه بعد تلك الأيام التي استعاره إليها.
قال محمد بن رشد: المعروف من قوله أن صاحب الثوب مخير إذا أخلقه إن شاء أخذ ثوبه وما نقصه اللباس، وإن شاء أخذ قيمته يوم تعدى عليه، وقال أشهب: إنما هو مخير بين أخذ ثوبه ولا شيء له غيره، أو يأخذ قيمته يوم تعدى عليه، وقد روي عن ابن القاسم مثل قول أشهب، والقولان قائمان من المدونة، وما هاهنا أيضا يقوم من قوله في المدونة: وقد كان مالك يقول: يغرم ما نقص ولا يفرق بين قليل من كثير، فهي ثلاثة أقوال في الفساد الكثير، ولا اختلاف في الفساد اليسير: أنه ليس عليه إلا ما نقصه بعد الرفق، وبالله التوفيق.(15/321)
[: حلف لرجل له عليه حق ليوفينه إلى أجل]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك قال سحنون: قال لي أشهب وابن نافع: سئل مالك: عمن حلف لرجل له عليه حق ليوفينه إلى أجل فلما خشي الحنث ذكر ذلك لرجل، فقال له: لا تخف ائتني العشية أعطيكها، فلما كان العشي جاءه فأبى أن يعطيه شيئا، فقال له: غررتني حتى خفت أن تدخل على الطلاق، أتراه له لازما أن يسلفه؟ فقال: والله ما أرى ذلك لازما له، قال له: أنا أسلفك، فلم يسلف، أنا أعيرك دابتي، فلم يعره، أنا أهب لك فلم يهبه - ما أرى له عليه شيئا ولا أدري كيف هو في ذلك بينه وبين الله، وما هذا من مكارم الأخلاق ولا محاسنها.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه يلزمه، وهو أظهر؛ لأنه غره ومنعه أن يحتال لنفسه بما يبريه من سلف أو غيره، وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذه المسألة في رسم طلق من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[: يستأذن جاره في خشبة يغرزها في جداره فيأذن له ثم يغضبه فيريد أن ينزعها]
ومن كتاب الأقضية وسئل مالك: أترى من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ «لا ضرر ولا ضرار» أن يستأذن الرجل جاره في خشبة يغرزها في جداره فيأذن له ثم يغضبه، فيريد أن ينزعها، فقال: إن كان أذن له فما أرى له أن ينزعها على وجه الضرر؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «لا ضرر ولا ضرار» ، فهذا منه، فأما إن كان احتاج إلى جداره لأمر لم يرد به الغرز، رأيت ذلك للرجل أن يبني في جداره ويرفعه ما بدا له وإن كان في ذلك مضرة على جيرانه؛ لأن الرجل يعمل في حقه ما أحب.(15/322)
فقيل له: أرأيت إن كان أراد البيع فجاءه، فقال: إني أريد البيع وأريد أن تنتزع خشبتك والمشتري ينزع هذه الخشبة، تزيدني خمسين دينارا، فقال: تبيعها على حالها وفيها الخشب، أرأيت إن كان المشتري عدوا له، فأراد الإضرار به، ما زاد ذلك له؟ قلت: أرأيت إن عرف صحة ذلك؟ قال: ما أراه ذلك له.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[: أرفق رجلا مرفقا ثم بدا له أن ينتزعه]
من كتاب الأقضية الثاني وسئل: عمن أرفق رجلا مرفقا ثم بدا له أن ينتزعه، فقال: أما أنا فأرى أنه إن كان إنما أراد ذلك لحاجته إليه، فأرى ذلك له إن أراد أن يرفع جداره ويكون ذلك أضر به، فأما أن يكون على وجه الضرر له والشنآن، فلا أرى ذلك له، فقلت له: أذلك لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» ؟ فقال: إنا نقول: ليس له أن يفعله على وجه الضرر.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة من معنى المسألة المتقدمة في الرسم الذي قبله، وقد مضى القول عليه في سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية مستوعبا حسبما ذكرناه، فلا وجه لإعادته.
[: رجل قال لبيعه بع ولا نقصان عليك ثم رجع عن ذلك]
ومن كتاب فيه الوصايا والحج قال أشهب: وسمعت مالكا يسأل عن رجل، قال لبيعه: بع ولا(15/323)
نقصان عليك، ثم رجع عن ذلك، فقال: لو قال له قولا غارما بينا ثم رجع لم أر ذلك له، ورأيته لازما له، فقال له: أرأيت الذي يقول بعد إيجاب البيع: بع ولا نقصان عليك، فيبيع ثم يدعي أن قد نقص، قال: يصدق فيما يشبه وعليه اليمين.
قال: وسمعته أيضا يسأل عن المبتاع يقال له بع ولا وضيعة عليك، ثم يقول وضعت كذا وكذا، أيصدق؟ قال: نعم إذا جاء بما يشبه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا قال له بعد البيع: بع ولا نقصان عليك - يلزمه؛ لأن معنى قوله: بع ولا نقصان عليك: أن بع والنقصان علي، فهو أمر قد أوجبه على نفسه، والمعروف على مذهب مالك وجميع أصحابه لازم لمن أوجبه على نفسه، يحكم به عليه ما لم يمت أو يفلس، وسواء قال له ذلك قبل أن ينتقد أو بعدما انتقد إلا أن يقول له قبل أن ينتقد: أنقدني وبع ولا نقصان عليك، فلا يجوز ذلك؛ لأنه قد دخله بيع وسلف. وقال في سماع عيسى من كتاب العدة: إنه لا خير في ذلك؛ لأنه يكون فيه عيوب وخصومات، فإن باع بنقصان لزمه أن يرد عليه النقصان إن كان قد انتقد وإلا يأخذ منه أكثر مما باع به إن كان لم ينتقد، وهذا إذا لم يغبن في البيع غبنا بينا وباع بالقرب ولم يؤخر حتى تحول الأسواق، فإن أخر حتى حالت الأسواق فلا شيء له؛ لأنه فرط، والقول قوله مع يمينه في النقصان إذا أتى بما يشبه كما قال؛ لأنه قد ائتمنه على ذلك، فوجب أن يصدق إلا أن يأتي بما يستنكر.
واختلف إذا كان عبدا فأبق أو مات، فقيل له: إنه لا شيء له، وقيل: إنه موضوع عنه، وهو اختيار ابن القاسم في سماع عيسى من الكتاب المذكور، قال فيه: وأما إن كان ثوبا أو ما يغلب عليه فلا يصدق في تلفه إلا ببينة، ولا يحل للمشتري أن يطأها إن كانت أمة إذا رضي بالشرط وقبله، قال ابن(15/324)
القاسم: فإن وطئ لزمته الجارية بجميع الثمن، ولا يعدى على البائع بشيء؛ لأنه لما وطئ فقد ترك ما جعل له، وأما إذا باع منه على أن لا نقصان عليه فلا يجوز، واختلف إذا وقع، فقيل: إنه بيع فاسد، ويحكم له بحكم البيع الفاسد، وقيل: إنه ليس ببيع فاسد، وإنما هي إجارة فاسدة، وسيأتي القول على هذا في موضعه من كتاب العدة، إن شاء الله تعالى.
[: دفع إلى رجل حمارا ليحج عليه فتعدى عليه الحاج فباعه]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم وقال، في رجل دفع إلى رجل حمارا ليحج عليه فتعدى عليه الحاج فباعه بعشرة دنانير، ثم وجده الحاج بعد ذلك يباع فابتاعه بخمسة دنانير: إن صاحب الحمار بالخيار إن شاء يأخذ حماره وخمسة دنانير، وإن شاء ضمنه العشرة وترك الحمار.
قال محمد بن رشد: قال: إنه إذا باع الحمار بعشرة دنانير ثم اشتراه بخمسة، إن صاحبه بالخيار بين أن يأخذ حماره والخمسة، وبين أن يضمنه العشرة ويترك له الحمار، ولم يفرق بين أن يكون اشترى الحمار بخمسة لنفسه أو لربه، وكذلك روى ابن أبي جعفر الدمياطي عن ابن القاسم في رجل اغتصب حمارا فباعه بعشرين ثم اشتراه بعشرة فاستحقه صاحبه وهو عند غاصبه على حاله لم يتغير، قال: هو مخير، إن شاء أخذ حماره والعشرة التي يفضلها، وإن شاء تركه وألزمه العشرين التي كان باعه بها، ولم يفرق أيضا بين أن يكون اشترى الحمار بعشرة لنفسه أو لرب الحمار، ولا يصح أن يحمل الكلام على ظاهره في واحدة من المسألتين، بل يفسر بما قاله محمد بن المواز، وذلك أنه حكى المسألة الأولى على نصها، فقال: وهذا إذا اشتراه لربه، وأما لنفسه أو لمن يأمره بشرائه، فالخمسة له، وليس لرب الحمار إلا الرضا بالبيع الأول ويأخذ عشرة أو يأخذ حماره فقط.(15/325)
قال محمد بن رشد: قال أبو إسحاق التونسي: فإن أخذ حماره رجعت الخمسة إلى مشتريه أولا بعشرة؛ لأن رب الحمار إذا أخذ حماره بالاستحقاق انتقضت البيعتان جميعا، وكان المشتري الأول قد أخرج عشرة رجع إليه منها خمسة وبقي له خمسة، فرجع بها على البائع منه، وهو المستعير تمام العشرة التي دفع إليه، وقول أبي إسحاق صحيح مفسر لكلام ابن المواز، ألا ترى أنه لو باعه المستعير بعشرة، ثم باعه مبتاع بعشرة من آخر بخمسة، فجاء صاحبه فأخذه من يد الثاني لرجع الثاني على الأول بالخمسة التي دفع إليه، والأول على المستعير البائع منه بالعشرة التي دفع إليه، وهو دليل ما في سماع سحنون بعد هذا أنه إنما اشتراه لربه، ولو باع الحمار بعشرة ثم اشتراه بخمسة عشر كان صاحب الحمار بالخيار إن شاء أن يأخذ حماره أخذه، وإن شاء أن يجيز البيع الثاني فيأخذ الخمسة عشر من البائع الثاني الذي قبضها، وإن شاء أن يجيز البيع الأول فيأخذ العشرة من البائع الأول الذي قبضها وهو المستعير، فإن أخذ حماره انتقضت البيعتان جميعا ورجع المبتاع الثاني المأخوذ من يده الحمار على البائع منه، وهو المبتاع الأول بالخمسة عشر التي دفع إليه، ويرجع هو عليه بالعشرة التي باع الحمار بها منه ولا يقاصه بها من الخمسة عشر فيرجع عليه بخمسة لا أكثر، وإن أجاز البيع الثاني، فأخذ الخمسة عشر من البائع الثاني الذي قبضها صح البيع الثاني وانتقض البيع الأول، ورجع البائع الذي قبض صاحب الحمار منه الخمسة عشر على بائعه، وهو المشتري الثاني الذي بقي الحمار بيده بالعشرة التي دفع إليه، وإن أجاز البيع الأول وأخذ العشرة من البائع الأول وهو المستعير للحمار المشتري الثاني بقي الحمار بيده، وصحت البيعتان جميعا ولم يكن بينهما تراجع.
وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة كلاما لا يصح، قال: إنه إن أخذ الخمسة عشر صح البيع الأول وبقي الحمار للمشتري الأول، وإن أخذ العشرة بطل البيع الأول والثاني، وبقي الحمار للمستعير بالعشرة.
والصواب ما ذكرناه أنه إن أخذ الخمسة عشر صح البيع الثاني،(15/326)
وانتقض البيع الأول، وإن أخذ العشرة صحت البيعتان جميعا وبقي الخيار في الوجهين جميعا للمشتري الثاني والمستعير للحمار، وبالله التوفيق.
[: أعارت أخرى حجلة لها ولم تشهد على ذلك إلا امرأتان]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل: عن امرأة أعارت أخرى حجلة لها ولم تشهد على ذلك إلا امرأتان، فتزوجت المستعيرة، ودخلت المعيرة إلى الريف وأقامت عشر سنين وماتت المستعيرة فأتت المعيرة تطلب الحجلة وأنكر ورثة المستعيرة فشهدت المرأتان بالعارية وقد غابت الحجلة.
قال ابن القاسم: تحلف المرأة مع شهادة المرأتين بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضتها بعد عاريتها ولا باعت ولا وهبت، وتستحق ذلك في مال المتوفاة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المعيرة تحلف مع شهادة المرأتين بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضتها بعد عاريتها ولا باعت ولا وهبت، معناه: بعد يمينها مع شهادتها لقد أعارتها إياها، وهذا ما لا خفاء به، وإنما سكت عنه بالعلم به، إذ لا يخفي بأنها لا تستحق العارية بشهادة المرأتين دون يمين، فأراد أنها لا تكفي بحلفها مع شهادة المرأتين أنها أعارتها دون أن تحلف ما قبضتها بعد عاريتها ولا باعت ولا وهبت، ولا بد من أن تحلف أيضا على صفتها، فيكون في مال المتوفاة ما قومت به الصفة التي حلفت عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلكت العارية عند المستعيرة]
مسألة وقال: إذا هلكت العارية عند المستعيرة وصفتها وحلفت على الصفة إذا كانت العارية مما يغاب عليها، فإن نكلت عن اليمين(15/327)
وصفتها المعيرة وحلفت على الصفة وتستحق حقها، وذلك إذا لم يكن على صفتها شهود.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف أعلمه فيه في المذهب؛ لأن لمستعيرة غارمة لما تغيب عليها من المتاع، فالقول قولها في صفة ذلك على ما أحكمته السنة من أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
[: ادعى وكالة رجل يقبض له بها مالا وادعى تلفه]
ومن كتاب البراءة وسألته: عن الخادم أو الحرة تأتي قوما فتستعير منهم حليا وتزعم أن أهلها بعثوها فيعيرونها فيهلك الحلي منها فيجحد أهلها ويقرون أنهم بعثوها وقد هلك منها المتاع قبل أن تخلص إليهم، أو يأتي الرجل الرجل، فيقول: إن فلانا بعثني إليك لتعيره شيئا من متاعك أو تبتاع له بدين، قال: إن صدقوه الذين بعثوه فهم ضامنون والرسول برفي، وإن حجدوا وحلفوا ما بعثوه حلف الرسول بالله لقد بعثوه ولا شيء على كل واحد منهم؛ لأن الذين بعثوه لم يقروا له بشيء وإن الرسول قد صدقه الذين أعطوه بما جاء به من الرسالة، فليس عليهم أكثر من يمينهم بالله ما بعثوه، وإن أقر الرسول بأنه تعدى وكان حُرًّا ضَمِنَ، وإن كان عبدا كان في ذمته إن أعتق يوما ما أو أفاد مالا ولم يكن في رفقته شيء، قال: ولو زعم الرسول أنه قد أوصله إلى الذين بعثوه وجحدوه لم يكن عليهم ولا عليه إلا اليمين ويبروا.
قال محمد بن رشد: اختلف فيمن ادعى وكالة رجل يقبض له بها مالا وادعى تلفه، فقيل: يصدق فيما ادعى من الوكالة مع يمينه؛ لأن الغريم(15/328)
الدافع إليه قد صدقه، ويسقط عنه الضمان ويرجع صاحب المال بماله على الغريم بعد يمينه إن كانت للغريم بينة على معاينة الدفع، وهذا يأتي على رواية عيسى هذه، ولا يرجع الغريم على الوكيل بشيء؛ لأنه قد صدق فيما ادعى من الوكالة بيمينه، فكان ذلك كما لو ثبت بالبينة أو أقر بها صاحب المال على ما في كتاب النكاح الأول من المدونة إلا أن يكون فرط في دفع المال إلى الموكل حتى تلف عنده. قاله ابن الماجشون، وهو مذهب ابن القاسم، وحمله مطرف على التفريط، فأوجب للغريم الرجوع عليه، وقيل: لا يصدق وهو ضامن، يحلف صاحب المال ما وكله، ويرجع بماله على من شاء منهما، فإن رجع على الغريم رجع الغريم على الوكيل، وإن رجع على الوكيل لم يكن للوكيل أن يرجع على أحد، وهذا يأتي على ما في كتاب الوديعة من المدونة وعلى ما في سماع سحنون بعد هذا من هذا الكتاب لابن القاسم وأشهب.
فعلى القول بأن الوكيل يصدق فيما ادعاه فيحلف ويسقط عنه الضمان، وهو قوله في هذه الرواية: إن أقر بالعداء كان ذلك في ذمته إن كان عبدا، ولم تكن في رقبته؛ لأنه لا يلزمه عليها شيء إلا بالإقرار، وإقراره لا يجوز على سيده ولا يعدو ذمته.
وأما على القول بأنه لا يصدق فيما ادعاه من الوكالة ويلزمه الغرم بعد يمين صاحب المال أنه ما وكله، فاختلف إن كان عبدا، هل يكون ذلك في رقبته أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك يكون في رقبته، وإن كان الغريم قد صدقه فيما ادعاه من الوكالة ودفع إليه باختياره؛ لأنه خلبه، وهو قول أشهب وابن القاسم في سماع سحنون بعد هذا.
والثاني: أن ذلك لا يكون إلا في ذمته؛ لأن الغريم قد صدقه فيما ادعاه من الوكالة ودفع إليه باختياره.
والثالث: أن ذلك لا يكون في رقبته إلا أن يقر بالعداء، وبالله التوفيق.(15/329)
[: يستعير العارية مما يغيب عليه فيأتي به مكسورا]
ومن كتاب أوله باع شاة قلت لابن القاسم: فالرجل يستعير العارية مما يغيب عليه مثل الثوب أو الفأس أو المنشار أو غير ذلك فيأتي به مكسورا فيقول انكسر في الذي أعرتنيه، هل يصدق في ذلك؟
قال: لا يصدق فيه، وهو ضامن، وقال ابن وهب مثله، قال عيسى: لا ضمان عليه إذا أتي بذلك بما يشبه، ويرى أنه إنما انكسر في العمل؛ لأن ذلك لا يخفى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال: أحدها: قول ابن القاسم وابن وهب هذا أنه لا يصدق إذا أتى به مكسورا في أنه انكسر في الشيء الذي أعاره إلا أن يأتي على ذلك بالبينة، وهي رواية ابن أبي جعفر الدمياطي عن ابن القاسم أيضا.
والثاني: أنه يصدق إذا أتى من ذلك بما يشبه، وهو قول عيسى بن دينار، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وأصبغ، واختاره، غير أنه رأى من محاسن الأخلاق أن يصلحه.
والثالث: قوله في المدونة في السيف: إنه لا يصدق إلا أن يكون له بينة أنه كان معه في اللقاء.
والرابع: قول سحنون: أنه لا يصدق إلا أن يكون بينة أنه ضرب به في اللقاء ضربا يجوز له، وهذا أبعد الأقاويل.
وأولاها بالصواب قول عيسى بن دينار الذي اختاره ابن حبيب أن يصدق إذا أتى من ذلك بما يشبه، ويرى أنه إنما انكسر في العمل الذي أعاره فيه، يريد: مع يمينه، والله أعلم، وبه التوفيق.
[: الجدار يكون بين الدارين لأحد الرجلين ويكون قد مال]
من نوازل سئل عنها عيسى بن دينار وسئل عيسى: عن الجدار يكون بين الدارين لأحد الرجلين(15/330)
ويكون قد مال، فيسأل الذي ليس هو له صاحبه الذي هو له أن يأذن له يهدمه، فيهدمه ويبنيه له على أن يحمل عليه خشب بيته فيفعل، هل يكون سبيل هذا سبيل العارية، يكون المعير إذا احتاج إلى جداره أولى به من المعار؟ قال: بل سبيله عندي الاشتراء، لا يكون لصاحب الجدار أن يرفع خشب الباني عنه أبدا وإن احتاج إليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، إذ لا فرق بين أن يسمي له حائطه على أن يحمل عليه خشب بيته وبين أن يعطيه على ذلك دنانير أو دراهم، وإنما الاختلاف إذا أذن له في ذلك على غير عوض، ثم أراد أن ينزعها حسبما مضى القول فيه مستوفى في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.
[: يستعير الثوب المرتفع أو الدني يحبسه ويمسك مصباحا فيسقط على الثوب فيفسده]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم وسألته: عن الرجل يستعير أو يكتري الثوب المرتفع أو الدني يحبسه ويمسك مصباحا فيسقط على الثوب فيفسده، أيضمن ما أفسد فيهما أو لا؟ فقال: نعم، ضمان ذلك واجب عليه في الرفيع والدني، فإن كان يسيرا أصلحه وإن كان مفسدا غرم قيمة الثوب وحبسه، قال: وسواء سقط على ثوب استعاره، أو سقط على رجل كان إلى جنبه هو ضامن في الأمرين جميعا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(15/331)
[: يستعير الدابة إلى موضع يركبها إليه فيبيعها قبل أن ينتهي الموضع بعشرة دنانير]
من سماع سحنون من ابن القاسم قال: وسألته: عن الرجل يستعير الدابة إلى موضع يركبها إليه فيبيعها قبل أن ينتهي الموضع بعشرة دنانير، فلما رجع اشتراها بخمسة دنانير وأتى بها إلى صاحبها، قال ابن القاسم: سيد الدابة بالخيار إن شاء أخذ دابته والخمسة دنانير التي نقصها البائع لأنها ثمن دابته، وإن شاء أخذ العشرة دنانير، وكذلك بلغني عن مالك.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: وأتى بها إلى صاحبها - يدل على أنه إنما اشتراها لربها، وعلى ذلك أتى جوابها به وقد مضى الكلام على ذلك في أول سماع عيسى فلا وجه لإعادته.
[مسألة: ركوب الدابة إلى غير البلد الذي استعارها إليه]
مسألة قال سحنون: أخبرني علي بن زياد أنه سمع مالكا يقول، وسئل: عن رجل استعار دابة إلى بلد سماه فركبها إلى غير ذلك البلد الذي استعارها إليه فعطبت الدابة، أتراه ضامنا أم لا؟ فقال مالك: إن كان البلد الذي ركبها إليه في السهولة والحزونة مثل البلد الذي استعارها إليه فلا ضمان عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: لا ضمان عليه - يدل على أنه ليس بمتعد في ركوبها إلى غير البلد الذي استعارها إليه إذا كان مثله في السهولة والحزونة وأن له أن يفعل ذلك، ولابن القاسم في المبسوطة أنه ضامن إن ركبها إلى غير البلد الذي استعارها إليه، وهو الذي يأتي على أصله في كتاب الرواحل والدواب من المدونة في أن من أكرى دابة إلى بلد فليس له أن يركبها إلى بلد(15/332)
غير ذلك البلد إلا برضا المكري، وعلى قول غيره فيه: إن ذلك لا يجوز وإن رضي المكري، فيأتي على رواية علي بن زياد هذه أن من أكرى دابة إلى بلد فله أن يركبها إلى بلد غيره إن كان مثله في الحزونة والسهولة.
ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك له. والثاني: أن ذلك ليس له. والثالث: أن ذلك لا يجوز. وقد مضى هذا المعنى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة وفي آخر سماع أشهب من كتاب الرواحل والدواب، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يطلب الشيء فيعطاه ثم يدعى تلفه]
مسألة وسألت أشهب: عن العبد يأتي إلى الرجل، فيقول: سيدي أرسلني إليك في كذا وكذا فيعطاه، ثم يزعم العبد أنه أعطاه إلى سيده أو يتلف، وينكر السيد، قال: أراه فاجرا خلابا، وأرى ذلك في رقبته كالجناية، فلو كان حرا كان دينا عليه. وسألت عنها ابن القاسم، فقال: إنما هو على أحد وجهين، إذا أقر السيد غرم، وإن لم يقر كان في رقبته لأنه خدع القوم.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن ذلك يكون في ذمته، ولا يكون في رقبته، وهو الذي يأتي على ما في رسم البراءة من سماع عيسى قبل هذا، وإنما يكون ذلك في رقبة العبد بعد يمين السيد أنه ما أرسله إن حقق المرسل إليه الدعوى عليه باتفاق، وإن لم يحققها عليه على اختلاف، فإن نكل عن اليمين رجعت على المرسل إليه إن حقق الدعوى باتفاق، وإن كان لم يحققها على اختلاف، ويكون الغرم عليه يباع فيه عليه العبد وغيره من ماله، وعلى ما مضى في رسم البراءة من سماع عيسى يحلف العبد لقد تلف أو لقد دفعه إلى سيده ويسقط عنه الضمان ويحلف السيد إن كان ادعى أنه دفعه إليه ويسقط عنه الضمان أيضا، وبالله التوفيق.(15/333)
[مسألة: اشترط المستعير أو المرتهن أن لا ضمان عليه فيما يغاب عليه]
مسألة من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم قال أصبغ: وسمعته، يقول في المستعير للعارية بضمان مثل الدابة وما يظهر أنه لا ضمان عليه إذا لم يفرط ولم يتعد، وقال أصبغ: وشرط المعير باطل ساقط؛ لأنه شرط خلاف السنة في ذلك، وقال أشهب، في العارية والرهن يشترط المستعير والمرتهن أن لا ضمان عليه: إن شرطه باطل وإنه ضامن فيهما جميعا، سئل عن هذا فأجاب بهذا، ولم أسمعه فحكى قوله بعض أهل المجلس لبعض وهو يسمع، فلم ينكر ذلك وسكت عليه، وقاله أصبغ، وقد قاله ابن القاسم لي سواء.
قال محمد بن رشد: أما إذا اشترط المعير على المستعير ضمان ما لا يغاب عليه فقول مالك وجميع أصحابه: إن الشرط باطل جملة من غير تفصيل، حاشا مطرف فإنه قال: إن كان شرط عليه الضمان لأمر خاف من طريق مخوفة أو نهر أو لصوص أو ما أشبه ذلك فالشرط لازم إن عطبت في الأمر الذي خافه واشترط الضمان من أجله، وقال أصبغ: لا شيء عليه في الوجهين، مثل قول مالك وأصحابه، وينبغي إذا اشترط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب عليه فأبطل الشرط بالحكم عن المستعير أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية؛ لأن الشرط يخرج العارية عن حكم العارية وسنتها إلى باب الإجارة الفاسدة؛ لأن رب الدابة لم يرض أن يعيره إياها إلا أن يشترط أن يحرزها في ضمانه، فهو عوض مجهول يرد إلى المعلوم.
وأما إذا اشترط المستعير أو المرتهن أن لا ضمان عليه فيما يغاب عليه أو اشترط ذلك الصانع فشرطه باطل. قال ابن القاسم في المدونة في الرهن وفي(15/334)
بعض الروايات فيها في العارية والصانع، وقال أشهب هاهنا في العارية والرهن: وكذلك يلزم على قياس ذلك في الصانع، وقد حكى ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب في الصانع يشترط أن لا ضمان عليه: إن شرطه جائز ولا ضمان عليه، فيلزم على قياس قوله مثله في العارية والرهن؛ لأنه إذا لزم الشرط في الصانع فأحرى أن يلزم في المستعير؛ لأن المعير إذا أعاره على أن لا ضمان عليه فقد فعل المعروف معه من وجهين، فالأظهر إعمال الشرط وما لإسقاطه وجه إلا أن يكون ذلك من باب إسقاط حق قبل وجوبه، فلا يلزم على أحد القولين.
وقد يحتمل أن يفرق على مذهبه بين الصانع والمستعير أن الأصل في الصناع أنه لا ضمان عليهم لأنهم أجراء، وإنما ضمنوا لمصلحة العامة، والأصل في العارية عنده الضمان «لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لصفوان بن أمية: "عارية مضمونة مؤداة» ؛ لما سأله عما استعاره منه من السلاح والأداة، هل هي مضمونة أو مؤداة؟ ألا ترى أنه يضمن المستعير.
وإن قامت البينة على التلف فرأى إعمال الشرط في الصانع؛ لأنه اشترط ما هو الأصل، ولم ير إعماله في العارية؛ لأنه اشترط خلاف الأصل، والأول أظهر؛ لأنه اختلاف من قوله، وإلا فرق في ذلك بين الصانع والمستعير، إذ قد روى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ليس على المستعير ضمان» ، وإذا وجب على المستعير ضمان(15/335)
العارية فإنه يضمن قيمة الرقبة يوم انقضاء أجل العارية على ما ينقصها الاستعمال المأذون فيه بعد يمينه لقد ضاعت ضياعا لا يقدر على ردها؛ لأنه يتهم على أخذها بقيمتها بغير رضا صاحبها، وبالله التوفيق.
[: ثمرة العارية تكون للمعري]
من سماع محمد بن خالد
قال محمد بن خالد: وسألت ابن القاسم: عن رجل يعري رجلا نخلا من نخله حياة المعرى فيموت المعرى وقد أبر النخل لمن تكون الثمرة؟ قال مالك: للمعري ما لم تطب الثمرة، فإن مات وقد طابت الثمرة فمن كان أعرى فذلك لورثته.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في هذه الرواية: إن ثمرة العارية تكون للمعري وإن أبرت ما لم تطب - صحيح على قياس القول بأن السقي والزكاة على المعري؛ لأنه رأى العارية باقية على ملكه ما لم يطب؛ لأنها حملها محمل الحبس، وعلى القول بأن السقي والزكاة على المعرى يكون حكمها حكم الهبة لا حكم الحبس، ويستحقها المعرى بالإبار، وتكون لورثته إن مات قبل الطياب، وهو مذهب أشهب أن التمرة تجب لورثة المحبس عليه بالإبار كالهبة، وكذلك العارية على قياس قوله، وبالله التوفيق لا شريك له.
تم كتاب العارية بحمد الله تعالى(15/336)
[: كتاب العدة] [: هلك وعليه مشي إلى بيت الله فسأل ابنا له أن يمشي]
من سماع ابن القاسم من كتاب أوله باع غلاما وسألت مالكا: عن رجل هلك وعليه مشي إلى بيت الله فسأل ابنا له أن يمشي فوعده بذلك، قال: أما إذا وعده فإني أحب له أن لو فعل ذلك به، ولكن ما ذلك رأيي أن يمشي أحد عن أحد ولكني أحب إذا وعده أن يفعل ذلك به.
قال محمد بن رشد: تكررت المسألة بعينها في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج، والمعنى فيها: أن مالكا استحب له أن يفي لأبيه بما وعده به من أن يمشي عنه وإن كان ذلك عنده لا قربه فيه من ناحية استحباب الوفاء بالوعد في الجائزات، وبالله التوفيق.
[: يبتاع من الرجل السلعة على أن لا نقصان عليه]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم قال عيسى: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يبتاع من الرجل السلعة على أن لا نقصان عليه، قال مالك: ليس بيعا، فإن باع فله إجارته وإن أدرك قبل أن يفوت فسخ ذلك، وإن كان عبدا فمات في يديه كانت مصيبته من البائع.(15/337)
قلت له: فإن أعتقه المشتري على هذا الشرط؟ فإن عتقه جائز وتكون عليه القيمة وإن كانت جارية فأحبلها كانت عليه القيمة ومضى البيع لأنه أمر قد اختلف فيه.
ولقد كان عبد العزيز بن أبي سلمة يقول: إن مات فضمانه من المبتاع، ولكنا نتبع مالكا في الموت إذا فات إنه من البائع، قال: فإن فات بحمل أو عتق كان عليه القيمة، قال أصبغ: قلت لابن القاسم: فإن كانت جارية فوطئها المبتاع فحملت أو لم تحمل أو أعتقها أو وهبها أو تصدق بها؟ قال: يكون عليه بالثمن الذي اشتراها به؛ لأنه ذلك رضا منه بالثمن إذا فعل ذلك، وذلك أحمل للقياس؛ لأني إن جعلته أجيرا لم أجز بيعه ولا هبته ولم أجعلها أم ولد ... وإن أبا أنا جعلته بيعا فاسدا وألزمته القيمة لم يحمله القياس، وأحب إلي أن يلزمه الثمن في الفوت في هذه الأشياء الذي سألت عنها وأجعل ذلك رضا منه بالثمن.
قلت له: فإن جاء بالبيع؟ فقال: عليه قيمة ما جاء به، قال عيسى: قلت: فإن قال له ذلك بعد البيع ولم يقل له ذلك في عقدة البيع: بع ولا نقصان عليك، قال: إذا يلزمه ذلك إن باع بنقصان، وهو قول مالك أيضا، قال أصبغ: وأما إذا كان عبدا فأبق أو مات وكان الشرط بعد عقد ففيه اختلاف، والذي أقول أنا به: إنه موضوع عن المشتري، وأما إذا ذهب الثوب فلا يقبل قوله إلا ببينة أنه ذهب وإلا فهو منه، ولا يحل للمشتري أن يطأها إذا رضي بالشرط وقبله، قال لي ابن القاسم: فإن وطئ لزمته الجارية بجميع الثمن، ولا(15/338)
يعدى على البائع بشيء؛ لأنه لما وطئ فقد ترك ما جعل له.
قال عيسى: قلت له: فرجل اشترى من رجل سلعة ونقده الثمن ثم جاءه بعد ذلك يستوضعه؟ قال: اذهب بع ولا نقصان عليك، قال: لا بأس بهذا إذا كان قد انتقد، فإن لم يكن انتقد، فقال له: بع ولا نقصان عليك من غير أن ينقده أيضا، فلا بأس به، وإن قال له: أنقدني وبع ولا نقصان عليك فلا خير فيه، قلت: لم ذلك؟ قال: لأنه يكون فيه عيوب وخصومات.
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه فيما علمت على أنه لا يجوز أن يبيع الرجل سلعته أو جاريته من الرجل بثمن يسميه له على أنه لا نقصان عليه منه فإن وقع وعثر عليه قبل أن يفوت بوجه من وجوه الفوت فسخ، وإن لم يعثر عليه حتى فات ببيع أو حوالة سوق أو موت، فاختلف هل يحكم بذلك بحكم البيع الفاسد أو بحكم الإجارة الفاسدة، فقيل: إنه يحكم في ذلك بحكم البيع الفاسد فيصح البيع في ذلك كله بالقيمة يوم القبض وهو أحد قولي مالك وأحد قولي عبد العزيز بن أبي سلمة، وقيل: إنه يحكم في ذلك كله بحكم الإجارة الفاسدة؛ لأنه كأنه استأجره على بيعها بما كان فيها من ربح، وعلى الثمن الذي سماه له، فتكون المصيبة فيها من البائع إن ماتت وترد إليه إن كانت فاتت بحوالة أسواق أو عيب من العيوب المفسدة، ويكون له الثمن الذي بيعت به إن فاتت بالبيع كان أقل من الثمن الذي سمي له أو أكثر، ويكون للمبتاع إجارة مثله في بيعه إياها، وهذا قول مالك في هذه الرواية وقوله في موطئه وقول عبد العزيز بن أبي سلمة في الواضحة.
وأما إن لم يعثر على ذلك حتى أفاتها المبتاع بهبة أو صدقة أو عتق إن كان عبدا أو حمل إن كانت أمة فاختلف في ذلك على القول بأنها إجارة فاسدة، فقيل: إنه يكون على المبتاع في ذلك القيمة، يريد: يوم الهبة أو الصدقة أو العتق(15/339)
أو الإحبال مراعاة لقول من يقول: إنه بيع فاسد، فيراها في ضمانه بالقبض، وهو خلاف قول مالك في هذه الرواية، وقيل: إنها تكون عليه بالثمن الذي اشتراها به؛ لأن ذلك رضا منه بالثمن، وهو قول ابن القاسم من رواية أصبغ عنه في هذه الرواية، وأما على القول بأنه بيع فاسد فتكون عليه القيمة في ذلك كله يوم القبض على حكم البيع الفاسد قولا واحدا واختلف في هذه المسألة أيضا قول ابن القاسم؛ لأن ابن حبيب حكي عنه: أنه بيع فاسد لا إجارة فاسدة مثل قول مالك الذي رجع إليه، خلاف قوله في هذه الرواية وفي موطئه، وقوله في رواية أصبغ عنه في هذه الرواية: إنها يكون عليه بالثمن إن فوتها بعتق أو هبة أو صدقة أو إيلاد يأتي على قياس قول مالك في هذه الرواية في موطئه، وقد مضى في آخر سماع أشهب من كتاب العارية القول مستوفى في إذا باع منه بيعا صحيحا دون شرط ثم قال له بعد البيع: بع ولا نقصان عليه، فأغنى ذلك عن إعادته.
[مسألة: يشتري من الرجل طعاما نقدا أو إلى أجل]
مسألة قلت: فالرجل يشتري من الرجل طعاما نقدا أو إلى أجل فاستغلاه، فقال للبائع: أقلني، فقال: بع ولا نقصان عليك، ثم قال: بع عشرة أرادب فما نقص منها وضعت لك من كل عشرة بحساب ذلك، وكان اشترى منه مائة إردب بثلاثين دينارا، فباع العشرة بدينارين، فوضع عنه عشرة دنانير.
فقال: هذا لا بأس به، وسواء كان نقدا أو إلى أجل، قبض الثمن أو لم يقبض.
قال محمد بن رشد: قوله: يشتري من الرجل طعاما نقدا أو إلى أجل، معناه: بثمن نقدا أو بثمن إلى أجل.
وقوله في آخر المسألة: إن هذا لا بأس به، وسواء كان نقدا أو إلى أجل(15/340)
قبض الثمن أو لم يقبض - كلام فيه نظر، أما إذا لم يقبض البائع الثمن فوضع عن المبتاع منه العشرة التي انتقص في الطعام فلا إشكال في أن ذلك جائز؛ لأنه يصير ثمن الطعام له عليه بما بقي منه بعد الوضيعة، وأما إن كان قد قبض ثمن الطعام منه وغاب عليه ثم رد إليه منه ما انتقص في ثمن الطعام فهذا لا يجوز، ويدخله البيع والسلف؛ لأن ما رد إليه من الثمن يكون سلفا، وما بقي منه يكون ثمنا للطعام، فيتهمان على القصد إلى ذلك والعمل عليه، كانا من أهل العينة أو لم يكونا إن كان الثمن إلى أجل، وإن كان الثمن نقدا فلا يتهمان في ذلك إلا أن يكونا من أهل العينة، وهذا في ما يوجبه الحكم بالمنع من الذرائع، فإن طلب المبتاع الوضيعة لم يحكم له بها في الموضع الذي يتهمان فيه على أنهما قصدا إلى البيع والسلف.
وإن لم يعثر على ذلك حتى يقبض المبتاع العشرة فيتخرج ذلك على قولين: أحدهما: أنه يرد العشرة إليه ولا يفسخ البيع، والثاني: أنه يفسخ البيع ولا شيء عليهما في ذلك فيما بينهما وبين الله تعالى إن كانا لم يعملا على ذلك ولا قصدا إليه، وقد مضى في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال ما فيه بيان هذا المعنى، فَقِفْ عليه وَتَدَبَّرْهُ يَبِنْ لك وَجْهُهُ إن شاء الله.
[مسألة: البيع على أن لا نقصان على المشتري]
مسألة قال عيسى: وسألته عن رجل اشترى من رجل طعاما بعينه، فلما ذهب يقبضه وجده مسوسا فمخطه، فقال له البائع: بع ولا وضيعة عليه، فحمله في سفينة فغرقت السفينة.
قال: مصيبته من البائع؛ لأن البيع الأول لم يكن بشيء، وإنما هو بيع حادث فضمانه من البائع، ويعطي المشتري أجرته فيما حمله وشخص فيه.(15/341)
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على قياس القول بأن البيع على أن لا نقصان على المشتري بشرط في أصل العقد إجارة فاسدة تكون المصيبة فيها من البائع، ويكون للمبتاع أجر مثله؛ لأنه لما وجد المبتاع الطعام مسوسا وجب نقض البيع، فقوله له بعد وجوب البيع لما وجب رده بسبب العيب: بع ولا نقصان عليك، بمنزلة قوله ذلك في أصل العقد؛ لأنه الآن بيع مبتدأ، وقد مضى القول على حكم هذا البيع وما فيه من الاختلاف قبل هذا، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: اشترى كرما فخاف الوضيعة فأتى يستوضعه فقال له بع وأنا أرضيك]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب، وسئل عن رجل اشترى كرما فخاف الوضيعة فأتى يستوضعه، فقال له: بع وأنا أرضيك.
فقال: إن باع برأس المال أو بربح فلا شيء له، وإن باع بوضعية كان عليه أن يرضيه، فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد، وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف أنه ما أراد أكثر منه يوم قال له ذلك، قال: فسألت عنها ابن وهب فقال: عليه رضاه فيما بينه وبين ثمن السلعة والوضيعة فيها، وهو أحب إلي، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: كذا وقع قول ابن وهب هاهنا، عليه رضاه فيما بينه وبين ثمن السلعة والوضيعة فيها، وهو كلام ملتبس المعنى، وقد وقعت هذه المسألة بعينها في آخر أول رسم من سماع أصبغ من كتاب جامع البيوع فقال فيها: عليه رضاه بما يشبه ثمن ملك السلعة والوضيعة فيها، وهو المعنى الذي أراد هنا، فيفسر بما وقع من قوله هناك، وقد مضى القول هناك على هذه المسألة مستوفى، فلا معنى لإعادته مرة ثانية هنا.(15/342)
[: ما يلزم من العدة]
قلت لسحنون: ما الذي يلزم من العدة في السلف والعارية.
قال: ذلك أن يقول الرجل للرجل: اهْدِمْ دَارَكَ وأنا أسلفك، واخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو تزوج امرأة، وما أشبه هذه الأشياء مما يدخله ويكون سبب دخوله لموعده، فهذه العدة تلزم، فأما أن يقول رجل لرجل أنا أسلفك أو أنا أعطيك وذلك لغير شيء ألزمه نفسه المأمور بأمر الأمر فهذا لا يلزم.
وسئل أصبغ عن العدة والرأي الذي يقضى به على من كان ذلك منه، وعن العدة التي لا يلزم بهما الحكم بما وعد، قلت: أرأيت لو أن رجلا أتاني فقال لي إني أريد النكاح فأسلفني مائة دينار لأجل كذا وكذا أقضيكها إن شاء الله، فقلت له: نعم أنا أسلفك فانكح، فذهب فنكح ثم جاء يستسلفني المائة، فقلت: قد بدا لي ألا أسلفك؟ وإنما قلت لك سأفعل، ولست أسلفك شيئا، هل يحكم علي بمثل هذه العدة، قال: نعم يحكم عليك بأن تسلفه ما وعدته على هذا السبب ويجبرك السلطان.
قلت: فإن كان لم ينكح على عدة حتى بدا لي في العدة فأعلمته قبل أن ينكح أني لا أسلفك شيئا، أيلزمني القضاء بما وعدته ولم يدخل من سبب وعدي في شيء يلزمه به شيء؟
قال: لا رجوع لك فيه سواء نكح أو لم ينكح إذا كنت قد وعدته على سبب النكاح وأخبرك حين سألك السلف بالذي يريده له وبين لك حاجته فوعدته أن تسلفه على ذلك، فالعدة تلزمك بالحكم(15/343)
نشب في الأمر الذي سألك السلف له أو لم ينشب فيه بعد، قال: وكذلك لو جاء، فقال لك: أعرني دابتك أركبها غدا إلى موضع كذا وكذا، وسمى لك حاجته، فقلت: نعم أنا أعيرك غدا، ثم بدا لك لم يكن ذلك لك، ويحكم عليك بعاريته.
قلت: فإن قلت لرجل: أسلفني مائة دينار إلى أجل كذا وكذا فإني أريد شراء جارية فلان أو دابة فلان أو سلعة من السلع، فقال: نعم أسلفك، ثم بدا له أن لا يفعل؟ قال: يحكم عليه بأن يسلفك ما وعدك، قال: وكذلك لو جئته، فقلت له: إن غرمائي يلزمونني بدين لهم علي وهو كذا وكذا فأسلفني أقضهم، قال: نعم، ثم بدا له لم يكن ذلك له، ويحكم عليه بأن يسلفك ما وعدك.
قلت: وكيف تلزمني هذه العدة ويحكم علي بها، وإنما أنا رجل قلت له: أنا أفعل، ولم أقل: قد فعلت، فيكون علي بواجب، وإنما هي كذبة كذبتها، فقلت: أنا أسلفك أو أعيرك، ثم بدا لي في ذلك ومالي في يدي وأنت أيضا لم تنشب في نكاح بسبب عدتي ولا ألزمك شرا ولا تجهزت لسفرك على عدتي فيكون هذا شيئا أدخلته عليك فيلزمني لذلك إمضاء ما وعدتك به للذي دخلت فيه من أجل عدتي.
قال: إنما يلزمك ذلك؛ لأن «وأي المؤمن واجب» جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ. سحنون عن ابن وهب عن هشام بن سعد يرفعه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وأي المؤمن واجب» قال: فتفسير الوأي العدة، قال: وقضى بها عمر بن عبد العزيز.(15/344)
ابن وهب عن يونس بن زيد عن ابن شهاب: أن قوما وعدوا رجلا في أعطياتهم بشيء وجدوه منها إذا خرجت فنكصوا عنه، فرافعهم إلى عمر بن عبد العزيز فقضى له عليهم بها، وهو كتاب النظرة بالدين إذا وأوا أو وعدوه بالنظرة وعدا.
قلت: فالعدة التي لا يحكم بها، ما هي؟
قال: يأتيك رجل فيقول أعرني دابتك أو أسلفني كذا وكذا بغير سبب يذكره من نكاح يريده، أو سفر يصفه، أو حاجة نزلت به في ذلك يصفها أو دين يريد قضاءه، إلا أنه كلام هكذا، فقال لك: أسلفني، فقلت: نعم أسلفك مائة دينار وأعيرك دابتي غدا، فإذا كانت العدة هكذا لم يعدها بسبب الحاجة التي يريدها له حتى تكون إنما وعدته على سبب ما وصفت لك من حاجته إلى ما سألك واضطراره إليه بالذي يريد بالدخول فيه من سبب عدتك فوعدته على ذلك فلا شيء عليك إن بدا لك ولكن إذا قاد العدة أبدا سبب الحاجة التي أرادها فوعدته بعد علم بالذي أرادها له وبين لك سبب حاجته إلى مالك فوعدته فذلك يلزمك له نشب في شيء من حاجته التي سألك فيها الذي وعدته أو لم ينشب إلا أن يترك الأمر الذي وعدته من أجله تركا فتسقط العدة عنه.
قلت: أرأيت لو أتيت رجلا، فقلت له: إني أريد غدا جمع أزواج للحرث فأعرني زوجك يحرث عندي غدا، ثم بدا له أن يعيرني، قال: أرى أن يلزمه إذا كنت قد أخبرته بإجماعك على العمل غدا ولجمعك الأزواج ونصبك لذلك، فليس له أن يرجع عما وعدك،(15/345)
قال: وكذلك لو أن لك على رجل دينا فسألك أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا، فقلت: أنا أؤخرك ثم بدا لك أن لا تؤخره، لم يكن ذلك لك، ولزمك تأخيره إلى هذا الأجل.
قلت: وسواء قلت له: أنا أؤخرك أو قد وخرتك؟ قال: نعم هما سواء في الحكم عليك، غير أن قولك أنا أؤخرك عدة تلزمك، وقولك وقد وخرتك شيء واجب عليك؛ لأنه في أصل حقك لم تبتده الساعة، فكلاهما يلزمك الحكم به، غير أن قولك قد وخرتك أوجبها وأوكدها وأثبتها فيما يلزم به الحكم وإن كانا لازمين جميعا، قال أصبغ: جيدة، قيل له: فما سألناك عنه من العدة بالسلف؟ قال: إن قال له أسلفني كذا وكذا فإني أريد النكاح أو إني أريد أن أشتري سلعة أو شيئا مما أراد له السلف، فقال: نعم أنا أسلفك ما سألت ولم يكن الطالب سمى أجلا يسلفه إليه أكثر من قوله: أسلفني كذا وكذا، فقال: نعم، ثم بدا له أن لا يسلف شيئا، أيكون هذا وعدته على غير ذكر الأجل سواء؟ قال: نعم سمى أجلا أو لم يسمه له، يقضي عليه فيهما جميعا وليس له أن يبدو له ذكر الأجل أو لا يذكره له.
قلت: فإن المسلف يقول لم أعده بأن أسلفه إلى أجل بأن يحكم له بأن يسلفه ما وعده فأنا أدفع إليه ما وعدته من السلف وآخذه منه مكاني؛ لأنه حال ليس بيني وبينه فيه أجل؟ قال: يقضي عليه بأن يسلفه ما وعده به، وليس له أن يأخذه منه من ساعته حتى ينتفع به المتسلف ويمضي القضاء في قرب ذلك أو بعده فيعمل على قدر ذلك، فأما أن يعطيه السلف ثم يأخذه منه في المجلس فإن هذا لا(15/346)
يكون؛ لأنه إذا أخذه منه في المجلس فكأنه سلف لم يتم الحكم ولا القضاء به.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول فيها في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، فلا معنى لإعادته.
[: يسأل رجلا دينارين فأتاه بدينار فأبى أخذه إلا جميعا]
من سماع أصبغ من ابن القاسم
قال أصبغ: سئل أشهب: عن رجل يسأل رجلا دينارين فأتاه بدينار فأبى أخذه إلا جميعا، أيجبر على ذلك؟ فقال: إن كان الذي عليه الحق موسرا لم يجبر الطالب على أخذ الدينار، وأجبر الغريم على دفع الدينارين جميعا، وإن كان معسرا أجبر الطالب على أخذ الدينار وَأُنْظِرَ المطلوب بما بقي عليه، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: وقع قول أشهب هذا في رسم البيوع والعيوب من سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، ووصل بذلك، وروى أبو زيد عن ابن القاسم في الرجل يكون له على الرجل حق وقد حل فيأتيه ببعض حقه فيقول لا أقبله منك إلا جملة، أله ذلك أم يجبر على قبض ما جاء به؟ قال: أرى أن يجبر على قبض ما جاء به، وتكلمنا هناك على المسألة بما أغنى عن رده فمن أحب الوقوف عليه تأمله في موضعه، وبالله التوفيق.
تم كتاب العدة بحمد الله تعالى(15/347)
[: كتاب اللقطة] [: اللقطة مثل المخلاة والحبل والدلو وأشباه ذلك]
من سماع ابن القاسم من مالك بن أنس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، في اللقطة مثل المخلاة والحبل والدلو وأشباه ذلك: أنه إن كان في طريق وضعت في قرب الأماكن إلى ذلك الموضع، وإن كان في مدينة انتفع به وعرفه، وإن تصدق به أحب إلي، وإن جاء طالبه كان على حقه.
قال محمد بن رشد: قوله في اللقطة مثل المخلاة والحبل والدلو وأشباه ذلك من اليسير الذي له قدر وفيه منفعة ويعلم بمستقر العادة أن صاحبه شح به ويطلب أنه يعرفه، وإن كان في طريق وضعه في أقرب المواضع إليه صحيح لا اختلاف في وجوب تعريف ذلك، وإنما اختلف في حد تعريفه، فقيل: إنه يجب تعريفه حولا كاملا كالكثير الذي له قدر وبال، وهو ظاهر ما حكى ابن القاسم عن مالك في المدونة، بدليل أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بتعريف اللقطة حولا ولم يفرق بين قليل ولا كثير، وقيل: إنه ليس عليه أن يبلغ بتعريف اليسير حولا، وهو قول ابن القاسم من رأيه في المدونة، ورواية عيسى عن ابن وهب بعد هذا في رسم النسمة من سماعه في مثل الدرهمات والدينار أنه يعرف ذلك أياما، وأما اليسير جدا الذي لا قدر له ولا بال ويعلم بمستقر العادة أن صاحبه لا يشح به ولا يطلبه فإنه لا يجب على واجده أن يعرفه، وله أن يأكله إن كان طعاما وينتفع به دون تعريف إن كان عرضا مثل(15/349)
العصا والسوط وما أشبه ذلك، وهو نص قول أشهب في الذي يجد العصا والسوط: إنه يعرفه فإن لم يفعل فأرجو أن يكون خفيفا.
وقوله في هذه الرواية في اليسير الذي له قدر وفيه منفعة إنه إن كان في مدينة انتفع به وعرفه، وإن تصدق به أحب إلي معناه عرفه وانتفع به، يريد: بعد التعريف، فالكلام فيه تقديم وتأخير.
وقوله: وإن تصدق به أحب إلي. معناه: بعد التعريف.
وقوله: وإن جاء طالبه كان على حقه، يريد: في الصدقة والانتفاع جميعا إن كان انتفاعه به وقد أنهكه أو نقصه فإن وجدها صاحبها في الصدقة بأيدي المساكين وهي على حالها لم يكن إلا أن يأخذها، وهذا إن كان تصدق بها عنه، وأما إن كان تصدق بها عن نفسه فله أن يضمنها قيمتها إن شاء ويدعها في أيدي المساكين، وأما إن وجدها بأيدي المساكين وقد نقصت فهو مخير بين أن يضمنه قيمتها يوم تصدق بها أو يأخذها من أيدي المساكين ولا شيء له في نقصانها، وهذا إن كان تصدق بها عنه أيضا، وأما إن كان تصدق بها عن نفسه فهو مخير بين أن يضمنه قيمتها يوم تصدق بها وبين أن يأخذها من أيدي المساكين ناقصة ويرجع عليه بما نقصها، واختلف إن أكلها المساكين هل له أن يضمنهم إياها أم لا؟ فقال في المدونة: ليس ذلك له، وقال أشهب: له أن يضمنهم إن شاء ويدع الملتقط، وإن شاء أخذ الملتقط بقيمتها يوم تصدق بها، قال: وسواء في هذا تصدق بها عن نفسه أو عن ربها، وإن وجدها صاحبها بيد الملتقط وقد أنقصها بالاستعمال أخذها وما نقص منها، وإن كان قد أنهكها به كان بالخيار بين أن يضمنه قيمتها أو يأخذها ناقصة ولا شيء له أو يأخذها وقيمة ما نقصها، وقد قيل: إنه ليس له إلا ما نقصها، وقد مضى ذكر هذا الاختلاف في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب العارية وفي غيره من المواضع، وإن وجدها صاحبها بيد الملتقط على حالها فلا كراء عليه(15/350)
في استعماله إياها لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها» .
واختلف: هل للملتقط أن يستنفق اللقطة بعد التعريف أم لا؟ على أربعة أقوال:
أحدها: أنه ليس له أن يستنفقها غنيا كان أو فقيرا، وهو مذهب مالك، ومعنى قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عنده: «فشأنك بها» أنه مخير فيها بين أن يزيد في تعريفها أو يتصدق بها عن صاحبها، فإن جاء كان مخيرا بين أن ينزل على أجرها أو يضمنه إياها.
والثاني: أن له أن يستنفقها غنيا كان أو فقيرا على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فشأنك بها» فإن جاء صاحبها غرمها له، وهو مذهب الشافعي.
والثالث: أنه ليس له أن يستنفقها إلا أن يحتاج إليها، وهو قول ابن وهب في رسم النسمة من سماع عيسى بعد هذا، ومذهب أبي حنيفة وسائر أصحابه.
والرابع: أنه ليس له أن يستنفقها إلا أن يكون له بها وفاء، وبالله التوفيق لا شريك له.
[: أسلم دابته على وجه اليأس منها]
ومن كتاب أوله حلف أن لا يبيع رجلا سلعة سماها وسئل: عن الرجل تقوم عليه دابته في السفر فيسلمها على وجه اليأس منها فأخذها رجل فتعيش عنده وينفق عليها، هل ترى لصاحبها أن يأخذها؟ قال: نعم أرى ذلك له، قيل له: أله أجرة في قيامه؟ قال: لا أرى ذلك، ولا أرى له إلا نفقته.(15/351)
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أسلم دابته على وجه اليأس منها: إن له أن يأخذها من الذي أخذها فعاشت عنده بعد أن يدفع إليه ما أنفق عليها - صحيح؛ إذ لم تخرج عن ملكه بإسلامه لها، فيكون له أن يأخذها ممن أخذها إلا أن يكون أسلمها على أنها لمن أخذها أو قام عليها، فيلزمه ذلك ولا يكون له أن يأخذها ممن أخذها وقام عليها، وقد قيل: إنه إذا أسلمها على وجه اليأس منها فهو محمول على أنه إنما أسلمها لتكون لمن أخذها وقام عليها، إلا أن يكون أسلمها في أمن وماء وكلاء فيكون أحق بها، حكى ذلك ابن شعبان في كتابه عن ابن وهب والشعبي والأوزاعي، فلا اختلاف إذا أرسلها في أمن وماء وكلاء أن له الرجوع فيها، وإنما اختلاف إذا أرسلها في غير أمن ولا ماء ولا كلاء، فقيل: إن له الرجوع فيها. وقيل: إنه لا رجوع له فيها. واختلف إذا رجع فيها هل يرجع فيها بيمين أو بغير يمين، والاختلاف في اليمين في هذا على اختلافهم في لحوق يمين التهمة.
وتحصيل القول في هذه المسألة أن إسلامه إياها على وجه اليأس منها لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يسلمها على أن له الرجوع فيها إن أخذها أحد وعاشت عنده. والثاني: أن يسلمها على أنها لمن أخذها. والثالث: أن يسلمها ولا نية له.
فأما إذا أسلمها على أن له الرجوع فيها إن أخذها أحد فعاشت عنده ولم يشهد على ذلك، فقيل: إنه يصدق في ذلك، وقيل: إنه لا يصدق فيه إلا أن يكون إرساله إياها في أمن وماء وكلاء، واختلف إذا صدق في ذلك، هل يصدق بيمين أو بغير يمين حسبما ذكرناه من اختلافهم في لحوق يمين التهمة.
وأما إذا أسلمها على أنها لمن أخذها فلا سبيل له إلى أخذها ممن أخذها وقام عليها.
وأما إذا أسلمها ولا نية له، فقيل: إنه محمول على أنه إنما أسلمها على(15/352)
أن له الرجوع فيها، وقيل: إنه محمول على أنه إنما أسلمها على أنها لمن أخذها وقام عليها إلا أن يكون إسلامه لها في أمن وكلاء وماء.
وإنما لم ير لمن أخذت منه أجرة في قيامه عليها؛ لأنه إنما قام عليها لنفسه لا لصاحبها، ولو شهد أنه إنما يقوم عليها لصاحبها إن شاء أن يأخذها ويؤدي إليه أجر قيامه عليها لكان ذلك له، ولو لم يشهد على ذلك وادعاه لصدق في ذلك على اختلاف، قيل: بيمين، وقيل: بغير يمين، وأما النفقة فلا إشكال في أن له أن يرجع بها عليه؛ إذ قد أثرت في الدابة وأحدث فيها نماء فلا يكون له أن يأخذها بنمائها ويخسر هذا نفقته، وبالله التوفيق.
[: قال هذا دينار وجدته في حانوتي ولم يدخل علي اليوم أحد غيرك]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا وسئل مالك: عن رجل دخل حانوت بزاز ليشتري منه ثوبا ثم خرج منه فاتبعه صاحب الحانوت، فقال: يا أبا عبد الله، هذا دينار وجدته في حانوتي ولم يدخل علي اليوم أحد غيرك فعد الرجل نفقته فافتقد منها دينارا أترى أن يأخذه؟ فقال مالك: لا أدري هو أعلم بنفسه، إن استيقن أنه ديناره فليأخذه، قيل له: التاجر يقول لم يدخل عَلَيَّ اليوم أحد غيرك، وقد افتقد الرجل من نفقته دينارا، قال: إن استيقن أنه له فليأخذه.
قال محمد بن رشد: في قوله: إنه إن استيقن أنه له فليأخذه - دليل على أنه لا يأخذه إلا أن يستيقن أنه له زيادة على ما ذكر له فجعل له به اليقين أنه له، وهذا على سبيل التورع والنهاية فيه إذ لم يعتره شك في أنه له فأخذه له حلال سائغ؛ لأن الغالب على ظنه أنه له إذ قد افتقد من نفقته دينارا، ولو لم يعلم عدد نفقته لساغ له عندي أن يأخذه، لقول صاحب الحانوت له إنه لم يدخل أحد علي اليوم غيرك، وإن كان التورع عن أخذه أولى وأحسن،(15/353)
وكذلك لو قال له صاحب الحانوت هذا الدينار وجدته في مكانك ولا أدري هل هو لك أو لغيرك ممن دخل الحانوت، فعد الرجل نفقته فافتقد منها دينارا، وأما لو قال له صاحب الحانوت هذا الدينار وجدته في مكانك بعد خروجك عني ولا أدري هل هو لك أو لغيرك ممن دخل الحانوت والرجل لا يعلم عدد نفقته لما ساغ له أن يأخذه بشك.
[: للقطة يجدها الرجل أيأخذها]
ومن كتاب أوله حديث طلق بن حبيب وسئل مالك: عن اللقطة يجدها الرجل أيأخذها؟ قال: أما الشيء الذي له بال فإني أرى ذلك، فقال له الرجل: إني رأيت شنف قرط في المسجد مطروحا فتركته؟ قال: لو أخذته فأعطيته بعض نساء المسجد يعرفنه كان أحب إلي، قال: فكذلك الرجل يجد الشيء فإن كان لا يقوى عليه فإنه يجد من يثق به يقبله منه فيعرفه، وإن كان الشيء له بال فأراد أن يأخذه، قال سحنون: قال لي ابن القاسم، وقال لي مالك غير مرة: إذا كان شيئا يسيرا فليتركه، قال: قلت لابن القاسم: أرأيت إذا دفعه إلى مثله في الأمانة والثقة فضاع منه ثم جاء صاحبه، هل يكون على الذي وجده ضمان؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قال في اللقطة التي لها بال: إن من وجدها يأخذها ولم يذكر هل ذلك واجب عليه أو مستحب له، وفي ذلك تفصيل.
أما إذا كانت بين قوم مأمونين وإمام عدل لا يخشى منه إن هو عرفها أن يأخذها، فأخذها وتعريفها مستحب له، مخافة أن تقع إلى غير مأمون فيذهب بها.
وأما إن كانت بين قوم غير مأمونين وإمام عدل فأخذها وتعريفها واجب؛(15/354)
لأن ذلك حفظها على ربها، وحفظ أموال الناس واجب وفي تركها إضاعتها، وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال، ولو كانت بين قوم مأمونين وإمام غير عدل فخشى إن هو عرفها أن يأخذها لكان الاختيار له أن لا يأخذها، ولو كانت بين قوم غير مأمونين والإمام غير عدل لكان أخذها مباحا له إن شاء أن يأخذها مخافة أن يأخذها غيره فيذهب بها، وإن شاء أن يتركها مخافة أن يأخذها السلطان إن هو أخذها فعرفها.
وأما اللقطة اليسيرة التي لا قدر لها إلا أنها مما قد يشح بها صاحبها ويطلبها، فاختلف قول مالك هل الأفضل أخذها أو تركها، وذلك إذا كانت بين قوم مأمونين، فمرة رأى أخذها وتعريفها أفضل مخافة أن تقع إلى من يذهب بها، ومرة رأى أن تركها أفضل رجاء أن يرجع صاحبها فيجدها، وأما إذا كانت بين قوم غير مأمونين فأخذها وتعريفها أفضل، واحدا، والله أعلم.
وقد اختلف في حد تعريفها، فقيل: يعرفها حولا كاملا كالتي لها بال، وهو ظاهر قول مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة، وقيل: يعرفها أياما، وهو قول ابن القاسم من روايته في المدونة ورواية عيسى عن ابن وهب في رسم النسمة من سماعه من هذا الكتاب، وأما اللقطة اليسيرة جدا التي يعلم أن صاحبها لا يشح بها ولا يطلبها فهي لمن وجدها ليس عليه أن يعرفها وإن شاء تصدق بها، والأصل في ذلك ما روى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة في الطريق، فقال: لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها» ولم يذكر فيها تعريفا، وبالله التوفيق.
[مسألة: اللقطة يجدها الرجل فيعرفهما سنة فلا يجد]
مسألة وسئل مالك: عن اللقطة يجدها الرجل فيعرفهما سنة فلا يجد(15/355)
صاحبها فيستنفقها ثم تحضره الوفاة فيوصي بها ويترك دينا عليه ولا وفاء له، كيف ترى؟ قال: أرى أن يحاص الغرماء بها أهل الدين بقدر ما يصيبها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن إقرار المديان بالدين عند مالك جائز لمن لا يتهم عليه، كان إقراره في صحته أو في مرضه، وإنما يفترق عنده الصحة من المرض في رهنه وقضائه بعض غرمائه دون بعض وفي إقراره بالدين لمن جهم عليه فلا يجوز شيء من ذلك عنده في المرض، واختلف قوله في جواز ذلك في الصحة، فمرة أجاز ذلك كله، ومرة لم يجزه، ومرة فرق بين الرهن والقضاء والإقرار لمن يتهم عليه، فأجاز الرهن والقضاء ولم يجز الإقرار، ومرة أجاز القضاء خاصة ولم يجز الرهن ولا الإقرار.
وأما إن أقر أنه استنفق اللقطة ولا دين عليه ولم يقم بذلك عليه حتى مات، فإن كان إقراره بذلك في صحته جاز ذلك من رأس ماله على ورثته، وإن كان إقراره بذلك في مرضه فإن كان يورث بولد جاز إقراره من رأس المال أوصى أن يتصدق بها عن صاحبها أو توقف له، واختلف إن كان يورث بكلالة، فقيل: إنه إن أوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي صاحبها جازت من رأس المال، وإن أوصى أن يتصدق بها عنه لم يقبل قوله ولم تخرج من رأس المال ولا من الثلث، وقيل: إنه يكون من الثلث، وقيل: إنه إن كانت يسيرة جازت من رأس المال، وإن كانت كثيرة لم تكن في رأس المال ولا في الثلث، وقد مضى هذا المعنى مجودا في رسم ليرفعن من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس.
[: أخذ الثوب وهو يظنه لقوم فسألهم عنه فقالوا ليس هو لنا فرده في موضعه]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك: عن الرجل يجد الثوب ملقى فيأخذه وهو يظنه لقوم(15/356)
يراهم فيسألهم عن ذلك، فيقولون: ليس هو لنا، فيريد أن يرده حيث وجده فيضعه فيه، قال: لا أرى بذلك بأسا، قيل لابن القاسم: فإن كانت دنانير أو دراهم؟ قال: فلو أخذها فعرفها كان أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أخذ الثوب وهو يظنه لقوم فسألهم عنه فقالوا ليس هو لنا فرده في موضعه: إنه لا بأس بذلك - معناه: أنه لا ضمان عليه إن فعل، والاختيار له أن لا يفعل، كما قال في الدنانير والدراهم، إذ لا فرق في ذلك بين الثوب والدنانير والدراهم. ومعنى ذلك: إذا أخذ الثوب على غير وجه الالتقاط ورده بالقرب أيضا، ولو أخذه على وجه الالتقاط لكان ضامنا له وإن رده بالقرب في موضعه، هذا مذهب ابن القاسم. وقال أشهب: لا ضمان عليه إن رده في موضعه بقرب ذلك أو بعده، فإن رده في غير موضعه ضمن، والقول قوله في رده في موضعه مع يمينه على ذلك، وقول أشهب في مساواته بين أن يرد الثوب في موضعه بالقرب أو بالبعد بعيد، لا سيما إن كان أخذه على وجه الالتقاط، وبالله التوفيق.
[: قال صاحب الجمل لرجل قم عليه ولك نصفه إن حيي]
ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال وسئل: عن جمل قام ببعض الطريق فأخذه رجل فأنفق عليه وقام عليه، ثم إن صاحبه رجع إليه فوجده قد صح، قال مالك: يدفع إليه الذي قبضه ما أنفق عليه ويأخذ جمله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول عليها مستوفى في رسم حلف قبل هذا، فلا معنى لإعادته، ولو قال صاحب الجمل لرجل: قم عليه وأنفق ولك نصفه إن حيي لم يجز؛ لأنه غرر في الثمن والمثمون، فإن جاء ربه وقد أنفق عليه أخذ جمله وكان للمنفق قيمة نفقته وخدمته، وكذلك إن مات الجمل كان على ربه قيمة ما أنفق أيضا وما خدم، وبالله التوفيق.(15/357)
[: أخذ اللقطة]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: لا أحب لأحد يجد اللقطة أن يأخذها، إلا يكون لها قدر.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم طلق بن حبيب، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يأخذ متاعه ويغرم للذي احتمله أجر ما احتمله]
مسألة وسئل: عن رجل ماتت راحلته بفلاة من الأرض فأسلم متاعه فأخذه رجل فاحتمله إلى منزله ثم وجد متاعه، قال: أرى أن يأخذ متاعه ويغرم للذي احتمله أجر ما احتمله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن كان أخذه واحتمله إلى منزله على وجه الحفظ لصاحبه والنظر له أو هو يرى أنه يستحقه بحمله إلى منزله إذ قد أسلمه صاحبه، وأما إن كان أخذه واحتمله على وجه الاغتيال له والسرقة والتعدي وهو يعلم أن ملك صاحبه باق عليه إلى أن يرجع عنه فلا كراء له في حمله، والقول قوله مع يمينه أنه لم يأخذه إلا على الوجه الذي يذكره من ذلك، والله الموفق.
[مسألة: طرحوا من متاعهم ثم وجدوها عند قوم أخذوها من ماء البحر]
مسألة وقال مالك في قوم خافوا على مركبهم غرقا فطرحوا من متاعهم، ثم وجدوها عند قوم أخذوها من ماء البحر، قال مالك: يأخذون متاعهم منهم، وهذا بين بأنهم يأخذونه وعليهم أجر إخراجه(15/358)
من البحر إن كانوا غاصوا عليه وأجر حمله إن كانوا حملوه إلى مأمن.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في التي قبلها، ويدخل فيها من الاختلاف ما ذكرنا في رسم حلف من سماع ابن القاسم في الذي يقوم عليه دابته في السفر فيسلمها على وجه اليأس منها، فلا معنى لإعادة ذلك، وبينهما جميعا ما مضى من التفصيل في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها؛ لأن المعنى فيها كلها سواء، وقال سحنون فيمن وقع له ثوب في بئر أو جب فنزل فيه رجل فأخرجه فأتى ربه فطلب منه أجرة فامتنع فرده مخرجه في البئر أو الجب فطلبه فيه ربه فلم يجده، قال: يخرجه الذي كان رده فيه وإلا ضمنه، قال محمد: وإذا أخرجه فينبغي أن يكون له أجره إذا كان ربه لا يصل إلى ذلك إلا بأجر، وبالله التوفيق.
[: أخذ وتعريف ضالة الإبل]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك
من كتاب الأقضية قال أشهب: سألت مالكا: عن قول عمر بن الخطاب في الذي وجد البعير ضالا: أرسله حيث وجدته، فقال لي مالك: نعم يرسله حيث وجد.
قلت: له: يشهد عليه أم لا؟ فقال: ما شأنه يشهد عليه؟ كأنه لا يرى ذلك عليه، قال ابن نافع: وأرى أن يشهد على إرساله أحب إلي.
قال محمد بن رشد: ثبت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال في ضالة الإبل: «ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى(15/359)
يلقاها ربها» ، فالاختيار فيها أن لا تؤخذ فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف ردت حيث وجدت، جاء ذلك عن عمر بن الخطاب، وأخذ به مالك في أحد قوليه، وهو قوله هاهنا وفي المدونة، وقيل: إنها تؤخذ وتعرف، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها، فإن لم يأت وأيس منه تصدق به عنه، جاء ذلك عن عثمان بن عفان، رُوِيَ ذلك عن مالك أيضا، قال: من وجد بعيرا ضالا فليأت به الإمام يبيعه ويجعل ثمنه في بيت المال، يريد: بعد أن يعرف، وقال في مدونة أشهب: يوقف ثمنه حتى يأتي ربه، وإن كان الإمام غير عدل خلي حيث وجد.
وإنما اختلف الحكم في ذلك من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان لاختلاف الأزمان بفساد الناس، وكان الحكم فيها في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وخلافة عمر بن الخطاب: أن لا تؤخذ، فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف حيث وجدت تركت.
ثم كان الحكم فيها في زمن عثمان لما ظهر من فساد الناس أن تؤخذ وتعرف فإن لم تعرف بيعت ووقفت أثمانها، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيها اليوم إن كان الإمام عدلا وإن كان غير عدل يخشى عليها إن أخذت لتعرف تركت ولم تؤخذ، فإن كان إنما يخشى على ثمنها إن بيعت أخذت فعرفت وإن لم تعرف ردت حيث وجدت.
واختلف إن كانت الإبل الضوال بعيدة من العمران في موضع يخاف عليها السباع، فقيل: إنها في حكم الشاة؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد ذكر العلة التي من أجلها فرق بين ضالة الغنم وضالة الإبل بقوله في الشاة: «هي لك أو لأخيك أو للذيب» وقيل: إنها تؤخذ وتعرف بخلاف الشاة إذ لا مشقة في(15/360)
حلبها، وكذلك البقر إن كانت بموضع يخاف عليها السباع يدخل فيها من الخلاف ما دخل في الإبل إن كان المشقة في حلبها، والمنصوص فيها في المدونة أنها بمنزلة الغنم.
وقوله في الرواية: ليس عليه أن يشهد على إرسالها، معناه: في غير المتهم، بدليل قوله بعد هذا في هذا الرسم: إن المتهم يشهد.
وقول ابن نافع: وأرى أن يشهد على إرسالها أحب إِلَيَّ - ظَاهِرُهُ: وإن لم يتهم ليدفع عن نفسه الظنة، وأما المتهم فإن لم يشهد لحقته اليمين.
[مسألة: تعريف اللقطة في المساجد]
مسألة وسألته عن تعريف اللقطة في المساجد، قال: لا أحب رفع الصوت في المساجد، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب أمر أن تعرف اللقطة على أبواب المساجد، فأحب إلي أن لا تعرف في المساجد. ولو مشى هذا إلى الخلق في المساجد يخبرهم بالذي وجد ولا يرفع صوته - لم أر بذلك بأسا إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن رفع الصوت في المسجد مكروه حتى في العلم، وقد بنى عمر بن الخطاب رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحا، فقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا ويرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة، وفي فعله الأسوة الحسنة، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضالة الإبل تعرف فلا تعرف]
مسألة وسئل: عن ضالة الإبل تعرف فلا تعرف، أترى أن يخليها؟ قال: نعم أرى أن يخليها حيث وجدها، قيل: أفترى أن يشهد على تخليتها؟ قال: أما المتهم فهو خير إن شاء الله أن يشهد، وأما الرجل المأمون فلا أرى ذلك عليه، قيل له: أفترى الأباق كذلك إذا(15/361)
عرفه، قال: نعم أرى إذا عرفه فلم يجد من يعرفه أن يخليه خيرا له من أن يبيعه فيهلك ثمنه ويوكل، أو يطرح في السجن فيقيم ولا يجد من يطعمه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم فوق هذا في هذا الرسم بعينه القول في حكم ضوال الإبل للتعريف وإرسالها حيث وجدت إذا لم تعرف والإشهاد على ذلك، فلا معنى لإعادة القول في ذلك.
وأما الأباق فساوى في هذه الرواية بينهم وبين ضوال الإبل في أنهم يرسلون إذا عرفوا فلم يعرفوا، وقال في المدونة: إنهم يحبسون سنة ثم يباعون فتحبس أثمانهم لأربابهم ولا يرسلون؛ لأنهم إن أرسلوا أبقوا ثانية، بخلاف ضوال الإبل، فالظاهر أن ذلك اختلاف من القول، وعلى ذلك كان يحمله الشيوخ، والأولى أن يحمل على الخلاف فيكون الوجه في ذلك أنه إن خشي عليه أن يضيع في السجن بغير نفقة وأن يتلف ثمنه إن بيع كان إرساله أولى من حبسه على ما قال في هذه الرواية، وإن لم يخش عليه أن يضيع في السجن ولا أن يتلف ثمنه إن بيع كان حبسه سنة، ثم بيعه بعد السنة وإمساكه لصاحبه أولى من إرساله لئلا يأبق ثانية إن أرسل، بخلاف ضوال الإبل، على ما قاله في المدونة.
وموضع الخلاف في ذلك عند من حمله على الخلاف إنما هو إذا خشي عليه أن يضيع في السجن وأن يتلف ثمنه إذا بيع، فمرة رأى إرساله أولى لئلا يضيع ويتلف ثمنه، ومرة رأى حبسه وبيعه وإمساك ثمنه أولى من إرساله لئلا يأبق ثانية إن أرسل، والاختلاف في هذا إنما هو بحسب الاجتهاد في أي الخوفين أشد، وأما إن لم يخش عليه أن يضيع في السجين ولا أن يتلف ثمنه إذا بيع فلا يرسل لئلا يأبق ثانية قولا واحدا والله أعلم، ولو لم يخش عليه أن يضيع في السجن وخشي على ثمنه أن يضيع إن بيع لوجب أن يسجن سنة يعرف فيها، فإن لم يأت له طالب سرح ولم يحبس أكثر من السنة التي هي حد(15/362)
تعريف اللقطة، ولو لم يخش على ثمنه ضياع إن بيع وخشي عليه إن سجن أن يضيع في السجن لوجب أن يباع ويوقف ثمنه رجاء أن يأتي صاحبه ولا يسجن مخافة أن يضيع في السجن، وبالله التوفيق.
[مسألة: من أخذ ضالة فهو ضال]
مسألة وسئل: عن قول عمر بن الخطاب: من أخذ ضالة فهو ضال " ما يريد بقوله؟ قال: يريد هو مخطئ فلا يأخذها، يرى أن يتركها، وإنما يعني بذلك الإبل، وليس يقول أحد: ضل غلامي، وإنما يقال: الضالة الإبل، وقد قال ابن شهاب: كانت ضوال الإبل في زمن عمر إبلا مؤبلة.
قال محمد بن رشد: إنما رأى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لا تؤخذ الضالة، وقال: من أخذها فهو ضال، أي: مخطئ؛ لنهي الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن أخذها بقوله: «ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها» ، فقيل: إن ذلك عام في جميع الأزمان، وقيل: بل هو خاص في زمن العدل وصلاح الناس، وقد مضى القول على هذا في أول الرسم، وبالله التوفيق.
[: أخذ ضالة فباعها وتصدق بثمنها وجاء صاحبها]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسألته: عمن أخذ ضالة فباعها وتصدق بثمنها وجاء صاحبها، أيغرمه؟ فقال: لم أقل في هذا شيئا، ولو جوز هذا للناس لعمد الفاجر فباعها وأكل ثمنها، ثم قال: تصدقت بها.
قال محمد بن رشد: أما الفاجر فلا يصدق أنه تصدق بها، ويلزمه غرمها، وإنما اختلف في غير الفاجر، فقيل: إن عليه الغرم لصاحبها إذا جاء(15/363)
إلا أن يشاء أن ينزل على أجرها كلقطة الدنانير والعروض، وهو دليل قوله في هذه الرواية: ولو جوز هذا للناس لعمد الفاجر فباعها وأكل ثمنها، ثم قال: تصدقت بها.
ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك من رواية مطرف عنه: أنه إذا وجد الشاة في العمران فعرفها فلم يجد صاحبها فأكلها أو تصدق بها أنه يغرم لصاحبها قيمتها يوم أكلها أو تصدق بها إلا أن يشاء أن يجيز الصدقة ويكون له أجرها، وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب، وقيل: إنه لا ضمان عليه في المواشي إن تصدق بها أو بأثمانها بعد بلوغ ما عليه من التعريف بها، بخلاف لقطة الدنانير والدراهم والعروض إذ لا يقدر على حبسها لعلفها، وهو قول مالك في الرسم الذي بعد هذا، ومثله في كتاب ابن عبد الحكم عنه.
واختلف قول مالك أيضا: هل له أن يأكلها بعد التعريف؟ فقال مرة: له أن يأكلها ويضمنها لصاحبها إن جاء، وهو قوله في رواية ابن عبد الحكم عنه، وفي رواية مطرف أيضا على ما حكي عنه ابن حبيب، بخلاف لقطة الدنانير والدراهم، وقال مرة: ليس له أن يأكل لقطة الدنانير والدراهم؛ لأن معنى قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عنده: «فشأنك بها» - أنه مخير بين أن يمسكها لصاحبها ويزيد في تعريفها، وبين أن يتصدق بها ويضمنها لصاحبها إن جاء إلا أن يشاء أن يجيز الصدقة ويكون له الأجر، ومن أهل العلم من يجيز له أن يأكلها على وجه السلف على ظاهر الحديث، غنيا كان أو فقيرا، وهو مذهب الشافعي.
ومنهم من لا يجيز له أكلها إذا كان محتاجا إليها، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقول ابن وهب في رسم السنة بعد هذا من سماع عيسى من هذا الكتاب، ومنهم من لا يجيز ذلك له إلا أن يكون له بها وفاء إن جاء صاحبها وهو ظاهر الأقوال وأولاها بالصواب.
فيتحصل في المسألة على هذا أربعة أقوال:
أحدها: أن له استنفاقها بكل حال.
والثاني: أنه ليس له استنفاقها على حال.
والثالث: أنه ليس له استنفاقها إلا أن يكون محتاجا إليها.
والرابع: أنه ليس له استنفاقه إلا أن يكون له وفاء بها.
والأظهر أن لا فرق بين لقطة الماشية إذا وجدها قريبة من العمران حيث يجب(15/364)
تعريفها، وبين لقطة الدنانير والدراهم في جواز أكلها على وجه السلف ولا في وجوب الغرم عليه فيها لصاحبها إن تصدق بها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجد الدرهم مطروحا أيأخذه أو يتركه]
مسألة وسئل: عن الرجل يجد الدرهم مطروحا، أيأخذه أو يتركه ويمضي لوجهه؟ فقال: لو أعلم أنه يجد صاحبه لكان أحب إلي أن يأخذه، ولكن أخاف أن يلزمك فأحب إلي أن تدعه فلا تأخذه، ولو وجدت من يأمره به رأيت ذلك.
قلت له: أفرأيت إن وجد دنانير لها بال أيأخذها فيعرفها أحب إليك أم يدعها فلا يأخذها؟ فقال: إذا كانت دنانير أو شيئا له بال فأحب إلي أن لا يدعها وأن يأخذها فيعرفها، وليس هذا مثل الدرهم والشيء الذي لا بال له خفيف المئونة على صاحبه لا تناله كبير مؤنة، وأما إذا كان الشيء الذي له بال فأحب إلي أن يأخذه فيعرفه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته.
[: يجد الضالة فتنتج عنده]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل: عن الرجل يجد الضالة فتنتج عنده، أيجوز له أن يأكل من نتاجها شيئا أو يأكل من ألبانها؟ فقال: أما نتاجها فلا يأكل منه شيئا، فقال: ألبانها فعسى أن يأكل منها، فقيل له: كيف يصنع بها؟ فقال: إذا بلغ الذي عليه فيها فليتصدق بها، قيل له: فلا يحبس لنفسه منها شيئا؟ فقال: نعم، لا يحبس لنفسه منها شيئا ولكن يتصدق بها، فقيل له: فإن جاء صاحبها لم يغرم من ثمنها شيئا؟(15/365)
فقال: لا؛ لأن المواشي في مثل هذا ليست كالدنانير والدراهم، المواشي تؤكل فلا يقدر على حبسها لعلفها، فإذا تصدق بثمنها ثم جاء طالبها لم أر عليه شيئا.
قال: وكان عمر بن الخطاب يقول لمن أخذها: خلها حيث وجدتها. وأول من أمر ببيعها عثمان بن عفان، قال: تباع، وقد عرف صفتها ثم توقف أثمانها، فإن جاء طالبها أعطى ثمنها، فقال الذين يعذرون عثمان فيما أمر به من بيعها: إنه أمر ببيعها؛ لأن الناس سرقوها وذهبوا بها، فلذلك أمر عثمان ببيعها، قيل له: أفرأيت إن لم يأت من يعرفها؟ فقال: يتصدق بها.
قال محمد بن رشد: حكم نتاج الضالة حكم ألبانها؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» ، فلذلك قال: إنه ليس له أن يأكل من نتاجها على وجه الاقتطاع، وأما أكله منها على وجه السلف بعد بلوغ ما عليه من التعريف بها، فعلى ما ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا من الاختلاف في أمهاتها، إذ لا فرق بينها وبين نتاجها.
وأما ألبانها فخفف أن يأكل منها، يريد: بقدر قيامه عليها والله أعلم؛ لأنه ينزل في ذلك منزلة الوصي في مال يتيمه، وقد قال ابن عباس في ذلك: إن كنت تبغي ضالة إبله وتتاجر بها وتلط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب. وأما الزائد على ذلك فإن كان له قدر يشح به صاحبه فحكمه حكم اللقطة نفسها، وإن كان يسيرا لا قدر له ولا يعلم أن صاحبها لا يشح به فله أن يأكله، وقد مضى ذلك والقول فيه في رسم طلق من سماع ابن القاسم.
وقوله: إنه لا شيء عليه في الضالة لصاحبها إن تصدق بها - خلاف قوله في الرسم الذي قبل هذا، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى فلا وجه لإعادته،(15/366)
ومضى في الرسم الأول من هذا السماع القول في جواز أخذ ضالة الإبل للتعريف وفي وجوب ردها حيث وجدت بعد التعريف فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يجد العصا والسوط أيعرف]
مسألة وسئل: عمن يجد العصا والسوط، أيعرف؟ فقال: ماله يأخذه؟ لا يأخذه، قيل: فقد أخذه، قال: يعرف، فإن لم يعرف فأرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: فأرجو أن يكون خفيفا، معناه عندي: فأرجو أن يكون خفيفا أن ينتفع به على وجه التملك له ما لم يجد صاحبه، وإن أبى الانتفاع عليه، وهذا في التافه الذي لا قيمة له؛ لأن تعريفه غير واجب، فقوله: يعرفه، يريد: على وجه الاستحباب والله أعلم، ولو كان له قدر يجب تعريفه لما صح له تمليكه بعد التعريف، وقد مضى بيان هذا في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم لقطة العروض]
مسألة وسئل: عمن وجد حديدة، فقال: يعرفها، فإن لم يعرف فليتصدق بها، فإن جاء طالبها فليعطه قيمتها، قيل له: أفيتصدق بالحديدة بعينها أم يبيعها فيتصدق بثمنها؟ فقال: إن شاء تصدق بها كما هي يجمع مساكين يطعمهم إياها يقول هذه بينكم، قيل: أرأيت إن كانت من الحديد الذي يحتاج إليه بعض السفهاء مثل الخنجر؟ فقال مالك: والعصا أيضا يقاتل به، أرأيت لو ورث ذلك، أَبِبَيْعِهِ بَأْسٌ؟ قال: ليس به بأس وما أرى عليه أن يكسرها ثم يبيعها، وإنما يكره هذا في الموضع الذي يتحدث فيه أن يباع للعدو، وقال: إنه إنما خرج حين عمدت إليه فأقمته قيمة ثم كسرته(15/367)
فذهبت به أفيجزي عنى أن أتصدق بثمنه؟ قال: نعم ذلك يجزيك منه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن حكم لقطة العروض كحكم لقطة الدنانير والدراهم التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اعرف عفاصها ووكاءها، وعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها» ، فإذا وجد حديدة وجب عليه أن يعرفها فإن لم يعرف فإن شاء حبسها وإن شاء تصدق بها ويكون صاحبها على حقه فيها إن شاء ضمنه، وهو مخير إن شاء تصدق بها بعينها على مسكين واحد أو على مساكين تكون بينهم كما قال، وإن شاء باعها فتصدق بثمنها لزمه الأكثر من قيمتها يوم تصدق بها أو من الثمن الذي باعها به، وليس عليه أن يكسرها إن كانت من الخناجر التي يتخذها السفهاء أو من السلاح التي يقاتل بها، ويبيعها كما هي إلا أن يخشى أن يصل إلى العدو أو إلى من يناوئ المسلمين من أهل الإسلام في الفتن التي تكون بينهم، فيكره له أن يبيعها حتى يكسرها.
واختلف إن باعها قبل أن يكسرها من العدو أو ممن يقاتل بها المسلمين من أهل الإسلام أو ممن يعلم أنه يحملها إليهم ويبيعها منهم فيما يجب عليه في الثمن الذي أخذه فيها إن لم يقدر على استرجاعها على ثلاثة أقوال قد ذكرناها في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب التجارة إلى أرض الحرب فهو موضعها الأليق بها، وبالله التوفيق.
[: التقاط العبد الآبق]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم قال ابن القاسم: الشأن والسنة في الآبق أن يحبس سنة إلا أن يخاف عليه الضيعة فيباع.(15/368)
قلت: أرأيت إذا انقطعت السنة ولم يخف عليه ضيعة، أيباع؟ قال: نعم ولا يحبس بعد السنة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الآبق يحبس سنة - هو مثل ما في المدونة. وقوله: إنه إن خشيت عليه الضيعة بيع قبل السنة - هو مفسر لما في المدونة، وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب أنه إن خشيت عليه الضيعة خلي سبيله ولم يبع، وقد مضى القول على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: المجعول له الثاني هو المنتفع بعمل الأول إذا أفلت قريبا من مكان سيده]
مسألة وسألته: عن الرجل في آبق له خمسة دراهم لمن جاء به فيذهب رجل فيأتي من إفريقية حتى إذا كان بطربوط أفلت له فأخذه آخر فأتى به، قال ابن القاسم: قال لي مالك: إذا أفلت بعيدا من مكان سيده فالجعل كله للآخر الذي جاء به، وليس للذي جاء به من إفريقية شيء، وإذا أفلت منه قريبا من مكان سيده فأخذه آخر فأتى به فالجعل بينهما على قدر شخوص كل واحد منهما قدر ما يرى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن المجعول له الثاني هو المنتفع بعمل الأول إذا أفلت قريبا من مكان سيده بخلاف المجاعلة على حفر الآبار وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، والله الموفق.
[مسألة: يجد القبر في أرض العدو فيه فضة وذهب وجوهر وغير ذلك]
مسألة قلت: أرأيت من اشترى دارا واشترط على بائعها إني اشتري(15/369)
منك ما كان لك في هذه الدار من مجهول أو معلوم قليل أو كثير فيجد المشتري في الدار صخرا أو عمدا أو ورقا أو ذهبا أو آنية مغيبة تحت الأرض، والذهب والجوهر والآنية لا يعرفها البائع ولا المشتري؟ فقال: ما أرى للمبتاع فيها حقا، وأما الفضة والذهب والجوهر والآنية فإن كانت في بلد فتحت عنوة فأراها للمسلمين، وإن كانت بصلح فأراها لذمة أهل تلك القرية الذين صالحوا عليها إذا كان ذلك من دفن الجاهلية، وإن كان ذلك مما يعرف أنه من دفن الإسلام فإنها مثل الفضة يجدها الرجل فإنه يعرفها السنة ونحوها، فإن جاء طالب دفعها إليه وإلا لم أحب له أكلها، أما أن يتصدق بها ويخير صاحبها إذا جاء في أخذها ويغرمها له أو أن يحبسها لصاحبها ما طمع به. قال ابن القاسم: وإنما قلت لك: هو لذمة تلك القرية؛ لأن مالكا سئل عن الكنز يوجد، فقال: أما ما كان ببلد صالح غير أهله من بلدان أهل الذمة فهو لهم، وما كان من ذلك عنوة فهو للمسلمين، وأما الكنز الذي يخرج منها الخمس فتكون لمن وجدها فهي التي تكون في أرض العرب وكل أرض لم يدخلها المسلمون بصلح ولا عنوة.
قال: وقد سئل مالك عن الرجل يجد القبر في أرض العدو فيه فضة وذهب وجوهر وغير ذلك، فقال: هو لجميع أهل ذلك الجيش؛ لأنه إنما وصل إليه بالجيش.
وأما ما ذكرت من العمد والخشب والصخر فإن كان أمرا يعرف أنه من دفن الجاهلية فهو عندي بمنزلة ما يوجد من ركازهم فإن كانوا أهل صلح كان ذلك لأهل ذلك البلد من أهل الذمة، وإن كانوا عنوة رأيته لجماعة المسلمين ورأيت لمن وجده أن يبيعه ويتصدق بثمنه،(15/370)
فإن كان أمرا يعرف أنه من متاع الإسلام لم أره للمبتاع.
وقلت للبائع: فإن عرفت أنه لك أو قامت لك عليه بينة فهو لك، وإن لم تدعه رأيت لمن وجده أن يعرفه كما يعرف اللقطة، وما يوجد من دفن الإسلام وإن لم يوجد له أحد باعها عنه وتصدق بثمنه. قال ابن القاسم: إذا لم يوجد من أهل تلك القرية التي صالحوا عليها أحد وكانوا قد بادوا تصدق بما وجد من ذلك كله كما يتصدق بما وجد في القرية التي أخذت عنوة.
قال محمد بن رشد: سأله في هذه الرواية عما وجد المشتري في الأرض التي اشتراها واشترط مجهولها ومعلومها مما جهلاه من الصخر والحجارة والعمد والرخام والأبنية والذهب والفضة، فقال: إن ذلك لا يكون للمبتاع، ويكون حكمه حكم الركاز إن علم أنه من دفن الجاهلية على التفصيل الذي ذكرناه على أصل مذهبه في أن الركاز تبع للأرض الذي وجد فيها، إن كانت مفتحة بصلح وغيره وأنه لا يكون لواجده بعد إخراج الخمس منه إلا أن يكون موجودا في أرض حرة لم تفتح بصلح ولا عنوة وحكم اللقطة إن علم أنه من دفن الإسلام، ومعنى ذلك إذا لم يدعه البائع أو ادعاه فلم يشبه قوله وتبين كذبه.
وأما إذا ادعاه فأشبه قوله فإنه يكون له مع إذا لم يكن له عليه بينة على قياس قوله.
وفي تَكَلُّمِ ابْنِ القاسم على حكم ما وجد المبتاع في الأرض التي ابتاع على الشرط الذي ذكره وسكوته عن البيع - دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ عنده وأن الشرط لا يفسد، وقد اختلف في ذلك، فروى زياد قال: سألت مالكا عن رجل ابتاع منزلا أو حظا من منزل فكتب المشتري مجهولا أو معلوما أو كتب يعلم أو لا يعلم، قال: لا ينقض هذا البيع ونحوه مما يتوثق به المشتري بعد أن ينص ما(15/371)
اشترى نصفا أو ربعا أو جزءا من الأجزاء.
وفي تفسير ابن مزين: أن البيع فاسد في الأرض إذا اشتراها واشترط معروفها ومجهولها، بخلاف إذا اشترى العبد واشترى مجهول ماله ومعلومه، وقال: إن الفرق بينهما أن مال العبد إنما يستثنيه المشتري ويشترطه للعبد لا لنفسه، ألا ترى أنه يطأ ملك يمينه ويكون له حتى ينتزعه منه سيده، وأن مجهول الأرض إذا اشترطه المشتري قد اشترى ما لا يعرف، ومحمد بن دينار يقول للمبتاع ما يوجد في الأرض الذي ابتاع مما جهلاه، وهو قول سحنون في نوازله من كتاب جامع البيوع، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. قال في الورثة يقتسمون الأرض فيجد أحدهم في حظه بئرا وبيتا أو صخرا أو عمدا أو الرجل يشتري الأرض فيجد فيه شيئا من ذلك: إن ذلك لمن وقع في قسمه من الورثة وللمشتري في الشراء، ولا حق فيه للبائع، وهذا الاختلاف إنما هو في المجهول الذي لا يعلم صاحبه، وأما إن ثبت أن ما وجد مغيبا في الأرض من متاع البائع أو متاع من ورثه عنه فلا اختلاف في أنه له، وكذلك ما علم أنه من دفن الجاهلية يكون حكمه حكم الركاز الموجود في تلك الأرض بلا اختلاف، فيكون تبعا للأرض على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إن كانت مفتحة بعنوة أو بصلح ولواجده إن كانت حرة من أرض العرب، ويكون لواجده على مذهب ابن نافع كانت الأرض حرة أو عنوة أو صلحية متملكة أو غير متملكة، وبالله التوفيق.
[: العشرة دراهم أو النصف دينار يجده الرجل]
ومن كتاب النسمة قال ابن القاسم وابن وهب، في الحاج يجد اللقطة نحوا من عشرين دينارا أو أكثر فيعرفها سنة فلم يجد لها طالبا، هل يأكلها، وفي العشرة دراهم أو النصف دينار يجده الرجل، كم ترى له أن يحبسه ويعرفه؟ قال ابن وهب: قد بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(15/372)
وسلم قال في اللقطة: إنه يعرفها سنة فإن جاء لها طالب دفعها إليه، فإن لم يأت لها طالب دفعها إليه، فإن لم يأت لها طالب بعد اليوم أداها إليه إن كانت عنده، وإن لم يكن عنده شيء كانت عليه دينا حتى يجد قضاءها ويكون صاحبها أسوة الغرماء، وإن مات كان في سعة إن شاء الله إن لم يوجد له مال؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد أذن له في أكلها، وأما الشيء اليسير مثل الدريهمات والدينار فإني أرى أن يعرف أياما فإن لم يجد له صاحبا وكان محتاجا أنفق ذلك على نفسه، وإن كان غنيا عنه تصدق به عن صاحبه، قال ابن القاسم: ما ينبغي أن ينفق على نفسه منه شيئا قليلا ولا كثيرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب فلا وجه لإعادته.
[مسألة: ما يقذف البحر من الخشب والحوت والقصاع ونحو هذا]
مسألة وسئل ابن القاسم: عما يقذف البحر من الخشب والحوت والقصاع ونحو هذا يجده الرجل على ساحل البحر، هل هو له خاص؟ قال: هو لمن وجده إلا أن يعرف صاحبه فيؤديه إليه.
قال محمد بن رشد: معنى هذا عندي في الشيء اليسير الذي يعلم أن صاحبه لا يشح به ولا يطلبه، وأما الشيء الذي له قدر وبال فحكمه حكم اللقطة على ما يأتي في الرسم الذي بعد هذا، وقد كان الشيوخ يحملون المسألتين على أنهما متعارضتان وليس ذلك بصحيح، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم من قولنا ما بَيَّنَ هذا الذي ذهبنا إليه في هذه المسألة.(15/373)
[: ما لفظ البحر من المتاع]
ومن كتاب العتق وسئل ابن القاسم: عما لفظ البحر من المتاع فيجده الرجل مما حمله التجار ولا يعرفه، فقال: إن كان من متاع المسلمين عرفه، وإن كان من متاع أهل الشرك نظر السلطان فيه فوضعه على ما يرى، ولم يكن لمن أخذه، وإن شك فيه رأيت أن يعرفه ثم يتصدق به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة
بينة صحيحة لا اختلاف فيما لفظه البحر من أموال التجار المعطوبين فيه أن حكمه حكم اللقطة، بخلاف مسألة رسم سن من سماع ابن القاسم فيما ألقوه بأيديهم من متاعهم لتجارة أنفسهم، هذا قد قيل فيه: إنه لمن وجده، إذ قد ألقوه بأيديهم على وجه اليأس منه، بمنزلة الذي تقوم عليه دابته في السفر فيسلمها على وجه اليأس منها على الاختلاف في ذلك، وقد ذكرناه في مسألة حلف أن لا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: اللقطة بعد تعريفها سنة]
من سماع يحيى بن يحيى
من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألته: هل ينبغي للذي يجد اللقطة أن يأتي بها إلى الإمام بعد تعريف سنة ليكون هو الذي يأمر ببيعها وتفرقة ثمنها صدقة على المساكين، فقال: وما للإمام ولها؟ ليس هو مما يلزم الناس أن يرفعوه إلى الإمام؛ لأن المتصدق بها إن جاء صاحبها فأراد أخذ قيمتها أغرمها الذي كان وجدها وتصدق بها، قال: فإن تعدى الإمام(15/374)
فأخذها فباعها وتصدق بثمنها رأيت عليه غرمها إذا جاء صاحبها إن أحب أن يغرمه.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله: إن الخطاب يوجه في اللقطة من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى واجدها بقوله له: «اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها» ، فإن أخذها منه وتصدق بها كان متعديا فيها وضامنها له إلا أن يعطيه إياها واجدها باختياره ليتصدق بها على سبيل الوكالة له، فلا ينتقل عنه الضمان إن جاء صاحبها، وبالله التوفيق.
[: اللقطة توجد في قرية ليس فيها إلا أهل الذمة]
من سماع موسى بن معاوية من ابن القاسم وسئل مالك: عن اللقطة توجد في قرية ليس فيها إلا أهل الذمة فقال: تدفع إلى أحبارهم.
قال محمد بن رشد: هذا قول فيه نظر، إذ في الإمكان أن تكون لمسلم وإن كانت وجدت بين أهل الذمة، فكان الاحتياط أن لا تدفع إلى أحبارهم إلا بعد التعريف لها استحسانا لقلة الظن أنها لهم على غير قياس، فإن دفعت إليهم بعد التعريف لها ثم جاء صاحبها غرموها له، وإنما كان يلزم أن تدفع ابتداء إلى أحبارهم لو تحقق أنها لأهل الذمة بيقين لا شك فيه مع من يقولوا: إن من ديننا أن يكون حكم اللقطة لأهل ملتنا مصروفا إلينا، وأما إذا لم يتحقق ذلك فكان القياس أن لا تدفع إلى أحبارهم وتكون موقوفة أبدا، وبالله التوفيق.
[: يجد الشاة قد اختلطت بغنمه فلا يجد لها صاحبا]
من نوازل سحنون وسئل: عن الرجل يجد الشاة قد اختلطت بغنمه فلا يجد لها(15/375)
صاحبا، قال: يكون سبيلها سبيل اللقطة يتصدق بها، فإن جاء صاحبها ضمنها له، قيل له: فما يصنع بلبنها؟ قال: يشربه، وهذا خفيف؛ لأنه يرعاها ويتفقدها.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا إنه يضمنها لربها إن جاء إذا تصدق بها مثل قول مالك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، خلاف قوله في رسم الأقضية الثاني منه. وقوله في لبنها: إنه يشربه؛ لأنه يرعاها ويتفقدها - يبين قول مالك في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، وقد مضى تحصيل القول في ذلك كله في الموضعين، وبالله التوفيق.
[: اللقطة يجدها الرجل فيستنفقها بعد السنة]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب قال عبد الملك: سألت ابن وهب: عن اللقطة يجدها الرجل فيستنفقها بعد السنة فيقوم عليه الغرماء ولم يأت صاحبها، أترى أن يحاص بها الغرماء، فقال: نعم أرى للسلطان أن يحاص بها الغرماء، وسألت أشهب، فقال لي مثله إلا أنه لم يذكر السلطان.
قال محمد بن رشد: ليس سكوت أشهب عن ذكر السلطان في هذا بمخالف لقول ابن وهب؛ لأن السلطان هو الناظر في هذا لصاحب اللقطة لكونه في منزلة الغائب؛ إذ لا يعرف، ومعنى ذلك إذا عرف إقراره باستنفاقه اللقطة قبل أن يقوم عليه الغرماء، إذ لا يجوز إقرار المفلس بالدين بعد التفليس لمعين معلوم، فكيف لغائب مجهول، وبالله التوفيق.
[: الرجلين يدعيان اللقطة عند الرجل]
من نوازل سئل عنها سحنون وسئل أشهب: عن الرجلين يدعيان اللقطة عند الرجل قد(15/376)
وجدها فيصف أحدهما العفاص والوكاء، ويصف الآخر عدد الدنانير ووزنها، قال: فهي للذي عرف العفاص والوكاء، وكذلك لو عرف العفاص وحده كانت له أيضا بعد الاستبراء، قيل: فلو أن رجلا ادعاها وحده وعرف العفاص؟ قال: فيستبرئ فإن لم يأت أحد أعطيها الذي عرف العفاص، وإنما الحديث الذي جاء: «اعرف العفاص والوكاء» ، فإن جاء طالبها فإنما ذلك مثل الخليطين إذا كان الدلو والراعي والمراح واحدا، فهو إذا جمعا الراعي أو المراح أو الدلو فهما خليطان، فكذلك إذا عرف هذا بعضا ولم يعرف بعضا.
قلت: فلو قال: هي في خرقة حمراء وخيط أبيض فوجدت الخرقة كما قال والخيط أسود؟ قال: فيستبرأ أيضا ثم يرجع بعد ذلك، فقال لي: هذا قد أكذب نفسه إذ ادعى المعرفة بالوكاء والعفاص ثم وجد بعد ذلك على غير ما قال، فلا يصدق، وإنما يصدق إذا أصاب في بعض وادعى الجهالة في بعض فيستبرأ، فإن جاء أحد بأحق مما ادعى وإلا أعطيها، قيل: فوصف العفاص والوكاء وادعى أنها دنانير فوجد العفاص والوكاء كما قال ووجد فيها دراهم؟ قال: لا يعطاها؛ لأنه إنما ادعى دنانير ذهبت منه، لم يدع دراهم، قال لي: وكذلك لو قال خرقة حمراء وخيط أبيض والدنانير هاشمية، فوجدت الخرقة والخيط كما قال، ووجدت الدنانير عتق لم يكن له شيء.
قال محمد بن رشد: قال: إنه إذا ادعى اللقطة رجلان، فوصف أحدهما العفاص والوكاء، ووصف الآخر عدد الدنانير ووزنها، إنها للذي عرف العفاص والوكاء، يريد: مع يمينه، والاختلاف في هذا، وإنما لا اختلاف إذا جاء وحده، فقيل: إنها تدفع إليه بالصفة دون يمين، وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة، والوجه في ذلك أن الصفة في اللقطة التي لا دافع لها(15/377)
كالبينة القاطعة فيما له من يدفع عنه، وقيل: إنه لا يدفع إليه إلا بيمين.
وقال: إن وصفها رجلان أحلفا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهي لمن حلف منهما، وإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا قسمت بينهما، فقوله: إنه يقسم بينهما إذا نكلا رد لقوله: إنه لا يدفع إليه إذا جاء وحده إلا بيمين، واستحسن أصبغ في أحد قوليه إذا وصف أحدهما العفاص والوكاء ووصف الآخر عدد الدنانير والدراهم، وصفتها أن تقسم بينهما بعد أيمانهما كما لو اجتمعا جميعا على صفة العفاص والوكاء.
والاختيار أن يصف مدعي اللقطة العفاص والوكاء وما اشتملا عليه من عدد الدنانير والدراهم وصفتها، فإن وصف بعضا وجهل بعضا أو غلط فيه ففي ذلك اختلاف وتفصيل: فأما جهله بالعدد فلا يضره إذا عرف العفاص والوكاء، وكذلك غلطه فيه بالزيادة لا يضره لجواز أن يكون قد اغتيل في شيء منها، واخلف في غلطه فيه بالنقصان إذا عرف العفاص والوكاء على قولين، وكذلك واختلف في غلطه فيه بالنقصان إذا عرف العفاص والوكاء وأما إذا غلط في صفة الدنانير فلا أعلم خلافا في أن لا شيء له.
وأما العفاص والوكاء إذا وصف أحدهما وجهل الآخر أو غلط فيه ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا. والثاني: أنه يستبري أمره فإن لم يأت أحد بأثبت مما أتى به دفعت له. والثالث: أنه إن ادعى الجهالة استبرئ أمره، وإن غلط لم يكن له شيء، وهذا أعدل الأقوال، والله أعلم.
ولو جهل العفاص والوكاء جميعا وعرف عدد الدنانير وصفتها ووزنها لتخرج على قول أصبغ الذي قاله على طريق الاستحسان إذا وصف أحد المدعيين العفاص والوكاء، والآخر عدد الدنانير وصفتها ووزنها أن تقسم بينهما(15/378)
أن تكون له إذا جاء وحده فوصف عدد الدنانير والدراهم وصفتها ووزنها وجهل العفاص والوكاء جميعا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يلتقط الشاة الضالة بموضع يجوز له أكلها]
مسألة قيل لأصبغ: الرجل يلتقط الشاة الضالة بفلاة من الأرض بموضع يجوز له أكلها فيذبحها ثم يأتي بها معه إلى الأحياء، أعليه أن يعرفها؟ قال: ليس عليه أن يعرفها، وأكله لها طيب كان غنيا عنها أو لم يكن وكذلك جلدها.
قلت: فلو اعترفها ربها في يديه قبل أن يأكلها، قال: فهو أولى بها إذا أدركها، قيل: فلو كان ملتقطا استحياها حتى قدم بها الأحياء، أيكون له أن يعرفها؟ قال: هذا مخالف لما ذكرت، وعليه أن يعرفها أو يصرفها إلى أهل قرية يعرفونها ولا حق له فيها ولا يحل له حبسها؛ لأنه إنما جاز أكلها وذبحها بالفلاة أو المنقطع لئلا تتلف إن تركها أكلتها السباع وإن تحملها أضرت به، فلما تحمل من حملها ما لم يكن عليه حتى بلغها الأحياء كانت كما التقطها هنا، تعرف ولا تؤكل.
قال محمد بن رشد: اعترض أبو إسحاق التونسي قول أصبغ هذا إذا قدم بها الأحياء مذبوحة، فقال: الأصوب أن لا يأكل اللحم وأن يبيعه ويوقف ثمنه؛ لأن الإباحة إنما كانت له حيث لا ثمن له، ولو تركه هناك لأكله الذئب وفي الحاضرة قد صار له ثمن، وهو صحيح، وبالله التوفيق.
تم كتاب اللقطة بحمد الله تعالى(15/379)
[: كتاب المزارعة] [: اشتركا على مزارعة]
من سماع عيسى بن دينار
من ابن القاسم من كتاب السلم قال عيسى: وسئل ابن القاسم: عن رجلين اشتركا على مزارعة فاشترى أحدهما نصف البذر قمحا جيدا نقيا، فعرضه على صاحبه فرضيه وأجازه، ثم اشترى الشريك الآخر النصف الآخر قمحا رديئا فزرع منه ثلثه فعرضه على صاحبه فرضيه واستجازه على وجه التجوز والمسامحة، فزرع صاحب النصف الجيد قمحه رقيقا فدادين، وزرع الآخر قمحه الرديء فزرع به فدادين وشيئا، ثم تشاحا؟ قال: يؤدي كل واحد منها إلى صاحبه نصف ثمن زريعته فيستويان.
قال محمد بن رشد: قوله: اشتركا على مزارعة، معناه: اشتركا في الحرث للزراعة، وإرادته أنهما اشتركا على أن يجعل كل واحد منهما زوجه ويده ونصف البذر، والأرض لهما أو بأيديهما اكتراء أو مزارعة أو منحة؛ بدليل قوله: فزرع صاحب النصف الجيد قمحه فزرع منه كذا وكذا، وزرع الآخر قمحه الرديء فزرع منه كذا وكذا، والشركة على هذا إنما تصح إذا كان يحتاجان فيها إلى التعاون في إقران البقر للحرث وحلها والقيام عليها في سقيها وعلفها وما أشبه ذلك.
ويختلف في هذه الشركة، هل تلزم بالعقد أم لا؟ على اختلافهم في(15/381)
المزارعة، فجاء جوابه في هذه المسألة على القول بأنها لا تلزم بالعقد، وهي رواية أصبغ عنه في سماعه بعد هذا؛ لأنه أفسد الشركة بينهما مسامحة أحدها الآخر بعد العقد فيما أخرج من القمح الذي لا يعدل قمحه في الطيب، مع ما بينهما من التفاوت الكثير الذي لا يجوز أن يسمح في مثله في الشركة التي لا تلزم بالعقد، وذلك معارض لقوله في رسم الجواب بعد هذا على ما سنذكره ونبين وجهه إن شاء الله، وأما على القول بأنها تلزم بالعقد فيجوز أن يسمح أحدهما للآخر بعد العقد بالقليل والكثير قولا واحدا. فقوله على القول بفساد الشركة بمسامحة أحدهما الآخر بعد العقد إذ لم يرها لازمة بالعقد: إنه يؤدي كل واحد منهما إلى صاحبه نصف ثمن زريعته فيستويان - صحيح على القول بأن الزرع في المزارعة الفاسدة بينهما على ما اشتركا عليه ويتعادلان فيما أخرجاه فمن كان له منهما فضل على صاحبه رجع به عليه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة إذا سلما من كراء الأرض بما يخرج منها، وهو الذي يأتي أيضا على القول بأن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب العمل، إذ قد عملا جميعا، وعلى القول أيضا بأنه من اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول: وهي العمل والأرض والبذر، وعلى القول أيضا أنه لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول: وهي الأرض والبذر والبقر؛ إذ قد اجتمع لكل واحد منهما البذر والبقر، وعلى القول أيضا بأنه لمن اجتمع له منهما شيئان من أربعة أصول: وهي الأرض والعمل والبقر والبذر إذ قد اجتمع لكل واحد منهما ثلاثة أشياء.
وأما على القول بأن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر فيجب أن يكون لكل واحد منهما ما أنبت قمحه، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي، فقال: إن كان بينهما تفاوت لا يجوز أن يسمح به في الشركة، فكان يجب أن يكون لكل واحد منهما ما أنبت قمحه كشعير وقمح، إلا أن يقدر أن التفويت إذا كان بإذن صاحبه صار كالقبض، فيجب مثل ذلك في القمح والشعير وفي الشركة الفاسدة بالعروض أن يضمن كل واحد منهما نصف قيمة عرض(15/382)
صاحبه، وهذا الذي قاله أبو إسحاق التونسي صحيح؛ كأن وجه القول في كون الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر هو بقاء يده على بذره مع شريكه فلم يبن بحصته منه بينونة صحيحة، هذا وجه القول في هذه المسألة.
وقد قال ابن دحون فيها: هذه مسألة مشكلة؛ لأنه أبطل ما قد تراضيا به، وإنما ذلك لأنهما لما القمح من السوق وكانا كأنهما إنما اشتركا بالأثمان التي اشتريا بها. فردها إلى تساوي الأثمان، ألا ترى أنه لو ضاع ما اشترى أحدهما قبل شراء الآخر كان عليهما إذا اشتراه للزراعة وللشركة التي عقدا حول ذلك على أنهما إنما اشتركا بأثمان ما اشتريا، فردهما إلى التساوي، ولو كان ثمن القمح الرديء مثل القمح الجيد لم يتراجعا إذا تراضيا، ولو كان ثمن الرديء أكثر من ثمن الطيب لرجع على صاحب الطيب بما فضله إذا تراضيا أولا، ولو كان القمح أخرجه كل واحد منهما من داره ولم يشتره وتراضيا بجيده ورديئه لم يكن لأحدهما رجوع في ذلك، وإنما جاز له الرجوع لما اشتريا من السوق فصار إنما اشتركا بالأثمان فيها وتراجعا.
هذا نص قول ابن دحون، وهو كلام مختل الوجه له؛ لأن لفظ الشركة تقتضي التكافؤ فيما يخرجه كل واحد منهما عوضا عما يخرجه صاحبه، فإذا رضي أحدهما بعد عقد الشركة بأن يخرج صاحبه أدنى من القمح الذي يخرج هو، فقد يفضل بنصف ما زادت قيمة طعامه على طعام صاحبه، وكان ذلك على القول بأن العقد غير لازم بمنزلة ما لو شاركه على ذلك ابتداء، ووجب أن تفسخ الشركة بينهما إلا أن يفوت بالبذر فيكون لكل واحد منهما ما أنبت قمحه على القول بأن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر، ويكون الزرع بينهما على القول الآخر ويتعادلان في قيمة ما أخرج كل واحد منهما من الطعام اشتراه من السوق أو جاء به من داره، واستدلاله على الفرق بين الوجهين بما ذكره من الضمان لا يصح، إذ لا فرق بينهما في الضمان أيضا وإن تلف بعد أن عرضه على صاحبه فرضيه وأجازه لكانت مصيبته منهما على قياس القول بأن الزرع بينهما ومن صاحبه الذي جاء(15/383)
له من عنده على قياس القول بأن له ما أنبت دون شريكه، ولا فرق في ذلك كله بين أن يشتريه من السوق أو يأتي به من داره، وبالله التوفيق.
[: القول قول مدعي الصحة]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت وسئل: عن الرجل يعطي أرضه وبقره رجلا وزريعته يعمل بها على أن يخرج عند دفع الزرع ما أعطاه من زريعته ثم يقتسمان ما بقي على النصف، ثم يزعم الذي أمسك الزوج أن له نصف الزريعة، وهو مقر لصاحبه بأرضه وبقره ونصف الزريعة، وأنكر الآخر أن يكون له شيء إلا عمله بيده، فالقول قول من تراه؟ قال ابن كنانة: القول قول من زرع الأرض، والزريعة بينهما شطران، وهو الزارع الذي رُئِيَ يزرع الأرض. قال ابن القاسم مثله، وهو من ناحية قول مالك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال على مذهب مالك؛ لأن رب الأرض يدعى على الزارع أنه أسلف نصف الزريعة، وأنه شاركه على ذلك بشرط، وذلك يوجب فساد الشركة، فوجب أن يكون القول للزارع الذي ينكر السلف ويدعي صحة الشركة على أصولهم في أن القول قول مدعي الصحة، وبالله التوفيق.
[: الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر]
ومن كتاب الجواب وسألته: عن رجلين اشتركا على الزرع، فجعل أحدهما زوجا والآخر يمسك الزوج ويحرث به، وجعل صاحب الزوج الزريعة كلها على أن يرد عليه الشريك نصف الزريعة أو ثمنها؟ قال ابن(15/384)
القاسم: هذه شركة فاسدة، لأنها شركة وسلف، قبل كل شيء فالزرع بينهما نصفين على قدر شركتهما، ويرد على صاحب الزريعة نصف زريعته، وينظر إلى قدر قيمة عمل الزوج البقر، وإلى قدر قيام الآخر عليه وإمساكه إياه وحرثه به، فأيهما كان له الفضل منهما رجع على صاحبه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنها شركة أبدان، فلما فسدت باشتراط السلف فيها وجب أن يكون الزرع بينهما على مذهب ابن القاسم، ويتعادلان فيما أخرجاه، فمن كان منهما له فضل على صاحبه رجع به عليه، وسحنون يقول: إن الزرع لصاحب السلف على أصله في أن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر وبالله التوفيق.
[مسألة: المزارعة تفسد باشتراط السلف فيها]
مسألة وسألته عن رجلين اشتركا في الحرث على النصف أو على الثلث لأحدهما الأرض والآخر يعمل بيديه وزوجه، فقال أحدهما لصاحبه: اجعل الزريعة كلها وعلى نصفها أو ثلثها أردها عليك، فعملا جميعا على ذلك فصلح الزرع أو هلك، وكيف إن قال له: أسلفني بعدما عقد الشركة؟
قال ابن القاسم: الشركة فاسدة للسلف الذي أسلفه من الزريعة إذا كانا على ذلك اشتركا، فإن وقع هذا فالزرع بينهما على قدر ما اشتركا من النصف أو الثلثين أو الثلث، والمصيبة بينهما على قدر ذلك إن هلك الزرع أو لم ينبت، ويرجع مسلف الزريعة على صاحبه ما أسلفه متى شاء، وينظر إلى قيمة كراء الأرض وإلى قيمة عمل الآخر ببدنه وزوجه فأيهما كان له فضل منهما رجع به دراهم أو دنانير، وليس في الزرع.(15/385)
وإن كانت الشركة على غير سلف ثم سأله أن يسلفه الزريعة ففعل فليس بذلك بأس، والشركة حلال جائزة، إذا كان قيمة العمل مكافئة لقيمة كراء الأرض على ما فسرت لك، فإن كان في ذلك فضل رجع من كان له الفضل بالفضل على صاحبه على نحو ما أخبرتك، ورواها أصبغ.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في المسألة التي فوقها؛ لأن المزارعة تفسد باشتراط السلف فيها كما تفسد الشركة بذلك، وإذا فسدت بذلك وجب في مذهب ابن القاسم أن يكون الزرع بينهما على ما اشترطاه من الأجزاء، ويتعادلان فيما أخرجاه، فمن كان له منهما فضل على صاحبه رجع به عليه، وببطل الأجل في السلف لفساده إن كان له أجل، وسحنون يبطل السلف لبقاء يد السلف عليه، ويجعل الزرع كله للعامل الذي جعل البذر، ويكون عليه لصاحب الأرض كراء المثل فيها على أصله في أن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر في قول ابن القاسم في الرواية.
وإن كانت الشركة على غير سلف ثم سأله أن يسلفه الزريعة ففعل فليس بذلك بأس نظر على أصله في أن المزارعة لا تلزم بالعقد، لأن القياس على القول بأنها لا تلزم بالعقد ألا يجوز السلف بعد العقد كما لا يجوز في العقد، فهذا من قوله معارض لقوله في أول مسألة من السماع، وقد قال بعض أهل النظر: إن هذا من قوله يدل على أن المزارعة تلزم بالعقد خلاف رواية أصبغ، إذ لو لم يلزم بالعقد عنده لما جاز السلف قبل العقد ولا بعده ما لم يعمل، كما لا يجوز ذلك في القراض، ولا دليل من قوله في هذه الرواية على ذلك، إذ قد ذكر فيها ما يدل على أنها لا تلزم بالعقد، وهو قوله فليس بذلك بأس، والشركة حلال جائزة إذا كان قيمة العمل مكافئة لقيمة كراء الأرض، لأن من يرى المزارعة لأزمة بالعقد يجيز التفاضل فيها، فلا يشترط في جوازها(15/386)
التكافؤ فيما يخرجان، وإنما لم تفسد المزارعة إذا كان السلف بعد العقد، وإن كانت عنده غير لازمة بالعقد مراعاة لقول من يراها لازمة بالعقد ولعلهما ظنا أنها لازمة بالعقد فبعدت التهمة عنده عليهما، ولو علما أنها لا تلزم بالعقد ولا يحكم بلزومها على من أبى التزامها منهما لاتفقا أن تفسد المزارعة بينهما بالطواعية بالسلف بعد العقد، فهذا يوجبه قوله في هذه الرواية وبالله التوفيق.
[: كراء الأرض بالثلث والربع]
ومن سماع سحنون قال سحنون: قال ابن القاسم: قال مالك: من دفع أرضه إلى رجل يزرعها على أن ما أخرج إليه فيها من الزرع بين الزارع وبين صاحب الأرض فإن الزرع كله للذي زرعه، ويغرم الزارع لصاحب الأرض كراء أرضه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها، ولا اختلاف في المذهب في أن ذلك لا يجوز لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن المحاقلة والمخابرة.
والمزارعة إذ تأولوا أن المراد بذلك كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها، وقد جاء النهي عن ذلك نصًّا: روى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال:(15/387)
«من كانت له أرض ليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا بربع ولا طعام» .
وأجاز ذلك جماعة من أهل العلم منهم الليث بن سعد، وحجتهم في ذلك إعطاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يهود خيبر الأرض والنخل على شطر ما يخرج من ذلك وتأولوا في المحاقلة أنها اشتراء الأرض بالحنطة، والصحيح ما ذهب إليه مالك، لأن النص قد جاء بالنهي عن كراء الأرض بالثلث والربع.
وحديث المسافات يمكن تأويله على ما تأوله إليه مالك من أن الأرض كانت يسيرة بين أضعاف السواد، وقد اختلف أهل العلم في جواز كراء الأرض وفيما يجوز أن تكرى به اختلافا كثيرا لتعارض ظواهر الآثار الواردة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يتحصل فيها ثمانية أقوال قد ذكرتها في غير هذا الكتاب وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع حبا إلى رجل يزرعه في أرضه على أن الزرع بينهما]
مسألة وقال ابن القاسم قال مالك: من دفع حبا إلى رجل يزرعه في أرضه على أن الزرع بينهما فإن الزرع كله لصاحب الأرض ويعطي صاحب الأرض صاحبَ الحب مكيلة حبه، قال سحنون: لا يعجبني هذا، وأرى الزرع كله لصاحب الحب ويعطي الزارع أجرته وأجرة بقره وكراء أرضه.(15/388)
قال محمد بن رشد: الفساد في هذه المزارعة بين لأنه يدخلها كراء الأرض بما يخرج منها من الطعام، فلا اختلاف في المذهب في وجوب فسخها وإبطال الجزء بينهما، وإنما الاختلاف في الزرع لمن يكون على هذين القولين؟ لا ثالث لهما وبالله التوفيق.
[مسألة: الوكيل إذا أقر بما ادعي عليه شريكه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الأرض تكون بين الرجلين فيقول أحدهما لصاحبه: خذ هذه الدنانير فاشتر بها ما يصير علي من الزريعة فيأخذ ويزرع ثم يقول الموكل على الشراء: ما اشتريت وإنما أخرجت ذلك من عندي. قال: فللموكل أن يكذبه ويكون الزرع بينهما، لأنه يتهم أن يكون يدعي عليه سلفا من طعام وقد أمر بالشراء قال: ولو كان الذي أمره باشترائه صدقه أنه لم يشتر؟ قال: فهو بالخيار إن شاء أعطاه المكيلة وكان شريكه في الزرع، وإن شاء أخذ دنانيره ولم يكن له في الزرع شيء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن الوكيل إذا أقر بما ادعي عليه شريكه من أنه دفع إليه دنانيره ليشتري بها ما يصير عليه من الزريعة ويزرع، ثم ادعى أنه زرع من عنده ولم يشتر لشريكه شيئا لا يصدق في ذلك لأنه يدعي سلفا من الطعام على شريكه.
وقوله: "فللموكل أن يكذبه" معناه: لا يلزمه أن يصدقه لأن له أن يكذبه وإن علم أنه صادق، وإنما معناه أن القول قوله فيما يدعى من كذبه أو الجهل بصدقه، فإن حقق الدعوى عليه بأنه كاذب حلف على ذلك، وكان له نصف الزرع ولم يكن للوكيل عليه ما ادعاه من الطعام، وكذلك إن لم يحقق الدعوى عليه بذلك، غير أنه يحلف أنه لا يعلم ما يقول الوكيل من أنه زرع من عنده(15/389)
ولم يشتر شيئا، فإن نكل عن اليمين حلف الوكيل ورد إليه دنانيره وأخذ منه الطعام الذي زعم أنه زرعه له من عنده.
وأما إن صدقه الموكل أنه لم يشتر شيئا فقال في الرواية إنه بالخيار إن شاء أعطاه الكيل، وكان شريكه في الزرع، وإن شاء أخذ دنانيره ولم يكن له في الزرع شيء، وذلك كلام وقع على غير تحصيل، لأنه إنما يخير بين أن يترك الزرع وبين أن يأخذه ويؤدي الطعام، وأما الدنانير فيأخذها على كل حال إذ قد صدقه أنه لم يشتر له بها شيئا، وفي تخيره في ذلك اختلاف، قد قال ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا في نظير هذه المسألة إنه لا ينبغي أن يكون صاحب البذر مخيرا بين أن يعطي بذرا ويأخذ زرعا، وبين أن يسلم الزرع، وكذلك قال يحيى بن عمر إنه إن صدقه أنه لم يشتر أو قامت بذلك بينة وزرع من عنده فالزرع لباذره، ولا يجوز للآخر الرضي بأخذ نصفه ويؤدي الزريعة، وهذا حرام، وليأخذ دنانيره وما يجب له من كراء الأرض وبقر وعبيد، وكذلك قال ابن القاسم في كتاب ابن سحنون إنه إن صدقه وقد تم الزرع يريد بالبذر، فهو لمن زرعه وللآخر كراء أرضه بعد أن حكي عن ابن القاسم مثل ما قاله في العتيبة في هذه الرواية، وإنما يكون مخيرا في ذلك على القول بأنه مخير فيه، إذا قال الوكيل إنما زرعت له ولنفسي على أن يكون لي نصف البذر عليه سلفا، وأما إن قال زرعت لنفسي خاصة فالزرع له وعليه كراء نصف الأرض ونصف البقر ونصف العبيد إن كان ذلك كله بينهما، ولا تخيير في ذلك للشريك بحال عند أحد، ولو علمنا صدق قول الوكيل فيما ادعاه من أنه زرع لنفسه أو للشريك لم يكن له في ذلك خيار، وإنما الخلاف إذا لم يعلم صدقه من كذبه، فهو يخشى إن صدقه أن يكون كاذبا، وإن كذبه أن يكون صادقا، فيدخل ذلك في كل وجه بيع الزرع بطعام، لأنه إن كان زرع لنفسه فالزرع له لا يجوز أن يأخذ فيه طعاما من الشريك، وإن كان زرع للشريك لا يجوز أن يسلمه إليه بما له عليه من الطعام، ولهذا المعنى قال القائل في(15/390)
سماع أصبغ بعد هذا أنه ينتظر بالزرع حتى يحصد ويدرس فيستوفي الوكيل منه بذره، ويكون ما بقي لصاحب الأرض لأنه زرعه له وباسمه، هذا وجه القول في هذه المسألة فيما يجب الحكم والقضاء به.
وأما الاستفتاء فسبيله أن يقال فيه للشريك أنت تعلم إن كنت توقن أنه قد صدقك في قوله إنه زرع لك من عنده فادفع إليه الطعام وخذ زرعك، وإن كنت توقن أنه قد كذبك في قوله وأنه إنما زرع لنفسه فلا يجوز لك أن تدفع إليه الطعام وتأخذ الزرع، وإن كان لا يقين عندك في واحد من الوجهين فوجه الخلاص ما قاله القائل في سماع أصبغ من أن يحصد الزرع ويدرس فيستوفي منه الوكيل بذوره ويكون ما بقي لك لأنه زرعه لك على ما أقر به وبالله التوفيق.
ا
[مسألة: اكترياها ليزرعاها بينهما فغاب أحدهما فزرع الآخر نصفها وطاب]
مسألة قال: وقال ابن القاسم في الأرض تكون بين الرجلين يحرثانها جميعا أيام البذر فيغيب أحد الشريكين فيقوم أحدهما فيبذرها، قال: إن جاء صاحبه قبل أن يفوت الزرع رأيت أن يبذر نصيبه من الأرض يزرعها، ولا يجوز له أن يأخذ فيها طعاما ولا ذهبا ولا أرضا يحرثها ولا متوبة إذا لم يفت البذر، فإذا فات كان على الذي بذرها أن يعطيه كراء عمله الذي كان عمل إذا فات.
قال محمد بن رشد: لم يبين في هذه الرواية إن كان الشريك زرع الأرض في مغيب شريكه لنفسه أو بينهما، والمعنى فيها أنه زرعها لنفسه، ولذلك قال إن من حق الشريك الغائب إن كافا إبان الزرع لم يفت أن يأخذ نصيبه في الأرض فيزرعها لنفسه يريد بعد أن تقسم إذا كانت مشاعة بينهما، ومثله في كتاب ابن المواز، قال ولو اكترياها ليزرعاها بينهما فغاب أحدهما فزرع الآخر نصفها وطاب فهو له خاصة، وعليهما كراء ما تعطل منها. قال(15/391)
أصبغ وعلى الزارع نصف قيمة كراء المزروع منها إن كان ذلك أكثر من الثمن، وما تعطل فهو عليهما وكراؤها كلها عليهما، قال ابن المواز: وهذا قول ابن القاسم، وقول ابن القاسم في هذه الرواية إن للشريك الغائب أن يأخذ حظه من الأرض فيزرعها إن كان لم يفت إبان الزرع هو مثل قول ابن القاسم في أول سماعه من كتاب الاستحقاق إنه يكون له فيما بنى في أرض شريكه قيمة بنائه منقوضا إن صار في حظ شريكه، خلاف قوله في سماع أبي زيد بعد هذا، وفي رسم إن أمكنتني من سماع عيسى من كتاب الشركة إن الزرع للذي زرعه وعليه نصف كراء الأرض لشريكه يريد وإن كان إبان الحرث لم يفت فمرة رأى ابن القاسم الشركة بينهما في الأرض مبهمة توجب أن يكون الزرع لزارعه وإن لم يفت إبان البذر، ومرة لم يرَ ذلك بشبهة، ورأى من حق الشريك أن يأخذ نصيبه من الأرض يزرعها إذا لم يكن للذي بذره فيه منفعة إن قلعه، وإن كانت له فيه منفعة كان من حقه أن يقلعه إلا أن يشاء الشريك المتعدى عليه أن يأخذه بقيمته مقلوعا، فيكون ذلك له، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في أول سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، وفي رسم إن أمكنتني من سماع عيسى من كتاب الشركة.
ولو زرع الأرض بينهما لنفسه وللغائب، لكان الغائب مخيرا بين أن يسلم له الزرع وبين أن يأخذ حظه منه ويعطيه البذر على ما قال في المسألة التي قبل هذه، وقد مضى القول على ذلك فلا معنى لإعادته.
[: تزارعا في أرض أحدهما فكان الزوج لأحدهما والأرض للآخر]
من سماع عبد الملك بن الحسن قال عبد الملك: سألت ابن وهب عن رجلين تزارعا في أرض أحدهما، فكان الزوج لأحدهما والأرض للآخر، فاخرجا زريعة بينهما، فلما فرغ الذي كان ولي الازدراع من الحرث قال لشريكه(15/392)
صاحب الأرض إذًا لي الزريعة التي زرعت عنك، فقال صاحب الأرض: قد زرعت ما كان علي منها وخلطنا زريعتنا جميعا، أخرجت أنا النصف وأخرجت أنت النصف، وإنما زرعت زريعتنا جميعا، وليس لك علي شيء ولم تسلفني شيئا، وقال الزارع: بل الزريعة كلها من عندي، وقد صار نصفها لي عليك، فعلى من البينة منهما؟ قال: القول للعامل منهما وهو الزارع الذي ولي الزريعة والعمل، والزرع بينهما نصفان لأنها شركة فاسدة قد وقعت وفاتت بالبذر والزرع، لأنه يقر أنه إنما زرع على أن نصف الزريعة على صاحبه مضمونة سلفا منه، فهو كمن أخرجها من عنده، ولصاحب الأرض نصف قيمة كراء الأرض على صاحبه ونصف قيمة العمل إن كان هو العامل، وإن كان الآخر هو العامل فله نصف قيمة كراء أزواجه وعمله، وما سوى من ذلك من المسألة فهو على ما فسرت لك في صدرها، لا يبالي أيهما كان ويرجع العامل بنصف البذر على صاحبه بعد اليمين، وقال أشهب: إذا قامت البينة لأحدهما أنه الزارع وأن البذر كان في يديه فله على صاحبه نصف ذلك البذر، ويحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه له، وما لصاحبه مما زرع من الزريعة قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب في هذه المسألة إنها شركة فاسدة معناها على ما حملها عليه من أن العامل ادعى أنه زارع صاحبه على أن يجعل عنه نصيبه من الزريعة سلفًا، فهو يصدق فيما يدعي من أنه هو أخرج الزريعة كلها من عنده، لأنه هو الذي ولي زراعتها، ولا يصدق فيما ادعاه من الفساد في المزارعة بشرط السلف، غير أنه مقر بذلك على نفسه، فإن كان عليه في ذلك درك لشريكه أداه إليه، إذ قد يكون قيمة كراء ما أخرج أقل من قيمة كراء ما أخرج شريكه فيرجع عليه بنصف ما زاد كراء ما أخرج على ما(15/393)
أخرج هو، مثال ذلك أن يكون صاحب الأرض هو الذي ولي العمل والزراعة فادعى أنه جعل جميعه على السلف لشريكه وقيمة كراء الأرض وعمله عشرة دنانير، وقيمة كراء بقر صاحبه عشرون دينارا فيصدق فيما ادعى من السلف؛ لأنه هو الذي ولي الزراعة ويلزمه إقراره على نفسه بفساد الشركة فيرجع عليه شريكه بخمسة دنانير، لأن جميع كراء ما أخرجاه جميعا ثلاثون دينارًا، على مدعي السلف من ذلك خمسة عشر دينارا أخرج منها عشرة عليه ولشريكه خمسة يأخذها منه إن رجع إلى تصديقه، وكذب نفسه على اختلاف في هذا الأصل، إذ قد قيل إنه يأخذ ما أقر له به، وإن تمادى على إنكاره وإن كان قيمة ما أخرج الذي ادعى عليه سلف الزريعة أكثر من قيمة ما أخرج صاحبه لم يكن له عليه رجوع على القول بجواز التفاضل في المزارعة، وهو الظاهر من ابن وهب في هذه المسألة، لقوله فيها: ولصاحب الأرض قيمة كراء الأرض على صاحبه ونصف قيمة العمل معناه، ويكون لصاحبه عليه نصف كراء أزواجه، فإن كان كراء أرضه وعمله أكثر من قيمة كراء أزواج صاحبه لم يرجع عليه بشيء، وإن كان قيمة كراء أزواج صاحبه أكثر من قيمة كراء أرضه وعمله رجع عليه بنصف فضل ما بين الكراءين، لأنه مقر على نفسه بفساد الشركة ووجوب التقويم والتراجع، وأما على القول بأن التفاضل في المزارعة لا تجوز فيرجع من كان له فضل منهما على صاحبه حتى يعتدلا، لأن المزارعة تفسد من هذا الوجه أيضا، فيجب بذلك لمن كان له منهما فضل على صاحبه في قيمة كراء ما أخرج أن يرجع به حتى يعتدلا.
ولم يتكلم أشهب على التقويم فيحتمل أن يكون سكت عنه فلا يكون قوله مخالفا لقول ابن وهب، ويحتمل أن يكون لم يره بحال إذ ليس في السؤال بيان أن مدعي السلف ادعى أنه شريك صاحبه على ذلك، فحمله على أنه تطوع بالسلف خلاف ما حمله عليه ابن وهب والله أعلم وبه التوفيق.(15/394)
[: يشتركان في عمل الزرع فيريد أحدهما الخروج]
من سماع أصبغ من كتاب البيوع العاشر قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجلين يشتركان في عمل الزرع فيريد أحدهما الخروج ويبدو له، قال: إن كانا لم يبذرا كان ذلك له، وإن كانا قد بذرا فليس ذلك له، ويلزمه العمل معه على ما أحب، وإن عجز ولم يقو قيل لشريكه اعمل فإذا يبس الزرع فاستوف حقك واد فضلا إن كان فيه إلى صاحبك، وإن لم يكن فيه فضل وقصر عما انفق اتبعه به، لأن العمل كان يلزمه معه على ما أحب، لأنه ليس مما يستطاع أن يقسم ولا يباع، فإن ترك العمل مع صاحبه هلك زرع صاحبه وقد اشتركا على أمر حلال، فليس له أن يتركه بعد بذره.
قال محمد بن رشد: قوله إن كانا لم يبذرا كان ذلك له، وإن كان قد بذرا فليس ذلك له، يريد فليس ذلك له فيما قد بذر إذ لا يستطيعان أن يقسما ما قد بذرا حتى يحصداه ويقتسماه بالكيل، وأما ما لم يبذرا بعد فلا يلزم الآبي أن يتمادى مع شريكه على بذر ما بقي من زراعتهما، وكذلك إن كانا قد قلبا الأرض ولم يزرعاها بعد فلا يلزم الآبي منهما أن يزرعها معه لأنهما يقدران على قسم القليب وعلى بيعه وقسم ثمنه على معنى قول ابن القاسم هذا، وهو معنى قوله في المدونة إذ لم تجز الشركة في الحرث إلا على التساوي والاعتدال في قيمة كراء ما يخرجه كل واحد منهما عوضا عما يخرجه صاحبه، إذ لو كانت المزارعة تلزم بالعقد لجارت وإن قيمة كراء ما يخرجه أحدهما أكثر من قيمة كراء ما يخرجه صاحبه.
وابن الماجشون وسحنون يريان المزارعة تلزم بالعقد، وهو قول ابن كنانة وابن القاسم في كتاب ابن سحنون، وإنما وقع هذا الاختلاف في المزارعة لأنها شركة وإجارة كل واحدة منهما مفضية للأخرى بكليتهما، لا(15/395)
فضل فيها عنهما، فاختلف أيهما يغلب، فإن غلب الشركة لم يرها بالعقد لازمة ولا أجازها إلا على التكافي والاعتدال إلا أن يتطول أحدهما على صاحبه بما لا قدر لكرائه، ومن غلب الإجارة ألزمها بالعقد فأجاز التفاضل بينهما، ولم يراع التكافؤ غير ابن حبيب، قال ما لم يتفاحش الأمر بما لا يتغابن في مثله في البيوع، وقال سحنون: ذلك جائز وإن تفاحش الفضل في قيمة كراء الأرض ما لم يخرج أحدهما شيئا منفردا له بال لم يخرج صاحبه عنه عوضا فلا يجوز ذلك، والقياس على القول بتغليب الإجارة وإلزام العقد أن يجوز التفاضل بكل حال، وفي المسألة قول ثالث جرى به العمل بقرطبة ألا تلزم المزارعة بالقول حتى يشرعا في العمل، وهو قول يروى عن ابن كنانة، وليس بقياس، وإنما هو استحسان إذ لا يخرج عن القولين في كلتا الحالتين، ويشبه رواية علي بن زياد عن مالك في أن الجاعل يلزمه الجعل بشروع المجهول له في العمل، وبالله التوفيق.
[مسألة: وكل وكيلا يزرع له فأخطأ فزرع أرضه ببذر لابنه أو لامرأته أو لغيرهما]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن رجل وكل وكيلا يزرع له فأخطأ فزرع أرضه ببذر لابنه أو لامرأته أو لغيرهما قال: يغرم الوكيل لابن الرجل أو لامرأته أو لغيرهما بذرهما، ويكون الزرع للوكيل ويكون عليه كراء أرض الرجل الذي وكله إنما يكرى به مثلها؛ وذلك لأنه لا ينبغي أن يكون صاحب البذر مخيرا بين أن يعطى بذرا ويأخذ زرعا، وبين أن يسلم الزرع.
قال: وفيه قول آخر لو قال قائل ينتظر بالزرع حتى يحصد ويدرس فيستوفي الوكيل منه بذره، ويكون ما بقي لصاحب الأرض لأنه زرعه له وباسمه، ثم أفكر فأقول: فحصاده ودرسه وذروه على من يكون فيتفاحش ذلك؟ فالقول ما قلت لك في أول ذلك إذا كان بذر بذرا مخالفا لما أمره، مثل أن يأمره أن يبذر قمحا فيبذر شعيرا(15/396)
أو قطاني، وإن كان الذي أخطأ به قمحا مثل ما أمره فالزرع له ويغرم مكان البذر لأصحابه، وليس على الوكيل شيء.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة إن الزرع للوكيل وعليه كراء الأرض لموكله، ومكيلة البذر لأصحابه، ولا ينبغي أن يكون صاحب البذر - يريد الموكل الآمر له بالبذر - مخيرا بين أن يعطى بذرا ويأخذ زرعا وبين أن يسلم الزرع خلاف ما مضى من قوله في نظير هذه المسألة في نوازل سحنون وتفرقته بين أن يكون البذر الذي بذر مخالفا للذي أمره به أو غير مخالف له استحسان، ووجهه أن البذر إذا كان مخالفا لما أمره به كان الذي يغلب على الظن أنه إنما زرعه لنفسه، فلا ينبغي له أن يصدقه فيما زعم من أنه زرعه له على سبيل الغلط، وإذا كان البذر غير مخالف له أشبه ما يقول من أنه زرعه له، فوجب عنده أن يأخذه ويغرم مثل البذر لأصحابه، وقد مضى في نوازل سحنون من القول في نظير هذه المسألة ما فيه بيان لهذه.
فيتحصل في هذه المسألة على هذا ثلاثة أقوال، أحدها أنه يصدق ويأخذ الزرع ويؤدي البذر لأربابه، والثاني أنه لا يصدقه فيسلم إليه الزرع ويأخذه بكراء أرضه، والثالث الفرق بين أن يكون البذر مخالفا لما أمره به أو غير مخالف وبالله التوفيق.
[: تكون أرضه ملاصقة بأرض جاره فيزرعها ثم يزعم أنه أخطأ وظن أنها أرضه]
من نوازل أصبغ وسئل أصبغ عن رجل تكون أرضه ملاصقة بأرض جاره فيزرعها ثم يزعم أنه أخطأ وظن أنها أرضه؟ وكيف إن كان المكتري اكترى فدانَ أرضٍ فلما جاء وقت الزريعة زرع ثم تبين له أنه أخطأ هل يعذر رب الأرض أو المكتري بالجهالة، ويجعل عليه الكراء أم لا؟ وكيف إن كانت له عرصة قريبة من عرصة صاحبه فبني في(15/397)
عرصته وفي عرصة جاره ثم قال والله ما ظننت إلا أنها من حيث بنائي؟ أو بنى في عرصة صاحبه أصلا، ولم يبن في عرصته هل يعذر بالجهالة أم لا يعذر؟ ولا يعرف خطأه إلا بقوله.
قال أصبغ: أما العرصة فلا كلام فيها وصاحبها بالخيار بين أن يأخذه بقيمته نقضا ولا يصدق قوله فيه على الخطأ فلا يكون له عذر، وبين أن يأمره بقلع نقضه.
وأما الفدان فإني أراه عذرا لأنه يشبه الخطأ في الأحواز وفي الازدراع إلى جنبه وإلى تشابه الحدود، فأرى الجهل على الخطأ حتى يعرف أنه عمد، فأرى أن يحلف لأخطأ وما تعمد، ثم يقدر زرعه فيه كراء مثله ولا ينتزع لإبان زرع ولا غيره، ويحمل محمل من اكترى فزرع ثم جاء صاحبه فهي بشبهة وعذر فكذلك هذا أراه بشبهة وعذر ولا يقلع حتى يبلغ زرعه، قال سحنون: هو عندي كالغصب ولا يعذر بجهل، ولو كان يعذر في هذا أقلع وجاء فزرع فدان جاره ثم قال: ظننت أنه فداني فأرى أن يسلك سبيل الغاصب.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في العراص أنه لا يعذر الباني فيها بالجهل فيصدق فيما ادعاه من الغلط، لأن ذلك لا يشبه في العراص المعروفة بحدودها لكثرة التكرار عليها، بخلاف الفدادين في الفحوص التي قد تجهل أحوازها لاشتباهها مع قلة التكرار عليها لبعدها فيعذر فيها بالجهل، ويصدق فيما ادعاه من الغلط عند أصبغ، وهو قول مالك، رواه أشهب عنه في سماعه من كتاب الغصب.
وسحنون لا يعذره في الفدادين أيضا بالجهل ولا يصدقه فيما ادعاه من الغلط، ووجه قوله أن العداء قد ظهر بحرثه ما ليس له، فلا يصدق فيما ادعاه من الغلط ولا يعذر بذلك عنده إن كان يلزمه أن يثبت حتى لا يحرث مال غيره، فهو عنده كالغاصب فيكون الزرع عنده لصاحب الأرض، وكذلك قال(15/398)
الزرع لرب الأرض ولا شيء للزارع إلا أن يقدر على جميع حبه وإلا فلا شيء له، وقال في موضع آخر إلا أن يكونا لم يتحاكما ولم يعلم بذلك حتى يجب الزرع وفات إبان الزراعة فيكون الزرع لزراعه وعليه كراء الأرض، وقال في كتاب ابنه: وإذا زرع هذا أرضه قمحا وحرث جاره في أرضه شعيرا فطار من بذر كل واحد منهما فنبت فإن ذلك لمن حصل في أرضه ولا شيء عليه لجاره، ولو كان بين أرضهما جسر أو حصا فنبت فيه حب مما تطاير فذلك بينهما اختلفت زريعتهما في الجنس أو اتفقت، لأن ذلك الموضع من أرضهما وبالله التوفيق.
[: اشتركا في أرض خرج من عنده بذرا فبذرها كلها فجاء صاحبه بعد ذلك]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر قال: وسئل ابن القاسم عن رجلين اشتركا في أرض يزرعانها بينهما، فحرثاها فلما كان إبان الزرع غاب أحد الشريكين فلما خشي صاحبه فوات الزرع أخرج من عنده بذرا فبذرها كلها، فجاء صاحبه بعد ذلك، قال ابن القاسم: لا يكون له شرك في الزرع، وإنما يكون له مثل كراء تلك الأرض محروثة، ويكون الزرع للذي زرع، قال: فقيل له: فإن كان قسم الأرض بين اثنين فأحضر لذلك رجالا فزرع حصته وترك ما بقي؟ قال: لا ينفعه ذلك، ويكون للذي غاب كراء نصف ما زرع ولا ينفعه ذلك إلا أن يتعدى السلطان فيكون هذا الذي يقسمها فيزرع حصته فهذا الذي لا يكون له شيء فيما زرع صاحبه.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل قوله في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى من كتاب الشركة، وخلاف لقوله في سماع سحنون من هذا الكتاب، وقد مضى الكلام هنالك على وجه الاختلاف في ذلك فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
تم كتاب المزارعة بجيد الله تعالى وحسن عونه(15/399)
[: كتاب المغارسة] [مسألة: يغرس له نخلا في أرض له على أن له جعلا]
من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب الرطب باليابس قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في رجل قاضى رجلا على أن يغرس له نخلا في أرض له على أن له في كل نخلة تنبت جعلا قد سماه، وأن ينبت غرسه فلا شيء له عليه، ولا يلزمه العمل في ذلك إن شاء أن يتركه تركه فقال: لا أرى به بأسا إذا اشترطا للنخل قدرا يعرف، أربع سعفات أو خمسا أو نحو ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه جعل محض، والمغارسة على الجعل جائزة، لأنها تجوز على الجعل وعلى الإجارة وعلى جزء من الأصل إذا بلغ الغرس حدا تجوز المغارسة إليه، ولا اختلاف أحفظه في المذهب في إجازة المغارسة على الجعل؛ لأن الجعل أصل في نفسه كالقراض والمساقاة لا تقاس على الإجارة ولا تقاس الإجارة عليه، وإن أخذ شبها منها، والأصل في جوازه قول الله عز وجل: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوم حنين: «من قتل قتيلا فله سلبه» وقوله يوم(15/401)
بدر من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا ومن فعل كذا وكذا فله كذا وكذا، وإن كان مالك قد كره ذلك، فإنما كرهه لئلا تفسد نيات الناس في الجهاد لا أنه عنده حرام وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للنفر من أصحابه الذين رقى أحدهم سيد حي من أحياء العرب مروا بهم من لدغة لدغ بها على قطيع من الغنم فرقاه فكأنما أنشط من عقال فسألوه عن ذلك: «قد أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم بسهم» .
ولجوازه أربعة شروط متفق عليها، وهي أن يكون الجعل معلوما، وألا ينقد، وألا يضرب للعمل أجل وأن لا يكون للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه، وشرط خامس مختلف فيه، وهو أن يكون للجاعل فيه منفعة إذا تم، وهذه الشرائط كلها موجودة في المغارسة على الجعل فوجب أن يجوز، وقد قال ابن دحون: مسائل المغارسة لا أصل لها وفيها غرر وخطار ظاهر، وقد أجازها مالك وأصحابه وللمخالفين عليهم فيها تعلق قوي، لأن أصحاب مالك كلهم منعوا من الغرر والخطر في جميع مسائلهم وأجازوه في هذا وجعلوه من باب الجعل، ومن أصلهم أن لا يجوز الجعل إلا في اليسير، وأجازوه في هذا العمل الكثير، وهو خطر عظيم، وليس قول ابن دحون بصحيح؛ لأنهم إنما منعوا من الغرر الكثير في البيع لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الغرر وعن الخطر والقمار في غير البيع؛ لأنه من ميسر الجاهلية، وأما الجعل فقد جوزته السنة وأجازته الشريعة على ما فيه من الغرر على الشروط التي ذكرناها، وليس من شروط صحته ما ذكره من أنه لا يجوز إلا في اليسير، وإن كان قد قاله عبد الوهاب وغيره، بل يجوز في اليسر والكثير إذا لم يكن للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه.
وإنما قال مالك: لا يجوز الجعل على بيع الثياب الكثيرة وإنما يجوز على بيع الثوب والثوبين من أجل أن الثياب الكثيرة إذا أسلمها إليه ليبيعها له بالجعل(15/402)
فلم يبعها وصرفها إليه كان قد انتفع بحفظه لها وحوزه إياها مدة كونها بيده، فهذه هي العلة في أن لا يجوز الجعل على بيعها لا كونها كثيرة، فقد يجوز الجعل باتفاق على طلب العبد الآبق وحفر البئر وما أشبه ذلك، وإن كان العمل في ذلك كله كثير من أجل أنه إن لم يتم حفر البئر لم ينتفع الجاعل بما مضى فيها من عمل المجعول له، وكذلك إن عني المجعول له في طلب العبد الآبق إلى البلاد البعيدة فلم يجده لم يكن للجاعل في طلب المجعول له إياه منفعة، فهذا هو الشرط في جواز الجعل لا ما ذكره وبالله التوفيق.
[: الأرض البيضاء يعطيها الرجل للرجل على أن يغرس له أصولا]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك عن الأرض البيضاء يعطيها الرجل للرجل على أن يغرس له أصولا، فإذا بلغت الأصول فهي بينهما نصفان نصف الأرض، ونصف النخل، قال: لا بأس بذلك أيضا إذا اشترط للأصل قدرا معلوما أن يقول حتى يثمر أو شيئا معروفا من قدرها، فإذا اشترطا هذا فلا بأس به، ولا خير فيه في بقل ولا زرع.
قيل له فبصل الزعفران يعطى على هذا النحو، وهو يقيم تسع سنين ونحو ذلك ثم ينقطع؟ قال: لا خير فيه إنما هو بمنزلة الثمرة وليس بمنزلة الأصل، فلا ينبغي ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن مغارسة الرجل للرجل أرضه البيضاء على أن يغرسها أصولا بجزء منها جائزة جوزها أهل العلم قياسا على ما جوزته السنة من المساقاة، كما جوزوا قياسا عليها بناء الرحى الخربة بجزء منها، فهي سنة على حيالها ليست بإجارة محضة ولا جعل محض؛ لأنها أخذت بشبه منهما جميعا، أخذت بشبه من الإجارة في لزومها بالعقد، وشبه من الجعل في أن الغارس لا يجب له شيء إلا بثبوت الغرس وبلوغه الحد(15/403)
المشترط، فإن بطل قبل ذلك لم يكن له شيء ولا كان من حقه أن يعيده مرة أخرى.
واختلف إن نبت منه يسير وبلغ الحد، وبطل سائر ذلك أو بطل منه يسير، وثبت سائر ذلك، فقيل إن القليل تبع للكثير، وهو رواية حسين بن عاصم في بعض الروايات من هذا الكتاب، وقيل إن حقه يثبت في اليسير الذي بلغ ويبطل من اليسير الذي لم يبلغ، وهو قول أشهب في سماع أصبغ، وأما إن كان الذي ثبت أو بطل له قدر وبال فإن كان الأقل فلا يكون تبعا، ويثبت حقه فيما ثبت ويبطل فيما بطل، ولا يجوز إلا على شروط قد حدها أهل العلم، من ذلك أن يكون الحد في قدر الشجر إلى ما دون الإطعام، واختلف إن كان حدها الإطعام، فأجازه في هذه الرواية وفي رسم الجواب بعد هذا وفي كتاب محمد بن المواز، وله في موضع آخر منه أن ذلك لا يجوز، لأنه لا يدري متى يثمر، وكذلك اختلف أيضا إن كان حدها إلى أجل دون الإطعام، فأجاز ذلك في أول سماع حسين بن عاصم، ومنع منه في أثنائه بدليل، وهو قول مالك في الواضحة.
وكذلك اختلف أيضا إن سكتا عن الحد في ذلك، ففي رسم الجواب من سماع عيسى أن ذلك لا يجوز، وقيل إن ذلك جائز قاله ابن حبيب، وجعل حده الإثمار.
وأما إن كان الحد أو الأجل إلى ما فوق الإطعام فلا يجوز باتفاق، وكذلك إن اشترطا أن يكون الشجر أو الغلة بينهما دون الأصل لم يجز باتفاق.
ولا تجوز المغارسة في بقل ولا زرع، وأما بصل الزعفران التي تقيم في الأرض أعواما ثم تنقطع وما أشبهه فلم تجز المغارسة فيه في هذه الرواية، وأجازها سحنون في كتاب ابنه، قال: ومن دفع أرضه إلى رجل يزرعها قطنا على أن للعامل نصف الأرض ونصف القطن، فإن كان القطن يزرع في كل عام(15/404)
ولم يكن له أصل ثابت فذلك فاسد، وإن كان القطن يبقي السنين العدد وليس يزرع في كل عام، فهذا إن أجلا آجلا دون الإطعام فإذا بلغاه كان القطن يعني الشجر والأرض بينهما فذلك جائز والله الموفق.
[: المغارسة الفاسدة إذا لم يجعل للعامل فيها جزء من الأصل]
من سماع عيسى بن دينار من كتاب استأذن
سيده في تدبير جاريته قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن رجل أعطى أرضا له بيضاء لرجل يغرسها شجرا على الثمر بينهما بالسواء، فغرس وأثمر واقتسما الثمرة زمانا ثم علم بفسخ ما صنعا، قال: يرد صاحب الأرض إلى العامل فيها ما أخذ من الثمرة مثلها إن كان يجد مثلها وإلا فقيمتها، ويكون له كراء أرضه على العامل من حين أخذها منه، وليس من حين أثمر الشجر، ويقال لصاحب الأرض: إن شئت فاغرم قيمة الغرس مقلوعا، وإن شئت فدعه يقلع غرسه.
قال محمد بن رشد: اختلف في المغارسة الفاسدة إذا لم يجعل للعامل فيها جزء من الأصل على قولين أحدهما أنه يحكم لها بحكم الكراء الفاسد، لأنه كأن الغارس اكترى منه الأرض إلى أمد غير معلوم بنصف الثمرة التي يغرسها ليبقيها فيها، وهو قوله في هذه الرواية، فتكون الغلة على هذا للغارس يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها: المكيلة إن عرفت أو خرصها إن جهلت ويقلع غرسها إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا، وقيل: إن له قيمته قائما، قاله يحيى في سماعه من كتاب السداد والأنهار في المعاملة الفاسدة في بناء الأرحى، ولا فرق بينهما، ويكون عليه قيمة كراء الأرض قيل من يوم أخذها، وهو قوله في هذه الرواية، ومعناه عندي إن كان أخذها في وقت يمكنه وضع الغرس فيه، لأنه إن كان أخذها قبل إبان يمكنه وضع الغرس(15/405)
فيه فيها فالكراء إنما انعقد بينهما من يوم يمكنه وضع الغرس فيه فيها إذ لا منفعة له في الأرض قبل ذلك، وقبضه إياها للأقبض، وقيل من يوم وضع الغرس فيها وهو قوله في سماع يحيى بعد هذا، ومعناه عندي من يوم يمكنه وضع الغرس فيها، فليس رواية يحيى على هذا بمخالفة لرواية عيسى فتدبر ذلك تجده صحيحا.
وقد كان الشيوخ يحملون ذلك على أنه اختلاف من القول فلا يوجبون عليه الكراء في رواية يحيى إلا من يوم وضع الغرس في الأرض، وإن كان أخذها، وقد أمكنه وضع الغرس فيها، وهو محتمل، وأما إن كان أخذها قبل أن يمكنه وضع الغرس فيها فلا يصح أن يكون عليه الكراء من يومئذ، وقيل من يوم أثمر النخل وهو قوله في لسماع أبي زيد وسماع حسين بن عاصم بعد هذا من هذا الكتاب.
وجه قوله في هذه الرواية ورواية يحيى أنه كراء فاسد قد فات بانتفاع المكتري به؛ فوجب أن تكون عليه قيمته من يوم قبضه، وهو يوم يمكنه الانتفاع بما قبض.
ووجه رواية أبي زيد وحسين أن الأمر لما لم ينعقد بينهما نصًّا على كراء فاسد ولا على أن يكون عليه كراء أصلا فصرفناه إلى حكم الكراء الفاسد لم يجعل عليه الكراء إلا من يوم انتفاعه بالأرض، وهو يوم أثمرت النخل، والقول الثاني يحكم له بحكم الإجارة الفاسدة، لأنه كأن رب الأرض استأجر الغارس على أن يغرس له هذه الأرض بنصف ثمرتها فيكون الحكم في ذلك أن يكون للغارس على رب الأرض قيمة غرسه يوم وضعه في الأرض مقلوعا وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه، وتكون الغلة كلها لرب الأرض يرد عليه الغارس ما أخذ منها: المكيلة إن عرفت أو خرصها إن جهلت.
وهذا الاختلاف مبني على ما غرسه الغارس من الغرس هل هو على(15/406)
ملكه أو على ملك رب الأرض، فمن علل بأن الغرس على ملك الغارس جعله كراء فاسدا، ومن علل بأن الغرس على ملك رب الأرض جعله إجارة فاسدة وبالله التوفيق.
[: بيع الثمر قبل أن تخلق]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه وسئل عن الرجل يعطي أرضه رجلا يغرس فيها شجرا على أنها إذا بلغت قدر كذا وكذا من قدر يسمونه فالأصل والشجر بينهما، فتطعم تلك الشجر قبل أن يبلغ ذلك القدر.
قال ابن القاسم: لا يصلح أن يتعامل على مثل هذا ولا يصلح العمل فيها إلا على تسمية قدر يكون قبل الإطعام أو إلى الإطعام وأما أن يشترط للشجر من الطول والقدر ما لا يبلغه إلا بعد إطعام الشجر فإن ذلك لا يصلح.
قلت: أرأيت إن وقع على هذا كيف العمل فيه؟ قال: وتكون الثمرة لصاحب الأرض ويعطي العامل أجر مثله فيما عمل، وليس له في الأرض قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: قوله: "إن المغارسة إلى حد من الأصول يثمر الشجر دونه" لا يجوز بين؛ لأنه يدخله بيع الثمر قبل أن تخلق، لأنه باع منه نصف الأرض بغرسه النصف الآخر، وبما يغتل من جميع الغرس إلى أن يبلغ الحد الذي شرطاه، وقد مضى في رسم طلق من سماع ابن القاسم تحصيل القول فيما يجوز من الأجل في ذلك مما لا يجوز، ومضى في الرسم الذي قبل هذا من هذا السماع القول في حكم المغارسة الفاسدة إذا وقعت دون أن يكون للعامل من الأرض شيء، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك.(15/407)
ونتكلم هاهنا على حكمها إذا وقعت فاسدة مع أنه قد جعل للغارس فيها جزء من الأرض كنحو هذه المسألة، فالذي يتحصل فيها لابن القاسم ثلاثة أقوال.
أحدها - أن العامل يرد إلى إجارة مثله في الجميع، ولا يكون له في الأرض شيء، فيعطي قيمة غرسه يوم وضعه في الأرض، وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم، ويرد إلى رب الأرض ما أكل من الثمرة: مكيلتها إن علمت أو قيمة خرصها إن جهلت، هذا معنى قوله في هذه الرواية وإن كان لم ينص عليها فيها، وهو مذهب سحنون، وهذا القول يأتي على تعليل من علل أن الغرس في المغارسة الفاسدة كيفما وقعت على ملك رب الأرض.
والقول الثاني - أنه بيع فاسد في نصف الأرض قد فات بالغرس، فيكون على الغارس فيه لرب الأرض قيمته يوم غرسه، وإجارة فاسدة في النصف الثاني، فيكون فيه على رب الأرض للغارس قيمته مقلوعا يوم وضعه في الأرض وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم، وقيل: إنه يكون عليه للغارس نصف قيمة الغرس قائما يوم الحكم فيه من أجل سقيه وعلاجه، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم بعد هذا في رسم الجواب، وقيل: إنه يكون عليه للغارس قيمة نصف غرسه يوم بلغ وتم، وأجرته من يومئذ في قيامه عليه إلى يوم الحكم، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، ويتحاسبان في ذلك فمن كان له الفضل بينهما على صاحبه رجع به عليه، والغلة بينهما في جميع ذلك على ما اشترطاه، والصحيح من ذلك ما بدأنا به من أنه يكون عليه نصف قيمة الغرس مقلوعا يوم وضعه في الأرض وأجرة مثله في غرسه وقيامه عليه إلى يوم الحكم، فالغرس على قياس هذا القول نصفه على ملك الغارس ونصفه على ملك رب الأرض.
والقول الثالث - أنه بيع فاسد أيضا في نصف الأرض قد فات بالغرس(15/408)
فيكون على الغارس فيه قيمة يوم فوته بالغرس، وتكون في النصف الثاني كراء فاسدا، فيكون على الغارس فيه لرب الأرض كراء مثله يوم أخذها، أو يوم وضع الغرس فيها، أو يوم أثمرت، على الاختلاف الذي قد ذكرناه في رسم استأذن، وبينا فيه معناه، ويقلع الغارس غرسه من النصف الذي لرب الأرض بعد أن تقسم إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا أو بقيمته قائما على قول يحيى بن يحيى المتقدم في رسم استأذن، وهو مذهب مالك في رواية المدنيين عنه، ويكون على هذا القول الغلة كلها للعامل يرد عليه رب الأرض ما أخذ منها، المكيلة إن عرفت أو خرصها إن جهلت، وهذا هو قول ابن القاسم في رواية حسين عنه، وهو يأتي على أن الغرس على ملك الغارس، وهو أظهر من القول الثاني، لأن اجتماع البيع والكراء في هذه السلعة أولى من اجتماع البيع والإجارة فيها، لأنهما يصيران كأنهما قد تمما الفساد بينهما، وبالله التوفيق.
[: باعه نصف الأرض على أن يغرس له النصف الثاني]
ومن كتاب الجواب وسألته عن رجل أعطى أرضه رجلا يغرسها على النصف، فاغترسها الرجل وأكل الثمرة نحوا من أربع سنين أو خمس سنين، وأن صاحب الأرض باع نصفه ذلك من الغارس أو غيره، ثم أراد البائع صاحب الأرض بعد ذلك أن يرجع في النصف الذي في يد الغارس الذي عمر به في الأرض وغرسه عليه.
قال ابن القاسم: ليس له أن يرجع فيه، لأن أحدهما كان حلالا حين أعطاه الأرض يغرسها له وله نصفها إذا كانا سميا للغرس شبابا أو قدرا معلوما، فإن لم يكونا سميا ذلك ولا حداه كان كبيع فاسد، لأنه باعه نصف الأرض على أن يغرس له النصف الثاني،(15/409)
فلما لم يسميا ولا حداه فقد باعه إياه بشيء لا يدريان ما هو، فهو بيع فاسد، وقد فاتت الأرض كلها بالغرس، والغرس فوت، فيقوم على الغارس النصف الذي صار له يوم قبضه، لأنه قد فات في يديه، والغراس فوت، ويكون للغارس على صاحب الأرض نصف قيمة الغرس؛ لأن له نصف الأرض ونصف الغرس لأن الغارس هو الذي غرسه له في نصف الأرض، ويقوم الغراس قائما على حاله يوم يحكم فيه؛ لأن له سقيا وعلاجا، وبالسقي بلغ وتم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في الرسم الذي قبل هذا فلا وجه لإعادته.
[: الجعل على خدمة شهر]
ومن كتاب العتق قال عيسى: قلت لابن القاسم أرأيت لو قال له أستأجرك على أن تغرس في أرضي هذه كذا وكذا نخلة، فإن خرجت ونبتت فهي بيني وبينك.
قال: لا بأس به إنما هو جعل وليس بإجارة، ولو شاء أن يذهب ذهب، ولو غرسها ثم ماتت لم يكن له شيء حتى تنبت، ولو لم يكن جعلا ما جاز لأنه شرط عليه شيئا لا يدري أيتم أم لا يتم؟ ولعله أن يعمل فيه ويبطل ولا يستطيع أن يخرج عنه فيكثر تعبه ويطول عناؤه، ثم لا يخرج النخل فيكون قد ذهب عمله فيه بغير شيء أخذه، ولكنه لو استأجره على أن يغرس له في حائطه هذا كذا وكذا نخله بنصف أرضه هذه لم يكن بذلك بأس، وكانت إجارة ولم يكن له أن يخرج حتى يفرغ من غراسه، فإذا غرسها وغيبها في الأرض(15/410)
ثبتت له أجرته لا يبالي نبتت أو عطبت، ولو كان لا يثبت له أجر حتى تخرج وتنبت ولا يستطيع هو أن يخرج كان قد منعه هو من منفعة نفسه بما لا يدري أيتم أم لا يتم؟ ولعله لا ينبت إلا بعد سنتين أو ثلاثا، ولعلها لا تنبت أبدا فيكون قد ذهب عناؤه باطلا، فلا خير فيه إلا على ما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: قوله أستأجرك على أن تغرس في أرضي هذه كذا وكذا نخلة، فإن خرجت ونبتت فهي بيني وبينك، معناه وما نبت منها فهو أيضا بيني وبينك بموضعه من الأرض، إذ لا يصح أن يجوز الجعل إلا على هذا، لأن من شرط جوازه أن لا يكون للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه، لأنا لو حملنا المسألة على ظاهرها من أن المجعول له لا يجب له شيء إلا بأن يخرج النخل كلها وتنبت لوجب إذا لم تنبت كلها ونبت بعضها أن لا يكون للغارس فيما نبت حق، ويكون لرب الأرض الجاعل، وذلك ما لا يجوز باتفاق، ألا ترى أنه لا يجوز الجعل على خدمة شهر ولا خياطة ثوب من أجل أنه إن خدم بعض الشهر أو خاط بعض الثوب ثم ترك الخياطة أو الخدمة لم يجب له حق فيما خدم ولا فيما خاط فأخذ الجاعل باطلا، وذلك باطل لا يجوز، ولم يلتفت إلى لفظ الإجارة في قوله استأجرك لما شرطا فيها العمل على حكم الجعل، وهذا قوله في المدونة إنه إنما ينظر إلى الفعل لا إلى اللفظ.
وقوله في هذه المسألة إن المغارسة في الأرض على خدمتها لا تجوز إلا على وجه الجعل بأن لا يلزم المغارس التمادي على العمل ويكون له أن يخرج ويتركه متى ما أراد خلاف المشهور من أن المغارسة في الأرض على جزء منها جائزة على أنها لهما جميعا لازمة وإن كان لا يحملها الناس قياسا على المساقاة، وهذا أظهر، وإن كان فيه اعتراض لأن من شرط صحة المجاعلة أن يكون الجعل فيها معلوما، والجعل في هذه المغارسة غير معلوم، لأنه الجزء الذي شرط له من الأرض بعد غرسها كيف يكون الغرس، فالمغارسة على(15/411)
هذه الرواية لا تجوز إلا على وجهين أحدهما الإجارة على وجهها من لزومها لهما جميعا، والثاني الجعل على وجهه من أن لا يلزم المجعول له العمل وإن كان فيه من الاعتراض ما ذكرناه وهو الجعل بالجعل إذا كان على الجزء من الأرض بعد غرسه، إذ لا يدري كيف يكون الغرس، فهذا كله بين، والله الموفق.
[مسألة: من استأجرأجيرا فليعلمه أجره]
مسألة قلت: أرأيت لو قال له اغرس لي في أرضي هذه نخلا، ولم يسم عددها أو رمانا أو أصلا من الأصول معينا على وجه الجعل أو على وجه الإجارة قال: لا بأس بهما جميعا.
قلت له: ألا ترى أنه لا يدري كم يغرس له فيها أيقل الغرس أم يكثر؟ قال: بل ذلك عند الناس معروف غروس الأصول كلها لها قدر عند أهل المعرفة بها يغرسونها عليه أن يرد الغارس غرسه منع من ذلك وعلم أنه أراد الضرر، وإن قارب بينهما علم أنه أراد تلافها أو هلاكها، فمعرفة ذلك ثابتة عند الناس معروفة قيل لك أجرته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه، لأن العرف المعلوم في العمل يغني عن وصفه، بدليل قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فسمى الإجارة وضرب الأجل ولم يصف الخدمة والعمل لاستغنائهما عن ذلك بالعرف والعادة وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره» وقال «من استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم» فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتسمية الأجرة وضرب الأجل، وسكت عن وصف العمل إذ قد يستغنى عن ذلك بالعرف والعادة اللذين يقومان مقامه.(15/412)
[: يعطي الرجل أرضه البيضاء على أن يغرسها شجرا وتكون الثمرة بينهما يقتسمانها]
ومن كتاب الصبرة من سماع يحيى من ابن القاسم
قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يعطي الرجل أرضه البيضاء على أن يغرسها شجرا وتكون الثمرة بينهما يقتسمانها عند كل جناء أو يعامله فيها على ما لا يصلح مما أشبه هذا، فيعملها العامل ويثمر الشجرة ويقتسمان الثمرة زمانا على شرطهما.
فقال: أخطأا وجه الصواب في تعاملهما الذي جاءت به السنة، وذلك أن يكون للعامل نصف الأرض بما فيها من الغرس إذا تم نصفها أو ثلثها أو جزء من أجزائها على ما يقع به الشرط بينهما من هذا الوجه، فإذا تركا هذا وتعاملا بما لا يصلح منها، فلصاحب الأرض على العامل كراؤها لما مضى من السنين من يوم وضع فيها الغرس إلى يوم ينظر في أمرهما، يقوم له كراؤها نقدا على قدر ما يرى من رغبة الناس فيها عاما بعام، ثم يدفع ذلك إليه، ويكون على صاحب الأرض أن يغرم للعامل مكيلة ما أكل من الثمر إن كان أخذه يابسا، وإن كان أخذه رطبا غرم قيمته على خرصه، ثم يقال للعامل اقلع غرسك واصنع به ما بدا لك شرط أن لا يرضي صاحب الأرض أن يعطيه قيمة الشجر مقلوعا، ويكون أحق بها لأن قلعها فساد لا منفعة فيه للعامل، قلت: ولم لا يجعل الشجر لرب الأرض ويغرم العامل ما أكل من الثمرة ويعطيه أجر ما عمل في قيامه بالسقي والعلاج كله، ويكون صاحب الأرض أولى بثمرة شجر أرضه؟ فقال: لأني سمعت مالكا يقول إذا تعامل المتنازعان على ما لا يحل كان(15/413)
الزرع لصاحب الحب، ولم يكن لصاحب الأرض إلا كراء أرضه، والشجر والزرع عندنا سواء، ثمرة الشجرة للذي غرسها صلة من عنده، كما أن الزرع لصاحب البذر إذا تولى عمله كما تولى صاحب الشجر غرسه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم استأذن من سماع عيسى فلا وجه لإعادته، وما حكى عن مالك من أن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر إذا تولى عمله، هو مذهب ابن القاسم في المدونة على ما تأول عليه أبو إسحاق التونسي من أن الزرع في المزارعة الفاسدة لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول، وهي الأرض والعمل والبذر، وفي ذلك اختلاف كثير قد ذكرته في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب المزارعة فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا وبالله التوفيق.
[: القليل تبع للكثير]
من سماع أصبغ من ابن القاسم
من كتابه الأقضية والأحباس قال أصبغ: وسمعت أشهب وسئل عمن يدفع أرضه إلى رجل يغرسها نخلا وسمى له سعفات معلومة وقدرا معلوما على أن الأرض والشجر بينهما فيغرسها فتموت كلها إلا ثلاث نخلات.
قال: ما نبتت فهو بينهما، وبقية الأرض لربها، قال أصبغ: وهو قول ابن القاسم فيما أعلم، وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: لا فرق على هذا بين أن يكون الذي نبت هو الأقل أو القليل أو الأكثر أو الكثير يكون للمغارس حقه فيما نبت على كل حال، ويبطل فيما بطل ولم ينبت على كل حال، وفي سماع حسين بن عاصم(15/414)
عن ابن القاسم أن القليل تبع للكثير إلا أن يكون الذي نبت أو بطل له قدر وبال وإن كان الأقل فلا يكون تبعا ويثبت حقه. فيما نبت ويبطل فيما بطل، وهو قول سحنون، وهو الذي يأتي على المشهور من أن المغارسة على جزء من الأجزاء جائزة على أنها لهما جائزة، والقول الأول يأتي على القول بأن المغارسة في الأرض على جزء منها لا تجوز إلا على وجه الجعل الذي لا يلزم المجعول له فيه العمل وبالله التوفيق.
[: أعطاه الأرض يغرسها على أنها إذا بلغت قدرا معلوما كان له جزء منها]
ومن نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج وسئل عن رجل أعطى رجلا أرضا له ليغرسها بينهما فلما غرس بعضها أو جلها إلا أنه لم يتم العمل إلى الشرط الذي جعلاه بينهما عجز الغارس أو غاب فأدخل صاحب الأرض آخر في الغرس فعمله وقام به أو عمله صاحب الأرض بنفسه، وتم ما بقي منه، ثم قدم الأول فطلب حقه مما كان غرس فما ترى له إذا كان غائبا أو حاضرا؟ قال أصبغ: إن كان غائبا أو حاضرا حضورا لم يسلم في مثله ولم يرض فيما يرى ولم يقطع عليه برؤية التسليم أو الرضى أو الخروج منه على حقه ويعطي الذي كفاه ما كفاه به أو أتمه يأتيه به ما لم يسرف عليه بما يعمل مثله فيرد إلى الحق وإلى ما لو كان هو العامل لزمه مثله ولحقه.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه أعطاه الأرض يغرسها على أنها إذا بلغت قدرا معلوما كان له جزء منها فعجز بعد ما عمل وغرس بعض الغرس، فأدخل رب الأرض مكانه من يتم عمله بأجرة استأجره عليها أو عمل هو ذلك بنفسه، فقال: إنه إذا لم يظهر تركه بما دخل فيه فهو على شرطه، ولمن أتم العمل أجرته على الذي عجز ما لم يكن سرفا فإن أسرف رب الأرض(15/415)
فيما استأجر به رد إلى الحق، وقول أصبغ فيها عندي خلاف لقول ابن القاسم في أول مسألة من سماع يحيى فن كتاب البضائع والوكالات في الخصام، ولقول ابن القاسم وسحنون في مسألة كتاب الجعل والإجارة في الرجل يستأجر الرجلين لحفر بئر فيمرض أحدهما ويحفرها الآخر إن الحافر متطوع، قال ابن القاسم لصاحبه وقال سحنون لصاحب البئر لأن ابن القاسم حمل الإجارة على أنها مضمونة على كل واحد منهما، وحملها سحنون على أنها معينة فانفسحت بالمرض، ولم يفرق أحد منهم في شيء من ذلك بين أن يكون لصاحب الأرض أو البئر أو الشريك عبيد أو أُجراء لا يحتاج من أجلهم على الاستئجار على ما عمل له، كما فرق في ذلك في سماع أبي زيد من كتاب الجعل والإجارة، فقيل رواية أبي زيد مفسرة للقولين، وقيل إنها قول ثالث في المسألة وهو الأظهر والله أعلم، ولو لم يطلب الأول حقه وانتبذ منه فقال: لا حاجة لي به، وطلب الذي كفاه ما كفاه به وأتمه لتخرج ذلك على الاختلاف في المغارسة على جزء من الأرض هل هي لازمة لهما قياسا على المساقاة أو لا تلزم المغارس منهما قياسا على الجعل وحملا عليه، وقد مضى ذكر الاختلاف في رسم العتق من سماع عيسى.
ولو عجز قبل أن يفوت المغارسة في الأرض مغارس رب الأرض فيها غيره لكان الأول على حقه، ويؤدي قيمة عمل الثاني للثاني أو لرب الأرض إن لم يرد الثاني أن يرجع على رب الأرض وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يجوزلرب الأرض أن يشترط على المغارس إلا القدر اليسير]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل أعطى رجلا أرضا على أن يضرب حولهـ جدارا أو يحفر حولها سياجا أو يزرب حولها ويغرسها، فإذا بلغ الغرس كذا وكذا لأجل حدداه بينهما فله النصف من جميع الغرس والجدار والسياج والزرب والأرض، فإنه لا يتم في موضعه ذلك إلا أن(15/416)
يسدوا حوله من كثرة المواشي واختلاف الناس والمضيق في موضعهم ذلك، وكيف إن كانت الأرض في موضع لا يخاف على الغرس فيه فساد ما ذكرت لك واشترط عليه السداد؟
قال أصبغ: إن كانت مؤونة يسيرة فهو جائز، وإن كانت مؤونة السياج والحائط والزرب يعظم ويكثر فلا خير فيه، وهو زيادة في المجاعلة وهو غرر أيضا لعله لا يتم من الغراس شيء فترجع الأرض بحيطانها وسياجاتها إلى ربها فيكونان قد تخاطرا، ويكفيك أن يحمل هذا على ما تحمل على المساقاة من سد الحظار وسد الشرب وما لا تعظم مؤنته ولا تكثر نفقته، فيجوز كذلك، قال مالك فيما قد علمت، وإلا لم يجز.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يجوز لرب الأرض أن يشترط على المغارس إلا القدر اليسير الذي يجوز لرب الحائط أن يشترطه على المساقي في المساقاة صحيح، لأن المغارسة على جزء من الأرض مقيسة عليها حسبما قد ذكرناه في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وهي على القول الثاني مقيسة على الجعل فلا يجوز أيضا اشتراط الزيادة الكثيرة فيه إذ لا يجوز ذلك في الجعل لأنه متى أحيل عن سنته باشتراط الزيادة فيه من أحدهما خرج عن أصله وعاد إلى الإجارة الفاسدة، وقد أجاز ابن القاسم في سماع حسين بعد هذا أن يشترط رب الأرض على العامل عمل نصيبه سنين مسماة بعد المقاسمة، وأنكر ذلك سحنون، فقوله في إنكاره صحيح على قياس قول أصبغ هذا، ولأصبغ في الواضحة مثل قول ابن القاسم هذا في سماع حسين، وزاد قال: وذلك أنه إذا غارسه على حد معروف واشترط أن يقوم له بحصته إلى أجل من السنين قد تمت المجاعلة بينهما، وصار لكل واحد نصفه يصنع فيه ما شاء، وصار لصاحب الأرض على الغارس عمل وخدمة إلى أجل معروف في نصفه الذي صار له، فجاز ذلك، واعترض عليه الفضل قوله قد تمت المجاعلة(15/417)
بينهما، وقال: أرأيت إن أبطل الغرس من قبل أن يبلغ النبات الذي تعاملا عليه وأبى الغارس أن يعيد غرسه أتتم المغارسة بينهما؟ واعتراضه صحيح والله الموفق.
[: أعطى رجلا أرضا يغرسها شجرا على أن الشجر بينهما نصفان]
ومن كتاب النسمة وسئل عن رجل أعطى رجلا أرضا يغرسها شجرا على أن الشجر بينهما نصفان فلما غرس وأطعم الغرس أراد صاحب الأرض إخراجه حيث عمل ما عملا عليه، هل للغارس من إجارة عمله يوم يخرج، أو قيمة غرسه؟ قال: أرى له غرم قيمة غرسه الذي جاء به على صاحب الأرض، وإجازته فيما عمل وسقى وأصلح، ويقيم له ذلك أهل البصر، ويأخذ إجارته تامة إن كان أقام في ذلك سنة أو سنتين أو أقل أو أكثر، ويكون له مع ذلك قيمة الغرس الذي غرس في أرض هذا.
قال محمد بن رشد: قوله على أن الشجر بينهما نصفان يريد الشجر دون الأرض، ولذلك حكم لها بحكم المغارسة الفاسدة، فيردهما فيها إلى حكم الإجارة، وقد مضى الاختلاف في ذلك في رسم استأذن من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[: دفع أرضه إلى رجل على أن يغرسها نخلا والثمر بينهما]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم: في رجل دفع أرضه إلى رجل على أن يغرسها نخلا حتى إذا أثمرت كانت النخل والأرض بينهما قال: لا بأس به.(15/418)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم طلق من سماع ابن القاسم أن المغارسة إلى الإطعام جائزة، ومثله يأتي في رسم حسين بن عاصم، وهو قول ابن حبيب في الواضحة وأحد قولي ابن المواز في كتابه، وله فيه قول آخر أن ذلك لا يجوز لأنه لا يدري متى يثمر؟ إذ قد يعجل ذلك وقد يؤخر، وبالله التوفيق.
مسألة قال: أرأيت لو دفعها إليه مبهما، فادعى أحدهما الحلال والآخر الحرام؟ قال: ينظر إلى عمل أهل ذلك البلد، فإن كان الغالب عليهم الحرام سلك بهم سبيل الحرام، إن كانت الثمرة لم تثمر أعطى العامل النخل مقلوعا إلا أن يشاء صاحب الأرض أن يعطيه قيمتها مقلوعا ولا شيء له في عمله ولا سقيه، وإن كانت أثمرت كانت الثمرة للعامل وكان لصاحب الأرض كراء أرضه يوم أثمرت النخيل، فإن كان عمل أهل ذلك البلد الحلال سلك بهم سبيل الحلال، وإن كان أهل تلك البلدة يعملون بالحلال والحرام وهذا يدعي حراما وهذا يدعي حلالا حلفا ويفسخ الأمر بينهما.
قال محمد بن رشد: تكلم في أول هذه المسألة على الفوات وفي أخرها على القيام، وبنى قوله في ذلك كله على أنه لا مزية لمدعي الحلال في دعواه على مدعي الحرام إلا أن يشهد له العرف بمنزلة مدعي الحرام، فقال في أول المسألة في الفوات: إنه إن كان الغالب في البلد الحرام يسلك بهم سبيل الحرام يريد بعد يمين مدعي الحرام على ما يشهد له به العرف من الحرام فيعطى النخل مقلوعة إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذها بقيمتها مقلوعة ولا كراء على العامل في الأرض إذا لم يثمر النخل إذ لم ينتفع بها وأما إن أثمرت فعميه الكراء، قال في هذه الرواية من يوم أثمرت، وقد مضى ذكر(15/419)
الاختلاف في ذلك وتوجيهه في رسم استأذن من سماع عيسى، وقال إنه إن كان عمل أهل البلدة الحلال سلك بهم سبيل الحلال يريد أنه يكون القول قول مدعي الحلال مع يمينه على ما يدعيه من الحلال لشهادة العرف له بذلك، ولو لم يشهد العرف لواحد منهما أو شهد لهما لوجب على قياس هذه الرواية أن يكون قول من يدعي عليه منهما أكثر مما يجب عليه على ما يقر به من الحرام والحلال.
وقال في آخر المسألة في الفوات وإن كان أهل البلد يتعاملون بالحلال والحرام حلفا وفسخ الأمر بينهما، وتحصيل القول في اختلافهما في الحلال والحرام أن اختلافهما في ذلك لا يخلو من أن يكون قبل الفوات أو بعد الفوات، فإن كان قبل الفوات فعلى القول بأنه لا يراعي دعوى الإشباه مع القيام، يتحالفان ويتفاسخان، هذا نص قولهم والذي يوجبه النظر أن يحلف مدعي الحرام وينفسخ البيع، وإن نكل عن اليمين حلف مدعي الحلال وثبت البيع إذ لا معنى لحلف مدعي الصحة إلا بعد نكول مدعي الفساد، لأنه إذا حلف انتقض البيع على كل حال حلف مدعي الصحة أو نكل عن اليمين، فلا معنى ليمينه إلا إذا نكل مدعي الفساد.
وأما على القول بأنه يراعي دعوى الإشباه مع القيام، فيكون على هذه الرواية التي لم ير فيها لمدعي الحلال مزية في دعواه على مدعي الحرام القول قول من يشهد له العرف منهما دون صاحبه، فإن شهد العرف لهما أو لم يشهد لواحد منهما حلفا وفسخ الأمر بينهما، هذا نص قوله.
وقد مضى أن الذي يوجبه النظر أن يبدأ بيمين مدعي الحرام، إذ لا معنى ليمين مدعي الصحة إلا إذا نكل مدعي الفساد، وأما على المشهور في المذهب من أن لمدعي الحلال مزية في دعواه على مدعي الحرام فيكون القول قول من يدعي الحلال منهما إلا أن يشهد العرف لمدعي الحرام دونه.
وأما إن كان اختلافهما في ذلك بعد الفوات فلا اختلاف في مراعاة(15/420)
دعوى الإشباه في ذلك، فيكون على المشهور في المذهب من أن لمدعي الحلال مزية في دعواه على من يدعي الحرام، القول قول من يدعي الصحة إلا أن يشهد العرف لمدعي الفساد دونه، وبكون على رواية أبي زيد الذي لم ير فيها لمدعي الحلال مزية في دعواه على مدعي الحرام القول قول من شهد له العرف منهما دون صاحبه، فإن شهد العرف لهما أو لم يشهد لواحد منهما كان القول قول من يدعي منهما أكثر مما يلزمه على ما يدعي من الحرام أو الحلال، وبالله التوفيق.
[: يدفع أرضه إلى لرجل ليغرسها على انها بينهما نصفين]
ومن سماع حسين بن عاصم من ابن القاسم قال حسين: قلت لابن القاسم أرأيت الرجل يدفع أرضه إلى الرجل ليغرسها أصولا معروفة على أن الشجر والأرض بينهما بنصفين؟ قال: قال مالك: لا بأس بذلك إذا سميا للشجر قدرا معلوما أو شبابا معروفا ينتهي إليه. قال: قلت لابن القاسم ما هذا الشباب الذي وصفه مالك لكم؟ قال: حد الشجر في ارتفاعها حتى تكون تزيد قدرا معلوما كالقامة والبسطة ونصف القامة وما أشبه ذلك في سعفات تلقيها الشجر معروفة أيضا، قال: فقلت له أيجوز هذا إذا كانت الشجرة تثمر قبل بلوغها لهذا الشباب والقدر الذي وصفت لك؟. قال: لا يجوز ذلك وتفسخ معاملتهما.
قلت له: لم فسخت ذلك بينهما؟ قال من قبل: إن العامل تكون له الثمرة التي تثمر تلك النخل إلى أن تبلغ الشباب والقدر الذي سمياه بينهما ثم يكون نصف تلك الشجر بأرضها للعامل مع(15/421)
الثمرة كلها التي كانت قبل ذلك، فصار أجيرا بثمرة لم يبد صلاحها وبنصف هذه الأرض بما ينبت فيها، فلا يجوز.
قلت: فإن سميا عدة سنين يعملها العامل يغرسها ثم يكون بعد ذلك بنصفين؟ فقال: لا بأس بذلك إذا كانت أرضا مأمونة قد عرفها الناس لأنها لا يخفى أمرها ونبات شجرها، وذلك إذا كانت السنون لا تتم الشجر قبلها، فإن أثمرت قبل الأجل لم يصلح، لأنه لا يدخله ما وصفت لك من بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحه إذا كان به أجيرا وبنصف الشجر إلى هذا الأجل.
قلت: فإن اشترط إلى أن تثمر؟ قال: لا بأس بذلك.
قلت: لم والإثمار مختلف؟ منه ما يتعجل فيقل عمل العامل فيه فيغبن رب الأرض وقد ظن رب الأرض أنه سيبطأ عمله ويكثر عمل الناس فيه، ومنه ما يبطأ فيظن العامل أنه سيتم معجلا ويقل عمله فيه، فإن كان إثماره قريبا غبن العامل رب الأرض، وإن كان إثماره بطيئا غبن رب الأرض العامل.
فقال الإثمار معروف قدره، وإنما يختلف منه الشيء اليسير فلا يحمل الناس على الخاص وإنما يحملون على العام.
قال محمد بن رشد: أما إجازته المغارسة على جزء من الأرض إلى قدر من الشجر دون الإطعام فلا اختلاف في جواز ذلك، وكذلك منعه من جوازها إلى حد يكون الإطعام دونه أو إلى أجل يكون الإطعام دونه فلا اختلاف أيضا فيه.
وأما إجازته إياها إلى أجل لا يكون الإطعام دونه فهو خلاف ما يأتي له في هذا السماع بعد هذا وجواز ذلك هاهنا على القول بلزوم(15/422)
المغارسة قياسا على المساقاة، والمنع من ذلك على ما يأتي له على القول بأن المغارسة على جزء من الأرض لا يجوز إلا على وجه الجعل الذي لا يلزم المجعول له فيه العمل ولا يجوز فيه الأجل، ويكون له الخروج متى شاء على ما قد مضى القول فيه في رسم العتق من سماع عيسى.
وأما إجازته إياها إلى الإثمار فهو المشهور في المذهب قد مضى مثله في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وإليه ذهب ابن حبيب في الواضحة، ومثله في كتاب ابن المواز، وله في موضع آخر أن ذلك لا يجوز إذ قد يتأخر الإثمار ويتعجل، فهو غرر.
[مسألة: يدفع أرضه إلى الرجل ليغرسها فأثمر بعضها وبقي بعض]
مسألة قلت فإن أثمر بعضها وبقي بعض؟ قال إذا أثمر الجل منها وبقي الشيء التافه كان تبعا لما أثمر منها، ويكون العامل على شرطه، قلت: فإن أخذها على شباب وحد معروف ينتهي إليه فغرسها مات بعضها وحيي بعضها؟ فقال: إن كان الذي حيي منها ونبت جلها وأكثرها فالأرض وما فيها بينهما، ولا يضره ما مات منها، وإن كان الذي مات جلها أو أكثرها لم يكن له فيما نبت من ذلك الشيء اليسير شيء، لأنه ليس وجه ما عامله عليه، قال: قلت وما باله إذا كان الذي نبت منها الشيء الذي له بال وقدر في الأصول من الغرس، وإن لم يكن جلها ولا أكثرها لا يكون العامل فيما نبت من ذلك على شرطه؟ فقال: نعم، أراه فيما نبت مما وصفت على شرطه ولا يكون له فيما لم ينبت قليل ولا كثير، قال سحنون: لا يكون للعامل قليل ولا كثير إذا كان الذي نبت منه الشيء اليسير لا مما نبت ولا مما لم ينبت، قال سحنون: وأصل قولنا في المغارسة إذا كان الذي نبت منها جلها وأكثرها وحسن منها(15/423)
الشيء اليسير فجميع الأصل والأرض بينهما ما حسن منها وما لم يحسن، وإذا كان الذي نبت إنما هو الشيء اليسير وحسن منها جلها وأكثرها فلا يكون للعامل منه قليل ولا كثير، لا مما نبت ولا مما لم ينبت، فكما يكون للعامل نصف الجميع إذا كان الذي حسن منها الشيء اليسير ما حسن منها وما لم يحسن، فكذلك لا يكون له قليل ولا كثير إذا كان الذي نبت منها اليسير وحسن أكثرها لا مما نبت ولا مما لم ينبت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في سماع أصبغ فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: المغارسة على جزء من الأرض دون أن يسميا شبابا ولا حدا]
مسألة قلت فإن أخذها العامل على أن يغرسها على النصف ولم يسميا شبابا ولا قدرا موصوفا ينتهي إليه أو أخذها إلى أجل تكون الثمرة دونه ولا تكون الثمرة أو لا تكون الثمرة دونه ففسخت أمرهما ومعاملتهما، وقد نبت الغرس؟ فقال لي أرى أن يقسم الغرس بينهما نصفين، ثم يكون النصف للعامل بقيمته يوم قبض الأرض براحا لا غرس فيها بتفويته إياها بالغرس، لأنه مبتاع لذلك النصف بعمله في نصف الأرض إلا ما لا أمد له ولا وقت، فصار بمنزلة من ابتاع أرضا بثمن مفسوخ يفوتها بغرس أو بناء، فإنها تقوم عليه بقيمتها يوم ابتاعها بلا غرس فيها ولا بناء، فيعطي تلك القيمة البائع وتكون الأرض للمبتاع لتفويته إياها، فهذا يدلك على ما وصفت لك ومما يدلك على ذلك أيضا لو أن رجلا أعطى رجلا أرضا في إبان القليب ليفلحها ويثنيها ويزرعها فقبلها وثناها وزرعها في إبان الزرع على أن تكون الزريعة منهما والأرض غير مأمونة ويكون الزرع بينهما نصفين فإنه يفسخ عليهما إذا لم تكن(15/424)
مأمونة لأنه أجير في نصف الأرض بالنصف الذي أخذ، وهو لا يدري أيتم له الزرع فيها إن مطرت السماء أو لا يتم له إن قحطت السماء، فإذا فسخت عملهما قسمت الأرض بينهما نصفين فيكون للعامل نصف تلك الأرض تلك السنة إن رويت الأرض في إبان الزرع بكراء مثلها؛ لأن الحرث فيها فوت كما كان الغراس فوتا هنالك، ويكون للعامل على رب الأرض قيمة عمل مثله في قليبه وحرثه عطشت الأرض أو رويت، فهذا يدلك على مسألتك أيضا.
قيل: فإن أثمرت الشجر وقد اغتلاها زمانا؟ قال: يكون ما اغتل للعامل من نصفه الذي ضمنه يوم فوته بالغرس له، ولا كراء عليه فيه، ويكون عليه الكراء في سهم شريكه من يوم اغتله، وتكون له ثمرة ذلك النصف على رب الأرض يرجع بها عليه منذ يوم اغتلها، لأنه إنما دفع إليه أرضا فصار الذي أخذ منها من الثمرة من كراء أرضه فدخل في ذلك كراء الأرض بالثمرة، ففسخ ذلك وردت الثمرة إلى من أخذت منه، وصار على أخذها كراء نصف الغرس براحا لا غرس فيها منذ يوم اغتلها وهو العامل، قال سحنون: لا تكون له الغلة وجميع الغلة لصاحب الأرض يردها عليه العامل، ويكون على صاحب الأرض قيمة غرسه إن كانت له قيمة وأجرة عمل مثله، قال سحنون: لو أني جعلت له الثمرة لكان بيعا للثمرة قبل أن يبدو صلاحها.
قال محمد بن رشد: أما حكمه بفساد المغارسة على جزء من الأرض دون أن يسميا شبابا ولا حدا ينتهي إليه المغارسة فهو المشهور في المذهب، وأجاز ذلك ابن حبيب وجعل حدها الإطعام.
وأما حكمه بفسادها إلى أجل لا يكون الإطعام دونه فهو خلاف ما تقدم(15/425)
في هذا السماع، وقد مضى القول هنالك على ما يتخرج عليه كل قول منها على الأصول، وقوله في مسألة البيع الفاسد الذي نظر بها إن القيمة تكون في ذلك يوم ابتاعها، معناه إن كان البيع والقبض في وقت واحد؛ لأن القيمة لا تجب في البيع الفاسد إلا يوم القبض لا يوم البيع هذا اختلاف، ومسألة القليب الذي استدل بها على ما ذهب إليه من أنه بيع فاسد في نصف الأرض مسألة صحيحة إلا أنها لا حجة فيها إذ لا يلزم فيها على قياس القول بأنه يلزم المغارس قيمة نصف الأرض يوم فوتها بالغرس والكراء في النصف الثاني أن يلزمه الكراء في جميع الأرض لتفويته لها بالقليب.
وقوله: "إنه يكون له الكراء في سهم شريكه من يوم اغتله" هو مثل ما تقدم في سماع أبي زيد خلاف ما في سماع يحيى وفي رسم استأذن من سماع يحيى وفي رسم استأذن من سماع عيسى، وحكى ابن زرب أنه وجد في بعض الكتب لابن القاسم أنه لا كراء عليه في نصيب صاحب الأرض؛ لأنه كأنه أباح له الغرس فيها، قال فلذلك سكت عنه في غير هذا الموضع، وقد مضى توجيه الاختلاف هناك فلا معنى لإعادته، ومضى أيضا في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى تحصيل الاختلاف في هذه المسألة فلا معنى لإعادته، وقول سحنون: إنها إجارة فاسدة في الجميع هو أحد أقوال ابن القاسم في المسألة في رسم يوصي من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: الإجارة في عين الأجير]
مسألة قال: قلت: فإن أخذها على شباب معروف وحد ينتهي إليه وشرط عليه رب الأرض عمل شطره سنين مسماة بعد المقاسمة هل يجوز ذلك له أم لا؟ فقال: إن كان عمل النصف محدودا معروفا وكان مضمونا على العامل عاش أو مات فذلك جائز، وإن كان ذلك في عمل بدنه بعينه ما قام شخصه فلا خير فيه ويفسخ لأنها مخاطرة(15/426)
ولا يدري أيعيش العامل إلى ذلك الأجل أو يموت قبله؟ فإن مات غبن رب الأرض، فإن عاش إلى الأجل غبنه رب الأرض فتخاطرا بهذا، قال سحنون: هذا خطأ ولا يجوز هذا، وأول خطأ هذا أنه جعل وبيع شيء، فلا يجوز هذا على حال من الحال، ويصنع في هذا كما وصفت لك في أول المسألة.
قال محمد بن رشد: في الواضحة لمطرف وأصبغ مثل قول ابن القاسم، وزاد عن مطرف قال: فإن بطل الغرس بعد أن غرسه قيل لرب الأرض أعطه غرسا مثله يغرسه لك، ويقوم لك به إلى أجله، وهذا هو قول سحنون وقول أشهب في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة، وإليه ذهب ابن حبيب خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها من أن الإجارة لا تجوز في ذلك إلا بشرط الخلف وزاد عن أصبغ أنه أجاز ذلك، لأن المغارسة قد تمت بينهما، واعترض ذلك الفضل واعتراضه صحيح، إذ لا فرق في القياس بين أن يشترط عليه في المغارسة عملا يعمله قبل الغرس أو بعده، فقول ابن القاسم في هذه الرواية وقول أصبغ في الواضحة معارض لما مضى من قول أصبغ في نوازله حسبما بيناه هناك.
ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها - أن المغارسة على هذا الشرط لا تجوز كان العمل مضمونا على العامل أو في عينه غير مضمون عليه، على حكم الإجارة في عين الأجير، وهو الذي يأتي على قياس ما تقدم من قول أصبغ في نوازله.
الثاني - أن ذلك جائز إن كان العمل مضمونا على العامل، ولا يجوز إن كان في عينه غير مضمون عليه إلا أن يشترط الخلف إن بطل الغرس.
والثالث - إن ذلك جائز في الوجهين جميعا والحكم يوجب الخلف، وأما إن اشترط العمل في بدنه ما قام شخصه، فإن مات بطل عنه الشرط ولم يجب عليه لرب الحائط شيء فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، فإن وقعت المعاملة على ما لا يجوز باتفاق أو على ما لا يجوز عند من لا يجيزها على ما(15/427)
وقعت عليه فسخت، فإن فاتت بالعمل كان الحكم فيها على الاختلاف الذي قد مضى تحصيله في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى، وقول سحنون فيها على أصل مذهبه وأحد أقوال ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: ذهب الغرس وبطل ورجعت الأرض براحا على حالها الأول]
مسألة قلت: أرأيت إن عامله على النصف بحال ما ذكرت لك معاملة يفسخها بينهما فاغتلاها زمانا ثم ذهب الغرس وبطل ورجعت الأرض براحا على حالها الأول؟ فقال: يكون نصفها للعامل بقيمتها يوم أخذها براحا، لأنه ساعة فوتها بالغرس ضمنها بقيمتها فلا يسقط عنه الضمان رجوعها إلى حالها الأولى، ويكون أيضا للعامل الغلة كلها، وعليه كراء نصف الأرض منذ يوم أغتلها، فلا يكون عليه في نصفها الذي قوم عليه كراء ويكون على رب الأرض للغارس في نصفه الذي ذهب أجر عمله فيها إلى أن يبلغ الشباب الذي سمياه، هلك بعد ذلك أو كان قائما، وإن فات الغرس من قبل أن يبلغ ذلك الشباب فليس للغارس أجرة في غرسه نصف الأرض وما يدلك عليه قول مالك في الرجل يستأجر حفار القبور على حفر قبر فينهدم القبر من قبل أن يفرغ الحافر منه: إن ذلك عليه حتى يحفر ويفرغ منه، وإن انهدم القبر بعد فراغه منه فهو من المستأجر، وعليه للحافر أجرته كاملة، قال: قال سحنون: تكون جميع الغلة لصاحب الأرض، ويكون للعامل منها شيء ويعطى العامل أجرة مثله بعد أن يرد جميع ما أخذه من الغلة من قبل أن الشجر لو نبتت لم أجعل له فيها ولا في الأرض شيئا، فكيف إذا لم تنبت حينئذ أخرى أن لا يكون له شيء، قال ابن القاسم ومما يدلك على ذلك أيضا قولنا فوق هذه المسألة في القليب في الأرض غير المأمونة.(15/428)
محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة وتكون أيضا للعامل الغلة كلها معناه إلى يوم بلغت النخل الحد الذي اشترط إتمام المغارسة إليه، وأما فيما بعد ذلك إلى حين الحكم فتكون الغلة بينهما كما اغتلاها، ولا شيء في ذلك على واحد منهما لصاحبه، لأن العامل اغتل النصف الذي قد ضمن بالقيمة، وصاحب الأرض اغتل النصف الآخر الذي قد صار بانقضاء أمد المغارسة إليه وتولى القيام لنفسه عليه.
وقوله: "فعليه كراء النصف لرب الأرض منذ يوم اغتلها" معناه أيضا إلى يوم بلوغ النخل الحد المشترط.
فأما قوله: ويكون على رب الأرض للغارس في نصف الذي ذهب أجرة عمله فيه إلى أن يبلغ الشباب الذي سمياه هلك بعد أو كان قائما وإن مات الغارس من قبل أن يبلغ ذلك الشباب فليس للغارس أجرة في غرسه نصف رب الأرض فإنه كلام لا يستقيم رده على ما تقدم من القول، بأن الغلة كلها للعامل، وعليه كراء نصف الأرض، وإنما يصح على القول بأنه يرد في نصف رب الأرض إلى إجارة المثل فيؤديها إلى العامل وتكون غلة ذلك النصف له لا للعامل، ويرد إليه مع ذلك قيمة الغرس يوم وضعها في الأرض، فهو خروج من قول إلى قول دون واسطة، وأراه سقط من الأم شيء من الكلام.
وأما قوله: "إن الغرس إن مات من قبل أن يبلغ ذلك الشباب للغارس أجرة في غرسه نصف رب الأرض" فهو قول سحنون ومذهبه، وخلاف المعلوم من مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها في أن له من الأجر بقدر ما مضى من العمل، وإنما اختلف قوله في ذلك في المدونة إذا كانت الإجارة بما لا يملك من الأرض كالقبر يستأجر الرجل على حفره في المقبرة.
فإن صح هذا الكلام والاحتجاج لابن القاسم يحصل من مذهبه في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه لا شيء له من أجرته إلا بعد تمام العمل.
والثاني - أن له من أجرته بحساب ما عمل.
والثالث - الفرق في ذلك بين ما يملك من(15/429)
الأرضيين أو لا يملك، وقول سحنون على ما اختاره من أقوال ابن القاسم أنه يرد في الجميع إلى أجرة مثله.
[مسألة: يستأجران فيدعي أحدهما في مبايعة صاحب الحلال ويدعي الآخر الحرام]
مسألة قال: قلت فإن أخذها على أن يغرسها على النصف ولم يذكر الأرض ولا الثمر فاختلفا فقال العامل عاملتك على أن لي نصف الأرض، بل على أن الثمرة بيننا وحدها أو الشجر بيننا وحدها دون الأرض؟ فقال لي: إن كان للبلد سنة في معاملتهم حملوا عليها، قلت: فإن كان البلد العامل فيه على الوجهين، وهما يجريان به جميعا؟ فقال: القول في ذلك قول العامل مدعي الحلال منهما مع يمينه، ورب الأرض مدعي لأنه يدعي سببا يريد فسخ عملهما في ارتجاع الأرض، وقد قال مالك في الرجلين يستأجران فيدعي أحدهما في مبايعة صاحب الحلال ويدعي الآخر الحرام: إن القول قول مدعي الحلال منهما مع يمينه، والآخر مدعي؛ لأنه يريد فسخ ما ثبت من يبيع الحلال.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة
قد مضى القول فيها مستوفى في سماع أبي زيد فلا معنى لإعادة شيء منه.
[مسألة: ثبتت بينة على أنهما تعاملا على أن الثمرة بينهما ما قامت الشجرة]
مسألة قال: قلت: فإن ثبتت بينة على أنهما تعاملا على أن الثمرة بينهما ما قامت الشجرة فإذا ذهبت الشجرة فلا شيء للعامل في الأرض أو على أن الشجر وحدها دون البياض.
فقال: لا يجوز ذلك ويفسخ متى ما عثر عليه وترد إلى ربها ويكون عليه للعامل قيمة غرسه مقلوعا بالأرض أو يتركه يقلع غرسه إن(15/430)
أبى أن يعطيه قيمته، وتكون الغلة كلها للعامل ويكون عليه كراء الأرض كلها منذ يوم اغتلها، قال: قال سحنون: الغلة كلها لصاحب الأرض ويعطي للعامل أجرة مثله.
قلت: ولم جعلت للعامل قيمة عمله مقلوعا وهو إنما عمل على وجه شبهة؟ فقال: من قبل أن رب الأرض إنما أكراه أرضه بثمرة تخرج منها على أن يغرسها أصولا ما قامت الشجر، فصار كراء لا أمد له، وكراء الأرض بالثمرة أيضا، فلا بد من رد الأرض إلى صاحبها على حال ما خرجت من يديه براحا لا غرس فيها، لأنك إن لم تفعل وجعلت عليه فيها القيمة لعمل العامل أدخلت عليه ما يحجبه عن أرضه، فإن لم يقدر عليها أو كره أن يعطيها إياه وألزمته إياها صرت أن بعت منه شيئا للعامل في أجرته أو أعطيتها إياه فيها، فصار ما خرج من يديه من أرضه منفوصا حين رجع إليه محجوبا عنه حتى يعطي ما لزمته من الأجرة فهذا يبين لك ما سألت عنه، ولأنه أيضا إنما عامله على أن يعطيه في كرائها ثمرة أو أصلا ما قام الأصل، وفي المسألة الأولى إنما عامله على أن يغرس له نصف الأرض بالنصف الذي أعطاه منها، فصار أجيرا في غرس نصفه بما أعطاه من نصف أرضه.
قلت فإن ذهب الغرس ورجعت الأرض إلى حالها أولا براحا لا غرس فيها والمسألة على حالها؟
فقال: تكون الثمرة كلها للعامل، ويكون عليه كراء الأرض منذ يوم اغتلها، ولا يكون له على رب الأرض فيما هلك من الغرس قيمة ما عمل، لأنه إنما كان يعطيه قيمته مقلوعا بالأرض، فقد ذهب وبطل؛ لأنه إنما كان العمل له لا لرب الأرض، وفي المسألة الأولى(15/431)
إنما كان نصف الغرس الذي بطل بعد أن بلغ الشباب والقدر لرب الأرض لا للغارس، ولذلك أو جبنت للغارس قيمة عمله فيه على رب الأرض فهذا شأنه، قال سحنون: الثمرة كلها لصاحب الأرض ويعطي العامل أجرة مثله.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة وفي المسألة الأولى إنما عامله على أن يغرس له نصف الأرض بالنصف الذي أعطاه منها يريد المسألة المتقدمة التي غارسه فيها على نصف الأرض إلى أجل تكون الثمرة دونه. فقوله فيها هاهنا فصار أجيرا في غرس نصفه بما أعطاه من نصف أرضه وقوله بعد ذلك: وفي المسألة الأولى إنما كان نصف الغرس الذي بطل بعد أن بلغ الشباب والقدر لرب الأرض لا للغارس فلذلك أوجبت للغارس قيمة عمله على رب الأرض، فهذا شأنه خلاف قوله في المسألة المتقدمة لأنه لم يجعله فيها أجيرا في نصف رب الأرض، وإنما جعله فيها مكتريا له، فأعطاه جميع الغلة، وقول سحنون على أصله في أنه يكون أجيرا في الجميع، وقد تقدم هذا المعنى في مواضع، ومضى تحصيل الاختلاف فيه في رسم يوصي لمكاتبة من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله تعالى التوفيق.
تم كتاب المزارعة والمغارسة بحمد الله تعالى وحسن عونه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الكريم اللهم عونك.
تم كتاب المغارسة بحمد الله تعالى(15/432)
[: كتاب الديات الأول] [مسألة: أهل الذهب والورق إذا وقعت عليهم الدية كيف تغلظ]
من سماع ابن القاسم من كتاب قطع الشجر قال وسئل مالك عن أهل الذهب والورق إذا وقعت عليهم الدية مثل ما وقع على المذحجي كيف تغلظ عليهم إن غلظت؟ قال: نعم تغلظ عليهم، وإنما يعتبر ذلك بفضل ما بين أسنان المغلظة وأسنان الخطأ على أهل الإبل، ينظر إلى قيمة المغلظة كم قيمة الثلاثين حقة والثلاثين جذعة والأربعين خلفة فيعرف؟ وينظر كم قيمة أسنان دية الخطأ الأخماس، عشرين بنت مخاض وكم قيمة عشرين بنت لبون، وكم قيمة عشرين ابن لبون وكم قيمة عشرين حقة وكم قيمة عشرين جذعة، فيعرف كم قيمة ذلك كله، فينظر كم فضل ما بين القيمتين؟ قيمة الأثلاث دية الخطأ، وقيمة الأخماس دية الخطأ، فإن كان خمسا أو سدسا أو ربعا أو ما كان فيزاد على أهل الذهب والورق بقدر ما زادت قيمة التغليظ في الإبل على دية الخطأ ينظر كم هو من دية الخطأ؟ إن كان ثلثا أو ربعا أو ما كان زيد مثل ذلك، قال مالك: فأرى الجراح مثل ذلك إذا كانت شبيها بذلك أن يزاد فيها للخرمة أو فقاء العين أو قطع الرجل كان عليه خمسة عشر حقة وخمسة عشر جذعة وعشرون خلفة، فإن فعل ذلك أحد من أهل الذهب أو الورق نظر أيضا إلى فضل هذه الأسنان التي سميتها(15/433)
وإلى نصف قيمة دية الخطأ من الإبل فتغلظ عليه بقدر ذلك إذا صار ذلك ثلثا على أهل الإبل أو ربعا أو ما كان في القيمة، وصنع بأهل الذهب والورق مثل ذلك في الجراح والنفس، قال ابن القاسم: ليس يكون ذلك في الجراح إلا في الأب، قال سحنون: إلا الجائفة والمأمومة والمنقلة، فإن الأجنبي لا يقاد منه فكذلك الأم والأب والجد لا تغلظ عليهم الدية فيها.
قال محمد بن رشد: الديات على مذهب مالك وأصحابه ثلاث: دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية التغليظ في مثل ما فعل المذحجي بابنه، وهي دية شبه العمد على مذهب من يراه ويقول به، وهو قول أكثر أهل العلم ورواية العراقيين عن مالك.
فأما دية الخطأ فإنها على أهل الإبل مائة من الإبل على عاقلة القاتل سنة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في ذلك، وتؤخذ في ثلاث سنين وقيل في أربع بخمسة عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون ذكرا وعشرون حقة وعشرون جذعة، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة جعل مكان ابن لبون ابن مخاض، وقد ذهب جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب إلى أن دية الخطأ مربعة واختلفوا في أسنانها اختلافا كبيرا.
وأما دية العمد فليست بموقتة ولا بمعلومة بدليل قول الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] وشيء نكرة تقع على القليل والكثير، فإن اصطلحوا على الدية مبهمة فإنها تكون حالة في مال القاتل مائة من الإبل على أهل الإبل مربعة: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة وخمس عشرون جذعة، وفي كتاب ابن المواز أنهم إن(15/434)
اصطلحوا على دية مبهمة أو عفا بعض الأولياء فرجع الأمر إلى الدية فالدية في ذلك مثل دية الخطأ إلا أن العاقلة لا تحمل منها شيئا وهي في مال الجاني منجمة في ثلاث سنين، قال: وإنما تفترق دية الخطأ من دية العمد في أن العاقلة لا تحملها، وأما في الأسنان فلا، والأول هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه، وذهب الشافعي إلى أن دية العمد إذا قبلت كدية شبه العمد مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة.
وأما الدية المغلظة في مثل ما صنع المذحجي بابنه وفي شبه العمد على مذهب من يراه من أهل العلم وهو قول مالك في رواية العراقيين فإنها على أهل الإبل مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، قيل حالة في مال القاتل غير مؤجلة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك، وقد كان ابن القاسم يقول: إنها على العاقلة كهيئة دية الخطأ حكى ذلك عنه ابن حبيب، وقيل: إنها على العاقلة حالة تنجيمها وهو قول ابن الماجشون، قال: ومن تغليظها أن يطرح تنجيمها ويدل على ذلك قول عمر بن الخطاب سراقة بن جعشم المذحجي وهو غير القاتل إلا أنه رأس قومه: اعدد لي على ماء قديد عشرين ومائة من الإبل، وإلى هذا ذهب أشهب وسحنون، وقيل: إنها في ماله إن كان له مال وعلى العاقلة إن لم يكن له مال، وهو قول مطرف وإياه اختار ابن حبيب.
وأما الدية على أهل الذهب والورق فهي في الخطأ على ما قومها به عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ألف دينار على أهل الذهب واثني عشر ألف درهم على أهل الورق، هذا مذهب مالك وجميع أصحابه.
واختلف هل تغلظ على أهل الذهب والورق دية العمد المربعة إذا قبلت بفضل ما بين أسنانها وأسنان دية الخطأ أم لا؟ وهل تغلظ أيضا عليهما الدية المثلثة في مثل ما صنع المذحجي بابنه بفضل ما بين أسنانها وأسنان دية الخطأ أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها - أنها لا تغلظ واحدة منهما، حكى هذا القول(15/435)
عبد الوهاب في المعونة.
والثاني - أنها تغلظ كل واحدة منهما، وهو الذي يأتي على ما في رسم الصبرة من سماع يحيى عن أشهب، لأنه إذا رأى التغليظ في الدية المربعة فأحرى أن يراه في الدية المثلثة.
والثالث - أنه لا يغلظ الدية المربعة وتغلظ الدية المثلثة، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقول ابن نافع في رسم الصبرة المذكور من سماع يحيى وهو أولى الأقوال إذ قد قيل في دية العمد إذا قبلت إنها مخمسة مؤجلة على ما في كتاب محمد.
واختلف في صفة التغليظ على ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه ينظر إلى قيمة أسنان الدية المخمسة وإلى قيمة أسنان الدية المربعة أو المثلثة في ذلك البلد إن كان البلد بلد إبل، وإن لم يكن بلد إبل ففي أقرب بلدان الإبل إليهم قاله أصبغ في الواضحة، فما كان بين القيمتين سمي من قيمة أسنان الدية المخمسة فما كان من خمس أو ربع أو ثلث أو أقل أو أكثر أخذ ذلك الجزء من الألف المثقال أو الاثني عشر ألف درهم فزيد عليه، وهو قوله في هذه الرواية والمشهور في المذهب.
والثاني - أنه يزاد على الألف مثقال أو الاثني عشر ألف درهم ما كان بين القيمتين من العدد من غير تسمية، وهذا القول في المعنى أظهر، والأول أشهر.
والثالث أن يقوم أسنان الدية المثلثة أو أسنان الدية المربعة فتكون تلك الدية ما كانت إلا أن ينقص من الألف دينار أو اثني عشر ألف درهم فلا ينقص من ذلك شيء، وهذا القول حكاه عبد الوهاب وهو ينحو إلى مذهب الشافعي في أن الدية على أهل الذهب والورق قيمة الإبل على أسنانها وقت الحكم في كل زمن نقصت من الألف دينار أو زادت عليه، قال: لأن عمر قوم الدية ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم فالحكم أن يقوم في كل زمن.
ولا حجة له فيما روي عن عمر بن الخطاب في ذلك، إذ قد روي أنه قوم الدية، وأنه جعل الدية، وأنه قضى في الدية، وحكم للجراح في التغليظ في الديتين جميعا المربعة والمثلثة حكم الدية الكاملة يؤخذ ذلك من الاختلاف في التغليظ وفي صفته ما ذكرناه في الدية وفي صفته ما ذكرناه في(15/436)
الدية الكاملة إلا الجائفة والمنقلة والمأمومة وما أشبهها من الجراح التي هي متألف فلا يقتص منها في الأجنبي فيستوي في حكم تغليظها الأب والأجنبي، فلا يغلظ على الأب إلا على القول بوجوب تغليظ دية العمد المربعة وجراحات العمد، فقول سحنون إلا الجائفة والمنقلة والمأمومة فإن الأجنبي لا يقاد منه. فكذلك الأب والأم والجد لا تغلظ عليهم فيها الدية هو على ما اختاره وأخذ به من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في أنه لا تغليظ على أهل الذهب والورق في دية العمد وجراحاته، والتغليظ عند ابن القاسم وأشهب وأصحابهما فيما صغر من الجراح أو كبر، وقد ذكر عن ابن القاسم أنه قال: إنما ذلك فيما يبلغ ثلث الدية فأكثر، وقول ابن القاسم ليس يكون ذلك في الجراح إلا في الأب يريد والأم، إذ لا يفرق أحد بين الأب والأم في هذا، فعلى ظاهر قوله هذا لا تغلظ الدية في جد ولا جدة خلاف قوله في المدونة إنما تغلظ في الجد يريد والجدة من قبل الأم ومن قبل الأب - والله أعلم - فلا يغلظ على مذهبه في المدونة في الجد للأم ولا في الجدة أم أب الأم والأم أب الأب، وهو قول أشهب، وذهب ابن الماجشون إلى أن الدية تغلظ في الأجداد والجدات كلهم من قبل الأب ومن قبل الأم وهو قول سحنون في نوازله من كتاب الأقضية إن الدية تكون له في ولده وولد ولده، والتغليظ يلزمه في ولده وولد ولده من الرجال والنساء، وقد روى عن ابن القاسم مثل قول ابن الماجشون، وروى عنه أنه توقف في الجد للأم.
والتغليظ تابع للقصاص فمن تغلظ الدية فيهم كلهم فلا يقتص من واحد منهم ألا أن يعمد لقتله مثل أن يضطجعه فيذبحه أو يأخذ سكينا فيقطع يده أو يفقأ عينه، ومن يرى أن لا تغلظ الدية على الجد للأم أو الجدة أم أب الأب أو أم أب الأم فهو يرى القصاص منهم في العمد الذي يشبه العمد وإن لم يعمد للقتل، إذ لا اختلاف في أنه لا يقتص من واحد منهم فيما هو من شبه العمد مثل أن يضربه بعصا فيموت من ذلك، أو بسوط فيفقأ عينه وما أشبه ذلك.(15/437)
فالديات عند مالك ثلاث مخمسة ومربعة ومثلثة، وعلى ما في كتاب ابن المواز اثنتان مخمسة في الخطأ وفي العمد إذا قبلت الدية مبهمة، ومثلثة في مثل ما فعل المذحجي، وعند الشافعي اثنان مخمسة في دية الخطأ ومثلثة في العمد إذا قبلت وفي شبه العمد، وعند أبي حنيفة اثنتان مخمسة في دية الخطأ ومربعة في شبه العمد وفي العمد إذا قبلت الدية فيه مبهمة، وهذا كله لا مدخل للرأي والقياس في شيء منه، وكل يدعي التوقيف فيما ذهب إليه من ذلك.
ولا يؤخذ في الدية عند مالك وجل أهل العلم إلا الإبل والدنانير والدراهم. وقد روى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت؟ على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الإبل مائتي حلة، وهو قول عطاء وقتادة وروى ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأب إذا قتل ابنه خطأ مع رجلين معه هل ترى له من الدية شيئا]
مسألة وسئل مالك عن الأب إذا قتل ابنه خطأ مع رجلين معه هل ترى له من الدية شيئا؟ وكيف إن كان الابن لم يهلك ساعة أصابوه عاش شيئا من النهار ثم هلك وقامت البينة على ذلك وترك ابنه من الورثة أمه وأختيه وعصبته إن لم يرث الأب.
قال مالك: أرى أن يحلف ورثته خمسين يمينا لمات من ذلك ثم تكون الدية عليهم على عاقلة الأب الثلث وعلى عاقلتي الرجلين(15/438)
ثلثا الثلث على عاقلة كل واحد منهما ثلث الدية، وأرى للأم السدس من الدية كلها وأرى للعصبة والأختين ما على عاقلة الأب بعد سدس الأم وبعد أن يحلفوا، وأرى من الدية للأب ثلثي الدية التي وقعت على عاقلتي الرجلين اللذين شركاه في القتل بعد سدس الأم، وبعد أن يحلف الأب لمات من ذلك، فإن الله تعالى يقول: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فأبوه من أهله، وأرى إذا لم يأت أهل الميراث جملة أهل الثلث وأهل الثلثين يحلف أهل الثلث الأختان والعصبة خمسين يمينا وأخذوا، ثم جاء الأب بعد ذلك فأرى أيضا أن يحلف خمسين يمينا فيكون سهمان الدية ستة وثلاثون سهما، للأم من ذلك سدس الثلثين اللذين يصيران للأب وهو أربعة أسهم وسدس الثلث أيضا الذي يصير للأختين والعصبة، وهما سهمان فذلك ستة أسهم من ستة وثلاثين للأختين ثلثا الثلث وهو ثمانية وللعصبة ما بقي وهما سهمان وللأب عشرون سهما وهو ما بقي من الثلثين بعد سدس الأم.
ورأيت أن لا يجمع على الأب أمران: مصيبة ابنه، وحرمان عقل ابنه يكون على عاقلة قومه يخرجونها إلى أهله قال الله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فأبوه وورثته من أهله، ولأن ذلك من الخطأ الذي لا شك فيه.
ولو ولي الأب قتله وحده لم يكن له من ديته شيء، قال ولو أنهم قتلوه عمدا قتلتهم به بثلاثتهم الأب والرجلين إذا عمد الأب للقتل متعمدا لذلك قتل به، وأما إذا كان من الضرب والرمية وأشباه(15/439)
ذلك فإنه لا يقاد منه، وإذا كان مثل ذلك من الناس يرمي الرجلُ الرجل بحجر أو بعصا أو يضربه بذلك فيموت من ذلك فعليه القود ليس حال الأب في هذا كحال غيره.
وتكون الأيمان عليهم على قدر مواريثهم، فمن كان عليه كسر جبرها، قال مالك: وإن علم أنه هلك منه حين وقعت عليه الخشبة لم يتكلم في غمرته حتى هلك لم يكن في ذلك قسامة، قال ابن القاسم: ويحلف الأب على الرجلين لمات ابنه مما صنعا به، ويحلف العصبة والأختان لمات مما فعل الأب، وتحلف الأم أنه مات من فعلهم كلهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة صحيحة جارية على الأصول إلا أن في سياقتها إشكالا يفتقر إلى بسط وبيان، وهو أن دية الخطأ موروثة عن المقتول يرثها ورثته وبستحقونها على عاقلة القاتل بقسامتهم على قدر مواريثهم مع شاهد على القتل أو شاهدين على الجرح إذا حيي بعد ذلك حياة بينة، فإن كان القاتل من الورثة لم يرث منها ولا أقسم فيها، لأن القاتل الخطأ لا ميراث له من لدية، فإذا قتل الرجل ابنه خطأ مع رجلين سواه فلا ميراث له في ثلث ديته الواجبة على عاقلته بما شاركه في قتله، وله ميراثه في ثلثي الدية الواجبة على عاقلتي الرجلين المشاركين له في قتله، فثلث الدية الواجبة على عاقلة الأب ميراث لأمه ولأخته ولعصبته، لأمه السدس، ولأخته الثلث، ولعصبته النصف بعد أن يقسموا خمسين يمينا لمات من الجرح الذي أصابه به الأب تكون على العصبة منها خمسة وعشرون يمينا لأن لهم نصف الميراث، وعلى الأم ثمانية أيمان، وعلى الأختين ستة عشر يمينا ويجبر اليمين الباقية على أكثرهم حظا منها أو من الأيمان فإن جاءت الأختان والعصبة دون الأم لم يكن لهم أن يأخذوا حظهم من الدية إلا أن يحلفوا خمسين يمينا على ما قاله في الرواية من أن الأختين والعصبة يحلفون خمسين يمينا وثلثا(15/440)
الدية للذان على عاقلتي الرجلين ميراث لأبيه وأمه لأمه السدس ولأبيه الباقي بعد أن يقسما خمسين يمينا لمات من الجرح الذي أصابه به الرجلان، تكون على الأم منها سدس الأيمان، وعلى الأب الباقي منها، فتحلف الأم ثمانية أيمان ويحلف الأب إحدى وأربعين يمينا، وتجبر عليه اليمين الباقية من الخمسين فسواء جاؤوا مجتمعين أو متفرقين لا بد أن تحلف الأم مع الأب خمسين يمينا لمات مما أصابه به الرجلان، وتحلف الأم مع الأختين والعصبة خمسين يمينا لمات مما أصابه به الأب.
وما في ظاهر أول المسألة من التفرقة بين أن يجيء أهل الثلث وأهل الثلثين جميعا أو مفترقين يقضي عليه ما في آخر المسألة.
وقول ابن القاسم: إن الأب يحلف على خلاف ما يحلف عليه العصبة والأختان وقوله وتحلف الأم أنه مات من فعلهم كلهم معناه أنها تحلف مع العصبة والأختين سدس الخمسين يمينا كما يحلفون، وتحلف مع الأب سدس الخمسين يمينا أيضا كما يحلف، لأنها تحلف سدس الأيمان مرة واحدة أنه مات من فعلهم كلهم.
وقوله من كان عليه كسر جبرها الظاهر منه أن اليمين المنكسرة تجبر على من كان حظه منها أكثر وهو الذي في الديات من المدونة، وفي الموطأ رواية يحيى أنها تجبر على من كان عليه أكثر الأيمان، وفي رواية ابن القاسم وابن بكير مثل ما في المدونة، فإن استوى الورثة في الميراث فانكسرت عليهم يمين أو أيمان مثل أن يكونوا ثلاثين من الإخوة؛ فيجب على كل واحد منهم من الأيمان يمين وثلثا يمين، فقيل إنه يجبر اليمين المنكسرة على كل واحد منهم فيحلفون يمينين يمنين، وهو قول ابن القاسم، وقيل يحلفون يمينا يمينا ويقال لهم: لا بد من أن تأتوا بعشرين رجلا منكم يحلفون يمينا يمينًا، وهو قول أشهب(15/441)
فإن تشاحوا على قوله فيمن يحلف منهم، فقيل: إنه يقرع بينهم وقيل: إنه يقال لهم لا تعطون شيئا إلا أن تحلفوا بقية الأيمان، وهو قول ابن كنانة، وإن كان عدد العصبة أكثر من خمسين حلفوا كلهم يمينا يمينا على مذهب ابن القاسم، وعلى مذهب أشهب يقال لهم: لا بد من أن تأتوا بخمسين منكم يحلفون يمينا يمينا فإن تشاحوا في ذلك فعلى ما تقدم من الإسهام بينهم فيمن يحلف منهم، أو من أن يقال لهم لا تعطون شيئا حتى تأتوا منكم بخمسين يحلف كل واحد منهم يمينا يمينا، ولو كان الأخوة ثلاثة لحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا على مذهب ابن القاسم، وعلى مذهب أشهب يحلف كل واحد منهم ستة عشر يمينا، ويقال لهم: لا بد من أن تأتوا برجلين منكم يحلفان يمينا يمينا، فإن كان الورثة زوجات وبنات وأخوات وما أشبه ذلك من أهل السهام فلا يختلف ابن القاسم وأشهب في قسم الأيمان بين الزوجات والبنات والأخوات على سهام الميراث، وإنما يختلفان فيما حصل على كل فريق منهن من الأيمان إذا قسمت عليهن على ما تقدم من الاختلاف في قسمة الأيمان بين الإخوة وبالله التوفيق.
[مسألة: عبيد وأحرار وقعت عليهم الدية خطأ]
مسألة وسئل مالك عن عبيد وأحرار وقعت عليهم الدية خطأ فكان ما على العبيد من ذلك الثلثين وكان على الأحرار الثلث أو أدنى كيف الأمر في ذلك؟.
فقال: يقال لأرباب العبيد افتدروا عبيدكم بما يقع عليهم من الدية في ثلاث سنين أو أسلموهم فأي ذلك شاءوا فعلوا، قال سحنون: ويكون الثلث الذي وقع على الأحرار على عواقلهم في ثلاث سنين، وإن كان الذي وقع عليهم أقل من ثلث الدية فهو على العاقلة في ثلاث سنين، قال ابن القاسم: وإذا كانوا ثلاثة أو أكثر(15/442)
فوقع عليهم ثلاثتهم ثلث الدية فيصير على كل إنسان ثلث الثلث من الدية وهو تسع الدية، فذلك تحمله العاقلة، قال: ولم يكن الأحرار إلا واحدا فوقع عليهم أكثر من الثلث أو أقل فهو على العاقلة في ثلاث سنين، وكان على العبيد ما بقي منها، يقال لأربابهم افتدوهم بما يقع عليهم من الدية في ثلاث سنين أو أسلموهم أي ذلك شاءوا فعلوا.
ويقسم ما يقع على العبيد على عددهم ولا يكون ذلك على قيمتهم فمن شاء من أرباب العبيد أن يفدي عبده بما يقع عليه من الدية وإن كانت قيمته أكثر مما وقع عليه فذلك له، ومن شاء منهم أن يسلمه بما وقع عليه وإن كانت قيمته أقل مما يقع عليه فذلك له.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية إن ما وقع على الأحرار من ثلث الدية فأكثر يكون على عواقلهم وإن كان أقل من الثلث هو خلاف روايته عن مالك مثل رواية أشهب عنه، حكى اختلاف قوله في ذلك ابن المواز، قال إن وقع على الأحرار أقل من ثلث الدية فذلك في أموالهم، قاله مالك مرة وروى عنه أن ذلك على العاقلة في ثلاث سنين، وبه قال سحنون، قال يحيى بن عمر: والأول رواية ابن القاسم والقولة الأخيرة رواها أشهب.
ولكلا القولين وجه من النظر، فوجه القول بأن ذلك على العاقلة القياس على ما أجمعوا عليه من أن الدية إذا وجبت على جماعة من الأحرار أنها على عواقلهم، وإن كان الذي يجب على كل واحد منهم أقل من ثلثها، ووجه القول بأن ذلك في أموالهم هو أن الأصل كان أن لا يحمل أحد جناية أحد لقوله عز وجل: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .(15/443)
وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي رمثة في ابنه: «لا تجني عليه ولا يجني عليك» فوجب أن لا يخصص من هذا العموم إلا ما خصصته السنة والإجماع، وهو الثلث من الدية فأكثر إذا وقع على الواحد من الأحرار أو الجماعة منهم لأنهم في معنى الواحد لاستوائهم فيما يجب عليهم في ذلك.
وقوله ما وقع على العبيد منها يكون أربابهم بالخيار بين أن يفتدوهم بذلك في ثلاث سنين أو يسلموهم به هو خلاف روايته عن مالك في المدونة في الحر والعبد يصطدمان فيموتان جميعا إن ثمن العبد في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد، فإن كان في ثمن العبد فضل عن دية الحر كان في مال الحر وإلا لم يكن لسيد العبد شيء، والذي يأتي في الحر والعبد يصطدمان على قول ابن القاسم في هذه الرواية ما قاله أصبغ في أول نوازله بعد هذا من هذا الكتاب أنه يكون في مال الحر قيمة العبد تدفع إلى سيده ثم يقال لسيد العبد افتك قيمته بدية الحر أو أَسْلِمْها، فإن أسلمها لم يكن لولاة الحر غيرها، وإن افتداها افتداها بجميع الدية، معناه في ثلاث سنين، إذ لو لم تكن مؤجلة لوجب أن يكون مقاصة بالقيمة كما قال في المدونة، والأظهر أن يكون مؤجلة على ما قاله في هذه الرواية، لأن ثمن المقتول خطأ دية مؤجلة فوجب أن لا يلزم السيد أكثر مما جنى عبده.
[: تعرض عليهم الأيمان في القسامة فينكلون ثم يطلبون بعد ويقولون نحن نحلف]
ومن كتاب القبلة وقال مالك في الذين تعرض عليهم الأيمان في القسامة فينكلون ثم يطلبون بعد ويقولون نحن نحلف.(15/444)
قال: كل من عرضت عليه اليمين: فأباها فقد أبطل حقه بتركه اليمين إلا أن يكون له في تركها عذر بين، قال سحنون: يريد بالعذر مثل أن يزعموا أن الميت عليه دين أو يكون أوصى بوصايا.
قال محمد بن رشد: لما سئل مالك عن الذين تعرض عليهم الأيمان في القسامة فينكلون ثم يطلبون بعد ويقولون نحن نحلف أجاب عن ذلك بجواب عام في الحقوق والدماء أن كل من عرضت عليه اليمين فأباها فقد أبطل حقه بترك اليمين إلا أن يكون له في تركها عذر بين ففسر سحنون العذر الذي يكون له في الحقوق فقال: يريد بالعذر مثل أن يزعموا أن الميت عليه دين أو يكون أوصى بوصايا، وقول سحنون بين لأنه إذا أبى أن يحلف مع شاهده على حق يدعيه على الميت من أجل أنه قيل له إنه أوصى لغيره بوصايا ثم علم أنه ليس على الميت دين ولا أوصى به بوصايا فمن حقه أن يرجع إلى اليمين، لأنه يقول: إنما نكلت عنها من أجل محاصة الغرماء لي في الدين أو من أجل محاصة أصحاب الوصايا لي في الوصية، وأما العذر الذي يكون لهم في نكولهم عن القسامة فعلى غير هذا لأن الدم إذا كان خطأ فإنما يستوجب الورثة بقسامتهم الدية على العاقلة، وإن كان عمدا فإنما يستوجب الأولياء بقسامتهم الاستقادة من المقتول.
وقوله: إن لهم أن يرجعوا إلى القسامة إن كان لهم عذر يتبين به أن نكولهم عن القسامة لم يكن على وجه العفو في العمد ولا على ترك حقهم من الدية الخطأ؛ ينبغي أن يحمل على التفسير لما في كتاب الديات من المدونة.
ولابن نافع في المدنية ما ظاهره أن من نكل عن اليمين فله أن يرجع إليها ما لم يرد اليمين على المطلوب، ويلزم في القسامة مثل هذا على ظاهر قوله، ولا اختلاف إذا نكل عن اليمين مع شاهده، وردها على المطلوب أو نكل المطلوب عن اليمين إذا لم يكن للطالب شاهد فردها على الطالب أن ليس لواحد منهما أن يرجع إلى اليمين، ومثل هذا يقال في المقاسمة إنهم إذا(15/445)
نكلوا عنها فردوا الأيمان فيها لم يكن لهم أن يرجعوا إليها باتفاق، وسيأتي في أول رسم من سماع عيسى تحصيل الاختلاف على من ترجع الأيمان في القسامة إذا ردت في العمد والخطأ، وفي أي موضع ترجع باتفاق وعلى اختلاف إن شاء الله تعالى.
ولو نكلوا في القسامة عن الأيمان فردوها على المدعى عليهم فحلفوا فوجد الطالبون بينة تشهد لهم على القتل لجرى ذلك على الاختلاف في الذي ينكل عن اليمين مع شاهده فيرد اليمين على المطلوب فيحلف ثم يجد شاهدا آخر أو شهودا على حقه، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى من كتاب الشهادات.
[مسألة: مات المحبوس في دم العمد]
مسألة قال مالك: من حبس في قتل خطأ أو عمد ثم مات قبل أن يقسم عليه إنه يبطل العمد ولا يقام عليه ولا يبطل الخطأ يقسمون ويأخذون الدية، وقد قيل لا يحبس أحد بقتل الخطأ.
قال محمد بن رشد: قوله إذا مات المحبوس في دم العمد إنه يبطل ولا يقام عليه يريد أنه لا يقام عليه حكمه من أخذ الدية من ماله بعد القسامة عليه، وأما القصاص فيستحيل أن يقام عليه بعد موته فلا معنى لقوله إنه لا يقام عليه إلا ما ذكرته، وهذا عندي على القول بأنه ليس لولي المقتول أن يأخذ الدية من القاتل شاء أو أبى، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وأما على القول بأن من حقه أن يأخذ الدية منه شاء أو أبى وهو قول أشهب وأحد قولي مالك على ما ثبت من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودي، وإما أن يقاد» فلا يبطل الدم بموته قبل القسامة ويكون من حق الأولياء أن يقسموا بعد موته فيستحقون الدية في ماله.
وأما الدم الخطأ فلا إشكال ولا اختلاف في أنه لا يبطل بموت القاتل(15/446)
قبل القسامة عليه، إذ الحق في ذلك إنما هو على عاقلته، وهو كرجل منهم فيما يلزمهم فيؤخذ من ماله بعد موته ما يلزمه من ذلك.
وأما قوله: "وقد قيل إنه لا يحبس أحد في قتل الخطأ" فليس ذلك باختلاف من القول، ومعناه أنه لا يحبس فيه إذا كان مشهور العين فلم يحتج إلى الشهادة على عينه، وأما إذا لم يكن مشهور العين فإنه يحبس حتى يشهد على عينه قال ذلك سحنون، وقوله صحيح ولا يبريه من الحبس هاهنا إلا حميل بوجهه ملي بالدية إن لم يحضره وبالله التوفيق.
[: غر الرجل الهابط في البئر بإمساكه أحد الحبلين اللذين تأمر بهما في البئر]
ومن كتاب أوله باع سلعة سماها وسئل عن رجل ربط رجلا بحبل ودلاه في بئر وربط حبلا آخر في خشبة فتدلى الرجل في البئر لموضع حمام يطلبه فانقطع الحبل الذي في الخشبة فخر هابطا فخشي الرجل أن يذهب به معه في البئر فخلى سبيل الحبل أترى عليه الدية؟
قال: نعم ولا أراه يشبه السفينة وسئل عن ثلاثة مراكب أصابتهم الريح فأتى أحدهم فربط مركبه بصخرة ثم أتى الآخر فربط بتلك الصخر، ثم أتى الآخر بعده فوضع قلعة قبل أن يبلغهما ثم نزل رجلان منهما بحبلين إلى المركبين فسأل أحدهما أن يربط له مركبه بحبله وأبى وقالوا: إنا نخاف الغرق، ثم سأل الآخر فأبى، ثم كلموهم، فقال صاحب المركب: اللهم إني إنما أربطه لك فجره المركب الذي كان في الغرق حتى كادوا أن يغرقوا فلما رأوا ذلك سرحوا المركب فذهب وغرق كل من كان فيه، أترى على الذين سرحوه شيئا.(15/447)
قال: ما أرى ذلك، قد أرادوا خيرا حتى خافوا الهلاك فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي ربط الرجل في حبل ودلاه في بئر فلما انقطع الحبل الآخر الذي ربطه في الخشبة فخشي أن يذهب معه فخلى سبيل الحبل فمات؛ إن عليه الدية ولا يشبه السفينة يريد بالسفينة المسألة التي ذكر بعدها، والفرق بينهما بين لأن هذا غر الرجل الهابط في البئر بإمساكه أحد الحبلين اللذين تأمر بهما في البئر، فوجب عليه الضمان بتسريحه الحبل بما زعم من أنه خافه على نفسه والدية في هذا عليه في ماله ليس على العاقلة، لأن فيه شبهة من العمد، وأما صاحب المركب الذي ربط بمركبه المركب الذي كان في الغرق فلم يغره بما فعل، وإنما فعل ما فعل لله تعالى رجاء أن ينجيه من الغرق فلما خشي أن يذهب مركبه سرحه فلم يكن عليه شيء إذ لو لم يربطه بمركبه ابتداء لغرق كما غرق، فلم يضره ربطه بمركبه وبالله التوفيق.
[مسألة: يحمل ابنه في المركب ولم يستأذن أمه فيه فغرق]
مسألة وسئل عن عبد تزوج حرة فولدت غلاما وكبر حتى بلغ نحوا من عشر سنين أو قريبا منها وكان يسكن القلزم فركب البحر يريد الحجاز، فيحمل ابنه في المركب ولم يستأذن أمه فيه فغرق المركب فغرق الغلام ونجا أبوه فقامت أمه وأولياء أمه يتكلمون في ذلك ويريدون أخذ العبد فيما حمل ابنه في المركب.
فقال مالك: لا أرى عليه في ذلك شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إذ لم يمت في البحر بجناية من أبيه عليه في ذلك، لأن الله تعالى قد أباح ركوبه بدليل قوله:(15/448)
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] . لأنه يبعد أن لعدد الله من نعمه على عباده ما حظره عليهم، فإنما فعل أبوه ما يجوز له، فوجب أن لا يكون بذلك جانيا عليه، وبالله التوفيق.
[: صالح في دم على أن يعطي في كل سنة كذا وكذا وكان شرطه أن يعطاها جملة]
ومن كتاب شك في طوافه وسئل مالك عن رجل صالح في دم على أن يعطي في كل سنة كذا وكذا وكان شرطه أن يعطاها جملة، قال الذي عليه الإبل: آتيك بها رسلا رسلا يتبع بعضها بعضا، قال الآخر الذي له الإبل: أنا على شرطي أن لا آخذها إلا جملة واحدة.
قال مالك: ما أرى بأسا يأخذها كما قال رسلا رسلا، فرد عليه فرأى أن يعمل به، قيل له إنما شرط عليه في سنة ولم يسمها في شهر منها، قال: أرى أن يعطيه في وسطها يعني السنة.
قال محمد بن رشد: إنما وقع في الذي صالح في الدم على أن يعطى كذا وكذا من الإبل في كل سنة جملة فأراد الذي عليه الابل أن يأتي بها رسلا رسلا يتبع بعضها بعضا إن ذلك له لقول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فرأى أن من الاتباع بالمعروف والأداء بإحسان الذي أمر الله تعالى به ما دعا إليه الذي عليه الإبل أن يأتي بها رسلا رسلا، وإذا كان من حق الذي عليه الحق إذا حل عليه الحق وأعسر به يؤجل فيه بالاجتهاد على ما مضى في أول سماع ابن القاسم من(15/449)
كتاب المكاتب كان أحرى أن يكون الذي عليه الإبل في هذه المسألة ما دعا إليه من أن يأتي بالإبل رسلا رسلا.
وقوله ما أرى بأسا أن يأخذها كما قال رسلا رسلا معناه لا أرى بأسا بالقضاء بذلك إذ لا إشكال في أنه لا بأس أن يأخذها رسلا رسلا، ولو كان من حقه أن يأخذها جملة واحدة.
وأما قوله: "إنه يعطيه إياها في وسط السنة" إذ لم يسم أولها ولا أخرها ففيه دليل على أن من باع من رجل بيعا على أن يقضيه الثمن في شهر كذا أو في سنة كذا أنه بيع جائز ويحل عليه الثمن في وسط الشهر أو في وسط السنة خلاف ما يروى عن ابن لبابة من أنه قال: البيع على هذا فاسد لأنه أجل مجهول، وقد أجاز في المدونة وغيرها البيع إلى الحصاد والجداد وجعله أجلا معلوما يحل على المشتري في عظم الحصاد والجداد، وكذلك لو باعه على أن يحل عليه الثمن في الحصاد والجداد، فسواء باعه على أن يؤدي إليه في الحصاد والجداد في عظمى الحصاد والجداد إذ ليس لأول الحصاد والجداد من آخره حد معلوم محصور فيحمل في الوجهين جميعا على عظمه، بخلاف الشهر إذا باعه على أن يعطيه الثمن في شهر كذا جاز البيع وحل عليه الثمن في وسطه بدليل هذه الرواية من جهة المعنى أن الشهر لما كان أوله من آخره معلوما كان وسطه معروفا يقضى بحلول الثمن عنده، وإذا باعه إلى شهر كذا وكذا حل عليه الثمن بحلوله لأن إلى غاية وهذا بين والحمد لله.
[مسألة: المباشر للقتل خطأ لا يكون الدية عليه]
مسألة وسئل عن الرجل يحمل الغلام على دابته ابن اثنتي عشرة سنة إلى الماء يسقيها أو حيازة يخرج إليها وما أشبه ذلك فيصاب.
قال: أرى إن اتبع كان ذلك عليه، قلت له: فالرجل يأمر يتيما عنده أو ابن أخيه يركب دابته؟ قال: أراه مثله إن اتبع كان(15/450)
ضامنا له، قلت: أتراه على العاقلة؟ قال: نعم، قال مالك: وعندنا قوم يأمرون الغلمان أن يرقوا النخل فيصاب أحدهم فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء أنه خطأ والدية فيه على العاقلة، وهو كما قال، لأنه إذا كان المباشر للقتل خطأ لا يكون الدية عليه وتكون على العاقلة كان هذا أحرى أن تكون الدية فيه على العاقلة، وذلك عندي بخلاف الذي دلى الرجل في البئر بالحبل ثم أرسله لما خشي على نفسه على ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا ولو وطئ الصبي بالدابة على رجل لكانت ديته على عاقلة الصبي قال في المدونة: ولا ترجع عاقلة الصبي على عاقلة الرجل، وقال أشهب إنها ترجع عليه وبالله التوفيق.
[: الأم أحق بالقيام بالدم من العصبة]
ومن كتاب الشجرة وسئل مالك عن رجل ضربه رجلان فادعى الرجل، وذكر أن فلانا وفلانا ضرباه، وأن أحدهما لم يجرحه والآخر هو الذي جرحه وقتله، فحبسا فصالح أولياء الضارب الذي ادعى عليه بالقتل أولياء المقتول على ثلثي الدية، وكانت له أم فقال أولياء القاتل كيف أصالحكم وتم أمه؟ فقال أولياء المقتول صالحونا ونحن نبريكم من أمه، ففعلوا فأتوا الأم فأبت أن تصالح أو تعفو إلا أن يتموا الدية أو يقوم بالدم.
قال: ذلك لها، قيل له: فلا ينفع صلح الأولياء؟ قال: لا، قيل له: فإن الأم قد ماتت؟ قال: فورثتها يقومون بالذي كان لها من ذلك، إن شاءوا صالحوا وإن شاءوا قاموا بالدم ولا ينفع ما صالح عليه الأولياء.(15/451)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن صلح الأولياء بما صالحوا عليه به من ثلثي الدية إنما كان بعد أن أقسموا واستحقوا الدم بقسامتهم، ولو كان صلحهم قبل أن يقسموا لم يكن للأم في ذلك كلام بوجه، إذ لا سبيل إلى قتل دون قسامة.
وقوله: "إن الأم أحق بالقيام بالدم من العصبة وإن كان الدم" إنما ثبت بقسامتهم هو مذهبه في المدونة أن الدم سواء ثبت ببينة أو بقسامة إذا كان الأولياء بنات وإخوة وأخوات وعصبة أو أما وعصبة فمن قام بالدم من البنات والإخوة أو الأخوات والعصبة أو الأم والعصبة فهو أحق فمن عفا ولا عفو إلا بالاجتماع منهم على العفو.
وفي المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها - هذا وهو مذهبه في المدونة.
والثاني - أن هذا إنما يكون إذا ثبت الدم ببينة، وأما إذا ثبت بقسامة العصبة فلا حق للنساء معهم في عفو ولا قيام لأنهم هم الذين استحقوا الدم بقسامتهم، وهو قول ابن القاسم ومذهبه في رسم الجواب من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب.
والثالث - أنه إن ثبت الدم ببينة فالنساء أحق بالعفو والقود من العصبة لأنهن أقرب منهم، فلا حق للعصبة معهن إذا لم يثبت الدم بقسامتهم، ولو ثبت بقسامتهم فمن قام بالدم كان أحق به ولا عفو إلا باجتماعهم والله الموفق.
[مسألة: القسامة لا تكون فيمن قتل بين الصفين]
مسألة وسئل عن رجل كان بينه وبين رجلين قتال فأتي وبه أثر ضرب وجراح فزعم أن فلانا وفلان قتلاه، وأنه قد أثر فيهما في مواضع سماها، وأنهما اللذان عملا به هذا، فأقام نحوا من يومين حيا ثم مات.
قال مالك: أرى أن يسجنا حتى يكشف أمرهما وإنه ليستحب(15/452)
في مثل هذا أن يصطلحوا فأما القصاص في مثل هذا فلا أعلمه.
قال محمد بن رشد: إنما استحب في هذا الصلح بعد الكشف فيه والبحث ولم ير القصاص فيه بالقسامة وإن كان مذهبه أن قول المقتول دمي عند فلان لوث يوجب القسامة والقود من أجل ما ذكره من أنه قاتلهما فأثر فيهما فدل ذلك على أنه أراد قتلهما كما أرادا قتله فاتهمه - في تدميته عليهما من أجل ذلك، وقد روي عنه أنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين، فقيل معنى ذلك بالتدمية من أجل أنهم تقاتلوا على زحل وعداوة، فلم يقبل تدمية من دمى من أحد الطائفتين على أحد من الطائفة الأخرى من أجل ما بينهم من الزحل والعداوة، وهذا أحرى لظهور العداوة بين المدمي والمدمى عليهما بأعيانهما، وقيل معنى قوله إنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين بحال إلا بقول المقتول ولا بشاهد على القتل، وهو قول ابن القاسم من رواية سحنون عنه في رسم الجواب من سماع عيسى من هذا الكتاب، وقيل معنى قوله: إنه لا قسامة بينهم بدعوى أولياء المقتول على الطائفة التي نازعت طائفته، وأما إذا دمى المقتول على واحد منهم أو شهد عليه بالقتل شاهد واحد فالقسامة في ذلك واجبة، وهو قول ابن القاسم أيضا من رواية عيسى عنه في رسم الجواب المذكور، وقول مطرف وابن الماجشون وأصبغ في الواضحة وقول أشهب في المجموعة، قال: لأن كونه بين الصفين لم يزد دعواه إلا قوة، قال ابن المواز: وإلى هذا رجع ابن القاسم بعد أن كان يقول لا قسامة فيمن قتل بين الصفين بدعوى المقتول ولا بشاهد، ويحتمل أن يريد بقوله ولا بشاهد إذا كان الشاهد من طائفة المدمي؛ لأنه لا تجوز شهادة أحد من إحدى الطائفتين على أحد من الطائفة الأخرى، وإذا كان من إحدى الطائفتين على ما حكى ابن حبيب في الواضحة من أنه إذا جرح أحد منهم فعقل جرحه على الطائفة التي نازعته، وليس له أن يقتص من أحد بقوله إلا أن يكون له شاهد على ذلك من غير الطائفتين، فيحلف مع شاهده من غير الطائفتين، وأما مع شاهد من طائفة القاتل فيجري ذلك على الاختلاف في القسامة مع الشاهد الذي ليس بعدل، وأما مع شاهد من طائفة المقتول فلا(15/453)
إشكال في أن القسامة لا تكون معه، وقد قال ابن المواز في قول ابن القاسم إنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين بقول المقتول ولا بشاهد على القتل أنه خطأ؛ لأنه حمل قوله على ظاهره من أن القسامة لا تكون فيمن قتل بين الصفين بحال وإن كان الشاهد الذي شهد على القتل من غير الطائفتين، وتأويل قوله أولى من تخطئته وبالله التوفيق.
[: الدية على العاقلة]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا وسئل مالك عن صبيين رمى أحدهما صاحبه بحجر؛ فنزي في رميته، فمات، فضمن عمه الدية عنه، ثم رفع ذلك إلى السلطان فقال له السلطان: ليس ذلك عليك، وإنما ذلك على العاقلة وإن عمد الصبي خطأ فضمن ذلك العاقلة وكتب بذلك كتابا إلى السلطان الذي في ناحيتهم فضمنهم ذلك وأخذ منهم أول نجم والثاني، ثم إن عاقلة صاحب الغلام لقوا الرجل الذي كان ضمن لهم عم الغلام بعد أخذهم نحوا من ثلثي العقل.
قال مالك: ليس ذلك لهم إذا كانوا قد رضوا واقتضوا فلا أرى شيئا يلزمك وليس عليك شيء.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة ثم إن عاقلة صاحب الغلام لقوا الرجل الذي كان ضمن لهم عم الغلام كلام فيه التباس؛ لأنه عبر عن الورثة بالعاقلة تجاوزا أو أضمر وقدم وأخر، ووجه الكلام أن يقول ثم إن ورثة الغلام المقتول صاحب الغلام القاتل لقوا الرجل عم الغلام القاتل الذي كان ضمن لهم، والمسألة فيها نظر؛ لأن الأمر إذا رفع إلى السلطان فحكم بإسقاط الضمان عن العم وألزم العاقلة الدية وكتب بذلك كتابا إلى السلطان الذي في ناحيتهم فقد لزم الورثة اتباع العاقلة؛ وسقط طلبهم عن العم، لأن الحكم قد(15/454)
فسخ الضمان عنه وإن لم يرضوا ولا قبضوا لأنه حكم يلزمهم فالمعنى إنما هو أن العم هو الذي رفع الأمر إلى السلطان، وقال له: إني ضمنت الدية عن ابن أخي وأنا أظن أنها لازمة له، فقال له: ليس ذلك عليك لأنها إنما تجب على العاقلة، فضمن العاقلة إياها وكتب بذلك كتابا إلى السلطان الذي من ناحيتهم دون أن يحضر ورثة المقتول وتسمع حجتهم، فإن لم يقروا له بما ادعا من أنه ظن أنها كانت لازمة لابن أخيه استحلفه على ذلك، ونفذ حكمه بإسقاط الطلب عنه وتضمين العاقلة للدية، فلما قصر في ذلك بقي الورثة على حجتهم، وكان لهم اتباع العم بما ضمن لهم إلا أن يبين رضاهم باتباع العاقلة وإسقاط طلبهم للعم بقبض بعض النجوم من العاقلة كما قال في الرواية، ولو لم يرضوا ولا قبضوا من النجوم ما يتبين به رضاهم لكان من حقهم أخذ العم بما ضمن لهم.
إلا أن يقول لم أعلم أن الدية على العاقلة وظننت أنها على ابن أخي فيكون القول قوله في ذلك مع يمينه إذا كان يشبه أن يجهل ذلك، لأنه محمول على غير العلم حتى يثبت عليه العلم، أو يكون ممن لا يجهل مثل هذا على ظاهر الرواية وما في كتاب الصلح من المدونة، وقد قال ابن المواز: يلزمه ما ضمن حتى يعرف أنه جهل وظن أن الدية على ابن أخيه، قال ابن المواز: وأما إذا رد ذلك على العاقلة فقد لزمهم، والذي قاله ابن المواز صحيح إذا ردت الدية على العاقلة بحكم تام صحيح، وأما إذا لم يتم الحكم على وجهه فما قاله في الرواية من أن الورثة لا يلزمهم اتباع العاقلة إلا أن يرضوا بين على ما بيناه وكذلك لو حملت العاقلة شيئا ظنت أنه يلزمها ثم رجعوا فلهم الرجوع ما لم يطل الأمر بعد الدفع السنين الكثيرة التي يرى فيها أن قد علموا ذلك، قاله في كتاب ابن المواز والله الموفق.(15/455)