قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية، وروايته عن مالك في أن الأمة المستحقة إذا ماتت في يد المستبرئ، بعد أن أثبتها المستحق؛ أن ضمانها منه، ويرجع المستبرئ الذي كانت بيده على بائعها منه بالثمن: هو قول مالك في موطاه، وقول غير ابن القاسم في كتاب الشهادات من المدونة.
وقد مضى في رسم الشجرة تحصيل الاختلاف في الحد الذي يدخل به الشيء المستحق في ضمان المستحق، فلا معنى لإعادة ذلك. وقول ابن القاسم: ويرجع الذي كانت الجارية في يديه على البائع بالثمن، وذلك إذا كان الذي استحقت في يديه منتفيا من وطئها إلى آخر قوله، مفسر لقول مالك، ويأتي على ما في سماع أشهب من كتاب العيوب، في أن ضمان المردودة بالعيب من البائع، وإن كان المبتاع الراد لها بالعيب قد وطئها إذا ماتت قبل أن يتبين بها حمل أن يكون ضمان الجارية المستحقة من المستحق إذا ماتت بعد أن أثبتها على هذه الرواية، أو بعد أن حكم له بها على القول بأنها لا تدخل في ضمانه حتى يحكم له بها، وإن كان المبتاع المستحق منه قد وطئها إذا كان موتها قبل أن يتبين بها حمل.
وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في الموطوءة هل هي محمول على الحمل حتى يتبين أنه ليس بها حمل، أو على غير الحمل حتى يتبين أن بها حملا؟ فذهب ابن القاسم إلى أنها محمولة على الحمل حتى يتبين أنه ليس بها حمل، وهو المشهور، وقد قال مالك في المدونة: جل النساء على الحمل. وذهب أشهب إلى أنها محمولة على غير الحمل، حتى يتبين بها حمل، فهذا وجه القول في هذه المسألة، ولو أقام المستحق البينة عليها بعد موتها؛ لكانت مصيبتها من الذي كانت في يديه، ويرجع المستحق لها بالثمن على البائع أو بالقيمة إن كانت أكثر من الثمن إن كان غاصبا، قاله ابن القاسم في سماع عيسى، من كتاب الدعوى والصلح نصا. وذلك ما لا اختلاف فيه، وبالله التوفيق.(11/156)
[وقع له ميراث لابنته فتزوجت ودخل بها زوجها ثم أراد أبوها بيع الدار]
من سماع أشهب من مالك من كتاب الأقضية وسئل عمن وقع له ميراث لابنته في دار، فتزوجت الابنة، ودخل بها زوجها، ثم أراد أبوها بيع الدار، فقيل له: لا نشتري، نخاف أن لا تكون ابنتك راضية، فجاء زوجها فقال: إنها قد وكلتنا، فباعاها جميعا، فأقامت الدار في يد المشتري أربع عشرة سنة، يبني ويهدم، وهي مقيمة معه في البلد، ثم جاءت بعد أربع عشرة سنة فقالت: ما وكلتهما ولا علمت بالبيع، ولقد كانا يقولان لي إذا سألتهما عنها: أكريناها هي بكراء، فقال مالك: مقيمة أربع عشرة سنة بالبلد، يبنون ويهدمون لا تعلم؟ فقيل: كذلك تقول، قال مالك: فلعلها ممن يجوز عليها بيعهما. فقيل له: قد تزوجت ودخل بها زوجها، فقال له: قد يدخل بالمرأة زوجها وهي مولى عليها، ويجوز عليها أمر وليها، بقول الله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، فلعلها لم يونس منها رشد. فقيل له: كيف ترى إن كانت ممن لا يجوز عليها أمرهم؟ فقال: تطلب البينة عليها أنها وكلتهم بالبيع، وإلا حلفت بالله ما علمت بذلك ورد البيع.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: فلعلها ممن يجوز عليها بيعهما؛ معناه: فلعلها ممن يجوز عليها أمر أبيها، فينفذ عليها بيعهما معا. وقوله في آخر المسألة: تطلب البينة عليها أنها وكلتهم على البيع، يريد أو على أنها علمت به فسكتت عميه ولم تنكره، فإن قامت عليها البينة أنها(11/157)
وكلتهما على البيع، نفذ عليها، قامت بالقرب أو بالبعد، وأما إن لم تقم عليها البينة، إلا أنها علمت بالبيع فسكتت عليه ولم تنكره، ففي ذلك تفصيل، أما إذا كانت مشاهدة للبيع، فأنكرته قبل انقضاء المجلس، حلفت ولم يلزمها، وإن لم تنكره حتى انقضى المجلس، لزمها وكان لها الثمن، وإن لم تنكره حتى طال الأمر بعد انقضاء المجلس العام فما زاد، فادعى الأب أن الدار ماله وملكه، قد كانت خلصت له بوجه كذا مما يذكره، حلف على ذلك، وكان له الثمن، وأما إن لم تشاهد البيع، وإنما علمت به بعد يمينها أنها لم ترض به، وإن قامت بعد العام، ونحوه لزمها البيع، وكان لها الثمن، وإن قامت بعد مدة تكون فيها الحيازة عاملة، فادعاء الأب أن الدار قد كانت خلصت له بوجه، كان فيما يذكره، حلف على ذلك، وكان له الثمن. وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع يحيى من كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتعت دارا فبنيتها وعمرتها ثم جاء رجل فاستحقها]
مسألة وسئل فقيل له: ابتعت دارا فبنيتها وعمرتها، ثم جاء رجل من الأندلس فاستحقها، فقال مالك: لك عليه ما عمرت من عمل الناس، فأما بنيان الأمراء، فلا أدري ما هو. قلت: أرأيت ما حسنته من عمل الناس؟ فقال: ذلك لك، قيل أرأيت ما هدم، أيكون عليه غرمه؟ فقال: يقيم البينة خربا حتى يقدم هذا من الأندلس يحدث الرجل البير ويغرس الشجر، ويقطع النخل، ما أرى عليه شيئا إذا كان ما يعمل الناس، قيل له: أفيكون للباني على القائم قيمة البنيان أم نفقته؟ فقال: لا، بل نفقته.
قال محمد بن رشد: قوله: إن للمشتري على المستحق ما عمر(11/158)
من عمل الناس صحيح لا إشكال فيه؛ لأنه عمل ما يجوز له، فوجب أن يرجع بذلك على المستحق فيما يجب له به الرجوع عليه فيما عمره وبناه تفصيل واختلاف، أما إذا كان ذلك بحدثانه قبل بلاه، ففي ذلك قولان؛ أحدهما: أن له النفقة، وهو قوله في هذه الرواية. والثاني: أن له قيمة النفقة. والقولان في المدونة على اختلاف الرواية فيها. وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، والمعنى في ذلك أن له النفقة إن كان لم يغبن فيها، وقيمتها إن كان غبن فيها، فيرجع ذلك إلى أنه يكون عليه الأقل من النفقة، أو من قيمتها، وأما إن كان ذلك بعد أن طال الأمر وبلي البنيان، فلا يكون له على المستحق إلا قيمة بنائه قائما على حالته التي هو عليها قبل البلى قولا واحدا. وهو قول مالك في رسم مسائل وبيوع من سماع أشهب، من كتاب الشفعة.
ووجه العمل في ذلك أن يقال: كم قيمة الدار اليوم على ما هي عليه من هذا البنيان القديم؟ وكم كانت تكون قيمتها اليوم، لو كان هذا البنيان الذي فيها جديدا؟ فينقص ما بين القيمتين من النفقة التي أنفق، أو من قيمتها على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك، فما بقي كان هو الذي يجب به الرجوع للمشتري على المستحق، فإن أبى أعطاه المشتري قيمة النفقة، فإن أبى كانا شريكين، وقد قيل: إنه إن أبى المستحق أن يعطيه قيمة البناء، كانا شريكين، ولم يكن للمشتري أن يعطي رب الدار قيمة النفقة، ويخرجه عنها.
والقولان في آخر كتاب الغصب من المدونة، ولم ير عليه غرم ما هدم من البناء، ولا ما قطع من النخل؛ إذا كان لما فعل من ذلك وجه، ولم يكن عبثا، هذا مذهبه في هذه الرواية، بدليل قوله: ما أرى عليه شيئا إذا كان ما يعمل الناس، وقوله يقيم البيت خربا حتى يقدم هذا من الأندلس، معناه: أنه لما كان له هدمه ليصلحه، ولم يكن عليه أن يبقيه، لم يكن عليه في هدمه ضمان، وضعف أن يكون له رجوع فيما بنى من بنيان الأمراء بقوله: لا أدري ما هو قوله صحيح؛ لأنه أتلف ماله لما أنفقه فيما لا يسوغ له من السرف المنهي عنه، وبالله التوفيق.(11/159)
[الحر يتزوج الأمة ويشترط أن ولده منها حر فتلد ثم يستحقها رجل]
من سماع عيسى من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى: وسألته عن الرجل الحر يتزوج الأمة، ويشترط أن ولده منها حر، فتلد أولادا، ثم يستحقها رجل، قال: إن أولادها رقيقا، قلت: أفيكون لأبيهم أن يفتديهم بالقيمة؟ قال: لا، إلا أن يشاء السيد. قلت: فإن أراد ذلك السيد، وأبى الأب، أيكون ذلك للسيد؟ قال: لا.
قال الإمام القاضي: قوله: إن الولد رقيق صحيح؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» ولم ير لأبيهم أن يفتديهم قيمتهم من سيد الأمة المستحق لها؛ إذ لم يغره منها، وهو المخطئ على نفسه فيها، ولو لم يستحق الأمة؛ لكان الولد أحرارا بالشرط، ويفسخ النكاح على كل حال.
وقد مضى القول على هذا في رسم سن، من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، وفي رسم الجواب، من سماع عيسى منه، وبالله التوفيق.
[ابتاع عبدا فادعاه رجل في يديه فاستحقه وأخرجه من يديه]
ومن كتاب أوله عبد استأذن سيده وسألت ابن القاسم عن رجل ابتاع عبدا فادعاه رجل في يديه، فاستحقه وأخرجه من يديه، فزعم المبتاع أنه من تلاد البائع، هل يرجع على بائعه بالثمن، هو يشهد أنه من تلاده؟ والبائع يقول: لم(11/160)
ترجع علي بالثمن، وأنت تعلم أني إنما بعتك عبدي وتلادي، وإنما هذا رجل استحقه ظلما، أو ابتاع ثوبا من رجل فاستحقه رجل في يديه، فشهد المبتاع مما حاك البائع، أو ابتاع منه دارا، فاستحقت في يديه، فشهد المبتاع أنها دار البائع، ودار أبيه وجده. من قبله حطهم، هل يرجع على صاحبه بالثمن في هذا كله؟ وصاحبه يقول: أنت تعلم إنما بعتك مالي، وإنما هذا ظالم، أخرج هذا الحق من يديك، قال: لا أرى أن يرجع عليه في جميع هذه الأموال بشيء؛ إذا كان يعلم أنها أخرجت من يديه بظلم، وأن الحق حق البائع.
قال محمد بن رشد لأشهب في المجموعة: إن له أن يرجع على البائع، وإن علم صحة الظلم الذي قام به المستحق، ولا يضره ذلك؛ لأن البينة قد شهدت أن البائع باع ما ليس له، وذلك مثل قوله، وقول ابن وهب، في سماع عبد المالك، من كتاب الكفالة والحوالة، على ما كان يذهب إليه الشيوخ في ذلك. والذي أقول به: إن مسألة سماع عبد المالك لابن وهب وأشهب، لا تعارض هذه المسألة؛ لأنها مسألة أخرى خارجة عن هذا الاختلاف، على ما سنبينه إن شاء الله.
ومثله لسحنون في نوازله، من كتاب جامع البيوع، ولعيسى بن دينار في نوازله، من كتاب الدعوى والصلح، في بعض الروايات. وقد قال بعض أهل النظر: إنما لابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الكفالة والحوالة في الحميل يدفع ما تحمل به بحضرة الغريم، فيجحد ويغرمه ثانية؛ أنه يرجع على الغريم بما أدى أولا وثانية، هو على قياس قول أشهب في هذه المسألة، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما أرجعه على الغريم بالعشرة الأولى والثانية، لما دفع كل واحدة منهما بحضرته، من أجل أنه رأى الإشهاد يتعين عليه، من أجل أن الدفع كان عنه بحضرته، خلاف ما في سماع عيسى في الكتاب المذكور، من أن الإشهاد في ذلك إنما يتعين(11/161)
على الكفيل الدافع، وإن كان الدفع بحضرة الغريم الذي عليه الدين، فليست هذه المسألة من مسألتنا بشيء، ولكلا القولين في مسألتنا وجه من النظر، فوجه هذه الرواية، أن المشتري لا يصح له أن يرجع على البائع بما يعلم أنه لا يجب عليه، ووجه القول الثاني: أن البائع أدخل المشتري في ذلك، فعليه أن يبطل شهادة من شهد عليه بباطل، حتى لا تؤخذ السلعة من يد المشتري، ويتهم إذا لم يفعل ذلك أنه قصر في الدفع؛ إذا علم أن المشتري لا يتبعه، فأراد أن يكلفه من الدفع في البينة، مما هو ألزم له منه، وبالله التوفيق.
[العبد يبني في أرض سيده بنيانا فسمى ذلك البنيان باسم العبد ثم يعتقه]
ومن كتاب العرية وسئل عن العبد يبني في أرض سيده بنيانا، فسمى ذلك البنيان باسم العبد، وبه يعرفه الناس، بنيان فلان، ثم يعتقه سيده عند الموت، فيقول العبد: هذه الدار لي، وإنما يعرفها الناس لي، ويقول ورثة الميت: بل هي لنا. قال ابن القاسم: أما الأرض فهي لورثة الميت، وليس للعبد فيها كلام، وأما النقض، فهو للعبد، مالا من ماله يتبعه.
محمد بن أحمد هذا كما قال: إن النقض للعبد؛ إذا كانت له بينة أنه هو ولي بنيانه، أو أقر له الورثة بذلك، وادعوا أنه إنما بناه بمال سيده موروثهم، غير أنه إن أقروا له بولاية البنيان، وادعوا أنه إنما بناه بمال سيده، حلف أنه إنما أنفق فيه ماله لا مال سيده، ويأخذ نقضه، إلا أن يشاء ورثة السيد أن يأخذوه بقيمته منقوضا، وسواء على مذهب ابن القاسم، أنكر الورثة أن يكون ولي البنيان فأقام البينة على ذلك، أو أقروا بذلك، وادعوا أنه إنما بناه بمال(11/162)
سيده موروثهم، إلا في إيجاب اليمين عليه؛ إذا أقروا له بولاية البنيان، ويأتي على قياس قول ابن وهب في سماع زونان، من كتاب الدعوى والصلح، في الرجل يبني في أرض امرأته أنهم إن أقروا له بولاية البنيان، وادعوا أنه إنما بناه بمال امرأته، حلف واستحق نفقته، وإن لم يقروا له بولاية البنيان، فأقام البينة على ذلك، استحق نقضه، لا النفقة التي أنفق؛ إذ لا فرق بين المسألتين؛ لأن العبد قد استحق ماله بحريته، وبالله التوفيق.
[استحق عبد من الرقيق أو عبدان أو شيء من الرقيق يسيرا في عددهم]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه قلت لابن القاسم: إذا استحق عبد من الرقيق، أو عبدان أو شيء من الرقيق يسيرا في عددهم، أيلزم البيع إذا كان الاستحقاق من عبيد بأعيانهم؟ قال: نعم.
قلت: أرأيت إن كان الاستحقاق اليسير بينهما، استحقه الرجل في جميع الرقيق، فقد منع من الوطء والسفر، إن كان فيها جارية، قال: سواء استحق في جميعها سهما أو عبيدا بأعيانهم، إن كان يسيرا لزمه البيع، وقيل له: قاسم شريكك انظر أبدا كل شيء يستحق، وهو يقسم، رقيقا كان أو غير ذلك، فإذا كان الذي استحق منه يسير ألزمه البيع، وإن كان مالا ينقسم في الرقيق والحيوان رده إن شاء، كان الذي استحق منه قليلا أو كثيرا. قيل: أرأيت لو كان في غير الحيوان الذي لا ينقسم، مثل الشجرة يشتريها الرجل، أو الثوب أهو كذلك؟ قال: نعم، وهو قول مالك وتفسير قوله.(11/163)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة بين فيها أن استحقاق اليسير من الأجزاء فيما ينقسم، كاستحقاق اليسير من العدد، لا يكون للمشتري إلا الرجوع بقيمة ما استحق، بخلاف استحقاق اليسير من الأجزاء فيما لا ينقسم، هذا يكون للمشتري رد الجميع لضرر الشركة، فهي تفسر سائر الروايات. واليسير النصف فأقل، والكثير الجل، وهو ما زاد على النصف. وهذا في العروض عند ابن القاسم، بخلاف الطعام وما كان في معناه من المكيل والموزون، فإنه يرى فيه استحقاق الثلث، فما زاد كثيرا، وساوى بين ذلك أشهب، إلا أنه يقول في مثل العبيد إذا تساوت أثمانهم، أو تقاربت أنه لم يشتر أحدهم لصاحبه؛ فيلزمه من بقي منهم بما ينوبه من الثمن، خلاف مذهب ابن القاسم؛ إذ لا فرق عنده إذا استحق الجل من العدد بين أن تستوي قيمتهم أو تختلف، وبالله التوفيق.
[الرجل والمرأة يقران بالمملكة فيباعان فتوطأ المرأة فتلد وقد مات بائعها]
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس وسئل عن الرجل والمرأة صغيرين أو كبيرين، يقران بالمملكة فيباعان، فتوطأ المرأة فتلد، وقد مات بائعها أو فلس، أيكون دينا على الكبيرين؟ قال ابن القاسم: أرى ذلك دينا على الكبيرين، وأما الصغيران فلا أرى ذلك عليهما.
قال محمد بن رشد: على هذه الرواية، التزم الموثقون أن يكتبوا في عقد الرقيق؛ إذا كان العبد أو الأمة قد بلغا إقرارهما بالرق لبائعهما؛ ليكون للمشتري اتباعهما بأثمانهما إن استحقا بحرية، وثبت عليهما العلم بذلك، والبائع ميت أو عديم، وهو ضعيف؛ لأن السكوت عند ابن القاسم في هذه المسألة كالإقرار، يجب به للمشتري الرجوع، وذلك منصوص له في رسم الجواب من سماع عيسى، من كتاب الجهاد.(11/164)
وقد مضى القول على هذه المسألة هناك مستوفى، وذكرنا الاختلاف في وجوب الغرم عليها، وأنه جار على مجرد الغرور بالقول، هل يلزم به غرم أم لا؟ وبالله التوفيق.
[يكون بيده المسكن فيقيم رجل عليه بينة أنه مسكنه ويدعي هو أنه باعه منه]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل عن الذي يكون بيده المسكن أو الأرض، فيقيم رجل عليه بينة أنه مسكنه أو أرضه، أو يقر له بذلك الذي هو بيده، ويدعي الذي هو بيده أنه باعه منه أو تصدق به عليه، أو وهبه، أو ما أشبه ذلك، ولا يأتي ببينة على شيء من دعواه.
قال ابن القاسم: القول قول الذي هو بيده؛ إذا كان قد حازه الزمان الذي يعلم في مثله أن قد هلكت البينة على البيع مع يمينه، وأما الصدقة والهبة والنزول، فإني أرى أن يحلف صاحب المنزل بالله الذي لا إله إلا هو ما وهب ولا تصدق، ولا أنزل، ولا كان ذلك منه إلا على وجه التماس الرفق به، فيرد إليه بعد أن يدفع إليه قيمة ما أحدث فيه نقضا إن أحب، وإن أبى أسلم إليه نقضه مقلوعا قال: وإن كان الذي الأرض أو المسكن في يديه ورثها عن أب هالك أو غيره، فالقول قوله مع يمينه، إلا أن يكون مدعيها غائبا طرأ، فيقيم البينة أنها له أو لجده، فيسأل الذي هي في يديه البينة، على اشتراء أو سماع، فيكون أولى به، وإن لم يأت بشيء من ذلك، قضى به للقادم؛ إذا أقام البينة أنها لأبيه أو لجده.
قال محمد بن رشد: دليل هذه الرواية، أنه لا حيازة بين الأجنبيين في العشرة الأعوام؛ إذا لم يكن هدم ولا بنيان؛ إذ لم يجعل القول قول الحائز فيما حازه إذا ادعى ابتياعه من الذي حازه عليه، إلا أن تطول المدة، إلى ما تهلك فيه البينات.(11/165)
وتفرقته في هذا بين البيع والهبة والصدقة والنزول، خلاف قوله في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب القسمة، فإنه ساوى بين البيع والهبة والصدقة، في أن القول قول الحائز فيما ادعاه من ذلك كله؛ إذا طالت مدة حيازته إياه، في وجه صاحبه إلى ما تهلك فيه البينات. وقوله: وإن كان الذي الأرض أو المسكن في يديه، ورثها عن أب هالك أو غيره، فالقول قوله مع يمينه يريد فيما ادعاه من أنه صار به إلى أبيه، من بيع أو هبة أو صدقة، وكذلك لو قال: لا أعلم بما تصير إلى أبي، إلا أني ورثته عنه وحزته عليك هذه المدة؛ لكان القول قوله مع يمينه أنه ماله وملكه ورثه عن أبيه لا يعلم بأي وجه تصير إليه على ظاهر هذه الرواية، وهو قول ابن الماجشون، خلاف قول مطرف وأصبغ، وأما إذا كان المدعي غائبا طرأ، فأقام البينة، فلا ينتفع المقام عليه، بمجرد حيازته، دون أن يقيم البينة على الشراء بالقطع أو السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يرثون المنزل فيقوم رجل منهم فيعمل في تلك الأرض بيتا قبل أن يقتسم]
مسألة وسئل عن الإخوة يرثون المنزل، فيقوم رجل منهم فيعمل في ذلك المنزل أو الأرض بيتا قبل أن يقتسم أو يغرس، ثم يقسم، كيف الأمر فيها؟ قال: يقسم، فإن صار ذلك للذي بناه كان له، وإن صار لغيره، خير الذي صار له ذلك، فإن أحب أعطاه قيمته منقوضا، وإن أحب أسلمه إليه فقلعه.
قلت: فإن استغل من ذلك شيئا قبل القسم، قال: إن كانوا حضروا فلا شيء لهم؛ لأنهم بمنزلة لو أذنوا له، وإن كانوا غيبا فلهم من ذلك بقدر كراء الأرض البيضاء، يكون عليه لهم ما ينوبهم، صارت له أو لغيره إذا كانوا غيبا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق، لا رب سواه.(11/166)
[عبد باع أرضا لسيده أو أعارها رجلا فبنى فيها أو غرس]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل عن عبد باع أرضا لسيده، أو أعارها رجلا، فبنى فيها أو غرس، ثم ظهر السيد على ذلك، فأخذ الأرض، هل ترى على السيد قيمة فيما بنى أو غرس أو الثمن الذي باعها به العبد إن كان باعها منه؟ قال: ليس على السيد قيمة فيما بنى أو غرس، إلا أن يريد أن يمسك البناء أو الغرس، فيعطي الباني أو الغارس قيمة ذلك مقلوعا، ولا يكون للباني أو الغارس إن باينا عليه؛ إذا أعطاهما قيمة ذلك مقلوعا؛ لأن قلعه من الفساد، فلا يترك الفساد، ويكون الثمن الذي اشترى به الأرض، له على العبد يتبعه في ذمته، إن كان له يوما ما مال هو في ذمة العبد لا يعدو ذلك ذمته إلى رقبته.
قال محمد بن رشد؛ المعنى في هذه المسألة أنه إنما تكلم فيها على أن العبد تعدى على أرض سيده دون إذنه ولا علمه، فأعارها رجلا بنى فيها أو غرس، أو باعها منه، فبنى فيها أو غرس، وهو عالم بعداء العبد في ذلك على سيده، فلذلك حكم له بحكم الغاصب. فقال: إن لرب الدار سيد العبد أن يأخذ أرضه، ولا يكون عليه فيما بنى أو غرس شيء، إلا أن يحب أن يأخذ البناء والغرس بقيمته منقوضا، ويرجع المشتري على العبد في الشراء بالثمن الذي دفعه إليه، فيتبعه به في ذمته، ولا يعدو ذلك ذمته إلى رقبته، ويكون للسيد أن يسقط ذلك من ذمته، وقد قيل: إن ذلك يكون في رقبته، وهو بعيد.
ولو كان مأذونا له في التجارة لم يكن له أن يسقط ذلك عن ذمته، ولو لم يعلم المشتري أو المعار، بتعدي العبد على سيده، وظن أنه ماله، وأنه مأذون له في التجارة، لو أن سيده أمره أن يبيع له أرضه أو يعيرها؛ لوجب أن يكون ذلك شبهة للباني والغارس، فلا يكون للسيد أن يأخذ الأرض في(11/167)
العارية قبل انقضاء أجلها، إلا بقيمة ما فيها من الغرس والبناء قائما، بعد يمين المعار، أنه لم يعلم بتعدي العبد، ولا من المشتري، إلا بعد أن يدفع إليه قيمة بنيانه وغرسه قائما، على حكم من استحق أرضا من يد مبتاع، وقد بنى أو غرس بعد يمين المشتري أيضا، أنه لم يعلم بتعدي العبد في ذلك على سيده، فإن نكل عن اليمين حلف السيد إن كان حقق عليه الدعوى، وترك النقض للباني ينقضه، إلا أن يحب أن يأخذه بقيمته منقوضا، وبالله التوفيق.
[يشتري الدابة بثوبين مستويين قيمتهما واحدة فيستحق أحدهما والدابة قائمة]
ومن كتاب الثمرة وسألته عن الرجل يشتري الدابة بثوبين مستويين، قيمتهما واحدة، فيستحق أحدهما، والدابة قائمة لم تتغير ولم تفت، بماذا يرجع؟ أبنصف قيمة الدابة؟ أم يكون شريكا معه في الدابة بنصفها؟ قال ابن القاسم: لا يكون شريكا معه فيها، وإنما عليه نصف قيمة الدابة فاتت أو لم تفت.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: أن البيع لا ينفسخ باستحقاق أحد الثوبين المستويين، هو مثل قوله وقول غيره في العيوب من المدونة في العبدين المتكافيين: إنه لم يشتر أحدهما لصاحبه، وقد قيل: إن البيع ينفسخ باستحقاق أحدهما، وهو قوله في آخر كتاب الاستحقاق من المدونة في بعض الروايات، في الذي أسلم ثوبين في فرس، فيأتي على هذا أن استحقاق النصف من العروض كثير كالطعام، ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: المساواة بين العروض والطعام، في أن استحقاق النصف منهما كثير. والثاني: المساواة بينهما في أن النصف يسير، وهو مذهب أشهب، واختيار سحنون. والثالث: الفرق بين الطعام والعروض في أن النصف والثلث من الطعام كثير، ومن العروض يسير، وهو المشهور المعلوم(11/168)
من مذهب ابن القاسم.
وأما قول ابن القاسم: إنه لا يكون شريكا معه فيها، وإنما عليه نصف قيمة الدابة فاتت أو لم تفت؛ يريد يوم الحكم، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي. وقيل: إنه القياس، فمعناه إذا كانت الدابة قائمة لم تفت، إن ذلك من حق المشتري للدابة من أجل الضرر الداخل عليه في مشاركة البائع له فيها، وأما إن أبى من ذلك، فليس للبائع إلا أن يشاركه فيها، وقد قيل: إن ذلك ليس له، وهو مخير إذا شاركه البائع فيها، بين أن يمسك باقيها أو يرده، فينفسخ البيع، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى، من كتاب الشفعة.
وقد قيل: إن البائع يشاركه في الدابة، شاء أو أبى، ولا خيار له في رد ما فيها ورد البيع، وهو قول أشهب، فهي أربعة أقوال ترجع في التحصيل إلى قولين؛ أحدهما: أن من حق المشترى للدابة ألا يشاركه البائع فيها، وإن كانت قائمة لم تفت للضرر الداخل عليه بالشركة. والثاني: أن ذلك ليس من حقه، وللبائع أن يشاركه فيها شاء أو أبى. واختلف على القول بأن ذلك من حقه، هل تكون عليه القيمة يوم البيع أو يوم الحكم؟ واختلف بأن ذلك من حقه، هل يكون له رد الباقي إذا شاركه البائع أم لا؟ والقياس قول أشهب: إن للبائع أن يشاركه فيها، وأنه ليس له أن يرد باقيها؛ لأن استحقاق بعضها عليه ليس من سبب البائع، وإنما هو من سببه، بخلاف من اشترى دابة، فاستحق عليه بعضها، إن له ردها على البائع قولا واحدا؛ لأن الاستحقاق من سببه.
ووجه رواية يحيى أن رجوع البائع عليه ببعض الدابة التي اشترى منه، استحقاق منه لبعضها، فوجب أن يكون له رد بقيتها، كما لو استحقها غيره. والقول الأول أصح؛ لأنه إذا استحقها غيره، فللبائع في ذلك سبب؛ لأنه أدخله فيها، وباع منه ما ليس له، وإذا استحقها البائع، فلا سبب له في ذلك، بل السبب في ذلك للمبتاع، فوجب ألا يكون له عليه رجوع. والقول بأنه يرد باقيها عليه، وإن لم يكن له سبب في استحقاق ما استحق منها، هو على قياس قوله في كتاب كراء الدور من المدونة في الذي يكتري الحمامين، والحانوتين، فينهدم أحدهما؛ أن له أن يرد الباقي إذا كان(11/169)
الذي انهدم هو وجه ما اكتوى، والأظهر أنه ليس له أن يرد الباقي، قياسا على ما أجمعوا عليه، في الذي يشتري الثمرة فتذهب الجائحة بجلها، إنما ليس له أن يرد الباقي منها، وقول ابن القاسم: إنه لا يكون شريكا معه في الدابة بقدر ما استحق منها، ويكون عليه قيمة ذلك، هو استحسان على غير قياس، وإن كان المشهور من قول ابن القاسم، والأظهر على طرد هذا القول، أن تكون القيمة في ذلك يوم الحكم، لا يوم البيع، وظاهر ما في كتاب الاستحقاق من المدونة أنه إنما يكون عليه قيمة الثوب المستحق؛ إذا كان يسيرا، لا قيمة ما ينوبه من قيمة الدابة، وهو بعيد، فهو قول خامس في المسألة، ووجود العيب بأحد الثوبين فيما يجب لمشتريهما بالدابة من الرجوع فيها، أو في قيمتها، إن أراد رده بالعيب، كالاستحقاق سواء، فإن كان أحدهما أرفع من الآخر، مثل أن تكون قيمة أحدهما عشرة، وقيمة الثاني عشرين، فاشتراها بدابة، ثم وجد بأحدهما عيبا، فلا يخلو من أن يجد العيب بالأرفع منهما، أو بالأدنى، والعبد قائم أو فائت، فإن وجده بالأدنى منهما والعبد قائم لم يفت، فسواء كان القائم قائما أو فائتا، وفي ذلك من الاختلاف ما قد ذكرته في استحقاق أحد الثوبين، وذلك قولان؛ أحدهما: أن من حق المشتري للدابة بالثوبين إلا يرجع في عين الدابة، للضرر الداخل عليه بالشركة، ويختلف على هذا القول هل يكون عليه ما ناب المردود بالعيب من قيمة الدابة، وهو الثلث على ما نزلناه من أن قيمة الأدنى عشرة، وقيمة الأرفع عشرون يوم البيع أو يوم الحكم.
والثاني: أن من حق المشتري للثوبين بالدابة أن يرجع بما ناب المردود بالبيع بالعيب في عين الدابة، ويختلف على هذا القول هل يكون من حقه رد الباقي من الدابة، وينفسخ البيع إذا شاركه البائع فيها، أم لا؟ وإن وجده بالأرفع منهما، والعبد أيضا قائم لم يفت بوجه من وجوه الفوت، وكان الأدنى قد تلف أو فات بالعيوب المفسدة، رد قيمته مع العبد الأرفع الذي وجد له العيب، وأخذ دابته، وإن كان الأدنى قائما لم يفت، أو فات بحوالة سوق، أو نقص، ردهما جميعا وأخذ عبده، وإن وجد(11/170)
العيب بأحد الثوبين، والدابة قد فاتت بحوالة سوق فما فوقه، فوجد العيب بأدناهما، فإنه يرجع بما ينوبه من قيمة العبد، كان الأرفع قائما أو قد تلف.
واختلف إن وجد العيب بالأرفع منهما، وقد فات الأدنى بالموت أو العيوب المفسدة، فقيل: إنه يرد الذي وجد به العيب، وقيمة الأدنى ويأخذ قيمة عبده. وقيل: إنه يرجع بما ينوبه من الثمن في قيمة العبد، وأما إن كان الأدنى قائما، أو لم يفت إلا بحوالة سوق، أو نقص يسير، فإنه يرده مع المعيب، ويأخذ قيمة عبده. وأما إذا وجد العيب مشتري الدابة بالدابة، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يكون الثوبان قائمين، لم يفوتا بوجه من وجوه الفوت، فيرد الدابة ويأخذ ثوبيه، وأما إن كانا قد فاتا، أو فات الأرفع منهما بحوالة سوق فما فوقه؛ فليس له إذا رد الدابة إلا قيمة ثوبيه، وأما إن كان الأدنى منهما هو الذي فات، فيرد العبد ويأخذ الثوب الأرفع وقيمة الثوب الأدنى الذي فات.
فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[يدعي العبد أو الدابة قبل الرجل ويزعم أنه استودعها إياه]
ومن كتاب حمل صبيا وقال في رجل يدعي العبد أو الدابة قبل الرجل، ويزعم أنه استودعها إياه، وينكر أن يكون يعرف شيئا مما طلب، فيخاصمه فيموت العبد أو الدابة قبل أن يستحقها صاحبها ثم يستحقها. قال: الجاحد غارم لقيمتها؛ لأنه حين جحدها صار ضامنا، قال: وكذلك الدار يجحدها ثم يستحقها صاحبها، وقد انهدمت أو غرقت أو احترقت بعد الجحود؛ أن الجاحد ضامن لقيمتها يوم جحدها، وليس يوم يقضى عليه؛ إذا ثبت ذلك عليه بوديعة أو غصب الغصب يوم غصبه، والوديعة يوم جحدها.(11/171)
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال: إنه إذا ادعى عليه الغصب أو الإيداع فأنكر ذلك، ثم ماتت الأمة، فأقام المدعي البينة بعد موتها بما ادعاه من الغصب أو الإيداع، أو أقر بذلك على نفسه؛ أنه ضامن. ولو تداعيا فيها، ولم يدع أحدهما على صاحبه فيها غصبا ولا إيداعا فماتت، ثم أثبت أنها له، ولم يثبت غصبا ولا إيداعا، لم يلزمه ضمانها باتفاق. ولو ادعى عليه الغصب أو الإيداع، فأنكره ثم ماتت، فأقام البينة بعد موتها؛ أنها له، ولم يقم البينة على ما ادعاه من الغصب أو الإيداع، يتخرج ذلك على قولين؛ فقف على افتراق هذه الوجوه الثلاثة، وقد مضى بيان ذلك في نوازل سحنون، من كتاب الرهون، وبالله التوفيق، لا رب سواه، اللهم لطفك.
[مسألة: يعمر في أرض أبيه أو مولاه حتى يهلك]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت وعن الرجل يعمر في أرض أبيه أو مولاه، حتى يهلك أو الختن يعمره في أرض ختنه، ولا يأتي بينة على هبة ولا عطية. قال ابن القاسم: أما الولد فلا شيء له، إلا أن يأتي ببينة على عطية أو صدقة أو هبة، وأما المولى والختن فإنهما مثل الأجنبيين، إذا عمروا أو غرسوا بمحضر صاحب الأرض، ولا يغير عليهم، ولا يشهد بعارية، ولا بغير ذلك، فإن ذلك لهم إذا عمروا زمانا طويلا، وذلك نحو من عشر سنين أو تسع أو ثمان إذا بنوا بنيانا معروفا بعلم صاحب الأرض.
قال محمد بن رشد: رواية عيسى هذه، في أن المولى والختن في الحيازة بمنزلة الأجنبيين، خلاف رواية يحيى عنه في أول رسم من سماعه من هذا الكتاب، في أنهما بمنزلة القرابات، ومثله في آخر مسألة من هذا الكتاب في المولى.(11/172)
وقد مضى تفصيل القول في الحيازات بين الأجنبيين والموالي والأصهار والأشراك والقرابات، في رسم سلف من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
ودليل هذه الرواية أنه فرق فيها في مدة الحيازة بين الأجنبيين، بين أن تكون بعمارة دون هدم ولا بنيان، وبين أن يكون بهدم أو بنيان، فلم ير ما دون العشر سنين، بالعام والعامين حيازة، إلا مع الهدم والبنيان، وفي الواضحة لابن القاسم خلاف هذا؛ أن الثمار سنين حيازة، وإن لم يكن هدم ولا بنيان. وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في القول بدليل الخطاب، فمن قال به لم ير مجرد الحيازة عاملة فيما دون العشرة الأعوام؛ لأن في نص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على العشرة الأعوام دليلا على أن ما دونها بخلافها، وهو دليل هذه الرواية عن ابن القاسم، ورواية يحيى عنه في أول رسم من سماعه بعد هذا، ومن لم يقل به، حكم لما قرب من العشرة الأعوام، بحكم العشرة الأعوام؛ لأن المعنى الموجود في العشرة الأعوام وهو المشاحة، موجود فيها قرب منها، وهو قول ابن القاسم، فيما حكى ابن حبيب عنه.
وأما ما نص عليه في هذه الرواية من أن الحيازة بين الأجنبيين فيما دون العشرة الأعوام، بالعام والعامين عاملة مع الهدم والبنيان، فهو صحيح لا ينبغي أن يقع فيه اختلاف؛ لأن المشاحة فيما قرب من العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان أكثر منها في العشرة الأعوام، دون هدم ولا بنيان. ولا تعلق لمن ذهب للخلاف في ذلك، بدليل الخطاب في الحديث؛ إذ لم يأت إلا في مجرد الحيازة، وما لا تكون فيه الحيازة عاملة إلا مع الهدم والبنيان، فلا يكتفى فيها بما دون العشرة الأعوام قولا واحدا، وإنما يختلف في العشرة الأعوام، على ما يأتي في أول رسم من سماع يحيى بعد هذا، والله الموفق.
[مسألة: يحوز على أبيه في حياته الحيوان الرأس أو الدابة حتى يموت أبوه]
مسألة وعن الرجل يحوز على أبيه في حياته الحيوان الرأس، أو(11/173)
الدابة حتى يموت أبوه، وذلك الحيوان في يد ابنه، فيموت الأب، فيقول الورثة: هذا الرأس لأبينا، وهده الدابة له، ولا بينة له على صدقة ولا عطية بينة، هل ينتفع بطول تقادمه في يديه، والأصل معروف؟ قال ابن القاسم: لا ينتفع بطول تقادمه في يديه، إلا أن يأتي على ذلك بينة.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم، مثل ما تقدم من قول مالك في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم، في أن الابن لا ينتفع بحيازة الأرض على أبيه بالازدراع والاعتمار إذا ادعاها ملكا لنفسه دون بينة، وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يشتري العبد فيكاتبه ويأخذ كتابته ثم يستحق حرا]
ومن كتاب أوله يريد ماله وسئل عن الرجل يشتري العبد فيكاتبه، ويأخذ كتابته، ثم يستحق حرا، أله أن يرجع بما أخذ منه من كتابته؟ قال: لا إنما ذلك بمنزلة الخراج يخارجه عليه، والإجارة يأخذها له، والخدمة يستخدمها إياه، والعمل يستعمله فيه، فليس للعبد وإن استحق بعد ذلك حرا أن يرجع عليه بما أخذ منه من إجارته وخراجه، ولا بما خدمه وعمل له، وكذلك الكتابة، قال ابن القاسم: ولكن لو كان انتزع منه مالا كان له، لكان له أن يرجع عليه بالذي انتزع منه فيأخذه، كان ذلك المال مما اشتراه له معه، أو أفاده عنده من فضل خراجه أو عمله، أو ما تصدق به عليه، أو وهب له، فانتزعه منه فذلك سواء، يرجع به عليه، وذلك أن رقبته لم تزل حرة، لم يدخلها ملك، فماله الذي كان ملكه وحازه، ليس لأحد انتزاعه،(11/174)
بمنزلة حرية رقبته، ليس لأحد أخذه بغير حق، وكذلك لو كان جرح، فأخذ له السيد عقلا، ثم استحق حرا؛ فإنه يرجع على السيد بما كان أخذ من عقل جراحه؛ لأنه لم يكن ضامنا له لو مات عنده لرجع على بائعه بالثمن؛ إذا علم أنه حر، فإن قال قائل: فما بال الخراج والعمل والخدمة لا تكون بمنزلة الانتزاع يرجع به أيضا؛ لأنه كان في جميع ذلك لا يضمنه، وكان يرجع بالثمن إن هلك عنده إذا علم بحريته؟ فليس كما قال فرق بين ذلك، أن كل من اشترى عبدا فإنما يشتريه للغلة والمخارجة والخدمة والعمل، ولذلك يتخذ الناس العبيد، لأخذ أموالهم، لا ليعرضوهم الجنايات، ليأخذوا لها عقلا، وجل العبيد الذين يباعون ويشترون ويملكون، ليست لهم أموال، وإنما يكون ذلك من الخاص من العبيد. فهذا فرق ما بينهما عندي، والله أعلم.
ولكن لو كان مشتريه وهب له مالا أو جارية أو شيئا ثم استحق حرا، كان للسيد أن يأخذ ذلك كله؛ لأنه يقول: إنما أعطيته ذلك حين كنت أرى أنه عبدي أستطيب بها نفسه لينصحني، وليحفظ عليّ مالي، وما أفاده عنده أيضا مما استتجره به، فإن له أن يأخذه؛ لأنه يقول: إنما هو فضلة مالي به اكتسبه، ولأني استتجره بمالي يوم استجرته به، وتركته في يديه يوم تركته، وأنا أرى أنه عبد وأنه مالي؛ إذا ما شئت انتزعه، فأراه يرجع عليه به، بمنزلة ما وهب له؛ لأنه إنما أفره بيده، بعد اكتسابه إياه، فكأنه هبة منه له، فأرى له أن يرجع فيه كما يرجع بغيره، مما وصفت لك، والله أعلم. قال ابن القاسم: وذلك إذا استتجره لنفسه، فله أن يأخذ الفضل، وأما إذا قال له: خذ هذا المال فاتجر به لنفسك، فلا أرى له أكثر من رأس ماله.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: إن الكتابة كالخراج،(11/175)
والعمل لا يرجع المكاتب على سيده إذا استحق حرا بما أدى إليه من الكتابة، كما لا يرجع العبد على سيده؛ أنه استحق حرا بما أدى إليه من خراجه، ولا بقيمة عمله صحيح، على أصل مذهب مالك في أن الكتابة جنس من الغلة، وأن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء، وإنما يفترق ذلك على مذهب من يرى أن المكاتب حر بعقد الكتابة، غريم بما كوتب به، فيأتي على هذا المذهب أن له أن يرجع على سيده إذا استحق حرا بما أدى إليه من الكتابة، بخلاف الخراج والعمل.
وفي الخراج وقيمة العمل اختلاف، قيل: إنه يرجع به، وهو قول ابن نافع في المدنية قال: إلا أن يكون خراجا لم يقبضه السيد، فهو للعبد، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة؛ لأنه علق العلة فيها بالضمان، ولا ضمان عليه في هذا العبد؛ لأنه لو مات ثم استدل بحرية؛ لكان له أن يرجع بالثمن الذي أدى فيه إلى البائع منه، وكذلك الأصل إذا استحق بحبس من يد مشتر يجري الأمر في وجوب الرجوع عليه بالغلة على هذين القولين؛ لأنه لو غرق أو انهدم، ثم استحق بحبس؛ لكان له أن يرجع بالثمن، فلا فرق بين المسألتين في القياس، وإنما وقع الاختلاف فيهما من أجل أن الضمان قد يكون وقد لا يكون؛ إذ قد يجد على من يرجع بالثمن، وقد لا يجد، ألا ترى أنه ما يضمن فيه المقتل بكل حال في الموت والتلف تكون له الغلة في الضمان قولا واحدا؟ كالمشتري يشتري الشيء فيقتله، ثم يستحق من يده بملك، وما لا يضمن فيه بكل حال، يرد الغلة قولا واحدا، كالوارث يستقل ما ورثه، ثم يأتي من يشاركه من الميراث، أو من يكون أحق به منه.
وقد اختلف في الغاصب، هل يرد الغلة أم لا؟ اختلاف كثير قد ذكرناه في غير هذا الديوان، من أجل أن الضمان قد يكون وقد لا يكون؛ إذ قد يرجع عليه المغصوب منه بالقيمة إن تلف، وقد لا يرجع؛ فقف على هذه الأوجه الأربعة، وهي: وجه ترد فيه الغلة باتفاق، ووجه لا ترد فيه باتفاق، ووجهان يختلف في وجوب رد الغلة فيهما؛ لضعف الضمان فيهما الذي هو الأصل في هذه المسألة؛ لما ثبت من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج(11/176)
بالضمان» ، ولا اختلاف في أن العبد إذا استحق بحرية، أن يرجع على سيده بما انتزع من ماله، وبما أخذه من عقل جرحه؛ إذ ليس شيء من ذلك بغلة، فتكون للسيد بشبهة الضمان على أحد القولين، وإنما هو بمنزلة رقبته التي قد وجبت حريتها، فليس لأحد أخذه بغير حق، وتعليله لذلك بأنه لم يكن ضامنا له لو مات عنده، لرجع على بائعه بالثمن؛ إذا علم أنه حر، ليس بصحيح على أصله؛ لأنه يلزمه عليه ما ألزمه القائل من أن يكون له أن يرجع عليه بالخراج والعمل، وتفرقته بين ذلك بأن العبيد يتخذون للغلة والمخارجة والعمل والخدمة، لا لأخذ أموالهم، وديات الجنايات عليهم، تفرقة ضعيفة، لا وجه لها؛ إذ لا يخلو من أن يكون ذلك غلة، فيكون حكمه حكم الخراج والخدمة، على الاختلاف الذي ذكرناه أو لا يكون غلة، فيكون له الرجوع به على سيده قولا واحدا، وهو الذي اخترناه وصوبناه.
وقوله: إن للسيد أن يرجع عليه بما وهبه من المال، وبما أفاده من المال الذي استتجره به إذا استحق بحريته، وكان إنما استتجره لنفسه، كما فسر ابن القاسم، صحيح، لا أعرف في شيء من ذلك كله اختلافا. ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة في كتاب الصدقات والهبات منها، عن مطرف، وابن القاسم، وابن الماجشون، في العبد إذا استحق بحرية أو ملك أيضا، وقال: إنه إن أعمره أو حبس عليه، فلا رجوع له عليه في ذلك قبل أن يستحق، ولا بعد أن يستحق بالملك أو الحرية، ولا لمستحقه بالملك.
قالا: وذلك يصحبه أيام حياته كذلك، قال مالك والمغيرة وغيره من علمائنا أيضا قالا: وله ولمن صار إليه العبد أن يأخذا منه إن أحبا ما صار إليه من ثمرة الحبس أو غلته، بعد أن يصير ذلك إليه، وفي يديه؛ لأنه كماله، وهو بعيد، لا وجه عندي للتفرقة بين الهبة وبين العمرى والحبس، واختلف إذا أعطاه أو تصدق عليه، ثم أعتقه بعد ذلك، فاستحق بعد العتق بحرية أو ملك، فقيل: له الرجوع عليه بما أعطاه أو(11/177)
تصدق به عليه، إلا أن تكون عمرى أو حبسا. وقيل: ليس له أن يرجع عليه بشيء من ذلك، واختلف أيضا إذا أعطاه بعد أن أعتقه، وهو يرى أنه مولاه، ثم استحق بحرية أو ملك، فقال ابن الماجشون: له أن يرجع عليه بما أعطاه، وقال مطرف وأصبغ: ليس ذلك له، واختار ابن حبيب قول ابن الماجشون، وبالله التوفيق.
[غاب عن دار له فدخلها رجل بعد غيبته فسكنها ثم مات عنها]
ومن كتاب الجواب وسألته عن رجل غاب عن داره أو أرض له، فدخلها رجل بعد غيبته، فسكنها زمانا، ثم مات عنها، وبقي ورثته فيها، فقدم الغائب، فادعى ذلك، وأصله معروف له، والبينة تشهد أنه إنما دخل فيها الميت، بعد مغيب هذا، وإن كان يختلف، إن كان يسمع من الهالك يذكر أنه اشترى أو لم يسمع ذلك منه، وإن طال زمان ذلك، أو لم يطل.
قال ابن القاسم: القادم أولى بها إذا كان على ما ذكرت، كان الداخل فيها حيا أو ميتا، ولا يلتفت إلى ما كان يسمع من الداخل الهالك، يذكر أنه اشترى، والقادم أحق بأرضه إذا كان الأصل معروفا له، والبينة تشهد له على ما ذكرت من دخول هذا بعد مغيبه، طال زمان ذلك، أو لم يطل، إلا أن تكون للداخل بينة على اشتراء أو هبة أو صدقة أو سماع، صحيح على اشتراء مع طول زمان وتقادم، فإن لم يكن ذلك، فالأرض أرض القادم على ما شهد له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، من أنه لا حيازة على غائب، فإذا قدم والأصل معروف له، وشهدت له البينة بدخول البيت فيها بعد مغيبه كما ذكر، كان على ورثته البينة، على ما ادعوا من اشتراء أو صدقة أو هبة أو سماع على ذلك، فيما(11/178)
طال من السنين، ولو عرف الأصل للغائب، ولم يشهد له بدخول الميت فيها بعد مغيبه، وادعى ذلك، فقال ورثته: بل دخل فيها بحضورك قبل مغيبك، فحيازتنا عليك عاملة؛ لوجب أن يكون القول قوله مع يمينه، أنه ما دخلها إلا بعد مغيبه، ويزيد في يمينه، على ما في المسألة التي بعدها أنه ما علم بذلك في غيبته، إلا أن تكون غيبته بعيدة، وليس عليه أن يزيد ذلك في يمينه على ما في المسألة التي تليها؛ لأنه عذره فيها بالمغيب وإن كان قريبا، والله الموفق.
[مسألة: الحيازة على الغائب]
مسألة قال ابن القاسم: وأما الغائب الذي ذكرت على مسيرة الثمانية الأيام، وقد حيزت أرضه عليه، فليست تلك حيازة، ولا حيازة على غائب، إلا أن يكون قد علم بذلك وعرفه، فترك ذلك، ولم يطلبه ولم يخرج إليه حتى طال زمان ذلك، كما أخبرتك مما تكون فيه الحيازة، وهو تارك لذلك، عالم به، فلا شيء له بعد ذلك.
قال الإمام القاضي: جعل مسيرة الثمانية الأيام في هذه المسألة قريبا، ولم يعذره بمغيبه إذا علم، وذلك خلاف قوله في المسألة التي بعدها، مثل قوله في رسم الأقضية، من سماع يحيى بعد هذا، من هذا الكتاب، والله الموفق.
[مسألة: يغيب مدة ورجل يعمل أرضه عشر سنين ويموت عنها]
مسألة قال عيسى: قلت لابن القاسم: فالرجل يغيب الغيبة غير البعيدة، مثل مسيرة أربعة أيام ونحوها، ورجل يعمل أرضه عشر سنين أو عشرين سنة، ويموت عنها العامر، ويرثها ولده، فلا يطلق ذلك، ولا يوكل، وهو تبلغه عمارته، ولا يذكر شيئا، فيقدم(11/179)
يطلب ذلك بعد عشرين سنة، وقد صارت بيد وارث، قال: ذلك له، ولا يقطع ذلك عنه الأمر القريب، وليس كل الناس يقرب ذلك عليهم. وللناس معاذير في ذلك، من ضعف البدن، والنظر في صنعته، والضيعة تكون من النبات، ولا يستطيع مفارقتهن، قلت له: فإن لم يكن عذر ولا ضعف يعرفه الناس، قال: كم فيمن لا يتبين عذره للناس، وهو معذور، فلا أرى أن يقطع ذلك عنه شيء، متى ما قام، كان على حجته.
قال محمد بن رشد: عذره ابن القاسم في هذه المسألة بمغيبه، وإن كان قريبا، فلم ير الحيازة عليه عاملة، خلاف قوله في المسألة التي قبلها. وفي أول رسم الأقضية، من سماع يحيى بعد هذا، من هذا الكتاب، وقد حكى عيسى في كتاب الجدار اختلاف قول ابن القاسم في هذه المسألة، ثم قال: وأحب قوله إلي أن يكون على حقه، إلا أن يقوم وحقه في يد الذي حازه في غيبته، فعلم بذلك، ثم رجع ولم يذكر شيئا حتى قام اليوم، وقد طال زمان ذلك بعد أن علم، فهو كالحاضر الذي يستحق عليه الأشياء بالحيازة، فيما فسرت لك، والله أعلم.
وهذا الاختلاف في القريب إنما هو إذا علم، وأما إذا لم يعلم فلا حيازة عليه، وإن كان حاضرا غير أنه في القريب محمول على غير العلم حتى يثبت عليه العلم، وفي الحاضر محمول على العلم حتى يتبين أنه لم يعلم، والقريب في هذا الذي اختلف فيه هذا الاختلاف، ما كان على مسيرة الثمانية الأيام ونحوها، والبعيد مثل الأندلس من مصر، أو مصر من المدينة على ما قاله في رسم الأقضية، من سماع يحيى، ولم يختلف في البعيد الغيبة، أنه لا يحاز عليه بطول المدة، وإن علم، وبالله التوفيق.
[ابتاع دارا فاستحق رجل فيها سهما من عشرة]
ومن كتاب العتق وسئل عن رجل ابتاع دارا، فاستحق رجل فيها سهما من عشرة(11/180)
أو أقل أو أكثر، فهل ينقض ذلك شراءه؟ قال: قال مالك: فإن كان الذي استحق منها يسيرا، قلت العشر، قال: ربما كان العشر فيها يضر، وفيها ما لا يضر، فإنما ينظر في ذلك الوالي على الاجتهاد، فإن رأى ضررا رده، وإن لم ير ضررا أمضى البيع، ورد عليه قدر ذلك من الثمن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن استحقاق العشر من الدار قد يضر ببقية الدار، وقد لا يضر، فإن كانت لا تنقسم أعشارا، فلا شك في أن ذلك ضرر له، رد جميعها، وأما إن كانت تنقسم ببيت يحصل للمستحق من الدار، والمدخل على باب الدار، والساحة مشتركة، فإن كانت دارا جامعة كالفنادق التي تكرى ويسكنها الجماعة من الناس، فليس ذلك بضرر، فيرجع بقدره من الثمن، ولا يرد الجميع، وإن كانت دارا للسكنى، فذلك ضرر.
وأما إن كانت تنقسم بغير ضرر ولا نقصان من الثمن، ويصير لكل نصيب حظه من الساحة، وباب على حدة، فليس ذلك بضرر، إلا أن يكون المستحق على هذه الصفة الثلث فأكثر، والدار الواحدة في هذا، بخلاف الدور، ولأنه إذا اشترى الدور، فاستحق بعضها، لا يرد جميعها، إلا أن يكون الذي استحق منها أكثر من النصف، وهو الخل، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على مذهب مالك؛ لأنه قد نص في المدونة في القسمة، وفي النكاح الثاني منها أن استحقاق ثلث الدار الواحدة كثير.
وقد مضى في رسم يوصي من هذا السماع ما فيه بيان لهذه المسألة، وبالله التوفيق.
[بنى وغرس في أرض كانت في يديه، فاشتراها فاستحقها رجل]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل بنى وغرس في(11/181)
أرض كانت في يديه، فاشتراها، فاستحقها رجل، فقيل للذي استحقها: اغرم له قيمة غرسه وعمله، فقال: ما بيدي ما أعطيه اليوم، وما أريد إخراجه، فليسكن حتى يرزق الله ما أودي إليه، ولينتفع بعمله حتى يأخذ حقه، فكره صاحب الغرس تأخير ذلك، وقال: أما إذا قضى علي بالخروج، وصار ما في يدي لغيري، فلست أقيم فيما لا حق لي فيه، مع ما أخاف من نقصان قيمة عملي بتأخير أخذ القيمة منه. قال: يغرم المستحق ما وجب عليه من القيمة، ولا يؤخر للعشرة، فإن كره أو كان معدما، قيل للعامل في الأرض: ادفع إليه قيمة أرضه، ثم تكون لك وما أحدثت فيها؛ فإن أبى أو كان معدما، كانا شريكين في الأرض والعمارة، على قدر قيمة الأرض، وقدر قيمة العمران، وأمرهما مثل الذي استحق في يديه أرض عمرها وهو يراها مواتا. قال: وإن رضي ذلك الذي عمر الأرض أن يؤخر المستحق، على أن يقره ينتفع بعمارته ما حل ذلك بينهما؛ لأن حقه قد وجب معجلا، فهو يؤخره على الانتفاع، فهو بالأرض والعمران الذي قد صار للمستحق بالقيمة التي يؤخره بها، وهو كالسلف الذي يرضى لصاحبه بتأخيره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها. ورواية المدنيين فيها عن مالك، أن صاحب العمارة لا يخير، ويكونان شريكين إن أبى المستحق أن يعطي صاحب العمارة قيمة عمارته، خلاف مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك، وقوله: ولو رضي الذي عمر أن يؤخر المستحق، على أن يقره ينتفع بعمارته، لم يحل؛ لأنه سلف جر منفعة؛ صحيح على ما قاله، ولو أكراه منه المستحق بما وجب له عليه من قيمة البناء، لم يجز عند ابن القاسم؛ لأنه الدين بالدين، ويجوز على مذهب أشهب؛ لأن قبض أوائل الكراء كقبض جميعه، وبالله التوفيق.(11/182)
[مسألة: ورثوا منزلا فهلك بعض الورثة وادعى ولد الذين ماتوا أن المنزل لم يقسم]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن ورثة ورثوا منزلا، فهلك بعض الورثة، وترك أولادا، فادعى ولد الذين ماتوا بعد موت الأول، أن المنزل الذي هلك عنه جدهم بينهم لم يقسم، وادعى الباقون من ولد الجد، أنه ليس في أيديهم غير حقهم، وأنهم عايشوا إخوتهم، حتى مات منهم، وكلهم مقيم على ما في يديه من المنزل، راض به، والذي في أيديهم من المنزل، فيختلف في أيدي بعضهم القليل، وفي أيدي بعضهم الكثير، وعسى أن يكون فيهم من ليس في يديه منه شيء، وقد تعايشوا على تلك الحال، الثلاثين سنة ونحوها، فلما مات منهم من مات، أراد ورثته أخذ سهم أبيهم، أترى ذلك لهم؟ ولعلهم قد كانوا اقتسموا، فإن طلبوا على ذلك بينة لم يجدوها؛ لطول الزمان، وما يحدث على الشهداء من الموت والنسيان، فقال: أما كل دار أو مزرعة لم يحدث فيها الوارث الذي هي في يديه، أو فيما كان في يديه منها غرسا ولا بنيانا حتى يكون بما أحدث حائزا له دون ورثته، وإنما الدار بحال ما هلك عنها الجد، غير أن بعضهم يسكن منها أكثر مما يسكن بعض، أو يكون في أيدي بعضهم دون بعض، أو المزرعة يزرعها أحدهم دون الآخرين، أو يزرع منها بعضهم أكثر من بعض، فلا أرى أن يستحق أحدهم شيئا من ذلك بطول السكنى والازدراع، وإن طال زمان ذلك جدا، وليسوا فيما حازه بعضهم عن بعض، من غير إحداث عمارة ببنيان أو كراء، كأن يقبضه لنفسه ويكريه باسمه بحضرة إخوته وعلمهم، كما يحوزه الأجنبي من مال الرجل.
قلت: فكم ترى طول حيازة الأجنبي مال الرجل الذي يستحقه به، لا تسأله البينة على ما في يديه منه، وإن لم يبن ولم يغرس، غير أنه سكن(11/183)
الدار وازدرع الأرض، أو ما أشبه ذلك؟ فقال: العشر سنين ونحوها، يبطل عندي دعوى من ترك رجلا يحوز عليه أرضه وداره بالسكنى والازدراع، وهو حاضر لا ينكر ولا يمنع، قال: وأبين ذلك عندي أن يبني ويغرس. قلت: أترى الإخوة فيما بينهم من ميراثهم ومن معهم من سائر الورثة إذا كان ما يحوزه بعضهم عن بعض العشر سنين ونحوها بإحداث الغرس والهدم والبنيان والكراء الذي يكريه باسمه، ويتقاضاه دونهم، وتنتسب تلك الدور والأرضون إذا أكروها إلى بعضهم دون بعض.
أترى أن يكونوا في هذه الحالة بمنزلة الأجنبيين فيما ذكرت من العشر سنين ونحوها؟ فقال: نعم. حاله عندي فيما يحوزه بعضهم دون بعض بالهدم والبنيان والغرس، بمنزلة ما يحوزه الرجل من مال الرجل. والتقادم عندي فيه الذي يستحقه به حيازة العشر سنين ونحوها، فقال: والموالي والأصهار، يساكنون الرجل في داره المعروفة له، أو يحرثون أرضه فيعايشهم على ذلك زمانا، فيدعيها بعضهم بالتقادم، أو يموت ويدعي ذلك ورثته؟ أرى أن لا يستحقوا شيئا مما سكنوا واحترثوا بتقادم ذلك في أيديهم، إلا أن يغرسوا أو يهدموا أو يبنوا، فيكون حينئذ حالهم عندي على ما وصفت لك، مما يحوزه الأجنبي، من أرض الرجل أو داره.
قال يحيى: ثم رجع ابن القاسم فيما يحوزه الوارث على إشراكه بالهدم والبنيان والغرس، فلم ير ذلك يقطع حق الوارث من ميراثه، وثبت فيما حازه الوارث، عن موارثتهم وإن حازها بعضهم عن بعض بغير ما ذكرت لك من الوطء والهبة، وما أشبه ذلك طول الزمان، إلا أن يطول جدا. قال: ولم ير الأربعين سنة وما دونها بطويل جدا بين الورثة بخاصة، وسواء عندنا فيه أخوان حازه أحدهما دون صاحبه، أو مات أحدهما، أو ماتا جميعا فتداعيا فيه أبناؤهما(11/184)
أو أبناء الأبناء، الأمر فيه هو ألا يقطعه إلا طول الزمان جدا.
قال: وكل ما حازه المولى من دار مولاه، أو أرضه، أو الأصهار أو الولد، فهو بهذه المنزلة، لا يقطع ذلك حق الذي تعرف له الأرض بطول عمارتهم وإن هدموا وبنوا، إلا أن يطول جدا، مثل ما وصفنا من أمر الورثة فيما يحوزه بعضهم دون بعض، الذي يعرف الناس به من التوسع للمولى والصهر والولد، إلا أن يحوز ذلك بالبيع والعطايا أو الهبات أو الصدقات، وما أشبه ذلك مما لا يصنعه المرء إلا في خاصة ماله. قال: وأبناؤهم وأبناء أبنائهم بمنزلتهم، لا حق لهم فيما عمر الأب، والجد من دار مواليه أو أرضه أو داره أو ابنه أو جده، إلا أن يطول الزمان جدا، ولا ينفعه أن يقول: ورثت عن أبي، وأبي عن جدي، لا أدري كيف كان هذا الحق بأيديهم، ويدي بعدهم، حتى يأتي بالبينة على شراء الأصل أو عطية، أو أمر يستحق به ما عمر، أو عمر أبوه أو جده.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة، وقد مضى من قولنا في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم ما فيه بيان أكثر وجوها، ونزيد هاهنا بيانا بالتكلم على ما يقتضيه بعض ألفاظها، من ذلك قوله فيها لما سأله عن طول الحيازة التي يستحق بها الأجنبي ما حازه من مال الأجنبي، دون أن يسأل البينة على ما في يديه منه، وإن لم يبن ولا غرس العشر سنين ونحوها، يبطل عندي دعوى من ترك رجلا يحوز عليه أرضه وداره بالسكنى والازدراع، وهو حاضر لا ينكر ولا يمنع؛ لأنه كلام فيه احتمال.
وقد قال بعض أهل النظر: إن فيه دليلا على أنه إذا حاز الرجل الدار أو الأرض بحضرة القائم، المدة المذكورة، أنه لا يلزمه أن يكشف عن أصل الملك؛ لأنه لو ألزم ذلك، وقال: صار إليّ بهبة أو صدقة، ثم ضعف عن إثبات ذلك، فقد أعان على إبطال حقه. قال هذا القائل، وقد قيل: إنه يلزم المقوم عليه، أن يقول: من أين صار بيده؟ قال:(11/185)
والأول أحسن، والذي أقول به: إن هذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه، وإنما يختلف الجواب في ذلك بحسب اختلاف الوجوه فيه. فوجه لا يسأل الحائز فيه عما في يديه، من أين صار إليه؟ وتبطل دعوى المدعي فيه بكل حال، فلا توجب يمينا على الحائز المدعى عليه، إلا أن يدعي عليه أنه أعاره إياه، فتجب له عليه اليمين على ذلك. وهذا الوجه هو إذا لم يثبت الأصل للمدعي، ولا أقر له الحائز الذي حازه في وجهه العشرة الأعوام ونحوها، ولو ادعى عليه فيما في يديه، أنه ماله وملكه، قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه في وجهه؛ لوجبت له عليه اليمين.
ووجه يسأل الحائز فيه عما في يديه من أين صار إليه؟ ويصدق في ذلك مع يمينه، ولا يكلف البينة على ذلك، وهو: إذا ثبت الأصل للمدعي، أو أقر له به الحائز، ولو ثبت الأصل للمدعي، وأقر له به الذي هو في يديه، قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه؛ لوجب أن يسأل من أين صار إليه؟ ويكلف البينة على ذلك. وقوله في هذه الرواية: العشر سنين ونحوها معناه: العشر سنين وما قرب منها، يريد والله أعلم بالشهر والشهرين والثلاثة، وما قرب منها مما هو ثلث العام وأقل. وقد قيل: إن ما قرب من العشرة الأعوام بالعام والعامين حيازة.
وقد مضى القول على ذلك في رسم شهد، من سماع عيسى قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وفي قوله في هذه الرواية، ثم رجع ابن القاسم فيما يحوزه الوارث على إشراكه بالهدم والبنيان والغرس، دليل على أنه لم يرجع فيما حازه القرابة بعضهم على بعض، مما لا شركة بينهم فيه العشرة الأعوام، بالهدم والبناء.
وقد دل على ذلك أيضا قوله: قال: ولم ير الأربعين سنة، وما دونها بطويل جدا بين الورثة بخاصة. وقد رأيت لبعض أهل النظر، أنه قال في قوله في هذه الرواية بين الورثة بخاصة دليل على أن الأشراك من غير الوراثة، بخلاف شركة الوراثة، وتأول مثل ذلك أيضا على ما قاله يحيى بن يحيى بعد هذا في رسم الأقضية، قال: وفي كتاب الجدار لعيسى: أن ابن القاسم يفرق بين الأشراك في الوراثة وغير الوراثة، كانت بابتياع أو غيره،(11/186)
وجعل ذلك كله في حكم القرابة على اختلاف قول ابن القاسم. وهو الذي حكاه من كتاب الجدار، من أن حكم الأوراث والأشراك في الحيازة، بمنزلة سواء، هو قول مطرف وأصبغ في الواضحة، وقد روي عن مطرف أن الأشراك بمنزلة الأجنبيين، وبعد عندي في النظر أن يكونوا بمنزلة الأجنبيين من أجل أنهم أشراك، وأن يكونوا بمنزلة الأوراث؛ إذ ليسوا بقرابة، وإنما الذي يشبه، أن يكون حكم الإشراك الأجنبيين، كحكم القرابة من غير أهل الميراث، الذين ليسوا بأشراك، فيدخل في ذلك اختلاف ابن القاسم في القرابة الذين ليسوا بأشراك، فيتحصل فيهما جميعا أعني بها القرابة الأشراك وغير الأشراك ثلاثة أقوال؛ أحدهما: أن العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان حيازة بينهم، كانوا أشراكا أو لم يكونوا. والثاني: أنها لا تكون حيازة بينهم، كانوا أشراكا أو لم يكونوا. والثالث: أنها تكون حيازة بينهم إن لم يكونوا أشراكا، وتكون حيازة إن كانوا أشراكا.
وقوله: إلا أن يحوز ذلك بالبيع والعطايا أو الهبات أو الصدقات، أو ما أشبه ذلك مما لا يصنعه المرء إلا في خاصة ماله، يريد فتكون العشرة الأعوام في ذلك حيازة، وعلى ما دل عليه ما مضى من المسألة. ومعنى ذلك في البيع؛ إذا لم يعلم به إلا بعد وقوعه، فلم يقم حتى مضت مدة الحيازة، ولو قام بعد قبل مضيها بعد العام ونحوه، لحلف، وكان الثمن له، ولو قام بحدثان ما علم؛ لكان له رد البيع، ولو كان حاضر البيع فسكت، ولم يقم إلا بعد العام ونحوه؛ لكان ذلك عليه حيازة، ولم يكن له شيء.
وقد مضى هذا المعنى بأبين من هذا في سماع أشهب، وهذا إذا باع الجميع، وكذلك إذا باع الجل، وإنما يختلف إذا باع الجل في القليل الباقي. فقيل: إنه تبع للجل المبيع، يستحقه الحائز بالحيازة، وهو قوله بعد هذا في هذا الرسم، وقيل: إنه لا يكون تبعا له، وهو قول ابن القاسم، في سماع سحنون بعد هذا، وكذلك اختلف أيضا إذا باع اليسير وهو حاضر، فلم يقم إلا بعد العام ونحوه، أو لم يعلم به إلا بعد وقوعه، فلم يقم حتى مضت مدة الحيازة، هل يكون تبعا للباقي أم لا؟ فقيل: إنه لا يكون تبعا له، ويستحقه(11/187)
البائع بالحيازة، ويكون الثمن له، وقيل: إنه يكون تبعا له، ولا يستحقه البائع بالحيازة، ولا يكون له الثمن، ويكون للذي ثبت له الأصل، وأما الهبات والصدقات والأعطية، فإن وقعت في الكل أو في الجل، أو في اليسير مضت، إلا أن يقوم بحدثان ما علم، فيكون له رد ذلك. وأما الباقي فيكون له إن كان الأكثر باتفاق، وإن كان الأقل، فعلى الاختلاف الذي ذكرناه في البيع إن كان قيامه بعد أن مضت مدة الحيازة من يوم علم بذلك، أو بعد مضي العام ونحوه، إن كان مشاهدا لذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون صهرا لي فيعمر أرضا في قريتي في وجهي عشر سنين]
مسألة قلت لسحنون: أرأيت الرجل يكون صهرا لي يكون زوج عمتي، أو زوج أختي، فيعمر أرضا في قريتي، في وجهي عشر سنين أو نحوها، والقرية معروفة لي خاصة، ليست لأبي ولا لجدي، هل تنفعه حيازتها في وجهي عشر سنين أو نحوها، وتكون له كما تكون للبعيد من الناس، إذا أعمروها عشر سنين؟ قال: الصهر عندي بمنزلة القرابة، لا يستحقها بعمارة عشر سنين، كما يستحقها الأجنبي، وقد اختلف فيها أصحابنا، وهذا الذي أعلمتك عندي أحسن؛ أن الصهر بمنزلة القرابة والورثة قيل: فموالي الذين من فوق الذين أعتقوني، قال: الموالي الذين أنعموا عليك، والموالي الذين أنعمت عليهم في ذلك سواء، بمنزلة القرابة.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا: إن الصهر بمنزلة القرابة، هو مثل ما تقدم في هذا الرسم عن ابن القاسم، خلاف ما مضى في رسم شهد، من سماع ابن القاسم. وأما قوله في أن الموالي الأعلين والأسفلين في ذلك سواء، فهو مثل ما في سماع أصبغ، بعد هذا، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه، وبالله التوفيق.(11/188)
[مسألة: أصدق المرأة عن ابنه منزلا فلما دخل ابنه بالمرأة أخذت المنزل]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل أصدق المرأة عن ابنه منزلا، فلما دخل ابنه بالمرأة أخذت المنزل، إلا حقولا يسيرة تركتها في يد حموها، فلم تزل في يديه حتى مات بطول زمان، ثم أرادت المرأة أخذها، فمنعها ورثة الحمو، وقالوا: قد عايشته زمانا من دهرك، وهي في يديه، ولا تشهدين عليه بعارية ولا كراء، ولا ندري لعلك أرضاك من حقك، أترى للمرأة في ذلك حقا؟ قال: نعم، لها أن تأخذ تلك الحقول التي هي مما كان أصدقها الحمو عن ابنه، ولا يضرها طول ما تركت ذلك في يد الحمو؛ لأنها ليست بالصدقة، فيلزم حيازتها، وإنما الصداق ثمن من الأثمان. قال: وكذلك لو تركت كل ما أصدقت في يد الحمو، لم يضرها ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا إشكال فيها ولا اختلاف؛ لأنه حقها، تركته في يد حموها، فلا يضرها ذلك، طال الزمان أو قصر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» ، وليس هذا من وجه الحيازة التي ينتفع الحائز بها، ويفرق بين القرابة والأجنبيين والأصهار فيها؛ إذ قد عرف وجه كون الأحقال بين الحمو، فهي على ذلك محمولة حتى يعرف تصيرها إليه بوجه صحيح؛ لأن الحائز لا ينتفع بحيازته، إلا إذا جهل أصل مدخله فيها، وهذا أصل في الحكم بالحيازة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأرض تكون بيد الرجل فيدعيها رجل فيستحقها وقد قلبها الآخر]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الأرض تكون بيد(11/189)
الرجل، فيدعيها رجل، ويخاصمه فيها، فيستحقها، وقد قلبها الذي كانت في يديه، وأنعم حرثها ليزرعها. قال: المستحق بالخيار، إن شاء أعطاه قيمة عمله وأخذها، فإن أبى قيل للذي استحقت في يديه: إن شئت فاغرم كراءها، وإن شئت فأسلمها بما فيها من العمل، ولا شيء عليك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة لم يجر فيها ابن القاسم على الأصل؛ لأنه إذ لم يلزم المستحق أن يعطي المستحق من يديه الأرض قيمة حرثه وعمله فيها، كما يلزم مستحق الحائط أن يعطي الذي استحق من يديه قيمة سقيه وعلاجه، إن كان سقاه وعالج فيه، وجعل من حق الذي استحقت من يده الأرض إذا أبى المستحق أن يدفع إليه قيمة حرثه وعمله، أن يدفع إليه قيمة أرضه، ويكون أحق بها، كما يكون ذلك له إذا استحقت من يديه وبناها؛ لأن منفعة حرثه، يستوي جميعها في ذلك العام، بخلاف أن يعطيه كراءها لذلك العام، يريد غير محروثة، ليصل بذلك إلى حقه في حرثه وعمله، فيلزمه أن يقول أيضا: إنه إن أبى من ذلك، كانا شريكين في كراء ذلك العام محروثة، المستحق بقيمة كرائها غير محروثة، المستحق منه بقيمة حرثه وعمله.
وإنما لم يكن من حق المستحق منه إذا أبى المستحق أن يدفع إليه قيمة حرثه وعمله، أن يدفع إليه قيمة أرضه، ويكون أحق بها، كما يكون ذلك له إذا استحقت من يده وبناها؛ لأن منفعة حرثه، يستوي جميعا في ذلك العام، بخلاف البنيان الذي تبقى منفعته الأعوام. ولأصبغ في الثمانية أنه لا شيء للذي حرث الأرض في حرثه على المستحق؛ لأنه ليس شيء وضعه فيها لو شاء أن يأخذه أخذه كذلك، قال سحنون: إنه لا شيء له، وإن زبلها؛ لأن ذلك مستهلك فيها، فيأخذها المستحق على ما هي عليه، كالدابة العجفى تسمن، والصغير يكبر، والاختلاف في هذه المسألة على اختلافهم في الرجوع في الاستحقاق بقيمة السقي والعلاج، فجواب ابن القاسم على أصله في وجوب الرجوع بذلك، وهو مذهب أشهب، وقول(11/190)
سحنون في ذلك على أصله، في أنه لا يجب الرجوع بذلك، وهو مذهب ابن الماجشون، وقول ابن القاسم أصح؛ إذ ليس بمتعد، وإنما عمل على وجه بشبهة، فلا تظلم عمله، ألا ترى أنه إذا بنى تكون له قيمة بنيانه قائما؟ وإن كان البنيان والعمل مستهلكا، لا يقدر على أخذه، ويلزم سحنون على أصله في الحرث والزبل، لا يكون له في البنيان، إلا قيمته منقوضا. وهذا ما لم يقله هو ولا غيره فيما أعلم، ولا يلزم ابن القاسم ما احتج به سحنون، من الدابة العجفاء تسمن، والصغير يكبر؛ لأن النفقة عليهما بإزاء الانتفاع بهما؛ إذ لو رجع بها، لرجع عليه بقيمة الاستخدام والركوب، وذلك ما لا يصح؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك زوجها وترك مالا وولدا فعايشت ولده ثم تزوجت بعده ثم هلكت]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة هلك زوجها، وترك منزلا وولدا ورقيقا، فعايشت المرأة ولد الرجل من غيرها زمانا، وتزوجت بعده زوجا أو زوجين، ثم هلكت، فقام ولدها من زوجها الذي تزوجها بعد الأول، يطلب مورثها من زوجها الأول، في رباعه ورقيقه، فقال ولد زوجها الأول: قد عايشتنا أمكم زمانا طويلا، وكانت أعلم بموضوع حقها، ووجه خصومتها، وذلك منذ عشرين سنة لم تطلب قبلنا شيئا حتى ماتت.
قال: لا أرى أن يقطع سكوتها بما ذكرت من الزمان حقها، من مورث معروف لها، وولدها في القيام بطلبه على مثل حجتها، لا يقطع حقها ولا سكوتها في مورثها من زوجها الأول؛ لأن حال الورثة في هذا عندي مخالف لغيرهم، إلا أن يكونوا اقتسموا بعلمها، حتى حاز كل أحد نصيبه من الأرض، ودان بحقه من أثمان ما باعوا، وبحقه مما اقتسموا من(11/191)
الرقيق والعروض، وهي ساكتة عالمة، لا تدعي شيئا ولا تطلبه، فهذا الذي يقطع حجتها، ويبطل طلبها.
قلت: فإن لم يقسموا شيئا ببينة ثبتت، ولكن قد اقتطع كل وارث أرضا زرعها وتنسب إليه، أو دارا يسكنها، أو رقيقا يخدمهم، أو بقرا أو غنما يحتلبها، أو دواب يستغلها، فكل وارث قبض مما قصصت لك شيئا قد بان بمنفعة دون أشراكه، فإليه ينسب، وله يعرف، ولما كلفوا البينة على الاقتسام، لم يجدوها لطول الزمان، وليس في يد المرأة من ذلك شيء، وعسى أن يكون في يديها الشيء اليسير، أترى هذا إذا طال الزمان يقطع حقها من المورث؟ قال: لا أرى هذا يمنعها من أخذ حقها، إلا أن يكون كل واحد منهم يعتق من الرقيق، ويدبر، ويبيع، ويتصدق، ويكاتب، فإن صنعوا ذلك وما أشبهه فيما في أيديهم، رأيت ذلك حيازة لكل واحد منهم؛ لما بقي في يديه، وقطعا لدعوى المرأة وغيرها من أهل الميراث، فمن ترك الأخذ بحقه زمانا، وهو يرى ما يحدث هؤلاء الأشراك فيما في أيديهم، لا يغيرون عليهم، ولا ينكرون فعلهم قال: وإذا صنعوا مثل هذا بعلم المرأة، وإن طال الزمان، فهو قطع لحقها إذا لم تنكر عليهم، ويعرف منعها إياهم، وقيامها بأخذ حقه قبلهم، بحداثة ما أحدثوا مما لا يحدثه المرء إلا في خاصة ماله، قلت: أرأيت إن لم يعتقوا أو يدبروا أو يتصدقوا أو يبيعوا إلا الرأس أو الرأسين، من جماعة رقيق وحده، أيبطل سكوتها عنهم حقها، من جميع الميراث؟ فقال: لا، ولكن تأخذ حقها، فيما أعتقوا أو باعوا إذا كان الذي أحدثوا من ذلك في أيسر الميراث وأقله؛ لأنها تصف بالسكوت عن اليسير؛ لكثرة المورث، وما تأخر من القسم؛ لأنها تقول: قد يصير لهم أضعاف ما أحدثوا فيه مما سكت عنه. قال:(11/192)
وكذلك لو أحدثوا مثل ما وصفت في جل الميراث وأكثره، وبقي يسير لم يحدثوا فيه شيئا، فإن حقها يبطل من القليل الباقي، فإنه تبع للكثير الذي استحقوه بما أحدثوا مما حازه بعضهم عن بعض.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: لا أرى أن يقطع سكوتها بما ذكرت من الزمان، فإن حقها من مورث معروف لها ولولدها في القيام بطلبه على مثل حجتها، لا يقطع حقهم طول سكوتها من مورثها، من زوجها الأول؛ لأن حال الورثة في هذا عندي مخالف لغيرهم. هو مثل ما تقدم من قوله قبل هذا من أنه لا حيازة بين الأقارب، بخلاف الأجنبيين. وأما قوله: إلا أن يكونوا قد اقتسموا بعملها حتى حاز كل واحد نصيبه من الأرض، وبان بحظه من أثمان ما باعوا، وبحقه مما اقتسموا من الرقيق والعروض، وهي ساكتة لا تدعي شيئا ولا تطلبه، فهذا الذي يقطع حجتها، ويبطل طلبتها عندي ففيه تفصيل.
أما إذا كانت شاهدة للقسمة حين وقوعها، فيبطل حقها بسكوتها بعد ذلك العام ونحوه، على قياس ما ذكرنا من البيع قبل هذا، وفي سماع أشهب؛ لأن القسمة بيع من البيوع. وقد قيل: إنها تمييز حق، فبطلان حقها بمرور الحول على ذلك أحرى، وأما إن لم تشاهد القسمة، وإنما علمت بها بعد وقوعها، فلا يبطل حقها إلا بمرور مدة الحيازة، وقوله بعد ذلك في الرواية قلت: فإن لم يقسموا شيئا ببينة ثبتت، ولكن قد اقتطع كل وارث أرضا يزرعها، وتنسب إليه أو دارا يسكنها أو رقيقا يختدمهم، أو بقرا أو غنما يحتلبها، أو دواب يستغلها، فكان كل وارث قبض مما نصصت لك شيئا، قد بان بمنفعته دون أشراكه، فإليه ينسب وله يعرف، ولو كلفوا البينة على الأقسام لم يجدوها لطول الزمان.
وليس في يد المرأة من ذلك شيء، وعسى أن يكون في يدها الشيء اليسير، أترى هذا إذا طال الزمان يقطع حقها من المورث؟ قال: لا أرى هذا يمنعها من أخذ حقها، هو كما قال، ولا اختلاف فيه أعلمه، إلا ما تأوله بعض الناس، على ما في المدونة، حسبما ذكرناه في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم، حاشا قوله أو دواب يستغلها؛ فإن(11/193)
قول ابن القاسم، اختلف في الاستغلال، هل هو بمنزلة الانتفاع بالسكنى والاستخدام، لا تقع الحيازة به بين الأوراث، أو بخلاف ذلك، فتقع الحيازة بينهم، وقع اختلاف قوله في ذلك في رسم الأقضية بعد هذا من هذا السماع، وأظن أنه قد وقع في بعض الكتب، أو دواب يستعملها، وهو أطرد على ما ذكره، وأما قوله بعد ذلك في الرواية: إلا أن يكون كل وارث منهم يعتق من الرقيق إلى آخر المسألة، فقد مضى القول عليه مستوفى في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يغرس في أرض امرأته أو يبني فيها أو في دارها ثم يموت أحدهم]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يغرس في أرض امرأته، أو يبني فيها أو في دارها، ثم يموت أحدهم، أيكون قيمة ذلك البنيان أو الغراس على المرأة، أو ورثتها؟ قال: نعم، قيمة ذلك عليها، أو على ورثتها إن ماتت واجب للزوج أو لورثته إن مات، وإنما حاله فيما غرس من مال المرأة حال المرتفق به، كالعارية التي يغرس فيها ويبني، إلا أن يكون للمرأة أو لورثتها بينة، أنه إنما كان ينفق في عمارة ما عمر من ذلك، من مال امرأته، ولها كان يصلح، فتكون أحق بأرضها، وما عمر لها الزوج فيها بمالها، قال: وإنما يعطي الزوج إذا لم تأت المرأة بالبينة على ما ذكرت لك، قيمة ما عمر مقلوعا، وليس قيمته قائما، وكذلك القضاء في قيمة كل عمران يضعه مستعيرا، أو مسترفق من غرس أو بنيان، وإنما يعطي قيمة كل عمران قائما صحيحا من عمر مواتا ثم استحق، أو عمر باشتراء فاستحق، أو اشتراء فعمر، ثم أخذ ذلك منه بالشفعة، فأما كل من أسكن دارا أو أعمرها، أو أرفق في مزرعة أو غيرها، أو أعمر جنانا أو أرضا حيازة أحدهما، أو إلى أجل من الآجال، أو إلى غير الأجل فعمر هؤلاء بالبنيان أو الغرس، ثم خرجوا طوعا قبل أجل(11/194)
السكنى أو العمرى، أو خرجوا عند انقضاء الأجل، فإنما يعطوا قيمة ما عمروا مقلوعا، وكذلك قال لي مالك والليث.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: وإنما حاله فيما غرس وبنى من مال امرأته حال المرتفق به، كالعرية التي يغرس فيها ويبنى، بين أنه بمنزلته عنده إذا كان يرتفق بذلك في أنه لا تكون له إلا قيمته منقوضا، سواء أذنت له في البنيان والغرس، أو لم تأذن في ذلك، إلا أن تأذن له فيه، ثم تقدم عليه بحدثان ما بنى لتمنعه من الارتفاق، فلا يكون ذلك لها، إلا أن تعطيه قيمة ذلك قائما. وأما إذا كان لا يرتفق بمالها فبنى فيه لها أو غرس، فيفترق القول بين أن تأذن له في ذلك أو لا تأذن، فإن أذنت له في ذلك، كان له عليها ما أنفق، أو قيمة ذلك، وإن لم تأذن له لم يكن إلا قيمة بنيانه منقوضا، وسواء على مذهب ابن القاسم إذا لم تأذن أقرت له بالبنيان أنه بنى، وادعت أنه إنما بناه بمالها، فحلف أنه إنما بناه بماله، لا بمالها أو أنكرت، أن يكون بناه، فأقام البينة على ذلك، لا يكون له إلا قيمته منقوضا، وفرق ابن وهب في سماع عبد الملك زونان، في كتاب الدعوى والصلح بين الأمرين، فقال: إنه تكون له نفقته؛ إذا أقرت له بالبنيان، وادعت أنه إنما بناه بمالها، فأنكر ذلك، وحلف أنه بناه بماله.
وقوله صحيح على قياس قول مالك، في رسم حلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب البضائع والوكلات، ورسم البز من سماعه أيضا من كتاب المديان والتفليس، في أن تصرف الرجل في مال زوجته، محمول على الوكالة لا على التعدي، ويأتي على قياس قول ابن القاسم: إنه محمول على التعدي حتى تعرف الوكالة، ولو أقرت المرأة أنها أذنت أن يبنيه بمالها، فبناه به، وقال: هو إنما بنيته بمالي، وحلف على ذلك؛ لكانت له نفقته عندهما جميعا، وقد مضى القول في سماع أشهب على قوله، وإنما يعطي قيمة كل عمران قائما صحيحا من عمر مواتا فاستحق، فلا معنى لإعادته.
وقوله: وأما كل من أسكن دارا أو أعمرها، أو أرفق في مزرعة أو غيرها، أو أعمر جنانا أو أرضا حياة أحدهما، أو إلى أجل من الآجال، أو إلى(11/195)
غير أجل، فعمر هؤلاء بالبنيان أو الغراس، ثم خرجوا طوعا قبل أجل السكنى أو العمرى، وخرجوا عند انقضاء الأجل، فإنما يعطوا قيمة ما عمروا مقلوعا، وكذلك قال لي مالك والليث، يريد: سواء أذن له في البنيان أو لم يأذن، وقد نص على ذلك في المدونة، خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك من رواية مطرف وابن الماجشون، قال: كل من بنى في أرض قوم أو غرس بإذنهم وعلمهم، فلم يمنعوه، فله قيمة ذلك قائما كالباني بشبهة، وكذلك كل من تكارى أرضا أو منحها إلى أجل أو غير أجل، ثم بنى فيها بإذنهم وعلمهم، أو لم يستأذنهم ولم يمنعوه ولا نهوه، فإن له قيمته قائما إذا أراد أن يخرج؟ وكذلك من بنى في أرض بينه وبين شريكه بعمله، فله قيمته قائما، وكذلك من بنى في أرض امرأته وبعلمها، قال مطرف وابن الماجشون: ما علمنا اختلف فيه قول مالك ولا أحد من أصحابه؛ ابن أبي حازم، وابن دينار، والمغيرة، وغيرهم، وبه القضاء بالمدينة، وقاله ابن كنانة، وابن مسعود، وابن نافع، وشريح، وروى ابن وهب فيه حديثا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وبالله التوفيق.
[يفتات على الرجل فيبيع أمته وهو غائب]
ومن كتاب الصلاة
وقال في الرجل يفتات على الرجل، فيبيع أمته وهو غائب، فإذا علم بذلك المشتري، أراد تعجيل ردها، فقال البائع: لا أقبلها حتى يقدم سيدها، فإنه سيمضي البيع، قال: يلزمه تعجيل ردها وغرم الثمن؛ لأن المشتري لا يحول له وطء فرج لا يدري أيمضي السيد بيعها أم لا؟ قلت له: أرأيت إن لم يعلم المشتري حتى قدم سيد الأمة، فأمضى البيع؟ قال: يثبت البيع ويمضي، ولا حجة للمشتري في ردها إن قدم سيدها قبل أن يعلم المشتري بالذي غر به من شأنها.
قال: وكذلك النفر يكونون شركاء في الأمة، فيغيب رجل منهم، فيفتات عليه الآخرون، فيبيعون جميع الأمة، ثم يعلم(11/196)
بذلك المشتري؛ أنه يردها، ولا ينتظر قدوم الغائب، قال: فإن حبسها حتى يقدم الغائب، فيأخذ نصيبه منها، ويريد أشراكه الباعة أن يلزموا المشتري حظوظهم من حساب باعوا منه جميع الأمة، لم يكن ذلك لهم إلا برضا المشتري، وذلك أنه يقول: إنما رغبت فيها؛ إذا كان ملكها لي تاما يحل لي فرجها، فأما إذا شركني فيها غيري، فلا حاجة لي بحظوظهم، قال: ولو أنهم باعوا كلهم الجارية من رجل، فاستحق رجل حظ أحدهم، فأراد المشتري أن يردها بذلك، بأن يقول: لا أحبس أمة لا يحل لي وطؤها، من أجل من شركني الآن فيها، فإن ذلك ليس له، من أجل أنه إنما اشترى حظ كل أحد من الشركاء، من صاحب ذلك الحظ نفسه، فلا حجة له على من لم يستحق حظه بما استحق من حظ غيره. قيل له: أرأيت إن استحقت الأمة حرية ثلثها، وإنما باعها ثلاثة نفر، أيلزم المشتري حبس ما بقي؟ فقال: لا؛ لأن الذي استحق من حريتها، كان ثلثا أو ربعا أو خمسا، فهو يقع في جميع رقبتها، فمن حجته على الباعة أجمعين أن يقول لكل رجل منهم: قد استحق من يدي من حظك الذي بعتني من الأمة بعضه، ولا أريد أمة يشركني فيها غير ويحرم علي فرجها، لذلك، فلا حاجة لي بها، فهي رد على جميعهم، إلا أن يرضى أن يحبس ما بقي طائعا، قلت: أرأيت إن استحق من رقبة الأمة جزء من الأجزاء، مثل ما استحقت هي من حريتها، أيجوز له ردها؟ قال: نعم، وإنما يلزمه حبس ما بقي من الأمة إذا استحق بعضها؛ إذا كان الذي يستحق إنما هو حظ رجل من الشركاء بعينيه فقط.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يبيع أمة رجل وهو غائب: إن للمشتري تعجيل ردها، وليس عليه أن ينتظر رأي صاحبها، من أجل أنه لا(11/197)
يحل وطء فرج، لا يدري أيمضي السيد بيعها أم لا؟ صحيح، مثل ما في كتاب الغصب من المدونة، ولا خلاف فيه أعلمه، وأما إذا قدم سيدها فأمضى البيع، وأراد المشتري الرد، فيتخرج ذلك على الاختلاف في العهدة، هل تنتقل عن البائع إلى سيد الأمة أم لا؟ وفي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها لا تنتقل على البائع، وهو قول سحنون، فعلى قياس هذا القول، يأتي قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن البيع يلزم المشتري، وليس له أن يرد.
والقول الثاني: إن العهدة تنتقل عن البائع إلى سيد الأمة، روى ذلك أصبغ عن ابن القاسم، وحكاه أيضا عنه سحنون. فعلى قياس هذا القول يكون للمشتري أن يرد الأمة، وإن قدم سيد الجارية، فأجاز البيع؛ لأن من حجته أن يقول: لا أرضى أن تكون عهدتي عليك؛ لأني إنما رضيت بذمة البائع مني، لا بذمتك، وهو قول وحجة، وفي العهدة قول ثالث، وهو تفرقة أصبغ بين أن تكون الأمة، قد فاتت أو لم تفت، وهو قول له وجه في النظر؛ إذ من حق سيد الأمة أن يضمن البائع الغاصب قيمتها إذا فاتت، فإذا كان ذلك من حقه، فكأنها قد وجبت للغاصب، فلا تنتقل العهدة عنه، فعلى قياس هذا القول، إن جاء بها فأجاز البيع، وهي قائمة لم تفت، كان للمشتري الرد، وإن جاء وقد فاتت، فأجاز البيع، لم يكن للمشتري أن يرد؛ لأن عهدته باقية على الذي اشترى منه ويشبه أن يقال: إن له الرد على كل حال، انتقلت العهدة عن البائع الغاصب أو لم تنتقل؛ لأنها إن انتقلت عنه قال: لم أرض إلا بذمته، وإن لم تنتقل عنه قال: لم أرض بذمة غاصب، ويشبه أن يقال: إن ابن القاسم لم ير للمبتاع حجة في العهدة؛ يجب له بها الرد، ولذلك قال: ليس له أن يرد مع أن الموجود له أن العهدة على سيد الأمة إن أجاز البيع، فيتحصل على هذا في الرد أربعة أقوال؛ أحدها: أنه لا يرد بحال. والثاني: أن يرد بكل حال. والثالث: أنه يرد على القول بأن العهدة على سيد الأمة، ولا يرد على القول بأن العهدة على البائع الغاصب. والرابع: أنه يرد إن جاء سيدها، فأجاز البيع بعد أن فاتت، على قياس تفرقة أصبغ في العهدة بين الوجهين، على هذا كان من(11/198)
تقدم من الشيوخ يحمل الاختلاف في انتقال العهدة في هذه المسألة. والذي يوجبه النظر في ذلك، أن الاختلاف في انتقالها، إنما هو إذا فات العبد أو الأمة فواتا يوجب للمستحق تضمين الغاصب القيمة، ولا اختلاف في أنها تنتقل إذا لم يجب للمستحق إلا أخذه، أو إجازة البيع وأخذ الثمن، ولا في أنها لا تنتقل إذا لم يجب له أخذه لفواته، حسبما نذكره في كتاب الغصب عند تكلمنا على رواية أصبغ، فيه إرث لثمنه، وتفرقته في الجارية تكون بين الشركاء، بين أن يغيب أحدهم فيبيع الباقون جميعا، فيأتي الغائب فيستحق نصيبه، وبين أن يبيعوها، فيأتي رجل فيستحق نصيب أحدهم في أن للمشتري أن يرد ما بقي من الجارية على الذين باعوها منهم، إن كانوا باعوا منه جميعا، وليس له أن يرد ما بقي في يديه منها، على الذين باعوه إياه؛ إذا كانوا لم يبيعوا منه جميعا، وإنما باعوا منه حصصهم لا أكثر، صحيحة؛ إذ لا حجة له عليهم في استحقاق ما باع منه غيرهم، وإنما له الحجة عليهم في استحقاق ما استحق مما باعوا منه.
وقد وقع في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، من كتاب البضائع والوكالات، مسألة حملها بعض الناس على أنها مخالفة لهذا، في أن المشتري ليس له أن يرد الباقي على البائعين منه، وإن كانوا هم باعوا منه جميع الأمة، وليس ذلك بصحيح من التأويل، على ما لعلنا سنذكره إذا مررنا به في موضعه إن شاء الله. وكذلك استحقاق جزء من الأمة بالحرية مثله، سواء أن كانوا باعوا جميعها، كان للمشتري أن يرد الباقي عليهم، كما ذكر ولو كان أحدهم قد أعتق نصيبه وهو معدم، فلم يقوم عليه نصيب أشراكه، ثم باعوا كلهم الأمة، فاستحق نصيب الذي أعتق نصيبه بالحرية، لم يكن للمشتري أن يرد الباقي منها على أشراكه البائعين منه؛ إذ لم يبيعوا هم منه الحظ المستحق بالحرية، وبالله التوفيق.
[الأرض تستحق بالعدول ولا يثبتون حوزها فيشهد على حوزها غير عدول]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الأرض تستحق بالعدول، ولا يثبتون(11/199)
حوزها، فيشهد على حوزها من الجيران غير عدول، أيتم بذلك الحكم لمدعيها مع يمينه؟ فقال: لا يشهد في الحوز وغيره غير العدول، ولا أرى أن يتم استحقاقها إلا بهم. قلت: فإن الغاصب ربما خلط دورا وعور حوزها حتى لا يثبتها أحد، ممن كان يعرفها لأهلها، ويحوزها لهم، فقال: يحوز المدعى عليه ما أقر به، ويحلف على ذلك، ثم لا شيء عليه غيره. قلت: إذا يقال ذلك جدا قال: أما إذا لم يقر موضع الباب أو ما يرى أنه ليس بشيء، فلا يقبل قوله: وإما أن يقربا بالبيت ونحوه، فليس عليه إلا ذلك مع يمينه، إلا ما حاز العدول للمدعي المغتصب.
قلت: فإن لم يقر إلا بموضع الباب أو نحوه، وأنت لا تعطى المغتصب إلا ببينة عادلة حائزة لما شهدوا عليه، فماذا يلزم الغاصب إذا لم يقر إلا بموضع باب أو جدار؟ فقال: أما إذا استدل على أن الغاصب يكتم مواضع الحوز بما يستنكر من أمره، حاز المدعى، فاستحق ما حاز بيمينه، مع ما ثبت له من البينة على أصل الغصب.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف، وزاد قال: فإن قال المدعي: لا أعرفه قد غير حدودها، وعمى معلومها، حيل بينه وبين الأرض جميعها حتى يقر له بحقه منها، قال: وقد قال ذلك مالك في غير الغاصب، فالغاصب أحق بالحمل عليه؛ لأنه غاصب، مع ما يلزمه من الأدب الموجع والعقوبة البالغة، والسجن الطويل، فيما ثبت عليه من الغصب واهتضام المسلمين حقوقهم.
قال: وهذا إذا كان ممن له في تلك القرية أو حول تلك الأرض حق قبل ذلك ثم غصب هذه الأرض، فضمها إلى حقه. وأما لو ثبت أن أول دخوله فيها، بسبب هذا الغصب الذي(11/200)
ثبت عليه، اكتفي المشهود له من شهوده بأن يشهدوا له، وأنه غصبه الأرض، وإن لم يجدوها، ولم يسأل المشهود عليه، كم لهذا منها.
وأخرج منها جميعا حتى يأتي ببينة على ما ادعاه فيها بعد دخوله من شراء صحيح، أو حق يثبت له. وقد قيل: إن الشهود إذا لم يثبتوا حوز الأرض بتعوير الغاصب لها كان القول قول المغصوب منه، حكى ذلك يحيى بن يحيى عن غير ابن القاسم في المبسوطة وأخذ به، واستحسنه بعد أن حكى عن ابن القاسم مثل قوله هاهنا، وعن ابن وهب أيضا، وكذلك قال ابن كنانة ومطرف في الغاصب ينتهب من رجل مالا في صرة، والناس ينظرون فيطرحه حيث لا يوجد، إن القول قول المنتهب منه، خلاف قول مالك في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، من كتاب الغصب في المسألة بعينها، وخلاف هذه الرواية؛ إذ لا فرق بينها وبينها في المعنى، وقد قيل: إن الشهادة باطل إذا لم يحقق الشهود ما شهدوا به ولا حازوه، وقيل: إن المشهود عليه يسجن بهذه الشهادة، ويضيق عليه، حتى يبين له بحقه، ويحلف عليه، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم، في كتاب الغصب؛ قال أصبغ: وإن أنكر الجميع بعد الحبس أحلف كما يحلف المدعى عليه، بغير شهادة، وقيل: إذا لم يدر الشهود كم حقه من الأرض، نزلوا على ما لا يشكون فيه، ثم دفع إلى المشهود له، وهو قول ابن كنانة، وكذلك إذا شهد الشهود للرجل أن رجلا غصبه أرضا في قرية لا يعرفون موضعها، يختلف في ذلك أيضا هل تبطل الشهادة، أو يكون القول قول الغاصب؛ أو قول المغصوب منه؟
وقد فرق في المجموعة ابن القاسم بين أن يشهد الشهود أنه غصبه أرضا لا يعرفون موضعها، أو أنه غصبه أرضا بعينها، لا يثبتون حوزها، وذلك أنه ذكر فيها أعني في المجموعة نص رواية عيسى عنه، في رسم الجواب، من سماع عيسى من كتاب الغصب؛ أن الشهادة باطل، وزاد عليها قال: ولو شهدوا على الأرض ولم يثبتوا الحوز، فذكر نص رواية يحيى، هذه حرفا بحرف، فبان بهذا افتراق المسألتين عنده، فعلى هذا ليست رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الغصب بمخالفة لرواية أصبغ(11/201)
فيه، ولا لرواية يحيى هذه، وإنما الخلاف بين هذه الرواية، ورواية أصبغ في كتاب الغصب. ويتحصل في المسألة ستة أقوال؛ أحدها: أن الشهادة باطل، لا توجب حكما. والثاني: أنها توجب الشهادة على المشهود عليه. والثالث: أن البينة تستنزل إلى ما لا يشك فيه. والرابع: أن القول قول المغصوب منه. والخامس: أن القول قول الغاصب، إلا أن يأتي بما لا يشبه، فيكون القول قول المغصوب منه، على ما وقع في رواية يحيى هذه. والسادس: الفرق بين أن يشهد الشهود على الأرض بعينها، ولا يعرفون حدودها، وبين أن لا يعينوا الأرض، وإنما يشهدون أنه غصبه في القرية أرضا لا يعرفونها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدعي القرية فيستحقها بالعدول ثم يحوز الشهود غيرها]
مسألة قال: وسئل عن الرجل يدعي القرية فيستحقها بالعدول، فلما أمر الشهود أن يحوزوا ما شهدوا له عليه، حازوا القرية بحدودها، وقرية إلى جنبها في أيدي قوم لم يخاصموا، فقال: القوم الذين حيز ما في أيديهم، ممن لم يخاصم: نشهد أن الذي في أيدينا، والذي قضى به لفلان، ليس لنا فيه شيء، ولا للمقضي عليهم، ولا للمقضي له، ولكنه كله يجوز حدوده لرجل ذكروه غائب تركه في أيدي آبائنا أجمعين إرفاقا منه لهم، يريدون أباهم وأبا المقضي عليهم، والمقضي له، وهم عدول غير متهمين، أتجوز شهادتهم أم لا؟ قال: لا شهادة لهم؛ لأنهم مرتفقون، يجرون إلى أنفسهم بشهادتهم، ويريدون أن يقر بأيديهم ما أرفقوا به، فشهادتهم عندي غير جائزة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إن الشهادة غير جائزة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خصم، ولا ظنين، ولا جار لنفسه» ، وبالله التوفيق.(11/202)
[يموت عن منزل ويترك ورثة غيبا في بلد غير بلده الذي هلك فيه]
ومن كتاب الأقضية وسألته عن الرجل يموت عن منزل ويترك ورثة غيبا في بلد غير بلده الذي هلك فيه، بعيدا أو قريبا، فمكث المنزل زمانا طويلا، نحوا من أربعين سنة، ثم يقدم ورثة الهالك، فيجدون المنزل في أيدي قوم قد ورثوه عن أبيهم، ولعل أباهم قد ورثه عن جده، فيدعيه ورثة الهالك الغائب عنه الذي كان أصله له معروفا، فيقول: هذا منزل أبينا، ورثناه عنه ونحن غيب، لم ندخل هذا البلد منذ هلك إلى اليوم، ويقول الذين في أيديهم المنزل: لم ندر من أنتم، ولا ما تقولون، غير أن هذا المنزل ورثناه عن أبينا، فهو في أيدينا منذ زمن طويل، ولعل أبانا إن كان أصل المنزل لكم كما تقولون، قد اشترى منكم بمكانكم الذي كنتم فيه، ولا علم لنا بشيء من أمره، إلا أنا ورثناه. قال: الأمر فيه إن شاء الله، أن يسأل الذي زعم أن أصله له معروف، إلى أن هلك فيه أبوه وهو غائب، بغير ذلك البلد، البينة على ذلك، فإن جاء بها أو أقر بذلك الذين في المنزل، وكانت غيبتهم عنه ببلد بعيد، مثل أن يكون المنزل بالأندلس، أو ما أشبهها، والذين ادعوها بمصر، أو بالمدينة، أو نحو ذلك من البعد، فيسأل الذين هم فيه، من أين صار لهم بعد وفاة الذي ورثه هو لا الغائب عنه؟
فإن أحقوا حقا باشتراء أو غيره، مما يستحق به المدعي ما ادعى، كان ذلك لهم، فإن لم يثبت لهم اشتراء ولا هبة، ولا وجه يستحقونه به، إلا ما ادعوا من تقادم ذلك في أيديهم، وتوارث ذلك بعضهم عن بعض، فإني لا أرى لهم حقا، والحق فيه لصاحب أصله إذا قامت له بالأصل بينة أو أقر له بذلك خصماؤهم؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا(11/203)
يهلك حق امرئ مسلم، وإن قدم» مع ما رأيت لأهل أصل المنزل من العذر لغيبتهم في بعد بلدهم عن ذلك المنزل، وأما إن كانت غيبتهم قريبة، بحيث يعلمون أن منزلهم قد صار إلى غيرهم، وأنه يتوارث وينشأ فيه العمل، وينسب إلى غيرهم، فلا يقومون بتغيير ذلك، ولا ينكرونه، حتى يطول الزمان كما ذكر، فلا أرى له فيه حقا، وهو لمن كان بيده، ورث ذلك عن أبيه وجده، أو لم يرث بعد أن تطول عمارته له وحيازته إياه بمثل ما ذكرت من الزمان وشبهه، فإن علم الغيب في بعدهم، ما صار إليه منزلهم من حيازة قوم له، فتركوا الخروج إلى قبضه، وتركوا الاستخلاف على ذلك، بعد عملهم بما صار إليه، من حيازة من حازه، وهم قادرون على الخروج إلى حقهم لقبضه، والاستخلاف على ذلك حتى يطول الزمان، فأراهم فيما ضيعوا من حقهم، بمنزلة الحضور، لا حق لهم فيه إذا طال زمان حيازة القوم بعمارته، وإن كان لهم في ترك ذلك عذر يتبين للسلطان بأن يضعفوا عن الخروج، ويطلبون من يستخلفون، فيعجزهم ذلك، ولا يقدرون عليه، فأراهم على حقهم، وإن قدم زمانه وتطاول أمره، لبعد بلدهم، وما ظهر للسلطان من عجزهم.
محمد بن أحمد: لم يعذر المحوز عليه في هذه الرواية بقرب الغيبة، وقد تقدم مثل هذا وخلافه في رسم الجواب من سماع عيسى، ومضى من القول على ذلك هنالك، ما فيه كفاية، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(11/204)
[مسألة: يرثون المنزل عن أبيهم فيكون في يد بعضهم على غير قسم]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن الإخوة يرثون المنزل عن أبيهم، والمنزل إنما هو أرض بيضا تحرث، فيكون في يد بعضهم نصف المنزل وثلثه، أو ربعه على غير قسم، يحرث كل رجل منهم في ذلك المنزل بقدر قوته، فيكونون على هذا الحال، حتى يموت أحدهم، وفي يده أكثر القرية، فإذا أراد من بقي من الإخوة أن يقسموا المنزل على سهامهم، منعهم ولد أخيهم الميت مما في أيديهم، وقالوا: هذا ما كان في يد أبينا، وقد صار موروثا لنا دونكم، وقد كان أبونا يحوزه دونكم وأنتم حضور، ويقول أعمامهم: إنما كنا تركناه على وجه المرفق، ولم نكن قسمنا شيئا، فكان كل واحد يرتفق فيه بقدر حاجته.
قلت: أيستحق ولدا لهالك من الإخوة ما هلك عنه أبوهم على هذا الوجه، حتى لا يكون فيه للأعمام حق؟ قال: أرى إذا لم يكن لبني الأخ فيه دعوى غير حيازة أبيهم له، ووراثته ذلك عنه، وهم مقرون بالأصل لجدهم، أو تقوم به البينة عليهم، أن يقسم على الأعمام، ولا يكون لبني الأخ الهالك إلا نصيب أبيهم على كتاب الله، بعد أن يحلفوا الأعمام بالله ما باعوا من أخيهم الميت، ولا وهبوا له، ولا صار له فيه، إلى أن هلك عنه، إلا سهمه الذي ورث معهم عن أبيهم، ثم يقسمونه على فرائض الله.
قال: وسألت عن ذلك ابن القاسم، فقال لي مثل ما قال ابن وهب، غير أنه قال: إلا أن يكون الأخ الهالك وهب شيئا من تلك الأرض أو تصدق بها، أو نحلها أو أصدقها، أو باعها أو صنع أشباه هذا مما لا يقضي به الرجل إلا في خاصة ماله، فيكون أحق لما أحدث فيه(11/205)
بعض هذه الوجوه، إذا صنع ذلك بحضرة إخوته وعلمهم، فلم ينكروه عليه، قال:
قلت له: أرأيت ما كان يكرى من تلك الأرض باسمه، ويغل كراءها لنفسه دونهم، أيستحق ذلك بذلك الكراء أم لا؟ فقال لي مرة: نعم، هو له دونهم؛ إذا كان يكريه باسمه، فلا ينكرون ذلك عليه، ثم سألته يوم سألت ابن وهب، فأمسك عنه، ومرضه، وكأنه لم يره حوزا يستحق به دونهم شيئا.
قال الإمام القاضي: قوله في هذه المسألة: قال: أرى إذا لم يكن لبني الأخ فيه دعوى غير حيازة أبيهم له، ووراثة ذلك عنهم، وهم مقرون بالأصل لجدهم، أو تقوم به البينة عليهم، أن يقسم على الأعمام، ولا يكون لبني الأخ الهالك إلا نصيب أبيهم على كتاب الله، دليل على أنه لو كان لهم فيه دعوى، بأن يقولوا قد ابتاعه أبونا منكم، أو قد صار إليه من قبلكم بوجه كذا وكذا، لاستحقوه بحيازتهم، وهو خلاف المشهور في المذهب من أن الأوراث لا حيازة بينهم بالسكنى والاعتمار والازدراع، مثل ما تأوله بعض الناس على ظاهر ما في المدونة حسبما ذكرناه في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم.
وقوله بعد أن يحلف الأعمام، هو على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة؛ إذ قد نص أنهم لم يدعوا عليهم بحقيق دعوى في بيع ولا غيره. وقول ابن القاسم: إلا أن يكون الأخ الهالك وهب شيئا من تلك الأرض، أو تصدق بها أو نحلها، أو أصدقها أو باعها، أو صنع أشباه هذا، مما لا يقضي به الرجل إلا في خاصة ماله، فيكون أحق لما أحدث فيه بعض هذه الوجوه، معناه: إذا فعل ذلك في الأكثر.
وقد مضى تفصيل القول في ذلك وتفصيله في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. واختلاف قوله في الاستغلال، كاختلاف قوله(11/206)
في الهدم والبنيان، مرة رأى الحيازة بذلك عاملة بين الأوراث، ومرة لم ير ذلك، والله الموفق.
[مسألة: يساكنه أختانه ومواليه زمانا طويلا حتى مات فأراد أن يستحقوا ذلك]
مسألة وسألت ابن وهب عن الرجل يساكنه في داره المعروفة له، أو القرية، أختانه ومواليه، عتاقه زمانا طويلا، أو يسكنهم دورا أو قرى فيعايشونه زمانا، وذلك في أيديهم حتى مات، فأراد أن يستحقوا ذلك بتقادمه في أيديهم، وقالوا: ليس علينا أن نسأل عما في أيدينا من أين هو لنا؟ قلت: وكيف إن ماتوا؟ فقال ورثتهم: لا علم لنا كيف كان هذا الحق في أيدي آبائنا؟ أو مات صاحب الحق والذين أسكنوا، فتداعى فيه ورثته، وورثة الذين أسكنوا، فقال ابن وهب: كل ما سألت عنه من هذا الوجه عندنا، بمنزلة واحدة، الحق فيه لصاحب المسكن، ولورثته، مات هو أو مات الذين أسكنوا أو مات هو وهم، فلم يبق منهم إلا ورثتهم، إلا أن يأتوا ورثة الذين أسكنوا بأمر يستحقون به ما كان بأيدي آبائهم من عطية أو صدقة أو اشتراء، أو وجه من وجوه الحق، ينظر لهم فيه، فإما تقادم ذلك في أيديهم أو أيدي آبائهم قبلهم، والأصل معروف للمسكن، فإنهم لا يستحقون بذلك شيئا. وسألت عن ذلك ابن القاسم، فقال لي مثل قول ابن وهب، غير أنه قال: إنما يكون ذلك على هذا الوجه؛ إذا كان أهل ذلك الموضع، يعرف منهم التوسع للموالي والأختان، ومن يساكنهم، فأما أهل بلد لا يعرف فيهم أن يحوز أحد منهم مال أحد إلا باشتراء أو عطية أو أشباه ذلك، فإني أقول: إن الحائز لما سألت عنه أولى بما حاز؛ إذا كانت حيازته العشر سنين أو ما قاربها إلا ما حيز على غائب، فإنه أولى بحقه، لا يقطعه تقادم ذلك في يد(11/207)
من حازه في مغيب صاحب أصله، ألا يأتي الحائز ببينة على أصل اشتراء أو سماع فاش، أو شيء يذكر به اشتراء ذكرا ظاهرا، فيكون أحق بما حاز مع تقادم ذلك في يديه.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن وهب، وابن القاسم، في الأختان والموالي: إنهم في الحيازة بمنزلة القرابة، مثل ما تقدم من قول ابن القاسم في أول رسم من هذا السماع، خلاف قوله في رسم شهد من سماع عيسى؛ أنهم بمنزلة الأجنبيين، وقول ابن القاسم: إنما يكون ذلك على هذا الوجه؛ إذا كان أهل ذلك الموضع يعرف منهم التوسع، إلى آخر قوله، تفسير ما أجمل من قوله: لا اختلاف عندي أنهم بمنزلة القرابة؛ إذا عرف منهم التوسع من بعضهم لبعض، وأنهم بمنزلة الأجنبيين؛ إذا عرف منهم التشاح بينهم، وإنما الاختلاف المذكور؛ إذا أجهل حالهم على ما يحمل أمرهم، فمرة حملهم محمل القرابة، ومرة حملهم محمل الأجنبيين، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأجنبيين إذا حازوا من مال غائب أو حاضر أجنبي]
مسألة قال ابن القاسم: ولم يكن مالك يرى الأجنبيين فيما حازوا من مال غائب، أو حاضر أجنبي، بمنزلة الأقارب، كان مالك يقول: ليس بينهم حوز وإن قدم. قال يحيى: معناه عندي فيما ذكر من الأقارب، إنما يريد أهل الميراث فيما حازوا بعضهم عن بعض فيما ورثوا.
محمد بن أحمد قوله: ولم يكن مالك يرى الأجنبيين فيما حازوا من مال حاضر أو غائب، بمنزلة الأقارب، يريد: من مال غائب قريب الغيبة، أو حاضر؛ لأن الغائب القريب الغيبة، هو الذي يحوز عليه الأجنبي، كما يحوز على الحاضر على اختلاف(11/208)
قدمنا القول فيه في رسم الجواب، من سماع عيسى. فقول مالك هذا مثل أحد قولي ابن القاسم، في أن القريب الغيبة، بمنزلة الحاضر، يحوز عليه الأجنبي، وأما البعيد الغيبة، فلا اختلاف في أنه لا يحوز عليه في مغيبه القريب ولا البعيد. وقوله: كان مالك يقول: ليس بينهم حوز، وإن قدم، يريد: وإن هدموا وبنوا وهو مثل القول الذي رجع إليه فيما تقدم في رسم الكبش، وهو قوله فيه، ثم رجع ابن القاسم فيما يحوزه الوارث على أشراكه بالهدم والبنيان والغرس، فلم ير ذلك يقطع حق الوارث من ميراثه.
وقوله وقول يحيى معناه: فيما ذكر من الأقارب إنما يريد أهل الميراث فيما حازوا بعضهم عن بعض فيما ورثوا، هو نص قول ابن القاسم في رسم الكبش المتقدم: إن ذلك بين الورثة بخاصة، وفي قوله: بين الورثة بخاصة؛ دليل هو كالنص، في أن القرابة إذا لم يكونوا أوراثا مشتركين في الحيازة بعضهم على بعض، بخلاف الأوراث المشتركين، فيحوز بعضهم على بعض بالعشرة الأعوام، مع الهدم والبنيان.
وقد اختلف قوله في ذلك، فنص في المسألة التي بعدها على أن القرابة غير الأشراك، والموالي والأختان، بمنزلة القرابة الأشراك أهل الميراث، لا حيازة بينهم بطول العمارة، وإن هدموا وبنوا إلا أن يطول ذلك جدا، يريد فوق الأربعين سنة، كما قال في الأوراث، وقد قال بعض أهل النظر: إن قول يحيى في هذه الرواية، معناه إلى آخر قوله، وقول ابن القاسم في رسم الكبش بين الورثة بخاصة، إنما يدل على أن الأوراث في حيازة بعضهم على بعض ما ورثوه، بخلاف الأشراك الأجنبيين في ذلك.
وقد مضى تمام القول في هذا المعنى في رسم الكبش المذكور، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.(11/209)
[مسألة: يموت ويترك بنيه وأباه فيقر الجد بني ابنه بمالهم لا يقبض منهم شيئا]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن الرجل يموت ويترك بنيه وأباه فيقر الجد بني ابنه بمالهم، لا يقبض منهم شيئا من ميراثه، حتى يموت، فيطلب ذلك بنوه الذين ورثوه، وهم إخوة الميت الأول، أعمام الذين الحق في أيديهم، أيكون سكوت الجد عن طلب سهمه، حتى مات إبطالا له أم لا؟ فقال: حدثني من أرضى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «لا يهلك حق امرئ مسلم وإن قدم» فأرى سهم الجد لورثته على كتاب الله، إلا أن يأتي بنو ابنه بالبينة أنهم بروا إليه من ذلك، أو تصدق به عليهم، أو باعه منهم، فأما أن يستحقوا ذلك بتقادمه في أيديهم وسكوت الجد عنه، فلا أرى ذلك. قال يحيى: وقال ابن القاسم مثل قول ابن وهب.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم وتكرر، ومضى القول فيه من أنه لا حيازة بين الأوراث، وإن طالت المدة، إلا أن يهدموا ويبنوا ويغرسوا على اختلاف في ذلك، فإن كان البنون لم يحدثوا فيما بأيديهم هدما ولا بنيانا ولا غراسا، فلورثة الجد سهمه باتفاق، وإن كانوا أحدثوا ذلك فيما في أيدلهم، كان لورثة الجد سهمه على مواريثهم، على قول ابن القاسم الذي رجع إليه، على ما مضى له في رسم الكبش، إلا أن تطول المدة مع ذلك بالدهور، إلى ما فوق الأربعين عاما، وقوله في الرواية: إلا أن يأتي بنو ابنه بالبينة أنهم بروا إليه من ذلك، أو تصدق به عليهم غلط، وصواب الكلام، إلا أن يأتي بنوه بالبينة أنه بري إليهم من ذلك، وبالله التوفيق، اللهم لطفك.(11/210)
[تداعيا في أرض فبذرها أحدهما فولا والآخر قمحا على فول صاحبه]
ومن كتاب أول عبد ابتاعه فهو حر قال: وسألته عن الرجلين تداعيا في أرض، فبذرها أحدهما، فولا، ثم أعقب الآخر فبذرها قمحا على قول صاحبه، وقلب ما نبت منه، فاستهلك بذلك الفول، ثم اختصما، فاستحقها الذي كان بذرها فولا، فقال: إن كان استحقها في أول عمل، كان كراؤها له على الذي بذر القمح، ويكون زرعها للذي بذره، ويغرم صاحب الحق لرب الأرض الذي استحقها مع كرائها، قيمة الفول الذي استهلك، وذلك أنه كان زرعها على ما كان يدعي من حقه في الأرض، ولم يكن غاصبا لها. قال: وإن استحق الأرض ربها، وقد فات أوان العمل، فلا كراء لمستحقها، على الذي بذر قمحا، والقمح للذي بذره، وعليه غرم قيمة الفول الذي استهلك على كل حال.
قلت: ما الذي أوجب عليه كراء الأرض إن استحقت في أوان العمل، ووضع ذلك عنه إن استحقت، وقد فات أوان عملها فقال: لأنها حين استحقها في أوان العمل، كان أحق بأرضه والانتفاع بها، فلما وجدنا فيها بذر رجل بشبهة، لم يجز لنا أن نأمر مستحقها بفساد ذلك البذر، وأمضيناه للذي بذره بالشبهة، وأغرمنا لرب الأرض، كراء الأرض لما منع من الانتفاع بها، وقد استحقها في أوان عملها، ولو كان غاصبا أمر مستحقها بطرح ما فيها، ولم يحل بينه وبين الانتفاع بأرضه، إلا أن يشاء أن يقر البذر لصاحبه، ويأخذ كراء أرضه؛ فذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الرجلين إذا تداعيا في أرض، وهي بأيديهما جميعا، وليست في يد واحد منهما، فزرعاها جميعا،(11/211)
أحدهما بعد الآخر، فأفسد الآخر زرع الأول؛ إن للأول على الثاني قيمة زرعه الذي أفسده؛ لأنه زرعه بوجه شبهة على ما يدعي من حقه، وليس له أن يقنع زرع الباقي، وإن استحق الأرض في الإبان؛ لأنه زرعه أيضا بوجه شبهة على ما يدعي من حقه.
وقوله: إن الثاني يغرم للأول قيمة الفول الذي أفسد عليه على كل حال، استحق هو الأرض، أو استحقها الذي أفسد الفول، يريد قيمة الفول على الرجاء والخوف، كأن أفسدها بعد أن نبتت، ولو كان حرث الأرض وزرعها قبل أن ينبت الفول؛ لكان عليه مكيلة الفول إن علمت، أو قيمة ما يزرع في مثلها من الفول إن جهلت، ولا يدفع إليه فولا، مخافة أن يكون أقل أو أكثر، فيدخله التفاضل فيما لا يجوز التفاضل فيه.
هذا إذا اتفقا على الجهل بالمكيلة، وأما إن تداعيا في ذلك، وادعى كل واحد منها المعرفة، فالقول قول الغارم مع يمينه، إلا أن لا يشبه قوله، فيكون القول قول صاحبه، إن أشبه قوله أيضا، وإن لم يشبه قول واحد منهما حلفا جميعا، وكان عليه قيمة ما يزرع في مثل الأرض من الفول، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما، وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد أمكنه من دعواه بنكوله، وإن ادعى أحدهما المعرفة وذلك يشبه، كان القول قوله.
وقوله: إنه ليس للذي استحق الأرض أن يقلع زرع الثاني، وإن كان الإبان لم يفت، صحيح، لا اختلاف فيه؛ لأنه زرع بوجه شبهة على ما يدعي من حقه في الأرض، ولو لم تكن له شبهة في دعواه؛ لكان حكمه حكم الغاصب، مثل أن يأتي إلى الأرض رجل بيده، فيزرعها في مغيبه، ويدعي أنها له بوجه يذكره، ولا يأتي على ذلك بينة ولا سبب.
وقوله في الرواية: ولو كان غائبا أمر مستحقها بطرح ما فيها، ولم يحل بينه وبين الانتفاع بأرضه، صحيح، وهذا إذا كانت له قيمة منفعة إن قلعه، ولو لم تكن له فيه منفعة إن قلعه، لما كان له أن يقلعه، ويكون لرب الأرض، ولو أراد إذا كانت له فيه منعة، أن يتركه لرب الأرض لم يكن ذلك له، إلا أن يرضيه؛ إذ لا يلزمه قبول معروفه، ولو أراد رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا؛ لكان ذلك له؛ لأنه في أرضه،(11/212)
ويدخل بالعقد في ضمانه، وهو ظاهر ما في كتاب كراء الأرضين من المدونة، وقيل: إن ذلك لا يجوز؛ لأنه بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه. وهو دليل ما في سماع سحنون، من كتاب المزارعة.
وإذا قلعه وقد مضى من الإبان بعضه، كان عليه قيمة ما مضى من الإبان، وهو ما بين قيمة كراء الأرض في أول الإبان، وفي الوقت الذي قلع فيه زرعه، وقد قيل: إن من حق المستحق أن يقلع الغاصب زرعه، وإن خرج الإبان ما لم يسنبل الزرع، وقد مضى ذلك ووجه القول فيه في نوازل أصبغ، من كتاب كراء الأرضين، وقوله: إلا أن يشاء، أن يقر البذر لصاحبه، ويأخذ كراء أرضه، فذلك له، معناه: إذا رضي بذلك الغاصب، ولو لم يكن للغاصب فيه منفعة؛ إذا قلعه لما للمستحق أن يترك الأرض بالكراء، وإن رضيا؛ لأنه بيع للزرع بالكراء؛ إذ قد وجب للمستحق. قال ذلك محمد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يسكن القرية فيعمر أرضا يخترقها ويدللها ويزرعها زمانا]
مسألة قال: وسألته عن الذي يسكن القرية، وليس له فيها إلا مسكنه أو شيء اشتراه بعينه، ليس من أهل الميراث، ولا ممن اشترى من أهل الميراث سهما، فيعمر من عامرها أرضا يخترقها ويدللها ويزرعها زمانا، وأهل القرية حضور، لا يغيرون عليه، ولا يمنعونه من عمله، ثم يريدون إخراجه، قال: ذلك لهم، إلا أن تقوم له من عمله، ثم يريدون إخراجه، قال: ذلك لهم، إلا أن تقوم له بينة على اشتراء أو هبة أو حق، يترك له به ما عمر، إلا أن يطول زمانه أو أرضه، أم تراه بحال الوارث، أو المولى مع مواليه؟ قال: ينظر فيه السلطان، على قدر ما يعذر به أصحاب الأصل في سكوتهم، لما يعلم من افتراق سهامهم، وقلة حق أحدهم لو تكلم فيه، فإنه يقول: منعني من الكلام سكوت أشراكي، وقلة حقي، فلما خفت تطاول الزمان، وما يحدث من دعوى العامر، تكلمت فيه، فأراه(11/213)
أعذر من الذي يستحق عليه من خاصة داره، أو خاصة أرضه شيئا، ولا أبلغ به حد الورثة فيما بينهم، ولا حد المولي الذي يرتفق في أرض مواليه، أو الصهر في أرض أصهاره، إلا أن يكون ذلك العامر للرجل أو الرجلين، أو النفر القليل، فلا يعذرون بسكوتهم، يحملون فيما عمر جارهم من غامر من أرضهم، على ما يحمل عليه من حين عمله عليه من داره أو أرضه شيء قال: وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك، أعذر في السكوت، وأوجب حقا، وإن طال الزمان جدا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة، قد بين ابن القاسم فيها وجه قوله في تفرقته بين الوجهين، وجعله الذي عمر من غامر القرية، وهو ممن لا سهم له فيها بين المنزلتين، بما لا مزيد عليه.
وقد مضى القول على كل واحد منهما بانفراده في رسم الكبش وغيره من هذا السماع، وفي رسم يسلف من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك. وقوله: وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك، أعذر في السكوت، يريد إن الورثة فيما حازه بعضهم على بعض من الغامر أعذر في السكوت على ما حازوا من العامر، وذلك بين؛ لأن التشاح من المعمور، أكثر من التشاح في البور، ورأيت لبعض أهل النظر، تنبيها على هذه المسألة، قال: انظر إن كان بنى في هذه الأرض التي أحياها أو غرس، ولم يكن له فيها حق إن كان يأخذ قيمة ذلك قائما عند خروجه عنها أو مهدوما منقوضا، والذي أقول به في ذلك على أصولهم، ومنهاج قولهم؛ أنه إن كان بنى في ذلك الغامر على أنه حق له يدعيه بوجه من الوجوه، التي يصح بها الملك، واحتج عليهم في ادعائه ذلك ملكا لنفسه بسكوتهم عنه، فله قيمة بنيانه قائما لشبهة الملك الذي يدعيه، وقد مضى بيان هذا في المسألة التي قبل هذه، وأما إن كان لم يدع ذلك ملكا، وإنما أراد أن يستحقه عليهم(11/214)
بسكوتهم عنه، وحيازته ذلك عليهم، فيتخرج ذلك على الاختلاف في السكوت، هل هو كالإذن أم لا؟ فعلى القول بأنه كالإذن إن قاموا عليه بحدثان ما بنى كان له قيمة بنيانه قائما، وإن لم يقوموا عليه حتى مضى من المدة ما يرى أنه بنى لينتفع بنيانه إلى مثله، كان له قيمة بنيانه منقوضا، وعلى القول بأنه ليس كالإذن يكون له قيمة بنيانه منقوضا على كل حال، وهذا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وأما على رواية المدنيين عن ملك، فيكون له قيمة بنيانه قائما على كل حال.
وقد مضى بيان ذلك في آخر مسألة من رسم الكبش، وبالله التوفيق.
[يهلك ويترك ولدا فيطأ الجواري ويبيع العبيد]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وقال ابن القاسم في الرجل يهلك ويترك ولدا صغارا وكبارا، فيكون في أيدي بعض الورثة بعض القرى المساكن، والعبيد والحيوان، فيطأ هذا الوارث بعض الجواري، ويبيع بعض العبيد، ويبني ويغرس في القرى، ويكري المساكن أو بعضها وإخوته حضور، لا يغيرون ولا ينكرون، ثم قاموا وقالوا: ميراثنا من أبينا، فيقول هذا الوارث: قد كان أبي تصدق علي بهذا كله، وكانت بينتي حاضرة، فلما ماتت أو ذهبت، وذلك بعد أعوام، وقد كنت أبيع وأطأ وأفعل ما يفعله الرجل في حقه، وأنتم حضور، تريدون أن تقوموا علي، فقال: لا أرى لهم حقا ولا حجة؛ إذا كان يفعل هذه الأشياء وهم حضور. قلت: قلت لابن القاسم: أرأيت ما لم يبع من العبيد، ولم يطأ من الجواري، ولم يفوت من الرباع بالبناء والغرس، لم لا يكون بينهم؟ قال: هو بينهم. قال: وأما ما باع وقد فات بوطء، فليس لهم فيه شيء وأما ما بنى وغرس، وهم حضور أو(11/215)
استغل، فإن ذلك لا يقطع حقوقهم؛ لأن حوز القرية فيما بينهم ليس مثل الأجنبيين، وفي العدا شك.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة في السؤال: ويبني ويغرس في القرى أو يكري المساكن، مع قوله في الجواب: لا أرى لهم حقا ولا حجة إذا كان يفعل هذه الأشياء وهم حضور، هو خلاف قوله في آخر المسألة: وأما ما بنى وغرس وهم حضور، أو استغل؛ فإن ذلك لا يقطع حقوقهم؛ لأن حوز القرابة فيما بينهم ليس مثل الأجنبيين، وقوله وفي العدا شك يريد، وفي البعد الذين ليسوا من القرابة، ولهم اختصاص بالحوز عليه كالموالي والأختان ففيهم شك، هل هم كالقرابة أو كالأجنبيين؟ ولهذا الشك اختلف قوله فيهم، فجعلهم في رسم شهد، من سماع عيسى كالأجنبيين، وجعلهم في رسم الكبش من سماع يحيى كالقرابة.
وقد مضى اختلاف قول ابن القاسم في البناء والغرس، يريد البناء الذي لا يشبه الإصلاح في رسم الكبش، من سماع يحيى، ومضى اختلاف قوله في الاستغلال في رسم الأقضية منه، وأما قوله فيما لم يفوت من ذلك بما ذكره من وجوه الفوت؛ أنه بينهم، وفيما فوت من ذلك أنه يستحقه بتفويته، فكان الشيوخ يحملونه على ظاهره في القليل والكثير، خلافا لما في قرب آخر رسم الكبش منه.
وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك ثلاثة من الولد وثلاثة أرؤس فمات واحد واستحق آخر]
مسألة قال ابن القاسم في رجل هلك وترك ثلاثة من الولد، وترك ثلاثة أرؤس، فاقتسموا، فأخذ كل واحد منهم رأسا، فمات منهم في يد الورثة واحد، واستحق آخر، وبقي آخر. قال: ليس على الذي مات العبد في يديه غرم شيء، وليس له أن يرجع على الذي بقي(11/216)
العبد في يديه بشيء، ويرجع هذا الذي استحق العبد من يده على أخيه الذي بقي العبد في يديه، فيأخذ منه ثلثه، ويبقى ثلثاه، فإن أخذ لهذا المستحق ثمن، كان ثلثا الثمن للذي استحق العبد من يديه، وثلثه للذي بقي العبد عنده، فإن لم يؤخذ له ثمن لم يكن للذي استحق العبد في يديه إلا ثلث العبد الباقي.
قال الإمام القاضي: المعنى في هذه المسألة أن العبيد الثلاثة، تساوت قيمتهم، فأقسموهم بالقرعة؛ لأن القسمة بالقرعة هي التي يختلف فيها، هل هي تمييز حق أو بيع من البيوع؟ ويتخرج فيها على القول بأنها تمييز حق ثلاثة أقوال؛ أحدها قول ابن القاسم هذا، وهو قول مالك في سماع أشهب، من كتاب القسمة؛ أن كل واحد منهم يضمن حقه الذي تميز له بالقسمة، فتكون مصيبته منه إن مات في يديه، فاستحق نصيب أحدهم، لم يكن للمستحق منه أن يرجع عليه بشيء، ولا كان له هو أن يرجع على من بقي حظه في يديه بشيء؛ لأن القسمة قد مضت فيما بينه وبينهما جميعا، لتلاف جميع حظه الذي تميز له بالقسمة في يديه بغير سببه، وتنتقص القسمة فيما بين الذي استحق نصيبه من يديه، وبين الذي بقي العبد في يديه، فيرجع عليه بثلثه؛ لأنه باع منه ثلثه بثلث العبد الذي استحق من يديه، فإن أخذ لهذا العبد المستحق ثمن، كان ثلثاه للمستحق منه، وثلثه للذي رجع عليه بثلث العبد، فيكون للمستحق منه العبد، ثلث العبد، الباقي، وثلثا الثمن، فاستويا لانتقاص القسمة فيما بينهما.
وهذا إذا كان الثمن مثل قيمة العبد فأقل، وأما إن كان أكثر من قيمة العبد، فالزائد على قيمته بينهم أثلاثا. قال ذلك ابن عبدوس، وهو صحيح؛ لأن الزائد على قيمته لم يدخل في القسمة، وقد اختلف على هذا القول؛ إذا لم يمت العبد، وإنما(11/217)
فوته الذي هو بيده بالهبة أو الصدقة أو العتق أو البيع، فقيل: إنه يضمنه بالتفويت للمستحق منه، فيكون له أن يرجع عليه بالقيمة يوم القسمة، وهو قول أشهب، وقيل: إنه لا يضمنه بشيء من ذلك، وإنما للمستحق منه في أن يرجع في عينه إن وجده عند الموهوب له، أو المتصدق عليه، وكذلك يرجع في عينه إن كان قد أعتق، ويقوم على المعتق إن كان موسرا، ويكون في البيع مخيرا بين أن يرجع في عين العبد عند المشتري، فيرجع المشتري بما ينوب ذلك من الثمن على البائع، وهو قول سحنون.
والقول الثاني: إن القسمة تنتقص فيما بين المستحق منه، وبين الذي بقي العبد في يديه، وفيما بين المستحق منه، وبين الذي مات العبد في يديه، ولا تنتقص فيما بين الذي مات العبد في يديه، وبين الذي بقي العبد في يديه، فيكون على هذا القول ضمان ثلث العبد الذي مات من المستحق منه، وضمان ثلثيه من الذي مات في يديه؛ لأنه مات وثلثه للمستحق منه العبد، فمنه ضمانه، وثلثاه من الذي مات العبد في يديه، ثلث هو له، فكانت مصيبته منه، وثلث عاوض به الذي بقي العبد في يديه، فكانت مصيبته منه أيضا؛ لأن القسمة فيما بينه وبين لم تنتقص، فإن قبض للعبد المستحق ثمن على هذا القول، كان بين جميعهم أثلاثا، ويكون للمستحق العبد من يديه ثلث العبد الباقي، فيصح له ثلث العبد، وثلث الثمن. وللذي بقي العبد في يديه، ثلثا العبد وثلث الثمن، وللذي مات العبد فيه ثلث الثمن. حكى هذا القول ابن عبدوس، ولم يسم قائله.
والقول الثالث: إن القسمة تنتقص بين جميعهم، فتكون مصيبة العبد الذي مات منهم كلهم، ويكون العبد الباقي بينهم، وإن قبض في العبد المستحق ثمن كان بين جميعهم أيضا. وهذا هو مذهب ابن الماجشون، أو أبيه عبد(11/218)
العزيز، على ما وقع من اختلاف الرواية في ذلك، في سماع يحيى من كتاب القسمة، وكذلك على هذا القول إن استحق من نصيب أحدهم يسيرا أو كثيرا، وجد بحظه عيبا تنتقص القسمة بين جميعهم.
وأما على القول بأن القسمة بيع من البيوع، فلا اختلاف في أن الذي استحق العبد من يديه، يرجع على العبد، بقي العبد في يديه بثلثه، وعلى الذي مات العبد في يديه، بثلث قيمته يوم صار إليه بالقسمة، فإن قبض للمستحق ثمن كان بين جميعهم أثلاثا، وإنما يختلف على هذا القول؛ إذا استحق اليسير من نصيب أحدهم أو الكثير، فقيل: إذا استحق الكثير؛ أن القسمة تنتقض، ويرد المستحق منه ما بقي في يديه، ويرجع على أشراكه فيما في أيديهم، إن كان قائما، أو في قيمته إن كان فائتا.
وقيل: إنها لا تنتقض، فلا يكون له أن يرد الباقي في يديه، وإنما له أن يرجع على أشراكه فيما في أيديهم، فيشاركهم فيه، إن كان قائما بقدر ما استحق من يديه، وإن كان قد فات ما بأيديهم، رجع عليهم بقيمة ذلك، دنانير أو دراهم.
وأما إذا استحق اليسير، فلا تنتقض القسمة، ويرجع على أشراكه فيما في أيديهم، فيشاركهم فيه بقدر ما استحق من نصيبه، إن كان ما بأيديهم لم يفت بوجه من وجوه الفوت، فإن كان قد فات رجع عليهم بقدر ذلك دنانير أو دراهم، وقيل: ليس له أن يرجع عليهم فيما في أيديهم، فيشاركهم فيه، وإن كان قائما، وإنما له الرجوع عليهم بقيمة ذلك دنانير أو دراهم، وهذا الاختلاف كله في هذا الوجه في المدونة.
وكذلك اختلفا أيضا في القسمة على التراضي بعد التعديل والتقويم، بغير قرعة، هل هي تمييز حق أو بيع من البيوع؟ وأما القسمة على التراضي دون تقويم ولا تعديل، ولا قرعة، فلا اختلاف في أنها بيع من البيوع، فلها(11/219)
حكمه في العيوب والاستحقاق، على ما قد ذكرناه في القسمة بالقرعة على القول بأنها بيع من البيوع، والأظهر في قسمة القرعة أن تكون تمييز حق، وفي قسمة التراضي بعد التعديل والتقويم أن تكون بيعا من البيوع، وبالله التوفيق.
[كان بيده فرن إلى أن مرض فأوصى بذلك الفرن لامرأة بحضرة إخوته]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب قال عبد الملك بن الحسن: سألت عبد الله بن وهب عن رجل كان بيده فرن يغتله بحضرة إخوته، إلى أن مرض، فأوصى بذلك الفرن لامرأة من الناس، بحضرة عامة إخوته، فلم ينكروا عليه، ولم يدعوا فيه، ثم صح من ذلك المرض، فاحترق سقف الفرن، فأنفق فيه وحده، وأصلح بعض الفرن وزاد فيه، وكان يأخذ خراجه، ويرفق فيه من أحب إلى أن هلك، فلما هلك ادعى إخوته أن الفرن بينهم وبين أخيهم الهالك، وأقاموا البينة أن الفرن كان لأبيهم.
واحتج ورثة الهالك أن الفرن كان في يديه حتى هلك بما نصصت من وصيته فيه، بحضرة عامتهم، وإصلاحه إياه وحده، وأخذه خراجه دونهم، فهل يكون الفرن للذي كان بيده على هذه الحال دون ورثة أبيه أم لا؟ قال: إن كان يلي الفرن بجميع ما وصفت، وكانوا كبارا يلون أنفسهم ليسوا بصغار أو سفهاء، يولى عليهم، وكان حوزه ذلك السنين التي تكون حيازة، العشرة ونحوها وما أشبهها أو أكثر منها، فهو له إذا كان حيا، وادعاه دونهم، ولورثته من بعده إن كان ميتا، وإن أقاموا البينة على الأصل أنه لأبيهم لم ينتفعوا بذلك؛ إذا كان كذلك، وإن لم يكن على ما وصفت لك في الحيازة أو كانوا صغارا لا ينظرون إلى أنفسهم، أو تحت يديه أو غيبا غيبة طويلة أو بعيدة، وأثبتوا أن أصله كان لأبيهم، مات وترك ميراثا بين(11/220)
جميعهم، ثبتت حقوقهم فيه، ولم يضرهم ما كان من ولايته إياه، وقيامه به. وقال أشهب: أرى أن الفرن للمرأة التي أوصى لها به، ولا أرى للميت فيه شيئا ولا لإخوته؛ لأنه قد حازه دونهم.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير ابن وهب وصيته بالفرن بحضرة عامة إخوته حيازة عليهم، والله أعلم من أجل أنه لم يعين ولا سمى من لم يحضر ذلك منهم ولا علم؛ لأن كل واحد منهم يقول: أنا ممن لم أحضر ولا علمت، ولو ثبتت عليهم كلهم أنهم حضروا وصيته له، فلم يغيروا، ولا أنكروا ولا ادعوا فيه حقا؛ لكان ذلك حيازة عليهم، أو على من ثبت عليه ذلك منهم، وإن كانت الوصية قد بطلت عنده فيه بإصلاحه إياه، وتعبيره له بالزيادة فيه، خلاف ما ذهب إليه أشهب.
وهذا على الاختلاف فيمن أوصى لرجل ببقعة ثم بناها، هل يكون ذلك نقضا للوصية أم لا يكون ذلك نقضا لها؟ ويكون الموصى له شريكا فيها مبنية بقيمة القاعة، وكذلك يكون الورثة مع الموصي لها بالفرن أشراكا فيه بالزيادة، على مذهب أشهب، لا بما أنفق في إصلاحه؛ إذ لا اختلاف في أن الوصية بالدار أو الفرن ونحوه، لا تبطل بالرم والإصلاح، وقول ابن وهب: إن العشرة الأعوام حيازة في الفرن بين الإخوة الأوراث، مع التغيير بالبنيان، والانفراد بالاستغلال، هو مثل القول الذي رجع عنه ابن القاسم، في رسم الكبش من سماع يحيى.
وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته. وقد مضى القول في مراعاة تحديد العشرة الأعوام في الحيازة في رسم شهد، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته ذكر ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكونون في المنزل وفيه بور فزرع البعض ذلك بحضرة أشراكه]
مسألة وسألت عبد الله بن وهب عن القوم يكونون في المنزل، ولذلك المنزل بور وشعر، فاخترق بعض أهل ذلك المنزل في ذلك(11/221)
البور خرقا فزرعه وعمره بحضرة أشراكه، وأقام في يديه، نحوا من ثمان سنين أو عشرة، أو أكتر من ذلك إلى ما بينه وبين عشرين سنة، بحضرة أشراكه لم يغيروا عليه ولم ينكروا، ثم بدا لهم في طلب ذلك البور، ومحاصة صاحبه فيه وأرادوا أن يردوه بورا، ومرعى لعامتهم، كما كان أول مرة، فاحتج صاحب البور بعمارته له، منذ زمان طويل بحضرتهم، وهو مقر أنه كان بورا، وقال: هي أرض اعتمرتها منذ زمان طويل بحضرتكم، أو كان صاحب تلك الأرض قد هلك وورثها ورثته، فادعوا أنهم ورثوا عن أبيهم أرضا، كان يعتمرها منذ زمان، بحضرتكم فقامت عليهم البينة، أن تلك الأرض كانت من البور الذي كان بين أهل القرية كلهم، حتى اخترقها أبوهم الهالك، فهل ترد إليه حاله الأول بورا، كما كان أول، أو يستحقه الذي هو في يديه بطول عمارته؟ فقال: إن كانت الشعر أو البور معروفا للقوم، أو كان المخترق مقرا بذلك، أعطوه قيمته صحيحا إن كان اعتمر بذلك بعلمهم ومعرفتهم، وهم يرونه لا يغيرون عليه، وذلك إذا كانوا كبارا هالكين لأنفسهم، فإن كانوا صغارا ليس لمثلهم إذن، فقيمته منقوضا، وإن كان البور ليس معروفا لهم، ولا مشهودا عليه، وأنكر وهو في يديه، يحوزه ويعتمله السنين التي في مثلها الحيازة، فلا حق لهم فيه.
قال محمد بن رشد: قوله: فاخترق بعض أهل ذلك المنزل في ذلك البور يدل على أن للمخترق فيه حقا؛ إذ هو منهم. وهذا هو الذي قال فيه ابن القاسم في آخر سماع يحيى: إنهم فيه أعذر في السكوت منهم في الأرض العامرة. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، ولم ير مشاركتهم لهم في الشعر شبهة، توجب أن يكون له(11/222)
قيمة ما عمر فيها قائما، إن كان عمره بغير علمهم ولا إذنهم. وهذا مثل ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم. وفي ذلك اختلاف قد ذكرناه، هناك. وقوله: إنه إن كان عمره بعلمهم ومعرفتهم أعطوه قيمته صحيحا ظاهره، طالت المدة أو قصرت، فهو خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في تفرقته بين أن يقوموا عليه بحدثان البنيان، أو بعد أن يمضي من المدة ما يرى أنه بني إلى مثلها، مثل رواية المدنيين عن مالك، في أن من بنى في أرض رجل بإذنه أو بعلمه، فله قيمة بنيانه قائما، وفي قوله في آخر المسألة: وإن كان البور ليس معروفا لهم، ولا مشهودا عليه، فأنكر وهو في يده، يحوزه ويعتمله السنين التي في مثلها الحيازة، فلا حق لهم فيه؛ نظرا لأن البور؛ إذا لم يكن لأهل المنزل فيه حق، فهو موات، يكون لمن أحياه بالعمارة، والإحياء على حكم إحياء الموات، فيما قرب وفيما بعد، حسبما مضى القول فيه في رسم القضية من سماع أشهب من كتاب السداد، والأنهار ولا يستحق شيئا من ذلك على جماعة المسلمين، بطول الحيازة، كما يستحق على الواحد منهم بها ماله وملكه، وبالله تعالى التوفيق لا رب غيره.
[مسألة: تكون في يديه دابة فتعرفها رجل يزعم أنها سرقت منه ويقيم البينة]
مسألة قال: سألته عن الرجل تكون في يديه دابة، فتعرفها رجل، يزعم أنها سرقت منه، فقيم عليها البينة، أنها مسروقة منه، وأنها منتوجة عنده، أو عند الذي ابتاعها منه، فيزعم الذي ألفيت في يديه أنه ابتاعها من رجل من أهل بلدة أخرى، فيكتب له القاضي إلى قاضي البلد، الذي زعم أن بائعه بها، بما قامت عنده لمدعيها من البينة عليها، وأنها منتوجة عنده، أو عند من ابتاعها منه إلى أن أنشدها(11/223)
مسروقة، وأنه قد قضي بها له، ليرد بذلك رأس ماله من بيعه، فإذا ورد بذلك الكتاب على القاضي، أتاه ببيعه، فعرف الدابة وأقر ببيعها أعداه عليه بما كتب به إليه ذلك القاضي، ثم يزعم الذي أعدى عليه، أنه ابتاعها من رجل في كورة أخرى، ويسأل أن تدفع إليه الدابة، ويضع قيمتها على يدي عدل، ليدرك رأس ماله بها.
وكتب له القاضي الذي كتب إليه بعد وضع قيمتها، إلى قاضي البلد الذي زعم أن بائعه به، فيأتيه ببائع الدابة فيعرفها، ويقر ببيعها، ويزعم أنها منتوجة عنده، ويقيم عليها البينة أنها منتوجة عنده، فكتب ذلك القاضي إلى الذي كتب إليه، أنه لم يجد سبيلا إلى الإعداء عليه، بما قامت عنده من البينة أنها، منتوجة عنده، فيلتمس هذا أن يرجع بما غرم من قيمتها على من أخذ ذلك منه.
ويحتج ذلك بدعوى الأول، وما قامت عليه بينة، فأي الأمرين يحملها عليه؟ قال: إن كانت بينة الأول الذي أقام عند القاضي الأول على النتاج أعدل من بينة الآخر الذي أقام أيضا البينة على النتاج عند القاضي الآخر، أو كانتا في العدالة سواء، فالأول أحق بها، ترد إليه، ويعدى مشتريها والمستحقة من يديه على بائعه، وبائعه على بائعه على ذلك الأصل أبدا كما هو، وإن كانت بينة الآخر على النتاج أعدل البينتين وأبرزها في الصلاح والعدالة، فالحق حقه، ولا حق للأول وينفذ البيع بين من تبايعاهما أجمعين، ويرد إلى المستحق من يديه، ويتم البيع فيه بينهم على ما تبايعوا من واحد إلى واحد.
قال محمد بن رشد: المسئول في هذه المسألة ابن وهب، والله أعلم؛ لأنه قال في أولها: وسألته عطفا على المسألة المتقدمة له. وقول فيها: إنه إن تكافأت البينتان في العدالة، فالبينة بينة الأول، وهو أحق بها، وينفذ البيع بينهم بالأثمان، وتبطل بينة الثاني خلاف مذهب ابن القاسم(11/224)
وروايته عن مالك؛ لأن المال المتنازع فيه، لا يكون عندهما مع تكافئ البينتين للذي هو في يديه، إلا إذا جهل أصل كونه في يديه، والأول الذي أقام البينة على النتاج، قد علم أصل كون الدابة في يديه، وهو قضاء القاضي الأول له بها بما ثبت عنده من ملكه لها، وأنها منتوجة عنده قبل الإعذار إلى هذا الآخر الذي أقام أيضا البينة على النتاج، فهو حكم لم يتم بعد، فلا تراعى يده؛ لأن اليد على الحقيقة إنما هي للثاني؛ لأنه المدعى عليه لما قد باعه مما كان في يديه بوجه مجهول، فهو بمنزلة المستحقة من يديه الدابة، لو كان هو الذي أقام البينة على النتاج، فالواجب في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ إذا تكافأت البينتان في العدالة، أن تكون البينة بينة الثاني التي أقام على النتاج، وتبطل بينة الأول، وترد الدابة إلى الذي استحقت من يديه أولا، وينقض الحكم الذي حكم به القاضي الأول للمدعي الذي أقام البينة عنده على النتاج، ويرجع كل من رجع عليه بما أخذ منه على الذي أخذه منه، وقول ابن وهب في هذه المسألة، هو مثل قول غير ابن القاسم في كتاب الولاء والمواريث من المدونة في الذي يأخذ مال رجل، ويدعي أنه وارثه، ثم يأتي رجل آخر غيره، ويدعي أنه وارثه، ويقيمان جميعا البينة على دعواهما أن البينة بينة للذي المال بيده.
وقد وقع في المبسوطة لأصبغ وسحنون: أن الدابة تكون بينهما إذا تكافأت البنيتان في العدالة، يريدان فينفذ الاستحقاق في نصفها، ويكون التراجع بينهم فيه، على حكم من ابتاع دابة فاستحق من يديه نصفها، ويكون مخيرا بين أن يرد النصف الباقي في يده، ويرجع بجميع الثمن، وبين أن يمسك النصف، ويرجع على البائع منه بنصف الثمن، ثم يرجع هو على من باع منه بنصف الثمن الذي دفع إليه أيضا، وهو قول ثالث في المسألة، على غير الأصول؛ لأن المال المدعى فيه لا يكون بين المتداعيين، عند تكافئ البينتين إلا إذا كان بأيديهما جميعا، أو لم يكن بيد واحد منهما، واليد التي يجب اعتبارها في مسألتنا هذه، إنما هي يد الثاني على ما بيناه. أرأيت لو كان حاضرا عند إقامة الأول البينة عليها أنها(11/225)
منتوجة عنده، فأقام هو البينة عليها أيضا أنها منتوجة عنده، أليس كانت تكون بينته أعمل؟ فلا فرق بين أن يغيب حتى يحكم له بها، وبين أن يكون حاضرا؛ لأن الحجة قد أرجئت له لمغيبه. وهذا كله بين، والحمد لله.
وإذا كانت بينة الثاني أعمل، وجب أن ترجع الدابة إلى الذي كانت استحقت من يديه، فيرد كل واحد منهم الدابة إلى الذي أخذها منه، ووضع له فيها القيمة، فيأخذ منه الثمن الذي دفع إليه، والقيمة التي وضع له، حتى ترجع الدابة إلى الذي استحقت من يديه، فيأخذ القيمة التي وضع لمستحقها، وإن تلفت القيمة الموضوعة في شيء من هذا، فمصيبتها من الذي وضعها إذا كانت على يدي عدل، وإن كانت عنده ضمنها، إلا أن تكون له بينة على ضياعها، على حكم ما يغاب عليه من الرهان، وإن تلفت الدابة في شيء من هذا بيد أحد ممن سار بها، فلربها المستحقة من يده أكثر القيم الموضوعة، ولهذا الوجه تفسير دقيق، قد فرغنا من بسطه وشرحه في مسألة مشخصة، سئلت عنها منذ مدة، فبينت وجه القول فيها بيانا شافيا، فتركت ذكر ذلك هنا اختصارا واكتفاء لما مضى من القول؛ إذ لم أقصد في هذا الشرح إلى تفريع مسائله، كراهة التطويل، وبالله التوفيق، اللهم لطفك.
[اشترى عبدا معينا وقبضه وآخر موصوفا إلى أجل فاستحق العبد القائم]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن رجل اشترى عبدا قائما بعينه وقبضه، وعبدا آخر موصوفا معه إلى أجل، بمائة دينار، فاستحق العبد القائم، قال: ينظر في قيمة الذي نقد، والذي إلى أجل، كم كان نصيب كل واحد منهما من المائة؟ على قدر بعد الأجل وقربه، وعلى صفة ذلك إن اختلفت الصفة، ثم يقسم ذلك بينهما، ثم يرد ما أصاب الذي استحق بقدر ذلك، ويثبت البيع فيما(11/226)
بقي، إلا أن يكون هذا المستحق وجه الشراء وكثرته، وفيه الفضل فيما يرى الناس، فينفسخ البيع كله، وترد المائة. وقاله أصبغ بن الفرج، وهي حسنة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، ووجه العمل في ذلك أن يقوم العبد القائم يوم وقع الشراء، ويقوم العبد المسلم فيه، بأن يقال: كم يسلف في عبد على تلك الصفة إلى مثل ذلك الأجل، وإلى من تكون ذمته في الأمانة والثقة؟ مثل ذمة المسلم إليه في العبد، فإن كانت قيمة العبد في التمثيل ثلاثين، وما يسلم في مثل العبد المسلم فيه على ما وصفناه ستين، ثبت السلم له على المسلم إليه، ورجع عليه بثلث المائة للعبد المستحق، وإن كانت قيمة العبد ستين، وما يسلم في مثل العبد المسلم فيه ثلاثين، كان بالخيار بين أن يرجع بجميع المائة، وينتقض السلم، وبين أن يرجع بثلثي المائة، ويثبت له السلم، وبالله التوفيق.
[له عبد مملوك وكان في يديه منزل فيه بنيان وغرس معروف]
ومن كتاب الأقضية قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم، وسئل عن رجل له عبد مملوك، وكان في يديه منزل فيه بنيان وغرس معروف؛ إنه لمولاه، فأعتقه وفي يديه ذلك المنزل والأرض، ثم أقام بعد عتقه عشرين سنة، يبني ويهدم ويزرع حتى مات، وترك أولادا صغارا، فطلب مولاه المنزل، وهل ينتفع الموالي بحوزهم؟ قال: إن المولى أحق به، ولا ينتفع الموالي بالحوز في مثل هذا إذا عرف ذلك كان لمولاه، وليس الموالي والولد مثل الأجنبيين، شأنهم أضعف من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم لابن القاسم في رسم الكبش، من سماع يحيى، من أن المولى الأسفل في الحيازة، بمنزلة المولى(11/227)
الأعلى، وبمنزلة الأختان والأصهار على حكم القرابة خلاف ما مضى في رسم شهد، من سماع عيسى، من أن الموالي والأصهار في الحيازة، بمنزلة الأجنبيين.
وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
تم كتاب الاستحقاق بحمد الله تعالى، وحسن عونه.(11/228)
[كتاب الغصب] [ترك رجلا يبني في أرضه وهو حاضر ثم قام عليه حين فرغ]
من سماع عبد الرحمن بن القاسم
من مالك رواية سحنون
من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك في رجل ترك رجلا يبني في أرضه، أو يغرس فيها وهو حاضر يراه، ثم قام عليه حين فرغ من بنيانه أو غرسه: إن للعامل قيمة ما أنفق. قال ابن القاسم: وذلك في فيافي الأرض، وحيث لا يظن تلك الأرض لأحد، فإذا بنى في مثل ذلك المكان وصاحبه ينظر، ثم جاء ليخرجه، فلا يخرجه إلا بقيمته مبنيا. ولو بنى أيضا في مثل ذلك المكان بحوز، استحيا مثله، ولم يعلم صاحبه، لم يكن له أن يخرجه أيضا، إلا أن يغرم له القيمة مبنيا. وأما من دخل على رجل متعديا بمعرفة، فإنه يهدم بنيانه، ويقلع غرسه، إلا أن يحب صاحب الأرض أن يغرم ثمن نقضه وغرسه، بعد أن يطرح مقلوعا، وليس للذي تعدى أن يأبى ذلك.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: وذلك في فيافي الأرض،(11/229)
وحيث لا تظن تلك الأرض لأحد؛ مخالف لما ذهب إليه مالك، غير مفسر له؛ لأن الذي ذهب إليه مالك؛ أن تركه يبني في أرضه ويغرس فيه وهو حاضر، يراه إذن منه له بذلك، فسواء على مذهبه كان ذلك في فيافي الأرض، وحيث لا تظن تلك الأرض لأحد، أو لم تكن، وكان في الحاضرة أو فيما قرب منها، إن قام عليه بحدثان ما بنى أو غرس، لم يكن له أن يخرجه عن الأرض، إلا أن يعطيه قيمة ما أنفق، أو ما أنفق على الاختلاف القائم من المدونة، وقد ذكرت وجهه في سماع أشهب، من كتاب الاستحقاق.
وإن لم يقم عليه حتى مضى من المدة ما يرى أنه إذن بالغرس والبناء إلى مثلها، كان له قيمة بنيانه وغرسه منقوضا مطروحا بالأرض، على ما في كتاب العارية من المدونة فيمن أذن الرجل أن يبني في أرضه أو يغرس فيها، ويوقت له أجلا.
وإن قام عليه بعد مدة، إلا أنها لم تبلغ الحد الذي يرى أنه أذن له بالبناء إلى مثلها، لم يكن له أن يخرجه إلا أن يعطيه قيمة بنيانه وغرسه قائمة. ووجه العمل في ذلك أن يقال: كم قيمة البقعة مبنية، على ما هي عليه من هذا البناء على حالته التي هو عليها من التغير فيما مضى من المدة؟ وكم قيمة بنيانها أيضا لو كان البناء جديدا كما فرغ منه؟ فينقص ما بين القيمتين من قيمتها، أنفق في البنيان أو مما أنفق فيه، على الاختلاف الذي قد ذكرته فيما بقي من ذلك، كان هو قيمة البنيان قائما الذي يجب له عليه، إن أراد إخراجه من الأرض.
وذهب ابن القاسم في هذه الرواية إلى أن تركه يبني في أرضه وهو حاضر يراه، ليس بإذن منه له في ذلك على أحد قوليه؛ إذ قد اختلف قوله في هذا الأصل، فإذا لم يكن إذن له عنده، فلا يكون له على مذهبه في بنيانه قيمة ما أنفق فيه، كما قال مالك، إلا إذا كان ذلك في فيافي الأرض، وحيث لا يظن ذلك الأرض(11/230)
لأحد، ولذلك قال متصلا بقول مالك: إنه إن قام عليه حين فرغ من بنيانه أو غرسه؛ أن للعامل قيمة ما أنفق، وذلك في فيافي الأرض ... إلخ قوله؛ يريد عنه وعلى مذهبه؛ لأن بنيانه إن لم يكن في فيافي الأرض، فلا يجب له فيه على مذهبه في هذه الرواية، إلا قيمته منقوضا.
هذا وجه القول في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك خلاف رواية المدنيين عن مالك، في أن من بنى فله قيمة بنيانه قائما، وإن انقضت المدة، وعلى ذلك يأتي قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة عن مالك في أنه من بنى في أرض بينه وبين شريكه، وشريكه حاضر لا ينكر، فهو كالإذن، ويعطيه قيمة البناء قائما، كالباني بشبهة.
وقد مضى تحصيل القول في مسألة أحد الشريكين، يبني في الأرض التي بينه وبين شريكه على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في أول سماع ابن القاسم، من كتاب الاستحقاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتسوق بسلعة فيعطيه غير واحد بها ثمنا ثم يعدوا عليها رجل فيستهلكها]
مسألة وقال مالك في الرجل يتسوق بسلعة، فيعطيه غير واحد بها ثمنا، ثم يعدوا عليها رجل، فيستهلكها، قال: أرى أن يضمن ما كان يعطى بها، ولا ينظر في قيمتها. قال: وذلك إذا كان عطاء قد تواطأ عليه الناس. ولو شاء أن يبيع باع. قال سحنون: لا يضمن إلا قيمتها. قال عيسى: يضمن الأكثر القيمة أو الثمن.
قال محمد بن رشد: قول مالك: إنه يضمن ما كان يعطى بها إذا كان عطاء قد تواطأ الناس عليه، ولا ينظر إلى قيمتها. معناه: إلا أن تكون القيمة أكثر من ذلك، فتكون له القيمة. وهو نص قول مالك في سماع عيسى من كتاب العتق، مثل قول عيسى بن دينار من رأيه: إن له الأكثر من القيمة أو الثمن. فقوله مفسر لقول مالك، خلاف لقول سحنون، الذي لا يرى له إلا(11/231)
القيمة، كانت أقل من الثمن أو أكثر. فالمسألة راجعة إلى قولين، وبالله التوفيق.
[انتهب من رجل مالا والناس ينظرون فطلبه فادعى صاحبه عددا وكذبه الآخر]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وسئل مالك عن رجل انتهب من رجل مالا في صرة في يده، والناس ينظرون إليه، قد رأوها قبل ذلك في يد صاحبها، فطلب، فطرحها مطرحا لم توجد، فادعى صاحبها عددا وكذبه الآخر، ولم يفتحها، ولم يدر كم هي؟ ولعله ألا يطرحها لعجزه هربا فيذهب بها، ثم يختلفان في العدد قال مالك: إذا اختلفا في العدد، فاليمين على المنتهب، ومطرف، وابن كنانة يقولان في هذا وشبهه: القول قول المنتهب منه؛ إذا ادعى ما يشبه، وأن مثله يملكه.
قال محمد بن رشد: قول مالك هو القياس؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» ، فالقول قول المنتهب مع يمينه، أنه لم يكن فيها أكثر من كذا وكذا؛ إذ حقق أنه لم يكن فيها أكثر من ذلك، وإن لم يدع معرفة عدد ما فيها، وذلك إذا أتى بما يشبه، فإن أتى بما لا يشبه، لم يكن له إلا ما أقر به المنتهب.
وأما قول مطرف وابن كنانة، فإنه استحسان، ووجهه أن عداء المنتهب وظلمه قد ظهر، فوجب أن يسقط حقه، في أن يكون القول قوله؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس لعرق ظالم حق» ، والظالم أحق من حمل عليه " فكان القول قول المنتهب منه إذا ادعى ما(11/232)
يشبه، فإن ادعى ما لا يشبه، كان القول قول المنتهب؛ إذا أقر بما يشبه، فإن لم يقر إلا بما لا يشبه، يسجن، فإن طال سجنه ولم ينتقل عن قوله، استحلف على ذلك وأخذ منه، وبالله التوفيق، لا رب سواه، اللهم لطفك.
[الزرع تأكله الماشية]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان قال: وقال مالك في الزرع تأكله الماشية، قال: يقوم على حال ما يرجى من تمامه ويخاف من هلاكه لو كان يحل بيعه. فإن قال قائل: كيف يقوم ما لا يحل بيعه؟ فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قضى في الجنين بغرة، فالجنين لا يحل بيعه فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: قوله في الزرع تأكله الماشية: إنه يقوم على الرجاء والخوف؛ معناه فيما أفسدت وأكلت بالليل؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قضى أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها» ، ولا اختلاف في وجوب تقويمه على الرجاء والخوف؛ إذا يئس من أن يعود لهيئته، وإما إن رعى صغيرا، ورجا أن يعود لهيئته، فاختلف هل يستأنى به أم لا؟ فقال مطرف: إنه لا يستأنى به،(11/233)
وذهب سحنون، إلى أنه يستأنى به. قاله في الثمرة، وهو في الزرع أحرى.
واختلف على القول بأنه لا يستأنى به، إن حكم بالقيمة فيه، ثم عاد لهيئته بعد الحكم، هل ترد القيمة أم لا؟ واختلف أيضا على القول بأنه لا يستأنى به إن لم يحكم فيه، حتى عاد لهيئته، فقيل: تسقط القيمة فيه، وهو قول مطرف، وقيل: لا تسقط فيه، ويقوم على الرجاء والخوف على كل حال، إن نبت وعاد لهيئته قبل الحكم، وهو قول أصبغ.
وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في آخر سماع أشهب، من كتاب الأقضية، والله الموفق.
[الأمة الراووقة الفارهة تتعلق برجل تدعي أنه غصبها نفسها]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك ورواية سحنون من كتاب الأقضية
قال أشهب: قيل لمالك: رأيت الأمة الراووقة الفارهة، تتعلق برجل تدعي أنه غصبها نفسها، أتصدق عليه بما بلغت من فضيحة نفسها يمين أو بغير يمين؟ فقال: تصدق عليه، ويكون ذلك لها بغير يمين، ما سمعت أن عليها في ذلك يمينا، فأرى أن تصدق، بكرا كانت أو ثيبا إذا تشبثت به وبلغت فضيحة نفسها، وهي تدمى إن كانت بكرا، ولم أسمع أن عليها في ذلك يمينا.
قال محمد بن رشد: في هذه المسألة أن الرجل إذا ادعت عليه أنه غصبها نفسها، ممن يليق به ما ادعت عليه من ذلك، فهاهنا يسقط عنها حد القذف للرجل باتفاق وحد الزنا، وإن ظهر بها حمل لما بلغته من فضيحة نفسها، وكذلك الوغدة.
قال ذلك محمد بن المواز: واختلف في وجوب الصداق لها على ثلاثة أحوال؛ أحدها: أنه يجب لها، وهو قول مالك في رواية أشهب هذه. والثاني: أنه لا يجب لها، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه، من كتاب الحدود، في(11/234)
القذف. قال: ولو كان أشر من عبد الله الأزرق في زمانه. والثالث قول ابن الماجشون في الواضحة: أنه يجب لها الصداق إن كانت حرة، ولا يجب لها إن كانت أمة، واختلف إذا وجب لها الصداق بدعواها مع ما بلغت إليه من فضيحة نفسها، هل يجب بيمين أو بغير يمين؟ فقال مالك في رواية أشهب هذه: إنها تأخذه بغير يمين، وذهب ابن القاسم إلى أنها لا تأخذه إلا بيمين وهو أصح. وهذا الاختلاف في وجوب اليمين إنما هو والله أعلم في الجارية الفارهة، وأما الوغدة فلا تأخذ الصداق على القول بأنها تأخذه بدعواها مع التشبث بالمدعى عليه، إلا بعد اليمين.
وتحصيل القول في هذه المسألة باستيفاء وجوهها أنه إذا ادعت المرأة على الرجل أنه اغتصبها نفسها، ولم تأت متشبثة به، فإن كان الرجل معلوما بالصلاح، ممن لا يشار إليه بالفسق، حدت له حد القذف، كانت من أهل الصون أو لم تكن، وحدت الزنا إن ظهر بها حمل. وأما إن لم يظهر بها حمل، فيتخرج وجوب الحد عليها على الاختلاف فيمن أقر بوطء أمة رجل، وادعى أنه اشتراها منه، أو بوطء أمة، وادعى أنه تزوجها، فتحد على مذهب ابن القاسم، إلا أن ترجع عن قولها، ولا تحد على مذهب أشهب، وهو نص قول ابن حبيب في الواضحة، وإن كان معلوما بالفسق لم تحد له حد القذف، كانت من أهل الصون أو لم تكن، ولا حد الزنا لنفسها، إلا أن يظهر بها حمل، وينظر الإمام في أمره، فيسجنه، ويستحس عن أمره، ويفعل فيه بما ينكشف له منه، فإن لم ينكشف له في أمره شيء استحلف، فإن نكل عن اليمين حلفت المرأة، واستحقت عليه صداق مثلها، وإن كان مجهول الحال، حدت له حد القذف إن كانت مجهولة الحال أيضا، أو لم تكن من أهل الصون، وأما إن كانت من أهل الصون، وكان هو مجهول الحال، فيتخرج وجوب حد القذف عليها له على قولين. ويحلف بدعواها على القول بأنها لا تحد له.
فإن نكل عن اليمين حلفت هي وكان لها صداق مثلها، وأما إن ادعت عليه أنه غصبها نفسها، وجاءت متعلقة به،(11/235)
تدمى إن كانت بكرا، فإن كان من أهل الصلاح لا يليق به ما ادعته عليه، سقط عنها حد الزنا، إن ظهر بها حمل، لما بلغته من فضيحة نفسها، واختلف هل تحد له حد القذف أم لا؟ فذهب ابن القاسم إلى أنها تحد له حد القذف. وحكى ابن حبيب في الواضحة أنها لا تحد له حد القذف، ولا يمين لها عليه، على القول بأنها تحد له. وأما على القول بأنها لا تحد له، فيحلف على تكذيب دعواها. فإن نكل عن اليمين حلفت واستحقت عليه صداق مثلها، وهذا إذا كانت ممن تبالي بفضيحة نفسها، وأما إن كانت ممن لا يبالي بفضيحة نفسها، فتحد له قولا واحدا. وإن كان معلوما بفسق من يليق به ذلك سقط عنها حد القذف للرجل، وحد الزنا، وإن ظهر بها حمل.
واختلف في وجوب الصداق لها على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يجب لها، وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب الغصب؛ لأنه إذا وجب للأمة ما نقضها، فأحرى أن يجب للمرأة صداق مثلها. والثاني: أنه لا يجب لها، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الحدود في القذف. قال: ولو كان أشر من عبد الله بن الأزرق في زمانه. والثالث قول ابن الماجشون في الواضحة: أنه يجب لها الصداق إن كانت حرة، ولا يجب لها شيء إن كانت أمة، واختلف إذا وجب لها الصداق بدعواها مع ما بلغت إليه من فضيحة نفسها، هل يجب لها بيمين أو بغير يمين، فروى أشهب عن مالك أنها تأخذ بغير يمين، وذهب ابن القاسم إلى أنها لا تأخذ إلا بعد اليمين، وهو أصح، والله أعلم.
وإن كان مجهول الحال لم تحد له قولا واحدا، إذا كانت ممن تبالي بفضيحة نفسها، واستحلف هو، فإن نكل عن اليمين حلفت هي، واستحقت صداقها، وإن كانت ممن لا تبالي بفضيحة نفسها، يخرج إيجاب حد القذف عليها على قولين، ويحلف على القول بأنها لا تحد له، فإن نكل عن اليمين حلفت هي واستحقت صداقها، ويحلف على القول بأنها تحد له ولا يجب لها شيء. هذا تحصيل القول في هذه المسألة، والله الموفق.(11/236)
[يبذر الناس الحبوب فربما أخطأ المرء فزاد على حده من حد جاره]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل مالك فقيل له: إن أرض مصر ينكشف عنها الماء، وبعضها لضيق بعض، فإذا بذر الناس الحبوب فربما أخطأ المرء، فزاد على حده من حد جاره، الفدان والفدانين، فبذر فيه، ثم ينظر بعد ذلك، فيوجد قد بذر في غير حقه، فيقول رب الأرض: أنا أعطيك بذرك، وكراء بقرك، قال مالك: ما أرى ذلك ولا أظنه، قال: فقيل له: فترى أن تكون تلك الأرض التي وقع فيها بذره له بكرائها؟ قال: نعم، أراها له بكرائها، وله الزرع.
قال محمد بن رشد: قوله: ما أرى ذلك، ولا أظنه؛ معناه: ما أرى ذلك بحوز، ولا أظنه يحل؛ لأنه صدقه فيما ادعاه من الخطأ والغلط، وعذره ذلك بالجهل، فوجب أن يكون له الزرع، ويكون عليه كراء الأرض؛ لأنه زرعه وهو يحسب أنه زرعه في حقه، بعد يمينه على ذلك، حسبما قاله أصبغ في نوازله من كتاب المزارعة، فلما وجب له الزرع، لم يجز لرب الأرض أن يأخذه ويعطيه بذره، وكراء بقره؛ لأنه يكون مبتاعا له بذلك، وسحنون لا يعذره في ذلك بالجهل، ولا يصدق فيما ادعاه من الغلط، ويحمله محمل الغاصب، فيرى الزرع لصاحب الأرض، ولا يرى للزارع شيئا إلا أن يقدر أن يجمع حبه من الفدان حسبما ذكرنا عنه في نوازل أصبغ من كتاب المزارعة، ولا خلاف في أنه لا يعذر في الغلط إذا تجاوز حده بالبنيان في البقعة، وبالله التوفيق.
[عبد اغتصب فباعه مغتصبه أو سارقه فمات في يدي مشتريه]
من سماع عيسى من ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن عبد اغتصب أو سرق،(11/237)
فباعه مغتصبه أو سارقه، فمات في يدي مشتريه، وترك مالا ثم جاء سيده فاستحقه، قال: يخير سيده، فإن شاء أخذ ماله الذي ترك، ورجع المشتري على البائع بالثمن، وإن شاء رجع على هذا المغتصب بالثمن أو بالقيمة، فأخذه منه، ويسلم ماله للمشتري، قال: وكذلك لو كانت أمة اغتصبت، أو رمكة فولدت أولادا ثم ماتت الرمكة أو الوليدة؛ أن سيدها إن شاء أخذ ولدها، ولم يكن له غير ذلك، وإن شاء ترك ولدها، وأخذ الثمن أو القيمة. وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: قوله: إن لسيد العبد المغصوب إذا مات عند المشتري، وترك مالا أن يأخذ ماله، ويرجع المشتري بالثمن على البائع الغاصب، صحيح، لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن العبد لم يخرج عن ملكه، فله أن يأخذ ماله، سواء وجد العبد أو لم يجده، وكذلك له أن يغرم المشتري الذي استحق العبد من يده قيمة مال العبد، إن كان قد استهلكه، وجد العبد أو لم يجده، وكذلك له أن يأخذ من يد الموهوب له، إن كان وهبه، وسواء كان المشتري ابتاع العبد بماله أو كسبه عنده بتجارة، أو وهب إياه، إلا أن يكون سيده هو الذي وهبه إياه، واكتسبه عنده من عمل يده، فلا يكون للمستحق فيه شيء، وإذا اختار المستحق أخذ مال العبد من يد المشتري، وترك الرجوع على الغاضب البائع، رجع عليه المشتري بالثمن، ولو تلف المال عند المشتري، ووجد العبد على حاله عنده، لم يكن له أن يتركه، ويرجع على الغاصب، وحكم الأولاد في ذلك كله حكم المال لا ضمان على المشتري في تلف شيء من ذلك عنده، وله الرجوع بالثمن إذا أخذ منه المال، وقد تلف العبد، أو أخذ منه الأولاد، وقد تلفت الأمهات، ولو تلف الأولاد عند المشتري، ووجد الأمهات عنده على حالها، لم يكن له أن يتركهم ويرجع على الغاصب. واختلف إن تلف الأولاد أو المال عند الغاصب، فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه في ذلك. وقال أشهب: عليه فيه الضمان، وبالله التوفيق.(11/238)
[يشتري السلعة في سوق المسلمين فيدعيها رجل قبله ويقيم البينة]
ومن كتاب أوله استأذن سيده في تدبير جاريته وسئل ابن القاسم عن الرجل يشتري السلعة في سوق المسلمين، فيدعيها رجل قبله، ويقيم البينة أنها اغتصبت منه، فيزعم مشتريها أنها هلكت، قال: إن كانت حيوانا فهو مصدق، وإن كانت مما يغيب عليه لم يقبل قوله، وأحلف بالله الذي لا اله إلا هو أنه هلك، ويكون عليه قيمتها، إلا أن يأتي بالبينة على هلاك من الله إياه، مثل اللصوص والغرق والنار ونحو ذلك، فلا يكون عليه شيء، قيل له: فإن قال: بعتها بكذا وكذا، ولم يكن على ذلك بينة، إلا قوله، أيصدق على ذلك، أم لا يصدق إلا بينة تقوم؟ قال: قوله مقبول في ذلك؛ لأنه قد يعرف الشيء في يديه، ثم يتغير عنده قبل أن يبيعه بكسر أو عور أو شيء يصيبه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة صحيحة، وإنما قال: إنه يحلف إذا ادعى تلاف السلعة التي اشترى ويغرم قيمتها، مخافة أن يكون غيبها، ومثل هذا يجب في المرتهن والمستعير والصانع يدعون تلف ما يغاب عليه. وقوله في آخر المسألة: إنه إن أتى بالبينة على الهلاك لم يكن عليه شيء، معناه أن يشهد البينة على معاينتها لهلاك ذلك، وهو ظاهر ما في كتاب بيع الخيار من المدونة، ونص قول مالك في رواية ابن القاسم عنه، سئل عن الصناع تحترق منازلهم، فيدعون أمتعة الناس احترقت، مثل الصباغ والخياط والحائك والصواغ، وما أشبه ذلك، قال: لا يصدقون، وذلك من أمر الحريق؛ لأنهم يتهمون أن يخبئوا أمتعة الناس، ويحرقون الحصير وما أشبه، فلا أرى أن يقبل قولهم، إلا أن يأتوا بشيء معروف، ومقال مالك في كتاب ابن المواز في الصانع يسرق بيته، ويعلم ذلك، فيدعي أن المتاع ذهب مع ما ذهب، أنه لا يصدق، قال: وكذلك لو احترق بيته، فرأى ثوب الرجل(11/239)
يحترق، فهو ضامن، وكذلك الرهن، قاله مالك، حتى يعلم أن النار من غير سببه. أو سيل يأتي، أو ينهدم البيت. فهذا وشبهه يسقط الضمان، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقر بغصب عبد رجل زعم أنه غصبه ورجلان سماهما معه]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: لو أن رجلا أقر بغصب عبد رجل، زعم أنه غصبه هو، ورجلان سماهما معه، وصدقه صاحب العبد أنهم غصبوه ثلاثتهم. قال: عليه غرم قيمته كله، ولم ينظر إلى من غصبه معه، إلا أن يكون يقرون كما أقر، أو تقوم عليهم بينة، فأما إذا لم يقروا ولم تقم عليهم بينة، فهو ضامن لجميع العبد، ولو أقر جميعهم أو قامت عليهم بينة، فوجد بعضهم معدمين، وبعضهم مليا، فإنه يأخذ جميع قيمته من الملي، ويطلب هو وأصحابه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا موضع للقول؛ لأن القوم إذا اجتمعوا في الغصب أو السرقة أو الحرابة، فكل واحد منهم ضامن لجميع ما أخذوه، كأن بعضهم قوي ببعض؛ فهم كالقوم يجتمعون على قتل الرجل، فيقتل جميعهم به، وإن ولي القتل أحدهم. وقد قال عمر بن الخطاب: لو تمالى عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا، وبالله التوفيق.
[يغصب الرجل الشاة فيهديها لقوم ثم يطلبها صاحبها فيجدهم قد أكلوها]
ومن كتاب العرية وسألته عن الرجل يغصب الرجل الشاة، فيهديها لقوم، ثم(11/240)
يقوم صاحبها على الذين أهديت إليهم، وقد أكلوها، قال: إن كان الغاصب بها مليا، فهي عليه غرم، وليس على الذين أهديت إليهم شيء، وإن كان معدما أخذ قيمتها من الذين أكلوها، قيل له: فإن كان ذبحها الغاصب، ثم سيرها إليهم مذبوحة، قال في كلا الوجهين: إن كان الغاصب مليا فقيمتها عليه، وليس على الذين أهديت إليهم شيء، وإن كان معدما وقد سيرها مذبوحة، كان على الذين أكلوها قيمتها مذبوحة، وكان ما بين قيمتها مذبوحة وقيمتها حية على الغاصب، مليا كان أو معدما.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان الغاصب لها مليا فهي عليه غرم، وليس على الذين أهديت إليهم شيء، وإن كان معدما أخذ قيمتها من الذين أكلوها، هو مثل قوله في كتاب الاستحقاق من المدونة في مسألة محاباة الوارث في الكراء، ومثل قوله أيضا في كتاب الغصب، وفي كتاب كراء الدور منها: وإذا أخذت قيمتها من الذين أكلوها، كان لهم على قياس قوله أن يرجعوا بها على الغاصب، وإن أخذت أولا من الغاصب، لم يكن له أن يرجع بها على الذين أهديت إليهم؛ لأنه لما أهداها فقد التزم ضمانها، وإن كانوا جميعا عدما رجع على من أيسر منهم أولا، فإن أيسر الذين أهديت إليهم أولا، فرجع عليهم، كان لهم الرجوع على الواهب الغاصب، وإن أيسر الواهب أولا فرجع عليه، لم يكن له أن يرجع على الذين أهديت إليهم.
وعلى قول غير ابن القاسم في مسألة كتاب الاستحقاق من المدونة، وهو أشهب، بدليل قوله في رسم محض القضاء من سماع أصبغ من كتاب البضائع والوكالات، وقول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة، يرجع أولا على الذين أهديت إليهم إن كان لهم مال، فإن لم يكن لهم مال، رجع على الغاصب، فإن رجع على هذا القول على الغاصب، رجع الغاصب على الذين أهديت إليهم؛ وإن رجع على الذين أهديت إليهم، لم يرجع الذين أهديت إليهم على الغاصب(11/241)
بشيء، عكس القول الأول، فإن كانوا جميعا عدما، رجع على من أيسر أولا منهم. وقد قال ابن القاسم في كتاب كراء الدور من المدونة: إنه إن كان الواهب عديما، فرجع المتعدى عليه على الموهوب له، لم يكن للموهوب له أن يرجع على الواهب، وهو خلاف ما يوجبه القياس، فيتحصل في المسألة خمسة أقوال بقول أشهب، وقد روى ابن عبدوس عنه: أن الغاصب إذا وهب الثوب أو الطعام لمن استهلكه، كان للمستحق أن يتبع من شاء منهما. قال ابن عبدوس: وسمعت سحنون يستحسن قول أشهب، ويحتج بالبيع لو ابتاع الطعام فأكله، كان له أن يضمن من شاء منهما: الغاصب أو المشتري، فكذلك الموهوب له، وبالله التوفيق، اللهم لطفك.
[اغتصبت أم ولد رجل فماتت عند المغتصب]
ومن كتاب أوله يوصي بمكاتبه بوضع نجم من نجومه قال ابن القاسم: إذا اغتصبت أم ولد رجل، فماتت عند المغتصب، كان عليه غرم قيمتها لسيدها أمة ليس فيها عتق.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا صحيح، على قياس قوله وروايته عن مالك في أن على قاتل أم ولد الرجل، قيمتها أمة لسيدها، خلاف قول سحنون: إنه لا قيمة عليه فيها؛ إذ ليس لسيدها فيها إلا الاستمتاع بوطئها، ولا قيمة لذلك، وكذلك إذا غصبها فماتت عنده؛ لأنه لا ضمان عليه فيها، كالحرة يغتصبها فتموت عنده.
وقول ابن القاسم وروايته عن مالك أصح؛ لأن أم الولد أحكامها أحكام أمة حتى يموت سيدها فتعتق بموته، فلا تشبه الحرة، ألا ترى أن الحرة لا يضمنها بالنقل بخلاف الأمة ومن فيها بقية رق. وقد روي عن مالك فيمن غصب حرا فباعه أنه يكلف طلبه، فإن أيس منه، ودى ديته إلى أهله.
ونزلت بطليطة، فكتب القاضي بها إلى محمد بن بشير بقرطبة،(11/242)
فجمع القاضي ابن بشير أهل العلم بها، فأفتوه بذلك، فكتب إليه أن أغرمه إليه ديته كاملة، فقضى عليه بذلك.
ومن معنى هذه المسألة، اختلافهم فيمن غصب جلد ميتة، فقال في المدونة: إن عليه قيمته دبغ أو لم يدبغ، وقال في المبسوطة: لا شيء عليه فيه وإن دبغ؛ لأنه لا يجوز بيعه. وقيل: إنه لا شيء فيه، إلا أن يدبغ، فتكون فيه القيمة. وقيل: إن دبغ لم يكن عليه إلا قيمة ما فيه من الصنعة. وهذا يأتي على ما له في السرقة من المدونة، والصواب أن يلزمه في ذلك كله قيمة الانتفاع به، وبالله التوفيق.
[مسألة: مسلم أو نصراني عدا على سفينته مسلم فحمل عليها خمرا]
مسألة وسألته عن مسلم أو نصراني عدا على سفينته مسلم، فحمل عليها خمرا، أيأخذ لها كراء؟ قال: أما إذا كان تعدى عليها نصراني، فله أن يأخذ لها كراء، ويتصدق به. قلت: فالمسلم قال: له أن يأخذ كراء سفينته فيما أبطلها، ولا ينظر إلى كراء الخمر.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا كان الذي تعدى نصرانيا، فله أن يأخذ لها كراء، معناه: كراء مثلها، على أن يحمل فيها الخمر، أن لو أكراها نصراني من نصراني لذلك. وأما قوله: يتصدق به، فهو بعيد أن يجب ذلك عليه، إلا أن يعلم بتعديه، فلا يمنعه من ذلك، وهو قادر على منعه، وأما إن علم بذلك، ولم يقدر على منعه، فلا يجب عليه أن يتصدق إلا بالزائد على قيمة كرائها، على أن يحمل عليها غير الخمر، بمنزلة أن لو أكراها منه على أن يحمل فيها غير الخمر، فحمل عليها خمرا، فإنه إن كان علم بذلك، فلم يمنعه تصدق بجميع الكراء، قاله ابن حبيب، وأما إن لم يعلم بذلك، فلا يجب عليه أن يتصدق إلا بما زادت قيمة كرائها، على أن يحمل عليها الخمر، على الكراء الذي أكراها به، وأما إذا كان عدا عليها مسلما، فقوله: إنه يأخذ كراء سفينته فيما أبطلها، ولا ينظر إلى كراء الخمر: معناه: أنه يكون له كراء المثل في السفينة(11/243)
على أن يحمل عليها غير الخمر، ويقوم له أيضا ما افتدى في سفينته بتنجيسها بالخمر الذي حُمل عليها مع الأدب على الوجهين جميعا: العداء وحمل الخمر، وأما النصراني فلا يلزمه الأدب إلا على العداء خاصة، والله الموفق.
[خلط قمحا لرجل بشعير لآخر وذهب فلم يعرف]
ومن كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسئل ابن القاسم عن رجل خلط قمحا لرجل بشعير لآخر، وذهب فلم يعرف قال: أرى أن يباع ويقسموا ثمنه على ثمن ما يسوى ذلك اليوم، ما يسوى القمح والشعير، ولا أحب أن يقتسموه على الكيل.
قال محمد بن رشد: إذا ذهب الذي خلطها، أو لم يعرف، فهو بمنزلة إذا اختلط من غير عَدّ، والذي يوجبه الحكم في ذلك، أن يقتسماه بينهما مخلوطا على قيمة القمح والشعير يوم الخلط، ويقوم غير معيب، بدليل ما في المدونة خلاف ما ذهب إليه سحنون من أنه يقوم القمح معيبا، والشعير غير معيب.
والذي يدل عليه ما في المدونة أظهر؛ إذ لو وجب أن يقوم القمح على أنه مخلوط بالشعير، لوجب أن يقوم الشعير أيضا على أنه مخلوط بالقمح، وذلك ما لم يقله سحنون. فقوله: أرى أن يباع فيقسموا ثمنه، على ما يسوى القمح والشعير استحسان؛ إذ لا مانع يمنع من اقتسامه بعينه على القيم، ولو لم يجز اقتسامه بعينه على القيم، لما جاز اقتسام ثمنه على ذلك؛ لأنه إنما يباع على ملكهما، فإنما يأخذ ثمن ما كان له أخذه، وإنما قال: لا أحب أن يقسموه على الكيل، يريد الطعام المخلوط؛ لأنه لما كان الحكم يوجب أن يقتسماه بينهما على القيم، لم يجز أن يقتسما على الكيل؛ لأنه يدخله التفاضل فيما لا يجوز فيه التفاضل من القمح والشعير.
وقوله: لا أحب، تجاوز في اللفظ، وتساهل فيه، وكان الواجب أن يقول في ذلك: لا يجوز، وكذلك الثمن(11/244)
لا يجوز لهما أن يقسماه على الكيل؛ لأنه إنما يباع على ملكهما، فلا فرق في ذلك بين الثمن والمثمون، هذا وجه القول باختصار، في هذه المسألة، وقد أفردنا الكلام عليها في مسألة مشخصة، استوعبنا فيها جميع وجوهها لمن سأل ذلك من نبلاء الطلبة، فهي تبين هذه لمن شاء أن يتأملها، والله الموفق.
[مسألة: جارية بين رجلين تعدى عليها أحدهما فباعها ففاتت عند المبتاع]
مسألة قال ابن القاسم في جارية بين رجلين تعدى عليها أحدهما فباعها، ففاتت عند المبتاع بحمل أو عتق؛ أن شريكه إن شاء رجع على المبتاع بنصف القيمة، فإن فعل رجع المبتاع على البائع بنصف الثمن، ليس عليه غير ذلك، وإن شاء ترك المبتاع ورجع على البائع، فكان مخيرا عليه في نصف الثمن الذي باع به، أو نصف القيمة، أي ذلك شاء ألزمه إياه، وإن فاتت بيد المبتاع ببيع، لم يكن على المبتاع إلا نصف الثمن الذي باعها به، أو يرجع المتعدي فيكون مخيرا في نصف الثمن الذي باع به، أو نصف القيمة يوم باعها.
فإن ماتت لم يكن له على المشتري بشيء، ورجع على البائع، فكان مخيرا عليه في نصف الثمن أو نصف القيمة، فإن فاتت بنماء أو نقصان، ولم تحمل ولم تعتق، فهو مخير، إن شاء أخذ نصفها، وإن شاء أسلمها، واتبع المتعدي بنصف الثمن، وليس له إلى القيمة سبيل؛ إذا وجدها بحالها أو أفضل حالا، فإن فاتت بنقصان فهو مخير، إن شاء أخذ نصفها من المشتري، وليس له عليه قيمة، وإن شاء تركها واتبع المتعدي بنصف الثمن، أو نصف القيمة، وذلك أنها حالت عن حالها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، أوجب للشريك المستحق لنصف الجارية على المبتاع؛ لما أفاتها(11/245)
بحمل أو عتق قيمة النصف الذي استحق، إن شاء أن يأخذه بذلك، ويترك الشريك المتعدى عليه في بيعها؛ لأن القيمة قد لزمته في النصف بعتق جميعها، أو اتخاذها أم ولد، بمنزلة الجارية بين الشريكين، يعتقها أحدهما أو يتخذها أم ولد، وله مال، فإن فعلها رجع المبتاع على البائع بنصف الثمن، وإن شاء أن يترك المشتري ويتبع البائع، فيجيز البيع ويأخذ منه الثمن، أو يضمنه القيمة لفواتها عند المشتري، كان ذلك له، ولو تعدى رجل على رجل في جاريته، فباعها فأفاتها المبتاع بعتق أو حمل؛ لكان له أن ينقض العتق، ويأخذ جاريته إن كان أعتقها، واختلف إن كان أولدها، فقيل: يأخذها وقيمة ولدها، وقيل: إنه يأخذ قيمتها يوم الحكم، وقيمة ولدها، وقيل: إنه يأخذ قيمتها يوم أفاتها بالحمل، ولا شيء عليه في الولد، والثلاثة الأقوال كلها مروية عن مالك، وأما إذا باعتها المبتاع، فليس للمستحق عليه إلا الثمن الذي باعها به، إن كان استحق جميعها، أو نصف الثمن إن كان استحق نصفها، كما قال.
وقوله: إذا باعها المبتاع؛ أن له أن يرجع على البائع إن شاء، فيكون مخيرا في نصف الثمن الذي باع به، أو نصف القيمة يوم باعها؛ معناه: إن غاب بها المشتري الثاني، وأما إن وجدت بيده على حالها، فليس له أن يضمن الشريك المتعدي فيها، ببيعها نصف قيمتها، وإنما له أن يأخذ جاريته أو يخير، أي بيع شاء، ويأخذ الثمن، فإن أجاز البيع الأول، وأخذ الثمن من الشريك، مضى البيع الثاني، وإن أجاز البيع الثاني وأخذ الثمن من البائع الثاني رجع البائع الثاني على البائع الأول بالثمن الذي دفع إليه.
وأما قوله: إن فاتت عند المشتري بنقصان؛ أن له أن يتركها ويرجع على المعتدي بنصف الثمن أو نصف القيمة؛ لأنها قد حالت عن حالها، ظاهره وإن كان النقصان يسيرا، وهو نص ما في كتاب الغصب من المدونة. وقد وقع فيه دليل على أنه ليس له أن يضمن المتعدي القيمة؛ إلا أن تفوت بالعيوب المفسدة، والنص يقضي على الدليل، وقد كان الشيوخ يحملون ذلك على أنه اختلاف من القول، وأما المشتري فلا اختلاف في أنه(11/246)
لا يضمن الموت ولا النقصان بأمر من السماء، وإنما يضمن بجنايته عليه عمدا، وقد اختلف في جنايته عليه خطأ، حسبما يأتي القول فيه في الرسم الذي بعد هذا إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[يغتصب العبد فيقطع يده الغاصب أو يقطعه أجنبي فتذهب يده]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس وسألته عن الرجل يغتصب العبد فيقطع يده الغاصب، أو يقطعه أجنبي، أو يصيبه أمر من السماء، فتذهب يده، هل يكون في جميع هذه الوجوه الثلاثة، صاحبه مخيرا إذا استحقه في قيمته وفي أن يأخذه وما نقصه القطع؟ قال: أما إذا قطعه الغاصب عمدا كان أو خطأ، ثم استحقه سيده، فسيده مخير بين قيمته وبين أن يأخذه وما نقصه القطع؛ وأما إذا قطعه أجنبي، فسيده أيضا مخير بين أن يأخذه ويأخذ عقل يده، إن كان أخذ الغاصب عقلا، وبين أن يأخذ قيمته ويترك العبد.
قلت: فإن كان أصابه أجنبي، فعفا الغاصب عن قطع اليد، قال: إن اختار أخْذه أخذه، وأخذ من الأجنبي ما نقص القطع.
قلت: فإن فات الأجنبي، قال: سيده مخير بين أن يأخذه مقطوعا ولا شيء له على الغاصب؛ لأنه لم يأخذ بيده عقلا، وبين أن يأخذ قيمته، وإذا أصاب يده أمر من السماء، فذهبت يده، فلا شيء له إلا قيمته، أو يأخذه مقطوعا، ولا شيء له على الغاصب، قلت: فإن كان الغاصب باعه من رجل، فقطع المشتري يده، فاستحقه سيده بيد المشتري قال: إن كان قطعه عمدا، فسيده مخير بين أن يأخذه ويأخذ منه ما ينقصه القطع، ويرجع هو على الغاصب(11/247)
بالثمن، وبين أن يأخذ قيمته من الغاصب، أو ثمنه الذي باعه به، وإذا قطعه خطأ لم يكن له إلا قيمته على الغاصب، أو يأخذه مقطوعا، ولا شيء له في القطع على الغاصب ولا على المشتري.
قال الإمام القاضي: قوله: إن الغاصب إذا قطعه عمدا أو خطأ، فسيده مخير بين أن يأخذ قيمته، يريد يوم الغصب، وبين أن يأخذ وما نقصه القطع، يريد يوم الجناية، هو قول ابن القاسم في المدونة. والوجه في ذلك، أنه بالخيار بين أن يطالبه بحكم الغصب، فلا يكون له عليه إلا قيمته يوم الغصب، وبين أن يسقط عنه حكم الغصب ويطالبه بحكم الجناية، فيكون له أن يأخذ العبد، وما نقصه القطع يوم الجناية، وإذا أسقط عنه حكم الغصب، وطالبه بحكم الجناية، فيدخل في ذلك الاختلاف، فيمن تعدى على ثوب رجل فحرقه، فإن كانت الجناية يسيرة، كقطع الأنملة، وطرف الأذن أخذ عبده، وما نقصه قولا واحدا، وإن كانت الجناية كثيرة كقطع يد أو رجل أو ما أشبه ذلك، فقيل: ليس له أن يأخذه وما نقصه، وقيل: هو مخير بين أن يأخذه وما نقصه، وبين أن أخذه ويضمنه قيمته.
وقيل: هو مخير بين أن يأخذه ولا شيء له، وبين أن يضمنه قيمته يوم الجناية، وكذلك إذا قتله الغاصب على قياس هذا القول، له أن يسقط عنه حكم الغصب، ويضمنه قيمته يوم الجناية، وهو نص قول ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر الدمياطي عنه: إنه مخير في قيمة العبد يوم اغتصبه، أو في قيمته يوم قتله، خلاف ما لابن القاسم في المدونة، من أن الغاصب إذا قتل العبد، فليس لسيده إلا قيمته يوم الغصب، فالقولان قائمان من المدونة على هذا التأويل الذي ذكرناه، وقد تأول ما في المدونة من قوله: إن(11/248)
الغاصب إذا قطع يد الجارية المغصوبة، فلربها أن يضمنه ما نقصه القطع، ويأخذها؛ أن معنى ذلك ما نقصها القطع يوم الغصب، فعلى هذا التأويل لا يقوم الاختلاف من المدونة، ولا يكون للمغصوب منه على مذهب ابن القاسم فيها أن يسقط عن الغاصب حكم الغصب، ويأخذه بالجناية مثلها، أو قطع يدها، وإلى هذا ذهب سحنون، فقال: ليس له أن يضمنه ما نقصها القطع، وإنما له أن يأخذها ناقصة، أو يضمن الغاصب قيمتها يوم غصبها.
وقوله: إذا قطعه أجنبي فسيده أيضا مخير بين أن يأخذ عقل يده، إن كان أخذ الغاصب عقلا، وبين أن يأخذ قيمته ويترك العبد؛ يريد قيمته يوم الغصب، وهذا على القول بأنه مخير بين أن يطالب الغاصب بحكم الغصب ليأخذ منه قيمة عبده يوم غصبه، وبين أن يبرئ الغاصب من حكم الغصب، ويأخذ عبده وعقل الجرح، وعلى القول الثاني الذي لا يرى له الخير في ذلك، ليس له إلا أن يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه، أو يأخذ عبده، ولا شيء له من عقل جرحه، وكذلك إذا عفا الغاصب عن قطع اليد على القول بأنه ليس له إلا أن يتبع الغاصب بحكم الغصب، يأخذ منه قيمة عبده يوم الغصب، ويأخذ العبد كما هو، ولا سبيل له إلا أن يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه، أو يأخذ عبده، ولا شيء له من عقل الجرح، وكذلك إذا عفا الغاصب عن قطع اليد على القول بأنه ليس له إلا أن يتبع الغاصب بحكم الغصب، يأخذ منه قيمة عبده يوم غصبه، أو يأخذ العبد كما هو، ولا سبيل له على الجاني للجناية، وعلى القول بأن له أن يسقط عن الغاصب حكم الغصب، يأتي ما ذكره في الرواية من أنه إن اختار أخذه، وأخذ من الأجنبي ما نقصه القطع، فيكون إذا فعل ذلك قد أسقط عن الغاصب حكم الغصب، وإن لم يرد أن يسقط(11/249)
عنه حكم الغصب، أخذ منه قيمة عبده يوم غصبه إياه، وكذلك إن فات الأجنبي، ولم يرد أن يسقط عن الغاصب حكم الغصب، يأخذ منه قيمته يوم الغصب، وإن أراد أن يسقط عنه حكم الغصب، فقال في الرواية: إنه يأخذ عبده مقطوعا، ولا شيء له على الغاصب؛ لأنه لم يأخذ لسيده عقلا، وذلك معارض لقوله فيما تقدم في رسم العرية، في الذي يغتصب الشاة فيهديها لقوم؛ أن صاحبها يرجع على الغاصب، فيغرمه قيمتها، وليس على الذين أهديت إليهم شيء، ولقوله أيضا في كتاب الاستحقاق من المدونة في مسألة المحاباة، في الكراء، ومعارض لقول أشهب أيضا في المدونة، وفي سماع أصبغ من كتاب البضائع والوكالات، والذي يأتي في هذه المسألة إن فات الأجنبي الجاني، ولم يوجد على قياس قول ابن القاسم، في هذه المسائل أن يرجع رب العبد على الغاصب بما ترك للجاني من قيمة الجناية على العبد، ولا يتبع الغاصب بذلك الجاني، والذي يأتي فيها على قياس قول أشهب، ألا يرجع رب العبد على الغاصب بما ترك للجاني من قيمة الجناية، ويتبع بذلك الغاصب الجاني، وقوله: إنه إذا أصاب يده أمر من السماء، يريد والعبد عند الغاصب، فذهبت يده، فلا شيء له إلا قيمته، يريد يوم غصبه، أو يأخذه مقطوعا ولا شيء له على الغاصب، صحيح، لا اختلاف فيه من قول ابن القاسم وتفرقته إذا باعه الغاصب فجنى عليه المشتري بقطع يده، بين أن تكون جنايته عليه عمدا أو خطأ تفسير ما وقع له في المدونة؛ إذ لم يفرق فيها في ذلك بين العمد والخطأ، وأن له أن يأخذه منه وما نقصته جنايته عليه وإن كانت خطأ، ويرجع هذا(11/250)
على البائع بالثمن، ووجه هذا القول أن البيع لما كان بيع غرر، فكأن ملك صاحبه لم ينتقل عنه، فكان من حقه أن يأخذ عبده، وما نقصته الجناية، عمدا كانت أو خطأ. فهذا القول على قياس القول بأن البيع على الرد حتى يجاز، والقول الأول على قياس القول بأن البيع على الإجازة حتى يرد، وبالله التوفيق، اللهم يا مولاي لطفك.
[أكرى داره سنة فسكنها المتكاري فعدا عليه السلطان فأخرجه من الدار]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار وسئل ابن القاسم عن رجل أكرى داره سنة، فسكنها المتكاري، أو لم يسكنها، فعدا عليه السلطان، فأخرجه من الدار، فطلب المتكاري القصاص مما سكن، وقال رب الدار، الكراء كله عليك، والمصيبة منك، وكيف بمثل هذا إذا نزل في كراء ظهر مضمون أو بعينه. قال ابن القاسم: قد نزل هذا بين أظهرنا في المسودة الذين قدموا فسكنوا عندنا، فقضى فيها الحزمي أن تكون المصيبة على أهل الدور، ويقاصونهم بما سكنوا قط. قال ابن القاسم: وبلغني أن مالكا سئل عنها فقال مثل قوله وهو رأيي، والظهر مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، قالوا: لأن السكنى والركوب فيما يأتي، وإن كان المكتري قد اشتراه فلم يقبضه بعد، ولا يقدر على قبضه جملة، وإنما يقبضه شيئا بعد شيء، على ملك صاحب الدار، وصاحب الدابة، فوجب إذا اغتصبه غاصب أن يكون الضمان منه، بمنزلة ما لو انهدمت الدار أو ماتت الدابة.
وقد قيل في السلعة بعينها: إن ضمانها من البائع حتى يقبضها المبتاع، وإن كان قبضه لها ممكن، فكيف بالسكنى(11/251)
والركوب الذي لا يمكنه قبضه جملة؟ وقد وقع في المجموعة لابن القاسم وعبد الملك فيمن اكترى دارا أو أرضا، فغصبها منه رجل، فسكن وزرع؛ أن الكراء على المكتري، إلا أن يكون سلطان ليس فوقه سلطان، يمنع منه إلا الله، وليس السلطان كغيره، وهو عندي تفسير لما تقدم، ولأنه إذا أخرجه من الدار، من يقدر على الامتناع منه برفعه إلى من يحول بينه وبينه، فلم يفعل فكأنه قد سلم له الدار، وأما إذا غصبه فيها وأخرجه عنها من لا يقدر على الامتناع منه، فهو كانهدامها الذي لا صنع له فيه، ولا قدرة له على الامتناع منه، وكذلك الدابة سواء.
وقد حكى ابن حارث أنه رأى في بعض الكتب عن سحنون، أن المصيبة من المكتري، وهو بعيد، فإن قيل: إن ذلك على القول بأن قبض أوائل الكراء، قبض لجميع الكراء، عورض بجميعهم، على أن انهدام الدار من رب الدار. قال ابن حارث: وينبغي أن ينظر في الغصب إن كان قصد به رقبة الدار أو السكنى، فإن كان غصبه لرقبة الدار، فهو كالانهدام، وإن كان للسكنى فهو من المكتري، والله أعلم.
وهي تفرقة لا وجه لها في هذا، وإنما تفترق فيما يضمن الغاصب على ما روى أصبغ عن ابن القاسم في الذي يغتصب السكنى قط، فتنهدم الدار في سكناه، مثل هؤلاء المسودة الذين ينزلون على الناس، أنه لا ضمان عليه للهدم، ولا يجب عليه إلا قيمة الكراء. وقاله أصبغ؛ لأنهم لم يغصبوا رقاب الدور، إلا أن تنهدم من طول سكناهم، وفي هذا بيان.
والحزمي قاضي مصر أيام الهادي والرشيد، اسمه عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمر بن حزم الأنصاري، يكنى أبا الطاهر الأعرج، والله الموفق.
[تقوم له البينة أن رجلا غصبه أرضا له فيأتي الذي استحق عليه الغصب بالبينة]
ومن كتاب الجواب وسألته عن الرجل تقوم له البينة أن رجلا غصبه أرضا له،(11/252)
فيأتي الذي استحق عليه الغصب بالبينة، أنه اشتراها منه، ولا تدري البينة متى كان الاشتراء، بعدما ادعاه من الغصب أو قبل، أو يعلم ذلك، ويثبت أن الغصب كان قبل الاشتراء. قال ابن القاسم: بينة الاشتراء أحق وأولى وأثبت، علم أن الغصب قبل أو لم يعلم؛ لأنه إن كان الغصب قبل الاشتراء، فقد اشترى بعد الغصب وبطل الغصب وما فيه، وإن كان الاشتراء قبل الغصب، فشهادة الذين شهدوا على الغصب باطل، ولا حجة له فيها، فشهادة الاشتراء أحق وأثبت.
قال محمد بن رشد: زاد ابن حبيب في الواضحة في هذه المسألة متصلا بآخرها: إلا أن يكون الشهود الذين شهدوا على الشراء، إنما شهدوا أنه اشتراها منه، وهو مغصوب بحاله، ولم يرد إليه، ولم يملكه، فيكون شراء مفسوخا مردودا بالغصب الذي كان قبله، ويرد الثمن الذي أخذ فيه عن مطرف وابن القاسم وأصبغ.
وهذا الذي زاد ابن حبيب في الواضحة، في هذه المسألة، وحكاه عمن حكاه من أصحاب مالك، صحيح، ينبغي أن يحمل على التفسير للمسألة؛ لأنه إذا اشتراها منه قبل أن يردها إليه ردا صحيحا بين بها، وينقطع خوفه عنه فيها؛ لكونه على حاله من الظلم والتعدي والقدرة على الامتناع من جريان الحق عليه، فهو شراء فاسد؛ لأنه مغلوب على بيعها منه، وإن كان مقرا له بها؛ إذ لا يقدر على أخذها منه، وأما إن كان اشتراها بعد أن عزل وعاد ممن تأخذه الأحكام، فالشراء صحيح؛ لأنه لا يشتريها منه إلا وهو مقر له بها، وإذا أقر له بها، وأنه غصبه إياها، وهو ممن تأخذه الأحكام، فلا فرق في جواز شرائه إياها منه، وهي بيده قبل أن يردها إليه، أو بعد أن ردها إليه، وقد أجاز ابن القاسم في الصرف من المدونة شراءه الجارية منه إذا كان مقرا بقبضها، وإن كانت غايته قد حملها إلى بلد آخر إذا وصفها، من أجل أنه ضامن لما أصابها، واعترض ذلك سحنون من أجل مغيبها(11/253)
فقال: قول أشهب فيها أحسن، وهو ألا يجوز بيعها إلا بعد معرفتها بقيتها، فإذا كانت حاضرة ارتفع الاعتراض، ولم يكن في جواز شرائه إياها من صاحبها كلام؛ إذا كان حينئذ ممن تأخذه الأحكام، وعلى هذا تحمل مسألة المدونة، وكذلك إذا باعها صاحبها من غير الغاصب، وهي في يد الغاصب، إن كان ممن له السلطان، ويقدر على الامتناع، فلا يجوز البيع بإجماع؛ لأنه غرر، كالعبد الآبق والجمل الشارد؛ إذ لا يدري مشتريه متى يصل إليه؟ وهو نص قول مالك في رواية زياد عنه. قال: من ابتاع عبدا أو قرية في يد إمام ظالم، من صاحب الأصل، لم يجز ذلك البيع، وكان مردودا؛ لأنه غرر، قال مالك: فإن فات مضى بالقيمة، وأما إن كان ممن تأخذه الأحكام، ولا يقدر على الامتناع، وهو غائب أو حاضر، منكر للغصب، ففي ذلك في الحاضر المنكر قولان؛ أحدهما وهو المشهور في المذهب: أن ذلك لا يجوز؛ لأن شراء ما فيه خصومة غرر. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في الشهادات من المدونة، وفي الغائب ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك لا يجوز. والثاني: أن ذلك جائز. والثالث: الفرق بين أن يكون على الغصب بينة أو لا يكون، وقد قيل: إن الخلاف إنما هو إذا كان على الغصب شهود، وأما إذا لم يكن عليه شهود، فلا يجوز قولا واحدا، ومن هذا المعنى شراء الدين على الحاضر المنكر؛ إذا كانت عليه بينة، أو على الغائب.
وقد مضى تحصيل القول فيه في نوازل أصبغ من كتاب الجامع البيوع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدون للرجل أن فلانا غصبه أرضا له ولا يعرفون موضع الأرض]
مسألة وسألته عن البينة تشهد للرجل أن فلانا غصبه أرضا له في قرية تسمى فلانة، ولا يعرفون موضع الأرض منها، غير أنهم يشهدون أنه غصبه فيها أرضا، والغاصب منكر لما شهد به عليه. قال ابن القاسم: شهادتهم باطل، ولا شهادة لهم؛ لأنهم لا يشهدون على(11/254)
شيء معروف ولا محدود، ولا شيء بعينه، والمشهود عليه منكر لذلك، فشهادتهم ساقطة، لا يقطع عليه بشيء.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في المجموعة لابن القاسم بعينها على نصها، وزاد فيها، قال: ولو شهدوا على الأرض، ولم يثبتوا الحوز، فذكر نص رواية يحيى عنه في كتاب الاستحقاق حرفا بحرف، فبان بهذا أنه فرق بين المسألتين، وأن رواية عيسى هذه ليست مخالفة لرواية يحيى المذكورة، ولا لرواية أصبغ من هذا الكتاب، وأما رواية أصبغ، فهي مخالفة لرواية يحيى. وقد قيل: إنه لا فرق بين المسألتين، وأن الخلاف داخل في مسألة رواية عيسى هذه.
وقد مضى تحصيل هذه المسألة في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب الاستحقاق، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[غصب جارية فباعها في سوق المسلمين فاتخذها المشتري ثم تستحق]
من نوازل سئل عنها عيسى بن دينار قال عيسى: من غصب جارية فباعها في سوق المسلمين، فاتخذها المشتري، ثم أتى ربها فاستحقها، فإنه مخير على الغاصب في وجهين، وعلى المشتري في وجهين، إن شاء أخذ من الغاصب قيمتها يوم غصبها، وإن شاء فالثمن الذي باعها به، فإن أخذ الثمن أو القيمة مضت الجارية للمشتري، فإن أبى المستحق، أخذ القيمة أو الثمن من الغاصب، فهو مخير على المشتري، إن شاء أخذ منه جاريته، وإن شاء ترك الجارية وأخذ منه قيمتها وقيمة الولد، فإن أخذها وقيمة ولدها، أو أخذ قيمتها وقيمة ولدها رجع المشتري على البائع بالثمن الذي دفع إليه فقط، ولا يرجع عليه للولد بشيء، وإن ماتت الأم عند المشتري، فأراد المستحق أن يأخذ منه قيمتها، وقيمة ولدها، فليس ذلك له، وإنما له عليه قيمة(11/255)
ولدها فقط، إن أراد، وإن كره فله الثمن، أو القيمة على الغاصب، قال: وإن وجد ولدها قد ماتوا، فلا شيء له فيهم، وإن قتلوا فدياتهم لأبيهم، وقيمتهم عليه للمستحق، إلا أن تكون دياتهم أقل من قيمتهم، فلا يكون عليه غيرها قال: وإن كان المشتري إنما زوجها فولدت، فالولد للمستحق مع الأمة، إن أراد أخذهم وأخذ الأمة، وإن أبى ذلك فليس له على المشتري شيء، ويرجع على الغاصب، فيأخذ منه الثمن أو القيمة. قال: وإن كانت الأمة إنما ولدت عند الغاصب، فسواء ولدت منه أو من زوج زوجها إياه الغاصب، فالمستحق مخير، إن شاء أخذ من الغاصب قيمتها يوم غصبها، وإن شاء أخذها وأخذ ولدها، وكان على الغاصب الحد؛ إذا كان الولد منه، وإن مات ولدها عند الغاصب منه كانوا منه أو من غيره، ثم استحق مستحق الأمة، فأراد أخذها أو أخذ قيمة الولد، فليس ذلك له، قال أشهب: عليه قيمة الولد يوم ولدوا. قال أصبغ: وبه آخذ. قال عيسى: وإنما له قيمتها يوم غصبها، أو يأخذها وحدها، وكذلك لو ماتت هي وبقي ولدها، فأراد أخذ الولد، لم يكن له غيرهم.
وإن أباهم فله قيمة الأم يوم غصبها، قال: فإن وجد الأمة عند الغاصب لم تلد، وهي بحالها وأحسن حالا، فليس له غيرها، وإن أراد تركها وأخذ قيمتها، فليس ذلك له، وإن وجدها قد نقصت، فأراد أخذها وأخذ ما نقص، فليس ذلك له، وليس له إلا أن يأخذها بعينها، أو يدعها ويأخذ قيمتها يوم غصبها، إلا أن يكون نقصانها من شيء صنعه بها الغاصب، من قطع يد أو رجل، أو فقي عين، أو قطع أذن، أو شيء جاء من قبل الغاصب، فيكون له حينئذ أن يأخذها ويأخذ ما نقصها، الذي صنع بها، أو يدعها ويأخذ قيمتها يوم غصبها، وإن كان ذلك من فعل غير(11/256)
الغاصب، فليس له إلا أن يأخذها ناقصة، ويتبع الذي فعل ذلك بها، أو يدعها ويأخذ قيمتها يوم غصبها، ويتبع الغاصب الذي فعل ذلك بها، قال: وإن وجدها عند المشتري الذي اشتراها وهي بحالها وأحسن حالا، فليس له إلا الثمن الذي باعها به، أو يأخذها بعينها من المشتري، وإن وجدها وقد باعها المشتري من آخر، ثم باعها الآخر من آخر أيضا، وهي بحالها وأحسن حالا فهو بالخيار في أخذ أي ثمن شاء من أثمانها التي بيعت بها، وتمضي الجارية لمشتريها، ويأخذ ذلك الثمن من الذي قبضه ويرجع الذي أخذ منه الثمن الذي باعه به إياها وإن شاء المستحق أخذ جاريته، وليس له أن يضمن الغاصب قيمتها.
قال محمد بن رشد: قول عيسى بن دينار في هذه المسائل كلها صحيح، على المشهور من مذهب ابن القاسم، ونص قوله وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وفي بعضها اختلاف من قول ابن القاسم وغيره، من ذلك قوله في أول المسألة في الغاصب إذا باع الجارية فاتخذها المشتري أم ولد: إن صاحبها المستحق لها، مخير على الغاصب في وجهين: إن شاء أخذ منه قيمتها يوم غصبها، وإن شاء الثمن الذي باعها به، ويجبر عليه أيضا في وجه ثالث، وهو أن يأخذ منه قيمتها يوم باعها، على قياس قوله بعد هذا، وقول ابن القاسم أيضا في المدونة في الغاصب يجني على العبد الذي غصبه: إن سيده يخير بين أن يأخذ قيمته منه يوم غصبه، وبين أن يسقط عنه حكم الغصب، ويطالبه بحكم العداء عليه بالجناية، فيأخذه وما نقصته جنايته عليه؛ لأن البيع عداء آخر، بعد الغصب، فيكون له أن يسقط عنه حكم الغصب، ويطالبه بحكم العداء عليه بالبيع فيكون من حقه أن يضمنه قيمته يوم البيع إن شاء؛ لأنه قد فات عنه المشتري، بمنزلة من عدا على رجل فباعه، ففات عند المشتري، إنه مخير بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن، وبين أن(11/257)
يضمنه قيمته يوم باعه. وقوله: إنه مخير على المشتري في وجهين، إن شاء أخذ جاريته وقيمة ولدها، يريد يوم الحكم، وإن شاء أخذ قيمتها وقيمة ولدها، يريد يوم الحكم أيضا، ويخير عليه أيضا في وجه ثالث، وهو أن يأخذ منه قيمتها يوم وطئها ولا شيء له من قيمة ولدها، حسبما بيناه في رسم القطعان، من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات. وإلى هذا القول رجع مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه حكم عليه في أم ولده محمد.
وقد حكى ابن عبدوس عن ابن كنانة أن الذي كان عليه مالك حتى مات، إنه يأخذها وقيمة ولدها، ولا اختلاف فيما ذكره من أنه ليس له أن يضمن المشتري قيمة من مات من الولد أم الأم إذ ليس المشتري بغاصب ولا متعد وإنما له أن يأخذ الأم، أو قيمتها، إن كان الأولاد هم الذين ماتوا، أو قيمة الأولاد إن كانت الأم هي التي ماتت، وما ذكره من أن الولد إذا مات عند الغاصب لا ضمان عليه فيهم، وأنه ليس لمستحق الأمة أن يأخذها وقيمة ولدها وإنما له أن يأخذها وحدها، أو يأخذ قيمتها يوم غصبها، معناه: إذا عرف موتهم، وهو مذهب ابن القاسم، لم يختلف قوله في أنه يلزمه رد الولد مع الأم، إن كانوا أحياء، وكذلك إن كان أكلهم أو استهلكهم ولا في أنه لا تلزمه القيمة فيهم، إذا ماتوا وعرف موتهم، وأما إذا ماتت الأمهات وبقي الأولاد، فليس له عنده أن يأخذ الأولاد ولا قيمتهم إن أكلهم أو استهلكهم ويضمنه قيمة الأمهات؛ لأنه إذا ضمنه قيمة الأمهات يوم الغصب، كان الولد إنما حدث فيما قد ضمن بالقيمة، وإن أراد أن يسقط عنه حكم الغصب، فيأخذ الأولاد أو قيمتهم، إن كان أكلهم أو استهلكهم يوم أكلهم أو استهلكهم، كان ذلك له، وكذلك الغلل المتولدة عن الشيء المغصوب عنده، يلزمه ردها إن كانت قائمة بعينها، ويضمنها إن أكلها أو استهلكها وإن تلفت ببينة، لم يكن للمغصوب منه أن يأخذ الأصول، ويضمنه قيمة الغلل التي تلفت، وإنما له أن يأخذ الأصول وحدها. وأما إن تلفت الأصول، فليس له أن يأخذ الغلة إن كانت قائمة، ولا قيمتها إن كان أكلها أو استهلكها،(11/258)
ويضمنه قيمة الأصول؛ لأنه إذا ضمنه الأصول يوم الغصب، كانت الغلة إنما حدثت فيما قد ضمن بالقيمة، فوجب أن يكون له، وإن أراد أن يسقط عن الغاصب حكم الغصب، فيأخذ الغلة إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كان قد أكلها أو استهلكها، كان ذلك له. وقد قيل في الغلل المتولدة عن الشيء المغصوب: إنها للغاصب لا يلزمه ردها إن كانت قائمة، ولا رد قيمتها إن كان أكلها؛ لأنه كان ضامنا للأصول لو تلفت، فكانت له بالضمان على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الخراج بالضمان» بخلاف الأولاد لا اختلاف في أن للمغصوب منه أن يأخذ الأولاد أو قيمتهم، إن أكلهم الغاصب أو استهلكهم، وأشهب يحكم الأولاد والغلل بحكم الأصول، فيضمنه القيمة في ذلك كله، وإن قامت البينة على تلف الولد يوم ولدوا، والغلل يوم صارت بيده، فيتحصل في الأولاد قولان: أحدهما: أنهم كالأمهات، والثاني: أنه لا يلزمه ضمانهم، إن ماتوا وعرف ذلك، ويلزمه ردهم مع الأمهات أورد قيمتهم إن أكلهم أو استهلكهم. وإن تلفت الأمهات، كان له الأولاد إذا ضمن قيمة الأمهات يوم الغصب، ويتحصل في الغلل المتولدة عن الشيء المغصوب ثلاثة أقوال: هذان القولان اللذان في الأولاد، والقول الثالث: إن الغلة تكون للغاصب بحكم الضمان وإن كان الأصل قائما لم يتلف. وأما الغلل التي ليست بمتولدة عن الشيء المغصوب، كالأكرية والخراجات، فيتحصل فيها ستة أقوال: أحدهما: إن حكمها حكم الأصول المغصوبة، فيلزمه ضمانها وإن تلفت ببينة؛ والثاني: إنها تكون له بالضمان، فلا يلزمه ردها جملة من غير تفصيل؛ والثالث: إنه يلزمه ردها جملة من غير تفصيل بين أن يكري أو يبيع أو يعطل؛ والرابع: إنه يلزمه ردها إن أكرى ولا يلزمه إن انتفع أو عطل؛ والخامس: إنه يلزمه إن أكرى أو انتفع ولا يلزمه إن عطل؛ والسادس: الفرق بين الحيوان والأصول، فتكون له الغلة في الحيوان بالضمان، ولا تكون في الأصول لأنها مأمونة. وقوله: إنه إن وجد الأمة عند الغاصب لم تلد، وهي بحالها أو(11/259)
أحسن حالا، فليس له غيرها، وإن أراد تركها وأخذ قيمتها فليس ذلك له، هو مذهب ابن القاسم. ظاهر قوله إن كانت رائعة إذ لم يفرق في ذلك بين أن تكون رائعة أو غير رائعة. وكذلك قال فيمن اشترى جارية من غاصب فأجاز ربها البيع، وقال المشتري: لا أقبلها لأنها غصب، إن البيع يلزمه، ولم يفرق بين أن تكون رائعة أو غير رائعة، وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب لا يلزمه؛ لأنه يقول: لا أرضى بجارية غيب عليها غصبا، وقد قيل في الجارية: إنه يضمن قيمتها بالغيبة عليها. حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون، وقال: إنه قول مالك وجميع أصحابه، ولم يفرق في ذلك أيضا بين أن تكون رائعة أو غير رائعة. قال أصبغ: وذلك إذا كانت رائعة، وقوله في التفرقة بين الرائعة وغير الرائعة في ذلك جيد. وأما العبيد والدواب فلا يلزم الغاصب قيمتهم إلا أن يفوتوا عنده بنقصان في أبدانهم، فيلزمه قيمتهم يوم الغصب. هذا مذهب ابن القاسم، وفي ذلك اختلاف كثير، قيل: إن حوالة الأسواق بالنقصان فوت يلزمه به قيمتهم يوم الغصب، وقيل إن طول الزمان فوت وإن لم تحل الأسواق أو حالت بزيادة يلزمه به قيمتهم يوم الغصب، وإلى هذا نحا ابن القاسم في المدونة بقوله: ولولا ما قال مالك لجعلت على الغاصب والسارق مثل ما أجعل على المستعير والمتكاري من تضمينه قيمتها بحبسه إياها على أسواقها أو أخذها وكراء ركوبه إياها، وقيل إنها إذا حالت بزيادة فلصاحبها أن يضمنه أرفع القيم؛ لأنه كان عليه أن يردها في كل وقت، فهو غاصب لها في الأوقات كلها، فيكون من حق صاحبها أن يضمنه قيمتها أي وقت شاء من الأوقات التي مرت عليه وهي عنده. حكى هذا القول ابن عبدوس عن ابن وهب وأشهب وذهب بعض المتأخرين إلى الفرق بين أن تكون إلى التجارة أو القنية، فإن كانت للتجارة كان عليه أرفع القيم كأنه حرمه بيعها في ذلك الوقت، وإن كانت للقنية لم يكن له شيء. وهذا نحو ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ فيمن غصب دارا فأغلقها أو أرضا فبورها أو دابة فوقفها أن عليه كراء ما حصل(11/260)
عليه من ذلك كله؛ لأنه حال بينه وبين كرائها ومنعه من ذلك. وقد حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ في الغاصب إذا سافر على الدواب التي اغتصبها السفر البعيد ثم ردها، فصاحبها مخير في القيمة يوم غصبها وإن كانت اليوم أحسن حالا؛ لأنه قد رمى بها القدر وعرضها الفوت، وفي أخذ دابته بعينها مع كراء ركوبه إياها. ومثل هذا حكى أبو زيد عن ابن الماجشون، وزاد قال: وإنما هو بمنزلة المكتري إن تعدى على ما اكترى، فانظر حيث يلزم المكتري القيمة فألزم ذلك الغاصب، أمرهما واحد. ولو كان الغاصب أمسكها في داره أياما كثيرة قدر ما لو سافر بها لزمته قيمتها، لم يلزمه في حبسه إياها قيمته إذا جاء بها صحيحة من غير سفر وإن كان قد حبسها عن أسواقها. وتفرقة ابن الماجشون هذه إذا حبس الغاصب الدابة عن أسواقها وأتى بها على حالها بين أن يسافر عليها في المدة التي حبسها فيها أو لا يسافر، قول خامس في المسألة، وسائر ما ذكره عيسى في الرواية بين لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: غاصب الأرض يحفر فيها حفرة تضر بالأرض أيؤمر بردمها]
مسألة قال: وسئل عن غاصب الأرض يحفر فيها حفرة تضر بالأرض أيؤمر بردمها إذا أستحقها صاحبها، قال: نعم، عليه ردمها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الأرض يمكن إصلاحها بردم ما احتفر فيها، فوجب ألا تفوت بذلك وأن يكلف الغاصب إصلاح ما أفسد منها. وهذا أبين من الثوب الذي يتعدى عليه الرجل فيحرقه حرقا يسيرا أنه يكلف إصلاحه وغرم ما نقصه بعد الإصلاح، ولو كانت الأرض إذا ردمها الغاصب لا تعود إلى حالها وينقص ذلك من قيمتها يتخرج ذلك على قولين: أحدهما: إنه ليس له إلا أن يأخذها على حالها أو يضمنه قيمتها يوم غصبها، والثاني: إن له إن يسقط عن حكم الغصب، ويطالبه بحكم العداء، فيكون من حقه أن يكلف ردمها وغرم ما نقصها ذلك بعد الردم،(11/261)
بمنزلة الثوب يتعدى عليه الرجل يحرقه، ولو كانت الحفرة مما ينتفع بها لاختزان الطعام لكانت للمستحق ولم يكن عليه فيها شيء للغاصب، إذ لا ثمن لذلك منقوضا، وإن استغنى عنها كان من حقه أن يأمر الغاصب بردمها. وبالله التوفيق.
[مسألة: ظالم أسكن معلما في دار رجل ليعلم له فيها ولده ثم مات الظالم]
مسألة قال عيسى في ظالم أسكن معلما في دار رجل ليعلم له فيها ولده ثم مات الظالم ومات المعلم، إن صاحب الدار مخير في كراء داره، إن شاء أخذه من مال الظالم، وإن شاء أخذه من مال المعلم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أسكن المعلم في الدار على وجه الإسكان ثوابا على تعليم ولده فيها، فصار قد اشترى سكنى الدار منه بتعليم ولده فيها، فوجب لرب الدار أن يأخذ كراء داره ممن شاء منهما، بمنزلة من أخذ طعام رجل فباعه من رجل وأكله المشتري، أن لرب الطعام أن يضمن طعامه لمن شاء منهما، فإن ضمن البائع صح الشراء للمشتري، وإن ضمن المشتري كان له أن يرجع بالثمن على البائع، وكذلك صاحب الدار في هذه المسألة، إن أخذ الظالم بكراء داره لم يكن له رجوع على المعلم، وإن أخذ المعلم به كان له أن يرجع على الظالم بقيمة تعليم ولده أو بما يقع من التعليم للكراء إن كان أكراه على تعليم ولده بالسكنى في الدار وبزيادة زاده على ذلك. وسواء علم المعلم بتعديه على الدار أو لم يعلم؛ لأنه منتفع، وهذا إذ لم يغصب الظالم رقبة الدار، وإنما غصب سكناها فقط. وأما إذا غصب الرقبة فليس لربها من كرائها شيء على واحد منهما، على القول بأن الغلة للغاصب جملة من غير تفصيل.
وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذا قبل هذا في هذه النوازل. وبالله التوفيق.(11/262)
[المعروف بالظلم يدعي الرجل أنه ظلمه في أرض غلبه عليها ولا يجد عدولا]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم، عن الرجل المعروف بالظلم للناس والتعدي عليهم في أموالهم، من ذوي السلطان والولاة، يدعي الرجل أنه ظلمه في أرض غلبه عليها، أو غير ذلك من الأموال، ولا يجد على دعواه عدولا من البينات، وهو يجد شهودا لا يعرفون بعدالة، ولا يوصفون بسخطة حال، أيقبل مثل هؤلاء على من عرف بالظلم والتعدي، أو لا يقبل عليه، إلا مثل من يقبل على غيره من عدول الشهداء؟ فقال: لا تجوز شهادة غير العدول على أحد من الناس، كان المشهود عليه ظالما أو غير ظالم. قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فلا ينبغي لغير العدول أن تجوز شهادتهم على أحد من الناس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه في المذهب، إن شهادة المجهول الحال لا تجوز شهادته حتى يعدل لقول الله عز وجل {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ولا يرضى إلا من عرفت عدالته، غير أن ابن حبيب أجاز شهادة المجهول الحال، على التوهم فيما يقع بين المسافرين في السفر للضرورة إلى ذلك، قياسا على إجازة شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح، ومراعاة للاختلاف، إذ من أهل العلم من يحمل الشاهد على العدالة حتى تعرف جرحته، على ظاهر قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حر ومجربا عليه شهادة زور" وهو قول الحسن ومذهب الليث بن سعد. وقد(11/263)
اتفقوا في الحدود والقصاص، على أن الشهادة لا تجوز في ذلك إلا بعد المعرفة بعدالة الشاهد، وهذا يقضي على ما اختلفوا فيه إن شاء الله. ومن أصحابنا المتأخرين من أجاز شهادة الشاهد المجهول الحال، في الشيء اليسير من المال، وهو استحسان على غير قياس، لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قوله: "والذي نفسي بيده، لا يوسر رجل في الإسلام بغير العدول". وبالله التوفيق.
[مسألة: عرفوا بالغصب لأموال الناس ثم جاء إليه بوال أنصف منهم]
مسألة قلت: إن قوما عرفوا بالغصب لأموال الناس، من ذوي الاستطالة بالسلطان ثم جاء إليه بوال أنصف منهم، وأعدى بالحقوق عليهم، فربما سئل طالب الحق قبل أحدهما البينة أنه اغتصبه الذي يدعي قبله، فلا يجدها على حضور الغصب ومعاينته، وهم يشهدون أنهم كانوا يعرفون الحق للمدعي وفي يديه، إلى أن صار إلى المطلوب ذلك قبله الظالم المعروف بالغصب، لا يدرون كيف صار ذلك إليه؟ إلا أن صاحب ذلك الحق كان يشكو أنه غصبه إياه، وكانوا يسمعون ذلك من جيرانهم، أو عسى أن لا يذكروا شيئا غير أنهم عرفوا ذلك في أيدي المدعي إلى أن صار إلى المطلوب به اليوم لا يدرون كيف صار ذلك إليه، أترى أن يعدى عليه بمثل هذه الشهادة؟ فقال: إذا كان المطلوب معروفا بما وصفت من التعدي على أموال الناس والقهرة لهم عليها، وهو ممن يقدر على ذلك، رأيت الذي وصفت من شهادة الشهداء، إذا كانوا عدولا، يوجب للمدعي أخذ حقه من المطلوب إلا أن يأتي الظالم ببينة على اشتراء صحيح أو عطية ممن كان يا من ظلمه وتعديه عليه، أو يأتي بوجه حق ينظر له فيه.(11/264)
قلت: أرأيت إن جاء بالبينة أنه اشترى منه، فزعم المدعي أن ذلك البيع إنما باعه منه من شدته وسطوته، وهو ممن يقدر على ضرره وعقوبته، لو امتنع من مبايعته؟ قال: أرى أن يفسخ ذلك البيع إذا ثبت عند القاضي أن المشتري موصوف بمثل ما زعم البائع من استطالته وظلمه، وأنه قد عمل ذلك بغيره.
قلت: فإن زعم البائع أنه إنما دفع إليه الثمن في العلانية، ثم دس إليه من يأخذه منه سرا، ولو لم يفعل لقي منه شرا قال: لا أرى أن يقبل قوله، وعليه دفع الثمن بعد أن يحلف الظالم بالله لقد دفع إليه الثمن ثم لم يرتجعه ولم يأخذه بعد دفعه إياه إليه.
قال محمد بن رشد: أما ما ذكره من أن الظالم المعروف بالغصب لأموال الناس والقهرة لهم عليها، لا ينتفع بحيازته مال الرجل في وجهه، ولا يصدق من أجلها على ما يدعيه من شراء أو هبة أو صدقة، وإن طال في يديه أعواما إذا أقر بأصل الملك لمدعيه أو قامت له بذلك بينة، فهو صحيح لا أعلم فيه اختلافا؛ لأن الحيازة لا توجب الملك وإنما هي دليل عليه توجب تصديق غير الغاصب فيما ادعاه من تصييره إليه؛ لأن الظاهر أنه لا يحوز أخذ مال أحد وهو حاضر لا يدعيه ولا يطلبه إلا وقد صار إلى الذي هو بيده إذا حازه في وجهه العشرة الأعوام ونحوها، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» معناه عند أهل العلم بدعواه مع يمينه، وأما الغاصب فلا دليل له في كون المال بيده وإن طالت حيازته له في وجه صاحبه، لما يعلم من غصبه لأموال الناس والقهرة لهم عليها. وأما إن أثبت الغاصب الشراء ودفع الثمني، فادعى البائع أنه أخذه منه في السر بعد أن دفعه إليه، فهو مدع لا دليل له على دعواه، فوجب أن يكون القول قول الغاصب المدعى عليه، كما قال في(11/265)
الرواية، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» وقد روي عن يحيى بن يحيى أنه قال: إذا ادعى البائع أنه أعطاه الثمن في الظاهر، ودس عليه من أخذه منه، فإنه ينظر إلى المشتري فإن عرف بالعداء والظلم والتسلط، فإني أرى القول قول البائع مع يمينه، لقد دفع إليه المال قهرة وغلبة، ويردها عليه بغير أن يرد إليه الثمن. وقاله ابن القاسم، ومع ذلك في بعض الروايات، وهو إغراق إذا أقر أنه قد دفع إليه الثمن، ثم ادعى أنه أخذه منه. وأما لو لم يقر أنه قبض الثمن، وقال: إنما شهدت له على نفسي بقبضه، تقية على نفسي، وخوفا منه، أشبه أن يصدق في ذلك مع يمينه، في المعروف بالغصب والظلم، وإنما يكون ما قال يحيى من تصديق البائع فيما ادعاه من أنه دس إليه في السر من أخذ الثمن منه، إذا شهد له أنه قد فعل ذلك بغيره. وبالله التوفيق اللهم لطفك.
[يغتصب العبد فيستحقه عنده المغتصب منه وقد جنى جناية]
ومن كتاب الصبرة وسئل ابن القاسم عن الرجل يغتصب العبد، فيستحقه عنده المغتصب منه، وقد جنى جناية عند المغتصب، فقال: صاحب العبد بالخيار، إن شاء أسلم العبد إلى المجروح، وأخذ قيمة عبده من الغاصب يوم غصبه إياه، وإن شاء افتدى عبده بعقل ما جنى وينظر إلى ما يرى أن الغاصب كان يغرمه لصاحب العبد من قيمة العبد لو اختار ذلك، وما يلزمه من عقل جناية العبد، إن أراد افتداءه، فيغرم لرب أقل ذينك الغرمين، وذلك أن الغاصب لا بد له من غرم أحدهما مع إسلام العبد لربه، أو للمجروح إن أراد سيد العبد أخذ قيمته، فلما ألزم الغاصب غرم قيمة العبد لسيده، وافتداء(11/266)
العبد من المجروح أو إسلامه إليه، رأينا سيد العبد أولى برقبته، وأغرمنا الغاصب لعداه وظلمه لسيد العبد، ما لم يكن له بد من غرمه لغيره، وأخذنا في ذلك بالأقل؛ لأنه وإن ظلم، فقد كان إن اختار سيد العبد قيمة عبده، أن يخرج عقل الجناية، فيفتدي بها العبد أو يسلمه أو يبرأ.
قلت له: فإن قال الغاصب: أنا أفتك العبد حتى يصير غير معيب ولا مأخوذ بعقل جناية، ولا متبع بها، ثم يأخذه سيده سليما كما اغتصبه إياه بها ذلك له. وهذا يشد القول الأول. أو لا نرى أن الغاصب الآن حين طلب العبد لسيده قد خرجت الرقبة من يده إلى سيد العبد وغرم عقل الجناية للمجروح فما حجة من زعم أن ليس للسيد إلا أن يأخذ بجنايته؟ فيكون قد خرجت الرقبة من يديه إلى المجروح وغرم القيمة للسيد، فالسيد أحق برقبة عبده، وبأقل الغرمين اللذين لا يجد الغاصب بدا من غرمهما على حال من الحال، غير أن السيد إن اختار القيمة وترك الرقبة لم يكن له إلا ذلك فقط، قال: وإن كانت جنايته عمدا.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن سيد العبد إن ترك أن يضمن الغاصب قيمة العبد يوم غصبه إياه، وافتدى عبده بعقل ما جنى يرجع على الغاصب بالأقل من قيمة العبد أو مما افتكه به، استحسان على غير حقيقة القياس، وقد ذكر وجهه بما لا مزيد عليه. والقياس قوله في كتاب الرهون من المدونة: إن سيد العبد بالخيار، إن شاء سلم العبد للغاصب وأخذ منه قيمته يوم اغتصبه، وإن شاء أن يفتكه بدية الجناية، ولا يتبع الغاصب بشيء مما وداه، وذلك أن جناية العبد المغصوب نقصان من(11/267)
قيمته، فلا فرق في القياس بين أن يجني جناية تكون نصف قيمته، أو تنقص من قيمته نصفها بعيب حدث فيه، فكما ليس لسيده أن يأخذه ويضمن الغاصب قيمة العيب الذي حدث به عنده، فكذلك ليس له أن يأخذه ويرجع عليه بما افتكه به. قال في الرواية: وإن كانت جناية عبد أو سكت عن الجواب في ذلك. وحكم العمد في ذلك حكم الخطأ، سواء إن كانت الجناية عمدا لا قصاص فيها، بأن تكون على حر أو عبد في الجراح التي هي متالف، كالجائفة والمنقلة والمأمومة؛ لأن سيده مخير بين أن يفتكه بجناية أو يسلمه بها، وكذلك إن كانت جنايته على عبد فيها القصاص، فلم يرد سيد العبد المجني عليه أن يقتص وأراد أن يأخذه بجنايته على عبده؛ لأن الخيار يرجع في ذلك إلى سيد العبد المجني عليه من العبد المغصوب فيما دون النفس من فقء عينه أو قطع يده وما أشبه ذلك، فليس لسيد العبد عليه من المغصوب منه إلا أن يأخذ عبده كما هو، أو يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه. وبالله التوفيق.
[يعدو على أرض الرجل فيزرعها ثم ينصف صاحب الأرض فيعدى على حقه]
ومن كتاب أول عبد أبتاعه فهو حر قال: وسألته عن الرجل يعدو على أرض الرجل فيزرعها، ثم ينصف صاحب الأرض فيعدى على حقه، في أوان لو شاء أن يعمل فيه أرضه أمكنه ذلك، ولم يمنع منها، فيترك الزرع، حتى إذا أمكن تنازع فيه الذي زرعه، والمقضي له بالأرض المتعدى عليه، فأراد أن يأخذه، ويغرم للمتعدي بذره أو قيمة بذره، فقال: صاحب البذر أحق بزرعه؛ لأن صاحب الأرض إذا أمكن من أرضه في أوان عمل فترك الزرع فيه، فهو الذي بذره وعليه كراء الأرض لربها.
قال: وإن دعا رب الأرض الغاصب إلى إن يقلع نباته ليزرعها رب الأرض، فترك الغاصب نزع نباته يابسا من منفعته، فبرئ من ذلك(11/268)
إلى رب الأرض، وقال: لا حاجة لي به فاصنع به ما شئت، فقال رب المال: أما إذ لا حاجة لك فيه فأنا أقره في أرضي ليكون لي منفعته، فلما بلغ تنازعا فيه. قال: أراه لصاحب الأرض؛ لترك الغاصب إياه يابسا من الانتفاع به لو نزعه؛ لأن رب الأرض إنما ترك عمل أرضه بما ترك له الغاصب من بنيانه.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال: إنه إذا أعدى على حقه، وهو أن يقلع زرع الغاصب ويزرع أرضه فلم يفعل، حتى أمكن الزرع، فليس له إلا كراء أرضه؛ لأنه لما ترك زرع الغاصب في أرضه، فقد رضي بأخذ الكراء منه فيها، ولا كلام في أنه إذا دعا رب الأرض الغاصب إلى أن يقلع زرعه فأبى من قلعه، إذ لا منفعة له فيه، وبرئ منه إلى رب الأرض، فقال له: اصنع له ما شئت إذ لا حاجة لي به، أن لرب الأرض أن يقره في أرضه ويكون له، بل ليس للغاصب أن يقلعه إذا لم يكن له فيه منفعة إن قلعه، ومن حق صاحب الأرض أن يجبر على قلعه، وإن لم تكن له فيه منفعة، إذ لا يلزمه قبول معروفه. واختلف إن كانت له فيه منفعة إن قلعه، هل يكون لرب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعا فيقر في أرضه، ويحوز ذلك، أم لا؟ على قولين. وقد قيل: إن الزرع لصاحب الأرض، وليس للغاصب أن يقلعه، وإن كانت له فيه منفعة إن قلعه؛ لأنه هو أهلك ماله. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس لعرق ظالم حق» حكى ذلك ابن عبد الحكم في مختصره عن مالك قال: والأول أحب إلينا.
وقد مضى القول على هذه المسألة في نوازل أصبغ من كتاب كراء الأرضين وفي رسم أول عبد أبتاعه فهو حر، من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق مستوفى. وبالله التوفيق.(11/269)
[يغتصب من الرجل صبرة من قمح فيريد الغاصب أن يصالح المغصوب]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب
قال سحنون: وسألت أشهب عن الرجل يغتصب من الرجل صبرة من قمح، فيريد الغاصب أن يصالح المغصوب على كيل من القمح، فقال أشهب: إن كان قد لزم الغاصب القيمة بحكم أو بصلح اصطلحا عليه، ثم أراد أن يأخذ منه بالقيمة التي وجبت له كيلا من القمح، فلا بأس به، قلت لأشهب: ولم قلت: إن كان ألزم القيمة وهو حين غصبها كانت له القيمة لازمة؛ لأنها مجهولة، وليست بكيل معلوم؟ ألا ترى لو أن المغصوب منه أتى بشاهدين يشهدان فيها عشرين إردبا لا شك فيها، فقال المغصوب منه: أعطني عشرين إردبا أعطيته، فمن ثم لا يجوز له أن يصالحه على كيل إلا بعد ما يلزمه القيمة، إلا أن يصالحه من الكيل، على ما لا شك فيه، قال أشهب: وكذلك إذا غصب خلخالي فضة أو غير ذلك، من هذا الوجه، وهو يحكم عليه في الخلخالين بقيمتهما من الذهب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، أما إذا صالحه على قيمة اتفقا عليها فيها، أو حكم عليه بها، فجائز أن يصالحه على ما شاء من الطعام، من صنف طعام الصبرة التي اغتصبها، أو من غير صنفها. وعلى ما شاء من العروض والحيوان، أو على دنانير إن كانت القيمة التي وجبت عليه دراهم، أو دراهم إن كانت القيمة دنانير، يعجل ذلك كله، ولا يؤخر شيئا منه؛ لأنه يكون آخره فسخ الدين بالدين، أو ذهبا بورق إلى أجل، وما لم يصطلحا على القيمة، فيجوز أن يصالحه في القيمة التي تجب له عليه في الصبرة بما شاء من العروض والطعام المخالف للصبرة، إذا تعجل ذلك، ويجوز له أن يصالحه على قمح من صفة قمح الصبرة، لا أرفع منه، إذا لم(11/270)
يشك أنه أقل مما كان في الصبرة من الكيل. واختلف هل يجوز أن يصالحه على أدنى من طعام الصبرة، مثل أن يصالحه على شعير، أو على محمولة، والصبرة سمراء، فأجاز ذلك أشهب، واختلف فيه قول ابن القاسم، فله في كتاب الصرف من المدونة: إنه لا يجوز أن يأخذ محمولة من سمراء أو أقل من مكيلته، ولا شعيرا من قمح، لأنه من بيع الطعام بالطعام متفاضلا، إذ قد يكون الشعير أنفق من القمح، والمحمولة أنفق من السمراء، لاختلاف الأغراض في ذلك، وروى يحيى عن ابن القاسم، في رسم الصبرة من سماعه من كتاب الدعوى والصلح، أن ذلك جائز، مثل أشهب، خلاف قوله في المدونة: ولو صالحه على سمراء أدنى من سمراء الصبرة المستهلكة أو على محمولة أدنى من محمولة الصبرة المستهلكة، لا يشك أنه أقل من كيل الصبرة، لجاز ذلك عندهما جميعا، إذ لا يمكن أن يكون رديء المحمولة أنفق من طيبها ولا رديء السمراء، أنفق من طيبها. وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: البر والقمح والرقيق يسرق فيجدها ربها في غير بلده]
مسألة وقال ابن القاسم: قال مالك في البر والقمح والرقيق يسرق، فيجدها ربها في غير بلده: قال: أما البر فالمسروق منه بالخيار، إن أحب أخذ بره، وإن أحب أخذ قيمته في الموضع الذي سرق منه، وأما الرقيق، فإنما له أن يأخذهم ليس له أكثر من ذلك، فأما الطعام فإنما يكون له في الموضع الذي سرق منه.
قال محمد بن رشد: تفرقته بين البر والرقيق، معناه في الرقيق الذين لا يحتاج إلى الكراء عليهم، فحكمهم على قول مالك هذا في نقل الغاصب لهم من بلد إلى بلد، حكم السلع، يكون ذلك فوتا يوجب للمغصوب منه أن يضمن الغاصب القيمة في ذلك كله يوم غصبه في البلد الذي غصبه فيه، وإن شاء أخذ متاعه بعينه ورقيقه بأعيانهم حيث وجدهم، وأما الرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم، والدواب التي إنما تركب أو تكرى فهي(11/271)
عنده بخلاف السلع، لا تفوت في الغصب بحملها من بلد إلى بلد، فليس للمغصوب منه إلا أخذها حيث وجدها. وسحنون لا يفرق في ذلك بين الدواب والرقيق والسلع، ويرى نقل ذلك من بلد إلى بلد، كاختلاف الأسواق، فلا يوجب للمغصوب منه في ذلك كله، إلا أخذ متاعه بعينه، حيث ما وجده من البلاد. ولأصبغ في سماعه بعد هذا من قوله، وظاهر روايته عن أشهب، ضد قول سحنون، إن ذلك كله فوت يكون المغصوب فيه بالخيار بين أن يضمنه القيمة في ذلك كله يوم الغصب في البلد الذي اغتصبه فيه، وبين أن يأخذ متاعه فيه بعينه، حيث ما وجده من البلاد، فهي ثلاثة أقوال: قولان متضادان، وتفرقة، وأما الطعام إذا حمله الغاصب من بلد إلى بلد، ففيه ثلاثة أقوال أحدها قول ابن القاسم، وروايته هذه عن مالك، إنه ليس للمغصوب منه إلا مثل طعامه في البلد الذي اغتصبه فيه. والثاني: إن المغصوب بالخيار، بين أن يأخذ طعامه بعينه حيث وجده، وبين أن يضمنه مثله في البلد الذي اغتصبه فيه منه. وهو قول أشهب في رواية أصبغ عنه في سماعه بعد هذا من هذا الكتاب، والثالث تفرقة أصبغ فيه، بين أن يكون البلد الذي نقله إليه الغاصب قريبا أو بعيدا. فإن كان قريبا كان له أن يأخذ طعامه بعينه، وإن كان بعيدا لم يكن له وبالله التوفيق.
[مسألة: استودع قمحا فتعدى عليه فحمله إلى بلد فأثأر به فأصابه وقد باعه المستودع]
مسألة وقال مالك في رجل استودع قمحا فتعدى عليه، فحمله إلى بلد، فأثأر به، فأصابه وقد باعه المستودع، أله أن يجيز البيع ويأخذ الثمن، أو يأخذ قمحه بعينه؟ قال: ليس ذلك له، وإنما له قمحه في الموضع الذي استودعه فيه.
قلت: لم؟ قال: لأن في ذلك زيادة، فليس له أن يأخذ منه الزيادة وإن كان متعديا؛ لأنه يقدر على مثله في مثل الموضع الذي استودعه فيه. قلت: فإن رضي رب الطعام والمتعدي، أن يعطيه(11/272)
مثل طعامه في الموضع الذي استحقه فيه، أو طعاما إن كان لم ينفقه، أو الثمن الذي بيع به الطعام قال: إذا رضيا فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في المسألة التي قبلها سواء، إذ لا فرق في هذا بين الوديعة والغصب والسرقة، يدخل في ذلك كله، الاختلاف الذي ذكرناه.
وقد مضت هذه المسألة في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الوديعة، والكلام عليها هناك مستوفى أيضا. وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: يبيع العبد غصبا ثم يموت سيد العبد فيكون الغاصب وارثه]
مسألة وقال ابن القاسم في الرجل يبيع العبد غصبا ثم يموت سيد العبد، فيكون الغاصب وارثه، ثم يريد أن يرجع في العبد، قال: ذلك له، وكذلك الدار بين الرجلين، فيبيعها أحدهما كلها، ثم يموت الآخر، وهو لا يدري. وهذا وارثه، فيريد الرجوع في النصف، والأخذ بالشفعة. قال: ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن الوارث يحل محل الموروث، وينزل منزلته في الحقوق الواجبة له، فإذا ورث الغاصب العبد الذي غصبه، بعد أن باعه قبل أن يعلم المغصوب منه بيعه إياه، فيختار إجازة البيع وأخذ الثمن، كان للغاصب ما كان للمغصوب منه من أخذ العبد وفسخ البيع، وكذلك قال في آخر كتاب بيع الغرر من المدونة في المودع، يتعدى على الوديعة فيبيعها، ثم يموت المودع. وهذا وارثه. إن له أن يرد البيع ويأخذ الوديعة التي باع، لنزوله في ذلك بالميراث منزلة المودع الموروث. وهي كمسألة الغصب سواء والميراث، بخلاف الشراء، لو باع الغاصب العبد الذي اغتصبه ثم اشتراه من المغصوب منه لزمه البيع، ولم يكن أن يرده ويأخذ العبد. قاله في كتاب الغصب من المدونة. والفرق بين المسألتين أن الميراث(11/273)
أمر أوجبه الله، لم يجره هو إلى نفسه، والشراء هو جره إلى نفسه باختياره، وليس له أن يتسبب إلى نقض البيع بذلك، وأيضا فإن شراءه إياه منه بحال منه من صنيعه. وإذا أخذ منه الثمن فيه، فكأنه قد أخذ منه القيمة، وهذا كله بين، وكذلك الدار تكون بين الأخوين، فيبيعها أحدهما كلها، ثم يموت الآخر، وهو وارثه، فينزل منزلته بالميراث في أن له أن يأخذ نصف الدار بالاستحقاق، فينقض فيه البيع، ويرد ثمنه إلى المبتاع، ويأخذ النصف الثاني بالشفعة، وإن أراد أن يأخذ النصف بالاستحقاق، ويترك الأخذ بالشفعة، كان ذلك له، وإن أراد أن يمضي البيع ويترك الدار كلها للمشتري كان ذلك له. وبالله التوفيق: لا رب سواه.
[الأمير الغاصب لأموال الناس إذا عزل فقام الناس يدعون مما في يديه]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
وسئل عن الأمير الغاصب لأموال الناس، إذا عزل، فقام الناس يدعون مما في يديه شيئا، فقال: إذا أثبتوا شيئا من أموالهم، فإن الأمير يكلف البينة بأي شيء تصير إليه ذلك الشيء، فإن أتى بالبينة، وإلا لم يكن له شيء. قيل له: فإن أقام الأمير البينة أنه قد حاز هذه الدار والقرى عشر سنين، والخمس عشرة سنة، والعشرين، في وجوه هؤلاء الذين ادعوها، ولم يأت ببينة أنه اشترى، فقال: ليس يستحق بحوزه، وهو سلطان غاصب شيئا، وهو كمن لم يحز. قيل له: وإن لم يشهد الطالب في طول ولايته في السر، أي إنما ترك القيام خوفا منه، لم يضره ذلك في حيازة السلطان في وجهه، فقال: نعم، لا يضره. ولو كان أشهد في السر، لكان أفضل وأقوى، قيل له؛ فإن مات الأمير وهو أمير بحاله، لم يعزل حتى مات، ثم قام على ورثته مكانه حين مات، فأثبت أن هذه الدار كانت له، هل يكلف الورثة ما كلف أبوهم أن(11/274)
يثبتوا بأي شيء تصير إلى أبيهم؟ فقال: لا يكلفون ما كلف أبوهم، وعلى الطالب البينة أن السلطان كان غصبه منه، بعد أن قيم البينة أن هذا الشيء كان له، قيل له: وما يكون حال هذا الأمير فيما أكل من هذه القرية وغرس وبنى؟ أيأخذه مقلوعا وتكون عليه الإجارة، ويكون كالرجل الغاصب، أم لا؟ وإنما أقام المستحق البينة أن هذا الشيء له، ولم يقم البينة أنه غصبه، وقد قلت: إنه إذا أثبت البينة أن الشيء شيئه سألت الأمير البينة بأي شيء صار في يديه؟ فإن أتى ببينة أنه تصير إليه بحق من الحقوق كان ذلك له، وإلا جعلت الأموال للذي أثبت أصلها، ولم يكلفه البينة، أنه غصبها ولا غير ذلك، وجعلتها له، قال: لا يكون حاله حال الغاصب فيما اغتل وفيما غرس، إلا أن يقيم المستحق البينة أن السلطان غصبها منه، وإلا لم تكن له غلة ما استحق ولا كراء، وللأمير الغاصب قيمة ما بنى وغرس قائما لا مقلوعا، فإن طلب المستحق أن يعطيه ذلك مقلوعا قيل له: فأثبت البينة أنه غصبك هذه الأشياء، فيكون لك ما يكون للمغصوب منه. ويكون عليه ما يكون على الغاصب، وإلا لم يكن لك إلا أرضك، وله ما بنى وغرس قائما.
قال محمد بن رشد: قوله إن السلطان المعروف بالغصب لا ينتفع بحيازة مال الرجل في وجهه مدة تكون الحيازة فيها عاملة إذا أقر بالملك لغيره أو ثبت ذلك عليه وادعى أنه اشترى منه، صحيح مثل ما تقدم لابن القاسم في أول رسم من سماع يحيى. وقد مضى هناك بيان وجه ذلك، فلا معنى لإعادته. وأما قوله: إن ورثته لا يكلفون ما كلف أبوهم من إقامة البينة على الوجه الذي صار إليه به، وإن كان قام عليهم مكانه حين مات، ففيه نظر؛ لأنه جعلهم ينتفعون بحيازته، وهي غير عامدة على القائم من أجل أنه ظالم، فكان القياس أن يكلفوا إقامة البينة على الوجه الذي تصيرت به الدار إلى موروثهم كما كان(11/275)
يكلف ذلك موروثهم، إلا أن يكون قيامه عليهم بعد أن مات أبوهم بمدة تكون لهم حيازة، فلا يلزمهم ذلك، ويكون القول قولهم مع أيمانهم: لقد اشتراها وما غصبها، أو ما يعلمون بأي وجه صارت إلى أبيهم، ولا أنه غصبها على الاختلاف في هل ينتفع الورثة بحيازتهم دون أن يدعوا الوجه الذي تصيرت به إلى موروثهم، أو لا ينتفعون بها، إلا أن يدعوا ذلك كموروثهم سواء؟ إلا أن يأتي المستحق بالبينة أنه غصبها، فإن أتى بذلك استحق داره إلا أن يأتوا ببينة تشهد لهم أنه اشتراها منه بعد الغصب شراء صحيحا بعد أن ردها إليه، أو وهو قد عاد ممن تجري عليه الأحكام. وقد مضى بيان هذا المعنى في أول رسم من سماع يحيى. وأما قوله: إن الأمير المعروف بالغصب لا يكون حاله حال الغاصب، لا فيما استغل ولا فيما بنى وغرس، فهو صحيح أيضا؛ لأن الغلة قد قيل إنها للغاصب، وإن ثبت الغصب عليه لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الخراج بالضمان» ؛ لأنه لفظ عام مستقل بنفسه، فيحمل على عمومه فيما كان بوجه شبهة وبغير وجه شبهة، على القول بأن اللفظ العام المستقل بنفسه الوارد على سبب يحمل على عمومه، ولا يقصر على سببه الذي خرج عليه من الرد بالعيب، فكيف إذا لم يثبت عليه الغصب؟ وكذلك ما بنى وغرس له قيمة ذلك قائما كما قال، ما لم يثبت عليه الغصب لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس لعرق ظالم حق» وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول للرجل كنت غصبتك ألف دينار إذ كنت صبيا]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يقول للرجل: كنت غصبتك ألف دينار إذ كنت صبيا، قال: تلزمه. قيل له: فإن قال كنت أقررت لك بألف دينار إذ كنت صبيا، فقال: يلزمه أيضا، وهو عندي مثل الأول.
قال محمد بن رشد: أما الذي قال: كنت غصبتك ألف دينار إذ كنت صبيا، فلا اختلاف في أن ذلك يلزمه؛ لأنه أقر أنه فعل في صباه ما يلزمه، إذ لا اختلاف في أن الصبي ضامن لما أفسد وكسر، وكذلك ما اغتصب فأتلف.(11/276)
وأما الذي قال: كنت أقررت لك بألف دينار إذ كنت صبيا فيتخرج ذلك على قولين: أحدهما وهو الأصح: أنه لا يلزمه ذلك إذا كان كلامه نسقا متتابعا. وعلى ذلك يأتي قول ابن القاسم في المدونة: إذا قال لزوجته قد طلقتك وأنا صبي إنه لا يلزمه شيء، وكذلك إذا قال لها: قد طلقتك وأنا مجنون إذا كان يعرف بالجنون. وإذا أقر بالخاتم لرجل وقال: الفص لي أو بالبقعة وقال البنيان لي وكان الكلام نسقا؛ والثاني: أنه يلزمه وإن كان الكلام نسقا متتابعا؛ لأنه يتهم أن يكون استدرك ذلك ووصله بكلامه ليخرج عما أقر به. وعلى ذلك قول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه في تفرقته بين أن يقول: لفلان علي ألف دينار وعلى فلان وفلان، وبين أن يقول: لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف دينار، قال: لأن الأول أقر على نفسه بألف دينار، فلا يقبل قوله بعد ذلك، وعلى فلان وفلان وإن كان الكلام نسقا متتابعا. وعلى قول ابن القاسم في هذه المسألة يأتي قول سحنون في هذه الرواية، وهو قول ضعيف، وما في المدونة أصح وأولى بالصواب.
فالمسألتان مفترقتان، وإنما كان يكون قوله: كنت أقررت لك بألف دينار، إذ كنت صبيا، مثل قوله: لو قال كنت استسلفت منك ألف دينار، إذ كنت صبيا؛ لأن الوجهين جميعا، يستويان في أنهما لا يلزمانه في حال الصبا. وبالله التوفيق.
[مسألة: أكره رجلا أن يدخل بيت رجل يخرج منه متاعا فأخرج له ما أمره]
مسألة وسئل سحنون عن رجل من العمال، أكره رجلا أن يدخل بيت رجل يخرج منه متاعا يدفعه إليه، فأخرج له ما أمره به، فدفعه إليه، ثم عزل ذلك العامل الغاصب، ثم أتى المغصوب منه المتاع، يطلب ما غصب منه. هل يكون له أن يأخذ بماله من شاء وإن شاء الآمر وإن شاء المأمور؟ فقال: نعم له أن يأخذ بماله من شاء منهما. قيل له: فإن أخذ ماله من الذي أكره(11/277)
على الدخول هل يرجع هذا الذي غرم على العامل الذي أكرهه على الدخول؟ فقال: نعم. قيل له: فإن عزل الأمير الغاصب، وغاب المغصوب منه المتاع، فقال: هذا المكره على الدخول في بيت الرجل على الأمير الغاصب بهذا المتاع، ليغرمه إياه، ويقول المأخوذ به إذا جاء صاحبه هل يعدى عليه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الإكراه على الأفعال التي يتعلق بها حق لمخلوق، كالقتل والغصب، لا يصح بإجماع، وإنما يصح فيما لا يتعلق به حق لمخلوق من الأقوال باتفاق، ومن الأفعال على اختلاف.
وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق. وأما قوله بأنه يقضي للمكره على الدخول في بيت الرجل، على العامل بالمال؛ لأنه هو المأخوذ به، ففيه نظر، والذي يوجبه النظر أن يقضي له بتغريمه إياه، ولا يمكن منه، ويوقف لصاحبه. وبالله التوفيق.
[مسألة: اغتصب دابة رجل فاستعملها فأغرمه رب الدابة الكراء]
مسألة وسئل عن رجل اغتصب دابة رجل، فاستعملها، فأغرمه رب الدابة الكراء، كراء ما استعملها، هل يحاسب الغاصب بالعلف؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا قوم كراؤها على أن علفها على صاحبها، وأما إن قوم كراؤها على أن علفها على المكتري، فلا يحاسبه بالعلف؛ لأنه قد انحط قدره من الكراء، وعلى هذا يجب أن يقوم، فهو أولى وأقل عمى. وفي وجوب الرجوع عليه بكراء ما استعملها اختلاف قد مضى تحصيله في نوازل عيسى فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.(11/278)
[مسألة: يغتصب الدابة ولا يعملها في شيء ولا يكريها ثم استحقها ربها]
مسألة قال سحنون في الرجل يغتصب الدابة ولا يعملها في شيء، ولا يكريها وإنما حبسها على مذودها، ثم استحقها ربها هل يكون له من كرائها شيء؟ قال: لا يكون له كراء مثلها إذا لم يسخرها.
قال محمد بن رشد: إنه يجب عليه كراء ما عطلها. وهو قول ابن الماجشون.
وقد مضى هذا في نوازل عيسى فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له بيضة من دجاجة ميتة أو دجاجة حية فيغصبها منه رجل]
مسألة وسئل سحنون عن رجل يكون له بيضة من دجاجة ميتة، أو دجاجة حية فيغصبها منه رجل، فيحضنها تحت دجاجة، فيخرج منها فرخ. قال: الفرخ لرب البيضة، وللغاصب عليه قدر ما حضنت دجاجته، كانت البيضة من ميتة أومن حية.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة على أصله، في أن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر، وهي رواية ابن غانم عن مالك، ويأتي فيها على قياس القول بأن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب العمل والأرض، إن الفرخ للغاصب، ويكون عليه لرب البيضة مثلها، وعلى هذا يأتي قول ابن القاسم في سماع سحنون، من كتاب الشركة، في الرجل يأتي بحمامة أنثى والآخر بحمامة ذكر، على أن تكون الفراخ بينهما، وفي الرجل يقول للرجل: اجعل هذا البيض تحت دجاجتك، فما كان من فراخ فهو بيننا، إن الفراخ تكون لصاحب الدجاجة، ولصاحب البيض بيض مثله. وبالله التوفيق.(11/279)
[مسألة: غصب عبدا فأتى رب العبد بالبينة أنه غصبه]
مسألة قال سحنون: قال مالك في رجل غصب عبدا فأتى رب العبد بالبينة أنه غصبه، وهو في رجل اشتراه من الغاصب، فلما أقام البينة مات العبد في يدي المشتري، فقال: المصيبة من الذي استحقه، قال سحنون: وأنا أقول: إن المصيبة من المشتري حتى يحكم به للذي غصبه.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا هو مذهبه في موطئه وقول ابن القاسم وروايته عنه في رسم مرض من سماع ابن القاسم، من كتاب الاستحقاق، وقول غير ابن القاسم في كتاب الشهادات من المدونة. وقول سحنون، هو قول ابن القاسم، في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح، وهو قول أشهب في المبسوطة والذي يأتي على قول مالك في المدونة: إن الغلة للذي هي في يديه، حتى يقضى بها للطالب، فهي مسألة اضطرب فيها قول مالك، وابن القاسم.
وقد مضى تحصيل الاختلاف في الحد الذي يدخل به الشيء المستحق في ضمان المستحق، في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، من كتاب الاستحقاق، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: اغتصب عبدا فجنى العبد عند الغاصب فأتى سيده فأخذه]
مسألة قال سحنون في رجل اغتصب عبدا فجنى العبد عند الغاصب، فأتى سيده فأخذه، ولم يعلم بجنايته عند الغاصب، ثم جنى العبد عند سيده على رجل آخر، فأتى المجني عليه الأول، إذا كان في يده الغاصب وأتى المجني عليه الآخر، الذي جنى عليه وهو في يدي صاحبه، ما يكون على السيد، وما يكون للسيد(11/280)
على الغاصب، والجنايتان سواء؟. قال سحنون: يقال للسيد: قد صارت الجنايتان في رقبة العبد،. وصار العبد بينهما، فإن شئت فخذ الغاصب نصف قيمة العبد، ويكون كعبد بين رجلين، جنى فيخيران، فإن أحبا أسلماه، وإن أحبا افتكاه. ومن أحب منهم أن يفتك افتك، ومن أحب أن يسلم أسلم. وإن افتكه السيد بالجنايتين لم يضمن الغاصب شيئا كذلك قال ابن القاسم، وقال غيره: يرجع على الغاصب بالأقل من نصف القيمة، أو نصف الجناية.
قال محمد بن رشد: بنى سحنون جوابه في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم في المدونة إن العبد إذا جنى عند الغاصب، فسيده مخير بين أن يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه، وبين أن يأخذه مجنيا ولا شيء له على الغاصب، وبنى غيره وهو أشهب، جوابه فيها على قول ابن القاسم في رسم الصبرة من سماع يحيى المتقدم، في أن العبد المغصوب إذا جنى عند الغاصب، فسيده مخير، بين أن يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه، وبين أن يفتكه ويرجع على الغاصب بالأقل من قيمته أو ما افتكه به فرأيا أن العبد قد فات نصفه عند سيده بجنايته عنده، لاستواء الجنايتين، فيلزمه بما أخذه به من نصف القيمة، والنصف الثاني هو فيه مخير، بين أن يأخذ قيمته، وبين أن يأخذه مجنيا عليه، ولا شيء له على الغاصب عند سحنون، على مذهب ابن القاسم في المدونة، وعند غيره على مذهب ابن القاسم في سماع يحيى، يرجع على الغاصب بأقل من قيمته أو ما ود في الجناية التي جناها عبده، وهي نصف الجنايتين كما قال، لأنهما مستويتان. وفي ذلك من قولهما جميعا نظر؛ لأن العبد يفوت جميعه عند سيده بجنايته عنده، كرجل ابتاع عبدا فجنى عنده جناية، ثم اطلع على عيب به؛ لأن السيد أخذ العبد بالقيمة الواجبة على الغاصب يوم الغصب، فجنى عنده جناية، ثم اطلع على أنه قد كان جنى عند الغاصب، فالذي يوجبه النظر في ذلك على منهاج قولهم، إن السيد(11/281)
يرجع على الغاصب بقيمة عيب الجناية التي جناها عنده. ووجه العمل في ذلك، أن يقوم العبد بعيب الجناية، وسالما منها، فما كان بين القيمتين من الأجزاء، ثلث أو ربع أو خمس، رجع رب العبد على الغاصب في القيمة التي أخذ العبد منه فيها بذلك الجزء، وإن كانت الجناية تستغرقه، ولا قيمة له بها رجع عليه بجميع قيمته، وكان الغاصب مخيرا بين أن يفتكه بجنايتين، أو يسلمه بهما، وهذا إذا كان العبد قد فات عند الغاصب بغير الجناية التي لم يعلم بها، فأخذ عبده وقد كان له أن يضمن الغاصب قيمته يوم الغصب، وأما إن كان لم يفت عند الغاصب فأخذه صاحبه ولم يعلم بالجناية، ثم جنى عنده فاطلع على الجناية التي كان جنى عند الغاصب، فالحكم فيه على ما يوجبه القياس والنظر، أن يكون مخيرا بين أن يرده الغاصب، أو يضمنه قيمته يوم الغصب؛ لأنه يقول: لو علمت أنه جنى لم آخذه، وقد كنت مجبورا على أخذه، إذ لم يسلم بجنايته، ويكون الغاصب فيه مخيرا بين أن يفتكه بالجنايتين جميعا، أو يسلمه لهما، وإن شاء سيد العبد تمسك بعبده، وافتكه بالجنايتين أو أسلمه بهما. فإن أسلمه بهما وهما سواء، رجع على الغاصب بنصف قيمة العبد، وإن افتكه بهما، رجع على الغاصب بالأقل من نصف قيمته، أو نصف الجنايتين، على الاختلاف المذكور في ذلك، وإنما كان يصح جوابهما لو كانا عبدين مغصوبين، فجنى أحدهما عند الغاصب، فأخذهما سيدهما، ولم يعلم بجناية الجاني منهما، ثم جنى الآخر عنده. وبالله تعالى التوفيق.
[اغتصب من رجل طعاما بعينيه في غير البلد]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع قال أصبغ: سمعت أشهب، وسئل عمن اغتصب من رجل طعاما بعينيه، في غير البلد، أله أخذه؟ قال: نعم، له أخذه إن شاء، وإن تركه وأخذ منه مثله بتلك البلدة التي اغتصبه فيها. قال أصبغ: قال ابن القاسم: ليس له أخذه، ويؤخذ بمثله يعطيه بموضعه الذي اغتصبه به، ويصنع به هو ها هنا ما شاء. قال(11/282)
أصبغ: وأنا أرى إن كان البلد البعيد، فالقول ما قال ابن القاسم، وعليه أن يوثق له بحقه، قبل أن يخلى بينه وبينه، وإن كان الموضع القريب، مثل بعض الأرياف والقرى، فأرى له أخذه وإن كره، والظالم يحمل عليه بعض الحمل، ولا كل. قال أصبغ: قيل لأشهب، فالعروض، قال كذلك يأخذها إن شاء، أو يأخذ قيمتها، ثم أن ليس عليه ردها. قال أصبغ: يأخذ العروض إن شاء؛ لأنها سلع بأعيانها، ولا سروالها كالجارية بعينها، والدابة والثوب، ولا شيء عليه من حمولتها، ولا نفقة يغرمها، مع أخذها ولا على المغتصب ردها وحملانها راجعا بها، وإن شاء المغصوب تركها وأخذ قيمتها حيث غصبها، ليس حيث يأخذها، كالعين إذا تغيرت كانت له قيمتها، وما ذلك بالقوي فيه كغيره في القياس والاستحسان أحب إلي، وأرى أن البلدان أغير إذا كانت بعيدة، وإن لم تتغير في الأبدان إذا حملها إلى البلدان والآفاق.
قال محمد بن رشد: ساوى أشهب في هذه الرواية بين الطعام والبز والعروض والحيوان في أن للمغصوب منه أن يأخذه حيث ما وجده من البلاد، وذلك خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك، فإنه فرق بين الطعام والعروض والحيوان في ذلك، وفرق أيضا بين العروض والحيوان، مثل الدواب التي لا يكرى على حملها، ووافقه سحنون في الطعام، وخالفه في العروض والحيوان، فيتحصل في العروض والحيوان ثلاثة أقوال، وفي الطعام بتفرقة أصبغ ثلاثة أقوال أيضا.
وقد مضى تحصيل ذلك كله، وبيانه وشرحه في سماع سحنون فلا معنى لإعادته. والله الموفق.(11/283)
[سرق عبدا فباعه]
ومن كتاب البيوع والصرف قال أصبغ: سألت ابن القاسم يقول فيمن سرق عبدا فباعه: إن السيد إن أجاز البيع وأخذ الثمن، فلا كلام للمشتري في رده، وهو له لازم، والعهدة في ذلك على السيد، وليس على السارق منه شيء. وقال أصبغ: وذلك ما لم يدخل البيع فوت، ولا العبد، فإن دخل ذلك الفوت حتى يكون المستحق مخيرا في الثمن أو القيمة، ليس في العبد لفواته، فاختار القيمة من السارق، فالعهدة للمشتري على السارق، وإن اختار الثمن، فالعهدة عليه أيضا.
قال محمد بن رشد: اختلف في الغاصب أو السارق يبيع الشيء: المغصوب أو المسروق، فيأتي صاحبه فيستحقه، ويجيز البيع، ويأخذ الثمن، هل تنتقل العهدة على الغاصب إليه أم لا؟ على قولين؛ أحدهما: أنها تنتقل إليه، فات العبد أو لم يفت، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية، إذ لم يفرق فيها بين أن يفوت العبد أو لا يفوت، ودليل ما في كتاب الاستحقاق من المدونة في الذي يستحق الدار من يد المشتري، وقد أكراها السنة مضت منها ستة أشهر، إن له أن يمضي الكراء لباقي المدة، ولا حجة للمكتري في انتقال العهدة إليه، إذ لا ضرر في ذلك عليه من أجل أنه إنما يؤدي بحسب ما يسكن، فإن انهدمت الدار خرج ولم يكن عليه شيء، كما لو كانت عهدته على الأول، وإن كان قد نقد الكراء، كان من حقه أن يسترجع كراءه، فيودي بحساب ما يسكن، إلا أن يكون المستحق مليا أو يأتي بحميل ملي، فيأخذ الكراء. هذا معنى قوله في المدونة دون لفظه، وهذا إذا لم تف البقعة مهدومة إن انهدمت الدار بالكراء، وأما إن وفت بها، فمن حقه أن يأخذ الكراء. قاله بعض شيوخ صقلية، وهو صحيح؛ لأن البقعة تكون في يده، كالرهن فيما قدم من الكراء إن انهدمت الدار. قال: وإنما يكون له أن يأخذ الكراء، إذا كان مليا، إذا كان قد علم بأن المكتري قد نقد الكراء، وكانت(11/284)
سنة الكراء على النقد، وأما إن لم يعلم بذلك، ولا كانت سنة الكراء على النقد، فليس له أن يأخذ الكراء معجلا، وإنما يأخذ بحساب ما يسكن؛ لأنه يحملك عليه، إذا لم يعلم بذلك، ولا كانت سنة الكراء على النقد، على أنه إنما أجاز الكراء وأمضاه، على أن يأخذ منه بحساب ما يسكن، فليس له أن يتعجل كما كان عجل للأول، والثاني: إن العهدة لا تنتقل عن الغاصب، حكى هذا القول سحنون عن مالك، وعاب ما وقع في المدونة من احتجاج المكتري بانتقال العهدة، قال: إذ لا تنتقل على مذهب مالك، وإنما تنتقل عنده في القيام، فأحرى ألا تنتقل في الفوات، وهو دليل ما وقع في كتاب الغصب من المدونة من أن المستحق إذا أجاز البيع، لزم المشتري الشراء، ولم يكن فيه خيار؛ لأن الذي يوجبه النظر إذا انتقلت العهدة عن البائع إلى المستحق، أن يكون المشتري بالخيار، إن كانت ذمة المستحق معيبة بعدم أو حرام؛ لأن من حقه أن يقول لا أرضى أن أعامل من لا ذمة له، أو من استغرقت ذمته الحرام. فقول ابن القاسم في هذه الرواية: إن أجاز المستحق البيع، انتقلت العهدة إليه، ولزم المشتري الشراء، معناه: إن كانت الذمتان متساويتين، أو كانت ذمة المستحق أوثق من ذمة السارق. وقول أصبغ: وذلك ما لم يدخل البيع فوت، إلى آخر قوله صحيح؛ لأن العبد إذا فات حتى لم يكن للمستحق أخذه، فلا خلاف في أن العهدة على السارق، لا تنتقل عنه إلى المستحق، اختار أخذ القيمة من السارق أو الثمن، ولا سبيل له إلى العبد لفواته، وكان القياس إذا لم يفت العبد بوجه من وجوه الفوت، أو فات بزيادة، ألا يختلف في أن العهدة تنتقل إلى المستحق، إذ ليس له أن يضمن الغاصب قيمته، فكأنه هو البائع له، اللهم إلا أن يقال: إنه إذا باعه على أنه له، فقد رضي بالتزام الدرك. إن جاء له طالب، وهو بعيد. وإنما يتصور الاختلاف في انتقال العهدة إذا أجاز المستحق البيع، إذا كان العبد قد فات، فكان سيده مخيرا بين أن يضمن الغاصب أو السارق قيمته يوم الغصب أو السرقة، وبين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن، وبين أن يأخذ عبده. فوجه القول(11/285)
بأن العهدة لا تتنقل عن الغاصب، إن العبد قد فات، ووجبت فيه القيمة يوم الغصب، وإنما أخذ الثمن إذ رأي أنه أفضل له من القيمة، ولم يقصد إلى اختيار أخذ العبد وإمضاء البيع فيه. ووجه القول بأن العهدة تنتقل عن الغاصب إلى المستحق، هو أنه لما ترك أن يضمن الغاصب القيمة وأخذ الثمن، فقد قصد اختيار أخذ العبد وإمضاء البيع فيه، فاحفظ، إنها ثلاثة أوجه، إذا أجاز المستحق البيع، وأخذ الثمن، وجه تنتقل العهدة فيه باتفاق، ووجه لا تنتقل فيه باتفاق، ووجه تنتقل فيه على اختلاف، هذا الذي يوجبه النظر الصحيح عندي في هذه المسألة، وقد كان من تقدم من الشيوخ لا يحصلها هذا التحصيل، ويذهب إلى أن في انتقال العهدة عن البائع إلى المستحق، ثلاثة أقوال: قول إنها لا تنتقل وقول إنها تنتقل، والفرق بين أن يكون العبد قائما أو فائتا، ولا يفرق في الفوات بين أن يكون للمستحق أن يأخذه، وبين أن لا يكون له أن يأخذه، وإذا أخذ المستحق القيمة من الغاصب، فالعهدة عليه باتفاق لأن العبد قد وجب له بالقيمة التي أخذت منه فيه، فإن استحق العبد من يد المشتري من الغاصب، على القول بأن العهدة لا تنتقل عن الغاصب، فرجع المشتري على الغاصب بالثمن، رجع به الغاصب على المستحق، فالإعذار فيما أثبته المستحق الثاني على المشتري من الغاصب، إنما يكون على المستحق الأول، الذي يرجع عليه الغاصب، لا على الغاصب؛ لأن من حجته أن يقول: أنا لا أدفع على من أرجع، فإن خاصم ودفع، لم يكن له رجوع إلا على اختلاف قد مضى ذكره في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق. والذي يفوت العبد عند مشتريه من الغاصب فوتا لا يكون للمغصوب أن يأخذه، هو أن تذهب عينه، أو أن يحصل في بيع حال، لا يجوز بيعه من إباق أو مرض مخوف، على القول بأنه لا يجوز بيع المريض؛ لأنه إذا أخذه يكون مبتاعا له بما وجب له على الغاصب من القيمة أو الثمن، ويتخرج في هذا قولان على اختلافهم في الذي يبيع العبد فيابق عند المشتري، ثم يفلس، هل يكون للبائع أن يأخذ عبده(11/286)
ويترك محاصة الغرماء أم لا؟ على ما يوجبه القياس. وبالله التوفيق.
[يغتصب أرضا فيقيم عليها البينة فيشهدون له أنها أرضه ولا يعرفون الحدود]
ومن كتاب الأقضية والحبس قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم وسئل عن الذي يغتصب أرضا فيقيم عليها البينة، فيشهدون له أنها أرضه، ولا يعرفون الحدود، قال: يسجن المشهود عليه، ويضيق عليه مع هذه الشهادة، حتى يبين له حقه، ولا يكون للمشهود له شيء، إلا بشيء يثبت، ويعرف بشهادة أو إقرار، فإن بين له شيئا وقال: هذا حقه، حلف عليه. قال أصبغ: أو يحدها غير المشهود ويشهدون على الحدود فيجوز. قال أصبغ: وإن لم يبين واستبرى بحبس وتشديد، وأنكر الجميع، أحلف كما يحلف المدعى عليه بغير شهادة، ولم يكن للآخر قليل ولا كثير بتلك الشهادات.
قال محمد بن رشد: رواية أصبغ هذه، خلاف لرواية يحيى عن ابن القاسم، من كتاب الاستحقاق. وأما رواية عيسى عن ابن القاسم المتقدمة في هذا الكتاب، فهي مسألة أخرى وليست بمخالفة لهذه، ولا لرواية يحيى من كتاب الاستحقاق، بدليل أن أصبغ قد روى عن ابن القاسم في كتاب العروض من مجالسه كرواية عيسى حرفا بحرف. وأن ابن القاسم قال في المجموعة بمثل رواية عيسى، وزاد قال: ولو شهدوا على الأرض، ولم يثبتوا الحوز، فذكر نص رواية يحيى عنه. وقد قيل: إن المسألتين سواء، وإن الخلاف داخل أيضا في مسألة عيسى.
وقد مضى تحصيل هذه المسألة وافية من الخلاف في سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، فلا معنى لإعادته وبالله تعالى التوفيق. لا شريك له سبحانه وتعالى وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد.(11/287)
[كتاب الحوالة والكفالة] [يشتركون في صفقة فيريدون بيعها فيعطي أحدهم شيئا على أن تكون عهدته عليه]
من سماع ابن القاسم رواية سحنون من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك عن القوم يشتركون في الصفقة من الرقيق، فيريدون بيعها، فيعطي أحدهم بعض أصحابه شيئا على أن تكون عهدته عليه. قال: هذا حرام لا يحل، ومن أخذ من ذلك، رده إلى أصحابه، وكانت التباعة على من كانت عليه. وهذه الحمالة بالجعل، وقال مالك: الحمالة بالجعل حرام، وإنما هي بمنزلة من باع من رجل سلعة، فقال رجل أجنبي للبائع: هل لك أن تعطيني دينارين؟ على أنه إن تبع السلعة تباعة لأحد، فأنا ضامن لتلك التباعة، فإن تمت، كان الذهب بالذهب متفاضلا، وإن لم تتم أخذ له باطلا، كأنه قال: أعطني خمسة في خمسين، أغرمها إن تبع السلعة تباعة.
قال الإمام القاضي: قوله في هذه المسألة: على أن تكون عهدته عليه، معناه: على أن يكون عليه بما أعطاه ما للمشتري من العهدة عليه، ليرجع عليه إن استحقت السلعة من يديه، بما كان له(11/289)
أن يرجع به عليه: ثلث الثمن، إن كان له ثلث السلعة أو ربعه إن كان له الربع منها أو أقل من ذلك أو أكثر. وقوله: وهذه الحمالة بالجعل، إذ ليس بحمالة على الحقيقة؛ لأن الحميل إذا أدى يرجع على المتحمل عنه بما أدى عنه. ووجه الشبهة بينهما، أنه جعل على الغرر فيهما جميعا الحميل أخذ الجعل على أنه إن طلب بالحمالة، فإذا رجع بما أدى فكان ذلك ربى وغررا، وملتزم العهدة عن غيره أخذ الجعل على أنه إن استحقت السلعة غرم، ولم يرجع بما غرم، فكان أيضا ربى وغررا، إلا أنه إن غرم كان الذهب بالذهب متفاضلا إلى أجل، وإن لم يغرم كان له الجعل باطلا، واشتراط البائع على المشتري أن تكون عهدته على رجل سماه، يقتضي الانبتات بينهما وأنه لا تباعة له عليه بحال. فهذا على ذلك محمول، حتى يتبين أن ذلك على سبيل الحمالة، هذا ظاهر هذه الرواية، خلاف ما حكى ابن حبيب عن أصبغ من اشترط العهدة على محمول سماه على الحمالة، حتى تبين أنه أراد الانبتات منه. والانبتات له عليه، فيكون البيع فاسدا لأنه ذمة بذمة. وعلى ظاهر هذه الرواية، لو اشترط البائع على المشتري أن عهدته تلي رجلا سماه برضاه دون جعل، جعله له لجاز، وإن شرط الانبتات منه ولم يكن ذلك ذمة بذمة، وهو أظهر، إذ لم ينتقل من ذمة إلى ذمة إذا كان ابتاعه إياه دون البائع مشترطا عليه في أصل البيع، وإنما كأن يكون ذمة بذمة، لو وقع البيع دون شرط ثم تحول بالعهدة على غيره، فإذا تحمل الرجل بجعل يأخذه من الطالب أو من المطلوب بعلم الطالب، سقطت الحمالة ورد الجعل. وأما إن تحمل بجعل يأخذه من المطلوب بغير علم الطالب، فالجعل ساقط، والحمالة لازمة. قاله مطرف وابن الماجشون، وابن وهب وأصبغ في الواضحة، وابن(11/290)
القاسم فيهما، وفي كتاب ابن المواز وكذلك إذا التزم العهدة عن البائع للمشتري، بجعل يأخذه من المشتري، أو من البائع، بعلم المشتري، فالجعل مردود والالتزام ساقط، فترجع العهدة على البائع. وأما إن كان الجعل من البائع بغير علم المشتري، فالجعل مردود، والالتزام لازم. فقوله في هذه الرواية: وما أخذه من ذلك رده إلى صاحبه، وكانت التباعة على من كانت عليه، معناه عندي: إذا علم المشتري بما عاقده البائع عليه، وأما إن لم يعلم بذلك، فمن حجته أن يقول: أنا لم أشتر إلا أن تكون تباعتي وعهدتي عليك، فلا أرضى أن تكون على البائع. وقوله في آخر المسألة: وإنما هو بمنزلة رجل باع من رجل سلعة إلى آخر قوله، تنتظر صحيح؛ لأن هذه المسألة التي ذكرها أشبه بمسألة التزام العهدة عن البائع على جعل، من مسألة الحمالة بالجعل؛ لأنه يرجع في الحمالة بما أدى، ولا يرجع في هاتين المسألتين بما يؤدي.
وقد مضى في رسم سلم دينارا في ثوب إلى أجل، من كتاب السلم والآجال، تحصيل القول في المشتري يشترط العهدة فيما اشترى، على البائع الأول، وفي حكم التولية والشركة في ذلك، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: أحاله بحق له على رجل وتبين أنه لم يكن للغريم قبله ذلك المال]
مسألة وقال مالك فيمن أحال رجلا بحق له على رجل، ثم تبين له أنه لم يكن للغريم قبله ذلك المال كله الذي أحاله به عليه قال: يكون ماله قبله حولا، وما بقي حمالة، يتبع بهما الغريم أيهما شاء.
قال محمد بن رشد: جعل في هذه الرواية الحوالة على غير أصل دين كالحمالة، فقال: إن له أن يتبع أيهما شاء، على قول مالك الأول في أن(11/291)
للذي له الدين في الحمالة أن يتبع أيهما شاء، وفي ظاهر ألفاظ المدونة في هذا اختلاف، مرة قال: إن ذلك كالحمالة، ولا سبيل له إلى المحال عليه، حتى يوجد للغريم مال، على قول مالك الثاني الذي اختاره ابن القاسم. ومرة قال: يبدأ بالذي أحيل عليه. فإن أفلس رجع على الذي أحاله، وذهب ابن الماجشون إلى أنه لا رجوع له عليه بحال، كالحوالة على أصل دين، وهو بعيد؛ لأنه إذا كان من حق المحال عليه أن يرجع على المحيل بما أدى عنه، فما الذي يمنع صاحب الحق أن يرجع عليه إذا فلس؟ فيتحصل في الحوالة على غير أصل دين أربعة أقوال؛ أحدها: إن له أن يأخذ أيهما شاء، وهو قول مالك في هذه الرواية، والثاني: إنه لا سبيل له إلى المحال عليه، إلا في عدم المحيل، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة على ما اختاره من قول مالك في تفدية الغريم بالغرم على الحميل في الحمالة. والثالث عكس هذا القول؛ لأنه لا سبيل له إلى المحيل، إلا في عدم المحال عليه. وهو أحد القولين الظاهرين من المدونة ومن قول مالك وابن القاسم في المسألة التي بعد هذا. ووجهه، أنه جعل لفظ الحوالة كشرط التبدئة في الحمالة، والقول الرابع: إنه لا رجوع له على المحيل بحال، كالحوالة على أصل دين. وهو قول ابن الماجشون. وبالله التوفيق.
[مسألة: أحال غريما على عبده أو مكاتبه فأفلس أو عجز]
مسألة وقال مالك فيمن أحال غريما على عبده أو مكاتبه، فأفلس أو عجز، يرجع على السيد، فيقتضي منه حقه. قال ابن القاسم: وذلك إذا أحاله من غير دين يكون للسيد عليهما، فأما إن كان عليهما دين، والعبد مأذون له في التجارة، فليس له أن يرجع على سيدهما؛ لأن دين عليهما كأنه على أجنبي يحاص الغرماء بما(11/292)
كان له عليهما، إذا أفلسا أو ماتا، وكذلك قال مالك في العبد المأذون له في التجارة: إن سيده يحاص بما كان عليه للغرماء، وإذا لم يكن له عليهما دين يجال به، فهما بمنزلة الحميلين.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم. وذلك إذا أحاله من غير دين يكون للسيد عليهما، مفسر لقول مالك، وفي قول مالك: فأفلس أو عجز إنه يرجع على السيد، فيقضي منه حقه دليل على أنه لا رجوع له عليه، إلا أن يفلس أو يعجز، وذلك خلاف قول ابن القاسم في آخر المسألة. وذلك إذا لم يكن له عليهما دين أحال به فهما بمنزلة الحميلين؛ لأنه إذا كان عنده بمنزلة الحميلين، فلا شيء للغريم المحال عليهما، إلا في عدم السيد المحيل له، على ما اختاره من قولي مالك، أو يكون له أن يأخذ من شاء منهما على قول مالك الأول، وما تقدم من قوله في المسألة التي قبل هذا.
وقد مضى القول على ذلك، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[رهن رهنا وضعه على يدي رجل وأبى الذي وضع على يديه أن يتحمل بالحق]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا
قال: وسئل مالك عن رجل رهن رهنا وضعه على يدي رجل، وأبى الذي وضع على يديه أن يتحمل بالحق، إلا أنه كتب عليه في آخر الكتاب: وعلى فلان إذا طلب فلان ماله، فإن على فلان أن يأتيه به سالما من كل علقة أو تبعة، بنقص حقه من كل أحد من الناس، أتراها حمالة؟ قال: نعم هي حمالة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الذي أباه أولا قد رجع إليه آخرا بما كتب عليه في آخر الكتاب، وأشهد به على نفسه، مما لا معنى له سوى الضمان.
وقد مضى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الرهون، القول في إذا(11/293)
قال: أنا ضامن لرهنك، ولما نقص من رهنك، ولرهنك ولما نقص من حقك. فتأمله، فإن فيه تمام هذه المسألة. وبالله التوفيق.
[يشتري الجارية من الغريب فإذا كان بعد يوم أو يومين سأله المعرفة]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل وسئل مالك عن الرجل يشتري الجارية من الغريب، فإذا كان بعد يوم أو يومين، سأله المعرفة. قال مالك: ليس ذلك له، إلا أن يشترط ذلك عند بيعه. ثم قال: أرأيت أهل منى أيراد منهم معرفة؟ ليس ذلك عليهم.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: سأله المعرفة أي سأله أن يأتيه بمن يعرفه، مخافة أن يكون قد غصبه الجارية، أو يفتات على صاحبها في بيعها، أو تواطأ معها على بيعها وهي حرة، وما أشبه ذلك، فلم أنظر هذا الوجه. وذلك يلزمه أن يشترط ذلك عليه عند البيع. واستدل على ذلك بالعرف الجاري في أن أهل البادية يأتون بالإبل والغنم، فيبيعونها ولا يكلفون حميلا بمعرفتهم، إذ لا يجدون من أهل الحاضرة من يعرفهم. فقد دخل معهم المشتري على الجهل، وكذلك أهل منى وهم الحاج الذين يقدمون مكة؛ من جميع الآفاق، فلا يكلفون حميلا بمعرفتهم، إذ لا يجدون من أهل مكة من يعرفهم، إلا أن يشترط ذلك عند البيع، فإن اشترط ذلك على أحد منهم عند البيع، أعطاه حميلا بوجهه. قال ذلك ابن دحون، وفي ذلك من قوله نظر؛ لأن حمل الوجه لا يلزمه إلا إحضار الوجه، وقد يكون هذا الذي سرق الجارية أو غصبها، أو افتات على صاحبها في بيعها، أو تواطأ معها على بيعها، وهي حرة وما أشبه ذلك، فلا يكون له منفعة في إتيانه به معدما، وهو لما اشترط المعرفة فقد اشترط الثقة، فيلزمه عندي أن يعطيه حميلا بوجهه، إن لم يكن هو المعتدي فيها، وبالمال إن كان هو السارق لها والمتعدي فيها.. ولو قال له رجل عند البيع: اشتر منه فإنه ثقة، ولم يلزم له(11/294)
ضمان، فوجد سارقا لها، لجرى ذلك على الاختلاف في الغرور بالقول، هل يضمن به أو لا؟. وبالله التوفيق.
[كانت له دنانير على رجل قد حلت ولغريمه مثلها دنانير على رجل إلى شهر]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت وسئل مالك عن رجل كانت له دنانير على رجل قد حلت، ولغريمه مثلها دنانير، على رجل إلى شهر. قال مالك: إن كانت قد حلت فلا بأس به أن يتحول على غير غريمه إلى أجل، وإن كان حقه إلى أجل، فأراد أن يحيله على رجل بدين له عليه. حال. قال مالك: لا أحب ذلك، إلا أن يحتال بما قد حل من دينك فيما حل وفيما لم يحل، ولا يحتل بما لم يحل فيما قد حل وفيما لم يحل، قال ابن القاسم: وقال مالك: احتل بما قد حل من دينك، فيما حل وفيما لم يحل، ولا يحتل بما لم يحل فيما قد حل، وفيما لم يحل. قال ابن القاسم يريد دنانير من دنانير، وثيابا من ثياب تشبه صفته التي حل له، فأما إن كان من غير صفته بذلك الدين، فالدين لا يحل على حال من الحال.
قال الإمام القاضي؟ قول ابن القاسم في هذه المسألة: يريد دنانير من دنانير أو ثيابا من ثياب.، تشبه صفته التي حل له، فأما إن كانت من غير صفته، فذلك الدين بالدين لا يحل على حال من الحال. تفسير لقول مالك لأن الحوالة بيع من البيوع، إلا أنها خصصت من عموم «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق إلا مثلا بمثل يدا بيد» ومن عموم(11/295)
نهيه عن الدين بالدين بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ومن اتبع على ملي فليتبع» لما كانت على سبيل المعروف، وكما خصصت الشركة والتولية والإقالة في الطعام المكيل والموزون، من عموم نهيه عن بيع الطعام قبل أن يستوفى لما كان على سبيل المعروف، فإن دخل الحوالة وجه من وجوه المكايسة، رجعت إلى الأصل فلم تجز. والحوالة جائزة في جميع الديون إذا تساوت في الوزن والصفة، وحل الدين المحال به؛ لأنه إن لم يحل كان ذمة بذمة، ويدخله ما نهى عنه من الكالئ بالكالئ، إلا أن يكون الدين الذي ينتقل إليه حالا، ويقبض ذلك مكانه قبل أن يفترقا، مثل الصرف فيجوز ذلك، وسواء كانت الديون من بيع أو قرض أو تعد، إلا أن يكونا جميعا طعاما من سلم، فلا تجوز الحوالة بأحدها على الآخر، حلت الآجال أو لم تحل، أو حل أحدهما ولم يحل الآخر؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى استوت رؤوس أموالهما أو لم تستو، خلافا لأشهب في قوله: إذا استوت رؤوس أموالهما، جازت الحوالة وكانت تولية، فإن كان أحدهما من قرض والآخر من سلم، لم تجز حوالة أحدهما في الآخر، حتى يحلا جميعا عند ابن القاسم. وأجاز ذلك من سواه من أصحاب مالك، إذا حل المحال به، بمنزلة إذا كانا جميعا من سلف، وينزل المحال في الدين الذي أحيل به، منزلة من أحاله، ومنزلته في الدين الذي أحيل به، فيما يريد أن يأخذ به منه أو يبيعه به من غيره. وقد شرحنا هذا في كتاب المقدمات. وبالله التوفيق.(11/296)
[مسألة: كان له على غلام لرجل دين وكان قد تحمل به سيده فباعه]
مسألة وسئل مالك عن رجل كان له على غلام لرجل دين، وكان قد تحمل به سيده، فباعه، وانتزع ماله، فقال غريمه لسيده: اقض حقي قد بعت الغلام، قال: ليس ذلك له حتى يبلغ الأجل، وليس له أن يعطيه قبل الأجل.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: القياس، لا يجوز له نزع ماله؛ لأنه للغرماء ولهم مقال، يقولون: نخاف أن تفلس أنت، وإنما يجوز أن يبيعه بماله ويتبع الغرماء ذمته وماله، كأن بائعه يشترط أن عليه دينا فيما في يديه، فإذا حل الأجل قبض الغرماء دينهم مما في يد العبد، فإن بقي لهم شيء، رجعوا به على بائعه؛ لأنه تحمل به، فإن كان عديما اتبعوا بذلك من شاءوا: العبد أو السيد. وقول ابن دحون صحيح، ولو لم يتحمل به سيده، لم يكن له أن ينتزع ماله إن كان العبد مأذونا له في التجارة؛ لأن من استدان المأذون به في التجارة من دين، يكون فيما كان بيده من المال، قبل أن يأذن له في التجارة. وفيما بقي في يديه بعد خراجه، فليس له أن ينتزع ذلك منه ويبطل الدين، إذ ليس له أن يسقطه عن ذمته. وأما إن كان غير مأذون له في التجارة، فلسيده أن ينتزع ماله؛ لأن ما استدان العبد المحجور عليه من دين بغير إذن سيده، فله أن يسقط ذلك من ذمته، وإذا كان له أن يسقط من ذمته، فأحرى أن يكون له انتزاع ماله. وقول ابن القاسم في المدونة: إن ما لزم ذمة العبد، لا يكون فيما بقي في يديه بعد خراجه، وإنما يكون فيما وهب له أو تصدق به عليه، أو أوصي له به فقبله، معناه: في العبد الذي لم يؤذن له في التجارة، وفيما لزم ذمته مما ليس لسيده أن يسقطه عنه؛ لأن ما لسيده أن يسقط عنه عن ذمته، لا يؤخذ مما وهب له، أو تصدق به عليه، إلا بإذنه، فإن لم يسقط ذلك عن ذمته حتى يعتق، أتبع به دينا بعد العتق. والمأذون له في التجارة، ويكون ما لزم ذمته فيما بقي في(11/297)
يديه من عمله بعد خراجه إن كان سيده استعمله بخراج معلوم يؤده إليه. فقف على الفرق في هذا بين المأذون له في التجارة وغير المأذون له فيها، وعلى الفرق في غير المأذون له في التجارة بين أن يكون ما لزم ذمته مما للسيد أن يسقط ذلك عنها، أو مما ليس له أن يسقط ذلك عنها.
وسيأتي في رسم إن خرجت من سماع عيسى مسألة من معنى هذه. سنتكلم عليها إذا وصلنا إليها إن شاء الله وبه التوفيق.
[يبيع من الرجلين السلعة ويكتب عليهما أن عليهما حقه ثم سافر أحدهما ومات الآخر]
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال وقال مالك في الرجل يبيع من الرجلين السلعة، ويكتب عليهما أن عليهما حقه، أيهما شاء، أخذ بحقه حيهما عن ميتهما، ثم سافر أحدهما ومات الآخر، قال مالك: أرى أن يأخذ صاحب الدين من مال الميت حقه كله، ويتبع الورثة الآخر بما عليه. قال مالك: ولو أن الميت لم يكن له مال، فأراد صاحب الحق أن يأخذ من الباقي حصته الذي مات، لم يكن له حتى يحل حقه، إنما هو حميل، وليس لورثة الميت أن يأخذوا منه شيئا حتى يحل أجله. قال ابن القاسم: وذلك رأيي.
قال محمد بن رشد: قوله: يبيع من الرجلين السلعة، معناه: إلى أجل، على ما ظهر من جوابه في المسألة. وقوله: إذا مات أحدهما أن صاحب الدين يأخذ من مال الميت حقه كله، صحيح؛ لأن النصف عليه في خاصته، فيحل عليه بموته باتفاق، والنصف هو به حميل، فيحل عليه بموته على ما في المدونة. وفي ذلك اختلاف، روى ابن وهب عن مالك، أنه يوقف حق الطالب من مال الميت، فإذا حل الأجل قبضه إن لم يأت الغائب، فإن أتى رد نصف ما أوقف على الورثة،(11/298)
وودى الغائب النصف، وذلك إذا رضي الطالب بذلك. هذا نص رواية ابن وهب عن مالك في هذه المسألة، وفي قوله فيها: يوقف حق الطالب من مال الميت نظر؛ لأن الذي يوجبه النظر ويقتضيه القياس، أن يأخذ نصف حقه معجلا، وهو الذي يجب له على الميت في خاصة نفسه، ويوقف النصف الثاني، وهو الذي يجب عليه بالضمان، حتى يحل الأجل، فإذا حل قبضه إن لم يأت الغائب، فإن أتى رد ما وقف على الورثة، وودى ذلك الغائب وقوله. وذلك إذا رضي بذلك الطالب صحيح، إذ من حقه أن يأخذ ما وقف له، إذا حل الأجل، وإن أتى الغائب وكان مليا، لشرطه أن يأخذ أيهما شاء بحقه. وقوله في الرواية: ولو أن الميت لم يكن له مال، فأراد صاحب الحق أن يأخذ من الباقي حصة الذي مات، لم يكن ذلك له، حتى يحل حقه، هو نص ما في المدونة من أن الكفيل، لا يحق عليه الحق بموت المتكفل به المطلوب، ولا اختلاف في هذا أحفظه، وإنما الاختلاف هل يحل على الرجل بموته ما عليه من الكفالة الموجبة؟ حسبما ذكرناه وقوله في آخر المسألة: وليس لورثة الميت أن يأخذوا منه شيئا حتى يحل أجله، راجع إلى قوله في المسألة الأولى: ويتبع الورثة الآخر بما عليه، فلو اتصل به لاستقام الكلام، وارتفع الإشكال. وبالله تعالى التوفيق.
[كانت له عند رجل مائة درهم فسأله أن ينظره ويتحمل له بها حميل]
من سماع أشهب وابن نافع
رواية سحنون من كتاب أوله بيع ثم كراء قال سحنون: سمعت أشهب وابن نافع يقولان: سئل مالك عمن كانت له عند رجل مائة درهم، فسأله أن ينظره ويتحمل له بها حميل. قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: معناه: إذا كان مليا والوجه في جواز ذلك أنه لو شاء أخذ حقه منه معجلا، فإذا أخذه على أن يتحمل له به حميل، أو يعطيه(11/299)
به رهنا، فذلك بمنزلة أن لو أسلفه إياه ابتداء، على أن يأخذ منه به حميلا أو يرهنه به رهنا، ولو كان معسرا، إن قام عليه، لم يجد عنده إلا بعض حقه، لما جاز أن يؤخره بالجميع، على أن يعطيه به حميلا أو رهنا؛ لأنه يصير سلفا جر منفعة، إذ لو لم يؤخره وقام عليه بحقه، لوجب أن يؤخره ببعضه؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فيصير إنما أخره بما كان يجد عنده من حقه، لو قام عليه على أن يعطيه رهنا أو حميلا بالباقي، وذلك لا يجب عليه، وقد وقع في رسم البيوع من سماع أشهب، من كتاب المديان والتفليس، مسألة قال فيها بعض الشيوخ: إنها معارضة لهذه، وليست بمعارضة لها؛ لأن المعنى فيهما مختلف. وقد بينا ذلك هنالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال الحميل أنا أتحمل لك وتضع عشرة دراهم]
مسألة قلت: أرأيت لو قال الحميل أنا أتحمل لك، وتضع عشرة دراهم؟ قال: لا يصلح ذلك، بمنزلة أن لو قال: أعطني عشرة دراهم من دينك وأنا أتحمل لك، قال: لا يصلح، وذلك ذمة بذمة.
قال محمد بن رشد: الجواب في هذه المسألة صحيح والتعليل فاسد، إذ ليس ذلك ذمة بذمة، إنما هو غرر وجعل على سلف، قد يكون ولا يكون، إذ لا فرق بين أن يتحمل الحميل على عشرة يشترطها لنفسه أو لغيره؛ لأنه إذا فعل ذلك، كان قد أخذ العشرة لنفسه، أو لمن يشترطها له، على أن يؤدي عن المطلوب الحق، إن طلب به على وجه السلف عنه، ثم يرجع به عليه، وذلك ما لا يجوز باتفاق.
وقد مضى في أول مسألة من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب،(11/300)
الحكم في ذلك إذا وقع فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[له عليه ذكر حق فسأله بيعا فأبى إلا بحميل فجاءه بحميل ثم مات الغريم]
ومن كتاب الأقضية قال: وسئل فقال له: كان لي على رجل ذكر حق فسألني بيعا فأبيت إلا بحميل، فجاءني بحميل، فكتبت حمالته، وكتبت عليهما ذكر حق، أيهما شئت أن آخذ بحقي أخذته، ثم مات الغريم، فبعت كل شيء هو له، حتى استوفيت ثلثي مالي عليه، ثم سألني ورثته أن أحلله ففعلت، ثم ذهبت أن أتقاضى الحميل، ما كان يحمل لي به، فقال: ليس لك علي شيء قد.... حتى حللت الذي تحملت لك به، فقال مالك: أرى أن يكون ما قد وصل إليك من المالين جميعا، يعني بالحصص، وتحلف بالله ما وضعت إلا للميت، ثم تكون على حقك.
محمد بن أحمد: هذه مسألة حايلة إذ لا يصح أن يسقط الدين عن المحمول عنه، ويبقى على الحميل؛ لأن الحميل إنما يؤدي عن المحمول عنه ما يجب عليه ويتبعه به، فإذا أسقط الدين عنه، سقط عن الحميل، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: إنه إنما ألزمه اليمين، من أجل الدين الذي كان له بغير حمالة، فيحلف أنه ما حلله إلا من دينه الذي كان بغير حمالة، قال: ولو كان الدين كله بحمالة، فأخذ بعضه، وحلل الميت من الباقي، لم يكن له تبع على الحميل، إذ لا حجة له ها هنا، أن(11/301)
يقول: إنما حللته من ديني الذي كان بغير حمالة، وهو تأويل تصح عليه المسألة، فينبغي أن تحمل عليه، وإن كان بعيدا من ظاهر لفظها، إذ يقتضي أنه حلل الميت من جميع ما بقي له من دينه، ما كان منه بحمالة، فالظاهر من قول مالك: إنه حلفه أنه لم يرد إلا تحليل الميت لا تحليل الحميل، لا على أنه أراد تحليل الميت من بعض الورثة دون بعض وبالله التوفيق.
[مسألة: كان له ذكر حق على رجل إلى أجل فأخذ منه به حميل]
مسألة وسئل عمن كان له ذكر حق على رجل إلى أجل، فأخذ منه به حميلا، فلما حل الأجل، أخر غريمه بحقه عليه سنة مستقبلة فقال الحميل لصاحب الحق: قد انفسخت حمالتي، أخرته عن الأجل الذي تحملت لك إليه، أيفسخ ذلك الحمالة؟ فقال: لا والله الحمالة عليه كما هي، من تحمل له، لم يقدر أن ينظر غريمه، قيل له: يقول له الحميل: أنت أهلكت حقك، وأنظرته سنة حتى أفلس، وذهب ما في يديه، فقال: من تحمل له لم يستطع أن ينظر غريمه عليه الحمالة لو شاء هو قام عليه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة أصلها في المدونة ووقعت ها هنا. وفي رسم أوله عبد ابتاعه من سماع يحيى بعد هذا، وفي ظواهر ألفاظها في المواضع المذكورة اختلاف.
وتحصيل القول فيها: إن المطلوب إذا أخره الطالب، فلا يخلو من أن يكون مليا أو معدما، فإن كان معدما، لم يكن للكفيل في ذلك كلام، ولزمته الحمالة قولا واحدا، وهو نص قول غير ابن القاسم في المدونة. وإن كان مليا فلا يخلو الأمر من ثلاثة أوجه: أحدها أن يعلم بذلك فينكر، والثاني أن يعلم بذلك فيسكت، والثالث ألا يعلم بذلك حتى يحل الأجل الذي أنظره إليه، فأما(11/302)
إن علم بذلك فأنكر، فلا تلزمه الكفالة. ويقال للطالب: إن أحببت أن تمضي التأخير على ألا كفالة لك على الكفيل، وإلا فاحلف أنك ما أخرته إلا أن يبقى الكفيل على كفالته، فإن حلف لم يلزمه التأخير، وإن نكل عن اليمين لزمه التأخير، والكفالة ساقطة على كل حال. هذا مذهب ابن القاسم في المدونة. وإن كان سكت فيها عن اليمين. وقد قيل: إن الحمالة ساقطة بكل حال، وهو قول الغير في المدونة. وقيل: إنها لازمة بكل حال. ففي هذا الموضع على ما بيناه ثلاثة أقوال. وأما إذا علم بذلك حتى حل الأجل، فسكت، فالحمالة لازمة له. قاله في المدونة. وهو ظاهر قوله في هذه الرواية، وفي سماع يحيى بعد هذا. ويدخل في هذا الاختلاف المعلوم في السكوت، هل هو كالإقرار أم لا؟ وأما إن لم يعلم بذلك حتى حل الأجل، فيحلف صاحب الحق ما أخره ليبرأ الحميل من حمالته، وتلزمه الحمالة، فإن نكل عن اليمين سقطت الحمالة. وهذا كله في التأخير الكثير، وأما التأخير اليسير، فلا حجة فيه للكفيل، وأما تأخير الكفيل فإنه تأخير عن الذي عليه الأصل، إلا أن يحلف أنه لم يرد تأخير الذي عليه الأصل، فإن نكل عن اليمين لزمه التأخير. هذا كله في المدونة وبالله التوفيق. اللهم لطفك.
[باع سلعة بعشرين دينارا وأعطاه بها كفيلا وكتب أيهما شاء أخذ بحقه]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: سألت ابن القاسم عن رجل باع سلعة بعشرين دينارا، وأعطاه بها كفيلا، وكتب أيهما شاء أخذ بحقه، ثم إن صاحب الحق أمر الكفيل بقبض الكفيل ذلك الحق، فقبضه ثم زعم أنه ضاع، قال: إن كان شرط أيهما شاء أخذ بحقه أخذه، فهو والبيع سواء، فإن كان ذلك منه على وجه الوكالة، يقول: اشهدوا أني قد وكلته بما عليه يأخذه، فهو في الحمالة يبرأ وفي البيع يبرأ من(11/303)
نصف الحق؛ لأن المبتاع يقول: لا أدفع إليك ما يصيبني لأني أخاف أن تأكله وتفسده، فأتبع به، فإذا دفع إليه على وجه الوكالة من صاحب الحق فقد برئ، وإن كان قال على غير وكالة: خذ لي حقي على وجه التقاضي، لم يقل على وجه الوكالة، فهما ضامنان جميعا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مشكلة، لإجمالها ونقصان بعض وجوهها، فلا بد من بيان ما أجمله فيها، وإتمام ما نقصه منها. فقوله فيها: إن كان اشترط أيهما شاء أخذ بحقه أخذه، فهو والبيع سواء. معناه: أن الشرط في ذلك عامل، يكون له أن يأخذ بها الغريم المبتاع، فيستويان في وجوب الغرم على كل من طلب منهما، وإن افترقا في حكم الرجوع؛ لأن الكفيل يرجع بما أدى؛ لأنه أدى عن غيره، والمتابع لا يرجع بشيء لأنه أدى عن نفسه، وإعمال الشرط هو المشهور المعلوم من مذهب ابن القاسم، وقد روي عنه أنه لا يجوز إلا في القبيح المطالبة. أو ذي السلطان وقد تؤول عليه أنه إنما أعمل الشرط على عمومه من غير استثناء، إذا كانت الحمالة في أصل البيع، وبالاستثناء إذا كانت الحمالة بعد عقد البيع والأظهر أن ذلك اختلاف من قوله، وابن كنانة وابن الماجشون وأشهب لا يعملون الشروط بحال. فيتحصل في المسألة أربعة أقوال: إعمال الشرط، وإبطاله، والفرق بين أن تكون الحمالة في أصل البيع وبعده، والفرق بين أن يكون الغريم ممن يتعذر الاقتضاء منه أو لا يتعذر، فإن كان ذلك منه على وجه الكفالة فهو في الحمالة يبرأ، يريد: يبرأ من الجميع، وهو صحيح؛ لأنه وكيل للطالب، فهو مصدق على ما يدعي من التلف مع يمينه إن اتهم كالمودع، وإذا صدق فيما يدعي من التلف، كانت المصيبة من الطالب، فيبرأ المطلوب وسقطت الكفالة. وهذا إذا كانت له بينة على معاينة الدفع، فلا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف. ولا اختلاف في هذا إلا أن يدخل فيه الاختلاف بالمعنى من مسألة(11/304)
اللؤلؤ من كتاب الوكالة من المدونة، وإنما اختلف إذا عدم الدفع هل له أن يرجع على القابض أم لا؟ فقال مطرف.: يرجع عليه لأنه فرط في دفع ذلك إلى الذي وكله حتى تلف. وقال ابن الماجشون: لا يرجع عليه حتى يتبين منه تفريط، وهذا إذا قامت على الوكالة بينة، وأقر بها الموكل. وأما إن ادعاها الوكيل، فقيل: القول قوله، وقيل القول قول الوكيل. وقوله في البيع: يبرأ من نصف الحق؛ لأن المبتاع يقول: لا أدفع إليه ما يصيبني، لأني أخاف أن يأكله أو يفسده، فاتبع به، فإذا دفعه إليه على وجه الوكالة من صاحب الحق، فقد برئ، إشارة منه إلى مسألة لم يتقدم لها ذكر، وهو أن يبيع الرجل السلعة من رجلين، على أن واحدا منهما حميل بما على صاحبه، وله أن يأخذ من شاء منهما بجميع حقه، ولذلك قال: إنه إذا قبض لعدمها الحق كله من صاحبه وعلى سبيل الوكالة من الطالب البائع، يبرأ الدافع إليه من نصف الحق، وهو ما ينوبه منه في خاصته من أصل الدين؛ لأنه دفع إلى وكيل الطالب فيبرأ بدفعه إليه، وإن ادعى تلفه إذا كانت له بينة على معاينة دفعه إليه، على ما بيناه. يريد: ويرجع عليه بالنصف الثاني؛ لأنه أداه عنه بالحمالة إلى الطالب إذا دفعه إليه. وهو وكيل: فصدق فيما ادعاه من تلفه، وكانت مصيبته من الموكل الطالب. وقوله: وإن كان قال على غير وكالة، أخذ لي حقي على وجه الوكالة، فهما ضامنان جميعا، معناه: يضمن كل واحد منهما لصاحبه، فيرجع الطالب على الدافع، ويرجع الدافع على القابض، وإن أراد الطالب أن يرجع على القابض، وترك الدافع كان ذلك له. وإن أراد أن يأخذ من كل واحد منهما ما له عليه، وهو نصف الحق، كان ذلك له؛ لأن كل واحد منهما حميل بصاحبه، وله أن يأخذ من شاء منهما بجميع حقه، فإن رجع على القابض لم يكن أن يرجع على أحد، وإن رجع عليهما جميعا رجع الدافع على القابض بما رجع به عليه، وإن كان قبض أحدهما على وجه الرسالة من الدافع، والمصيبة منه بعد يمين القابض على ما ادعاه من التلف، ويبقى الحق عليهما على ما كان قبل.(11/305)
فقف على افتراق هذه الوجوه الثلاثة وهي: أن يقبض أحدهما الحق كله على وجه الوكالة من الطالب، أو على وجه الرسالة من الدافع أو على وجه الضمان. وبالله التوفيق.
[مسألة: ضمن عليه طعاما فأتى الحميل إلى الغريم فقال له قد لزمت بما ضمنت]
مسألة وعمن ضمن على رجل طعاما فيلزمه به، فأتى الحميل إلى الغريم، فقال له: قد لزمت بما ضمنت عنك، فأعطى دنانير، وقال: ابتع لي بها طعاما، واقضه ووكله، فقال: عندي طعام، أنا أبيعكه، آخذ لك من غلامي وهو يبيع في الساحل، فبعث إلى غلامه فكيل له. قال ابن القاسم: لا يحل حتى يستوفيه الضمين؛ لأنه الموكل، ويصير في ضمان الغريم، ثم يوفيه إياه. وأحب إلي أن لو وكل الغريم غيره يستوفيه منه، ولعل هذا بحوز، وما بحوز إلا رصها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة، أن الطعام الذي ضمن من بيع لا من قرض؛ لأن الطعام القرض، لا يجوز أن يقضي مما ابتيع قبل أن يستوفي وأن الطعام للعبد لا لسيده الضمين، فهو مبتاعه منه للذي تحمل عنه، يدل على ذلك قوله: آخذ ذلك من غلامي؛ لأن المعنى في ذلك، أشتريه لك منه، فلا فرق على أصل مذهب مالك في أن العبد يملك بين أن يشترى له الطعام من عبد، أو من أجنبي، فلا يحل كما قال، أن يقضيه حتى يستوفيه من غلامه بالكيل، فيصير في ضمان الغريم؛ لأنه وكيل له على ابتياعه له، وقضائه عنه. فيده في ذلك كيده. وقوله في أول(11/306)
المسألة: عندي طعام أنا أبيعكه، بحوز في الكلام نسب طعام عبده إلى نفسه، لعلمه أنه لا يخالفه في ابتياعه منه. وأنه يملك انتزاعه منه إن شاء. واستحب أن يوكل الغريم غيره، مراعاة لقول من يقول: إن العبد لا يملك، وأن الطعام للسيد، فكأن الغريم اشتراه منه، فلا يجوز أن يقضيه حتى يستوفيه منه بالكيل، ولو كان الطعام للضامن على ما وقع في سماع أبي زيد، فاشتراه منه المضمون بدنانير فدفعها إليه، لما حل للضامن أن يقضيه عنه، حتى يكتاله له، فيصير في ضمانه. قال: ذلك له في سماع أبي زيد، وضعفه. ومعناه: بعد أن يوكله بعد اكتياله له من نفسه، واختار أن يوكل غيره، وفي جواز قضائه عنه بعد كيله له بتوكيله إياه على ذلك، اختلاف، أجاز ذلك في السلم الثاني في المسألة التي قال فيها: كله لي في غرائرك، أو في ناحية بيتك، ومنع من ذلك في كتاب السلم الثالث، فقال: لا يجوز أن يوكل الذي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقبضه. قال بعض شيوخ القرويين: وإنما يجوز أن بيعه بقبضه على القول بجواز ذلك إذا قامت بينة على اكتياله، ولا يصدق في ذلك إن كان الضمان يرتفع عنه إذا هلك في الوجهين جميعا. وليس قوله عندي بصحيح، بل الخلاف القائم من المدونة في ارتفاع الضمان عنه بقوله: قد كلته وإن لم تقم على ذلك بينة تدخل في جواز بيعه بذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: تحمل عن رجل بحمالة فقال المتحمل تحملت لك بألف درهم]
مسألة وقال في رجل تحمل عن رجل بحمالة، فقال المتحمل: تحملت لك بألف درهم، وقال صاحب الحق: لا بل بخمسمائة دينار. وصدق الغريم الذي عليه الحق صاحب الحق، قال ابن القاسم: يحلف الحميل أنه ما تحمل له إلا بألف درهم، فإذا حلف أخذ من الحميل الألف الدرهم التي أقر بها، فباع بدنانير، فإن بيعت بثلاثمائة دينار، اتبع صاحب الحق الذي عليه الحق بمائتين بقية الخمسمائة دينار، ويرجع الحميل على الغريم بثلاثمائة دينار(11/307)
ثمن دراهمه التي بيعت، فيشتري له بها دراهم، فإن بلغت الألف درهم فبسبيل ذلك، وإن زادت فالزيادة للغريم الذي عليه الحق، فإن نقصت حلف الذي عليه الحق للحميل، أنه ما تحمل عنه إلا بخمسمائة، فإن نكل حلف هذا الحميل وأخذ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، والذي يوجبه القياس فيها والنظر، أن يحلفا جميعا، يحلف الحميل ما تحمل إلا بألف درهم، ويحلف صاحب الحق أنه تحمل عنه بخمسمائة دينار، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا عن اليمين، كان الجواب فيها على ما ذكر. إلا فيما قال في آخر المسألة: إن الذهب التي ابتيعت بالدراهم، إن نقصت عن الألف درهم، فنكل الذي عليه الحق عن اليمين، أنها تحمل عنه إلا بخمسمائة دينار، يحلف الحميل، ويأخذ، لا يحتاج إليه إذا حلفا جميعا؛ لأنه قد حلف مرة، فلا يلزمه أن يحلف ثانية، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما، إن صدقه الذي عليه الحق، وأما إن كذبه، فيحلف على ما أقر به، ويشتري به للحميل ما أدى، فإن كان في ذلك زيادة، رجعت الزيادة إليه، وإن كان فيه نقصان لم يلزمه أكثر من ذلك؛ لأن الدراهم إذا أخذت من الحميل، إنما تباع على ملكه، ومصيبتها منه إن تلف والأجر إن احتيج في تصديقها إلى أجر عليه، فلا يصلح أن يفعل هذا كله، إذا حلف أنه لم يتحمل عنه إلا بألف درهم، حتى يحلف صاحب الحق أنه ما تحمل عنه بخمسمائة دينار.
[مسألة: تحمل له رجل بحمالة وقال تحملت لك بألف إردب قمح]
مسألة وقال في رجل تحمل له رجل بحمالة وقال: تحملت لك(11/308)
بألف إردب قمح، وقال صاحب الحق: لا بل الخمسمائة دينار. وقال الغريم الذي عليه الحق: إنما تحمل عني بألف درهم، قال ابن القاسم: يأخذ من الغريم ألف درهم، فيجعلها قضاء عن الحميل، فينظر كم ثمنها قمحا؟ وكم تبلغ من القمح؟ فإن بلغت مائة إردب، أخذ من الحميل تسعمائة إردب، تمام الألف إردب التي أقر بها، ثم يباع ذلك كله بدنانير فيوفي صاحب الحق الخمسمائة، قال: فإن نقص عن الخمسمائة دينار، لم يكن له على الحميل أكثر منها، وإن زادت على خمسمائة إردب ردت إلى الحميل.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن نقصت عن خمسمائة، لم يكن له على الحميل أكثر منها، يريد: ولم يكن له ولا للحميل رجوع على الغريم المطلوب بشيء؛ لأنه إنما أقر بألف درهم، وقد غرمها، فهي مصيبة دخلت عليه، وسكت في هذه المسألة عن ذكر الأيمان ولا بد منها؛ لأن من نقص منهم من حقه شيء، فله أن يحلف على من يدعي عليه، فوجه الحكم فيها أن يحلفوا كلهم، وحينئذ يكون ما قال، يحلف الغريم المطلوب الذي عليه الحق، أنه ليس عليه إلا ألف درهم، ويحلف الحميل أنه لم يتحمل إلا بألف إردب قمحا، ويحلف الطالب صاحب الحق أنه لم يتحمل له إلا بخمسمائة دينار، فإن حلفوا أو نكلوا، كان الحكم في ذلك على ما قاله في الرواية، وإن نكل الذي عليه الحق، وحلف الطالب والحميل، لزمه ما حلف عليه الطالب، وكان الحكم بين الطالب وبين الحميل على ما ذكره في الرواية، وإن نكل الطالب لم يكن له على المطلوب الغريم، إلا ما حلف عليه ولا على الغريم الحميل، إلا ما حلف عليه، وإن نكل الحميل لزمه ما حلف عليه الطالب، ولم يكن له أن يرجع على الذي عليه الحق، إلا بما حلف عليه. وبالله التوفيق. اللهم لطفك.(11/309)
[يعطي الرجل دينارا في دينارين إلى شهر ويتحمل له رجل بالدينارين]
ومن كتاب العرية وسئل ابن القاسم عن الرجل يعطي الرجل دينارا في دينارين إلى شهر، ويتحمل له رجل بالدينارين، هل على الحميل شيء؟ قال: إن كان علم بمحلهما وحضره فعليه الدينار الذي أعطاه وإن كان لم يعلم، وإنما جاءه وقال: تحمل عني لهذا بدينارين إلى شهر، ولا يعلم عملهما، ثم علم، فلا شيء عليه؛ لأنه يقول: لو علمت لم أتحمل لك ولم أدخل في الحرام، قيل له: فإن كان أعطاه دينارا في دراهم إلى شهر، وتحمل له رجل بالدراهم، قال: هو مثله أيضا إن لم يعلم فلا شيء عليه، وإن كان علم، قيل له: أخرج الدراهم التي تحملت له بها، فاتبع له بها ديناره، واتبع أنت صاحبك بالدراهم، قيل له: فإن كانت الدراهم أكثر من ثمن الدينار، أو لا تبلغ ثمن الدينار، قال: أما إن كانت أكثر اشترى دينارا بما كان أقل من ثمن الدينار، اتبع له بها ما بلغت من أجزاء الدينار، واتبع هو صاحبه بما بقي له من ديناره، ويتبعه الحميل بالدراهم، قيل له: فلو أن رجلا كان له على رجل دينار، فحوله في زيت إلى شهر، وتحمل له رجل بذلك الزيت إلى شهر قال: هو مثله أيضا إن كان لم يعلم، فلا شيء عليه، وإن كان علم، خرج الزيت فيبيع له منه بدينار فقضاه ديناره واتبع هو صاحبه بالزيت. قال: وإن ناسا ليقولون، وهم أهل العراق، ينتقض ويسقط عن(11/310)
الحميل على كل حال، ولكن الذي يستحسن وآخذ به أن يكون عليه غرم الدينار، إذا علم؛ لأنه كأنه دخل في استهلاك شيء، فنحن نسقط عنه الحرام، ويغرم الذي دفع عنه صاحبه فقط.
قال الإمام القاضي: ظاهر قول ابن القاسم في رسم باع شاة بعد هذا: وكل حمالة كان أصل شرائها حراما، فليس على المتحمل مما تحمل شيء، مثل قول أهل العراق: إن الحمالة تبطل على كل حال، إذا كان أصل الشراء فاسدا ومثله في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك وهو قول ابن عبد الحكم: إن الحمالة ساقطة، علم الحميل بفساد البيع أو لم يعلم، ومثله في كتاب ابن المواز. قال: وكل حوالة وقعت على أمر حرام بين المتبايعين، في أول أمرهما أو بعد، فهي ساقطة، ولا يلزم الحميل بها شيء، علم المتبايعان بحرام ذلك أو جهلاه، علم العميل بذلك أو جهله، قال محمود: إن حرامه للبائع فيه عقد وسبب، وهو قول أشهب: إن الحمالة بالحرام، وبالأمر الفاسد باطل، بخلاف الرهن؛ لأن الرهن يجعل رهنا بالأقل، ووجه هذا القول، أن الذي تحمل به الحميل، وهو الثمن، لما سقطت عن المتحمل عنه، لفساد البيع، سقط عن الحميل. وفي المسألة قول ثالث: إن الحمالة لازم على كل حال، علم الحميل بفساد البيع أو لم يعلم. وهو قول ابن القاسم في آخر هذا الرسم، وقول غير ابن القاسم في المدونة، وقول سحنون في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب. ووجه هذا القول، أن الكفيل هو الذي أدخل المتحمل له، في دفع ماله للثقة به، فعليه الأقل من قيمة السلعة أو الثمن، للذي تحمل به. وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا كانت الكفالة في(11/311)
أصل البيع الفاسد، وإن كانت بعد عقد البيع الفاسد، فهي ساقطة قولا واحدا.
هذا تحصيل الحكم في الكفالة في اللزوم، إذا وقع الفساد بين المتبايعين، وأما إذا وقع بين الكفيل وبينهما، أو بينه وبين الطالب منهما، أو بينه وبين المطلوب فيهما بعلم الطالب، فالكفالة ساقطة، فإن وقع الفساد بين الكفيل والمطلوب، بغير علم الطالب لزمت الحمالة، وقد مضى هذا المعنى في أول مسألة من الكتاب في الحمالة بالجعل. وبالله التوفيق.
[مسألة: لزم رجلا بدنانير له عليه فقضاه رجل عنه فيها دراهم]
مسألة وعن رجل لزم رجلا بدنانير له عليه، فقضاه رجل عنه فيها دراهم، فما ترى على الغريم أن يقضي من قضى عنه الدنانير التي كانت له عليه والدراهم التي قضاها عنه؟ قال ابن القاسم: لا يجعل هذا أن يقضي رجل عن رجل دراهم، ويأخذ منه دنانير، وإن كان قال: اقضه دنانير فأعطاه فيها دراهم، فله دنانير، وإن كان صالح صاحب الحق بدنانير يدفعها عنه، فإنما يرجع أيضا عليه بدنانير، وعن رجل لزم رجلا فصالح من قمح، فقضى رجلا عنه ثمرا قال: هذا مثل الأول، فإن كان إنما أحاله على رجل بقمح يعطيه إياه، فأعطاه فيه ثمرا صالحه عليه، فليس له أن يرجع عليه إلا بثمر، وذلك إذا كان له من سلف، فإن كان من بيع باعه أو ابتاعه، فإن ذلك لا يحل، يأخذ فيه ثمرا إن كان من بيع أو ابتياع، فإن كان القمح سلفا فصالحه على ثمر يسلفه من إنسان، وأمره أن يدفعه إليه، فإنما له ثمرا.(11/312)
قال محمد بن رشد: سؤاله في أول هذه المسائل عمن قضى عن رجل بغير أمره دراهم عن دنانير لغريمه، هل يقضي من قضى عنه الدنانير التي كانت عليه أو الدراهم التي قضاها عنه؟ فلم يجبه على ذلك بجواب بين، إذ عدل في الجواب عما سأله عنه، إلى ما قاله من أنه لا يحل أن يقضي رجل عن رجل دراهم ويأخذ منه دنانير، والجواب البين في ذلك أن يرجع على الذي قضاه بما دفع إليه من الدراهم، وتبقى الدنانير عليه لصاحب الحق كما كانت؛ لأنه قضاء فاسد، ولا اختلاف في هذا عندي إذا قضاه بغير أمره، وإنما اختلف إذا أمره أن يقضي عنه دنانير لغريمه، فقضاه دراهم أو أمره أن يقضيه قمحا فقضاه ثمرا هل يرجع عليه بما أمره به من الدنانير والقمح بما دفع من الدراهم والثمر؟ فقال: إنه يرجع بما ابتاع من القمح والدنانير، ومرة جعله مصالحا عن الذي عليه الحق بما دفعه إلى غريمه عنه من الدراهم أو الثمر فقال: إنه يرجع بالدراهم أو الثمن الذي دفع، إلا أن يشاء الآمر أن يدفع إليه ما كان عليه، يكون مخيرا في ذلك، وهو معنى قول مالك في كتاب المديان من المدونة؛ لأنه يربح في السلف، ولو بين، فقال:؟ أصارفك لنفسي في الذهب الذي لك بهذه الدراهم، وأنا أبتاع منك القمح الذي لك بهذا الثمر، لوجب أن يرجع بالدنانير وبالقمح قولا واحدا. وكذلك لو بين أيضا فقال: أنا أصالحك عن الذي عليه الدنانير والقمح، بهذه الدراهم، أو بهذا الثمر، لوجب أيضا أن يرجع بالدراهم والثمر قولا واحدا، إلا أن يشاء الآمر أن يدفع إليه ما كان عليه؛ لأن من حقه أن يقول: لا أرضى بهذا الصلح، إذ لم آمرك، فإنما يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى ما يحمل عليه الآمر عند الإبهام. ومن أهل النظر من ذهب إلى أن يجبر الآمر. قول ثالث في المسألة، وليس ذلك عندي بصحيح. وتحصيل الخلاف في المسألة في جواز القضاء فيها قولين، أحدهما: إنه لا يجوز، ويفسخ من(11/313)
أجل الخيار الذي للآمر، فلا يدري المأمور بما رجع، والثاني: إنه يجوز ولا يفسخ من أجل أنه خيار أوجبه الحكم، لم يدخلا عليه فلا تأثير له في صحة القضاء، فقوله في هذه الرواية ولو كان صالح صاحب الحق بدنانير يدفعها عنه، يريد: في دراهم عليه رجع عليه أيضا بدراهم صحيح، لا اختلاف فيه عندي لأنه قد بين أنه إنما دفع الدنانير عن الذي عليه الحق صلحا عنه فيما كان عليه من الدراهم، بخلاف المسألة التي قبلها، إذا قال له: اقضه عني دنانير، فأعطاه دراهم، تلك هي مسألة الخلاف، إذ لم يبين على أي وجه دفع الدنانير عن الدراهم؟، إن كان على وجه الصلح عن الآمر، وعلى وجه المصارفة لنفسه. وقوله فيمن لزم رجل بصاع من قمح، فقضى رجل عنه ثمرا إنها مثل الأول، يريد: إنها مثلها في أنه قضاء يجب فسخه على ما بيناه، من أجل أنه لم يأمر به. وقوله: فإن كان إنما أحاله على رجل بقمح يعطيه إياه فأعطاه فيه ثمرا صالحه عليه، فليس له أن يرجع عليه إلا بثمر، خلاف قوله في المسألة التي قبلها، وهي إذا قال اقضه عني دنانير فأعطاه بها دراهم، فله دنانير، إذ لا فرق بين أن يقضي دنانير عن دراهم، أو ثمرا عن قمح، إلا أن يفرق بينهما من أجل أنه في مسألة الدنانير مأمور لا حميل، وفي مسألة القمح حميل؛ لأنه لما أحاله عليه وهو لا دين عليه، كان حميلا. وقد فرق في المدونة في أحد أقاويله بين الحميل والمأمور، ووجه الفرق بينهما أن الحميل إنما تحمل على أن يؤدي إلى الطالب ماله على المطلوب ويتبعه بما أدى على أن يشتري ما للطالب على المطلوب، فيتبع به المطلوب، فوجب أن يحمل أمره عند الإبهام على ما علم من قصده أو لا. فيتحصل في المأمور والكفيل يدفع أحدها دنانير عن دراهم، أو دراهم عن دنانير، أو قمحا عن ثمر أو ثمرا عن قمح ثلاثة أقوال: أحدها: أن يرجع على المطلوب بما أدى إلى الطالب، إلا أن يأبى المطلوب أن يعطي إلا ما عليه، والثاني: أن يرجع عليه بما كان للطالب عليه. والثالث: الفرق بين الكفيل والمأمور، فيرجع الكفيل على المطلوب بما أدى إلى الطالب، ويرجع المأمور عليه بما كان للطالب عليه.(11/314)
وقوله في الرواية: وإن كان القمح من بيع باعه أو ابتاعه فإن ذلك لا يحل أن يأخذ فيه ثمرا بين، لا إشكال فيه؛ لأنه، بيع الطعام قبل أن يستوفي. وأما قوله: فإن كان القمح سلفا، فصالحه على ثمر يسلفه من إنسان، وأمر أن يدفعه إليه، فإنما له ثمن، فلا اختلاف فيه؛ لأن المطلوب هو الصالح للطالب، المستسلف للثمر، فلا إشكال في أنه يرجع عليه بما أسلفه إياه من الثمر، ودفعه يأمره إلى الطالب، إلا أن الصلح لا يجوز، إلا أن يقبض التمر في الوقت ناجزا ولا يتأخر عن عقد الصلح. وقد قال ابن دحون فيها: إنه على قياس ما تقدم في الرجوع، يريد أنه يدخل فيها من الاختلاف في الربوع، ما دخل فيما تقدم. وليس ذلك بصحيح على ما بيناه. وبالله التوفيق.
[مسألة: تحمل عن رجل بثمن سلعة فوجد البيع فاسدا وقد فاتت السلعة]
مسألة وسئل عن رجل تحمل عن رجل بثمن سلعة فوجد البيع فاسدا وقد فاتت السلعة، فرجع بها إلى القيمة، هل يلزم الحميل شيئا؟ قال: الحميل ضامن فيما بينه وبين أن تبلغ القيمة الثمن الذي تحمل به، فإن زادت القيمة على الذي تحمل له، يلزمه أكثر مما تحمل به.
قال محمدا بن رشد: هذه مسألة مضى الحكم عليها مستوفى في أول هذا الرسم، فلا معنى لإعادة شيء منه. وبالله التوفيق.
[يتحمل بعشرة دنانير فيدفعها الذي عليه الحق إلى الحامل ليدفعها ولم يشهد عليه]
ومن كتاب أوصى لمكاتبه وسئل ابن القاسم عن الرجل يتحمل عن الرجل بعشرة دنانير، فيدفعها الذي عليه الحق إلى الحامل، ليدفعها إلى صاحب الحق، بحضرة الذي عليه، وبعلمه، ولم يشهد عليه، ثم يجحد الذي قبضها أن يكون قبض شيئا. قال: على الذي كانت عليه أن يغرمها(11/315)
ثانية؛ لأن التقصير جاء من قبله، إذ لم يشهد على براءة منها حين دفعها الحميل، وإن كان بعلمه وبحضرته. قال: ولو كان الحميل دفعها ولم يشهد ولم يحضر الذي عليه الحق حين دفعها الحميل، كان لها ضامنا؛ لأنه هو أهلكها حين لم يشهد على دفعها. ولو أن الحميل دفعها من ماله نفسه، بحضرة الذي عليه الحق، ثم جحد الذي قبضها أن يكون قبض شيئا والذي عليه الحق يشهد أنه قد دفعها إليه أخذت من الذي عليه الحق، إن كان موسرا ولم يتبعه الحميل بشيء من العشرة التي دفع، وكانت مصيبة العشرة الأولى من الحميل، ولو كان الذي عليه الحق دفعها بحضرة الحميل، ولم يشهد، ثم جحد الذي قبضها، فإنها تؤخذ منه ثانية إن كان موسرا، أو إن كان معسرا أو غائبا فأخذت من الحميل، لم يرجع الحميل على الذي عليه الحق، بقليل ولا بكثير؛ لأنها مظلمة دخلت عليه. وهو يعلم أن الذي عليه الحق قد دفعها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الحميل إذا دفع العشرة إلى الطالب من مال المطلوب بحضرته دون إشهاد، فأنكر الطالب إنه لا ضمان في ذلك على الحميل الدافع؛ لأن التقصير كان من المطلوب الذي له المال إذا لم يشهد، بخلاف إذا كان الدفع بغير حضرته صحيحا، على معنى ما في كتاب القراض من المدونة من المقارض يدفع ثمن سلعة اشتراها إلى البائع بحضرة رب المال، فيجحد البائع الثمن، فلا ضمان على الدافع، وغرمها المطلوب ثانية، بعد عين الطالب الجاحد، فإن كان عديما أو غائبا فأخذت من الحميل ثانية، لم يرجع الحميل بها على المطلوب، لعلمه أنه لا شيء قبله، كما كان إذا دفعها المطلوب من ماله بحضرة الحميل، فجحدها الطالب، فأخذت من الحميل ثانيا لعدم المطلوب، ولقيمته إنه لا يرجع بها على المطلوب، لعلمه أنه قد أداها فلا شيء عليه منها، وهو على قياس رواية عيسى عن ابن(11/316)
القاسم في رسم استأذن من سماعه من كتاب الاستحقاق، في الذي يستحق من يديه العبد وهو يعلم أنه من تلاد البائع، إنه لا رجوع له عليه، فيدخله في الخلاف ما في تلك، حسبما مضى القول فيه هناك، وإن دفعه بغير حضرته، فهو ضامن لرب المال، ويسوغ له تضمينه، وإن علم أنه جحد أنه أتلفه عليه، إذ لم يشهد على دفعه. وأما إذا دفع الحميل العشرة من ماله إلى الطالب بحضرة المطلوب، ولم يشهد، فجحد القابض، فقال في هذه الرواية: إن مصيبة العشرة الدنانير من الحميل الدافع لها؛ لأنه هو أتلفه على نفسه، إذ لم يشهد على دفعها، فلا يرجع بها على المطلوب، وتؤخذ العشرة من المطلوب، فإن لم تؤخذ منه على قوله، وأخذت من الحميل ثانية، رجع بها على المطلوب. وقال في سماع أبي زيد: إنه إن أخذت من الحميل ثانية بحضرة المطلوب أيضا، رجع عليه بعشرين، فإن لم تؤخذ منه ثانية على قوله، وأخذت من المطلوب، رجع بالعشرة الأولى على المطلوب. والمعنى فيما ذهب إليه في رواية أبي زيد هذه، أنه رأى أن التقصير في ترك الإشهاد على الدفع، كان على المطلوب، إذا أداها بحميل عنه بحضرته إلى الطالب، فجحدها؛ لأن تلفها كان منه، بتضييعه الإشهاد، فوجب أن يرجع بها عليه. ورأى في رواية عيسى عنه، أن التقصير في ترك الإشهاد على الدافع، كان من الحميل؛ لأن المال ماله، لا من المطلوب الحاضر، فلم ير له بها عليه رجوعا من أجل أنه هو أتلفها على نفسه، وهو الأظهر؛ لأن المال ماله، فهو أحق بالإشهاد على دفعه من المطلوب، وإن كان حاضرا. فهذا معنى اختلاف قول ابن القاسم في هذه المسألة. وقد ذهب بعض الناس إلى أن رواية أبي زيد تأتي على قياس قول ابن وهب وأشهب في سماع عبد الملك بعد هذا، إلا أنه أرجع الحميل على المطلوب بما أدى عنه، وإن علم أنه لا يجب عليه شيء، من أجل أنه أدى عنه بعلمه ما تحمل به عنه بأمره، كما أرجع ابن وهب وأشهب، الحميل على صاحبه بما تحمل عنه بأمره، وإن علم أن ذلك لا يجب عليه، وأن رواية عيسى في هذه المسألة،(11/317)
تأتي على قياس روايته في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق، في الذي يستحق العبد من يده، وهو يعلم أنه من بلاد البائع، إنه لا رجوع له عليه بشيء من الثمن الذي دفع إليه. وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأن اختلاف قول ابن القاسم في رواية عيسى وأبي زيد عنه في هذه المسألة، إنما هو مبني على الاختلاف فيمن تعين عليه الإشهاد منهما، على الدافع، حسبما ذكرناه. وأما قول أشهب وابن وهب في سماع عبد الملك، فليس بمخالف لشيء من ذلك؛ لأنها مسألة أخرى لا يتصور إلا دخول الاختلاف فيها عندي. حسبما نبينه في موضعه إذا مررنا به. وبالله التوفيق.
[قال لعبده إن جئتني بخمسين دينارا فأنت حر فتحمل بها رجل للسيد]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسئل عن رجل قال لعبده: إن جئتني بخمسين دينارا فأنت حر، فتحمل بها رجل للسيد، وعجل له العتق. قال: حمالته ثابتة تلزمه؛ لأنها حمالة في حرمة ثبتت، بمنزلة من قال لرجل: أعتق عبدك، ولك علي خمسون دينارا إلى أجل، فدلك الحق يلزمه. قيل له: أيرجع الحميل على العبد؟ قال: نعم ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، مثل ما في المدونة من أن الحمالة للسيد بكتابة مكاتبه، لا تجوز، إلا أن يعجل العتق، فإن فعل فأدى عنه كان له أن يرجع عليه. وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترط على الحميل أن حقي عليك لست منه في شيء]
مسألة قال: إذا اشترط على الحميل أن حقي عليك، لست منه في شيء، أو كتب عليهما، إن حقه عليهما جميعا، حيهما عن ميتهما، وأيهما شاء أخذ، كان حقه لازما للحميل، وإن كان(11/318)
الغريم مليا، فليأخذ من الحميل جميع حقه إن شاء، وإن لم يكن كذلك. قال مالك: بدئ بمال الغريم، إلا أن يكون الغريم غائبا أو مفلسا.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا اشترط على الحميل، إن حقي عليك لست منه في شيء، معناه: أنه اشترط على الحميل أن حقه عليه. وقال للذي عليه الأصل: لست أنت منه في شيء، أي لا شيء عليك منه. وإذا قال ذلك له، فقد أبراه مما كان عليه، لاشتراطه إياه على الحميل، فمساواته بين ذلك وبين أن يشترط أن حقه عليهما جميعا حيهما عن ميتهما، وأيهما شاء، مثل رواية مطرف عن مالك في الواضحة خلافا لما في المدونة في إبراء الغريم، واشترط حقه على الحميل؛ لأن الظاهر من قوله فيها: إنه لا رجوع له عليه بحال. وقد قيل: إن معنى قوله: إنه لا رجوع عليه، إلا أن يموت الحامل أو يفلس، على ما روى ابن وهب عن مالك. وقال ابن الماجشون شرطه باطل، ولا يعدى عليه حتى يبلى الغريم. وهذا الاختلاف عندي إنما هو إذا أبرأ الطالب الغريم من أن يكون عليه رجوع، أو تباعة، وأن الحميل يرجع عليه بما أدى عنه، وأما إن وقع الشرط على ألا تباعة لواحد منهما قبله. فقد أسقط الدين عنه ولم يكن لواحد منهما رجوع ولا تباعة قولا واحدا. وقد يحتمل أن يكون معنى ما تكلم عليه ابن القاسم، أنهما أبرآه جميعا، فيكون قد تكلم على غير الوجه الذي تكلم عليه مالك في رواية ابن وهب. وبالله التوفيق.
[مسألة: حميل قال حقك علي ودع صاحبك]
مسألة قال ابن القاسم كل حميل قال: حقك علي، دع صاحبك لا تكلمه، فإن الحق عليه، وإن كان الذي عليه الحق مليا، كان(11/319)
صاحب الحق مخيرا فيه، وفي الحميل إذا قال حقك علي، مثل أن يقول صاحب الحق للذي عليه الحق: أنا أخاف شغبك وكلامك، فقال الحميل: حقك علي، لا تكلمه فإن الحق على الحميل وإن كان الغريم مليا.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة، كالقول في التي قبلها سواء، لاتفاقهما في المعنى، وإن اختلف اللفظ. وبالله التوفيق.
[تحمل بوجه رجل إلى أجل فمات المتحمل به وهو مع صاحبه قبل الأجل]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب قال ابن القاسم: من تحمل بوجه رجل إلى أجل فمات المتحمل به، وهو مع صاحبه في البلد الذي هو له قبل الأجل، فلا شيء على المتحمل؛ لأنه حين مات قبل الأجل، لم يلزمه من حمالته شيء، حتى يطلبه، وإن مات بغير البلد الذي تحمل به فيه قبل الأجل، وكان المكان لو كان حيا لم يأت به حتى يمضي الأجل، فهو ضامن له، وكذلك لو مات بعد الأجل بغير البلد، كان ضامنا له، طلبه أو لم يطلبه؛ لأنه لو طلبه منه لم يقدر على أن يأتيه به. قال ابن القاسم: وكل ما قلت لك من خلاف هذه المسألة فيها، فدعه، وخذ بهذا. وإن مات بغير البلد قبل الأجل، وكان فيما بقي من الأجل ما يأتي به فيه، فلا شيء عليه. قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتحمل بوجه الرجل إلى أجل، فيموت المتحمل به قبل الأجل أو بعده، قال: إن كان حاضرا أو مات في الحضر، فلا شيء على الحميل، وإن كان غائبا فمات نظر، فإن كان بموضع لو كلف أن يأتي به أتاه به في الأجل أو بعده بشيء، لم يكن على الحميل غرم، وإن كان بموضع لو كلفه أن يأتي به لم يأت(11/320)
إلا إلى أبعد من الأجل بكثير فأراهُ ضامنا.
قال الإمام القاضي: رواية سحنون عن ابن القاسم، في أنه إن مات قبل الأجل من غير البلد بموضع لو كلفه أن يأتي به لأتى به في الأصل أو بعده بشيء، يريد: بمقدار مكان يتلوم له فيه لو طلبه لم يكن عليه غرم، وإن كان بموضع لو كلفه الإتيان به إلى أبعد من الأجل بكثير، فأراه ضامنا، يحمل على التفسير لرواية عيسى عن ابن القاسم هذه، ولما حكى ابن حبيب عنه في الواضحة من رواية أصبغ. ومثل هذا في كتاب ابن المواز وهذا كله خلاف لما في المدونة من قوله: وإن أخذ الحميل بالغريم، والغريم غائب، فحكم على الحميل وأغرم المال، ثم طلعت للحميل بينة، أن الغريم كان ميتا قبل أن يحكم على الحميل، ارتجع ماله؛ لأنه لو علم أنه ميت حين أخذ منه الحميل، لم يكن عليه شيء؛ لأنه إنما تحمل بنفسه، وهذه نفسه قد ذهبت، فعلى مذهبه في المدونة، إذا مات لا يبالي حيث مات، تسقط الحمالة بموته، مات في مغيبه أو في البلد، وهو قول أشهب. وقد دل على اختلاف قوله في هذه المسألة قوله: وكل ما قلته من خلاف في هذه المسألة فدعه وخذ بهذا، ولو أتى الحميل بالغريم عند الأجل، والطالب غائب، لما برئ بإتيانه به حتى يجمع بينه وبين صاحبه، إلا أن يكون شرط عليه عند الحمالة أنك إن غبت ولم توكل من يقتضي مني، فلا حمالة لك علي، ويكون ذلك له إذا أحضره عند الأجل، ويرى من حمالته بإشهاده على إحضاره، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة. ولو لقي الحميل المتحمل مساء وصباحا حتى تمر به الأعوام، بعد حلول الأجل، لما برئ من حمالته إن غاب بعد، فطلبه به حتى شهد له بالبراءة من حمالته. رواه أصبغ عن ابن القاسم في بعض(11/321)
الروايات، وقد اختلف إذا غاب الغريم فقضي على الحميل بالغرم، فلم يؤخذ المال منه حتى أتى به، فقال في المدونة يغرم ما قضى عليه به، وقد مضى الحكم ومثله في العشرة لابن القاسم، وقال سحنون: إن أحضره قبل أن يغرم برئ. وبالله التوفيق.
[اشترى هو وغلامه سلعة من رجل إلى أجل وبعضهما حميل ببعض]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل ابن القاسم عن رجل اشترى هو وغلامه سلعة من رجل إلى أجل، وكتب عليهما جميعا حظه، وبعضهما حميل ببعض، فباع الرجل العبد قبل الأجل، هل يكون على سيد العبد أن يدخل له حميلا ما كان؟ وهل يحل عليه هذا الحق حين باع العبد؟ قال: ليس عليه شي. حتى يحل الأجل، وليس عليه أن يدخل له حميلا ما كان للعبد، وهو يبيع العبد حيث كان، فإن رضي المشتري أن يحسبه بما عليه من الحمالة، كان له البيع، وإلا رده، إلا أن يشاء بائع العبد أن يخرجه من ذلك العيب بالقضاء عنه، ويلزمه المشتري البيع، وذلك إذا لم يعلمه.
قال محمد بن رشد: لم ير أنه يجعل بيع العبد قبل الأجل ما تحمل به العبد عنه إلى الأجل، ولا أن يقيم له حميلا سواه، وهو كما قال؛ لأن حمالة العبد عن سيده لا تبطل عنه بيعه إياه؛ لأنه إن بين ذلك للمشتري لزمه، وإن كان لم يبين له به كان بالخيار بين أن يمسكه بما عليه من الحمالة، وبين أن يرده، وفي إجازة بيعه إياه نظر؛ لأنه بنفس البيع يكون منتزع المال، والعبد المأذون له بالتجارة إذا كان عليه دين، فليس لسيده أن ينتزع ماله؛ لأن انتزاعه إياه، إبطال للدين الذي في ذمته. فمعنى المسألة عندي أن العبد محجوز عليه؛ لأن ما لزم ذمة العبد المحجور عليه من الدين الذي لا يجوز(11/322)
للسيد أن يسقط ذلك من ذمته، كنحو هذا الدين الذي علم به فأمضاه، لا يكون إلا فيما وهب له أو تصدق به عليه، فيكون لسيده أن ينتزع ما سواه من ماله.
وقد مضى في رسم مرض من سماع ابن القاسم ما فيه بيان هذه المسألة. وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له عليه الحق إلى أجل فيتقارب الأجل فيريد الذي عليه الحق سفرا]
مسألة وسئل عن الرجل يكون له على الرجل الحق إلى أجل، فيتقارب الأجل، فيريد الذي عليه الحق سفرا، ويتعلق به صاحب الحق، ويقول له: إنك تريد سفرا، وأنا أخاف أن يحل أجل ديني، وأنت غائب، ولكن أعطني حميلا إن غبت عني يقوم لي بحقي. قال: ينظر في ذلك السلطان، فإن رأى الأجل سيحل قبل أن يقضي سفره لبعد المكان الذي يريد في مثل ما بقي من الأجل، كان عليه أن يعجل له حميلا، وإلا لم يكن عليه حميل، ويحلف بالله ما أريد إلا سفرا لمثل ما يخرج إليه من التجارة، وطلب الحوائج الغريبة مما يأتي في مثله ويخليه:
قال محمد بن رشد: لم يذكر في المدونة من كتاب السلم الثاني منها يمينه في هذه المسألة. وقال ابن أبي زيد في اختصاره لها: يريد: ويحلف في هذه المسألة والله أعلم. وكذلك لم يذكر يمينه في مسألة كتاب النكاح الثاني من المدونة في الزوج يريد سفرا، أنه ينظر إلى سفره الذي يريد، فيفرض لزوجته قدر ذلك، فيرجع إليها ويأتيها بحميل يجبر به لها، ومعناه بعد يمينه إن زعمت أنه يريد السفر إلى ما هو أبعد من ذلك. واليمين يمين تهمة، فيدخل في لحوقها ابتداء، وفي رجوعها إذا لحقت على القول بأنها تلحق ما يدخل في يمين التهمة، وقد ذكرنا ذلك في غير ما موضع. وبالله التوفيق.(11/323)
[أسلف دينارا إلى أجل واتخذ حميلا فلما حل الأجل قال الحميل ليس عندي]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار قال: وكتب إلى ابن القاسم، قاضي الإسكندرية، يسأله عن رجل أسلف رجلا دينارا إلى أجل، وأخذ عليه حميلا، فلما حل الأجل لقي الرجل الذي عليه الدينار، فقال: اقضني الدينار، فقال ليس عندي، ولكن أجعله لك في عشرة أراديب شعيرا إلى الغلة.
وكتب عليه بها ذكر حق، ثم لقي الحميل، فقال له: قد بريت من الدين الذي تحملت لي به عن فلان، فأشهد له بالبراءة، حتى مضى له شهر، ثم رجع فقال: هذا مكروه، ولم أعلم، وتعلق بالحميل، أفله أن يرجع إليه أم لا؟ قال: ليس له أن يرجع على الحميل، وقد برأ الحميل من الحمالة، ولا ينفعه ما جعل من ذلك شيء، ولا ينفعه الحرام الذي جعل فيه، ويرجع على صاحبه، والحميل بريء.
قال محمد بن رشد: إنما بطلت عن الحميل بالدينار الحمالة، من أجل أن المتحمل أبرأه منها بما ظن من جواز فسخ الدينار في الشعير إلى أجل، فلم يعذره بالجهالة؛ لأنه أصل مختلف فيه، فيأتي على القول بأنه يعذر بها إذا كان ممن يمكن أن يجهل مثل هذا أن يحلف ما أبرأه من حمالة الدينار، إلا وهو يظن أن الدينار قد بطل عن المطلوب بالشعير، الذي سلمه فيه. وهذا نحو ما حكى ابن حبيب عن أصبغ في الحميل بما على الغريم إذا أخذ الذي له الحق من الغريم، عبدا بالحق، ثم استحق العبد من يده، فرجع إلى الغريم بما كان عليه، فلا سبيل له إلى الحميل، وقد برئ الحميل حين أخذ من الغريم بالحق ما أخذ. وبالله التوفيق اللهم لطفك.(11/324)
[قال أشهدكم من داين فلانا فأنا حميل بما بويع به]
ومن كتاب الثمرة قال: وقال مالك في رجل قال: أشهدكم من داين فلانا فأنا حميل بما بويع به، فأتاه رجل، فقال: إن على فلان حقا ولا بينة له عليه إلا إقرار من المتحمل به، وهو يقر أن له عليه حقا وليس لصاحب الحق عليه بينة، قال: لا يكون على الحميل غرم شيء مما أقر به المتحمل به، إلا ببينة تقوم لصاحب الحق على حقه عليه، وكذلك الرجل الذي يشكو الرجل عند القوم، أنه مطله، فيقول رجل: ما لك عليه، فهو علي، فيقر له الذي قبله الحق بألف دينار، أنه لا يجوز إقراره على الحميل، ولا يقبل قوله، ولا يكون له على الحميل شيء، إلا ما أثبت عليه بالبينة.
قال محمد بن رشد: قوله: في الذي قال: أشهدكم أنه من بايع فلانا فأنا حميل بما بويع به، إنه لا يلزمه الحمالة بالإقرار من المتحمل به، مثله في المدونة؛ لأنه قال فيها في الذي قال لرجل: بايع فلانا فما بايعته به من شيء، فأنا ضمين للثمن، إن الضمان يلزمه إذا أثبت ما بايعه به، إذ لا فرق بين المسألتين، وزاد غيره فيه على سبيل التفسير، وإنما يلزم من ذلك ما كان يشبه أن يداين بمثله المحمول عنه، ولا اختلاف في ذلك عندي ولا في المسألة التي أدخلها عليها بقوله: وكذلك الرجل يشكو الرجل عند القوم، وقد مطله إلى الغرماء. وقد كان ممن أدركناه من الشيوخ، يذهب في هاتين المسألتين مخالفتان لما يدل عليه قوله في المدونة للذي يقول: لي على فلان ألف درهم، فيقول له رجل؛ أنا لك بها كفيل، فيجيء فلان، فينكر أنه لا شيء على الكفيل، إلا أن يقيم البينة على حقه؛ لأن الذي عليه الحق قد(11/325)
جحده، دليل على أنه لو أقر ولم يجحده للزم الحميل الحمالة، وليس ذلك عندي بصحيح، إلا أن المسألتين مفترقتان، وإذا قال الرجل: لي على فلان ألف دينار، فقال له رجل: أنا لك بها كفيل، ألزم الكفيل غرمها إذا أقر بها المطلوب، قولا واحدا. وإذا قال الرجل: لي على فلان حق، فقال له رجل: أنا لك به كفيل، فقال المطلوب: له علي ألف دينار، لم يلزم الكفيل غرم ألف بالكفالة، إلا أن يثبتها على المطلوب بالبينة قولا واحدا، بمنزلة من قال لرجل: أنا ضامن لما بايعت به فلانا، وأنا ضامن لما بويع به فلان، وإنما اختلف إذا قال لرجل: أنا كفيل لفلان بألف دينار له على فلان، على ثلاثة أقوال: أحدها: إنه يلزمه غرمها بالكفالة، وإن أنكر المطلوب أن يكون له عليه شيء، وهو قول ابن القاسم في أول عبد أبتاعه من سماع يحيى بعد هذا، ومثله في كتاب ابن سحنون من سؤال ابن حبيب، قال في المدعي عليه ينكر الدين ويقر الحميل به: إنه يضمن ذلك ويؤديه، فإن كانت للمدعي بينة، فهل يقيمها ليطلب الغريم قبل الحميل، حتى يعوزه طلب الغريم؟ فقال: لا، وإنما يؤخذ الحميل من مثل هذا، فله أخذ الضامن بحقه عاجلا، ثم للضامن أن يقوم بتلك البينة على الغريم بما ضمن عنه. والقول الثاني: إنه لا يلزمه غرمها إذا كان منكرا، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه. والقول الثالث: إنه يلزمه غرمها وإن كان هكذا، إذا كان معدما. وهذا القول يقوم من قول ابن القاسم في أول رسم من سماعه من كتاب الشهادات.
وقد مضى هناك وجهه وتحصيل القول في المسألة. وبالله التوفيق.
[يشتري اللحم بدرهم من الجزار ويعطيه به حميلا فيغرم الحميل الدرهم]
ومن كتاب حبل حبلة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يشتري اللحم بدرهم من الجزار، ويعطيه به حميلا، فيغرم الحميل الدرهم إلى الجزار، هل(11/326)
يجوز له أن يأخذ بصاحبه بذلك الدرهم شيئا من الطعام قال لا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحميل لم يدفع طعاما، إنما دفع درهما، فجاز له أن يأخذ به طعاما، ولو أراد الجزار أن يأخذ بذلك الدرهم من الحميل طعاما لم يجز؛ لأنه دفع طعاما، فلا يجوز له أن يأخذ منه إلا ما كان يجوز له أن يأخذه من الذي أحاله حسبما يأتي القول عليه في سماع أصبغ بعد هذا إن شاء الله.
وقد زدنا هذا بيانا في أول سماع أصبغ من كتاب السلم والآجال لتكرر المسألة هناك. والله الموفق.
[هلك وعليه دين لا يدري كم هو وقد ترك مالا من عين وعرض]
ومن كتاب الرهون وقال في رجل هلك وعليه دين لا يدري كم هو؟ وقد ترك مالا من عين وعرض، لا يدري كم هو؟ ولم يحصل ولم يعلم، فيقوم بعض ورثة الميت، فيقول لغرمائه: أنا أتحمل لك بجميع دينه على أن تخلوا بيني وبين جميع ما ترك، إن ذلك لم يزل من أمر الناس المعروف إذا كان ذلك من الحميل على وجه المعروف والتماس الخير للميت ولورثته، كان الحق الذي يحمل به على الميت نقدا أو إلى أجل. وتفسير ذلك أن يكون أمر الحميل والذي يجمع عليه، أنه إن كان فيما ترك الميت فضلا عن دينه. كان لجميع الورثة، ولم يكن للحميل من بين الورثة، وإن قصر المال(11/327)
عن قضاء الدين، كان على الحميل ما بقي من قضاء الدين بعد ذهاب المال خاصة دون الورثة، فإن كان هذا وجه اصنع، ودخل به الحميل في الحمالة، لم يكن به بأس، وإن كان إنما تحمل بالدين على أن يكون له ما فضل من المال بعد وفاء الدين خاصة، دون الورثة، لم يصلح؛ لأنه غرر، يحمل على أن يكون ضامنا بما نقص المال عن وفاء الدين، على أن يكون له ما زاد المال، فصار ذلك بيعا من البيوع، يحله ما يحل البيع، ويحرمه ما يحرم البيع، أو يكون يريد أن يأخذ تركة الميت على أن يضرب له أجلا مستأخرا، فيأخذ قليلا على أن يعطي أكثر منه إلى أجل، في ذلك ذهب وورق بأشياء غير مسماة ولا معلومة من تركة الميت، فيدخل في ذلك غرر عظيم، وبيع ما لا يحل بيعه متفاضلا إلا مثلا بمثل، ويدا بيد، ولا إلى أجل. ولا يرى ابن القاسم به بأسا، إن كان وارثا واحدا، لا وارث له غيره، إن ذلك لا بأس به، كذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة، أنه قال فيها: إنما جازت هذه المسألة على المسامحة، وبما جرت به عادة الناس، وأصلها ألا تجوز، لما فيها من المجهول. وقد تكررت في كتاب المديان، في رسم أخذ يشرب من سماع ابن القاسم. وفي رسم البيوع من سماع أشهب مضى الكلام عليها هناك مستوفى. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال له أنا أضمن لك عقل جرحك فرجع إليه بعد ذلك وقال لا أضمن شيئا]
مسألة وقال في قوم كانت بينهم نائرة فخرج رجل منهم، فقال له رجل من الناس: أنا أضمن لك عقل جرحك هذا، وانطلق فرجع إليه بعد ذلك فقال: لا أضمن لك شيئا، فقال: ذلك له لازم، إذا كان على وجه الحمالة والإصلاح بين الناس، وكان صاحب الجرح(11/328)
قد قبل ذلك منه ورضي به، وإنما ذلك في الخطأ مما فيه دية أو عمد، اصطلحوا فيه على يديه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن ذلك لازم له، يريد في الحياة والموت، كان على وجه الحمالة وإصلاح، وكان صاحب الحق قد قبل ذلك ورضي به، والجرح خطأ مما فيه دية، أو عمد اصطلحوا فيه على دية. وإنما شرط في لزوم الحمالة رضاء صاحب الجرح بما دل عليه مساق اللفظ، من أنه إنما تحمل له بعقل الجرح عنهم، على أن يترك طلبه قبلهم، ولو كان هذا من التزامه الحمالة على غير هذا الوجه، مثل أن يقول في مغيبها شهدكم أني ضامن لفلان عقل جرحه، وتلزمه الحمالة وإن كان لم يقل قد قبلت ورضيت، إذا كان الجرح أيضا خطأ أو عمدا اصطلحوا على دية، ومعنى ذلك في العمد، إذا كان الجرح ليس له عقل مسمى وإنما فيه القصاص، وأما لو كان مما له عقل مسمى، كفقء العين، وقطع اليد، وجذع الأنف، وما أشبه ذلك، للزمت لما في ذلك الكفالة بدية العمد المعلومة في ذلك، ولم يكن له رجوع بها على الجاني، إذ لا يلزمه إلا برضاه، وكذلك لو ضمن رجل عن رجل مال حق عن جنايته على الناس، للزمه، قال ذلك أصبغ، حكى ابن حبيب عنه في الرجل يكون له الولد الفاسق المتعسف على الناس بالقتل وأخذ المال، فيأخذه في ذلك، ويريد عقوبته، فيقول له: لست بعائد إلى ذلك، وأنا أعطيك حملا يتحملون، كما اجترمته من قتل أو حد أو أخذ مال، فذلك عليهم، فيفعل، أرى ذلك لهم، ويؤخذون بكل ما يؤخذ به، إلا أنهم لا يقتلون بمن قتل. وفي قوله: إنهم يؤخذون بكل ما يؤخذ به، إلا أنهم لا يقتلون بمن قتل، إشكال فيحتمل أن يريد بذلك، أنه يؤخذ بكل ما اجترم من المال، ولا يؤخذ بالقتل ولا بالجراح، ويحتمل أنهم يؤخذون بالذمة بالقتل، ولا يقتلون، وكذلك الجراح، وهو الأظهر، فيكون(11/329)
المجني عليه بالخيار، بين أن يقتص منه، أو يأخذ الدية منهم بالضمان الذي التزموه؛ لأنه ترك عقوبته التي لعلها كانت تردعه بسبب ضمانهم. وبالله التوفيق.
[يتحمل عن ابنه لامرأته بصداقها فيغيب الزوج قبل أن يبتني بالمرأة]
ومن كتاب الجواب وسألته عن الرجل يتحمل عن ابنه لامرأته بصداقها، والرجل الأجنبي، يتحمل بمثل ذلك عن الأجنبي، فيغيب الزوج قبل أن يبتني بالمرأة، فيطلب أهل المرأة أخذ الصداق من الحميل. قال ابن القاسم: إن كانت غيبته قريبة الأيام اليسيرة، وما أشبه ذلك، الذي ليس فيه ضرر، وبعث في الزوج وأتى به، فإن جاء فأعطاها الصداق، وإلا أخذ الحميل، وإن كانت غيبته بعيدة، أو لا يدري أين هو؟ ولا يعرف موضعه، أخذ لها من الحميل الصداق، ولم يضرب له أجل في ذلك، وإن جاء الزوج فطلق، رجع عليها بنصف الصداق، وهو إذ لم يعرف موضعه بمنزلة المفقود؛ لأن امرأة المفقود يتعجل صداقها وإن لم يكن دخل بها؛ لأن مالكا قال في امرأة المفقود، شيء هو لها واجب، فإن جاء الزوج فطلق، رجع بالنصف، وإلا فهو حق لها، قال: وإن طلبوا من الحميل بالصداق في مسألتك النفقة، فليس ذلك لهم عليك. وقد قال مالك في امرأة المفقود إن قدم زوجها وقد تزوجت: لم يرجع عليها بشيء، ولم يكن بنى بها وبه يأخذ عيسى، وليس من رواية عيسى. وفي رواية سحنون. قلت لابن القاسم: الرجل يفقد قبل دخوله بأهله، فيفرق بينهما بعد الاستقصاء، وتعطى صداقها كاملا، ثم تتزوج، فيأتيها زوجها قال: يرجع عليها بنصف صداقها.(11/330)
قال محمد بن رشد: قوله في الحميل بالمال إذا غاب المتحمل به: إنه يتلوم له في الغيبة القريبة الأيام، يريد اليومين والثلاثة، خلاف ما في سماع يحيى بعد هذا في رسم المكاتب، من أن الحميل بالمال لا يؤجل ولا يؤخر، وهو كالغريم بعينه، ولا اختلاف في هذا على اختلافهم في الحميل، هل يكون الطالب مخيرا فيه وفي الغريم، يتبع أيهما شاء؟ وإن كان الغريم مليا، أو لا يكون له على الحميل سبيل، إلا في عدم الغريم أو مغيبه، فرواية عيسى هذه على ما اختاره ابن القاسم من قولي مالك ورواية يحيى على قول مالك الأول: إن الذي له الحق مخير في الغريم والحميل، يتبع أيهما شاء في اليسر والعدم، والغيب والحضور. وأما الحميل بالوجه، فإنه يتلوم له إذا حل الأجل. قال في المدونة: اليوم ونحوه. قال في كتاب ابن المواز: اليوم واليومين، قال في سماع يحيى بعد هذا: اليوم واليومين والثلاثة، وفي كتاب محمد بن المواز لابن وهب في حميل الوجه إذا غاب الغريم، إنه يقضي عليه بالغرم، ولا يضرب له أجل يطلبه، وهو بعيد؛ لأن الحميل بالوجه، يبدأ بإحضار الغريم، مليا كان أو معدما، والحميل بالمال، لا يبرأ بإحضار الغريم معدما. واختلف، هل يبرأ بإحضاره مليا؟ فعلى هذا الاختلاف يأتي الاختلاف في التلوم له الأيام اليسيرة، حسبما ذكرناه. وأما قوله: إن الحميل بالصداق يؤخذ بجميعه إذا غاب الزوج قبل البناء فهو صحيح، على قياس القول بأن المرأة يجب لها بالفقد جميع الصداق، ويسقط نصفه، إلا نصف الصداق ألا يقضي على الحميل إذا غاب الزوج قبل البناء إلا بنصفه، ويأتي على قياس القول بأن الصداق يجب على الزوج جميعه بالعقد وجوبا غير مستقر، فيستقر لها نصفه بالطلاق، وجميعه بالموت والدخول ألا يقضي على الحميل بشيء من الصداق إذا غاب الزوج قبل الدخول، حتى يأتي، فيطلق فيقضي عليه بالنصف، ويدخل فيقضي عليه بالجميع، وهو قول ابن الماجشون في امرأة المفقود قبل البناء، إنها لا يقضي لها بشيء من الصداق حتى يأتي وقت، لو قدم الأول، لم يكن له إليها(11/331)
سبيل، وهو أن يتزوج ويدخل بها الزوج، أو لا يدخل، على اختلاف قول مالك في المدونة. وقيل: إنه لا يقضي لها إلا بنصفه، فإن بلغ من السنين ما لا يحيى إلى مثلها، أو ثبتت وفاته ما بينه وبين أن تبين منه بالدخول أو التزويج، على الاختلاف المعلوم في ذلك، قضى له ببقيته. حكى هذا القول سحنون وابن الجلاب. والمشهور في المذهب قول ابن القاسم. وروايته عن مالك، أنه يقضي له بجميعه. واختلف قول ابن القاسم إن جاء زوجها بعد أن تتزوج ويدخل بها زوجها. ولا يدخل على اختلاف قول مالك في ذلك، فمرة قال: إنه لا يرجع عليها؛ لأنها قد انتظرته وضيق عليها، واعتدت منه، ومنعها النكاح، وهو قوله في رواية عيسى عنه. ومرة قال: إنه يرجع عليها، وهو الصحيح في النظر والقياس. وظاهر قوله في هذه الرواية إذا كان لها الصداق كاملا، فهو يعجل لها: إنه يعجل لها وإن لم يحل أجله، مثل قول أصبغ في الواضحة إن كالئها يحل، وهو الذي يدل عليه قول مالك في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة، فإذا مضى لامرأته أربع سنين، وأربعة أشهر وعشر، أعطيت صداقها إن كان له قبله من حقها أن تأخذ صداقها إن كان حالا قبل ضرب الأجل وقبل العدة؛ لأنه دين من الديون، يحكم لها به دون تلوم إذا غاب غيبة بعيدة، وإن عرف حياته.
وقد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة، وفي سماع سحنون من كتاب النكاح. وبالله التوفيق.
[كان له عليه عشرة دنانير فقضاها إياه فذهب بها فألفاها قبيحة الوجه أو ناقصة]
من كتاب القطعان وقال ابن القاسم في رجل، كان له على رجل عشرة دنانير، فيأتيه يتقاضاه، فقضاها إياه، فذهب بها يرى وجوهها أو يزنها فألفاها قبيحة الوجه، أو ناقصة الوزن، فجاءه بها، فقال له: إنما أخذتها(11/332)
من فلان، فاذهب إليه بها، فإنه سيبدلها فانطلق بها، فوقعت منه بالطريق، فذهبت قال: إن كان قبضها منه ثم دفعها إليه فقال: اذهب بها إلى فلان ليبدلها لك، فضاعت، فمصيبتها من الذي عليه الحق، وإن كان لم يقبضها منه، فمصيبتها من الذي وقعت منه.
قال محمد بن رشد: لم ير أن تنتقل الدنانير من ذمة المقتضي لها من حقه إلى أمانته، بقول الدافع لها: اذهب إلى فلان ليبدلها لك، حتى يأخذها منه، ثم يردها إليه مرسلا له بها. ومثله من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات، وفي كتاب السلم الأول من المدونة في الذي يسلم الثوب في طعام يحرقه رجل في يديه قبل أن يقبضه المسلم إليه؛ لأنه قال فيه: إن كان إنما تركه وديعة في يديه بعدما دفعه إليه، فأرى قيمته على من أحرقه والمسلم على حاله. وعلى هذا يأتي قوله في كتاب القراض من المدونة، يضيع منه بعضه، فيخبر بذلك رب المال، فيقول: اعمل بما بقي في يديك قراضا، إنه على القراض الأول، وإن حضر المال وحاسبه، ما لم يدفعه إليه، ثم يرده عليه قراضا مستأنفا، خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك، وربيعة، ومطرف، وابن الماجشون، والليث، وجماعة من أصحاب مالك، إلا ابن القاسم، فانه كان يشدد فيه ويقول: هو على القراض الأول حتى يدفعه إليه ثم يرده عليه، فيأتي على قوله في مسألتنا: إن الدنانير تنتقل من ذمة المقتضي لها إذا أحضرها بقول الدافع لها: اذهب بها إلى فلان، فإنه سيبدلها يأخذ منه في ذمته على حالها فتكون مصيبتها منه، وإن قامت بينة(11/333)
على تلفها، وتكون على حالها في يديه كالرهن، لا يضمنها إن قامت بينة على تلفها. والظاهر من المدونة أنها تبقى في ذمته على حالها، والأشبه على مذهبه في السلعة المحبوسة بالثمن، أنها تكون كالرهن في يديه؛ لأنها تشبهها، إذ قد التزم له أخذها على أن يعوضه منها، فيتخرج على هذا في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: إنها تنتقل إلى أمانته، فيصدق في تلفها، وهو الذي يأتي على ما حكاه ابن حبيب عن من ذكرناه، والثاني: إنها تبقى على حالها، فتكون مصيبتها منه، وإن قامت بينة على تلفها، والظاهر أيضا من هذه الرواية. والثالث الفرق بين أن تقوم بينة على تلفها، أو يدعي ذلك، ولا يعرف إلا بقوله، وهو الذي يأتي على القول بأن السلعة المحبوسة بالثمن كالرهن. وبالله التوفيق.
[نصراني سلف نصرانيا خمرا وتحمل له نصراني بالخمر فأسلم الحميل]
ومن كتاب باع شاة وسألته عن نصراني سلف نصرانيا خمرا أو خنازير، وتحمل له نصراني بالخمر والخنازير، فأسلم الحميل، وأعدم الذي عليه الحق، قال: فليس على الحميل الذي أسلم شيء، ويتبع النصراني غريمه النصراني. قال ابن القاسم: وكل حمالة كان أصل شرائها حراما فليس على المتحمل مما تحمل شيء.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول عليها مستوفى في أول رسم العرية فلا وجه لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: كان له عليه صك بخمسين دينارا فتحمل عنه رجل ثم فلس]
مسألة وسألت عن الرجل كان للرجل عليه صك بخمسين دينارا،(11/334)
فتحمل عنه رجل بخمسة وعشرين دينارا منها، ثم فلس الغريم ببيع ماله، فلم يأخذا المحتمل له بالخمسة والعشرين دينارا من الخمسين التي له على المفلس إلا بثلاثين دينارا، لم يطرأ من المحاصة غيرها. هل على الحميل العشرون كلها أو نصف العشرين؟ أو تكون الثلاثون التي تقاضى بين الحمالة وبين الذي له من غير الحمالة؟ قال ابن القاسم: تكون الثلاثون التي تقاضيا بين الحميل وبين الغريم، ولا تكون على الحميل من العشرين الباقية إلا عشرة دنانير، ويتبع صاحب الحق الغريم المفلس. وقال سحنون في الحمالة مثل قول ابن القاسم سواء.
محمد بن أحمد: - مذهب أصبغ أن على الحميل العشرين الباقية، وهو قول ابن الماجشون، وابن كنانة، قالاه في الرجل يتزوج امرأة بمائة دينار، تأخذ منه حميلا بخمسين، فيطلقها قبل الدخول، إن لها أن تأخذ الحميل بالخمسين الواجبة لها قبل الزوج، خلاف قول ابن القاسم: إنها ترجع على الزوج بخمسة وعشرين دينارا، ولا فرق بين المسألتين على القول بأن الصداق يجب جميعه بالعقد، وأما على القول بأنه لا يجب بالعقد إلا نصف الصداق إن طلق قبل الدخول، يجب على الحميل جميع الخمسين، قولا واحدا. ووجه ما ذهبوا إليه، أن المتحمل له، يقول: إنما أخذته وثيقة من حقي، مخافة، ألا أجد عند الغريم وفاء منه.
وقد مضى هذا المعنى والقول عليه مستوفى في سماع سحنون من(11/335)
كتاب النكاح، وفي رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس. فقف على المسألة قي الموضعين. وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتريان السلعة من الرجل ويكتب عليهما صكا أنه يأخذ حاضرهما بغائبهما]
مسألة وعن الرجلين يشتريان السلعة من الرجل، ويكتب عليهما صكا أنه يأخذ حاضرهما بغائبهما وحيهما بميتهما، وأيهما شاء أخذ بحقه، فتحمل عنهما رجل بجميع ذلك الحق، فيؤخذ الحق من الحميل، هل يكون للحميل أن يأخذ أيهما شاء، بجميع ما أدى عنهما كما كان لصاحب الحق، وليس له على كل واحد منهما إلا ما ينوبه من الحق؟ قال: للحميل أن يأخذ أيهما بالحق كله، وذلك أنه لو تحمل للغريم بما على أحدهما، كان للغريم أن يتبع الحميل بالحق كله؛ لأن له أن يتبع أحدهما بالمال كله بما عليه من المال، وبالحمالة، فكذلك يتبعه الحميل بما ضمن للغريم، وبما كان يتبع الغريم، لو لم يتحمل بهما جميعا حميل واحد، فالحميل بمثابة الغريم فيما يتبع.
محمد بن رشد: قوله وذلك أنه لو تحمل للغريم بما على أحدهما، كان للغريم أن يتبع الحق كله، معناه: إذا عرف الحميل ما على كل واحد منهما من الشرط، وسائر المسألة بينة لا وجه للقول فيها، سوى ما ذكرناه من الاختلاف في إعمال الشرط، بأن يأخذ من شاء منهما بجميع حقه، في رسم نقدها قبل هذا فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[لهما على رجل مائة إردب فتقاضى أحدهما حصته بغير إذن صاحبه]
ومن كتاب العتق
وقال في رجلين لهما على رجل مائة إردب فتقاضى أحدهما حصته بغير إذن صاحبه، فعلم به، فأتاه، فقال له: هبني إياها وأنا(11/336)
أضمن لك الخمسين التي بقيت لك، إن ذلك لا يحل، ولو كان يضمن له خمسا وعشرين إردبا قدر ما كان يصيبه مما كان قبض، لم يكن بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في رسم البيع والصرف من أول سماع أصبغ من كتاب السلم والآجال، بزيادة من قول أصبغ وافق فيها ابن القاسم على قوله: ولو كان يضمن خمسة وعشرين قدر ما كان يصيبه مما قبض، لم يكن بذلك بأس، وفي ذلك من قولهما اعتراض بين قد ذكرناه، وبيناه هناك. فلا وجه لإعادته. والله الموفق.
[يبتاع الرأس والدابة فيتحمل له رجل بالسرقة أو بعيب مسمى]
ومن كتاب الرهون قال عيسى سئل ابن القاسم عن الرجل يبتاع الرأس والدابة فيتحمل له رجل بالسرقة، أو بعيب مسمى، مما يخشى المبتاع أن يكون فيما ابتاع، ثم يظهر المبتاع بعد ذلك من السلعة على عيب غير الذي تحمل به، أيلزمه الحميل؟ قال: لا يلزم الحميل شيء من ذلك، إلا ما تحمل به من العيوب بعينها وسميت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا إشكال فيه، إذ لا يلزم أحدا سوى ما التزم وبالله التوفيق اللهم لطفك.
[الحميل ينكر الحمالة والمتحمل عنه غائب فيصالحه المتحمل لرضاه بالصلح]
من نوازل سئل عنها عيسى
وسئل عيسى بن دينار عن الحميل ينكر الحمالة، والمتحمل عنه غائب، فيصالحه المتحمل لرضاه بالصلح، قال: بل يرجع فيأخذ ما نقص من حقه، ويدفع المتحمل عنه إلى الحميل ما صالح به عن نفسه.(11/337)
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون، أنه لا يرجع عليه ببقية حقه، إلا بعد يمينه بالله أنه ما صالح الحميل رضى بالصلح من جميع حقه، إلا أن يكون أشهد أنه إنما يصالح الحميل لإنكاره الحمالة، وأنه على حقه على الغريم، فلا يكون عليه يمين، واليمين يمين تهمة، فيجري الأمر في ذلك على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، إلا أن يحقق عليه الغريم الدعوى فيحلف قولا واحدا. وبالله التوفيق.
[يطلب الرجل في حق له فذهب معه إلى غريم المطلوب فيقول خذ من هذا حقك]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصبرة قال يحيى: قال ابن القاسم في الرجل يطلب الرجل في حق له، فذهب معه إلى غريم المطلوب، فيقول: خذ من هذا حقك ويأمره بالدفع إليه، فيقضيه إياه، فنقصت بعض حقه، أو لا يقضيه شيئا فيريد أن يرجع على الأول يلزمه ببقية حقه، إن ذلك له، وليس هذا نحو الحول اللازم لمن احتال بحقه؛ لأنه يقول لم أحتل عليه بشيء، وإنما أردت أن أكفيك التقاضي وأخفف عنك مؤنة التلوم ولم أترك من حقي عليك، وإنما وجه القول اللازم أن يقول: أحيلك على هذا بحقك، وأبرأ بذلك إليك بما تطلبني به، ولا رجوع عليه بحقه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأن الحوالة بيع من البيوع، ينتقل الدين بها عن ذمة المحيل، إلى ذمة المحال عليه، فلا يكون ذلك إلا(11/338)
بيقين، وهو التصريح بلفظ الحوالة وما ينوب منابه، مثل أن يقول له: خذ من هذا حقك، وأنا بريء من دينك وما أشابه ذلك. وقد قال بعض الشيوخ: ولو قال له: اتبع فلانا بحقك علي كانت حوالة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن اتبع على مليء فليتبع» قال: فلما أتى بلفظ يشبه النص، كان ذلك حوالة، إذا كان ذلك على المحال عليه، وليس ذلك ببين، وإنما البين في ذلك أن يقول له: قد اتبعتك على فلان، وأما إذا قال له: اتبع فلانا، فيخرج ذلك على قولين، ذكرتهما في آخر أول رسم من سماع أشهب، من كتاب جامع البيوع. وهذا الأمر هل يحمل على الإيجاب عليه أم لا؟ اختلف في ذلك قول مالك. وبالله التوفيق.
[الحميل بالوجه إذا غاب المتحمل عنه وحل الأجل]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألت عن الحميل بالوجه إذا غاب المتحمل عنه وحل الأجل، كم ترى أن يؤجله السلطان في طلب صاحبه؟ قال. إن كانت غيبة المتحمل عنه قريبة، اليوم واليومين والثلاثة، ونحو ذلك، مما لا يضر ذلك بالمتحمل له، وعلى قدر ما يرى الإمام من الحمل عليه في قدره، ونحوه مما لا يضر به فيه بطالب الحق، وإن كانت غيبة المطلوب ببلد لا يرتجى قدومه منه إلى اليوم واليومين والثلاثة، ونحو ذلك، لم يؤجل الحميل قليلا ولا كثيرا، وأعدى عليه بالحق الذي وجب على المتحمل عنه قلت: فإذا أعدى على الحميل، فأراد الحميل أن يباع له مال المتحمل عنه، أترى أن يباع، أو يستأنى به؟ قال: إن كان ببلد بعيد على مسيرة العشر ليال ونحوها، لم ينتظر، ويبيع ماله، فقضى الغريم منه، وإن كانت(11/339)
على مسيرة اليوم واليومين ونحو ذلك، انتظر حتى يعذر إليه بكتاب ليقدم، فيبرأ أو سن له بحقه.، ليباع ماله، ويقضي به دينه. قال: والحميل بالمال إذا حل الأجل لم يؤجل، ولم يؤخر إلا برضى صاحب الحق هو في ذلك كالغريم بعينه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الحميل بالوجه إذا غاب المتحمل به وحل الأجل، إن السلطان يؤجله في طلب صاحبه اليوم واليومين والثلاثة، خلاف ما في المدونة من أنه يؤجل اليوم ونحوه. وقوله: إن الحميل بالمال إذا حل الأجل لا يؤجله ولا يؤخر إلا برضى صاحب الحق.
وقد مضى القول على ذلك كله هنالك، فلا معنى لإعادته. وأما قوله: إن الحميل بالوجه إذا غرم المال في غيبة المتحمل عنه به، فسأل أن يباع به مال الغريم، إنه لا يباع له، دون أن يعذر إليه إلا في الغيبة البعيدة العشرة ليال أو نحوها، فهو صحيح؛ لأنه حكم على غائب، والغائب لا يحكم عليه إلا بعد الإعذار إليه. وقد مضى تحصيل الحكم في الغائب في رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: أحاله على غريمه بعشرة دنانير فيقبض ذلك منه ثم يأتي المحيل يتقاضاه]
مسألة قال: وسألته عن رجل قال لرجل: أحيلك على غريمي هذا بعشرة دنانير، فيقبض ذلك منه، ثم إن المحيل أتى القابض فقال: اقضني ما تقاضيت من غريمي، فإني إنما كنت أسلفتكما سلفا، وقال القابض: إنما أحلتني بحق كان لي عليك، فقد قبضت حقي. وإحالتك إياي إقرار منك بحقي، وليست له بينة على أصل الحق، قال: أرى المتقاضي غريما للعشرة، وأراها كالسلف(11/340)
عليه، ولا حق له على الحميل، إلا أن تكون له بينة على أصل الحق، فأما إحالته إياه، فليس هو عندي إقرار، بل هو بذلك مسلف، وأرى للقابض أجرة التقاضي إن كان ذلك شيئا له أجرة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المتقاضي غارم للعشرة، معناه، بعد يمين المحيل، وقوله: وأراها كالسلف عليه، معناه: وأراها كالسلف الذي يتقاران جميعا عليه؛ لأنه يستحقه بيمينه قبله. وفي قوله: وأرى للقابض أجرة مثله نظر، إذ لم يدع الأجرة، وإنما زعم أنه قبض حقه الواجب له، وكذلك لو قال الحميل: إنما أحيلك بها، لتكفيني مؤنة تقاضيها، لكان القول قوله أيضا على ما حكاه ابن حبيب، ولكانت له أجرة التقاضي إن كان شيئا له أجرة، وكان ممن يعمل هذا بالأجرة. وقوله في هذه المسألة على قياس قوله في آخر كتاب المديان من المدونة في الذي يقول للرجل: ادفع إلى فلان عني ألف دينار، فيدفعها إليه ثم يريد أخذها من الآمر، فيقول: كانت لي عليك دينا، إن القول قول المأمور؛ لأنه أخرج الدينار من عنده، فالقول قوله: إنها له، حتى يثبت أنها كانت عليه دينا للآمر. يريد: إلا ألا يشبه ما يقول، مثل أن يعلم من فقره، وكونه غريما للآمر، ما لا يشك أنه يكسب هذا القدر.
وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون في مسألة الكتاب هذه، أن ذلك على ما يشبه، فإن كان من أحلته يشبه أن يكون له عليك مثل ذلك، فهو مصدق مع يمينه، وإن كان لا يشبه، فهو كوكيلك، فيكون القول قولك مع يمينك. وحكي عن أشهب أن الحميل مصدق، أشبه قوله أو لم يشبه، وإنما معناه: إن القول قوله إذا أشبه قول المحال، أو لم يشبه، فلا اختلاف إذا أشبه قول أحدهما ولم يشبه قول الآخر، إن القول قول من أتى منهما بما يشبه، وإنما الاختلاف إذا أتيا جميعا بما يشبه، أو بما لا يشبه، فقال ابن القاسم وأشهب: القول قول المحيل، وقال ابن الماجشون: القول قول(11/341)
المحال القابض، وهو على القول المعروف من مذهب أشهب أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه؛ لأنه يقول: لم أقبض إلا حقي الواجب لي، خلاف قوله وقول ابن القاسم في هذه المسألة. وبالله التوفيق.
[يتحمل عن الرجل بعرض من العروض فيقضى على الحميل بالغرم]
ومن كتاب الأقضية
قال: وقال ابن القاسم في الرجل يتحمل عن الرجل بعرض من العروض: الطعام والحيوان، وغير ذلك، فيقضى على الحميل بالغرم، إنه إن اشترى للطالب العرض الذي تحمل له به، غرم المتحمل عنه الثمن الذي اشترى به العرض الذي أدى عنه بالغا ما بلغ. قال: وإن أدى عنه ثمنا من دنانير أو دراهم، خير المتحمل عنه، إن شاء غرم ما غرم عنه، وإن شاء غرم العرض الذي كان عليه. قال: ولو كان غرم عنه مثل العرض الذي كان عليه من عند نفسه، لم يشتره، فإن كان مما يكال أو يوزن، مما يوكل أو يشرب، أو غير ما يوكل أو يشرب، غرم مكيله ذلك أو وزنه من صنفه، وإن كان الذي عليه عرض من العروض، فغرم عنه من عنده مثله، غرم لذلك، أو وزنه أيضا مثل ذلك، وإن كان غرم عنه عرضا مخالفا للعرض الذي كان تحمل به عنه، خير المطلوب، فإن شاء غرم قيمة العرض الذي غرم عنه يوم أخرجه الحميل، وإن شاء غرم مثل العرض الذي كان وجب عليه فقط.
قال محمد بن رشد: أما إذا اشترى الكفيل العرض الذي تحمل به للطالب، فلا اختلاف أعرفه في أنه يرجع على المطلوب بالثمن الذي اشتراه(11/342)
به، ما لم يحاب البائع، فلا يرجع عليه بالزيادة على القيمة. فقوله في هذه الرواية: بالغا ما بلغ، معناه ما لم يكن أكثر من القيمة بما لا يتغابن الناس بمثله في البيوع؛ لأنه لما تكفل عنه بأمره، فكأنه وكيل له على الشراء، إذ قد علم أنه سيطلب بما تحمل به عنه، ويحتاج إلى ابتياعه، وأما إن أدى عنه في العروض دنانير أو دراهم أو عرضا مخالفا له، وكان تحمل عنه بدنانير، فأدى عنه دراهم، أو بدراهم، فأدى عنه دنانير، أو تمرا فأدى عنه قمحا. ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها إن ذلك لا يجوز، والثاني إن ذلك جائز، والثالث إن ذلك جائز فيما تجوز فيه النسيئة في المبايعة، وغير جائز فيما لا تجوز فيه النسيئة في المبايعة، وهو أن يؤدي عنه دنانير من دراهم، أو دراهم من دنانير، أو تمرا من قمح، أو قمحا من تمر، وما أشبه ذلك، فعلى القول إن ذلك لا يجوز، يفسخ القضاء ويرجع على الطالب بما دفع إليه. واختلف على القول بأن ذلك جائز بما يرجع الكفيل على المطلوب المتحمل عنه، فقيل: يرجع عليه بما تحمل به عنه، وقيل: يخير المتحمل عنه، فإن شاء غرم ما غرم عنه، وإن شاء غرم الذي كان عليه، وهذا معنى قول مالك في كتاب المديان من المدونة: إنه لا يربح في السلف، والقولان في كتاب الكفالة من المدونة. فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وقد مضى هذا له في رسم العرية من سماع عيسى من هذا الكتاب، وفي أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف. وكذلك اختلف في المأمور يقضي خلاف ما أمر به على هذين القولين، وقد فرق بين الكفيل والمأمور في ذلك. فقيل إن الكفيل يرجع بما أدى وإن المأمور يرجع بما كان للطالب عليه. واختلف إذا أدى عنه من عنده مثل العرض الذي كان عليه، فقال في هذه الرواية: إنه يرجع عليه بمثله، وهو مذهبه في المدونة، والمشهور في المذهب، وقال في سماع أبي زيد: إن المطلوب مخير، إن شاء دفع إليه مثل ما غرم عنه. وإن شاء دفع إليه(11/343)
قيمته. وقال في الواضحة: لا يغرم له إلا قيمته؟ ولا اختلاف إذا أدى عنه عروضا عن دنانير، والبلد يتبايع فيه بالدينار في أن ذلك جائز؛ لأن ذلك يرجع إلى التخيير بين القليل والكثير، وليس في ذلك اختلاف أعراض أنه يؤدي إلى الأقل، وبالله التوفيق.
[يقر للرجل أنه تحمل له بما على غريم له فأنكر الذي زعم أنه تحمل عنه]
ومن كتاب أوله: أول عبد أبتاعه فهو حر قال: وسألته عن الرجل يقر للرجل أنه تحمل له بما على غريم له، فأنكر الذي زعم أنه تحمل عنه أن يكون للطالب قبله حق، أو أن يكون المقر بالحمالة تحمل عنه بشيء، فقال: يغرم المقر لصاحب الحق ما أقر له مما زعم أنه عمل به عن المطلوب، ثم لا يعدى الحميل الغريم على المطلوب إلا أن يقيم عليه البينة أن ذلك الحق عليه للطالب.
قلت: أرأيت إن أقر بالحق أو أنكر أن يكون تحمل المقر بالحمالة عنه بشيء؟ فقال: يغرم المطلوب ما أقر به، ولا سبيل إلى الحميل حتى لا يوجد للغريم وفاء بما عليه، فإن لم يكن عنده وفاء، غرم الحميل ما أقر أنه تحمل به، وأعدي على الغريم يطلبه بما أدى عنه.
قلت له: ولم يعد عليه، ولم يقر له أنه تحمل عنه بشيء؟ قال: ألا ترى أنه لو لم يغرم عنه شيئا فأحاله عليه صاحب الحق، جاز له أن يطلبه بذلك الحق، ولو أنه قال لصاحب الحق ولم يكن تحمل عنه بشيء: أقضيك عن فلان، وأنا أطلبه بهذا الحق، كان ذلك له، فلا حجة للمطلوب إذا أعدي عليه المقر بالحمالة الغارم بالإقرار، في أن يقول: لا يعدى علي ولم يتحمل عني بشيء، إذا(11/344)
أوصل إلى صاحب الحق حقه، من قبل أن المقر له بالحمالة أعدي على الغريم بما أدى عنه، كما كان يعدى عليه ولو أتى عنه بغير حمالة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الحميل أقر أنه يعرف الحق على المتحمل عنه، ولذلك ألزمه الحميل، دون أن تثبت بينة لصاحب الحق عليه، فقال: يغرم المقر لصاحب الحق بما أقر له به مما زعم أنه تحمل به عن المطلوب، ثم لا يعدى الحميل الغريم على المطلوب إلا أن يقيم عليه البينة أن ذلك الحق عليه للطالب، فليست هذه المسألة على هذا التأويل بمخالفة لما في المدونة، ولا لما مضى في رسم التمرة من سماع عيسى إلا أنها مسألة فيها اختلاف قيل: إنه لا يلزمه الغريم بإقراره بالكفالة، وإن أقر أنه يعرف الحق قبل المطلوب، إذا كان المطلوب منكرا، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه، وقيل: إنه يلزمه الغريم بإقراره بالكفالة، وإن كان المطلوب منكرا، إذا كان معدما ولا يلزمه إذا كان مليا. وهذا القول يقوم من قول ابن القاسم في أول رسم من سماعه من كتاب الشهادات، في أن شهادة الكفيل على الغريم بالدين الذي تحمل به عنه، تجوز إن كان الغريم مليا، ولا تجوز إن كان معدما. فعلى قول ابن القاسم في هذه الرواية، لا يجوز شهادة الحميل بالدين على الغريم مليا كان أو معدما، وهو نص قول مالك في أول سماعه من كتاب الشهادات. وقد قيل: إن الحميل إن كان معدما جازت شهادته على الغريم بالدين، وإن كان مليا لم تجز شهادته عليه، وهو صحيح على قياس قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن الحميل غارم؛ لأنه إذا أسقط عنه الغرم لعدمه سقطت عنه التهمة في شهادته. وأما إذا قبض صاحب الحق من الحميل حقه بإقراره بالحمالة فلا تجوز شهادته للحميل على الغريم؛ لأنه قد كان مكذبا في دعواه، فإذا أشهدوا بما يصدق نفسه فيما كان ادعى وأمضى، فإن ما شهد فيه أصله، فهو شاهد لنفسه.
وقد مضى في رسم الثمرة من سماع عيسى من هذا الكتاب، وفي أول(11/345)
سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات في هذه المسألة زيادات، فتأملها وقف عليها.
وأما قوله: إن أقر الغريم بالحق، وأنكر أن يكون المقر بالحمالة تحمل عنه بشيء إلى آخر المسألة، فهو كله كلام بين لا إشكال فيه ولا التباس في شيء من معانيه إلا في قوله: ولو قال لصاحب الحق أقضيك عن فلان، وأنا أطلبه بهذا الحق، كان ذلك له، فإنه ليس على ظاهره، ومعناه: إذا قال له: أنا أطلبه به على وجه المعروف منه إليه في كفايته الاقتضاء منه على سبيل الشرط عليه؛ لأنه لم يجز في كتاب الهبات من المدونة أن يسلف الرجل الرجل دنانير، على أن يحيله بها على رجل آخر، كانت المنفعة للذي أسلف أو للذي أسلف، وهذا الاختلاف على اختلافهم في القراض بلفظ البيع، هل يجوز أم لا؟ لأن الحوالة بيع من البيوع، وإنما يجوز ذلك على القول بجوازه إذا لم يرد بذلك ضرره وسجنه. قاله في المديان من المدونة وغيره من الكتب وبالله التوفيق.
[مسألة: يتحمل له الرجل عن غريمه بماله عليه إلى أجل]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يتحمل له الرجل عن غريمه بماله عليه إلى أجل، فلما حل الأجل، أراد صاحب الحق أن يأخذ الحميل بما له على الغريم. وقال الحميل للغريم: أنا كنت تحملت لك إلى الأجل، فلما حل الأجل، لقيت صاحبك فاقتضيته بعض حقك، وأنظرته بما أحببت، فإنظارك إياه، يبريني من الحمالة، قال: لا براءة له حتى يصل إلى صاحب الحق آخر حقه، ولا يضره إنظاره إياه، وإنما هو مرفق أدخله الطالب على الغريم والحميل، فليس إحسانه حجة يسقط بها ما وجب على الحميل.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم الأقضية من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.(11/346)
[يتحمل بوجه رجل إلى أجل فيموت المتحمل عنه قبل الأجل أو بعده]
من سماع سحنون من ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتحمل بوجه رجل إلى أجل، فيموت المتحمل عنه قبل الأجل أو بعده، قال: إن كان حاضرا أو مات في الحضر، فلا شيء على الحميل، وإن كان غائبا فمات نظر، فإن كان بموضع لو كلفه أتى به في الأجل أو بعده بشيء، لم يكن على الحميل غرم، وإن كان بموضع لو كلفه لم يأت به إلا بعد الأجل بكثرة فأراه ضامنا.
محمد بن أحمد: هذه المسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم سلف دينارا من سماع عيسى لتكرر الرواية هناك، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق. اللهم لطفك.
[يدعي قبل رجل دابة فقال له رجل آخر أنا ضامن لك ما جاء في هذه الدابة]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون وسئل سحنون عن رجل يدعي قبل رجل دابة، فقال له رجل آخر أنا ضامن لك ما جاء في هذه الدابة، فحل عنه ففرجت الدابة إلى الداعي يوما آخر فماتت فقال: هو ضامن لها إن أثبتها المدعي عند القاضي وقضى له بها.
قال محمد بن رشد: أصبغ يقول في هذه المسألة: إنه لا يضمن في الموت، وهو الأظهر؛ لأن المعنى المقصود في ضمانها ما يخشى من أن يكون الذي هي بيده بعينها، أو يهرب بها، فترك ما يجب له من توقيفها بما أظهره من الشبهة فيها، إلا أن يثبتها بالضمان الذي ضمنه له، فالأظهر لا يضمن له إلا المعنى الذي ظهر أنه قصده. ووجه قول سحنون، اتباع عموم ظاهر اللفظ، إذ لا يحصر حالا من حال، ومن هذا المعنى ما تقدم القول(11/347)
عليه في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الرهن في ضمان الرهن للمرتهن، فهو أصل قد اختلف فيه قول مالك، حسبما بيناه هناك. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتحمل عن الرجل فإذا حل الأجل قام الغريم على الحميل]
مسألة قلت: فالرجل يتحمل عن الرجل، فإذا حل الأجل، قام الغريم على الحميل، إن المتحمل عنه عديم، ويقول الحميل: بل غريمك مليء على من كشف مال الغريم، فقال: إذا لم يعرف له مال ظاهر، فإن الحميل ما يحمل عنه، إلا أن يكشف لمن تحمل له مال الغريم، فلا يكون له عليه حينئذ شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا لم يعرف له مال ظاهر، فإن الحميل غارم، يدل على أنه محمول على العدم، وأن على الحميل إقامة البينة على ملائه، وإلا غرم ومما يقوي هذا من مذهبه قوله الذي حكيناه عنه في رسم الثمرة من سماع عيسى في الحميل يقر بالحمالة وينكر الذي عليه الحق يضمن، ولا يكلف الطالب أن يثبت الدين قبل المطلوب، إن كانت له بينة ليطلب الغريم قبل الحميل عاجلا، ثم يقوم هو بالبينة على الغريم، ليرجع عليه بما غرم، وفي رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب النكاح، ما يدل على أنه محمول على الملأ، وأن على المتحمل له إقامة البينة أنه عديم؛ لأنه قال فيه: إنه لا شيء على الحميل حتى لا يوجد للغريم مال. وقول سحنون أظهر لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الزعيم غارم» لأنه يجب بظاهر هذا القول(11/348)
حتى يثبت ما يسقط ذلك عنه من ملأ الغريم، ولأنه قد روي عن مالك، بدليل هذا الحديث إن للطالب أخذ الكفيل بالغريم، وإن كان المطلوب المتحمل به مليا، والأظهر قوله الثاني الذي اختاره ابن القاسم؛ لأنه لا يؤخذ الحميل إلا في عدم الغريم، لأنا إن قضينا على الحميل بالغرم، والغريم مالى، وجب أن يقضى للحميل في الحين بالغرم على الغريم، فالقضاء للطالب على الغريم أولى، وأقل عناء، ووجه رواية يحيى في أن الغريم محمول على الملأ، وأن على الطالب إقامة البينة على عدمه، هو الإجماع على أن الدين لم يسقط عن ذمة الغريم بالكفالة، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر للذي ادعى الدين الذي يحمل به عن الميت، «الآن بردت عليه جلده» . فإذا لم يسقط الدين عن ذمته بالكفالة، كان هو أحق أن يتبع به. وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل دين فأحاله على غريم له وشرط عليه]
مسألة قال سحنون: وسئل المغيرة عن رجل له على رجل دين، فأحاله على غريم له، وشرط عليه إن لم يقض أو فلس ارتجع على صاحبه. أترى هذا حولا ثابتا أم حمالة؟ وهل تراه أولى به من الغرماء إن فلس قبل أن يقضى؟ قال: أراه حولا ثابتا وأراه للطالب الذي احتال عليه، وله على صاحبه ما ضمن له من شرطه عليه، إذا فلس الذي احتال عليه، رجع على صاحبه بما اشترط عليه.
قال محمد بن رشد: قول المغيرة هذا صحيح، لا أعرف فيما(11/349)
أجازه من هذا الشرط في الحوالة خلافا في المذهب؛ لأنه شرط لا فساد فيه، فوجب أن يجوز ويلزم، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "المسلمون «على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا» . وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل دينارا ذهبا على أن يدفع إليه أربعين درهما إلى شهر]
مسألة وسئل سحنون عن رجل دفع إلى رجل دينارا ذهبا، على أن يدفع إليه أربعين درهما إلى شهر، ويحمل له رجل بالأربعين درهما إلى ذلك الأجل، فلم يستفق لذلك حتى حل الأجل، فقال: يؤخذ الحميل بالأربعين درهما الذي تحمل بها، فإن كان فيها ما يشتري به دينارا، اشترى به دينارا لرب الدين، ودفع إليه، ورجع الحميل بالأربعين درهما على الذي غرمها عنه، وإن كان في الأربعين درهما أكثر من دينار، اشترى منهما دينارا بما بلغ، مثل أن يشتري بعشرين درهما ويرجع الكفيل بعشرين على الذي غرمها عنه، وإن كانت الأربعين لا يكون فيها ما يشتري بها دينارا لرخص الدراهم أو كثرتها، غرم الحميل الأربعين درهما، وغرم الذي أخذ الدينار بقية تمام الدينار، واشترى الدافع الدينار دينارا، ودفعه إليه، ورجع الذي غرم الأربعين درهما بما غرم على صاحبه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول رسم العرية فلا معنى لإعادته.(11/350)
[مسألة: طلبا دابتين ذهبتا منهما فألفياهما عند رجل أعطياني حميلا بقيمتهما]
مسألة من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب وأشهب قال عبد الملك بن الحسن: سئل عبد الله بن وهب عن رجلين طلبا دابتين ذهبتا منهما، فألفياهما عند رجل من الناس، فأعلماه أنهما سرقتا منهما، فقال لهما الذي ألفياهما في يديه: أعطياني حميلا بقيمتهما إلى أجل، واذهبا بالدابتين إلى بلدكما، فإن أقمتما لي بينة عليهما عند قاضيكما، فلا حق لي على حميلكما، وإن لم يثبت ذلك أخذت حميلي بالقيمة إلى ذلك الأجل، فتحمل أحد الرجلين الطالبين للذي ألفيا عنده الدابتين بقيمتهما إلى أجل، ثم انطلقا بالدابة إلى بلدهما، ليقيما عليهما البينة، فهلكتا الدابتين في أيديهما قبل أن يستحقاهما بالبينة، فأتى الذي ألفيت الدابتان عنده عند الأجل إلى حميل أحد الرجلين، فأخذ منه القيمة التي كان يحمل بهما بأمر السلطان، أو بغير أمر السلطان، قلما ذهب أن يرجع على صاحبه الذي تحمل عنه بما غرم عنه، قال له صاحبه: ذلك أن تغرمني ثمن دابة، وأنت تعلم أنها دابتي وإني إنما طلبت من أمرها حقا، فقال الحميل: إنما أعرف أنها دابتك، غير أنك لم تستحقها بالبينة حتى تدفع عني ما تحملت به عنك من قيمتها، وقد غرمت عنك بحمالتي قيمتها فيما يذهب مالي وإنما غرمته عنك بالأمر في ذلك. قال: يرجع عليه بما غرم عنه على ما أحب أو كره، إذا كانت حمالته بأمره؛ لأنه قد أدخله في ذلك، وأمره بالحمالة، وقد علم أنه يثبت أو لا يثبت، ويسلم الدابتان أو لا يسلمان، ولم يثبت بها حق فيسقط الغرم عنهما، فهو يرجع على صاحبه بنصف الغرم، حُكْمٌ يُحكَم به عليه، شاء أو أبى. وإذا كان قد غرم ما تحمل به عنه وعن نفسه، وإن لم يكن غرم رجع(11/351)
المتحمل له عليهما، فأخذ من كل واحد منهما النصف، إذا كانت حمالة المتحمل بإذن صاحبه المدعي معه، وأمره كما وصفت. قال أشهب: عليه أن يغرم له ما غرم عنه، إلا أن يستحق الدابتان ببينة، فيرجع المتحمل إلى الذي كانت له الدابتان في يديه فيأخذ منه قيمتهما التي دفع إليه مثل قول ابن وهب.
قال محمد بن رشد: كان من أدركنا من الشيوخ يحملون قول ابن وهب وأشهب في هذه المسألة على أنه خلاف قول ابن القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى في كتاب الاستحقاق، في الذي يستحق من يديه العبد، وهو يعلم أنه من بلاد البائع، إنه لا رجوع له عليه بشيء من الثمن الذي دفع إليه وخلاف قول سحنون - في نوازله من كتاب جامع البيوع في الذي يبتاع الأرض أو الدار من الرجال، وهو قد عره في يديه يحوزه ويملكه ثم يسأله أن يحوزه إياه، إن ذلك لا يلزمه، ولست أرى ذلك ولا أقول به، لأنهما إنما أرجعا الحميل على صاحبه بما أدى عنه من أجل أنه قد التزم ضمان ذلك، لأنهما جميعا التزما ضمان الدابتين للذي ألفياهما في يديه، وتحمل أحدهما بذلك عن صاحبه، فوجب إذا غرم عنه بالحمالة، ما هو له ضامن بالتزامه ضمانه، أن يرجع به عليه قولا واحدا. وبالله التوفيق.
[باع طعاما إلى أجل وتحمل له رجل بالدينار فلما حل الأجل غرمه الحامل]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيع والصرف
قال أصبغ: قال ابن القاسم في رجل باع طعاما نقدا بدين إلى أجل، وتحمل له رجل بالدينار، فلما حل الأجل، غرمه الحامل، ثم رجع على صاحبه، فأراد أن يعطيه في ذلك طعاما مخالفا لذلك الطعام الذي اشترى منه أو من صنفه أكثر من كيله، قال: لا بأس بذلك كله، والحميل ها هنا بمنزلة البائع، قيل: فلو لم يكن حميلا فتطوع، فقضاه عن الغريم، ثم أراد أن يأخذ من المشتري ما(11/352)
وصفناه، قال: فلا بأس بذلك، هو بمنزلة الحميل أيضا في ذلك، وإنما الذي كره من ذلك، أن يكون البائع الذي تحمل به عليه، فلا يجوز للمتحمل إلا ما كان يجوز للبائع أن يأخذه؛ لأنه بمنزلته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه لا يجوز للحميل أو المتطوع بالأداء إذا أدى الدينار عن المشتري، للبائع أن يأخذ منه بديناره طعاما مخالفا له، أو من صنفه أكثر منه؛ لأنه لم يدفع طعاما، وإنما دفع دينارا، فجائز له أن يأخذ به طعاما. وقوله: ليس الحميل ها هنا بمنزلة البائع، بين صحيح؛ لأن البائع باع طعاما، فلا يجوز له أن يأخذ من المشتري طعاما؛ لأنه يدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما، فيتهمان على أنهما عملا على بيع طعام بطعام إلى أجل. وقوله: وإنما الذي كره من ذلك أن يكون البائع الذي تحمل به عليه، معناه: وإنما الذي كره من ذلك أن يكون البائع للطعام بالدينار، تحمل رجلا له عليه دينار به، فيأخذ منه به طعاما، وذلك صحيح على ما قاله؛ لأن المحيل ينزل في الدين الذي أحيل به منزلة من أحاله، ومنزلته في الدين الذي أحيل به فيما يجوز له أن يأخذ له منه، وفيما يريد أن يتبعه من غيره، فلا يجوز له أن يأخذ منه إلا ما كان يجوز للذي أحاله أن يأخذه منه، وما كان يجوز له هو أن يأخذه من الدين الذي أحيل به. وبالله التوفيق.
[مسألة: يتحمل للبائع رجل على أنه إن مات الحميل قبل ذلك فلا حق له]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم، وسئل عن الرجل يشتري من الرجل السلعة على أن يتحمل للبائع رجل على أنه إن مات الحميل قبل ذلك، فلا حق له على ورثته، أو مات صاحبه قبل، فلا حمالة له على الحميل والورثة، قال: هذا حرام، فإن وقع وفاتت السلعة ردت إلى القيمة، والحمالة ساقطة عن الحميل، على كل حال. قال أصبغ: أرى جوابه هذا على عجلة وغير علم بالمسألة،(11/353)
وأنه أجاب جواب غيرها مما سبق إليه ظنه به، وليس بالمسألة بأس، والبيع عليهما؛ لأن الشرط ليس للمشتري، وإنما هو للحميل، والحق ثابت بحاله للغريم، ليس فيه شرط، فيكون فيه غرور، ومعناه: وإنما شرط الحميل لنفسه كما لو تحمل على غير بيع، ولا اشترى منهما بدين قد كان على المحيل قبل ذلك ثابتا بعوض أو بغيره، واشترط الحميل لنفسه هذا الشرط، لم يكن به بأس، فذلك هو بالبيع والاشتراء، إذا كان الثمن المشتري ثابتا مؤجلا وللحميل شرطه، وإنما ذلك بمنزلة ما لو احتمل مهر امرأة إن تم الدخول بها فعليه، وإن ماتا قبل ذلك أو طلقها فلا احتمال عليه، وهو على الزوج ثابت. أو تحمل على إن أعطاني فلان وثيقة قبل أن يموت، وإلا فلا حمالة لكم علي، أو تحمل إلى قدوم فلان، فإن قدم، أو إلى أجل على إن قدم قبل الأجل فلا حمالة عليه، فهذا كله وما أشبهه، جائز ولا مغاررة فيه من الحميل والبائع، ولا في البيع والاشتراء؛ لأن الثمن ثابت على المشتري، وإنما الذي يفسد ويحرم، أن لو اشترط المشتري إن مات قبل الأجل، فلا تباعة عليه، وإن مات صاحب الحق فلا تباعة له ولا لورثته، والثمن مقدر، أو اشترط الحميل لنفسه وللمشتري جميعا، فيكون أفسد وأشهد وإلا فلا بأس به إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قول: الرجل يشتري من الرجل السلعة على أن يتحمل للبائع رجل، يريد: بالثمن الذي اشتراها به إلى أجل. وقوله: على أنه إن مات قبل ذلك، يريد: قبل الأجل الذي اشترى إليه السلعة. وقوله: أو مات صاحبه قبل، يريد: أو مات المتحمل به المشتري قبل الأجل أيضا، والحمالة على هذا الشرط جائزة إن كانت بعد عقد البيع، روى ذلك(11/354)
أصبغ عن ابن القاسم، فيما حكاه ابن حبيب. واختلف إن كانت مشترطة في أصل عقد البيع على أربعة أقوال: أحدها قول ابن القاسم هذا: إن البيع فاسد، والحمالة ساقطة، والثاني: قول أصبغ: إن البيع جائز، والحمالة لازمة، وهو قوله: والمسألة ليس بها بأس والبيع عليهما، يريد: الشرطين، والثالث: إن البيع جائز، والحمالة ساقطة، والرابع: إن البيع فاسد والحمالة لازمة، والاختلاف في هذه المسألة كالاختلاف في البيع على رهن فاسد، على حسب ما قد ذكرناه في أول سماع أصبغ، من كتاب الرهون. وقال بعض أهل النظر: إن قول ابن القاسم في هذه المسألة مخالف لأصله في المدونة في إجازة اشتراط الرهن الغرر، كالثمرة التي لم يبد صلاحها في أصل البيع، وليس ذلك عندي بصحيح، لافتراق المسألتين، فإن الغرر في الثمرة لا صنع لهما فيه والغرر في الحمالة إنما كان بقصدهما له، واشتراطهما إياه، ولو كان الرهن إنما الغرر فيه بما اشترطاه، لجاز ارتهانه بعد عقد البيع قولا واحدا، ويتخرج في اشتراطه في عقد البيع أربعة أقوال، حسبما قد ذكرناه في أول سماع أصبغ، من كتاب الرهن.
وهذه المسألة من غريب المسائل على مذهب ابن القاسم؛ لأنه لا تجوز الحمالة إذا انفردت عن البيع ويبطلها ويفسد البيع إذا اشترط في أصله. وفرق أشهب في رواية البرقي عنه بين الرهن والحمالة الصحيحين في أصل البيع الفاسد، فأبطل الحمالة وجعل الرهن رهنا بالثمن من الثمن أو القيمة، وابن القاسم يبطل الرهن والحمالة في أحد أقاويله، على ما مضى من اختلاف قوله في رسم العرية من سماع عيسى. وبالله التوفيق.
[مسألة: تحمل عن رجل فقال الذي عليه الحق للحميل بعني سلعتك]
مسألة وسئل عن رجل تحمل عن رجل، فقال الذي عليه الحق للحميل: بعني سلعتك اقضها فلانا أو أبيعها فاقضها فلانا،(11/355)
فتسقط عنك الحمالة، قال: ما أراه يحل ولا يعجبني، لأني أخاف أن يكون من وجه الدين بالدين، ووجه من وجوه الربا.
قال محمد بن رشد: المكروه في هذه المسألة بين؛ لأن المعنى فيها أنه اشترى منه السلعة إلى أجل بأكثر من قيمتها نقدا على أن يقبضها غريمه فيما كان له عليه من الدين الذي كان تحمل به عنه، إن كان قضى السلعة بعينها عنه، ولم يبعها، وإن كان باعها فقضاه الثمن، صار كأن الحميل قضى عنه عشرة، إن كان باع السلعة في التمثيل بعشرة، على أن يأخذ من المشتري خمسة عشر إلى أجل إن كان باعها منه في التمثيل بخمسة عشر إلى أجله، فدخله سلف خمسة في خمسة عشر إلى أجل بذلك الدينار بعينه. ووجه من وجوه الدين بالدين كما قال؛ لأن الحميل كأنه دفع إلى المتحمل له، عشرة دنانير، على أن يأخذ بها عن المتحمل عنه خمسة عشرة إلى أجل، وذلك من المكروه. وبالله التوفيق.
[باع من رجل عبدا بنظرة فأحال بها عليه رجلا فأقر بها المشتري]
ومن كتاب القضاء العاشر من البيوع
قال أصبغ: وسألته عن رجل باع من رجل عبدا بنظرة، فأحال بها عليه رجلا فأقر بها المشتري الذي أحيل بها عليه، ثم رد العبد من عيب كان به. قال: إن كان أحاله بدين كان له عليه، لزم المتحمل عليه غرم ذلك للمحال، وإن كان أصله منه، أو هبة وهبها لآخر لم يلزمه غرم شيء إذا لم يكن دفعها، وإن هو دفعها إليه، لم ينتفع بها الموهوب له أو المتصدق عليه والموصول بها، ولم يتبع بها إلا البائع الذي باعه الرأس، ولم يكن له على المدفوع(11/356)
إليه قليل ولا كثير، وإنما دفعه إياها بمنزلة ما لو قبضها البائع، ثم تصدق بها على أحد، أو وهبها له؛ لأنه يوم فعل ذلك لم يكن عليه دين يرد به صدقته ولا هبته، وإنما هو قضاء حادث. وفي سماع أبي زيد بن أبي الغمر عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن باع عبدا بنظرة فأحال غريما على المشتري بالثمن، فرد بعيب: إنه يلزمه أن يدفع الثمن إلى المحال ويرد به على البائع المحيل، وهو مثل قوله في كتاب الحوالة من المدونة: إنه إذا استحق العبد على القول بأن الرد بالعيب نقض بيع، فدخل فيه قول أشهب، فلا يلزمه على مذهبه أن يدفع الثمن إلى المحال، وإن كان قد دفعه إليه قبضه منه أو فات عنده على مذهبه، مضى له، ورجع المشتري بالثمن على البائع، وقيل: لا يلزمه أن يدفعه إليه، فإن دفعه إليه، كان له أن يرجع به عليه، وإن فاته من يده، وإن شاء رجع على البائع؛ لأن البيع قد كشف أنه أحاله بما لم يملك، وأما على القول بأنه ابتداء بيع، فيلزمه أن يدفع إلى المحال الثمن قولا واحدا. والله أعلم.
وكذلك يختلف إذا وهب الثمن أو تصدق به ثم استحق العبد أو رد بعيب على هذه أربعة أقوال: أحدها إن هبته والصدقة به، تفوت له، ويلزم المبتاع أن يدفعه إلى المتصدق عليه، أو الموهوب له، ويرجع به على البائع الواهب. روى ذلك عيسى عن ابن القاسم في المدونة قال: ذلك إذا كان قد جمع بينه وبينه، فأقر له، وهو قول بعض الرواة في النكاح الثاني من المدونة. وفي المرأة تهب لرجل صداقها على زوجها قبل الدخول، فيطلقها، إنه يلزمه أن يدفع جميعه إلى الموهوب له، ويرجع بنصفه على المرأة. والثاني إنه لا يفوت إلا بالقبض، فإن لم يدفعه المشتري، كان له أن يمسكه، وإن كان قد(11/357)
دفعه لم يكن له أخذه، ورجع على البائع به. والثالث إنه لا يفوت إلا باستهلاك الموهوب له بعد القبض، فإن كان لم يدفعه كان له أن يمسكه وإن كان قد دفعه إليه، كان له أن يأخذه منه ما لم يفوته بأكل أو استهلاك، فإن فوته بذلك، مضى له ورجع المشتري به على البائع الواهب. والرابع إن الهبة والصدقة لا تصح للموهوب له والمتصدق عليه في حال من الأحوال؛ لأن الغيب كشف أنه وهب أو تصدق بما لم يملك، وإن كان قد دفعه باستهلاكه، رجع المبتاع على البائع، ورجع البائع على المتصدق عليه والموهوب له. حكاه محمد بن المواز عن ابن القاسم في المرأة تأخذ الصداق من زوجها تتصدق به، فيطلقها قبل الدخول، إنه يرجع عليها بنصف الصداق، وترجع هي به على المتصدق عليه؛ لأنها تصدقت عليه بما لم يصح لها ملكه. وفي المسألة قول خامس، وهو إن كان البائع الواهب عديما، كان للمشتري أن يمسكه إن كان لم يدفعه، وإن كان مليا لزمه أن يدفعه إلى الموهوب له، ويتبع به الواهب، وهو قول ابن القاسم في النكاح الثاني من المدونة، وفي المرأة تهب الصداق الذي لها على زوجها فيطلقها قبل الدخول.
هذا تحصيل الخلاف في هذه المسألة، والذي يوجبه النظر والقياس فيها أن يكون هذا الاختلاف في الرد بالعيب على القول بأنه بيع مبتدأ، وفي الطلاق قبل الدخول على القول بأن المرأة يجب لها جميع الصداق بالعقد، ولا يجوز الهبة ولا الصدقة في الاستحقاق ولا في الرد بالعيب على القول بأنه نقض بيع، ولا في الطلاق؛ لأنه لا يجب للمرأة بالعقد إلا نصف الصداق، فيأتي جواب ابن القاسم في مسألة هبة الزوجة صداقها قبل الدخول، على القول بأن المرأة لا يجب لها بالعقد من الصداق إلا نصفه. وجواب بعض الرواة على أنها يجب لها بالعقد جميعه. وبالله التوفيق.(11/358)
[يقول للرجل تحمل عني لفلان ولك دينار]
ومن كتاب محض القضاء وسئل أصبغ عن الرجل يقول للرجل: تحمل عني لفلان، ولك دينار. قال: لا خير فيه، كأنه أعطاه دينارا على أن يضمن عنه عشرة، فلا يجوز.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الحمالات بالجعل حرام. وقوله. وكأنه أعطاه دينارا على أن يضمن عنه عشرة، ليس بكلام مستقيم، إذ ليس بشبيه له، وإنما هو ذلك بعينه فكان صواب الكلام أن يقول: لا خير فيه؛ لأنه أعطاه دينارا على أن يضمن عنه عشرة، أو يقول: لأنه كأنه أعطاه دينارا على أن يسلفه عشرة دنانير، يؤديها عنه إلى غريمه، ويتبعه بها إن طلب بالحمالة، وقد يطلبه بها، وقد لا يطلب، فهو ربى بين، وغرر ظاهر، وذلك حرام لا يجوز، فإن وقع ذلك، رد الدينار، وبطلت الحمالة، وإن كانت في أصل العقد، وكذلك إذا أعطاه الجعل المتحمل عنه، بعلم المتحمل له، وأما إن أعطاه المتحمل عنه بغير علم الطالب المتحمل له، فيرد الجعل، وثبتت الحمالة.
وقد مضى هذا المعنى في أول رسم سماع ابن القاسم، وفي أول سماع أشهب، فقف على ذلك في الموضعين. والله الموفق.
[مسألة: كان له على رجل مائة دينار إلى أجل فقال أعطني حميلا إلى الأجل]
مسألة وسئل أبو زيد، عن رجل كان له على رجل مائة دينار إلى أجل، فقال له صاحب الحق: أعطني بمالي عليك حميلا إلى الأجل، وأنا أضع عنك منها عشرة، ففعل ذلك، فأعطاه حميلا بما له عليه إلى أجله، على أن يضع عنه عشرة دنانير، قال: لا بأس بذلك، قلت: أرأيت لو قال له: أعطني بمالي عليك رهنا أو حميلا(11/359)
إلى أجل. وهذه عشرة دنانير، فخذها مني، فأعطاه رهنا أو حميلا وأخذ منه عشرة دنانير نقدا ليس. مقاصة، ولا وضيعة مما له عليه. قال: وهذا أيضا مثله لا بأس به.
قال محمد بن رشد: لم يذكر في بعض الروايات أبا زيد، فدل على أن المسئول أصبغ. وإجازة من أجاز منهما أن يضع الرجل على الرجل بعض ماله عليه من الحق على أن يعطيه بالبقية رهنا أو حميلا، أو يعطيه دنانير على أن يعطيه بحقه رهنا أو كفيلا، خلاف ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون، وخلاف ما في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال، وإجازة ذلك على ما في هذه الرواية عن أصبغ وأبي زيد أظهر، ووجه الكراهية فيه عند مالك وابن القاسم، أن المعطي للدنانير أعطاه عوضا عما لا يعلم قدر الانتفاع به من الرهن، أو الحميل، إذ لا منفعة للمرتهن في الرهن إلا أن يقوم الغرماء على الرهن، وهو لا يدري هل يقومون عليه أم لا؟ ويكون قدر انتفاعه به إن قام عليه الغرماء؛ لأن كل ما كثر عليه الديون، كثر انتفاعه بالرهن، فدخله الغرر، والحميل أبين من الغرر. وبالله التوفيق.
[يشتري من البكر أو المولى عليه ويتخذ عليهما حميلا بما لزمه]
من نوازل سئل عنها أصبغ وسئل أصبغ عن الرجل يشتري من البكر أو المولى عليه، ويتخذ عليهما حميلا بما لزمه من قبله أو من قبلها من درك، هل يلزم الحميل حمالته إذا فسخ بيع السفيه والبكر، وإبطال الثمن عنهما بفاسدهما وأنهما لم يدخلاه في منفعة، ويعدى عليه المشتري بالثمن كما اشترط في حمالته؟ وكيف إن لم يذكر حمالته وقال: إنما نشتري منك على أنك ضامن لما أدركني من قبله؟ قال أصبغ: الحمالة لازمة، ولا تسقط عنه؛ لأنه ليس فيها حرام يسقط به، إنما(11/360)
ضمن ما دفع إلى السفيه، فهو كرافعه إليه، ويغرم به، ويسقط عليه ولا يتبعه به، فأما ضمان ما أدرك منه فلا أراه شيئا؛ لأنه لم يدركه من السفيه لما شرط، إنما أدركه به وليس منه، فلا أراه شيئا، إلا أن يكون السفيه هو القائم بذلك عن نفسه، ولنفسه، حتى فسخ له شراء المشتري وإبطال ماله، بمعاملة قام بذلك عن نفسه فقضي له، أو حسنت حاله، وقام به قيام وصحة، فقضى له، فإن كان كذلك، رأيت الضمين ضامنا لأنه أدركه منه وإلا فلا.
قال محمد بن رشد: ألزم أصبغ، من تحمل للمشترى عن البكر أو المولى عليه بما لزمه من قبل كل واحد منهما ما التزمه، وكذلك إذا ضمن ذلك عنهما. وفي قوله في السؤال: وكيف إن لم يذكر حمالته؟ وقال إنما أشتري منك على أنك ضامن لما أدركني من قبله، دليل على أن الحمالة عنده ألزم من الضمان في ذلك، وإن كانا عنده جميعا لازمين فيه، والأظهر أن يكون الضمان في ذلك ألزم من الحمالة، وإن لزما جميعا؛ لأن السفيه لا يرجع عليه، والحمالة تقتضي الرجوع، والضمان يحتمل الحمل الذي لا رجوع فيه، والحمالة التي فيها الرجوع، فاللفظ الذي يحتمل فيما لا رجوع فيه، ينبغي أن يكون ألزم من اللفظ، الذي لا يحتمل الحمل فيما لا رجوع فيه، وظاهر قول أصبغ إلزام الحميل الحمالة، وإن لم يعلم بسفه الذي تحمل عنه، وهو مذهب ابن القاسم، ومعنى ذلك عندي إذا لم يعلم بذلك المتحمل له أيضا، وأما إذا علم هو ولم يعلم الحميل، فينبغي أن لا تلزمه الحمالة؛ لأنه قد غره، إذ لم يعلمه بسفهه، حتى يتقدم في الضمان عنه على المعرفة بأنه لا يرجع بما ضمن، وابن الماجشون يقول: إن الحمالة لا تلزم الحميل إذا لم يعلم بسفه المتحمل عنه، معناه: علم المتحمل أو لم يعلم،(11/361)
فالخلاف فيما بين ابن القاسم وابن الماجشون، إنما هو إذا لم يعلما جميعا، وأما إذا لم يعلم الحميل، وعلم المتحمل له، فلا تلزمه الحمالة، قولا واحدا، فإن علما جميعا أو علم الحميل منهما، لزمته الحمالة قولا واحدا. وقد رأيت لابن الماجشون، أنه إذا علم المتحمل له، فلا شيء على الحميل، علم أو لم يعلم، وهو بعيد أن تسقط الحمالة عن الحميل إذا تحمل به وهو يعلم بسفهه، فإن علم الحميل ولم يعلم المتحمل له، لزمته الحمالة باتفاق، وإن علم المتحمل له ولم يعلم الحميل لم تلزم الكفالة باتفاق، وإن جهلا جميعا أو علما جميعا لزمته الحمالة عند ابن القاسم، ولم تلزم عند ابن الماجشون، إلا في وجه واحد من الأربعة أوجه، وهو أن يعلم الحميل ولا يعلم المتحمل له، ولا تسقط عند ابن القاسم إلا في وجه واحد منها، وهو ألا يعلم الحميل، ويعلم المتحمل له، وفي قوله في سؤال المسألة: وإبطال الثمن عنهما لفسادهما، وأنهما لم يدخلاه في منفعة، دليل بين على أن السفيه لا يبطل عنه ما أدخله في منفعته، وصرفه في وجوهه، وفي ما لا غناء له عنه، وهو نص قوله في نوازله من كتاب المديان والتفليس، خلاف ما رواه عن ابن القاسم وابن كنانة حسبما ذكرناه هناك. وتفرقة أصبغ في هذه الرواية أن يقول: أتحمل لك بما أدركك منه أومن قبله بين على ما تقتضيه الألفاظ، إذا عرى الأمر من بساط، يدل على الوجه الذي التزم الطلاق به وبالله التوفيق. اللهم لطفك.
[يتحمل بوجه إلى أجل فلا يأتي من تحمل عنه إلى الأجل]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن الذي يتحمل بوجه الرجل إلى أجل، فإن لم يأت به إليه، فالمال عليه، فلا يأتي به إلى الأجل، ويأتي به من الغد، إن الحميل ضامن للمال، حين لم يأت به يوم الأجل.(11/362)
قال محمد بن رشد: إعمال ابن القاسم هذا الشرط في رواية أبي زيد عنه، خلاف أصله المعلوم من قوله، وروايته عن مالك في مسألة كتاب بيع الخيار من المدونة في الذي يبيع السلعة من رجل، على أن المشتري بالخيار ثلاثة أيام، فإن غابت الشمس من آخر الثلاثة الأيام، ولم يأت بها، لزمه البيع، إنه بيع مكروه، لاشتراطه فيه ما يوجب الحكم خلافه، ولم يتكلم في المدونة على حكم البيع إذا وقع على هذا الشرط. وقد اختلف في ذلك، فقيل: يفسخ البيع، وهو دليل ما في كتاب ابن المواز من أنه بيع فاسد، وقيل: يبطل الشرط ويجوز البيع، على قياس قوله: إن لم يأت بالثمن إلى كذا وكذا، فلا بيع بينهما، فقول ابن القاسم في هذه الرواية، يأتي على قياس قول أشهب: في أن البيع يلزم المشتري بمغيب الشمس من آخر أيام الخيار، والذي يأتي على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك، إن كان الحميل بهذا الشرط بعد عقد البيع أن يبطل الشرط ويتلوم الحميل إن حل الأجل، ولم يأت بالغريم، حسبما مضى من الاختلاف في ذلك في رسم الجواب من سماع عيسى، ورسم المكاتب من سماع يحيى. وقد قيل: إن المال يلزمه إذا مضى بعد الأجل قدر ما يتلوم له فيه الثلاثة الأيام. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها إن المال يلزمه بمضي الأجل كما شرط، والثاني إن المال يلزمه بمضي قدر التلوم، والثالث إن المال لا يلزمه إلا بالحكم بعد التلوم، كما إذا تحمل بالوجه ولم يشترط شيئا أو دون تلوم، على ما حكاه ابن المواز عن ابن القاسم عن ابن وهب، من أن الحميل بالوجه لا يؤجل إذا حل الأجل وغاب الغريم، وإن كان في عقد البيع فسد البيع على الاختلاف الذي ذكرته في أول رسم من سماع أصبغ في الحمالة الفاسدة المشترطة في أصل البيع. وبالله التوفيق.
[مسألة: عليه دين وله مال غائب يعلم غرماؤه ذلك فطلبوا حميلا حتى يقدم المال]
مسألة وقال في رجل عليه دين، وله مال غائب، يعلم غرماؤه(11/363)
ذلك، فقالوا: أعطنا حميلا حتى يقدم مالك، قال: ليس ذلك لهم، إلا أن يخافوا عليه أن يموت أو يغيب عنهم.
قال محمد بن رشد: كان ابن عتاب يضعف هذه الرواية ويقول: إنها رواية ضعيفة، خارجة عن الأصول، كالتي فوقها، وككثير مما روي. والصواب أنه يلزمه حميل بالمال، إذا سأل أن يؤخر بما عليه حتى يأتي به، فرأى ذلك القاضي بوجه النظر والاجتهاد.
وكان الفقهاء بطليطلة يتفقون فيمن عليه دين، فسأل أن يؤخر به حتى ينظر فيه وهو وافر الحال، معلوم بالجدة واليسار والمال المأمون، فأُجل في ذلك، أنه لا يلزمه حميل إلا بوجهه، بدليل هذه الرواية، وهو لعمري دليل ظاهر، وإلى هذا ذهب ابن مالك فقال: إذا كان المطلوب معروف العين مشهورا ظاهر الملا بين الوفر، فلا يؤخذ منه حميل؛ لأن معنى الحميل، إنما هو الوثق بالطلب بحميل، هو واثق من مطلوبه، فإذا كان مطلوبه ثقة، فلا معنى للحميل، إذ لو أتاه بحميل ملي بماله، وإن لم تكن حاله في الملا كحال المطلوب، لقبل منه، فبان بذلك أنه لا معنى للحميل في ذلك. قال: وإنما كان سحنون يرى على قاتل الخطأ الحميل، لتشهد البينة على عينه في رجل غير مشهور. هذا معناه عندنا، فعلى ما ذهب إليه ابن مالك، إذا لم يكن مشهور العين، وهو ظاهر الملا والوفر، لزمه حميل بوجهه على ما كان يفتي به فقهاء طليطلة دون تفصيل، فقول ابن مالك هو الصحيح في المسألة، وتضعيف ابن عتاب الرواية صواب؛ لأن مال المطلوب غائب على ما ذكره فيها، فوجب أن يؤخذ منه حميل بالمال، بخلاف إذا كان ماله حاضرا ووفره ظاهرا من الأصول وغير ذلك، فها هنا يحسن قول ابن مالك، وما كان يفتي به الفقهاء بطليطلة، وهو قول سحنون، كتب إليه في رجل بعث معه(11/364)
بمال، فتعدى فيه، فأنفقه، ثم اعترف به عند الحاكم، وقال: هذا ربعي أبيعه، فيعرضه، فلا يجد من يشتريه، فطلب منه الطالب حميلا بوجهه. فهل ذلك عليه؟ وهل يحبس إن لم يجد حميلا؟ فكتب، لا حميل على هذا ولا حبس، إذا بذل من نفسه هذا، ولم يتهم، وإنما يحبس المفلس، فيتهم أن يخفي مالا. وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى دابة وثوبا إلى أجل وتحمل آخر بالبيع فحل الأجل والغريم غائب]
مسألة وقال في رجل اشترى من رجل دابة وثوبا إلى أجل، وتحملت أنا بالبيع، فحل الأجل، والغريم غائب، فقام المشتري، قال: إن غرم الحميل ثوبا مثله، ودابة مثلها من عنده بغير شراء يشتريه، فالذي عليه الحق مخير، إن شاء أعطاه قيمة ثوبه، أو قيمة دابته، بدابة مثل دابته، أو ثوب مثل ثوبه. وإن اشترى الثوب أو الدابة، كان على الذي عليه الحق ذلك الثمن، ولو أعطاه الحميل من ثوب حمارا أو من حمار ثوبا، كان الذي عليه الحق مخيرا إن شاء قيمة ما دفع، أو يدفع إلى الحميل مثل الذي تحمل به عنه، ثوبا كان أو دابة.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة ها هنا في بعض الروايات وقد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم الأقضية من سماع يحيى فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى سلعة بعشرة دنانير إلى شهر فلما حل الأجل أداها الحميل من ماله]
مسألة وقال في رجل اشترى من رجل سلعة بعشرة دنانير إلى شهر، على أن تحمل له بها رجل، فلما حل الأجل أداها الحميل من ماله، ثم جحد أن يكون أخذ شيئا، فرجع على الحميل، فأخذها ثانيا. قال: إن كان دفع العشرة الأول أو الآخرة بحضرة الغريم(11/365)
بعشرين، وإن كان دفع بغير حضرته، فليس له عليه إلا عشرة.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم أوصى لمكاتبه من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضمن قمحا لرجل إلى أجل فلما حل الأجل لزم الذي ضمن القمح]
مسألة وسئل عمن ضمن قمحا لرجل على أخ له إلى أجل، فلما حل الأجل، لزم الذي ضمن القمح، فجاء الذي عليه القمح فقال: إن فلانا لزمني بذلك القمح، فدفع إليه الغريم دنانير، وقال: اذهب، اشتر له بها قمحا، فاقضه، فقال الذي ضمن ذلك القمح: عندي قمح، وأنا أبيعك عشرة أراديب بدينار، وادفع إليه القمح، فقال: لا يحل للذي له القمح أن يقبضه من الذي ضمن حتى يكلفه للذي عليه الحق، حتى يصير ضمانه منه، ثم يقبضه منه بعد، قال: وأحب إلي أن يوكل الذي عليه الحق من يقبضه من الذي ضمن، ثم يوفيه إياه، فإن وكل الذي ضمن، فأرجو أن يكون خفيفا وضعفه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم نقدها من سماع عيسى فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: تحملوا لرجل عن رجل بأربعمائة دنانير وبعضهم حملا عن بعض فحل الأجل]
مسألة وقال ابن القاسم في أربعة نفر، تحملوا لرجل عن رجل بأربعمائة دنانير، وبعضهم حملا عن بعض، فحل الأجل، وثلاثة منهم غيب، والرابع حاضر، فأغرمه صاحب الحق مائتين، ثم جاء أحد الثلاثة الغيب، فقال: يغرم للذي أدى المائتين، ستة وستين دينارا وثلثي دينار. قيل له: فإن لم يقدم أحد الغائبين الآخرين كيف(11/366)
يرجع عليه؟ قال: يغرم أربعة وأربعين دينارا، أو أربعة أتساع الدينار، فيكون بين الذي غرم أولا وبين الذي جاء الثاني نصفين سواء، اثنين وعشرين دينارا وتسعي دينار لكل واحد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على قياس قول غير ابن القاسم في المدونة في مسألة الستة كفلا وعلى ما في كتاب محمد بن المواز من أن الحملاء في صفقة واحدة على أن بعضهم حميل عن بعض، إذا أخذ أحدهم ما ينوبه من جملة ما تحملوا به فأقل، لم يكن له به رجوع على أصحابه، وإنما يرجع على من وجد منهم بما يجب عليه مما أخذ منه زائد على ما ينوب به من جملة ما تحملوا به.
وبيان ذلك في هذه المسألة بعينها، أن الغريم الذي تحمل له الأربعة كفلا بأربعمائة دنانير، وكل واحد منهم حميل عن أصحابه لما وجد أحدهم، فأخذ منه مائة دنانير، كانت المائة الواحدة منها هي التي تنوبه من جملة ما تحملوا به، فلا رجوع له بها على أحد، والمائة الثانية أداها عن أصحابه الكفلا الثلاثة الغيب، ثلاثة وثلاثين وثلثا ثلاثة وثلاثين، وثلثا ثلاثة وثلاثين وثلثا وثلثا عن كل واحد منهم، فإن قدم أحدهم قام عليه الذي أدى المائتين، فقال له: قد أديت إلى الغريم مائتين، المائة الواحدة واجبة علي لا رجوع لي بها إلا على المتحمل عنه، والمائة الثانية أديتها بالحمالة عنك وعن صاحبيك الغائبين، ثلاثة وثلاثين وثلثا عنك، وستة وستين دينارا وثلثي دينار عن صاحبيك الغائبين، ثلاثة وثلاثين وثلثا وثلاثة وثلاثين وثلثا عن كل واحد منهما، فادفع إلي الثلاثة والثلاثين وثلثا التي أديت عنك في خاصتك بالحمالة، ونصف ما أديت عن صاحبيك الغائبين بالحمالة، لأنك حميل معي بهما، وذلك ثلاثة وثلاثون دينارا، وثلث دينار، لأني أديت عنهما جميعا ستة وستين وثلثين، فيأخذ منه ستة وستين وثلثين، كما قال، وذلك بين حسبما بيناه، فإن قدم بعد ذلك الثاني من الغائبين، فقام عليه الأول الذي أدى(11/367)
مائتين، والثاني الذي رجع عليه الأول بستة وستين وثلثين، رجعا عليه بأربعة وأربعين، وأربعة أتساع، فاقتسماها بينهما بالسواء. وتفسير ذلك، أنهما يقولان له: أدينا عنك في خاصتك ثلاثة وثلاثين وثلثا، فادفعها إلينا، وأدينا عن الغائب الثاني بالحمالة، ثلاثة وثلاثين وثلثا، فعليك ثلثها، لأنك حميل معنا به، وذلك أحد عشر وتسع، فيأخذان ذلك منه قيمة أربعة وأربعين، وأربعة أتساع بينهما كما قال، اثنين وعشرين وتسعين لكل واحد منهما، فهذا تفسير ما ذكره من التراجع في هذه المسألة، فإن قدم بعد ذلك الغائب الرابع، فقام عليه الثلاثة الأول، الذي أدى مائتين، فرجع منهما على القادم بستة وستين وثلثين، وعلى القادم الثاني باثنين وعشرين وتسعين حسبما وصفناه، والثاني الذي رجع عليه الأول بستة وستين وثلثين، فرجع هو منهما على القادم الثاني باثنين وعشرين وتسعين، والثالث الذي رجع عليه الأول، والثاني بأربعة وأربعين وأربعة أتساع فيما بينهما حسبما وصفناه، بأنهم يرجعون عليه بثلاثة وثلاثين وثلث فيما بينهم إحدى عشر وتسع لكل واحد منهم، فيستوي الأول بذلك جميع المائة التي أدى بالحمالة؛ لأنه رجع على الذي قدم أولا بستة وستين وثلثين، وعلى الذي قدم ثانيا باثنين وعشرين وتسعين، فتمت بذلك المائة، ويكون كل واحد منهما من الثلاثة الغيب، قد أدى ثلاثة وثلاثين وثلثا كما وجب عليه من المائة التي أداها عنهم الأول، وذلك أن الأول من القادمين كان رجع عليه الأول بستة وستين وثلثين، فرجع منهما على القادم الثاني، باثنين وعشرين وتسعين، وعلى هذا الثالث بإحدى عشر وتسع، فتمت ثلاثة وثلاثين وثلث، نصف ما كان أدى، والثاني من القادمين كان رجع عليه الأول والثاني بأربعة وأربعين وأربعة أتساع على ما بيناه، فلما رجع منها على الثالث بأحد عشر وتسع، كان الذي غرم ثلاثة وثلاثين وثلثا، فاستوى ثلاثتهم في الغرم، وبقي لصاحب الدين من دينه مائة دينار، فرجع بها عليهم ثلاثتهم، فيأخذ من كل واحد منهم ستة وستين دينارا، وثلثي دينار، فيكون كل واحد منهم قد أدى مائة مائة، كما أدى الأول، وقد رجع بالمائة الثانية،(11/368)
فيرجع كل واحد منهم بالمائة التي أدى إلى المتحمل له على المحتمل عنه. فهذا بيان هذه المسألة وتمامها على هذا القول، وأما على القول بأن الحملا في صفقة واحدة كل واحد منهم حميل على صاحبه، يرجع من أدى منهم شيئا على أصحابه بما يجب عليهم من جميع ما أداه حتى يستوي معهم في الغرم، كان هو الذي ينوبه مما تحملوا به، أو أكثر أو أقل، فلا يحتاج في التراجع إلى هذا التشغيب؛ لأن كل ما وجد واحد منهم واحدا من أصحابه، رجع عليه حتى يساويه فيما غرم.
بيان ذلك في مسألتنا هذه: أن الأول الذي غرم مائتين، يرجع على القادم أولا من الغيب الثلاثة بمائة، ثم إن قدم الثاني رجعا عليه بستة وستين وثلثين، فاستوى ثلاثتهم في الغرم ثم إن قدم الثالث، رجعوا عليه بخمسين ربع المائتين، فاقتسموها بينهم ثلاثتهم، يجب لكل واحد منها ستة عشر وثلثان، فيكون الذي أدى كل واحد منهم، خمسين وخمسين وهذا كله بين. وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون عليه دين يحيط بماله أو ببعضه يتحمل بحمالة وهو يعلم أنه سيغرم]
مسألة وقال في رجل يكون عليه دين يحيط بماله أو ببعضه، يتحمل بحمالة وهو يعلم أنه سيغرم، إنه لا ينفعه ذلك فيما بينه وبين الله، وهو يعلم أنه سيغرم، والحمالة أيضا عند مالك مفسوخة لا تجوز وراءها من ناحية الصدقة، ولم يرها من ناحية البيع، وذلك أن الحمالة معروف لا شك فيه، وكل معروف صدقة.
محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة بزيادة من قول أصبغ، من كتاب المديان والتفليس. ومضى القول عليها هناك فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.(11/369)
[مسألة: له على رجل مائة إردب قمح فلزمه بها فقال ليس عندي شيء]
مسألة وسئل عن رجل كان له على رجل مائة إردب قمح، فلزمه بها، فقال: ليس عندي شيء أعطيك، فجاء رجل فقال: أنا أتحمل لك بوجهه إلى غد، فقال صاحب الحق: إن لي عليه مائة إردب قمح، فقال الحميل لست أضمن لك قمحا، ولكن أنظر إلى ثمنه كم هو؟ فإن لم أجئك به، كان على ثمنه، مائة درهم، فتحمل له إن لم يأت بوجهه غدا، كان عليه مائة درهم، فلم يأت به للغد، قال: عليه مائة درهم، قيل له: كيف يصنع بها؟ قال: يأخذها السلطان، فيبتاع له بها قمحا، فإن فضل شيء رد إلى الحميل، وإن عجز لم يكن عليه شيء، قيل له: فإنها ضاعت قبل أن يشتري بها قمحا، ممن يكون؟ قال من الغريم، ويتبع الحميل الغريم الذي تحمل عنه بمائة درهم، ويطلب صاحب الحق أيضا من غريمه الأول، ولا يكون له على الحميل شيء بعد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن صاحب الحق قنع منه بالحميل بالوجه، إذ كان من حقه أن يأخذ منه حميلا بالقمح، لإقراره له به، والمعنى فيها أيضا، أن الغريم سأل الحميل أن يتحمل عنه، وذلك أن مصيبته المائة درهم إن تلفت منه، ولو كان إنما تطوع له بالحمالة عنه من غير أن يسأله ذلك، لوجب أن يكون ضمان المائة منه وأخذت المائة إردب من الغريم فيبعث في المائة درهم للحميل، ويكون على الذي له الحق ما نقص من المائة درهم، وله ما زاد. وبالله التوفيق.
[مسألة: له عليه ثلثا دينار ولآخر نصف فقال لصاحب النصف خذ من هذا ثلثي دينار]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل كان لي عليه ثلثا دينار، ولرجل علي نصف دينار، فقلت للذي له علي النصف: خذ من هذا ثلثي(11/370)
دينار، لي عليه، أحيل به، ويبقى لي عليك سدس دينار، قال: هذا لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز هذا؛ لأنه أحاله بنصف دينار، على أن يسلفه سدس دينار، والحوالة بيع من البيوع، لا يجوز أن يقارنها سلف، ولو أحاله عليه بنصف دينار من ثلثي الدينار الذي له عليه لجاز ذلك؛ لأنه أحاله من ذهب؛ لأن الثابت لكل واحد منهما في ذمة صاحبه ذهب، وإن راعيت ما يوجبه الحكم لكل واحد منهما جاز أيضا؛ لأنه قد أحاله من دراهم في دراهم. وبالله التوفيق.
[باع من ثلاثة نفر سلعة واشترط عليهم أن يأخذ حيهم بميتهم ومليهم بعديمهم]
من سماع حسين بن عاصم وسئل ابن القاسم عن رجل باع من ثلاثة نفر سلعة، واشترط عليهم أن يأخذ حيهم بميتهم، ومليهم بعديمهم، وأيهم شاء أن يأخذ بحقه أخذه، ثم سأل أحدهم حميلا بما عليه فأعطاه حميلا بذلك، ولم يشترط على الحميل شيئا، فلما تقاضاهم الحق قال: أتاه آخذ المحمول عليه بجميع الحق، وأراد غريم الحميل الحق كله، وقد فلس المحمول عنه، فقال: إنما تحملت بما ينوب هذا من المال، فعلي ثلث الحق، فقال ابن القاسم: أرى على الحميل ما على صاحبه، وذلك الحق كله، إذا أخذه الغريم بما شرط عليه، فما وجب على المحمول عنه، وجب على الحميل ما وجب على صاحبه المحمول عنه.
قال الفقيه القاضي وهذا كما قال: إن من حقه أن يأخذ الحميل بما كان له أن يأخذ به المتحمل عنه، وقد كان له أن يأخذ المتحمل عنه بجميع حقه بمقتضى شرطه، فإذا علم الحميل بشرطه، لزمه ما كان يلزم المتحمل عنه، ولو لم يعلم بشرطه لما(11/371)
لزمه إلا ثلث الحق، حظ الذي تحمل به، وهو محمول على غير العلم حتى يثبت عليه العلم، فإن أنكر أن يكون علم بالشرط ولم يقم عليه بذلك البينة، لزمته اليمين، فإن حلف لم يلزمه إلا ثلث الحق، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحميل إذا اشترط على المتحمل له إذا لقيت صاحبك فتلك براءتي]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الحميل إذا اشترط على المتحمل له، إذا لقيت صاحبك فتلك براءتي، أترى هذا براءة له إن لقيه؟ وكيف إن لقيه بموضع إن تعلق به لم يقدر عليه؟ قال ابن القاسم: أرى له شرطه هذا، وأرى هذا براءة للحميل، بشرط إن لقيه الغريم بموضع يقدر عليه، وإن لقيه بموضع لا يقدر عليه، فلا أرى له ذلك براءة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه شرط لا فساد فيه ولا غرر، فوجب أن يلزم، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا» ويبرأ إذا لقيه بموضع يقدر عليه فيه؛ لأنه المفهوم من قوله: إذا لقيت صاحبك، فتلك براءتي، إذ لا معنى للقيه في موضع لا يقدر عليه فيه، كما لو دفعه إليه في ذلك الموضع لم يبرأ من حمالته بدفعه إليه، ولو لم يشترط ذلك عليه، لم يبرأ بلقيه إياه، وإن لقيه في موضع يقدر عليه حتى يدفعه إليه فيه، وشهد عليه بذلك، وكذلك روى أصبغ عن ابن القاسم. قال: قلت له: فلو تحمل رجل برجل إلى غير أجل، أو إلى أجل، فلقي الطالب صاحبه مساء وصباحا بعد محل الأجل، فتمر به السنتان والثلاث، لا يذكر من أمره شيئا ولا يطلب الحميل بشيء من حمالته، فيغيب المتحمل عنه أو يموت، فيطلب صاحبه من الحميل حمالته، فقال:(11/372)
هو على حمالته، ولا يبريه لقي صاحب الحق إياه، إلا أن يشهد له بالبراءة من حمالته. وقعت هذه الرواية في بعض الروايات في هذا الكتاب متصلة بآخر سماع يحيى وفيها بيان لهذه. وبالله التوفيق.
[مسألة: يتحمل بوجه الرجل ويشترط عليه أنه ليس عليه إلا وجهه ولا يكفل بمال]
مسألة قال: وسألته عن رجل يتحمل بوجه الرجل، ويشترط عليه أنه ليس عليه إلا وجهه، ولا يكفل بمال إن جاء عليه، وإنما علي وجهه أطلبه حيث كان، فيغيب المحمول عنه، ويؤجل المحيل أجلا بعد أجل فلا يحضر به، قال ابن القاسم: قال مالك: ليس عليه إلا وجهه أبدا، وإن أجله آجالا كثيرة، وشرط الحميل جائز. قلت له: فإذا كانت غيبة المحمول عنه لا تعرف، أيكلف الحميل طلبه؟ قال لا أرى ذلك، قلت: فإن قال المحمول له: أنا بموضع قد سماه، فأخرج فآتني به. قال: ينظر في ذلك للحميل، فإن كان المحمول عنه ببلد يقوى مثله على السير إليه، أمر بذلك، قلت لابن القاسم: فإن خرج إليه فقدم، فقال: لم أجده، وقال المتحمل له: من يعلم أنك بلغت الموضع؟ قال: إذا غاب عن موضعه قدر ما يرى أن مثله يبلغ في مثله ذلك الموضع، فأراه مصدقا في قوله، قال ابن القاسم: وإن كان ضعيفا عن الخروج إلى مثل ذلك الموضع الذي ذكره المحمول له، فلا أرى أن يؤمر بذلك، قلت لابن القاسم: فإن تبين أنه ببلد، وأنه لا يطلبه، قال ابن القاسم: وكيف يختبر هذا؟ إلا أن تقوم بينة أنه خرج، فأقام بقرية، فرجع ولم يتوجه إلى المحمول عنه، وما أشبه ذلك، فأرى للسلطان أن(11/373)
يعاقبه بالحبس في ذلك على قدر ما يرى، أو يأمره بإحضار صاحبه إن قدر عليه، فأما ضمان المال، فلا أراه عليه إلا أن يكون لقيه فتركه، أو غيبه في بيته وأبى أن يظهره، فإذا أثبت ذلك ببينة عدل، رأيته ضامنا لما عليه إن لم يحضره إياه، وإرساله بعد أن أخذه حتى تلف ذلك الحق، فعليه ضمان ذلك في عنقه. قال أشهب: أراه ضامنا إذا أخذه ثم خلاه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مثل ما في المدونة وغيرها إن الحميل بالوجه، إذا اشترط ألا شيء عليه من المال، فله شرطه، ولا ضمان عليه إلا أن يغيبه أو يفوته عليه، أو يحول بينه وبينه، وما أشبه ذلك، وإنما عليه إذا غاب عن موضعه أن يذهب عنه إن كان قريبا، وليس عليه ذلك إن كان بعيدا، ولا أن يطلبه إن جهل موضعه، وقد اختلف في حد البعد الذي يكلف فيه الذهاب عنه، فقال في هذه الرواية: ينظر في ذلك للحميل، على قدر ما يرى أنه يقدر عليه.
وحكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون وابن عبد الحكم ذلك في مسيرة الأيام التي تكون من أسفار الناس، واختلاف البلدان غير النائية جدا. قال ابن حبيب: والشهر ونحوه من أسفار الناس كثير. وحكى عن أصبغ أنه لا يكلف الذهاب عنه إلا مسيرة اليوم واليومين، وما لا مضرة عليه فيه، واختار ابن حبيب القول الأول.
وحكى الفضل عن محمد بن عبد الحكم، أن السلطان يتلوم له، فإن جاء به وإلا حبسه حتى يأتي به. وفي كتاب ابن المواز إذا قال: لا أضمن إلا(11/374)
وجهه لم يلزمه ضمان المال، كما لو اشترط أنه لا شيء عليه من المال، وهذا عندي فيه نظر، إذ لا فرق بين أن يقول.: أنا ضامن لوجهه، ولا يزيد على ذلك وبين أن يقول: لا أضمن إلا وجهه، في وجوب ضمان الوجه عليه، وضمان الوجه يلزمه المال إذا لم يأت بالوجه.
والذي يوجبه النظر في ذلك عندي أن ينظر فيه إلى البساط؛ لأن في قوله لا أضمن إلا وجهه، دليل على أنه قصد إلى نفي ما سئل إياه، فإن كان قيل له: تضمن فلانا أو تضمن المال عن فلان، فقال: لا أضمن إلا وجهه، لزمه ضمان المال، ولم يأت بالوجه على حكم ضمان الوجه، وإن كان قيل له: تضمن وجه فلان، فإن لم تأت به، غرمت ما عليه، فقال: لا أضمن إلا وجهه، لم يلزمه ضمان المال بحال. وبالله التوفيق.
[مسألة: وجوه الحمالة]
مسألة وسمعت ابن القاسم تكلم في شيء من الحمالة فقال: إنما هي ثلاثة وجوه، وهذا الذي آخذ به لنفسي إذا قال: أنا أتحمل لك بالوجه، ليس أنا من الدين في شيء، فليس عليه إلا وجهه يطلبه أبدا، وإن قال: تحمل لي بوجهه، فإن لم تأتني به غدا فالحق عليك، فإن لم يأت به إلى قدر ما تلوم له السلطان إذ لو رفع إليه، فالحق عليه، ولو رفع إلى السلطان تلوم له اليوم واليومين والثلاثة، يطلبه بعد الأجل، قال: وإن تحمل بالوجه هكذا، ولم يأت به حتى مضى الأجل، وبعد ذلك بشهرين أو ثلاثة، أو أربعة، ثم جاء به، فليس له إلا وجهه، يعني ما لم يخاصمه، فيقضي له عليه.
قال محمد بن رشد: افتراق هذه الوجوه الثلاثة صحيح كما ذكر، غير أن لبعضها تفسيرا وفي بعضها اختلاف، فأما الوجه الأول، وهو أن يتحمل بالوجه، ويشترط ألا شيء عليه من المال، فقد مضى تفسيره في(11/375)
المسألة التي قبل هذه وأما الوجه الثاني وهو أن يتحمل بوجهه إلى أجل، ويشترط وجوب المال عليه حلول الأجل، ففيه ثلاثة أقوال، قد مضت في أول سماع أبي زيد وأما الوجه الثالث، فلا خلاف فيما ذكره فيه أعلمه. وبالله التوفيق.
* * *
تم كتاب الكفالة والحوالة بحمد الله تعالى وحسن عونه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه. وسلم تسليما، يتلوه كتاب الشركة.(11/376)
[: كتاب الشركة] [مسألة: دعا أخا له إلى أن يسلفه ذهبا ويخرج مثلها أو يشاركه فيها ويتجران جميعا بها]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم كتاب الشركة من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال في رجل دعا أخا له إلى أن يسلفه ذهبا ويخرج مثلها أو يشاركه فيها ويتجران جميعا بها في موضعهما أو يسافران في ذلك، قال: إذا كان ذلك على وجه الصلة والمعروف منه إلى أخيه ولا حاجة إليه في شيء إلا الرفق به فلا بأس بذلك، وأما أن يحتاج إليه في بصره بالبيع والاشتراء أو نفاذه في التجارة وتعلمه ونحوه فلا خير فيه، قال ابن القاسم: وقال لي مالك بعد ذلك: لا خير فيه على حال، وتفسيره الأول إذا كان لا يحتاج إليه في بصر ولا مرفق لم أر به بأسا هو أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان ذلك منه على وجه الصلة والمعروف منه ولا حاجة له في شيء من ذلك إلا الرفق فلا بأس به صحيح؛ لأنه إذا فعل ذلك لارتفاقه بمشاركته إياه في وجه من الوجوه كان سلفا جر منفعة، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سلف جر نفعا» ، ولا اختلاف في أنه لا بأس بذلك إذا صحت نيته ولا في أنه لا يجوز ذلك إذا قصد(12/5)
به منفعة نفسه، فمرة رأى مالك النية في ذلك محتملة فسأله عنها وصدقه فيها، ومرة رآها بعيدة، والأظهر منه أنه قصد منفعة نفسه بدليل سؤاله إياه الشركة فنهاه عن ذلك وقال له: لا خير فيه، ولو كان المشرك هو الذي سأله أن يسلفه ويشاركه لوجب أن يسأل عن نيته في ذلك قولا واحدا، وهذا كله فيما يؤمر به ابتداء أو ينهى عنه، وأما إذا وقع ذلك وادعى أنه قصد بسلفه منفعة نفسه ليأخذ سلفه معجلا إن كان ضرب له أجلا أو قيمته إن كان عرضا فعلى القول بأنه يسأل عن نيته ابتداء وينهى عن الفعل يصدق في ذلك مع يمينه ويأخذ سلفه معجلا، وقد مضت هذه المسألة في رسم طلق من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف فأوجزنا الكلام فيها، وأرجأنا تمامه إلى هذا الموضع وبالله التوفيق.
مسألة قال ابن القاسم: وقال مالك في رجلين اشتركا في مال لهما لا يستويان فيه لأحدهما مائة وللآخر خمسون، ثم إن صاحب المائة دعا صاحب الخمسين أن يسلفه نصف الخمسين التي يفضله بها حتى يستويا في الشركة قال: إذا كان ذلك على غير شرط عند المشاركة ولا لحاجة من المسلف الذي أسلفه في بصر ولا على شيء إلا الرفق فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا كان ذلك شرطا في أصل الشركة فلا يجوز؛ من أجل أنه إذا كان ذلك شرطا في أصلها؛ وذلك مثل أن يقول له: لي مائة دينار فأنا أسلفك خمسة وعشرين على أن تشاركني بأن أخرج أنا الخمسة والسبعين الباقية لي، وتخرج أنت مثلها بالخمسة وعشرين التي سلفتك، فقد تبين أن المسلف قصد منفعة نفسه فكان ذلك سلفا جر منفعة؛ وكذلك لو قال ذلك بعد أن عقد الشركة معه على أن يخرج هذا مائة وهذا خمسين(12/6)
فيشركا فيها على الثلث والثلثين لما جاز أيضا؛ لأن الشركة من العقود الجائزة التي لا تلزم بالعقد، وإنما يفترق أن يقول ذلك له في العقد أو بعده إذا قاله له على غير وجه الشرط مثل أن يقول له: تعال أسلفك خمسة وعشرين فتضيفها إلى الخمسين التي لك فأخرج لنا خمسة وسبعين مثلها فنشترك فيها أو يقول ذلك له بعد أن عقد الشركة معه على أن يخرج هو مائته وهذا خمسينه فيشتركا فيها على الثلث والثلثين؛ لأنه إذا قال ذلك له في العقد ابتداء كان الأظهر منه أنه قصد منفعة نفسه فصدق في ذلك مع يمينه إن ادعاه حسبما مضى في المسألة التي قبلها، وإذا قال ذلك له قبل العقد كان محمولا على أنه لم يقصد منفعة نفسه؛ إذ قد رضي بشركته فأشبه إذا كان المشرك هو الذي سأله ذلك، ولو قال ذلك له بعد أن عقد الشركة فاشتريا بها عروضا للتجارة على الثلث والثلثين مبلغ رؤوس أموالهما لكان ذلك بيعا جائزا، وإن سمياه سلفا؛ لأنه باع منه سدس العروض بالخمسة وعشرين التي سميا سلفا. وبالله التوفيق.
[مسألة: اشتركا في ذهبين مختلفتين في الوزن وصرفهما ونفاقهما في البيع مختلفة]
مسألة قال مالك في رجلين اشتركا في ذهبين مختلفتين في الوزن وصرفهما ونفاقهما في البيع مختلفة فاشتريا بها كيف يقتسمان الربح؛ أَعَلى وزنهما أو على نفاقهما؟ قال: بل على وزنهما، يجمع هذه في كفة وهذه في كفة ثم يقتسمان الربح على قدر ما يكون لكل واحد منهما من الوزن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن الربح بينهما على وزن ما أخرج كل واحد منهما من الذهب، إذا لم يعثر على ذلك إلا بعد الشراء يريد بعد أن يأخذ كل واحد منهما مثل الدنانير التي أخرج، ولو عثر على ذلك قبل(12/7)
الشراء انفسخت الشركة بينهما، وهذا في الاختلاف الكثير في النَّفَاق مع الاستواء في الطيب، ولو كان الاختلاف في النَّفَاق يسيرا لجازت الشركة على ما قال في المدونة إذا أخرج أحدهما دنانير هاشمية والآخر دمشقية، ولو وقعت الشركة على دنانير مختلفة في الطيب مثل العبادية والنصفية فلم يعثر على ذلك إلا بعد الشراء لاقتسماها بأيدهما على قيمة الدنانير التي أخرجها كل واحد منهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشركة لا تكون إلا بالتفاوض والضمان من كل واحد منهما لصاحبه]
مسألة وقال مالك في رجلين اشتركا على مال مسمى من كل واحد منهما على أن ما باع أحدهما بدين فقد ضمنه معا صاحبه فقال: أكره ذلك؛ لأن كل واحد منهما ما يدري ما يعيب به عنه صاحبه من الخلاف، قال سحنون: قال مالك: لا أرى بذلك بأسا؛ لأن الشركة لا تكون إلا بالتفاوض والضمان من كل واحد منهما لصاحبه.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي في هذه المسألة أن مالكا لم ير الرجلين إذا اشتركا في مال مسمى متفاوضين فيما اشتركا فيه إلا أن يشتركا فيه على المفاوضة بخلاف إذا اشتركا في جميع أموالهما فرأى ما اشترطاه من أن ما باعه أحدهما بدين فقد ضمنه معه صاحبه غررا لأنه ضمن هذا نصفه ما باع هذا على أن ضمن هذا نصف ما باع هذا، ورآهما سحنون متفاوضين فيما اشتركا فيه من المال، وإن لم يشترطا ذلك بمنزلة إذا تشاركا في جميع أموالهما فلم ير ما اشترطاه من أن ما باعه أحدهما بدين فقد ضمنه معه صاحبه غررا؛ لأن الحكم يوجب ذلك عنده وإن لم يشترطاه على حكم المفاوضة. وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين رجلين أراد أحدهما أن يضربه]
مسألة وقال مالك في عبد بين رجلين أراد أحدهما أن يضربه: إن(12/8)
ذلك ليس له إلا أن يأذن له شريكه فإن فعل ضمن ما أصابه في ذلك أن يكون ضربه ضربا لا يعنت أحد في مثله أو في ذلك أدبه، فإن كان هذا لم يضمن، قال سحنون: أراه ضامنا ضربه ضربا يعنت في مثله أو لا يعنت لو لم يضربه إلا ضربة واحدة لكان ضامنا له؛ لأنه ليس هو له دون شريكه، وهو بمنزلة الرجل يعدو على عبد الرجل فيضربه ضربا لا يعنت في مثله فيموت منه أنه ضامن.
قال محمد بن رشد: رأى مالك شركته في العبد شبهة تسقط الضمان في ضربه إياه الضرب الذي يؤدب بمثله على ما اجترم، خلاف قول سحنون، وهو أظهر؛ لأن أدبه هو صلاح له فهو يقول: لو لم أؤدبه لفسد علي فنقص مالي، وعلى هذا اختلفوا في الأرض بين الرجلين يزرع أحدهما فيها زرعا أو يبني فيها بنيانا هل يكون كالغاصب فيقلع الشريك زرعه وبنيانه أو لا يكون كالغاصب؟ لشبهة الشركة فيكون له الزرع وإن كان الإبان لم يفت، ويكون عليه الكراء في نصيب شريكه ويكون له قيمة بنيانه قائما، وقد مضى القول على هذا في أول سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق ويأتي أيضا في رسم القطعان من سماع عيسى من هذا الكتاب وفي سماع سحنون زيد من كتاب الزراعة، وعلى هذا اختلفوا في الأمة تكون بين الحر والعبد فيولدها العبد هل تكون جناية يلزم سيده أن يفتديه بنصف قيمته أم لا؟ فقال ابن القاسم في أول سماع سحنون من كتاب الجنايات: إنها جناية تلزم سيده أن يفتديه بنصف قيمته أو يسلمه وماله لصاحب الجارية، وقال سحنون في نوازل من كتاب الاستبراء: إنها ليست جناية وتباع الأمة فيما لزمه من نصف قيمتها فإن لم يف بذلك اتبع بالباقي دينا ثابتا في ذمته، ولا اختلاف بينهم في أن الشركة في الأمة شبهة يسقط بها الحد عن الشريك إن وطئها؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ادرءوا الحدود بالشبهات» .(12/9)
[مسألة: أمر رجلا أن يشتري له سلعة بعينها فاشتراها لنفسه]
مسألة قال: وسئل مالك عن رجل شارك رجلا في تجارة فجهزه بمتاع فقال له: واشتر سلعة كذا بيني وبينك لشيء له غلة مثل الحانوت وما أشبهه؛ ففعل ثم جحده أن يكون أمَرَه بذلك، وزعم أنه إنما اشتراه لنفسه خالصا من ماله فلما وجد عليه البينة أنه أمره قال: فإني أشركت فيه فلانا وفلانا عند الاشتراء ولا يُعلم ذلك إلا بقوله، قال: أراه بينهما على ما أمره، ولا يصدق في قوله أنه أشرك فيه فلانا وفلانا، قال ابن القاسم: ويدخل اللذان زعم أنه أشركهما بذلك على الذي أقر لهما إن كان أقر لهما بالنصف كان لهما نصف ما في يديه، وإن كان الثلث فلهما الثلث مما في يديه، والذي صار لصاحبه.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة ثم جحده أن يكون أمره بذلك وزعم أنه إنما اشتراه لنفسه خالصا من ماله فلما وجد عليه البينة أنه أمره بذلك قال: إني أشركت فلانا وفلانا دليل هو كالنص؛ إذ لو أقر أنه أمره بذلك وقال: لم أرد أن أشتري لك شيئا فاشتريته لنفسي لم يكن ذلك له وكان معه شريكا شاء أو أبى.
وقد اختلف فيمن أمر رجلا أن يشتري له سلعة بعينها فاشتراها لنفسه على أربعة أقوال: أحدها: أن القول قول المأمور إن دفع إليه الثمن بعد أن يحلف أنه إنما اشتراها لنفسه إن اتهم في ذلك، وهي رواية محمد بن يحيى السبادي عن مالك والثاني أن السلعة للآمر وإن لم يدفع إليه الثمن، وهي روايته عن ابن القاسم في المدنية وقول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في الثمانية قال: وسواء أشهد المأمور أنه إنما يشتريها لنفسه. القول الرابع الفرق بين أن يكون قد دفع إليه الثمن أو لم يدفعه إليه وإنما أمره أن يشتريها له بماله فوعده بذلك، وفي قوله ولا يصدق في قوله: إنه أشرك فيه فلانا وفلانا دليل على(12/10)
أنه لو كان لفلان وفلان بينة على أنه أشركهما في ذلك لوجب أن يكونا أحق بالنصف، وفي ذلك اختلاف، قيل: إنه لا يكون لهما إلا نصف النصف؛ لأنه إنما أشركهما في ماله، وقال غيره: يتخرج هذا الاختلاف على اختلافهم في دار بين رجلين باع أحدهما من أجنبي نصفها على الإشاعة، هل يقع بيعه على نصفه الذي له فينفذ عليه أو يقع على نصفه ونصف شريكه فينفذ عليه البيع في نصف نصيبه وينفسخ البيع في نصف شريكه إلا أن يشاء أن يجيزه، وسيأتي الكلام على هذا في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى من كتاب الشفعة إن شاء الله، فإذا قلنا: إن الآمر أحق بنصف الحانوت فيخرج المشركين من النصف؛ لأنه يقول لهما: أنا أشركتكما في حقي وحق غيري فليس لكما إلا نصف ما بقي بيدي، والثاني أنه يكون لهما جميع النصف؛ لأنهما يقولان له: أشركتنا في نصف الحانوت، ولك نصفه فأسلمه إلينا، وإذا قلنا: إن المشركين أحق منه بنصف النصف الذي بيد المأمور، ويصير الحانوت بينهم أرباعا، ربعه للآمر وربعه للمأمور، ونصفه للمشركين. وبالله التوفيق.
[: اشترى سلعة فسأله رجل أن يشركه فقال قد أشركتك فباع السلعة بنقصان]
ومن كتاب أوله
سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل عن رجل اشترى سلعة فسأله رجل أن يشركه، فقال: قد أشركتك ولم يسم الذي استشركه، فباع السلعة بنقصان، فقال الذي أشرك: إنما أشركتني بسدس أو ربع، قال: ذلك له، ويحلف إلا أن يأتي بأمر لا يعرف كالدينار ونحوه؛ فإن زادت السلعة فقال الذي أشركه: إنما أشركتك على الربع والسدس، قال: يحلف، وذلك به، قال مالك: إذا كان النقصان فالقول قول الذي أشرك وعليه اليمين؛ وذلك أن الذي أشركه مدعى،(12/11)
وإذا كانت الزيادة فالقول قول الذي أشركه وعليه اليمين، وذلك أن الذي أشرك مدع، وذلك إذا لم يسميا؛ واليمين عليهما يحلفان على ما ادعيا.
قال ابن القاسم: فإذا قال كل واحد منهما: لم أنو شيئا ولم يدعياه: إن السلعة تكون بينهما نصفين، ولو كانت السلعة قائمة فقال الذي أشركتك بالربع والسدس وذلك الذي أردت، فالقول قوله وعليه اليمين، وإذا قال الذي أشرك: إنما أردت الربع والسدس، فالقول قوله أيضا، وعليه اليمين إذا لم يكونا بينا، قال ابن القاسم: وذلك أن الشركة هاهنا إنما هي بيع من البيوع، ولو أن رجلا أتى إلى رجل فقال: قد بعتني نصف جاريتك، فقال له صاحبه: ما بعتك إلا ربعها حلف، وكان القول قوله مع يمينه ولو أن صاحبها قال لصاحبه: قد بعتك نصف جاريتي وطلب منه الثمن فقال: ما اشتريت منك إلا ربعها كان القول قوله مع يمينه.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية وذلك إذا لم يسميا واليمين عليهما يحلفان على ما ادعيا -نص جلي على أنهما يحلفان على نياتهما إذا لم يدعيا الإفصاح، ومثله في كتاب محمد بن المواز، وله فيها أيضا ما يدل على أن لفظ الشركة يوجب المساواة ولا يلتفت إلى النية بعد أن فرط قوله قد أشركتك، وهو قول سحنون، وإليه ذهب ابن حبيب في الواضحة، ولا اختلاف بينهم إذا ادعيا الإفصاح أن القول قول الذي ادعى الأقل منهما مع يمينه ولا في أنهما إذا لم يدعيا إفصاحا ولا نية أن السلعة تكون بينهما بنصفين، وهذا كله حيث لا يجب على المشتري أن يشركه فيها فالقول قول من ادعى النصف منهما إن كانا اثنين أو الثلث إن كانوا ثلاثة أو الربع إن كانوا أربعة؛ وسواء ادعوا الإفصاح بأكثر من الواجب لهما أو قالوا: كان ذلك ضميرنا إلا أنه لا بد أن يحلف المدعى عليه منهم في الإفصاح لصاحبه، وقد مضى في(12/12)
نوازل أصبغ من كتاب جامع البيوع تحصيل القول فيما يجب الاشتراك فيه من السلع وعلى من يجب وأين يجب فلا معنى لإعادة ذلك، وستأتي المسألة أيضا في سماع أبي زيد من هذا الكتاب إن شاء الله.
وأما قوله: ولو أتى رجل إلى رجل فقال: قد بعتني نصف جاريتك فقال له صاحبه: ما بعتك إلا ربعها حلف، وكان القول قوله مع يمينه ولو أن صاحبها قال لصاحبه: قد بعتك نصف جاريتي فطلب منه الثمن فقال: ما اشتريت منك إلا ربعها كان القول قوله مع يمينه؛ فظاهره أن القول قول من ادعى الأقل منهما مع يمينه كان البائع أو المبتاع، فإن نكل عن اليمين حلف الذي ادعى النصف واستحقه إن كان هو المبتاع واستحق بيعه على المشتري إن كان هو البائع، وقد قال أبو إسحاق التونسي: الصواب أن يتحالفا ويتفاسخا؛ لأنهما وإن لم يختلفا في الثمن فمن حجة المبتاع أن يقول: لم أرض شراء الربع وإنما رغبت في النصف، قال: ولعل ذلك إرادته في الرواية، فيكون إنما قصد إلى أنه لا يصدق مدعي النصف في الربع ولم يتكلم على تمام التحالف، ولم يقل أبو إسحاق التونسي: إنهما يتحالفان ويتفاسخان إذا ادعى البائع أنه باع النصف وقال المبتاع: لم أشتر إلا الربع سكت عن ذلك، فانظر هل يستويان عنده أو بينهما فرق، والأظهر عندي الفرق بينهما، وأن لا اختلاف في أنهما يتحالفان ويتفاسخان إذا كان البائع هو مدعي أنه باع النصف، وإنما الاختلاف هل يتحالفان ويتفاسخان أم لا إذا كان المبتاع هو مدعي النصف؟ لأن الجملة قد يزاد في ثمنها، فمن حجة المشتري أن يقول: لا أرضى أن آخذ الربع بالسوم الذي اشتريت منه النصف والبائع إذا أخذ منه الربع بالسوم الذي رضي أن يبيع به النصف لم تكن له حجة، فعلى هذا لا يجوز لمن اشترى سلعة جملة أن يبيع نصفها مرابحة بنصف الثمن حتى يبين، ولمن اشترى نصف سلعة في صفقة ثم اشترى نصفها الثاني في صفقة أخرى أن يبيعها جملة ولا يبين، وفي نوازل سحنون من كتاب المرابحة فيمن اشترى سلعة بعشرة وصبغها بعشرة ثم باعها مرابحة بعشرين ولم يبين أن يردها في القيام، فإن فاتت مضت بالثمن.(12/13)
القياس على ما قلناه أن لا يكون له ردها في القيام، وإذا رأى له ردها في القيام أن ترد إلى قيمتها في الفوات إن كانت القيمة أقل من الثمن على حكم مسائل الغش والخديعة في المرابحة وبالله التوفيق.
[مسألة: يشترك الرجلان في العمل في الحانوت]
مسألة وقال مالك: لا بأس أن يشترك الرجلان في العمل في الحانوت يجلسان فيه جميعا مثل الصواغين والخياطين والحدادين يكونان في حانوت واحد يتعاونان في العمل ولا يفترقان في حانوتين ولا في قريتين لعمل هذا هاهنا وهذا هاهنا فما اكتسبا كان بينهما فلا خير فيه وإنما كره هذا فيما عمل باليد فأما ما لم يعمل باليد فلا بأس بالشركة فيه وإن افترقا في حانوتين مفترقين، قال عيسى: إنما كره ذلك في العمل وإنما كره ذلك إذا افترقا في مجلسين أو حانوتين أو قريتين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأن شركة الأبدان لا تكون إلا مع التعاون بأن يكونا في موضع واحد ويكون العمل واحدا فإن افترقا في حانوتين والعمل واحد أو في حانوت والعمل مفترق لم يجز إلا أن يحسنا ذلك جميعا فيعمل كل واحد منهما مع صاحبه وفي رسم البيع والصرف من سماع أصبغ أنهما يجوز لهما أن يفترقا في حانوتين إذا كان العمل واحد وهو شذوذ من القول وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله وبالله التوفيق.
[: النفقة بينهما سواء والربح سواء والنقصان سواء]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا. وسئل عن الرجلين يكونان شريكين وهما في بلدين أحدهما بالمدينة والآخر بمصر فيجهر كل واحد منهما على صاحبه ويبيع ويقتضي في موضعه ونفقة الموضعين مختلفة مثل المدينة ومصر(12/14)
يشتري بالدينار من القمح بمصر أضعاف ما يشتري به بالمدينة أفترى أن يحسب كل واحد منهما نفقته التي أنفق أم تكون النفقة بينهما بنصفين ولا ينظر إلى ما يفضله به فتفكر فيه، ثم قال: بلى أرى أن تكون النفقة بينهما سواء والربح سواء والنقصان سواء إلا أن يأتي من النفقة ما يتفاحش مثل أن يكون لهذا عيال كثير ولهذا أن يصرف نفسه فلا أرى أن يحمل ذلك عليه، وكأنه قال إذا كان ذلك غير متفاوت فأراه بينهما سواء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة والواضحة فلا أعرف فيه في المذهب اختلافا والعلة فيه أن ذلك عرف قد دخلا عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: توصية الميت بإسقاط اليمين عنه لا يلزم الورثة]
مسألة وسئل عن رجل كان شريكا لرجل فمرض أحدهما فأوصى: إن فلانا عالم بمالي فما دفع إليكم من شيء فهو مصدق ولا يمين عليه في ذلك، فرفع أمره إلى السلطان وأتى بما قبله من المال فقسمه بينه وبين ورثة شريكه ثم أقام يقضي ويقسم أقام بذلك عشرين، وكتب له السلطان براءة من ذلك وبقي بينهما دين وبلغ الورثة فقالوا: نريد أن نستحلفك فيما اقتضيت أفترى ذلك لهم وهذا الأمر منذ عشر سنين قد كتب له السلطان براءة من ذلك؟ قال مالك: أرى أن ينظر السلطان في ذلك ويكشف أمره، فإن رأى أمرا صحيحا لم أر أن يستحلفه، فإن استنكر شيئا رأيت أن يحلفه، فقال له الرجل: يا أبا عبد الله بعد عشر سنين؟ قال: نعم أرى ذلك إن رأى أمرا يستنكره.
قال محمد بن رشد: هذه اليمين في أصلها يمين تهمة، وقد(12/15)
اختلف في لحوقها، وتوصية الميت بإسقاط اليمين عنه لا يلزم الورثة لأن الحق صار إليهم في المال بموته، فإن اتهموه استحلفوه على القول بلحوق يمين التهمة، فلذلك قال: إن السلطان ينظر في ذلك فإن رأى أمرا صحيحا لم يوجب لهم عليه يمينا، وإن رأى أمرا يستنكره وجب لهم اليمين عليه وبالله التوفيق.
[: عصر اليسير من الجلجلان والفجل على حدته]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين قال: وسألت مالكا عن معاصر الزيت زيت الجلجلان والفجل يأتي هذا بأرادب وهذا بأخرى حتى يجتمعون فيها فيعصرون جميعا.
قال: إنما يكره هذا لأن بعضه يخرج أكثر من بعض، فإذا احتاج الناس إلى ذلك فأرجو أن يكون خفيفا لأن الناس لا بد لهم مما يصلحهم والشيء الذي لا يجدون عنه غنى ولا بد، فأرجو أن يكون لهم في ذلك سعة إن شاء الله ولا أرى به بأسا والزيتون مثل ذلك، قال سحنون: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هو القياس، وقول مالك استحسان دفعه للضرورة إلى ذلك، إذ لا يتأتى عصر اليسير من الجلجلان والفجل على حدته مراعاة لقول من يجيز التفاضل في ذلك من أهل العلم، وهذا نحو إجازتهم للناس خلط أذهابهم في الضرب بعد تصيغتها ومعرفة وزنها، فإذا خرجت من الضرب أخذ كل إنسان منهم على حساب ذهبه وأعطى الضراب أجرته، وقد مضى الكلام في ذلك وبسط ما فيه من الخلاف وتوجيه قول من رخص فيه وأجازه مستوفى في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف وبالله التوفيق.(12/16)
[: القوم يجتمعون يشترون السلعة فيضع البائع لرجل منهم]
ومن كتاب صلى نهارا ثلاث ركعات وسألت مالكا عن القوم يجتمعون يشترون السلعة فيضع البائع لرجل منهم.
قال مالك: إن كان الذي ولي الصفقة هو الذي وضع له فما وضع له من ذلك فهو بينهم.
قال محمد بن رشد: اختلاف في أنه إذا كان الذي ولي الصفقة هو الذي وضع له فما وضع له من ذلك فهو بينهم، ولما سأله عن القوم يجتمعون يشترون السلعة فيضع البائع لرجل منهم فقال: إن كان الذي ولي الصفقة هو الذي وضع له فهو بينهما دل ذلك على أن ما وضع لأحدهم إذا اجتمعوا في شرائها للذي وضع له وحده لا يدخل معه في الوضعية أشراكه، والفقهاء السبعة يقولون: ما وضع لأحدهم فهو بين جميعهم، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يكونوا شركاء عقد ولا في الموضع الذي يجب الحكم بينهم بالشركة، فلا اختلاف بينهم إذا كانوا شركاء عقد فوضع لأحدهم أن الوضعية بينهم، وكذلك إذا اجتمع التجار واشتروا السلعة حيث يجب الحكم بينهم بالشركة فيها. فوضع لواحد منهم لا اختلاف في أنهم كلهم يدخلون في الوضعية وكذلك لو وضع للذي ولي الصفقة أو الوضعية ما يشبه أن يكون وضيعة من الثمن وبالله التوفيق.
[: يدعو جاره المحتاج فيقول له أخرج معي أشتري طعاما بمائة دينار ولك ثلث الربح]
ومن كتاب أشهب
وابن نافع من مالك رواية سحنون قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن الرجل يدعو جاره المحتاج وهو أخ له يريد صلته وليست له به حاجة إلا صلته فيقول له:(12/17)
أخرج معي أشتري طعاما بمائة دينار ولك ثلث الربح.
فقال: ما أعرف هذا ولكن لو اشتراه وعرف الربح ثم قال ذلك له لم يكن به بأس، فقيل له: أفتكرهه؟ فقال: ما أعرف هذا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال والمكروه في ذلك بين لأنه لو كان استأجره على الخروج معه بثلث ما يربح في الطعام الذي يشتري فذلك غرر لا خير فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى لؤلؤا فاستشركه فيه قوم فأشركهم فيه]
مسألة وسئل مالك عن رجل اشترى لؤلؤا فاستشركه فيه قوم فأشركهم فيه وقد قالوا له عند إشراكهم: إياه إذا لا تقتسمه إنما تبيعه لنا، فقال: نعم لا نقتسمه أبيعه لكم، فباع صدرا من ذلك ثم رأى منهم ما كره فأراد مقاسمتهم إياه فأبوا ذلك عليه وقالوا: عليك أن تبيعه لنا.
قال مالك: له أن يقاسمهم فأما البيع فنعم عليه أن يبيع لهم ولكن لو بار اللؤلؤ وذهب الزمان الذي كان يرجى أن يباع إليه فلا أرى ذلك لهم عليه، وأرى له أن يدفع إليهم الذي لهم وليس على هذا أراد أن يبيع لهم، ولعل الرجل أيضا يريد سفرا، فأرى له أن يقاسمهم ويدفع الذي لهم إليهم.
قال محمد بن رشد: رواية أشهب وابن نافع هذه عن مالك في الذي يشرك القوم في اللؤلؤ الذي ابتاعه على أن يبيع لهم نصيبهم الذي أشركهم فيه دون أن يضرب لذلك أجلا خلاف ما في كتاب الجعل والإجارة من المدونة من أنه لا يجوز للرجل أن يبيع من الرجل نصف السلعة على أن يبيع له النصف الآخر إلا أن يضرب لذلك أجلا لأنه إذا لم يضرب لذلك أجلا كان(12/18)
جعلا، ولا يجوز أن يجتمع الجعل والبيع في صفقة ويجوز أن يجتمع البيع والإجارة في صفقة واحدة، والإجارة لا تجوز إلا بضرب الأجل، فإذا لم يضرب لهما أجلا فسدت وفسد البيع لفسادها لاجتماعه معها في صفقة واحدة.
ووجه رواية أشهب هذه أنه رأى ما يباع إليه اللؤلؤ على ما قد عرف بالعادة كالأجل المضروب، وذلك بين من قوله، ولكن لو بار اللؤلؤ وذهب الزمان الذي يرجى أن يباع إليه فلا أرى ذلك لهم عليه، يريد ويستوجب البائع الثمن كله، ولو باع اللؤلؤ وقد مضى من الأجل بعضه لوجب أن يرجع المبتاعون المشركون عليه بما ناب ذلك من الثمن لأنهم دفعوه إليه ثمنا لما اشتروه من اللؤلؤ وإجارة على بيعه إلى المدة التي قد عرفت بالعرف والعادة، ووجه العمل في ذلك أن يقوم حظهم الذي اشتراه من اللؤلؤ والإجارة على بيعه إلى تلك المدة، وإن كانت في التمثيل قيمة حظهم من اللؤلؤ عشرة وقيمة الإجارة اثنان وباع في نصف المدة رجع المبتاعون عليه بنصف سدس الثمن الذي دفعوه إليه كان أقل من اثني عشر أو أكثر وهذا كله بين والحمد لله وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون بين الرجلين لأحدهما أن يبيع مصابته منها ولا يبع معه شريكه]
مسألة وسئل مالك عن العبد يكون بين الرجلين لأحدهما أن يبيع مصابته منها ولا يبع معه شريكه؟ فقال: نعم، ذلك له، قيل لمالك: لمن مال العبد إذا باع أحد الشريكين مصابته منه ولم يبع شريكه معه، فقال: للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، ولكن مال هذا العبد إذا كان بين الشريكين لا يقدر البائع منهما أن يأخذ ماله لأنه لا يجوز في مال العبد قسم إلا بإذن شريكه ورضاه، فلا أرى هذا البيع(12/19)
يجوز إذا باع أحدهما مصابته من العبد إلا أن يبيعه بماله من المشتري وإلا لم يجز.
وقال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال: أحدهما أن البيع فاسد إلا أن يبيعه بماله، وهو نص قول ابن القاسم أيضا في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، والثاني أنه يقال للبائع: إما أن تسلم إلى المبتاع مصابته من المال مع مصابته التي باعها منه من العبد وإلا فخذ حظك منه وينفسخ البيع فيه وهو دليل ما في رسم العارية من سماع عيسى من كتاب العتق والثالث أنه يكون المال للمشتري ويثبت البيع وهذا القول يتخرج على قياس قول ابن دينار في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب البيوع في الرجل يبيع حائطه وثمرته قد أبر نصفها مشاعا إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى والقياس، وفي مسألة الثمرة قول رابع لا يصح في مسألة العبد وهو قول ابن حبيب في الثمرة أنها تكون كلها للبائع لأنها تجعل تبعا لما قد أبر منها وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: السكوت كالإقرار]
ومن كتاب الأقضية الثانية قال: وسئل مالك فقيل له: إني أكريت أنا وشريكي إبلا لنا فتخلف شريكي ينتقد الكراء وذهبت أنا أطلب الكراء فانتقد شريكي الكراء فدفعه إلى غلام له فخرجت أنا وعبد شريكي الذي دفع إليه(12/20)
الدنانير فقلت: أين سيدي؟ فقال: تخلف وأرسلني، فقلت له: أين دنانيرنا؟ فقال: أعطانيها وها هي ذي معي فسكت عنه حتى قدمنا ثم ذهب العبد ينظر، فقال: أنا أفتقد دينارين.
فقال له مالك: أراهما عليك وعلى شريكك بالحصص لأن العبد قد أخبرك أنها معه فرضيت وسكت، فأراهما عليك وعلى شريكك إنما عليه أيسر ذلك إن كانت الدنانير عشرين دينارا ولك منها خمسة فعليك ربعها وعلى شريكك ثلاثة أرباعها.
قال محمد بن رشد: جوابه في هذه المسألة صحيح على القول بأن السكوت كالإقرار، وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم فيدخل اختلاف قوله في هذه المسألة ويكون الشريك ضامنا للدينارين اللذين دفع إلى عبده فادعى العبد أنها تلفت عنده بعد يمينه أنه لم يسكت راضيا بكونها عند العبد وأنه إنما سكت لأنه علم أن ذلك لا يلزمه ولا ينفذ عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد الذي نصفه حر فأراد سيده أن يخرجه إلى بلد غير البلد الذي هما فيه]
مسألة وقال مالك في العبد الذي نصفه حر فأراد سيده أن يخرجه إلى بلد غير البلد الذي هما فيه، فقال: أرى ذلك له إن كان مأمونا على ذلك فإن لم يكن مأمونا لم أر له أن يخرجه، فروجع في ذلك فقاله أيضا وما هو بالبين، فقيل له: فعلى من النفقة إذا قضي له بالخروج به والكراء؟ فقال: على السيد وليس على العبد من ذلك شيء حتى يقر قراره بالموضع الذي يكون له عمل فيه، وذلك أنه أخرجه من موضع عمله وكسبه، فإذا نزل قرية له فيها عمل ومكتسب كانت له أيام وللسيد أيام، وإذا كان ذلك في سفرهم في الموضع الذي ليس له فيه مكتسب رأيت النفقة على السيد حتى يقدم به.(12/21)
قال محمد بن رشد: تفرقة مالك في هذه المسألة بين المأمون وغير المأمون استحسان على غير قياس، والقياس في ذلك ما حكى ابن حبيب وابن المواز عن أشهب أنه قال: ويقع بقلبي أن ذلك ليس للمأمون ولا لغير المأمون، قال غير ابن حبيب: مستعربيا كان أو غير مستعربي قال عنه: فلا يخرج به إلا برضاه لأنه ملك من نفسه ما يملك الشريك، قال ابن حبيب: وأما لو أراد الانتقال به إلى قرية يسكنها فإن كانت من الحواضر فذلك له وإن كره العبد، وفي المسألة قول ثالث أن له أن يسافر به مأمونا كان أو غير مأمون ويكتب له كتابا إن لم يكن مأمونا، وهو قول مالك في رسم طلق ابن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية وقد مضى القول على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: يحملون الطعام من القمح في السفينة الواحدة يختلط بعضه ببعض]
مسألة وسئل عن القوم يحملون الطعام من القمح في السفينة الواحدة يختلط بعضه ببعض ثم يريد بعضهم البيع في الطريق، فقال: لا أرى ذلك له إلا أن يرضى أصحابه أن يعطوه؛ لأني أخاف أن يكون أسفل الطعام فاسدا أو يمطروا بعد ذلك فيفسد القمح فلا أرى لأحد منهم أن يأخذوا حتى يبلغوا حده فيقتسمونه الفاسد والجيد إلا أن يرضى أصحابه أن يسلموا له حقه فأرى ذلك له ولا أرى لهم عليه تباعة إذا نزلوا فوجدوا القمح فاسدا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنهم حملوا الطعام في السفينة على أن يمروا به لبلد واحدة لتجارة أو لغير تجارة فلذلك لم ير لواحد منهم أن يأخذ طعامه إذا كان قد اختلط بمنزلة أن لو كانوا خلطوه وحملوه على الشركة لأن اختلاطه يوجب اشتراكهم فيه وذلك بخلاف ما لو حملوه على(12/22)
أن يمروا به إلى منازلهم فاختلط أو كانوا هم قد خلطوه وحملوه على ذلك لأنهم إذا حملوه على أن يمروا به إلى منازلهم كان من حق من يمر منهم بمنزله أولا أن يأخذ طعامه فيه ولا يكون لأصحابه عليه تبعة إلا أن ينقص الطعام أو يكون قد أصابته آفة على معنى ما قاله في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب حسبما بيناه في ذلك فليست هذه الرواية بمخالفة لها، ومن الناس من حملها على الخلاف لها، وليس ذلك عندي بصحيح، والله أعلم وبه التوفيق.
[: يقول لشريكه إني قد جعلت في هذا المال الذي يعمل فيه أنا وأنت مالا من عندي]
ومن كتاب الأقضية الثالث
وسئل مالك عن الشريك المفوض إليه أو غير المفوض يقول لشريكه: إني قد جعلت في هذا المال الذي يعمل فيه أنا وأنت مالا من عندي عند المحاسبة أو قبل ذلك أيجوز قوله أم لا يصدق إذا أبى شريكه أن يصدقه فقال: أكتب إليه أنه لا يجوز قوله ويحلف شريكه بالله ما جعل فيه شيئا ولا له فيه شيء.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه الرواية أنه يحلف على البت، وروى ابن أبي جعفر الدمياطي عن ابن القاسم أنه يحلف على العلم وهو الصحيح إذ لا يصح القطع على أنه كاذب فيما ادعاه وبالله التوفيق.
[: يشتركان في مال بعينه فيقيم أحدهما ويسافر الآخر فيدان المسافر في مال ثم يفلس]
ومن كتاب الأقضية
وسئل عن الرجلين يشتركان في مال بعينه فيقيم أحدهما ويسافر الآخر فيدان المسافر في مال ثم يفلس فيريد الغرماء أن يتبعوا الشريك المقيم، فقال: ليس ذلك لهم إنما شاركه في مال معروف بعينه.(12/23)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنهما إذا لم يتفاوضا في جميع أموالهما وإنما تفاوضا في مال مسمى فلا يلزم أحدهما ما داين به الآخر إلا في ذلك المال الذي تفاوضا فيه بعينه وبالله التوفيق.
[: اشتركا أخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم فعملا على ذلك وربحا]
من سماع عيسى بن دينار من ابن
القاسم من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن رجلين اشتركا أخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم فعملا على ذلك وربحا كيف يقسمان الربح؟ قال: يقتسمان على الدنانير والدراهم ما وقع من شيء للدنانير من الدنانير وقع للدراهم مثله من الدراهم إن كان للدنانير دينار فللدراهم درهم وإن كان للدنانير نصف دينار فللدراهم نصف درهم، وإن كان ربع فربع على هذا يقتسمان الربح، قلت: أفيصرفان الربح دراهم ثم يقتسمانه على هذا الحال؟ فقال: إن شاءا صرفا وإن شاءا لم يصرفا إذا قسماه على هذه القسمة ويأخذ كل واحد منهما رأس ماله مثل الذي أخرج، يأخذ صاحب الدنانير رأس ماله دنانير ويأخذ صاحب الدراهم رأس ماله دراهم ويقتسمان الربح على ما فسرت لك، وكذلك بلغني عن مالك وهذا إذا فات، ولا تصلح الشركة بالدنانير والدراهم.
قال محمد بن رشد: لا تجوز الشركة بالدنانير من عند أحد الشريكين والدراهم من عند الآخر على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها وهو مذهبه في هذه الرواية؛ لأنه إنما تكلم على الحكم في ذلك إذا وقع ولم يعثر عليه حتى فات بالعمل، فقال: إنه يأخذ صاحب الدنانير رأس ماله دنانير وصاحب الدراهم رأس ماله دراهم ثم يقتسمان الربح على ما(12/24)
ذكره حسبما يتبين مراده به، إذ ليس على ظاهره، وذلك أنه قال: ما وقع للدنانير من شيء من الدنانير وقع للدراهم مثله من الدراهم فمراده به أن ما وقع ربح الدنانير من الدنانير وقع للدراهم مثل ذلك الجزء من الدراهم لا مثل ذلك العدد على ما يقتضيه لفظه لا سيما بقوله بعد ذلك: إن وقع للدنانير دينار وقع للدراهم درهم وإن وقع للدنانير عشرة دنانير وقع للدراهم عشرة دراهم، إذ لا يصح إذا وقع للدنانير ربح دينار ألا يقع للدراهم إلا ربح درهم وإذا وقع للدنانير ربح عشرة دنانير ألا يقع للدراهم إلا ربح عشرة دراهم فيكون صاحب الدراهم لا يربح من عدد الدراهم إلا ما يربح صاحب الدنانير من عدد الدنانير هذا ما لا يصح أن يريده ابن القاسم أو يقوله، وإنما عبر عن تساوي الجزأين بتساوي العددين ألا ترى إلى قوله بعد ذلك: وإن وقع للدنانير مثل نصفها من وقع للدراهم مثلها من الدراهم، فكما يكون إذا وقع للدنانير مثلها من الدنانير يقع للدراهم مثلها من الدراهم فكذلك يكون إذا وقع للدنانير مثل نصفها من الدنانير أو مثل ثلثها أو مثل ربعها أو مثل عشرها أو مثل عشر عشرها يقع للدراهم مثل نصفها من الدراهم أو مثل ثلثها أو مثل ربعها أو مثل عشرها أو مثل عشر عشرها، وما كان من الأجزاء وذلك يرجع إذا اعتبرته بما يخرج الحساب إلى أن يقتسما جميع ما بأيديهما على ما كان فيه من ربح أو خسارة على قيمة الدنانير والدراهم يوم الفسخ فهذا أقرب مأخذ في العمل، وقيل: إنهما يقتسمان ذلك على قيمة الدنانير والدراهم يوم اشتركا، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، وقد روي عن مالك إجازة الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر وبالطعامين المختلفين وبالعرضين المختلفين، روي عنه أنه قال في الشركة بالعرضين المختلفين: ما هو من عمل الناس، وذلك والله أعلم لما يدخله من بيع وشركة.
فيتحصل في جملة المسألة لمالك ثلاثة أقوال، أحدها أن الشركة جائزة في ذلك كله لأنه إذا أجازها بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر أو بالطعامين بالمختلفين فأحرى أن يجيز ذلك بالعرضين المختلفين إذ(12/25)
ليس في العرضين المختلفين إلا علة واحدة، وهي اجتماع البيع والشركة، وفي الدنانير والدراهم والطعامين المختلفين علتان وهما عدم التناجز والبيع والشركة في الطعامين المختلفين والصرف والشركة في الدنانير والدراهم، وهو مذهب سحنون أجاز ذلك كله إذ لا يراعي في الشركة عدم التناجز ولا الصرف والشركة ولا البيع والشركة إذا كانا داخلين في الشركة، والثاني أن الشركة لا تجوز عنده في شيء من ذلك كله؛ لأنه إذا لم يجزها في العرضين المختلفين فأحرى ألا يجيزها في الطعامين المختلفين وفي الدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر، والثالث أن الشركة جائزة بالعرضين المختلفين ولا يجوز بالطعامين المختلفين ولا بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر وهو مذهب ابن القاسم لاجتماع علتين في الطعامين المختلفين في الدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر وانفراد علة واحدة في العرضين المختلفين وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب ابن المواز إجازة الشركة بالدنانير من عند أحد الشريكين والدراهم من عند الآخر ابتداء مثل قول سحنون وأحد قولي مالك وبالله التوفيق.
[: الرجل يشتري السلعة وتجب له فيقول أشركني فيها]
ومن كتاب أوله استأذن سيده قال: وسألته عن الرجل يشتري السلعة وتجب له، فيقول: أشركني فيها، قال: هذا حرام لا خير فيه لأنه بيع وسلف، قيل له: فلو كان صاحب الصفقة هو المسلف قال لرجل: تعال أشركك فيها وأنقد عنك ثمنها وأؤخرك؟ قال: إن كانت السلعة حاضرة بعينها فلا بأس به، قال ابن القاسم: إن كانت سلعة مضمونة فلا خير فيه لأنه الدين بالدين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الشركة إذا وقعت على أن ينقد المشرك عن الذي أشركه ثمن الحظ الذي بقي بيده ولم يشركه(12/26)
به فهو بيع وسلف لأن المشرك يؤدي عن المشرك ثمن الحظ الذي بقي بيده ثم يطلبه به دينا ثابتا في ذمته، فهو سلف لا يجوز أن يشترطه أحدهما على صاحبه في أصل الإشراك، لا يجوز أن يقول المشتري: أنا أشركك على أن تنقد عني ولا أن يقول المشرك: أشركني وأنا أنقد عنك وأما ثمن الحظ الذي وقعت فيه الشركة فجائز أن يشترط كل واحد منهما على صاحبه نقده لأنه إن اشترط ذلك المشتري على المشرك فهو الواجب وهي شركة جائزة على وجهها وإن اشترط ذلك المشرك الذي أشركه فهو بيع صحيح لأنه باعه ذلك الحظ على أن يؤخره بثمنه وينقده هو عن نفسه فلا إشكال في جوازه إلا أن تكون السلعة مضمونة على ما قال فيكون الدين بالدين الذي لا يجوز وبالله التوفيق.
[مسألة: يمين التهمة وفي وجوب ردها والاختلاف في ذلك]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن رجل كان له شريك بدمياط وهو بالفسطاط فأتته ثياب من عند شريكه من دمياط فوجد في بعض الثياب بطاقتين أحدهما أكثر ثمنا من صاحبتها ما سمى له، هل ترى عليه يمينا أنه ليس بهذا الرسم للأدنى؟ قال: نعم أرى عليه اليمين، قلت: فإن أبى اليمين أيحلف الآخر؟ قال: نعم إن أبى أن يحلف قيل للآخر: احلف، قلت كيف يحلف؟ قال: يحلف على البتات أن هذه الثياب بهذا الرسم للأدنى.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في آخر رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع في لحوق يمين التهمة وفي وجوب ردها والاختلاف في ذلك مشهور معلوم في المذهب قيل: إنه لا يحكم بها ولا يردها وقيل: إنه يحكم بها ويردها وقيل: إنه لا يحكم بها ولا يحكم بردها إلا أنه لا يسوغ لمن مكن منها بوجه الحكم أن يحلف إن لم يكن على يقين مما حلف عليه لأنه إنما مكن منها على أن يحلف إن كان يدعي معرفة ما يحلف عليه،(12/27)
والأصل في هذا «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما قال للجاريتين في صاحبهم الذي قتل بخيبر إذ بدأهم باليمين: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟ قالوا: يا رسول الله، كيف نحلف ولم نشهد ولم نحضر؟ فلم يرد ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَدَاهُ من عنده» ، وقد تأول بعض الناس على ما وقع في رسم البراءة من سماع أنه يجوز للرجل أن يحلف مع شاهده وإن لم يعلم صحة ما شهد له به وذلك بعيد، وقد مضى الكلام عليه في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور وبالله التوفيق.
[: اشتركوا في سلعة اشتروها فتولى أحدهم بيعها فباعها وأمسك الدنانير]
ومن كتاب أوصى
لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسئل عن قوم اشتركوا في سلعة اشتروها فتولى أحدهم بيعها فباعها وأمسك الدنانير، فقال له شركاؤه: أبعت السلعة؟ فقال: نعم بعتها قيل له: فأين الثمن؟ قال: هو ذا في كيسي مع دنانيري قيل له: فأعطنا حقنا، قال: نعم أتسوق ثم أعطيكم الذي لكم، فذهب عنهم ثم أتاهم فزعم أنها قرضت من كمه.
قال: هو ضامن إذا سألوه حقهم فلم يعطهم وجهه عنهم، قيل له: إنا لما أردنا أن نخاصمه قال: أسلفوني دينارين أتجر فيها، فما صار فيها من ربح قضيتكم، ووخرني عشرة أشهر وأنا أقولكم وأكتب علي بذلك ذكر حق ففعلنا فأردنا أن نخاصمه الآن فهل تقضي لنا بذلك الإقرار؟ قال: فعلتم ما لا يحل فلا يقضي عليه بذلك إلا قرار لأنه يقول: إنما أقررت لكم على أن تسلفوني ولكن إن كانت لكم بينة(12/28)
حين سألتموه حقكم حبسه عنكم ثم جاء يزعم أنه تسوق فهو ضامن.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا أقر أنه باع السلعة وقبض الثمن فلا يصدق فيما ادعى من أنه قرض من كمه إذا كانوا قد سألوه حقهم فحبسه عنهم، ولو أدى ذلك قبل أن يسألوه إياه لوجب أن يصدق في ذلك على ما دل من قوله، وهذا إذا كان توليه لبيع السلعة بإذنهم وأما لو تولى ذلك بغير إذنهم لما صدق فيما ادعى من أن الثمن قرض من كمه كان ذلك من دعواه قبل أن يسألوه الثمن أو بعد أن سألوه إياه، ولا إشكال فيما ذكره من الإقرار إذا كان منكرا ألا يلزمه إذا كان على الوصف الذي وصفه؛ لأنه إنما أقر على شرط، فإذا لم يتم له الشرط لم يلزمه الإقرار ولو أسلفوه الدينارين ووخروه إلى المدة ثم قاموا عليه عنها انقضائها للزمه الإقرار وإن كان وقع عليه سبب فاسد وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: يكون له مائة شاة فيبيع منها عشرة يختارها ثم يبيع بقيتها من رجل آخر]
ومن كتاب أوصى
أن ينفق على أمهات أولاده وسئل عن رجلين اشتركا في شراء صفقة فاشترياها بعشرة دنانير اشترى أحدهما منه خمسة أراديب بخمسة دنانير، والآخر ما بقي بخمسة دنانير.
قال: لا بأس به، وهو حلال إذا كان باسما من الكيل الذي استثناه لأحدهما يجوز للبائع أن يستثنيه الثلث فأدنى، قيل له: أيهما على ذلك اشترياه فكأنه أشركه، قال: ليست بشركة وليس(12/29)
بذلك بأس، وإنما باعه البائع من الأرادب ما كان يجوز له أن يستثنيه، أرأيت لو باعه من صبرة وفيها ألف إردب عشرة أرادب بخمسة دنانير ثم باع بعد ذلك ما بقي من رجل آخر قبل أن يكيل العشرة أنه لا بأس به قال: وليس هذا مثل الضأن أن يكون له مائة شاة فيبيع منها عشرة يختارها ثم يبيع بقيتها من رجل آخر قبل أن يختار الأول فلا خير فيه وهو لا بأس أن يبيع عشرة من خيارها أبدا ولا خير في أن يبيع بقيتها قبل أن يختار العشرة حتى يختار، وفرق بين ذلك لأنه يجوز أن يبيع بقية الصبرة بعد الأرادب جزافا قبل أن يكتال الأرادب، ولا يبيع الضأن لأنه لا يدري ما بقي منها، ولأن الطعام هو صنف واحد ليس للكيل الذي يؤخذ منه فضل على ما بقي من الجزاف.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أعرفه في المذهب أنه إذا باع من الصبرة كيلا معلوما يجوز له أن يستثنيه منها وهو الثلث فأدنى جائز له أن يبيع بقية الصبرة من غيره أن المكيلة التي اشترى الأول منها كان البائع استثناها لنفسه، وأما إذا باع من غنمه عشرة يختارها المشتري فاختلف هل يجوز له أن يبيع بقيتها من غيره قبل أن يختار الأول عشرته، والمشهور قوله هاهنا: إن ذلك لا يجوز، وقد مضى القول على ذلك في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع فلا معنى لإعادته ولو باع من غنمه أكثر من ثلثها على الخيار لما جاز له أن يبيع بقيتها من غيره قبل أن يختار الأول ما ابتاع قولا واحدا والله أعلم.(12/30)
[: اشترى الرجل سلعة وأشرك فيها ناسا فاستوضع صاحب الصفقة البائع فوضع له]
ومن كتاب
أوله بع ولا نقصان عليك
قال: إذا اشترى الرجل سلعة وأشرك فيها ناسا فاستوضع صاحب الصفقة البائع فوضع له فأشراكه يدخلون في الوضعية معه وكذلك قال مالك وإذا استوضعه أحد الذين أشرك فوضع كانت الوضعية له دون شركائه ودون صاحب الصفقة، وإذا اشتراها نفر صفقة واحدة فوضع لواحد منهم فالوضعية له دون شركائه وهو قول مالك.
قلت: فإن كان الذي اشتروها شركاء عقد فوضع لواحد منهم أيكون لأصحابه في ذلك شيء أم لا؟ وهل يفترق إذا كانوا شركاء عقد أو غير ذلك، قال: الوضيعة لهم جميعا إذا كانوا شركاء عقد فوضع الواحد منهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب فلا معنى لإعادته.
[: سأل أمانة فأنكرها ثم ادعى الرد أو الضياع]
ومن كتاب إن خرجت
من هذه الدار إلى رأس الحول وسئل عن شريكين كانا عند القاضي فسأل أحدهما صاحبه عن ماله فقال: ضاع مني، فقال القاضي: اكتبوا أيضا إقراره، فقال حينئذ: إنما دفعت إليك من مالي بعد أن ضاع مني قال: لا يقبل قوله وأراه ضامنا.(12/31)
قال محمد بن رشد: لم يصدقه فيما ادعاه من دعوى القضاء لما تقدم من دعوى الضياع، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك وأقوال أصحابه اختلافا كثيرا فيمن سأل أمانة فأنكرها ثم ادعى الرد أو الضياع فقيل: إنه يصدق في كل واحد من الوجهين، وقيل: إنه لا يصدق في واحد منهما لما تقدم من إنكاره، وقيل: إنه يصدق في دعوى الضياع ولا يصدق في دعوى الرد، والثلاثة الأقوال كلها لمالك في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب القراض، وفيمن ادعيت عليه أيضا دعوى فأنكرها فلما قامت عليه البينة بها جاء بما يخرج منها من بينة على البراءة منها أو ما أشبه ذلك، فقيل: إن ذلك لا يقبل منه إلا في اللعان إذا ادعى الرؤية بعد إنكار القذف وأراد أن يلاعن وهو قول محمد بن المواز، وقيل: إنه لا يقبل منه إلا في اللعان والأصول ولا يقبل منه في الحقوق، وهو قول ابن كنانة وابن القاسم في المدنية وبالله التوفيق.
[: شركة الأبدان لا تجوز إلا فيما يحتاج الاشتراك فيه إلى التعاون]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وسئل عن صيادين اجتمعوا على غدير ومعهم شباك فقال بعضهم لبعض: تعالوا نشترك ويضرب كل واحد منا بشبكته، فأخرج صيدا فأبى أن يعطي للآخرين منه شيئا وقال لهم: ليس لكم فيما أصبت شيئا، فقال: ذلك له، وليس لهم فيما أصاب شيء لأنها شركة لا تحل.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن شركة الأبدان لا تجوز إلا فيما يحتاج الاشتراك فيه إلى التعاون، ولأنهم متى اشتركوا على أن يعمل كل واحد منهم على حدة لأن ذلك من الضرر البين فاشتراك الصيادين فيما يخرجونه بشباكهم من الغدير على أن يضرب كل واحد منهم بشبكته على حدة(12/32)
من الغرر البين الذي لا خفاء به، فوجب ألا تنفذ الشركة بينهم وأن يكون كل واحد منهم أحق بما أخرج بشبكته، ولو كان الغدير صغيرا لا يحمل إلا شبكة واحدة فأراد كل واحد منهم أن يضرب بشبكته أولا وترافعوا على ذلك لوجب أن يقضي بينهم بالاشتراك في ذلك على ما تصح به الشركة في ذلك بأن يستأجروا أحدهم على أن يضرب بشبكته بينهم خوفا من أن يقتتلوا على ذلك ولو بدأ واحدهم فضرب بشبكته قبل ذلك لكان له ما أخرجت له شبكته وهذا كل على قياس ما قاله سحنون في نوازله من كتاب الصيد في القوم يجدون العش فيريد كل واحد منهم أخذه ويتدافعون عليه وهو أصل لما يختلف فيه من القوم المتيممين يجدون من الماء قدر ما يتوضأ به واحد منهم هل ينتقض تيمم جميعهم أو تيمم الذي أسلم إليه وحده، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في سماع سحنون ونوازله من كتاب الوضوء وإن شاء ترك هو المشهور في المذهب على ما في رسم أوله أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى من كتاب الشفعة، وعلى قياس ما وقع في كتاب المرابحة من المدونة من الرجل إذا اشترى نصف سلعة وورث نصفها لا يجوز له أن يبيع نصفها مرابحة حتى يبين؛ لأنه إن باع ولم يبين وقع بيعه على ما ورثه وعلى ما اشترى، وقد قيل: إن للمشرك جميع حظ الذي أشركه وهو دليل قوله في كتاب العتق الأول من المدونة وفي آخر المسألة من أول رسم من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب وقد مضى القول على ذلك هنالك وبالله التوفيق.
[مسألة: قال له اشتر سلعة كذا وكذا علي وأنا فيها شريكك فاشتراها رجل غيره فأشركه فيها]
مسألة قلت له: فلو كان قال له: اشتر سلعة كذا وكذا علي وأنا فيها شريكك فاشتراها رجل غيره فأشركه فيها، قال: يكون الذي قال له اشتر علي وأنا شريكك مخيرا بين أن يأخذ نصف ما اشترك به صاحبه وبين أن يدع ولا يلزمه شيء.(12/33)
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في المسألة التي قبلها يدخل فيها من الاختلاف ما دخل فيها إذ لا فرق بين أن يشتري نصف السلعة أو يشرك فيها بنصفها وبالله التوفيق.
[: الربح تابع للضمان إذا عملا بما تداينا به]
ومن كتاب القطعان وسئل ابن القاسم عن الرجل يشرك الرجل فيقول أحدهما لصاحبه: اقعد في هذا الحانوت تبيع فيه، وأنا آخذ المتاع بوجهي والضمان علي وعليك، فيفعلان ذلك، قال: الربح بينهما على ما تعاملا عليه ويأخذ أحدهما من صاحبه أجرة ما يفضله به في العمل.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الربح تابع للضمان إذا عملا بما تداينا به كما هو بائع المال إذا عملا بما أخرجه كل واحد منهما من المال وبالله التوفيق.
[مسألة: قال له اقعد في هذا الحانوت وأنا آخذ لك متاعا تبيعه ولك نصف ما ربحت]
مسألة قال: ولو قال رجل لرجل: اقعد في هذا الحانوت وأنا آخذ لك متاعا تبيعه ولك نصف ما ربحت أو ثلثه لم يصلح ذلك، وإن عملا عليه كان للذي في الحانوت أجرة مثله فيما عمل ويكون الربح كله للذي أجلسه في الحانوت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأنها إجارة فاسدة من أجل أن الربح تابع للضمان، فإذا كان الذي أجلسه في الحانوت هو الذي يأخذ السلع ويكون ضمانها عليه وجب أن يكون الربح له ويكون للعامل أجرة مثله لأنه عمل على نصف ما ربح فيما باع وهو غرر وبالله التوفيق.(12/34)
[مسألة: اشترى أرضا فأشرك فيها رجلا فتعدى الشريك فزرع الأرض كلها]
مسألة وسئل عمن اشترى أرضا فأشرك فيها رجلا فتعدى الشريك فزرع الأرض كلها، فقال: الزرع للذي زرعه وعليه نصف كراء الأرض، قال عيسى: حاضرا كان شريكه أو غائبا، غير أن شريكه إن كان حاضرا يحلف بالله أنه ما كان تركه إياه رضا منه بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: إن الشريك إذا تعدى فزرع الأرض كلها يكون الزرع له ويكون نصف كراء الأرض ظاهره وإن كان إبان الحرث لم يفت فهو خلاف قوله في نوازل سحنون من كتاب المزارعة أن البذر إذا لم يفت أخذ نصيبه من الأرض فبذرها، وخلاف قول ابن القاسم أيضا في أول سماعه من كتاب الاستحقاق أنه يكون له فيما بنى في أرض شريكه قيمة بنيابة منقوضا إن صار في حظ شريكه فمرة رأى الشركة بينهما في الأرض شبهة يوجب أن يكون الزرع لزارعه فإن لم يفت إبان البذر ومرة لم ير ذلك شبهه ورأى أن من حق الشريك أن يأخذ نصيبه من الأرض بزرعها إذا لم يكن للذي بذره فيه منفعة إن قلعه، فإن كانت له فيه منفعة إن قلعه كان من حقه أن يقلعه إلا أن يشاء الشريك المتعدي عليه أن يأخذه بقيمته مقلوعا فيكون ذلك له، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في أول سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، وقول عيسى بن دينار: إن لشريكه الكراء حاضرا كان أو غائبا بعد يمينه إن كان حاضرا خلاف روايته عن ابن القاسم في أول سماع من كتاب الاستحقاق، وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى وبالله التوفيق.
[: يشتركا إذا أخرج أحدهما ذهبا وأخرج الآخر ورقا]
من سماع يحيى
من ابن القاسم من كتاب الصلاة قال يحيى: قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: لا ينبغي(12/35)
للرجلين أن يشتركا إذا أخرج أحدهما ذهبا وأخرج الآخر ورقا وهو عندي من المكروه البين، فإن وقع ذلك ولم ينظر فيه حتى يشتريان ويبيعان أخذ كل واحد منهما مثل ما كان أخرج، صاحب الذهب مثل ذهبه وصاحب الورق مثل ورقه، ثم يقتسمان الربح على قدر أموالهما، وتفسير قسمتها إن كان ربحا للعشرة خمسة عشر فكان لصاحب الذهب مائة دينار ولصاحب الورق ألف درهم جعل لصاحب المائة دينار فضل خمسين دينارا ولصاحب الألف درهم خمسمائة درهم وإن كان الربح للعشرة أحد عشر أو اثني عشر أو نحو ذلك فعلى هذا الحساب يقتسمان الربح.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تقدم القول فيها مستوفى في رسم نقدها من سماع عيسى فلا معنى لإعادة ذلك وبالله التوفيق.
[: الشريكين العقيدين يغيب أحدهما ثم يقدم فيجد أموالا بيد شريكه]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر وسألته عن الشريكين العقيدين يغيب أحدهما ثم يقدم فيجد أموالا بيد شريكه [فإذا أراد قبضها ليرى فيها] في تجارتهما منعه الشريك وقال: هي أموال الناس أستودعها وإن كانت عروضا قال: [قد دفعت إلى أهلها] فيقول له شريكه: فمن أهلها أو لمن هذا المال الذي تزعم أنه ودائع الناس؟ فيقول: لا أحب أن أخبر بأهله وليس لك ذلك علي، أيقبل قوله أم لا؟ قال: إن سمى لها أهلها فادعاها للذي سماها لهم لم أر أن تدفع إليهم حتى يحلفوا مع إقراره لهم، فيكونون بمنزلة من يستحق حقه باليمين مع الشاهد فإن نكلوا دفعت(12/36)
إليهم نصيب المقر وأخذ الشريك نصيبه من ذلك المال، قال: وسواء أقر بوديعة أو بمتاع أمر ببيعه فيما يزعم قال: وإن لم ينص أحدا ولم يدعه أحد مما يقر له فالمال بين الشريكين نصفان كهيئته على شركتهما.
قلت: أرأيت إن قال: هو لي دونك ورثته أو وهب لي وما أشبه ذلك أيقبل قوله؟ قال: إن ثبت له معرفة الميراث أو العطايا والهبات وإلا فهو بينهما.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة كلها صحيحة بينة لا وجه للقول فيها! إلا قوله فيكون بمنزلة من يستحق حقه باليمين مع الشاهد فإن ظاهره يقتضي أنه يحتاج إلى عدالة المقر لأنه جعله الشاهد قال ذلك أبو إسحاق التونسي، قال أيضا: وكان ينبغي أن يجوز إقراره لمن لا يتهم عليه، وقد يحلفون استبراء والصواب أنه لا يحتاج إلى عدالته، وعلى ذلك يجب أن يحمل قوله في الرواية لأنه لم يقل: إنه يكون شاهدا له يحلف معه، وإنما قال: إنه يكون بمنزلة الشاهد له في أنه يحلف مع قوله كما يحلف مع شهادة الشاهد فإن نكل عن اليمين لم يكن له إلا نصيب الفقر، ولم يذكر هل يحلف الشريك أم لا؟ والوجه في ذلك أن يحلف إن كان تحقق الدعوى أنه أقر له بباطل، وأما إن قال: لا أدري إلا أني أتهمه في إقراره له فلا يمين عليه، إلا أنه لما كان هذا الذي أقر به ليس بدين التجارة واستظهر على المقر له باليمين شبها بما قالوا في المديان يرث أباه فيقر بدين عليه الودائع في تركته أن المقر له يحلف مع إقراره بخلاف إذا أقر بدين في ذمته وقع ذلك من إيجاب اليمين على المقر له في آخر كتاب الوصايا الثاني من المدونة وبالله التوفيق.(12/37)
[: يأتي بحمامة أنثى ويأتي الآخر بذكر على أن يكون الفراخ بينهما]
من سماع سحنون من ابن القاسم قال سحنون: أخبرنا ابن القاسم، قال مالك في الرجل يأتي بحمامة أنثى ويأتي الآخر بذكر على أن يكون الفراخ بينهما إن الفراخ بينهما على الحضانة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة عن مالك على قياس قوله في أن الزرع في المزارعة الفاسدة يكون لصاحب العمل والأرض، يريد ويرجع صاحب الحمامة الأنثى على صاحب الحمامة الذكر مثل بيض حمامته ويأتي على قياس القول في أن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر الفراخ لصاحب الحمامة الأنثى لأن البيض له ولصاحب الحمامة الذكر قيمة ما أعان به من الحضانة وبالله التوفيق.
[مسألة: الفراخ تكون لصاحب البيض ولصاحب الدجاجة قيمة ما حضنت دجاجته]
مسألة قيل له: فإن أتى رجل ببيض إلى رجل فقال له: اجعل هذا البيض تحت دجاجتك فما كان من فراخ فبيني وبينك فخرج الفراخ لصاحب الدجاجة ولصاحب البيض بيض مثله وإنما هو عندي بمنزلة الذي يأتي بالقمح إلى رجل فيقول له: ازرع هذا في أرضك فما ساق إليه من رزق فهو بيننا، فيزرعه فإن الزرع لصاحب الأرض ولصاحب القمح قمح مثله ومثله السفينة والدابة يعطيان على أن يعمل عليهما على بعض ما يكسب فإن العمل للعامل ولرب السفينة والدابة أجرة مثلهما.
قال محمد بن رشد: وهذا على قياس قوله في أن الزرع في المزارعة الفاسدة يكون لصاحب البذر أن الفراخ تكون لصاحب البيض ولصاحب الدجاجة قيمة ما حضنت دجاجته، وعلى هذا يأتي قول سحنون في(12/38)
نوازله من كتاب الغصب في الغاصب يغصب البيضة فيحضنها تحت دجاجته فيخرج منها فراخا أن الفراخ لصاحب البيضة وللغاصب عليه قدر ما حضنت دجاجته وبالله التوفيق.
[: اشتركا في شراء سلعة بعينها بدين]
من سماع أصبغ بن
الفرج من ابن القاسم من
كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم وسئل عن رجلين اشتركا على أخذ متاع بدين لهما وعليهما ولهما مال ولا مال لهما، قال: إن كانا يشركان في سلعة بعينها يشتريانها بدين فلا بأس بذلك، كان لهما رأس مال أو لم يكن وإن كان إنما يشتركان على ما يشتري كل واحد منهما يقولان ما اشترى كل واحد منا بدين ولا مال لهما فنحن فيه شركاء فلا يعجبني ذلك، قال أصبغ: فإن وقع نفذ على سنة الشركة وضمناه جميعا وفسخت الشركة من ذي قبل وقطعت بينهما.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في المدونة وهو مما لا اختلاف فيه أنهما إذا اشتركا في شراء سلعة بعينها بدين فذلك جائز، وهما شريكان فيها كان لهما مال أو لم يكن لهما مال، فإن اشترط البائع عليهما أن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه بجميع الثمن جاز، وإن لم يشترط ذلك عليهما لم يلزم كل واحد منهما إلا حصته حظه من الثمن النصف إن كانت شركتهما على النصف أو الثلث أو الثلثان إن كانت شركتهما على أن لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان أو أقل من ذلك أو أكثر، إلا أن يكونا شركاء عقد قد اشتركا شركة صحيحة على مال لهما فيكون كل واحد منهما ضامنا لثمن ما اشترى صاحبه بدين اجتمعا في أخذ المتاع بالدين أو افترقا، وأما إن اشتركا(12/39)
ولا مال لهما على أن يشتريا بالدين ويكونا شريكين في ذلك يضمن كل واحد منهما ثمن ما اشترى صاحبه فلا يجوز ذلك كما قال؛ لأنها شركة بالذمم، ولا تجوز على مذهب مالك وجميع أصحابها لشركة بالذمم؛ لأن ذلك غرر، يقول كل واحد منهما لصاحبه: تحمل عني بنصف ما اشتريت على أن أتحمل عنك بنصف ما اشتريت واختلف إن وقع ذلك، فقيل: تفسخ الشركة بينهما، ويكون كل واحد منهما ضامنا لما اشترى صاحبة قبل الفسخ على ما تعاقدا عليه وهو قول أصبغ هذا، ومذهب ابن القاسم في المدونة، وقيل: إنه يكون ضمان ما اشترى كل واحد منهما عليه، لا يكون على صاحبه، وإلى هذا ذهب سحنون، وهو القياس على القول بأن شركة الذمم لا تجوز، وقول ابن القاسم وأصبغ استحسان مراعاة لقول أبي حنيفة في إجازته شركة الذمم وقوله: إنها تنعقد على الوكالة فتجوز على مذهبه حال الافتراق، كما تجوز حال الاجتماع، وليس ذلك بصحيح إذ لا غرر فيها حال الاجتماع وبالله التوفيق.
[مسألة: المرابحة على سبيل المكايسة والشركة على سبيل المعروف]
مسألة قال أصبغ: سئل أشهب عن شركاء ثلاثة، في سلعة تقاوموها فخرج منها واحد وقعت على الاثنين بربح دينار، ثم ذهب الخارج فاستوضع البائع دينارا فقام عليه الاثنان لرد، قال: ذلك لهما إلا أن يخرج ذلك الدينار الذي وضع له فيكون بينهما وبينه أثلاثا، قيل له: ويسوغ الربح كله؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قول أشهب في هذه المسألة لا يستقيم على حال؛ لأنه إن كان خرج من حصته من السلعة لشريكيه فيها بربح دينار على ما انتهت إليه في المقاومة فاستوضع البائع الدينار فوضعه عنه هو الذي ولي صفقة شرائها فأشرك فيها شريكيه وجب أن يكون للمشرك حظه من الوضيعة شاء الذي وضع له أو أبى، سواء كان حظه باقيا في يديه أو كان قد خرج عنه ببيع(12/40)
أو غيره، وليس له أن يقول الذي أشركه: لا أضع عنك شيئا وأنت بالخياران شئت أن تمسك وإن شئت أن ترد رددت، وإنما يكون له ذلك في بيع المرابحة لأن المرابحة على سبيل المكايسة، والشركة على سبيل المعروف، هذا قوله في المدونة، وقد قال أبو إسحاق التونسي: القياس أن يكون مخيرا في الشركة كالمرابحة، وعلى هذا يأتي قول أشهب في هذه المسألة، وإن كان الذي وضع له الدينار فالشركاء الثلاثة ليس هو الذي كان ولي صفقة شرائها وإنما كان اشترى وهم لها جميعا صفقة واحدة فالدينار الموضوع يكون له خالصا لا حق فيه لشريكيه على مذهب مالك وأصحابه خلاف ما ذهب إليه الفقهاء السبعة حسبما ذكرناه في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم ولو كان أحد الشركاء في السلعة باع حظه من شريكه بربح دينار مرابحة لا على سبيل المقاومة لوجب إن كان هو الذي ولي صفقة شراء السلعة أن يرد على شريكيه ثلتي الدينار شاء أو أبى، ويكون مخيرا في الثلث التي ناب منه حظه الذي باعه مرابحة بين أن يحطه عنهما قيل: ما ينوبه من الربح وقيل: دون ما ينوبه من الربح، فيلزمهما البيع ولا يحط ذلك عنهما فيكون لهما أن يرد البيع، وكذلك إن لم يكن هو الذي ولي الصفقة على مذهب الفقهاء السبعة وأما على مذهب مالك وأصحابه فيكون له ثلثا الدينار لا يلزمه أن يرده عليهما ويكون مخيرا في الثلاثة التي ناب حظه الذي باعه منهما مرابحة على ما ذكرناه وبالله التوفيق.
[مسألة: المقاسمة جائزة نافذة على الغائب وفيما بين الشريكين]
مسألة قال أصبغ: سألت أشهب عن ثلاثة نفر اشتركوا بمائة دينار ثم يحضر سفر فيخرج اثنان بجميع المال ويتخلف واحد فلما كانا ببعض الطريق تشاجرا وتفاصلا فاقتسما فأخذ كل واحد منهما مائته ونصف مائة الغائب عنهما فتجر أحدهما في جميع ذلك وربح، وتجر الآخر فخسر فقال: لا ينفع ذلك الحائز يعني في الخسارة مال لا يكون تقدم(12/41)
إليهما، قال: ويضم المال كله يريد خسارته وربحه فيقسم ذلك بينهما وبين الغائب أثلاثا كأنهما له يقتسما المال؛ لأنهما لا مقاسمة لهما على الغائب عنهما، ثم يترادان الاثنان منهما بينهما وتجوز مقاسمتهما فيما بينهما، وبرئ كل واحد منهما لصاحبه فيكون على هذا خسارته، ولهذا ربحه، قاله أصبغ، وقال: لهذا تفسير وتفسيرها إن كان تقدم إليهما ألا يقتسما فاقتسما فربح الواحد وخسر الآخر، فإن المقيم لا يلزمه من الخسارة والوضيعة على المتعدي بتعديه بالقسمة، وأما ربح الآخر فإن الربح يكون بينه وبين شريكيه ذلك القسم، وهو على الشركة، وكذلك لو وضع لزمه من الوضعية بقدر ماله معه من المال، وفي الربح اختلاف فمن أصحابنا من قال: الربح على الثلث والثلثين، ومنهم من قال: نصفين لأنه وجد الذي قبض نصف مائته وهو الشريك معدما لرجع على هذا الشريك الآخر لأنه متعد عندما قسم ودفع المال إليه.
قال محمد بن رشد: قوله: لا ينفع ذلك الحاضر في الخسارة معناه أنه لا حجة له عليه في القسمة يضمنها الخسارة إلا أن يكون قد تقدم إليهما ألا يقتسما ماله فحينئذ يضمن له ما خسر من نصيبه وأما إن لم يتقدم إليهما في ذلك فيكون الحكم فيه ما ذكره من أن يضم المال كله بخسارته وربحه فيقسم ذلك بينهما وبين الغائب أثلاثا كأنهما لم يقتسما المال إلى آخر قوله، وذلك يرجع عند الاعتبار إلى أن يأخذ الغائب ثلث ما بيد كل واحد منهما كان قد ربح فيه أو خسر فهو مراده، ولا معنى للتطويل لما ذكره من الكلام ولا يخلو اقتسام الشريكين دون الثالث الغائب ما بأيديهما من أموالهما وقال: الغائب من ثلاثة أحوال: أحدهما أن يكونا فعلا ذلك بعد أن أذن لهما فيه الغائب، والثاني أن يكونا فعلا ذلك بعد أن نهاهما عنه، والثالث أن يكونا فعلا ذلك دون أن يتقدم منه إليهما فيه إذن ولا نهي فأما إن كانا اقتسما المال بعد أن أذن الغائب لهما(12/42)
في ذلك فأخذ كل واحد منهما مائته ونصف مائة الغائب فلا اختلاف في أن المقاسمة جائزة نافذة على الغائب وفيما بين الشريكين، فيكون الغائب شريكا لكل واحد منهما على انفراد بالثلث، يأخذ ثلث ما بيد كل واحد منهما كان قد ربح فيه أو خسر، وأما إن كانا اقتسما المال بعد أن نهاهما عن اقتسامه وأخذ كل واحد منهما مائته ونصف مائة الغائب فتجوز قسمتهما على نفسهما فيما بينهما ولا تجوز على الغائب، ويكون كل واحد منهما متعديا عليه في ذلك فإن تجرا فربح أحدهما وخسر الآخر كان الذي خسر ضامنا لما خسر في نصيب الغائب وهو قول أصبغ إنه إن كان تقدم إليهما لم يلزم المقيم من الخسارة شيء وكانت الوضعية عليه بتعديه بالقسمة وفي قوله: وكذلك لو وضع يريد الشريك الآخر لزمه من الوضعية بقدر ما له معه من المال إشكال ومراده بذلك أن الشريك الآخر لو وضع كما وضع الأول للزمه أن يضمن للغائب من الوضعية بقدر ما له من المال كما ضمن الآخر فالهاء من لزمه عائدة على الشريك الذي تجر في المال لا على الغائب ولو لم يبق بيد الذي تجر وخسر من المال ما يقوم بحظ الغائب من الخسارة وهو عديم لكان من حقه أن يرجع على الآخر بما نقص من حقه؛ لأن كل واحد منهما متعد عليه في القسمة فإن رجع بعدم الذي خسر رجع بذلك المرجوع عليه على الذي خسر فاتبعه به دينا في ذمته لأنه المتعدي بالتجر فيه دون شريكه، ولو تلف المال في يد أحدهما وهو عديم فرجع الغائب على الآخر لما كان للمرجوع عليه رجوع على الذي تلف المال عنده إذ لم يتعد فيما صار بيده منه ولا تلف بسببه، وأما إن كانا قد قسما المال دون أن يتقدم إليهما الغائب فيه بإذن أو نهي فاختلف هل يكونان متعديين في قسمة أم لا على قولين؟ أحدهما أنهما لا يكونان متعديين في قسمته كما لو أذن لهما في ذلك، وهو قول أشهب وأصبغ في هذه الرواية والثاني أنهما يكونان متعديين في قسمته كما لو نهاهما عن ذلك، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز، وهو أظهر، ووجه قول أصبغ وأشهب أنه لا ضرر على الغائب في القسمة إذ قد دخل معهما على أن لكل واحد منهما أن ينفرد بالبيع والشراء دون(12/43)
صاحبه، فالشريكان في قسمة مال الغائب بغير إذنه على مذهب أشهب وأصبغ بخلاف المودعين للعلة التي ذكرناها، وقد روى زياد عن مالك أن للمودعين أن يقتسما الوديعة.
فيتحصل في الجملة ثلاثة أقوال، يضمنان جميعا ولا يضمن واحد منهما ويضمن المودعان ولا يضمن الشريكان، وقد مضى القول في الحكم على كل واحد من الوجهين فيما خسر أحدهما فلا معنى لتكراره، وأما ربح أحدهما فقد ذكر في الرواية الاختلاف في ذلك والصحيح أن يكون للغائب ثلث الربح لأنه إنما له ثلث أصل المال الذي كان عنه الربح، ووجه القول الآخر أن الشريك الذي عمل بالمال قد دخل مع الغائب على أن يتساويا في الربح إذ جعل كل واحد منهما مائة كما جعل صاحبه، والقسمة لا تلزمه ولا تجوز عليه، والقول الأول هو الصحيح لأنه يلزم على قياس هذا القول لو ربحا جميعا أن يأخذ الغائب نصف ربح كل واحد منهما فيصير له ربح نصف الجميع وليس له من رأس المال إلا الثلث وبالله التوفيق.
[: شركة الأبدان لا تجوز إلا مع التعاون في الأعمال]
ومن كتاب البيع والصرف وسئل أشهب عن صناعين حداد وجزار في حانوت واحد اشتركا بعمل هذا مع هذا في جزارته وهذا مع هذا في حديده، قال: إن كانا يحسنان ذلك جميعا ويعملان فيه جميعا فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن شركة الأبدان لا تجوز إلا مع التعاون في الأعمال لأنهما إذا لم يتعاونا وانفرد كل واحد منهما بعمل له دون شريكه أو أشراكه إن كانوا جماعة كان ذلك غررا؛ لأن كل واحد منهما يقول لصاحبه لك جزء من أجرتي فيما انفرد بعمله، على أن يكون لي بعض أجرتك فيما تنفرد بعمله دوني، وذلك أعظم المخاطرة والغرر. وقد مضى بيان هذا في آخر رسم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.(12/44)
[مسألة: استأجرا أجيرين فاشتركا فيما يكتسبان وكل منهما مستأجر لأجيره على حدة]
مسألة قيل له: فإن استأجر رجلان أجيرين فاشتركا فيما يكتسبان وكل واحد منهما مستأجر لأجيره على حدة، قال: لا بأس بذلك إذا كان الأجيران يعملان جميعا عملا واحدا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن يد كل واحد منهما كيد مستأجره، فإذا تعاون أجيراهما في العمل كان ذلك كتعاونهما أنفسهما فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: اشتركا في حانوت واحد وصنعة كل واحد منهما غير صنعة صاحبه]
مسألة قيل له: فإن اشتركا في حانوت واحد والعمل مفترق على حدة صنعة كل واحد منهما غير صنعة صاحبه، قال: لا خير في ذلك، يريد أن العمل بينهما قيل له: فإن اشتركا والعمل واحد والحانوتان مفترقتان قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا إنه لا يجوز أن يشتركا في حانوت واحد والعمل مفترق معناه إن انفرد كل واحد منهما بعمله ولم يعمل صاحبه معه فيه على ما قاله فوق هذا، وأما قوله: إنه لا بأس أن يشتركا في العمل ويكونان مفترقين في حانوتين فهو بعيد؛ لأن الأصل في شركة الأبدان أنها لا تجوز إلا على التعاون، وهما إذا افترقا في حانوتين فلم يتعاونا وإذا لم يتعاونا لم تجز الشركة فلا وجه لقول أشهب هذا، إلا أن يكون معناه أنهما يجتمعان جميعا على أحد الأعمال ثم يأخذ واحد منهما طائفة من العمل فيذهب إلى حانوته فيعمل فيه لرفق يكون له في ذلك من سعة حانوته أو كثرة انشراحه أو قربه من منزله أو ما أشبه ذلك وبالله التوفيق.(12/45)
[: الشريكين المتفاوضين إذا ترك أحدهما عمل الشركة وأخذ مالا فعمل فيه فربح]
ومن كتاب القضاء
4 - العاشر
قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الشريكين المتفاوضين إذا ترك أحدهما عمل الشركة وأخذ مالا فعمل فيه فربح أو آجر نفسه ألصاحبه من ذلك شيء؟ قال لي: لا أرى لصاحبه من ذلك شيء أو أراه كله له، وإنما هو رجل تعدى فترك العمل والشركة، فليس ذلك بالذي يوجب لصاحبه فيما ربح من ذلك شيئا، قلت: أفترى لهذا المشتري المتعدي فيما ربح صاحبه الذي كان يعمل معه على الشركة شيئا؟ قال: نعم أراه على ربحه في الشركة، قال أصبغ: لأن النقصان يلزمه إذا تركه يعمل بالشركة فكذلك الربح له، قال أصبغ: قلت لابن القاسم أترى لهذا العامل في الشركة على الذي لم يعمل أجرة إذا قاسمه الربح قدر ما تركه من العمل معه الذي كان يصيبه؟ قال: لا، قال أصبغ: لا يعجبني هذا وأرى ذلك له إذا حلف العامل أنه لم يعمل على التطوع له وعنه، وعلى مقاسمته إلا على العمل لنفسه خالصا إذا اشتغل عنه وعلى أن يطالبه بعمله وكفايته فأما لوجهين ادعاه وحلف عليه رأيت له به الأجرة على قدر الكفاية لنصف ما باشر به من حينه ذلك وعلى وجهه خاصة، وليس على طول الشهور وعددها ولا السنين ولا الأيام إذا كان العمل والتجارة منقطعا في حال ذلك إن شاء الله، وسئل عنها أشهب فقال: ما أرى ربح القراض ولا الأجرة التي آجر بها نفسه إلا بينهما أرأيت لو(12/46)
تسلف يعني مالا فعمل به فربح لكان ربحه بينهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في أحد الشريكين المتفاوضين يأخذ مالا قراضا فيربح فيه أيؤاجر نفسه إن ذلك له ولا شيء لشريكه فيه أظهر من قولي أشهب أن ذلك بينهما، وقد بين ابن القاسم في الرواية وجه قوله بقوله: وإنما هو رجل تعدى فترك العمل إلى آخر قوله وأما أشهب فوجه قوله أن كل واحد من الشريكين كأنه مستأجر لنصف عمل شريكه بنصف عمله هو، فكما يكون للذي عمل بالقراض الذي أخذه أو بالأجرة التي آجر بها نفسه نصف عمل شريكه في مال الشركة فيستحق، بذلك نصف الربح فكذلك يكون للشريك نصف عمله في القراض أو في الأجرة فيستحق بذلك نصف ربح القراض إن كان فيه ربح أو نصف الأجرة التي آجر بها نفسه، ولا اختلاف في أن ربح مال الشركة الذي عمل به أحد الشريكين ما دام صاحبه يعمل في القراض الذي أخذه أو في الأجرة التي آجر بها نفسه بينهما نصفين واختلف إذا لم يكن للشريك الذي عمل بمال الشركة في ربح القراض ولا في الأجرة شيء على القول بأن ذلك للذي أخذ المال القراض وللذي آجر نفسه هل تكون له أجرة على الذي لم يعمل معه لانفراده بالعمل أم لا؟ فلم ير ابن القاسم في هذه الرواية ذلك له، ورأى ذلك أصبغ له بعد يمينه أنه لم يعمل على التطوع عن شريكه، وهذان القولان جاريان على أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم وهو السكوت هل يكون كالإذن أم لا؟ فقول أصبغ في هذه المسألة مثل قول عيسى بن دينار من رأيه في آخر رسم القطعان من سماع عيسى من هذا الكتاب في الرجل يزرع في أرض بينه وبين شريكه أن عليه كراء نصف الأرض لشريكه بعد يمينه إن كان حاضرا خلاف روايته عن ابن القاسم في أول سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق في الرجل يبني في أرض بينه وبين شريكه وهو حاضر أنه لا كراء عليه لشريكه في نصيبه، وذلك منصوص لابن القاسم في كتاب ابن المواز في مسألتنا بعينها، قال في شريكين خرجا إلى الريف فابتاعا طعاما فقدم أحدهما الفسطاط فأخذ قراضا فربح فيه، قال: ربحه(12/47)
له، وعليه للذي بالريف أجرة مثله فيما ولي بالريف في حصته يريد بعد يمينه كما قال أصبغ، وكما قال عيسى بن دينار في الكراء.
وقول ابن القاسم: إن ربح مال القراض الذي عمل به لا يكون بين الشريكين إذا قال: إنما عملت به لنفسي وكذلك الأجرة.
وأما لو قال: إنما عملت بذلك على أن يكون الربح أو الأجرة بيني وبين شريكي عوضا عن عمل شريكي في مال الشركة لوجب أن يكون الشريك مخيرا بين أن يأخذ ذلك عوضا عن عمله وبين أن يسلمه له ويتبعه بأجرة عمله في حصته.
ولو قال: إنما عملت بذلك على أن يكون الربح والأجرة بيني وبينه على سبيل التفضل عليه لكان ذلك منه عدة تجري على الاختلاف في وجوب الحكم بالعدة إذا كانت على غير سبب، فقيل: إنها لا تلزم وهو المشهور، وقيل: إنها تلزم، وهو ظاهر قول غير ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة لأنه جعل ذلك من وجه قول الرجل للرجل لك ما أربح في هذه السلعة، فله أن يقوم عليه بذلك ما لم يفت أو يذهب أو يفلس.
وقول أشهب في هذه الرواية: أرأيت لو تسلف مالا فعمل به فربح لكان ربحه بينهما ليس بحجة على ابن القاسم، إذ لا يسلم ذلك ولا يقول به، والذي يأتي على مذهبه في المدونة أن الربح له، وضمان السلف عليه، إلا أن يعلم بذلك الشريك ويعمل معه فيكون الربح بينهما، ويكون نصف المال سلفا للشريك الذي استسلفه على شريكه، ولو عمل وحده بالمال الذي استسلفه على أن يكون الربح بينهما ويكون نصف المال له سلفا عليه لما لزمه ذلك إلا أن يشاء إذ لا يلزم أحدا قبول معروف أحد، ولو عمل بالمال الذي استسلفه وحده على أن يكون الربح بينهما على سبيل التفضل لجرى ذلك على الاختلاف في لزوم العدة على غير سبب وبالله تعالى التوفيق.(12/48)
[: وقف على رجل يشتري سلعة فوقف لا يتكلم حتى لما وجب البيع قال أنا شريكك]
من سماع أبي زيد بن أبي
الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن رجل وقف على رجل يشتري سلعة فوقف لا يتكلم حتى لما وجب البيع قال الرجل: أنا شريكك، فقال المشتري: لا أشركك وإنما قال له ذلك بعد وجوب البيع قال: يشركه إن شاء، وإن أبى ألقي في الحبس حتى يفعل إذا كان إنما اشتراه ليبيعه إلا أن يكون اشتراه لمنزله أو ليخرج به إلى بلد آخر فلا يكون له في هذا شركة.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول عليها مستوفى في أول نوازل أصبغ من جامع البيوع فلا معنى لإعادته والقول فيه باختصار أن الشركة على مذهب مالك لازمة لأهل الأسواق فيما اشتروا للتجارة على غير المزايدة لما كان من الطعام في سوق الطعام لأهل التجارة في ذلك النوع باتفاق، ولما كان من غير الطعام وإن كان في سوق تلك السلعة أو في غير السوق وإن كان من الطعام أو لغير أهل التجارة في ذلك النوع باختلاف، وقولي في غير السوق أعني في بعض الأزقة، وأما ما ابتاعه الرجل في داره أو حانوته فلا شرك لأحد معه ممن حضر الشراء باتفاق.
فيتحصل في الطعام أربعة أقوال أيضا أحدها أن الشركة تجب لمن حضر البيع وإن لم يكن في السوق ولا كان من أهل التجارة بذلك النوع والثاني أنها لا تجب له إلا أن يكون ذلك بالسوق وأن يكون من التجارة بذلك النوع، والرابع الشركة تجب له وإن لم يكن من أهل التجارة بذلك النوع إذا كان ذلك في السوق، ومجموع المسألة خمسة أقوال، الأربعة التي ذكرناها والخامس الفرق بين الطعام وبين ما سواه من السلع ورأى مالك الحكم بالشركة في ذلك بين أهل الأسواق لنفي الضرر عنهم مخافة إفساد بعضهم على بعض بالزيادة(12/49)
عليه، ومما يشبه ذلك من منفعة العامة «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أن يبيع حاضر لبادي» ، فمنه أخذه مالك والله أعلم، وهذا كله فيما اشترى للتجارة وأما ما اشترى لغير التجارة فالحكم بالشركة فيه باتفاق وبالله التوفيق.
[مسألة: وقف لشراء سلعة فقال له أشركني فقال له نعم ثم قال أشركتك بالربع]
مسألة وسئل عن رجل وقف لشراء سلعة فقال له رجل: أشركني، فقال له: نعم ثم قال: إنما أشركتك بالربع أو بالثلث، قال: القول قوله مع يمينه إلا أن يكون أشركه ببينة، قيل له: فإن قال له: أشركتك ولم أرد ثلثا ولا نصفا ولا أقل ولا أكثر إلا أني قد أشركتك، فقال: يكون له النصف.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم سن من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لرجل اذهب فاشتر من فلان بقرة عنده وأشركني فيها وانقد عني]
مسألة وقال في رجل قال لرجل: اذهب فاشتر من فلان بقرة عنده وأشركني فيها وانقد عني، قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إنه لا بأس بذلك لأنه أشركه ونقد عنه ففعل معه معروفين وقد مضى في رسم استأذن من سماع عيسى ما فيه بيان ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: عين بين نفر فكان لأحدهم السقي بالليل وللآخرالسقي بالنهار]
مسألة وعن عين بين نفر فكان لأحدهم السقي بالليل وللآخر السقي بالنهار فأجرى الماء في زرعه بالليل وترك زرع الذي له السقي بالليل قال: عليه قيمة ذلك الماء، ولا سقي له بالنهار؛ لأن سقي الليل(12/50)
ليس يشبه سقي النهار وسقي الليل أفضل إلا أن يكون له سقي بالليل فيعطيه سقية بالليل مكانها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى لا اختلاف فيها وهي ترد قول أصبغ في رسم البيوع العاشر من سماعه من كتاب السلم والآجال في سلف الماء أنه لا ينظر فيه إلى الأزمان ولا يعتبر بها فيه، فترد تلك إلى هذه ولا ترد هذه إلى تلك وقد مضى الكلام على قول أصبغ في موضعه مستوفى فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق. تم كتاب الشركة بحمد الله تعالى وحسن عونه والصلاة الكاملة على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما اللهم عونك.(12/51)
[: كتاب الشفعة]
[مسألة: باع شقصا له في دار مشتركة فسلم بعض الشركاء وأبى بعضهم]
كتاب الشفعة
من سماع ابن القاسم من مالك رواية
سحنون من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا قال: من باع شقصا له في دار مشتركة فسلم بعض الشركاء وأبى بعضهم إلا أن يأخذ بشفعته إن ذلك له يأخذ جميع ما باع شريكه نصيبه ونصيب من سلم من شركائه.
قال محمد بن رشد: أما إذا سلم أحد الشفعاء بعد وجوبها له ولم يقل لك ولا له على وجه تركها وكراهة الأخذ بها فلا اختلاف ولا إشكال في أن لمن بقي من الشفعاء أن يأخذ حظه وحظ من سلم من شركائه.
وأما إن قال للمشتري: قد سلمت لك شفعتي أو قال لمن سأله ذلك: قد سلمت لك شفعتي فقد وقع لأصبغ في الواضحة أن تسليمه الشفعة له إن كان على وجه الهبة والعطية للمشتري فليس له أن يأخذ بالشفعة إلا حظه وحظ من يسلم للمشتري وللمشتري سهام المسلمين، فإذا صح على قول أصبغ هذا(12/53)
للمشتري بالهبة حظ المسلم ولم يكن لمن سواه من الشفعاء أخذه فكذلك البيع غلى هذا القياس ينزل المشتري منزلة الشفيع للبائع الشفعة فلا يكون لمن سواه من الشفعاء شفعة إلا أن يكونوا بمنزلته فيكون لهم منها بقدر حظوظهم وعلى هذا تأول ابن لبابة رواية ابن القاسم عن مالك في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل شفعة قد وجبت له ولا يهبها فقال: معناه من غير المبتاع واستدل على تأويله برواية جلبها من كتاب الدعوى والصلح، قال: يجوز أن يبيع شفعته من المبتاع بعد وجوب صفقته قبل أن يستشفع ولا يجوز له بيع ذلك من غيره ومثل هذا حكي أيضا عن مالك من رواية أشهب عنه أنه قال: ولا يجوز له أن يبيعها من غير المبتاع قبل أن يأخذ شفعته، واختار هو من رأيه أن لا يبيع الشفعة ولا يهبها لا من المبتاع ولا من غيره وهو الصواب والروايات التي جلبها ليست بجلية لاحتمال أن يتأول على أنه إنما أراد بها أخذ العوض من المبتاع على تسليم الشفعة له بما يجوز له بعد وجوب الصفقة وسمي ذلك بيعا لما فيه من شبهة البيع، وقول أصبغ بعيد شاذ في النظر وحكى ابن لبابة أيضا أنه رأى ابن الحسار يعقد لنفسه وثيقة شراء نصيب رجل من مال وما وجب له من الاستشفاع في نصيب كان بيع من ذلك المال قبل ذلك، قال: فلما تمت الوثيقة قال لي: هذه من غرائب النتيجات التي لا يعرفها والله غيرنا، يريدني ونفسه.
فالذي يتحصل في هذا أنه لا يجوز للشفيع أن يهب ما وجب له من الاستشفاع لغير المبتاع ولا بيعه منه.
واختلف هل له أن يهب ذلك للمبتاع أو يبيعه منه أم لا على قولين، أحدهما أن ذلك جائز ويختص المشتري بما اشترى فلا يكون لغير البائع أو الواهب من الشفعاء عليه شفعة إلا أن يكون بمنزلته فيكون لهم منها بقدر حقوقهم والثاني أن ذلك لا يجوز وينفسخ البيع فيكون الشفيع على شفعته وينفسخ أيضا حكم الهبة فيمضي على حكم التسليم.
وأما بيع الشفيع نصيبه الذي يستشفع قبل أخذه بالشفعة فلا يجوز(12/54)
باتفاق وكذلك هبته لا تلزم باتفاق وأما تسليم الشفعة بمال بعد وجوبها له فجائز باتفاق وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: باع نصف أرضه بأرض آخر]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان قال: وسئل مالك عن رجل باع نصف أرضه بأرض آخر أو زيادة دنانير أترى له شفعة؟ قال: نعم، ويكون عليه قيمة أرضه التي أخذها، قال: وقال ابن القاسم وقد كان يبلغنا من بعض إخواننا أنه كان من قول مالك وغيره من المدنيين أنه إذا علم أنه أراد المناقلة والسكنى ولم يرد وجه البيع ولم يكن يرضى أن يخرج من داره ويقعد لا دار له، وكان بعض المدنيين يذكر ذلك ويذكر عن ربيعة أنه لا شفعة في ذلك فكلمنا مالكا وحاججناه بوجه السكنى وإنما أراد المناقلة ولم يكن ذلك منه على وجه البيع فلم يره شيئا وأنثره وكأنه قاله ورجع عنه، واتبع الحديث ورآه بيعا من البيوع، وقال: الشفعة فيه، قال: وكذلك لو أعطاها امرأة في صداقها وإنما تزوجها لهواه فيها فأرى الشفعة فيها ولم ير الذي ذكر عنه شيئا، قال ابن القاسم: وهو رأي وهو الشأن، قال مطرف وابن الماجشون: الذي قال مالك لا شفعة فيه إنما ذلك في المناقلة بين الشركاء في المسكنين أو الحائطين أو في الأرضين يناقل أحدهم بعض أشراكه يعطيه حظه في هذه الدار وهذه الأرض وهذا الحائط يحط صاحبه في الدار الأخرى أو الأرض الأخرى أو الأريط الآخر فيصير حظه من ذينك الشيئين المفترقين في شيء واحد منهما، فهذه المناقلة التي قال مالك لا شفعة فيها للشركاء لأنه لم يرد وجه البيع إنما أراد التوسع في حظه وجمعه لكي ينتفع به، وأما إذا ناقل بنصيبه من هذه(12/55)
المشتركة بدار أخرى أو أرض أخرى لا نصيب له فيها ولا حظ لكانت في ذلك الشفعة ولجرى مجرى البيع وليس مجرى المناقلة، وسواء عامل بذلك بعض شركائه أو أجنبيا ممن لا شرك له معه.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة سئل مالك عن رجل باع نصف أرضه بأرض أخرى معناه نصف نصيبه بأرض أخرى وهذه مسألة فيها اختلاف ولها تفصيل، وتحصيل القول أنه لم يختلف قول مالك في أن في الشقص المبيع الشفعة إذا بيع بعين أو بعرض، فأما إن باع الرجل شقصه من شريكه أو من أجنبي بأصل أو شقص من أصل له فيه شرك أو لا شرك له فيه فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن في ذلك كله الشفعة، ووقع هنا ما ظاهره أن قول مالك اختلف في ذلك كله، وأنه كان يقول: إذا علم أنه أراد المناقلة والسكنى ولم يرد وجه البيع إنه لا شفعة في ذلك، وأن بعض المدنيين كان يذكر ذلك وأنه قول ربيعة، فعلى هذا تكون المناقلة اختلف في وجوب الشفعة فيها في هذه الأربعة وجوه، وحكى العتبي عن مطرف وابن الماجشون أنهما قالا: إن المناقلة التي قال مالك: لا شفعة فيها إنما هي أن يبيع الرجل شقصه من شريكه بشقص من أصل له فيه شرك، فيكون كل واحد منهما إنما أراد التوسع في حظه مما صار إليه من حظ شريكه عوضا عما عاوضه به، فعلى هذا المناقلة إنما تكون في هذا الوجه الواحد من الأربعة الأوجه المذكورة وروى أبو زيد عن مطرف في الدار تكون بين الرجلين فيبيع أحدهما شقصه، من شريكه بشقص من أصل له مع شريك آخر أنه لا شفعة لهذا الشريك الآخر في هذا الشقص؛ لأنه لم يقصد به البيع وإنما أراد التوسع في حظه، وكذلك على قول مطرف هذا لو كانت دار بين ثلاثة نفر فباع أحدهم حظه من أحد شريكيه بأصل فلا شفعة للشريك الثالث الذي لم يرد البيع وإنما أراد التوسع في حظه، فعلى قول مطرف هذا تكون المناقلة المختلف في إيجاب الشفعة فيها في ثلاثة وجوه، وأصله أنك متى وجدت أحد المتعاوضين في الأصول قد(12/56)
أخذ من صاحبه شقصا فيما له فيه شقص فهي المناقلة التي لا شفعة فيها فعلى رواية مطرف وابن الماجشون أن المعاملة في الأصول لا تكون مناقلة وتسقط فيها الشفعة حتى يكون كل واحد منهما قد أخذ من صاحبه شقصا فيما له فيه شقص. وعلى ظاهر ما وقع في هذه المسألة من رواية ابن القاسم عن مالك أن المعاملة في الأصول كيف ما وقعت فهي مناقلة لا تجب فيها الشفعة على أحد القولين، ففي تعيين المناقلة المختلف في إيجاب الشفعة فيها ثلاثة أقوال على ما بيناه، وفي المدنية لابن كنانة أنه سئل عن ورثة بينهم أرض هم فيها أشراك فقال رجل من الورثة للورثة: أعطوني حقي في مكان واحد واجمعوا لي أرضي في ناحية واحدة فرضوا بذلك وفعلوا ثم إن الشركاء في الأرض أرادوا الأخذ بشفعتهم وقالوا: قد بعت قال: يحلف الذي جمعت له أرضه في مكان واحد بالله ما أردت بيعا وما أردت إلا أن يجمع لي أرضي في مكان واحد فإذا حلف احتبس أرضه ولم يكن لأولئك فيها شفعة، قال عيسى: قال ابن القاسم: لا شفعة فيه وقول ابن القاسم هو الصحيح وأما قول ابن كنانة فهو بعيد لأن ذلك ليس ببيع وإنما هي قسمة وليس لأحد المتقاسمين على صاحبه شفعة وبالله التوفيق.
[مسألة: أخوين ورثا دارين فباع أحدهما أحد الدارين]
مسألة وسئل مالك عن أخوين ورثا دارين فباع أحدهما أحد الدارين فعلم أخوه الذي لم يبع فقال: أنا آخذ هذه الدار التي بعت بشفعتي وأقاسمك الأخرى، فقال له الذي باع: ليس لك ذلك ولكن أقاسمك الدارين فإن تقع الدار التي بعت لي نفذ بيعي وإلا تقع لي بطل بيعي وتكون لك قال مالك: ليس ذلك له وأرى أن يأخذها أخوه بشفعته فيها ويقاسمه الأخرى وليس له أن يأبى ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في آخر كتاب الشفعة من المدونة في الدار تكون بين الرجلين فيبيع أحدهما طائفة منها بعينها ولا اختلاف فيها(12/57)
عندي من أجل حق المشتري، بخلاف مسألة أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق في أرض بين الرجلين يبني أحدهما فيها بنيانا وشريكة غائب أنهما يقتسمان الأرض فإن كان بنيانه فيما صار له من الأرض كان له وكان عليه من الكراء بقدر ما انتفع من نصيب صاحبه، وإن كان البنيان والغرس في نصيب غيره خير الذي صار له في نصيبه بين أن يعطيه قيمته منقوضا وبين أن يسلم إليه نقضه ينقله ويكون له أيضا من الكراء على الباقي بقدر ما انتفع به من مصابة صاحبه الغائب لأن ذلك إنما يكون إذا اختلفا في القسمة فدعا إليها أحدهما ودعا أحدهما إلى أن يحكم بينهما في الغرس والبناء قبل القسمة حسبما ذكرناه هناك فيدخل في تلك الخلاف من هذه ولا يدخل من هذه الخلاف في تلك من أجل حق المبتاع لأنه قد يقول: وجب لي حظ البائع من الدار فليس لكما أن تقتسما قبل مخافة أن تصير الدار لغير البائع فيبطل جميع شرائي فالواجب أن يأخذ الشريك نصف الدار بالاستحقاق ونصفها بالشفعة إلا أن يتفقا على القسمة قبل ويرضى بذلك المبتاع فيجوز وبالله التوفيق.
[: باع شركا له في دار فأقام شريكة تسعة أشهر ثم طلب أن يأخذ بالشفعة]
ومن كتاب البز
وسئل مالك عن رجل باع شركا له في دار فأقام شريكة تسعة أشهر ثم طلب أن يأخذ بالشفعة أترى ذلك به؟ قال: نعم ما تسعة أشهر عندي بكثير، وإني أرى أن يحلف بالله ما كانت إقامته تركا لشفعته ويأخذ شفعته في هذا إلا أن يأتي من ذلك ما يطول زمانه.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة. في التسعة الأشهر والسنة لأنه لم ير السنة فيها كثيرا ولو قام بعد الشهر أو الشهرين لم يكن عليه يمين على مما قال في رسم الشجرة بعد هذا إلا أن يكون قد كتب شهادته في عقد الشراء فيلزمه اليمين إن قام بقرب ذلك بعد العشرة الأيام ونحوها على ما قاله بعد هذا في رسم باع، ولو كتب شهادته في عقد الشراء ولم يقم إلا بعد(12/58)
شهرين لم يكن له شفعة.
فتحصيل هذه المسألة أنه إن لم يكتب شهادته وقام بالقرب مثل الشهر والشهرين كانت له الشفعة دون يمين، وإن لم يقم إلا بعد السبعة أو التسعة أو السنة على ما في المدونة كانت له الشفعة بعد يمينه أنه لم يترك القيام راضيا بإسقاط حقه، وإن طال الأمر أكثر من السنة لم تكن له شفعة، وأما إن كتب شهادته وقام بالقرب أو العشرة الأيام ونحوها كانت له الشفعة بعد يمينه، وإن لم يقم إلا بعد الشهرين لم يكن له شفعة وإذا قال: لم أعلم بالشفعة فالقول قوله مع يمينه، وإن كان حاضرا بالبلد وإن كان بعد أربع سنين، قاله ابن عبد الحكم.
وقد اختلف في الحد الذي تنقطع فيه شفعة الحاضر بمجرد السكوت بعد العلم بالبيع على أربعة أقوال أحدها أن حده السنة وهو قول أشهب وروايته عن مالك والثاني قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أن السنة قليل ولا ينقطع إلا فيما فرق السنة والثالث قول مطرف وابن الماجشون أنه على شفعته ما لم يوقفه الإمام على الأخذ أو الترك أو يتركها طوعا منه ويشهد بذلك على نفسه أو يمضي من طول الزمان ما يدل على أنه كان تركا له والخمس سنين قليل إلا أن يحدث المشتري فيها بنيانا أو عرشا فتنقطع شفعته في أقل من ذلك، فكأنهما رأيا الحد في ذلك ما تكون فيه الحيازة، والرابع أنه على شفعته وإن طال ما لم يصرح بتركها روى ذلك عن مالك وهو مذهب الشافعي وأبو حنيفة يقول بضد ذلك أن الشفعة إنما هي الوقوف فإن لم يقم بشفعته ساعة علم بالبيع فلا شفعة له، وهو قول خامس في المسألة وبالله التوفيق.
[: أربعة إخوة باع أحدهم نصيبه من دار لهم فسلم إخوته للمشتري ما اشترى]
ومن كتاب أوله
تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك عن أربعة إخوة باع أحدهم نصيبه من دار لهم(12/59)
فسلم إخوته للمشتري ما اشترى أتراه شفيعا معهم إذا باع أحد منهم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال وهو مما لا أعلم فيه اختلافا؛ لأن المبتاع يحل محل بائعه، واختلف لو كان المبتاعون لسهم الواحد جماعة فباع أحدهم حظه فقال ابن القاسم: لا يكون أشراكه أحق بالشفعة من أشراك البائع منهم، وقال أشهب: أشراكه أحق بالشفعة من أشراك البائع لأنهم كأهل سهم واحد وبالله تعالى التوفيق.
[: الشفعة في الصدقة]
ومن كتاب أوله كتب
عليه ذكر حق وسئل مالك عن حائط بين رجلين تصدق أحدهما بنصيبه على قوم وعلى عقبهم ما عاشوا، ثم إن الشريك باع نصيبه فأراد أهل الصدقة أن يأخذوا حصة شريكهم بالشفعة، قال مالك: ليس لهم في مثل هذا شفعة، إنما هي صدقة فما أرى الشفعة تكون في الصدقة، قال: وسمعته يقول غير مرة: قال ابن القاسم وبلغني عن مالك أنه قال: إذا أراد صاحب المتصدق أن يأخذ بالشفعة لم يكن ذلك له إلا أن يلحقه بالحبس فيكون ذلك له.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن أهل الصدقة أرادوا أن يأخذوا بالشفعة لأنفسهم ملكا فلذلك لم ير لهم شفعة ولو أرادوا أن يأخذوا بالشفعة ليلحقوها بالحبس لكان ذلك لهم، وكذلك لو أراد المحبس أن يأخذ بالشفعة لنفسه لم يكن ذلك له ولو أراد أن يأخذ بها يلحقها بالحبس كان ذلك له، وعلى قياس هذا لو أراد رجل أجنبي أن يأخذ بالشفعة للحبس لكان ذلك له، وهذا على القول بأن من تصدق على رجل عقبه بعقار ما عاشوا فإنها لا ترجع للمحبس بحال أبدا وتكون ملكا لآخر العقب على ما روى أشهب عن(12/60)
مالك في كتاب الحبس أو يرجع بمرجع الأحباس على ما حكاه ابن عبدوس وهو قول مالك وبعض رجاله في المدونة وأما على القول بأنه يرجع إلى المحبس ملكا بعد انقراض المتصدق عليه وعقبه فللمحبس أن يأخذ بالشفعة لنفسه على ما حكى ابن حبيب عن مطرف من أن الحبس إذا كان له مرجع إلى المحبس فالشفعة له مال من ماله وبالله التوفيق.
[: باع شقصا له في أرض وشفيعه حاضر وشهد فيها]
ومن كتاب باع غلاما وسئل مالك عن رجل باع شقصا له في أرض وشفيعه حاضر وشهد فيها، ثم إنه بدا له بعد عشرة أيام ونحوها أن يأخذها بالشفعة قال أرى ذلك له وأشد ما عليه أن يحلف بالله ما كان ذلك منه تركا لشفعته ثم يأخذ ماله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم البز قبل هذا فلا معنى لإعادة شيء من ذلك وبالله التوفيق.
[: لهم ثمرة حائط صدقة أراد أحدهم أن يبيع أترى لهم شفعة]
ومن كتاب صلى نهارا
ثلاث ركعات وسئل عن قوم لهم ثمرة حائط صدقة فأراد رجل ممن له أصل في ذلك الحائط أن يبيع أترى لهم شفعة؟ قال: لا شفعة لهم، وإنما الشفعة لمن كان له أصل مال، قال مالك: ولو كان المحبس حيا وأراد أن يأخذ بالشفعة ليلحق ذلك بحبسه كان ذلك له، وإن لم يكن يريد أن يلحقه بحبسه فلا شفعة له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في(12/61)
رسم كتب عليه ذكر حق فلا معنى لإعادته وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: الشريكين في الدار يبيع أحدهما نصيبه ثم يريد الآخر أخذ الشفعة]
ومن كتاب الشجرة وسئل عن الشريكين في الدار يبيع أحدهما نصيبه فيقيم شريكه شهرا أو شهرين لا يطلب ثم يريد أخذها، قال: ذلك له ما لم يتطاول ذلك، قلت له: أفترى الشهرين قريبا؟ قال: نعم قلت له: أفيحلف أن إقامته ما كانت تركا لذلك، قال: لا أرى عليه في مثل هذا يمينا إلا أن يأتي من ذلك ما يستنكر من تباعد ذلك فأرى أن يحلف.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول فيها في رسم البز قبل هذا فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[: اختلفا في الثمن وحقق كل واحد منهم الدعوى فيه على صاحبه]
من سماع أشهب
وابن نافع من مالك رواية سحنون
قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عمن ابتاع شركا له في مال قيمته عند الناس عشرون ومائة درهم ثم زعم المشتري أنه ابتاعه بمائتي درهم وزعم البائع ذلك أيضا فأراد الذي له الشفعة أن يحلف البائع أو المبتاع، وزعم أنه إنما أراد أن يقطعا عليه شفعته ولم يأت على ذلك ببينة، قال ذلك في الأثمان مختلف لحاجتهم أما إذا كان المشتري السلطان أو الشريك في المال والجديد فيه أو الجار فإن هؤلاء ربما بالغوا في إعطاء الثمن لحاجتهم إلى ذلك وخفة مؤنته عليهم لقدرة السلطان وخفة الشأن عليه، ولرغبة الجديد فيه والجار في ذلك ولكراهية أن يشاركه أحد(12/62)
فيه أو يجاوره، فإذا كان هذا فلا أرى على أحد يمينا؛ لأن بعض هؤلاء قد يشتري المال لهذا الأمر بأضعاف ثمنه، وأما إذا كان على غير هذا من الأمر الذي وصفت لك واشترى ذلك بما لا يعرف من الثمن فإني أرى على المبتاع اليمين بالله الذي لا إله إلا هو لقد ابتاعه بهذا الثمن ولا أرى على البائع يمينا لأنه لو أبى أن يحلف لم يكن عليه في ذلك شيء، وإنما اليمين على المبتاع إذا لم يكن على ما وصفت لك واشترى من الثمن ما يستنكر ولا يعرف.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة كان الشيوخ يحملونها على أنها خلاف لما في المدونة؛ لأنه قال فيها: القول قول المشتري ولا يمين عليه إلا أن يأتي بما لا يشبه، وقال في المدونة: القول قول المشتري يريد مع يمينه إلا أن يأتي بما لا يشبه فيصدق ويكون القول قول الشفيع، وليس ذلك بصحيح؛ لأن معنى رواية أشهب هذه أن الشفيع لم يحقق الدعوى على المشتري ولا ادعي معرفة الثمن، وإنما أراد أن يحلفه بالتهمة فلم يوجبها عليه إلا في الموضع الذي تظهر فيه التهمة وهو أن يأتي بما لا يشبه من الثمن، وذلك بين من سياقة المسألة، ومعنى ما في المدونة أنهما اختلفا في الثمن وحقق كل واحد منهم الدعوى فيه على صاحبه، فوجب أن يكون القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه فإن لم يأت بما يشبه كان القول قول الشفيع إن أتى بما يشبه فإن لم يأت بما يشبه حلفا جميعا على دعواهما، وكانت له الشفعة بالقيمة، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان القول قول الحالف وإن أتى بما لا يشبه؛ لأن صاحبه قد أمكنه بنكوله من دعواه، ولا اختلاف عندي في هذه المسألة إذا اختلفا في الثمن وحقق كل واحد منهما الدعوى على صاحبه، وأما إذا لم يحقق الشفيع الدعوى على المشتري وأتى المشتري بما يشبه فقيل: إنه لا يمين عليه، وهو قول مالك في هذه الرواية، وقيل: القول قوله مع يمينه إلا أن تكون على ذلك بينة بتعاور البائع مع المشتري على ما ادعاه، وأما إن أتى بما لا(12/63)
يشبه فقيل: القول قوله مع يمينه والشفيع بالخيار إن شاء أخذ بذلك وإن شاء ترك، وهو قول مالك في هذه الرواية، وقول مطرف في الواضحة، وقيل: إن الشفيع بالخيار إن شاء أن يأخذ بالقيمة أخذ لأن المشتري يتهم على تغيب الثمن لقطع الشفعة إلا أن تكون له بينة على مشاهدة السفقة والنقد، فيكون الشفيع مخيرا بين أن يأخذ بذلك أو يترك، وهو قول سحنون، ولا تأثير للبينة في هذا على تعاور البائع مع المشتري على الثمن الذي ادعاه، قاله ابن حبيب في الواضحة، ولا يمتنع عندي أن يكون له شاهد يحلف معه إذا كان عدلا ولم يتهم في شهادته على ما قاله ابن القاسم في أول سماع أبي زيد في مسألة اللؤلؤ؛ إذ لا تهمة عليه في شهادته له، وإنما كان يتهم لو شهد للشفيع على المشتري؛ لأنه يقلل العهدة على نفسه فيما يستحق من الشقص إن استحق منه شيء، وإذا اختلفا المتبايعان في ثمن الشقص فتحالفا وتفاسخا لم يكن للشفيع شفعة، ويشبه أن يكون له الشفعة إذا رضي أن تكون عهدته على البائع؛ لأنه يقر أن الشقص للمشتري، واختلف إن نكل المشتري وحلف البائع فقيل: يأخذ الشفيع إن شاء بالثمن الذي حلف عليه البائع، وقيل: بل يأخذ بالثمن الذي أقر المشتري أنه اشتراه به، ولكلا القولين وجه، والأظهر ألا يكون للشفيع أن يأخذ إلا بالثمن الذي حلف عليه البائع وأخذه، ولا إشكال إذا حلف المشتري ونكل البائع في أنه يأخذ بما حلف عليه المشتري وبالله التوفيق.
[مسألة: الشفعة في الأرض وفي كل ما أنبتت الأرض]
مسألة وسئل مالك هل في الثمرة شفعة؟ فقيل: أفي رؤوس النخل هي؟ فقيل: نعم، قال فيه الشفعة، وإنما تكون الشفعة في الأرض وفي كل ما أنبتت الأرض، وسئل هل في الزرع شفعة؟ قال: لا إن كان قبل أن يحل بيعه، فهذا لا يصلح، وإن كان بعد أن يبس واستحصد وحل بيعه فلا يصلح أن يقتسماه إلا بكيل ولا تكون(12/64)
الشفعة في مثل هذا وليس هذا مثل الأول.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في أول هذه المسألة، وإنما تكون الشفعة في الأرض وفي كل ما أنبتت الأرض أن في الزرع الشفعة خلاف ما نص عليه بعد ذلك، وفي المدونة من أنه لا شفعة في الزرع وفي تعليله سقوط الشفعة في الزرع هاهنا وفي المدونة بأن بيعه لا يجوز حتى ييبس فإذا يبس لم يصلح أن يقتسم إلا بالكيل ما يدل على أن الشفعة تجب فيه إذا بيع بعد أن افترك، وقبل أن ييبس على مذهب من يجير ذلك من أهل العلم أو يرى العقد فيه فوتا إذا وقع من أصحابنا أو إذا بيع مع الأصل بعد أن نبت؛ لأنه قد وقع عليه حصته من الثمن، وقد قيل: إن الشفعة فيه إذا بيع مع الأصل قبل أن ينبت لأنه قد وقع عليه حصة من الثمن، وقد قيل: إن الشفعة فيه إذا بيع مع الأصل قبل أن ينبت لأنه قد وقع عليه حصته من الثمن على كل حال لما فيه من البذر الذي قد أخرجه البائع من عنده بخلاف الثمرة إذا بيعت مع الأصل قبل أن تؤبر لأنها إذا لم تؤبر فلم يقع عليها حصة من الثمن فإنما يأخذها الشفيع بالشفعة على مذهب ابن القاسم ما لم تجد من جهة الاستحقاق لا من جهة الشفعة، فاختلاف قول مالك في إيجاب الشفعة في الزرع على أصل قد اختلف فيه قوله اختلافا واحدا وهو ما كان متشبثا بالأصول ومتصلا بها كالثمرة والكراء ورقيق الحائط إذا بيعوا مع الحائط والرحا إذا بيعت مع الأصل والماء، والنقض إذا بيعا دون الأصل فمرة قال مالك: في ذلك كله الشفعة لتعلقه بأصل ما فيه الشفعة، ومرة قال: إن ذلك كالعروض المنفصلة من الأرض فلا شفعة فيها، وفي قوله أيضا: إن الشفعة في كل ما أنبتت الأرض دليل ظاهر من جهة العموم أن الشفعة واجبة في القول، وسيأتي القول على ذلك في آخر سماع أبي زيد إن شاء الله وبه التوفيق.
[: باع شقصا في حائط غائب]
ومن كتاب أوله مسائل بيوع وسئل عمن باع شقصا في حائط غائب فقال الشفيع: حتى(12/65)
أذهب فأنظر إلى شفعته وهي ليست معه في القرية، قال: ليس ذلك له فراجعه السائل، فقال: إن كان الحائط على ساعة من نهار فذلك له وإلا فليس ذلك له يخرج فيقيم أيضا عشرة أيام ثم يجيء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب ابن المواز وظاهر ما في المدونة من أن الشفيع إنما يؤخر في النقد لا في الارتياء في الأخذ، وهو مثل ما في هذا السماع من كتاب الإيلاء في المولى يوقف أنه ليس له في ذلك أجل يترك إليه لينظر، وإنما هو في مجلسه ذلك، ومثل ما في كتاب النكاح الثالث من المدونة في الزوجين المجوسيين يسلم الزوج فيعرض عليها الإسلام أنه يفرق بينها إن لم تسلم ولا تؤخر، بخلاف إذا غفل عن عرض الإسلام عليها ومثله المملكة يوقفها السلطان أنها لا تؤخر لتستشير وتنظر وهو عذر للشفيع يغيب عنه الحائط وإن كان لم يره أو كان قد رآه وطال عهده به وصف كما توصف الأرض والدار الغائبة، وقد قال ابن عبد الحكم في المختصر: يؤخر الإمام اليومين والثلاثة يستشير وينظر، قاله والله أعلم قياسا على استتابة المرتد وعلى حديث المصراة، ولا يبعد دخول هذا الاختلاف في هذه المسائل كلها لقرب معانيها، والأصل في الثلاثة الأيام في هذه المعاني قول الله عز وجل: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] ومنه أخذ القضاة التلوم ثلاثة أيام بعد الآجال ومنه استظهار الحائض بثلاثة أيام وبالله التوفيق.
[مسألة: الدار تكون بين الرجلين فيبيع أحدهما نصيبه وشريكه مفلس]
مسألة قال: وسئل عن الدار تكون بين الرجلين فيبيع أحدهما نصيبه وشريكه مفلس فيقول له رجل من الناس: خذ بالشفعة وأنا أربحك كذا(12/66)
وكذا فأخذ بالشفعة فيسلم إليه الشفعة فيعطيه الذي أربحه فيظهر بعد على أنه أخذها لغيره ويقر بذلك ويقول: لم يكن لي شيء وقال لي هذا الرجل: خذه ولك كذا كذا، فقال مالك: أما أصل البيع فلا يجوز، ولكن من أين يعلم هذا أنه قال له ذلك؟ فقيل له: يقر بذلك صاحب الشفعة، فقال: ليس إقراره بشيء ولكن لو ثبت ببينة أو أمر ثابت رأيت أن يرد في رأي المشتري لأنة إنما أخذ الشفعة لغيره ولكن كيف يعلم هذا وإذا علم رد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه ليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة لغيره؛ لأن الحق إنما هو له لدفع الضرر عن نفسه، قيل: ضرر الاشتراك وقيل: ضرر القسمة، وكذلك ليس له أن يأخذ بالبيع، وقد قالوا في المديان: إن له أن يأخذ بالشفعة فيباع لغرمائه، وفي ذلك نظر؛ لأنه إنما يأخذ للبيع وقد استحسن أشهب ألا يكون ذلك، وأما المريض فإنه يأخذ بالشفعة ولا اعتراض في ذلك، وإن كان أخذه في هذه الحال إنما هو لورثته لأنه إن لم يأخذ ذلك في مرضه كان لهم أن يأخذوه لأنفسهم بعد موته وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي في حائط له لقوم بثلثه أو بسهم منه معلوم أو أجر معلوم فيبيع بعضهم]
مسألة قلت لمالك: أرأيت الذي يوصي في حائط له لقوم بثلثه أو بسهم منه معلوم أو أجر معلوم فيبيع بعضهم؟ فقال: إذا باع بعضهم فشركاؤه في ذلك الثلث أو ذلك السهم أحق بالشفعة فيما باع شريكهم فيه ثمن أهل الحائط.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في رواية أشهب عنه أن الموصى لهم أهل سهم واحد مثله في كتاب ابن المواز وحكاه عن أشهب وابن عبد الحكم وحكاه الفضل عن عيسى بن دينار وابن القاسم بجعلهم كالعصبة فيرى للورثة الدخول معهم، وعلى هذا الاختلاف يختلف في الموصى له(12/67)
بجزء يطرأ على الورثة فقيل: إنه بمنزلة طرو الغريم على الورثة، وإلى هذا ذهب ابن حبيب وهو على قياس قول ابن القاسم، وقيل: إنه بمنزلة طرو الوارث على الورثة، وهو مذهب ابن القاسم، وذلك يرد قوله أن الموصى لهم ليسوا بأهل سهم وبالله التوفيق.
[مسألة: العصبة يرثون ما بقي من المال أيكونون أحق بالشفعة بينهم]
مسألة قلت: أرأيت العصبة يرثون ما بقي من المال أيكونون أحق بالشفعة بينهم؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك في العصبة أنهم أهل سهم وهو بعيد لم يأخذ به ابن القاسم ورآه خطأ وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي إليه فيقول له إني ابتعت أرضا لفلان فهل تريد الأخذ بالشفعة]
مسألة وسئل عمن ابتاع من رجل شقصا له في أرض ثم يأتي إلى الشفيع فيقول له: إني ابتعت أرضا لفلان فإن كان لك بالشفعة حاجة فخذها، فيقول: بكم ابتعتها؟ فيقول: بألف دينار فيقول الشفيع: ليس هذا ثمنها ولقد اشتريتها بأقل من هذا فاحلف لي لقد اشتريتها بهذا الثمن على منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ذلك يختلف، أما في الثمن الكثير المتفاوت إذا علم أنه ليس ثمنها فإن على المشتري أن يحلف لقد اشتريتها بذلك، ولا أرى على البائع يمينا، والمشتري هو الذي له الأرض والذي يؤخذ منه بالشفعة، فأرى عليه اليمين على منبر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما يكون ذلك عليه واجبا إذا جاء بما لا يشبه ثمن الأرض.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام فيها مستوفى في أول السماع فلا معنى لإعادته وبالله تعالى التوفيق.(12/68)
[مسألة: يشتري البقعة فيبني فيها ويعمر فيأتي من يستحقها بشفعة]
مسألة قال: وسئل عن الذي يشتري البقعة فيبني فيها ويعمر فيأتي من يستحقها بشفعة فيقول الثاني: أعطني ما أنفقت، فقال: ليس إلا قيمة ما بنى يوم يأخذ الرجل بالشفعة بنى بنيانها فانهدم أو فسده المطر أو مال أو انكسر أو خرب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في سماع أشهب من كتاب الاستحقاق فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[: له أرض مشتركة مع قوم فأفلس وعليه دين فبيعت الأرض فيه]
ومن كتاب البيوع الأولى وسئل عن رجل كانت له أرض مشتركة مع قوم فأفلس وعليه دين فبيعت الأرض فيه يريد بأمر السلطان هل فيها شفعة؟ قال: نعم، وليس السلطان يقطع الشفعة.
قال محمد بن رشد: أشهب يستحسن ألا يكون في هذا شفعة، وقد مضى القول على هذا في الرسم الذي قبل هذا والله الموفق.
[: الثمرة هل فيها شفعة]
من سماع عيسى من ابن القاسم من
كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده قال عيسى: سألت ابن القاسم عن الثمرة هل فيها شفعة؟ قال: نعم قلت: فإن أصابت الثمرة جائحة هل يرجع آخذ الشفعة على بائع الثمرة بشيء؟ قال: نعم، قلت: فعلى من يرجع أعلى شريكه الذي باع منه أو على آخذ الشفعة من يديه؟ قال: على الذي أخذها من يديه، قال عيسى: ويرجع المشتري على البائع.(12/69)
قال محمد بن رشد: قوله في الثمرة: إن فيها الشفعة يريد ما لم تيبس فهو نص قوله في المدونة ودليل قوله هاهنا إذا قال: إن الجائحة فيها إذ لو كان من مذهبه أن الشفعة فيها وإن يبست ما لم تجد ما أطلق القول بوجوب الجائحة فيها، ولقال: إن الجائحة تجب فيها إذا استشفعها قبل أن تيبس وقد قال ابن القاسم: إن فيها الشفعة وإن يبست ما لم تجد إذا اشتراها مع الأصول بعد الطياب، ولا فرق بين المسألتين فهو اختلاف من قوله مرة رأى في الثمرة الشفعة ما لم تيبس، ومرة رآها فيها ما لم تجد وقوله عندي ما لم تجد أو ما لم يزبب على ما قاله في المدونة معناه ما لم تبلغ حد جدادها للتيبيس أو التزبيب إذ لا تيبس الثمرة في أصولها حتى تجد منها، فالمعنى على ذلك في هذا القول أن الشفعة فيها ما لم يجد جدادها للتيبس إن كانت مما ييبس أو للأكل خضراء إن كانت مما لا ييبس وكذلك قال ابن كنانة في المدنية أن الشفعة في الثمرة ما لم تيبس، وقوله الثاني: إن الشفعة فيها وإن حان جدادها ما لم تجد.
وقوله في الرواية: إن الجائحة فيها صحيح على المشهور في المذهب من أن الأخذ بالشفعة ينزل منزلة البيع فيما يختص به من الأحكام ويأتي على مذهب من ينزله في ذلك منزلة الاستحقاق أن جائحة فيها.
وأما قوله: إنه يرجع بالجائحة في الثمرة على المشتري الذي أخذها من يديه فهو صحيح على المنصوص في أن عهدته عليه، وقد وقع في كتاب الشفعة من المدونة ما يدل على أنه مخير في كتاب عهدته على من شاء منهما، وهو بعيد في النظر لا يحمله القياس؛ لأن الشفعة لا تخلو من أن يحكم لها بحكم البيع أو بحكم الاستحقاق، فإن حكم لها بحكم البيع وهو الأظهر كانت العهدة على المشتري، والرجوع بالجائحة عليه، وهو مذهب ابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة: إن أخذ الشفيع الشقص من يد البائع فالعهدة عليه وإن أخذه من يد المبتاع فالعهدة عليه، وقول مالك أظهر الأقوال؛ لأن البيع لم ينفسخ فيما بين البائع والمشتري، فالحق إنما هو واجب للشفيع على المشتري بإيجاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذلك له عليه، ووجه قول ابن أبي ليلى أن الأخذ بالشفعة استحقاق فينتقض البيع ويأخذ الشقص من(12/70)
البائع بما باع به. فيدفع الثمن إليه إن كان لم يقبضه من المشتري، وإن كان قد قبضه منه دفعه إلى المشتري؛ لأن الواجب أن يرد إليه إذا انتقض البيع، ووجه ما وقع في كتاب الشفعة من الدليل على أن الشفيع مخير في كتاب عهدته على من شاء منهما أنه بالخيار بين أن يجيز البيع فتكون عهدته على المشتري على حكم البيع وبين أن ينقض البيع فتكون عهدته على البائع على حكم الاستحقاق، وقول عيسى بن دينار: إن المشتري يرجع على البائع بما يرجع به الشفيع عليه من الجائحة صحيح مفسر لقول ابن القاسم؛ لأنه حق لكل واحد منهما على صاحبه ولو وجد الشفيع المشتري عديما لكان من حقه أن يرجع على البائع لأنه غريم غريمه وبالله التوفيق.
[: له شريك في أرض مبهمة فيغيب عنه فيبيع شريكه سهمه]
ومن كتاب
أسلم وله بنون صغار
وسئل عن الرجل يكون له شريك في أرض مبهمة فيغيب عنه فيبيع شريكه سهمه ثم يبيع الشريك الغائب وهو لا يعلم ببيع صاحبه هل يكون له أن يأخذ بالشفعة؟ قال: ذلك له ويكتب عهدته على الذي يعطيه الدنانير ويأخذها من يديه.
قال محمد بن رشد: قوله في أرض مبهمة يريد غير معينة ولا محوزة إلا أنها معروفة بالتسمية قد رآها المشتري أو وصفت له إذ لو كانت غير معينة ولا محوزة ولا معروفة بالتسمية لما جاز بيعها ولا بيع جزء منها وفي قوله: وهو لا يعلم ببيع صاحبه دليل على أنه لو علم ببيع صاحبه لم تكن له شفعة وإن كان دليلا فيه ضعف إذ لم يقع ذلك في الجواب وإنما وقع في السؤال فالمعنى يؤيده لأنه إذا باع حقه بعد أن علم ببيع شريكه حظه فقد رغب عن المبيع، وأما إذا باع حقه قبل أن يعلم ببيع شريكه حظه فمن حجته أن يقول: إنما بعت حظي لزهادتي فيه لقلته، ولو علمت أن شريكي باع لما بعت حظي ولأخذت(12/71)
بالشفعة، وهذا بين، ففي المسألة ثلاثة أقوال أحدها هذا والثاني أن له الشفعة وإن باع حظه بعد أن علم ببيع شريكه حظه وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه بعد هذا في رسم الصبرة وأحد قولي مالك والثالث أنه لا شفعة له إذا باع حظه وإن لن يعلم ببيع شريكه وهو أحد قولي مالك وظاهر ما في كتاب الشفعة من المدونة لابن القاسم لأنه قال فيه فيمن باع شقصا بخيار ثم باع صاحبه بيع بت أن الشفعة للمشتري بالخيار على مشتري البت إن اختار إمضاء الشراء، ووجه قوله أن بيع الخيار إذا أمضى فكأنه لم يزل ماضيا لمشتريه من يوم عقده وصار ملكا له بالشراء قبل بيع البتل، فلم يبع بائع البتل سهمه على هذا التعليل إلا بعد وجوب الشفعة له فيما بيع بالخيار، فلو كان من مذهبه أن يبيع الشفيع سهمه بعد وجوب الشفعة لا تسقط شفعته لأوجب لبائع البتل الشفعة على مشتري الخيار ولما كان لمشتري الخيار شفعة على مشتري البت حتى يعرض الشفعة على بائع البت فيتركها على ما روى يحيى عن ابن القاسم في رسم الصبرة بعد هذا أن الشفعة للبائع الثاني فيما باع الأول حتى يترك البائع الثاني فيجب للمشتري من البائع الأول على المشتري من البائع الثاني. فإن باع بعض حظه على قياس هذا القول كان له من الشفعة بقدر ما بقي من حظه وقع اختلاف قول مالك في هذا في كتاب ابن عبدوس حكى عن أشهب أنه قال: اختلف قول مالك فيه، فمرة قال: إن الشفعة لا تسقط عنه ببيع نصيبه، ومرة قال: إنما تجب له الشفعة ما كان الشقص الذي به يستشفع في يديه، فإذا زال من يديه قبل الآخر سقطت شفعته، وقال أشهب: أحب إلي ألا شفعة له بعد بيع نصيبه أو بعضه؛ لأنه إنما باع راغبا في البيع، وإنما الشفعة للضرر، فلم ير له شفعة في ظاهر قوله أصلا إذا باع بعض نصيبه، فهو قول رابع في المسألة، وقال أحمد بن ميسر: لا شفعة له بعد أن باع إلا أن تبقى له بقية أخرى وقوله: إلا أن تبقى له بقية أخرى فيكون له من الشفعة بقدر ما بقي، فيكون قوله مثل أحد قولي مالك وظاهر ما في المدونة، ويحتمل أن يريد إلا أن تبقى له بقية أخرى فيأخذ جميع شفعته بقدر حظه كله ما باع منه وما بقي فيكون ذلك قولا(12/72)
خامسا في المسألة، وأظهر هذه الأقوال كلها الفرق بين أن يبيع وهو عالم ببيع شريكه حظه أو غير علم وبالله التوفيق.
[: تصدق بحظه في قرية مبهمة على أخت له]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت وسئل عن رجل تصدق بحظه في قرية مبهمة على أخت له وقال: إني قد كنت أصبت من مورثها مالا فسهمي عليها صدقة لما أصبت من مالها ولا يعلم ما أصاب من مالها فأراد الشركاء الأخذ بالشفعة ألهم ذلك؟ أم هل يجوز قوله: إني أخذت من مالها أو تجوز لها الصدقة بما أخذ من مالها فيما يزعم على غير حوز حتى هلك؟ قال ابن القاسم: ذلك لها ولا أرى لأحد فيها شفعة لأن أصل الثمن لا يعرف؛ لأن مالكا قال: لنا ما طال من الشفعة حتى نسي ثمنه ولم ير أن صاحبه أخفى ذلك لقطع الشفعة فلا شفعة له فيه إذا أتى من يطلبه ولا حوز عليها في ذلك الحظ؛ لأن ذلك الحظ إنما صار لها على وجه اشتراء، فلا حوز فيه، وسئل سحنون عن رجل تصدق بحظ في قرية مبهمة على أخت له وقال: إني قد كنت أصبت من مورثها مالا فسهمي عليها صدقة لما أصبت من مالها ولا يعلم ما أصاب من مالها فأراد الشفعاء الأخذ بالشفعة ألهم ذلك؟ فقال: الصدقة لها ولا أرى لأحد فيها شفعة لأنه ليس بيعا ولا مطالبة إنما هو تمنح من شيء لا يطلبه المقر له ولا يعرفه، فلو كان عن طلب من المقر له أو تدع فصالح عنه أنزل منزلة البائع وأخذ الشفعة بالقيمة إذا لم يسم الذي أصابه من مورثها.
قال محمد بن رشد: اتفق ابن القاسم وسحنون على الجواب في هذه المسألة بإسقاط الشفعة فيها واختلفا في التعليل أما ابن القاسم فرآه بيعا(12/73)
جهل فيه الثمن فأسقط الشفعة من أجل الجهل بالثمن لأنه أشبه عنده بأهل من أمر الشفعة حتى نسي الثمن ولم ير على الأخت في الحظ حيازة؛ لأنه إنما صار لها على وجه البيع عنده، لا على وجه الصدقة، وأما سحنون فرآها صدقة لا تصح لها إن مات إلا بالحيازة؛ لأنه إنما أعطاها الحظ على وجه المتمنح من شيء لا يعرفه ولا يطلبه، فأبطل الشفعة فيه من أجل أن الصدقة لا شفعة فيها عنده على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، فعلى تعليله بأنها صدقة يجب فيها الشفعة بالقيمة على مذهب من يرى في الهبة والصدقة الشفعة بالقيمة، والقولان في مختصر ابن عبد الحكم، وقول سحنون أن ذلك هبة أظنه والله أعلم.
[: يهب الشقص في شيء مشاع على الثواب ثم يطلب الثواب]
ومن كتاب الجواب وسألته عن الرجل يهب الشقص في شيء مشاع على الثواب ثم يطلب الثواب فيقول الموهوب له: مالي غائب أو غلامي بمالي أو شيء مما يعتذر به ولكن هذه عشرة دنانير فخذها ما دام مالي غائبا، فإذا قدم مالي أتيتك بثواب ترضاه إن شاء الله، فيأخذه فيقيم الشفيع عند ذلك فيريد أن يأخذ بالشفعة كيف الأمر في ذلك؟ قال ابن القاسم: ليس له شفعة في هذا حتى يثاب تمام الثواب، وإن قال الشفيع أنا آخذ الشفعة وادفع العشرة فإذا أتابه التمام دفعته إليه لم يكن ذلك له ولم يكن له شفعة لأن هذا لو كان بيعا يبتدأ على هذا الوجه والفعل والصفة ما حل، والأخذ بالشفعة بيع من البيوع، فليس ذلك له ولا يجوز هذا، ولأنه أيضا إن لم يشبه رضاه، رد الهبة ورجع في عشرته ولم يلزمه تمام المثوبة به ولا قيمة الهبة بمنزلة الذي يفوض إليه في النكاح فيقدم شيئا لا يكون صداق مثلها أو يبعث بها(12/74)
فيطلبون بعد ذلك تمام ذلك ولم يكونوا رضوا بما بعث به، فالزوج بالخيار في أن يتم له صداق مثلها أو يرد النكاح ويرجع بما كان بعث ولا يلزمه أن يتم لها الصداق لما قدم قبل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها من أن من وهب شقصا بما فيه الشفعة على ثواب يرجوه ولم يسمه فليس للشفيع فيه شفعة إلا بعد العوض، فإن أثابه أقل من القيمة فرضي لذلك أخذ الشفيع به، وإن أثابه أكثر من القيمة قبل تغير السلعة لم لكن للشفيع أن يأخذ إلا بجميع العوض، واختلف إن أثابه أكثر من القيمة بعد تغير السلعة فقال ابن القاسم في المدونة: ليس للشفيع أن يأخذ إلا بجميع العوض وهو قول ابن الماجشون، وقال أشهب في كتاب ابن المواز يأخذ الشفيع بالأقل من قيمة الشقص أو مما أثابه، وفي قوله ولأنه أيضا إن لم يثبه رضاه رد الهبة ورجع في عشرته دليل على أنه لا يلزمه الرضى بالقيمة إلا بعد فواتها، وهو قول مطرف وروايته عن مالك وظاهر قول عمر بن الخطاب خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة أنه يلزمه الرضى بالقيمة وإن لم تفت، والذي في المدونة أصح؛ لأن الهبة للثواب مقيسة على نكاح التفويض فكما يلزم الزوجة صداق المثل إذا فرضه لها الزوج وإن لم يدخل بها فكذلك يلزم الواهب القيمة إذا أثابه بها، وإن لم تفت السلعة، ولم أعلمهم اختلفوا في أن الموهوب له لا يلزمه قيمة السلعة ما كانت قائمة ولا أقل منها إن رضي بذلك الواهب كما لا يلزم الزوج في نكاح التفويض صداق المثل قبل الدخول ولا أقل منه وإن رضيت بذلك المرأة، وإنما اختلفوا في نكاح التحكيم إذا كانت الزوجة هي المحكمة فقيل: إن الصداق لا يلزم قبل الدخول بقليل ولا كثير إلا مع اتفاقهما جميعا، وقيل: إنه يلزم الزوجة صداق المثل فأكثر إذا رضي به الزوج ولا يلزم الزوج صداق المثل فأقل إن رضيت به المرأة ولا يلزم المرأة صداق مثلها فأكثر إن رضي به الزوج، فقوله: إن الموهوب له إذا قدم بعض الثواب لا يلزمه تمامه وله أن يسترد ما قدم(12/75)
يريد إن لم ترض به منه وطلبت منه زيادة عليه كالمفوض إليه في النكاح إذا قدم شيئا من صداق مثلها فطلبوه ببقيته كان بالخيار بين أن يسترد ما قدم منه أو يتم بقيته وما وقع في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب النكاح ليس بخلاف لما هاهنا؛ لأنه إنما وجب عليه هناك نصف صداق مثلها إذا طلقها لقوله: فإن لها صداق مثلها، ولو قدم في نكاح التفويض شيئا من صداقها ولم يقل فإن لها صداق مثلها فطلقها قبل الدخول لكان لها نصف ما قدم إليها وبالله التوفيق.
[: باع الرجل شقصا له في دار بدين إلى أجل ثم أتى الشفيع]
ومن كتاب إن أمكنتني
من حلق رأسك وقال: إذا باع الرجل شقصا له في دار بدين إلى أجل ثم أتى الشفيع فإنه يأخذه إلى ذلك الأجل إذا أتى بحميل ثقة، وإن كان مليا أخذه بغير حميل.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وفي الواضحة عن مالك من رواية مطرف عنه، وعن ابن الماجشون وأصبغ، وظاهره أنه لا يلزمه الحميل إلا إذا كان معدما، وأما إن كان مليا فلا يلزمه حميل وإن كان المشتري أملأ منه وهو نص قول محمد بن المواز من رأيه خلاف قول أشهب أنه يلزمه، وإن كان مليا أن يأتي بحميل مثل المشتري في الملا، وكذلك اختلف إذا اشترى برهن وحميل فقيل: لا شفعة للشفيع إلا أن يأتي برهن وحميل وقيل: لا يلزمه ذلك إلا أن يكون أعسر منه فيفترق استواؤهما في العدم من استوائهما في الملا ويكون الشفيع أقل ملا من كونه أشد عدما؛ لأنهما إذا استويا في العدم لزمه حميل على اختلاف، وإذا استوايا في الملا لم يلزمه حميل باتفاق، وإن كان الشفيع أقل ملا لزمه حميل على اختلاف، وإن كان أشد عدما لزمه حميل باتفاق، وإذا عجز الشفيع عن الحميل في الموضع الذي يلزمه فيه الحميل(12/76)
فعجزه السلطان ثم قدر على حميل قبل محل الأجل لم تكن له شفعة، واختلف إذا لم يقم الشفيع بشفعته حتى حل الأجل فقيل: إنه يكون له من الأجل مستأنفا مثل الذي عقد عليه البيع، وقيل: لا يأخذه إلا بالثمن نقدا وهو قول أصبغ، والأول قول مالك في رواية مطرف عنه، وقول ابن الماجشون وهو أظهر والله أعلم.
[: يشتري الشقص من الحائط وفيه رقيق يعملون فيه فاشتراه برقيقه]
ومن كتاب العتق وقال في الرجل يشتري الشقص من الحائط وفيه رقيق يعملون فيه فاشتراه برقيقه ثم أتى الشفيع، فقال: إن أراد الأخذ بالشفعة والرقيق لم يفوتوا لم يكن له أن يأخذ إلا بجميع الشقص والرقيق إذا كانوا رقيق الحائط وعماله ولم يكن للحائط منهم بد أو يدع؛ فإن كانوا قد فاتوا ببيع قسم الثمن الذي ابتاعوا به على قيمة الرقيق وقيمة الشقص فيأخذ الشقص بما يصيبه من ذلك بالشفعة وكذلك لو تصدق بالرقيق أو وقفهم مثل البيع سواء، فأما الموت فإن شاء أخذ الشقص بجميع الثمن كله أو يترك فذلك له.
قال محمد بن رشد: إيجابه الشفعة في رقيق الحائط إذا بيعوا مع الحائط خلاف قوله في الرحا إذا بيعت مع الأصل أنه لا شفعة في الرحا ويفض الثمن على قيمة الرحا وقيمة الأصل فيأخذ الأصل بالشفعة مما ينوبه من الثمن لأن الرحا أكثر تشبثا بالأرض من الرقيق بالحائط، فإذا أوجب في رقيق الحائط. الشفعة فأحرى أن يوجبها في الرحا وإن لم يوجبها في الرحا فأحرى ألا يوجبها في رقيق الحائط ويحتمل أن يفرق بين المسألتين فيكون في المسألة ثلاثة أقوال: إيجاب الشفعة فيها، وإسقاطها، وإيجابها في الرحى دون رقيق الحائط والاختلاف فيها جميعا جار على أصل قد اختلف فيه قول مالك،(12/77)
وهو ما كان من العروض التي لا شفعة فيها متشبثا بالأصول التي فيها الشفعة أو متصلا بها كالثمرة والزرع إذا بيعا مع الأصل أو دونه، وكالماء والنقض إذا بيعا دون الأصل إذ لا اختلاف فيهما إذا بيعا مع الأصل أن الشفعة تكون في الجميع وكالكراء إذا انفرد عن بيع الأصل ولا يتصور فيه غير ذلك، فمن هذه الأشياء التي ذكرناها يختلف في إيجاب الشفعة فيما بيع مع الأصل أو دونه وهو الثمرة والزرع ومنها ما يختلف في إيجاب الشفعة فيها إذا بيعت منفردة عن الأصل ويتفق على إيجاب الشفعة فيها إذا بيعت مع الأصل وهو الماء والنقض، ومنها ما يختلف في إيجاب الشفعة فيها إذا بيعت مع الأصل ويتفق على ألا شفعة فيها إذا بيعت منفردة عن الأصل وهو الرحا والرقيق والحائط، وأما الكراء فلا يتصور فيه الانفراد، وفي الشفعة في الثمرة والنقض مسائل كثيرة تفترق أحكامها لافتراق معانيها تركت ذكرها هاهنا اختصارا مخافة التطويل، إذ قد حصلناها وحكمنا القول فيها في كتاب المقدمات، وتفرقته في رقيق الحائط بين أن يفوتوا بموت صحيح على قوله في إيجاب الشفعة فيهم؛ لأن موتهم كانهدام الدار التي فيها الشفعة، وأما على القول بأنه لا شفعة فيهم فسواء فاتوا بموت أو بيع أو هبة أو صدقة إن كانوا قياما يفض الثمن عليهم وعلى الحائط فيأخذ الحائط الشفيع بما ينوبه من الثمن.
[مسألة: زعم المشتري أنه اشترى شيئا مقسوما وادعى الشفيع أنها لم تقتسم]
مسألة وسئل عن رجل اشترى أرضا وقبضها ثم إن رجلا أتى يطلب فيها الشفعة فزعم المشتري أنه اشترى شيئا مقسوما، وادعى الشفيع أنها لم تقتسم على من ترى البينة؟ قال: بلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال: أيما رجل عرف المدعي من المدعى عليه لم يلتبس عليه ما يحكم به بينهما، فالمدعي أن يقول الرجل: قد كان والمدعى عليه أن يقول: لم يكن، فالذي قال: هو مقسوم وقد اشتريت مقسوما مدع؛ لأنه لا يشك أن الأرض أصل ما كانت عليه أنها لم(12/78)
تقسم، فهم مدع حين يقول: اشتريت شيئا قد قسم، فعليه أن يثبت ذلك، والذي يقول لم يقسم مدعى عليه فالقول قوله حتى تبطل قوله البينة.
قال محمد بن رشد: إنما هو إذا علم أن الأرض كانت مشتركة بين البائع والشفيع ببينة قامت على ذلك أو بإقرار البائع بذلك قبل البيع، وأما إن لم يقر بذلك إلا بعد البيع فلا يجوز قوله على المشتري؛ لأنه إنما هو شاهد للشفيع فيحلف معه إن كان عدلا ويأخذ بالشفعة إلا أن يأتي المشتري بالبينة على أن البائع قد قاسم الشفيع قبل البيع، ولو قاسم المشتري للبائع بعد الشراء والشفيع غائب دون أن يوكل أو يقسم عليه القاضي لم ينفذ القسم عليه وكانت له الشفعة، واختلف إن قسم عليه القاضي وهو غائب ثم أتى، فقيل: إن له أن يرد القسمة ويأخذ بالشفعة، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: ليس له أن يرد القسمة، لأخذ الشفيع الحظ الذي صار للمشتري بالشفعة وهو أحد قولي أشهب واختيار سحنون وابن عبدوس، وهذا الاختلاف على اختلافهم في القسمة هل هي بيع من البيوع أو تمييز حق فيكون له أن يرد القسمة كما يرد البيع على القول بأن القسمة بيع من البيوع، ولا يكون له أن يرد القسمة على القول بأنها بيع من البيوع أو تمييز حق ويأخذ الحظ الذي كان للمشتري بالقسمة.
وقول سعيد بن المسيب: أيما رجل عرف المدعي من المدعى عليه لم يلتبس عليه ما يحكم به بينهما، فالمدعي أن يقول الرجل قد كان ليس على عمومه في كل موضع وإنما يصح إذا تجردت دعوى المدعي في قوله قد كان من سبب يدل على تصديق دعواه، فإن كان له سبب يدل على صدق دعواه، أقوى من سبب المدعى عليه القائل لم يكن يدلي عليه باليمين، مثال ذلك من حاز شيئا مدة تكون فيه الحيازة عاملة في وجه المدعي فادعى الشراء كان القول قوله مع يمينه في ذلك وهو مدعي يقول قد كان والمدعى عليه يقول لم يكن(12/79)
ذلك، وكذلك المودع يدعي رد الوديعة القول قوله وهو مدع يقول: قد كان والمودع يقول: لم يكن، وإنما كان القول قوله في رد الوديعة وإن كان مدعيا في ذلك لأنه في معنى المدعى عليه لأن ذمته برية والمودع يريد تعميرها فهو في ذلك مدع، فوجب أن يكون القول قول المدعي عليه وهو المودع في صرف الوديعة وبالله التوفيق.
[: باع نصراني من نصراني شقصا بخمر أو بخنزير والشفيع مسلم]
من سماع يحيى بن يحيى
من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن النصرانيين الشريكين في الأرض يبيع أحدهما حظه من مسلم أو نصراني فتجب الشفعة لشريكه أيقضى له بها على المشتري مسلما كان أو نصرانيا؟ قال: أما على المسلم فيقضي بها للنصراني لأني كنت أقضي بها أيضا للمسلم على النصراني، وأما إذا كان الشفيع نصرانيا وكان شريكه مسلما أو نصرانيا فاشترى نصراني نصيب شريك النصراني فلا أرى أن يقضي بينهما بشيء؛ لأن الطالب والمطلوب نصرانيان، فهما يردان إلى أهل دينهما؛ لأن المطلوب يقول: ليس في ديننا الحكم بالشفعة، فلا أرى للمسلم أن يحكم بينهما إلا أن يتراضيا على ذلك.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسألة أنه إذا كان الشفيع الذي لم يبع أو المشتري المشفوع عليه مسلما قضى بالشفعة لكل واحد منهما على صاحبه باتفاق في المذهب؛ لأنه حكم بين نصراني ومسلم، واختلف إن كان الشفيع والمشتري المشفوع عليه نصرانيين والشريك للبائع مسلما فقال في هذه الرواية: إنه لا يقضي في ذلك بالشفعة ويردان إلى أهل دينهما لأن الشفيع والمشفوع عليه نصرانيان وهو مثل ما في كتاب العتق الثاني من المدونة(12/80)
لأشهب ولغير ابن القاسم وهو ابن نافع فراعيا كون أحد الشريكين مسلما، وهو قول أشهب. في المجموعة أنه إذا كان أحد الثلاثة مسلما بائعا أو مبتاعا أو شفيعا قضى في ذلك بالشفعة.
واختلف إذا باع نصراني من نصراني شقصا بخمر أو بخنزير والشفيع مسلم فقيل: إنه يأخذ للشفعة بقيمة الشقص، وهو قول أشهب، فكأنه لم ير للخمر قيمة، وقد قال ابن الماجشون في المسلم: يستهلك الخمر للنصراني أنه لا قيمة عليه، فإذا دفعها بطوعه فأحرى ألا تكون لها قيمة، وقيل: يأخذ بقيمة الخمر والخنازير وهو قول ابن عبد الحكم وأشهب على مذهب ابن القاسم لأن ذلك مما يضمن للنصراني فأشبه شراء الشقص بعرض، ومن أهل العلم من لا يرى للنصراني على المسلم شفعة فيحكم بها للمسلم على النصراني والمسلم ولا يحكم بها للنصراني على المسلم ولا على النصراني ويردهما إلى أهل دينهما إن كانا نصرانيين وهو قول أحمد بن حنبل والحسن البصري والشعبي والله تعالى الموقف.
[: باع أحدهم ولا علم لشريكيه ببيعه ثم باع أحد الباقين فطلبوا الشفعة]
ومن كتاب الصبرة
وسألته عن ثلاثة نفر بينهم أرض مشتركة فباع أحدهم ولا علم لشريكيه ببيعه أو علما ولم يفت وقت طلب الشفعة حتى باع أحد الباقين أترى للمشتري الأول شفعة فيما باع الشريك الثاني؟ فقال: الشفعة فيما باع الأول للبائع الثاني وللشريك الثالث المتمسك بحظه، وذلك أن البائع الثاني باع حظه وقد كانت وجبت له الشفعة فيما باع الأول فليس بيعه حظه بالذي يقطع عنه شفعة قد كانت له واجبة قبل أن يبيع هو حظه قال: فإن ترك البائع الثاني الأخذ بالشفعة مع الشريك الذي لم يبع كانت الشفعة كلها واجبة للشريك الثالث الذي تمسك بحظه، فإن تركها هو أيضا صار المشتري من البائع(12/81)
الأول شفيعا، والثالث الذي لم يبع فيما باع الثاني، وإن ترك الأخذ بالشفعة فيما باع الأول وأراد أن يستشفع ما باع الثاني صار المشتري من البائع الأول شفيعا مع الثالث الذي لم يبع حظه فيما باع البائع الثاني لأنه قد نزل منزلة بائعه إذ لم يؤخذ منه بالشفعة، فقد صار شريكا للبائع الثاني ولصاحبه الذي لم يبع فباع الثاني حين باع والمشتري من البائع الأول شريك تجب له الشفعة، إذ قد أقر على ما اشترى ولم يؤخذ ذلك منه، وأيما شريكين ترك أحدهما الأخذ بالشفعة مع شريكه فليس للشريك أن يأخذ بقدر حصته ولكن يأخذ الجميع أو يدع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم أسلم من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[: الدار تشترى بالعبد أو بما أشبه ذلك من العروض فيستحق نصف الدار]
ومن كتاب الصلاة
قال يحيى: وسئل ابن القاسم عن الدار تشترى بالعبد أو بما أشبه ذلك من العروض فيستحق نصف الدار، فيقول المشتري للبائع: أما إذا لم تتم لي كلها فلا حاجة لي بها فيردها على البائع فيريد الذي استحق نصف الدار أن يأخذ بالشفعة النصف الباقي وقد ردها المشتري على البائع، فقال: الشفعة له واجبة ولا يقطعها عنه ما فسخ البائع عن نفسه من الاشتراء الذي لو شاء أن يأخذ أخذ به.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم في هذه الرواية: إن الشفعة للمستحق واجبة على المشتري في نصف الدار الذي بقي بيده وإن كان لم يقم عليه فيه بالشفعة إلا بعد أن رده على البائع وأخذ عبده، وهذا على القول بأن الرد بالعيب ابتداء بيع، وأما على القول بأنه نقض بيع فلا شفعة فيه؛ لأنه قد(12/82)
رجع إلى يد بائعه على الملك الأول، فإذا قلنا: إن له الشفعة على قياس القول بأن الرد بالعيب ابتداء بيع يجب أن يكون مخيرا في عهدته بجعلها على من شاء منهما كمن اشترى شقصا ثم باعه من بائعه فالشفيع مخير إن شاء أجاز البيع وأخذ بالشفعة من المبتاع الثاني وهو البائع الأول وإن شاء نقضه وأخذ بالشفعة من المبتاع الأول، وهذا بين، ولو قال المشتري: أنا أرد النصف وآخذ عبدي وقال المستحق: أنا آخذ بالشفعة لوجب أن يبدأ الشفيع على قياس هذا القول أن له أن ينقض رده ويأخذ بالشفعة فأحرى أن يكون له أن يمنعه من الرد، وقد اعترض سحنون قوله في المدونة، وقال: لا يقول به لأنا نعرف من قوله خلافه، وقوله على قياس القول إن الرد بالعيب نقض بيع لأنه إذا كان من حقه أن ينقض البيع وجب أن يبدأ على الشفيع إذا أراد أن يرد وأراد الشفيع أن يشفع، وقد رأيت في حواشي بعض الكتب على مسألة المدونة قال سحنون: ليس للشفيع شفعة، وكيف يأخذ بالشفعة والبيع لم يتم؟ ولا يستقيم كتاب قول سحنون هذا على مسألة المدونة؛ لأنه لم يتكلم فيها إلا على أن الشفيع قام يطلب الشفعة قبل الرد وأراد أن يمنعه من الرد، وإنما يحسن أن يكتب قول سحنون على مسألتنا هذه في رواية يحيى؛ لأنه رأى الرد بالعيب فيها نقضا للبيع فأبطل الشفعة، وهو القياس أن يبطل على القول بأن الرد بالعيب نقض بيع حسبما ذكرناه وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى دارا معينة بعينها فردها حين علم ثم جاء فاستحق بعض الدار]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل اشترى من رجل دارا معينة بعينها فردها حين علم ثم جاء فاستحق بعض الدار أتكون له الشفعة فيما بقي من حساب ما كان اشتراها به الذي ردها بالعيب؟ فقال: نعم، الشفعة له واجبة إن أراد الأخذ من حساب جميع الثمن لا يوضع عنه للعيب شيء.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة على أصله في المسألة(12/83)
التي قبلها من أن الرد بالعيب ابتداء بيع، فتكون عهدته إذا أخذ بالشفعة على من شاء منهما حسبما ذكرناه قبل هذا وبينا وجهه، وعلى القول بأن الرد بالعيب نقض لا شفعة في ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: قال البائع إنما بعتك داري ليكون لي العبد خالصا]
مسألة قلت: أرأيت إن اشتراها بالعبد واستحق نصفها رجل أو ترك المستحق الأخذ بالشفعة ورضي المشتري أن يحبس النصف ويرد إليه نصف العبد ويكون بذلك في العبد شريكا لبائع الدار منه أيكون ذلك؟ قال: نعم، إلا أن يفوت العبد فيكون له على البائع نصف قيمة العبد الفائت.
قيل له: فإن قال البائع: إنما بعتك داري ليكون لي العبد خالصا، فأما إذا أردت أن تشركني فيه فلا حاجة لي فيه ينتقض البيع بينهما؟ قال: نعم، أرى البيع مفسوخا عنهما إلا أن يفوت العبد فلا يكون للبائع حجة في إمضاء البيع ويرد نصف قيمة العبد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى غاية الاستيفاء في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق فلا معنى لإعادة شيء من ذلك وبالله التوفيق.
[: الشفيع يعرض عليه الإمام الأخذ بالشفعة]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الشفيع يعرض عليه الإمام الأخذ بالشفعة أو الترك فيقول: أنا آخذ فيؤجله في الثمن فيبدو له فيقول: لا حاجة لي بالشفعة، ويقول المشتري: لا أقيله، قال: الأخذ بالشفعة يلزم(12/84)
الشفيع، فإن لم يكن له مال بيع عليه حظه الذي كان به شفيعا، والحظ الذي وجبت له الشفعة فيه حتى يوفي المشتري جميع حقه، ولا يقال فيما قد رضي بأخذه إلا أن يرضى المشتري أن يقيله.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة لا تخلو عندي من ثلاثة أوجه: أحدها أن يوقفه الإمام على الأخذ أو الترك فيقول: قد أخذت ويقول المشتري: وأنا قد سلمت فادفع إلي مالي فيؤجله الإمام في ذلك، فلا يأتي بالمال إلى الأجل، فهذا بيع تام يباع فيه جميع ماله، الحظ الذي استشفعه والذي استشفع به، وليس للشفيع أن يقول للمشتري: خذ حائطك لا أريده ولا للمشتري أن يقول للشفيع: رد إلي حائطي لا أسلمه لك إذا لم تنقد لي مالي إلى الأجل الذي أجله لك السلطان فلا ينحل البيع إلا برضاهما جميعا والوجه الثاني أن يوقفه الإمام على الأخذ أو الترك فيقول: قد أخذت فيسكت المشتري ولا يقول وأنا قد سلمت، فيؤجله الإمام في الثمن بطلب من أحدهما لذلك، فلا يأتي به إلى الأجل، فهذا إن طلب المشتري أن يباع له في الثمن مال الشفيع كان ذلك له، وإن أراد الشفيع أن يرد الشقص على المشتري أو يتمسك به حتى يباع ماله في ثمنه لم يكن له في ذلك خيار، وهذا الوجه في المدونة، والوجه الثالث أن يقول الشفيع: أنا آخذ ولا يقول قد أخذت فيؤجله الإمام في إحضار الثمن فلا يأتي به إلى الأجل، فهذا الوجه يختلف فيه، قيل: يرجع الشقص إلى المشتري إلا أن يتفقا جميعا على إمضائه للشفيع واتباعها بالثمن، وقيل: إنه إن أراد المشتري أن يلزم الشفيع الأخذ كان ذلك له، ويباع ما له في الثمن، وإن أراد الشفيع أن يرد الشقص لم يكن ذلك له، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية وقول أشهب، والقول الأول بين وبالله التوفيق.
[: الشفعاء أهل الميراث هل يكون بعضهم أولى بمشافعة بعض]
ومن كتاب الأقضية قال: وسألت ابن القاسم عن الشفعاء أهل الميراث هل يكون(12/85)
بعضهم أولى بمشافعة بعض أم كيف الأمر فيهم؟ قال: قال لي مالك: كل أهل مورث أحق بشفعتهم يتشافعون بينهم دون سائر الورثة، مثل أن يهلك الرجل ويرثه ابناه فيموت أحدهما فيبيع بعض ولده حقه، فيكون إخوته بنو الابن أحق بالشفعة فيما باع أخوهم ومن شركهم في ميراث ابن الابن من عمهم أخي أبيهم، فأهل كل سهم يتشافعون بينهم، دون أهل رأس الميراث، وكذلك أهل كل سهم في كتاب الله أو السنة يتشافعون فيما بينهم، وهم أجمعون على العصبة فيما باع بعض العصبة، ولا تدخل العصبة على أهل السهام، قال: وقال لي مالك غير مرة: من باع من أهل السهام المفروضة ثم سلم ذلك للمشتري أهل شفعة البائع شركاؤه دنيا في السهم الذي يجمعهم بفريضة مسماة فإن الشفعة تجب لجميع أهل الميراث شركاء البائع وأهل سهمه في رأس فريضة الميراث، قال: وإن أسلموا أجمعون للمشتري أو كان المشترون جماعة ثم باع أحد المشترين نصيبه مما اشترى فأراد شركاؤه في الصفقة أن يأخذوا بالشفعة وأن يتشافعوا فيما بينهم كما كان يتشافع أهل السهم الذي اشتروا منهم دون جماعة الورثة مثل أن يكونوا اشتروا ربع الزوجات أو سدس الجدتين أو ثلث الإخوة للأم أو ما أشبه ذلك، قال ابن القاسم: فإن مالكا قال: لا يكون ذلك لهم ولا يحملون محملهم بل يشافعهم جميع الورثة على قدر أنصبائهم في الميراث، ويكون شركاء البائع منهم في ذلك النصيب خاصة وبقية الورثة أجمعين وبقية شركاء البائع المشتري في ذلك الحظ الذي يؤخذ بالشفعة شفعاء أجمعين، قال مالك: فإنما يتشافع في كل سهم دون جماعة الورثة أهل السهم بأعيانهم الذين ورثوه، لا ينزل من اشتراه منهم أو اشترى بعضه في ذلك منزلتهم، قال: وقال مالك: ليس المشتري(12/86)
كالورثة ولا العصبة كأهل السهام المفروضة، أهل السهام المفروضة يتشافعون بينهم على ما فسرت لك، وهم أجمعون يدخلون على العصبة فيما أخذه بعضهم فيما يبيعه بعضهم فكذلك أيضا يدخل أهل السهام المفروضة على كل من اشترى من بعضهم بما باع بعض من اشترى أنهم يدخلون أجمعون على أشراك البائع الذي اشتروا معه وصاروا شفعاء باشترائهم معه يوم اشترى، قال: وإذا باع بعض الورثة من أهل السهام المفروضة لم يدخل المشتري ولا العصبة عليهم فيما يتشافعون به فيما بينهم إذا كان في ذلك السهم للبائع شريك فيه دنيا فإن أخذ جماعة الورثة بالشفعة دخل معهم العصبة والمشتري.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة حسنة، قوله فيها: إن أهل السهم الواحد مثل الزوجات والجدات والإخوة للأم يتشافعون بينهم البين ولا يدخل غيرهم من الورثة عليهم ويدخلون هم عليهم، هو مذهب مالك وجميع أصحابه حاشى ابن دينار، واختلف في العصبة والموصى لهم بجزء والمشترين لسهم أهل السهم مثل أن يشتري جماعة ثمن الزوجات أو سدس الجدات أو ثلث الأخوة للأم وما أشبه ذلك والمشتري بحظ واحد من الورثة فقيل في كل طائفة منهم: إنهم أهل سهم واحد يتشافعون فيما بينهم دون الورثة وهو قول أشهب وأحد قولي مالك في العصبة وقيل: إنهم ليسوا كأهل سهم واحد فيدخل الورثة كلهم عليهم كانوا أهل سهم أو لم يكونوا أهل سهم، ولا يدخلون هم على أهل السهام إلا أن يبيع جميعهم أو يكونوا واحدا، وهو مذهب ابن القاسم، واختلف في الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، فقال ابن القاسم: إنهن كلهن أهل سهم واحد لاشتراكهن في الثلثين إن فضلتهن الأخت الشقيقة فإن باعت إحدى الأخوات للأب حظها دخلت فيه الأخت الشقيقة، وقال: إن الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة أهل سهم واحد في(12/87)
السدس فلا تدخل عليهن فيه الأخت الشقيقة، وقد مضى هذا المعنى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم وفي رسم مسائل بيوع من سماع أشهب وبالله التوفيق.
[مسألة: الشفعة على قدر الأنصباء]
مسألة يحيى حدثني ابن القاسم عن أبي الدراوري عن سفيان الثوري أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى بالشفعة على قدر الأنصباء.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أعلمه في المذهب أن الشفعة على قدر الأنصباء، والمخالف في ذلك أبو حنيفة يقول: إنها على عدد الرؤوس، والحجة لمالك ومن قال بقوله أن الشفعة لما كانت تجب بالملك وجب أن تكون على قدر الأملاك كالغلل، ولما كانت لدفع المضرة عن الأشراك وكانت المضرة عليهم على قدر حصصهم وجب أن تكون الشفعة التي تدفع الضرر عنهم على قدر حصصهم.
[مسألة: الشفعة في الماء إذا بيع مع الأرض]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: الشفعة في الماء الذي يقتسمه بينهم الأوراث بالأقلاد وإن لم يكونوا شركاء في الأرضين التي تسقى بتلك العيون أو الحوائط التي تسقى بتلك العيون، قال: وقال مالك: وأهل كل ولد يتشافعون فيما بينهم دون جماعة الورثة وشفعتهم في ذلك الماء يجري مجرى شفعتهم في الدور والأرضين فيما وصفنا من أمر العصبة والمشتري وأهل السهام المفروضة وما يدخل به(12/88)
بعضهم على بعض فيما فسرت لك في صدر هذه المسألة وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أعلمه في المذهب في إيجاب الشفعة في الماء إذا بيع مع الأرض أو دونها ولم يقسم الأرض، واختلف في إيجاب الشفعة فيه إذا قسمت الأرض فقال في المدونة: إنه لا شفعة فيه، وقال في هذه الرواية: إن فيه الشفعة، فذهب سحنون وابن لبابة إلى أن ذلك ليس باختلاف من القول، إلا أنهما اختلفا في تأويل الجمع بينهما، فقال سحنون: معنى مسألة المدونة أنها بئر واحد فلا شفعة فيها إذ لا تنقسم؛ لأن الشفعة تكون فيما ينقسم دون ما لا ينقسم، وقال ابن لبابة: معنى مسألة المدونة أنها بئر لا بناء لها ولا أرض، ومعنى رواية يحيى أن لها بناء وأرضا مشتركة يكون فيها القلد، وذهب القاضي أبو الوليد الباجي إلى أن ذلك اختلاف من القول، وأن الاختلاف في ذلك جار على الاختلاف في الشفعة فيما لا ينقسم كالنخلة والشجرة بين النفر، إذ لا تنقسم العين والبير كما لا تنقسم النخلة والشجرة، وكان من أدركت من الشيوخ يقول: إن ذلك اختلاف من القول، وإن الاختلاف في ذلك جار على اختلاف قول مالك فيما هو متعلق بالأرض ومتشبث بها كالنقض والنخل دون الأرض والكراء وما أشبه ذلك، وهو أبين وأولى وبالله التوفيق.
[: دار بين رجلين فباع أحدهما شيئا من الدار وصاحبه حاضر لا يغير ولا ينكر]
ومن كتاب أوله أول
عبد ابتاعه فهو حره قال: وسألته عن الرجل يشتري الأرض من الرجل، وهي فدان من أرض مشتركة أو بقعة لرجل فيها شرك فيشتري المشتري ذلك الفدان أو تلك البقعة بحضرة الشريك وعلمه فيبني فيها أو يغرس(12/89)
فيريد الشريك الذي لم يبع أن يأخذ حقه من تلك الأرض ويأخذ بقيتها بالشفعة، قال ابن القاسم: ليس في مثل هذا شفعة إنما الشفعة في أن يبيع الشريك جزءا من أجزاء الأرض المشترك أو الدار وبعض ما تكون الشفعة فيه، فيبيع نصف الدار أو ثلثها أو ربعها أو جزءا من أجزائها قل أو كثر، فإن الشريك حينئذ، يأخذ نصف ما باع بحقه والنصف بشفعته، وأما إذا باع فدانا بعينه أو بيتا من الدار بعينه بحضرة الشريك فلم ينكر عليه بيعه فسكوته عليه تجويز لبيعه والاشتراء للمشتري ماض ولا شفعة فيه، وإنما للشريك على شريكه البائع حصته من الثمن فقط، قال: وإنما مثل بيع الفدان من جملة الأرض أو البيت من جملة الدار بمنزلة بيع الثوب الذي يكون بين الشريكين بحضرة الشريك فإن سكت فذلك منه تجويز وإن أنكر لم يمض البيع عليه، قال سحنون: قال لي ابن القاسم في الأرض تكون بين الرجلين مشاعة غير مقسومة فيبيع أحدهما فدانا بعينه أو نصف فدان بعينه بحضرة صاحبه لا يغير ولا ينكر ثم أنكر بعد قال: البيع لازم ولا تكون له الشفعة من قبل أنه قد بيع نصيبه وهو حاضر. لا يغير ولا ينكر، وكذلك كل من يباع عليه شيء من قاله وهو حاضر لا يغير ولا ينكر فالبيع له لازم، وكذلك لو كانت دار بين رجلين فباع أحدهما شيئا من الدار وصاحبه حاضر لا يغير ولا ينكر لزمه البيع ولم يكن له أن يرد، وإذا باع ثلث الأرض أو ربع الأرض ولم يره أرضا بعينها لا ربعا أو ثلثا فالبيع جائز وللشريك الشفعة.
قال محمد بن رشد: قوله في أول هذه المسألة في الذي يشتري الفدان أو البقعة من الرجل من أرض بينه وبين شريكه بحضرته فيبني فيها أو يغرس فيريد الشريك الذي لم يبع أن يأخذ حظه من تلك الأرض وبقيتها بالشفعة أنه ليس في مثل هذا شفعة صحيح؛ لأنه إذا حضر بيع شريكه فلم(12/90)
ينكره وسكت حتى بنى المشتري أو غرس فقد لزمه ومضى عليه، فصار بمنزلة أن لو باعها جميعا فلم يكن في ذلك وجه للشفعة ولا إشكال في هذا، ولو حضر البيع فسكت ولم ينكره حتى انقضى أنكره في المجلس وقال: إنما صمت لأني علمت أن ذلك لا يلزمني لوجب أن يحلف أنه ما رضي ببيع نصيبه وتكون له الشفعة، ولو أنكر ذلك قبل انقضاء البيع لكانت له الشفعة دون يمين، ولو أنكر ذلك بعد انقضاء المجلس بالقرب لسقطت الشفعة ولم يكن له إلا الثمن إلا أن يدعي الشريك أن الأرض كلها صارت إليه منه بابتياع أو هبة أو مقاسمة فيكون القول في ذلك قوله مع يمينه؛ لأن حضوره البيع مع سكوته هذه المدة حيازة عليه، فقف على افتراق الأحكام في هذه الأربعة الأوجه، وجه تكون له الشفعة فيه دون يمين، ووجه تكون له الشفعة فيه بعد يمينه ووجه لا يكون له فيه إلا الثمن، ووجه يكون الثمن فيه للشريك البائع مع يمينه ولو لم يحضر البيع، وإنما علم به بعد وقوعه، فإن أنكره حين علم بقي على حقه في نصيبه من الأرض وكانت له الشفعة في حظ شريكه، وإن لن ينكره إلا بعد العام أو العامين أو الثلاثة لم يكن له إلا الثمن، وإن لم ينكره ولا قام إلا بعد العشرة الأعوام أو نحوها لم يكن له إلا الثمن إن ادعى شريكه البائع لحيازته إياه عليه بالبيع مع طول هذه المدة، وقد مضى هذا المعنى في غير ما موضع من هذا الديوان من ذلك في سماع سحنون من جامع البيوع وفي رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الأقضية وفي رسم يسلف في المتاع والحيوان من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، وفي سماع أشهب منه وفي رسم الكبش من سماع يحيى منه أيضا.
ووجه تفرقته بين أن يبيع أحد الشريكين طائفة بعينها من الأرض أو الدار المشتركة بينهما بحضرة شريكه وهو ساكت لا يغير ولا ينكر وبين أن يبيع جزءا منها على الإشاعة وهو حاضر لا يغير ولا ينكر في أنه لا شفعة في الطائفة المعينة وله الشفعة في الجزء الشائع هو أن البيع لازم له في حظه من الطائفة المعينة لحضوره وسكوته إذ لا عذر له في ذلك، وإذا لزمه البيع بطلت الشفعة(12/91)
ولا يلزمه البيع في حظه من الجزء الذي باع على الإشاعة بحضوره وسكوته لأن من حجته أن يقول: ظننت أن البيع يختص بحظه ولا يكون شائعا في حظي وحظه، فلا يلزمني منه شيء، وهي حجة ظاهرة لها وجه، إذ قد قيل ذلك وهو دليل قوله في كتاب العتق من المدونة وفي العبد بين الشريكين يحلف أحدهما بعتق نصيبه ألا يفعل شيئا فيبيع نصيبه ويشتري نصيب شريكه ثم يفعل ما حلف عليه أنه لا يحنث، فإذا لم يلزمه البيع في نصيبه وعذر في سكوته لهذه العلة وجبت له الشفعة؛ لأن من حقه أن يأخذ قدر حقه مما باع شريكة النصف إن كانت شركتهما على النصف بالاستحقاق، ويرجع المشتري على البائع بنصف الثمن يأخذ النصف الثاني بالشفعة بنصف الثمن، فهذا وجه الفرق بين المسألتين ولو قال الشريك البائع: أبيعك نصف حظي من هذه الدار ونصف حظ شريكي وشريكه حاضر ساكت لم تكن له شفعة، واشتركت المسألتان ويأتي على قول ابن القاسم في هذه المسألة وعلى ما في كتاب المرابحة من المدونة في الرجل يبتاع نصف السلعة ويرث نصفها أنه لا يجوز له أن يبيع نصفها مرابحة حتى يبين أن الدار أو العبد إذا كان بين الشريكين فباع أحدهما نصف الدار ونصف العبد أن البيع يقع على نصفه ونصف شريكه إلا أن يبين فيقول: أبيعك نصفي من هذه الدار أو من هذا العبد وعلى ما في كتاب العتق الأول في المسألة التي ذكرناها أن البيع يقع على حظه دون حظ شريكه إلا أن يبين فيقول: أبيعك نصف حظي ونصف حظ شريكي من هذا الدار أو من هذا العبد وبالله التوفيق.
[: المريض يبيع في مرضه بمحاباة لا يحملها ثلثه]
من سماع سحنون من ابن القاسم قال سحنون: سئل ابن القاسم عن الرجل يكون له شقص في دار ليس له غيره قيمته ثلاثون دينارا فيبيعه من رجل بعشرة دنانير وهو مريض، قال: ينظر في ذلك إذا مات البائع فيقال للمشتري: إن أحببت(12/92)
إن لم تجز الورثة هذه المحاباة برد عشرة أجزاء وخذ الدار ولا قول للورثة، فإن فعل فللشفيع إن كان له شفيع أن يأخذ الدار بعشرين دينارا فإن أبى المشتري أن يزيد عشرة دنانير وقد أبت الورثة أن يسلموا الدار إليه كما أوصى الميت قيل لهم: أعطوه ثلث الشقص بتلا بلا شيء يأخذونه منه، قلت لابن القاسم: لم أعطيتها للشفيع بعشرين دينارا إذا رضي المشتري أن يزيد عشرة على العشرة الأول التي أخذها الميت بعشرة؟ فلم لا تجعلها للمشتري وتقول للشفيع خذها بثلاثين؟ قال: لا؛ لأن الشراء إنما وقع بعشرين، ألا ترى لو أن رجلا باع شقصا له في دار بعشرين دينارا قيمته أربعون دينارا حاباه بعشرين فللشفيع أن يأخذ ذلك بعشرين وهو خلاف أن يبيع بأربعين، ثم يضع عشرين لأنه إذا باع بأربعين فقد وجب للشفيع بأربعين، فإذا حط البائع عن المشتري حطا يعلم في مثله الهبة، ليس مثل ما يتغابن الناس في مثله لم يوضع ذلك عن الشفيع، وإن حط حطا يعلم أن في مثله ما يتغابن الناس في مثله حط ذلك عن الشفيع، قلت لابن القاسم: أرأيت الموصى له بيع الدار إن رد الدار وأبى أن يزيد العشرة فأراد الورثة أن يخلوا له من ثلثها إذا أبوا أن يجيزوا الوصية أتكون فيه شفعة؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: اختلف في المريض يبيع في مرضه بمحاباة لا يحملها ثلثه على قولين، أحدهما أن الورثة إن لم يجيزوا البيع قطعوا له بثلث الميت بتلا من غير ثمن، وردوا إليه ما دفع من الثمن إلا أن يشاء المشتري أن يزيد ما حوبي به فينفذ البيع، وهو قوله في هذه الرواية، فإن كان المبيع شقصا مما فيه الشفعة فرضي المشتري بزيادة المحاباة كان للشفيع في ذلك الشفعة بالثمن الذي اشترى به مع الزيادة، هذا قوله في هذه الرواية إن الشفعة(12/93)
له بعشرين، وإن كانت قيمة الشقص ثلاثين وكذلك على قياس قوله لو أجاز الورثة البيع لكانت الشفعة له بعشرة، وإن كانت قيمته ثلاثين، وهذا كما قال، إذ لا أعرف نص خلاف في أن الثمن إذا عرف فللشفيع أن يأخذ به كان أقل من القيمة أو أكثر، وفي ذلك نظر إذا كانت القيمة أكثر من الثمن وتبينت في ذلك المحاباة؛ لأن القياس كان على قول ابن القاسم الذي لا يرى في الهبة الشفعة، ولا يكون له شفعة إلا في قدر ما لا محاباة فيه، ويسقط في قدر ما وقعت فيه المحاباة، وعلى قول ابن عبد الحكم عن مالك الذي يرى في الهبة الشفعة، أن لا يكون له شفعة إلا في قدر ما لا محاباة فيه، ويسقط في قدر ما وقعت فيه المحاباة بالقيمة.
فيتحصل على هذا فيمن باع شقصا بعشرة دنانير ثمنه ثلاثون دينارا ثلاثة أقوال، أحدها أن للشفيع الشفعة في جميع الشقص بعشرة والثاني أن له الشفعة قي ثلثه بعشرة وفي ثلثيه بالقيمة والقول الثاني أن الورثة إن لم يجيزوا البيع قطعوا له بثلث الميت بتلا وكان له من المبيع بقدر ما نفد ولم يرد ذلك إليه لأنه لا يكون سلفا جر منفعة إذا رد إليه رأس ماله وقطع له بثلث الدار إلا أن يشاء المشتري أن يزيد ما حوبي به فينفذ البيع، وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف، وإنما يرجع ذلك إلى المشتري بالخيار إن لم يجز الورثة له البيع أن يأخذ من المبيع بقدر ما نقد، وبين أن يسترده، وظاهر ما في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا أنه ليس للمشتري أن يزيد ما حاباه به الميت زائدا ويستخلص البيع، وقد مضى القول على هذا المعنى في سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس.
وقوله إذا باع بأربعين ثم حط عشرين إنه لا يوضع عن الشفيع معناه إذا كانت قيمة الشقص أكثر من العشرين الباقية مثل أن تكون قيمته ثلاثين لأنه إنما(12/94)
يتبين أن الحطيطة هبة بذلك وأما إن كانت قيمته عشرين أو أقل فإنه يوضع عنه؛ لأنه تبين بذلك أن حقيقة الثمن عشرون وإن تسميتهم الأربعين لغو قصدا بذكرها إلى إبطال الشفعة، وهذا بين من المدونة وبالله التوفيق.
[مسألة: الأناذر أفيها شفعة]
مسألة وسئل سحنون عن الأناذر أفيها شفعة؟ قال: لا تكون فيها شفعة، قال: وكذلك الأفنية لا شفعة فيها إذا بيعت والأناذز عندي مثل الأفنية.
قال محمد بن رشد: إنما لم يريد سحنون في الأناذر شفعة لأن من مذهبه أن الشفعة لا تكون إلا فيما يحكم بقسمته والأنذر عنده لا يحكم بقسمته لأنه لا ينقسم إلا بضرر لأنه إذا قسم بطل أن يكون أنذرا فلم ينتفع به في ذلك، فالشفعة فيها واجبة على من يرى قسمتها ولا يراعي الضرر على ذلك وهو مذهب مالك لقول الله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] وعلى مذهب من يرى الشفعة فيما لا يحكم بقسمته من الأصول إذا كان لا ينقسم إلا بضرر، وهو قول ابن القاسم في المدونة خلاف قوله في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب السداد والأنهار، وقد قيل: إن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم بحال كالنخلة والشجرة بين النفر لأنها من جنس ما ينقسم.
فيتحصل في ذلك في المذهب ثلاثة: أقوال أحدها أن الشفعة واجبة في(12/95)
الأصول كلها كانت مما ينقسم أو مما لا ينقسم، وهو مذهب مطرف، والثاني أنها لا تجب إلا فيما ينقسم ويحكم بقسمته، وهو قول ابن القاسم في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب السداد والأنهار، والثالث أنها تجب فيما ينقسم وإن كان لا يحكم بقسمته للضرر الواقع في ذلك، وقد مضى ذكره والاختلاف فيه في رسم المكاتب من الكتاب المذكور.
وأما قوله: وكذلك الأفنية لا شفعة فيها إذا بيعت فمعناه في الفناء المشترك بين القوم كساحة الدار بين الشركاء إذا اقتسموا البيوت لأن حكمها حكم الأناذر في القسمة لها وفي جواز البيع فيها وفي وجوب الانتفاع بجميعها لمن احتاج من الشركاء إليها دون من لم يحتج إليها منهم، وأما الأفنية المتصلة بطرق المسلمين فلا يجوز بيعها ولا اقتطاعها وإنما يجوز الانتفاع بها وكراؤها إذا لم يضر ذلك بالمارة في الطريق المتصلة بها والله الموفق.
[: الأنذر الذي يدرس فيه الزرع هل فيه شفعة]
من سماع عبد الملك بن الحسن
قال عبد الملك: وسألت عبد الله بن وهب عن الأنذر الذي يدرس فيه الزرع هل فيه شفعة؟ فإنه قد اختلف عندنا فيه وهل يحوز الأب على ابنه الصغير في حجره صدقة عليه بالأنذر أو لا يكون الأنذر للصغير بالصدقة حتى يبرأ منه كحال المسكن الذي يسكنه الأب حتى يموت عنه فلا يمضي صدقته فهل الأنذر بسبيل ذلك إذا كان الأب يدرس فيه حتى يموت، فقال: إن كنت إنما تعني نفقة الأنذر من الأرض فنعم فيه الشفعة لا شك فيه، وهو بمنزلة غيره من البقاع والأرضين بمنزلة عراص الدور المهدومة وغير المبنية.
وحوز الأب لابنه الصغير حوز إذا تصدق عليه وأعلن الصدقة وأظهرها بمنزلة غيرها من الأشياء والأرضين والمساكن إلا أن يكون(12/96)
الأب يعمل فيها لنفسه وماله بحال ما كان من الصدقة فلا أرى ذلك شيئا إن كان كذلك، وقال أشهب: الشفعة فيه كان أنذرا أو غير أنذر كان قليلا أو كثيرا إذا كان ملكا لهم.
وأما ما ذكرت من حوز الأب على ابنه الأنذر فإن ذلك ليس بحوز حتى يبرأ منه كحال المسكن إن درس فيه أو انتفع به الأب حتى مات فلا شيء للابن فيه.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب وأشهب في أن الشفعة يجب في الأنذر الذي يدرس فيه الزرع خلاف قول سحنون المتقدم قبل هذا في آخر سماعه، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك فلا معنى لإعادته، وأما قولهما في صدقة الأب به على ابنه الصغير إن ذلك بمنزلة الدار تبطل الصدقة به إن درس فيه بعد الصدقة كما كان يدرس فيه قبل الصدقة بمنزلة المسكن فهو خلاف مذهب ابن القاسم وما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ من أن ما عدا المسكون والملبوس لا يبطل صدقة الأب به على ابنه الصغير انتفاعه به بعد الصدقة وإن حرث الأرض واختدم العبيد وأكرى الحوانيت واغتل ماله غلة من الأصول، بخلاف ما سكن أو لبس، وقع بيان مذهب ابن القاسم في ذلك في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات، وحكاه ابن حبيب أيضا عنه من رواية أصبغ، جلوسه في الحانوت للتجر كسكناه الدار، بخلاف كرائه إياه، وقول ابن وهب وأشهب هذا مثل ظاهر ما حكى ابن حبيب في الواضحة من رواية مطرف عن مالك في تفسير قول عثمان بن عفان إن نحلة الأب لابنه الصغير جائزة إذا أشهد عليها وأعلن بها وإن وليها أن معنى ذلك أن يليها بالتثمير والتوفير، فعلى هذا لا فرق بين الملبوس والمسكون وما سواه من الأشياء تبطل الصدقة بانتفاع الأب به فيتفق في المسكون والملبوس ويختلف فيما عداه على هذين القولين، أحدهما أن الإشهاد والإعلان يكفي وإن انتفع الأب بذلك بعد الصدقة كما كان ينتفع به قبل الصدقة إلى أن مات كالمسكون(12/97)
والملبوس سواء، وفي المسألة قول ثالث وقع لأصبغ في نوازله من كتاب الصدقات والهبات أن الصدقة لا تبطل إذا كان الانتفاع ممزوجا مرة ينتفع الأب ومرة ينتفع الابن وبالله التوفيق.
[: اشترى نصف دار بمائة دينار ولؤلؤة ثم جاء الشفيع يريد أن يأخذ]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن رجل اشترى نصف دار بمائة دينار ولؤلؤة ثم جاء الشفيع يريد أن يأخذ، قال: يصف المشتري اللؤلؤة ويحلف على صفتها ثم تقوم إلا أن يشهد الذين باعوه أن قيمة اللؤلؤة كذا وكذا فيكون القول قول ما شهدوا به، فإن لم يعلموا قيمتها وفاتت ونكل المشتري عن صفتها وعن اليمين وصفها الشفيع وحلف على الصفة وكان القول قوله فإن لم يعلم الشفيع صفتها كانت له الدار بقيمتها نقدا.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة ونكل المشتري عن صفتها وعن اليمين معناه أنه قال: لا أعرف صفتها فلا أحلف فهاهنا يكون ما قال من أن الشفيع يحلف على ما يدعي من الصفة إن عرف صفتها، فإن لم يعرف صفتها كانت له الدار بقيمتها نقدا، وقوله كانت له الدار بقيمتها نقدا معناه كانت له الشفعة في الدار بقيمة نصفها نقدا يريد ما لم تكن القيمة أقل من المائة دينار فلا ينقص من المائة دينار، وقد قيل: إنه لا يمين عليه إذا أتى بما يشبه، وأما إن ادعيا جميعا معرفة صفتها ونكلا عن اليمين فالقول قول المشتري لأنه هو المبدأ باليمين على حكم المدعي والمدعى عليه إذا نكلا عن اليمين كان القول قول المدعى عليه، ولو حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف، وهذا إذا أتيا جميعا من صفتها بما يشبه، كان الشفيع أو المشتري فإن نكل عن اليمين كان القول قول الذي أتى منهما بما يشبه،(12/98)
لأنه هو المبدأ باليمين ولو أتيا جميعا من الصفة بما لا يشبه لوجب أن يحلفا جميعا فإن حلفا أو نكلا كانت له الشفعة بقيمة الحظ نقدا ما لم تكن أقل من المائة فلا ينقص من المائة، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما وإن أتى بما لا يشبه؛ لأن صاحبه قد أمكنه من دعواه بنكوله.
فالمسألة لا تخلو من أربعة أوجه أحدها أن يدعي كل واحد منهما من صفتها ما يشبه والثاني أن يدعي كل واحد منهما من صفتها ما لا يشبه والثالث أن يدعي أحدهما من صفتها ما يشبه والثاني ما لا يشبه والرابع ألا يدعي واحد منهما معرفة صفتها وفيما ذكرناه بيان الحكم في كل واحد منهما لمن تدبره وفهمه.
وفي قوله إلا أن يشهد الذين باعوا أن قيمة اللؤلؤة كذا وكذا فيكون القول ما شهدوا به نظر، إذ ليس على عمومه في كل موضع وإنما معناه في الموضع الذي تكون شهادتهم لا منفعة لهم فيها بل قد يضرهم فيما يرجع به عليهم إن استحق المبيع أو بعضه، وأما في الموضع الذي تكون شهادتهم فيه للشفيع على المشتري فلا يجوز لأنهم يتهمون على تقليل الثمن إن جاء استحقاق.
وقوله: إن المشتري يصف اللؤلؤة ابتداء ويحلف على صفتها أصح مما وقع من قوله في المدونة من أنه لا يقال للمشتري صف العرض الذي وقع به البيع إلا بعد أن يدعيا جميعا من قيمته ما لا يشبه، وظاهر قوله فيها أنه إذا ادعيا جميعا من قيمة ما لا يشبه كان القول قول المشتري فيما ادعاه من الصفة وإن لم يشبه، وذلك بعيد لا يصح أن يكون القول قول من أتى منهما بما لا يشبه إذا كذبه الآخر وادعى ما يشبه، وإنما يصح ذلك إذا لم يكذبه صاحبه وقال: لا أدري وبالله التوفيق.(12/99)
[مسألة: باع رجل بيتا فيه رحا فأراد الشفيع أن يأخذ ذلك بالشفعة]
مسألة وقال: ليس في رحا شفعة لا رحا الماء ولا رحا الدواب، وأما البيت الذي فيه الرحا وجدراته وسقفه وأرضه ففيه الشفعة، قال: ولو باع رجل بيتا فيه رحا فأراد الشفيع أن يأخذ ذلك بالشفعة فإنه يقوم البيت ويقوم الرحا بأداتها فيفض الثمن عليها، فما صار على البيت من القيمة من الثمن أخذ البيت بالشفعة بالذي يقع عليه من الثمن بالقيمة وهو بمنزلة ما لو باع رجل دابة ودارا فإنما يأخذ بالشفعة في الدار ولا شفعة في الدابة بمنزلة ما فسرت لك في الرحا.
قال محمد بن رشد: قوله أنه لا شفعة في الرحا إذا بيعت مع الأصل خلاف ما مضى من قوله في رسم العتق من سماع عيسى في رقيق الحائط يباعون مع الحائط، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته.
[مسألة: باع دارا بعشرة دنانير فباع المشتري مصراعي الدار بعشرة ثم جاء الشفيع]
مسألة قال ابن القاسم في رجل باع دارا بعشرة دنانير فباع المشتري مصراعي الدار بعشرة، ثم جاء الشفيع، فقال: يقوم المصرعان ويقوم الدار ثم يفض الثمن عليهما فما وقع على الدار من الثمن أخذها بالشفعة ولا شيء له في المصراعين لأنهما قد فاتا بالبيع.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة معلوم، ولفظه فيها فاسد معلول؛ لأنه قال: إنه باع الدار بعشرة دنانير فباع المشتري المصراعين بعشرة دنانير، ثم جاء الشفيع، وإذا بيعت الدار كلها فلا شفعة فيها فالمعنى الذي أراد والله أعلم أنه ابتاع الدار ثم أتى رجل فاستحق بعضها وأراد أخذ بقيتها بالشفعة، فقال: إنه يقوم المصراعان وتقوم الدار فيفض الثمن عليهما فما وقع على الدار من الثمن أخذها بالشفعة يريد أخذ منها الحظ المستشفع(12/100)
بما ينوبه من الثمن بالشفعة، وقوله: ولا شيء له في المصراعين لأنهما قد فاتا بالبيع، يريد لا شيء له فيما ناب الجزء المستحق منهما فللشفيع أن يأخذه بالاستحقاق لا اختلاف في ذلك، وإن شاء أن يجيز البيع ويأخذ الثمن فله ذلك، وهذا كله بَيِّنٌ وَالمِصراعان البابان.
وقوله: ولا شيء له في المصراعين لأنهما قد فاتا بالبيع خلافُ ما نص عليه في المدونة من أن نقض الدار إذَا هَدَمَهُ المشتري فباعه لا يفوت بالبيع وللشفيع أن يأخذ بالشفعة من يد مشتريه من المشتري، وهذا الاختلاف جَارٍ على اختلافهم في الشفعة هل يحكم لها بحكم البيع أو بحكم الاستحقاق؟ فعلى القول بأنه يحكم لها بحكم البيع تفوت الأنقاض بالبيع ويأخذ الشفيع البقعة بما ينوبها من الثمن، وعلى القول بأنه يحكم لها بحكم الاِستحقاق لا تفوت الأنقاض بالبيع ويأخذها الشفيع من يد المشتري بالشفعة ويرجع المشتري على الذي باعه إياها بالثمن الذي دفع إليه فيها، وإن شاء أن يجيز البيع ويأخذ الثمن كان ذلك له، وفي المدونة أيضاً ما يدل على فواتها بالبيع.
واختلف إذا فاتت إما بالبيع على هذه الرواية، وإما بفوات عينها بعد البيع على ما نص عليه في المدونة، فقيل في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها وهو قوله في المدونة وفي هذه الرواية إنه يأخذ البقعة بما ينوبها من الثمن، ووجه العمل في ذلك أن تقوم البقعة مهدومة والنقض مطروحاً بها يوم وقعت الصفقة، ثم ينظر ما يقع للنقض من الجميع، فإن كان الثلث مثل أن يكون قيمته مقلوعاً مطروحاً بالأرض مائة وقيمة البقعة مهدومة مائتين، قيل للشفيع إن: شئت أن تأخذ البقعة بالشفعة فخذها بثلثي الثمن كان أقل من قيمة البقعة أو أكثر إن كان الثمن ثلاثمائة وستين أخذها بالشفعة بمائتين وأربعين، وإن كان الثمن مائتين وأربعين أخذ الشفيع البقعة بالشفعة بمائة وستين، وهذا القول على قياس القول بأنه يحكم للأخذ بالشفعة بحكم البيع، والقول الثاني أنه يأخذ البقعة والثمن الذي باع به الأنقاض كان أقل من قيمته أو أكثر، ويؤدي جميع الثمن فإن كان(12/101)
ثمن الأنقاض من جنس الثمن الذي اشترى به المشتري النقض قَاصهُ منه بثمن النقض. ودفع إليه البقية، والقول الثالث أنه ليس للشفيع إِلَّا الأقل من قيمة النقض أو الثمن الذي بيع به، وهو اختيار محمد بن المواز، وهذان القولان على قياس القول بأنه يحكم للأخذ بالشفعة بحكم الاستحقاق، وقد رأيت لسحنون أنه قال في هذه المسألة: لمالك ثلاثة أقوال، وقد قِسْتُهَا فلم يعتدد عندي منها شيء، وأشهب يقول فيها أيضاً قولاً وفيها تنازع شديد، ولا أذكر في وقتي هذا قول أشهب، ويحتمل أن يريد سحنون أن النقض تفوت بالهدم، وهذا الذي يأتي في المسألة على حقيقة القياس بأن الأخذ بالشفعة بيع من البيوع وباللَّه التوفيق.
[مسألة: يشترون الثمرة في رؤوس النخيل فباع بعضهم قبل أن يقتسموها]
مسألة وسئل عن القوم يشترون الثمرة في رؤوس النخيل فباع بعضهم قبل أن يقتسموها هل لشركائه الشفعة أيضاً أم لا؟ أو يكونوا شركاء في الزرع فباع بعضُهم بعد ما حَلَّ بيعُ الزرع هل فيه شفعة؟ وفي المقاتي والبقول كلها أو ما تنبته الأرضُ هل فيه شفعة أو جَائِحَةٌ؟ . قال: قال مالك في الثمرة في النخل والعنب وما أشبهها من الأصول: لشركائه فيه شفعة إذا باع أحد منهم، والمساقاة كذلك، وقال لي مالك في الزرع: لا شفعة فيه، قال: وقال مالك: والجوائح توضع في هذه كلها الثلث فصاعداً إلَّا الزرع فإنه لا جائحة فيه وذلك أنه إنما يباع بعدما يَيْبَسُ.
قال محمد بن رشد: المشهور من الأقوال في الثمرة أن فيها الشفعة ما لم تَيْبَسْ وقد قيل: إن الشفعة فيها وإن يبست ما لم تُجَد حسبما ذكرناه في أول مسألة من سماع عيسى، والمشهور في الزرع أنه لا شفعة فيه، ويتخرج وجوبُ الشفعة فيه وإن يَبِس ما لم يحصد، وعلى قياس القول بوجوب الشفعة(12/102)
في الثمرة ما لم تجد، وهو ظاهر قوله في أول رسم من سماع أشهب إن الشفعة في الأرض وفي كل ما أنبتت الأرض.
وأما البقول فالمنصوص أنه لا شفعة فيها ويتخرج وجوب الشفعة، فيها أيضاً على قياس القول بوجوب الشفعة في الثمرة ما لم تجد وفي الزرع ما لم يُحصد وعلى ظاهر ما في سماع أشهب أيضاً من قوله: إن الشفعة في الأرض وفي كل ما أنبتت الأرض، وقد مضى قولنا في آخر أول رسم من سماع أشهب وفي أول رسم من سماع عيسى ما فيه بيان لهذا.
وأما الجائحة فلا اختلاف في وجوب وَضْعِهَا في البيع إذا بيعت بعد أن أزهت وقبل أن تَيْبَسَ أو يَحِينَ جَدَادُهَا واختلف في وجوب وضعها في الشفعة على الاختلاف في الآخذ بالشفعة هل يحكم له بحكم البيع أو بِحكم الاِستحقاق حسبما مضى القول فيه في أول رسم من سماع عيسى، واختلف في وجوب وضعها في البيع إذا بيعت وأجيحَتْ بعد أن يبست وَحَانَ جَدَادُهَا واختلف على القَوْل بأنها توضع في البيع هل توضع في الشفعة أم لا؟ . على الاختلاف الذي ذكرناه في الآخذ بالشفعة هل يحكم له بحكم البيع أو بحكم الاستحقاق.
وحكمُ البقول في وجوب وضع الجائحة فيها في البيع حكمُ الزرع إذ لا يباع حتى يَيْبَسَ ويمكن حصاده، وحكمُ الثمرة إذا بيعت وأجِيحَتْ بعد تناهي طيبها وإمكان جدادها قيل: إنها توضع وقيل: إنها لا توضع، وفي البقول قولٌ ثالث: إنه يوضع فيها القليلُ والكثيرُ، واختلف أيضاً على القول بأنها توضع في البيع هل توضع في الشفعة أم لا على الاِختلاف الذي ذكرناه في الآخذ بالشفعة هل يحكم له بحكم البيع أو بحكم الاستحقاق وباللَّه التوفيق.
[مسألة: الغائب إذا كان له شفعة فقدم من سفره]
مسألة وقال أشهب في الغائب إذا كان له شفعة فقدم من سفره: إن له(12/103)
أجل سنة من حين يقدم في آخرها وكذلك الصغير أيضاً له سنة من يوم يبلغ.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يعتبر بمدة مغيب الشفيع ولا بمدة صغره وبلوغه ومِلْكِه أمرَ نفسه إذا كان صغيراً أو مولى عليه، وقد مضى الاِختلاف في حد المدة التي تنقطع فيها شفعة الحاضر المالك لنفسه في رسم البز من سماع ابن القاسم فلا معنى لِإعادته وباللَّه التوفيق.
[مسألة: الشفعة متى حد انقطاعها للحاضر]
مسألة قال أصبغ بن الفرج: سئل أشهبُ عن الشفعة متى حَدُّ انقطاعها للحاضر؟ فقال: إذا كان مشتريها يعالج فيها شيئاً هدماً أو مرمة أو ما أشبه ذلك فلا أراها إلا وستنقطع قبلَ السنة، وإن لم يكن كذلك فسنة، قال أصبغ: ما أحسنها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم البز من سماع ابن القاسم فلا معنى لِإعادته وباللَّه التوفيق.
[مسألة: البقول هل فيها شفعة]
مسألة قال أبو زيد: وقال ابن القاسم في البقول: لا أرى فيها شفعة والمقاتي فإني أراها بمنزلة الأصول فيها الشفعة لأنها ثمرة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها قبل هذا فلا معنى لِإعادة شيء من ذلك وباللَّه التوفيق.
تم كتاب الشفعة من البيان والتحصيل بحمد اللَّه تعالى وحسن عونه وصلى اللَه وسلم على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.(12/104)
[: قسم حوائط النخل]
[كتاب القسمة والشفعة]
مِن سَمَاع ابنِ القَاسم مِن مَالِك
روَايَة سَحْنُون مِن كِتَاب حَلَفَ
لَيَرْفَعن أَمْراً إلى السُّلْطَانِ
قال سحنون: أخبرني ابنُ القاسم عن مالك أنه قال في رجل هلك وترك نخلًا وترك عرقاً نحواً من خمسين عرقاً بخيبر ونحوها بواد القرى ومن ناحية الفرع ومن وراء المدينة إلى مكة نحو ذلك وفي ناحية الفرع مثلُ ذلك، وَيَقْسِمُ وَرَثَتُهُ على ثلاثة وعشرين سهماً، فقالوا: اقسموا كل أعرق على ناحيةٍ.
قال مالك: لا أرى ذلك لهم، كيف يأخذون نخلةً نخلةً؟! ورأى هذا وَجْهَ ضرورة، ولكن يُقسم ما بخيبر وواد القرى ومن ناحية الفرع، ويعدل في القسمة، وما كان من ناحية الفرع مثل ذلك، وما شابه وادي القرى وخيبر ثم يُقَوَّمُ ذلك ويقتسمونه، وتضم النواحي بعضها إلى بعض خيبر إلى واد القرى والفرع إلى ما كان من(12/105)
ناحيتها ولم يَرَهُ مثل القطع التي وصفتُ لك قبل ذلك.
قال محمد بن رشد: الحكمُ في قسم حَوَائِطِ النخل كالحكم في قسم الأرضين ما جاز من هذا قسمه بالسهمة جاز من هذا، وما لم يجز من هذا لم يجز من هذا، فإذا كانت الحوائط في موضع أو كانت قريبة بعضها من بعض مع استوائها في القرب من الحاضرة التي تعمر منها أو تشابهها في ذلك قسمت قسماً واحداً بالسهمة، وإن كان بعضها أقرب إلى الحاضرة بِيَسِيرٍ تخرج ذلك عندي على اختلافهم في جواز قسم الأرض بالسهمة إذا كان بعضها أكرم وأطيب من بعض؛ لأنها تتفق بالقرب كما تتفق بالكرم، فتختلف لذلك قيمتُها، وَحَد اليسير في ذلك الميل والميلان ونحو ذلك، وكذلك يختلف أيضاً في جواز قسمتها بالسهمة إذا بَعُدَ بعضها من بعض وهي على حد واحد في القرب من الحاضرة؛ لأن الأغراض تختلف في ذلك فتقسم قسماً واحداً على ما في كتاب القسمة من المدونة في الدارين أنها تقسم قسماً واحداً إذا استوت في النفاق وإن تباعدت في الموضع، ويأتي على ما في رسمِ الأقضية من سماع أشهب من هذا الكتاب في قسمة الدور أنها لا تقسم قسما واحدا إلا على التراضي، وأما إن كان بعضها أقرب إلى الحاضرة بكثير فلا تقسم قسماً واحداً بالسهمة لأنها لكثرة تباينها في القيمة كالصنفين، فقول مالك في هذه الرواية في الذي هلك وترك خمسين عرقاً بخيبر وخمسين عرقا بوادي القرى وخمسين في ناحية الفرع ويقسم ورثته على ثلاثة وعشرين سهماً لأن النواحي يضم بعضها إلى بعض فتقسم قسماً واحداً ولا يقسم نخل كل ناحية على حدة لأنه ضرر من أجل أنه لا يصير لكل واحد منهم إن قسموا كل عرق على حدة إلا نخلة نخلة، يريد إن دَعَا إلى ذلك بعضُ الأشراك لأن معنى قوله فقالوا: اقسموا كل أعرق على حدة أي فقال بعضهم ذلك إذ لو قال ذلك جميعُهم واتفقوا عليه لجاز على التراضي ولم يكن فيه كلام، فقول مالك في هذه المسألة يأتي مثل قول عيسى بن دينار في رسم حَمَلَ صبيا على دابة من(12/106)
سماع عيسى في الأرض الكريمة والدنِيّة: إن الكريمة تقسم على حدة والدنية على حدة وإن كانت كل واحدة منهما تحتمل أن تقسم على حدة.
ويأتي في المسألة ثلاثةُ أقوال: أحدها أنها لا تقسم إلا على حدة، فإن لم تقسم على حدة بيعت على حدة وقسم الثمن بينهم إلا أن يتفقوا على قسمتها على التراضي بغير سهمه والثاني أنها تجمع في القسم وإن كانت تحتمل أن تقسم كل واحدة منهما على حدة والثالث الفرق بين أن تحتمل أن تقسم كل واحدة منهما على حدة أو لا تحتمل وهو قولُ مالك في هذه الرواية وقولُ عيسى بن دينارِ الذي ذكرته في مسألة الأرض الكريمة والدنية، وقول مالك في آخر المسألة وَلَمْ يره مثل القطع التي وصفت لك قبل ذلك يريد والله أعلم ولم يَرَ هذه الأعراق اليسيرة في كل ناحية التي لا تنقسم على سهام الورثة كالقطع الكثيرة التي تنقسم عليها.
ويتخرج في صفة قسمها بالسهمة فيما يقسم منها بالسهمة ثلاثة أقوال أحدها أنها تقسم قسماً واحداً من حيث تنتهي إليه سهامهم التي تنقسم منها وإن كان سهمُ أقلهم نصيباً ينتهي إلى عشرة أسهم أو أكثر، ثم يقرع بينهم إما على طرف بعد طرف، وإما على طرفين بعد طرفين فمن خرج سهمه على طرف ضم إليه بقية حقه منه وهو مذهب ابن القاسم في المدونة والثاني أنها تقسم على سهم أقلهم نصيباً فيسهم له على طرفين، فيأخذ سهمه حيث خرج له، ثم يقسم الباقي أيضاً على من بقي على سهم أقلِّهم نصيباً مما بقي إلى آخرهم، وهو الذي يأتي على قول مالك في المدونة، وذلك يتبين بالتنزيل، مثال ذلك أن تموت امرأة وتترك زوجاً وأماً وابناً وابنة فللأم السدس، وللابنة السدس وسدس السدس وللزوج السدس ونصف السدس وهو الربع، وللِابن السدسان وثلث السدس وهي تنقسم من ستة وثلاثين سهماً، وترك أربعة حوائط تنقسم الحوائط الأربعة على مذهب ابن القاسم ستة وثلاثين قسماً ثم يقرع بينهم إما على طرف بعد طرف وإما على الطرفين فمن خرج سهمه في(12/107)
طرف ضم إليه بقية حظه فيه وتنقسم الحوائط على مذهب مالك أَولا أسداساً لأن سهم الأم أقل الأنصباء، فتأخذ سدسها في طرف من الأطراف بالسهمة، ثم تخلف الخمسة الأقسام الباقية فتقسم ثلاثين نصيباً، تأخذ الاِبنة منها سبعة أنصباء بالقرعة؛ لأن حقها من الثلاثين الباقية بعد نصيب الأم سبعة، ويأخذ الزوجِ منها تسعة أجزاء بالقرعة لأن حقه منها تسعة ويأخذ الاِبن منها أربعة عشر جزءا منها لأن حقه منها أربعة عشر جزءا، والقول الثالث ذهب إليه ابن حبيب وهو أن تقوم الحوائط كلها حائطا حائطا فيعرف حق كان وارث من جملة القيمة، ثم يسهم بينهم، فمن خرج سهمه على حائط منها وفي قيمته وفاءٌ من حقه أخذه ولم يكن له سواه ومن خرج سهمه على حائط منها وقيمته أكثر من حقه كان له منه بقدر حقه، ومن خرج سهمُه على حائط وقيمته أقل من حقه كان له جميعه وأَكْمِل له بقية حقه في أقرب الحوائط إليه مثَال ذلك أن يكون قيمة أحد الحوائط ستة، والثاني تسعة، والثالث سبعة، والربع أربعة عشر، فإن خرج سهم الأم على الحائط الذي قيمته ستة، وسهم الزوج على الحائط الذي قيمته تسعة، وسهم الاِبنة على الحائط الذي قيمته سبعة وسهم الِابن على الحائط الذي قيمته أربعة عشر انفصلوا وانفرد كل واحد منهم بالحائط الذي خرج إليه بالسهم، وإن خرج سهم الزوج على الحائط الذي قيمته ستة أخذه وبقية حقه من أقرب الحوائط إليه، فإن كان أقرب الحوائط إليه الحائط الذي قوم بستة كان له نصفه وإن كان أقرب الحوائط إليه الحائط الذي قوم بتسعة كان له منه ثلثه وإن كان أقرب الحوائط إليه الحائط الذي قوم بسبعة كان له منه ثلاثة أسباعه، وإن كان أقرب الحوائط إليه الحائط الذي قوم بأربعة عشر، كان له منه سبعة ونصف سبعة ثم يضرب لمن بقي من الورثة بالسهام على ما بقي من الحوائط فإن خرج سهم الأم على الحائط الذي قيمته تسعة كان لها منه ثلثاه مع الزوج إن كان أخذ منه ثلثه أو مع من يخرج له السهم عليه بعد ذلك إن كان لم يأخذ الزوج منه شيئاً، فإن خرج سهمها على الحائط الذي قيمته سبعة كان لها ستة أسباعه مع من يخرج له السهم عليه بعد ذلك إن(12/108)
كان لم يأخذ الزوج منه شيئاً، وإن كان الزوج قد أخذ منه ثلاثة أسباعه كان لها بقيته وبقية حقها من أقرب الحوائط إليه على ما تقدم إلى أن ينقضي الاستهام بينهم في ذلك، وهو قول بعيد في النظر؛ لأن الأمر قد يؤول بينهم على القول إلى ألا ينفصل جميعهم عن الشركة أو إلى ألاَّ ينفصل عنها واحد منهم، وَقَوْلُ مالك في تكرير القسمة مرة بعد أخرى تعب وعناء، فقول ابن القاسم أصح في النظر وأولى والله الموفق.
[مسألة: جعل الذين يحبسون مع القاضي ويقتسمون الدور في جعائلهم]
مسألة وسئل مالك عن جُعْل الذين يحبسون مع القاضي ويقتسمون الدور في جَعَائِلهم فكرهه، وضرب لذلك وجها وقال قد كان خارجة ابن زيد ومجاهدٌ يقسمان ولا يأخذان شيئاً يعني مع القضاء، قال ابن القاسم: وذلك رأي وأرى أن ينظر الوالي في ذلك إلى رجل ممن يحتاج الناس إليه في ذلك فَيُجْرِي عليه عطاءً مع الناس كما يُجريه على الغزاة ومن يحتاج إليه في أمر المسلمين ويحبسه عليهم مثل القاضي وشبهه.
قال محمد بن رشد: هذا مثلُ ما في المدونة من كراهية أَرْزاق قسام القاضي، ووجه الكراهية في ذلك أن القاضي هو الحاكم بذلك على اليَتِيم باجتهاده فلعله لو كان مالكاً لأمره واحْتاج إلى القسمة لَوَجَدَ من يستأجره على ذلك بأقل مما جعله القاضي عليه، وكذلك إذا تحاكم عليه القوم واختصموا عنده في القسمة فقضي بها بينهم وأمر القاسمَ بذلك وجعل له الأجرة عليهم باجتهاده يكره له أخذُ ذلك إذ لعلهم لا يرضون بذلك المقدار الذي جعله له علمهم، وإن رضي بذلك المحكومُ له لا يرضي به المحكوم عليه، ولعلهم لا يرضون به قاسماً بينهم، وكذلك قال مالك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الأقضية لمن سأله في هذا المعنى من القضاء: وليكن من(12/109)
شَأْنِكَ أن تدعو الورثة فتأمرهم يرتضون رجلًا، فإذا ارتضوه وَلَّيْتَه أمرهم يحسب بينهم، فإني قد رأيت بعض من عندنا يفعل ذلك، فهذا كله بَيِّن في أن الأولى والأحسن لِقُسَّام القاضي أن يتنزهوا ويتورعوا عن أخذ الجعل على ما يأمرهم به القاضي من القسمة؛ كما كان يفعل خارجة بن زيد ومجاهد، ومن هذا المعنى جعل الشرط على الناس فيما يبعثون فيه من أمرهم، وقد مضى ذلك في رسم طلق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وأما إذا استأجر القومُ قاسماً يقسم بينهم فلا كراهية في ذلك، وكذلك قال في المدونة. وكذلك أيضاً لا يكره أخذُ ما جعله له الإِمام من بيت المال على ذلك؛ لأن هذا وشبهه مما يحتاج إليه المسلمون ويعمهم نفعه فعلى الإمام أن يرزقهم من بيت مالهم، وبالله التوفيق.
[: اشترى ثلاثة أخماس من حائط واشترى الآخر خمسين واختلفا في القسمة]
ومن كتاب أوله باع غلاماً وسئل عن رجل اشترى ثلاثة أخماس من حائط، واشترى الآخر خُمُسَيْنِ ثم إن أحدهما دعا صاحبَه إلى القسم فأبى قال: تعال أقاومك فيتقاومان نخلة نخلة فدخلت عليهما وضيعة، قال مالك: الوضعية بينهما إنما لو باعها من رجل آخر يَتَردَّانِ النقصانَ بينهما ويجمعان الثمن ثم يترادان بعد ذلك النقصان.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله من أن الوضعية بينهما أخماساً كما كان يكون الربح بينهما لو ربحا في ذلك. مثال ذلك أن يشتري أحدهما ثلاثة أخماس الحائط بثلاثين ويشتري الآخر خمسيه بعشرين، فيتقاومان الحائط صاحب الثلاثة الأخماس على صاحب الخُمسين بأربعة دنانير؛ لأن الواجب لصاحب الثلاثة الأخماس من جميع الثمن وهو أربعون ثلاثة أخماسه وهو أربعة وعشرون عنده من ذلك عشرون، بقيت له على صاحبه(12/110)
أربعة يرجع بها عليه كما لو باعا جميعاً الحائط من أجنبي بأربعين لوجب لصاحب الثلاثة الأخماس منها أَرْبعة وعشرون ولصاحب الخمسين ستة عشر.
[: الغائب يأتي إلى شريك له فيقول له تعال أقاسمك فيقول قد قاسمتك]
ومن كتاب المحرم
يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن الرجل الغائب يأتي إلى شريك له فيقول له: تعال أقاسمك فيقول: قد قاسمتك، وهذه ناحيتي التي أسكن فيها، وهذه ناحيتك، ويقول الآخر: ما قاسمتك شيئاً، على من ترى البينة؟ قال: إن أولاهما بالبينة الذي يقول قد قاسمتك.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال لقوله النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» والذي يدعي القسمة مدع فعليه إقامة البينة إلا أن يَحُوز عليه في وجهه تلك الناحية مدة تكون فيها الحيازة عاملة فيكون القولُ قولَه فيما ادعاه من القسمة مع يمينه، وقد مضى الاِختلاف في قدرها وتحصيل القول في ذلك بين الأجنبيين وغيرهم في رسم يسلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاِستحقاق.
[مسألة: يرثان الدار فيقع لأحدهما مواريث بعضها بعد بعض فيريدان القسم]
مسألة وسئل عن الرجل والمرأة يرثان الدَّار فيقع لأحدهما مواريث بعضها بعد بعض فيُرِيدَانِ القسم أترى أن يجمع له حظه كله في قسم واحد أم يقسم على ما ورثا؟ قال: بل يجمع حظه كله في قسم واحد كل ما ورث من ذلك المورث بعد المورث أو اشتراه في قسم واحد ولا يَجْمَعُ من يَقْسِمُ منهم لرجلين يقسم كل واحد منهما حقه، قال ابن القاسم: يريد أَلَّا يجمع لاثنين من الورثة سهمهما في(12/111)
موضع واحد ويقسم لكل واحد منهما حقه على حدة.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله: إن القسمة لا تكون إلَّا على ما انتهى إليه حظه بالمواريث والأشرية، وإن كان ذلك شيئاً بعد شيء، إذْ لا يصح أن يقسم له بعض حقه ويبقى شريكاً ببعضه إلا مع اتفاقهما على ذلك، وذلك بيّن إذا كانت الدراهم تنقسم على ما انتهى إليه حقه فيها وقد كانت تقسم على ماله فيها ولا يشبه أن يكون من حقه أن يقسم له حقه الأول منها إذا كان الزائد بميراث؛ لأنه يقول: قد وجب لي القسمة فليس الميراثُ الذي وجب لي بالذي يُسقط حقي في القسمة وألا يكون ذلك من حقه إذا كان بشراء أو هبة بعدها.
وأما قوله: إنه لا يجمع حظ اثنين في القسم فهو قوله في المدونة، ومعناه إذا لم يكونوا أهل سهم واحد مثل الزوجات والبنات والجدات والأخوات والإِخوة للأم؛ لأن أهل السهم الواحد يجمع حظهم في القسمة، وأما غير أهل السهم الواحد لا يجمع حظهم في القسم يريد بالسهمة؛ لأنه غرر، وأما في القسم على المراضاة بغير سهمه فذلك جائز وبالله التوفيق.
[: ورثوا أرضين مفترقة فأراد بعضهم أن يجعل نصيبه في موضع وأبى الآخرون]
ومن كتاب يسلف في
المتاع والحيوان المضمون سئل مالك عن قوم ورثوا أرضين مفترقة فأراد بعضهم أن يجعل نصيبه في موضع وأبى الآخرون أن يفعلوا ذلك، وقالوا: نقطع نصيبك من كل أرض، قال مالك: إن كانت الأرضون متقاربة، وكانت كلها بنضح أو بعين كلها، رأيت أن يجمع له نصيبه في موضع واحد، وإن كانت متباعدة بعضها من بعض في مثل قرى مختلفة رأيت أن يُعْطى نصيبَه من كل أرض، ومعنى قوله أن يجمع ما يسقى(12/112)
بالعين إن كانت الأرضون متقاربة وأن يجمع ما يسقى بالنضح إن كانت الأرضون متقاربة ولا يجمع بين النضح والعين في القسم، وإن لم تتقارب لم يجمع له نصيبه وإن كانت بنضح كلها.
قال محمد بن رشد: قد مضى في أول مسألة من السماع تحصيلُ القول في البُعد من القرب المانع من الجمع في القسمة، فلا معنى لإِعادته، ونص في هذه الرواية على أنه لا يجمع النضح مع السقي بالعين ولم ينص فيها هل يجمع ما يسقى بالعين مع البَعِل أم لا؟ وظاهرها أنها لا تجمع مثل ما في الواضحة وسماع أشهب منصوص عليه، خلافُ ما في الموطأ من أن البعل يقسم مع العين إذا كان يشبهها، وأما النضح فلا يقسم مع البعِل ولا مع العين قولًا واحداً على ما نص عليه في هذه الرواية، وفي الموطأ وفي الواضحة، واختلف إذا كانت كلها بعلاً أو تسقى بعين أو بنضح وبعضها أفضل من بعض على ما سيأتي القولُ فيه في رسم حمل صبيا من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[: الأرض فيها النخل بعضها أقرب من بعض بين أشراك فأرادوا القسمة]
من سماع أشهب وابن نافع
من مالك روايةَ سحنون قال أشهب وابنُ نافع: سألنا مالكاً عن الأرض فيها النخل بعضها أقرب من بعض من الماء، وهي بين أشراك فأرادوا القسمة، قال: يقسم بالقيمة فيفضل ما كان قرب الماء؛ لأنه ربما بعد النخل من الماء وقل الماء فلم يشرب الماء من النخل إلا ما قرب، تكون هذه التي هي أقرب إلى الماء مائة نخلة، والتي على أثرها، خمسين ومائة، والتي خلفها ثلاثمائة يقسم ذلك بالقيمة.
قال محمد بن رشد: هذا على الاختلاف في جمع الأرض في القسمة إذا كان بعضها أفضل من بعض وسيأتي ذلك في رسم حمل صبيا من(12/113)
سماع عيسى بعد هذا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: الإِخوة للأم يرثون الثلث فيقول أحدهم اقسموا لي حصتي على حدة]
ومن كتاب أوله مسائل بيوع قال: وسألته عن الإِخوة للأم يرثون الثلثَ فيقول أحدهم: اقسموا لي حصتي على حدة ولا تضموني إلى إخوتي، قال: ليس ذلك له حتى يقسم له ولإخوته جميعاً الثلث، ثم يقاسمهم بَعْدُ إن شاء، وكذلك أزواج الميت يرثن الربع أو الثمن فتقول إحداهن: اقسموا لي حصتي فتقع حصة هذه هاهنا وحصة هذه هاهنا فلا أرى ذلك لهن حتى يقتسم لهن جميعاً، فيقتسمن بعد أن يقسم لهن جميعاً إن شئن، وكذلك العصبة الإِخوة وغيرهم يقول بعضهم: اقسموا لي حصتي فليس ذلك لهم حتى يقسم للإِخوة للأم حصتهم وللأزواج حصتهن ثم يقسم العصبة ما صار لهم إن شاؤوا.
قال محمد بن رشد: أما أهل السهم الواحد وهم الزوجات والبنات والأخوات والجدات والإِخوة للأم والموصى لهم بالثلث فلا اختلاف أحفظه أنه يجمع حظهم في القسمة بالسهمة شاؤوا أو أبوا؛ لأنهم بمنزلة الواحد.
وأما العصبة فاختلف على ثلاثة أقوال أحدها أنهم كأهل السهم الواحد يقسم لهم بحقهم معاً ثم يقتسمون بَعْدُ إن شاؤوا وهو قوله في هذه الرواية وإليه ذهب ابن حبيب في الواضحة، والثاني أنهم ليسوا كأهل سهم واحد فلا يجمع حظهم في القسمة بالسهمة وإن رضوا، وأراه قول المغيرة، ويحتمل أن يكون ذهب إليه سحنون، ولذلك طرح من كتاب القسمة من المدونة جملة المسألة التي وقع من قول ابن القاسم في آخرها متصلا بقول مالك فيها، وقد قال لي مالك: ما أخبرتك أنه لا يجمع نصيب رجلين في القسم، وهذا في أهل الميراث كلهم غيرها ولاء، وهذا تفسير مِنِّي عن قول مالك، والثالث أنه لا(12/114)
يجمع حظهم في القسم بالسهمة إلا ولا يريدوا أن يقتسموا، وإلى هذا ذهب ابن القاسم في المدونة؛ لأنه فسر قول مالك فيها فيمن ترك زوجة وعصبة وترك أرضاً: إِن المرأة يضرب لها بحقها في أحد الطرفين، فقال معناه عندي إذا كان العصبة واحدا أو عدداً لا يريدون القسمة، وقد اختلف في تأويل قول مالك: إِن المرأة يضرب لها بحقها مع العصبة في أحد الطرفين فقيل: إنه يضرب لها في أحد الطرفين مع الورثة من كانوا ثم يقتسمون بَعْدُ إن أحبوا وهو ظاهر قول مالك في المدونة ورواية ابن الماجشون عن مالك، وقيل: إن ذلك مع العصبة بخاصة إذا لم يريدوا أن يقتسموا وبالله التوفيق.
[: المرأة يموت زوجها أيقتسم ماله قبل أن يستبرأ رحمها]
ومن كتاب الأقضية الثالث قال: وسئل عن المرأة يموت زوجها أيقتسم ماله قبل أن يستبرأ رحمها؟ فقال: إن كانت حاملًا لم يقتسم الميراث حتى تضع، قيل له: إنما مَاتَ زوجها ولم يعلم أنها حامل أيؤخر الميراث حتى يستبرأ رحمها بحيضة فقال: ما سمعت بهذا ولكن إن كانت حاملًا أُخِّرَ الميراث ولم يقسم حتى تضع ما في بطنها ثم سُئل بعد ذلك؛ فقيل له أيضاً: توفي وله امرأة قد أَبْطَأَتْ عنها حيضتُها أيُقتسم ميراثه حتى تحيض؟ فقال: لا يُقتَسَم ميراثه ولا يعجل فيه حتى يتبين من حملها فقيل له: حتى يستبرأ، فقال: ليس حتى يستبرأ، ولكن لا يعجل في قسم ميراثه حتى ينظر في ذلك من أمرها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في رسم العتق من هذا السماع من كتاب العتق أن الميراث لا يقتسم حتى توضع الحمل، فإن قال الورثة: نحن نجعل الحمل ذكراً ونعزل له ميراثه لم يكن ذلك لهم، قال أصبغ: فإن فعلوا فسخت القسمة ووقف جميعُ المال فإن غُصِبَ سهمُ الورثة يريد في أيديهم بعد(12/115)
أن أخذوه قبل أن تفسخ القسمة ويوقف المال ووُلِدَ المولود أُعطي نصيبه ومضى الضمان عليهم، وإن تلف سهم المولود وسلم سهمهم أُعطي سهمه مما بأيديهم وابتدئت القسمة فيه لا من الجميع، هذا قولُ أصبغ إلا ما زدْته فيه على سبيل البيان والتفسير، ولو تلف الجميع سهم المولود الذي وقف له وَسِهَامُهم التي أخذوها بأيديهم لوجب أن يرجع عليهم بحظه مما تلف بأيديهم لأنهم تعدوا بأخذه لا بحظه من الجميع؛ لأنهم فعلوا في توقيف حظه ما وجب إذ كان الواجب أن يوقف الجميع، وكذلك إن كان له ولد فقالت امرأته: عجلوا لي الثمن لأنه لي واجب وضعتُ ذكراً أو أنثى أو أنفش الحمل أو لم تضع شيئاً لم يكن ذلك لها، قال مالك في المبسوطة: فإن جهلوا ذلك فأعطوها ميراثها ثم تلف المال بعد ذلك أو هلك أو نقص لم أر أن يرجعوا عليها بشيء مما أعطوها، قال ابن القاسم مفسراً لِقول مالك: أما من قاسمها فلا يرجع عليها بشيء، وأما الحمل فإنه يرجع على من كان من الورثة مَلِيّاً فيقاسمهم ما في أيديهم ويتبع هو وهم المُعدمين.
قيل له: فما فرق بين ذلك وبين الورثة إذا اقتسموا ثم طرأ ولد لم يرجع ذلك الولد على الأملياء دون المعدمين، لكن يرجع على المليء والمعدم بقدر ما صار في يديه من مصابته؟ فقال: فرق ما بينهما لِأن الذين اقتسموا المال قبل أن يوضع الحمل صنعوا ما لا يجوز لهم، وإن الذين اقتسموا المال وله ولد لم يعلموا به صنعوا ما كان يجوز لهم، فهذا فرق بينهما، وأراه قولَ مالك، قال ابن القاسم: فإن أعتق أحدُ الورثة رأساً من رقيق الميت قبل أن يوضع الحمل قُوِّمَ عليه فعتق عليه كله، ومعنى ذلك عندي إذا كان يرث مع الحمل ولم يكن الحمل يَحْجُبُه، واللَّه أعلم.
واختلف إذا أوصى بوصايا وله حمل، فقيل: إنها لا ننفذ الوصايا وينظر الحمل، وهو قول مالك في رسم البز من سماع ابن(12/116)
القاسم من كتاب الوصايا، وقولُهُ أيضاً في رواية ابن أبي أويس عنه، وقولُ محمد بن مسلمة، قال: لِأنَّ ما يهلك يهلك من رأس المال وما زاد زاد من رأس المال، فيكون الموصى له قد استوفى وصيته على غير ما ورث الورثة، وروى ابن نافع عن مالك في المبسوط أن الوصايا تُنَفَّذُ ويؤخر الورثةُ القسمةَ حتى تضع المرأة، وهو قول أشهب في بعض روايات العتبية من رسم البز من الكتاب المذكور.
وأما الدَّين فإنه يُؤَدِّي من تركته ولا ينتظر به وضع الحمل، هذا ما لا أعرف فيه خلافاً إلا ما ذكر فيه عن بعض الشيوخ من الغلط الذي لا يعد في الخلاف، قال البَاجِي: شهدتُ ابن أيْمَن يَحكي في ميت مات وترك امرأته حاملًا أنه لا يقسم ميراثه ولا يؤدي مِنْه دَيْنه حتى يوضع الحمل فأنكرتُ ذلك، فقال: هذا مذهبنا ولم يأت ابن أيمن بحُجَّة، والصحيح أن يؤدي دينه ولا ينتظر الحمل، ولا يدخل في هذَا اختلاف قول مالك في تنفيذ الوصية قبل وضع الحمل للورثة الرجوع على الوصي لهم بثلثي ما قبضوا ولعلهم سواء كانوا معينين أو غير معينين فلا يجدون على من يرجعون، وأما تأخير أداء الدَّين حتى يوضع الحمل فلا علة توجبه بل يجب ترك التوقيف وتعجيل أداء الدين مخافة أن يهلك المال فيبطل حق صاحب الدين من غير وجه منفعة كان في ذلك للورثة وإذا وجب أن يقضي دين الغائب مما يُوجَدُ له من المال مع بقاء ذمته إِن تلف المال الموجُود له كان أحرى أن يؤدي الدين عن الميت من تركته لوجهين أحدهما أن الميت قد انقطعت ذمته، والثاني أن الحمل لا يجب له في التركة حق حتى يولد حَيّا ويستهل صارخاً، ولو مَات قبل ذلك لم يورث عنه نصيبه، والغائب حقه واجب في المال الموجود، ولو مات ورثه عنه ورثته،(12/117)
فإذا لم ينتظر الغائب مع وجوب المال الذي يؤدي منه الدين الآن له كان أحرى أَلَّا ينتظر الحمل إذ لم يجب له بعد في التركة حق، ومن قول ابن القاسم في المدونة وغيرها: إنَّ من أثبت حقاً على صغير قضي له به عليه ولم يُجعل للصغير وكيل يخاصم عنه في ذلك، فإذا قضي على الصغير بعد وضعه من غير أن يقام له وكيل فلا معنى لانتظار وضع الحمل بتأدية دين الميت، وهذا كله بين لا ارْتِيَاب فيه ولا إشكال، فقف على هذه الثلاث المسائل: الدَّين يؤدي باتفاق ولا ينتظر وضع الحمل والتركة لا يقتسمها الورثة باتفاق حتى يوضع الحمل، والوصايا تختلف هل يعجل إِنفاذُها قبل وضع الحمل أو لا يعجل حتى يوضع الحمل؟ فإذا توفي الرجل وله امرَأة وجب ألا يعجل فيه الميراث حتى تسأل المرأة هل بها حمل أم لا؟ فإن قالت: أنا حامل وقفت التركة حتى تضع أو يظهر أنه ليس بها حمل، بانقضاء أمَدِ عِدَّة الوفاء وليس بها حمل ظاهر، وإن قالت: لستُ بحامل قبل قولها واقتسمت التركة، وإن قالت: لا أدري آخر قسمُ الميراث حتى يتبين أنه ليس بها حمل بأن تحيض حيضة أو يمضي أمد العدة وليس بها ريبة من حمل، وهذا معنى قوله في هذه الرواية لا يعجل بقسم الميراث حتى يتبين من حملها، وكره أن يقول: حتى تُسْتَبْرَأ؛ إذ هي مأمونة على نفسها في ذلك مصدقة في قولها بما دل من كتاب اللَّه عز وجل على ائتمانها بقوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وبالله التوفيق.(12/118)
[: يكون بينهما الشيء من الثمار فيريدان اقتسام ذلك في رؤوس الشجر بالخرص]
ومن كتاب البيوع الأول قال: وسألت مالكاً عنِ الرجلين يكون بينهما الشيء من الثمار النخل أو العنب أو التين فيُرِيدانِ اقتسام ذلك في رؤوس الشجر بالخرص فقال: لا بأس باقتسام ذلك كله في رؤوس الشجر من النخل والعنب أو التين أو الثمار كلها إذا وُجِدَ من يعرف ذلك ويحسنه، وإنما يجوز ذلك إذا طابت الثمرة وحل بيعها، فأما قبل أن يحل بيعها فلا يصلح ذلك وإنما يقسم ذلك إذا طاب وحل بيعه بالخرص وهو يعمل به هاهنا عندنا في ثمر النخل.
فقلت له: وما يدعوهم إلى اقتسامه بالخرص؟ فقال: إنما يدعوهم إلى ذلك أن يكون أحدهم يريد أن يأكله رطباً أو يبيعه والآخر يريد أن يأكله أو يبيعه تمراً، فإذا اختلفا هكذا فكان هذا يريد به أن يقسم في شَجَرِهِ إذا طاب وحل بيعه، لا يحل اقتسام شيء منه إِلا بعد أن يطيب ويحل بيعه، فأما قبل أن يطيب فلا يصلح ذلك. قلت لَهُ بعد ذلك: إِنك قد قلت لي في الثمار من النخل والأعناب والأتيان والثمار كلها تكون بين الشريكين إِنه لا بأس أن يقتسما ذلك في رؤوس النخل أو الأشجار بالخرص إذا كان ذلك الثمر قد طاب وحل بيعه، وأنه رحمكَ اللَّهُ قد يكون في ذلك الثمر أصناف غير واحدة فيكون في النخل العجوة والصيحاني والبرني وغير ذلك من الأصناف ويكون في الأعناب الأبيض والأسود والأحمر، ويكون مع ذلك في غيرها من الثمار فيكون في الشيء منها أصناف غير واحدة فكيف ترى أن يقسم ذلك؟ أيقسم كل صنف منها على حدته حتى يصير لكل واحد منها من عدد الكيل عدداً واحداً ولا(12/119)
يقتسمان فيأخذ هذا نخلة برني خرصها عشرة أصْوُعٍ بنخلة يعطيها الآخر من الصيحاني أو من العجوة وخرصها خمسة عشر صاعاً، قال: وكذلك لَو كانت النخلة عجوة أو صيحانياً أو برِنياً وبعض ذلك أفضل من بعض أسلم طعاماً وأكثرُ قدراً وأقل حَشفا فإنه يقسم كل واحد منهما على حدته حتى يصير لكل واحد منهما من عدد الكيل عَدَدٌ واحد، ولا يقتسمان فيأخذ هذا نخلة طيبة الطعام خرصها عشرة أصوع بنخلة يعطيها الآخر خرصها خمسة عشر صاعاً.
فقلتُ له: إني أمْتَعَ اللهُ بك لم أرد هذا الذي أردت إذا كانت النخل فيها غير صنف واحد العجوة والصيحاني والبرني فأراد اقتسام ذلك مجتمعاً ليس كل صنف منها على حدته يغطي هذا نخلة صيحاني بنخلة يأخذها من برني وعجوة وخرصها واحد جميعاً أترى بذلك بأساً؟ أم لا يقسم ذلك على كل حال من الحال إِلَّا كل صنف من ذلك على حدته الصيحاني على حدته والعجوة على حدته والبرني على حدته.
فقال: إذَا كان أحَدهما لا يأخذ أبداً من مكيلة الثمرة في الخرص أقل ولا أكثر مما يأخذ صاحبه فلا بأس بأن يقسم ذلك كله بالخرص مجتمعاً ليس كل صنف على حدته إذا لم يتفضل أحدهما على صاحبه في مكيلة الخرص، وكان ما يصير إلى كل واحد منهما في الخرص من عدد المكيلة إلى عدد واحد فلا يُبَالِي كيف اقتسم ذلك كل صنف على حدته أو اقتسم جميعاً لا بأس بذلك كله إذا لم يتفضل أحدُهما على صاحبه، قيل: أرأيت الزرع أيقسم كذلك؟ فقال: لا أرى ذلك يجوز في الزرع ولا أراه يجوز إلا في الثمار. قال محمد بن رشد: سَاوَى في هذه الرواية بين ثمار النخل وسائر(12/120)
الثمار كلها من العنب والتين وغير ذلك مما يجوز فيه التفاضل ومما لا يجوز في جواز قسمة ذلك بالخرص إذا اختلفت الحاجة في ذلك، خلافُ مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك في أن القسمة في ذلك لَا تَجوزُ على الخرص مع اختلاف الحاجة إِلَّا في العنب والنخل والذي مضى فيه الخرص لوجوب الزكاة فيه، وإلى هذه الرواية أشار في المدونة بقوله: وذلك أنه ذكر بعض أصحابنا أن مالكاً أرخص في قسم الفواكه بالخرص، وهذه الرواية أظهر وأصح في المعنى من رواية ابن القاسم عن مالك؛ لأنه إذا جاز التَّحَرِّي والخرص فيما لا يجوز فيه التفاضل لضرورتهم إلى ذلك من أجل اختلاف حوائجهم فأحرى أن يجور ذلك فيما يجوز فيه التفاضل لا تدْخله المزابنة، وقولُه أيضاً إنما يجوز ذلك إذا طابت الثمرة خلافٌ لما في المدونة؛ لأنه أجاز فيها قسمة البلح الكبير على الخرص، وفي رؤوس الثمار إذا اختلفت حوائجهما فيه خلافُ قول سحنون في ذلك، فاشتراط مالك في هذه الرواية طيب الثمرة مثلُ مذهب سحنون في البلح الكبير؛ لأن العلة عنده في أن قسمته بالخرص لا تجوز هو أنه إن ترك أحدهما نصيبه أو شيئاً منه حتى يطيب انفسخت القسمة بينهما، فإذا كان هذا يأكل وهذا يبيع وكل بِجَدَادٍ لَا يَجوزُ لكل واحد منهما أن يترك شيئا منه حتى يطيب فلم تختلف حوائجهما لأنهما إذا كان لا بد لهما من الجد قبل الطياب فليقتسماه إذا جذاه بالكيل، وقول ابن القاسم في هذا أظهر لأنهما لا يجدَّان معاً وإرادة كل واحد منهما أن يجد بقدر حاجته، أحدُهما قليلًا والآخر كثيراً اختلاف حاجة يجوز لهما به قسمته على الخرص، وأما الزرع فلا يجوز قسمته على الخرص باتفاق لاتفاق حوائجها فيه، إذ لا يؤكل فريكاً فلا تجوز قسمته إِلَّا بالكيل بعد أن يحصد ويدرس إِلَّا أن يكون ذلك قبل أن يبدو صلاحه على أن يحصد كل واحد منهما حصته مكانه فيجوز على الاختلاف في قسمة البقل القائم بالخرص والثمر الذي يجوز فيه التفاضل وباللَّه التوفيق.(12/121)
[: يشتريان الرقيق ثم يدعو أحدُهما صاحبَه إلى قسم الرقيق]
ومن كتاب الأقضية وَسَألْتُهُ عن الرجلين يشتريان الرقيق ثم يدعو أحدُهما صاحبَه إلى قسم الرقيق أيكون ذلك على شريكه إذا كانت تلك الرقيق تنقسم؟ قال: نعم، أرى ذلك له عليه إذا كانت الرقيق تنقسم، فقلت له: يقول إذا دَعَا أحدُهما صاحبه إلى المقاسمة كان عليه أن يقاسمه إياها إن كانت تنقسم وإِلَّا باعوها، فقال: نعم إذا كانت تنقسم كان عليه أن يقاسمه إياها وإن لم تنقسم تَقَاوَموها أو باعوها في السوق، فقلت له بعد ذلك بيوم: أرأيت القوم يشتركون فيشترون الدور ثم يدعو بعضُهم إلى القسم أيجمع كل واحد منهم حقه من الدور في موضع واحد إذا كان متقارباً أم يقسم بينهم كل دار على حِدَتِهَا؟ فقال: بل يقسم لكل إنسان منهم حقه من الدور في موضع واحد إذا كان متقارباً، قلت له: ما تقارب ذلك؟ قال: في مكان من المدينة بناحية واحدة وكان لعرض واحد من الأعراض فإذا كان ذلك كله يقسم جميعاً فيجمع لكل إنسان منهم حقه في موضح ولا يعطي حقه من كل دار فيها، وأما ما تباعد منها بعضُها من بعضٍ فلا يقسم كل واحد إِلَا على حدته.
قال محمد بن رشد: قوله في الشريكين يكون بينهما الرقيق فيدعو أحدهما إلى القسمة إنها تنقسم بينهم إن كانت تنقسم يريد إِن كانت تعدل في القسم بالقيمة حتى يصير لكل واحد منهما في حظه عبد كامل أو عبدان كاملان أو عبيد كاملة، فإن لم تنقسم بينهما إِلا بجزء من عبد تقاوموها أو باعوها فاقتسما الثمن، يريد تقاوموها إن أحبوا ذلك أو باعوا؛ لأن المقاومة لا يُجْبَرُ من أبى منهما، فكان الصواب في الكلام أن يقول: إنها إن لم تنقسم باعوها في السوق إِلا أن يريدوا أن يتقاوموها فيجوز ذلك بينهم، ويأتي في هذه المسألة(12/122)
على ما ذكرناه من قول ابن حبيب في أول مسألة من سماع ابن القاسم أنها إن لم تقسم بالقيمة على قدر حظوظهم منها قُوِّمَ كل عبد منها على حدة ثم يضرب عليها بالسهام، فإن خرج سهم أحدهم على عبد منها وقيمته أكثرُ من حظه كان له منه قدر حظه وكان بَقِيَّتُهُ وسائرُ العبيد لشريكه، وإن خرج سهمه عليه وقيمته أقل من حظه كان له وضرب له بالسهم الثانية فإن خرج سهمه على عبد قيمته أكثر من بقية حظه كان له منه بقدر ما بقي له من حظه، وإن خرج سهمه على عبد قيمته أقل من قيمة حظه أخذه وضرب له بالسهم الثالث على ما بقي من العبيد حتى يستكمل بقية حظه كاملًا، وباللَّه التوفيق.
[مسألة: الحائطان يجمعان في القسم وإن كان ثمر أحدهما عجوة والآخر صيحانيا]
مسألة قلت له: أرأيت الدارين تكون إحداهما في موضع حي عامرٍ يُرْغَبُ والأخرى في موضع غير عامر، وكلاهما بقرية واحدة؟ قال: أما الشيء البعيد مثل منزلي هذا ومنزل آخر بالتشبيه، فإنه يقسم كل واحد منهما على حدته ولا يقتسمان جميعاً حتى يجمع لأحدهما حقه إذا كانت متباعدة هكذا، وإنما هذا في الدور إذا تباعدت هكذا قسم لكل واحد منهم في ذلك كله، ولم تجمع له في موضع واحد، وليس الحوائط في هذا مثل الدور والحوائط إذا كانت هكذا بالمدينة وما قاربها وإن تباعدت بعضها من بعض فإنها تقسم فيقطع لكل واحد منهم نصيبه من الحوائط كلها في موضع واحد إلا أن يكون بعضها ليس يعارض صاحبها سائر المدينة لا تقتسم حوائطها مع حوائط خيبر تقسم هذه على حدتها وهذه على حدتها، وليس يقسم العين مع النضح، ولا البعل مع السقي وإن تقاربت الحوائط، وإنما يقسم كل شيء من هذه بينهم إذا كانت على هذه الصفة على حدته إلَّا أن يتراضوا أن يجمعوا ذلك كله في القسم فيكون ذلك لهم.(12/123)
قلت له: أرأيت إن كان الحائطان جميعاً متقاربين في الموضع وكلاهما من سقيه على شيء واحد من عين أو نضح أو بعل إِلَّا أن أحد الحائطين عجوة والآخر صيحاني إنما يختلفان في ثمارهما فأرادَا اقتسامهما أيقسم لكل واحد منهما حقه من كل حائط أو يجمع له من الحائطين جميعا في حائط واحد؟ فقال لي: بل يقسم له كله من الحائطين فيجمع له في حائط واحد ولا يقسم له في كل حائط بحقه فيقطع له ذلك في الحائطين جميعاً، وإن كان أحدهما صيحانياً والآخر عجوة فإن ذلك يجمع لكل واحد منهما في موضع واحد لا يقسم له في كل حائط بحقه، قال لي: وكذلك مما ورث من الأمْوال والدور وهو مثل ما يشتري منها، فالمرأة يقطع لها الربع من الدور في موضع واحد إذا كانت الدور متقاربة، وإنما تقسم هذه الأشياء إذا كانت هكذا بالقيمة.
قال محمد بن رشد: راعي في قسمة الدور في هذه الرواية اختلاف مواضعها ولم يراع اختلاف نفاقها، فلم يُجِزْ أن يجمع في القسمة إذا اختلف مواضعها بالبعد وإن اتفقت بالنفاق عكس ما في المدونة من أنها تقسم قسماً واحداً إذا اتفقت مواضعها في النفاق وإن اختلفت بالبعد ولا تقسم قسماً واحداً إذا اختلفت مواضعها في النَّفاقِ وإن اتفقت في القرب، وفي المسألة قول ثالث يقوم من المدونة أنها لا تقسم قسماً واحداً إِلا أن يتفقا في النفاق والقرب، فإن تباعد ما بينهما في المواضع واختلف موضعهما في النفاق وإن كان قريباً لم يجمع في القسم، وقُسِمَ كل واحد منهما على حدته.
وتفرقته بين الحوائط والدور في مراعاة البعد ليس بِبَيِّن في القياس والنظر، الصواب أن يدْخل في الحوائط الاختلاف من الدور حسبما ذكرناهُ في أول مسألة من سماع ابن القاسم وفي قوله بعد ذلك: إن الحائطين إذا كانا جميعاً متقاربين في المواضع يجمعان في القسم دليل على أنه لا يجمعان فيه إذا لم(12/124)
يكونا متقاربين، فعلى هذا ساوى بين الدارين والحائطين وهو القياس على ما ذكرناه.
وقولُهُ: إن البعل لا يقسم مع السقي وهو خِلَافُ قول مالك في الموطأ مثل ما حكى ابن حبيب في الواضحة وقد مضى هذا في آخر رسم من سماع ابن القاسم، وقولُه: إن الحائطين يجمعان في القسم وإن كان ثمرُ أحدهما عجوة والآخر صيحانياً صحيح لا اختلاف فيه لأن العجوة والصيحاني صنف واحد، ولو كان أحد الحائطين نخلًا والثاني تيناً أو عنباً لما جمعا في القسمة بالسهمة لأنَّهُمَا صنفان وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي وترك ثلاثة أولاد وترك ثلاثة أعبد واقتسم الورثة فتوفي أحد الأعبد]
مسألة وسئل عمن توفي وترك ثلاثة ولد ذكوراً وترك ثلاثة أعْبُدٍ واقتسم الورثة فأخذ كل واحد منهم عبداً فتوفي أحدُ الأعبد عند أحدهم واعترف الآخر في يد الثاني، وبقي الآخر في يد الثالث، فقال: الذي مات العبد في يديه هو منه، وليس للذي اعترف العبد في يديه عليه شيء؛ لأنه قد فات عنده، ويرجع الذي اعترف العبد في يديه على أخيه الذي في يديه العبد الثاني فيكون له ثلثه وللذي في يديه العبد الثلثان، ولا يكون لأخيهما الذي توفي العبد في يديه فيه شيء لأنه مات عنده، ولا يكون للذي انتزع منه العبد من الباقي إِلا الثلث، وإن كان هذا العبد الباقي مات أيضاً عند صاحبه ما كان عليه شيء ولا يكون للذي اعترف العبد في يديه عليه شيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت في سماع سحنون من كتاب الاستحقاق والكلام عليها مستوفى فلا وجه لإعادته وباللَّه التوفيق(12/125)
[: اشتريا عشرة أرؤس فاقتسماها فكان حظ أحدهما خيرا من حظ صاحبه]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب
المكاتب
قال عيسى بن دينار: سئل ابن القاسم عن رجلين اشتَرَيَا عشرة أرؤس فاقتسماها فأخذ كل واحد منهما خمسة، فكان حظ أحدهما خيرا من حظ صاحبه بدينار ونصف، فغرم لصاحبه ديناراً ونصفاً فوجد الذي أخذ الدينار ونصفاً في حظه رأساً به عَيْبٌ وقد فاتت رقيق صاحبه أو لم تفت، قال ابن القاسم: إن لم تفت رقيق صاحبه نظر إلى قيمة رقيق هذا الذي وجد العيب بالعبد والعبد المعيب فيها يُقَامُ صحيحاً فينظر ما اسم هذا العبد المعيب من جميع قيمتها، فإن كان السدس كان هذا العبد بينهما بنصفين، ورد من الدينار ونصف على صاحبه نصف سدسها، وكان شريكاً في رقيق صاحبه بنصف سدسها، وإن كانت قد فاتت رجع عليه بنصف سدس قيمتها وَحَاصَّهُ في نصف سدس قيمتها بنصف سدس الدينار ونصف، وكان العبد المعيب بينهما؛ لأن الدينار والنصف قد أصاب كل رأس مِنها بقدر قيمته فلما أن صار هذا العبد المعيب سدس قيمة الخمسة أرؤس كان الذي أصابه من الدينار نصف سدسه فكان للذي وجد العيب نصف السدس.
قال ابن القاسم: ولو كان العبد الذي وجد به العيب هو وجه الخمسة أرؤس التي أخر فيها رجاء الفضل ولم يفت رقيق صاحبه انتقضت القسمة كلها، واقتسموا ثانية، ولو كانت قد فاتت رقيق صاحبه بِنَمَاءٍ أو نقصان أو اختلاف أسواق كان عليه قيمتها ثم اقتسموا الرقيق والقيمة.(12/126)
قال محمد بن رشد: قولُه: فكان حظ أحدهما خيراً من حظ صاحبه بدينار ونصف فغرم لصاحبه ديناراً ونصفاً كلام وقع على غير تحصيل لا يصح؛ لأنه إنما يجب أن يغرم له ديناراً ونصفاً من ماله إذا كان حظ صاحبه خيراً من صاحبه بثلاثة دينار، وكذلك قولُه إذا كانت العبد المعيب سدس قيمة الأعْبُد التي صار في نصيبه أنه يكون بينهما نصفين ويكون شريكاً في رقيق صاحبه نصف سدسها ويرد من الدينار ونصف نصف سدسهما غلط وكلام وقع على غير تحصيل؛ لأن الواجب إنما هو أن يرد إليه جميع سدس الدينار ونصف أو يحاصه بذلك في سدس قيمة رقيقه إن كانت قد فاتت وبذلك تستقيم المسألة فيكون قد رد إليه قدر ما رجع به عليه فتدبر ذلك تجده صحيحاً، ويتبين ذلك بالتنزيل مثال ذلك أن تكون الأرؤس التي بينهما خمس عشرة شاة فيقتسمانها بينهما يأخذ أحدهما ست شياه قيمتها ستة دنانير ويأخذ الآخر تسع شياه قيمتها تسعة دنانير، ويعطي صاحبه ديناراً ونصفاً نصف ما زاد ما أخذ على ما أخذ شريكه فيعتدلان بذلك فإن وجد الذي أخذ الدينار ونصفاً عيباً بشاة من الست شياه التي أخذ وقيمتها دينار والتسع قائمة بيد شريكه لم تفت رَدَّ على شريكه الشاة المعيبة فكانت بينهما بنصفين، ورد عليه سدس الدينار ونصف الذي قبض منه، وكان شريكاً معه في التسع شياه بنصف سُدُسِهَا فكان إذا فعل ذلك قد قبض كل واحد منهما من صاحبه ما ينوب ما دفع إليه مما بيده؛ لأن الذي وجد العيب بالشاة أعطى صاحبه أربعة أسداس مثقال ونصف سدس مثقال نصف الشاة بثلاثة أسداس وسدس الدينار ونصف سدس، وأخذ من صاحبه نصف سدس التسع شياه وقيمة ذلك أربعة أسداس ونصف سدس كما دفع؛ لأن قيمتها تسعة مثاقيل فنصف سدسها أربعة أسداس ونصف سدس.
ولو كانت التسع شياه قد فاتت بيد الذي قبضها لوجب إذا رد عليه الشاة المعيبة فكانت بينهما أن يرجع عليه بنصف قيمة التسع شياه، وذلك أربعة أسداس ونصف سدس بعد أن يدفع إليه سدس الدينار ونصف، أو يقاصه به فيأخذ منه نصف دينار، وهذا كله بين والحمد للَّه.(12/127)
وقوله: إنه يكون شريكاً في رقيق صاحبه بنصف سدسها إن كان العبد المعيب سدس حظه، وإن كان وجهه انتقضت القِسْمَةُ هو أحد قوليه في المدونة، وقوله الثاني فيها إنه في اليسير يرجع بما نابه من حظ صاحبه دنانير وإن كان قائماً، وفي الكثير يكون شريكاً بما نابه ولا تنتقض القسمة فَفَرَّقَ في كلا القولين بين الوجهين وقال في كل وجه منها قولين، فلا اختلاف في أنه لا تنتقض القسمة في اليسير، ولا في أنه لا يرجع في قدره من الدنانير في الكثير، وهذا الاختلاف كله في القيام، ولا اختلاف في أنه يرجع بما ناب المعيب أو المستحق من الدنانير في الفوات وباللَّه التوفيق.
[: الحائط والدار والأرض تكون بين الورثة كيف يقتسمون ذلك]
ومن كتاب حَمَلَ صَبِيّا عَلَى دَابَّةٍ قال عيسى: سألت ابنَ القاسم عن الحائط والدار والأرض تكون بين الورثة كيف يقتسمون ذلك؟ قال ابن القاسم: يقسم على أدناهم سهماً ثم يضرب في الطرفين فأيهم وقع سهمه في أحد الطرفين ضُمَّ له نصيبه إلى حيث وقع سهمه، ثم يضرب لمن بقي فيما بقي كذلك في أحد الطرفين بعد الذي عزل، فإذا وقع سهم أحدهم في شق ضم إليه نصيبه إلى حيثُ وقع سهمه حتى يكمل كذلك حتى يكون نصيب كل واحد به مجتمعا، ولا يقع حقه مُبَدَّدا وكذا وجه ما فَسَّر لي مالك ووصفَ لي قال ابن القاسم: وتفسير يقسم على أدناهم سهماً إن كان أدناهم صاحبَ السدس قسمت الأرض على ستة أجزاء بالقيمة، فإن كان بعض الأرض أفضلَ من بعض فضلت بالقيمة على قدر تفاضلهما، فقد يكون الفدان الواحد ثَمَنَ فَدَادين يُحمل كل سهم بالقيمة على قدر تفاضله حتى يَسْتوي في القيمة فتكون قيمة كل سهم واحد وإن كثرت الأرض في بعض تلك(12/128)
السهام لِرَدَاءَتِهَا وفي بعضها لارتفاعها في القيمة وكرمها، فإذا استوت في القيمة كتب أهلُ كُلّ سَهّمٍ اسمَ سهمهم ثم أسهم في الطرفين جميعا، فمن خرج سهمه في طرف ضم إليه ما بقي من حقه إلى حيث خرجِ سهمه ثم يضرب أيضا في الطرفين فيصنعوا في ذلك كما صنعوا أوَّلَا أبدا حتى يأتوا على آخرها، قال عيسى: إذا كانت الكريمة تحمل القسمة، والدنِية تحمل القسمة الكريمة على حِدَتِهَا والدنيةُ على حدتها.
قال محمد بن رشد: قوله في أن الحائط والدار والأرض تقسم على أدناهم معناه إذا كانت فريضتهم تقسم على أدناهم سهما مثل أن تهلك امرأة عن زوج وأم وأخت لأم، فإنها تقسم أسداسا ثم يضرب بسهامهم علىَ الطرفين فإن خرج سهم الزوج في أحد الطرفين وسهم الأم في الطرف الآخر أخذ الزوج النصف في الطرف الذي خرج سهمُه فيه، وأخذت الأم الثلث في الطرف الذي خرج سهمها فيه، وكان للأخت السدس الباقي من الوسط حيث بقي، وإن خرج سهمُ الأخت في أحد الطرفين وسهم الزوج أو الأم في الطرف الآخر أخذت الأخت السدس في الطرف الذي خرج سهمها فيه وكان للزوج النصف الباقي في الوسط، وإن كان الزوج هو الذي خرج سهمه في الطرف الآخر أخذت فيه، وكان للأم الثلث الباقي في الوسط، وكذلك ما أشبهه على هذا القياس.
وقد قيل: إنه إنما يضرب سهامهم على الطرف الواحد أبدا وهو الذي في المدونة ثابتّ في كل رواية، وأما إن كانت فريضتهم لا تنقسم على أدناهم سهما فلا بد أن تنقسم على مذهب ابن القاسم على ما تنتهي إليه سهام(12/129)
فريضتهم التي تنقسم منها وإن كان سهم أقلهم نصيبا ينتهي إلى عشرة أسهم أو أقل أو أكثر مثل أن تهلك امرأة عن زوج وأم وابن وابنة، فإنها تنقسم على ستة وثلاثين سهما لأن فريضتهم لا تنقسم من أقل منها، يكون للزوج تسعة، وللأم ستة، وللابن أربعة عشر، وللبنت سبعة، ثم يضرب بسهامهم على الطرفين فمن خرج سهمه منهم في طرف ضم إليه فيه بقية حقه إن كان الزوج أخذ فيه تسعة أسهم وهو الربع وإن شئت قلت السدس ونصف السدس، وإن كانت الأم أخذت فيه ستة أسهم وهو السدس، وإن كان الابن أخذ فيه أربعة عشر سهما وهو السدسان وثلث السدس، وإن كانت الأخت أخذت فيه سبعة أسهم وهو السدس وسدس السدس، ويأخذ في الطرف الآخر من خرج سهمه فيه على هذا الترتيب، ثم يسهم بين الباقيين منهما على ما بقي من السهام، فمن خرج سهمه منهما في طرف ضم إليه بقية حقه فيه، وكان للباقي ما بقي وقد قيل إنه لا يسهم إلا على طرف بعد طرف، فإن تشاحوا على أي الطرفين يسهم عليه أَوَّلا أسُهم على ذلك، وهو قوله في المدونة على ما ذكرناه، هذا مذهبه في القسمة في المدونة وغيرها، وقد ذكرنا مذهب مالك في ذلك في المدونة في تكلمنا على أول مسألة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
وقوله: فإن كان بعض الأرض أفضل من بعض فضلت بالقيمة فقد يكون الفدان الواحد تَعَدٍّ للفدانين، هو مثل ما في كتاب الوصايا الثاني من المدونة خلافُ ما في كتاب القسمة منها من أن الأرض لا تقسم قسما واحدا إلا إذا كانت معتدلة في الطيب والكرم، وقول عيسى في المسألة قول ثالث وقد مضى بيان هذا في أول مسألة من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[: يرثون منزلا عن أبيهم يقتسمونه فيغيب بعضهم ويقيم بعضهم]
ومن كتاب البراءة قال وسألت ابن القاسم عن الِإخوة يرثون منزلا عن أبيهم يقتسمونه فيغيب بعضهم ويُقيم بعضهم فيقدم الغائب بعد سنين(12/130)
فتشتبه عليهم حالهم ويقول الذين عملوا لا نعرف سهامكم هل يعيدون القسمة جميعا؟ قال أما الذين عملوا فيحلفون بالله إذا لم يصدقهم أشراكهم أن الذين عمروا سِهَامُهُم ولا شيء عليهم ويعيدون هؤلاء الذين اشتبهت عليهم السهام القسمة فيما اشتبه عليهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنهم قد تقارَرُوا على القسمة فوجب أن يكون من بيده منهم أرض في اعتماره أن يكون القولُ قولَه مع يمينه أنها هي التي صارت له بالقسمة وبالله التوفيق.
[مسألة: مات الذي كان الحائط في يديه فجهل الورثة حقوقهم]
مسألة قلت فلو كان حظ رجل منهم من تلك الأرض بيد أخيه عشرين سنة أو نحوها فمات صاحبُ السهم وطلب ذلك بنوه من بعده من عمهم، أو لم يمت فطلب ذلك هو والمنزل معروف لوالدهم أنه مات عنه، قال: إن ادعى شراء أو صدقة فذلك له أقام البينة أو لم يُقم، لأن في عشرين سنة ما يبيد الشهود وإن كان لا يدعي شراء ولا صدقة وإنما يقول هو في يدي فإن ذلك لا ينتفع به، قال ولو مات الذي كان الحائط في يديه فقال الورثة لا ندري بأي شيء كان في يد صاحبنا فليس عليهم شيء إلَّا أن يأتي الذين يدعونه بأمر يُبَيِّنُ حُقوقَهُمْ.
قال محمد بن رشد: مساواتُه في هذه المسألة بين الشراء والصدقة خلافُ قوله في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق في تفرقته بينهما في الأجنبيين إذ لا فرق بين المسألتين على القول بأنه لا حيازة بين الأجنبيين في العشرة الأعوام إذا لم يكن هدم ولا بُنيان كالقرابة لأنه جعل في هذه الرواية القولَ قولَ الحائز فيما يبدأ الشهود فيه من المدة إذا ادعي شراء أو صدقة ولم يجعل في رواية عيسى عنه من كتاب الاستحقاق القول قوله في(12/131)
ذلك إلا في الشراء دون الصدقة والهبة والنزول.
وقوله إن الورثة إذا قالوا لا ندري بما تَصَير ذلك إلى موروثنا الذي ورثناه عنه قبل ذلك منهم ونفعتهم الحيازة، وإن لم يدعوا الوجه الذي تَصَيَّر به ذلك إلى موروثهم في أنهم لا ينتفعون بالحيازة إلا أن يدعوا الوجه الذي صار به إليهم، وقد مضى القول على هذا مستوفى في رسم تسلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق وبالله التوفيق.
[: يقتسمان دارا بينهما فيجد أحدهما في حظه جبا بالأولى ولا يجد الآخر شيئا]
ومن كتاب العتق وسئل ابن القاسم عن الرجلين يقتسمان دارا بينهما فيجد أَحَدُهُمَا في حظه جبّا بالأولى ولا يجد الآخر شيئا أيكون له معه في ذلك شيء؟ قال: نعم أرى له معه في ذلك حظا، وأرى أن يعاوده القسم إذا كان لم يفت، فإن فات ببنيان رأيت له عليه نصف ذلك، وهو بمنزلة بيوت وجدها أسفل بيوت لم يكن علم بها، فليس له أن يأخذها دونه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة خلافُ نص قول سحنون في آخر جامع البيوع وما ذهب إليه ابن حبيب وابن دينار وهو أصل قد اختلف فيه قولُ ابن القاسم، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى غاية الاِستيفاء في سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية ومن كتاب اللقطة وفي آخر البيوع فلا معنى لإِعادة شيء من ذلك وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: يوصي بوصايا وعتاقة فتنفذ الوصايا والعتاقة ثم يطرأ على الوصي دين يحيط بماله]
من سماع يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الذي يوصي بوصايا(12/132)
وعتاقة فتنفذ الوصايا والعتاقة ثم يطرأ على الوصي دين يحيط بماله، وقد شهد العبيد المعتقون على حقوق وطال زمان ذلك واقتسم الورثة ونما بعض ذلك في أيديهم أو نقص أو استهْلكَ، فقال: ترد الوصايا التي أخذها أهلها بحال ما يوجد في أيديهم نامية أو ناقصة وما هلك منها فلا ضمان عليهم إلا أن يستهلكوا شيئا فيغرمونه أو يكونوا اشتروا شيئا فحوسبوا به في وصاياهم فيكون لهم نماؤه وعليهم تواؤه ويردون الثمن الذي حوسبوا به قال: والورثة بهذه المنزلة فيما اقتسموا مما أخذوا على حال الاقتسام، فنماؤه للغرماء ولا ضمان على الورثة فيه إلا أن يستهلكوا شيئا فيكون عليهم غرمه، وما اشتروا على حال البيع وليس على وجه الاقتسام فنماؤه لهم وضمانهَ عليهم يغرمون الثمن الذي كان وجب به عليهم، قال: وما اقتسموا من ناض ذهب أو ورق أو طعام أو إِدام فإنهم يغرمون ذلك كله، وإنما يوضع عنهم ضمان ما هلك من العروض والحيوان والعقار التي تقسم بالقيمة، قلت أرأيت ما اقتسموا من العروض بالقيمة فغابوا عليه ولم يُعْرَفْ هلاكُه إلَّا بقولهم أيبرؤون من ضمانه؟ أو الطعام أو الِإدام أتوجب عليهم ضمانه وتراه كالذهب إذا عرف هلاكه بالبينة؟ كبراءة المرتهن والمستعير وحاله فيما لم يغب عليه كحالهما.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة قول الله تبارك وتعالى في آية المواريث {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فنص تعالى على أنه لا ميراث لأحد من الورثة إلا من بعد تأدية الدين والوصية.
واختلف إذا طرأ على التركة دين أو وصية بعدد بعد اقتسام الورثة ما ترك(12/133)
الميت من دنانير أو دراهم أو طعام أو عرض أو حيوان أو عقار على خمسة أقوال، أحدها أن القسمة تنتقض لحق الله تعالى شاء الورثة أو أبوا، فيكون ما هلك من جميعهم وَما نَمَا لجميعهم، فيخرج الدين أو الوصية من ذلك ويَقْسِمُ الورثةُ ما بقي إِن بقي شيء، وهذا قول مالك في رواية أشهب عنه، والثاني أن القسمة تنتقض فيكون ما هلك أو نقصَ أو نما بين جميع الورثة إِلَّا أن يتفق جميعهم على أَلَّا ينقضوها ويخرجوا الدين أو الوصية من أموالهم فيقروها، فيكون ذلك لهم، وهو المشهور من مذهب ابن القاسم المنصوص له في المدونة، وقد اضطرب في ذلك قوله، والثالث أن القسمة تنقض أيضا فيكون ما هلك أو نقص أو نَمَا بين جميعهم إلَّا أَنَّ لمن شاء من الورثة أن يخرج من ماله ما يَنُوبُه من الدين ويحمل نوبه مما هلك ويبقى حظه في يديه، فيكون ذلك له، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، مثال ذلك أن يهَلك المُتوفى وله أربع بنين ويترك عروضا ثمانَ بقرات في التمثل قيمة كل بقرة منها عشرة مثاقيل، فيقسمونها بينهم فيأخذ كل واحد منهم منها بقرتين بقرتين، فتموت بِيَد واحد منهم بقرة من البقرتين اللتين صارتا له في سهمه ويطرأ على المتوفى دين عشرة مثاقيل، فإن الواجب في ذلك على مذهبه أن تنتقض القسمة ويخرج الدين من السبع بقرات الباقية، فإن بيع فيه بقرة واحدة قسمت الستة الباقية بين البنين الأربعة بالسهمة حسبما مضى من الاختلاف في صفة القسمة بها إن لم يتفقوا على قسمتها بالتراضي، ولمن شاء منهم على مذهبه أن يخرج من ماله ما ينوبه من الدين، وذلك دِينَارَانِ ونصفُ دينار، ويحمل نوبه من قيمة البقرة التي مات، وذلك دينار ونصف دينار أيضا إن كانت قيمتها عشرة فيؤدي خمسة دنانير، دينارين ونصف دينار لصاحب الدين، ودينارين ونصف لسائر الورثة، ويترك حظه في يديه، ويردون الباقون جميعَ ما بأيديهم إن أبوا إلا نقض القسمة فيقتسمون الخمس بقرات التي في أيديهم مع الدينارين ونصف دينار التي حمل الراضي بالقسمة بينهم على السواء بعد أن يؤدوا بقية الدين وذلك سبعة دنانير ونصف دينار، والقول الرابع أن القسمة لا تنتقض، وهو قول(12/134)
أشهب وسحنون إِلَّا أنهما اختلفا في فض الدين، فقال سحنون: إنه يفض على ما بيد كل واحد منهم يوم الحكم، وقال أشهب في أحد قوليه: إنه لا يفض على الأجزاء التي اقتسموا عليها زادت أو نقصت ما كانت قائمة، فلا اختلاف في أنه لما لا يضمن من تلف ما بيده بأمر من السماء لصاحب الدين شيئا من دينه، والقول الخامس أن القسمة تنتقض بين من بقي بيده حظه أو شيء منه أو استهلكه أو شيئا منه، فأما من تلف جميع حظه بأمر من السماء فلا يرجع صاحب الدين ولا يرجع هو على الورثة بما بقي بعد تأدية الدين، وقولُ ابن القاسم في هذه الرواية إذَا لَحِقَ دين يغترق التركة بعد تنفيذ الوصايا والعتق واقتسام الورثة إِن الوصايا ترد بنمائها ونقصانها، وتنقض القسمة ويكون النماء للغرماء والضمان عليهم، ولا يكون على الورثة ضمان شيء منه إلّا أن يستهلكوه فيكون عليهم غرمه بَيِنٌ لا كلام فيه على مذهبه إذا كان الدين يغترق التركة بنمائها، وأما إن كان لا يغترقها فاتفق جميعهم على أن يؤدوا الدين ويمضوا قسمتهم فذلك لهم على مذهبه.
وأما قوله فيما اشتروا من التركة فحوسبوا فيه في ميراثهم أو اشتراه الموصي لهم منها فحوسبوا به في وصاياهم إِن لهم النماء وعليهم الضمان، وليس عليهم إلا الثمن فهو بين صحيح لا اختلاف فيه إذ لا فرق بين أن يشتروه فيحاسبوا به في ميراثهم أو في وصاياهم وبين أن يباع من غيرهم فيدفع إليهم الثمن في ذلك.
وأما قولُه: وما اقتسموا من ناض ذهب أو ورق أو طعام أو إدام فإنهم يغرمون ذلك كله وإنما يوضع عنهم ضمان ما هلك من الحيوان والعروض والعقار الذي يقسم بالقيمة، فالظاهر منه أن الذهب والورق والطعام والإِدام يغرمونه إن هلك ولا يوضع عنهم ضمانه وإن قامت بينة على تلفه، بخلاف العروض والحيوان والعقار التي تقسم بالقيمة، وقد بين ذلك إذ جعل الحكمَ فيه حكمَ العارية فيما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه مضمونة كالقراض، وكذلك(12/135)
قال في العارية من المدونة: إنها قرض، وهو قول ابن الماجشون في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب النكاح خلافُ قوله فيه إنه لا ضمان عليه في العين ولا في كل ما يغاب عليه إذا قامت البينة على تلفه، وخلافُ قول أصبغ في تفرقته بين العين وبين ما سواه مما يغاب عليه.
فيتحصل في العين والطعام والإِدام إذا قامت البينة على تلفه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضامن وهو قوله في هذه الرواية، والثاني: أنه لا ضمان عليه، وهو قوله في سماع أصبغ من كتاب النكاح، والثالث: الفرق بين العين والطعام والإِدام وما كان في معناه من المكيل والموزون كله، وهو قول أصبغ، وأما إذا لم تقم بينة على تلف ذلك فهو ضامن ولا اختلاف في العروض التي يغاب عليها أنه ضامن إلا أن تقوم البينة على تلفها ولا في الحيوان الذي يغاب عليه أنه يصدق في تلفه وبالله التوفيق.
[: القسمة تمييز حق لا بيع من البيوع]
ومن كتاب الَأقْضِيَةِ أخبرني مَن أرضى أَنّ عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون قال: إذا اقتسم الورثة الدور والأرضين على سنَّةِ اقتسامها ثم استحق منها بعض ما في أيديهم أو وُجِدَ ببعض ذلك عيب فإِن القسم يُعَادُ بينهم، قال: وإن كانوا اقتسموا على وجه المراضاة وكلهم قد بلغ أن يَحُوز أمره فيما نظر فيه لنفسه ثم استحق بعض ذلك أو وجد معيبا، فأيُّمَا عيب دخل فيه فينظر فيه بما ينظر فيه فيما يوجد معيبا مما يشتري، وذلك أنهم إذا تراضوا فكأنما اشترى بعضهم من بعض إذا اقتسموا على وجه الاقتسام.
قال محمد بن رشد: تفرقةُ عبد العزيز بن أبي سلمة إذا استحق بعض نصيب أحد الأشراك بعد القسمة أو وجد بها عيب بين أن تكون القسمة(12/136)
على التراضي أو على وجه الحكم بالسهمة يأتي على قياس القول بأن القسمة تمييز حق لا بيع من البيوع؛ لأنه إذا استحق بعض نصيب أحدهم أو وجد به عيب فليس الذي بقي بيده مع الذي يرجع به في الاستحقاق على حكم الرجوع بالبيع من مشاركة صاحبه فيما في يده أو الدنانير التي يأخذ منه في ذلك هو حقه الذي كان تميز له بالقسمة؛ لأن الذي تميز له بها أخذه بالقرعة، فإذا لَزِمَ الرجوع على صاحبه بقدر ما استحق من نصيبه شاء أو أبى فقد حصلت القرعة على ما لا يجوز الاقتراع عليه من الصنفين، ألا ترىَ أنه إذا كان أحد النصيبين أفضلَ من الآخر فجعل بينهما دنانير أنه لا يجوز الاقتراع على ذلك؟ وقولُ ابن القاسم وروايتُهُ عن مالك في إيجاب الرجوع في ذلك على حكم البيع هو على قياس القول بأن القسمة بيع من البيوع، وأما إذا كانت القسمة على التراضي فلا اختلاف في أن حكمه حكم البيع في جميع الأحكام التي تطرأ على البيوع من الاستحقاق والعيوب وسائر الأحكام المتعلقة بالبيوع وبالله التوفيق.
[مسألة: قسمة شيء من الحيوان والعروض بالقيمة]
مسألة قال: ولا ينبغي أن يقسم شيء من الحيوان والعروض بالقيمة ولكن يباع ذلك فيشتريه من أحب.
قال محمد بن رشد: إنما لم يُجز ابنُ أبي سلمة قسمة شيء من الحيوان والعروض بالقيمة لأنه رأى الاستهام غَرَرا فلم يجزه إلا في قسمة الدور والأرضين؛ لحاجة الناس إلى اقتسامها ليشفع كل واحد منهم إن باعوها واقتسموا الثمن، أو يعتاض بحظه منها مسكنا يسكنه وبالله التوفيق.
[: الكراء بيع من البيوع]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال ابنُ القاسم عن الرجل يكري داره سنة من رجل ثم يهلك(12/137)
صاحب الدار بعد شهر أو شهرين، كيف الأمر في ذلك إذا طلب الورثة قسمة دار أبيهم؟
قال ابن القاسم: الكراء الذي تكارى ليس لهم أن يخرجوه حتى يتم سنة، فإن أحبوا أن يقسموا فذلك لهم، يعرف كل إنسان منهم ما يصير له إذا كان لا يضر بالمتكاري ولا يضيق عليه شيء، وإن أراد ورثته إذا اقتسموا أن يبني كل إنسان منهم ما يصير له إذا كان ذلك لا يضر بالمتكاري كان ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا اختلاف فيها؛ لأن الكراء بيع من البيوع، فهو عقد لازم يلزم ورثة كل واحد من المتكاريين، فإن أمكنهم القسمة دون أن يضر ذلك بالمتكاري لم يمنع من ذلك مانع، ويقتسمونها إن شاءوا على الصفة، إذ من حق المكتري أن يمنعهم من الدخول فيها لقسمتها، فإن أذن لهم في ذلك لم يكن لهم أن يحجروا على أنصبائهم بالبنيان إلا بإذنه ورضاه، وقوله في الرواية: إن ذلك لهم إذا كان ذلك لا يضر بالمتكاري، معناه عندي إذا كان قد أذن لهم بالبنيان فلهم أن يبنوا ما لا يضر به وبالله التوفيق.
تم كتاب القسمة بحمد الله تعالى وصلى الله على محمد.(12/138)
[: يشتري الثمرة فتصيبه الجائحة فيريد أن يوضع عنه]
كتاب الجوائح والمساقاة مِن سَمَاع ابنِ القَاسِم مِن
مَالِكِ مِن كِتَابِ الرَّطْبِ بِاليَابِسِ قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك في الرجل يشتري الثمرة فتصيبه الجائحة فيريد أن يوضع عنه، فيقول رب الحائط: أنا أُقيلك ولا أضع عنك، أو يربحه في بقية الثمر، قال: الوضيعة له دين قد ثبت له إذ دعاه إلى الإِقالة أو إلى الربح في بقية الثمر؛ لأنه لو خسر أكثر مما أصيب في الجائحة لم يرَد عليه شيء، ولو لم ير رب المال أن فيما بقي فضلا أو وفاء لم يُقله والوضيعة له ثابتة ولا ينظر في غلاء السعر ورخصه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما ذكر، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه؛ لأن ما أُجِيحَ من الثمرة إذا بَلَغَ ما يجب وضعه عن المشتري مصيبته من البائع فلا حجة له في ذلك على المشتري بما رضي به من الإِقالة؛ لأنه إنما رضي بالإِقالة لسبب غلاء الثمرة، ولا حجة للبائع على المشتري في غلاء الثمرة، لأن الربح له كما أنه لا حجة للمشتري على البائع برخصها؛ لأن الخسارة عليه لو خسر على ما وزن لم يكن له بذلك على البائع رجوع، ولا له أيضا إِن(12/139)
أجيح الجل أن يرد الباقي ويأخذ جميع ثمنه إذ لا سبب للبائع في الجائحة، ففارق ذلك حكمَ الاِستحقاق والرَّدَّ بالعيب، ووجب للمشتري الرجوع بقدر الجائحة بحكم ما أوجب الشرع لما بقي على البائع من التوفية في ذلك حسبما بيناه في غير هذا الكتاب وبالله التوفيق.
[مسألة: يدفع إليه المال قراضا فيشترط العامل عليه عون غلامه أو دابته]
مسألة قال مالك: ولا بأس أن يشترط الداخل في المال على صاحب الحائط الغلام أو الدابة إذا كان شيئا ثابتا لا يزول، فإن اغتل الغلام أو هلكت الدابة أخلف مكانها أخرى وإلا كان غررا لا يَنْبَغِي، وإنما هذا إذا كان الحائط كثيرَ المؤنة والدابة فيه يسيرة، قال سحنون مثله ولا يجوز هذا في القراض أن يدفع الرجل إلى الرجل المال القراض فيشترط العامل على رب المال عون غلامه أو دابته أو يشترط إن مات الغلام أو هلكت الدابة أن على رب المال خلفها أن ذلك مكروه وزيادة يزدادها العامل، وذلك في المساقاة جائز ولو لم يشترط ضمانها في المساقاة لما جاز. قال محمد بن رشد: قولُه في اشتراط الداخل على صاحب الحائط الغلام أو الدابة إن ذلك لا بأس به إذا كان شيئا ثابتا لا يزول، يدل على أن ذلك لا يجوز إلا بشرط الخلف، وقد روي ذلك عن سحنون نصا، وقد قيل إن الحكم يوجب الخلف وإن لم يشترطه، وهو ظاهر ما في الواضحة، وما في المدونة محتمل الوجهين، والذي أقول به على التفسير للروايات جميعا أنه إن كان عين الغلام أو الدابة في اشتراطه إياهما بإشارة إليهما أو تسمية لهما فلا تجوز المساقاة على ذلك إلا بشرط الخلف، وإن كان لم يعينهما فالحكم يوجب(12/140)
خلفهما إن لم يشترطه، وقد اعترض بعض أهل النظر جواز اشتراط الخلف في الدابة والغلام المعينين وذهب إلى أن ذلك لا يجوز، كما لا يجوز اشتراط خلف الدابة المعينة إذا أكرت، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الدابة المعينة إنما لا يجوز اشتراط الخلف فيها إذا نفد الكراء؛ لأنه يصير فسخ دين في دين، وأما إذا لم ينفد فذلك جائز، والدابة المشترطة على رب الحائط في المساقاة في حكم ما اكترى ولم ينفد كراءه، إذ ليس لها في المساقاة كراء معلوم؛ لأن العرض فيها مجهول، فإن لم يشترط الخلف حيث يجب اشتراطه أو اشتراط أَلا خلف حيث يوجب الحكم الخلف رد إلى مساقاة مثله؛ لأن المساقاة إذا فسدت باشتراط أحد المساقين على صاحبه من عمل الحائط مما لا تعظم نفقته ويتأبد لرب الحائط منفعته كحفر البير وإنشاء الظفيرة، وما أشبه ذلك فإنه يرد فيه إلى مساقاة مثله، كما إذا عقداها على وجه من وجوه الغرر لم يخرجَا به من حكم المساقاة مثل أن يساقيه حائطا على النصف وحائطا على الثلث أو يُسَاقيه في حائطه سنين وفيه ثمرة قد طابت أو يجمعها مع البيع أو مع الإِجارة المنفردة عنها في صفقة واحدة وما أشبه ذلك، بخلاف إذا اشترط أحدهما على صاحبه زيادة من دنانير أو دراهم أو عروضا أو عملا كثيرا يعظم نفقته ويتأبد لرب الحائط منفعته فإن هذا كله وما أشبهه يُرد فيه إلى إجارة مثله فهذا أصل فيما يرد فيه إلى مساقاة مثله وإلى إجارة مثله يأتي عليه مسائل كثيرة هي مسطورة في الأمهات لابن حبيب وغيره.
وأما القراض فيجوز فيه اشتراط الدابة والغلام على رب المال دون اشتراط الخلف، فإن اشترط الخلف لم يجز، والفرق بين المساقاة والقراض أن المساقاة لها أمد والقراض لَا أَمَدَ له، والنفقة في ذلك على العامل في المساقاة وفي القراض وإن اشترط ذلك على رب المال في القراض أو على صاحب الحائط في المساقاة لم يجز ورد في ذلك إلى مساقاة مثله وإلى قراض مثله وبالله التوفيق.(12/141)
[: يساقي الرجل نخلة فيريد المساقى أن يساقي غيره]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل مالك عن الرجل يساقي الرجل نخلة فيريد المُسَاقَى أن يساقي غيره، إِن الناس يختلفون في أمانتهم وَرضى الناسِ بهم، فإن أتى برجل أمين فذلك له، قيل له: فالمقَارَض يريد أن يقارِضَ بما أُعْطِيَ ويجد في ذلك أهل الثقة والأمانة؟ قال: ليس هو مثل المساقاة ليس له أن يقارض أحدا إلا برضا صاحبه.
قال محمد بن رشد: فرق بين القراض والمساقاة في أن له أن يساقي رجلا أمينا، وليس له أن يقارض غيره، وإن كان أمينا إلا برضى صاحب المال؛ أن المال يغاب عليه والحائط لا يغاب عليه، فمن حق صاحب المال أن يقول: أنا لا أرضى أن يغيب هذا على مالي، وإن كان أمينا عند الناس، وفي قوله: وإن أتى برجل أمين فذلك له دليل على أن الذي يساقيه على غير الأمانة حتى يثبت أنه أمين، بخلاف ورثته إذا مات هم محمولون على الأمانة حتى يثبت أنهم غير أمناء، بخلاف القراض هم فيه محمولون على أنهم غير أمناء حتى يثبت أنهم أمناء، هذا ظاهر ما في المدونة في القراض والمساقاة، والفرق بينهما ما قَدَّمتُه من أن مال القراض يغاب عليه والحائط في المساقاة لا يغاب عليه، ولم يذكر في الرواية إن كان دونه في الأمانة أو مثله في غير الأمانة؛ وذلك اختلاف قد ذكرته في مسألة رسم إن أمكنتني من سماع عيسى من كتاب الشفعة وبالله التوفيق.
[: أخذ نخلا ليؤبرها ويصلحها ويسقيها على أن له من كل نخلة عرجونا]
ومن كتاب شَكَّ فِي طَوَافِهِ وسئل مالك عن الرجل أخذ من رجل نخلا على أن يأبرها ويصلحها ويسقيها على أنَّ له من كل نخلة عرجونا قنوا، قال: لا(12/142)
خير فيه، ولكن يشترط عليه مُدا في كل نخلة أو إجارة تلزمه، أو أمرا ثابتا.
قال محمد بن رشد: سقط من بعض الروايات أو إجارة تلزمه أو أمرا ثابتَاَ، وإسقاطُه الأوْلَى؛ لأنه أصح في المعنى من أجل أنه لا يجوز أن يشترط عليه مُدا في كل نخلة إلا أن يكون في ذلك إجارة تلزمه في ذمته لا في عين ثمر كل نخلة، ففي إثباته دليل على إجازة ذلك في عين ثمر كل نخلة، وإذا سَقَطَ سَقَطَ الدليلُ بسقوطه، وتأول على ما يجوز من أنه أراد مدا في كل نخلة إجارة لازمة له في ذمته لا في عين ثمر كل نخلة، وهذا كله بيّن والحمد لله.
[: يساقي الرجل لفترة فإذا فرغ قال صاحب الحائط لم يدفع إلي تمرة]
ومن كتاب ليرفعن أمرا إلى السلطان قال: وسئل مالك عن الرجل يساقي الرجل لسنة أو لسنتين أو ثلاثة، فإذا فرغ قال صاحب الحائط: لم يدفع إلي تمرة، قال مالك: إن كان قد جذ فلا شيء له.
قال محمد بن رشد: قوله إن كان قد جذ فلا شيء له معناه إِن المساقَى مصدق مع يمينه في دفع حظه إليه من الثمرة؛ لأنها في أمانته لا في ذمته، فوجب أن يكون القول قوله كالمودَع يدعي صرف الوديعة إلى ربها؛ وذلك منصوص في كتاب ابن المواز، قال: يحلف العامل كان بقرب الجذاذ أو لبعده، قال: وكذلك لو جذ بعضا رطبا والباقي ثمرا فقال قبل الجذاذ: لم يدفع إلي من الرطب شيئا ولا من ثمنه، كان المساقِي مصدقا في الرطب على هذا المنصوص عليه في هذه المسألة، ولا يبعد دخول الاختلاف فيها بالمعنى من مسألة الوكيل على القبض يدعي الدَّفع إلى من وكله؛ إذ قد قيل: إن القول قول الوكيل مع يمينه بكل حال قرب أو بعد، وقيل: إن كان قريبا كان القول قول(12/143)
الموكل مع يمينه أنه ما قبض، وإن بعد بمثل الشهر أو نحوه كان القول قول الوكيل مع يمينه على الدفع، وإن بعُد الأمر جدا كان القول قوله دون يمين، وقيل: إن كان بحضرة ذلك وقربه بالأيام اليسيرة صُدق الوكيل مع يمينه، وإن طال صدق دون يمين، وأما إن مات المساقَى فادعى صاحب الحائط أنه لم يقبض حظه من الثمن؛ فإن كان بقرب الجذاذ كان ذلك في ماله، وإن بعد الأمر لم يكن ذلك في ماله، ولا خلاف عندي في هذا الوجه وبالله التوفيق.
[: اشترى ثمر حوائط في صفقة واحدة فيصاب منها حائط ثمرته كلها أو بعضها]
ومن كتاب طلق بن حبيب
وسئل مالك عن رجل اشترى ثمر حوائط في صفقة واحدة فيُصاب منها حائط ثمرته كلها أو بعضها، أترى أن يوضع عَنه؟ قال: إن كان ذلك الحائط أو ما أصيب منه ثلث الثمرة من جميع الحوائط وضع عنه، وإلا لم يوضع عنه، وإن كان الحائط كله، وإن كان في صفقات مختلفات وضع عنه من كل حائط ثلث ثمرته لِمَا أصابته الجائحة.
قال محمد بن رشد: أما الحوائط إذا اشتُريت في صفقة واحدة فحكمها في الجائحة حكمُ الحائط الواحد إن تلفت الجائحةُ ثلثَ ثمر الجميع وضع عن المبتاع ثلث الثمن كان الذي أجيح بعض حائط أو حائطا وبعض حائط أو من كل حائط، هذا إذا كان الثمر من صنف واحد متساويا في الطيب أو قريبا بعضه من بعض، واختلف إذا كان بعضه أفضل وأطيب من بعض على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا قيمة في ذلك، ويكون ثلث الثمر بثلث الثمن، وهو قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه، بخلاف ما يُجْنَى بطنا بعد بطن، والثاني: أنه إن بلغت الجائحة ثلث الثمن أو أكثر وضع عن المشتري ما ينوب(12/144)
ذلك من الثمن، وإن أجيح أقل من الثلث لم يوضع عنه شيء، وإن ناب ذلك من الثمن أكثر من الثلث، وهو قول أصبغ، والثالث أنه إن أجيح ما قيمته من ذلك الثلث فصاعدا وضع عنه، وإن كان عشر الثمرة، وإن كان قيمة الذي أجيح أقل من الثلث لم يوضع عنه، وإن كان تسعة أعشار الثمرة مثل تين وعنب ورمان على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يُفَضُّ الثمن على الأصناف كلها فتعتبر الجائحة في كل صنف على حِدَتِه بما ينوبه من الثمن كما لو اشتراه وَحْدَه، والثاني أنه إذا بلغ ما أجيح من ذلك ثلث الثمن فأكثر وضع ذلك عن المشتري من غير اعتبار بقدر الجائحة من الثمر، وهو قول أشهب، وذهب ابن المواز إلى أنه إذا كان أحدُ الأصناف أقل من الثلث لم يوضع منه شيء، وإن أتت الجائحة على جميعه، وبالله تعالى التوفيق.
[: ساقى نخلا فجذه إلا نحوا من عشرين نخلة تخلفت أعليه سقي الحائط كله]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل مالك عن رجل سَاقَى نخلا فجذَّه إلا نحوا من عشرين نخلة تخلفت، أعليه سقيُ الحائط كله؟
قال: نعم، قال عيسى في روايته قيل له وإن كانت عدائم؟ والعدائم التي يتأخر طيبها.
قال محمد بن رشد: العدائم صغار النخل التي يتأخر طيبها، قاله بعض أهل اللغة، وقال الخليل: هي صنف من الرطب بالمدينة تأتي في آخر السنة، وهو الأظهر، فعلى قوله: إن العدائم صنف من أصناف التمر يتأخر طيبه يدخل فيه من الاختلاف ما في الحائط يكون فيه أصناف من الثمار مثل عنب وتين ورمان ويتعجل طيب بعض ذلك قبل بعض، ويتحصل فيها ثلاثة أقوال أحدها أنه يلزم المساقَى سقيُ الحائط كله ما بقي من العدائم شيء لم يجذ(12/145)
وإن قل وهو قوله في هذه الرواية ومثله في المختصر لمالك وابن القاسم، والثاني أنه لا يجب عليه سقي العدائم وحدها، كانت الأقل من الحائط أو الأكثر منه، وهو الذي يأتي على قياس قول مطرف في الحائط يكون فيه أصناف من الثمر إلا أن يشترط عليه سقي الحائط كله حتى يفرغ ما فيه من الثمر فيجوز ذلك، رواه ابن وهب عن مالك في موطأه، والقول الثالث أن القليل تَبَعٌ للكثير، فإن كانت العدائم قليلة في الحائط كان على صاحب الحائط سقيُ جميع حائطه العدائم وغيرها، فإذا جَذّ العدائمَ دفع إلى المساقَى حظه منها، وإن كانت أكثرَ الحائط كان على المساقَى سقيُ جميع الحائط كله كما يكون عليه سقيه كله إذا جذ بعضه وبقي بعضه وإن كان ذلك متأصلا أو متشابها فعلى المساقَى أن يسقي العدائم وحدها، وعلى رب الحائط أن يسقي من حائطه ما سوى العدائم التي قد انقضى السقي فيها بجذاذها، ولا اختلاف في الصنف الواحد يتعجل جذاذ بعضه قبل بعض، والأمر في ذلك متتابع في أنه يلزمه سقي جميع الحائط حتى ينقضي جذاذ جميع ثمره، وبالله التوفيق.
[مسألة: يساقي النخل وفيها شيء من الموز الثلث أو دون ذلك]
مسألة وَسئل عن الرجل يساقي النخل وفيها شيء من الموز الثلث أو دون ذلك، قال: قال مالك: إني أرى أن يكون خفيفا، قال سحنون إن كان الموز مساقى مع النخل جاز، وإن لم يشترط العامل لم يحل.
قال محمد بن رشد: قولُ سحنون مفسِّرٌ لقول مالك؛ لأن الموز وإن كان لا تجوز مساقاته على انفراد فيجوز إذا كان في حيز التبع للحائط بمنزلة الأرض البيضا لا يجوز كراؤها بالجزء مما يخرج منها ويجوز ذلك مع النخل إذا كانت تبعا لها، ولا يجوز أن تلغى للعامل، وإن كانت في حيز التبع بخلاف الأرض البيضا ولا أن يكون لرب الحائط لأنه يكون قد ازداد على العامل سقيه.(12/146)
والفرقُ بين الأرض البيضا والموز إذا كانا في حيز التبع للحائط في جواز إلغائهما للعامل السُّنَّةُ الواردةُ في إلغاء الأرض في المساقاة؛ وإذ قد جاء ذلك في بعض الآثار، ولذلك قال مالك: فهذا أُحله هو الذي يأتي في هذه المسألة على ما في المدونة؛ لأنه لم يُجز فيها لأحد المساقين في الزرع إن كانت فيه نخلات يسيرة أن يشترطها أحدهما على صاحبه، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه لا بأس أن يشترط العامل الزرع الذي في الحائط إذا كان يسيرا لنفسه خاصة، ومثلُه لمالك في الثاني من التفسير ليحيى عن ابن القاسم، رواه الحارث عن ابن القاسم عنه، فعلى هذا يجوز إذا كان الموز يسيرا في الحائط أن يشترطه كل واحد منهما على صاحبه، فيحتمل على هذا أن يكون قولُ سحنون مثلَ ما في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ إذ قد اختلف قول مالك في هذا الأصل حسبما بيناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: بيع الثمر قبل أن يخلق]
مسألة وسئل مالك عن رجل ساقى نخلا له ثم إن الذي ساقى عليها أنفق عشرين دينارا ثم أراد الخروج فأراد أن يُعْطيَ العشرين الدينار التي أنفق فيها ويخرج من المساقاة، قال مالك: لا خير فيه ولكن إِن أحب أن يساقيها أحدا على ما شاء النصف أو الثلث فذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه ولا إشكال أنه لا يجوز أن يخرج من المساقاة على شيء يعطي لا قبلَ أن يَعمل ولا بعد أن عمل؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع حظه من الثمر قبل أن يخلق بما عليه من عمل الحائط ومن بقية عمله وبما أعطي، فدخله ما نهي عنه من بيع الثمر قبل أن يخلق، وأما مساقاة غيره على ما شاء النصف أو الثلث فقال في الرواية: إن ذلك له يريد إذا كان أمينا مثلَه في الأمانة باتفاق، وأما إن كان أمينا إلا أنه دونه في الأمانة أو غير مأمون إلا أنه مثله في الأمانة فيتخرج ذلك على ما(12/147)
ذكرته من الاختلاف في رسم إن أمكنتني في سماع عيسى من الشفعة،، وفي ذلك تفصيل.
أما إذا ساقاه على مثل الجزء الذي سوقي؛ فذلك جائز بعد أن عمل باتفاق شاء رب الحائط أو أبى، وأما قبل أن يعمل فيجوز أيضا شاء رب الحائط أو أبى على مذهب مالك الذي يرى المساقاة تلزم بالقول، ولا تجوز إلا برضاه على مذهب من يرى المساقاة لا تلزم بالقول.
وأما إذا ساقاه على أكثر من الجزء الذي سُوقي عليه مثل أن يكون ساقاه صاحب الحائط على أن يكون له النصف وساقى هو الآخر على أن يكون له الثلثان، فإن كان بعد أن عمل كان له الفضل، وإن كان قبل أن يعمل كان له الفضل أيضا على مذهب مالك الذي يرى المساقاة تلزم بالقول، ولم يكن له على مذهب من يرى أنها من العقود الجائزة التي لا تلزم بالقول.
وأما إن كان ساقاه على أقل من الجزء الذي سوقي به مثل أن يكون ساقاه صاحب الحائط على أن يكون له النصف، وساقى هو الآخر على أن يكون له الثلثان، فسواء كان ذلك قبل أن يعمل أو بعد أن عمل رب الحائط أحق بالجزء الذي اشترطه، ويرجع العامل الثاني على العامل الأول، قال في كتاب القراض من المدونة: ويتبع المساقَى الآخر المساقى الأول بالسدس الذي بقي له فيأخذه، وهو كلام وقع في المدونة على غير تحصيل؛ لأن الواجب إنما هو أن يرجع المساقى الثاني على المساقى الأول بربع قيمة عمله في الحائط؛ لأن رب الحائط استحق من نصيبه من التمر الذي استحقه بعمله ربعه، فوجب أن يرجع بربع قيمة عمله، إذ قد فات، كمن استأجر أجيرا بمكيلة من الثمر بعينه فاستحق ربعه منه بعد أن عمل ما استوجر عليه، ويُخَرَّجُ ذلك على ما في كتاب الشفعة من المدونة في الذي يشتري الشقص بطعام بعينه فيستحق بعد أن أخذ الشفيع بالشفعة أن البيع لا يرد ويغرمه مثل طعامه وأصلحه سحنون أن البيع لا يرد ويغرم له قيمة الشقص، وإصلاح سحنون(12/148)
صحيح على أصولهم، وأصله ما ذكرناه في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: ساقى نخلا فجاء الله بماء السماء فدخل في الحائط فأقام فيه حينا]
مسألة وقال مالك في رجل ساقى نخلا فجاء الله بماء السماء فدخل في الحائط فأقام فيه حينَاَ أترى أن يحاسبه صاحب الحائط بتلك الأيام التي أقام فيها الماء؟ قالَ مالك: لا أرى أن يحاسبه بشيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا اختلاف فيها عندي؛ لأنه إذا عامله على عمل الحائط وسقيه في وقت حاجته إلى السقي دون جهد ولا توقيت على جزء من الثمرة فجاز ذلك على ما جاءت به السُّنَّة في مساقاة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أهل خيبر، وتخصص بها من الِإجارة المجهولة فلا رجوع لواحد منهما على صاحبه إن اختلفت الثمرة أو زاد العمل على المعهود أو نقص منه، بخلاف الِإجارة لو استأجر رجل بِدَنَانِيرَ أو دراهم على أن يسقى له حائطه زمن السقي وهو زمن معلوم عند أهل المعرفة فجاء الله بماء من السماء فدَخل الحائط فأقام فيه حينا لوجب أن يحط من إجارته بقدر ما أقام الماء في الحائط فسقط عنه فيه السقي، وقوله حينا، يريد مدة من الزمن غير موقتة؛ لأن الحين يقع على القليل والكثير من الزمن، وليس ذلك بخلاف لما في المدونة لمالك في أن الحين في الأيمان منه؛ لأن المعنى في ذلك إنما تحمل على السنة إذا لم تكن له نية في أقل منها ولا أكثر؛ لقول الله عز وجل {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: ساقى رجلا عن حائطه فعمل فيه شهرا]
ومن كتاب باع غلاما وسئل مالك عن رجل ساقى رجلا عن حائطه فعمل فيه شهرا(12/149)
أن الداخل عجز، قال له صاحب الحائط: أنا أعطيك عشرة دنانير ولا تخرج منه، قال لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنهُ إذا عجز فلم يقدر على العمل ولا على الاستيجار عليه ولا وجد من يساقيه فيه فقد وجب أن يرجع الحائط إلى ربه ويخسر هو عمله، فإذا أعطاه عشرة دنانير وذلك ما لا يحل ولا يجوز وبالله التوفيق.
[مسألة: باع ثمرا واشترط البراءة من الجائحة]
مسألة وسئل مالك عمن باع ثمرا واشترط البراءة من الجائحة قال: لا أرى البراءة تنفعه من الجائحة وأراها لازمة له إذا نْزلت الجائحة بالمشتري.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، والوجه فيها أن الجائحة لو أسقطها بعد وجوب البيع لم يلزمه ذلك؛ لأنه أسقط حقا قبل وجوبه، فلما اشترط إسقاطها في عقد البيع لم يسقط ولا أثَّرَ ذلك عنده في صحته إذا رأى أن الشرط لم يقع له حصة من الثمن من أجل أن الجائحة أمر نادر والسلامة منها أغلب، فوجب أن يثبت البيع ويسقط الشرط وهو أحد الأقسام في الشروط المقترنة بالبيوع، وهي أربعة أقسام القسم الثاني ما يفسخ فيه البيع والشرط، وهو ما كان الشرط فيه يؤدي إلى الِإخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة البيع، والقسم الثالث ما يجوز فيه البيع والشرط وهو ما كان الشرط فيه جائزا لا يؤدي إلى الإِخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة البيع والقسم الرابع ما يفسخ فيه البيع ما دام مشترط الشرط مُتَمَسِّكا بشرطه فإن ترك الشرط صح البيع، وهي بُيُوعُ فعلى هذا لا تتعارض الآثار الواردة عن(12/150)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في البيع والشرط وبالله التوفيق.
[مسألة: ساقى حائطا له فتهور البير]
مسألة وسئل مالك عن رجل ساقى حائطا له فتهور البير، قال: إِن أحب الداخل أن ينفق عليها من ماله ويكون الثمر في يديه رهنا حتى يستوفى فذلك له.
قال محمد بن رشد: لم ير في هذه الرواية على صاحب الحائط أن يصلح البيرَ المساقَى، وقال إن أحب أن ينفق هو من ماله ويكون الثمرة في يديه رهنا يريد حصةَ صاحب الحائط حتى يستوفي فذلك له فعلى قوله فيها إن لم يف حظ صاحب الحائط من الثمرة بما أنفق العامل في البير لم يكن له عليه بالباقي رجوع، وذلك على قياس ما في كتاب الرهون من المدونة من أن الراهن إذا أبى أن يصلح البير كان للمرتَهَنِ أن يصلحها ليحيى رهنه، ولا يرجع بذلك على الراهن، وتكون نفقته في الرهن مُبَدَّأَة على الدين، فإن لم يف الرهن بالنفقة لم يرجع على الراهن بما بقي له من نفقة، وذلك كله خلاف ما في رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الرهون في الذي يرتهن الثمرة فتهور البير أن إِصلاحها على الراهن حتى تتم الثمرة ويتم الرهن لصاحبه يُجْبَرُ على ذلك إن كان له مال، وإن لم يكن له مال فتطوع المرتَهن ببنيانها نظر في ذلك، فإن رأى أن تطوعه خير لرب الأصل من أن يباع منه بعضه لِإصلاح البير قيل له: انفق ويكون الأصل لك رهنا، في الذي تنفقه في البير ويُطْلَبُ الراهن بنفقته كاملة؛ لأنها كالسلف عليه، فيأتي في مسألة المساقاة هذه على قياس رواية يحيى أن يُجْبَر رب الحائط على إصلاح البير لئلا يذهب عمل المساقَى باطلا إن كان له مال، فإن لم يكن له مال سِوَى الحائط بيع منه ما يصلح فيه البير، فإن تطوع المساقَى بالنفقة في إصلاح حظ صاحب الحائط كان له أن يتبعه ببقيتها لأنها كالسلف عليه، قال فضل: وقد روى أشهب عن مالك إذا عمل المساقَى فانهدم البير أو تهورت العين إن أحب الداخل أن يعمر(12/151)
ويكون على مساقاته وإلا ترك المساقاة ولا شيء له من الثمرة، ولم ينص ما نص ابن وهب وابن القاسم أنه يعمر من نصيب رب الأرض وإن كان لم ينص على ذلك في هذه الرواية كما قال فضل، فهي إرادته إذ لا يصح أن يكلف ذلك من ماله بوجه، وإنما يفعله عنه على سبيل السلف إن شاء وبالله التوفيق.
[مسألة: أخذ حائطا على النصف ثم يدفعه على الثلثين]
مسألة وسئل عن رجل أخذ حائطا على النصف ثم يدفعه على الثلثين وعلم صاحب الأصل بذلك، فلما حضرته الثمرة أراد الداخل أن يأخذ الثلثين، قال مالك ليس ذلك له ولكن يأخذ الأول النصف، فقال له الداخل أَفَلِي أَنْ أرجع على صاحبي بِمَا بقي؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله وعلم صاحب الأصل بذلك معناه علم فلم ينكر، فلم ير عليه حجة في سكوته، وقال أن من حقه أن يأخذ نصف الثمرة، قال في كتاب محمد: وكذلك لو حضر دفعه إليه على الثلثين، إذ لعله يقول لم يكن الشيء في يدي فأرضى بتسليمه، وظننت أنه يعطيه من عنده أو يشتري من نصيبي، وهذا عندي على القول بأن السكوت ليس كالإذن، وهو أحد قولي ابن القاسم وأما على القول بأنه كالإِذن فيجب أن يكون الثاني أحق بثلثي الثمرة ويرجع رب الحائط على المساقى الأول الذي ساقاه بمثل سدس الثمرة فيستوفى بذلك نصفها، وإذا كان الأول أحق بنصف الثمرة على ما قاله في الرواية في المدونة سواء، وقد تقدم من قولنا في رسم سَنّ قبل هذا الرسم أنه كلام وقع على غير تحصيل؛ لأن الواجب أن يرجع عليه بقدر صاحب الحائط من حظه من الثمرة في قيمة عمله؛ لأن الثمرة إجارة له في عمله، فلما استحق بعضها وجب أن يرجع بذلك الجزء من قيمة عمله، ويلزم على قياس هذا إذا علم المساقى الثاني أن المساقى الأول على النصف أن تكون مساقاته فاسدة أنه دخل معه على أن يكون له بعمله نصف الثمرة وقيمة ربع عمله، وذلك ما لا يحل ولا يجوز، وقد رأيت لبعض أهل(12/152)
النظر مِمَن حمل قوله على ظاهرة من أنه يرجع عليه بمثل سدس الثمرة أن المساقاة لا تجوز لأنه يصير كأنه ساقاه الحائط على نصف ثمرته وعلى مثل سدس ثمرته يدفعها إليه من حائط آخر فكيف بهذا؟ وبالله التوفيق.
[: يشترط رب الحائط على العامل ثمر نخلة من الحائط]
ومن كتاب كتب عليه ذكر حق قال مالك: لا ينبغي للمساقي أن يشترط ثمر نخلة واحدة، ولا مقارض أن يشترط ربح دينار واحد، ولا ينبغي للمساقي أن يشترط ما على ربيع الماء من النخل ولا بأس أن يشترط الجداول أن يسقيها إذا كانت يسيرة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال من أنه لا ينبغي أن يشترط رب الحائط على العامل ثمر نخلة من الحائط، ولا ما على ربيع الماء منه؛ لأن المساقاة عقد على حياله مستثنى من الأصول أُجِيزَ لضرورة الناس إلى ذلك وحاجتهم إليه، إذ لا يمكن الناس على حوائطهم بأيديهم، ولا بيع الثمر قبل بدو صلاحها فضلا عن بيعها قبل أن تخلق للاستيجار من ثمنها على ذلك إن لم يكن لهم مال، فلهذه العلة رخص في المساقاة مع اتباع السنة في مساقاة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أهلَ خيبر، فلا يجوز إِلّا على ما جوزته السنة من أن يساقيه في الحائط بأن يدفعه إليه كما هو، وبعماله إن كان لَهُ عمال من دواب أو غلمان على أن يكفيه سقيه وعمله بجزء من ثمرته، غير أن أهل العلم استخفوا اليسير من العمل، أو من آلَتِهِ من الحديد وشبهه يشترطه من وجب عليه منهما على صاحبه كالدابة والغلام في الحائط الكبير، فيشترطه العامل على رب الحائط وكنجم العين وسد السرب وإصلاح الشيء اليسير وما أشبه ذلك يشترطه رب الحائط على المساقي، فإن وقعت المساقاة بينهما على أن اشترط أحدهما على صاحبه من العمل ما لم يجوزه أهل العلم، وفات العمل رد إلى مساقاة(12/153)
مثله كنحو هذه المسألة في اشتراط رب الحائط تمر النخلات من حائطه على المساقيَ؛ لأنه كأنه ساقاه فيما على النخلات التي استثنى ثمرتها على أن يسقي له النخلات التي استثنى ثمرتها، فهي زيادة في عمل المساقاة لم يخرجا بها عن سنة المساقاة، فإن عثر عليها قبل العمل فسخت، وإن لم يعثر عليها إلا بعد العمل رُدّ إلى مساقاة مثله فيما عدى النخلات التي استثنى رب الحائط ثمرتها، ويكون له أجرة مثله في سقي تلك النخلات، وكذلك إذا ساقاه في حائط على أن يكفيه مؤنة حائط آخر حسبما يأتي في رسم سلف من سماع عيسى، وكذلك إذا ساقاه في الحائط على أن يكون ثمر البرني بينهما وما سواه فلرب الحائط، قاله ابن حبيب، ولو ساقاه فيه على أن يكون ثمر البرني بينهما وما سواه فللعامل لوجب على قياس ما قلناه أن يرد في الجميع إذا فات إلى إجارة مثله، ولم ينص في المدونة على الحكم في ذلك، إنما وقع وإنما قال إن ذلك لا يجوز إلا أكثر وأما إجازته اشتراط سقي الجداول عليه إن كانت يسيرة فهو من العمل اليسير الذي جوزوا استئصاله وبالله التوفيق.
[: المستثني مبقي على ملك البائع]
ومن كتاب الشجرة وسئل عن الرجل يبيع حائطه ويستثني أوْسُقا أقل من الثلث فيصاب الحائط بنصف الثمرة فيريد المبتاع أن يضع عنه نصف ما استثنى عليه أترى ذلك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: مثلُ هذا في كتاب ابن المواز: وقال إن أشهب وابن عبد الحكم رويا عن مالك مثلَه، وقال إن أجيحَ أقلُّ من الثلث أخذ البائع بما سَلِمَ جميع ما استثنى، وهذا كله صحيح على القول بأن المستثنى بمنزلة المشتري؛ لأنه إذا باع حائطه واستثنى منه عشرة أرَادِب فكأنه في التمثيل على هذا القول قد باع جميع الثمرة وفيها ثلاثون إردبا بعشرة دنانير وبالعشرة الأرادب التي استثنى، فإن أجيح من ثمر الحائط وهو على ما نزلناه(12/154)
ثلاثون نصفه سقط عن المشتري نصف الثمن، وهو نصف العشرة دنانير ونصف العشرة الأرادب المستثناة؛ لأنها من ثمر الحائط، وكذلك على هذا القياس أن أجيح الثلثان أو الثلث سقط عن المشتري ثلثا الثمن وهو ثلثا العشرة دنانير وثلثا العشرة أرادب المستثناة أو ثلثه وهو ثلث العشرة دنانير وثلث العشرة الأرادب المستثناة، وإن أجيح أقل من الثلث لم يسقط عن المشتري شيء من الثمن وهو العشرة الدنانير والعشرة الأرادب، ولو أجيح الحائط كله لسقط عنه الثمن كله، العشرة الدنانير والعشرة الأرادب وقد روى ابن وهب عن مالك أنه يأخذ جميع ما استثنى كاملا أجيح الثلث أو أقل أو أكثر وَلاَ جائحة على البائع حتى يستثني جزعا شائعا، قال ابن عبد الحكم: وهذا كله صحيح أيضا على القول بأن المستثني مُبَقِّي على ملك البائع لأنه على هذا القول إذا باع من حائطه ما بقي منه بعدما استثنى لأن الذي استثناه أبقاه على ملكه لنفسه لم يبعه، فإن كان ثمن الحائط في التمثيل على هذا ثلاثين فباعه بعشرة دنانير واستثنى منه عشرة أرادب فإنما باع عشرين إردبا بعشرة دنانير، فإن ذهب من ثمر الحائط بالجائحة عشرة أرادب كانت الجائحة قد أذهبت نصف ما اشترى المشتري، فوجب أن يسقط عن المشتري نصف العشرة دنانير ويأخذ البائع ما استثناه، وإن أتت الجائحة على جميع الثمرة حاشى العشرة الأرادب التي استثناها البائع كانت للبائع وسقط عن المشتري جميعُ الثمن، ولو أجيح الحائط كله كانت المصيبة من ربه فسقط الثمن عن المبتاع، وهذا كله بين والحمد للَّه.
وبالقول الأول يقول ابن القاسم وأصبغ فيما ذكر ابن المواز في الواضحة، قال ومن باع ثمر حائطه وقد يَبِس واستثنى منها كيلا ما يجوز له، فأجيح قدر الثلث أو أكثرُ فلا يوضع عن الثمن ولا من الكيل المستثنى شيء، كالصبرة، وهذا كما قال؛ لأنه ما بقي للبائع ما استثنى بمصيبته ما استثنى من المبتاع، ويلزمه أداء جميع الثمن على كلا القولين وأما إن تلف الجميع فعلى القول بأن المستثني مبقي على ملك البائع لا رجوع له على المبتاع؛ لأنه(12/155)
مصيبة ما استثناه منه؛ لأنه تلف على ملكه، وأما على القول بأنه بمنزلة المشتري فيرجع عليه بقدر الأرادب المستثناة من جميع الثمن في قيمة الصبرة، وبيان ذلك بالتنزيل أن يبيع الرجل صبرة فيها ثلاثون إردبا بعشرة دنانير، ويستثني منها عشرة أرادب، فتهلك كلها بعد العقد فإن البائع يقول له مصيبة جميع الثمرة منك؛ لأنها بالعقد تدْخل في ضمانا، وقد بعثها منك بعشرة دنانير وبالعشرة أرادب فأدِّ إلَيَّ العشرة دنانير ونصف قيمة الصبرة؛ لأن نصف الثمن وهو العشرة الأرادب إذ قيمتها عشرة دنانير لم أقبضه؛ لأن ضمانه منك، إذ هو على الكيل فادفع إلي نصف قيمة الصبرة إذ قد استحق من الثمن نصفه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: مساقاة الحائطين على سقاء واحد]
مِن سَمَاع أشْهَبَ وَابنِ نافع من مالك
من الكتاب الذي أوله القراض قال سحنون أخبرني أشهب وابن نافع، قالا: سئلِ مالك عن رجل يكون له الحائط فيه البَعل أو غيره أيساقيهما جميعاَ في سقاء واحد؟ قال: نعم لا بأس به، وقلت لمالك لا بأس به؟ فقال مالك: نعم لا بأس به.
قال محمد بن رشد: مثل ما في المدونة من أنه يجوز مساقاة الحائطين على سقاء واحد وإن لم يكونا مستويين خلافُ ما في رسم أن أمكنتني من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب من أنه لا يجوز أن يساقي الحائطان على سقي واحد، إلّا أن يكونا مستويين، فاختلف في هذا ولم يختلف في أنه لا يجوز مساقاة الحائطين على جزءين مختلفين كانا متفقين أو مختلفين ولا فرق بينهما في المعنى والقياس إذ الأخطار فيها سواء؛ لأنه إذا اختلف الحائطان أو الجزءَان فقد حمل أحدهما صاحبه وإنما فرقت بينهما(12/156)
السنة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى خيبر كلها على النصف وفيها الجيد والردي فإن وقعت المساقاة في الحائطين المتفقين والمختلفين على جزءين أو في الحائطين على جزء واحد على القول بأن ذلك لا يجوز ففات ذلك بالعمل رد العامل فيه إلى مساقاة مثله وبالله التوفيق.
[: ساقى ثلاث سنين أليس ذلك من جذاذ إلى جذاذ]
ومن كتاب أوله مسائل البيوع
قال وسألته عن الذي سَاقَى ثلاث سنين أليس ذلك من جَذاذ إلى جَذاذٍ؟ قال: بلى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه؛ لأن السنين في المساقاة إنما هي بالأجذّةِ لا بالأهلة، بخلاف العمالات إنما هي بالأهلة لا بالأجذّة، فإن ساقاه السنين واشترط أحدهما على صاحبه الخروج قبل الجذاذ أو بعده رد في ذلك إلى مساقاة مثله على الأصل الذي ذكرناه في أول رسم من سماع ابن القاسم وفي رسم كتب عليه حق بعده وبالله التوفيق.
[مسألة: رب الحائط يقول لرجل تعال اسق أنت وأنا حائطي هذا ولك نصف الثمرة]
مسألة قال وسئل عن رب الحائط يقول لرجل تعال اسق أنت وأنا حائطي هذا ولك نصف الثمرة، قال: لا يصح هذا، وإنما المساقاة أن يسلم الحائط إلى الداخل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن ذلك لا يصلح، فإن وقع ذلك وفات بالعمل كان العامل فيه أجيرا؛ لأن رب الحائط اشترط أن يعمل معه فكأنه لم يُسلمه إليه وإنما أعطاه أجْرا من الثمرة على أن يعمل معه، بخلاف إذا اشترط العامل أن يعمل معه رب الحائط، هذا قال فيه ابن القاسم(12/157)
في المدونة وغيرها: إنه يُرَدُّ فيه إلى مساقاة مثله، وقال أشهب: يُرَد إلى إجارة مثله، وقال سحنون: يجوز ولا يرد إلى مساقاة مثله، كما لو اشترط عليه عاملا يعمل معه إن كان الحائط كبيرا يجوز اشتراط الغلام والدابة وبالله التوفيق.
[مسألة: أعطاه الحائط فقال له اسقه ولك الثمر كله]
مسألة ولو أعطاه الحائط فقال له اسقه ولك الثمر كله لم يكن بذلك بأس إلّا أن يكون سقي صاحب الحائط قبل ذلك بأشهر، قلت: أرأيت الذي يسقي حائطه الشهر أو الشهرين ثم يبدو له أن يساقي حائطه على النصف؟ فقال: إن كان يتبعه بما سَقَى فلا يصلح، وإن كان يلغي ما ساقى فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله في المسألة الأولى إلا أن يكون سقى صاحبُ الحائطِ قَبْلَ ذلك بأشهر يُبَيِّنُهُ قولُهُ في المسألة الثانية إن كان يتبعه بما سَقَى فلا يصلح، وإن كان يُلْغي ما سَقَى فلا بأس به، ومعناه إذا وقع الأمر على هذا على غير قصد إليه ولا اشتراط له، ولو قال له: تعال أساقيك في حائطي بعد أن أسقيه أنا شهرا أو شهرين لم تجز، فإن وقع رد إلى مساقاة مثله، وأما إن ساقاه بعد أن سقى أشهرا على أن يتبعه بما سقي فإنه يرد إلى إجارة مثله وبالله التوفيق.
[مسألة: خروجه على المساقاة قبل أن يعمل أو بعد العمل]
مسألة وسئل عن رجل كان في حائطه مساقاة على النصف فبيع الحائط فأراد الداخل في الحائط أن يخرج منه بشيء يُعْطَاه، قال: لا يصلح من ذلك شيء يأخذه أو يعمل حتى يتم مساقاته، أرأيت لو كان صاحب الحائط نفسه ولم يبعه فأراد أن يخرجِ منه بشيء يعطاه؟ فقال: لا يصلح هذا إلا أن يخرج منه بغير شيء، أو يقيم على مساقاته، قيل له: أرأيت إن كانت مساقاته على النصف فلما بِيعَ(12/158)
الحائط أراد أن يخرج منه بأن يعطي سدس الثمرة في الجذاذ؟ فقال: هو بمنزلة صاحب الحائط الأول لو لم يبع، قال أشهب: وتفسير مكروهة إذا عمل فيه أشهرا ثم أراد أن يخرج منه بسدس الثمرة أن رب الحائط كأنه استأجره تلك الأشهر بسدس ثمر الحائط فصارت المساقاة دُلْسَة بينهما فصار بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
وأما إذا لم يعمل في الحائط شيئا حتى يخرج منه إلى رب الحائط بربح سدس الثمرة فإن ذلك لا بأس به في قول من يقول إن السقاء إذا وجب بينهما لم يقدر واحد منهما على ترك ذلك وإن كان لم يعمل.
قال محمد بن رشد: أما خروجه على المساقاة قبل أن يعمل أو بعد أن عمل لرب الحائط أو للمبتاع له على شيء يُعطاه فلا يجوز باتفاق، فإن وقع ولم يعثر على ذلك حتى فات بالعمل ردّ فيما عمل إلى إجارة مثله، وأما خروجه عن المساقاة بعد أن عمل على جزء منهما فمنع من ذلك في هذه الرواية، وقد فسر أشهب مكروهة بما لا مزيد عليه من أن ذلك دلسة فيما بينهما فمكروهه حماية الذرائع والتهمة لهما على إجازة الإِجارة الفاسدة بينهما بما أظهراه من المساقتين الصحيحتين فلا حرج عليهما إذا فعلاه لأمر بدا لهما دون دلسة كانت بينهما لأنها بانفرادها مساقاة صحيحة كالأول، فإن وقع رد إلى إجارة مثله على تعليله، وأجاز ذلك ابن القاسم في رسم الأقضية والأحباس من سماع أصبغ على ما ذكر من وجه جوازه.
وأما خروجه عَنْ المساقاة قبل أن يعمل على جزء مسمى فلا خلاف في جواز ذلك على مذهب مالك الذي يرى المساقاة من العقود اللازمة وعلى(12/159)
مذهب من يراها من العقود الجائزة التي لا تلزم لأن الجزء الذي يعطيه على مذهبه هبة من الهبات، فقوله: إن ذلك لا بأس به، في قول من يقول إن السقاء إذا وجب بينهما لزمهما ولم يكن لواحد تركة كلام فيه نظر، إذ هو جائز على كلا القولين، فمراده به أنه عقد لا بأس به يلزمهما على مذهب من يرى أن الشقاء يلزمهما بالعقد لأنهما على مذهب من لا يرى السقاء لازما بالعقد هبة من الهبات إذا علم أن ذلك لا يلزمه، ولو ظن أن ذلك يلزمه فأعطاه الجزء على الخروج لكان من حقه إذا علم أن ذلك لا يلزمه أن يرجع به عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: المساقاة على انكسار صلة الزرنوق وحرف القف]
مسألة وسئل عن المساقاة على انكسار صلة الزرنوق وحرف القف يكون في ذلك غرم الدينار والدريهمات على من ترى ذلك؟ قال: أرى ذلك كله على رب الحائط.
قال محمد بن رشد: الزرنوق الخطارة والقف المعجمة التي يقع فيها الماء، وقال أبو صالح: حرف القف الجلد الذي في القفة الذي يسقي بها الماء والأول أظهر، وذلك كله من اليسير الذي يجوز لرب الحائط أن يشترطه على المساقاة وبالله التوفيق.
[مسألة: يشترط رب الحائط على الداخل الخرص]
مسألة ولا بأس بأن يشترط رب الحائط على الداخل الخرص لأنه جزء معلوم، ولا يجوز أن يشترط ذلك الداخل على رب الحائط {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] .(12/160)
قال محمد بن رشد: الحكم في زكاة تمر المساقاة أن يخرج من جملتها إذا بلغت ما يجب فيه الزكاة أو كان لرب الحائط مال سواه إذا أضافه إِليها بلغت ما يجب فيه الزكاة ثم يقتسمان الباقي بينهما بعد إخراج الزكاة على ما اتفقا عليه من الأجزاء في المساقاة، فإن اشترط أحدهما على صاحبه أن يكون جميع الزكاة في حظه جاز ذلك على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، اشترط رب الحائط على العامل أو العامل على رب الحائط؛ لأن ذلك يرجع إلى جزء مسمى فلا غرر فيه من أجل أنه إِن اشترط ذلك رب الحائط على العامل وقد كان ساقاه على النصف كان إنما ساقاه على أن يكون للعامل أربعة أجزاء من عشرة ولرب الحائط ستة أجزاء من عشرة يُخْرَجُ من ذلك الجزءُ الواحدُ في الزكاة تبقى وكذلك إن اشترطه ذلك العامل على رب المال كان إنما ساقاه على أن يكون لرب الحائط أربعة أجزاء من عشرة وَللعامل ستة أجزاء، يُخْرَج من ذلك الجزءُ الواحد في الزكاة فيبقى له خمسة أجزاء من عشرة، وذلك النصف على ما ساقاه عليه، وقد قيل إنه لا يجوز لأحدهما أخذ أربعة أعشارها إن كان هو الذي اشترطت عليه الزكاة أن يشترط الزكاة على صاحبه، وهو الذي في أصل الأسدية من أجل أن الثمرة ربما لم تبلغ ما يجب فيه الزكاة، فيصير العامل لا يدري عَلىَ مَا يعمل؛ لأن الثمرة إن لم تبلغ ما يجب فيه الزكاة أخذ نصفها، وإن بلغت ما يجب فيه الزكاة أخذ أربعة أعشارها إن كان هو الذي اشتُرِطَتْ عليه الزكاة، فهذا بَيّنٌ في الغرر إن كان هو الذي اشترطت عليه الزكاة، وأما إن كان هو الذي اشترط الزكاة على رب الحائط فلا غرر فيه؛ لأنه يأخذ النصف على كل حال بلغت الثمرة ما يجب فيه الزكاة أو لم تبلغ، والغرر الذي في جهة رب الحائط من أجل أنه أخذ نصف الثمرة إن لم تبلغ ما تجب فيه الزكاة وأربعة أعشارِها إن بلغت ما تجب فيه الزكاة؛ لأن العشر الخامس يُخرجه في الزكاة على ما اشترطه عليه العامل لا معتبر به، وهذا إذا(12/161)
قلنا إن الجزء الذي اشترطه كل واحد منهما في الزكاة على صاحبه يرجع إلى الذي اشترطه عليه منهما إن لَمْ يبلغ الثمر ما يجب فيه الزكاة؛ لأنه يقول له ساقيتك على النصف واشترطت على الزكاة فإذا لم يكن في الحائط زكاة فلا شرط لك علي، رُد على الجزء الذي اشترطته من نصيبي لتخرجه في الزكاة، إذ لا يجب في الحائط زكاة، وأما على القول بأن الجزء المشترط في الزكاة إذا لم يكن في الحائط زكاة يكون لمشترطه فالغرر إنما يكون في المساقاة إذا اشترط الزكاة فيها العاملُ على رب المال لا إذا اشترطها رب المال على العامل، وعلى هذا قوله في هذه الرواية وإن كان لم يعلل قوله فيها إِلا بالإِتباع فقال: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] ، وأما على القول بأنه بينهما بنصفين لأنهما يتداعيانه أو يلغى ويقتسمان الثمرة اتساعا فالغرر حاصل، كان العامل هو الذي اشترط الزكاة على رب الحائط أو رب الحائط على العامل؛ لأنه يأخذ أربعة أجزاء من عشرة إن بلغ الحائط ما تجب فيه الزكاة وكان رب الحائط هو الذي اشترط عليه الزكاة وأربعة أجزاء ونصف جزء من عشرة وأربعة أجزاء من تسعة إن لم يكن في الحائط زكاة، وخمسة أجزاء من عشرة إن بلغ الحائط ما تجب فيه الزكاة وكان العامل هو الذي اشترط الزكاة على رب الحائط وخمسة أجزاء ونصف جزء من عشرة أو خمسة أجزاء من تسعة إن لم يكن في الحائط زكاة، فهذا وجه ما في الأسديّةِ من أنه لا يجوز لأحدهما أن يشترط الزكاة على صاحبه، وروايةُ أشهب هذه عن مالك في أنه يجوز لرب الحائط أن يشترط الزكاة على العامل ولا يجوز للعامل أن يشترطها على رب الحائط حظها في النظر، والقياسُ هو ما ذكرناه من أن قوله فيها يأتي على قياس القول بأن الجزء المشترط في الزكاة يكون لمشترطه إذا لم يكن في الحائط ما تجب فيه الزكاة، وفي ذلك أيضا الإِتباع حسبما احتج به فيها من قوله {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] ، والفرق بالعكس وجهه ما بيناه من أن الغرر لا يكون إذا كان العامل هو مشترط(12/162)
الزكاة على رب الحائط، وإنما يكون إذا كان رب الحائط هو مشترط الزكاة على العامل، وذلك على القول بأن الجزء المشترط في الزكاة إذا لم يكن في الحائط زكاة تكون للمشترط عليه ذلك الجزء في الزكاة لا لمشترط.
فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال أحدها جوازُ اشتراط الزكاة من كل واحد منهما على صاحبه، وهو الذي في المدونة، والثاني لا يجوز ذلك من واحد منهما على صاحبه وهو الذي في أصل الأسدية، والثالث رواية أشهب هذه أنه يجوز ذلك لرب الحائط على العامل ولا يجوز للعامل على رب الحائط، وهو الذي يتخرج على ما بيناه من سقوط الغرر في اشتراط العامل الزكاة على رب الحائط على القول بأن الحائط إذا لم يبلغ ما تجب فيه الزكاة يرجع الجزء المشترط في الزكاة على من اشترطه عليه منهما، والقولُ الذي في المدونة أظهر إن كان الحائط كثيرا يعلم أنه يجب في ثمرة الزكاة إلّا أن يخلف عمل جرت به العادة في الغالب أو يأتي عليه جائحة، والذي في أصل الأسدية أظهر إن كان الحائط صغيرا يشبه أن تجب فيه الزكاة وألا تجب من غير جائحة تصيبه، ولا اختلاف عما جرت به العادة في الحمل ويحتمل أن يحمل ما في المدونة على الحائط الكبير الذي يُؤمَنُ أن يقصر ثمرة عما تجب فيه الزكاة إِلا بما يطرأ عليه من الجوائح؛ لأن الطوارئ النادرة لا يعتبر بها في إحالة الأحكام عن وجوهها، وما في أصل الأسدية على الحائط الصغير الذي يشبه أن تجب فيه الزكاة وألا تجب فلا يكون ذلك اختلافا من القول وبالله التوفيق.
[: ما كان يباع من الفول أخضر والجلبان وما كان من صنف هذه فأصابته جائحة]
ومن سماع سحنون بن سعيد
قال: وقال ابن القاسم الفجل والِإسفنارية والورد والياسمين والعصفر وقلب السكر عندي في الجوائح سواء لا يوضع قليل ذلك ولا كثيره حتى يبلغ الثلث، والمساقاة فيه جائزة، وكلُّ ما جاز فيه المساقاة(12/163)
فالجوائح توضع في ثلث ذلك، ولا توضع في أدنى من ذلك إلا الموزَ فإنه لا توضع فيه المساقاة ولا توضع فيه الجائحة حتى تبلغ الثلث، وأما الزعفران والبقل والريحان والقرط والقصب والكسبر فإن الجوائح في قليله وفي كثيره، ولا تصلح المساقاة، وأما الكمون فإنه تجب فيه المساقاة بمنزلة الزرع، وإنما يراد منه حبه ولا يراد منه شجره، وأما الموز والمقاتي والباذنجان، فهذه ثمار وكل ما كان من الثمار من الفاكهة وغيرها فذلك لا جائحة فيه حتى يصيب الثلث.
وما كان يباع من الفول أخضر والجلبان وما كان من صنف هذه فأصابته جائحة فلا يوضع حتى تبلغ الثلث لأنه يرجع إلى أصله وهو ثمرة، وهذه الأشياء لا تجوز فيها المساقاة إلّا أن يخاف صاحبها العجز.
قال محمد بن رشد: هذا الأصل الذي أَصّلَه ابن القاسم في رواية سحنون هذه عنه على مذهبه فيما عدى الأصول من أن ما جازت فيه المساقاة من ذلك لم توضع الجائحة فيه إلّاَ أن تبلغ الثلث فصاعدا، وما لم تجز فيه المساقاة من ذلك وضعف الجائحة في قليله وفي كثيره إلا الموز فإنه لا تجوز فيه المساقاهَ ولا توضع الجائحة فيه إِلَّا أن تبلغ الثلث فصاعدا وجههُ أن المساقاة لا تجوز فيما يحل بيعه لأنها إنما أجيزت للضرورة فيما لا يحل بيعه إن لم يقدر على الاستيجار عليه باعه وانتفع بثمنه، وما لا يحل بيعه لم يقدر على الاستيجار عليه هلك وضاع، وقد «نهى رَسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال» لأنه سبب للحياة وَعَونٌ على الطاعة، وأن البقول إنما وضعت فيها الجوائح لا القليل والكثير لأن المشتري لها لم يدخل مع البائع على تلف شيء منها إذ ليست بثمرة توكل خضراء وهو يقدر على جذها حين ابتياعه لها، إذ لا يجوز ابتياعها إِلا بعد أن ينتفع بها ويُمكِن جَذَاذُها، بخلاف الثمار التي لا يقدر على جذها حين اشتراها حتى يتناهى طيبها فقد دخل مع البائع على أنه لا(12/164)
بد أن يسقط منها وأكل الطير منها والعامة من الناس وغيرهم، فاستقام على هذا الأصل الذي أصله فيما عدى الأصول وَخَرَجَ الموز عن ذلك لأنه لما كان مما يجوز بيعه، ما يأتي من بطونه لأمَد معلوم من أجل أن ذلك فيه معروفٌ لم تَجُزْ فيه المساقاة، ولما كان ثمره توكل خضرا علم أنه لا بد أن يذهب شيء منها قبل أن تجد لما لربها من عامية الناس وغيرهم؛ لأن المشتري قد دخل على ذلك مع البائع فوجب أَلَّا توضع الجائحة فيه إِلا أن تبلغ الثلث فصاعدا.
ووجه قوله إن المساقاة لا تجوز في هذه الأشياء إلا أن يخاف صاحبها العجزَ هو أن المساقاة إنما جوزت مع ما فيها من الغرر وبيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يخلف أيضا للسنة الواردة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مساقاة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يهود خيبر في نخلها على شطر ما يخرج منها، فجازت المساقاة في الأصول وإن لم يعجز صاحبها عن عملها إتباعا للسنة في موضعها، ولم يَقْوَ عنده ما عدى الأصول من الأشياء التي يجوز بيعها ويحتاج إلى الاستيجار عليها قُوَتَهَا في القياس عليها فلم تجز المساقاة فيها إلّا مع العجز عن عملها قياسا على الأصول، وهو قولُ ابن نافع في كتاب ابن سحنون.
وقيل إن المساقاة لا تجوز في شيء من ذلك أصلا لأن المساقاة في الأصول رخصة فلا يقاس عليها.
وقال ابن المواز أكره المساقاة عليها مع العجز عن عملها، وكان أبو عمر ابن القطان يقول المساقاة جائزة على ما في المدونة في الياسمين والورد والقطن(12/165)
عَجَزَ عنه صاحبه أو لم يعجز، خلاف المقاثي والزرع، وهو بعيد إذ لا فرق في حقيقة القياس بين القطن والزرع والمقاثي وقصب السكر في جواز المساقاة فيها من غير عجز؛ لأن أصولها غير ثابتة بخلاف الياسمين والورد الذي أصولها ثابتة فلا ينبغي أن يختلف في أن المساقاة في الياسمين والورد جائزة على مذهب مالك وإن لم يعجز صاحبها عن عملها، ولو قال قائل أن المساقاة في المقاثي والقطن وما كان في معناها جائزة وإن لم يعجز صاحبها عن عملها بخلاف الزرع وقصب السكر وما كان في معناهما لكان له وجه؛ لأن هذه ثمار تجنى من أصولها فأشبهت ثمار الأصول الثابتة، والزرعُ وقصب السكر وما أشبهها لا تجنى من أصولها إِلا بقطع الأصول، ففارقت ثمر الأصول في المساقاة في الزرع على مذهب ابن القاسم لا تجوز إِلا بثلاثة شروط أحدهما أن يعجز صاحبها عن عمله، والثاني أن ينبت وقبل أن يستقل بعد نباته، والثالث ألا يبلغ مبلغا يحل بيعه. وكذلك قصب السكر بهذه المنزلة تجوز مساقاته بعد أن ينبت قبل أن يحل بيعه إذا عجز عن عمله، واختلف إن كان له خلفة هل يجوز أن يشترطها في المساقاة، والاختلاف في هذا جار على الاختلاف في جواز اشتراطها في البيع.
وكذلك البقل تجوز فيه المساقاة إذا نبت وعجز صاحبه عن عمله قبل أن يحل بيعه، قال ذلك عبد الرحمن بن دينار في المدنية، وقال ابن القاسم فيها لا تجوز المساقاة في البقل وكل شيء يجد ثم يخلف مثل البقل، ولو كان ذلك مثل الزرع الذي لا يكون في السنة إلا مرة واحدة لم يكن به بأس، وظاهر قول ابن دينار أن المساقاة في البقل قبل أن يحل بيعه إذا عجز عن عمله جائزة، وإن اشترط خَلَفَه، وظاهر قول ابن القاسم أن ذلك جائز إذا لم يشترط الخلفة فحصل الاختلاف بينهما في جواز اشتراط الخلفة في المساقاة وذلك على الاختلاف في جواز اشتراطها في البيع، ويحتمل أن يقال أن الاختلاف أيضا في مساقاة البقل، وإن لم يشترط خلفته ويكون ذلك جاريا على الاختلاف الذي ذكرناه في الزرع هل تجوز فيه المساقاة إذا نبت قبل أن يستقل أو لا يجوز وإن(12/166)
نبت حتى يستقل؛ لأن البقل إذا استقل فقد حل بيعه، وما حل بيعه فلا يجوز مساقاته، وقوله في الفجل أو الِإسفنارية إِن المساقاة فيهما جائزة معناه قبل أن يحل بيعهما، إذ لا تجوز المساقاة فيما يحل بيعه.
وأما قوله إن الجائحة لا توضع في قليل ذلك حتى يبلغ الثلث فبعيد، وما في المدونة من أن الجائحة توضع في قليل ذلك وكثيره أصح؛ لأن بيعه لا يحل حتى يبلغ مبلغ القلع، فَلَهُ حكمُ البقول في وضع الجائحة فيه، قيل إنه يوضع القليل والكثير، وقيل: إنه لا يوضع القليل ولا الكثير، وقيل إنه لا يوضع إلا الكثير الثلث فصاعدا وبالله التوفيق.
[مسألة: مساقاة النخل بعد أن يبدو صلاحها]
مسألة قال وقال سحنون: لا بأس بمساقاة النخل بعد أن يبدو صلاحها.
قال محمد بن رشد: قولُ سحنون هذا خلافُ مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة؛ لأنه نص فيها على أن ذلك لا يجوز لأن فيه منفعة لرب الحائط، والمنفعة التي له في ذلك سقوطُ الجائحة عنه؛ لأن الثمرة إذا أجيحت في المساقاة لم يكن له قيام بالجائحة وكان بالخيار بين أن يتمادى على مساقاته أو يخرج عنها، بخلاف الِإجارة التي له أن يرجع فيها إذا أجيحت الثمرة بإجارة مثله فيما عمل، وإنما أجاز ذلك سحنون لأنه رآها إجارة أخطأ في تسميتها مساقاة، فأجازها على حكم الِإجارة من وجوب الرجوع بحكم الجائحة فيها، ولم يجزها ابن القاسم لأنه راعى تسميتها إياها مساقاة إذ حكم المساقاة لا يرجع فيها بالجائحة فرآها إجارة فاسدة يجب(12/167)
فسخها مَا لَمْ تَفُتْ بالعمل، فإن فاتت به كان للعامل أجرة مثله على حكم الإجارة تنعقد بلفظ المساقاة، ولم يحملها ابنُ القاسم على الإجارة إذْ رآها لا تنعقد بلفظ المساقاة، وكذلك على مذهبه لا تنعقد المساقاة بلفظ الإجارة لو قال له أو أجِرُكَ على سقي حائطي هذا بنصف ثمرته إذا طابت لم يجز، ويأتي على مذهب سحنون أن ذلك يجوز، وتكون مساقاة وينبغي على قول سحنون أَلا يجوز ذلك في الزرع لأنه كمن قال أحصده وهذبه ولك نصفه، وهذا لا يجوز عنده، وقول ابن القاسم أظهرُ لأن الإجارة والمساقاة عقدان مفترقا الأحكام، فلا ينعقد أحدهما بلفظ الآخر وبالله التوفيق.
[مسألة: على العامل كراء البياض]
مسألة قال: وأخبرني ابن أشرس عن مالك في الرجل يساقي الرجل الحائط وله بياض تَبَعٌ للنخل فيستثنيه العامل فيصيب النَخْلَ جائحة فيذهب ثمرها وقد زرع العاملُ البياضَ، قال مالك: يكون على العامل كراء البياض، قال سحنون وهي جيدة، والحجة في ذلك إذا لم يعط البياض إِلِّا على السواد، فلما ذهب السواد رجع عليه بكراء البياض.
قال محمد بن رشد: قد بين سحنون رواية ابن أَشْرَس وَوَجْهَهَا واحتج لها بما لا مزيد عليه لمن وقف على معنى ما ذهب إليه، وله في كتاب ابنه أن مالكا قال وكذلك لو عجز الرجل عن الأصل كان عليه البياض بكراء مثله، ورواه علي بنُ زياد عنه، فمعنى ما ذهب إليه سحنون أن العامل لما أجيحت الثمرة أبى أن يتمادى على عمل الحائط إلى آخر ما يلزمه من سقاية ولذلك كان لصاحب الحائط أن يرجع عليه بكراء أرضه، ولو تمادى على عمل الحائط إلى آخر ما يلزمه منه لما كان عليه في البياض، كذا يتبين تشبيه مالك لذلك بعجز العامل عن العمل، وبالله التوفيق.(12/168)
[مسألة: لرجل أصل من نخل أو كرم أو غيره من الأصول وفيها الشيء من البياض]
مسألة قال محمد بن إبراهيم المدني وعبد الله بن نافع إذا كان لرجل أصل من نخل أو كرم أو غيره من الأصول وفيها الشيء من البياض هو تبع للنخل وكان البياض فيها الشيء من النخل هي تبع للبياض فقال للذي يساقيه النخل أو يستكري منه البياض أساقيك النخل وحدها أو أكريك الأرض وحدها وأحبس نخلي أو بياضي ولك من الماء قدرُ ما تروي به نخلك في السقاء وتروي به زرعك في حين تسقي الزرع ولي فضل مائي نسقي به نخلي أو ما صنعتُ في بياضي ليس عليك فيه سقاء كان ذلك حسنا جائزا، وإنما يكره من ذلك أن يجمع النخل إلى البياض أو البياض إلى النخل فيشترط ذلك المساقي خاصة ويكون على المساقي سقيه فتكون زيادة يزدادها عليه، فإذا لم يكن كذا فلا بأس به.
قالا وكذلك إذا اشترط الرجل على صاحب الأرض أن البدر عليك كانت زيادة ازدادها فلا يصلح.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة جيدة صحيحة على مذهب مالك؛ لأنه قال في موطئه في المساقي يشترط البياضَ إنه لا يصلح؛ لأن الداخل يسقيه لرب الأرض فذلك زيادة ازدادها عليه رب الأرض فهذا يدل من قوله أنه إذا لم يسق المساقَى ما اشترط عليه المساقِي من الأرض فهو جائز.
وأما إذا أكرى الرجلُ أرضه وفيها ثمرات يسيرة أو كثيرة فأبقاها لنفسه لم يُدخلها في كرائه فذلك جائز وإن اشترط على المُكترى سقيها؛ لأن ذلك كله معلوم فلا غرر فيه.
ولم يتكلم على الحكم إذا اشترط رب الحائط الأرض على أن يسقيها(12/169)
المساقي، والذي يأتي في ذلك على الأصل الذي قد ذكرته في أول رسم من سماع ابن القاسم وفي رسم كتب عليه ذكر حق منه وما ذهب إليه ابن حبيب أن يُرَد في ذلك إلى مساقاة مثله في الحائط، ويكون له أجرة مثله في سقيه الأرض لرب الحائط.
وكذلك لم يتكلم إذا اشترط البذر على صاحب الحائط يريد على أن يكون الزرع بينهما، والحكم في ذلك على ما تقدم أن الزرع لرب الحائط الذي له البذر وعليه للعامل أجرة مثله في عمله وسقيه، ويرد في النخل إلى مساقاة مثله قاله ابن حبيب في الواضحة والله الموفق.
[: المساقاة الفاسدة للسنين إذا عمل بعضها]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب سلف دينارا قال عيسى سألت ابن القاسم عن حائط ساقاه صاحبه سنة على النصف وسنة على الثلث، قال: لا يحل هذا، قيل له فإن كان قد عمل سنة وحانت الثمرة قال يُرد إلى مساقاة مثله، ويكون له أن يعمل السنة الثانية.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في المدونة أن المساقاة الفاسدة للسنين إذا عمل بعضها فهو فوت في جميعها، ورده في هذه المسألة إلى مساقاة مثله صحيح على الأصل الذي ذكرناه في أول رسم من، سماع ابن القاسم وفي رسم كتب عليه ذكر حق منه.
[مسألة: حائط ساقاه صاحبه رجلا على أن يكفيه مؤنة حائط له آخر]
مسألة قيل له فحائط ساقاه صاحبُه رَجُلا على أن يكفيه مؤنة حائط له آخر؟ فقال: هذا حرام، قيل له: فقد وقع، قال: يعطىِ في الذي(12/170)
اشترط عليه كِفَاية أجرة مثله، ويرد إلى مساقاة مثله في الحائط الآخر.
قيل له فإن قارضه بمائة دينار على أن يُبلغَ له مائة دينار أخرى إلى موضع كذا وكذا؟ فقال: له فيهما جميعا إجارة مثله يريد إذا فات، ولم يره مثل مسألة المساقاة التي فوقها.
قيل له فإن جاء بربح فأراد صاحب المال أن يسوغه إياه ويتركه له فقال صاحب المال إن الذي يترك من الربح أكثر من إجارة مثله وعلم الآخر كم هو؟ فلا بأس به إن علما به جميعا وأما أن يتخاطرا فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: مثلَ هذا حكى ابنُ حبيب في الواضحة أنه يعطي أجرة مثله في الحائط الذي اشترط عليه كفاية مؤنته وُيرد في الآخر إلى مساقاة مثله، وهو على الأصل الذي ذكرناه في أول سماع ابن القاسم في كتاب ابن المواز عن ابن القاسم أنه يرد فيهما جميعا إلى إجارة مثله وهو الأظهر، وأما الذي قارضه بمائة على أن يبلغ له مائة إلى موضع كذا فلا اختلاف أحفظه فيِ أنه يرد إلى إجارة مثله في جميع ذلك، وكذلك لو قارضه بمائتين على أن يكون ربح المائة الواحدة لرب المال وربح المائة الثانية بينهما على أن يعمل بكل مائة على حدة، لَرُدَّ فيهما جميعا إلى إجارة مثله قولا واحدا، والقراض في هذا خلاف المساقاة، وأما قوله إنه لا يجوز أن يسلم له ربح المال فيما وجب له من إجارة مثله حتى يعلم أن كان أقل من ذلك أو أكثر، فهو بين لا إشكال فيه لما في ذلك من المخاطرة والغرر إذا جهل قدر ذلك وبالله التوفيق.
[: يستثني الداخل في الحائط ما كان فيه من بقرأو غلمان أو دواب]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار قال: وقال ابن القاسم: لا بأس أن يستثني الداخل في الحائط(12/171)
ما كان فيه من بقر أو غلمان أو دواب، وليس له أن يستثنى على رب الحائط إِلَّا ما وجد فيه من ذلك، وعلى رب الحائط أن يخلف كل ما مات من عبد أو شيء أو ثور مما استثنى الداخل في الحائط مما وجد فيه.
قلت فإن جهل الداخل في الحائط أن يستثني ما فيه من الدواب والرقيق وظن أن ذلك له استثناهم أو لم يستثنهم، فلما تعاقدَا المساقاةَ قال له رب الحائط: إنما ساقيتك الحائط وحده بلا دواب ولا رقيق؟ قال يتحالفان ويتفاسخان.
قال محمد بن رشد: قولُه لا بأس أن يستثني الداخل في الحائط ما كان فيه من بقر أو غلمان أو دواب يدل على أنهم لا يكونون له إِلَّا أن يستثنيهم خلافُ ما في المدونة من أن الحكم يُوجِبُهم له وإن لم يستثنيهم إذ لا يجوز لرب الحائط أن يستثنيهم ولا يخلو الأمرُ على هذه الرواية من أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا على أن أحدهم استثناهم جاز ما اتفقا عليه من ذلك، وإن اتفقا على أنه لم يستثنهم واحد منهما ولا كانت له نية بَقُوا لرب الحائط، وإن اتَفقا على أنه لم يستثنهم واحد منهما إلا أنهما اختلفا فيما نوياه فقال العامل: كانت نيتي أن يكونوا لي وهو الذي ظننت وعليه ساقيت بما ساقيت به، وقال رب الحائط: كانت نيتي على أن يكونوا لي ولا يدخلوا في المساقاة تحالفا وتفاسخا كما قال في الرواية.
وكذلك لو اختلفا فقال العامل: استثنيتُهُم، وقال رب الحائط: بل استثنيتُهُم أنا تحالفا وتفاسخا على هذه الرواية، وكذلك لو ادعى أحدُهما أنه استثناهم وكذبه الآخر فيما ادعاه من أنه استثناهم ولم يدع هو أنه استثناهم إلا أنه قال: كانت تلك نيتي وعلى ذلك ساقيت لتحالفا وتفاسخا أيضَا، ولو اختلفا على مذهبه في المدونة فادعى كل واحد منهما أنه استثناهم لوجب أن يكون القول قول العامل لأنه مدعى الصحة منهما، وذلك على القول بمراعاة دعوى الإشباه مع القيام؛(12/172)
لأنه إنما كان القول قول مدعي الصحة من أجل أنه أشبه بالدعوى خلافُ ما في سماع أبي زيد من كتاب المغارسة، وقد مضى هنالك من الكلام على تلك المسألة ما فيه بيان لهذه وبالله التوفيق.
[مسألة: منتهى المساقي في الزيتون]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يساقي الرجل الزيتون على أن يعصره، قال: لا بأس بذلك وعلى ساقي النخل جَذاذه وعلى ساقي الزرع حصاده ودرسه، قيل لسحنون: ما منتهى المساقَي في الزيتون؟ قال: جناه، قيل له فالثمر؟ قال: جَذَاذه، قال: بعد ما طاب وحل بيعه أو بعد ما يثمر؟ قال: ذلك بعد الِإثمار، قيل له فالتين والكرم؟ قال على المساقي القطاف والتيبيس هو أجل مساقاته ليس يتعوضَ عنه المساقاة وعلاجها بالجني حتى يتزبب ذلك وييبسه.
[ومعنى ذلك إنما كان التيبس غالبا على أهل البلد لأنه إذا لم يكن غالبَا على أهل البلد لم يلزمه إلا أن يشترط عليه إذ هو يلزمه ما هو يفتقر إلى عمله بإمكان القسمة قبله والمراعي في ذلك بالعرف في البلد إن لم يكن في المساقاة عرف وإما لأنه عرف فإياه يعتبر وإن خالف ذلك عرف البلد] .
وقال ابن القاسم في مساقاة الزيتون إِنّ عليه عصره إنْ كان عصره غالبا على أهل ذلك البلد.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا بأس بمساقاة الزيتون على أن يعصره المساقَى دليل على أنه إذا لم يكن شرطا لم يلزم المساقَى العصر واقتسما الزيتون حبا، ومثله في كتاب ابن المواز أن عصر الزيتون في المساقاة(12/173)
على شرطهما، فإن لم يكن شرط فهو بينهما مثل قول سحنون إن منتهى المساقاة في الزيتون جناه، ومعنى ذلك إذا لم يكن العرف في البلد العصر، وأما إِنْ كان العرف بالبلد في الزيتون العصر فيلزم المساقي العصر إلا أن يشترط أَلا يلزمه ذلك يبين ذلك من مذهب ابن القاسم قوله أولا قوله في المسألة الأخرى ويبينه من مذهب سحنون قوله في التين والكرم إِنّ على المساقي القطاف والتيبيس وإنّ العلاج ينقضي عنه بالجني حتى يتزبب ذلك وييبسه لأن معنى ذلك إنما هو إذا كان التيبيس غالبا على أهل البلد؛ لأنه إذا لم يكن غالبا على أهل البلد لم يلزمه إلا أن يشترطه عليه إذ لا يلزمه ما لا يفتقر إلى عمله بإمكان القسمة قبله والمراعي في ذلك العرف في البلد إذا لم يكن في المساقاة عرف وأما إِن عرف فإياه يعتبر وإن خالف ذلك عرف البلد وبالله التوفيق.
[: الكراء والبيع جائز أن يجمع بينهما في صفقة واحدة]
ومن كتاب جاع وقال لرجل سأله عن أرض اكتراها بخمسين دينارا، وفيها شجرتين غلة بعد إخراج النفقة مثل كراء الأرض هل يحل ذلك؟ قال لا بأس به لأن بيعه وحده حلال، والكراء بيع من البيوع فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الكراء والبيع جائز أن يُجْمَع بينهما في صفقة واحدة وبالله التوفيق.(12/174)
[: يساقي الرجل الحائطين مساقاة واحدة]
ومن كتاب أن أمكنتني قال: وقال ابن القاسم: لا بأس أن يُسَاقِيَ الرجلُ الحائطين مساقاة واحدة على النصف أو على الثلث إذا كانا مستويين فإن لم يستو، فلا خير فيه إذا كان لا يأخذ أحدَهما إلا لمكان الآخر.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في أول سماع أشهب فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[: باع منه نصف ثمر حائطه أو ثلثه فأصيب من الحائط أقل من الثلث بجائحة]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول إذا باع رجل من رجل نصف ثمر حائطه أو ثلثه فأصيب من الحائط أقل من الثلث بِجَائِحَةٍ كانت المصيبة بينهما على قدر ما لهما فيه ولم يوضع عنه من الثمر شيء، وإن أصيب ثلثه أو نصفه وضع عنه نصف الثمن أو ثلثه، قال: ولا يُوضع عنه من الثمن شيء حتى يكون الذي بلغت الجائحة ثلثَ جميع الثمرة فيكون ثلث ما اشترى المشتري وهو شريك له في المصيبة فيما قل أو كثر.
قال: وقال مالك: وأن تباع نصف سبرته أو ثلثها أو جزء منها فأصابها سَيْلٌ أو شيء ذهب بها أو بعضها فإنهما يَتَحَاصان على قدر حظوظهما فيها، والمصيبةُ منهما جميعا على الحظوظ، وليس في(12/175)
هذا جائحة قال أصبغ: وقولُ مالك في الثمار أخبرنيه ابنُ وهب وابن القاسم عن مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها ولا لبس في شيء من معانيها فلا معنى للقول فيها وبالله التوفيق.
[: بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها]
ومن كتاب الأقضية والحبس وقال فيمن أخذ حائطا مساقاة على النصف، ثم سأله صاحب الحائط بعد ما عمل أو قبل أن يعمل أن يرد ذلك عليه فيرد ذلك إليه ويخرج من المساقاة بِرُبُع الثمرة إذا طابت إن ذلك لا بأس به؛ لأنها مساقاة منه إليه مؤْتَنَفَةٌ، قالا: ولوكانا رجلين أَخَذَا حائطا مساقاة على أن النصف لهما والنصف لصاحب الحائط، ثم سأل أحدُ الرجلين صاحبَه أن يخرج من الثمرة إن ذلك لا بأس به أيضا، قال: وكذلك لو كانا شريكين في حائط لهما أصله فسأل أحدهما صَاحِبَه أن يخرج له من الحائط وسلم إليه جميع الثمرة ولا يعرض فيه جزء من الثمرة إن ذلك لا بأس به؛ لأنها مساقاة، ولكن لو سأل أحدُهما صاحبه يسلم إليه الثمرة بدنانير أو دراهم أو عرض أو حيوان أو غير ذلك لم يصلح في شيء من جميع وجوه هذه المسألة كلها الذي لأن ذلك بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، ولكن لو كان حائط لرجل أو كانا حائطين لرجلين شريكين وأحدهما رجلان مساقاة أو أخذهما رجل مساقاة فسأله رب الحائط أن يخرجه منه بجزء من حائطه أو سأل أحد الشريكين صاحبه أن يخرجه من أحدهما بجزء من الآخر أو سأل ذلك أحد العاملين منهما بالمساقاة صاحبه أن يخرجه من أحدهما بجزء من(12/176)
الأجزاء لم يكن في ذلك كله خير ولم يصلحِ لأن ذلك بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها من كلا الفريقين جميعاَ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تقدم القول فيها وفيما كان من معناها في رسم البيوع من سماع أشهب فلا وجه لِإعادة القول فيه وبالله التوفيق.
[: المرسين لا تجوز فيه المساقاة]
ومن كتاب البيوع قال: وسئل مالك عن المرسين يساقي وقيل له إن له أصولا تعظم وتطول وتُقِيمُ السنين فإنه يجزء منه الشتاءَ والصيفَ وليس له إبان معلوم، يجزء أشهر معلومة ثم ينقطع، فهذا يحل بيعه يعني في كل حين إذا أثمر أوله الذي يشتري عليه، يشتريه سنة أو سنتين مثل الموز والقصب، قال: وما حل بيعه فلا يحل فيه مساقاة، ولا مساقاة في المرسين.
قال محمد بن رشد: المرسين هو الريحان وقد تقدم في أول سماع سحنون أنه كالبقل لا تجوز فيه المساقاة مثل قوله هاهنا، وقد اختلف في ذلك، فحكى ابن المواز عن ابن وهب إجازة مساقاته، وحكى عن ابن القاسم أن ذلك لا يجوز ثم رجع فأجازه وبَنَى على هذا، قال محمد: وأحَب إلي أَلَا يجوز لأنه كالموز والقصب إلا أن تكون أشجارها ثابتة، وإنما تقطع منها حيطانها النابتة في كل عام، وقولُ ابن المواز ينبغي أن يحمل على التفسير للقولين فنقول إنه إنما أجاز المساقاة فيه قبل أن يحل بيعه، ومنع منها بعد أن يحل بيعه كالبقل الذي يجوز فيه المساقاة إذا نَبَتَ قبل أن يحل بيعه حسبما مضى القول فيه في سماع سحنون، وقول ابن القاسم وما حل بيعه فلا تحل مساقاته خلافُ قول سحنون المتقدم في سماعه، وقد مضى القولُ على ذلك هنالك فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.(12/177)
[مسألة: مساقاة البعل]
مسألة قال أصبغ سألت ابن القاسم عن زيتون يكون بالمغرب ساقى فيها صاحبه على أن يحرثه للمساقي ليس عليه علاج غيره ولا سقي، فقال: هذا بعل وكذلك الكروم والنخل من البَعل، فهذا لا بأس به، وهو أمر الناس في مساقاة البعل وعليه مع هذا قطفها وتنقيتها وحراستها، قلت أرأيت إِن اشترط حمل نصيبه إلى منزله إلى المدينة أو اشترط ذلك المساقي على العامل؟ قال: لا خير فيه، هذه زيادة يزدادها، قلت أرأيت إن كان ذلك قريبا؟ قال مَا يُعجبني إلا أن يكون شيئا ليس عليه فيه مؤنة، قلت أرأيت إن كان قريب الميل وما أشبهه، وقال ما يعجبني، وقاله أصبغ، وقال: إن وقعت فيه المساقاة في المكان البعيد وفاتت رد إلى مساقاة مثله بلا حملان عليه، وسقط الجزءُ الذي بينهما في الشرط.
قال محمد بن رشد: إجازتُه المساقاة في الزيتون البَعل مثل ما في المدونة من إجازة المساقاة في الشجر البَعل والزرع البَعل، وأما اشتراطه على العامل حمل نصيبه إلى منزله فكرهه ابن القاسم إِلَّا أن يكون شيئا ليس عليه فيه مؤنة، وكراهيتُه بينةٌ لأنها زيادة ازدادها رب الحائط على العامل إلا أنه لم يبين وجه الحكم في ذلك إذا وقع، والذي يأتي في ذلك على الأصل الذي ذكرناه في أول سماع ابن القاسم وفي رسم كتب عليه ذكر حق أن يُرَدَّ إذا فات إلى إِجارة مثله إِلَّا في المكان القريب فيشبه أن يرد فيه على مذهبه إِلى مساقاة مثله استحسانا، وأما قول أصبغ إنه يرد إلى مساقاة مثله في المكان البعيد فهو بعيد لا يتخرج إلا على قول من يرد العامل في المساقاة الفاسدة كلها إلى مساقاة مثله جملة من غير تفصيل، وبالله التوفيق.(12/178)
[: اشترى أصل حائط قد أبر ثم اشترى الثمر قبل أن تزهي]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر
قال أبو زيد سُئل ابنُ القاسم عن الرجل اشترى أصل حائط قد أبر ثم اشترى الثمر قبل أن تزهي، قال: فلا جائحة فيها، ولو كان إنما اشترى بعد أن أزهت ففيها جائحة.
قال محمد بن رشد: أما إذا اشترى الثمر قبل أن تزهي بعد أن اشترى الأصل فلا إشكال فيه في أنه لا جائحة فيها كما لو استثناها في ابتياعه الأصل قبل أن تَزهي لأنها في حين البيع لا يقع عليها حصة من الثمن، ولا يجوز بيعها منفردة عن الأصول، فأما إذا اشتراها بعد أن اشترى الأصول أو هي قد أزهت فقوله في هذه الرواية إن فيها الجائحة خلافُ مذهبه في المدونة أنه لا جائحة فيها إذا اشتريت مع الأصول صفقة واحدة بعد الطياب؛ لأنه لا يلزم على هذهَ الرواية إذا اشتراها مع الأصول صفقة واحدة وهي قد طابت وحل بيعها أن تكون فيها الجائحة بما ينوبها من الثمن إذا قبض عليها وعلى الأصل إِذْ لا فرق بين شرائها بعد الطياب في صفقة أخرى أوفي صفقة واحدة؛ لأنه إذا اشتراها مع الأصل في صفقة واحدة فقد وقع لها صحة من الثمن، وهو منصوص عليه لأصبغ في الواضحة، والصحيح ما في المدونة أنه لا جائحة فيها لأنها بالعقد تدخل في ضمانه لكونها في أصولها، فهذه هي العلة في ذلك لَا مَا علل به في المدونة من أنها تبع للأصول، فالجواب في المدونة صحيح والتعليل ضعيف وبالله التوفيق.
[مسألة: عابت الجائحة الثمرة ولم تذهب بها]
مسألة قال ابن القاسم الحَبْسُ جائحة.
قال محمد بن رشد: وكذلك السلطان والغاصب الذي لا تأخذه الأحكام هو جائحة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك لأنه أمر غالب وكذلك السارق عند ابن القاسم جائحة لأنه لا يستطاع الاحتراس منه، وقال ابنُ(12/179)
نافع ليس السارق بجائحة، وذهب مطرفٌ وابن الماجشون إلى أنه ليس شيء من ذلك كله جائحة؛ لأنه من صنع آدمي ولا اختلاف فيما كان من غير صنع آدمي كالسمُوم يحرق الثمرة والطير الغالب يأكلها والريح يسقطها إن ذلك كله جائحة، والأول أظَهر ألا فرق بين فعل الآدمي وغيره في ذلك لما على البائع في الثمرة من حق التوفية، وقد اختلف إِذا عَابت الجائحة الثمرة ولم تذهب بها ولا أفسدتها جملة كالغبار يعيبها والريح يسقطها قبل أن يتناهى طيبُها فينقصُها ذلك من قيمتها فقيل وهو المشهور إن ذلك جائحة ينْظَرُ إلى ما نقص العيبُ منها، فإن كان الثلث فأكثر وضع عن المبتاع، وقيل ليس ذلك بجائحة، وله حكم العيب يكون المبتاع فيه بالخيار بين أن يُمسك ولا شيء له، أو يرد ويرجع بجميع الثمن، وإلى هذا ذهب ابن شعبان وقاله ابن الماجشون في أحد أقواله، فإن ذهب على قولهما من الثمرة ثلثها بجائحة عابت البقية من الثمر ورجع بثلث الثمن لما ذهب من الثمر وكان بالخيار في الباقي بين أن يتمسك به أو يرد ويرجع بجميع الثمن وبالله التوفيق.
[مسألة: ورق التوت يباع في شجره ثم يصيبها جائحة]
مسألة وسئل عن ورق التوت يُباع في شَجَرِهِ ثم يصيبها جائحة أترى أن يوضع عنه الثلث فصاعدا لأنَّ الغرر في أصله؟ قال: بل يوضع عنه ما أصابه من الجائحة من قليل أو كثير، قيل له مثل البقل؟ قال: نعم. قال محمد بن رشد: في الواضحة لابن حبيب خلافُ هذا أن الجائحة في ذلك لا توضع في أقل من الثلث وأنها ليست كالبقول، وقول ابن القاسم أظهرُ بدليل ما ذكرناه من سماع سحنون من المعنى الذي من أجله وضعت في البقول الجائحة في القليل والكثير وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة بثمرة قد بدا صلاحها كلها فأجيحت]
مسألة قال ابن الماجشون في الذي يتزوج المرأة بثمرة قد بدا صلاحها كلها فأجيحت: إِنَّ مصيبتها من الزوج وترجع عليه المرأة بقيمة الثمرة وإنَّما يُحمل النكاحُ بالثمرة إذا أصابتها الجائحةُ مَحْمِلَ البيع، وابنُ(12/180)
القاسم يقول لا جائحة فيها والمصيبة من المرأة ولا ترجع على الزوج بشيء.
قال محمد بن رشد: قول ابن الماجشون هو القياس على أن الصداق ثمن للبضع، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَشْبَهُ شيء بالبيوع النكاحُ فوجب الرجوع فيه بالجائحة، فقولُه إن الثمرة إذا أجيحت كلها رجعت المرأة على الزوج بقيمة الثمرة وهو المشهور في المذهب، ووجهُهُ أن الثمرة لما كانت عوضا عن البضع وهو مجهول رجعت بقيمتها كما يرجع الزوج على المرأة إذا استحق مِن يده ما خالعت به عن نفسها بقيمته للبضع الذي أخرجه عن يده عوضا عنه، والقياس في النكاح إذا أجيحت الثمرة كلها أن ترجع المرأة بصداق مثلها لأن العوض عن المرأة هو البضع، وقد فات بالعقد أو الدخول، فوجب أن يرجع بقيمته وهو صداق مثلها دخل أو لم يدخل على القول بأنها تفوت بالعقد، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه في العتيبة، وعلى القول بأنها لا تفوت بالعقد إن أجيحت الثمرة قبل البناء انفسخ النكاح، وهذا القول قائم من مسألة وقعت في العشيرة ليحيى، ووجه فواته بالعقد ما يوجبه من الحرمة، فهو بخلاف البيوع، ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم من أن المصيبة في النكاح إذا أجيحت الثمرة من المرأة ولا رجوع لها على الزوج في ذلك، هو أن النكاح طريقه المُكَاَرَمَةُ بخلاف البيوع التي طريقها المُكَايَسَةُ، وأيضا فإن الصداق على الحقيقة ليس بعوض عن البضع لأن المباضعة فيما بين الزوجين سواء تستمتع به، وإنما هو نحلة من الله فرضها عز وجل للزوجات على أزواجهن فقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] فأشبه الصداق على هذا الهبةَ، فوجب أَلا يرجع فيه بالجائحة، وبالله التوفيق.(12/181)
[مسألة: أعطى نخلة مساقاة على النصف]
مسألة قال: وقال سحنون: ولو أن رجلا أعطى نخلة أو كرمة أو زيتونة مساقاة على النصف على أن يسقي ويقطف ويجني على أن يحرث ثلاث حرثات فيعمل العامل جميع العمل الذي اشترطه عليه إِلا الحرث فإنه حرث حرثتين ولم يحرث الثالثة فإنه ينظر إلى ما عمل فيقوَّم ذلك ثم يُنظر إلى ما ترك مما شرط عليه عمله فيقَوَّم ثم ينظر كم هو مما عمل؟ فإن كان الذي ترك ولم يعمله الثلث من جميع ما شرط عليه من العمل حط العاملُ ثلثَ النصف الذي كان له إن كانت مساقاته على النصف وإن كان إنما ساقاه على الثلث أو الربع فكذلك أيضِا يحط عنه ثلث الثلث أو ثلث الربع، وتفسير ذلك أنه ينظر إلى كل ما عمل العامل فيقومه ثم ينظر إلى قيمة ما ترك أن لو عمله فيقوم فيعرف ما اسم قيمة الذي ترك من قيمة الذي عمل فإن كان ثلثا حططت من سهمه ثلثه وإن كان ربعا فكذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الجزء الذي اشترطه العامل في المساقاة من الثمرة عِوَضٌ عن عمله، فإن نقص من العمل الواجب عليه شيئا وجب أن يحط من جزئه من الثمرة بمقداره وهذا بين والحمد لله.
[مسألة: العمل عوض عن الأرض]
مسألة قيل أرأيت لو اشترك رجلان فَأَخْرَجَا الزريعة وأخرج أحدهما الأرضَ والآخر العمل وكراء الأرض مثل قيمة العمل، وعلى أن يحرث الأرض ثلاث حرثات فحرث حرثتين ونصف واحدة؟ فقال: ينظر إلى قيمة ما عمل، فإن كان قيمة ذلك عشرين درهما ثم ينظر إلى قيمة السكة التي ترك فإن كان قيمتها عشرة دراهم نظر إلى قيمة ما ترك وهي العشرة(12/182)
كم ذلك من الثلثين الدراهم؟ فيوجد الثلث فيرجع رب الأرض على العامل بمثل ثلث كراء نصف هذه الأرض.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن العمل عوض عن الأرض فإذا قصر في العمل وجب أن يرجع رب الأرض على العامل من كراء أرضه بقدر ما قصر في العمل. وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله على ذلك.(12/183)
[: كتاب الحبس الأول]
[مسألة: حبس خادما على قوم مفترقين]
كتاب الحبس الأول من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال مالك من حبس خادِما على أهل بيت لمِ يدخل عليهم أحد من غيرهم وكانت لِلآخِرِ منهم، ومن حبس خادماَ على قوم مفترقين فمن مات منهم فنصيبُه للذي حبسه، قال ابن القاسم: قال مالك: إن قال لهذا يوم ولهذا يوم رجع نصيب الذي مات إلى الذي حبسه، وإن كان حبسه على قوم ولم يقل لهذا يوم ولهذا يوم فمن مات فنصيبه على من بقي من أصحابه في الحبس، وقال سحنون: هذا أصل جيد فعليه فقس وهي جيدة.
قال محمد بن رشد: أهل البيت هم المنتسبون إلى رجل واحد من رجل أو امرأة انتسابا معروفا يجب به الميراث، فمن حبس حبسا على أهل بيت رجل وجبَ الحبُس للمنتسبين إلى من ينتسب إلى ذلك الرجل من رجل أو امرأة، وفي دُخول ذلك الرجل فيه اختلافٌ، قيل إنه يدخل فيه بالمعنى إذا كان على مثل حالهم من الفقر أو الغنى، وقيل إنه لا يدخل فيه لأنه إنما حبس على أهل بيته ولم يحبس عليه، والقولان يتخرجان على المعنى الذي ذكرته في رسم البز من سماع(12/185)
ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات.
ولا يدخل في ذلك أزواجه إذا لم يُكُنَّ من أهل بيته وإن كن ساكنات معه في بيته، والأصل في ذلك ما روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ لما نزلت هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] دَعَا عليا وفاطمة وحسنا وحسينا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فقال: اللَّهُمْ هَؤُلاَءِ أَهْلِي» وروي أيضا أنه أدخلهم تحت ثوبه ثم جَأَرَ إلى الله عز وجل فقال: «يَا رِبِّ هَؤُلاَءِ أَهْلِي» وزاد هذا بيانا ما روي عن أم سلمة أنها قالت: «نزلت هذه الآية في بيتي {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] فقلت يا رسول الله: ألَسْتُ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ؟ قال: أنتِ على خير إنك من أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» ، وفي البيت عليّ وفاطمة والحسن والحسين، إلَّا أن يعلم أن المحبس أراد بتحبيسه على أهل بيت الرجل السكانَ معه في بيته من أزواجه وغيرهِن بِنَص منه على ذلك أو دليل يدل عليه من عرف بين أو بساط ظاهر.
قال محمد بن رشد: وقولُه في الرواية إن من حبس على أهل بيت لم يدخل عليهم غيرهم صحيحٌ لا اختلاف فيه، إذ لا يدخل في الحبس سوى من حبس عليه، وأما قولُه: وكانت للآخِر ِمنهم، يريد مِلْكا، فوجه ذلك أن مَالِكَا كره في تحبيس الحيوان أن يكون على العقب بخلاف الرباع إلّا أنه إن وقع أمضاه على ما شرطوا إن أرادَ تغيره إلى ما هو أفضلُ للعبد وأقربُ إلى الله فعل، وقال ابن القاسم: كرهه لأنه ضيق على العبد إن كان المحبس عبدا، وقد قال مالك في رسم البز بعد هذا: من حبس خادما على أمه وأخته حُبُسا صدقه لا تباع، وهي على الباقية منهما، فماتت أخته أَلَهُ أن يُبَتِّلَهَا لأمه تبيعها إن شاءت؟ قال: ذلك له إن شاء بعد تفكره فيها وكأنه لم يَرَهَا من ناحية الدور، وفي كتاب ابن المواز وكأنه رَآهُ من البر، وهذا في الحيوان، ولا يجوز في الرباع، قال محمد: وهذا(12/186)
لأنه حق له إلى ما هو أفضل للعبد وله هو في بِرّ ِأمه وأفضل لأمه، فإذا كان أفضلَ للثلاثة فأجيز. في الحيوان، قال ابن القاسم ولو حول الحيوان إلى ما ليس بأفضل مما سبلها فيه لم يجز، قاله مالك، بخلاف الدور لأن الأمة تموت وتمرض، فلما رأى الحبس في الحيوان مكروها، واستحب للمحبس أن ينقضه ويَرُده إلى ما هو أفضل رأى أن يكون الخادم إذا حبسها على أهل البيت للآخر منهم ملكا إذْ لم ينص في تحبيسه أنها ترجع بمرجع الأحباس ولا تباع أبدا، إذ لو نص على ذلك لأمضاه على ما أتت به الرواية عنه إذا فات الأمر بموت المحبس، وأشهب يرى الحبس نافذا على ما شرط في الرقيق والدواب مثل الرباع يلزمه ذلك ويرجع كما ترجع الدور على الأقرب فالأقرب من عصبة المحبس فيسلك بها مسلك الحبس أبدا لا يباع.
وقولُه في الرواية: ومن حبس خادما على قوم مفترقين فمن مات منهم فنصيبه للذي حبسه معناه معَيِّنينَ، ومفترقين من أهل أبيات شتى أو مجتمعين من أهل بيت واحد، وظاهره أن ذلك سواء قسم الخدمة بينهم فقال: لهذا يوم ولهذا يوم، أو سكت عن ذلك لأن الحكْمَ يوجِبه إن سكت عنه، خلاف ما حكى ابنُ القاسم عن مالك بعد ذلك واختاره سحنون واستحسنه وقال فيه إنه أصل جيد، والذي حكى عن مالك من تفرقته بين أن يقسم الخدمة بينهم أو يسكت عن ذلك، وهو نحو ما يأتي في رسم بع ولا نُقْصَانَ عليك من سماع عيسى من تفرقته بين أن يقول في تحبيسه على امرأته وعلى أم ولده بينكما أو عليكما، وذلك كله خلافُ ما في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب في الذي أوصى في غنم له بأنها حبس على يتيمين ليسا من ورثته لهذا منها قطيع عليه يسميه، ولهذا منها قطيع عليه وقال: من مات منهما فلا حق له: إن من مات منهما رجع حظه على صاحبه.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن من مات منهما أو منهم إن كانوا جماعة رجع حظه على صاحبه أو على أصحابه جملة من غير تفصيل، والثاني: أن(12/187)
حظه يرجع إلى المحبس ولا يرجع على صاحبه ولا على أصحابه جملة من غير تفضيل، والثالث: الفرق بين أن يقسم الخدمة بينهما أو بينهم فيقول لهذا يوم ولهذا يوم أو يقسم الغنم بينهما أو بينهم لهذا منها قطيع بسهمه ولهذا منها قطيع بسهمه، أو يقول في تحبيسه: حبست هذا الشيء بينكما أو بينكم أو يسكت عن ذلك كله، فلا يقسم الخدمة بينهما في الخادم ولا الغنم بينهما ولا يقول في تحبيسه الشيء: هو بينكما أو بينكم ويقول: هو عليكما أو عليكم، فإن قسم الخدمة بينهما أو الغنم أو قال في التحبيس: بينكما ولم يقل عليكما رجع حظ الميت منهما إلى المحبس، وإن لم يقسم الخدمة بينهما ولا الغنم أو وقال في التحبيس: عليكما ولم يقل بينكما رجع حظ الميت منهما على صاحبه ولم يرجع إلى المحبس.
فإذا انقرضا جميعا رجعت الخادم إلى المحبس مالا من ماله إن كان حيا أو إلى ورثته إن كان ميتا، وعلى قول مالك الثاني في المدونة ترجع الخادم بعد انفراضهما لأقرب الناس بالمحبس حبسا ولا ترجع إليه ملكا مطلقا على ما قاله ابن القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى من أن الدور والعبيد ترجع بمرجع الأحباس على أقرب الناس بالمحبس حبسا يريد على أحد قولي مالك في المدونة.
بخلاف الدنانير والدراهم إنها ترجع بانقراض المحبس عليه إلى المحبس ملكا؛ لأن الدنانير والدراهم يضمنها المحبس عليه ويكره تحبيسها، فلا ترجع بمرجع الأحباس، فالدور والعقار يجوز التحبيس فيها ولا يكره، فيلزم وينفذ على سنته ويرجع بمرجع الأحباس في الموضع الذي نصوا فيه على ذلك، وأما الحيوان فقيل إن التحبيس فيها جائز وهو مذهب أشهب وظاهر ما في المدونة، وقيل هو مكروه، وقيل يجوز في الخيل وحدها ويكره فيما عداها من الدواب والأنعام والعبيد والإماء خاصة لما يرجى لهم من العتق، ويجوز فيما سوى ذلك من الحيوان، وهذا القول هو المنصوص عليه لمالك، فعلى القول بجواز الحبس في ذلك ينفذ الحبس فيها على سنته ويرجع بمرجع(12/188)
الأحباس في الموضع الذي يرجع فيه العقار بمرجع الأحباس، وعلى القول بالكراهة لا يرجع بمرجع الأحباس ويكون لآخر العقب ملكا إن كان الحبس معقبا وهو قول مالك في هذه الرواية: من حبس خادما على أهل بيت لم يدخل عليهم أحد من غيرهم وكانت للآخر منهم، وإن لم يكن معقبا وكان على معينين لم ترجع بمرجع الأحباس، وإن قال فيه حبسا صدّقه لا تباع ولا توهب ويرجع إلى المحبس ملكا بعد انقراض المحبس عليهم، وهو قول مالك في رسم البز في الذي حبس جارية له على أخته وأمه صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث وأيهما ماتت قبل صاحبتها رجعت على الباقية: إن له أن يبتلها لأمه إذا ماتت أخته إذ لو لم ترجع إليه بعد انقراض أمه ملكا لما صح له أن يبتلها لها، وكذلك العروض والسلاح والزروع والثياب قيل تحبيسها جائز وقيل مكروه، فعلى القول بجواز تحبيسها ترجع بمرجع الأحباس في الموضع الذي يرجع فيه العقار بمرجع الأحباس، وعلى القول بكراهة تحبيسها لا ترجع بمرجع الأحباس وتكون لآخر العقب ملكا أو ترجع إلى المحبس إن لم يكن الحبس معقبا وكان على معينين، وهذا الاختلاف كله إنما هو في التحبيس المعقب أو على النفر بأعيانهم، وأما تحبيس ذلك كله لينتفع بعينه في السبيل أو ليجعل غله ماله غلة من ذلك بكراء وغيره موقوفة لإصلاح الطرق أو منافع المساجد أو لتفرق على المساكين أو ما أشبه ذلك، فلا اختلاف في جوازه ما عدا العبيد والإماء، فإن ذلك يكره فيهما لما فيه من التضييق عليهما من أجل ما يرجى لهما من العتق، فإن وقع وفات نفذ ومضى، وما لم يفت استحب لمحبسه أن يصرفه إلى ما هو أفضل منه.
وأما الدنانير والدراهم وما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه فالتحبيس مكروه، فإن وقع كان لآخر العقب ملكا إن كان معقبا، وإن لم يكن معقبا وكان لمعينين رجع إليه بعد انقراض المحبس عليهم، والفرق بين العقار وبين(12/189)
ما سواه عند من يكره تحبيسه أن ما عدى العقار لم يأت فيه عمل يرده على العقب، فوجب رجوعه إليه بانقراض المحبس عليهم أو كونه لآِخر العقب ملكا ومن أجازه قاسه على العقار، وبالله التوفيق.
فهذا وجه القول في هذه المسألة، وقد رأيتُ لابن دحون فيها كلاما غير محصل، قال: أجاز مالك في الحيوان خاصة أن يبيع للآخر منهم إن بتله له إذا حبسه على أهل بيت أو على قوم مفترقين مجهولين، فإن كانوا معلومين رجع نصيب من مات منهم إلى الذي حبس ذلك، وقيل عنه يرجع إلى أصحابه، وذلك غير صحيح؛ إذ لا فرق بين الحيوان وغيره في أن الآخر منهم له أن يبيع ما حبس عليهم إذا بُتل له، وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس حبسا صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث على نفر ما عاشوا]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالك قال: من حبس حبسا صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث على نفر ما عاشوا، ثم هلك الذين حبس عليهم وانقرضوا قال: يَرْجِعُ إلى عَصَبَةِ المحبس ويدخل معهم النساء في السكنى إن كان سكنى أو في الغلة إن كانت غلة، قال ابن القاسم: يريد البنات والأخوات والأمهات والجدات والعمات ولا يدخل في ذلك الزوجات ويبدأ بالأقرب فالأقرب في ذلك.
قال محمد بن رشد: قولُه من حبس حبسا صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث على نفر ما عاشوا ثم هلك الذين حبس عليهم وانقرضوا: إن ذلك يرجع بمرجع الأحباس إلى عصبة المحبِّس، يريد ولا ترجع إلى المحبس ملكا مطلقا، هو نص قول مالك في المدونة، وحكى ابنُ القاسم عنه فيها أن قوله لَمْ يختلف فيه، وليس ذلك بصحيح، قد روى ابنُ عبد الحكم عن مالك في كتابه أنه ترجع إليه ملكا مطلقا بعد موت المحبس عليه وإن قال حبسا صدقة إذا كان على معين، وهو قولُ ابن وهب في رسم الوصايا والأقضية من(12/190)
سماع أصبغ أنه ترجع إليه ملكا مطلقا إذا حبس على معين وإن قال في حبسه: لا تُباع ولا توهب لاحتمال قوله لا تُباع ولا توهب حياة المحبَّس عليه، كما يحتمل قوله أيضا: صدقة، صدقة الغلة عليه حياته.
وأما قوله: ويدخل معهم النساء في السكنى إن كان سكنى أو في الغلة إذا كانت غلة، ففي ذلك اختلاف يتحصل فيه ثلاثة أقوال أحدها: أنه يدخل فيه من أهل بيت المحبس من النساء من يرث منهن وهن البنات وبنات الأبناء وإن سَفُلُوا، والأخوات الشقائق واللواتي لأب ومن لو كان رجلا منهن وَرِثَ وهن العمات وبناتُ الأخ وبناتُ ابن الأخ وبناتُ العَمّ وبناتُ ابن العم وبنات المولى المعتق، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في هذه الرواية، والقول الثاني: أنه لا يدخل فيه من أهل بيت المحبس من النساء إلا من ترث منهن خاصة، وهن البنات وبنات الأبناء والأخوات الشقائق واللواتي لأب، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون، والقول الثالث: أنه لا يدخل فيه أحد من النساء وإنما مرجع الُحبُس إلى العصبة من الرجال وهو الذي في سماع أصبغ أراه لابن وهب، ولا يدخل الأبْعَدُ مع الأقرب من الرجال أو النساء إلَّا فيما فضل عنه أو عنها، وإذا كان الرجال والنساء في درجة واحدة فهم فيه شَرَعٌ سواء للذكر منهم مثل حظ الأنثى، واختلف أيضا هل تدخل فيه الأمهات والجدات، فقيل: إنهن يدخلن فيه لأنهن من قرابة المحبس، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وقيل: إنهن لا يدخلن فيه؛ لأنهن ليس من حرم نسب المحبس، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه ومذهب عبد الملك بن الماجشون وقيل: تدخل الأم ولا تدخل الجدة، وهو قول ابن القاسم في رسم نقدها من سماع عيسى بعد هذا على ما تأوله بعضُ أهل النظر في الرواية حسبما نذكره إن شاء الله، وقيل تدخل الجدة للأب ولا تدخل الجدة للأم، وهو قول ابن القاسم في الواضحة، ولا اختلاف في أنه لا يدخل فيه من النساء الأخوات للأم ولا الخالات ولا بنات البنات ولا بنات الأخوات، ولا يدخل فيه أيضا الإخوة للأم ولا بنو البنات ولا بنو الأخوات، وسنذكر في سماع سحنون إن شاء الله(12/191)
الاختلاف فيمن يرجع إليه الحبس من قرابة المحبس هل يختص بذلك الفقراء منهم دون الأغنياء أو يدخل معهم فيه الأغنياء إذا لم يكن أصلُ الحبس على الفقراء وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس حبسا على آل فلان]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: من حبس حُبُسا على آل فلان فإنها حبس على آله ما بقىِ منهم أحد لأبنائهم وأبناء أبنائهم، وإن سمى قوما بأعيانهم فإنها ترجع بعدهم إلى أقرب الناس به حبسا على ما وضعه، قال ابن القاسم: آله وأهلُه سَوَاءٌ، هُمْ العصبة والأخوات والبنات والعمات ولا أرى ذلك للخالات.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: آلهُ وأهلُه سَوَاءٌ، همْ العصبة والأخوات والبنات والعمات ولا أرى ذلك للخالات مفسر لِقول مالك، فَصَوَابُه في التأليف أن يكون متصلا به، وفصل العتبي بينهما بقوله: وإن سمى قوما بأعيانهم إلى آخر قوله تقصير في التأليف والآل والأهل سواء كما قال ابن القاسم إلَّا أن الآل إنما يستعمل في الرجل الكبير الذيِ له العشيرة بالأبناء الرجال والنساء من قبل أبيه الذين يُعرف نسبُهم منه وتقوم به الشهادات وتثبت به المواريث فيمن يرث منهم.
وقولُه: ولا أرى ذلك للخالات، ظاهرهُ وإن لم يبق من قرابته من قِبَلِ أبيه أحدٌ فلا دخول في ذلك لقرابته من قبل أُمه، وهو قول أبي زيد بن أبي الغمر إن الرجل إذا أوصى لقرابته أو لأهله إِنه لا يدخل في ذلك أحد من قبل أُمه خال ولا خالة وإن لم يبق من قرابته أحدٌ سواهم.
وأما إذا لم يكن له حين أوصى أو حين حبس قرابة من قبل أبيه فيكون الحبس أو الوصية لقرابته من قبل أمه على ما قاله مالك في رسم أسلم من(12/192)
سماع عيسى من كتاب الوصايا في الذي أوصى لقرابته إِن الوصية تكون لقرابته من قبل أبيه إلَّا ألا يكونَ له قرابة من قبل أبيه فيكون لقرابته من قبل أمه، والنساء والرجال فيه شَرَعُ سواء، واستحب أشهب في الرسم المذكور أن تدخل في ذلك قرابتُه من قبل الرجال والنساء لأبيه وأمه، وفي هذا خارج المذهب اختلافٌ كثير قد ذكره الطحاوي ورجح منه ما حكيناه على المذهب من أن الوصية والحبس يكونان لمن جمعه والمُوصي لأهله أو المحبِّس على أهله أب واحد في الجاهلية أو الإسلام ببينة تقوم على ذلك.
وقوله في الرواية: وإن سمى قوما بأعيانهم فإنها ترجع بعدهم إلى أقرب الناس به حبسا على ما وضعه، هو مثل أحد قولي مالك في المدونة، والقولُ الثاني أنها ترجع إليه ملكا مطلقا أو إلى ورثته يوم مات إن كان مات قبل أن ينقرض المحبَّس عليهم بأعيانهم.
وذهب محمد بن المواز إلى أنه إذا حبس على معين وقال حياته أو أجل أجلا خرجت المسألة من الاختلاف، واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي وقال: لا فرق بين أن يقول حياتَه أو يسكت عن ذلك؛ لأن ذلك مفهوم من إرادته وإن سكت عنه، ألا تَرى أنه لو حبس على غير معينين وقال حياتهم لم يكن لذكر ذلك تأثيرٌ ولَوَجب أن يرجع الحبس بعد انقراض المحبس عليهم إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا، وهذا الذي قاله هو مذهب أصبغ، وأما مذهب مطرف فعنده أنه إذا عقِّب الحبس وقال مع ذلك: ما عاشوا، أنها حبس عليه وعلى عقبه ما عاشوا، فإذا انقرض عقبه رجعت إلى صاحبها إن كان حيا يبيع ويصنع ما شاء، وإلى ورثته من بعده، وعندي أنه لا فرق بين الموضعين فإذا قال: ما عاشوا في المعينين أو في الحبس المعقب، رجعت إلى المحبس ملكا عند ابن المواز ومطرف، وإذا سكت عن ذلك رجع الحبس المعقب إلى أقرب الناس بالمحبس، وكذلك غير المعقب على أحد قولي مالك على مذهب أصبغ لا فرق بين أن يقول ما عاشوا أو يسكت عن ذلك في المسألتين جميعا يرجع(12/193)
الحبس المعقب إلى أقرب الناس بالمحبس، وغيرُ المعقب يجري على اختلاف قول مالك بين هذا، ويدل على صحته ما وقع في رسم يسلف بعد هذا من أنه إذا حبس على أجنبي حياته يرجع الحبس بموت المحبس عليه إلى أقرب الناس بالمحبس يوم يرجع.
فيتحصل في الحبس على المعينين ثلاثة أقوال: قولان، وتفرقةٌ بين أن يقول حياتَهم وبين أن يسكت عن ذلك، وفي الحبس المعقب قولان إذا قال حياتهم، ولا اختلاف إذا لم يقل حياتهم أنه يرجع بمرجع الأحباس، وأما إذا ضرب أَجَلا فلا اختلاف عندي في أنها ترجع إليه أو إلى ورثته بعد الأجل ملكا مطلقا، وقد ذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا فرق بين أن يقول حياتَه أو يضرب أجلا، والفرق بينهما عندي بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس شيئا في سبيل الله فأنفذ ذلك زمانا ثم أراد أن ينتفع به مع الناس]
مسألة قال مالك: من حبس دارا في سبيل الله أو سلاحا أو دابة فأنفذ ذلك في تلك الوجوه زمانا ثم أراد أن ينتفع به مع الناس، قال: إن كان ذلك من حاجة فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: قوله ثم أراد أن ينتفع به مع الناس معناه ينتفع به فيما سَبَّله فيه من السبيل، لا فيما سِوى ذلك من منافعه، فلهذا لم يَرَ بذلك بأسا إذا فعل ذلك من حاجة؛ لأن الاِختيار فيما جُعِلَ في السبيل ألا يعطي فيه إلاَّ لأهل الحاجة إليه، فإذا احتاج إليه في السبيل فاستعمله فيه لم يكن ذلك رجوعا منه فيما حبسه ولا عودا منه في صدقته، والله أعلم.
[مسألة: حبس على أحد حبسا وقال هي لك حياتي ثم هي في سبيل الله أو صدقة]
مسألة قال مالك: ومن حبس على أحد حبسا، وقال: هي لك حياتي ثم هي في سبيل الله أو صدقة فإذا مات فهي في ثلثه.(12/194)
قال محمد بن رشد: قد روى عن أشهب في هذا الأصل خلافُ هذا أنه يرى أن ذلك عنده من رأس المالِ؛ لأنه لَا يَرْجِع إليه ولا لورثته من بعده شيء منه أبدا، قاله ابن المواز، وقال ابن عبد الحكم عن أشهب وابن القاسم مثلَ قول مالك، وقال ابنُ لبابة إنما يكون من الثلث إن مات المحبَّس عليه قبل المحبس، وإما إن مات المحبس قبل موت المحبس عليه فهي من رأس المال لأنه قد بتلها في صحته فإنما ترجع إلى المتصدق عليه أو إلى السبيل من ملك المحبس عليه لا من ملكه، وجه قول مالك: إن ذلك يكون بعد موته من ثلثه صدقة على فلان أو في سبيل الله هو أن ذلك لم يبتل بَعْدُ للمتصدق عليه ولا في السبيل، وإن المحبس عليه إنما يستغله أو يسكنه طول حياة المحبس على ملكه، فإذا مات نفذ من ثلثه في الصدقة أو السبيل، فلو تَدَايَنَ على قياس هذا القول لَوجب أن يُباع في دينه، ووجه القول بأن ذلك يكون من رأس المال هو أن الحبس لما كان لا رجوع له إلى المحبس ولا إلى ورثته على حال من الأحوال كان كأنه قد أنْبَتّ منه وحصل ملكا للمتصدق عليه أو مبتولا للسبيل، والمحبَّسُ عليه إنما يستغله أو يسكنه على ملك من إليه المرجع.
وعلى هذا الأصل اختلف قولُ مالك في الرجل يُخْدِمُ عبدَه رجلا سنين ومرجعه لآخر فيُقتَل العبدُ أو يجْرَحُ أو يموت وله مال، هل يكون عقله إن قتل وأرش جرحه إن جرح أو ماله إن مات لسيده الذي أخدمه أو للذي له المرجع، وقع اختلاف قولُ مالك في هذا في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الجنايات، واختلف قولُ ابن القاسم في ذلك أيضَاَ فأشار في رسم العتق من الكتاب المذكور أن ذلك لسيده الأول، وله مثلُ ذلك في رسم القضاء العاشر من سماع أصبغ من كتاب الخدمة، وخلافُه مثلُ قول مالك الآخر في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الخدمة أيضا، وعلى هذا الأصل اختلف أيضا في الرجل يُخْدِمُ عبده رجلا سنة ثم هو له بعد السنة هل يباع قبل تمام السنة في دينه أم لا؟ فقال في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الخدمة: إنه لا يباع في دينه حتى تنقضي السنة وتجب له، وخالف في ذلك ابن حبيب فقال: إنه(12/195)
يباع في دينه ولا ينتظر به انقضاء الخدمة، وحكاه عن مطرف وقال: هذا ما لا شك فيه عندنا ولا اختلاف، فلكلا القولين في مسألتنا وجه من النظر، والأظهر منها ما قاله مالك من أنه يكون من الثلث ولو لم يجز الحبس عن المحبس حتى مات وهو بيده لكان من ثلثه في السبيل أو الصدقة قولا واحدا على ما قاله في رسم الوصايا من سماع أصبغ، وأما قول ابن لبابة في تفرقته بين أن يموت المحبس عليه قبل المحبس أو بعده فتفرقةٌ لا وَجْهَ لها في النظر؛ لأن المحبس عليه إن مات قبل المحبس لا يرجع الحبس إليه، وإنما يكون لورثة المحبس عليه إلى أن يموت المحبس، فلا فرق بين أن يموت قبله أو بعده في كونه من ليأس المال أو من الثلث وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بوصية لبعض ورثته دون بعض ثم جعلها من بعدهم لغيرهم]
مسألة قال مالك: من أوصى بوصية لبعض ورثته دون بعض ثم جعلها من بعدهم لغيرهم فهي على سائر الورثة الزوجة والأم، ومن لم يوص له بشيء يدخلون معهم فيأخذون قدرَ ما يصيبهم من الميراث، فإذا هلك رجل من الورثة الذين أوصى لهم صار نصيبه لولده وخرج نصيب الأم والزوجة والأخت من ذلك وثبت في غيره في حظوظ أعيان الولد حتى ينقرض أخرهم، فإذا انقرض أعيان الولد الذين أوصى لهم سقط نصيب الزوجة والأم، فإن هلكت الزوجةُ والأم دخل من يرثهما مكانَهما في الميراث مع الولد، فإذا هلك الولد ورثه ولده وانقطع ميراث الأم والزوجة وميراث من ورثهم إن كانوا قد هلكوا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه أوصى لبعض ورثته دون بعض بحُبُس تجري عليهم غلته بدليل قوله: ثم جعلها من بعدهم لغيرهم، إذ لو أوصى لبعض ورثته دون بعض بوصية قال: لم يصح أن يكون(12/196)
لغيرهم من بعدهم ولوجب إن لم يُجِزْ ذلك سائر الورثة أن يبطل ويرجع ميراثا بين جميعهم، ولم يكن في ذلك كلام ولا إشكال.
وتنزيلُ المسألة على المعنى الذي أراده أن يكون الموصي قد ترك من الورثة أربعة بنين وابنة وزوجة وأُمَّا وأوصى أن يحبس على الذكران من أَوْلَادهِ ثم على أولادهم من بعدهم حُبُسا له غلة يكون موقوفا عليهم، فلم يجز ذلك سائر الورثة الذين لم يوص لهم، وهم الزوجة والأم والأخت أنهم يدخلون مع الموصي لهم في غلة الحبس فيقتسمونها بينهم على سبيل الميراث، وذلك الذي أراد بقوله: فهي على سائر الورثة الزوجة والأم ومن لم يوص له بشيء يدخلون معهم، فيأخذون قدر ما يصيبهم من الميراث.
وقوله بعد ذلك: فإذا هلك رجل من الورثة الذين أوصى لهم صار نصيبُه لولده وخرج نصيب الأم والأخت والزوجة من ذلك، يريد صار نصيبه كاملا لولده دون أن تأخذ منه الأم والأخت والزوجة شيئا وهو الربع؛ لأن المحبس عليهم أربعةٌ فإذا توفي أحدهم صار الربع كاملا لولده لأنهم غير ورثة فلا تدخل عليهم فيه الزوجة ولا الأم ولا الأخت.
وقولُه: وثبت في غيره من حظوظ أعيان الولد حتى ينقرضوا يريد أن الثلاثة الأرباع يدخل فيها مع الإِخوة الثلاثة الباقين لأنهم ورثة الأم والزوجة والأخت، فيكون ذلك بينهم على فرائض الله.
وقوله: حتى ينقرض أخرهم يريد أن يُعمل في موت من مات منهم بعد الأول ما عمِل في موت الأول من أن يكون الربعُ الثاني لولده لأنهم غير ورثة فلا تدخل عليهم فيه الزوجة ولا الأم ولا الأخت، وكذا إذا مات الثالث وكذلك إذا مات الرابع وهو أخرهم يصير الربعُ لولده كاملا لأنهم غير ورثة ويسقط نصيبُ الزوجة والأم يريد والأخت جملة فلا يكون لهن شيء.
وقوله: فإن هلكت الزوجة والأم يريد أو الأخت دخل من يرثهما مكانهما في الميراث مع الولد يريد معهم كلهم في جميع الغلة أو مع من بقي منهم في(12/197)
حظه منها وهو الربع لأنهم أربعة على التنزيل الذي لنا عليه المسألة، فإذا انقرضوا كلهم رجع الحبس إلى أولادهم لأنهم غير ورثة ولم يكن لمن لم يوص له من الورثة في ذلك حجة ولا كلام؛ لأن الحبس قد صار إلى غير ورثة، فهذا بيان هذه المسألة وفيها معنى ينبغي أن يوقف عليه وهو قوله فيها فإن هلك رجل من الورثة الذين أوصى لهم صار نصيبه لولده وهو قد حبس عليهم ثم على أولادهم من بعدهم إذ لا يقتضي قوله: ثم على أولادهم من بعدهم إلا يدخل ولو من مات منهم في الحبس حتى يموتوا كلهم؛ لأن قوله ثم على أولادهم من بعدهم يحتمل أن يريد به ثم على أعقابهم من بعد انقراض جميعهم، وأن يريد به ثم على أعقاب من انقرض منهم إلى أن ينقرض منهم إلى أن ينقرض جميعهم لاحتمال اللفظ للوجهين جميعا احتمالا واحدا، وكذلك كل ما كان على صيغته من الألفاظ عَطْفَ جمع على جمع بحرف ثَم يجوز أن يعبر به عن كل واحد من الوجهين، وذلك بين من قَوْله تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] لأنه قد علم أنه أراد بقوله عز وجل فأحياكم ثم يميتكم، أنه أمات كل واحد منهم بعد أن أحياه قبل أن يحيي بقيتهم وأنه أراد عز وجل ثم يحييكم أنه لا يحيي منهم أحدا حتى يُميت جميعَهم، والصيغة في الفصلين واحدة فلولا أن كلّ واحدة منهما محتملةٌ للوجهين لما صح أن يريد بالواحدة غيرَ مراده بالأخرى، وهذا أَبْيَنُ من أن يخفى، فإذا كان قولُه: ثم على أولادهم محتملا للوجهين وجب أن يكون حظ من مات منهم لولده، ولا يرجع إلى إخوته؛ لأن ما هلك عنه الرجل فولده أحق به من إخوته، فترجِّح بذلك أحدُ الاحتمالين في اللفظ؛ لأن الأظهر من قصد المحبس وإرادته أن يكون ذلك بينهم على سبيل الميراث فقال: ثم على أعقابهم، ألَّا يدخل الولدُ مع والده في الحبس حتى يموت، ولو أراد ألا يدخل في الحبس حتى يموت والدُه وجميع أعمامه المحبس عليهم مع والده لقال: ثم(12/198)
على أولادهم من بعد انقراض جميعهم، فلا اختلاف أعلمه في هذه المسألة نصا، وقد وقع لابن الماجشون في الواضحة ما ظاهره خلافُ هذا، وهو محتمل للتأويل، وقد ذهب بعضُ فقهاء زماننا إلى أن الولد لا يدخل في الحبس بهذا اللفظ حتى يموت والده وجميع أعمامه، وقال: إن لفظة (ثم) تقتضي التعقيب في اللسان العربي دون خلاف، فلا ينبغي أن يختلف إذا قال: (ثم على أولادهم) في أنه لا يدخل أحدٌ من الأولاد في الحبس إلا بعد انقراض جميع الأب، وتعلق بظاهر قول ابن الماجشون في الواضحة، ولا تعلق له فيه لاحتماله التأويل فقوله خَطَأٌ صُرَاحٌ بما بيناه.
وإنما يختلف في المذهب إذا حبس على جماعة معينين ثم صرف الحبس من بعدهم إلى من سِوَى أولادهم من وجه آخر يجعل مرجعَ الحبس إليه بعدهم على ثلاثة أقوال تقوم من المدونة فيمن حبس حائطه على قوم بأعيانهم فمات بعضهم وفي الحائط ثمرة لم تؤبر، أحدها: أن حظ الميت منهم يرجع إلى الوجه الذي جعل مرجع الحبس إليه بعدهم، وذلك على قياس قوله في مسألة المدونة إن حظ الميت منهم يرجع إلى المحبس، والقول الثاني: أن حظ الميت منهم يرجع إلى بقيتهم، وذلك على قياس قوله في المدونة: إن حظ الميت منهم يرجع على بقيتهم، والقول الثالث: أنه إن كان الحبس مما تقسم غلته كالثمرة والخراج رجع حظ الميت منهم إلى الوجه الذي جعل مرجع الحبس إليه بعدهم، وإن كان مما لا تقسم غلته عليهم كالعبد يَخْتَدِمُونَهُ والدار يسكنونها أو الحائط يَلُونَ عَمَله رجع نصيب الميت منهم إلى بقيتهم، وذلك على قياس مَا رواه الرواة عن مالك وأخذوا به حاشى ابن القاسم من التفرقة بين الوجهين، وقد حكى عبدُ الوهاب في المعونة أنَ الاختلافَ في هذه المسألة إنما هو فيما يقسم كالغلة والثمرة، وأنه لا اختلاف فيما لا يقسم كالعبد يُخْتَدَمُ والدار تسكن، وليس ذلك بصحيح على ما بيناه، وبالله التوفيق.(12/199)
[مسألة: الحبس على الموالي]
مسألة قال مالك: من حبس حبسا على مَوَالِيهِ ولهم أولاد وله مَوَالِي لبعض أقاربه رجع إليه وَلَاؤُهُمْ، قال: لا يكون الحبس إلا لِمَوَالِيهِ الذين أعتق، وأولادهم يدخلون مع آبائهم في الحبس؛ لأنهم مواليه إلا أن يخصهم بتسمية، قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال بعد ذلك: أرى موالي الأب والابن يدخلون مع مواليه ويُبَدَّأُ بالأقرب فالأقرب من ذوي الحاجة إِلَّا أن يكون الأبَاعِدُ أحْوَجَ فيؤثرون، وهذا قول مالك، وهو أَحَبُّ ما فيه إِلَي.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في رواية ابن لبابة وله مَوالي لبعض أقاربه رجع إليه وَلاؤهم، وفي رواية أبي صالح يرجع إليه ولاؤهم، والصواب رجع إليه ولاؤهم؛ لأن من لم يرجع إليه ولاؤهم فليسوا بموالي له، فقوله بعد ذلك: (أرى موالي الأب والابن) يريد والأخ على ما قال في سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا يدخلون مع مواليه معناه إذا كان ولاؤهم قد رجع إليه، وكذلك قال أصبغ في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الوَصَايَا في الوصية: وهذا إذا كان ولاؤهم قد رجع إلى هذا الموصي فأما إذا لم يكن ولاؤهم قد رجع إليه فلا يدخلون في وصية، وفي المجموعة مثلُ قول مالك، الثاني قال غير ابن القاسم في الحبس على الموالِي: إنه يدخل فيه موالي ولد الولد والأجداد والأم والجدة يريد الجدة أم الأب وأم الجد لا أم الأم ولا أم أم الابن لأن النساء لا يرثن الوَلَاءَ، قال: والأخوة، ولا يدخل فيه موالي بني الأخوة والعمومة، قال: ولو أدخلت موالي هؤلاء أدخلت موالي القبيلة، وقد قيل إنه يدخل فيه من موالي قرابته كل من لو مات لَوَرِثَهُ وهو القايس على قول مالك الثاني وعلى ما قاله غير ابن القاسم في المجموعة من أنه يدخل فيه موالي الآباء والأبناء والإِخوة، ولا يلزم ما قال من أنه لو أدخل موالي بني الإخوة(12/200)
والعمومة لأدخل موالي القبيلة، كما لا يلزم إذا ورث بنو الأخ والعمومة أن يرث جميع القبيلة؛ لأن الميراث لا يكون إلَّا مع ثبوت النسب وكذلك الولاء.
وظاهر قول ابن وهب في سماع أصبغ من كتاب الوصايا أنه لا يدخل في وصية الموصي لمواليه إلا موالي عتاقته، وكذلك الحبس على قوله لا يدخل فيه أولادُ مواليه ولا موالي مواليه ويدخلون فيه على مذهب مالك، قاله في هذه الرواية في أولاد مواليهم، وقاله في رسم الشريكين بعد هذا السماع في موالي مواليه، ومثلُه لعلي في المجموعة.
فيتحصل في المسألة أربعةُ أقوال أحدها: أنه لا يدخل في ذلك إلا موالي عتاقته خاصة، والثاني: أنه يدخل في ذلك موالي عتاقته وأولادهم ومِواليهم، والثالث: أنه يدخل في ذلك موالي عتاقته وأولادهم ومواليهم وموالي أبيه وجده وولده وولد ولده وإخوته، والرابع: أنه يدخل فيه موالي عتاقته وأولادهم ومواليهم وموالي أبيه وابنه وجده وجميع عصبته، ولا يدخل فيه على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك مع الموالي الأسفلين الذين أنعم عليهم الموالي الأعلون الذين أنعموا عليه، هذا منصوص في الوصايا من المدونة، وأشهب يرى أنهم يدخلون معهم ويُقسم الثلثُ أو الحبس بينهم بنصفين إن كان هؤلاء ثلاثة فأكثر، وهؤلاء ثلاثة فأكثر، وإن كان عدد هؤلاء ثلاثة وعدد هؤلاء عشرة فالثلث بينهم بنصفين كمال تدعيه طائفتان فيقسم بينهما بنصفين، وإن كان عدد الطائفة الواحدة أكثر عددا من الطائفة الأخرى فإن كان عدد أحدهما أقل من ثلاثة وعدد الآخر ثلاثة فأكثر فالثلث أو الحبس للذين عددهم ثلاثة فأكثر ولا شيء للذين عددهم أقل من ثلاثة لأنه إنما أوصى لجماعة فلا يكون للذين أقل من ثلاثة شيء، وإن كان عدد هؤلاء أقل من ثلاثة وعدد هؤلاء أقل من ثلاثة كان الثلث أو الحبس بينهما بنصفين؛ لأنه إنما أوصى لجماعة وهي لا تجتمع إلّاَ من الطائفين، فيقسم ذلك بينهم جميعا على عددهم، وهذا مذهب أشهب، ولو قال قائل: إنه يقسم بينهم جميعا على عددهم ما كانوا إن استووا في الحاجة(12/201)
لكان قولا له وجه؛ لأنه إذا احتمل أن يريد الذين من فوق والذين من أسفل احتمل أن يريدهم جميعا؛ لأن كل واحد منهم ينطلق عليه اسم مولى، فهذا أظهر من قول أشهب وأولى.
ومن أهل العلم خارج المذهب من يرى أن يقرع بينهما، ومنهم من يرى أن الوصية باطل إذْ لا يُعلم من أراد الموصِي منهما فيتحصل في المسألة خمسة أقوال لا وجه لقول منها إِلَّا ما غلب على ظن قائله من أن المحبس أو الموصي قصده وأراده بعرف أو عادة أو ظاهر مقتضى التسمية، وهذا إذا لم يكن ثَمَّ دَليل على أنه أراد الأعلى دون الأسفل أو الأسفل دون الأعلى مثل أن يكون أهل أحدهما أغنياء وأهل الثاني فقراء فيعلم أنه إنما قصد بوصيته إلى الفقراء دون الأغنياء كانوا من فوق أو من أسفل ومن دخل معهم على قول كل قائل فيبدأ منهم الأقرب على الأبعد إِلَّا أن يكون الأبعد أحوج كما قال في الرواية، وقد قيل: إنه لا يفضل الأقرب على الأبعد وهو ظاهر ما يأتي في رسم الشريكين بعد هذا كما قيل؛ لأنه لا يفضل الولد على ولد الولد، وفي هذا تفصيل واختلاف سنخلصه فيما يأتي في آخر هذا الرسم إن شاء الله وبه التوفيق.
[مسألة: ما حازه الكبار لأنفسهم يجوز]
مسألة وقال مالك: من أسكن ولده وولد ولده دارا واستخلف عليها ولدا لولده كبيرا ليحوزَهَا لنفسه ومن سماها له معه، ثم إن الابن أسكن أباه الدار، قال: إن كان أسكنه بيتا في الدار فذلك جائز، وإن كان أسكنه الدار كلها فليس بجائز، وهي ترد في الميراث، قال ابن القاسم: وذلك رأيي، قال: وأخبرني مالك عن زيد بن ثابت وابن عمر مثل ذلك، قال ابن القاسم - قال مالك: حبس عمر وعلي وزيد وابن عمر.(12/202)
قال محمد بن رشد: قوله إن كان أسكنه بيتا في الدار فذلك جائز معناه إن كان البيت يقع في ثلث الدار فأقل، وأما قوله وإن كان أسكنه الدار كلها فليس بجائز وهي ترد في الميراث فذلك ما لا اختلاف فيه وإنما يختلف إن كان أسكنه جلها أو ما هو أكثر من الثلث منها؛ لأن حيازة الكبير للصغار ولنفسه كحيازته لنفسه لو كان هو المحبَّس عليه وحده، فالمنصوص عليه لابن القاسم وأصبغ في الواضحة أن ما حازه الكبار لأنفسهم يجوز وإن كان الذي سكن الأب من الدار هو الأكثر، وفي آخر كتاب الرهون من المدونة في بعض الروايات أن الكل يبطل إذا سكن الأب الأكثر من الدار سواء حاز الأب البقية للصغار أو حازه الكبار لأنفسهم، ومثلُه لابن القاسم في رسم إن خرجت بعد هذا من هذا الكتاب، وأما الدور إذا سكن الأب أكثرها وحاز الكبار لأنفسهم بقيتها فيجوز لهم ما حازوه على ما قاله ابن القاسم في رسم إِن خرجت من سماع عيسى، ولا أعرف في ذلك نص خلاف.
وفرق أصبغ ما بين الدار والدور فقال: في الدور إن كل دار منها صغرت أو كبرت تصير كأنها محبسة على حدة، فإن سكن الأب جلها أو أكثر من الثلث منها بطل الحبس فيها كلها إن كان الأب هو الحائز لبقيتها، وإن كان الكبار هم الحائزون لبقيتها جاز لهم ما حازوه منها، وأما ما سواها من الدور فيجوز الحبس فيما حازه الأب للصغار أو حازه الكبار لأنفسهم، ومذهب ابن القاسم في الدور أن الأب إذا سكن الجل منها بطل الباقي إن كان الأب هو الحائز له، وجاز للكبار إن حازوه لأنفسهم، والحبسُ والهبة والصدقةُ في ذلك كله سواءٌ على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وَفَرَّقَ مطرف وابن الماجشون بين الهبة والصدقة وبين الحبس فقال في الحبس: إذا كان هو الحائز له كقول ابن القاسم في أن سكناه اليسير منه لا يُبطل الحبسَ لماله من العذر في سكناه ليكون بإزائه لعمارته وإصلاحه وتسكينه، وقال في الهبة والصدقة وفي الحبس إذا لم يكن هو الحائز له إما بأن يكون الحبس على من يَحُوز لنفسه وإما بأن يكون على من يحوز له فأسند حيازته إلى غيره إِن ما سكن يبطل وما لم يسكن(12/203)
يجوز من غير تفصيل بين دار أو دور أو سكنى يسير أو كثير، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: قوم حبست عليهم دار فخربت فأرادوا بيعها وابتياع دونها]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا قال في قوم حبست عليهم دارٌ فخربت فأرادُوا بيعها وابتياع دُونهَا: إِن ذلك لا يجوز لهم، وأما الفرس يكلب أو يخبث فإنه يباع ويشتري بثمنه فرس يحبس مكانه.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب ما في المدونة أن الرِّبْعَ الحُبُسَ لا يباع بأن خشي عليه الخراب، ومثله في رسم الأقضية، الثاني من سماع أشهب من كتاب جَامِع البيوع بخلاف ما بلى من الثياب وضعف من الدواب، والفرق بين ذلك أن الربع وإن خرب فلا تذهب البقعة ويمكن أن يعاد إلى حاله، وابن الماجشون يرى ألّا يُبَاعَ شيء من ذلك كله وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، وروى عن ربيعة أن الإِمام يبيع الرِّبْعَ إذا رأى ذلك لِخَرَابِه كالدواب والثياب، وهو قول مالك في إحدى روايتي أبي الفرج عنه، قال: لا يباع الربع المحبس، وقال في موضع آخر: إِلَّا أن يخرب والله الموفق.
[مسألة: حبس حبسا على ذكور ولده وأخرج الإناث منه إذا تزوجن]
مسألة قال مالك: من حبس حبسا على ذكور ولده وأخرج الإِناث منه إذا تزوجن فإني لا أرى ذلك جائزا وإنه من أمر الجاهلية، وليس على هذا توضع الصدقات لله وما يُرَادُ به وجهه إِلَّا ما تصدق به رجل وجعله بعد انقراض ولده في سبيل من سبيل الخير.
قال ابنُ القاسم: فقلت لمالك: أفترى لمن حبس حبسا وأخرج بناته منه إذا تزوجن أن يبطل ذلك ويسجل الحبس؟ قال: نعم وذلك وجه الشأن فيه، قال ابن القاسم: ولكن إذا فات ذلك فهو على ما(12/204)
حبس قال ابن القاسم: إن كان المحبس حيا ولم يُحَزْ الحبس فأرى أن يفسخه ويدخل فيه الإِناث، وإن كان قد حيز أو مات فهو فوت، وهو على ما جعله عليه.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا أَن الحبس لا يجوز ويبطل على كل حال خلافُ مذهب ابن القاسم في أنه يمضي إذا فات ولا ينقض، وفوت الحبس عنده أن يحاز عن المحبس على ما قاله في هذه الرواية، فرأى للمحبس ما لم يُحَز الحبس عنه أن يُبْطِلَ الحبسَ ويُدْخل الإناث فيه ظاهر قوله وإن كره ذلك المحبس عليهم مُرَاعاة لقول من يقول إن الصدقات والهبات والأحباس لا تلزم ولا يجب الحكم بها حتى تقبض، وقد رُوي عن مالك أن ذلك مكروه من العمل، فعلى قوله هذا لا يفسخ الحبس إلّا أن يرضي المحبس عليهم بفسخه وهم كبار، وذهب محمد بن المواز إلى أنَ ذلك ليس باختلاف من قول مالك: فقال: إنما يفعل ما قال مالك من فسخ الحبس وأن يجعله مسجلا إنما ذلك ما لم يَأبَ عليه من حُبس عليهم، فإن أبَوْا لم يجز له فسخه ويقر على ما حبس وإن كان حيا إلا أن يرضوا له برده وهم كبار، قال مالك: إن لم يخاصم فليرد الحبس حتى يجعله على صواب، ظاهرهُ وإن كان لم يحَزْ عنه، وهو على قياس القول بأن ذلك عنده مكروه من الفعل، وقال ابن القاسم: وإن خوصم فليقره على حاله، ومعنى ذلك على مذهب والله أعلم إذا كان قد حيز عنه وهو الذي ذهبت إليه من التأويل في هذه المسألة على ابن القاسم من أنه فرق في فسخ الحبس بين أن يحاز عنه أو لا يحاز هو ظاهر قوله في هذه الرواية إن كان المحبِّس حيا ولم يحز الحبس فأرى أن يفسخه ويدخل فيه الإِناث، وإن كان قد حيز أو مات يريد أو مات بعد أن حيز فهو فوت، وهو على ما جعله عليه، وقد تأول على ما حكاه محمد بن المواز عن مالك وابن القاسم أنه ليس له أن يفسخ الحبس وإن كان لم يحز عنه إلا بأذن المحبس عليهم ورضاهم، وقد تأول أيضَاَ أنَ له أن يفسخه وإن كان قد حيز عنه وإن أبى المحبَّس عليهم مراعاة لقول من لا يرى إعمال الحبس جملة، وهو ظاهر قول(12/205)
ابن القاسم في رسم شك بعد هذا من هذا السماع، وفي رسم نذر، وتأول على ظاهر قول مالك في هذه الرواية أنَ الحبس يفسخ على كل حال وإن مات المحبس بعد أن حيز عنه الحبس.
فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال أحدها هذا، والثاني أن المحبس يفسخه ويدخل فيه الِإناث وإن حيز عنه، والثالث أنه يفسخه ويدخل فيه الإِناث ما لم يحز عنه فإن حيز عنه لم يفعل ذلك إلا برضى المحبس عليهم، والرابع أنه لا يفسخه ويدخل فيه الإِناث وإن لم يحز عنه إلا برضى المحبس عليهم.
وإخراج الإِناث من الحبس عند مالك أَشَرُّ في الكراهية من هبة الرجل لبعض ولده دون بعض على ما سيأتي القول فيه في رسم الشجرةِ ورسم نذر سنة من كتاب الصدقات وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب منه إذ لم يختلف قوله في أن هبة الرجل الشيء من ماله لبعض ولده دون بعض جائز نافد وإن كان ذلك مكروها لقول الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] وهو الذي أراد بقوله في الرواية وإنه من أمر الجاهلية وبالله التوفيق.
[مسألة: أعمر عمري دارا أو خادما له ولعقبه ما عاشوا]
مسألة قال مالك: لو أن رجلا أعمر عمري دارا أو خادما له ولعقبه ما عاشوا ولم يقل مرجعه إِلَيَ ولم يجعل لمرجعها وجها ترجع إليه رجعت إليه كما لو اشترط.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب مالك وجميع أصحابه أن العمري ترجع إِلى الذي أعمرها بعد موت المُعْمَرِ إن لم تكن معقبة وبعد(12/206)
انقراض العقب إِن كانت معقبة، ولم يأخذ مالك في العُمْرى بحديثه الذي رواه في موطئه عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «أَيُّما رَجلٍ أَعْمَرَ عُمْرَىَ لَهُ وَلِعقِبِهِ فَإنَّهَا للذِي يُعْطَاهَا لاَ تَرْجِعُ إلَى الذِي أَعْطَاهَا» لَأنَّه أَعْطَى عَطَاء وَقَعْتْ فِيهِ المَوَارِيث، وذهب في ذلك إلى ما رواه عن ابن القاسم بن محمد أنه قال: ما أدركت الناس إِلَّا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا، فقال معنى الحديث أن العمرى لا ترجع إلى الذي أعطاها حتى ينقرض العقب، بدليل قوله في الحديث فإنها للذي يُعطاها والذي أعْطِيِّهَا هو المُعْمَر وعقيبه فَوَجب أن تكون لهم بنص الحديث وترجع بعد انقراضهم إلى المُعْمَر بالتأويل الصحيح، إذ لا يصح أن يكون ملكا لجميع العقب فمن قال إن العمرى المعقبة تكون ملكا للمُعْمَرِ فقد خالف الحديث، ومالك أَسْعَدُ به.
ومن أهل العلم من قال إن العمرى تكون ملكا للمُعْمَرِ وإن لم تكن معقبة، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وجماعة من أهل العلم سواهم على ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «مَن أُعْمِرَ شَيئا فَهُوَ لَه حَياتَهُ وَمَمَاتَهُ» ومن قوله أيضا: «العُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» ، ومن قوله أيضا: «مَنْ أُعْمِرَ عمْرَى فَهِي لَهُ وَلِعَقِبهِ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثهَا مِنْ عَقِبِهِ» ، ولم يصح عند مالك شيء من هذه الآثار وإنما صح عنده حديث جابر الذي ذكرناه فأخذ به على ما تأوله عليه من معناه.
ففي العمرى لأهل العلم ثلاثة أقوال أحدها: أنها تكون ملكا للمعمر قال فيها: هي لك عمرى أو هي لك ولعقبك عمري، والثاني: أنها تكون ملكا للمعمر في واحد من الوجهين وترجع إلى المُعْمِر ملكا بعد موت المعمَر أو بعد موته(12/207)
وانقراض عقبه إن كانت معقبة وهو مذهب مالك، والثالث: أنها تكون للمُعْمَر ملكا! إن كانت معقبة وترجع إلى المُعْمِر ملكا بعد موت المعْمَر إن لم تكن معقبة وبالله التوفيق.
[مسألة: أخدمه أو أعمره أمة ثم عدا عليها فأحبلها صاحب الرقبة]
مسألة وسمعت مالكا قال: من أعمر خادما أو عبدا حياته ولا مال له ثم أَفَادَ مالا أو وُلدَ له ولدٌ قال مالك: ما ولد للأمة أو كان للعبد من أمة يملكا فهو على مثابتهما يخدمان المُعْمَرَ حياتَه، وما كان من مال فهو مَوْقُوفٌ على أيديهما يأكلان فيه ويكتسيان بالمعروف، وليس للمعمر ولا للمعمر أن ينتزعاه منهما ما عاشا، فإذا ماتا ورثهما سيدهما الذي يملك رقابهما، وإن قتل العبد عمدا أو خطا فإن عقله لسيده مثلُ الميراث، قال ابن القاسم وإن قَتَلَهُ سيده خَطَأ فلا شيء عليه، وإنَ قتله عمدا كان عقله عليه في السنين التي أعمر، فإن فضل فضل كان له.
قال عيسى بن دينار: تفسيره أن يغرم سيدُه القاتلُ القيمة فتوقّف للمُعْمَر فَيُسْتَأْجَر له منها من يخدمه مكانه، فإن مَات قبل أن يستنفذ الثمن رجع ما بقي من قيمته إلى سيده، قال ابن القاسم: ويكون عليه أن يستأجر له من يخدمه في تلك السنين بقيمته، فإن مات رجع فضل ذلك إلى سيده، قال سحنون وقد كان عبد الرحمن يقول: يُشْتَرَى بتلك القيمة عبدٌ آخر مكانه، وكذلك لو أخدمه أو أعمره أَمَة ثم عدا عليها فأحبلها صاحبُ الرقبة أن عليه أن يشتري أخرى مكانها، قال مكانها قال مالك: ما كان من ولد للعبد المُعْمَرِ من جاريتِه فهو بمنزلته.(12/208)
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة على نصها في سماع ابن القاسم من كتاب الخدمة وقوله فيها إن ما ولد للأمة المُخدَمة أو العبد المخدم فهو بمنزلتهما صحيحُ لَا اعْتِرَاضَ فيه لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كُل ذَاتِ رَحِم فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا» .
وأما قوله فيما وهب لهما من مَال إنه يكون موقوفا على أيْدِيهِمَا يأكلان فيه ويكتسيان بالمعروف وإنه ليس لواحد منهما أن يَنْتزعه ففيه نظر لأن نفقة الأمة المخدمة وكسوتها على المُخْدَم على المشهور في المذهب، فالقياس أن يكون ما وهب لهما من مال لسيدهما الذي أخدمهما والذي يَملك رقابهما ينتزع ذلك إن شاء، ولا يكون لهما أن يأكلا منه ولا يكتسيا فيه، وقد قيل إن النفقة على سيده الذي أخدمه، فعلى قياس هذا يصح جوابه في هذَه الرواية وكذلك قولُه في المُعْمِر إذا قتل العبد الذي أعمره عمدا أو خطأ أو كانت أمة فأولدها: إنه يغرم القيمة فيستأجر منها للمُعْمَر من يخدمه مكانه فيه نظر؛ لأن القيمة إن نفذت والمخدَم حي يسقط حقه ولم يكن له شيء على قوله ومن حجته أن يقول لو لم تقتل لكان لي خدمتها إلى أن أموت، وهي في أم الولد أظهر؛ لأنه يقول كيف يبطل حقي الذي لي في خدْمتها إلى أن أموت وهى باقية لم تمت، فكان القياس أن يكون على قاتلها عمدا قيمة خدمتها على الرجَا والخَوْف، وقد وقع في المدنِيَة من رواية محمد بن يحيى السبائي عن مالك ما يشهد لما قلناه، وذلك أنه سئل عن امرأة أخدمت خادما لها امرأتين عمرهما ثم إنهما اشترت من إحداهما ما جعلت لها من الخدمة حياتها، ثم أعتقت الخادم كيف يصنع في ذلك؟ أتبطل الخدمة عن المعمرة الثانية التي لم تبع أم تقوم على المعتِقَة كيف الأمر في ذلك؟ قال: بل تقوم عليها قدرُ تلك الخدمة التي أخدمتها حياتها يريد على الرجا والخوف؛ لأنها لا تقدر على الرجوع في التي أخدمتها، فيقوم ذلك عليها ويتم العتق عليها، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكَا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ حَظُّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شرَكَائِهِ وَعَتَقَ(12/209)
عَلَيْهِ العَبْدُ كُلُّهُ» فلا أرى هذا إلّا شِرْكا وإن لم يكن شريكه في الرقبة فإني أراها شركة بالخدمة، وهذا مثل ما قلناه من أن القياس أن يكون على المُعْمِرِ إذا قتل الأمة التي أعمرها عمدا أو أولدها قيمةُ خدمتها على الرّجاء والخوف إذ لا فرق بين تفويت الخدمة عليها بالعتق وبالإِيلاد أو بالقتل عمدا، ومن الدليل على ذلك رواية عيسى عن ابن القاسم في المدنية في مسألة السبائي عن مالك أن على المعتقة أن تُخرج نصف قيمة الخادم وليس قيمة الخدمة فتواجر التي لم تبع خدمتها منها حَيَاتَها وتعتق الخادم، فإن ماتت المخدمة قبل أن يستتمها رجع الفضل إلى المُعْتِقَةِ، فإن استتمتها قبل الموت فلا شيء لها عليها، وإن ماتت الخادم أيضا قبل الخدمة رجعت بقيمة الخدمة إلى المُعْتِقَة، قال: وكذلك وجدت في مسائل عبد الرحيم عن مالك، فَجَرَى ابنُ القاسم في العتق على أصله في القتل وَالإِيَلادِ، وكذلك قولُه في الرواية: إذا قتل الأجنبي العبد المخدم إن القيمة تكون لسيده مثل الميراث، ويبطل حق المُخْدَم ليس بوجه القياس والنظر، والذي يوجبه القياس على أُصولهم أن يتحاصا جميعا في القيمة يضرب فيها سيد العبد بقيمة المرجع على غرره، والمُخْدَم بقيمة الخدمة على غررها أيضا وبالله التوفيق.
[مسألة: الذين سمى لهم كيلا معلوما أولى من الآخرين]
مسألة قال مالك: من حبس حبسا على ولده وغيرهم حائطا أو ما أشبه ذلك مما يثمر وُيسَمِّي لبعضهم ما يُعْطَى في كل كيلا معلوما ولا يسمى للآخرين شيئا، قال: الذين سمى لهم كيلا معلوما أولى من الآخرين بما خرج من الثمر إلا أن يعمل فيه عاملٌ فيكون أولى بحقه(12/210)
في ذلك، ويأخذه قال ابن القاسم: وكذلك الغلة في الدور.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها وقد قال ابن دحون: إنها مُعارضة لقوله في الوصايا: إن من أوصِيَ له بكيل معلوم هو مثل من أوصِيَ له بنصيب من الثمرة لا يدري كم يخرج في كيله يتحاصون ولا يقدم أحدهما على الآخر، ولا تعارض بينهما بوجه؛ لأنه لما حبس الحائط عليهما وسمى لأحدهما مكيلة من الثمرة وسكت عن الثاني فلم يجعل له إلّا ما بقي، ولو سمى لأحدهما مكيلة من الثمرة وللثاني، جزءا منها لوجب أن يتحاصا في ثمرتها كما قال في مسألة الوصية سواء وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس غلامه على رجل يخدمه فيموت العبد قبل أن تنقضي خدمته وله مال]
مسألة قال مالك في الرجل يحبس غلامه على رجل يخدمه فيموت العبد قبل أن تنقضي خدمته وله مال: إنّ مالَه لسيده، وليس للمحبس عليه شيء؛ لأنه إنما حبس عليه الخدمة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه والحمد لله.
[مسألة: أخدم عبدا له رجلا عشر سنين ثم هو حر فوهب له الذي أخدمه خدمته]
مسألة وسمعت مالكا قال: من أخدم عبدا له رجلا عشر سنين ثم هو حُرٌّ فوهب له الذي أخْدِمَهُ خِدْمَتَهُ كان حرا، ولو باعه الخدمة أيضا كان حرا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأنه إنما كان بقي عليه من الرق ما عليه من الخدمة، فإذا أسقِطَتْ عنه باشتراء أو وهبة بُتِلَتْ حريتُه وبالله التوفيق.(12/211)
[مسألة: حبس عليه وعلى عقبه ولعقبه ولد]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: من حُبِّسَ عليه وعلى عقبه، ولعقبه ولد فهم مع آبائهم في الحبس بالسواء، إلّا أنه يفضل ذو العيال بقدر عياله، لا يكون الآباء أولى من الأبناء والذكر والأنثى فيهم سواء.
قال محمد بن رشد: قوله في ولد عقب الرجل إنهم مع آبائهم في الحبس إذا كان الحبسُ عليه وعلى عقبه صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن عقب الرجل ولده وولد ولده ما سفلوا وإن بَعُدوا، وقوله: إنه يفضل ذو العيال بقدر عياله هو المشهور في المذهب أن المحبس المُعَقّب يُقسم قدْرَ الحاجة وكثرة العيال من قلتهم، وحكى محمد بن المواز عن ابن الماجشون أنه لا يفضل ذو الحاجة على الغنى في الحبس إلّا بشرط من المحبس، وهو ظاهر ما في رسم القطعان من سماع عيسى في الذي يحبس في مرضه على ولده وولد ولده لأنه قال فيه: إن الحبس يقسم بين أعيان الولد وولد الولد ذكورهم وإناثهم شَرَعا سواء على عددهم للذكر مثل حظ الأنثى، مثله في رسم الصلاة من سماع يحيى إلّا أن يقال معنى ذلك إذا استوت حالتُهُم، فقد قال ذلك سحنون وابن المواز، والظاهر خلافُ ذلك، وعلى هذا يأتي ما حكى محمد بن المواز عن ابن القاسم أن من مات منهم بعد الطياب في الثمرة فحقه لورثته، ومن ولد منهم بعد طيابها فلا حق له فيها، ومن ولد منهم قبل طيابها بعد الإِبار أو قبْله فحقه ثابت فيها، إلّا أنّ الذي يأتي على قياس المشهور أنها تقسم على قدر الحاجة أن يسقط حق من مات منهم قبل القسمة وإن كان ذلك بعد طيب الثمرة، وأن يدخل فيها من ولد منهم قبل القسمة وإن كان ذلك بعد طيب الثمرة، وهو نص قول ابن كنانة وابن نافع في المدنية، وفرق ابنُ نافع فيها بين السكنى والغلة، فقال في السكنى: إن الغني والفقير فيه سواء، بخلاف الغلة، وساوى ابن القاسم بين السكنى والغلة بأنه يؤثر بذلك الفقير على الغني، هذا قوله في(12/212)
المدنية وهو على المشهور في المذهب في أن الحبس المعقب يؤثر فيه المحتاج على الغني.
وقولُهُ في الرواية فهم مع آبائهم في الحبس سواء، ولا يكون الآباء أولى من الأبناء هو نص ما في رسم القطعان من سماع عيسى وما في رسم الصلاة من سماع يحيى، وما حكى سحنون في المدونة عن المغيرة وغيره من أنه كان يُسَوي بينهم خلافُ ما في المسألة التي بعد هذه وخلاف المعلوم من مذهب ابن القاسم وما في المدونة لمالك من أن الآباء يؤثرون على الأبناء، ولا يكون للأبناء معهم في السكنى إلّا ما فضل عنهم، وسواء على قولهما قال: حُبُسٌ على ولدي ولم يزد فدخل معهم الأبناء بالمعنى، أو قال: على ولدي وولد ولدي فدخلوا معهم بالنص، وقد فرق بين ذلك أشهب فقال: إذا دخلوا بالمعنى بُدئ الآباء عليهم، وإن دخلوا بالنص لم يبدءوا عليهمَ وكانوا بمنزلتهم، وهذه الثلاثة الأقوال في تفضيل من سمى من الآباء على من لم يسم من الأبناء وعلى من سمى منهم، وأما من سفُلَ منهم ممن لم تتناوله تسمية المحبِّس فلا يفضل الآباء منهم على الأبناء إذا استووا في الحاجة هذا نص قول مالك في المدونة، ولا أعرف في ذلك نص خلاف، وقد يدخل فيه الخِلَاف بالمعنى من قوله فيما تقدم في الموالي ويبدأ بالأقرب فالأقرب من ذوي الحَاجَةِ إلّا أن يكون الأباعد أحوج فيؤثرون، قال: وهذا قول مالك وهو أحب ما فيه إلي، وفي قوله: (وهو أحب ما فيه إلي) دليلٌ على الخلاف، وهو ما وقع في رسم الشريكين بعد هذا من أن موالي الموالي يدخلون مع الموالي ولا يفضلون عليهم في ظاهر قوله: (إذا استوت حاجتهم) فيتحصل في المسألة أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يُبَدَّأ الآباءُ على الأبناء جملة من غير تفصيل، والثاني: أنهم يبَدِّأونَ عليهم جملة من غير تفصيل أيضا، والثالث: أنه يبدأ منهم من دخل بالنص على من دخل بالمعنى، ولا يبدأ منهم من دخل بالنص على من دخل بالنص ولا من دخل بالمعنى على من دخل بالمعنى، والرابع: أنه يبدأ منهم من دخل بالنص على من دخل بالمعنى ومن دخل بالنص على من دخل(12/213)
بالنص، ولا يُبَدّأ منهم من دخل بالمعنى على من دخل بالمعنى. وهذا القول أضعف الأقوال؛ لأنه إذا بدئ من دخل بالنص على من دخل بالنص وجب أن يُبَدّأ من دخل بالمعنى على من دخل بالمعنى، وبالله التوفيِق.
[مسألة: حبس الرجل داره على ولده وعلى ولد ولده]
مسألة قال مالك: إذا حبَّس الرجلُ دارَه على ولده وعلى ولد ولده، فإن ولد الولد يسكنون معهم إن وَجَدُوا فضلا، وإن لم يكن فضل فالأدْنَوْنَ أولى، فإن كان فضل أو خرج بعض الأدنين إلى سفر سكن الذين يلونهم، فإن جاء أحد من الأدنين لم يخرج عنه كما لم يدخل عليه، وذلك شأن الحبس والسكنى إذا تصدق عليهم بالسكنى.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة خلافُ قوله في المسألة التي قبلها مثلُ قوله في المدونة؛ لأنّه إذا رأى في المسألة التي قبل هذه ولد العقب مع العقب بالسواء وإن كانوا إنما دخلوا في الحبس بالمعنى، فأحرى أن يَرَى في هذه المسألة وَلَدَ الولد مع الولد بالسواء لإِدخالهم معهم بالنص، وقدْ مضى تحصيلُ القول في ذلك قبل هذا فلا معنى لإِعادته، وقوله: أو خرج بعض الأدنين إلى سفر فسكن الذين يلونهم ثم جاء لم يخرج عنه كما لم يدخل عليه، معناه إذا خرج إلى سفر بعيد يشبه الانقطاع أو كان يريد المقام في الموضع الذي سافر إليه. وأما إذا سافر ليعود فهو على حقه، وهذا نص قول مالك في رسم البز بعد هذا، وتفسير ابن القاسم في المدونةّ لقول مالك فيها أنه إن غاب أو مات سكن مسكنه، أي إن كان يريد المُقام في الموضع الذي غاب إليه، وأما إن كان سافر ليرجع فهو على حقه وقال علي في روايته: إن غاب مُسْجلا ولم يذكر ما قال ابن القاسم ولا يخالف علي لابن القاسم في تفسيره والله أعلم، والخلافُ في هذه المسألة إنما يكون فيما يحمل عليه(12/214)
غيبته فيكون على ظاهر قول مالك في رواية علي عنه محمولة على الِانقطاع والمقام حتى يتبين خلافُ ذلك، وعلى ظاهر قول ابن القاسم محمولة على الرجوع وعلى غير الانقطاع حتى يتبين خلافُ ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على بناته بصدقة حبسا فإذا انقرض بناته فهي لذكور ولده]
مسألة وسُئِلَ مالك عن رجل تصدق على بناته بصدقة حبسا فإذا انقرض بناتُهُ فهي لذكور ولده وهو صحيح فيُبَتِّلُ ذلك لهن فتكون للِإناث حتى يهلكن جميعُهُن وللرجل يومَ هلكن كلهن ولدٌ وولدُ ولدٍ ذكور، فقال ولدُ الولد: نحنُ من ولده ندخل في صدقة جدنا، وقال ولده لصلبه: نحن آثَرُ وَأوْلَى، فقال مالك: أرى أن يدخل معهم ولد الولد، وذلك أني أراهم ولده يكونون معهم فيها.
قال محمد بن رشد: قوله: (إنه يدخل ولد الولد مع الولد) بقوله: (فهي لذكور ولده) صحيح على المشهور في المذهب؛ لأن الولد يقع على الولد الذكر والأنثى وعلى ولد الولد الذكر؛ لأن ولد الولد الذكر بمنزلة الولد إذا لم يكن ولد في الميراث، فلما كان له حكم الولد في الميراث وجب أن يدخل في الحبس.
وكذلك تدخل مع بناته لصلبه إذا تصدق على بناته بصدقة حبس بناتُ بنيه الذكور من بنت الابن بمنزلة الابنة في الميراث إذا لم يكن ابنٌ ولا ابنة، فلا شيء لذكور ولد المحبس في هذه المسألة حتى تنقرض بَنَاتُهُ وبنات بنيه الذكور، وقد نص على ذلك في رسم العشور من سماع عيسى وقال: إنه يدخل ولدُ الولد مع الولد ولا يفضل الولد عليه في ظاهر قوله، فهو خلاف قوله في المسألة التي قبلها موافق لقوله في المسألة التي فوقها، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في تكلمنا عليها فلا معنى لِإعادته، وقد قيل إنه لا يدخل في تحبيس الرجل على ولده إلّا وَلَدٌ لصلبه ذكورهم وإناثهم، وهو قول غير ابن(12/215)
القاسم في سماع سحنون في الذي يحبس على ابنته وعلى ولدها، ويأتي على رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الوصايا فيمن أوصى لولد فلان أن الوصية تكون لذكور ولد، ولا يدخل في ذلك إناثهم بخلاف إذا قال: لبني فلان، فإنه يدخل في ذلك بنو فلان ذكورهم وإناثهم، إن من حبس على ولده لا يدخل في الحبس إلا ذكور ولده لصلبه خاصة.
وجه القول الأول: أن ولد الولد الذكر ذكورا كانوا أو إناثا لما كان لهم حكم الولد في الميراث إذا لم يكن فوقهم ولد وجب أن يدخلوا في الحبس على الولد.
وجه القول الثاني: أن الحبس على الولد لو كان يدخل فيه ولد الولد كما يدخل فيه إذا حبس على ولده لم يكن لذكر ولد الولد في التحبيس فائدة ولكان لغوا لا فائدة فيه.
ووجه القول الثالث الذي يتخرج على رواية أصبغ في الوصية: أن الولد قد يعرف عند عامة الناس بالولد الذكر للصلب خاصة، وإذا سألت من ليس له، ولد ذكر وإن كان له بنات أو أولاد أوْلاَدٍ هل لك ولد؟ يقول كل ليس لي ولد، وإنما لي بنات وحفدا أولاد أولادي، ولا يعرف أن الولد يقع علىكل من يرجع نسبه إلى الرجل إلّا الخاص من العلماء، فتحققنا أن المحبس أراد ذكور ولده لصلبه بقوله: " حبست على ولدي "، ولم يتحقق أنه أراد دخول من سواهم فيه، فوجب ألا يدخلوا فيه بشك.
وأما أولاد البنات فلا يدخلون في الحبس على مذهب مالك بقول المحبس: " حبست على ولدي " لم يختلف في ذلك قولُهُ ولا التأويل عليه فيه؛ لأنهم لا ينتسبون إليه ولا يرثونه وإن كان اسم الولد يقع عليهم في حقيقة اللغة بدليل قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحسن: «إنّ ابْنِي هَذَا سَيد(12/216)
وَلَعَل اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» ومن الناس من ذهب إلى أنه لا يسمى ولد البنت ولدا إلّا مجازا لا حقيقة، وليس ذلك بصحيح؛ لأن ولد البنت أحق بالتسمية من جهة اللغة من ولد الولد.
واختلف إذا قال حبست على وُلْدِي ووُلْد ولدي هل يدخل ولد البنات في ذلك على مذهب مالك أم لا؟ وقد فرَغنا من بيان هذه المسألة وتفسيرها في غير هذا الديوان، وهو كتاب المقدمات وبالله التوفيق.
[: جعل دارا له حبسا صدقة على ولده لا تباع إلا أن يحتاجوا إلى بيعها]
ومن كتاب أوله: حلف ألّا يبيع
رجلا سلعة سماها
وسُئِلَ مالك عن رجل جعل دارا له حبسا صدقة على ولده لا تُبَاعُ إلّا أن يحتاجوا إلى بيعها فإن احتاجوا إليها واجتمع ملاؤهم على ذلك باعوا واقتسموا سواء ذكرهم وأنثاهم فهلكوا جميعا إلّا رجل فأرادَ بيعها، أذلك له وقد احتاج إلى بيعها؟ قال: نعم، فقيل له فإن امرأة ثَمّ وهي بنت أخت الباقي الذي يريد أن يبيع وهي من بنات المحبس قالت: إن بعتَ فأنا آخذ ميراثي من أمي؟ قال: لا أرى لها في ذلك شيئا، قال ابن القاسم: ولو اجتمع ملاؤهم على بيعها قسموا ثمنها على الذكر والأنثى سواء؛ لأنها صدقة حازوها وليست ترجع بما ترجع به المواريث إلى عَصَبَةِ الذي تصدق بها.
قال محمد بن رشد: قوله إلّا أن يحتاجوا إلى بيعها يريد أو يحتاج أحدهم إلى بيع حظه منها بالحبس قَلّ لكثرة عددهم أو كَثُرَ لقلتهم، فيكون(12/217)
ذلك له ويبطل الحبس فيه ويكون ثمنه مالا من ماله، وكذلك إن احتاجوا كلهم فباعوا كان الثمن لهم مالا مر مَالِهِم على قدر حقهم في الحبس كثروا أو قلوا وإن لم يبق منهم إلا واحد فاحتاج كان له الثمن كله وبطل الحبسُ في الجميع بشرط المحبس، ومن مات منهم قبل أن يحتاج سقط حقه؛ لأنه إنما مات عن حبس لا يورث عنه ويرجع إلى من معه في الحبس ولا يورث شيء منه على المحبس لأنه قد انْبَتَّ منه إذ قد حبسه حبسا صدقة على غير معينين وحيز عنه في حياته، فالحكم فيه أن يرجع بعد انقراض المحبس عليهم إلى أقرب الناس بالمُحَبِّسَ إلا أن يحتاجوا فيكون لهم البيع بشرط المحبس، ويعودُ ما كان بأيديهم منه بالحبس ملكا يجوز لهم بيعه وأخذ ثمنه، ولا يعود شيء منه إلى المحبس ملكا ولا يورث عنه.
وقوله في آخر المسألة: وليست ترجع بما ترجع به المواريث إلى عصبة الذي تصدق بها، يريد أنها لا ترجع إلى ورثته وإنما ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا عليهم إن انْقَرَضَ المحبَّس عليهم قبل أن يحتاجوا أو يبيعوا، وبيانُ هذا الذي ذكرتُهُ كله في كتاب ابن المواز، قال مالك فيه: من حبس على ولده وشرط إن احتاجوا باعوا فذلك جائز، فمن احتاج منهم فله بيع حظه، فإن باعوا فلا يدخل أحد في ثمن ذلك من ورثة الميت، فإن انقرض من حبس عليه إلا واحدا فاحتاج فباع فالثمنُ كله له ليس لورثة أهل الحبس ممن مات منهم فيه شيء؛ لأن من انقرض سقط حقه وصار لمن بعده، قال محمد بن المواز: وإن انقرض قبل أن يحتاج فليس لورثته ولا لغيرهم فيها شَيْءٌ ورجعت كما يرجع غيرها من الأحباس وبالله التوفيق.
[: تصدق على ثلاثة نفر بثمر حائطه فابروها ثم أحدهم مات]
ومن كتاب أوله: اغتسل على غير نية وسئِلَ عن رجل تصدق على ثلاثة نفر بثمر حائطه فابّرُوها، ثم(12/218)
إن أحدهم مات، قال: ما أراها إلّا لهم كلهم؛ لأنه قد أَبّرَ وَسَقَى فهي بينهم كلهم، ثم نزلت وقضى فيها أنه ليس له فيها شيء للذي مات إذا كان حبسا، وإنما يكون لورثة من مات منهم إذا مات بعدَ أنْ تطيب الثمرة، ومن مات منهم قبل أن تطيب الثمرة فلا حق له، وإنما تكون منهم إذا مات وقد أبرت إذا لم تكن حبسا فأما الحبس فلا يكون لهم حتى يطيب، وكذلك قال مالك، وأما إذا كانت صدقة من غير حبس فهي لورثة الميتَ أبِّرَتْ أو لم تُؤبر.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: تصدق على ثَلاثة نفر بثمر حائطه أي حبسها عليهم، ويحتمل أن يريد أنه حبسها عليهم حبسا صدقة، وعلى ذلك تكلم لأن الصدقة المبتولة من غير حبس لا اختلاف في أنّ حظ مَن مات منهم لورثته وإن لم تؤبر، وذلك بين من قوله: وإنما يكون لمن مات منهم إذا مات وقد أبرت إذا لم تكن حبسا، وقوله: ما أراها إلّا لهم لأنه قد أبَّر وسقي فهي بينهم، هو خلاف ما في المدونة من قول ابن القاسم وغيره من الرواة، وقولُه: ثم نزلت فقضى أنه ليس فيها شيء للذي مات وإنما يكون لورثة من مات منهم إذا مات بعد أن تطيب الثمرة، هو قول ابن القاسم وروايتُهُ عن مالك في المدونة، ولا اختلاف في أنها تجب بالطياب لمن مات منهم بعده، ولا في أنها لا تجب لمن مات منهم قبل الِإبار في الحبس وإنما الاختلاف إذا مات أحدهم بعد الإبار وقبل الطياب أو ماتوا جميعا.
فإذا مات أحدهم ففي ذلك خمسة أقوال: أحدها: أن حظه يرجع إلى المحبس، والثاني: أنه يكون لمن بقي منهم وهذا القول هو الذي رجع إليه مالك في المدونة وإياه اختار ابن القاسم، والثالث: أنه يكون لمن بقي منهم إن كانوا يلون عملها أو كان عبدا يخدمهم أو دارا يسكنونها وترجع إلى المحبس إِن كانوا لا يلون عملها وإنما يقسم عليهم ثمرتها، والرابع: أن الميت يجب له حضه بالإِبار إن كان قد أبر وسقى، وهو القول الأول في هذه الرواية: ما أراها(12/219)
إلا لهم كلهم، لأنه أبِّرَ وسَقى، والخامس أن الميت يجب له حظه بالإِبّارِ وإن لم يؤبر ولا سقي، وهو قول غير واحد من الرواة في المدونة: وإن مات منهم ميت والثمرة قد أبرت فحقه فيها ثابت، وهو مذهب أشهب.
وأما إذا ماتوا معا كلهم ففي ذلك ثلاثة أقوال أحدها: أن الثمرة ترجع إلى المحبس، والثاني: أنها تكون لورثتهم لأنه قد استوجبها كل واحد منهم بالإِبار، وهو مذهب أشهب، والثالث: أنها تكون لورثتهم إن كانوا قد أبَّرُوا وسقوا وترجع إلى المحبس إن كانوا لم يؤبروا ولا سَقَوا، وهو القول الأول في هذه الرواية؛ لأن موتهم كلهم بمنزلة إذا كان المحبَّس عليه واحدا فمات، وإن مات واحد بعد واحد ففي موت الآخر منهم ثلاثة أقوال وإنما ترجع الثمرة إلى المحبس في الموضع الذي ترجع إليه على القول بأنها ترجع إليه إذا قال حبسا ولم يقل حبسا صدقة، وأما إن قال حبسا صدقة فإنما ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا ولا ترجع إليه ملكا، لم يختلف قولُ مالك في ذلك على ما حكى ابن القاسم في المدونة، وفي كتاب ابن عبد الحكم إن قوله اختلف في ذلك أيضا.
فيتحصل فيما تجب به الثمرة للمحبَّس عليهم بأعيانهم ثلاثةُ أقوال أحدها: أنها تجب لهم بالإِبار، والثاني: أنها لا تجب لهم بالإِبار إلّا مع أن يكونوا هم سقوها وأبروها، والثالث: أنها لا تجب إلا بالطياب.
وأما إن لم يكونوا معينين مثل أن يكون المحبس على رجل وعقبه، فقيل إنها تجب لهم بالطياب وقيل إنها لا تجب لهم إلا بالقسمة.
وأما إن كان الحبس على مثل بني زهرة أو بني تميم فلا تجب لأحد منهم فيها حق إلا بالقسمة، فمن مات قبلها بطل حقه ومن ولد قبلها كان من أهلها، هذا تحصيل القول في هذه المسألة لأنه قال فيها إن من مات منهم قبل أن تطيب الثمرة فلا حق له، ولم يبين لمن تكون؟ وإذا كان الميت منهم قد أبر(12/220)
وسقى فلم يكن له الثمرة على القول الثاني ورجعت إلى المحبس إن كانت لمن بقي منهم كان لورثته الرجوع عليه بما أبر وسقى ورأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها المسألة التي نزلت فأفتى فيها أنه ليس له شيء وإن كانت قد أبرت معناها أنهم لم يعلموا، فليس ذلك اختلاف من قوله وإنما فَرْقٌ بين المسألتين، وقولُهُ بعيد من لفظ المسألة ولا يصح في المسألة سوى ما قلنا وبينا وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس دارا له أو أرضا على رجل حياته أو يعمرها فيفقد]
مسألة وسئل عن الرجل يحبس دارا له أوْ أرضا على رجل حياته أو يُعْمَرُهَا فيفقد قال: توقف كما يوقف ماله حتى يُسْتَبَانَ أمره.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنها قد وجبت له قبل أن يفقد فوجب أنْ توقف له إذا فُقدَ، وهو نص قول مالك في كتاب ابن المواز، قال: توقف غلتها إلى حِين لَا يَحْيىَ لِمثله، فيكون ذلك لورثته إلَّا أن يعلم أنه مات قبل ذلك فيرجع الفضل إلى ربها، قال محمد: أو حَيْثُ أَرْجَعَهُ ولو كان الحبس عليه أو العُمْرَى له بعد أن فقد لوجب أن توقف الغلة، فإن عُرفت حياتُه كان له من الغلة ما يجب له منها من يوم أُعْمِر َإياها إلى يوم وفاته ورجع الفضل إلى المحبس أو إلى حيث أرجعه وإن لم تعرف حياته حتى أتى عليه من السنين ما لا يحيى لمثلها رجع جميع ذلك للمحبس أو إلى حيث أرجعه وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس دارا له على رجل حياته فبنى في الدار مسكنا ثم مات]
مسألة قال: وسئل عن رجل حبس دارا له أو أرضا على رجل حياته فبنى في الدار مسكنا أو غرس في الأرض نخلا ثم مات، فقال إن(12/221)
أرْضَى صاحبَ الدار ورثةُ الرجل فذلك له، وإلا قلعوا نخلهم وأخذوا نقضهم من الدار.
قال الإِمام القاضي: وقعت هذه المسألة في نص الروايات هاهنا، وستأتي في موضعها بعد هذا من هذا السماع، وهي خلافُ قول ابن القاسم وروايته عن مالك في كتاب الحبس من المدونة مثل قول المخزومي فيه، ومثل ما في كتاب الشفعة منها، ومثل ما في التفسير لابن القاسم من رواية يحيى عنه، وقوله: " إن أرضى صاحبَ الدار ورثَهُ الميت وإلا قلعوا نخلهم وأخذوا نقضهم " معناه إن مات بحدثان ما بَنَى وغرس، وأما إن لم يمت حتى مضى من المدة ما يُرى أنه بنى وغرس إلى مثله فيكون لصاحب الدار أن يأخذ النقض والنخل بقيمتها مقلوعة إن شاء وإن أبَى قلعوا نخلهم وأخذوا نقضهم على مذهب ابن القاسم فيمن بنى فيما اكْترَى وكذلك في اَلنوادر لمالك من رواية ابن القاسم عنه أن لهم أن يقلعوا نقضهم إِلا أن يعطيهم قيمةَ ذلك مطروحا بالأرض، ومعنى ذلك إذا كان قد مضى من المدة ما يُرى أنه بنى إلى مثلها على ما ذكرناه، وأما على رواية المدنيين عن مالك في أن للمكتري قيمةَ بنيانه قائما، فيكون الحكم في الحبس ما قاله في الرواية من أن صاحب الدار إن أرضى الورثة وإلا قلعوا نخلهم وأخذوا نقضهم طالت المدة أو قصرت، وهو ظاهر قول المخزومي في الحبس من المدونة إِن البناء الذي له القدرُ مالٌ من ماله يُباع في دَيْنِهِ، فهذا حكم ما بنى للسكنى إذا مات، وأما إذا لم يمت فهو أحق بسكنى ما بنى لا يدخل عليه فيه غيره، ولو بنى حوانيت وبيوتا للغلة والكراء لَقَاصَّ نفسه بما قبض من الخراج حتى يستوي ما أنفق في ذلك حسبما يأتي في رسم حمل صبيا من سماع عيسى بعد هذا وبالله التوفيق.
[: حبس منازل له على ولده وكن أربع بنات]
ومن كتاب أوله: شك في طوافه وسئل عن رجل حبس منازلَ له على ولده وَكُنّ أربعَ بنات وقد(12/222)
بلغن وتزوجن وحزن أموالهن ودفع إليهن أموالهن وكان عَم لهن يَلِي حبسهن فاتهمنه في غلتهن وطلب بعضهن أن تُوَكَّل بحقها ويدفع ذلك إليها، قال: أرى أن يُنظَرَ في ذلك، فإن كان حسن النظر لم أر ذلك لها، وإن كان غير ذلك رأيت أن يجعل معه من يوكله بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: " وكان عم لهن يَلِي حبسهن" معناه أنه كان يليه بجعل المحبس ذلك إليه، إذ لو كان يليه بجعلهن ذلك هن إليه لكان لمن شاءت منهن أن توكل بحقها من شاءت سواه، ولم يكن للسلطان في ذلك نظر؛ لأن لكل واحدة منهن أن تعزله عن النظر لها إن شاءت متى شاءت، وقولُه: ينظر في ذلك فإن كان حسن النظر يريد ثقة مأمونا غير متهم لم أر ذلك لها، وقوله: وإن كان على غير ذلك يريد سيئ النظر أو غير مأمون رأيت أن يجِعل معه من توكله بذلك، وإنما رأى لها أن توكل بحقها ولم تعزله عن النظر لكونه سيئ النظر غير مأمون، من أجل أنهن مالكات لأمورهن، وقد رضي به بعضهن، وَلَوْ لَمْ ترض به واحدة منهن لعزله القاضي عنهن وكان من حقهن أن يوكلن من رضين به، ولو كُنَّ غير مالكات لأمور أنفسهن لوجب إذا ثبت عند السلطان أنه سيئ النظر غير مأمون أن يعزله ويقدم سواه، ولم يلتفت إلى رضا من رضي به منهن، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: لو اتهمه جميعُهن لكان لهن إخراج ذلك من يديه، وإنما بقي في يديه لأنهن اختلفن فاتهمه بعضهن ولم يتهمه الباقون، وفي قوله نظر فتدبره وباللَه التوفيق.
[مسألة: الفرس يحبس في سبيل الله فيأتي بعض من يريد أن ينزيه فيمنعه من ذلك]
مسألة وسئل مالك عن الفرس يحبس في سبيل الله فيعطاه رجل فيأتي بعض من يريد أن يُنْزِيَه فيمنعه من ذلك أترى ذلك واسعا؟ قال: نعم النزو يُضْعِف فأرى أن يمنعه ويستبقيه لما جعل له فيه، قال مالك: وكذلك الإِبل.(12/223)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه ولا موضع للقول وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس عدقين عَلى مسجد في مصباحه]
مسألة وسئل عن رجل حبس عدقين عَلى مسجد في مصباحه ومرَمّتِهِ في دار من دور الأنصار، فانقرض أهل تلك الدار وسكنها قوم آخرون وبقي رجل من أهل تلك الدار الذين انقرضوا فانتقل ذلك الرجل إلى دار أخرى وأخذ تَمَرَ ذينك العدقيْن يَأكُلهمَا ويصنع فيهما ما شاء فَكُلِّمَ في ذلك، فقال: إنما كان ذلك حين كان أهل الدار ثَمَّ فَلمَا انقرضوا فهما لي أصنع فيهما ما شئتُ، قال مالك: ليس ذلك له، وهما على ما وضعهما عليه صاحبها من شأن المسجد من مصباح المسجد ومرمته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لا تَعَلّقَ لحبسه بسكنى الأنصار في الدار؛ لأنه إنما حبس العدقين اللذين كَانَا له مِلكا ومَالا في دار الأنصار، ولم يقل إنه حبسهما ما دامت الدار للأنصار ولا في لَفْظِهِ في التحبيس ما يدل على ذلك فلا يصدق فيه إِن ادعاه وبالله التوفيق.
[مسألة: أحد الورثة إذا اشترى قدر حظه من السكنى يملك بذلك التصرف في حظه]
مسألة وسئل عن رجل حبس دارا له على ولد له وابن أخ له حَيَاتَهُمَا ولم يجعل لعقبهما شيئا، ومرجعُهما إليه، فأراد أن يشتري صاحب الحبس من ابن أخيه ما حَبَّس عليه، واستغنى ابنُ أخيه عنها فأراد بِيعها من الذي حبسها عليه قال: ذلك جائز وكره أن يبيعها من غيره، وقال: كيف يشتريها غيره ولا يدري ما يعيش؟
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة في كتاب الصلح وكتاب(12/224)
الوصايا وفي غير ما موضع من هذا الكتاب، ومن كتاب الصدقات والهبات من ذلك ما وقع في رسم طلق بعد هذا من هذا السماع وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات وفي رسم أصبغ منه، وإنما جاز ذلك وإن كانت مدة حياتهما مجهولة لأنه يملك بذلك التصرف في الدار، فكأنه إنما ابتاع رقبتها، وكذلك ورثته يُنَزَلون منزلةُ في اشتراء السكنى منه، ولا يجوز لأحد منهم أن يشتري أكثر من حظه منها عند ابن القاسم، وأجاز ذلك المخزومي، ولم يجز ابن كنانة لأحدهم أن يشتري قدر نصيبه إِلَّا أن يجتمعوا فيشتروا الجميع، وقول ابن القاسم هو الصحيح في النظر؛ لأن أَحَد الورثة إذا اشترى قدرَ حظه من السكنى يملك بذلك التصرف في حظه، وكذلك يجوز للمحبس عليهما السكنى حياتهما أن يشتريا المرجع من الذي يرجع إليه فيملك بذلك رقبة الدار على ما قاله في المواضع المذكورة من هذاَ الكتاب، ومن كتاب الصدقات والهبات، ووقع في رسم البيوع الأول من سماع أشهب بعد هذا من هذا الكتاب أنه لا يجوز لمن حبست عليه وصيفة حياتَه أن يبتاع المرجع من غرماء المُحَبِّس، فقيل إن ذلك اختلاف من القول، وقيل ليس ذلك باختلاف منه، ويجوز للمُخَدَم حياته أن يشتري مرجع الجارية من الذي أخدمه إياها فيملك بذلك الرقبة ملكا تاما، ولا يجوز له أن يشتريه من غرمائه إذا كان عليه دين، والأول أظهر أن ذلك اختلاف من القول؛ لأن حق الغرماء ليس في عين مرجع الوصيفة، وإنما هو في ذمة المحبس وعلى ملكه يباع، فلا فرق بين أن يبيعه عليه الغرماء في دَيْنِهم أو يبيعه هو ليؤدي دينه أو لبعض حاجته فيما يجوز من ابتياع المرجع، وكذلك لو بيع بعد موت المحبس فيما عليه من الدين؛ لأن الدين إِنما هو في ذمة الميت لا في عين التركة على الصحيح من الأقوال، ولأنه يملك الرقبة باشتراء المرجع، اشتراه من الذي أخدمه أو من ورثته أو من غرمائه، ولا يجوز على القول الآخر اشتراه منه أو من ورثته أو من غرمائه؛ لأنه غرر، إذ لا يدري متى يرجع المرجع إلى الذي باعه منه، ووجه التفرقة بين الموضعين أن المُخْدِم والمُحَبِّسَ لما كانا فعلا معروفا(12/225)
بمن أخدماه وأسكناه جاز لهما أن يشتريا الخدمة والسكنى ليملكا بذلك التصرف في الدار أو العبد بالبيع فيكونا إذا فعلا ذلك كأنهما إنما اشتريا الرقبة جاز لهما أن يبيعا منه المرجع من المخدم والمسكن؛ لأنه يملك بذلك الرقبة، ولما كان الغرماء لا يجوز لهم اشتراء الخدمة لم يجز لهم بيع المرجع.
ولا يجوز باتفاق اشتراء الخدمة أو السكنى لغير الذي له الرقبة ولا اشتراء المرجع لغير الذي له الخدمة والسكنى، وينزل ورثة المحبس والمخدم منزلة موروثهما فيما يجوز لهما من اشتراء الخدمة أو السكنى، ويُخْتَلَفُ هل ينزل الموهوب الخدمة والسكنى منزلة الواهب في جواز ابتياع المرجع، وهل ينزل الموهوب له المرجع منزلة الواهب في جواز ابتياع الخدمةَ والسكنى على قولين، الأظهر منهما أنه ينزل منزلتهما في ذلك على ما قاله في العَرَايَا من المدونة من أنه يجوز لمن أسكن رجلا حياته أن يبتاع السكنى ممن وهب إياه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحبس يحبسه الرجل على ولده ويقول إن تزوجت امرأة فلا حق لها]
مسألة وسئل مالكٌ عن الحبس يحبسه الرجل على ولده ويقول: إن تزوجت امرأة فلا حق لها، قال: إني لأكره هذا من العمل، قال عيسى: قال ابن القاسم: وأنا أكره ذلك، فإن كان صاحب الحبس حيا رأيت أن يفسخه ويجعله مُسْجَلا ولو مات صاحبه حتى ينفذ ذلك لم أَر للقاضي أن يفسخه لم يكن قول ابن القاسم في رواية سحنون وأنكره ولم يعرفه.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في أول رسم من السماع فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.(12/226)
[: حبس دارا له حبسا في ثلثه لم يجعل لها مخرجا]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك عن رجل حبس دارا له حبسا في ثلثه لم يجعل لها مخرجا فكيف ترى أن تقسم؟ قال: أرى أن تقسم على ذوي الحاجة، قيل فإن له ولد محتاجين وأغنياء أفترى أن يعطوا منها؟ قال: لا، ولكن أرى أن يعطي المحتاجين منهم منها مع غيرهم من المحتاجين.
قال محمد بن رشد: مثلُ هذا في المدونة وفي رسم لم يدرك من سماع عيسى أن من حبس حبسا ولم يجعل له مخرجا فسبيله أن يكون حبسا على الفقراء والمساكين، وقوله في الدار المحبسة على هذا السبيل إنهَا تقسم على ذوي الحاجة، يريد يُقْسَم سُكْنَاهَا عليهم، ومن حصل في مسكن منها لم يخرج منه لغيره إِلَّا أن يستغنى، وقوله: إنه يعطي ولده المحتاجون منها مع غيرهم من المحتاجين صحيح؛ لأن الميت لم يُوصِ بذلك فتكون وصيته لوارث، وإنما هذا أمر يفعله الناظر في تنفيذ الوصية باجتهاده، وسواء كانوا يوم أوصى بالتحبيس محتاجين أو أغنياء ثم احتاجوا بعد ذلك لأنها إنما ردت إلى المساكين بالحكم فوجب أن يستوي في ذلك ورثته وغيرُهم، كمرجع الحبس، ولو أوصى بِتحبيسها على المساكين لكان الحكم في ذلك حكم من أوصى بصدقة ثلث ماله على المساكين فلم يقسم حتى افتقر بعضُ ورثته أو كانوا فقراء، فقال مطرف: إنهم يعطون من الثلث في الحالتين، وقال ابن القاسم في رواية أصبغ عنه: إنهم لا يعطون من الثلث شيئا في الحالتين أيضا، وفرق ابنُ الماجشون بين الحالتين فقال: إن كانوا يوم أوصى مساكينَ لم يُعْطَوا منه؛ لأنه أوصى وَهُوَ يعرف حالهم، فكأنه قد أزاحه عنهم، وإن كانوا يوم أوصى أغنياء ثم افتقروا أُعْطُوا منه.
ولو حبس في صحته أصلا يجري غلته على المساكين لأعطى ورثته(12/227)
الفقراء منه، كانوا يوم مات أو يوم حبس فقراء أو أغنياء ثم افتقروا بعد ذلك، حكى ذلك ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، وقالا: إن بذلك حكمت القضاةُ يرى مالك وغيره من الفقهاء غير أنهم لا يعطون جميع غلة الحبس مخافة أن يدرس شأنه وينقطع التحبيس منه، ولكن يبقى منه سهم يجري على المساكيِن ليبقى بذلك اسمُ الحُبُس ويكتب على الورثة كتابٌ بأنهم إنما أعطوا منه على المسكنة والحاجة لا على أن لهم فيه حقا دون المساكين وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل وأهله هم المنتسبون من الرجال والنساء إِلى من ينتسب إليه]
مسألة وسئل مالك عمن حبس على رجل وعلى أهله أوْسُقا مسماة من حائط، فهلك رجل من ولد ذلك الرجل الذي حبس عليه وعلى أهله، وولد ولد لم يكن حيا في حياة الجد يوم حبس عليه، أترى أن يدخل في الصدقة؟ قال: نعم، هو من أهله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الرجل وأهله هم المنتسبون من الرجال والنساء إِلى من ينتسب إليه فولده وولد ولده من أهله وهُم غيرُ معينين فيدخل فيما حبسه عليهم من كان حيا يوم القسمة وإن كان ولد بعد التحبيس، ولا خِلَافَ في هذا، كما أن من حبس على ولده فيدخل في حبسه من ولد من ولد ولده بعد التحبيس وإن سفُلُوا، وقد مضى في صدر أول رسم من هذا السماع الكلامُ على الآل والأهل فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: من حبس أو وهب أو تصدق ليس له أن يرجع]
مسألة وسئل عن رجل أسكن رجلا بيتا له ولعقبه ما عاشوا وما عمروا فيه من شيء فهو لهم، فأراد الذي أسكنه في ذلك أن يرجع أترى ذلك له؟ قال: لا، ثم قال أخذ على ذلك ثوابا؟ قال: لا، وكان في(12/228)
كتاب سكناهم ابتغاء وجه الله، قال: لا أرى ذلك له، فقال له منذ كم كان؟ قال: منذ سنين، قال ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: ليست هذه المسألة في كل الروايات، وهي مسألة صحيحة لا اختلاف في المذهب في أنَ من حبس أو وهب أو تصدق ليس له أن يرجع عَنْ ذلك، ويحكم به عليه وإن كان لم يقبض منه إن كان لمعين باتفاق، وإن كان لغير معين فعلى اختلاف، والقولان في المدونة على اختلاف الرواية فيها، والإِسكان في هذه المسألة لمعين، فلا اختلاف فيه، والسؤال إنما هو هل له أن يرجع فيه ما لم يقبض منه، إذ من أهل العلم من يرى أَلَّا يُحكم به عليه ما نم يقبض منه، وأما إذا قبض منه فلا كلام فيه، وإنما سأله هل أخذ في ذلك ثوابا؛ لأنه لو أخذ في ذلك ثوابا اشترطه لكان بيعا فاسدا يجب فسخه وبالله التوفيق.
[: الثمرة لا تجب للمحبس عليهم إلا بالطياب]
ومن كتاب طلق بن حبيب
وسئل عن قوم حبست عليهم ثمرة يجري عليهم في كل عام، فبلغت الثمرة الإِبار فأبَّرُوها ثم ولد لرجل منهم بعد الإِبار ولد فلما حضر القسم قال أنا أريد أن آخذ لولدي، وكان ممن أدخل في الصدقة، قال ذلك له يأخذ بقدر ما جعل له فيه.
قال محمد بن رشد: هذا على القول بأن الثمرة لا تجب للمحبَّس عليهم إِلاَّ بالطياب، وهو أحد القولين في رسم اغْتسل، وعلى القول الثاني فيه أنها تجب لهم بالإِبار إذا كانوا هم قد سقوا وأبروا، لا يكون لمن ولد بعد ذلك فيها حق، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك هنالك موعَبا مستقصى، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري من المرأة ما أمنعها إياه حياتها]
مسألة قال ابن القاسم وسئل مالك عن رجل كانت عنده امرأة وأنه(12/229)
اشترى متاعا من متاع البيت من نحاس طست ومهراس وغيره، وأشهد لها أنه لها حياتَها تستمتع به، ثم إنه فارقها وخاف أن تُبْدِلَهُ وتأتي بغيره، فأردت أن أزنه عليها، قال: الوزن يختلف وينقص، لا أرى ذلك، ولكن أكتب صفته وأشهد على معرفته وأنقش فيه إن أردت، ثم قال له: اشتره منها، قال قد فعلت فأبت فقال: أشهد على ما قلت لك من صفته ومعرفته، وأكتب بذلك كتابا وأستاني به أن تبيعك إياه أو تشتريه منك.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك في هذه المسألة للرجل أن يشتري من المرأة ما أمْتَعَهَا إياه حياتَها، ولها أن تشتري منه مرجع ذلك، فيصح لكل واحد منهما بالشراء مِلْكُ الأصل وينفرد به؛ ولا خلاف في جوَاز شرائه هو لِمَا أمتع المرأة، وإنما الاختلاف في جواز شراء المرأة للمرجع على ما ذكرناه في رسم شك من الاختلاف في تأويل ما وقع في رسم البيوع الأول من سماع أشهب هل هو خلاف لسائر الروايات أو يفرق بين المسألتين، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى فلا معنى لإِعادته وباللَّه التوفيق.
[مسألة: كانت لهم دار حبس فباعوها وأدخلوها في المسجد]
مسألة وسئل عن قوم كانت لهم دار حُبُسٌ فباعوها وأدخلوها في المسجد، قال: أرى أن يشتروا بالذهب دارا أخرى يجعلونها في صدقة أبيهم، قيل له أفيقضي عليهم بذلك؟ قال: لا، إلَّا أن يتطوعوا، فقيل له أفترى لهم أن يشتروا بها دارا؟ قال: نعم، إني لأرى ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: قولُه وأدخلوها في المسجد يدل على أن ذلك جائز في كل مسجد، مثل ما في نوازل سحنون بعد هذا من هذا الكتاب خلافُ ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ من أن(12/230)
ذلك لا يجوز إِلَا في مساجد الجوامع إذا احتيج إلى ذلك، وأما مسجد الجماعات فلا، إذ ليست الضرورةُ في ذلك مثلَ الجوامع، وفي النوادر لمالك أن ذلك في كل مسجد مثل ظاهر هذه الرواية، وقولُ سحنون في نوازله وقولُ مالك إنه لا يقضي عليهم أن يشتروا بالثمن دارا يجعلونها حُبسا كما كانت التي باعوا هو قولُ ابن القاسم، وقال ابنُ الماجشون يقضي بذلك عليه، ولو استحقت فأخذ فيها ثمنا فإنه يصنع فيه ما شاء، قاله مالك وابن القاسم، وظاهر قوله فباعوها وأدخلوها في المسجد أنهم طاعوا بذلك وفعلوه باختيارهم، وقد اختلف الشيوخ المتأخرون إذا أبَوا من ذلك في المسجد، فقال أكثرهم تؤخذ منهم بالقيمة جبْرا على ما أحَبوا أو كرهوا، وهو الذي يأتي على قياس قول مالك في هذه الرواية وما روى عن ابن القاسم أيضا من أنه لا يحكم عليهم بجعل الثمن في دار أخرى تكون حبسا مكانها لأنه إذا كان الحق يوجب أن تؤخذ منهم بالقيمة جَبْرا صار ذلك كالاستحقاق الذي يبطل الحبس، فلا يجب صرف الثمن المأخوذ فيه في حبس مثله، ويأتي على قياس قول ابن الماجشون إنه يقضي عليهم أن يجعلوا الثمن الذي باعوها به في دار أخرى تكون حبسا مكانَها أنه لا يقضي عليهم ببيعها إذا أبَوا؛ لأنهم إذا باعوها باختيارهم في موضع لا يحكم عليهم به لو امتنعوا منه كان الحكمُ عليهم بصرف الثمن في دار تكون حبسا مكانَها واجبا لما في ذلك من الحق لغيرهم إن كان الحبس معقبا، وكذلك إن كان عليهم بأعيانهم على القول بأنها ترجع بعدهم إلى أقرب الناس بالمُحَبِّسُ حبسا وقد روى أبو زيد عنه في الثمانية أنه يقضي عليهم ببيعها ليتوسع بها في المسجد الجامع، فقولُه إنه يقضي عليهم بجعل الثمن في دار تكون حبسا مكانها ليس على أصله، فلعله إنما قال إنه يقضي عليهم بذلك فيما عدى المسجد الجامع من المساجد، ومن مذهبه أنه لا يقضي عليه ببيعها إلا في المسجد الجامع وبالله التوفيق.(12/231)
[مسألة: بقرات أوصى بهن رجل أن يقسم ألبانها في المساكين]
مسألة وسئل مالك عن بقرات أوصى بهن رجلٌ أن يقسم أَلْبَانُها في المساكين كيف يُصْنَعُ بها إن ولدت، قال: ما ولدت من أنثى كان كسبيلها يحبس معها، وما ولدت من ذكر حُبِّسَ لنزوها، فإن كثر الذكور عن نزوها بيع ما فضل عن ذكورها واشترى به إناث فزيد فيها، وما كبرت من أنثى حتى ينقطع لبنها بيعت فردت فيها، فاشترى بها إناثا يرد ما يباع منها فيها من ذكورها وما كبر من إناثها في إناث يجعلهن معها وفي مصلحتها في عُلُوفَتها يعمل فيها كما يعمل الرجل في ماله، إلَّا أنه لا يباع من إناثها شيء له منفعة، وما بيع من فضل ذكورها وكبار إناثها رُدَّ في إناث تشترى معها وفي علوفتها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة حسنة صحيحة على معنى ما في المدونة من أن ما ضعف من الدواب المحبَّسة في سبيل الله أو بَلِيَ من الثياب حتى لم يكن في الدواب قوة للغزو، ولا في الثياب منفعة، فإن ذلك يباع ويشترى بثمن الدواب غيرُه من الخيل فيجعله في السبيل، فإن لم يبلغ ذلك ما يشتري به فرسا أو هجينا أو برذونا أعين به في ثمن فرس، ويشتري بثمن الثياب ثيابا ينتفع بها، وإن لم يبلغ ذلك ما يشتري شيء ينتفع به فُرِّقَ في السبيل، خلافُ ما روى غيره من أن ما جُعِلَ في سبيل الله من العبيد والثياب لا يباعُ، وقال: لو بيعت لبيع الربْعُ المحبس، وهو مذهب ابن الماجشون أن من تصدق على قوم بغلام له صدقة محرمة فلا يجوز إن كبر فتخلف وكثرت سرقاته وإباقه أن يباع ويشترى بثمنه غيره يكون مكانه على مثل ما كان عليه من التحريم والحبس، إلا أن يكون شرط ذلك في تحريم صدقته، قال: وكذلك لو تصدق بالبعير أو التيس من غنمه للضراب صدقة محبسة فلا يجوز إنْ كَبِرُوا(12/232)
فانقطع ضرابهم أن يباعوا ويشتري بثمنهما غيرُهما إلا أن يكون شرط المتصدق ذلك في أصل تحريم صدقته وموضع الخلاف في ذلك إنما هو في بيع ما كثر من الذكور عن نزوها ليشتري به إناثا لها دَرُّ وفي بيع ما كبر من الإِناث فانقطع درُها ليشتري به إناثا لها دَرُّ وأما بيع ما كثر من الذكور عن نزوها أو كبر من الإناث فانقطع درها فيما يلزم من علوفتها والقيام عليها في رعيها فلا اختلاف في جواز ذلك.
لأن الأحباس في جواز بيعها والاستبدال منها إذا انقطعت المنفعة منها تنقسم على ثلاثة أقسام قسم يجوز بيعه باتفاق، وهو ما انقطعت منفعته ولم يرج أن يعود وفي إبقائه ضرر، مثلُ الحيوان الذي يحتاج إلى الإِنفاق عليه ولا يمكن أن يستعمل في نفقته، فيضر الإِنفاق عليه بالمحبَّس عليه أو ببيت المال إن كان محبسا في السبيل أو على المساكين، وقسم لا يجوز بيعه باتفاقَ وهو ما يرجى أن تعود منفعته ولا ضرر في بقائه، وقسم يختلف في جواز بيعه والاستبدال به، وهو ما انقطعت منفعته فلم يرج أن يعود ولا ضرر في إبقائه، وَخَرَابُ الربع المحبس الذي اختلف في جواز بيعه من هذا القسم وبالله التوفيق.
[: حبس حبسا على ذكور ولده لا يباع ولا يورث حتى يرثها الله فانقرض ذكور ولده]
ومن كتاب أوله: سنّ
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسئل مالك عن رجل حبس حبسا على ذكور ولده لا يباعِ ولا يورث حتى يرثها الله، فانقرض ذكورُ ولده، قال: أراها حبساَ على بنات ذكور ولده وعلى العصبة إِلَّا أَلَّا يكون فيها سعة، فيكون بنات ذكور ولده أحق بها يُبَدَّيْنَ على العصبة إن لم يكن لهم فيها سعة.(12/233)
قال محمد بن رشد: قوله إنها ترجع حبسا بعد انقراض ذكور ولده، صحيح لا اختلاف فيه، لوجهين: أحدهما: أن ذكور ولده غير معينين لأنه يدخل في ذكور ولده ذكور ولد ولده ما سفلوا، والثاني قوله لا يباع ولا يورث حتى يرثها الله، ولو قال: لا تباع ولا تورث ما عاشوا أو حتى ينقرضوا لرجعت إليه بعد انقراضهم ملكا مطلقا ولورثته إن كان قد مات، ولو قال ما عاشوا أو حتى ينقرضوا، ولم يقل لا تباع ولا تورث لرجعت إليه ملكا مطلقا عند مطرف، وقد مضى هذا المعنى مستوفى في أول رسم من السماع فلا معنى لِإعادته.
وقوله: إنها ترجع حبسا على بنات ذكور ولده وعلى العصبة معناه إذا لم يكن له بنات لصلبه؛ لأن بناته أقرب إليه من بنات بنيه، وقد مضى في أول رسم من السماع ذكر من يرجع إليه الحبس حبسا بعد انقراض المحبَّس عليهم وما في ذلك من الاِختلاف في النساء فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: اتخاذ المساجد على القبور]
مسألة قال ابن القاسم في اتخاذ المساجد على القبور: إنما أَكْرَهُ من ذلك هذه المساجد التي تبنى عليها، فأما لو أن مقبرة عفت فبنى قوم عليها مسجدا فاجتمعوا للصلاة فيه لم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: إنما كره اتخاذ المساجد على القبور صيانة لها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى الصلاة عليها، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَهَم لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنا بَعْدِي يُعْبَدُ اشْتَدَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وأما إذا عفت المقبرة وانقطع الدفن فيها(12/234)
فلا بأس أن يبني عليها مسجد للصلاة فيه؛ لأن المسجد والمقبرة حبسان على المسلمين لصلاتهم ودفن موتاهم، فلا بأس أن يستعان ببعض ذلك في بعض وينقل بعضه إلى بعض على أنفع ذلك لهم وأرفقه بهم وأحوجه ما هم إليه، قال ذلك ابن الماجشون في الواضحة، وإذا بنى المسجد على المقبرة لم يتناول المُصَلِّي فيه نهيُ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الصلاة في المقبرة عند من حمل الحديث على عمومه في جميع المقابر من أهل الحديث؛ لأنها قد خربت من أن تكون مقبرة وتحولت إلى ما تحولت إليه من كَوْنها مسجدا والدليل على ذلك ما جاء من أنه كان في الموضع الذي بنى فيه النبيُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قُبُورٌ للمشركين فأمر بها فَنُبِشَت، وقد روى أبو المصعب عن مالك كراهية الصلاة فيها للحديث، وهذا الذي ذهب إليه عبد الوهاب قال: تُكْرَهُ الصلاة فيها، إلا أن تكون فيها نبش؛ فلا تجوز الصلاة فيها، والمشهور المعلوم من مذهب مالك إجازة الصلاة فيها إما لأن الحديث لم يصح عنده، وإما لأنه حمله على أن المراد به مقابر المشركين كما فعل ابنُ حبيب وبالله التوفيق.
[: بنت الابن تسمى بنتا ولها حكم البنت في الميراث إذا لم يكن للميت ابن]
ومن كتاب أوله: أخذ يشرب خمرا قال: وسئل عن رجل حبس حبسا وحبس على ابنين له منزلا بعينه وقال في حبسه: وما كان لي من ابنة فهي معهما في حبسهما، أترى بنات ابنه يدخلن معهما في ذلك الحبس الذي لابنيْه؟ قال:(12/235)
قال مالك: نعم، أرى أن يدخلن في ذلك.
" قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثلُه من قوله في رسم العشور من سماع عيسى بعد هذا: وذلك لأن بنت الِابن تسمى بنتا ولها حكم البِنْتِ وفي الميراث إذا لم يكن للميت ابن ذكر ولا أنثى، بخلاف بنت الاِبنة لأنها وإن كانت تسمى ابنة بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحسن: «إن ابني هذا سيد» فليس لها حكم البنت في النسب ولا في الميراث وبالله التوفيق.
[مسألة: يفلس وله أم ولد ومدبرون ولهم أموال]
مسألة وسئل مالك عمن تصدق على ابنتين بدار على وجه الحبس وكتب لهما في كتاب صدقته، قال: إن شاءتا باعتا، وإن شاءتا أمسكتا، فَرَهَقَ ابنتيه دين كثير دَايَنَتَا به الناس، فقام عليهما الغرماء فقالوا: نحن نبيع الدار قد كتب أبوكما في صدقته إن شئتما بعتما، وإن شئتما أمسكتما، قال مالك: صَدَقوا ذلك لهم أن يبيعوا الدار حتى يستوفوا حقوقهم.
قال محمد بن رشد: لمالك في كتاب ابن المواز خلافُ قوله هذا إنه ليس للغرماء ذلك، وهو الذي يأتي على مَالَهُ في كتَاب التفليس من المدونة في الرجل يُفَلَّسُ وله أم ولد ومدبرون ولهم أموال، أنه ليس للغرماء أن يجبروه على أن يأخذ أموالهم فيقضيها إياهم، ولا لهم أن يأخذوها إلا أن يشاء هو أن يفعل ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: تغير ما حبسه في مرضه]
مسألة وسئل عن رجل حبس حبسا في مرضه دارا له وجعلها بعد حبسه في سبيل الله حبسا، فأراد أن يغير ذلك في مرضه أذلك له؟ قال: نعم، ذلك له.(12/236)
قال محمد بن رشد: قوله إن له أن يغير ذلك في مرضه، يريد فينفذ تغيره ويبطل الحبس إن مات من مرضه ذلك، وأما إن صح فيلزمه الحبس ويُحْكَمُ به عليه وإن كان قد رجع عنه وغيره في مرضه، ووجه ذلك أنه لما كان الحبس لا ينفذ إن مات من مرضه ذلك إلَّا من الثلث حكم له بحكم الوصية في أن له أن يرجع فيه، فعلى قياس هذا إن مات من مرضه قبل أن يغير حبسه وقد أوصى بوصايا مال، فلم يحمل ذلك ثُلُثُه تَحَاصا في الثلث ولم يُبَدَّأ الحبس المبتل في المرض على الوصية بالمال، وهذا أصل قد اختلف فيه قولُ مالك فيمن بَتَلَ عتق عبد له في مرضه وأوصى بعتق عبد له آخر، فروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك أن المبتل في المرض يُبَدّأ على الموصى بعتقه، وأخذ بذلك ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وابن دينار، وإياه اختار محمد بن المواز فعلى هذا لا يجوز للمريض تغير ما حَبَّسَهُ في مرضه ولا ما بَتَّلَ عتقه فيه، وروى أشهب عن مالك أنهما يتحاصان المبتل في المرض والموصى بعتقه فيه، قال أشهبُ وإنما ذلك عندي بمنزلة ما لو أوصى بعتق عبدين له في مرضه، ثم قال في أحدهما: إن صححت من مرضي فهو حر، فمات من مرضه، أنهما يتحاصان، وقال محمد بن المواز: أما هذا فكما قال، ولا يشبه ذلك أن يوصي بعتق أحدهما ويبتل عتق الآخر في مرضه، بأن يقول له: أنت حر بَتْلا عشت أو مت، وقد قال لي بعض أصحاب مالك: إن مالكا رجع إلى هذا القول، وعليه لقي الله عز وجل، فقولُهُ في هذه الرواية له أن يغير حبسه الذي حبسه في مرضه يأتي على قول مالك هذا الذي رَجَعَ إليه من أنهما يتحاصان ولا يُبدَأُ المبتل في المرض على الموصي بعتقه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: حبس على ولده فلا يدخل في حبسه أولاد البنات]
ومن كتاب أوله:
يسلف في المتاع والحيوان وسئل مالك عن حائط كان صدقة فلم يزل ذلك يجري على(12/237)
ولده للذكر مثل حظ الأنثيين فتزوج الرجل منهم المرأة ثم يموت فتذهب المرأة ولا حق لها وتتزوج المرأة من بناته ثم تموت فيذهب ولدها ولاحق لهم ويرجع نصيبها على من بقي من ولده، فلم يزل ذلك حتى بقي بَعْدُ امرأةٌ ورجلٌ فكانا يأخذان للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم مات الرجل فصارت للمرأة الصدقة تأخذها كلها، ثم هلكت وتركت أولادا، وَشَهِدَ رجالٌ بالسماع أنهم لم يزالوا يسمعون أنها صدقة، هل ترى لولد المرأة في ذلك حقا؟ قال مالك: لا، ولكن ترجع إلى الأقرب فالأقرب من عصبة المتَصَدِّقِ حُبُسا عليهم، قال عيسى: قلت لابن القاسم: لم كانت للذكر مثل حظ الأنثيين؟ قال: اشترط ذلك.
قال محمد بن رشد: قولُه: " وسئل عن حائط كان صدقة فلم يزل ذلك يجري على ولده " معناه: وسئل عن حائط كان صدقة تصدق به رجل على ولده فلم يزل ذلك يجري على ولده للذكر مثل حظ الأنثيين، وقوله: " وشهد رجال بالسماع أنهم لم يزالوا يسمعون أنها صدقة " معناه: لم يزالوا يسمعون أنها صدقة يتصدق بها ذلك الرجل حبسا صدقة على ولده، هل ترى لولد المرأة في ذلك حقا؟ فقال: لا، وذلك على مذهبه الذي يختلف فيه قولُه أن من حبس على ولده فلا يدخل في حبسه أولاد البنات إذ ليسوا بولد لهم حكم الولد في الميراث والنسب؛ لأنهم وإن كانوا في حكم ولده في حقيقة التسمية في اللغة فهم ولد رجل آخر في التسمية والميراث والنسب، فهو بهم أولى.
وقوله: " إنها ترجع إلى الأقرب فالأقرب من عصبة المتَصَدِّق حبسا عليهم " صحيح بين لا اختلاف فيه؛ لأنه حبس على غير معينين فلا ترجع إلى المحبس ملكا في قول مالك وأصحابه أجمعين، إلَّا أن يقول ما عاشوا فترجع إليه ملكا على قول مطرف منهم خاصة، وقد مضى هذا في أول رسم وفي غيره من المواضع وبالله التوفيق.(12/238)
[مسألة: قال داري حبس على امرأتي ما عاشت فلم يجز ذلك الورثة]
مسألة قال ابن القاسم في رجل قال داري حبس على امرأتي ما عاشت فلم يُجِزْ ذلك الورثة، قال: ترجع ميراثا على فرائض الله إن شاءوا باعوا، وإِن شاءوا أمسكوا.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة إذا حبس الدار عليهما ما عاشت في مرضه الذي توفي منه أو أوصى بذلك، وقوله: " إنها ترجع ميراثا على فرائض الله إذا لم يُجِز ذلك الورثةُ " معناه على أحد قولي مالك في أن الحبس على معين يرجع بعد انقراض المحبس عليه إلى المحبس ملكا أو إلى ورثته بعده، وأما على قوله الآخر إنها ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا ولا ترجع إليه ملكا مطلقا فإذا لم يُجِز ذلك الورثةُ يدخلون معها في سكنى الدار حياتها، فإذا ماتت رجعت الدار إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا وسقط حقهم فيها، ولو أسكنها في مرضه الدار ما عاشت أو أوصى لها بذلك لرجعت إذا لم يُجِز الورثة ميراثا باتفاق والله الموفق.
[مسألة: قال داري هذه حبس على امرأتي ما عاشت وبقية ثلثي لفلان وثلث الدار]
مسألة قيل لابن القاسم: فإن قال داري هذه حبس على امرأتي ما عاشت وبقية ثلثي لفلان وثلث الدار، قال ابن القاسم: يقال للورثة أسلموا لامرأته ما حبس عليها، فإن قالوا: لا، فهم معها على فرائض الله يسكنون، فإذا انقرضت امرأته صارت الدار لِلذي أوصى له ببقية الثلث فإن أسلموا لامرأته الدار لم يكن للذي أوصى له ببقية الثلث شيءٌ حتى تموت امرأته فإذا ماتت المرأة أخذ الذي أوصى له ببقية الثلث الدارَ، قال ابن القاسم: وسواء عليه قال في هذا الموضع. حُبسا أو سكنى.(12/239)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة يُبَينها ما ذكرناه في المسألة التي فوقها، وقول ابن القاسم في آخرها: وسواء عليه، قال في هذا الموضع حبسا أو سكنى صحيح؛ لأنه قد بين المرجع ونص عليه بقوله وبقية ثلثي لفلان فلا يدخل في هذه المسألة اختلافُ قول مالك فيمن حبس على معين هل يرجع الحبس إليه أو إلى أقرب الناس به حبسا عليهم، كما دخل في المسألة التي فوقها. وباللَه التوفيق.
[مسألة: أسكن دارا له أجنبيا حياته ثم مات الذي أسكن]
مسألة قال ابن القاسم: وإن أسكن دارا له أجنبيا حياته ثم مات الذي أسكن رجعت ميراثا لأقرب الناس بالمُسْكِنِ يوم مات المسكن، وإن حبس على أجنبي حياته ثم مات الذي حبس عليه رجعت حبسا على أقرب الناس بالمحبس يوم ترجع.
قال محمد بن رشد: أما إذا أسكن دارا له أجنبيا حياته فلا اختلاف ولا إشكَال في أنها ترجع إلى المُسْكِن ملكا يوم مات المُسْكَن، وأما إذا حبس على أجنبي حياته ثم مات الذي حبس عليه، فقيل إنها ترجع إلى المحبس ملكا مطلقا، وقيل إنها ترجع إلى أقرب الناس به حبسا عليه، اخْتَلَفَ في ذلك قولُ مالك، فقوله في هذه المسألة رجعت حبسا على أقرب الناس بالمحبس يوم ترجع يريد على أحد قولي مالك، وهذه المسألة تبين أنه لا فرق إذا حبس على معين بين أن يقول حياتَه أو يسكت عن ذلك في إن اختلاف قول مالك يدخل في ذلك دخولا واحدا خلافُ ما ذهب إليه محمد بن المواز من أنه إذا حبس على معين وقال حياتَه أو سمى أجَلا خرجت المسألة من الخلاف حسبما ذكرناه عنه في أول رسم من السماع وباللَّه التوفيق.(12/240)
[: حبس داره على مواليه ثم هلكت]
ومن كتاب الشريكين يكون لهما مال قال: وسألت مالكا عن رجل حبس داره على مواليه ثم هلكت فقام موالي الموالي فقالوا: نحن معكم، وقال الموالي: نحن أحق بها، قال: أراهم كلَّهُم فيها وأراها حبسا على الموالي وموالي الموالي يدخلون معهم.
قال محمد بن رشد: قولُه أراهم كلهم فيها ظاهرُه أنه لا يؤثر الأقرب منهم على الأبعد إذا استوت حاجتهم، وذلك ما مضى في أول رسم من السماع، وكذلك اختلف أيضا في تفضيل الآباء على الأبناء حسبما مضى تحصيل القول فيه في أول رسم من السماع فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[: حبس حبسا دارا له على رجل حياته فبنىِ في الدار مسكنا ثم مات]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وسئل عن رجل حبس حبسا دارا له وأرضا على رجل حياته فبنىِ في الدار مسكنا أو غرس في الأرض نخلا، ثم مات، فقال: إن أَرْضى صاحبُ الدار ورثة الرجل فذلك له وإلّا قلعوا نخلهم وأخذوا نقضهم من الدور.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والكلامُ عليها مستوفى فيما تقدم في هذا الرسم في بعض الروايات فلا معنى لِإعادته وبالله التوفيق.
[: حبس جارية له على أخته وأمه حبسا صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث]
ومن كتاب البَزِّ قال وسئل مالك عن رجل حبس جارية له على أخته وأمه حبسا صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، وأيهما ماتت قبل صاحبتها فهي(12/241)
على الباقية منهما، فماتت أخته فأراد أن يُبَتِّلَها لأمه تبيعها أو تَصْنَعُ بها ما شاءت، قال: أرى ذلك له إن شاء بعد تفكره فيها، وكأنه لم يرها من ناحية الدور، قال ابن القاسم: ولو أن رجلا حبس دارا أو أرضا ثم أراد أن يفعل ذلك لم يكن ذلك له إلَّا أن يكون اشترط أن مرجعهما إليه فهو يجوز أن يفعل ذلك، ويفعله في غيرهما بعدهما إن أراد ذلك.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز له أن يُبَتِّلَهَا لأمه لأنه رأى أنها ترجع إليه بعد موتها ملكا مطلقا، ولا ترجع بمرجع الأحباس كالدور، وهو معنى قوله: ولم يرها من ناحية الدور، وإنما لم يرها كالدور لأنه رأى التحبيس المعقب المحرم فيها مكروها، واستحب له أن يَصرِفَهُ إلى ما هو أفضل منه، فرأى تبتلها لأمه أفضل لما في ذلك من البر بأمه، ورفع الضرر عن الجارية ما يُرجى لها من العتق، وهذا هو معنى ما في كتاب ابن المواز من قوله في هذه المسألة وكأنه رآهُ من ناحية البِرِّ وفي رسم استأذن من سماع عيسى بعد هذا أنها ترجع بمرجع الأحباس كالدور، وقد مضى الكلام على هذا المعنى وما يتعلق به مما هو من معناه شي أول مسألة من الكتاب وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق بدار له حبسا على ولده وولد ولده]
مسألة وسئل مالك عن رجل تصدق بدار له حبسا على ولده وولد وَلَدِه فخرج إنسان منهم إلى بعض البلدان ثم قدم فأراد أن يسحَن الدار ويخرج له بعض من يسكنها من منزله الذي كان يسكنه، قال مالك: إن كان خرج في تجارة أو في طلب حاجة فإني أرى ذلك له، وإن كان انقطع إلى بعض البلدان ثم بَدَا له فرجع لم أر لَهُ أن يُخرَجَ له من منزل كان يسكنه أحد ممن يسكنه.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك، وما قال ابن القاسم في المدونة يبين قوله المتقدم في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، وقد ذكرنا(12/242)
ذلك هنالك وَمَا يمكن أن يُقَامَ من قوله في المدونة، وقال علي في روايته: [إن غاب مُسْجَلٌ] ، ولم يذكر ما قال ابن القاسم وهذا في السكنى، وأما في فضلة الكراء والغلات من الثمرة وغيرها فإن حق من انتجَعَ وغاب لا يسقط وإنما يسقط عنه السكنى إذا لم يكن فيه فضل، قاله مالك في النوادر، وقال ابن القاسم فيها وأما ذلك فيمن حبس على ولده أو لد فلان أو آل فلان، فأما على قوم بأعيانهم ممن ليس على العقب فإن حق من انتجع منهم ثابت في السكنى وهم فيه على السواء حاضرهم وغائبهم وفقيرهم وغنيهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس دارا له على أربعة نفر من ولده]
مسألة وسُئِلَ عن رجل حبس دارا له على أربعة نفر من ولده وشرط في حبسه أن من مات منهم من ولده فولده على مصابته من الحبس، فمات اثنان منهم وترك أولادا فكان الأخوان منهما لا أولاد لهما، ثمِ مات أحد الباقين ولا ولد له فلمن ترى نصيبه؟ قال: أرى أن يرجع حبساَ على جميع ولد إخوته الميتين وأخيه الباقي وُيخَصّ بذلك أهل الحاجة منهم دون الأغنياء، ولا تكون فيها قسمة وأرى أن يؤثر أهل الحاجة منهم من ولد بني الأخ والأخ.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لما شرط أن يكون حظ من مات منهم لولده رجع الحبس بذلك معقبا على غير معينين، وكان الحكم فيمن مات منهم وَلَا ولد له أن يرجع حظه على جميع من في الحبس من أهل الحاجة كمن حبس على ولده وعقبهم وفيهم غني ومحتاج أن الحبس يقسم على أهل الحاجة من الأخ وبني الأخ دون الأغنياء منهم، ولا يقسم عليهم بالسواء، وهو(12/243)
الذي أراد بقوله ولا يكون فيها قسمة، وقد قيل إن الحبس المعقب يقسم على السواء بين الغني والفقير وقيل إنه يبدأ الأقرب على الأبعد وقد مضى بيان ذلك كله وتحصيله في آخر أول رسم من السماع فلا معنى لِإعادته وبالله الموفق.
[: حبس دارا له على ولده وشرط أن من تزوج من بناته فلا حق لها]
ومن كتاب أوله: نَذَرَ سَتَة يَصُومُهَا وسئل مالك عن رجل حبس دارا له على ولده وشرط أن من تزوج من بناته فلا حق لها إلا أَن تَرُدَهَا رَادَّة أترى أن يُنْقَضَ ذلك وَينْحَل الحبسُ، قال: نعم، إني لأرى ذلك وجهَ الصواب، وكأنه أعجبه نقضه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقولُ فيها في أول رسم من السماع فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس دوره على ولد له صغار فيشترط أنه القائم بأمرهم حتى يبلغوا]
مسألة وسئل عن الرجل يحبس دوره على وُلْدٍ لَهُ صِغَارٍ فيشترط أنه القائم بأمرهم حتى يبلغوا، قال: إني لأكره ذلك، قال ابن القاسم وقال مالك: وإذا لم يشترطه وكان الولد صغارا فلا بأس به إذا لم يكن فيهم كبير قد بلغ حد الرضى.
قال محمد بن رشد: وقع في كتاب التفسير قال يحيى: قلت لابن القاسم لِمَ كَرِهَهُ مالك؟ قال: لأنه قد اشترط في حبسه ملكا له ثابتا يحكم به في ذلك الحبس حَتَى يموت، قلت: وما بأس ما اشترط من ذلك؟ قد كان له بلا شرط، أَلَا ترى أنه الحائز على ولده والقائم لهم بلا شرط؟ مثل ما اشترط لم يزدد بشرطه المُشْتَرَط شيئَاَ على ما كان يصنعه بغير شرط، قال: سأله عنه ابن أبي موسى فنهاه عنه وكرهه، قلت أرأيت إن وقع الأمر به، فمات وولده أصاغر أيفْسِدُ هذا الشرطُ شيئا من حوزه عليهم؟ قال: لا بل أجير الصدقة، وإنما(12/244)
كره له الشرط فإن وقع لم تفسُدْ الصدقة، هذا نص مَا وَقَعَ في كتاب التفسير، فقال بعض أهل النّظَرِ هذه كراهية لا وجه لها؛ لأنه اشترط ما يوجبه الحكمُ له، واشتِرَاطُ ما يوجبه الحكم لا وجه لكراهيته.
والكراهيةُ فيها بينة لوجهين أحدهما: أنه لما شرط أنه القائم بأمرهم فقد منع نفسه ما كان له جائزا من أن يُولِي غيرَه يقوم به لهم، والثاني: أنه قد اشترط أنه القائم بأمرهم حتى يبلغوا، وبلوغهم لا يكون في وقت واحد فكان قد اشترط في ظاهر أمره ألّا يسلم لمن بلغ منهم حظه حتى يبلغوا كلهم وهذا مما يبطل الحيازة؛ لأنه إن بلغ فلم يدفع إليه حظه، ومات وهو في يديه بطلت الصدقة في حظه، وفي المسألة وجه ثالث يصحح الكراهة، وهو اشتراط ذلك حتى يبلغوا، وقد يَبْلُغُوا وهم لا تُرْضَى أحوالهم ولا تجوز أفعالهم، فبِطل أن يكون الشرط صحيحا، ولو اشترط أن له أن يحُوزَ لكل واحد منهم حظه حتى يبلغ ويملك أمر نفسه لَتخلِّصَ من هذه المعاني كلها وصح اشتراطه، ولم يكن فيه وجه للكراهة، والله أعلم وبه التوفيقَ.
[: حكم العمرى]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك
رواية سحنون بن سعيد من كتاب العتق قال أشهب: وسمعت مالكا وسئل عمن أعْمَرَ أمَّه عبدين) حياتها وشرط إن مات قبلها فهما لها حياتَها وإن ماتت قبله فهما عليه رَد، ثم حضرته الوفاة قبلها فأعْتَقَ أحدهما، قال: لا يجوز ذلك إلا أن تجيز أمه ذلك، فإن أجازت ذلك وطاعت بعتقه جاز وعتق، ولم ينظر إلى ما يقول الورثة إن مرجعه إلينا وإن لم يجز عتق إذا ماتت أمه وكانت تلك البقية في ثلثه.
قال محمد بن رشد: حكم العُمرى أن تكون للمعمَر حياتَه عاش(12/245)
المعمِر أو مات قبل ذلك، فإذا مات المعمَر رجعت العمرى إلى المعمِر إن كان حيا، وإن كان قد مات رجعت إلى ورثته يوم مات، فقوله وشَرطَ إن مات قبلها فهما لها حياتَها، وإن ماتت قبله فهما عليه رَدٌ، ليس بشرط يُحِيلُ العمرى عن حكمها وسبيلها، وإنما هو بيان لحكمها، والمُعْمِر لا يملك من العبدين إذا أعمرهما أمه إلّا المرجع بعد وفاتها، وهو مجهول، إذ لا يدري متى تموت فيجوز له أن يهبه ويعتقه في صحته ولا يجوز له أن يبيعه إلا من أمه، ويجوز له أيضا أن يعتقه في مرضه إن حمله ثلثه، ويختلف فيما بَتَلَهُ المريض في مرضه هل ينظر فيه وهو مريض أو بعد موته، فقيل إنه ينظر فيه في مرضه فإن حمله الثلث عتق، وقيل إنه لا ينظر فيه إلا بعد موته إذ قد يذهب مالُه في مرضه فيكون للورثة في ذلك.
حُجّة من أجل أنه لا ينفذ قضاؤه بعد موته في أكثر من ثلث ماله، فرأى مالكٌ في هذه المسألة إن أجازت أمّه ذلك وطاعت بترك حقها في خدمته أن ينظر بذلك في مرضه، وُيعَجِّلَ له العتق إن حمل ثلثه المَرْجِعَ بأن يُقَوَّم على غرره، ولم ينظر إلى ما يقوله الورثة إن أرادوا ألا يُنْظَرَ فيه إلّا بعد موته، وهو معنى قوله: ولم ينظر إلى ما يقوله الورثة: إن مرجعه إلينا ورأى إن لم تجِزْ الأم ذلك لا ينظر فيه حتى تموت، إذ لا سبيل إلى تعجيل عتقه من أجل حقها في خدمته طول حياتها، فإذا مات نظر فيه، فإن حمل ثلثُه المرجعَ على غرره عتق جميعه بعد موتها، وهو معنى قوله: وإن لم تجز عَتَقَ إذا مات وكانت تلك البقية في ثلثه، يريد المرجع على غرره، وإن لم يحمل الثلثُ المرجعَ عتق منه بعد موتها ما حمل الثلث منه، فهذا معنى قول مالك في هذه المسألة ووجهُهُ مشروحا مبينا.
وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: هذا الكلام فيه نظر فتدبره والذي ينبغي إن لم يُجز الورثةُ ذلك أن يكون المرجع من الثلث أجازت الأم أو لم تجز، فإن أجازت عجل العتق، وإن لم تجز عجل بعد موتها.(12/246)
وكلامه هو الذي فيه النظر؛ لأنه حمل قول مالك على غير وجهه، فتأول عليه أنه أراد بقوله: " ولم ينظر إلى ما يقوله الورثة " أنه يعجل له العتق إذا أجازت الأم وطاعت، وإن لم يحمل ثلثه المرجعَ، وهو تأويل خطأ لا يصح أن يُتَأَوَل مثلُهُ على مالك، ومعناه إنما هو ما ذكرناه من أنه لا ينظر إلى قولهم إن أرادوا تأخير النظر في تقويم المرجع في الثلث إلى أن يموت إذا أجازت الأم، فالمسألة صحيحة بينة مستقيمة لا نظر فيها ولا اعتراض وبالله التوفيق.
[: يحبس الحائط صدقة على المساكين أيقسم على المساكين بينهم تمرا]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل عن الرجل يحبس الحائط صدقة على المساكين أيقسم على المساكين بينهم تمرا أمْ يباع ثم يقسم ثمنا بينهم، فقال: ذلك يختلف، وذلك إلى ما قال فيه المتصدق، أو إلى رأي الذي يلي ذلك، واجتهاده إن كان المتصدقُ لمِ يقل في ذلك شيئا، إن رأى خيرا أن يبيع ويقسم ثمنه وإن رأى خيراَ أن يقسم تمره قسموه تمرا فذلك يختلف، وربما كان الحائط نائيا بالمدينة، فإن حُمِلَ أضَرّ ذلك بالمساكين حملُه، وربما كان في الناس الحاجة إلى الطعام فيكون ذلك خيرا لهم من الثمن فيقسم إذا كان هكذا فهو أفضل وخير، وهذه صدقات عُمر بن الخطاب منها ما يُباع فيقسم ثمنُهُ ومنها ما يُقسم تمرا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن ذلك مصروف إلى اجتهاد الناظر في ذلك إن لم يقل المتصدق في ذلك شيئا، وإن قال فيه شيئا وَحَدّ فيه حَدّا وجب أن يتبع قوله في صدقته ولا يخالف فيه حَدُّهُ وبالله التوفيق.(12/247)
[مسألة: أوصى في غنم له بأنها حبس على يتيمين ليسا من الورثة]
مسألة وسئل عن رجل توفي فأوصى في غنم له بأنها حبس على يتيمين ليسا من الورثة، وجعلها على يدي ابن له كبير، وقال: من مات منهما فلا حق له ومن ارتغب فلا حق له، فمات أحدهما، ثم ارتغب الآخر منهما [فلمن تراها؟] فقال: ما أراها إلّا للآخر منهما، قيل له إنه حبسها عليهما لهذا منها قطيع عليه [سِمَتُهُ ولهذا] قطيع عليه سِمَتهُ وقال من مات فلا حق له فمات أحدهما [ثم] ارتغب الآخر فلمن تراها؟ فقال: ما أراها إلّا للآخر منهما، أرى هذا إنما أراد مثلَ ما يقول بعضُ الناس يحبس على الجماعة ويقول من هلك فلا حق له فأراها للآخر منهما، قيل له إنه قد كان في وصيته من ارتغب فلا حق له فقد هلك واحد وارتغب الآخر فخرج، وقد بلغ وصار رجلَا، فقال ما أرَاها إلا للباقي وأحرى به أن يرجع فلو وقفت هذه الغنم حتى يرجع هذا الذي ذهب، قيل له إن بعض العلماء قال: يُرْجَعَ على الوارث، فقال: والله ما أرى ذلك قد أوصى بها وحبسها فكيف ترجع على الوارث؟.
قال محمد بن رشد: قوله ارتغب واغترب سواء مثل جذب وجبذ وقيل ليس هو من المقلوب، وإنما هو مأخوذ من الرغبة في الشيء، والرغبة عنه، فمعنى ارتغب رغب عن سكنى البلد ورَغِبَ في سكنى سواه، فخرج إليه، وقال ابن لبابة أرْتَغبُ أتركُ، فالمعنى المرادُ مفهوم معلوم وإن اختلفت الألفاظ، وحمل قوله من اغترب فلا حق له أي لا حق في حين مغيبه لا أنه يسقط حقه بمغيبه جملة كالموت، فلذلك قال: فلو وقفت هذه الغنم حتى يرجع، وقوله في رواية أشهب هذه عنه: إن حظ الميت من الغنم وإن كانت مَوْسُومَة(12/248)
يرجع على صاحبه خلافُ قوله في رواية ابن القاسم عنه في أول سماعه إن حظ الميت من خدمة الخادم إذا حبسها على قوم مفترقين وقسم الخدمة بينهم ترجع إلى المحبس لا إلى أصحابه، فعلى قوله في سماع ابن القاسم يكون حظ الميت من اليتيمين من الغنم الموسومَة للمحبِس ويوقف حظ الغائب وحده حتى يرجع، وهذا القول هو الذي أنكره لما قيل له: إن بعض العلماء قاله، فقال والله ما أرى ذلك، قد أوصى بها وحبسها فكيف ترجع إلى الوارث؟ وقد يحتمل أن يكون إنما أنكر قول من قال: إن من اغترب يسقط حقه ويرجع إلى الوارث الذي له المرجع ولا يعود إليه إن رجع من اغترابه، على ظاهر قوله: ومن اغترب فلا حق له، إذ لم يقل إلا أن يرجع فهو على حقه.
فيتحصل في المسألة ثلاثةُ أقوال حسبما ذكرناه في سماع ابن اِلقاسم أحدها: أن حظ الميت من الغنم يرجع إلى المحبس ويوقف نصيب الغائب وحده كانت الغنم قد قسمها المحبس بينهما وَوَسم نصيبَه كل واحد منهما أو لم يقسمها، والثاني: أن حظ الميت منهما يرجع على صاحبه فيوقف جميعُ الغنم إذا غاب الثاني حتى يرجع فيأخذها، وهو قوله في هذه الرواية، والقول الثالث: الفرق بين أن يكون قد قسم الغنم بينهما أو لم يقسمها، فإن كان فد قسمها بينهما ووسم نصيب كل واحد منهما رجع نصيب الميت منهما إلى المحبس، ووقف للغائب نصيبه خاصة، وإن كان حبسها عليهما ولم يقسمها بينهما رجع نصيبُ الميت منهما إلى صاحبه ووقفت له جميع الغنم إذا غاب حتى يرجع، وهذا هو أظهر الأقوال والذي اختاره سحنون، وإذا وقفت الغنم كلها أو حظ الغائب منها كلى الاختلاف المذكور فالغلةُ في حين التوقيف للوارث الذي له المرجع، وقد قيل إن الغنم لا توقف وتدفع إلى الوارث يستغلها، فإن رجع الغائب رُدّتْ إليه الغنمُ يستغلها حتى يموت، فترجع إلى الوارث، وأما إن مات قبل أن يَرجع صحت للوارث مِلكا، وقد قيل إن الغلة توقف فإن رجع [أفادها] وإن مات كانت للوارث، وهذا القول قد أنكره في رسم الصبرة وبَيّن وجهَ فساده وبالله التوفيق.(12/249)
[: حبس على أمه وصيفة له حياتها فحازتها]
ومن كتاب البيوع الأول وسُئِلَ عمن حبس على أمه وصيفة له حياتَها فَحَازَتْها، ثم توفي ابنها وعليه دين فأرادت الأم أن تَبْتَاعَ مرجعَ الجارية من الغرماء لتكون لها الجارية بَتْلا أيصلح ذلك؟ فقال: لا، ولا يصلح شيء من ذلك حتى تموت فيتحاص فيها الغرماء.
قال محمد بن رشد: أجاز في رسم طلق من سماع ابن القاسم وفي غير ما موضع لمن أمْتَعَ شيئا حياتَه أن يشتري المرجعَ من الذي أمتعه المنافعَ حياتَه، وكذلك يجوز له أن يبتاعه من ورثته، ولم يجز في هذه الرواية أن يشتري الذي أخدِمَ الجاريةَ حياتَه مرجعَها من الغرماء، فقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وقيل بل تفترق المسألتان، وقد مضى القولُ على هذا مستوفى في رسم شك من سماع ابن القاسم فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس دارا له على أقاربه اثنا عشرة سنة ثم مات بعد شهرين]
مسألة وسُئِلَ عمن حبس دارا له على أقاربه اثنا عشرة سنة ثم مات بعد شهرين فَجَاءَ آتِ إلى الورثة فقال: بيعوني مرجع هذه الدار، فقال: لا يعجبني هذا لعل الدار ترجع متهدمة أو غير ذلك لا يدري كيف ترجع، واثنتا عشرة سنة كثيرٌ، أرأيت لو كان ذلك عشرين سنة أو ثلاثين سنة، ولكن لو كان شيء يسير، قيل له ألَيس للرجل أن يَتَكَارَى الدارَ اثنا عشرة سنة، فإن أصابها شيءٌ رجع فأخذ منه كراءَه؟ قال: بلى، قيل له كيف لا يشتريها بعد عشر سنين؟ قال له مالك: أليس يستأجر العبدَ سنة؟ فقال: بلى، فقال مالك: فيشتريه بعد سنة، لا يصلح هذا، قلت له أرأيت إن اشترى مرجعَ(12/250)
الدار بعد اثنتا عشرة سنة ولم ينقد حتى ترجع الدار، فقال: ما يعجبني هذا نَقَد أولم يَنْقُد، هذا بعيد.
قال محمد بن رشد: إذا لم يجز أن يبتاع مرجع الدار بعد اثنتا عشرة سنة لأن البناء يتغير عنده إلى هذه المدة فلا يدري كيف ترجع الدار فلا فرق في هذا بين أن ينقد أو لا ينقد، وكذلك على هذا لا يجوز لمن باع داره أن يستثني سكناها اثنتا عشرة سنة، إذ لا فرق بين أن يستثني البائع السكنى أو يكون لغيره فيشترطه على المبتاع، ومثل هذا في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ بعد هذا في العشرة الأعوام، وقد اختلف في ذلك فتقوم إجارته من مسألة كتاب العارية من المدونة في الذي يستعير الأرض من الرجل على أن يبنيها ويسكنها عشر سنين، ويكون البناء لصاحب الدار أن ذلك جائز إذا بَيّن البُنيَانَ على ما قاله بعض أهل النظر.
والصوابُ أن مسألة العارية من المدونة صحيحة خارجة من الاختلاف؛ لأن كل ما بَنَى المستعير شيئا وجب لصاحب العرصة، فلا غرر في ذلك وإن طالت المدة، وَأجَازَ ذلك أيضا ابنُ القاسم في كتاب ابن المواز ومثلُه لابن شهاب في المدونة، وقد قيل: إن أبعدَ ما يجوز من ذلك السنةُ، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب السلم والآجال، وروى ابنُ وهب عن مالك السنةَ ونصفا، وروى عن سحنون الثلاثةُ الأعوام، يقوم من قوله في سماع أبي زيد من كتاب طلاق السنة إجازةُ الخمسة الأعوام من مسألة الذي يشتري الدار ويشترط عليه فيها سكنى المرأة طول عدتها فَتُسْتَرَابُ أنه لا كلام للمشتري في ذلك إلى انقضاء الرِّيبَةِ وهي الخمسة الأعوام؛ لأن المشتري قد تقدم على ذلك، وأما الأرض فيجوز فيها استثناء العشرة الأعوام عند ابن القاسم على ما وقع له في سماع أصبغ بعد هذا، وقال المغيرة: يجوز في الدار العشرةُ الأعوام وفي الأرض السنين ذوات العدد، وهذا الاختلاف إنما يرجع إلى ما يغلب على الظن أن البناء يتعير فيه، فمرة رأى أنه لا يُؤمَنُ تغيُرُه(12/251)
في أكثر من عام، ومرة رأى أنه لا يُؤمَنُ تغيره في أكثر من عشرة أعوام ويؤمن في العشرة فما دونها، وينبغي أن يُنْظَرَ في هذا إلى جَوْدَةِ البناء ووثاقته، فرب بناء يتغير في أكثر من عام، ورب بناء لا يتغير في العشرة الأعوام وبالله التوفيق.
[: حبس غلاما له على ابنه حتى يستغني]
ومن كتاب الأقضية وسُئِلَ عن رجل حبس غلاما له على ابنه حتى يستغني ما حَدُّ الاستغناء؟ قال: يلي مالَه ونفسَه وتلا هذه الآية: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] .
قال محمد بن رشد: هذا بيّن إن كان حبَّسه عليه ليتصرف له فيما يحتاج إليه من حَوائجه فيكون معنى الاِستغناء أن يستغني بذاته عنه فيما يحتاج إليه من أموره، ولو كان عبدا للخدمة فحبسه عليه ليخدم له في صنعته الخدمة التي لا تُشْبِهُ أن يَلِيها هو بنفسه لكان وجه الاستغناء في ذلك أن يقدر على العِوَضِ منه بوجه من الوجوه، وبالله التوفيق.
تَمَّ الأول من جُزْئي كتاب الحبس بحمد الله تعالى.(12/252)
[: كتاب الحبس الثاني]
[مسألة: حبس داره على ولده وقال لفلان ريعها لأحدهم في حبس واحد وكلام واحد]
كتاب الحبس الثاني من سماع عيسى من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وسئل ابن القاسم عن رجل حبّس داره على ولده، وقال لفلان ربعُها لأحدهم في حبس واحد وكلام واحد؛ إنه ليس له منها إلّا الربع الذي سمى له، ولو أنه حبس عليه حبسا ثم حبس بعد ذلك حبسا آخر على جميع ولده أنه يدخل معهم.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال في المسألتين جميعا لأنه إذا حبس على ولده وقال ربعها فقد جعل الثلاثة الأرباع لسائِرِهِم قَلوا أو كثروا، وإذا حبس عليه حبسا ثم حبس بعد ذلك حبسا آخر على جميع ولده وجب أن يدخل معهم لأنه من ولده، وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس حبسا على قوم وهم متكافئون في الغنى والإقلال]
مسألة وقال فيمن حبس حبسا على قوم وهم مُتَكَافِئُون في الغِنَى والإقلال، قال: أرى أن يجتهد في ذلك ليسكن فيها من رأى، أو يُكْرِيَها فيقسم كراءها عليهم، قيل له فإن سبق بعضهم إليها فسكن؟ قال: من سبق فهو أولى ولا يُخرج منها.(12/253)
قال محمد بن رشد: معناه في غير المعينين مثل أن يحبس على أولاده أو أولاد فلان، وأما إن كان الحبس على قوم بأعيانهم مسمين ليس على التعقيب فلا يستحق السكنى من سبق إليه منهم، كلهم فيه وفي غيره سواءٌ، حاضرهم وغائبهم، قاله ابن القاسم، قال محمد: وفقيرهم وغنيهم سواء، ولا اختلاف أعلمه في هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: كل ما كان يرجع حبسه فهو أقرب الناس به يوم يرجع من ولد أو عصبة]
مسألة وقال ابن القاسم في الحبس، قال: كل ما كان يرجع ميراثا فهو على أقرب الناس في يوم يموت، وكل ما كان يرجع حبسه فهو أقرب الناس به يوم يرجع من وَلَدٍ أو عصبة، فإن كانوا بنات وعصبة فهو بينهم إن كان فيه سعة، فإن لم يكن فيها سعة فالبنات أولى بها من العصبة، وأقْعَدُ من العصبة، إلَا أنهن لا يَحُزْنَ وتدخل معهن الأم؛ لأن لها حقا ولا ترجع مَعَهُنَّ زوجة.
قلت: فإن لم يكن له أم وكانت له جدة أتكون بمنزلة أُمٍّ، أَم لَا؟ قال: أرى ذلك، وقال: إذا اشترط مرجعها إليه فإنها ترجع ميراثا بين ورثته يوم يموت، وأما إذا لم يشترط فإنها ترجع حبسا على عصبته وأقرب الناس إليه يوم يرجع.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة: كل ما كان يرجع ميراثا فهو على أقرب الناس به يوم يموت، ليس على ظاهره، والمراد به فهو على أحق الناس بميراثه يوم يموت على ما قال بعد ذلك، وإذا اشترط مرجعها إليه فإنها ترجع ميراثا بين ورثته يوم يموت، وهذا مَا لَا اختلاف فيه أن ما كان يرجح ميراثا فهو على أحق الناس بميراثه يوم مات، وأن ما كان يرجع حبسا فهو على أقرب الناس به يوم يرجع، وقد وقع في كتاب الهبات في المدونة في هذه(12/254)
الألفاظ غير بينة ترد بالتأويل إلى هذا الذي ذكرناه؛ إذ لا اختلاف فيه.
وقوله: إن البنات أحق بمرجع الحبس من العصبة إذا لم يكن فيه سعة صحيح؛ لأنهن أقرب إلى المحبس من عصبته، وقوله إلا أنهن لا يحيزون معناه أنه لا ينفردن بالمرجع دون من هو من المحبس بمنزلتهن، وهي الأم على ما ذكره؛ لأنها أقرب النساء إليه من فوق، كما أنهن أقرب إليه من أسفل، فتدخل معهن فيه الأم لاستوائها معهن في القرب حسبما وصفناه، ويكون بينهن على عددهن إن كانت البنات ثلاثا كان للأم معهن من المرجع الربع.
وقوله: فإن لم تكن له أم وكانت جدة أتكون بمثابة أمّ، أم لا؟ قال: لا أرى ذلك، معناه أنها لا تكون بمثابتها فتدخل مع البنات في المرَجع؛ لأنها أبعد من المحبس منهن، لا أنها لا تكون بمثابة الأم إذا لم يكن المحبس أقربَ إليه منها؛ لأن الأم إذا دخلت في مرجع الحبس على القول بأنها تدخل فيه فأمه أيضا تدخل فيه، وقد قيل معناه أنه لا دخول للجد في مرجع الحبس بخلاف الأم، والأول أظهر والله أعلم، وكذلك تدخل الأم مع بني المحبس الذكر كما تدخل مع البنات على هذه الرواية، وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم تحصيلُ الاختلاف فيما يرجع حبسا هل يدخل فيه النساء أم لا؟ ومن يدخل فيه منهن إِن دخل وباللَّه التوفيق.
[: الحبس ليس بملك للمحبس عليه]
ومن كتاب استأذن سيده
في تدبير جاريته وسألته عن الرجل يُحَبِّسُ على أولادٍ له صغار وكبار دارا ووكَّل(12/255)
عليها من يحوزها لهم ويكريها، وكيف إِن قال أولاده الكبار نحن نَحُوزها لأنفسنا؟ قال: لا يكون ذلك لهم، وهي على ما وضعها عليه، قلت أيكون ذلك إليه ما عاش المحبس وبعد موته؟ قال: نعم، ذلك إليه ما عاش، قلت فإذا مات فله أن يسنده إلى أحد؟ قال: لا، إذا مات وكان المحبس حيا كان ذلك إليه أيضا بجعله إلى من أحب، وإن كان قد مات نظر السلطان في ذلك فجعله إلى من رأى، وإن كان الكبار أهل رضى حَازوا لأنفسهم بعد موت الوكيل. قيل له: فإن مات الوكيل بعد موت المحبس وقد قال المحبس للوكيل: إن حدث بك حَدَثُ الموت فأسنده إلى من شئت، فمات فأسنده إلى غيره، قال: وصيته جائزة، وليس للكبار ولا للصَغار في ذلك كلام، قيل له فإن كان لم يقل له إذا مت فأسنده إلى من شئت، فمات الوكيل بعد موت المحبس وقد أوصى المحبس إلى رجل بتركته أَيكونُ الوصيّ الناظرَ للصغار؟ قال يكون ذلك إليه ويكون مكانه، وروى أصبغ عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحبس ليس بملك للمحبَّس عليه كالهبة التي هي ملك للموهوب له، فلا يصح للواهب أن يجعلها له على يدي غيره إذا كان كبيرا وإنما يَغْتَلُّهُ المحبَّسُ عليه على ملك المحبس فللمحبس أن يوكل عليه من يحوز للكبير ويجْرِي عليه غلته ويحوز عليه في حياته وبعد مماته في ذلك، وكذلك إن كان المحبس عليهم صغارا وكبارا فليس للصغار منهم إذا كبروا أن يَحُوزُوا لأنفسهم في حياة المحبس ولا بعد موته.
ولو كانوا صغارا كلهم يومَ وَكَّل الوكيلَ على القبض لهم كان لهم إذا كبروا أن يقبضوا لأنفسهم، قال محمد بن المواز، وحكمه حكم الوكيل في أنه(12/256)
ليس له أن يوكل غيره ولا أن يوصي بذلك إلا أن يجعل ذلك إليه، وينزل وصي المحبس منزلة الوكيل على الحبس في النظر فيه بعد موت الوكيل لما ذكرناه من أنه إنما يغتله على ملكه، فوجب أن ينظر فيه الوصي كما ينظر في سائر مال من أوصى إليه، ولو قال له إذا مت فأسنده إلى من شئت فمات فأوصى إلى رجل بالنظر في ماله وعلى من يصح له التقديم عليه من بنيه لكان له النظر في الحبس الذي كان وكل على النظر فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس مائة دينار على وارث ثم على رجل من بعده]
مسألة وسئل: عن الرجل يحبس مائة دينار على وارث ثم على رجل من بعده، قال: يقسمها الورثة على قدر سهامهم من الميت، فينتفعون بها حتى يموت الوارث الذي حبست عليه، فإذا مات رجعت إلى الأجنبي الذي حبست عليه بعد الوارث، فإذا مات الذي حبست عليه بعد الوارث رجعت ميراثا بين من ورث الميت المحبس يقتسمونها على فرائض الله، فمن مات ممن ورث الميت المحبس فحقه لورثته.
قلت: ولا يرجع حبسا؟ قال: لا يرجع عليه حبسا، ولا يرجع حبسا إلا الدور والعبيد ونحوهم؛ لأن مالكا قال لي: لو أن رجلا حبس مائة دينار على رجل فأخذها فنقصت عنده أو ضاعت كان ضامنا لها، فليست الدنانير والدراهم حبسا.
قلت: أرأيت من حبس حليا أو ثيابا أو شيئا مما يغاب عليه أهو بمنزلة الدنانير والدراهم؟ وهل يصدق في ذلك الذي حبس عليه إذا قال ضاع مني؟ قال: بل أراه ضامنا ولا يصدق فيما ادعاه من هلاكه، ألا ترى أن المحبس كان بمنزلة السلف في الدنانير، ألا ترى لو أن رجلا أعار رجلا ثوبا سنة فضاع منه في السنة كان ضامنا، فإنما(12/257)
حبس ما يغاب عليه مثل العارية التي يغاب عليها أو السلف.
قال محمد بن رشد: قوله إلا الدور والعبيد ونحوهم خلاف ما مضى في رسم البز من سماع ابن القاسم في العبيد؛ لأنه قال فيه في الأمة إنها لا ترجع بمرجع الأحباس خلاف الدور، وقد مضى الكلام على هذا المعنى، وما يتعلق به مما هو في معناه مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: الحبس على الولد بشرط إخراج البنات منه]
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه قال ابن القاسم: قال مالك في الذي يحبس الحائط على بنيه الذكور والإناث فمن تزوج من البنات فلا حق لها إلا أن تردها رادة، ثم هو بعد ذلك حبس على موالي، فمات البنون كلهم إلا ابنة واحدة متزوجة، ما يصنع بالغلة؟ قال مالك: تكون للموالي أبدا حتى ترجع الابنة ولا تحبس الغلة (عنها) عليها.
قال محمد بن رشد: مالك يكره الحبس على الولد بشرط إخراج البنات منه، ويرى وجه الشأن فيه أن ينقض ويدخل فيه البنات ما لم يفت، وقد مضى الكلام على ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، فإذا فات ولم يرد مضى على شرطه، فإن تزوجت منهن واحدة رجع حظها على من بقي معها من إخوتها في الحبس حتى تتأيم عن الزوج بموت أو فراق فترجع على حقها فيما يستقبل، وسواء قال المحبس إلا أن تردها رادة أو سكت عن ذلك على قياس ما قاله مالك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب في(12/258)
الذي حبس على يتيمين، وقال: من مات فلا حق له، ومن ارتغب فلا حق له، وقد قيل: إنه يسقط حقها بالتزويج فيما يستقبل أبدا إلا أن يقول إلا أن تردها رادة، وقد تئول أنه قول بعض العلماء الذي أنكره مالك في مسألة رسم الأقضية المذكورة، وفي المجموعة نحوه من رواية ابن القاسم عن مالك، قال فيمن حبس على أن من فرض له منهم في الديوان فلا شيء له ففرض لهم فلم يأخذوه وأخذ من فرض له مرة ثم انقطع، فقال: من أخذه مدة فلا شيء له في الغلة، وكذلك إذا لم يبق من بنيه المحبس عليهم إلا واحدة متزوجة ترجع جميع الغلة إلى الذي إليه مرجع الحبس بالحكم أو بنص من المحبس على قوله في هذه الرواية: إن الغلة تكون للموالي الذي جعل المحبس مرجع الحبس إليهم، وهي تبين ما وقع في رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا إذ لم يقع لذلك فيه جواب، وقال مطرف وابن الماجشون: إذا لم يبق من المحبس عليهم إلا ابنة متزوجة فتوقف الغلة؛ فإن رجعت أخذتها لأنها من ولد المحبس، فهي أولى ممن له المرجع، وإن ماتت قبل أن تتأيم عن الزوج كانت الغلة الموقوفة للذي له المرجع.
واختلف إن مضت مدة وهي مع الزوج ورحل أحق الناس بالمرجع ثم مات وخلفه آخر مكانه هو أحق الناس بمرجع الحبس بعده، فمضت هذه أيضا، ثم ماتت وهي في عصمة الزوج، فقال ابن الماجشون لكل واحد منهما من الغلة الموقوفة ما يجب للمرأة التي عايشها فيها وهو أحق بمرجع الحبس، وقال مطرف: بل تكون جميع الغلة للذي له المرجع يوم ماتت الابنة المتزوجة، وإن لم يبق من الولد المحبس عليهم إلا بنات متزوجات فوقفت الغلة فتأيمت إحداهن بعد مدة أخذت جميع ما وقف وجميع الغلة فيما يستقبل، فإن تأيمت الثانية بعد ذلك قاسمت أختها فيما أخذت بنصفين، كأنهما ما تزوجتا، وإن تأيمت الثالثة رجعت على كل واحدة منهما بثلث ما صار إليها مما وقف ومما استغلتاه بعد ذلك إلى حين تأيمها، والتعيين في هذا وغير التعيين على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك سواء، وهو نص قول أصبغ في الواضحة، وقال(12/259)
ابن الماجشون: إن عينهن في التحبيس، وقال: من تزوج منهن فلا حق لها سقط حق من تزوج منهن بالتزويج ولم يعد إليها أبدا، إلا أن يقول: فإن تأيمت فهي على حقها في الحبس.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن حق من تزوج منهن لا يسقط إلا ما دامت متزوجة ولم يقل إلا أن تردها رادة، والثاني: أن حقها يسقط بالتزويج أبدا إلا أن يقول: فإن ردتها رادة فهي على حقها، والثالث: الفرق بين التعيين وغيره، فإن كان عينها سقط حقها بالتزويج أبدا إلا أن يقول: فإن ردتها رادة فهي على حقها من الحبس، وإن كان لم يعينها لم يسقط حقها بالتزويج إلا ما دامت متزوجة ولم يقل إلا أن تردها رادة، وبالله التوفيق.
[: الذي يحبس الحبس على ولده الذكر والأنثى فيه سواء]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك، في الذي يحبس الحبس على ولده: الذكر والأنثى فيه سواء، وليس للذكر مثل حظ الأنثيين إلا أن يشترط ذلك في حبسه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا حبس عليهم فقد شرك بينهم فيما حبسه عليهم، فوجب أن يكون الذكر والأنثى فيه سواء إلا أن يفضل أحدهما على صاحبه، بدليل أن الله عز وجل لما شرك بين الإخوة للأم في الثلث ولم يفضل الذكر منهم على الأنثى فيه كانوا فيه على السواء، ولم يقس ذلك على البنين والبنات في قوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، ولا على الإخوة والأخوات في قوله {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] ، والله الموفق.(12/260)
[مسألة: يحبس على ولده حبسا ويشهد لهم ويكتب لهم بذلك كتابا]
ومن كتاب أوله
أوصى أن ينفق على أمهات أولاده
قال عيسى وأصبغ: وسألناه: عن الرجل يحبس على ولده حبسا ويشهد لهم ويكتب لهم بذلك كتابا، ومثلهم يحوز لهم أبوهم ثم يتعدى فيرهنها فيموت وهي رهن كما هي، قال: يبطل الرهن ويثبت الحبس ولا رهن، وقاله أصبغ، وقال: رهنه بمنزلة بيعه إياها، كما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه رهن الحبس بعد أن كان أبانه عن نفسه، وحازه لابنه بأن رحل عنه إن كانت دارا يسكنها، أو كانت خالية إن كان لا يسكنها فأشهد على تحبيسه إياها وحيازته، وأما لو كان حبسها وهو ساكن فيها ثم رهنها لنفسه قبل أن يرحل عنها فلم يعثر على ذلك حتى مات لبطل الحبس، وكذلك لو باعها بعد أن حبسها قبل أن يرحل عنها فلم يعثر على ذلك حتى مرض أو مات، ولو عثر على ذلك في حياته وصحته لفسخ البيع والرهن فيها وصح الحبس بالحيازة، ولو كانت صدقة من غير حبس فباعها قبل أن يرحل عنها لكان الثمن للابن وإن مات الأب في الدار؛ لأنه إنما مات فيها وهي للمشتري، لا لابنه إلا أن يكون باعها لنفسه نصا استرجاعا للصدقة فلم يعثر على ذلك حتى مات فإن الصدقة تبطل، ولو عثر على ذلك في حياته وصحته لفسخ البيع فيها وردت الدار لولده ولو باعها بعد أن رحل عنها وحازها لابنه لجاز البيع على الابن، وكان له الثمن في مال أبيه، حيا كان الولد أو ميتا، وإن لم ينص على أنه باع لابنه إلا أن يبيع نصا استرجاعا لصدقته فبيعه مردود إلى الولد، حيا كان الولد أو ميتا؛ لأنها قد كانت صدقة ببينونته عنها إلى أن باعها والثمن للمشتري في مال الأب، وجده أو لم يجده لا شيء على الولد منه، قاله ابن حبيب في الواضحة، وبالله التوفيق.(12/261)
[: قال الرجل داري حبس على امرأتي وأم ولدي]
ومن كتاب أوله
بع ولا نقصان عليك وقال مالك: إذا قال الرجل داري حبس على امرأتي وأم ولدي أو غلة داري حبس فمن تزوج منهما فلا حق لها فيها إلا أن تردها رادة، فتزوجت واحدة منهما، قال: يرجع حظها في يد الأخرى التي لم تتزوج، فإن طلق التي تزوجت زوجها أو مات عنها رجعت على حقها، قال: ولو قال: هو بينكما فمن تزوج فلا حق لها إلا أن تردها رادة، فمن تزوج منهما رجع حظها على الورثة ولم يرجع على صاحبتها، فإن طلقها زوجها أو مات عنها رجعت على حقها، فليس بينكما وعليكما سواء، وهو بمنزلة من قال: غلامي يخدم فلانة يوما وفلانة يوما، فمن تزوج منهما فلا حق لها إلا أن تردها رادة، فمن تزوج منهما رجع حظها على جميع ورثة الميت، فإن طلقها زوجها أو مات عنها رجعت على حظها، ولو قال: عليكما؛ رجع حظها إذا تزوجت على صاحبتها حتى يطلقها زوجها أو يموت عنها.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في الفرق بين أن يقول بينكما وعليكما والاختلاف في ذلك في أول مسألة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وقال أشهب: ولو قال حبست عليكما حياتكما وهو للآخر منكما فلا يكون للآخر منهما إلا حبسا عليه حياته، وإذا لم يسم حياتهما فهو للآخر منهما بتلا يصنع به ما شاء. وقول أشهب هذا في تفرقته بين أن يقول حياتكما أو لا يقول ذلك - هو ما ذهب إليه محمد بن المواز، خلاف ما مضى من قول ابن القاسم في آخر رسم يسلف، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وفي أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(12/262)
[: قال الرجل عند موته داري حبس ولم يسم أحدا]
ومن كتاب أوله لم يدرك قال: وإذا قال الرجل عند موته: داري حبس، ولم يسم أحدا قسمت على المساكين وكانت حبسا عليهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: بنات الأخ والعمة من العصبة الذين يرجع عليهم الحبس]
مسألة قال: وبنات الأخ والعمة من العصبة الذين يرجع عليهم الحبس.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في سماع سحنون من أنه لا تدخل العمة في مرجع الحبس، ولا كل من لا يرث من النساء مثل ما في أول رسم من سماع ابن القاسم، وقد مضى هنالك تحصيل الاختلاف في ذلك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد رجلان على أنهم كانوا يسمعون أن هذه الدار حبس]
مسألة قال: وإذا شهد رجلان على أنهم كانوا يسمعون أن هذه الدار حبس جازت شهادتهما وكانت حبسا على المساكين إن كان لم يسم أحدا، قيل له: فرجلان يشهدان وفي القبيل مائة رجل من أسنانهم لا يعرفون منه شيئا؟ قال: إذا كان كذلك فلا تقبل شهادتهما إلا بأمر يفشو ويكون عليهم شهود أكثر من اثنين، وأما إذا شهد شيخان قديمان قد أدركا الناس وباد جيلهما أنهما سمعا أنه حبس فشهادتهما جائزة.(12/263)
قال محمد بن رشد: ابن الماجشون لا يجيز في شهادة السماع أقل من أربعة شهداء، وإجازة ابن القاسم شهادة السماع في هذه المسألة خلاف مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: إن شهادة السماع لا يثبت بها النسب ولا الولاء، ويقضى له بالمال دون ثبات النسب والولاء، فعلى ما في المدونة لا تجوز شهادة السماع في الحبس إلا مع القطع بأنها تحترم بحرمة الأحباس، وذلك بين من مذهبه في المدونة، وهو على أصله فيها أنه يقضي بشهادة السماع بالمال، ولا يثبت بذلك النسب ولا الولاء، فكذلك باليد للمحبس دون أن يثبت الحبس، وقد مضى في نوازل سحنون من كتاب الشهادات تحصيل الخلاف فيما يجوز فيه شهادة السماع مما لا يجوز، فلا معنى لإعادته هاهنا.
وقول ابن القاسم في هذه الرواية: إنه لا تجوز شهادة الشاهدين على السماع في الحبس إلا أن يكونا شيخين قديمين قد أدركا الناس وباد جيلهما - معارض لما له في كتاب الصيام من المدونة من إجازة شهادة شاهدين على رؤية الهلال في الصحو والغيم؛ لأن الذي يأتي في مسألة الصيام على قياس قوله في هذه الرواية ألا تجوز شهادة الشاهدين على رؤية الهلال إلا في الغيم.
ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز في السماع على الحبس إلا أكثر من شاهدين في كل حال وهو مذهب ابن الماجشون الذي ذكرناه، والثاني: أنه تجوز شهادة شاهدين في كل حال، وهو الذي يأتي على قوله في المدونة في مسألة الصيام، والثالث: تفرقته في هذه الرواية، ومعنى ما أجازه من شهادة السماع في هذه الرواية إذا كانت المدة قد طالت طولا تبيد فيه الشهود، قال في الشهادات من المدونة مثل الأربعين سنة والخمسين، وفي سماع عيسى من كتاب القسمة أن في عشرين سنة تبيد الشهود، وابن الماجشون يجيز شهادة السماع في الخمسة عشر عاما.
وقد اختلف إذا لم يشهد على الحبس إلا شاهد واحد عدل، ففي كتاب ابن المواز، قال أصحابنا: إذا كان مبتلا ومعقبا فلا يصح فيه اليمين، وقال(12/264)
عبد الملك عن مالك: إذا حلف الجل منهم نفذت الوصية عليهم وعلى غائبهم إن قدم ومولودهم إن ولد وفي السبيل بعدهم، وروى عنه ابن حبيب: يحلف من أهل الصدقة رجل واحد مع الشاهد وينفذ له ولأهلها ولمن يأتي، قال عنه مالك: وإن باد شهودها فلم يثبت إلا بالسماع حلف أيضا واحد من أهلها الذين شهدوا بأنهم لم يزالوا يسمعون من العدول أنها حبس على بني فلان ثم تستحق حبسا، وهذا على ما في المدونة من أن الشهادة على السماع لا يثبت بها النسب ولا الولاء، وإنما يستحق بها المال مع اليمين، فكذلك يستحق الحبس بذلك مع اليمين على مذهب من يرى أنه يحلف واحد من المحبس عليهم مع الشاهد الواحد على البت ويستحق الحبس، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بأن يشترى عبد من ثلثه في سبيل الله]
مسألة قال ابن القاسم، في رجل أوصى بأن يشترى عبد من ثلثه في سبيل الله، قال: يشترى عبد فيجعل في الرباط يخدم الغزاة، قيل له: فمن يطعمه؟ قال: يعمل في طعامه ويخدم.
قال محمد بن رشد: فإن لم يكن فيما يستعمل فيه ما يقوم منه نفقته ولم يوجد من ينفق عليه بيع واشتري غيره مكانه ممن تكون نفقته في عمله، فإن لم يوجد ذلك في ثمنه فرق في السبيل، وقد مضى هذا المعنى في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: أخدم نصف عبد له بينه وبين رجل رجلا سنة فأعتق شريكه في العبد نصيبه]
ومن كتاب أوله سلف دينارا قال: وقال مالك، في رجل حبس على أم ولد له جارية تخدمها حياتها ومات وله ولدان، فقال أحدهما: لأم الولد نصيبي من هذه الجارية صدقة عليك، فأعتقت أم الولد ذلك النصيب الذي تصدق به(12/265)
عليها وصار لها، قال: تخرج الجارية حرة ساعتئذ ويقال لأم الولد أخرجي نصف القيمة فيؤخذ ذلك منها فيرجع ويوقف، فإن ماتت الجارية المخدمة قبل أم الولد لم يكن لهذا الذي لم يتصدق شيء ورجع ذلك إلى أم الولد، وإن ماتت أم الولد قبل الجارية دفع ذلك إلى هذا الذي لم يتصدق أو ورثته إن كان قد مات، وإنما أوقفنا المال؛ لأن أم الولد لو هلكت والجارية حية ذهب حق المتمسك بالرق؛ لأنه إنما له مرجعها بعد وفاة أم الولد؛ ولأنا إنما أخذنا المال منها خوفا أن تفلس أم الولد وتعدم فيذهب حق هذا، وتخرج الجارية حرة ساعتئذ، ولا يوقف نصفها للحرية التي ثبتت فيها، فوقف نصف قيمتها بمنزلة وقفها إذا هلكت أم الولد وهي حية، ويعجل لها العتق كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق شركا له في مملوك» ، فهذا شرك، قال عيسى: وإن لم يكن لأم الولد مال وكانت عديمة عتق منه نصيبها ويواجر النصف الآخر، فكلما اجتمع من إجارتها شيء له بال عتق منها ذلك، وحبس ذلك الخراج؛ لأنه لم يكن لها فيها إلا الخدمة، فلما أعتقتها كانت تاركة للخدمة فإن ماتت الخادم قبل أم الولد رجع ذلك الخراج الذي كان حبسا إلى أم الولد، وإن ماتت أم الولد قبل ذلك كان ذلك الخراج للولد المتمسك بالرق، وإن كان بقي من الأمة شيء لم يكن عتق كان ذلك له أيضا.
قال محمد بن رشد: ذكر ابن أبي زيد متصلا بهذه المسألة، قال ابن المواز: لا أرى إيقاف القيمة، بل ينظر كم يسوى مرجعها على أمد العمرين عمر الأمة وعمر أم الولد على الرجاء والخوف، فيعجل لهذا الابن ولا يبالى إن ماتت الأمة قبل وقت مرجعها؛ لأنها على الغرر قومت، وإيقاف قيمتها ظلم، وكيف توقف أيضا الأمة وقد يحدث فيها عيب قبل موت أم الولد؟ وقد روى عن(12/266)
ابن القاسم أيضا أنه قال: ينظر إلى قيمة مرجعها بعد أم الولد على الغرر والرجاء، فتوقف نصف القيمة من مال أم الولد حتى يعلم أيهما تموت أولا، قال ابن المواز: وهذا أبعد من الأول، وأحب إلي تعجيل نصف هذه القيمة للابن، وهو كما قال ابن المواز؛ لأن توقيف نصف القيمة على الرجاء والخوف ظلم بين للابن؛ لأن نصف الأمة يصير ملكا له بموت أم الولد ويرتفع الخوف منها، فكيف يعطي قيمتها بعد موت أم الولد على الرجاء والخوف وقد ارتفع بصحة الملك له وتيقنه؟ ولأن إيقاف نصف قيمتها يوم أعتقتها وهي لا تجب عليها إذ لا يدري لعلها ستموت قبلها فينكشف الأحق للابن فيها أو تموت أم الولد قبلها فيعلم أنها إنما وجبت له حينئذ، فكيف يأخذ قيمتها التي قومت به قبل أن يجب له، ولعلها أكثر من قيمتها يوم وجبت له، فيكون ذلك ظلما لأم الولد أو أقل من قيمتها يوم وجبت له فيكون ذلك ظلما له في إعطائه أقل من قيمتها يوم وجبت له.
فأعدل هذه الثلاثة الأقوال - ما قاله محمد بن المواز من أنه يعجل له نصف قيمتها على الرجاء والخوف.
ويتخرج في المسألة قول رابع على قياس قول ابن القاسم في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى من كتاب الخدمة فيمن أخدم نصف عبد له بينه وبين رجل رجلا سنة فأعتق شريكه في العبد نصيبه أنه لا يقوم عليه نصيب المخدم حتى يجب له بالقضاء السنة، وتوقف القيمة إلى انقضاء السنة إن خشى عليه عدم، وهو على ألا يجب في أم الولد فيها قيمة بحال؛ لأنها إن ماتت قبلها انكشف بموتها وجوب نصفها للابن ولم يصح أن يقوم عليها ذلك النصف بعد موتها على قولهم فيمن أعتق شخصا له في عبد فلم يقوم عليه حتى مات أنه لا يقوم عليه بعد الموت إلا أن يكون موتها قريبا من عتقها على اختلاف في ذلك، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه في العتبية ورواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة، وبالله التوفيق.(12/267)
[: الحوز في الصدقات والأحباس]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق قال: وسألت عبد الرحمن بن القاسم عن تفسير الحوز في الصدقات والأحباس ممن قد بلغ الحوز وما يجوز للأب حوزه ممن تصدق عليه أو حبسه ممن يليه من ولد صغير أو كبير سفيه وعن قسمة الحبس بين أهله فإنه ربما كان فيمن حبس عليه الصغير والكبير والحاضر والغائب والغني والفقير، وربما استوت الحالات في الفقر والغنى وكثرة العيالات من أحدهما، فقال: قد وصفت لك من ذلك ما حضرني ورضيت واخترت لنفسي ولا توفيق إلا بالله.
فكل من تصدق بصدقة أو حبس حبسا على ولده صغارا أو كبارا فإن كانت الصدقة والحبس على صغار كلهم فحيازة أبيهم لهم حوز إذا أشهد لهم وبتل لهم صدقتهم أو حبسهم فكان هو القائم بأمرهم والناظر لهم في كراء إن كان أو ثمرة أو ما تحتاج إليه الصدقات من المرمة والإصلاح حتى يبلغوا الحوز وترضى حالهم مع البلوغ، والبلوغ الحلم للرجال مع الصلاح وحسن الحال، فإن بلغوا الحلم ورضيت حالهم وتزوج النساء ودخل بهن أزواجهن ورضيت مع ذلك حالاتهن فلم يحوزوا جميعا الرجال والنساء بعد أن بلغوا ما وصفت لك حتى هلك الأب فالصدقة لهم، وهم بمنزلة من تصدق عليه وقد بلغ ورضي حاله ثم لم يحز لثلث ما تصدق به عليه أو حبس حتى هلك من تصدق أو حبس فإن ذلك لا صدقة له ولا حبس بتركه حيازة(12/268)
صدقته أو حبسه حتى مات المحبس له أو المتصدق به.
وإن كانوا قد بلغوا الحالات التي قد وصفت لك من الاحتلام للرجال والدخول بالنساء وهم جميعا في ذلك لا ترضي حالهم فإن حيازة الأب لهم جميعا حيازة؛ لأن السفيه بمنزلة الصغير؛ لأن كل من ولي عليه فحيازة من يليه حوز؛ لأنه الناظر له والمدبر لأمره ولا رأي له في نفسه ولا ماله إلا بوليه، فلذلك رأى أهل العلم أنهم يحاز لهم إذا كانوا على ما وصفت والنساء إذا بلغن ورضي حالهن ولم يتزوجن ولم يدخل بهن مخالف للرجال، المرأة أبدا في ولاية أبيها وإن رضي حالها يجوز عليها أمره وينفذ لها حكمه من تزويج أو غيره وإن بلغت.
والرجال ليسوا بهذه المنزلة إذا احتلم الرجل ورضي حاله لم يجز عليه أمر غيره، فلذلك افترق الرجال عندي والنساء في هذا الوجه الذي ذكرت لك.
وإن كان من تصدق عليه أو حبس عليه صغارا وكبارا وفي الكبار من قد رضي حاله فلم يحز له ولا للصغار حتى مات المتصدق أو المحبس فلا صدقة ولا حبس للصغير ولا للكبير من قبل أنه لم يفرز للصغار شيئا بعينه فيكون أبوهم يحوزه ويرد ما لم يحز للكبار ولكنه تصدق أو حبس بشيء مشاع ليس مقسوما عليهم جميعا ولم يحز الكبار عن الأب فيجوز، ولم يعرف ما للصغار فيحوزه الأب لهم، فلما كان ذلك رأيتها صدقة لم تحز حتى مات صاحبها الذي تصدق بها فلذلك رأيت ردها.
وإن كانت الصدقة أو الحبس على الصغار والكبار مفروزة(12/269)
معروفة قد عرف ما للصغار منه وما للكبار بتفرقته إياه وإشهاده عليه وإثابة بعضهم فيه من بعض ثم لم يحز الكبار حتى مات المتصدق أو الحبس رأيت أن يجوز ما للصغار منه، ويرد ما للكبار لأنه يحوز للصغار أبوهم ولا يحوز للكبار الذين قد بلغوا ورضي حالهم إلا أنفسهم.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة فإن بلغوا الحلم ورضيت حالهم وتزوج النساء ودخل بهن أزواجهن ورضيت مع ذلك حالاتهن - يدل أن الغلام بعد الاحتلام محمول على السفه، فلا يخرج من ولايته حتى يثبت رشده، وهو نص رواية يحيى عن ابن القاسم في كتاب الصدقات والهبات.
قوله: وليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى يعرف حاله ويشهد العدول على إصلاح أمره، وهو ظاهر سائر الروايات في المدونة وغيرها، إلا ما وقع في أول كتاب النكاح من المدونة قوله فيه: إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، فإن ظاهره أنه بالاحتلام يكون محمولا على الرشد وتجوز أفعاله حتى يعلم سفهه، وهي رواية زياد عن مالك في البكر أنها تخرج من ولاية أبيها بالحيض، فكيف بالغلام؟ وقد تأول ابن أبي زيد قوله في المدونة: فله أن يذهب حيث شاء - أن معناه: بنفسه، لا بما له، فعلى هذا اتفق الروايات كلها، ولا تخرج عنها إلا رواية زياد عن مالك، وقد تأول أن قول مالك إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، معناه: إذا احتلم ورضيت حاله، بدليل قول ابن القاسم: إلا أن يخاف من ناحية سفه فله أن يمنعه، وإلى هذا ذهب ابن لبابة، فقال: هذا هو الحق، لو مات الأب وأوصى به لم يخرج من ولاية الوصي حتى يثبت رشده، فكيف بالأب؟ ومثله في المدونة، وقوله: فقد منعهم الله من أموالهم مع الأوصياء بعد البلوغ إلا بالرشد، فكيف بالآباء الذين هم أملك بهم من الأوصياء؟ وإنما الأوصياء بسبب الآباء، ويدل أيضا على أن البكر وإن دخل بها زوجها فهي محمولة على السفه حتى يثبت(12/270)
رشدها، وهو قول مالك في الموطأ والمدونة، وفي الواضحة من رواية مطرف عنه أنها في ولاية أبيها حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويعرف من حالها، أي: يشهد العدول على صلاح أمرها، فهي على قول مالك هذا ما لم تنكح ويدخل بها زوجها في ولايته مردودة أفعالها وإن علم رشدها، فإذا دخل بها زوجها حملت على السفه وأقرت في ولايته وردت أفعالها ما لم يظهر رشدها.
وقد اختلف في الحد الذي تخرج به الجارية من ولاية أبيها اختلافا كبيرا تتحصل فيه ثمانية أقوال، قد ذكرتها في مسألة ملخصة في هذا المعنى ليس هذا موضع ذكرها، وقوله فيها: المرأة أبدا في ولاية أبيها وإن رضي حالها يجوز عليها أمره وينفذ لها حكمه من تزويج أو غيره - ظاهره: وإن عنست، وقد قيل: إنها إذا عنست وبلغت الخمسين سنة فلا تجوز حيازته لها ولا تزويجه إياها إلا برضاها، فإن زوجها بغير رضاها لم يفسخ، قاله مالك ورواه أصبغ عن ابن القاسم في كتاب ابن المواز لأبي زيد عن ابن القاسم مثله في الستين سنة، وقد قيل: إن حد تعنيسها أربعون سنة، فهي على القول بمراعاة التعنيس بعد التعنيس محمولة على الرشد مجوزة أفعالها ما لم يعلم سفهها، وقيل: مردودة أفعالها وإن علم رشدها، بخلاف الرجل؛ لأن الرجل بعد البلوغ محمول على الرشد حتى يعلم سفهه، وقيل: على السفه حتى يعلم رشده، فيفترق الرجل من المرأة في هذا الوجه كما قال في الرواية ويتفقان في جواز حيازة الأب عليهما جميعا.
وقوله: إن كان من تصدق عليه أو حبس عليه صغارا وكبارا ... إلى آخر قوله - هو مثل قوله في المدونة في مساواته بين الحبس والصدقة في أنه إذا حبس على صغار وكبار أو تصدق على صغار وكبار فلم يقبض الكبار لأنفسهم وللصغار ما حبسه عليهم أو تصدق به عليهم لم يجز من ذلك للصغار شيء خلاف رواية علي بن زياد عن مالك في المدونة في تفرقته في ذلك بين الحبس والصدقة فأبطل نصيب الصغار في الحبس وأجازه في الصدقة، ومثل رواية علي بن زياد(12/271)
عن مالك في أن نصيب الصغار يجوز في الصدقة، روى أشهب عنه في كتاب الصدقات والهبات في رسم الوصية، وقاله ابن وهب أيضا في سماع عبد الملك من الكتاب المذكور، فلا اختلاف في أن نصيب الصغار يبطل في الحبس إذا لم يحزه الكبار، قال ابن حبيب في الواضحة، عن المدنيين والمصريين جميعا: إلا أن يكون الأب قسم ذلك في أصل التحبيس والصدقة أو بعده فحاز نصيب الصغار فإنه يجوز لهم ما حازه لهم، وفي ذلك نظر سنذكره إن شاء الله في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات.
ووجه تفرقة مالك في ذلك بين الحبس والصدقة هو ما قاله في رواية علي بن زياد عن مالك في المدونة من أن الحبس لا يقسم ولا يجزأ، والمعنى في ذلك عندي: أن الحبس ليس للصغار منه جزء معلوم فتصح قسمته بينهم وبين الكبار؛ لأنه كلما مات منهم ميت من الصغار أو الكبار رجع حظه على من بقي منهم، فلما لم يكن حظ الصغار منهم معروفا لم يكن الأب حائزا له، ولو كان الحبس على ابنين له بأعيانهما أحدهما صغير والآخر كبير فلم يحز الكبير منهما الحبس لوجب أن يجوز حظ الصغير من ذلك عند مالك على القول؛ لأن من مات منهما لا يرجع حظه على صاحبه ويرجع إلى المحبس أو إلى أقرب الناس به، وقاس ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصدقة والهبة على قول مالك في الحبس فأبطل نصيب الصغار منه إذا لم يحزه الكبار، والمعنى في ذلك عنده أنه لما تصدق على من يحوز له وعلى من يحوز لنفسه وقد علم أن من حق الذي يحوز لنفسه أن يقاسمه فيحوز لنفسه كان إنما تصدق على أن يحوز لبنيه الصغار مقسوما فلم يجز أن يحوز لهم مشاعا وأجاز أن يحوز لبنيه الصغار مشاعا ما وهبه لهم مشاعا إذا لم يعمل على أن يحوز لهم مقسوما، فأجاز إذا تصدق عليهم بنصف غنمه أو دوابه وأبقى النصف الثاني لنفسه أو وهبه في السبيل أن يحوز لهم النصف الذي تصدق به عليهم على الإشاعة إذ لم يعمل على أن يحوزه لهم مقسوما.(12/272)
ومعنى ما ذهب إليه مالك أنه أجاز أن يحوز لبنيه الصغار على الإشاعة ما وهبه لهم أو تصدق به عليهم على الإشاعة، كانت إشاعتهم مع نفسه أو مع من يقوم بالحيازة لنفسه من كبير أو مع من لا يقوم بها لنفسه مثل السبيل أو المساكين غير المعينين، وأصبغ لا يجيز أن يحوز لبنيه الصغار ما تصدق به عليهم أو وهبه إياهم مشاعا إلا مقسوما بكل حال، كانت إشاعتهم مع نفسه أو مع من يقوم بالحيازة لنفسه من كبير أو مع من لا يقوم بها من سبيل أو مساكين غير معينين على ما يأتي في رسم البيوع من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات، فهي ثلاثة أقوال: قول مالك وقول ابن القاسم وقول أصبغ.
والحبس خارج عن هذا كله لا اختلاف في أنه إذا حبس على بنيه الصغار والكبار فلم يحز الكبار يبطل نصيب الصغار من أجل أن القسمة فيما بينهم لا تصح من أجل أنه لا يثبت نصيبهم على شيء واحد.
واختلف قول مالك فيمن تصدق على ابنه الصغير بعدة من غنمه أو خيله دون مسماة ولا موسومة فمرة رآها كالجزء المشاع لأن الحكم يوجب له الشركة فيها بما يقع للمتصدق بها من جملتها، فأجاز حيازتها له وإن لم يقسمها ولا وسمها.
ومرة لم يرها كالجزء المشاع، إذ ليس لشريك له فيها حتى يشتركا فيها، فلم يجز حيازته له فيها حتى يقسمها ويسميها أو يسمها، فمن لم يجز حيازته له إذا وهبه جزءا إلا بعد المقاسمة فأحرى ألا يجيز حيازته له إذا وهبه عددا إلا بعد المقاسمة، ومن حيازته له إذا وهبه عددا فأحرى أن يجيزها له إذا وهبه جزءا، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: إجازة حيازته له في الموضعين والمنع من ذلك في الموضعين والتفرقة بينهما، وبالله التوفيق.
وقد اختلف إذا تصدق على بنيه الصغار والكبار فحاز الكبار لأنفسهم وحاز هو للصغار، فروى عن ابن القاسم أنه يبطل كله، وهو على أصله الذي ذكرناه. وقال ابن المواز: يجوز كله. وهو الذي يأتي على أصل مالك الذي ذكرناه.(12/273)
واختلف أيضا إذا تصدق رجل على رجل بنصف أرضه على الإشاعة. فقال ابن القاسم في تفسير ابن مزين: هي حيازة، ولم يرها أصبغ حيازة. وذلك على أصله الذي ذكرناه عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يحوز للصغير ما وهبه إلا الأب والوصي]
مسألة قال ابن القاسم: ومن تصدق على صغير أو سفيه أو أحد ممن تولى عليه بصدقة من أم أو أخ أو قريب أو بعيد فحاز ذلك له وأشهد عليه فإن ذلك باطل لا يجوز إلا أن يكون وصيا فيكون حوزه له حوزا أو يضعه له على يدي غيره ويبينها عن نفسه فيكون لهم حوزا جائزا ماضيا، وليس ينزل أحد بمنزلة الأب في هذا إلا من يلي السفيه ممن يوصي إليه، فالوصي في ذلك بمنزلة الأب في الحوز لهم والقيام بصدقاتهم ثم يكون حائزا لهم ماضيا عليهم. قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب المعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أنه لا يحوز للرجل ما وهبه إلا أب أو وصي، وفي رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات من قول ابن وهب إنه لا يحوز للصغير ما وهبه إلا الأب والوصي، والأم إذا كان يتيما في حجرها وإن لم يكن موصا إليها بمنزلة الوصي، والأجداد بمنزلة الأب إذا لم يكن أب وكان في حجر الجد يليه، والجدات بمنزلة الأم إذا لم تكن أم وكان في حجر الجدة تليه، قال: وأما من سوى هؤلاء فلا يكون حوزه حوزا للصغير إلا أن يبرأ به إلى رجل يليه للصغير.
وفي سماع عبد الملك من كتاب الوصايا أن كل من ولي يتيما من قريب أو بعيد فإنه يحوز له ما وهب له، ومثله من بيده اللقيط، ورواه ابن غانم عن مالك، ونحوه في كتاب القسمة من المدونة أن الرجل تجوز مقاسمته على من التقطه، وأنزل في النكاح الأول من المدونة الحاضن والمربي للجارية في حياة الأب بمنزلة وكيل الأب، فرأى(12/274)
تزويجه إياها جائزا عليها بغير إذنها.
قاله في مسألة رجال من الموالي يأخذون صبيانا من صبيان العرب تصيبهم السنة فيكفلون لهم أبناءهم ويربونهم فتكون فيهم الجارية.
وذكر ابن حبيب المسألة على خلاف ما وقعت في المدونة، فقال: فتكون فيهم الجارية قد مات أبوها وغاب أهلها، فإن الذي كفلها ورباها أولى بعقد نكاحها يريد من ولاتها، فأنزله بمنزلة الوصي وذلك نحو ما في كتاب القسمة من المدونة ورواية ابن غانم عن مالك، ومثله لابن كنانة، سئل: عن يتيم صغير له إخوة أكابروهم الذين يلونه وينفقون عليه فزوجوه ابنة عم له، قال: ذلك يلزمه إذا كانوا هم الذين يلونه وينفقون عليه، وقال ابن القاسم: لا يلزمه ولا يتوارثان، ولا يجوز على الصبي إلا نكاح أبيه أو وصيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق بصدقة أوحبس حبسا من دار أو دور فسكن بعضها وأسلم بقيتها]
مسألة قال: وكل من تصدق بصدقة أو حبس حبسا من دار أو دور فسكن بعضها وأسلم بقيتها أو كان يليها لمن تصدق عليه بها أو حبس إذا كانوا على ما وصفت لك ممن يحوز له المتصدق أو المحبس فيحوز ذلك لهم، فإن كان الذي سكن من الدار الشيء التافه فيما حبس أو تصدق مثل الدار ذات المنازل وكثرة المرافق فسكن منها ما لا خطب له فيها لقلته وصغر شأنه جاز له ما سكن وما لم يسكن، وإن كان ذلك الذي سكنه له بال في الدار وقدر، وهو جل ذلك وأكثره لم يجز ذلك وكانت صدقة لم تقبض؛ لأن التافه اليسير إذا سكنه وأفرز بقيتها فقد أسلمها وكان ما بقي في يديه تبعا لها؛ لأنه قد أسلم جلها وعضمها وما لا خطب لمن احتبس منها معه، فلما كان ما احتبس وسكن تبعا كان ذلك كله جائزا.
وإن كان الذي احتبس وسكن أكثره وجله وأسلم أدناها وأقلها كان الذي فرز من ذلك تبعا للذي هو أكثر فكان بمنزلة من لم يسلم ولم يحز عنه، وإن كانت الصدقة أو(12/275)
الحبس دورا وكان الولد صغارا فسكن منها دارا فإنه ينظر في ذلك على ما وصفت لك في الدار ذات المنازل.
فإن كانت هذه الدار من الدور هي جل تلك الدور في القدر والثمن لم يجز ذلك الحبس، لا الدار التي سكن ولا الدور التي لم يسكن فإن كانت تلك الدار التي سكن ليست عضم ذلك في القدر ولا جله وإنما هي تبع فيما حبس جاز حبس تلك الدور كلها ما سكن وما لم يسكن.
وإن كان الولد الذين حبس عليهم تلك الدور كبارا مرضيين فكانت تلك الدار التي سكن أعظم تلك الدور كلها لم يجز تلك الدار وجازت بقية الدور إذا كان الكبار قد حازوها، وإن كانت تافهة جازت الدور كلها إذا كانوا قد حازوا الدور وإن لم يحوزوا الدور لم تجز الدار ولا الدور.
قال محمد بن رشد: قوله وإن كان الذي احتبس وسكن أكثره وجله وأسلم أدناها وأقلها كان الذي أفرز من ذلك تبعا للذي هو أكثر، فكان بمنزلة من لم يسلم ولم يحز عنه.
وهو مثل قوله في آخر كتاب الرهون من المدونة في بعض الروايات: إن الدار الواحدة إذا سكن المحبس أكثرها فسواء حاز البقية منها هو للصغار أو حازه الكبار لأنفسهم يبطل جميعها خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وأصبغ من أن الأب إذا سكن أكثر الدار وحاز الولد الكبار لأنفسهم بقيتها جاز لهم ما حازوه منها، بخلاف إذا حاز الأب للصغار كالدور الكثيرة إذا سكن الأب أكثرها وحاز الكبار بقيتها جاز لهم ما حازوه منها بخلاف إذا حازه الأب للصغار.
فعلى ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وأصبغ لا خلاف في هذا بين الدار والدور، وعلى ما في هذه الرواية وفي المدونة فرق في هذا بين الدار والدور فحصل الاختلاف من هذا الموضع في الدار الواحدة لا في الدور، وأصبغ لا يراعي التبع من غير التبع في الدور ويرى الحكم فيها وإن كانت محبسة في صفقة واحدة بمنزلة إذا حبس كل دار منها على حدة. وقد مضى بيان القول في هذه المسألة في(12/276)
أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: انقطع من البلد الذي حبس عليه فيها وكانت سكنى]
مسألة قال: وأما ما يبدأ به أهل الحبس بعضهم على بعض من غلة أو سكنى إذا كانوا جميعا محبسين عليهم. فإن ذلك ليس يكون على كثرة العدد، وإنما المبدأ بها والمقدم فيما كان من سكنى أو غلة أهل الحاجة، حيث كانوا بهم يبدأ وإياهم يؤثر، وليس يقسم ذلك بينهم أيضا على عددهم ولكن على كثرة عيال أحدهم إن كان سكنى فعلى عظم مؤنته وخفة مؤنته على قدر ما يتبع كل واحد منهم من قدره وقدر عياله، والقسم إن كانت غلة على قدر حاجتهم، وأعظمهم فيها حظا أشدهم فاقة وأظهر حاجة، فإذا سدت حاجتهم وفضل عنهم فضل رد على الأغنياء فسكن كل واحد منهم قدر ماله وكثره حاجته.
وليس العزب الفرد كالمتأهل المعيل، والحاضر أولى بالسكنى من الغائب، والغلة بين الحاضر والغائب سواء، والمحتاج الغائب أولى من الغني الحاضر.
وذلك على الاجتهاد على ما وصفت لك على ما يرى واليها والناظر فيها، ولا يخرج أحد من مسكن كان يسكنه، ومن انقطع من البلد الذي حبس عليه فيها وكانت سكنى ولم تكن غلة كان من أقام أولى منه إذا كان سكناه البلد التي خرج إليها سكنى انقطاع، وإن قدم منها لم يخرج له غيره، وإن كان القادم أحوج منه؛ لأنه لم يسكنه الذي هو فيه على وجه الضرورة، وإنما مسكنه حيث تركه القادم وانقطع عنه، ولو لم يخرج كان أولى بالمسكن ممن هو فيه وكان لا يدخل عليه وهو حاضر معه؛ لأنه أحوج، وإن لم يكن في الدار سعة.
وكذلك إذا سكن الغني وانقطع المحتاج ثم قدم لم يخرج الغني له؛ لأنه لم يدخل عليه ولكنه(12/277)
سكن بها حيث لم يكن أحد أولى بها منه، ومن مات منهم رجع حصته على أصحابه لأنه حبس عليهم جميعا حتى ينقرضوا فيصير آخرها إلى ما صيرها إليه صاحبها من سبيل الله أو غير ذلك مما سمى وشرط، وإن كان الخارج منها لم يخرج خروج انقطاع وإنما خرج لبعض ما يخرج الناس إليه من أسفارهم ثم رجع إلى بلده كان بمنزلة الحاضر من أهل الحبس.
قال محمد بن رشد: كل ما ذكره ابن القاسم في هذه المسألة من وجه قسم الحبس المعقب في السكنى والغلة هو المنصوص له المعلوم من مذهبه، وابن الماجشون يخالف في ذلك ما حكاه عنه ابن المواز، فيرى أنه لا يفضل الفقير على الغني في الحبس المعقب، كما لا يفضل في الحبس على المعينين، ويؤخذ من مذهب ابن القاسم في مسائله ما يستقرأ منه مثل قول ابن الماجشون.
وقد مضى بيان ذلك كله في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم وفي رسم البز منه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الوصي يتصدق على أحد ممن يليه وهو في حجره]
مسألة قال: وكل وصي رجل كان أو امرأة- تصدق على أحد ممن يليه وهو في حجره فحوزه له حوز بمنزلة الأب في ابنه على ما فسرت لك ووصفت.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه من أن الوصي في الحوز على من يلي ممن إلى نظره بمنزلة الأب سواء.
وإنما الاختلاف هل ينزل منزلته في ذلك سواه من قريب أو حاضر حسبما مضى القول فيه قبل هذا في هذا الرسم، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(12/278)
[: الدار الحبس على قبيلة فيأتي رجل منهم فيبني فيها الحوانيت والبيوت]
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابة قال ابن القاسم: في الدار الحبس على قبيلة فيأتي رجل منهم فيبني فيها الحوانيت والبيوت للغلة والسكنى.
قال ابن القاسم: أما السكنى فمن سكن منهم فهو أولى بما سكن مما يكفيه ولا يدخل عليه غيره.
وأما ما بنى للغلة فينبغي أن يقاضي نفسه بما يستوفي من الخراج، فيتقاضى من الخراج ما أنفق في البنيان، فإذا تقاضى ما أنفق في البنيان فالكراء بعد ذلك لجميع من حبس عليه حاضرهم وغائبهم، ويؤثر بذلك أهل الحاجة منهم والمسكنة.
فإن بقي بعد ذلك شيء قسم بين الأغنياء، فإن جاء رجل فأراد أن يدخل مع الذي بنى في الغلة فإنه يغرم للذي بنى نصف ما بقي له من حقه ويدخل معه فيه فيكون في يديه نصف ما بقي للغلة يأخذ غلتها ويقاص نفسه حتى يستوفي حقه، فإذا استوفى حقه كانت الغلة بين من حسبت عليه على ما وصفت لك. فهذا وجه الحبس.
فإن كانت القاعة لا كراء لها قبل البناء، قال: نعم وإن كانت القاعة لا كراء لها قبل ذلك فإن غلة الحوانيت والدور التي بنى بها يقاص بها نفسه من يوم أخذ لها غلة جاءه أحد أو لم يجئه.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة فيكون في يديه نصف ما بقي للغلة، صوابه: فيكون في يديه نصف ما بنى للغلة وكذلك في بعض الرواية. وهي مسألة بينة لا إشكال فيها ولا التباس في شيء من معانيها.
وقال ابن دحون: إنه يدخل فيها جميع الاختلاف الذي في الرحا تخرب فيبنيها بعض أهلها والبير تتهور فيصلحها بعض أهلها. ولا يدخل فيه جميع ذلك الاختلاف كما ذكره. وإنما يدخل فيها أكثره فيدخل فيها من ذلك الاختلاف القول بأن(12/279)
الغلة كذلك تكون للباني إلا أن يريد شريك أن يدخل معه فيها فيأتيه بما يجب عليه من النفقة التي أنفق أو من قيمتها على الاختلاف في ذلك. وهذا إذا أراد الدخول معه بحدثان ما بنى.
وأما إن لم يرد الدخول معه حتى بلي البنيان فلا يلزمه أن يدفع إليه إلا ما ينوبه من قيمة البنيان على حالته التي هو عليها من البلا قولا واحدا.
وقد مضى وجه العمل في ذلك في نوازل عيسى من كتاب السداد والأنهار، فإن كان للحبس كراء قبل أن يبنى فيه هذا البناء كان على الباني لإشراكه في الحبس ما يجب لهم من ذلك الكراء، ولا اختلاف في هذا، وإن كان لم يكن للحبس كراء قبل أن يبني.
فيدخل فيها الاختلاف الذي في الرحا الخربة يبنيها بعض الأشراك على هذا القول، هل يكون عليه فيها كراء أم لا؟ وقد مضى فيها توجيه هذا الاختلاف في النوازل المذكورة.
ولا يدخل في هذه المسألة قول محمد بن إبراهيم الذي في الرحا الخربة يبنيها بعض الأشراك إن الغلة تكون بينهم فيكون للعامل منها بقدر ما أنفق وبقدر ما كان له فيها قبل أن ينفق، والذي لم يعمل منها بقدر ما له من قاعتها؛ لأن الحبس ليس بملك للمحبس عليهم فيشتركون فيه على ما ذكره في الرحا الخربة بين الأشراك. وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: حبس في مرضه فقال على ولدي وولد ولدي وترك زوجه وأمه]
ومن كتاب القطعان قال يحيى: وسألت ابن القاسم عمن حبس في مرضه فقال على ولدي وولد ولدي وترك زوجه وأمه وغيرهم من الورثة، فقال: يقسم بين أعيان الولد وولد الولد ذكرهم وأنثاهم شرعا سواء على(12/280)
عددهم للذكر مثل حظ الأنثى، فما صار لولد الولد أسلم إليهم لأنهم ليسوا بورثة المحبس، فجازت الوصية لهم، وما كان من ولد الأعيان شركهم من ورث الميت المحبس من امرأة أو أم أو ولد أو غيرهم يقتسمون ذلك بينهم على قدر مواريثهم من فرائض الله.
وتفسير ذلك أنه إن كان ولد الولد أربعة وولد الأعيان ثلاثة قسم الحبس على سبعة أجزاء فأعطي ولد أربعة أجزاء، وأعطى ولد الأعيان ثلاثة أجزاء، ثم رجع جميع من ورث المحبس من أم أو ولد أو زوجة أو غيرهم فيقتسمون تلك الثلاثة الأجزاء على مواريثهم من الميت؛ لأنها وصية لوارث، ولا تجوز وصية لوارث.
غير أن ذلك يكون حبسا في أيديهم ولا يبيعون ولا يهبون حتى تنقطع أعيان الولد لأنه قد جعل مرجعه إلى غير وارث وهم ولد الولد، فإذا انقطع ولد الأعيان رجع جميع ذلك الحبس إلى ولد الولد، فإن مات أحد من ولد الأعيان أو ولد الولد رجع نصيبه على من بقي من ولد الأعيان وولد الولد فاقتسموه أيضا ثانية، فما صار لولد الولد أسلم إليهم وما صار لولد الأعيان دخل فيه جميع من ورث الميت من الأعيان وغيرهم، فيقتسمونه بينهم على قدر مواريثهم من الميت.(12/281)
وتفسير ذلك أن الحبس قسم أولا على سبعة أجزاء فكان لأعيان الولد ثلاثة أجزاء، فقسمت تلك الثلاثة الأجزاء على جميع ورثة المحبس، فإذا مات واحد من ولد الأعيان وقسم سهمه الثانية فإنه يقسم سهمه ذلك الذي صار له من السبعة الأجزاء على ستة أجزاء، فيكون لولد الولد أربعة أجزاء ولولد الأعيان اثنان؛ لأنهما الآن اثنين، ثم يقسم الجزآن اللذان صارا لولد الأعيان على الميت من ولد الأعيان وعلى الباقين منهم وعلى جميع من ورث الميت المحبس فما كان للباقين أخذاه، وما صار للميت من أعيان الولد دفع إلى ورثته فاقتسموه بينهم على فرائض الله، يدخل فيه امرأته وأخته وأمه وجميع من يرثه فيستمتعون بذلك ما عاش واحد من أعيان الولد، ويضرب ولد هذا الميت من أعيان الولد في هذا السهم الذي مات عنه أبوه بسهمين، سهم مع المحبس عليهم من ولد الولد وولد الأعيان، وسهم مع ورثة أبيه الميت فيما صار لأبيه من السهمين اللذين صارا لولد الأعيان حين قسم على ورثة المحبس.
فإن مات أحد من ورثة المحبس من غير ولد الأعيان أو واحد من ورثة الابن الميت من أعيان الولد.
فإن مات منهم فسهمه بين من يرثه من أهل ميراثه من أم أو زوجة أو غيرهم على فرائض الله لا يدخل فيه غيرهم، ولا تنتقض القسمة بموت من مات منهم لأنهم ليسوا ممن حبس عليهم.
فإن مات أحد من ولد الأعيان فإن سهمه لا يرثه ورثته وإنما يرجع على من حبس عليه معه، فإذا مات على ما وصفت لك، وولد الأعيان ثلاثة وكان ولد الولد أربعة فمات منهم هذا الواحد وصاروا ثلاثة فإن سهمه الذي صار له من السبعة الأجزاء(12/282)
يقسم على ستة أجزاء فيعطي ولد الولد ثلاثة وولد الأعيان ثلاثة، فما صار لولد الأعيان دخل فيه جميع من ورث المحبس ميتا كان أو حيا فاقتسموه على فرائض الله، فما صار للأحياء من ورثته أخذوه، وما صار للميت من ورثته دفع إلى ورثة الميت فاقتسموه بينهم على مواريثهم منه.
وكل ما ولد لولد الولد أو ولد الأعيان الولد فإن القسمة تنتقض وتقسم على عدد ولد الولد وولد الأعيان قلوا أو كثروا ولو لم يبق من أعيان الولد إلا واحد وقد صار ولد الولد عشرة فإن الحبس يقسم على أحد عشر فيكون للباقي من ولد الأعيان جزء، ولولد الولد عشرة أجزاء.
فعلى هذا يقسم الحبس أبدا على ما فسرت لك، ولا تنتقض القسمة بموت من مات من أعيان الولد ولا من ولد الولد، وإنما يقسم سهمه قط على ما فسرت لك.
وليست تنتقض القسمة إلا إذا زاد ولد الولد فإنها تنتقض وتقسم ثانية على من زاد وعلى من هو في الحبس ممن هو حي، فما صار لمن بقي من أعيان الولد دخل في ذلك جميع من ورث المحبس ميتهم وحيهم فما صار للحي منهم دفع إليه، وما صار للميت دفع إلى ورثته، وورثته ورثته على ما ينوبهم فيه، فإذا مات جميع ولد الأعيان سقط هؤلاء كلهم، ورجع الحبس كله إلى ولد الولد أو إلى أقرب الناس بالمحبس من عصبته إن لم يبق أحد من أعيان الولد ولا من ولد الولد.
وسئل: عنها سحنون، فقيل له: الرجل يحبس على ولده وولد ولده وله أم وزوجة هلكوا؟ قال: هذه من حسان المسائل وقل من يعرفها، وأصلها في كتاب ابن القاسم في غير موضع، فهي في(12/283)
بعض الكتب خطأ وفي بعضها صواب والصواب فيها أنه ينظر كم ولده وولد ولده؟ فإن يكن ولده ثلاثة وولد ولده ثلاثة وحالهم واحدة قسمت الحبس على ستة أسهم، فلولد الولد ثلاثة أسهم، وهو النصف، ولولد الأعيان النصف، ثم يقسم نصيب الأعيان على فرائض الله، فتأخذ الأم السدس والزوجة الثمن ويكون ما بقي لولد الأعيان فإن انقرض ولد الولد قبل ولد الأعيان رجع ما كان في أيديهم إلى أقرب الناس بالمحبس وهم ولد الأعيان فكان في أيديهم على سنة الحبس، وليس للأم ولا للزوجة فيه شيء؛ لأن وصية الميت نفذت لهم وسقطت المحاباة؛ فإذا انقرضوا رجع ما كان في أيديهم ويد الأم والزوجة إلى أولي الناس بالمحبس الأول، وإن مات واحد من ولد الأعيان أخذ ما في يديه فاقتسم على فرائض الله، فللأم سدسه، وللزوجة ثمنه، ولولد الأعيان ما بقي. فإن هلك الثاني أخذت الأم مما في يديه سدسه، وللزوجة ثمنه.
وإن هلك الثالث نزع ما في يد الأم والزوجة وما كان في يد الولد ورجع إلى أولى الناس بالمحبس وإنما يقاسم الأم والزوجة ولد الأعيان إذا هلك الأول وبقي اثنان.
وإذا هلك الثاني وبقي واحد أخذ ما في أيديهم من النصف الأول الذي صار لهم، وأما ما رجع إليهم من حق ولد الولد فإن ذلك لا تدخل فيه الأم والزوجة لأن ذلك مما يرجع إليهم من وصية قد أنفذت لوجهها ولم يكن فيها محاباة لوارث.
ألا ترى لو أن رجلا أوصى لولد ولده بدار حبس عليهم وله ولد لصلبه وأم وزوجة لكانت نافذة لهم لأنهم غير ورثة ولم يكن للزوجة فيها وصية مقال ولا للأم، فلو هلكوا كلهم ولد الولد رجع كل ما بأيديهم إلى أولى الناس(12/284)
بالمحبس وهو ولده لصلبه ولم يكن للأم ولا للزوجة مقال.
ألا ترى أنه لو أوصى لولد ولده بثلث ماله وصية لهم يكون لهم مال ويأكلونه وينتفعون به وله ولد وأم وزوجة لكانت وصية جائزة لهم لأنهم غير ورثة، ولم يكن للأم ولا للزوجة كلام، ولو هلك ولد الولد لكان ما كان لهم مما أوصى به جدهم لهم ميراثا لولده لصلبه، ولم يكن للزوجة ولا للأم كلام. وقد فسرتها لك وجها وجها، وهي من حسان المسائل.
وقد قيل: إن مات ولد الولد وبقي ولد الأعيان أو واحد من ولد الأعيان فإن نصيبهم الذي كان لهم يرجع إلى ولده لصلبه.
وكذلك الواحد منهم يقسم نصيبه على من بقي من ولد الولد وولد الأعيان فما صار لولد الأعيان أحد قائم.
فإذا انقرض ولد الأعيان وقد كان صار إليهم ما كان لولد الولد كلهم أو ما صار إليهم من نصيب الواحد منهم مما أدخلنا في جميع ما رجع إليهم نصيب الزوجة والأم فإذا مات ولد الأعيان كلهم رجع ما في أيديهم ويد الزوجة إلي أولى الناس بالمحبس، وهذا الذي عليه أكثر الرواة، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: الحبس في المرض على الولد وولد الولد وصية لوارث وغير وارث؛ لأن الولد ورثة، وولد الولد غير ورثة، وحكم الحبس على الولد وولد الولد أن يرجع حظ من مات منهم على بقيتهم.
فالوصية للوارت في هذا التحبيس تقل بموت من ولد الولد وتكثر بموت من يموت من ولد الولد ولسائر الورثة مع الولد أن يدخلوا عليهم فيما صار لهم من هذا الحبس قل أو كثر، فيكون بينهم على سبيل الميراث إذ لا تجوز وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة، فإن كان الولد ثلاثة وولد الولد أربعة على ما نزل(12/285)
المسألة عليه في الرواية فقسم الحبس بينهم أسباعا إن استوت حالتهم على المشهور من مذهب ابن القاسم أو استوت أو لم تستو على ظاهر هذه الرواية وهو مذهب ابن الماجشون على ما حكاه ابن المواز، وجب لسائر الورثة الدخول على الولد في الثلاثة الأسباع، على سبيل الميراث.
وكذلك إن مات واحد من ولد الولد فقسم حظه [من الحبس على بقيتهم] يدخل سائر الورثة أيضا على [الولد فيما نابهم] ، من حظ الميت فيكون بينهم على سبيل الميراث.
وكذلك إن مات الثاني من ولد الولد ثم الثالث ثم الرابع، كلما مات منهم ميت يدخل سائر الورثة فيما ناب الولد من حظ الميت من ولد الولد، فإذا لم يبق من ولد الولد أحد رجع جميع الحبس ميراثا بين جميع الورثة، ومن مات منهم كان حظه لورثته ما بقي من الولد أحد.
فإذا انقرض جميعهم بموت آخرهم رجع الحبس كله إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا وسقط منه حق جميع الورثة وورثة الورثة.
وأما إن مات من الولد أحد قبل موت ولد الولد وقد كان الحبس قسم أولا على سبعة أسهم، فحصل منه للولد ثلاثة أسهم أخذت منها الزوجة الثمن والأم السدس.
فقال في الرواية: إنه يقسم سهمه ذلك الذي صار له من السبعة الأجزاء على ستة أجزاء، فيكون لولد الولد أربعة أجزاء ولولد الأعيان جزآن؛ لأنهما الآن اثنان.
ثم يقسم الجزآن اللذان صارا لولد الأعيان على الميت من ولد الأعيان وعلى الباقين منهم وعلى جميع من ورث الميت المحبس.
فما كان للباقين أخذاه وما صار للميت من أعيان الولد دفع إلى ورثته فاقتسموه بينهم على فرائض الله يدخل فيه أمه وأخته وجميع من يرثه فيستمتعون بذلك ما عاش واحد من أعيان الولد.
وفي قوله: فيستمتعون بذلك ما عاش واحد من أعيان الولد - نظر، إذ لا يستمتعون بجميعه(12/286)
ما عاش واحد من أعيان الولد كما قال؛ لأنه إذا مات واحد من أعيان الولد بعد ذلك وجب أن يردوا مما صار لهم ما يجب لهم من ذلك لولد الولد، وإنما يستمتع كل من صار بيده من الورثة شيء من الحبس بجميع ما صار له ما بقي أحد من أعيان الولد إذا مات جميع ولد الولد يرجع جميع الحبس إلى الولد حسبما ذكرناه.
وقال ابن دحون: قوله إذا مات أحد ولد الأعيان فقسم حظه على من بقي من ولد الأعيان وعلى ولد الولد إن الجزأين اللذين صارا لولد الأعيان يقتسمان على الميت من ولد الأعيان وعلى الباقين منهم وعلى جميع الورثة غلط، بل يرد الورثة كل ما بأيديهم إلى الجزأين ويقتسمون ذلك على فرائض الله.
وإنما قال ابن دحون ذلك؛ لأنه تأول على ابن القاسم أن الواحد من ولد الأعيان إذا مات يؤخذ جميع ما بيده فيضاف إليه ثلث سدس الأم وثلث ثمن الزوجة فيصير سبعا تاما، ثم يقسم هذا السبع على ما ذكر في الرواية، ولذلك قال: إن قوله يقسم الجزآن غلط، بل يرد الورثة كل ما بأيديهم إلى الجزأين ويقتسمون ذلك على فرائض الله كما تأول أبو إسحاق التونسي على ما في المدونة، وهو تأويل خطأ تفسد به المسألة.
والصواب الذي يصح أن يحمل عليه ما في الرواية أن الواحد من ولد الأعيان إذا مات لا يؤخذ جميع ما في يديه، وإنما يؤخذ سهمه الذي صار له من السبعة الأجزاء حين قسم الحبس على ولد الأعيان وعلى ولد الولد مما بيده ومما بيد الباقين من ولد الأعيان ومما بيد الأم والزوجة؛ لأنه قد قسم ذلك عليهم أجمعين مع السبعين الآخرين اللذين كانا صارا لولدي الأعيان، فيأخذ مما بيد كل واحد منهم ثلثه؛ لأن ولد الأعيان ثلاثة فيكمل السبع على هذا ثم يقسم هذا السبع على الباقين من ولد الأعيان وعلى ولد الولد، فما ناب ولد الأعيان منه قسم على الميت من ولد الأعيان وعلى الباقين منهم وعلى الأم والزوجة، فما ناب الميت من ولد(12/287)
الأعيان كان لورثته مضافا إلى ما كان بقي بيد الميت موروثهم، وما ناب الباقين من ولد الأعيان والأم والزوجة كان لهم مضافا إلى ما كان بقي في أيديهم، فيتساوون على هذا في جميع ذلك على قدر مواريثهم كما يتساوون في بعض القسم على ما روى يحيى.
وفي رد الورثة كل ما بأيديهم إلى الجزأين واقتسام ذلك كله على جميع الورثة إذا أخذ جميع ما في يد الميت من ولد الأعيان على تأويلهما الفاسد والله الموفق للصواب برحمته.
وقول ابن القاسم إذا مات واحد من ولد الولد إن ما صار من حظه لولد الأعيان دخل فيه جميع من ورث المحبس ميتا كان أو حيا فاقتسموه على فرائض الله ... إلى آخر قوله.
هو خلاف مذهب سحنون في أن ما صار لأعيان الولد من قبل ولد الولد لا يدخل فيه الورثة؛ لأنه إنما يصير إليه بمرجع الحبس لا بالوصية، وقد قيل: إن سحنون إنما يقول ذلك إذا مات جميع ولد الولد.
وأما إذا مات واحد منهم فيدخل الورثة فيما صار إلى ولد الأعيان من قبله، والرواية عنه منصوصة بخلاف ذلك أن الورثة لا يدخلون فيما صار لأعيان الولد من قبلهم مات جميعهم أو واحد منهم.
وقوله في هذه الرواية: إن القسمة لا تنتقض بموت من مات من ولد الأعيان ولا من ولد الولد وإنما يقسم حظه فقط، معناه: إذا كان ينقسم - خلاف ظاهر ما في سماع يحيى من أن القسمة كلها تنتقض كما إذا زاد ولد الولد، وأما إذا لم ينقسم حظ من مات من الولد أو ولد الولد على من بقي منهم فلا اختلاف في أن القسمة كلها تنتقض من أصلها كما إذا زاد ولد الولد، ورواية يحيى في أن القسمة تنتقض بموت من مات منهم ليست بمخالفة لهذه الرواية فيما تخرجه القسمة لكل واحد منهم في القلة والكثرة إذا لم تنقض، فليست بمخالفة لها إلا في صفة العمل. ورواية يحيى أولى لما في ترك نقض القسمة من التشغيب والعناء مما لا يؤدي إلى معنى.
وقول سحنون والصواب أن ينظركم ولده وولد ولده، فإن يكن ولد ولده(12/288)
ثلاثة وحالهم واحدة قسمت الحبس على ستة أسهم.
قيل: إنه تفسير لقول ابن القاسم.
وقيل: إنه خلاف له، إذ قال: إن الحبس يقسم على عددهم ولم يشترط تساوي أحوالهم.
وقد قيل: إن ابن القاسم فرق بين التحبيس في المرض لما كان بمعنى الوصية فرأى ألا يفضل فقيرهم على غنيهم، بخلاف من حبس في صحته، واتفقا جميعا أعني ابن القاسم وسحنون على ألا يفضل في هذه المسألة الولد على ولد الولد.
وذلك خلاف ما في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك مثل قول المخزومي وغيره في قوله: وكان المغيرة وغيره يستوي بينهم.
وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
وقول سحنون: فإذا انقرض ولد الولد قبل ولد الأعيان يريد أو واحد منهم على ما قاله في غير هذا الكتاب - رجع ما كان في أيديهم إلى أقرب الناس بالمحبس وهم ولده الأعيان فكان في أيديهم على سنة الحبس، وليس للأم ولا للزوجة فيه شيء؛ لأن وصية الميت نفذت لهم وسقطت المحاباة، ليس بصحيح وهو غلط بين؛ لأنه إنما يرجع إلى من معه في الحبس، وإنما يرجع الحبس إلى أقرب الناس بالمحبس إذا انقرض المحبس عليهم كلهم.
فأما ما بقي منهم قوم فذلك راجع إليهم على جهة الوصية التي لهم لا على جهة أنهم أقرب الناس بالمحبس.
وإذا كان هذا هكذا فالأم والزوجة يدخلان فيما رجع إلى ولد الأعيان من قبل ولد الولد وإن انقرضوا كلهم لأنها وصية رجعت إليهم.
وقال ابن أبي زيد في المختصر: إنما قال سحنون: إن الأم والزوجة لا يدخلان فيما رجع إلى الولد من قبل ولد الولد إذا ماتوا كلهم، فأما في موت واحد منهم فتدخل الأم والزوجة فيما يصيب ولد الأعيان من نصيب ولد الولد في قول جميعهم؛ لأن أسباب المواريث قائمة بينهم. وكذلك تأول عليه ابن دحون.
وهو تأويل لا يعضده نظر، ويرده أيضا الرواية الموجودة عن سحنون بأن الواحد منهم إذا مات فلا تدخل الأم والزوجة فيما رجع من حظه إلى ولد الأعيان.(12/289)
وقول سحنون في الرواية: وإن مات واحد من ولد الأعيان، يريد: إن مات بعد انقراض ولد الولد أخذ ما في يديه، يريد: جميع السدس الذي صار له أولا من الحبس حين قسم على الولد وولد الولد فاقتسم على فرائض الله، فللأم سدسه وللزوجة ثمنه، يريد: وقد أخذتا ذلك فلا يسترد من عندهما ولد الأعيان ما بقي، يريد: مما صار له بالميراث خاصة دون ما صار له من رجوع الحبس من قبل ولد الولد، فالذي صار إليه بالميراث هو الذي يقسم على ورثته.
وأما ما صار إليه بالرجوع عن ولد الولد فإنما يرجع إلى أخيه، فإن لم يكن له أخ رجع إلى أقرب الناس بالمحبس على مذهب سحنون، وهو غلط على ما بيناه.
وقوله فإن هلك الثاني أخذت الأم مما في يديه سدسه غلط؛ لأنه إنما تأخذ الثلث إلى أن يموت هذا الثاني عن ولد الولد.
وقول سحنون: وإنما يقاسم الأم والزوجة ولد الأعيان إذا هلك الأول وبقي اثنان وإذا هلك الثاني وبقي واحد صحيح.
وقوله بعد ذلك: أخذ ما في أيديهم، يريد: فإذا هلك ذلك الواحد الذي بقي أخذ ما في أيديهم من النصف الذي صار لهم، يريد: أنه يؤخذ منهم فيكون ميراثا عن المحبس لورثته وورثة من مات من ورثته.
وأما قوله: وأما ما رجع إليهم من حق ولد الولد فإن ذلك لا يدخل فيه الأم والزوجة؛ لأن ذلك مما رجع إليهم من وصية قد أنفذت لوجهها ولم يكن فيها محاباة لوارث ... إلى آخر قوله.
فقد بينا وجه الغلط فيه وأن قول ابن القاسم: إن الزوجة والأم يدخلان فيه - هو الصحيح؛ لأنه وصية لوارث؛ إذ لم ترجع إليهم بمرجع الأحباس وإنما رجع إليهم بحكم تحبيس المحبس عليهم.
وقع في النوادر قال سحنون في العتبية: وإذا انقرض ولد الولد وصار ما بأيديهم لولد الأعيان ثم مات واحد منهم فتأخذ الأم والزوجة ميراثهما مما(12/290)
في يديه من السدس الذي أخذ أولا مما دار إليه عن ولد الولد فما بقي قسم بين ولدي الأعيان.
قال أبو محمد: ينبغي أن يكون والله أعلم إنما أخذ أولا هذا السدس بالميراث فعند الأم سدسه وعند الزوجة ثمنه فلا يرد من عندهما لانقراض ولد الولد الذين لهم في ذلك حجة ولكن يقسم ما بيده من بقية ذلك السدس على ورثته، لأمه سدسه ولزوجته حقها الربع ولبقية ورثته ما بقي، فإن كان إخوته هذين فهو لهما، وأما ما بيده على ولد الولد وهو سدس ثان فهو كسبيل الأحباس عنده في رواية العتبي لا شيء لورثته فيه ويرد إلى أولى الناس بالمحبس وهما أخوا هذا الميت بينهما بنصفين. كما وقع قول سحنون في النوادر، وهو يبين قوله في الكتاب ففيه لبس. وقول ابن أبي زيد مفسر لقول سحنون لا خلاف له، إن شاء الله.
وقوله في آخر المسألة: وقد قيل: إذا مات ولد الولد وبقي ولد الأعيان هو قول ابن القاسم. وقد تقدم وجه تصحيحه فلم يأت سحنون في هذه المسألة بشيء؛ لأنه أخطأ فيما خالف فيه ابن القاسم وأتى في تفسيره بكلام غير بين ولا مستقيم يفتقر إلى ما بيناه به من التفسير، وبالله التوفيق.
[: حبس على بنات له حبسا]
ومن كتاب العشور قال مالك: من حبس على بنات له حبسا فبنات بنيه الذكور يدخلن مع بناته لصلبه في الحبس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بنات ابنه يقع عليهن اسم بنات في اللغة، ولهن حكم البنات في الميراث إذا لم يكن دونهن ولد فوجب أن يدخلن مع بناته لصلبه في الحبس. وقد مضى ذلك في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(12/291)
[: حبسه عليه وشرط أن مرجعه إليه ليجعله حيث يراه]
ومن كتاب الجواب قال: وسألته: عن الرجل يحبس الشيء من ماله على رجل ويستثني أن مرجعه إليه يجعله حيث شاء أو أنه يرجع مرجعه حيث شاء، ثم مرض المحبس فيجعل مرجعه وهو مريض لوارث.
قال ابن القاسم: لا يجوز ذلك للوارث ولا يجوز له منه شيء لا من رأس المال ولا من الثلث إلا أن يشاء الورثة؛ لأن مالكا قال في الرجل يخدم الرجل عبده حياته ثم يمرض المخدم فيجعله بعد مرجعه لرجل آخر بتلا. قال لي مالك: هو من الثلث لصاحب البتل.
فلما جعل مالك هذا من الثلث كان الذي جعل مرجعه في مرضه لوارث باطلا؛ لأنه مال من ماله بعد المرجع يورثه مع ما يورث، وهذه وصية لوارث فلا تجوز، إلا أن يجيزها [للوصية] الورثة.
قال محمد بن رشد: أما إذا حبس الشيء من ماله على الرجل واستثنى أن مرجعه إليه ولم يقل ليجعله حيث شاء فذلك كمسألة مالك في الإخدام سواء، إن صرف المرجع في مرضه لوارث فهو باطل، وإن صرفه لغير وارث فهو من ثلثه، يقوم فيه قيمة صحيحة إن كان قد رجع وقيمته على الرجاء والخوف إن كان لم يرجع بعد.
وكذلك إن حبسه عليه حياته ولم يشترط أن مرجعه إليه ملكا على القول بأن الحكم يوجب ذلك.
وأما إن حبسه عليه وشرط أن مرجعه إليه ليجعله حيث يراه فأصبغ يقول إن سبله فيما رأى وأحب في مرضه فهو من رأس المال، وإن سبله على وارث فهو ميراث إلا أن يمضي ذلك له الورثة، خلاف قول ابن القاسم هذا، وبالله التوفيق.(12/292)
[: يحبس دارا على بناته ويشترط أن أيتهن تزوجت فلا حق لها في الحبس]
من سماع يحيى بن يحيى
من ابن القاسم من كتاب الصبرة قال يحيى: وسألته: عن الرجل يحبس دارا على بناته ويشترط أن أيتهن تزوجت فلا حق لها في الحبس، فإن ردها طلاق زوج أو موته فهي على حقها من الحبس، فإذا متن كلهن فهي صدقة على رجل خصه من قرابته أو غيرهم أو مرجعا إلى بعد موتهم، فتزوجن كلهن فلم يجد المتصدق عليه سبيلا إلى أخذ الدار بالصدقة لبقاء البنات أو هو بما استثنى وأخرج البنات من الحبس بتزويجهن، فقلت: لمن تكون غلة الدار إلى أن يرد بعض البنات رادة من موت زوج أو طلاق أو إلى أن يمتن فتصير للمتصدق عليه أو إلى المحبس؟ فقال: أرى غلتها في تلك الفترة للمحبس إن كان استثنى مرجعها إليه وكان حيا أو لورثته إن كان ميتا، قلت له: الورثة من غير البنات؟ فقال: لا بل لأقعد الناس به ممن يرثه مع بناته ويكون لهم ولهن الغلة في تلك الفترة على حال الميراث، وليس على حال الحبس.
قلت: أرأيت إن دخلت البنات مع غيرهن من الورثة بأن لم يكن له وارث إلا بناته اللائي حبس عليهن وبقية ذلك لجماعة المسلمين أيعطيهن ثلث الغلة أم لا يرجع إليهن إلا أن يكون معهن وارث من الولد أو ولد الولد يرد ذلك عليهن؟ قال: وإن كان جعلها صدقة على رجل بعد موتهن فالغلة في الفترة للمتصدقة بها عليه ولا توقف الغلة على حال لأنك إذا أوقفتها إذا متن رددتها إلى المحبس إن كان استثنى مرجعها إليه أو إلى المتصدق بها عليه إن كان تصدق بها بعد موتهن، فإن كنت إنما توقف الغلة لموتهن ثم تدفعها إلى من تصير الدار له فحبس ذلك عد من الظلم.
قال: وإن أوقفتها فإن ردتهن رادة دفعت الغلة(12/293)
إليهن كنت كمن أجرى لهن الغلة في الحين الذي لم يكن لهن في الدار شيء، فأحب ذلك أن تدفع الغلة في الفترة معجلة إلى من استثنى المحبس مصير الدار إليه بعد موتهن.
قلت: أرأيت إن كان إنما جعلها حبسا على الرجل بعد موت البنات أيعطي الغلة أيضا في الفترة كما أعطيها حين ابتلت له بالصدقة.
قال محمد بن رشد: لم يجب ابن القاسم من هذه المسألة في موضعين:
أحدهما: إذا تزوج البنات كلهن وقد استثنى المحبس مرجع الدار إليه بعدهن. فقال: إن الغلة تكون في تلك الفترة للمحبس إن كان حيا بما استثنى من مرجع الحبس إليه أو لورثته إن كان ميتا: بناته المتزوجات وغيرهن على سبيل الميراث، فسأله: إن لم يكن له وارث معهن غير جماعة المسلمين أيكون لهن ثلث الغلة أو لا يكون لهن منها شيء إلا أن يكون معهن وارث من الولد أو ولد الولد للمحبس، يرد ذلك عليهن؟ فلم يجب على ذلك.
والجواب عليه: أنه يكون لهن ثلثا الغلة، والثلث لجماعة المسلمين لأنهم هم الوارثون للمحبس معهن، ولا إشكال في ذلك على مذهبه.
والموضع الثاني: إذا جعل الدار بعد البنات حبسا على رجل لا صدقة مبتلة هل تكون الغلة له في تلك الفترة وهي ما دامت البنات متزوجات، والجواب في ذلك: أنها تكون له على ما وقع من رواية ابن القاسم عن مالك في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى، وقد مضى هذا الكلام هناك على معاني هذه المسألة، فلا معنى لإعادته.
ويدخل في تحبيس الرجل داره على بناته بنات بنيه الذكور حسبما مضى في رسم العشور من سماع عيسى قبل هذا، وقد مضى بيانه، وبالله التوفيق.(12/294)
[: الدار تقسم على عدد الولد الذكور والإناث وولد الولد الذكور والإناث شرعا سواء]
ومن كتاب الصلاة وسئل: عن رجل حبس منزلا له في وصيته على ولده وولد ولده فإذا انقرضوا فهي حبس في سبيل الله واستثنى أيما امرأة تزوجت من بناته أو بنات بنيه فلا حق لها في الحبس إلا أن تردها رادة من موت زوج أو طلاقه.
فقال: إن وسع ذلك الثلث قسم المنزل على عدد الولد الذكور والإناث وولده، الولد الذكور والإناث شرعا سواء فما صار لولد الولد ولهم خاصة لا يدخل معهم فيه أحد من ورثة الموصي، وما صار لأعيان ولد الموصي من قسمة الدار المحبسة دخلت عليهم فيه أم الميت وزوجته وكل من ورثه فاقتسموه على كتاب الله؛ لأنه أوصى لوارث.
قال: فإن تزوج من أعيان بنات الميت المحبس دنية أخذ القسم بينهم ثانية فقسم بين الأعيان أجمعين ما عدا المتزوجة وولد الولد وأنزلت المتزوجة كأن لم تكن من بنات الميت، فما صار من ذلك لولد الولد فلهم خاصة لا يدخل عليهم فيه أحد من ورثة الميت، وما صار لأعيان ولد الميت دنية قسم بينهم وبين جميع من ورث الميت على كتاب الله، ودخلت معهم الابنة المتزوجة لأن الذي استثنى عليها أبوها لا يخرجها من حقها من الميراث.
وإنما يطرح عندما يقسم المنزل بين أعيان ولد الميت وولد ولده ليستكمل ولد الولد وصاياهم المحبسة عليهم.
قال: فإن ردت الابنة رادة كانت على حقها في السكنى وأعيد أيضا القسم ثالثة فعدل الحبس بين من حبس عليه شرعا سواء ولد الأعيان جميعا وابنته الرابعة معهم وولد الولد كلهم، فما صار لولد الولد من(12/295)
ذلك لم يدخل عليهم فيه غيرهم، وما صار لأعيان الولد الابنة المردودة وغيرها فهو يقسم على جميع ورثة الميت على كتاب الله.
قال: من تزوج من بنات البنين سقط أيضا حقها من السكنى وأعيد القسم بينهم على ما فسرت لك، وألغيت المتزوجة من بنات الأبناء من القسم وأنزلتها كأن لم تكن، فإن ردتها رجعت على حقها من السكنى وأعيد القسم من أجل رجوعها بين ولد الولد وأعيان ولد الميت، وكلما أعيد القسم بتزويج ابنة أو ابنة ابن أو لرجوعها فإن ما حصل لولد الولد لا يدخل عليهم فيه غيرهم، وما حصل لأعيان الولد يدخل فيه معهم جميع ورثة الميت.
قال: وإن مات أحد من أعيان ولد الميت أعيد القسم وطرح الهالك، فإذا أعطى ولد الولد حقهم نظر إلى ما صار لأعيان الولد فقسم عليهم وأعيد سهم الهالك معهم وجميع من ورث.
فما صار في القسمة للهالك اقتسمه كل من ورث الهالك من أعيان ولد الميت من كانوا على كتاب الله.
وكلما انقرض من أعيان ولد الميت أحد أعيد القسم على ما فسرت لك، وجعل حظ الهالك لورثته حتى ينقرض أعيان ولد الميت أجمعون.
فإذا لم يبق منهم أحد فبقي ولد الولد سقطت مواريث كل من ورث بانقراض أعيان ولده، وصار الحبس إلى ولد الولد يقسم بينهم على ما حبسه جدهم، ومن مات من ولد الولد رجع حقه على من بقي ما بقي منهم أحد أو من أهل الحبس معهم أحد. فإذا انقرض جميع من حبس عليه صارت إلى ما حبسها عليه الميت من سبيل الله.
قال: وإن انقرض ولد الولد قبل أعيان الولد رجع الحبس كله إلى أعيان الولد فقسم بينهم وبين من ورث الميت على فرائض الله.
فإذا انقرض أعيان الولد كلهم سقطت حقوق أهل المواريث(12/296)
كلها ورجعت حبسا في سبيل الله.
قال محمد بن رشد: قوله إن الدار تقسم على عدد الولد الذكور والإناث وولد الولد الذكور والإناث شرعا سواء، هو مثل ما تقدم له في رسم القطعان من سماع عيسى. وظاهره وإن اختلفت أحوالهم.
وقيل: معناه إن استوت أحوالهم. قاله سحنون وإليه ذهب ابن المواز، وإنما تقسم الدار على عددهم كما قال: إذا لم يكن بد من ذلك، مثل أن يكون عددهم خمسة أو سبعة أو أحد عشر أو ثمانية والولد الذي للصلب واحد أو كلهم للصلب إلا واحدا أو تسعة أربعة منهم للصلب أو خمسة وما أشبه ذلك.
وأما إن كان الذين للصلب منهم أربعة وولد الولد أربعة فإنما تقسم الدار بينهم بنصفين فيدخل في النصف الذي صار للولد الأعيان جميع ورثة المحبس، وسكن ولد الولد في النصف الذي صار لهم منها إن حملهم السكنى، فإن لم يحملهم السكنى أكري واقتسم بينهم الكراء بالسواء للذكر مثل حظ الأنثى، والنصف الثاني الذي صار لولد الأعيان يكون بين جميع الورثة على سبيل الميراث إن لم يتفقوا على سكناه اقتسموا كراءه على حسب الميراث.
وقوله: فإن تزوج أحد من أعيان بنات الميت المحبس دنية أعيد القسم بينهم ثانية فقسم بين الأعيان أجمعين ما عدا المتزوجة وولد الولد وأنزلت المتزوجة كأن لم تكن من بنات الميت، فما صار من ذلك لولد الولد فلهم خاصة لا يدخل عليهم فيه أحد من ورثة الميت، وما صار لأعيان ولد الميت دينه قسم بينهم وبين جميع من ورث الميت على كتاب الله، ودخلت معهم الابنة المتزوجة لأن الذي استثنى عليها أبوها لا يخرجها من حقها من الميراث.
هو خلاف قوله المتقدم في رسم القطعان من سماع عيسى أنه لا يعاد القسم إلا إذا زاد عدد ولد الولد.
وأما إذا نقص عددهم بموت أحدهم فلا ينقض القسم وإنما يقسم حظ الميت من ولد الأعيان الذي صار له في القسم من الدار حين قسمت على عدد الولد وولد الولد كاملا بعد أن يرد للزوجة قيمة(12/297)
الثمن الذي قبضت منه والأم السدس الذي قبضت على من بقي من ولد الميت دينه وعلى ولد الولد.
فما صار من ذلك لولد الأعيان كان ميراثا بين جميع ورثة الميت المحبس الزوجة والأم والولد الميت ومن بقي من أولاده الأحياء، فما ناب الميت من ذلك كان لجميع ورثته من زوجة وأم إن كانت له زوجة وأم ومن سواهم.
وهذا إن انقسم حظ الميت منهم على عدد من بقي منهم وعلى عدد ولد الولد.
وأما إن لم ينقسم عليهم فلا بد من أن تعاد القسمة في الجميع كما قال في هذه الرواية فيحتمل أن يكون تكلم في هذه الرواية على أن حظ المتزوجة من أعيان بنات الميت المحبس أو من بنات ولده لا ينقسم على عدد من بقي من ولده الأعيان وعدد ولد ولده.
وتكلم في رسم القطعان من سماع عيسى على أن حظ الميت من ولد الأعيان أو ولد الولد ينقسم على عدد من بقي منهم وعدد الآخرين، فلا يكون بين الروايتين اختلاف.
وظاهر رواية يحيى هذه أن يعاد قسم الجميع وإن كان حظ المتزوجة الذي صار لها بالقسم الأول ينقسم خلاف ما في رسم القطعان من سماع عيسى أنه يقسم معناه إذا كان ينقسم. ورواية عيسى أنه يقسم إذا كان ينقسم أصح في المعنى، إلا أنه يبعد أن ينقسم.
وأما إذا كان لا ينقسم فلا اختلاف في أنه لا يقسم ولو لم تنقسم الدار كلها من أول عدد الولد وولد الولد لكان الحكم فيها أن تكرى ويقسم الكراء بينهم على عددهم، فما ناب ولد الأعيان منه كان ميراثا بين جميع الورثة، وما ناب كل واحد من ولد الولد كان له إلا أن يموت أحد منهم أو يتزوج فيقسم ما اجتمع من غلة الدار من يوم مات الميت منهم على من بقي منهم حسبما وصفناه، فما وجب لولد الأعيان كان ميراثا بين جميع ورثة الميت المحبس فمن كان منهم حيا أخذ حقه، ومن كان منهم قد مات ورث حقه عنه ورثته.
وقوله في هذه الرواية في آخر هذه المسألة وان انقرض ولد الولد قبل أعيان الولد رجع الحبس كله إلى أعيان الولد فيقسم بينهم وبين من ورث الميت على فرائض الله صحيح على مذهب ابن القاسم، خلاف ما(12/298)
تقدم من قول سحنون في رسم القطعان من سماع عيسى.
والأصل في هذا على مذهب ابن القاسم أن كل ما رجع إلى الولد من جهة ولد الولد على طريق رجوع الأحباس إلى الأقرب بالمحبس فلا دخول للزوجة ولا للأم ولا للميت من الولد في ذلك، وما رجع إلى الولد من جهة ولد الولد على طريق حكم الوصية التي أوصى بها المحبس فالأم والزوجة تدخلان في ذلك مع من مات من الولد.
وسحنون يقول: إن ما رجع إلى الولد من جهة ولد الولد فلا تدخل فيه الأم والزوجة ولا من مات من ورثة المحبس، سواء رجع إليهم ذلك بحكم مرجع الأحباس بعد انقراض جميع الولد المحبس عليهم، أو بحكم الحبس في وجوب رجوع حظ من مات منهم إلى أصحابه في الحبس، وهو خطأ من القول على ما بيناه في رسم القطعان من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[: الحبس المعقب كالحبس على المعينين يقسم عليهم بالسواء]
من سماع سحنون بن سعيد وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: سألت ابن القاسم عن وجه قسم الحبس إذا قال الرجل داري حبس على بني فلان وهم حضور كلهم أو بعضهم حضور والآخرون غيب في بلدان شتى قد اتخذوها دورا أو غيب في تجارات وحوائج لهم، قال: إذا كانوا حضورا أوثر أهل الحاجة فسكنوا، فإن فضل فضل كان للأغنياء، وإن كان فضل أكرى وأوثر أهل الحاجة أيضا، وإن لم يكن إلا قدر السكنى أوثر أهل الحاجة فكانوا أحق، فإن استغنى أهل الحاجة وافتقر بعض الأغنياء لم يخرج الذين سكنوا أولا منهم، وكان ذلك لولد أولادهم على الأحوج فالأحوج، ولم يخرج الأغنياء الذين افتقروا، وإن كان بعضهم غنيا في بلد سكنوها قسم للحاضر وأوثر أهل الحاجة منهم إلا أن يكون فضل فيكرى ويؤثر أهل الحاجة به.
فإن قدم أولئك لم يخرج لهم أحد من أولئك وكذلك إن خرج أحد ممن قسم له إلى بلد(12/299)
فسكنها واتخذها دارا فسكن منزله ثم رجع لم يكن له في منزله حق إلا أن يكون خرج في حاجة له فهو أحق به ولا يسكن له منزله.
وأما إن كان بعضهم حضورا وبعضهم غيبا في حوائج أو تجارة وليس غيبتهم فيها سكنا في بلد فأرى أن تقسم لهم حقوقهم في ذلك، فهذا أوجه ما سمعت.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل ما تقدم من قوله في رسم إن خرجت من سماع عيسى ومن روايته عن مالك في رسم البز من سماعه.
وهو المعلوم من مذهبه خلاف مذهب ابن الماجشون فيما حكى عنه ابن المواز من أن الحبس المعقب كالحبس على المعينين يقسم عليهم بالسواء، ولا يفضل الفقير منهم على الغني، ويوجد مثله لابن القاسم بالمعنى، والظاهر حسبما ذكرناه في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجوع الحبس بعد انقراض المحبس عليهم]
مسألة قال ابن القاسم في تفسير يرجع إلى أولى الناس بالمحبس حبسا: إنما ذلك على من يرثه، وليس على أولى الناس به ممن لا يرثه من عمة أو خالة أو نحوها.
قال محمد بن رشد: أما الخالة فلا اختلاف في أنه لا مدخل لها في مرجع الحبس، وكذلك الأخوات والإخوة للأم وبنات الأخوات ما كن وبنات البنات وبنو البنات وبنو الأخوات. وأما العمة فتدخل فيه على اختلاف قد مضى تحصيله في أول سماع ابن القاسم.
فإن كان أصل الحبس على محتاجين مثل أن يقول هو حبس على الفقراء من ولدي وولد ولدي أو على محتاجي آل فلان وما أشبه ذلك فلا يرجع الحبس إلا إلى أقرب الناس بالمحبس من الفقراء.
وأما إذا كان الحبس على ولده أو على آل فلان دون أن يخص الفقير(12/300)
منهم فالمشهور أن الحبس يرجع بعد انقراض المحبس عليهم إلى أقرب الناس من المحبس من الفقراء.
وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقد روى ابن نافع عن مالك في المدونة أنه يرجع إلى أقرب الناس به من الأغنياء والفقراء إلا أن يبدأ الفقير على الغني.
وقد قيل: إنه إن كان سكنى دخل فيه الغني والفقير إن لم يكن له مسكن إذ لا يستغني الغني عن مسكن، وإن كان غلة لم يكن للغني فيها مدخل. وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: قال غلامي يخدم فلانا يوما وفلانا يوما في الوقف]
مسألة قال سحنون: وإذا قال: غلامي يخدم فلانا يوما وفلانا يوما فهو بمنزلة ما يقسم إن مات منهما أحد رجع نصيبه إلى صاحب الأصل، وإنما يكون ما فسرت لك إذا كان حبس عليهما العبد جميعا يخدمهما حيث كانا ولم يقسم هو الخدمة بينهما.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول فيها في أول سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: المبدأ في الحبس أهل الحاجة على الأغنياء في الغلة والسكنى]
مسألة وقال أشهب في القوم يحبس عليهم الدار وبعضهم غيب في سفر وهم فقراء وآخرون حضور وهم أغنياء، والدار حاضرة مع الأغنياء. قال: توقف للفقراء إلا أن يتخذوا الموضع الذي سافروا إليه وطنا فيعطاها من هاهنا من الأغنياء ولا يخرجوا عنها بعد ذلك، وإن لم يتخذ الفقراء الذين هم به وطنا ورجعوا كانوا أحق بالدار إن كان سكنى فهم أحق، وإن كانت غلة فهم أحق إلا أن يكون في الدار فضل فيعطاها الأغنياء، وإن فضل فضل أكرى وأوثر أهل(12/301)
الحاجة، قلت: فإن كانت الدار واسعة فقال الأغنياء نحن لا نحتاج، ولكن.
ينظر إلى قدر ما يصير لنا من السكنى فيسكنه من أحببنا ونكريه؟ قال: ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما تقدم قبل هذا في هذا السماع من قول ابن القاسم.
وفي المواضع المذكورة منه.
والأصل في هذا أن المبدأ في الحبس أهل الحاجة على الأغنياء في الغلة والسكنى.
فإن كان سكنى فلا شيء للأغنياء معهم فيه إلا ما يفضل عنهم، وإن كان منهم أحد غائبا في مبتدأ القسم انتظر إلا أن يتخذ موضعه الذي غاب إليه وطنا.
وكذلك إن كان غاب بعد أن سكن لم يدخل عليه أحد إلا أن يتخذ موضعه الذي غاب إليه وطنا، فإن استووا في الفقر أو الغناء ولم يسعهم السكنى أكري ذلك عليهم وقسم الكراء بينهم شرعا سواء، إلا أن يرضى أحدهم أن يكون عليه ما يصير لأصحابه من الكراء ويسكن فيها فيكون ذلك له.
قاله ابن المواز، وإن كان الحبس غلة ولم يكن سكنى أوثر أهل الحاجة منهم على الأغنياء وكان حق من غاب في ذلك كمن حضر سواء، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول داري حبس على ابنتي وعلى ولدها]
مسألة قال: وسئل ابن القاسم: عن الذي يقول: داري حبس على ابنتي وعلى ولدها، قال: فولدها يدخلون ذكورهم وإناثهم، وإذا ماتوا كان ذلك لأولاد الذكور من ولدها ذكورهم وإناثهم، ولم يكن لولد بناتها شيء ذكورهم ولا إناثهم.
وكذلك قال مالك: إنما يكون حبسا على كل من يرجع نسبه إلى الابنة، [وقال غيره: إنما تكون حبسا على ولد الابنة دنية من الذكور والإناث] فإذا ماتوا لم يكن لأولاد أولادهم شيء.(12/302)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن ولد الابنة كل من يرجع نسبه إليها من ولد الولد الذكور ذكورا كانوا أو إناثا وأن ولد بناتها ليسوا بولدها ولا بعقبها ولا شيء لهم - هو مذهب مالك الذي لم يختلف قوله فيه بنص ولا دليل، فهو أدخلهم في الحبس على مذهبه فلم يدخلهم من أجل أنهم عقب، وإنما أدخلهم فيه بإدخال المحبس إياهم في حبسه وإن لم يكونوا عقبا له بقوله حبست على ولدي وولد ولدي أو على عقبي وعقب عقبي.
وقد حصلنا القول في هذه المسألة في غير هذا الديوان وهو كتاب المقدمات [فمن أراد الوقوف على الشفا في ذلك تأمله هنالك] .
وقد مضى الكلام على وجه قول غير هذا في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: حبس غلاما على رجل عشر سنين فأراد أن يقاطعه ويضع عنه الخدمة]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون: أخبرني علي بن زياد عن مالك أنه قال، في رجل حبس غلاما على رجل عشر سنين فأراد الذي حبس عليه الغلام أن يقاطعه على شيء يأخذه منه ويضع عنه الخدمة: لم يكن ذلك له إلا أن يشاء السيد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما حبس عليه خدمة العبد، فلا حق له في ماله يجوز له مقاطعته على الخدمة بشيء منه، وبالله التوفيق.(12/303)
[مسألة: حبس دارا له على ولده وولد ولده وكان عليه دين من قبل أن يحبس]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل حبس دارا له على ولده وولد ولده وكان عليه دين من قبل أن يحبس فاستحدث أيضا دينا بعد الحبس. فما ترى يباع منها؟ أيباع بمقدار الدين الأول فقط؟ أم ترى إذا بيع الدين الأول أن يدخل معهم أهل الدين الآخر؟
قال سحنون: قد قيل: إنه يباع الدين الأول ويدخل عليه أهل الدين الآخر ولا يدخل عليه غير ذلك.
وقد قيل أيضا: إنه إذا بيع للأول فدخل عليهم الآخرون بالحصص ويباع لهم أيضا، إنه انتقصوهم، فإذا بيع دخل عليهم الآخرون هكذا حتى يستوفوا أو ينفذ الحبس، فلا يكون فيه قضاء، وأصحابنا يقولون هذين القولين في العتق والحبس مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم البيوع من سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، وبالله التوفيق.
[مسألة: الدار المحبسة هل يجوز بيعها]
مسألة وسئل سحنون: عن الدار المحبسة هل يجوز بيعها؟
فقال: لم يجز أصحابنا بيع الحبس على حال إلا أن يكون دارا في جوار مسجد فيحتاج إليها لتدخل في المسجد ويوسع بها المسجد فإنهم وسعوا في بيعها في مثل هذا، ورأى أن يشترى بثمنها دارا مثلها فتكون حبسا. وقد أدخل في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دور كانت محبسة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم طلق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(12/304)
[مسألة: أكرى داره خمسين سنة أو أكثر وقبض الكراء ثم مات]
مسألة قال سحنون، في رجل حبس دارا له على ولده وولد ولده: لا تباع ولا تورث حبسا صدقة والولد صغار في حجر أو كبار بالغون فأكراها الأب المحبس من رجل خمسين سنة أو أكثر وقبض الكراء ثم مات بعد ذلك بيسير وترك مالا أو مات عديما لا مال له، ثم قام هؤلاء المحبس عليهم فأرادوا فسخ الكراء، هل ترى لهم ذلك أم لا؟ وكيف إن كان الولد صغارا في حجر أبيهم وأشهد لهم الأب أنه إنما أكرى هذه الدار لهم أو لم يشهد لهم بذلك؟ وكيف إن لم يوجد للأب مال ورأيت فسخ الكراء، هل يباع من هذه الدار شيء قدر الكراء أم لا؟ ما القول في ذلك كله؟.
قال سحنون: أما حبسه على الأكابر البالغين فأراه غير جائز لأنهم لم يقبضوا -وهم ممن يقبض- حتى أغلق الكراء فيها ثم مات ولم يقم عليه.
وأما الولد الصغار فإذا أشهد لهم بالحبس وهو القابض لهم ثم فعل من إغلاقها بالكراء إلى الأمد الذي لا يحوز له وإنما كان يجوز له أن يكري عليهم إلى مقدار بلوغهم ونحو ذلك، فإذا مات قبل بلوغ الصغار فإن كراءه لا يجوز إلى هذا الأمد البعيد ويفسخ ما فات منه وبعد، ويرجع الذين اكتروا بما بقي لهم من بعدهم في مال الأب إن كان له مال، وإن لم يكن له مال فهو دين يطلب به في الآخرة.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله، أما الكبار فلما لم يحوزهم ما حبس عليهم حتى مات وقد كان أغلق الكراء عليها وجب أن يبطل الحبس لعدم الحيازة فيه، وإن بطل الحبس وجب أن ينفذ الكراء على ورثته في الدار إلى الأمد الذي أكراها إليه، كمن أكرى داره خمسين سنة أو أكثر وقبض الكراء ثم مات.(12/305)
وأما الصغار فلا يبطل تحبيسه الدار عليهم بكرائه إياها المدة الطويلة إذا أشهد لهم بالحبس؛ لأنه هو الناظر لهم. وقوله: إنه يفسخ ما زاد من الكراء على قدر بلوغهم - هو على ما قاله ابن القاسم في الجعل والإجارة من المدونة من أن الأب كالوصي لا يجوز له أن يكري على ابنه أرضه وماله السنين الكثيرة التي يعلم أن الصبي يحتلم قبل انقضائها، وليس إجازته الكراء عليهم إلى بلوغهم- يريد وإن انتقد- بمعارض لما في الوصايا الثاني من المدونة أنه من أخدم عبدا حياته فلا يجوز له أن يكريه إلا الأمد القريب السنة والسنتين والأمد المأمون من أجل أن الكراء ينفسخ بموته؛ لأن ولد الصغار في هذه المسألة وإن كان ينتقض الكراء في حظ كل واحد منهم بموته ويرجع إلى إخوته وهم إلى نظره فهم بخلاف الواحد في هذا؛ لأن الغرر يخف في الجماعة فتدبر ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول ثمر حائطي حبس على فلان ولا يقول حياته ولا يجعل لذلك وقتا]
مسألة وسئل: عن الرجل يقول: ثمر حائطي حبس على فلان، ولا يقول: حياته، ولا يجعل لذلك وقتا؟ فقال: إن كان فيها ثمر يوم قال هذه المقالة فلك ثمرة تلك السنة.
قال محمد بن رشد: فإن لم يكن في الحائط ثمر يوم قال هذه المقالة فله ثمرة ذلك الحائط. قاله ابن القاسم، وتابعه عليه سحنون في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الوصايا فيمن قال في مرضه: لفلان ثمر حائطي ولم يقل حبسا فكيف إذا قال حبسا.
ووجه ذلك: أنه إذا كان للحائط يوم قال ذلك ثمرة احتمل أن يكون أراد تلك الثمرة خاصة ولم يرد سواها، فوجب ألا يكون له ما سواها إلا بيقين، وإذا لم يكن في الحائط ثمرة ذلك(12/306)
اليوم وجب أن يكون له ثمرته فيما يستقبل حياته لتناول لفظه لذلك تناولا واحدا، وبالله التوفيق.
[يكون حبسا على حال ما كان عليه الآخر]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد بن خالد: سألت عبد الرحمن بن القاسم: عن رجل حبس فرسا له في سبيل الله يحمل عليه رجلا يغزو عليه فغزا فلما دخل الجيش أرض العدو جعل الإمام لكل من عقر له فرسه أخلفه له، ثم إن ذلك الرجل المحمول على الفرس عقر الفرس تحته فأخلفه له الإمام غيره، فقال ابن القاسم: أرى أن يكون حبسا على حال ما كان عليه الآخر.
قال محمد بن خالد: وقد كنت سألت ابن نافع عن ذلك فلا أعلم إلا أنه قال كقوله.
قلت لابن القاسم: أرأيت لو لم يكن حبسا إلا أنه حمل عليه رجلا يقضي عليه غزاته فإذا قضاها رده إلى سيده كيف يكون هذا الفرس الذي حمل عليه؟ قال ابن القاسم: يكون أنه يرجع إلى سيده؛ لأنه إنما جعل مكانه فكأنه لم يصب به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه إنما أراد خلف الفرس المعقور، فوجب أن يكون مكانه على حاله التي كان عليها من ملك أو يحبس على رجل بعينه أو في سبيل ولا أذكر في هذا اختلافا.
[مسألة: أوصى لرجل بدار حبسا عليه حياته ولرجل آخر بما بقي من الثلث]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل أوصى لرجل بدار حبسا عليه حياته ولرجل آخر بما بقي من الثلث فنظر في ماله من بعد موت(12/307)
الموصي، فوجدت الدار كفافا من الثلث لا فضل عنها، قال: يكون حبسا على الرجل حياته فإذا رجعت صارت إلى الذي أوصى له بما بقي من الثلث لأنها إذا رجعت فهي بقية الثلث.
قال محمد بن خالد: سئل أشهب عن ذلك فقال كقوله، قلت لأشهب: فإن كان في الثلث فضل عن الدار مثل ثمر الدار؟ قال: يعطاه الذي أوصى له ببقية الثلث، ثم إذا رجعت الدار صارت إلى الذي أوصى له ببقية الثلث.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال. وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن الدار إذا كانت كفاف الثلث فمرجعها هو بقية الثلث، وإن كان في الثلث فضل عنها فللموصى له ببقية الثلث ذلك الفضل والدار إذا رجعت؛ لأن مرجعها من بقية الثلث، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ما بقي من ثلثي فهو لفلان ثم لم يوص بأكثر من ذلك حتى مات]
مسألة قال محمد: قلت: لأشهب فرجل أوصى فقال ما بقي من ثلثي فهو لفلان ثم لم يوص بأكثر من ذلك حتى مات. قال: يعطي الموصى له ببقية الثلث ثلث الميت.
قال محمد بن خالد: قال داود بن سعيد: لا شيء له مثل قول ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: وقعت رواية محمد هذه عن أشهب في بعض الكتب وسقطت من بعضها والصواب ثبوتها؛ لأن رواية داود بن سعيد بعدها لا تصح أن تعطف على المسألة التي قبلها.
ووقعت رواية محمد هذه عن أشهب في سماعه أيضا من كتاب الوصايا وفي بعض الروايات فيها مكان ثلث الميت ثلث الثلث. فقيل: إن ذلك غلط في الرواية وتصحيف فيها. وقيل: إنه(12/308)
اختلاف من قول أشهب.
وقول ثالث في المسألة على ذلك حمله ابن حارث في كتاب الاتفاق والاختلاف له. ولمالك مثل قول ابن القاسم أنه لا شيء له في رسم أسلم ورسم أوصى ورسم بع من سماع عيسى من كتاب الوصايا.
ووجه ذلك: أنه قد كان مجمعا على أن يوصي ولا يدري لو أوصى هل كان يفضل من الثلث شيء أم لا، ولا تكون الوصايا بالشك كما لا يكون الميراث بالشك.
ووجه قول أشهب: أنه لما لم يوص بشيء بعد أن جعل لهذا ما بقي من الثلث فقد أبقى له جميع الثلث؛ فلكلا القولين وجه.
وأما أن يكون له ثلث الثلث على ما وقع لأشهب في بعض الكتب فهو بعيد لا حظ له في النظر، ولو قيل: إنه يكون له نصف الثلث لكان قولا له وجه؛ لأنه يقول لي جميع الثلث؛ لأن الميت لما لم يوص فيه بشيء فقد تركه كله لي، ويقول له الورثة: لا شيء لك إذ لم يوص فيعلم ما يبقى لك بعد وصاياه، فيقسم بينهما الثلث بنصفين على هذا الوجه، وبالله التوفيق.
[: قال خذوا من مالي مائة فأنفقوها في داري التي حبست في سبيل الله فاستحقت الدار]
من سماع عبد الملك من ابن وهب قال عبد الملك: سألت ابن وهب: عمن قال: خذوا من مالي مائة فأنفقوها في داري التي حبست في سبيل الله، فاستحقت الدار؟ قال: ترد المائة إلى الورثة، قيل له: فإن كانت أنفقت في الدار؟ قال: إن أنفقت أو أنفق بعضها رد جميعها إلى الورثة.
قال محمد بن رشد: يريد أنه كما ترد إذا لم ينفق إلى الورثة، فكذلك يرد إليهم ما أخذ من المستحق إن كانت قد أنفقت؛ لأنهم لما كان لهم أن يأخذوا من المستحق ما أنفقه في الدار أو قيمة البنيان قائما على الاختلاف المعلوم في ذلك فكأن المائة قائمة، وبالله التوفيق.(12/309)
[: الرجل يسكن الرجل الدار عشرين سنة ثم المرجع إليه فيبيع المرجع]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب البيع والصرف قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، يقول في الرجل يسكن الرجل الدار عشرين سنة ثم المرجع إليه فيبيع المرجع: إنه لا خير فيه؛ لأنه غرر، ولا يدري كيف يرجع؟ ولو كان ذلك أيضا مزرعة وما أشبه ذلك لم يكن به بأس أو سكنى قرية مأمونة فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات مكان "أو سكنى قرية مأمونة": أو سكنى قريبا مأمونا.
والمعنى في الروايتين صحيح؛ لأن قوله: أو سكنى قرية مأمونة، يريد: من تغير بنائها إلى الحد الذي استثناه، وأما قوله "أو سكنى قريبا مأمونا" فلا إشكال في معناه.
وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم البيوع الأول من سماع أشهب. وذكرنا هناك ما فيها من الاختلاف ووجهه فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: حبس داره على رجل فقال لا تباع ولا توهب ثم بدا له أن يبتلها]
ومن كتاب الوصايا والأقضية قال أصبغ: وسمعت ابن وهب، وسئل: عن رجل حبس داره على رجل، فقال: لا تباع ولا توهب، ثم بدا له أن يبتلها، فقال له: هي عليك صدقة، فقال: هي له يصنع فيها ما يشاء، فروجع فيها، وقال: إنه لم يقل ذلك، إنما قال: هي حبس عليك أو قد حبستها عليك لا تباع ولا توهب، ثم بدا له، فقال: الذي حبست عليك هو صدقة عليك(12/310)
إنما أبتله لك الساعة فهو له يصنع به ما شاء، وذلك جائز لأنه يجوز له أن يتصدق بماله.
قال أصبغ: ولا يقول ذلك ويقول هي حبس أبدا ومجراها مجرى الحبس المؤبد بعد موته، قيل له: فإن قال حبس عليك وعلى عقبك ثم أراد أن يبتلها له الساعة، فقال: لا يجوز له ذلك إذا أشرك معه غيره فليس ذلك له ولا يجوز.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ يأتي على قول مالك في المدونة لأنه لم يختلف قوله فيها أنه إذا قال حبسا صدقة أو قال حبسا لا يباع أنها لا ترجع إلى المحبس ملكا، وإنما ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس حبسا فإذا لم ترجع إليه على قوله فيها ملكا فلا يجوز له أن يبتلها ويبطل المرجع إذ قد انبتت منه ووجب المرجع لأقرب الناس حبسا عليه كما قال أصبغ.
وعلى قول مالك في مختصر ابن عبد الحكم أنها ترجع إليه ملكا. وإن قال حبسا صدقة يجوز له أن يبتلها. وإن قال: لا تباع ولا توهب؛ لاحتمال أن يكون أراد بقوله صدقة أي صدقة عليه ما عاش وأن يكون أراد بقوله لا تباع ولا توهب أي لا تباع ولا توهب ما عاش.
فلم ير على ما في كتاب ابن عبد الحكم من قول مالك، وهو مثل قول ابن وهب هذا لن يرتفع ملك المحبس عن الحبس إذا حبسه على معين إلا بيقين، فقول ابن وهب وأصبغ جاريان على اختلاف قول مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال داري لفلان يسكنها أيستغلها]
مسألة وسئل: عن رجل قال داري لفلان يسكنها أيستغلها؟ قال: نعم هو يستغلها إن شاء سكن وإن شاء استغل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا قال يسكنها فله أن يستغلها(12/311)
وإذا قال يستغلها فله أن يسكنها لأنه قد أباح له منفعتها في الوجهين فله أن يأخذها كيف شاء إن شاء بسكناه فيها وإن شاء باستغلاله لها، وأما إن حبسها على أن يسكنها أو على أن يستغلها بشرط فلا يكون له أن يخالف ما شرط عليه فيها من السكنى والاستغلال، إذ قد يكون له غرض فيما اشترط من ذلك عليه، فيلزمه الشرط لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا» .
[مسألة: قال داري لفلان يسكنها وفلان يستغلها ولفلان رقبتها]
مسألة وسئل: عن رجل قال: داري لفلان يسكنها وفلان يستغلها ولفلان رقبتها فتعدى رجل على بيت في الدار فهدمه، قال: يغرم قيمته، قيل له: فقد غرمها لمن يكون؟ قال: يبنى بها ذلك البيت، قيل له: فلصاحب الرقبة شيء؟ قال: لا حتى يموت هذان يسكنها هذا ويستغلها هذا، فإذا انقرض هذان كانت الدار لصاحب الرقبة، قيل له: فإن انهدمت الدار؟ قال: إن أحب هؤلاء -يريد: صاحب السكنى وصاحب الغلة- أن يبنوا، قيل: فبنوا أي شيء يكون لهم؟ قال: يسكنوا ويستغلوا على ما كانت ويكون لهم ما أنفقوا على الذي جعلت له الرقبة؛ لأن الدار تصير إليه، قيل له: فإن قالا لا نبني ليس عندنا شيء؟ قال: يقال لصاحب الرقبة ابن، فإذا بنى كان له أن يستوفي منها قيمة ما بنى من غلة الدار في معنى قوله فإذا استوفى قيمة ما بنى كانت الدار لهذين صاحب الغلة وصاحب السكنى حتى(12/312)
يموتا، فإذا ماتا رجعت إلى الذي جعلت له الرقبة.
قيل: فمات أحدهما صاحب الغلة؟ قال: إذا مات أحدهما رجع نصيبه إلى صاحب الرقبة.
قيل: فإن كانت الدار هي الثلث، قال: كيف يكون الثلث؟ قال السائل: أوصى فقال: داري لفلان يسكنها وفلان يستغلها ولفلان رقبتها، فإذا هي الثلث سواء، فتوفي صاحب الغلة أو السكنى، فقال: نعم أما إذا مات أحدهما رجع نصيبه إلى الذي جعلت له الرقبة؛ لأنه بمنزلة صاحبها لو كان حيا.
قال محمد بن رشد: معنى قوله لفلان يسكنها وفلان يستغلها أن يكون للذي جعل له سكناها أن يسكنها بقيمة سكناها، فيكون الكراء للذي جعل له استغلالها، فإن مات صاحب الغلة رجع نصيبه إلى صاحب الرقبة كما قال؛ لأنه إنما جعل له استغلالها طول حياته لا أكثر، وإن مات صاحب السكنى رجع ما كان من الحق له في ذلك إلى صاحب الرقبة على ما قاله في آخر المسألة إذا كان ذلك في وصية فيتحمل الدار الثلث، إذ لا فرق بين أن يقول ذلك في صحته أو في وصيته، فيحمل الدار الثلث.
ولم يجر في انهدام على أصل؛ لأنه قال: إن بناها صاحب السكنى والغلة سكن هذا واستغل هذا على ما كانا عليه، ورجعا بنفقتها على صاحب الرقبة، وإن بناها صاحب الرقبة كان له أن يستوفي نفقته من غلتها فجعل البنيان إذا بناها صاحب صاحب الغلة على صاحب الرقبة إذ أوجب له الرجوع عليه.
وإذا بناها صاحب الرقبة على صاحب الغلة إذ أوجب له أن يستوفي نفقته من غلتها وإنما في المسألة قولان على ما في كتاب الجنايات من المدونة في الرجل يوصي بخدمة عبده لرجل وبرقبته لآخر فيجني العبد جناية، أحدهما أن البنيان على صاحب الرقبة فإن بناها هو لم يكن له سبيل إلى الدار حتى يموت صاحب الغلة، وإن بناها صاحب الغلة كانت له الغلة على حالها ورجع بنفقته على صاحب الرقبة.
والقول الثاني: أن البنيان على صاحب الغلة فإن بناها هو اغتل على ما كان له من حقه،(12/313)
ولم يكن له رجوع على صاحب الرقبة بشيء من نفقته، وإن بناها صاحب الرقبة كان له أن يستوفي حقه من كرائها.
وعلى القول بأن البنيان على صاحب الغلة يكون هو المبدأ بالتخيير بين أن يبني أو يترك، ويختلف على القول بأن البنيان على صاحب الرقبة هل يكون هو المبدأ بالتخيير بين أن يبني أو يترك أو صاحب الغلة. والقولان قائمان من المدونة من مسألة العبد المخدم التي ذكرناها. فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس الدار على فقراء بني فلان فيستغنوا]
مسألة وسئل: عن الذي يحبس الدار على فقراء بني فلان فيستغنوا.
قال: ينزع منهم وترجع إلى عصبة المحبس، فقيل: له ابنة واحدة؟ فقال: ليس النساء عصبة إنما ترجع إلى الرجال، قيل له: فافتقر بعض بني فلان؟ قال: تنزع من العصبة وترد إليهم.
قال أصبغ مثله، إلا قوله في البنت فهي عصبة لأنها لو كانت رجلا في مرتبتها كانت عصبة، وأراه كله له.
قال محمد بن رشد: قوله إذا حبس الدار على بني فلان فاستغنوا إنها ترجع إلى عصبة المحبس صحيح؛ لأنهم غير معينين، فإنما قصد الفقر والحاجة لكثرة الأجر في ذلك دون التعيين، ولو عين المحبس عليهم وسماهم فقال هذه الدار حبس على فلان وفلان وفلان الفقراء من بني فلان فاستغنوا لم تنتزع منهم، وكانوا أحق بها وإن استغنوا بطول حياتهم؛ لأن قوله الفقراء إذا سماهم إنما هو زيادة في بيان التعيين لهم بما وصفهم به، كما لو قال الجمال أو العمال أو العلماء أو الحلماء لم يسقط حقهم بانتقالهم من تلك الصفة إلى غيرها.
فلا يبعد دخول الاختلاف في تحبيس الرجل داره على الفقراء من بني فلان بأن يحكم لهم بحكم التعيين فلا يسقط حقهم باستغنائهم لا سيما إذا علم المحبس منهم الفقير من الغني كما قال ابن الماجشون فيمن حبس على ولده إنه يساوي بينهم في الحبس وإن كان بعضهم فقراء وبعضهم أغنياء. وعلى(12/314)
قول من قال: إن من مات منهم بعد طيب الثمرة فقد وجب حقه فيها لورثته. وقد ذكرنا ذلك والاختلاف فيه في أول رسم من سماع ابن القاسم.
وأما قوله إن النساء لسن عصبة، فهو خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وقد مضى تحصيل ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى في مرضه فقال داري حبس على ولدي وعلى امرأتي]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن وهب: عن رجل أوصى في مرضه فقال داري حبس على ولدي وعلى امرأتي ثم مات ولا مال له غيرها، قال: يخرج ثلثها فيكون حبسا على الفرائض على جميع ورثته كلهم من سمى ومن لم يسم، ويكون الثلثان ميراثا، قال أصبغ مثله، وله تفسير، وتفسيره أن يكون غلتها على الفرائض ما دام أعيان الولد حيا وغير ذلك من الوجوه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أصبغ إن له تفسيرا لأنه حبس في وصيته على وارث وغير وارث، فوجب أن يكون ما ناب الوارث من الحبس بين جميع الورثة إلا أن يجيزوا ذلك له، حكم من حبس في مرضه على ولده وولد ولده وقد مضى الكلام على ذلك في رسم القطعان من سماع عيسى، وفي سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال داري على ولدي وعلى فلان أخي حبس كيف يقسم]
مسألة وسئل ابن وهب: عمن أوصى فقال داري على ولدي وعلى فلان أخي حبس كيف يقسم؟ قال: ينظر إلى العدد، فإن كانوا خمسة كان للأخ خمس ذلك، وكان ما بقي على الفرائض. وقال أصبغ مثل التي فوقها لو كان مع الولد ولد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مثل التي فوقها والقول فيها ما قال أصبغ؛ لأنه حبس في مرضه على ولده وولد ولده. وقد مضى القول على(12/315)
ذلك في رسم القطعان من سماع عيسى وفي سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعتق أمته ثم تزوجها ثم قال داري حبس على موالي]
مسألة وقال أصبغ: سألت ابن وهب عن رجل أعتق أمته ثم تزوجها ثم قال داري حبس على موالي، فقال: أراها من الموالي.
قلت له: إنها وارث، قال: متى قال ذلك في الصحة منه؟
قلت: نعم.
فقال: الرجل يصنع في ماله ما شاء وقد حبس ابن عمر على امرأته.
قلت: فإن قال ذلك في وصيته؟
قال: في هذا شيء.
قلت: فأي شيء ترى في هذا؟ قال: أرى أنها من مواليه.
قلت: إن تقاسما أليس لها الثمن؟
قال: تأخذ الثمن وترجع تأخذ مع الموالي فيما صار لهم ويدخل الورثة معها فيما صار لها مما أخذت مع الموالي على فرائض الله، فإن مات أحد من الورثة فورثته بمنزلته ما عاشت حتى تموت، فإذا ماتت انقطع حقوق الورثة ورجع الذي كان لها إلى الموالي الذين حبس عليهم. قال أصبغ: جيدة صحيحة.
قال محمد بن رشد: هذه مثل المسألتين اللتين فوقها؛ لأنه إذا حبس على مواليه وامرأته من مواليه لأنه اعتقها ثم تزوجها فقد حبس على وارث وغير وارث فوجب أن يدخل سائر الورثة معها فما نابها من الحبس مع الموالي حتى تموت فيرجع ذلك كله إلى الموالي.
فقوله: إن تقاسما أليس لها الثمن، قال: تأخذ الثمن، معناه: أنها تأخذ الثمن مما تخلفه زوجها سوى الدار، ثم ترجع فتأخذ مع الموالي ما يجب لها من الدار المحبسة إذا قسم الحبس عليها وعلى سائر الموالي لأنها من الموالي فيما نابها منه على عددهم دخل جميع الورثة عليها فيه، فيكون لها منه الثمن إن كان لزوجها الموصي ولد أو الربع إن لم يكن له فإن مات أحد من الورثة فورثته بمنزلته ما عاشت حتى تموت، فإذا(12/316)
ماتت انقطع حقوق الورثة ورجع الذي كان لها إلى الموالي الذين حبس عليهم كما قال، يريد ويرجع أيضا سائر ما بأيدي الورثة من الدار المحبسة عليهم لانقطاع حقوقهم منها بموت الزوجة. فهذا تفسير ما في الرواية من مشكل ألفاظها، والله الموفق.
[: قال غلامي فلان حبس على فلان فإن مات فهو حر]
ومن كتاب الوصايا قال: وسمعت ابن القاسم وسئل: عن رجل قال غلامي فلان حبس على فلان فإن مات فهو حر، وإن مت فهو حبس على فلان أو صدقة على فلان أو قال: فرسي هذا حبس على فلان فإن مت فهو في سبيل الله، ثم لم يزل العبد في يديه والفرس حتى هلك.
قال: أرى أن يعتق الغلام في الثلث بعد موته ويخرج الفرس في سبيل الله بعد موته من الثلث أيضا.
قال محمد بن رشد: أما إذا لم يخرج الغلام أو الفرس من يد المحبس حتى مات كما قال في الرواية، أو كان قد دفعها إليه فرجع إليه بموته على حكم التحبيس على معين فلا اختلاف في أنه يكون بعد موته من الثلث في الوجه الذي جعله فيه، وأما إن دفعه إلى المحبس عليه فمات المحبس وهو في يد المحبس عليه.
فاختلف هل يكون من رأس المال أو الثلث، ذهب ابن لبابة إلى أنه يكون من رأس المال. والصحيح أنه يكون من الثلث حسبما مضى القول فيه في أول سماع ابن القاسم.
[: حبس داره على قوم حياتهم فلما انقرضوا رجعت الدار]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ فيمن حبس داره على قوم حياتهم فلما انقرضوا رجعت الدار وليس للميت إلا بنات أخ وأخت لأمه، قال: فبنات(12/317)
الأخ أولى من أخته لأمه. قيل: فإن لم يكن له إلا الأخت لأمه؟ قال: لا يرجع إليها من الدار شيء.
قال محمد بن رشد: أما الأخت للأم فلا مدخل لها في مرجع الحبس باتفاق إلا أن تكون من بنات العم، فقوله إن بنات الأخ أولى منها يبينه قوله بعد ذلك إنه لا يرجع إليها من الدار شيء وإن لم يكن له غيرها. وكذلك الخالات وبنو الأخوات.
وأما الأخوات الشقائق والتي لأب فيدخلن في مرجع الحبس على اختلاف قد مضى تحصيله في أول سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: بيع الوقف والاستبدال به]
مسألة وسئل أصبغ: عن رجل قام احتسابا فجمع من قوم مالا على أن يشتري مملوكا يقوم باستقاء الماء في المسجد الجامع ويخدم فيه، فاشترى هذا المحتسب بما اجتمع في يديه مملوكا بالغا، فكان يستقي الماء في السقاية ويخدم ويرش سنين، وكان ينتهي إلى أمر هذا المحتسب وكان المحتسب هو القائم بأمر المسجد ثم إن المملوك تعاصى وتخلق عليه وامتنع من المسجد ومن الاستقاء والخدمة، أفيجوز لهذا المحتسب أن يبيعه ويشتري به آخر مكانه يقوم بما يقوم به هذا؟ قال أصبغ: لا أرى بذلك بأسا إذا كان وجه النظر والاختلاف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أصبغ إن بيعه والاستبدال به جائز إذا تخلق وامتنع من الخدمة، ولا يدخل في هذا عندي الاختلاف في جواز بيع العبيد والثياب المحبسة في السبيل حسبما ذكرناه في رسم طلق من سماع ابن القاسم، إذ لم يحبسه مالكه، وإنما حبسه المحتسب بما جمع من أموال الناس، فلا تقوى حرمته في التحبيس من أموال الناس، وبالله التوفيق.(12/318)
[: كتاب القراض]
[مسألة: اصطراف صاحب المال من المقارض قبل أن يعمل بالمال]
كتاب القراض من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون
من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: قال عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك: لا ينبغي أن يصطرف صاحب المال من صاحبه الذي قارضه قبل أن يعمل. ولا بأس أن يشتري منه الثوب والثوبين أو يوليه إذا صح.
قال محمد بن رشد: أما اصطراف صاحب المال من المقارض قبل أن يعمل بالمال فالمكروه فيه بين، والذي يدخله الصرف المتأخر؛ لأنه إذا كان رأس مال القراض ورقا فصرفه بذهب، وذهبا فصرفه منه بورق كان قد رجع إليه رأس ماله وصار قد أعطاه ذهبا على أن يرد إليه عند المفاصلة ورقا أو ورقا على أن يرد إليه عند المفاصلة ذهبا.
فيتهمان على القصد إلى ذلك والعمل به فإن وقع ذلك في اليسير من رأس المال صدقا على أنهما لم يعملا على ذلك وجاز القراض.
وإن وقعت المصارفة في جميع رأس المال أو في جله لم يصدقا ووجب أن يفسخ القراض إلا أن يفوت بالعمل فيردان فيه إلى إجارة المثل على أصل ابن القاسم وروايته عن مالك في هذا النوع من الفساد في القراض، وسواء صارفه فيما دفع إليه من الدنانير أو الدراهم قبل أن يغيب(12/319)
عليها أو بعد أن غاب عليها، إلا أن المكروه فيها قبل أن يغيب عليها أبين.
وقوله لا بأس أن يشتري منه الثوب والثوبين، معناه: لا بأس أن يشتري العامل من رب الثوب والثوبين لنفسه خاصة لا للتجارة، أو يولي من رب المال العامل الثوب والثوبين لنفسه خاصة أيضا لا للتجارة، وفي كتاب محمد بيان هذا.
وأما إن باع رب المال من العامل سلعة أو ولاه إياها للتجارة فهذا الذي قال فيه في المدونة لا يعجبني أن يعمل به لأني أخاف إن صح هذا من هذين لا يصح من غيرهما.
ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أن قول مالك اختلف في ذلك؛ لأنه وجد في كتاب عبد الرحمن أن مالكا خففه، وقال: لا بأس به إذا صح الأمر بينهما فالخلاف في هذا عندي إنما يرجع إلى التصديق في وقوع الأمر بينهما على الصحة، فلم يصدقهما في المدونة وصدقهما في رواية عبد الرحمن عنه. هذا عندي إذا وقع الشراء في المال الذي دفع إليه قبل أن يصرفه كان قد غاب عليه أولم يغب عليه.
وأما إن وقع الشراء بما نض بيد العامل مما باعه من السلع التي اشترى للقراض، فيصدقان على أنهما لم يعملا على ذلك قولا واحدا والله أعلم، والذي أراه في هذه المسألة أن يصدقا إذا اشترى باليسير من مال القراض، وألا يصدقا إذا اشترى بجميعه أو بجله؛ لأنهما يتهمان على القصد إلى القراض بالعروض. فهذا الذي أراه قول ثالث في المسألة.
وأما شراء العامل من رب المال جميع سلع القراض أو ما بقي بعد المفاصلة منها بثمن إلى أجل ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك جائز. وهو قول الليث بن سعيد ويحيى بن سعيد. وروى مثله ابن وهب عن مالك، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصحاب مالك حاشى ابن القاسم في شراء ما بقي من السلع بعد المفاصلة، ولا فرق بين شراء جميعها وبين شراء ما بقي منها بعد المفاضلة.
والثاني: أن ذلك لا يجوز ويفسخ وإن فات كانت فيه القيمة. وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز. ومعنى ذلك إذا اشتراها(12/320)
بأكثر من رأس المال واشترى بقيتها بأكثر مما بقي من رأس المال. وأما إن اشتراها بمثل رأس المال فأقل واشترى بقيتها بمثل ما بقي من رأس المال فأقل فلا اختلاف في أن ذلك جائز.
وذلك بين مما وقع في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم بعد هذا، ومما وقع في رسم القطعان من سماع عيسى أيضا.
والقول الثالث: الفرق بين أن تكون السلع حاضرة أو غائبة، فإن كانت حاضرة لم يفسخ البيع إذا فات، وإن كانت غائبة فسخ البيع في القيام ورد إلى القيمة في الفوات.
وكذلك إذا اشترى العامل بعض سلع القراض بأكثر من قيمتها إلى أجل يدخل في ذلك الثلاثة الأقوال المذكورة.
مثال ذلك: أن يدفع الرجل إلى الرجل مائة دينار قراضا يشتري بها سلعا فيعرض إحداها للبيع وشراؤها عشرة فلا يعطى فيها إلا ثمانية، فيقول العامل أنا أبتاعها منه بعشرة إلى أجل، فلا يجوز ذلك لأنه يؤخره لئلا يخسر من رأس ماله شيئا.
وجه القول الأول بأن ذلك جائز - هو أنه كأنه قد التزم السلع برأس ماله فيتفاضلا في القراض ثم باعها من العامل.
ووجه القول الثاني بأن ذلك لا يجوز - هو أنه لو طلبه برأس ماله لم ينض له منه إلا ثمانون فأخره بها على أن يأخذ منه مائة.
ووجه القول الثالث في الفرق بين أن تكون السلع حاضرة أو غائبة - هو أنه إذا كانت حاضرة ارتفعت التهمة؛ لأنه باع ما رأى بعد أن رضيه والتزمه، وإذا كانت غائبة لعلها لم تكن ثم سلع أصلا، والمال قد خسر فيه فرجع ثمانين فأخره به على أن يأخذ منه مائة بشراء العامل من رب المال سلعة من غير سلع القراض قبل أن يعمل فالقراض لا يجوز بالنقد، ويجوز إلى أجل، وشراؤه سلعة من سلع القراض لا تجوز إلى أجل ويجوز بالنقد، وأما شراء رب المال من العامل سلعة من القراض أو من غير القراض فيجوز بالنقد وإلى أجل، وبالله التوفيق.(12/321)
[مسألة: يأخذالمقارض من شريكه ربحا ذهبا من غير الذهب التي هي بينهما]
مسألة قال مالك: لا بأس أن يأخذ المقارض من شريكه ربحا ذهبا من غير الذهب التي هي بينهما، قال: يدفع إليه ربحه من ماله ثم يأخذه من مال القراض.
وسئل عنها سحنون، فقال: لا يجوز أن يعطيه ربحا من غير ربح القراض إلا أن يكون حاضرا فيكون يدا بيد وزنا بوزن.
قال محمد بن رشد: رأيت لبعض أهل النظر في هذه المسألة أنه قال فيها: قول سحنون جيد؛ لأن ربحه ليس في ذمة العامل في المال وإنما هو في المال نفسه، فلا يجوز أن يعطيه من غيره إلا أن يكون مال القراض حاضرا لأنه إذا لم يكن حاضرا دخله دراهم حاضرة بدراهم غائبة أو ذهب حاضرة بذهب غائبة.
وهو تعليل جيد لقول سحنون إذا كان إنما أعطاه الربح من ماله على سبيل الاشتراء منه للربح الذي في يده من مال القراض.
وقول مالك جيد أيضا إذا كان إنما أعطاه الربح من ماله على سبيل السلف له حتى يقتضيه من الربح الذي في يده من مال القراض.
ولو نص في ذلك على السلف فقال أنا أسلفك الربح الذي يجب لك من مالي حتى أقبضه من مال القراض لما قال سحنون في ذلك إنه لا يجوز، ولو نص في ذلك أيضا على الشراء فقال أنا اشتري منك الربح الذي لك في المال القراض هذا الذهب الذي أدفعه إليك من مالي لما قال مالك إن ذلك لا بأس به.
فحصل الاختلاف بين مالك وسحنون، إنما هو ما يحمل عليه على الأمر عند الإبهام، فحمله مالك على السلف فأجازه، وحمله سحنون على البيع فلم يجره، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: مقارض باع بدين أو سلف في طعام ثم كره التقاضي]
مسألة قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول في مقارض باع بدين أو(12/322)
سلف في طعام ثم كره التقاضي فأسلم ذلك برضا صاحب المال، قال: لا بأس بذلك، وهو مثل الموت إذا أسلمه الورثة. أنكرها سحنون.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك مثل ما يأتي في رسم الشجرة بعد هذا، وإنكار سحنون لجواز هذه المسألة صحيح؛ لأن الورثة لا يلزمهم تقاضي دين القراض ولا تنضيضه، وهو حق لهم إن طلبوه فكان من حقهم أن يسلموه فيكونون بإسلامهم إياه قد وهبوا لرب المال ما عمل موروثهم في المال. فلا معنى في جواز ذلك.
وأما المقارض فتقاضى دين القراض وتنضيضه واجب عليه، لرب المال أن يأخذه به، ويلزمه الاستئجار عليه من ماله إن أبى أن يليه بنفسه كما لا يجوز أن يستأجر على ذلك بنصيبه من الربح.
فكذلك لا يجوز له أن يسلمه إلى رب المال؛ لأنه إذا أسلمه إليه فكأنه قد استأجره على تقاضي الدين وتنضيض المال بالجزء الواجب له من الربح، فالأظهر أنه لا يجوز.
ووجه القول بجوازه أنه إذا أسلمه إليه فقد وهب ما تقدم من عمله فيه، ولم يكن كأنه استأجره عليه بجزء من الربح، إذ لا يلزمه إذا أسلمه تقاضي الدين ولا تنضيض المال؛ لأنه ماله يفعل فيه ما شاء إن شاء تقاضاه وباع الطعام حتى يصير عينا، وإن شاء وهب الدين أو أكل الطعام إذا قبضه ولم يصيره عينا كما دفعه إلى المقارض الذي أسلمه إليه. فعلى هذا أجازه مالك بقوله: وهو مثل الموت إذا أسلمه الورثة.
معناه: هو مثله في أن ذلك جائز وإن كان وجه الجواز في ذلك مختلفا، يجوز في الورثة من أجل أن تنضيض المال لا يلزمهم ويجوز في المقارض من أجل أن رب المال لا يلزمه تنضيض ماله، وبالله التوفيق.
[: من استأجر أجيرا فليعلمه أجره]
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة وسئل مالك: عن الرجل يدفع إلى الرجل المال القراض فيقيم(12/323)
في يديه أياما ويتجهز بذلك يريد سفرا فيلقاه صاحب المال فيقول له: هل لك أن أخرج معك؟ فأخرج ذهبا آخر مثل الذي أعطيتك ونشترك جميعا.
قال مالك: ما أرى أمرا بينا وما يحضرني فيه مكروه، وكأنه خففه من غير تحقيق.
وقال ابن القاسم: ولا أرى بذلك بأسا إذا صح على غير موعد ولا رأي ولا عادة.
قال أصبغ: لا خير فيه، قال سحنون: هو الربا بعينه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم مفسر لقول مالك؛ لأن مالكا إنما خفف ذلك على السلامة على التواطي على ذلك من قبل أن يتجهز بالمال، إذ لو أتاه قبل أن يتجهز بالمال لما جاز؛ لأنه يصير كأنه استأجره على أن يعمل معه في ماله على أن له نصيبا من ربحه، وكرهه أصبغ وقال لا خير فيه مخافة أن يكون تواطأ معه على ذلك قبل أن يتجهز بالمال.
فإن وقع ذلك مضى ولم يفسخ على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وفسخ على مذهب أصبغ ما لم يفت بالعمل، فإن فات مضى وكان العامل في عمله على شرطه من الربح.
وأما على مذهب سحنون الذي قال فيه: إنه هو الربا بعينه فينفسخ متى ما عثر عليه، ويكون الربح كله لرب المال ويكون للعامل أجرة مثله، وإنما قال فيه إنه الربا بعينه على سبيل التجوز في اللفظ إرادة التغليظ في المنع منه، إذ ليس بربا بعينه كما قال، وإنما هو على مذهبه استئجار للعامل على عمله معه بجزء من ربح المال، وذلك ما لا يحل ولا يجوز.
لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره» ، ولقوله: «من استأجر أجيرا فليواجر بأجر معلوم إلى أجل معلوم» ، وكنهيه عن بيع الغرر، والإجارة بيع(12/324)
من البيوع لا يجوز فيها الغرر والمجهول، فلما كان ذلك لا يحل كما لا يحل الربا قال فيه إنه ربا، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا خرج في حاجة نفسه فضت نفقته على نفقة مثله وعلى مال القراض]
مسألة وسئل مالك عن رجل تجهز يريد اليمن فجاءه رجل ليلة يخرج فقال له: خذ مني هذا المال قراضا فأخذه الرجل فخرج به فاشترى به رقيقا نحوا من ستين رأسا، فأصيب منهم بضعة وأربعون، فقدم الرجل فطلب أن يعطى نفقته من مال الرجل، قال مالك: أرى أن تحسب نفقته كم تكون إلى اليمن في ذهابه ورجعته، كم هو؟ فإن كانت قيمة ذلك مائة دينار والذي دفع إليه الرجل سبعمائة دينار رأيت أن يحمل على صاحب المال سبعة أجزاء من ثمانية، وعلى العامل جزء من ذلك. فعلى هذا يحتسب قل المال أو كثر أو كثرت النفقة أو قلت.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه تجهز في السفر في حاجة نفسه لا للتجارة بماله.
ولو كان إنما تجهز للتجارة بماله لوجب أن نكون النفقة مفضوضة على المالين، ماله الذي خرج للتجارة به، ومال الرجل الذي دفعه إليه.
ومثل هذا في المدونة أنه إذا خرج في حاجة نفسه فضت نفقته على نفقة مثله وعلى مال القراض، وفي كتاب محمد أنه ينظر إلى قضاء حاجته فيجعل ذلك رأس مال تفض عليه وعلى مال القراض. قال محمد: وهو استحسان.
فالقياس أن تكون النفقة عليه كما إذا خرج حاجا أو غازيا فأعطاه رجل مالا قراضا فخرج به، وهو قول ابن عبد الحكم.
وسحنون بأنه لا شيء من النفقة على مال القراض إذا خرج في حاجة نفسه عما إذا خرج حاجا أو غازيا.
قال أبو إسحاق التونسي: ولعل ابن القاسم أراد أنه خرج لإصلاح ضيعته، فتكون نفقته مقدرة بإصلاح ماله، فجعل ذلك رأس مال(12/325)
تفض عليه النفقة مع مال القراض، وأما لو خرج لزيارة أهله أو لغير إصلاح ماله لا نبغي ألا يكون على المال القراض شيء من نفقته كما لو خرج حاجا أو غازيا. هذا معنى قوله دون لفظه، وبالله التوفيق.
[: المقارض يسأله السائل فيعطيه الكسرة]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن المقارض يسأله السائل فيعطيه الكسرة، قال: لا بأس بذلك، وكذلك الثمرات والماء يسقيه السائل فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه من الشيء اليسير الذي لا يتشاح في مثله.
والأصل في ذلك قول الله عز وجل {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] إلى قوله {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] فإذا لم يكن على الوكيل حرج في الأكل من مال موكله الذي اؤتمن عليه وجعلت مفاتحه في يديه دون علم موكله. بنص القرآن ما جرت به العادة من الشيء اليسير الذي لا يتشاح في مثله جاز ذلك للمقارض في المال الذي بيده؛ لأنه مؤتمن عليه ولذلك قال الليث في المقارض المقيم الذي لا نفقة له في المال إنه لا بأس أن يتغدى منه بالأفلس إذا اشتغل بالتجارة في السوق، فإذا جاز له أن يأكل هذا القدر وإن لم يجب له فيه نفقة كان أحرى أن يجوز له التصدق به، فيكون له في ذلك من الأجر إن شاء الله بقدر ما له فيه من الربح.
وكذلك الوصي أيضا يعطي السائل من مال يتيمه يرجو بركة ذلك لليتيم.
وليس قول مالك في هذه الرواية عندي بخلاف قوله في موطئه إنه لا يهب منه شيئا ولا يعطي منه سائلا ولا غيره؛ لأن المعنى(12/326)
في ذلك إنما هو فيما كثر وخرج عن حد ما لا يتشاح في مثله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعطيه قراضا فيشتري به طعاما فيقول له رب المال بع جملة]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يعطي الرجل المال القراض فيشتري به طعاما ثم يأتي به إلى السوق ويريد بيعه، فيقول صاحب المال بع جملة واقبض الثمن، ويقول المقارض البيع على يدي أكثر للربح، وأنا أريد أن أبيع على يدي، قال: ينظر في ذلك إلى الذي يرى أنه وجه الشأن فيه، فيحملان عليه ولا ينظر في قول واحد منهما.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن لكل واحد منهما حقا في المال، فوجب ألا يغلب قول واحد منهما على صاحبه وأن يسأل عن ذلك أهل المعرفة به، فمن رئي الصواب في رأيه منهما حملا عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أخذ العامل في القراض ربحه بإذن رب المال وترك هو ربحه في المال]
مسألة وسئل مالك: عن العامل في القراض يأذن له صاحبه أن يأخذ ربحه، فقال: لا يأخذ شيئا حتى يقتسما وإن أذن له فيه صاحبه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أخذ العامل في المال ربحه بإذن رب المال وترك رب المال ربحه في المال، فالمكروه في ذلك بين؛ لأن رب المال إذا ترك حظه من الربح في المال بعد أن أخذ العامل حظه منه بإذن رب المال فكأنه أعطاه حظه من الربح قراضا على أن يخلطه بالقراض الأول وهو لم ينض بعد إذ لم يتحقق نضوضه.
فهذا على هذا التأويل مثل ما في المدونة من أنه لا يجوز إذا دفع الرجل إلى الرجل مالا قراضا فشغله في سلع أن يدفع إليه مالا آخر قراضا على أن يخلطه به؛ لأنه غرر إن نقص فيه وربح في الأول صيره من ربح الأول وإن ربح فيه وخسر في المال الأول صيره من ربحه.
وقال الفضل(12/327)
فيه: إنه إن وقع كان في القراض الأول على حاله، ورد في الثاني إلى إجارة مثله، ولو تحقق نضوض المال في هذه المسألة لجاز؛ لأنه كان يكون بمنزلة من دفع إلى رجل مالا قراضا ثم دفع إليه بعد ذلك مالا آخر قراضا على أن يخلطه به.
وإنما كره هذه المسألة مخافة ألا ينض رأس المال بعد أو لعله قد نض إلا أن فيه خسارة فكذبه فيما زعم أن فيه من الربح ليقره بيده ولا ينزعه منه، ولهذه العلة لم يجز مالك في موطئه أن يقتسم المتقارضان الربح دون حضور رأس المال ونضوضه، فقال في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فعمل به ثم جاءه بمال فقال هذا حصتك من الربح وقد أخذت لنفسي مثله ورأس مالك وافر عندي فأقره، قال: لا أحب ذلك حتى يحضر المال كله ويحاسبه ويعلم أنه وافر ويصير إليه، ثم إن شاء رده إليه على قراضه وإن شاء أمسكه، وإنما يجب حضور المال مخافة أن يكون نقص فيه فهو يحب ألا ينتزع منه وإن نقص عنده.
هذا نص قول مالك في موطئه، وظاهر ما في الواضحة أن اقتسامهما الربح على غير محاسبة ولا اعتماد مفاصلة جائز؛ لأنه قال: إذا كانا يفعلان ذلك وجاء في المال نقصان جبر من الربح الذي اقتسماه، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا فشارك رجلا بمال له فعملا جميعا]
مسألة وسئل مالك: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فشارك رجلا بمال له فعملا جميعا، قال: أراه ضامنا حين أدخل في مال الرجل غيره؛ لأن الرجل قد يقارض الرجل بثلاثة أرباع ويقارض بالنصف لموضع أمانته، فقيل له: أفتراه ضامنا؟ قال: نعم، أراه ضامنا إن تلف أو نقص غرم، وإن كان ربحا كان على قسمة قراضه.
قال محمد بن رشد: هذا مفسر لما في المدونة أنه إن شارك المقارض بمال القراض فهو ضامن إذا لم ينض فيها أنه إن كان فيه ربح كان على قسمة قراضهما. وزاد في المدونة أن الرجل إذا قارض رجلين كل واحد(12/328)
منهما على حدة فلا يجوز أن يشتركا وإن كان المال لواحد. وهذا كله بين لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[: يعطي الرجل المال القراض فيخرج به إلى الريف فيبتاع به القمح الكثير]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن الرجل يعطي الرجل المال القراض فيخرج به إلى الريف فيبتاع به القمح الكثير والشعير فيكثر عليه ذلك فيتكارى سفنا ويستأجر أجراء فيحملها ويبعث فيها الأجراء ويكتب إلى صاحب المال أن يقوم معهم في خزنه ويقسم إن أحب ذلك من غير شرط يكون في أصل ذلك.
قال: لا يعجبني هذا ولو كان الشيء الخفيف ما رأيت به بأسا، قيل له: قدر المائة الدينار أو مائة وخمسين؟ قال: إن كان الشيء الخفيف وإلا فلا خير فيه، هذا يكثر فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: كره ذلك في الكثير مخافة الذريعة إلى استجازة ذلك على شرط، أو رأي، أو عادة، فإن وقع ذلك على غير شرط ولا رأي ولا عادة نفذ ذلك ومضى، ولم يحولا عن شرطهما فيه، والله الموفق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا فلما أراد السفر قال إني أريد أن أخرج بمالي]
مسألة وسئل مالك: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فلما أراد أن يخرج إلى سفره، قال لصاحبه: إني أريد أن أخرج بمالي معي أتجر فيه، وإني لست أحمل على مالك نفقة، وأنا أنفق من مالي فإنه لا يحمل ذلك.
قال: لا يعجبني ذلك وإنما ذلك بمنزلة ما لو قال له ذلك عند دفعه إياه، ولكن ليعمل فيهما والنفقة على المالين،(12/329)
وسواء قال ذلك عند خروجه أو عندما يدفعه إليه وفيه تفسير.
قال عيسى: وتفسيره إن كان قال ذلك في حين يجوز له منعه من الخروج لم يكن فيه خير، وإن كان ذلك في حين لا يجوز له منعه وذلك بعد أن يتجهز ويشتري فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات فإنه يحمل ذلك ولا يغير ذلك من حكم المسألة شيئا.
وتفسير عيسى صحيح مبين لقول مالك، فمعنى قوله: وسواء قال ذلك عند خروجه أو عندما يدفعه إليه، يريد: إذا كان خروجه بالمال وهو ناض قبل أن يشتري به ويتجهز.
وأما لو قال ذلك بعد أن اشترى بالمال وتجهز لجاز ذلك ولزم على القول بلزوم العدة لأنها عدة، وإذا قال ذلك له عندما دفع إليه المال أو عند خروجه والمال بحاله فهو مكروه ولا يلزم ولا يبلغ به الفسخ إلا أن يكون ذلك القول عندهما كالشرط، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذ المال قراضا على أنه يدفعه إلى غيره يعمل به]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يأخذ المال قراضا على أنه يدفعه إلى غيره يعمل به، فكره ذلك، وقال: ما يعجبني، ثم ردد فيه الكراهية، فقيل له: أفرأيت إن قال له إني أبعث فيه غلامي ومولاي إلى بعض إخواني يشترون به ويبيعون؟ فقال: إني لأرجو أن يكون خفيفا، وما هو من عمل الناس.
قال محمد بن رشد: لا فرق بين أن يأخذ منه المال قراضا على أن يعطيه لغيره يعمل به قراضا، أو على أن يرسل فيه غلامه أو مولاه إلى من يشتري به ويبيع من إخوانه كما أنه لا فرق بين أن يأخذ منه المال قراضا فيقول إني أدفعه إلى غيري يعمل به قراضا أو إني أبعثه مع غلامي أو مولاي إلى من يشتري به ويبيع من إخواني، فإذا كان على الشرط في المسألتين(12/330)
جميعا لم يجز، وإذا كان على غير الشرط في المسألتين جميعا جاز. وإنما افترقت المسألتان عنده لأن الأولى بشرط، والثانية بغير شرط.
والمكروه فيهما جميعا إذا كان ذلك على وجه الشرط بين؛ لأنه كأنه استأجره على أن يدفع ماله إلى غيره قراضا أو على أن يبعثه مع ولاه أو غلامه إلى من يشتري به ويبيع من إخوانه على سبيل القراض بالجزء الفاضل من الربح إن دفعه بأكثر مما أخذه، وقد يدفعه بأقل فيخسر، وبمثل الجزء فلا يربح، فذلك غرر بين وإجارة فاسدة.
فقوله في ذلك إنه مكروه تجاوز في اللفظ، فإن وقع ذلك كانت له أجرة مثله في دفعه المال إلى غيره قراضا وفي بعثه به إلى من يعمل به من إخوانه قراضا، وكان العامل فيه على الجزء الذي اشترطه من القراض.
وأما إذا قال له حين أخذه المال منه إني أدفعه إلى من يعمل فيه قراضا أو أبعثه إلى من يعمل به قراضا ولم يشترط ذلك، فذلك إذن منه له في أن يقارض به، فإن قارض فيه بأكثر من الجزء الذي اشترطه كان الفاضل لرب المال لا له.
وهو نص قول مالك في كتاب ابن المواز، بخلاف المساقاة والفرق في هذا بين القراض والمساقاة أن المساقاة يلزم بالعقد فكان له أن يأخذ الفضل، والقراض لا يلزم بالعقد فلم يكن له الفضل.
وإن قارض فيه بأقل من الجزء الذي اشترطه مثل أن يقارض رب المال على النصف فيقارض هو غيره على أن يكون له الثلث وللعامل الثلثان فرب المال أحق بالنصف ويرجع العامل الثاني على المقارض الأول بمثل سدس الربح الذي استحق صاحب المال من يده. وهذا إذا لم يعلم رب المال أن المقارض الأول قارض المقارض الثاني على أكثر مما قارضه هو عليه.
وأما إذا علم ورضي فلا يكون له إلا ما رضي به واختلف إذا علم أو حضر فسكت. فقيل: سكوته كالإذن، ولا يكون له من الربح إلا ما اشترط منه المقارض الأول على المقارض الثاني. وقيل: لا يكون كالإذن ويكون أحق بالجزء الذي قارض عليه هو(12/331)
المقارض الأول. وقد مضى هذا المعنى في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب المساقاة.
وفرق في كتاب محمد في الذي يأخذ المال قراضا بين أن يقول أبعثه مع مولاي إلى بلد آخر إلى من يكفيني أمره أو إلى قوم يشترون ويبيعون. فقال في الأول: إنه لا يصلح، وفي الثاني: أرجو أن يكون خفيفا. قال محمد: ما لم يشترط.
وجه الفرق بينهما أنه إذا قال: أبعثه إلى من يكفيني أمره فإنما معناه أبعثه إلى من ينزل منزلتي في العمل فيه بالجزء الذي أخذته به، وقد يجد ذلك وقد لا يجده. فلذلك كرهه، وقال: إنه لا يصح، وإذا قال: أبعثه إلى قوم يشترون ويبيعون، فإنما معناه إلى قوم يشترون به ويبيعون على ما أواجبهم عليه من الربح على سبيل القراض أو من الأجرة على سبيل الاستئجار على الوجه الذي تصح عليه الإجارة. وذلك لا يتعذر وجوده. فلذلك أجازه ورآه خفيفا. وأما إذا كان ذلك بشرط فقد مضى وجه فساده، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا وأذن له في مداينة الناس فداين وعمل]
مسألة وسئل مالك: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا وأذن له في مداينة الناس فداين وعمل، ثم إنه وقع بينهما كلام، فقال له العامل: هذا ما اشتريت بمالك حاضرا، وما كان منه غائبا فهذه ذكور حقوقك فخذ ذلك كله وأخرجني منه واقبض لنفسك وبع لها. قال: لا بأس بذلك.
فقلت: له: أفلا ترى فيه غررا؟
قال: لا، إنما هو مثل الذي يموت فيأبى الورثة أن يعملوا فيكون له، أو الرجل يأخذ المال قراضا فيشتري فيصيبه مرض أو يضعف عن القيام فيه فيسلم ذلك إلى صاحب المال فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أما مرض أو ضعف عن القيام في المال فالأمر في جواز ذلك ظاهر؛ لأنه يشبه الموت. وأما إذا أسلم المال إلى رب المال(12/332)
وتخلى عن القراض إليه برضاه وهو قد أنشب المال في سلع وديون فالأظهر أنه لا يجوز على ما قاله سحنون في أول رسم من السماع. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: السنة في القراض لا يقسم الربح إلا عند المفاصلة]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يأخذ المال قراضا فيشتري متاعا ويداين فإذا كان على رأس حول دعا صاحبه إلى أن يحاسبه فيقول عندي كذا وكذا من النقد، وكذا وكذا من العروض، والدين كذا وكذا، ويقول له صاحب المال: أنا أعطيك ربحك من النقد وأبريك من الدين وهو رأس مالي والعرض إن دخل فيه نقضان إلا أن العامل يعمل فيه كما هو، قال: لا خير فيه حتى يحصل المال.
قال محمد بن رشد: قوله إلا أن العامل يعمل فيه كما هو، أي: حتى ينض المال بقبض الدين وبيع العروض وقبض أثمانها، وإنما لم يجز ذلك، وقال: إنه لا خير فيه لأن السنة في القراض لا يقسم الربح إلا عند المفاصلة إما بعد نضوض المال وإما بأن يرضي رب المال أن يخرج في رأس ماله إلى دين أو يأخذ فيه عرضا.
فقد حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك أنه قال: وإذا تفاصل رب المال مع العامل في القراض واقتسما الربح فلا بأس أن يأخذ رب المال رأس المال عينا ثم يقاسمه ما بقي من سلع أو غيرها، أو يأخذ رب المال في رأس ماله سلعة ثم يقاسمه فيما بقي من عين أو عرض.
فإذا لم يكن للعامل أن يقبض حصته من الربح حتى ينض رأس المال إلا برضا رب المال بالمفاصلة قبل نضوضه كان رب المال إنما فاصله قبل نضوضه وعجل له حصته من الربح قبل أن ينض رأس المال على أن يعمل في المال حتى ينض باطلا بغير شيء يكون له، فيدخله سلف جر منفعة، وبالله التوفيق.(12/333)
[: المقارض يحاسب صاحبه ثم يأتي بعد ذلك يذكر أنه نسي الزكاة]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان قال: سئل مالك: عن المقارض يحاسب صاحبه ويقول قد تهضمت لك وحملت على نفسي، ثم يأتي بعد ذلك يذكر أنه نسي الزكاة وغير ذلك.
قال: لا يقبل قوله إلا أن يأتي على ذلك ببينة أو أمر لا يستنكر فيه قوله، وأمر يعرف به وجه ثبات ما رفع من ذلك.
قال ابن القاسم: وسمعته وسألناه عن مقارض عمل ودفع إلى صاحبه رأس ماله وربحه ثم جاء بعد ذلك يطلب نفقته ويقول أنفقت من مالي ونسيت حتى دفعت إليك. قال: لا يحلف ويكون القول قوله.
قال محمد بن رشد: أما المسألة الأولى فلا اختلاف فيها أنه لا يصدق فيما ادعى أنه نسيه عند المحاسبة لقوله قد تهضمت لك وحملت على نفسي لاحتمال أن يكون هذا الذي ادعى أنه نسيه هو الذي تهضم فيه وحمل فيه على نفسه، إلا أن يأتي بدليل على صحة دعواه.
وأما المسألة الثانية ففي المسألة خلافها أنه لا يقبل قوله فيما ادعى أن له في المال بعد أن حاسب صاحبه وقاسمه ودفع إليه ماله وهو الأظهر؛ لأن دفع ماله إليه كالإقرار أنه لا حق له فيه، فهو مدعى عليه فما يريد أن يخرجه من يده بعد أن دفعه إليه.
ووجه القول الثاني: أن الغلط والنسيان ليس أحد بمعصوم منه، فوجب أن يصدق بعد كما كان يصدق قبل، وهذا يشبه اختلافهم فيمن باع مساومة ثم ادعى الغلط، وبالله التوفيق.
[: أقام في الحضر في تجارة القراض مشتغلا بها نهاره كله]
ومن كتاب أوله سلف في المتاع وقال مالك فيمن أقام في الحضر في تجارة القراض مشتغلا بها نهاره كله: لا أرى أن ينفق من مال القراض شيئا على نفسه في غداء ولا غيره.(12/334)
قال محمد بن رشد: هذا خلاف قول الليث بن سعد في المدونة أنه لا بأس إذا اشتغل في السوق أن يتغدى بالأفلس، وقوله أظهر. وقد مضى من قول مالك في أول رسم شك ما يضاهي قوله على ما بيناه هناك، وبالله تعالى التوفيق.
[: يقارضه بمال فيشتري متاعا فيريد أن يبيع المتاع فلا يعجبه الثمن]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك: عن الرجل يقارض الرجل بمال فيشتري متاعا فيريد المقارض أن يبيع المتاع فلا يجد به ما يعجبه من الثمن، فيقول لصاحب المال: بعنيه وأنا أنقدك من ثمنه كذا وكذا، ثم أنظرني ببقية الثمن شهرا أو شهرين، قال: لا خير في ذلك، قال ابن القاسم: وقد سمعته غير مرة يكرهه وكأنه ينحو إلى وجه كأنه أعطاه مائة بخمسين ومائة إلى أجل.
قال محمد بن رشد: في النوادر متصل بهذه المسألة. قال ابن القاسم في رواية يحيى: إن ابتاعه بنقد فجائز، وإن كان بتأخير بمثل الثمن فأقل فجائز، وإن كان بأكثر فلا يجوز، وإن أراد رب المال أن يشتريها بنقد أو إلى أجل فلا بأس به، ومثله في رسم القطعان من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب وهو صحيح لهذه الرواية وغيرها.
وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول مسألة من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: دفع إلى رجل مالا قراضا فتجهز منه بطعام وكسوة ثم هلك الرجل]
ومن كلاب باع غلاما وسئل مالك: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فتجهز منه(12/335)
بطعام وكسوة ثم هلك الرجل فأراد الوصي أن يأخذ ذلك المال. قال: أرى ذلك له، وأرى أن يأخذ منه ذلك الطعام والكسوة التي اشترى من مال الميت.
قال سحنون: ليس ذلك للوصي؛ لأنه هو لو كان حيا لم يكن له أن يأخذ ذلك منه، إلا أن يكون لم يحرك من المال إلا في كسوة نفسه وطعامه، فهو كما ذكر في المسألة.
قال محمد بن رشد: معنى ما تكلم عليه مالك أن العامل لم يتجهز من المال إلا في كسوة نفسه وطعامه، وذلك بين من قوله: وأرى أن يأخذ منه ذلك الطعام والكسوة التي اشتريت من مال الميت، يريد: ولا يترك له من أجل أنه اشتراها لنفسه، وإن كان قدر ذلك يسيرا إذا لم يعمل بالمال فيترك له الشيء اليسير كما قال في المسألة التي بعدها، ويحتمل أن يريد وهو الأظهر أنه يؤخذ منه ذلك الطعام وتلك الكسوة، ولا يضمن الثمن التي اشتراها به من أجل أنه اشتراها لنفسه، إذ لو رأى إذا تجهز من المال بطعام وكسوة للتجارة لا لنفسه أن يؤخذ المال منه لما كان إشكال في أنه يؤخذ منه ما كان تجهز به حتى يحتاج إلى بيانه، فقول سحنون صحيح في أنه لا فرق في ذلك بين الوصي وبينه هو لو كان حيا، وتأويله على مالك أنه فرق بين الوجهين غير صحيح.
وينبغي إذا أخذت منه الكسوة أنه اشتراها لنفسه والطعام وأخرج من القراض أن يعطى أجرة مثله في ابتياعه الكسوة والطعام، وبالله التوفيق.
[مسألة: ما يفضل عند المقارض إذا قدم من سفره مثل الجبة وأشباه ذلك]
مسألة وقال مالك فيما يفضل عند المقارض إذا قدم من سفره مثل الجبة وأشباه ذلك، فقال: ما علمت أنه يؤخذ منه مثل هذا.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في نوازل سحنون أن رب المال إذا أخذ ماله من العامل لا يؤخذ منه الثياب التي كان اشتراها لسفره من مال القراض إلا أن يكون لها قدر وبال. ومثله لمالك في موطئه. وهو استحسان(12/336)
على غير حقيقة القياس ليسارة ذلك مع العرف الجاري فيه على أصله في كتاب الحدود في القذف من المدونة في الرجل يكسو امرأته كسوة السنة بفريضة من السلطان أو بغير فريضة ثم يموت أحدهما قبل انقضاء السنة أنه استحسن ألا يتبع المرأة بشيء من ذلك لما بقي من السنة بخلاف النفقة، وبالله التوفيق.
[: تجار حبوب لا تحمل أموالهم ما يشترون فيأتون إلى أقوام يسألونهم قراضا]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل وسئل مالك: عن القوم يشترون التجارات من الحبوب والصوف وأشباه ذلك فلا تحمل أموالهم ما يشترون، فيأتون إلى أقوام يسألونهم أن يعطوهم أموالا قراضا ولا يعلمونهم بما كانوا اشتروا ويجعلونها قراضا فيما بينهم وبين الذين قارضوهم، أترى ذلك يصلح؟ قال: لو صح ذلك لم أر به بأسا، قيل له: فما الذي تخاف ألا يصح؟ قال: يشتري سلعة غائبة فيندم فيها فيأخذ هذا المال فينقده فيها.
قال ابن القاسم: لا يعجبني العمل بهذا وإن صح، قال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: كراهية مالك لهذا العمل مخافة ألا يصح، وإجازته له إذا صح هو مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: إني أخاف أن يكون قد استغلاها فيدخل مال الرجل فيه فلا أحب هذا.
وزاد في أصل الأسدية تتميما لقوله ولو أعلم أن ذلك صحيح لم يكن لغلا وقع فيه وما أشبهه لم يكن به بأس وقول ابن القاسم لا يعجبني العمل بهذا وإن صح أصح والله أعلم؛ لأن الذي نواه أخذ المال من أن ينفذ ماله فيما قد اشتراه لو علم به رب المال لما جاز باتفاق.
وإن صح أن ذلك لم يفعله لغلاء وقع فيه لأنه بمنزلة رجل سلف رجلا مالا على أن ينفذه في سلعة اشتراها على أن له نصف ما يربح فيها(12/337)
وعليه جميع ما كان فيها من وضيعة، وذلك أنه يحمل أمرهما على أنه لما اشترى السلعة فقصر ما عنده عن ثمنها وعلم أنه إن سأل الرجل أن يسلفه ما نقصه من ثمنها يأبى ذلك عليه، وإن قال له: أعطني ما نقصني من ثمنها ويكون لك نصف ربحها كان ذلك حراما لا يجوز أخذه منه باسم القراض ونيته فيه ما تقدم، فوجب ألا يجوز. ولذلك تابعه عليه سحنون فقال لا خير فيه.
ففرق مالك بين أن يعلمه بذلك أو لا يعلمه به في المدونة، وساوى بينهما ابن القاسم على ما وقع له هاهنا، وسحنون أيضا.
ولذلك قال فيما رأيت له في بعض حواشي كتب المدونة على المسألة الثانية إذا أعلمه: هذه جيدة أصح من الأولى، يريد: إذا لم يعلمه، فإذا وقع ذلك كان الحكم فيه على مذهب مالك أن يكون لرب المال أن يأخذ ماله كاملا إن بيعت السلعة بوضعية إلا أن يبين العامل أنه لم يفعل ذلك إلا على وجه الصحة لا لغلاء وقع فيه، وإن عجز عن تبيين ذلك ودعا إلى تحليف رب المال على أنه قد أعلمه كان ذلك له إن حقق عليه الدعوى باتفاق، وإن لم يحققها عليه على اختلاف، وأما إن باع العامل السلعة بربح فادعى أنه كان استغلاها ولذلك أخذ المال لينقده فيها ليرد إلى رب المال رأس ماله ويستبد هو بالربح لم يصدق في ذلك إلا أن يقيم عليه بينة.
وأما على مذهب ابن القاسم وسحنون فليس لرب المال إلا رأس ماله بيعت السلعة بربح أو وضيعة، وإن تلفت فالعامل ضامن للمال بمنزلة إذا أعلمه أنه ينقده ماله في السلعة التي اشترى لأنه إذا أخذه لينقده في ثمن السلعة التي اشترى فكأنه استسلفه منه على أن له نصف ما يربح في السلعة، فإذا لم يعلم رب المال بذلك كان هو المنفرد بالإثم دونه، ووجب عليه أن يرد إليه رأس ماله، وإذا أعلمه بذلك اشتركا في الإثم، فهذا وجه القول في هذه المسألة.
وأما إذا أتاه قبل أن يشتري فقال له إني وجدت سلعة رخيصة فادفع إلي مالا أشتريها به على سبيل القراض فذلك جائز، وقد فعله عثمان بن عفان إذا لم يسم السلعة ولا صاحبها البائع لها، فإن سمى السلعة أو الرجل لم تجز وكان العامل في ذلك أجيرا، وبالله التوفيق.(12/338)
[مسألة: قراض النقدين الذهب والفضة]
مسألة وسئل مالك: عن قراض النقرين الذهب والفضة؟ فقال: لا.
قال ابن القاسم: إذا وقع لم أفسخه وأنفذت بينهما شرطهما من الربح. قال ابن القاسم: عمل أو لم يعمل، ربح أو لم يربح، هو قراض ما هو واجب لهما متاركته إذا لم يعمل.
قال أصبغ: قلت لابن القاسم: فالفلوس أيقارض بها؟ قال: لا، أنا أكرهه وكره القراض بها، قلت: فإن وقع وجاء فيه ربح أو وضيعة فوقف ولم يجب فيه بشيء، قال أصبغ: هو عندي كالنقر أرى أن يمضي. وقد جرى مجرى العين من كتاب البيع والصرف.
قال محمد بن رشد: أما القراض بنقر الذهب والفضة في البلد الذي يدار فيه نقر الفضة والذهب وأتبارهما ويتبايع فيه فذلك جائز على ما وقع في سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب ولا اختلاف في هذا.
وأما القراض بها في البلد الذي لا تدار فيه وإنما يبتاع الناس فيه بالدنانير والدراهم المضروبة، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لا يجوز. وهو ظاهر قول مالك في رواية ابن القاسم هذه عنه. وقد روي عنه مثل هذا الظاهر نصا أن ذلك لا يجوز.
والعلة في ذلك: أنه لما كان البلد لا يبتاع بها فيه فكأنه قال له بعها أو استضربها واعمل قراضا بالثمن الذي تبيعها به أو بالعدد الذي يخرج في الضرب منها، فأشبه القراض بالعروض إذا قال له بعها واعمل بثمنها قراضا، فإن وقع ذلك كان له أجر مثلها في بيعها أو استضرابها، ويكون رأس المال الذي يرد إذا نص القراض الثمن الذي باعها به أو العدد الذي خرج منها، ويكون في ذلك على قراض مثله.
والقول الثاني: يكره ابتداء فإن وقع(12/339)
نفذ ومضى على شرطهما من الربح عمل أو لم يعمل ربح أو لم يربح.
وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية وفي سماع يحمى بعد هذا وقول أصبغ في كتاب محمد وقول ابن حبيب في الواضحة، ويكون رأس المال الذي يرد العامل إذا نض المال مثل النقد الذي أخذ في طيبها وزنتها، فإن لم يعرفا لها زنة فرأس ماله فيه الثمن الذي باعها به أو العدد الذي خرج فيها إن كان استضربها ولم يبعها، وان كان باعها بعروض ولم يعرفا لها وزنا فرأس المال فيه قيمتها من الذهب إن كانت نقر فضة أو قيمتها من الفضة إن كانت نقر ذهب. قال ابن حبيب في الواضحة: إلا أن يكون يوم قارضه قال له بعها أو استضربها فيكون رأس ماله ما باعها به أو ما خرج في استضرابها عرفا وزن التبر والنقر التي أعطاه أو جهلاه، ويكون له أجرة مثله في بيعه إياها بالدنانير أو استضرابه لها إن كان في ذلك مؤنة وفي مثله كراء، ثم يكون فيما نض في لديه من ذلك على قراض مثله. هذا قول ابن حبيب في الواضحة، ففرق بين أن يشترط عليه بيعها أو استضرابها وبين أن لا يشترط ذلك عليه.
وقد علم أنه لا بد له من بيعها أو استضرابها وإن لم يشترط ذلك عليه إذا كان البلد لا يبتاع فيه بها، والمعنى في ذلك: أنه إذا اشترط عليه ذلك فقد شرط أن القراض إنما يكون من بعد بيعها أو استضرابها وإذا لم يشترط ذلك عليه فقد جعلها قراضا من يوم دفعها إليه، وقد يبيعها بعروض وإن كان البلد لا يبتاع فيه بها، فيكون بيعه لها بالعروض من التجارة، ويرد مثل ما دفع إليه إذا نض القراض؛ لأنها لا تتغير ولا تختلف أسواقها، بخلاف العروض، فلذلك جاز القراض بها عند من أجازه.
والقول الثالث: أن القراض بها جائز ابتداء. وهو قول مالك في رواية أشهب عنه بعد هذا في رسم مسائل بيوع. وقد سئل: عن القراض في نقر الذهب والفضة أيصلح؟ قال: نعم في رأيي قد قارض الناس قبل أن يضرب الذهب والفضة، قلت: ويرد نقرا مثلها؟ قال: نعم، وقول ابن وهب وروايته عن مالك.
وأما القراض بالفلوس فهو أشد عند ابن القاسم من القراض بنقر الفضة(12/340)
والذهب؛ لأنها تشبه العروض في أنها تحول بالنفاق والكساد والفساد فلذلك وقف فيه، إذا لم يعثر عليه حين وقع حتى جاء فيه ربح أو وضيعة. وفيها أيضا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها كالعروض في أن القراض لا يجوز بها من أجل أنها تحول إلى النفاق والكساد والفساد، وهو قول ابن القاسم في أول كتاب القراض من المدونة.
واحتج بأنها تشبه العروض ولا تشبه العين برواية عبد الرحمن عن مالك في إجازة شرائها بالدنانير والدراهم نظرة، فإن وقع القراض بها على هذا القول رد العامل فيها إلى قراض مثله، وكان رأس المال الذي يرده إذا نض المال قيمة الفلوس من الدنانير والدراهم يوم دفعها إليه.
والقول الثاني: أن القراض بها مكروه فإذا وقع مضى على شرطهما من الربح ولم يرد، وكان رأس المال الذي يرده العامل إذا نض المال مثل الفلوس الذي دفع إليه رب المال.
والقول الثالث: أن القراض بها جائز ابتداء وهو قول أشهب في ديوانه، قال: لأنها كالعين في أنه لا يجوز بيعها بالدنانير والدراهم نظرة وليس الاعتبار بالصرف في جواز القراض بها ولا منعه ببين.
إذ قد اختلف في ذلك قول مالك، وإنما العلة الصحيحة التي يجب الاعتبار بها في ذلك حوالتها إلى النفاق والكساد والفساد، فإن كان يؤمن ذلك في الغالب عليها وكان يتبايع بها في البلد لم يجز القراض بها، إنما يجوز القراض بها عند من أجازه في الشيء اليسير الذي يتبايع فيه بالفلوس كالبقول والفواكه وشبه ذلك، مع أنه رأى باجتهاده أنها لا تحول عن حالها من النفاق والكساد في أغلب الأحوال، والله أعلم.
واختلف قول مالك أيضا في جواز القراض بالحلي، فحكى ابن الجلاب عنه الروايتين في ذلك، ولم يجزه في كتاب ابن المواز ولا في سماع أشهب بعد هذا، وهو الصحيح المعروف.
قال في الموضعين: وقد سئل أيصلح أن يقارض من الذهب والفضة فيما كان مصوغا؟ ليس هكذا يقارض الناس. فقيل له: ذلك أحب إليك؟ قال: بل هو الشأن متى يأتي هذا المقارض بمثل الخلخال والسوار حتى يرد مثله.
وقال بعض المتأخرين:(12/341)
القراض بالمصوغ على ثلاثة أوجه: جائز إذا كانوا يتبايعون به مثل ما بالمغرب بأرض المصامدة، ومكروه: إذا كانوا لا يتبايعون به ولا يتعذر عندهم المثل، وممنوع إذا كان المثل يتعذر، كما قال مالك: فمن أين يأتي بهذا الخلخال؟ وبالله التوفيق.
[: اشترى سلعة بألف دينار على أن ينقده مائة فنقد المائة التي عنده قراضا]
ومن كتاب القبلة قال مالك: من كانت عنده مائة دينار قراضا فاشترى سلعة بألف دينار على أن ينقده مائة، فنقد المائة التي عنده قراضا.
قال: هما شريكان في الزكاة بالحصص، وتقوم السلعة بالنقد فإن كانت قيمتها تسعمائة كان للقراض التسع من تلك القيمة.
قال ابن القاسم: وكذا الربح والوضيعة فيما بلغني عن مالك.
قال محمد بن رشد: قوله على أن ينقده مائة، يريد: والتسعمائة قبله وفي ذمته إلى أجل معلوم، والشراء له وللمال القراض، ولو كان اشتراها على أن تكون السلعة كلها للقراض ويؤدي رب المال التسعمائة عنده إذا حل الأجل لكان بالخيار بين أن يجيز ذلك ويؤدي التسعمائة إذا حل الأجل وتكون السلعة كلها على القراض، وبين ألا يجيز ذلك فلا يكون منها على القراض إلا بقدر المائة التي دفع إليه من قيمة السلعة يوم اشتراها، ويكون للمقارض منها قدر ما زادت قيمتها على المائة التي دفع إليه، هذا قوله في هذه الرواية أن السلعة تقوم بالنقد يريد يوم اشتراها، فإن كانت قيمتها تسعمائة كان للقراض التسع، ومثله في المجموعة وفي كتاب ابن المواز في القراض من المدونة. وقال محمد بن المواز: ليس هذا بشيء؛ لأنه إن استرخص لم ينتفع القراض بذلك، وإن استغلى لم يلحقه الغلاء، إذ لو كانت قيمتها بالنقد ألفا أو ألفا وخمسمائة لم يقع للقراض من ذلك إلا مائة.
والصواب من ذلك أن يقوم(12/342)
الدين. وقد روى عن مالك وعن ابن القاسم وأشهب أن ينظر إلى قيمته التسعمائة أن لو نقد بعرض، وينظر إلى قيمة العرض، فإن سوى ستمائة كان للقراض سبع السلعة فيما يقع لذلك من ربح أو وضيعة، وهو القياس؛ لأن الدين حكمه حكم العرض فكأنه قد اشترى السلعة بالمائة القراض وبعرض. فالواجب في ذلك بلا خلاف أن ينظر إلى قيمة العرض.
فإن كانت قيمته ستمائة كان للقراض السبع وإن كانت قيمته سبعمائة كان للقراض الثمن، وكذلك على هذا المثال ما زادت قيمته أو نقصت، وعلى هذا أصلح سحنون مسألة المدونة أن يقوم الثمن المؤجل لا السلعة، ووجه ما وقع في المدونة من تقويم السلعة هو أن الديون لما لم تجر العادة بتقويمها كانت قيمتها غير معروفة.
والغالب أن السلعة إنما تشترى بقيمتها دون غبن يجري في ذلك على البائع وعلى المبتاع. فالأحسن في هذا من أجل أن العادة لم تجر بتقويم الديون وأن السلع قد يتغابن في شرائها وإن كان الأغلب أنها إنما تشترى بالقيمة دون تغابن أن تقوم السلعة بالنقد وعلى أن يتأخر من الثمن تسعمائة إلى الأجل، فإن كانت قيمتها بالنقد ألف دينار وإن يتأخر من الثمن تسعمائة إلى ذلك الأجل ألف ومائتان، علمنا أنه قد زاد على قيمة السلعة بالنقد من أجل التأخير سدس الثمن؛ لأن المائتين التي بين الألف وبين الألف والمائتين سدس الألف والمائتين، فيحط من الألف التي اشترى بها السلعة سدسها وهو مائة وستة وستون وثلثان، فيكون الباقي هو ثمن السلعة وذلك ثمانمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، يكون القراض منها مائة، وذلك عشرها وخمسة أسباع عشر عشرها. وكذلك ما زاد أو نقص على هذا الحساب.
وكذلك لو اشترى سلعة بالنقد بأكثر من رأس مال القراض لكان شريكا للقراض بالزائد، وفي ذلك تفصيل وقع تفسيره في الدمياطية.
قال ابن القاسم فيها: في القراض وجهان لا يأبه كثير من الناس إليها، رجل أخذ مائة دينار قراضا وله مائة دينار لنفسه فخلطها بها ثم اشترى سلعة، قال: فهما شريكان وليس صاحب المال هنا مخيرا.
قال: وإن كان إنما أخذ مائة دينار قراضا ثم اشترى سلعة فيسلف فيها(12/343)
مائة دينار فصاحب المال بالخيار، إن شاء أن يؤدي ما سلف عليه أداه، وإن شاء كان شريكا في السلعة كذا وقع في الدمياطية، ولا فرق في القياس والنظر أن يخلط مائة بمائة القراض قبل الشراء، أو لا يخلطها بها إن قال في الوجهين جميعا إنما زدت المائة من مالي على أن أكون شريكا في السلعة بها، صدق في ذلك، ولم يكن لرب المال عليه في ذلك خيار.
وإن قال إنما زدت المائة من مالي على سبيل السلف لرب المال كان رب المال بالخيار إن شاء أن يؤدي المائة وتكون السلعة كلها على القراض كان ذلك له، وإن شاء كان شريكا في السلعة معه بها وللعامل في القراض إذا كان مديرا أن يشتري على القراض بالدين إلى أن يبيع ويقضي.
وأما إذا كان غير مدير فاشترى سلعة بجميع مال القراض فليس له أن يشتري غيرها بالدين على القراض، فإن فعل لم يكن على القراض وكان له ربحها وعليه وضيعتها، وإن أذن له رب المال في ذلك إلا أن يأذن له في أن يشتري على القراض على أنه إن ضاع مال القراض كان ضامنا لذلك في ذمته، فيجوز وتكون السلعة على القراض وسيأتي هذا المعنى في سماع أبي زيد.
وكذلك لو اشترى بالمال القراض سلعة فلم ينقده حتى اشترى سلعة أخرى على القراض كان ربحها له ووضعيتها عليه؛ لأن صاحب السلعة الأولى أحق بمال القراض إلا أن يأذن له رب المال في شرائها على القراض أنه ضامن للثمن إن تلف مال القراض، ولم يعط في المدونة في هذه المسألة جوابا بينا.
وإذا باع العامل السلعة التي اشترى للقراض بربح قبل إن ينقد ثمنها فالربح بينهما بمنزلة أن لو باعها بعد أن نقد.
وكذلك إن اشترى السلعة للقراض والمال غائب في بيته بمال من عنده أو بسلف من رب المال أو من غيره، فالربح بينهما على القراض وإن كان بيعه إياها قبل أن يقضي الثمن الذي تسلفه من المال الذي في البيت، وإن اشترى سلعة ثانية بالمال الذي في البيت بعد أن باع السلعة الأولى كانت على القراض أيضا، فإن خسر فيها جبره من ربح السلعة الأولى.
قاله ابن القاسم بعد هذا في رسم إن خرجت من سماع عيسى، ولو اشترى السلعة الثانية بالمال الذي في البيت قبل أن يبيع(12/344)
السلعة الأولى لم يكن على القراض وكان النقصان منه إن بيعت بنقصان لأنه متعد إذا اشترى به، وبائع السلعة الأولى أحق به، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: يأخذ المال قراضا فيعمل فيه ثم يشتري جارية فيطأها فتحمل منه ثم نقص المال]
ومن كتاب أوله لا قسامة في العبيد وقال مالك، في الرجل يأخذ المال قراضا فيعمل فيه ثم يشتري من ربح المال أو من جملته جارية فيطأها فتحمل منه ثم نقص المال. قال مالك: إن كان له مال أخذت قيمة الجارية من ماله فيجبر به القراض، ثم ما كان من ربح بعد وفاء المال فهو بينهما، قال ابن القاسم: وإن لم يكن له مال اتبع بقيمتها دينا ولم تبع.
قال سحنون: قول ابن القاسم يكون دينا يتبع به - غير معتدل عندي وتباع إلا أن يكون فيها فضل فيباع منها بقدر رأس مال رب المال وربحه ويبقى ما بقي منها بحال أم الولد.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة هو نص قول مالك في الموطأ، وزاد فيه: فإن لم يكن له مال بيعت الجارية حتى يجبر المال من ثمنها.
وهذا هو الحكم فيها إذا اشتراها ثم وطئها فحملت، والقيمة في ذلك إذا كان له يوم حملت. فلم يفرق مالك على قوله هذا وهو قوله في موطئه بين أن يشتريها من مال القراض فيطأها وبين أن يطأها بعد أن اشتراها للقراض، وفرق ابن القاسم بين المسألتين، فقال: إنه إذا اشتراها من مال القراض ليطأها فوطئها أنها لا تباع إن لم يكن له مال، قال مرة: وتؤخذ منه قيمتها إن كان له مال فيجبر به القراض، ويتبع بها إن لم يكن له مال ولا تباع وهو قوله في هذه الرواية.
ومعناه عندي: إن كانت القيمة أكثر من الثمن فإرادته أنه يتبع بالأكثر من الثمن أو القيمة، وقال مرة: إنه يؤخذ منه الثمن فيجبر به القراض إن كان له(12/345)
مال، ولا تباع، وهو قوله في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى بعد هذا.
وإذا أخذ منه الثمن الذي اشتراها به أو الأكثر من القيمة أو الثمن على ما تأولنا عليه قوله في هذه الرواية واتبع بذلك دينا ثابتا في ذمته كانت له أم ولد ولم يتبع بقيمة الولد على ما قاله عيسى بن دينار في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى؛ لأنه لم يقل إنه يتبع بقيمة الولد إلا إذا اشتراها للقراض ثم وطئها، وسنذكر هناك وجه قوله إن شاء الله. وعاب سحنون قول ابن القاسم واختار قول مالك أنها تباع إن لم يكن لها مال وتباع على مذهبه، وما اختاره من قول مالك فيما لزمه من قيمتها يوم حملت فإن لم يف ثمنها الذي بيعت به بقيمتها يوم حملت اتبع بما نقص من قيمتها يوم حملت وإذا أخذت منه قيمتها يوم حملت أو بيعت في ذلك إن لم يكن له مال على هذا القول يخرج اتباعه أيضا مع هذا بقيمة الولد على قولين قد ذكرنا وجههما في نوازل سحنون من كتاب الاستبراء. وهذا إذا لم يكن فيها فضل.
وأما إن كان فيها فضل، فقيل: إنه يباع منها على العامل إن لم يكن له مال لرب المال بقدر رأس ماله وربحه ويبقى ما بقي منها بحال أم ولد. وهو قول سحنون هاهنا.
وقيل: يكون حكمها حكم الأمة بين الشريكين يطأها أحدهما فتحمل ولا مال له، وهو قول عيسى بن دينار في رسم جاع من سماعه.
هذا تحصيل القول في هذه المسألة على ما حملها عليه بعض أهل النظر باتباع ظواهر الروايات، والذي أقول به في هذه المسألة: إن الاختلاف في بيعها إذا حملت وهو عديم إنما هو إذا اشترى ووطئ ولم يعلم إن كان اشترى للقراض أو لنفسه بمال استسلفه من القراض إلا بقوله.
فحمله مالك على أنه اشتراها للقراض ولم يصدقه أنه اشتراها لنفسه بمال استسلفه من القراض.
ولذلك قال: إنها تباع إن لم يكن له مال، وحمله ابن القاسم على أنه اشتراها لنفسه بمال تسلفه من القراض بل لم يصدقه أنه اشتراها للقراض إن زعم ذلك على ما روى عنه أبو زيد في سماعه. ولذلك(12/346)
قال: إنها لا تباع. وأما إن علم أنه اشتراها لنفسه بمال تسلفه من القراض فلا تباع ويتبع بالثمن الذي اشتراها به قي ذمته قولا دون اختلاف، كما لا يختلف إذا اشتراها للقراض ببينة تقوم على ذلك ثم وطئها فحملت ولا مال له في أنها تباع فيما لزمه من قيمتها، وبالله التوفيق.
[: رجل قارض رجلا ثم إنه أشركه بعد ذلك في سلعة اشتراها]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت قال: وسئل مالك: عن رجل قارض رجلا ثم إنه أشركه بعد ذلك في سلعة اشتراها.
قال: إن كان صح ذلك فلا أرى بأسا.
قال عيسى: لا بأس من اشترى منهما سلعة من صاحبه فأشرك صاحبه فيها، المقارض كان المقارض، كان من مال القراض أو من مال نفسه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أشرك العامل لرب المال القراض في سلعة اشتراها لنفسه من ماله أو للقراض من مال القراض فلا إشكال في جواز ذلك.
إذ لا اختلاف في أنه يجوز أن يبيع العامل من رب المال سلعة إلا أن يكون ذلك والمال ناض عنده وقيمة السلعة أكثر من الثمن الذي باعها به منه فيكره ذلك مخافة أن يكون إنما حاباه بها ليقر القراض بيده ولا يأخذه منه.
وأما إذا أشرك رب المال العامل في سلعة اشتراها فإن كان ذلك بعد أن نقد الثمن فذلك بمنزلة إذا باع منه في سلعة سواء.
ولذلك قال مالك: إن كان صح ذلك فلا أرى به بأسا. وقد مضى تحصيل القول في ذلك في أول سماع ابن القاسم. ورأى عيسى التهمة في ذلك مرتفعة من أجل أن الشركة على وجه المعروف.
وأما إن كان أشركه فيها قبل أن ينقد الثمن بحضرة البيع فلا إشكال في أن ذلك جائز إذ لا تهمة فيه من أجل أنه إنما يدفع الثمن إلى البائع والعهدة عليه فكأنه إنما اشترى منه.
ويحتمل أن يكون تكلم مالك على أنه قد نقد وعيسى على أنه لم ينقد وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.(12/347)
[: يدفع إلى رجل مالا قراضا ويشترط عليه أن زكاة ربح المال في حصتك من الربح]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
رواية سحنون من كتاب أوله قراض قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك: عن الرجل يدفع إلى رجل مالا قراضا ويشترط عليه أن زكاة ربح المال في حصتك من الربح، قال: لا خير فيه، ثم سئل عنها من الغد أيضا، فقيل له: الرجل يقارض الرجل ويشترط عليه أن عليك زكاة ربح المال في حصتك من الربح؟ فقال: ما هذا بحسن.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في أصل الأسدية من أنه لا يجوز لواحد منهما أن يشترط زكاة الربح على صاحبه. خلاف قوله في المدونة أنه يجوز أن يشترط ذلك واحد على صاحبه.
وقد مضى في آخر سماع أشهب من كتاب المساقاة وجه الاختلاف في ذلك إذا اشترط أحد المتساقيين على صاحبه زكاة الثمرة فأغنانا ذلك عن إعادته هنا.
إذ لا فرق بين اشتراط أحد المتساقيين على صاحبه جميع زكاة الثمرة في المساقاة وبين أن يشترط أحد المتقارضين زكاة ربح المال على صاحبه في القراض.
وأما زكاة رأس المال فهو على صاحب المال لا يجوز له أن يشترطه على العامل باتفاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذ من الرجل مائة دينار قراضا ويقول له إن احتجت زدتك]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يأخذ من الرجل مائة دينار قراضا، ويقول له: إن احتجت زدتك فيشتري العكم البز بمائة دينار وعشرة دنانير ثم يأتي فيأخذ منه العشرة بعد اشترائه العكم.
فقال: ما أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله؛ لأنه اشترى ذلك(12/348)
العكم بالزيادة التي زاده على ما دفع إليه أولا في صفقة واحدة، ولو اشترى العكم البز بمائة دينار ثم أراد أن يشتري سلعة أخرى بزيادة يأخذها منه لم تجز إلا على أن يكون قراضا على حدة لا يخلطها، ولو زاده زيادة بعد أن باع العكم الذي اشتراه أولا بالمائة بربح أو وضيعة لما جاز ذلك على أن تخلطه بالمال الأول ولا على ألا يخلطه به إذا كان على خلاف الجزء الأول.
واختلف إن كان زاده الزيادة على مثل الجزء الأول. فقيل: إن ذلك لا يجوز أيضا بحال. وهو قول ابن القاسم في المدونة.
وقال غيره فيها: إن ذلك جائز على ألا يخلطه بالمال الأول، وبالله التوفيق.
[: رجل أخذ من رجلين مالا قراضا فأراد أن يخلطه بغير إذنهما]
ومن كتاب أوله مسائل بيوع وسئل مالك: عن رجل أخذ من رجلين مالا قراضا فأراد أن يخلطه بغير إذنهما، فقال: يستأذنهما أحسن وأحب إلي، فإن لم يستأذنهم فلا أرى عليه سبيلا، قيل له: فإنه استأذن أحدهما فأذن له ولم يأذن له الآخر فخلطهما، قال: يستغفر الله ولا يعد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء في المعنى في الرجل يأخذ مالا قراضا وله مال يتجر فيه أن له أن يخلطه فيتجر بهما جميعا معا والصواب أن يفعل ذلك تحريا للعدل فيما بينه وبينه إن خشي إن قدم ماله وقع الرخص فيه وإن قدم مال الرجل أن يقع الرخص في الآخر، فكذلك هذان المالان له أن يخلطهما بعد إذن صاحبيهما تحريا للعدل فيما بينهما ولما يرجو من استغزار الربح بخلطهما، واستئذانهما أحسن إذ قد يكره كل واحد منهما ذلك لما يعتقد من أن ماله أطيب من مال الآخر، فإن خلطه بغير اختيار(12/349)
صاحبيهما لم يلزمه في ذلك ضمان إذ لا ضرر في خلطتهما على واحد منهما ولا وجه من وجوه التضييع، وبالله التوفيق.
[مسألة: القراض في نقر الذهب والفضة]
مسألة وسألته: عن القراض في نقر الذهب والفضة أيصح؟ فقال: نعم في رأيي قد قارض الناس قبل أن يضرب الذهب والفضة.
قلت له: ويرد نقرا مثلها؟ قال: نعم.
قلت له: ولا يصح أن يقارض من الذهب والفضة فيما كان مصوغا؟ فقال: ليس هكذا يقارض الناس، يبيع ذلك الخلخال والسوار ويعطيه دنانير.
قلت له: ذلك أحب إليك؟ قال: لا بل هو الشأن متى يأتي هذا المقارض بمثل هذا الخلخال وهذا السوار ويرد عليه مثله.
قال محمد بن رشد: مضى القول في القراض بالنقر من الذهب والفضة في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته. ومضى فيه أيضا ذكر الاختلاف في القراض بالحلي المصوغ.
ولمالك في كتاب ابن المواز: أن ذلك لا يجوز، مثل قوله هنا، وزاد: أنه إن وقع القراض بالحلي المصوغ من الذهب أو الفضة فهو أجير في بيعه وعلى قراض مثله في الثمن، وهو مفسر لقوله في هذه الرواية؛ لأن الصياغة كالعروض، وبالله التوفيق.
[مسألة: المقارض أيشرب الدواء ويحتجم ويدخل الحمام من القراض]
مسألة وسئل مالك: عن المقارض أيشرب الدواء ويحتجم ويدخل الحمام من القراض، فقال: ما كانت هذه الأشياء يوم كان القراض إن قلم ظفرا أو أخذ من شعره كان من القراض!!! ما كانت هذه الأشياء حين كان القراض، وأما في الحجامة والحمام فأرجو أن يكون خفيفا.(12/350)
قال محمد بن رشد: قوله ما كانت هذه الأشياء يوم كان القراض، يريد: أنه لم يكن يؤخذ عليها في الزمن الأول أعواض.
والواجب أن يرجع في هذه الأشياء كلها إلى العرف والعادة في كل زمن وكل بلد، فما لم تجر العادة أن يؤخذ عليه عوض من ذلك لم يصح له أن يعطي عليه عوضا من القراض، وما جرت العادة أن يؤخذ عليه عوض من ذلك وقدره يسير يتكرر جاز له أن يعطيه من مال القراض؛ لأن رب المال قد علم بذلك ودخل عليه لتكرره، بخلاف الدواء الذي إنما يؤخذ عند المرض فلا يصح له أن يعطيه من القراض إذ لم يدخل على ذلك رب المال معه، وبالله التوفيق.
[مسألة: زكاة القراض]
مسألة وسألته عن زكاة القراض، فقال: زكاة رأس المال على رب المال، وزكاة الربح من بينهما على قراضهما، وذلك أن يكون رأس المال ألف دينار فيرفع فيها خمسة وعشرين دينارا فيؤدي من الألف رأس المال زكاتها خمسة وعشرين دينارا على رب المال، ثم يؤخذ من الخمسة وعشرين دينارا زكاتهما ربع العشر ثم يقتسمان ما بقي بينهما على قراضهما.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن ربح القراض يزكى كما يزكى رأس المال، قيل: إذا كان في رأس المال وحصة رب المال من الربح ما تجب فيه الزكاة وهو المشهور من مذهب ابن القاسم.
وقيل: إذا كان في جميع المال بربحه ما تجب فيه الزكاة وهو قول أشهب وروايته عن مالك ومذهب سحنون واختيار محمد بن المواز.
وقيل: إنه لا يجب على العامل في حظه من الربح زكاة حتى يكون ما تجب فيه الزكاة فرأس المال وحصة رب المال من الربح مزكاة على ملكه باتفاق، لا يجب في ذلك زكاة إلا أن يكون حرا مسلما لا دين عليه ويكون قد حال عليه الحول وفيه ما تجب فيه الزكاة وفيه مال سواه إن كان له مال سواه قد حال عليه الحول ما تجب فيه الزكاة.(12/351)
واختلف في زكاة حصة العامل من الربح. فقيل: إنها مزكاة على ملك رب المال لا يراعى شروط وجوب الزكاة المذكورة إلا فيه لا في العامل.
وقيل: إنها مزكاة على ملك رب المال لا تراعى شروط وجوب الزكاة المذكورة إلا فيه لا في رب المال.
وقيل: إنها مزكاة على ملكهما جميعا، فتراعى الشروط المذكورة فيهما جميعا.
ولم يجر ابن القاسم في ذلك على قياس؛ لأنه راعى الإسلام والحرية وعدم الدين في كل واحد منهما. واضطرب قوله في النصاب والحول، فله في النصاب ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو المشهور من قوله أنه لا يجب على العامل في حظه الزكاة حتى يكون في رأس المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة.
والثاني: وهو قوله في رواية أصبغ عنه أنه لا تجب على العامل في حظه الزكاة حتى يكون في رأس مال رب المال وجميع الربح ما تجب فيه الزكاة.
والثالث: أنه لا يجب على العامل في حظه من الربح زكاة حتى يكون في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه ويكون أيضا في حظه من الربح ما يجب فيه. وهذا القول تأوله محمد بن المواز على ابن القاسم ولا يوجد له نصا.
والثلاثة الأقوال كلها استحسان ليست بجارية على أصل ولا قياس، إذ لم يعتبر في ذلك ملك أحدهما دون صاحبه على انفراد ولا ملكهما كما فعل في الحرية والإسلام وعدم الدين إذ اقتصر في النصاب على رأس المال وحصة رب المال من الربح دون أن يضيف إلى ذلك ما لرب المال من مال غير مال القراض، وعلى حصة العامل من الربح دون أن يضيف إلى ذلك أيضا ماله من مال حال عليه الحول فيتم به النصاب، وله في الحول قولان: أحدهما: أن العامل لا تجب عليه في حظه من الربح الزكاة حتى يقيم المال بيده حولا من يوم أخذه وإن لم يعمل به إلا قبل أن يحول عليه الحول بيسير. قاله في الزكاة في المدونة، وله في القراض منها دليل على أن الزكاة تجب عليه في حظه من الربح وإن لم يقم المال بيده حولا إذا كان في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة وحال عليه الحول، وإلى هذا ذهب ابن المواز وعليه حمل قول مالك، وهو الأقيس ألا يراعى في حقه(12/352)
الحول كما لا يراعى فيه النصاب.
والقول الأول هو أجرى على أصله وأظهر من مذهبه، وقد فرغنا من تحصيل القول في هذه المسألة في غير هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[: يدفع إلى الرجل مالا قراضا ويشترط عليه أن زكاة الربح في حصتك من الربح]
ومن كتاب الزكاة قال: وسئل مالك: عن الرجل يدفع إلى الرجل مالا قراضا ويشترط عليه أن زكاة الربح في حصتك من الربح.
فقال: ليست فيه خير حتى تكون الزكاة على المال كله، ثم قيل له بعد ذلك: إنما اشترط عليه أن زكاة ربح المال عليه في حصته، فقال: لا خير فيه وليس هذا بحسن.
قال أشهب: لا أرى بذلك بأسا لأنه جزء من الربح.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا على ما في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وفي كتاب ابن المواز وغيره من رواية ابن القاسم وغيره خلاف روايته هذه عن مالك، وخلاف ما في أصل الأسدية. وقد تقدم ذلك في أول السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إليه تسعة عشر دينارا قراضا فربح فيها دينارا أعليه الزكاة]
مسألة قال: وسئل مالك: عمن دفع إليه تسعة عشر دينارا قراضا فربح فيها دينارا، أترى عليه الزكاة؟
قال: نعم عليهما الزكاة، وإنما ذلك كهيئة أن يدفع إليه تسعة وثلاثين دينارا قراضا يربح فيها دينارا فتصير أربعين دينارا، فزكاتها دينار يزكى كل واحد منهما ماله.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في رواية أشهب عنه إنه يزكي التسعة عشر دينارا إذا ربح المقارض فيها دينارا وحال عليها هو مثل قول أشهب وابن القاسم وأصبغ، في سماع أصبغ خلاف قول ابن القاسم في سماع سحنون(12/353)
بعد هذا وخلاف ما في المدونة من أنه لا تجب على العامل في حظه من الربح زكاة حتى يكون في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما يجب فيه الزكاة. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في الرسم الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.
[: أخذ من رجل مالا قراضا على أن يدفعه إلى رجل آخر سماه]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى: وسئل ابن القاسم: عن رجل أخذ من رجل مالا قراضا على أن يدفعه إلى رجل آخر سماه قراضا ويكون على الآخر الضمان. قال ابن القاسم: يردان إلى قراض مثلهما، وهو بمنزلة ما لو دفعه إليه نفسه على الضمان، فإنه يرد إلى قراض مثله، وليس على الآخر من الضمان شيء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة عندي أنه أخذ منه المال قراضا بالضمان على أن يدفعه قراضا إلى رجل سمى إن شاء، فصار كأنه دفع إليه قراضا على أن يكون له ضامنا وأذن له أن يقارض به رجلا سماه، فوجب أن يكون حكمه حكم القراض بالضمان يرد فيه إلى قراض مثله إذا فات بالعمل وعمل هو به أو دفعه إلى الرجل المسمى، وإن لم يعمل هو به ودفعه إلى الرجل المسمى قراضا فللرجل المسمى الجزء الذي اشترطه إذ لا فساد فيما بينه وبينه ولمالك في كتاب ابن المواز أن للعامل في القراض على الضمان الأقل من قراض مثله أو المسمى.
وهذا على الاختلاف في البيع والسلف إذا وقع وفات هل تكون فيه القيمة بالغة ما بلغت أو الأقل من القيمة أو الثمن إذا كان المبتاع هو الذي أسلف، فإن كان في مسألتا هذه قد أخذ القراض على النصف بالضمان فدفعه إلى الرجل المسمى على النصف أيضا(12/354)
فرد إلى قراض مثله على ألا ضمان عليه وهو الثلث، كان السدس الفاضل من الربح لرب المال لأنه أحق بالربح بمنزلة إذا أخذه على أن يكون له الثلث ودفعه إلى غيره على النصف، ولو كان قراض مثله الثلثين فرد إليه على القول بأنه يرد إلى قراض مثله بالغا ما بلغ لكان رب المال أحق بثلثي الربح ويرجع المقارض الثاني على المقارض الأول بمثل سدس الربح لاستحقاق رب المال ذلك من يديه.
فمعنى قوله على ما حملنا عليه المسألة، وهو بمنزلة ما لو دفعه إليه نفسه على الضمان، أي: وهو بمنزلة ما لو دفعه إليه نفسه على الضمان ولم يقل له شيئا ووقع في بعض الكتب على الآخر على الآخذ بالذال، في الموضعين جميعا بالذال، وفي بعضها على الآخر بالراء في الموضعين جميعا وفي بعضها في الأول بالذال وفي الثاني بالراء، وفي بعضها بعكس ذلك من غير تقييد رواية بشيء من ذلك يلزم الرجوع إليه.
والصواب ما حملنا عليه المسألة أن يقرأ الأول بالذال والثاني بالراء، ولو كان إنما دفع إليه المال قراضا على أنه ضامن له بشرط ألا يعمل هو به وأن يدفعه إلى الرجل المسمى قراضا لوجب أن يكون الثاني على قراضه، ويكون للأول أجرة مثله في دفعه المال إلى الثاني، إن كان ذلك شيء له أجرة. وقد مضى بيان هذا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم.
وقد تأول بعض أهل النظر المسألة على أن المعنى فيها أنه دفع إليه المال قراضا على أن يدفعه إلى رجل سماه قراضا ويشترط عليه الضمان، فعلى هذا يرد الثاني إلى قراض مثله، فعلى هذا يكون الأول من اللفظين على الآخر بالراء، والثاني على الآخذ بالذال.
وقد اختلف في القراض الفاسد إذا لم يعثر عليه حتى فات بالعمل على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يرد فيه كله إلى إجارة مثله، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة.
والثاني: أنه يرد فيه كله إلى قراض المثل وهو قول أشهب وقول ابن الماجشون وروايته عن مالك.
والثالث:(12/355)
أنه يرد إلى قراض مثله إلا أن يكون قراض مثله أكثر من المسمى فلا يزاد على المسمى إذا كان الفساد بما اشترطه رب المال على العامل أو أقل من المسمى فلا ينقص من المسمى إذا كان الفساد بما اشترطه العامل على رب المال، وهو يأتي على ما حكاه ابن المواز عن مالك في القراض بالضمان أن له الأقل من قراض مثله أو المسمى.
والرابع: أنه يرد إلى قراض مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه في المال ليست بخارجة عنه ولا منفصلة منه ولا خالصة لمشترطها، وإلى إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه خارجة عن القراض ومنفصلة عنه وخالصة لمشترطها وفي كل غرر وحرام خرجا به عن سنة القراض. وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وقول مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، وإياه اختار ابن حبيب، وبالله التوفيق.
[: قارض رجلا بمال فسار به إلى الحجاز فاشترى به تمرا واكترى مركبا]
ومن كتاب استأذن سيده وسئل ابن القاسم: عن رجل من أهل القلزم قارض رجلا بمال فسار المقارض بالمال إلى الحجاز فاشترى به تمرا واكترى مركبا بأحد وعشرين دينارا، فلما قدم القلزم، قال صاحب المركب: لمن هذا التمر؟ قيل له: لفلان صاحب المال، فقال: والله ما كنت لآخذ منه شيئا قد أولاني من نفسه خيرا وعارفة.
فأراد صاحب المال أن يكون له الأحد وعشرون وحده، قال: إن لم يكن علم صاحب المركب أن المال كان قراضا فالأحد وعشرون لصاحب المال، وإن كان علم أن المال قراض، وقال: والله ما تركتها إلا له وحده - كان القول قوله في ذلك أيضا، وإن قال: قد علمت أنها قراض فتركتها على وجه المكافأة ولم أذكر له وحده كانت بينهما على قراضهما.(12/356)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا لم يعلم صاحب المركب أن المال قراض فالأحد والعشرون دينارا لصاحب المال؛ لأنه لم يرد بعطيته سواه، وأما إذا علم أن المال قراض فالعطية بينهما على قراضهما؛ لأنه لما ترك كراء مركبه ووهبه وهو يعلم أنه قراض حصل التمر محمولا بغير كراء، فحصلت العطية لهما إلا أن يقول صاحب المركب: إنما أردت أن يختص صاحب المال بجميع الكراء إذ قد كان وجب لي، فيكون ذلك له، وبالله التوفيق.
[: أيجوز لرب المال أن يأخذ الدنانير القائمة ويعطي العمل قدر ربحه تبرا]
ومن كتاب العارية وقال، في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا عشرة دنانير تنقص خروبة فاشترى به سلعة فباعها بعشرة دنانير قائمة فأراد الذي له الدنانير أن يأخذها ويعطيه قيمة ربحه ورقا أو تبرا أو يأخذها ويعطيه قدر ما ينوبه دنانير.
قال ابن القاسم: لا يصلح ذلك من قبل الذهب بالذهب متفاضلا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إنه لا يجوز لرب المال أن يأخذ الدنانير القائمة ويعطيه قدر ربحه منها تبرا ذهبا أو دنانير؛ لأن ربحه لم يتعين في الدنانير القائمة التي باع بها السلعة ولا حصل شريكا مع رب المال فيها بقدر ربحه، إذ لا يجوز له الربح إلا بعد أن ينض رأس المال لصاحبه دنانير ناقصة خروبة على ما دفعه إليه، وذلك لا يكون إلا بعد بيع الدنانير القائمة بدراهم وبيع الدراهم بدنانير ناقصة خروبة كما دفعها إليها هو، وهو الآن لا يدري إذا فعل ذلك كم ينض له من الربح أو هل يكون له ربح أم لا، إذ لعله سيستلف من الدنانير أو الدراهم شيئا في حال تصريفه إياها، فدخل ذلك الغرر مع ما ذكره ابن القاسم في الرواية من بيع الذهب بالذهب متفاضلا، ولم يجب ابن القاسم في الرواية إذا أعطاه قيمة ربحه ورقا. ويظهر(12/357)
من تعليله في الذهب أنه يدخله الذهب بالذهب متفاضلا أن ذلك يجوز في الورق، ولا يجوز ذلك على ما بيناه؛ لأنه يبقى فيه علة الغرر حسبما وصفناه.
ولو كان باع السلعة بدنانير من صفة الدنانير التي دفع إليه في رأس مال القراض أكثر من الدنانير التي دفع إليه فوجب له ربحه فيها بعض دينار لجاز أن يعطيه في حظه منه تبرا ذهبا مراطلة بأن يزن جميع المثقال فيعطيه قدر الجزء الذي له فيه تبرا ذهبا أو مثقالا صغيرا بوزنه إذ لا ينقسم المثقال على ما قالوا في الحلي من الذهب يكون بين الشريكين: إنه يجوز أن يزناه فيعطي أحدهما صاحبه وزن حظه ذهبا. ولا اختلاف في هذا، بخلاف النقرة تكون بين الشريكين فأجاز ذلك ابن القاسم فيها ورواه عن مالك لما في قسمتها من المؤنة، ولم يجز ذلك مالك في رواية أشهب عنه، إذ لا مضرة في قسمتها بخلاف الحلي. وأما بيع نصيبه من شريكه بدنانير إن كانت فضة أو بدراهم إن كانت ذهبا فلا اختلاف في جوازه.
وقد عارض الفضل قول ابن القاسم في هذه المسألة بقول مالك في أول رسم من سماع ابن القاسم أنه لا بأس أن يأخذ المقارض من شريكه ربحا ذهبا من غير الذهب التي هي بينهما.
وليست بمعارضة صحيحة لما بيناه من أن الربح في هذه المسألة لم يتعين بعد للمقارضة في الدنانير القائمة. وقد مضى القول على مسألة سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يشتري بمال القراض قمحا فيقول له رب المال إني احتجت القمح لعيالي]
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه قال: وقال مالك، في رجل يقارض الرجل بمائة دينار فيذهب فيشتري بها قمحا فيأتيه رب المال، فيقول: إني احتجت إلى قمح لعيالي فقاسمني هذا، أعطني نصفه واحبس نصفه فتبيعه ولك ربحه خالصا، قال مالك: لا خير فيه، قلت لابن القاسم: لم؟ قال: لمخاطرة الربح(12/358)
لعله لا يخرج إلا رأس ماله أو لعله ينقص أو لعله لا يربح إلا درهما فقد خاطره بما لا يعلم.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم معنى قول مالك وفسره. وهو تفسير صحيح يدل على صحته تعليلنا لقوله في المسألة التي قبل هذه، قال ابن حبيب في الواضحة: إلا أن يكون باعه ذلك بيعا بنصف رأس ماله الباقي فيكون ضمانه بعد من العامل فلا بأس به. وكذلك فسره، وقال ابن القاسم: ومعنى ذلك إذا باعه منه بنقد أو إلى أجل بأقل من ثمنه نقدا على ما مضى في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم، وعلى ما يأتي أيضا في رسم القطعان من هذا السماع، وبالله التوفيق.
[: أخذ من رجل مالا قراضا فاشترى متاعا فقام عليه غرماء لصاحب المال]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال ابن القاسم، في رجل أخذ من رجل مالا قراضا فاشترى متاعا وخرج إلى طرابلس، فقام عليه بطرابلس غرماء لصاحب المال.
قال: فرق مالك بين أن يقوم عليه غرماء صاحب المال وغرماء العامل، فقال: إذا قام به غرماء صاحب المال بيع فأعطى العامل من ذلك حصته، وكان ما بقي لغرماء صاحب المال وإذا قام على العامل غرماؤه فأرادوا أن يباع فيأخذوا ربحه لأن فيه فضلا لم يبع حتى يحضر صاحب المال.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا قام على العامل غرماء صاحب المال بيع فأعطى العامل من ذلك حصته وكان ما بقي لغرماء صاحب المال، معناه: إذا كان لبيعه وجه لا ضرر فيه على العامل، فإن كان عليه فيه ضرر لربح(12/359)
يرتجيه في أسواقه لم يبع عليه حتى تأتي أسواقه. وكذلك في تفسير ابن مزين وكتاب ابن المواز عن مالك: أنه لا تباع إلا أن يرى لذلك وجه ومصلحة. وهو معنى ما في المدونة.
وأما إذا قام على العامل غرماؤه فلا إشكال في أنه لا يباع المال عليه حتى يحضر صاحبه لأنه لا ربح له في المال حتى يرجع إلى رب المال رأس ماله.
وقد تكررت هذه المسألة والكلام عليها في رسم البيوع من سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، وفيها زيادة من قول أصبغ مشكلة قد مضى الكلام عليها هناك، وإنما لم تبع عروض القراض لغرماء العامل إذا قاموا عليه وصاحب المال غائب وإن كان فيها فضل بين لما على صاحب المال من الضرر في أن يفاصل عليه في القراض فيوقف ماله على يدي من لم يرض بأمانته ولو كان صاحب المال حاضرا لبيعت على العامل العروض لغرمائه فأخذوا حظه من الربح في الموضع الذي لو سأل صاحب المال أن تباع، فيأخذ رأس ماله كان ذلك له، والله الموفق.
[: أخذ مالا قراضا فاشترى به ظهرا فأكراه فنما المال أو نقص]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك وعن رجل أخذ مالا قراضا فاشترى به ظهرا فأكراه فنما المال أو نقص. قال: أراه متعديا وأراه ضامنا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يجوز لمن أخذ مالا قراضا أن يشتري به ظهرا فيكريه خلاف مذهبه في المدونة؛ لأنه أجاز فيها من أخذ مالا قراضا أن يشتري به أرضا أو يكريها ويشتري به زريعة وأزواجا فيزرع لأنها تجارة من التجارات.
قال: إلا أن يكون خاطرا لذلك لظلم العمال، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى، بل شراء الظهر للكراء أدخل في باب التجارة من أن يزرع به، فإذا لم يجز للمقارض أن يشتري بمال القراض ظهرا للكراء كان أحرى ألا يجيز له أن يشتري به أرضا أو يكتريها فيزرع فيها به، إذ ليس ذلك مما ينطلق عليه اسم التجارة بإطلاقه، وإذا أجاز له أن يشتري أرضا أو يكتريها ويزرعها بمال القراض فأحرى أن يجيز له أن يشتري به ظهرا للكراء.(12/360)
فحمل القراض في هذه الرواية على التجارة المعروفة العامة. وحملها في المدونة على كل ما هو تجارة وإن لم يكن ذلك من عام التجارة إلا أن يأخذ القراض على أن يزرع به فلا يجوز ويكون أجيرا إن وقع.
قاله في المدونة، وقد قيل: إنه يجوز أن يأخذه بشرط أن يزرع به، وقع ذلك في كتاب ابن شعبان واختلف إذا شرط أن يزرع، فأجيز، وكره، وكذلك الكراء سواء.
فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال. وهو قوله في هذه الرواية.
والثاني: أنه يجوز بكل حال وهو أحد القولين في كتاب ابن شعبان.
والثالث: الفرق بين أن يشترط ذلك عليه أو لا يشترط، فإن اشترط عليه أن يزرع به لم يجز، وإن زرع به من غير شرط واشترى به ظهرا للكراء جاز، ولم يكن عليه ضمان. وهو قوله في المدونة. والله الموفق.
[: مال القراض يقيم في يدي العامل سنين من قبل أن يتفاصلا]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب
وقال مالك، في مال القراض يقيم في يدي العامل سنين من قبل أن يتفاصلا، قال: يزكي رأس ماله وربحه مرة واحدة إلا أن يكون كان يدار فيزكي للسنين الماضية.
قال ابن القاسم: وكذلك العامل بالقراض بمنزلة سواء في نصيبه إذا كان يدار.
قلت: أرأيت إن كان رب المال مديرا والعامل غير مدير.
قال: يزكي أيضا لكل سنة مضت، وإن كان رب المال غير مدير والعامل مديرا فإنه يزكيه أيضا لكل سنة مضت.
قال محمد بن رشد: قوله في مال القراض يقيم في يد العامل سنين من قبل أن يتفاصلا إنه يزكي رأس ماله وربحه مرة واحدة إلا أن يكون كان مديرا فيزكي للسنين الماضية.
يدل على أن الحكم عنده في مال القراض لا يزكي إلا عند المفاصلة وإن أقام بيد العامل أعواما على ما في رسم أبي زيد وفي القراض من المدونة، فإن كان لا يدار زكاه زكاة واحدة حين البيع والانفصال، وإن كان يدار زكاه لكل سنة مضت قبل على قيمة ما كان بيده كل(12/361)
سنة زاد أو نقص.
وقيل: إنه إذا نقص لم يزكه للأعوام الماضية إلا على ما رجع إليه من النقصان.
وقوله: وكذلك العامل في القراض بمنزلة سواء في نصيبه إذا كان يدار، يريد: إذا كان القراض يدار فيزكي جميعه بربحه كله لكل سنة مضت منه، فتكون الزكاة قد حصلت على العامل في حظه من الربح كما حصلت على رب المال في رأس ماله وحظه من الربح.
وأما قوله إذا كان رب المال مديرا والعامل غير مدير فإنه يزكي لكل سنة مضت، فالمعنى في ذلك: إذا كان المال غائبا عنه أو حاضرا معه فغفل عن تقويمه مع ما يدير من ماله؛ لأن الحكم في ذلك إذا كان حاضرا معه أن يقومه في كل سنة ويزكيه مع ما يدير من ماله، قال ابن حبيب: بجميع ربحه، وقال ابن القاسم: في سماع أصبغ من كتاب الزكاة: بل بحصته خاصة من الربح ويخرج الزكاة عن قولهما جميعا من ماله لا من مال القراض.
وقوله: وإن كان رب المال غير مدير والعامل مدير فإنه يزكيه أيضا لكل سنة مضت، يريد: من مال القراض لا من مال نفسه؛ لأن العامل إذا كان مديرا فسواء كان رب المال مديرا تخرج الزكاة منه عند المفاصلة لما مضى من الأعوام، فيقع على العامل منها بقدر حصته من الربح، فإنما يستوي أن يكون المدير هو العامل أو رب المال في وجوب إخراج الزكاة عن الأعوام المتقدمة إن كانت لم تخرج منه الزكاة في كل عام عند حلوله، ويفترق في حكم إخراجها على ما بيناه وذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: زكاة الفطرة عن عبيد القراض]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل أخذ من رجل عشرة دنانير أو خمسة قراضا فاشترى بها أربعين من الغنم فحال عليها الحول عنده؟ إن فيها شاة وإنها على صاحب المال، قلت: فإن باعها بعد ذلك بعشرين دينارا؟ قال: تقوم الشاة كم قيمتها من الثمن الذي ابتاع به الغنم فإن كان دينارا وكان رأس المال خمسة رد إليه أربعة في رأس ماله، واقتسما ما بقي.(12/362)
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة في هذه المسألة بعينها وإن كانت هذه أفسر وأبين منها، وكذلك قال في المدونة في زكاة الفطرة عن عبيد القراض إنها على رب المال، يريد: أنها تحسب عليه من رأس ماله كزكاة الغنم.
ووقع في بعض الكتب في زكاة الفطرة عن عبيد القراض أنها على رب المال وليس من مال القراض، وهو قريب من الأول؛ لأنها إذا عدت من رأس ماله فقد أخذت من ماله.
وأشهب يقول في زكاة الفطر عن عبيد القراض: إنها كزكاة مال القراض يكون على العامل منها بقدر ماله فيهم من الربح إن بيعوا بربح.
وقال ابن حبيب في مسألة الغنم هذه: إنها مجتمع عليها من رواية المدنيين والمصريين؛ لأن الذي يؤخذ منها هو نقصان منها، فهو كشيء استحق من رأس المال وزكاة الفطرة، ليست في رقاب الرقيق ولا نقصانا من عددهم، وإنما أجعل أنا فطرتهم كنفقتهم من جملة مال القراض يجبر من الربح ويكون رأس المال بحاله وهو الذي قال ابن حبيب: ليس ببين لا فرق في القياس بين المسألتين.
وقد ساوى عبد الله بن عبد الحكم بينهما، فقال: إنهما كالنفقة تجبر من الربح ويكون رأس المال على حاله. وهو الأظهر لأن العامل أدخل ذلك على رب المال إذا اشترى بماله عبيدا أو دواب ينفق عليهم ولم يشتر سلعا لا ينفق عليهم.
ويتحصل في هاتين المسألتين أربعة أقوال:
أحدها: أنهما جميعا ملغاة كالنفقة، وهو قول عبد الله بن الحكم.
والثاني: أنهما يؤخذان من مال القراض ويجب على رب المال في رأس ماله، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية ومذهب مالك في المدونة واختيار ابن حبيب.
والثالث: أنهما يؤخذان من رب المال لا من مال القراض بمنزلة زكاة مال القراض إذا كان رب المال مديرا والعامل غير مدير وهو الذي وقع في بعض روايات المدونة من قوله في زكاة الفطرة عن عبيد القراض أنهما على رب المال في ماله وليس من مال(12/363)
القراض.
والرابع: الفرق الذي ذهب إليه ابن حبيب بين المسألتين، والله الموفق.
[: النفقة للمقارض في المال القليل إذا كان السفر قريبا]
ومن كتاب التفسير قال ابن القاسم: في المال الذي يحمل الكسوة والطعام إذا كان قليلا ويخرج إلى مثل الأرض ودمياط ونحوها في اليمن والصوف والجزر وما خرج له فإنه يأكل منه ولا يكتسي، وإذا كان قليلا وأراد مكانا بعيدا فلا كسوة فيه ولا طعام وإذا كان المال كثيرا وكان السفر قريبا مثل دمياط ونحوها ففيه طعام وليس فيه كسوة إلا أن يكون يريد مقاما مثل أن يشتري الحبوب وغيرها فيقيم الشهرين والثلاثة فإن ذلك سفر وإن قرب المكان، قال: وإنما ينظر إلى المال ونحوه بقدر السفر والحاجة إليه ينظر إلى المكان الذي يريد إليه وإلى النفقة فيكون ذلك على ما يرى ولم يحد لنا فيه حدا.
قال محمد بن رشد: أوجب ابن القاسم في هذه الرواية النفقة للمقارض في المال القليل إذا كان السفر قريبا، وذلك خلاف ظاهر ما حكى ابن حبيب في الواضحة من أنه لا نفقة للعامل في المال القليل ولا ركوب ولا كسوة، وإن كان السفر قريبا ولم يحد في هذه الرواية ولا في الواضحة قدر قليل المال من كثيره ولا قدر قريب السفر من بعيده، والقليل من المال يختلف فيكون بعضه أقل من بعض، وكذلك القريب من السفر يختلف فيكون بعضه أقرب من بعض، فإنما في ذلك الاجتهاد كما قال في الرواية بأن ينظر إلى المال ونحوه وإلى قدر السفر ونحوه، فإن كان يحمل النفقة ذلك المال على قلته في ذلك السفر على قربه كانت النفقة فيه، وإلا فلا.
وقد روى أشهب عن مالك فيمن دفع إليه خمسون دينارا قراضا فشخص فيها، أيكون له فيها نفقة؟ فقال: نعم، وما أقل ما تحمل هذه من النفقة إلا إن شخص إلى المكان القريب وفي هذا بيان ما يعتبر به، وبالله التوفيق.(12/364)
[مسألة: دفع الرجل إلى الرجل وإلى عبده مالا قراضا]
مسألة وإذا دفع الرجل إلى الرجل وإلى عبده مالا قراضا، فإن كان إنما يجعل العبد ليكون على الآخر عينا وليحفظ عليه أو ليعلمه فلا خير فيه، وإن كانا أمينين تاجرين، وإن كان العبد أدنى عملا من الآخر فلا بأس به إذا لم يكن ما ذكرت.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذا كانا أمينين تاجرين فذلك جائز وإن كان الرجل أبصر بالتجارة من العبد لأن الرجل يجوز أن يدفع إلى عبده مالا قراضا على ما قاله في المدونة وغيرها، فإذا جاز ذلك جاز أن يدفعه إليه وإلى غيره على أن يشتركا في العمل به وإن كان أحدهما أبصر بالتجارة من صاحبه لأن الشركة جائزة في التجارة بين الرجلين، وإن كان أحدهما أقعد بها من الآخر، وفي الصناعة، وإن كان أحدهما أصنع من الآخر، إذ لا بد أن يكون التجار بعضهم أتجر من بعض والصناع بعضهم أصنع من بعض.
وأما إن كان العبد غير بصير بالتجارة فدفع إليهما القراض ليعلمه التجارة أو كان الرجل غير أمين فدفع إليهما المال ليكون العبد عليه عينا في حفظه لا يجوز ذلك، فإن وقع الأمر على هذا ولم يعثر عليه حتى فات بالعمل رد الرجل في عمله إلى إجارة مثله، وذلك إذا قامت البينة أن عملهما كان على هذا الوجه أو تقارا بذلك صاحب المال والرجل طلبا للحلال، وأما إذا اختلفا في ذلك فادعى أحدهما الإفصاح بأحد الشرطين وأنكره الآخر فالقول قول من ادعى الصحة منهما إلا أن يكون مدعي الفساد هو الذي يشبه قوله بما يعلم من صفة حال العبد والرجل فيكون القول قوله، وأما إن قال السيد: كانت تلك نيتي ومقصدي وإرادتي، وقال الرجل: لم أعلم بذلك من مقصدك، وإرادتك، ولو علمت لما دخلت معك فيه لوجب أن ينظر، فإن كانت إجارة مثله أكثر من حصته من الربح وفاه ذلك؛ لأنه مقر له به، وإن كانت مثلها أو أقل لم يكن عليه شيء، وبالله التوفيق.(12/365)
[: قارض رجلين معا صفقة واحدة فخرجا إلى بلد فمات أحدهما]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار وسئل ابن القاسم: عن رجل قارض رجلين معا صفقة واحدة فخرجا إلى بلد فمات أحدهما فاشترى الآخر بجميع المال، فإن صاحب المال بالخيار إن شاء كان على قراضه، وإن شاء ضمنه لأنه لم يكن له أن يشتري شيئا إلا بإذن صاحبه حين مات شريكه في القراض فلما اشترى كان متعديا، قلت: فإن كان اشترى قبل أن يموت ببعض المال أو اشتريا بالمال كله كيف الأمر فيه؟ أو هل لورثة الميت من الميت من الربح شيء فيما اشترى شريك صاحبهم بعد موته أو قبل موته؟ قال: إن اشترى بالمال كله قبل موته فهما على قراضهما وقد تم القراض بينهما ويقوم ورثة الميت معه في بيع المال أو يقوموا أمينا يقوم فيه، وإن كانا اشتريا ببعض وبقي بعض فورثة الميت شركاء فيما اشترى قبل موت صاحبهم يقومون معه، وما اشترى بعد موت صاحبه فهو على ما فسرت لك، صاحبه بالخيار إن شاء كان على قراضه فيما اشترى بعد موت صاحبه، وإن شاء ضمنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها. وقوله: إذا اشتريا بالمال كله قبل موته إن القراض قد تم بينهما، معناه: قد لزم، إذ لا يتم القراض إلا بنضوض المال.
وقوله: ويقوم ورثة الميت معه في بيع المال. معناه: إن كانوا أمناء وهم محمولون على غير الأمانة حتى يعلم أنهم أمناء، بخلاف ورثة المساقي إذا مات قبل تمام عمل المساقي وهم محمولون على الأمانة حتى يعلم أنهم غير أمناء، فإن لم يكن ورثة الميت من المقارضين في مسألتي أمناء ولا أتوا بأمين انسلخوا من القراض، ولم يكن لهم فيما تقدم من عمل موروثهم فيه شيء.
وإن كان في المال ربح لم يكن لهم(12/366)
فيه حق، قاله في المدونة وغيرها وهو صحيح؛ لأنهم قد مكنوا من الوصول إلى حق موروثهم فيما عمل لئلا يخسروه فتركوه؛ لأنهم نزلوا بمنزلته في ذلك ولم ينزلوا بمنزلته في إلزامهم العمل في ماله إلى أن ينض المال؛ لأن العمل إنما كان متعينا في عينه لا في ذمته، وفارق في ذلك حكم الأجير يستأجر على عمل الشيء فيموت قبل تمامه أنه ليس للورثة أن يكملوا العمل ويستحقوا الأجرة من أجل أنه يجب له حقه فيما مضى من عمله. وهذا كله ما لا خلاف فيه.
وقد ذهب اللخمي في التبصرة له إلى أنه إن كان في المال ربح يوم مات المقارض فترك الورثة العمل فيه لم يبطل حقهم فيما عمل موروثهم، على قولهم في الذي يجعل له الجعل على حفر البئر فيترك العمل باختياره قبل أن يتم حفرها إن الجاعل إن استأجر على تمام حفر البئر أو جاعل أحدا على ذلك كان للأول بقدر ما انتفع به من عمله على الاختلاف فيما يكون له من ذلك إن كانت قيمة عمله يوم عمله، أو يوم انتفع به صاحب البئر، أو قدر ما انحط عنه من الجعل عليها أو الاستئجار بسبب ما تقدم فيها من عمله.
قال: لأنه إذا لم يبطل حق المجعول له فيها بتركه العمل باختياره فأحرى ألا يبطل حق المقارض فيما عمل بموته؛ لأن من حيل بينه وبين التمام أعذر في ألا يبطل عمله، وليس ذلك بصحيح.
والفرق بين المسألتين بين وهو أن القراض يلزم المتقارضين بعمل العامل، فإذا اشترى بالمال لزمه البيع والتقاضي، وإذا لزمه ذلك كان من حق صاحب المال أن يقول له: إما أن تبيع وتقتضي، وإما أن تنسلخ من القراض وتترك حقك فيما عملت، والمجعول له على حفر البئر لا يلزمه بالشروع في حفرها تمامها إذ من حكم الجعل ألا يلزم المجعول له التمادي على العمل، وإذا لم يلزمه ذلك كان من حقه أن يترك تمام حفرها ويكون على حقه فيما حفر منها إن انتفع بذلك صاحبها، ولو مات المجعول له قبل تمام حفر البئر نزل ورثته بمنزلته وكان من حقهم أن يتموا حفرها ويستوجبوا الجعل أو يتركوا حفرها ويكونوا على حقهم فيما حفر موروثهم منها إن انتفع(12/367)
بذلك صاحبها، فليس حكم الجعل حكم القراض، بل لكل واحد منهما حكم على حياله؛ لأن القراض لا يلزم المتقارضين بالعقد ويلزمهما جميعا بالعمل، والجعل لا يلزم المجعول له بحال.
واختلف في الجاعل، فقيل: إنه يلزمه بالعقد، وقيل: لا يلزمه إلا بشروع المجعول له في العمل، والجعل لا يكون إلا معلوما، بخلاف القراض الذي إنما يعمل فيه المقارض على أجر غير معلوم، وهو الجزء الذي يشترطه من الربح، وإنما يستويان في أن المقارض لا يجب له الربح إلا بعد تمام العمل بتنضيض المال كما أن الجعل لا يجب للمجعول له إلا بتمام العمل، فلا يصح قياس أحدهما على الآخر في جميع الوجوه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قارضه بمائة دينار فاشترى سلعة بمائة دينار واستسلف مائة أخرى]
مسألة وقال ابن القاسم: ولو أن رجلا قارض رجلا بمائة دينار فاشترى سلعة بمائة دينار فلم يكن معه المائة الدينار فاستسلف مائة دينار من صاحب المائة أو من رجل أجنبي على أن يقضيه المائة التي في البيت التي أخذ قراضا فباع تلك السلعة قبل أن يقضي صاحب المائة مائته بربح واشترى بعد ذلك بالمائة التي في البيت سلعة فباعها بنقصان وباع السلعة التي اشترى بالمائة السلف بربح هل يجبر نقصان هذه بربح هذه؟ قال: إذا كان اشتراؤه إياها على المائة القراض فالربح بينهما على ما تقارضا ونقصان المائة القراض يجبر بربح المائة السلف.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، ولو اشترى السلعة الثانية بالمائة التي في البيت قبل بيع السلعة الأولى لكان نقصان الثانية منه إن بيعت بنقصان؛ لأنه متعد إذا اشترى بها، ومسلف المائة أحق بها، بخلاف ما لو اشترى السلعة الثانية بعد أن باع الأولى؛ لأن في يديه مائتين مائة القراض(12/368)
يؤديها في ثمن هذه السلعة ومائة أخذها في السلعة الأولى يؤديها في السلف، وقد مضى هذا المعنى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: دفع إلى رجل مالا قراضا فسأله ماله فجحده حينا ثم زعم بعد ذلك أنه قد قضاه]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وسئل ابن القاسم: عن رجل دفع إلى رجل مائة دينار وجعل الآخر خمسين على أن يشخص صاحب الخمسين ويكون الفضل بينهما على النصف، فضرب بالمال ثم قدم، فلما قدم سأله صاحب المائة عن ماله، فقال: لم تعطني شيئا، فجحده حينا، ثم قال بعد ذلك: تلف مني.
قال ابن القاسم: دفع ناس من أهل المدينة إلى رجل كان إلى الجار مالا يسلفه إلى الجار ويدفعه إلى أقوام سموا له فخرج بالمال ثم رجع إليهم فسألوه عما صنع في المال أو قدم الذين سير إليهم المال فأخبروا أنه لم يدفع إليهم شيئا فسألوه عن المال فجحده، وقال: لم تبعثوا معي بمال ولم تدفعوا إلي شيئا، فأقاموا عليه البينة بدفع ذلك إليه فلما شهدت عليه البينة، قال: ضاع مني فاختصموا عند ذلك. فرأى مالك أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه ضاع ثم يبرأ ولا شيء عليه.
فأرى مسألتك مثلها يحلف صاحبك بالله الذي لا إله إلا هو: إن ضاع ولا شيء عليه، قال عيسى: إذا جحد حتى قامت عليه البينة ثم زعم أنه ضاع منه لم يصدق وغرم. وكذلك بلغني عن مالك.
وسئل ابن القاسم عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فسأله ماله فجحده حينا ثم زعم بعد ذلك أنه قد قضاه، قال: إن لم يأت بالبينة على أنه قضاه غرمه، وليس من(12/369)
ادعى القضاء مثل من زعم أنه ضاع، وفي سماع ابن القاسم عن مالك في كتاب أوله حديث طلق بن حبيب، قال مالك: ما أرى عليه إلا يمينه بالله ويبرأ.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في مواضع، منها ما في سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات. وما في سماع عيسى من كتاب الشركة.
ووقع الاختلاف فيها هنا مجموعا، فتحصل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يصدق مع يمينه بعد الإنكار في دعواه الرد والضياع.
والثاني: أنه لا يصدق في ذلك بعد الإنكار.
والثالث: أنه يصدق في دعواه الضياع ولا يصدق في دعواه الرد، ومن هذا الأصل من ملك امرأته بكلام يقتضي التمليك فقضت بالثلاث فأنكر أن يكون أراد بذلك الطلاق ثم قال: أردت واحدة، قيل: إنه لا يصدق أنه أراد واحدة بعد أن زعم أنه لم يرد بذلك الطلاق، وقيل: يصدق في ذلك مع يمينه، والقولان في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك.
ومن هذا الأصل أيضا أن يدعي على الرجل دعوى فينكرها، فلما قامت عليه البينة جاء بالمخرج منها من بينة على البراءة أو دعوى لو جاء بها قبل الإنكار لقبلت منه وما أشبه ذلك.
فقيل: إن ذلك لا يقبل منه؛ لأنه قد كذبه أولا بجحوده. وقيل: إنها تقبل منه، وقيل: إنها لا تقبل منه إلا في اللعان إذا ادعى رؤية بعد إنكاره القذف وأراد أن يلاعن وما أشبه اللعان من الحدود، وهو قول محمد بن المواز.
وقيل: إن ذلك لا يقبل منه إلا في الحدود والأصول ولا يقبل منه في الحقوق، وهو قول ابن كنانة وابن القاسم في المدونة.
فيتحصل في ذلك أربعة أقوال: بالتفرقة بين الحدود وما سواها في ذلك وبين الحدود والأصول وما سواهما، وبالله التوفيق.
[: المضارب في المال يستسلف من المال فيبتاع الجارية فيطأها فتحمل]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته وسألته: عن المضارب في المال يستسلف من المال فيبتاع(12/370)
الجارية فيطأها فتحمل، أو تعدى على جارية قد اشتراها من مال القراض فيطأها فتحمل، هل هذان الوجهان عندك سواء؟
قال: أما في الاستسلاف فقد علمت قول مالك، وأرى أن يؤخذ منه ما اشتراها به من مال القراض إن كان مليا، وإن كان معدما اتبع به دينا، وأما إذا عدا عليها بعد أن اشتراها فإني لا أراه مثله، وأرى أن تباع إذا لم يكن له مال.
قال عيسى: ويتبع بقيمة الولد دينا إلا أن يكون في القراض فضل فيكون بمنزلة من وطئ جارية بينه وبين آخر لأن له في الجارية شركا بفضله فإن كان مليا قومت عليه، وإن كان معدما خير رب المال فإن شاء أخذ من الجارية قدر نصيبه منها واتبعه بما يصيبه من قيمة الولد، وليس له فيما نقصها الحمل والوطء قليل ولا كثير، وإن أبى بيع له نصيبه منها فإن نقص ما بيع به نصيبه منها من قيمة ذلك النصيب يوم وطئها اتبعه بذلك النقصان وبنصيبه من قيمة ولدها دينا عليه.
قال ابن القاسم: وإذا كره جميع هذا وضمنه قيمة نصيبه منها فليس له من قيمة ولدها ولا ما نقصها الوطء قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم لا قسامة في العبيد من سماع ابن القاسم، وتكلمنا هناك على توجيه الاختلاف الحاصل في هذه المسألة بين مالك وابن القاسم في وجوب بيع الجارية إذا وطئها المقارض فحملت ولا مال له فلا وجه لإعادته.
ولا اختلاف بينهم إذا عدا عليها بعد أن اشتراها للقراض فوطئها فحملت ولا مال له في أنها تباع كما قال ابن القاسم، يريد: أنها تباع فيما لزمه من قيمتها يوم حملت أو يوم وطئها على الاختلاف في ذلك؛ إذ قد قيل: إن القيمة في ذلك يوم الوطء. وقيل: يوم الحمل. وقيل: ربها مخير بين أن يقومها عليه يوم الوطء أو يوم الحمل. وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في وجوب تقويمها عليه إذا وطئها فلم تحمل،(12/371)
فإن نقص ثمنها الذي بيعت به من قيمتها يوم حملت أو يوم وطئها على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك اتبعه بما نقص يومئذ.
وقول عيسى بن دينار إنه يتبع مع ذلك بقيمة الولد دينا هو على القول بأنها تباع عليه في قيمتها يوم الحمل. وفي ذلك اختلاف. قيل: إنه لا يتبع بقيمة الولد.
وأما على القول بأنها تباع عليه في قيمتها يوم الوطء، فلا خلاف في أنه لا يتبع بقيمة الولد؛ لأن الولد إنما حدث في الوطء الذي حملت به بعد وجوب القيمة عليه في الوطء الأول. هذا إذا تحققنا إن الحمل من الوطء الثاني. وهذا كله إذا لم يكن في الجارية فضل على رأس المال.
وأما إن كان فيها فضل، فقول سحنون المتقدم في سماع ابن القاسم: إنه يباع منها لرب المال بقدر رأس ماله وحصته من الربح ويكون ما تبقى منها بحساب أم ولد للمقارض.
وذهب عيسى بن دينار إلى أن الحكم في ذلك حكم الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما فتحمل ولا مال له. وفي ذلك اختلاف كثير. يتحصل فيه ثمانية أقوال:
أحدها: أنها تقوم عليه يوم حملت ويتبع بالقيمة دينا وتكون له أم ولد ولا يتبع بقيمة الولد.
والثاني: أنها تقوم عليه أيضا يوم حملت ويتبع بالقيمة دينا وتكون له أم ولد ويتبع أيضا بقيمة الولد.
والثالث: أنه يباع عليه نصيب الشريك فيما لزمه من قيمتها، فإن نقص ذلك عما لزمه من نصف قيمتها اتبعه بما نقص من ذلك وبنصف قيمة ولدها إن كانت بينهما بنصفين.
والرابع: مثل الثالث، في البيع إلا أنه لا يتبعه بشيء من قيمة الولد.
والخامس: أنه مخير بين أن يتمسك بنصيبه ويتبعه بنصف قيمة الولد وبين أن يقومها عليه ويتبعه بنصف قيمتها دينا عليه مع نصف قيمة الولد.
والسادس: أنه يخير أيضا بين أن يتمسك بنصيبه ويتبعه بنصف قيمة الولد وبين أن يقومها عليه فيبيعه بنصف قيمتها دينا عليه ولا شيء له عليه من قيمة الولد.
والسابع: أنه مخير بين أن يتمسك بحظه منها ويبيعه بنصف قيمة الولد وبين أن يباع عليه حظه منها فيما لزمه من نصف قيمتها، فإن نقص ما بيع به عما لزمه من نصف قيمتها يوم وطئها اتبعه بما نقص من ذلك وبنصف قيمة الولد، وهو قول عيسى بن(12/372)
دينار في هذه الرواية.
والثامن: مثل القول السابع غير أنه لا يتبعه بنصف قيمة الولد، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية.
وقول عيسى بن دينار: إنه إن اختار أن يأخذ من الجارية قدر نصيبه فليس له مما نقصها الحمل والوطء قليل ولا كثير، هو مذهب أشهب وقول ابن القاسم في كتاب الحدود في القذف من المدونة، خلاف المشهور من مذهبه في أن من جنى على رجل في ثوبه جناية كثيرة فهو مخير بين أن يضمنه قيمته وبين أن يأخذه وما نقصته الجارية.
وأما قول ابن القاسم إنه إذا ضمنه قيمة نصيبه فليس له مما نقصها الوطء قليل ولا كثير فلا يستقيم، وهو كلام وقع على غير تحصيل، إذ لا يصح أن يضمنه قيمة نصيبه معيبا بعيب الوطء، وإنما يضمنه إياه سالما منه، وإنما ضمنه إياه سالما منه فقد حصل على ما نقصها الوطء. وهذا بين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: إذا دفع إليهما المال يعملان به جميعا فهما شريكان في العمل به]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني قال عيسى: وكتب إليه يسأل: عن رجل دفع إلى رجلين مالا يعملان به جميعا فمات أحدهما وأقر دافع المال أن الحي منهما قد دفع إليه شطر ذلك القراض، هل يلزم ذلك الحي شيء مما على الميت إن كان الميت لم يدع وفاء أو يلزم الميت إن كان الحي مفلسا في ماله شيء مما على الحي؟
فقال ابن القاسم: أرى كل واحد منهما ضامنا لما على صاحبه إلا أن يكونا ادعيا هلاكها أو يدعيه أحدهما فيحلف على ذلك، وإن لم يدعيا هلاكا فإنما هو تفويض من أحدهما إلى صاحبه فهو ضامن إلا أن يكونا لم يفرطا فلا ضمان عليهما، وإنما يلزمهما الضمان فيما فوض أحدهما إلى(12/373)
صاحبه فأسلمه إليه وتركه يعمل فيه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه إذا دفع إليهما المال يعملان به جميعا فهما شريكان في العمل به وكل واحد منهما مطلوب بجميعه لأنه حميل عن صاحبه بما يلزمه من أداء نصفه، فما دفعه أحدهما من المال إلى صاحبه فهو متأد عنهما، وما بقي من المال فهو عليهما حتى يبرءا منه أو يدعيان فيه هلاكا فيصدق من ادعاه منهما مع يمينه وإن سلمه أحدهما إلى صاحبه لينفرد بالعمل به دونه فهو ضامن له، وبالله التوفيق.
[مسألة: المقارضين يقتسمان المال فيتلف من أحدهما ويؤدي الآخر]
مسألة قلت: أرأيت المقارضين يقتسمان المال فيتلف من أحدهما ويؤدي الآخر هل يلزم الذي أدى غرم ما لم يؤد صاحبه أو لا ضمان عليه فيما تلف بيد صاحبه؟ وهل يكونان متعديين حين اقتسما المال؟ وما الأمر فيه؟ قال: نعم، يلزم الذي أدى ما تلف من صاحبه.
قال محمد بن رشد: أوجب ابن القاسم على المقارضين ضمان المال إذا اقتسماه، وهو قول ابن الماجشون في الوصيين يضمن كل واحد منهما على مذهبهما ما بيده وما بيد صاحبه إن تلف شيء من ذلك يضمن ما تلف بيده لرضاه برفع يد صاحبه عنه، ويضمن ما بيد صاحبه بتسليمه إليه، وكذلك المودعان والمستبضعان.
ووجه ذلك: أنه حمل الأمر على أن رب المال أراد أن يكون المال عند أحدهما برضا الآخر إذ لا يمكن أن يكون جميع المال عند كل واحد منهما فوجب إذا اقتسماه أن يضمناه وإن سلماه إلى أحدهما لم يضمناه.
ولسحنون في نوازله بعد هذا في الوديعة والقراض أنهما إن اقتسماهما لم يضمناهما، وكذلك البضاعة على مذهبه؛ إذ لا فرق في ذلك بين القراض والوديعة والبضاعة وهو قول أشهب وابن عبد الحكم في(12/374)
الوصيين.
ووجه ذلك: أن رب المال لما رضي أن يكون المال عند كل واحد منهما برضا الآخر فقد رضي أن يكون نصفه عند كل واحد منهما. وقول ابن القاسم أظهر؛ لأنهما إذا اقتسماه على سبيل التشاح فلما ترك كل واحد منهما نصف المال لصاحبه بما ترك له صاحبه من نصفه الآخر فاتهما على أنهما فعلا ذلك لأنفسهما لا نظرا لصاحب المال فوجب أن يضمنا.
والحكم في ذلك إذا تشاحا واختلفا عند من يكون منهما فأراد كل واحد منهما أن يكون عنده أو أراد كل واحد منهما أن يكون عند صاحبه أن يتبع قول صاحب المال في ذلك على ما قال في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا وذلك ما لم يقبض المال بعد، فإن كان قد قبض أقر بيد الذي دفعه صاحبه إليه منهما.
قال في رواية أصبغ المذكورة: فإن كان دفعه إليهما جميعا فجميعا وذلك يكون مثل أن يأتي بالمال إليهما وهو في المسجد أو في غير منزل أحدهما فيضعه بين أيديهما، ويقول لهما: هذا المال وديعة عندكما، أو قراض بأيديكما أو بضاعة عندكما ويذهب عنهما.
فيختلفان عند من يكون منهما، وليس في قوله فإن كان دفع إليهما جميعا فجميعا بيان في وجه الحكم في ذلك، إذ لا يمكن أن يكون المال كله عندهما جميعا. فهو كلام فيه إشكال.
يحتمل أن يريد به أنه لا مزية لواحد منهما على صاحبه فيه فيجعله الإمام عند من رأى منهما، ويحتمل أن يريد وهو الأظهر أن الإمام يقسمه منهما على ما روى علي بن زياد عن مالك في الوصيين يتشاحان في المال أنه يقسم بينهما. وليس قول ابن القاسم هذا على هذا التأويل، ولا رواية علي بن زياد عن مالك بمخالفة لما اتفقت عليه الروايات من أنه ليس لهما أن يقتسما المال بينهما. فتحصيل هذا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز لهما أن يقتسما المال بينهما.
واختلفوا إن اقتسماه هل يضمناه أم لا؟ واختلفوا أيضا إذا تشاحا عند من يكون منهما ورب المال غائب أو ميت ولم يدفعه إلى أحدهما ولا قبضه واحد منهما بعد، أو قبضه دون إذن صاحبه ودفعه إليهما جميعا فلم يبن به واحد منهما بعد أن بان به دون صاحبه. فقيل: إنه يقسم بينهما. وهو قول مالك في(12/375)
رواية علي بن زياد عنه. وظاهر ما في سماع أصبغ على الأظهر من التأويلين.
وقيل: إنه يدفع إلى الأعدل منهما وهو قول مالك في كتاب الوديعة من المدونة في الوصيين، ويحتمل ألا يكون ذلك اختلافا من القول، وأن يكون الوجه فيه أن الإمام يقسمه بينهما على ما روى علي بن زياد عن مالك إن كان ذلك عنده وجه النظر فيه ويجعله عند أعدلهما على ما في المدونة: إن كان ذلك عنده هو وجه النظر فيه، وقد كان من أدركنا من الشيوخ يذهب إلى أن لهما هاهنا أن يقتسماه بينهما ابتداء على رواية علي بن زياد عن مالك، وذلك لا يصح؛ لأن الإمام يفعل من ذلك ما يراه وجه النظر ولا تهمة عليه فيه، وهما فيما اقتسما إياه متهمان على ما ذكرناه، وأما إن كان صاحب المال حاضرا فيتبع قوله فيمن يحب أن يكون عنده منهما.
وكذلك إن كان قد دفعه إلى أحدهما فهو أحق أن يكون عنده، وكذلك إذا كان قد قبضه أحدهما بإذن صاحبه كان أحق أن يكون عنده.
وشبه في المدونة المودعين والمستبضعين بالوصيين في أن المال يجعل عند أعدلهما. وذلك صحيح على ما بيناه من أن المودعين إذا اختلفا فيمن يكون المال عنده منهما وصاحبه غائب ولم يدفعه إلى أحدهما أنهما كالوصيين في أنه يجعل عند أعدلهما أو يقسم بينهما على قول مالك في رواية علي بن زياد عنه.
وقال سحنون: لا يشبه المودعان الوصيين لأن المال لا ينزع من المودع ويجعل عند الأعدل كما ينزع من الوصي ويجعل عند الأعدل.
وليس قوله بصحيح؛ لأن المال إذا صار عند أحد المودعين بغير علم صاحب المال ولا إذن شريكه فدعا شريكه إلى أن يكون عنده المال وصاحبه غائب وجب أن ينظر الإمام في ذلك، فإن كان شريكه أعدل منه أخرجه من يده ووضعه عند الأعدل كما يفعل في الوصيين، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
[: العامل بالقراض إذا أعطى بالسلعة عطاء أيجوز له أن يشتريها بمثل رأس مال]
ومن كتاب القطعان وسئل ابن القاسم: عن العامل بالقراض إذا قدم بالسلعة التي(12/376)
اشترى فعرضها فأعطى بها عطاء فأراد العامل أن يشتريها بمثل رأس مال.
قال: لا بأس أن يشتريها بنقد وإن تأخر النقد فلا خير فيه إلا أن يشتريها بمثل رأس مال القراض وبوضيعة منه فأرجو أن يكون خفيفا، قال: وإن أراد صاحب المال شراءها بنقد أو إلى أجل فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يدفعان إليه المال قراضا فيقولان له أخلط مالينا ولك ثلث الربح]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يدفع إليه الرجلان المال قراضا فيقولان له أخلط مالينا ولك ثلث ربحه كله ولكل واحد منا الثلث؟
قال: لا خير في هذا الشرط إلا أن يشتري هو سلعة فيخلط المال من قبل نفسه بغير شرط فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا فرق بين أن يأخذ منهما القراض على أن يخلط ماليهما وبين أن يأخذه من أحدهما على أن يخلطه بماله لما يدخله من اغتزار الزيادة في الربح بكثرة المال.
وقد اختلف إذا وقع ذلك، فقيل: إنه يرد إلى قراض مثله، وهو قول ابن حبيب، والظاهر من قول مالك في المدونة أن ذلك لا يجوز أنه يرد إلى إجارة مثله، وهو قول سحنون نصا أنه يرد إلى إجارة مثله، وقيل: إنه إن وقع مضى على سنته ولم يفسخ، وهو قول أصبغ، وأشهب يخفف ذلك ولا يرى به بأسا حتى يكون ذلك شرطا تعمداه لا استغزارا لربح، مثل أن يشترط عليه أن يضمه وهو يسير إلى مال له كثير، وحكاه ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وقال: إنه إذا وقع يقسم الربح على المالين، فتكون حصة مال العامل له، وحصة مال القراض بينهما على قراض مثلهما من غير شرط.
وروى أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا خير في أن يأخذ مالا قراضا على أن يخلطه بماله، ولا على أنه إن شاء أن يخلطه بماله(12/377)
خلطه وإن شاء أن يفرده أفرده. وقاله أصبغ، وقال: ليس بحرام وهو ذريعة للزيادة والأول أقر وهو واحد، وإن وقع لم أر أن يفسخ ومضى على سنته، وبالله التوفيق.
[مسألة: المقارض بالمالين يزعم أنه ربح خمسين ولا يدري من أي المالين الربح]
مسألة وسئل مالك: عن المقارضين بالمال يزعم أنه قد ربح خمسين دينارا ولا يدري من أي المالين الربح، نسي ذلك، فقال: لا شيء له من الخمسين وتكون لصاحبي المال، لكل واحد منهما خمسة وعشرون دينارا.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في رسم يوصى من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح في الوديعة يقر بها الرجل للرجلين ويقول لا أدري لمن هي منهما أنهما يحلفان جميعا ويقتسمانها بينهما، بخلاف إذا قال: علي مائة دينار دين لا أدري هل هي لفلان أو لفلان فادعاها الرجلان جميعا أنهما يحلفان ويغرم لكل واحد منهما مائة مائة؛ لأن الدين في ذمته والوديعة في أمانته، وكذلك ربح القراض في أمانته يلزم فيه على ما في كتاب الدعوى والصلح في الوديعة أن تكون الخمسة وعشرون من الخمسين له والخمسة والعشرون الأخرى لصاحبي المالين يقتسمانها بينهما بنصفين بعد أيمانهما إن ادعى كل واحد منهما أن الربح كان من ماله أو بغير يمين، إن قال كل واحد منهما: لا أدري ولم يدع على صاحبه أنه يدري، وإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يعلم أنها ليست من ماله حلف كل واحد منهما أنه لا يعلم أنها من مال صاحبه فاقتسماها بينهما بنصفين إلا أن يسلمها أحدهما لصاحبه.
ولو قال أحدهما: هي من مالي، وقال الآخر: لا أدري. قيل للذي قال لا أدري: احلف إنك ما تدري، فإن حلف على ذلك حلف الآخر(12/378)
إنها من ماله وأخذها، وإن نكل الذي قال لا أدري عن اليمين، أخذها الذي قال إنها من ماله دون يمين، وإن نكلا جميعا عن اليمين اقتسماها بينهما إلا أن يسلمها أحدهما لصاحبه، وقد روى عيسى عن ابن القاسم في رسم يدير ماله من كتاب المديان والتفليس في الدين أنه ليس عليه أكثر من المائة التي أقر بها، ويقتسمها الرجلان بينهما بعد أيمانهما، فإن حلفا أو نكلا كانت بينهما بنصفين، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين كانت للحالف منهما.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يلزمه من الغرم لكل واحد منهما ما أقر به في الوديعة والدين، وهو الذي يأتي على قوله في مسألة القراض هذه؛ لأنه إذا أوجب ذلك عليه فيما في أمانته فأحرى أن يوجب ذلك عليه فيما في ذمته.
والقول الثاني: أنه لا يلزمه إلا مائة واحدة في الوديعة، والدين يكون بينهما بعد أيمانهما. وهو الذي يأتي على ما في رسم يدير من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس؛ لأنه إذا لم يلزمه في الدين الذي هو في ذمته إلا ما أقر به، فأحرى ألا يجب ذلك عليه فيما في أمانته.
والقول الثالث: الفرق بين الذمة والأمانة. وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح على ما ذكرناه، والله الموفق.
[: كاتب المقارض عبدا من مال القراض]
من سماع يحيى بن يحيى
من ابن القاسم من كتاب المكاتب قال يحيى: وسألت ابن القاسم: عن رجل أخذ من رجل مالا قراضا فاشترى به عبدا فكاتبه وأجاز ذلك صاحب المال.
قال: الكتابة إذا أجازها صاحب المال جائزة. قلت: أرأيت إن أدى المكاتب ما عليه فكان ذلك قدر أصل المال، لمن يكون ولاؤه؟ قال: لصاحب المال خالصا دون العامل.
قلت: فإن كان فيما كوتب به فضل عن أصل المال؟ قال: يقتسمان الربح على شرطهما ويكون الولاء(12/379)
بينهما على قدر المال. قلت: أنصفين مثل الربح.
قال: بل ينظر إلى قدر حصة العامل من الربح ما هي من جميع الربح ورأس المال فإن كان سدسا أو خمسا أو سبعا أو نحو ذلك أي جزء كان حظ العامل من الربح من جميع رأس المال فكان شريكا بمثله في ولاء المكاتب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن المقارض ليس له أن يكاتب عبدا من مال القراض إلا بإذن رب المال؛ لأن الكتابة ليست من التجارة التي أعطاه ماله بسببها. يبين ذلك قوله في كتاب المكاتب من المدونة المأذون له في التجارة لا يجوز له أن يكاتب عبده؛ لأنه لا يجوز له أن يعتقه، فإن كاتَب المقارض عبدا من مال القراض كان لرب المال أن يفسخ كتابته، وإن لم يعلم بذلك حتى أدى جميع كتابته ويكون ما قبض منه كالغلة، قاله في كتاب ابن المواز.
وقال أحمد بن ميسر: إلا أن يكون إنما أدى عنه أجنبي فأعتقه العامل فينفذ عتقه إن كان لم يحاب الأجنبي في ذلك، ولو علم رب المال بذلك فسكت ولم ينكر للزمه.
وقوله في الولاء إنه يكون للمقارض منه إذا أجاز رب المال كتابته بقدر ربحه من جملة المال والربح إن كان فيه ربح صحيح؛ لأنه شريك فيه بقدر ربحه فيكون بمنزلة العبد بين الشريكين يكاتبانه جميعا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقارض الرجل بتبر الذهب والفضة]
مسألة سألته: عن الرجل يقارض الرجل بتبر الذهب والفضة، فقال: أكره ذلك في البلد الذي لا يدار فيه إلا الدنانير والدراهم المضروبة، فإن وقع أجزته ولم أره كالقراض بالعروض، ولا أرى به بأسا في البلد الذي يدار فيه الذهب والفضة تبرا إذا كانوا يشترون بها ويبيعون.
قلت: أرأيت إن أخذها ببلد لا يدار فيه، فاستضرب الفضة(12/380)
دراهم فنقصت، ماذا يرد على صاحبها عند التفصيل؟ فقال: يرد مثل الذي أخذ وزنها وطيبها، ثم يقتسمان ما بقي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: المسلم هل يقارض النصراني]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب
قال عبد الملك بن الحسن: سئل ابن وهب، وأنا أسمع: عن المسلم هل يقارض النصراني؟ فقال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: معنى ما ذهب إليه ابن وهب في إجازته ذلك والله أعلم هو إذا كان إنما يتجر في البز ونحوه ويبيع بالنقد فيتحقق سلامته من الربا، وأما إذا خشي أن يعمل بالربا فلا يجوز له أن يقارضه، هذا مذهب مالك وجميع أصحابه.
فقد قال في المدونة: إنه لا ينبغي للرجل أن يقارض من يستحل شيئا من الحرام في البيع والشراء وإن كان مسلما، ولا من لا يعرف الحلال والحرام، وقال ابن المواز: إنه إن قارض النصراني فربح فُسخ القراض ورد إلى المسلم رأس ماله، وهذا عندي إذا قارضه على علم منه أنه يعمل بالربا.
وأما إن قارضه وهو يرى أنه لا يعمل بالربا ثم خشي أن يكون قد عمل به تصدق بالربح استحسانا، وإن تحقق ذلك تصدق إيجابا، ولو خشي أن يكون قد اشترى به خمرا أو خنازير لابتغي له أن يتصدق بجميع المال استحسانا. ولو تحقق ذلك لوجب عليه أن يتصدق به.
وقد قيل: إنه إذا اشترى به خمرا أو خنازير لزمه ضمانه؛ لأنه قد دخل مع المسلم على ألا يتجر بماله إلا فيما يجوز للمسلمين ملكه.
وذلك يتخرج على الخلاف في منع الرجل امرأته النصرانية من شرب الخمر والذهاب إلى كنيستها، ففي المدونة: أنه ليس له أن يمنعها من ذلك. فعلى قياس ذلك ليس له أن يمنعه من التجر فيما يستبيحه في(12/381)
دينه. وقد قيل: إن له أن يمنعه من ذلك؛ لأنها قد دخلت معه على حكمه. فعلى قياس ذلك ليس له أن يشتري بماله إلا ما يجوز للمسلمين ملكه، فإن فعل ذلك لزمه ضمانه، وأما مساقاة المسلم النصراني فهي جائزة إذا كان لا يعصر خمرا، فإن قاسمه فأراد أن يعمل خمرا لم يمنع ولكن لا يعود المسلم إلى معاملته.
وأما أخذ المسلم من النصراني كرمه مساقاة أو ماله قراضا فأجيز وكره، كرهه مالك في المدونة وأجازه في رواية ابن نافع عنه في المدنية. فقال: لا بأس به، والكراهية فيه أبين وأصح، فإن وقع لم يفسخ.
وأما إذا آجره نفسه على عمل يكون فيه عنده وتحت ملكه فلا يجوز ويفسخ، فإن فات بالعمل مضى واستوجب جميع أجره إلا أن يكون عمله في عصر خمر وحرز خنازير فلا يمكن من الأجر ويتصدق به على المساكين. وأما إن عمل له عملا في داره أو حانوته كالصانع يخيط له ثوبا وما أشبه ذلك فهو له جائز.
فعلى هذه الوجوه الأربعة تكون إجارة المسلم نفسه من النصراني: وجه جائز، ووجه مكروه، ووجه غير جائز، ووجه حرام، وبالله التوفيق.
[: لا زكاة على العامل حتى يكون في حظ رب المال ما تجب فيه الزكاة]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يدفع إلى الرجل مائة دينار يعمل بها قراضا فعمل بها عشرة أشهر، ثم ابتاع رب المال من بعض السلع التي في يديه بمائة دينار فأخذ ذلك رب المال وبقيت سلع فأقروها فيما بينهم؛ لأنها ربح فباعوها بعد شهرين أو ثلاثة بعشرين دينارا أو بثلاثين دينارا لرب المال النصف، قال: لا زكاة على العامل حتى تباع السلعة بمال يكون لرب المال منه ما تجب فيه(12/382)
الزكاة مثل أن يباع بأربعين أو خمسين.
قلت: لم؟ قال: لأنه كان المعاملة إنما كانت في هذه السلعة. فأما ما أخذ من رأس المال قبل ذلك فكأنه لم يكن. وكذلك لو أخذ بعض المال وترك بعضه كان مثل هذا.
قلت: فإن كانت المعاملة على أن للعامل الثلثين ولرب المال الثلث فباعا السلعة التي بقيت بعد أخذ رب المال رأس ماله بشهرين أو ثلاثة تمام السنة؟ قال: لا زكاة على العامل حتى يكون في حظ رب المال ما تجب فيه الزكاة.
وإنما هو بمنزلة من دفع إلى رجل دينارا على أن يعمل به قراضا على أن للعامل الثلثين ولرب المال الثلث وربحوا حتى صارت اثنين وثلاثين دينارا على أن يعمل به قراضا، فلرب المال رأس ماله دينار وثلث الأحد وثلاثين دينارا، وليس على العامل زكاة وإن كان له ما تجب فيه الزكاة، وإنما يكون على العامل الزكاة في ربحه إذا كان في رأس مال رب المال الذي يعمل به العامل وربحه ما تجب فيه الزكاة.
قلت لابن القاسم: فإن دفع رجل إلى رجل عشرة دنانير يعمل بها وله في بيته مائة دينار فيعمل العامل فباعوا بعد الحول بخمسة وعشرين دينارا، والمائة الدينار التي لرب المال هي عنده كما هي، هل يكون على رب المال وعلى العامل زكاة؛ لأن المال الذي عمل به العامل من أصل ما تجب فيه الزكاة.
قال: لا ليس ذلك على العامل، وإنما يكون على العامل الزكاة في ربحه إذا عمل سنة وفي مال رب المال الذي يعمل به وربحه ما يجب فيه الزكاة. ولا يلتفت إلى ما في يدي رب المال مما لم يدفعه إلى العامل، فيكون على رب المال الزكاة في ماله الذي في يديه وفي المال الذي يأخذه من العامل من رأس ماله وربحه، ولا شيء على العامل. قال لي:(12/383)
وكذلك قال مالك في المال يكون عند ربه عشرة أشهر وهي مائة دينار، فيدفعها إلى رجل يعمل به شهرين فيربح فيهما ويقاسمه: إن الزكاة على رب المال في ماله وربحه ولا يكون على العامل شيء وإن كان في ربحه ما تجب فيه الزكاة حتى يعمل به سنة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إن ما أخذ رب المال من رأس ماله من العامل قبل أن يحول عليه من يوم دفعه إليه لا يعتبر فيه في وجوب الزكاة على العامل في حظه من الربح - صحيح على أصله الذي لم أعلمه اختلف فيه قوله في أن العامل لا يجب عليه في حظه من الربح زكاة، وإن عمل في المال حولا وكان في حظه منه ما تجب فيه الزكاة إذا لم يكن في رأس مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة، وإن وجبت على رب المال فيه الزكاة بإضافته إلى مال له قد كان بيده لم يدفعه إلى العامل؛ لأن ما قبض من العامل قبل أن يحول عليه الحول عنده من يوم دفعه إليه فكأنه لم يدفعه إليه وأبقاه بيده.
وسواء على ما نص عليه في هذه الرواية قبض قبل الحول منه جميع رأس ماله أو بعضه إنما ينظر إلى ما يجب إليه مما بقي كان ربحا خالصا أو بقية رأس ماله وحصته من الربح، فإن كان ما يجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة، وإن لم يبلغ ذلك ما يجب فيه الزكاة لم يجب على العامل في حظه من الربح زكاة، وقد قال في رواية أصبغ عنه: إن الزكاة تجب على العامل في حظه من الربح إذا كان في رأس المال وجميع الربح ما تجب فيه الزكاة.
وهو قول أشهب وروايته عن مالك فيما تقدم وقول أصبغ في سماعه وقول سحنون في كتاب ابنه، فعلى هذا إذا قبض قبل أن يحول الحول على ما بيده جميع رأس ماله أو بعضه فحصل بعد الحول في جميع الربح أو في جميعه مع ما بقي عنده من رأس المال ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة. والأول هو المشهور من قول ابن القاسم المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها.
وفرق محمد بن المواز فيما تأول على ابن القاسم بين أن يقبض قبل(12/384)
الحول منه جميع رأس ماله أو بعضه، فقال: إذا قبض منه قبل الحول جميع رأس ماله فلا زكاة على العامل في حظه من الربح، وإن صار لرب المال في حظه الذي قبض منه بعد الحول ما تجب فيه الزكاة وأنه إن قبض منه بعض رأس المال قبل الحول وأبقى بيده بعضَه حتى حال عليه الحول فصار له في بقية رأس ماله وحصته ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل الزكاة في حظه، وإن لم يصر له في ذلك ما يجب فيه الزكاة ولا بقي له من المال قبل الحول ما يتم به النصاب لم يجب على العامل في حظه الزكاة لسقوط الزكاة عن رب المال، وإن كان قد بقي بيده مما قبض قبل الحول تَتِمّة النصاب زكى ذلك، وزكى العاملُ من ربحه ما ينوب منه ما بقي بيده من رأس المال إلى أن حال عليه الحول وهذا تناقض؛ إذ لا فرق في القياس فيما يجب على العامل في حظه من الزكاة بين أن يجب على رب المال زكاةُ ما بقي بيده، أو ما ينوبه من الربح ببلوغه ما تجب فيه الزكاة أو بإضافته إلى ما قبض منه قبل الحول من رأس ماله.
وقولُ ابن القاسم الذي تأول عليه محمد بن المواز هذا التأويل الذي ذكرناه عنه هو قولُه في رواية أبي زيد عنه في سماعه من هذا الكتاب، وقد كان القياس أن يجب على العامل زكاةُ جميع حظه من الربح إذا وجبت على رب المال الزكاة فيما قبض بعد الحول من العامل من ربحه أو من بقية رأس ماله وربحه ببلوغ ذلك ما تجب فيه الزكاة أو بإضافته إلى ما قبض منه قبل الحول من رأس ماله أو إلى مال له سِوَاهُ لم يدفعه إليه وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون عنده الوديعة فيأمره الذي له الوديعة أن يعمل بها قراضا]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يكون عنده الوديعة أو يكون قِبَلَه الدين فيأمره الذي له الدين أو الوديعة أن يعمل بهما قراضا، فقال: أما في الدين فإن الرِّبح للذي عليه الدين، وهو لما نقص ضامِنٌ.
وأما في الوديعة فإن مالكا كان يكرهه، فإن وقع وكان ربحٌ كان بينهما، وإن ادعى أنه تَلِف صُدِّق وكان القولُ قولَه.(12/385)
قال محمد بن رشد: العلة في أن ذلك لا يجوز في الدين بينة، وذلك أنه أنْظَرَهُ بدينه على أن يتجر فيه ويكون له نصف الربح وذلك ربا بَيِّنٌ، فوجب أن يكون الحكم فيه ما ذكره.
قال في المدونة: إلّا أن يقبض دينه ثم يرده عليه، ويأتي على ما في كتاب الصرف من المدونة في الذي يصرف دنانير بدراهم ثم يريد أن يصرفها منه بدنانير مختلفة لعيونها؛ أن ذلك لا يجوز في المجلس ولا بعد اليوم واليومين والثلاثة حتى يبرأ من التهمة؛ لأنه لا يجوز أن يصرف إليه الدين على القراض إلّا بعد أيام حتى يَبْرأ مِنْ التهمة.
ويأتي على ما حكى ابنُ حبيب في الواضحة في القراض يضيع بعضُهُ فيعلم بذلك صاحبُهُ فيقول له: اعمل بما بقي إن ذلك يكون قراضا مؤتنفا أنه يبرأ في هذه المسألة من التهمة بإحضار الدين، وإن لم يقبضه منه، ويكون قراضا صحيحا، وقد مضى في رسم القطعان من سَماع عيسى من كتاب الكفالة والحوالة ما فيه بيان لهذه المسألة فقف على ذلك، وقد روى أشهب عنه إن نزل مضى، وهو بعيد جدا.
وأما الوديعة: فإنما كره القراض بها مخافة أن يكون قد أنفقها وصارت دَيْنا عليه؛ فإذا وقع القراض بها مضى حتى يعرف أنه حركها على قوله في هذه الرواية، خلافُ ظاهر قوله في المدونة من أن ذلك بمنزلة الدين، ولو أحضراها لَجَاز القراض بها، ولم يَرَ محمد بن المواز بذلك بأسا، وإن لم يُحضِرَاهَا، وقاله ابن حبيب في الثقة المأمون، فيتحصل في ذلك في الدين قولان؛ أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو الصحيح في النظر.
والثاني: أن ذلك يكره ابتداء فإن وقع مضى وهو قول أشهب وهو بعيد إذ لم يَجْرِ في ذلك على أصل، فقال: إنه إن نقص ضمن، ولو قال إنه إن نقص لم يضمن لكان وجه قوله أنه صدّقه في إخراج المال من ذمته إلى أمَانَتِهِ؛ إذ قد أمره بذلك، وهو أصل مختلف فيه في المدونة وغيرها.
وفي الوديعة أربعة أقوال؛ أحدها: أن ذلك لا يجوز كالدين وهو ظاهر ما في(12/386)
المدونة لابن القاسم.
والثاني: أن ذلك يكره؛ فإن وقع مضى ولم يفسخ.
والثالث: أن ذلك جائز وهو قول ابن المواز.
والرابع: تفرقة ابن حبيب بين المأمون وغير المأمون، وكذلك إن أحضرها ولم يعرفها بعينها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدفع إليه عشرة دنانير قراضا فيشتري سلعة فيبيعها بعد الحول بعشرين]
مسألة وقال ابنُ القاسم في الرجل يدفع إلى الرجل عشرة دنانير قراضا فيشتري سلعة فيبيعها بعد الحول بعشرين دينارا أيزكونها مثل المساقاة؟ قال: لا حتى يبيعوها بثمن يكون في يدي صاحب المال من ماله وحصته من الربح ما يجب فيه الزكاة مثل أن يبيعها بثلاثين أو أربعين، أو نحو ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم من قوله في المسألة التي قبل هذه، وهو المشهور من قوله المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها، خلاف ما في سماع أصبغ عنه وعن أشهب، وخلاف ما مضى في سماع أشهب، وخلافُ قول سحنون، وخلافُ قول أصبغ من رأيه في سماعه، وبالله التوفيق.
[: اختلفا رب المال والمضارب في شرط الربح]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد وسئل سحنون: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا على ما اشترطا عليه من أجزاء الربح، فعمل العامل بالمال ثم أتاه به ثم اختلفا في رأس المال فقال رب المال: مالي مائتا دينار وهو جميع ما أتَى بِهِ العامل، وقال العامل: بل رأس المال مائة، فقال: القولُ قول العامل في رأس المال؛ لأنه لم يقر أنه قبض إلّا مائة دينار: قال: فإن كانت لصاحب المال بينة وإلّا فيمين العامل، فإن نَكَلَ العامل عن(12/387)
اليمين إذا لم يكن لرب المال بينة قيل لرب المال: احلف وخذ المائتين، فإن نكل عن اليمين لم يكن إلّا ما أقر به العامل، فإن أقام المدعي البينة وهو رب المال، وأقام العامل البينة، وتكافأت البينتان في العدالة سقطت البينتان، وكانا كمن لا بينة لهما، وكان الجوابُ فيهما كما وصفت لك، قال: وإن كانت البينتان مختلفتين في العدالة أُخذ بأعدل البينتين.
قيل: فإن اختلفا في شرط الربح، فقال رب المال: لي الثلثان، وقال العامل: لي الثلثان ولك الثلث، فالقول قول العامل؛ لأن ذلك عمل يده، وإنما ذلك بمنزلة الصانع فالقولُ قولُهُ في الإِجارة إذا ادعى ما يُشبه ورب المال هو المدعي؛ لأن العامل هو البائع لعمل يده وَلمَا أدخل من الصنعة، وقد قال رسول الله: «إذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ البَائِع» فإن أتيا بالبينة فَتَكَافأتا أو لم تتكافئا أو لَمْ يكن لهما بينة كانت الأيمانُ بينهما على ما وصفتُ لك في صدر الكتاب.
قال محمد بن رشد: قول سحنون إذا اختلف العامل ورب المال في عدد رأس المال إنّ القولَ قولُ العامل، وإن أحضر من المال مثلَ ما يدعي صاحب المال وادعى أن الزائد على ما يقر به رِبْحٌ صحيحٌ.
وقد روى أصبغ مثلَه عن ابن القاسم وأشهب، وهو ظاهر ما في المدونة إذا ادعى رب المال أن(12/388)
رأس ماله ألفان، وقال العامل: بل هو ألف إن القول قولُ العامل إذ لَمْ يفرق فيها بين أن يكون في المال ربح أو لا يكون، ولو كان ذلك يفترق عنده لبينه؛ والله أعلم.
بخلاف إذا اختلفا في رد رأس المال فقال العامل: قد رددته وهذا الذي معي ربح، وقال رب المال لم ترده، وهذا الذي معك هو رأس مالي، والفرق بينهما أن هذا مدع في رد رأس المال فوجب ألّا يصدق فيه إذا كان في يديه مثلُهُ أو أكثر فادعى أنه كله ربح، فالعامل في هذه المسألة مدع في الربح، إذا لم يثبت ما ادعاه من الرد، ورب المال في المسألة الأولى مدع في الربح إذا لم يثبت ما ادعاه من عدد رأس المال، وقد حكمت السنة أن البينة على المدعي واليمين على من أنكره.
وأما قولُ سحنون: إنه إنْ أقام كل واحد منهما البينة على دعواه وَتَكَافَأت البينتان أنها تسقط، ويكونا كمن لا بينة لهما فقد روى مثلُهُ عن ابن القاسم، والمشهور عنه أن ذلك لا يكون تكاذبا وتهاترا، ويؤخذ بشهادة من شهد بالأكثر؛ لأنها زادت، والقولان قائمان من المدونة، وفي المسألة قول ثالث: وهو الفرق بين أن تكون الزيادة بزيادة لفظ مثل أن يشهد الشاهدان أنه أقر له بعشرين ويقول الآخرانِ: بل أقر له بخمسة وعشرين أو بغير زيادة لفظ مثل أن يقول الشاهدان أقر له بخمسة وعشر، ويقول الآخران: بل أقر له بعشرين وهي تفرقة لها حظ من النظر، وقد مضى هذا المعنى في نوازل أصبغ من كتاب التخيير والتمليك، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب الشهادات وفي نوازل سحنون منه.
وأما قولُ سحنون: إذا اختلفا في الربح فادعى كل واحد منهما أن الثلثين له فالقولُ قول العامِل؛ لأنّ ذلك عمل يده بمنزلة الصانع يكون القولُ قولَه في الإجارة إِذا ادعى ما يشبه؛ لأنه هو البائع لعمل يده وَلمِا أدخل من الصنعة، فإنه قول صحيحٌ من جوابه فَاسِدٌ من اعتلاله، إذ لم يكن القولُ قولَ الصانع فيما يدعي(12/389)
من الأجرة إلّا إذا أشبه قولهُ من أجل أنه بائع لعمله، ولما أدخله من الصنعة؛ إذ لو صحت هذه العلةُ لَوَجَبَ أن يكون القولُ قولَ بائع الثوب في ثمنه إذا أشبه قولُهُ، وهذا ما لا يصح، وإنما كان القول قول الصانع في مبلغ الأجرة من أجل أن الشيء المصنوع كالرهن في يده بما يدعي من الأجرة في عمله، ولو اختلفا في الأجرة بعد دفع الشيء المصنوع إلى ربه لكان القولُ قولَ رب الثوب؛ إذ لم يبق بيد الصانع ما يشهد له على ما يدعي من الأجرة، وأما العامل في القراض فالقولُ قولُهُ فيما يُقِرّ به لصاحب المال إذا أشبه؛ فإن لم يشبه كان القول قول رب المال إذا أشبه أيضا، فإن لم يشبه حلفا جميعا وكان له قراض مثله، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر وقد أتيا جميعا بما لا يشبه كان القولُ قولَ الحالف منهما على ما ادعاه، وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد أمكنه من جميع دعواه بنكوله، وكذلك أن أتَى أحدُهُما بما يشبه كان القول قولَ الذي أتى منهما بما لا يشبه، فإن نكل عن اليمين أيضاَ كان القول قول الذي أتى بما يشبه دون يمين، فإن أتيا جميعا بما يشبه ونكلا عن اليمين كان للعامل ما ادعاه دون يمين، وإن نَكَلَا جميعا إذا أتيا بما لا يشبه كان له قراض مثله كما إذا حلفا، فهذا وجه الأيمان فيما بينهما في هذه المسألة على معنى ما وصفه في صدر الكتاب في المسألة الأولى؛ لأن ذلك إنما يكون إذا لم تكن لهما بينة أو كانت لكل واحد منهما بينة فتكافأتا في العدالة فسقطتا، وأما إذا لم تتكافيا فالأيمان بينهما؛ لأن الحكم أن يقضى بالأعدل منهما. فقوله: وإن لم تتكافيا لفظ وقع على غير تحصيل، وبالله التوفيق.
[مسألة: القول قول العامل إذا اختلف مع رب المال]
مسألة قيل له: فإن دفع إلى رجلين مالا قراضا فعملا بالمال ثم أتيا ومعهما مائتا دينار فقال أحدهما: رأس ماله مائة دينار والربح مائة، وكذَّبه رب المال وقال الآخر: رأسُ المال مائتان وصدَّقه رب(12/390)
المال. فإن كان الذي زعم أن رأس المال مائتان عدلا حلف رب المال مع شاهده واستحق المائتين، وإن كان غير عدل قيل لهما: أعطيا المائة التي اجتمعتما عليها؛ لأنها رأس المال فيأخذ من هذا خمسين ومن هذا خمسين وبقيت في يد كل واحد منهما خمسون، ويقال للذي أقر: أن رأس المال مائتان أعط ما في يديك؛ لأنه لا ربح لك حتى يتم رأس المال، ويقال للآخر الذي بقي في يديه خمسون ما في يديك من المال قد زعمت أن نصفه لك ونصفه لرب المال، والنصفُ الآخر لرب المال في يدي الذي أقر أنه لا ربح في المال، فأنت تصدق على ما في يديك من المال فلا يلزمك أكثرُ مما أقررت به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا دفع إليهما المال قراضا فقد حصلا شريكين في العمل به على الإشاعَة، فكأن المالَ بيد كل واحد منهما نصفه، وإن كان بيد أحدهما جميعه، فالذي يقر أَنَّ رأس المال مائتان مقر على نفسه أنه لا حق له في المال وشاهد على صاحبه فيما يدعي من أن رأس المال مائة والمائةُ الثانيةُ ربح، فوجب أن يحلف مع شهادته إن كان عدلا كما ذكر ويستحق المائتين، وإن لم يكن عدلا كان للثاني بعد يمينه أن رأس المال مائة، وأن المائة الثانية ربح على ما تقدم في المسألة التي قبل هذه من أن القول قول العامل إذا اختلف مع رب المال في عدد رأس المال ما يجب له من المائة التي زعم أنها ربح، وذلك خمسة وعشرون دينارا؛ لأن نصف الربح لرب المال والنصف الثاني فيما بينه وبين صاحبه بنصفين، وسكت عن اليمين للعلم الحاصل بها، فإن نكل عن اليمين حلف رب المال أن رأس ماله مائتان وأخذ جميعها ولم يكن لواحد منهما شيء، هذا وجه قوله في الرواية، وما قاله فيها من أنه يأخذ من هذا خمسين ومن هذا خمسين وبقيت(12/391)
في يد كل واحد منهما خمسون، فيقال للذي أقر أن رأس المال مائتان: أعط ما في يديك؛ لأنه لا ربح لك حتى يتم رأس المال إلى آخر قوله هو كلام ساقه على طريق التقريب لا على سبيل التحقيق؛ لأن المال لم يكن بيد كل واحد منهما نصفه، إذ لو اقتسماه وانفرد كل واحد منهما بالعمل بنصفه لكانا متعديين في ذلك، ولوجب إنْ ربحَ أحدُهما وخسر الآخر لا تجبر الخسارة من الربح، وأن يكونا ضامنين جميعا للخسارة التي خسرها أحدهما لرب المال، ويكون الربح الذي ربحه الآخر بينهم نصفه لرب المال ونصفه بينهما على ما شرطوه، ولكنه لما كانا يتجران به جميعا على الإِشاعة فكان نصفه بيد كل واحد منهما؛ لأنه وإن لم يكن كذلك في الحقيقة فهو كذلك في المعنى، وما يوجبه الحكم والله الموفق.
[مسألة: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه]
مسألة قيل له: أرأيت لو أتيا بثلاثمائة دينار، والمسألة على حالها فاختلفا، فقال أحد العاملين: رأسُ المال مائةٌ والربحُ مائتان وكذّبه رب المال، وقال العامل الآخر: بل رأس المال مائتان والربح مائة وصدقه بذلك رب المال قال: يقال للعاملين: قد اجتمعتُما على رأس المال أنه مائة فأخرجاها، فيخرج كل واحد منهما خمسين، ويبقى بيد كل واحد منهما مائة مائة، وإن كان الذي أقر أن رأس المال مائتان عدلا لم يحلف رب المال مع شاهده؛ لأنه جَارٌّ إلى نفسه، أَلَا ترى أنه إذا بقيت في يديه مائة قال له رب المال: أعطنيها فإنه لا ربح لك منها؛ لأنك مقر أن رأس المال مائتان ولا ربح لك إلَّا بعد استيفائي رأس مالي، فمن هناك سقطت شهادته، أَلَا ترى أني لو أجزت شهادته لأخذ رب المال المائةَ منهما جميعا ويبقى بيد كل واحد منهما خمسون فيصيرُ له ربح ما بقي بيده، فلما جَر بشهادته إلى نفسه طرحت شهادته؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا(12/392)
تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جَارّ إلى نفسه» فلما سقطت شهادته وأخذ رب المال ما اجتمعا عليه من رأس المال، وهي المائة التي أخرج كل واحد منهما خمسين خمسين وبقيت في يد كل واحد منهما مائة، قيل: للمُقِر: إن رأس المال مائتان هات ما في يديك؛ لأنه لا ربح لك إلَّا بعد الاِستيفاء لرأس المال، فيؤخذ منه فيستوفي رب المال رأس ماله، ثم يقال للآخر الذي زعم أن المال الذي في يديه ربح له ولرب المال هات شطرَها، وإنما لم يُؤخذ منه أكثرُ من شطرها؛ لأنه زعم في إقراره أن لرب النصف في أيديهما جميعا وأنه لم يقر لرب المال فيما في يديه بأكثر مما ادعى لنفسه، وإنما هو كرجل قال لرجل ما في يدي نصفٌ لك ونصفُ لي، فلم يقر له إلا بمثل ما أقر لنفسه، فليس لرب المال مما في يديه إلَّا نصف ما في يديه وهو خمسون، وليس للمقر الذي زعم أن رأس المال مائتان في يدي رب المال من الخمسين التي صارت فضلا حجة أن يقول له: قد بلغتك رأس مالك، وقد صار في يديك فضل خمسين فلا تذهب بها دوني؛ لأنه يقال له: أنت مقر أن لرب المال نصف الربح، وأنك لا تدخل عليه في نصفه، وإنما دخولُك على صاحبك، وصاحبك يجحدك، ألا ترى أن الزوج يقر بأخ مع إخوةٍ كانوا ورثة معه معروفين أنه لا يدخل عليه في شيء قال سحنون: وقد قيل في العامل: إنه يرجع عليه في النصف الذي في يديه فيقاسمه على ثلاثة أسهم للعامل سهم وسهمان لرب المال.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن كان الذي أقر أن رأس المال مائتان عدلا لم يحلف ربُّ المال مع شاهده؛ لأنه جَارّ إلى نفسه صحيح؛ لأنه يدعي أن المائة ربح فله منها خمسة وعشرون على دعواه ولصاحبه خمسة وعشرون ويقر أن لرب المال مائتي رأس ماله وخمسون نصف المائة الربح، فإن أعملنا(12/393)
شهادته مع يمين رب المال استوجب من الربح خمسة وعشرين ربع المائة الربح على قوله، وإن لم تعمل شهادته وجب أن يحلف صاحبه على ما يدعى من أن رأس المال مائة فيستحق إذا حلف من الربح خمسين دينارا ربع المائتين الربح على قوله، ويأخذ رب المال الباقي وذلك مائتان وخمسون بإقراره أن رأس المال مائتان، إذ يجب له على قوله من المائة الربح نصفُها فلا يجب له على إقراره شيءٌ إذ لم نُعْمِلْ شهادَتَه وإن أعلمتَها وجب له خمسة وعشرون، فوجب من أجل هذا ألّا نُعمِل شهادته وأن يأخذ صاحب المال مائتين وخمسين بإقراره له بها وصاحبه خمسين بيمينه أن رأس المال مائة ولا يكون له هو شيء.
ووجهُ القول الثاني في أنه يرجع على رب المال في النصف الذي في يديه من الربح وهو خمسون دينارا فيقاسمه إياها على ثلاثة أسهم، له سهم ولرب المال سهمان هو أنه يدعى من الخمسين الربح نصفها إذ يجب له من الربح خمسة وعشرون على ما يزعم من أن رأس المال مائتان، ورب المال يدعي أن له الخمسين كلها فتقسم الخمسون بينهم على الثلث والثلثين كَمَالٍ يتَدَاعَى فيه رجلان، يدعي أحدهما جميعَه والثاني نصفَه على المشهور من مذهب مالك في هذا النوع من التداعي.
ويتخرج على هذا التوجيه في المسألة قولٌ ثالث، وهو أن يقسم بينهما أَرْبَاعا؛ لأن العامل قد سلم له نصف الخمسين وينازعه في النصف الآخر منها بينهما بنصفين، وهو المشهور من مذهب ابن القاسم في هذا النوع من التداعي، وإلى القول الثاني ذهب محمد بن المواز، قال: ولا يحسب على رأس المال شيء من الظلم ولا التلف إنما يقع ذلك على الربح، وروي عن أشهب خلافُه وأن لكل واحد من العاملين ما يدعيه من الربح فيأخذ الذي أقر أن رأس المال مائتان خمسة وعشرين؛ لأنه هو الذي يجب له من ربح المائة، ويأخذ الذي ادعى أن رأس المال مائة، خمسين بعد يمينه أن رأس المال مائة على ما تقدم؛ لأنه هو الذي تجب له من ربح المائتين، وهو قول رابع في المسألة له حظ من النظر،(12/394)
وذلك أن العامل الذي أقر أن رأس المال مائتان أحق بحظه من المائة الربح إذ لم يقر به لأحد والخمسون التي يجب منها لرب المال قد استحق العاملُ الثاني عليه نصفَها بيمينه أن رأس المال إنما كان مائة وبالله التوفيق.
[مسألة: أخذ مالا من رجل قراضا على النصف وأخذ من رجل آخر على الثلث]
مسألة قيل له: أرأيت لو أن رجلا أخذ مالا من رجل قراضا على النصف وأخذ من رجل آخر أيضا مالا على الثلث، فاشترى سلعتين صفقتين بثمنين مختلفين بكل مال على حياله، فالتبس عليه الأمر فلم يدر أيتهما السلعة الرفيعة الثمن من الأخرى، وفي أحد السلعتين ربح وفي الأخرى نقصان، فادعى كل واحد منهما السلعة الرفيعة أنه اشتراها بماله، على المقارض ضمان، فقال: ليس على المقارض ضمان؛ لأنه هو كرجل استودع مالين لرجلين لرجل مائة والآخر خمسون فنسي صاحب المائة من صاحب الخمسين، وادعى الرجلان المائة أنهما يحلفان جميعا على المائة ويقتسمانها، والخمسون الأخرى بيد المستودَع ليس لها مدع، ومن رأى أنه يضمن المستودَعُ مائة لكل واحد بغير يمين إذا ادعى كل واحد منهما أن وديعته مائة ضمنه فمسألتك في القراض مثل ما وصفتُ لك في الوديعة.
قال محمد بن رشد: قوله: فالتبس عليه الأمر فلم يدر أيتهما السلعة الرفيعة الثمن من الأخرى يريد أنه التبس عليه الأمر في السلعتين فلم يدر أيتهما الرفيعة التي فيها الربح من الوضيعة التي لا ربح فيها، ولو علم من أي مالٍ اشترى كل سلعة منها لما صح أن يتداعى صاحب المالين في السلعة الرفيعة(12/395)
ولوجب أن يكون من المال الذي قال المقارض إنه اشتراها منه، ولم يكن في ذلك كلام ولا خلاف، فقوله: إذا لم يدر المقارَض من مال من اشترى السلعة الرفيعة فيتداعيا فيها إنّ ذلك بمنزلة من استودع مالين لرجلين لأحدهما مائة، للآخر خمسون فنسي صاحبَ المائة من صاحب الخمسين، وادعيا جميعا المائة إنهما يحلفان عليها ويقتسمانها وتبقى الخمسون بيد المستودع ليس لها مودع إلى آخر قوله، يقتضي ألّا يلزم المقارَض ضمان بنسيانه، ويحلف كل واحد من صاحبي المال على السلعة الرفيعة أنه اشتراها من ماله، ويكون من ماليهما جميعا نصفها من مال هذا ونصفها من مال هذا، وتبقى الأخرى بيد المقارض إذا لم يكذب أحدُهما نفسَه في دعواه السلعة الأولى ويقول: بل هذه هي التي اشترى من مالي فتكون من ماله ويخلص السلعة الأولى كلها، وفي هذا اختلاف، قد قيل: إنه لا يقبل دعواهما فيه بعد أن أَنْكَرَاهَا، وقيل: إنها تكون لهما بإقرار المقارَض أنها لأحدهما، وإن كانا متماديين على إنكارها.
وقول سحنون في هذه المسألة: إن المقارَض لا يلزمه ضمان لنسيانه من اشترى السلعة من ماله يأتي على قياس رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الدعوى والصلح في الرجل يقر بالوديعة لأحد رجلين لا يدري من هو منهما؟ أنه لا يلزمه غيرُها وتكون بينهما بعد أيْمَانِهما، ومثل قول ابن كنانة في مسألة الرجل يأخذ من الرجل ثوبا من كل واحد منهما على أنه فيه بالخيار فيردهما ولا يعرف ثوب هذا من ثوب هذا ويدعيان جميعا أحدَهما ويُنكر الآخر، إن الثوب الذي ادعياه يكون بينهما بعد أيمانهما ويبقى الآخر بيد المشتري حتى يأتي له طالب.
وقد ذكرنا ذلك والاختلاف فيه فيِ سماع يحيى من كتاب بيع الخيار، ويأتي في هذه المسألة على قياس ما مضى في رسم القطعان من سماع عيسى من هذا الكتاب في المقارَض بالمالين يزعم أنه ربح خمسين دينارا لا يدري من أي المالين، أنه لا شيء له من الخمسين وتكون لصاحبي المالين أن يلزمه لكل واحد منهما ضمانُ الثمن الذي اشترى به السلعة من ماله، وهي رواية أَبِي زيد عن ابن القاسم في سماعه بعد هذا، قال: هما مخيران بين أن يضمناه السلعتين(12/396)
ويأخذ أموالهما، وبين أن يأخذ السلعتين فتباع بهما ويعطى كل واحد منهما رأس ماله ويكون للمقارض ربحه إن كان فيهما ربح.
وحكي عن ابن كنانة مثل قول ابن القاسم خلاف ما حكيناه عنه في مسألة الذي يأخذ الثوبين من الرجلين بالخيار فَتَخْتَلِطُ عليه.
وقال عن ابن القاسم: إلّا أن تكون قيمة السلعة الأدْنى أكثرَ من الثمن الذي اشترى به السلعة الأولى فلا خيار لهما في تضمينه، وتكون السلعتان على القراض على قدر أموالهما، وقال محمد بن المواز: إنْ اتفقت قيمتهما فلا حجة لصاحب الأكثر على صاحب الأقل ولا على العامل، وإن اختلفت غرم العاملُ فضلَ قيمة الرفيعة على الدنية؛ لأن كل واحد منهما يدعي الرفيعة ويرجو ذلك، والعامل لا يدفعهما وإنما تعتبر قيمتهما اليوم وهو نحو رواية أبي زيد فتدبر ذلك كله وبالله التوفيق.
[مسألة: يقسم الربح على المالين جميعا]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا، ثم إن العامل عمل به وربح فحاسبه رب المال فأخذ ربحه وترك المال عند العامل ثم زاده رب المال آخر مثل الذي كان دفع إليه أولا فعمل بالمالين جميعا فربح فيهما، قال: يقسم الربح على المالين جميعا فما صار للمال الأول كان على قراضهما وما صار للمال الثاني كان لرب المال، ويكون له أجرةُ مثله، قلت: فلو خسر؟ قال سحنون: تحسب الخسارة على المالين جميعا فما أصاب المال الأول من الخسارة جُبِر بالربح الذي وصل إلى العامل، وإلى رب المال، ويكون للعامل أُجرة مثله في المال الآخر ولا ضمان عليه فيما خسر فيه؛ لأنه فيه أجير وليس له فيما ربح فيه شيء وهو في المال الأول على قراضه.
قال محمد بن رشد: جواب سحنون في هذه المسألة على مذهب(12/397)
ابن القاسم في المدونة أن المفاصلة لا تتم بينهما إلا بقبض المال لا بالمحاسبة خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وغيرهما من أصحاب مالك حاشى ابن القاسم فيجوز على ما ذهب إليه ابن حبيب وحكاه عن أصبغ أن يدفع إليه مالا آخر بعد أن حاسب في المال الأول وقبض ربحه منه على أن يخلطه ويعمل فيهما معا، كان على ذلك الجزء أو على جزء آخر، ولا يجوز إلا بخلطه به ويعمل بكل مال على حدة إذا كان على جزء آخر، وأما إن كان على مثل الجزء الأول فقد قيل: إنه يجوز، ذكره ابن المواز في قول، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنه لا يجوز حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم من رواية أبي زيد عنه، فإن دفع إليه مالا آخر قبل أن يفاصله في المال الأول وفيه ربح أو خسارة على مثل الجزء الأول أو أقل أو أكثر على أن يخلطه به لم يجز.
قال ابن حبيب في الواضحة: فإن عمل على هذا قسم الربح على عدد المال الأول حين يخلطه بالمال الثاني وعلى عدة الثاني فتكون حصة الأول من الربح بينهما على شرطهما.
ولا يجبر نقصانُ واحد من المالين بربح المال الثاني، وحصةُ المال الثاني على قراض مثلهما على غير شرط أن يخلطه بالأول؛ لأنها زيادة داخلة في المال غير خارجة عنه.
وقال فضل: وهو مذهب ابن القاسم في المستخرجة؛ لأنها زيادة داخلة في المال، ولا أعرف هذه المسألة في المستخرجة في روايتنا، وقد رأيت للفضل أنه يرد في المال الثاني إلى إجارة مثله على مذهب ابن القاسم في المدونة مثل قول سحنون ها هنا؛ لأنه جعل شرط الخلط مثل ما لو اشترط إن وضعتَ في هذا المال الثاني جَبَرْتَهُ من الأول فصارت زيادة خارجة اشترطها رب المال لنفسه مع الغرر إذ قد يخسر وقد لا يخسر وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذان المال من رجل قراضا هل يجوز لهما أن يقتسما المال]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجلين يأخذان المال من رجل قراضا هل(12/398)
يجوز لهما أن يقتسما المال إن أحبا؟ قال: ليس ذلك لهما، قيل: فلو أن رجلين دفع إليهما رجل مَالا وديعة هل يجوز لهما أن يقتسماه؟ قال: ليس ذلك لهما، وجميع ما سألت عنه من المقارضين والمستودعين واحد لا يجوز لهما أن يقتسماه فإن فعلا فتلف المال لم يضمنا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: ليس من سنة القراض أن يبضع العامل مع رب المال]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الرجل يدفع إلى الرجل المال قراضا ويأذن له في أن يُبْضِعَ إن أَحَبَّ فيعرض لرب المال سفرٌ فَيُبْضِعُ معه العاملُ، فلما جاء البلدةَ عرف رب المال الخريطة وعرف المال أنه ماله بعينه، فاشترى به لمن ترى الفضل؟ قال: أراه لرب المال؛ لأن العامل لم يشتر به شيئا ولم يعمل له فيه، وليس هذا من سنة القراض أن يبضع العامل مع رب المال.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إنما أذِن له أن يبضع مع غيره لا معه، هذا هو الوجه الذي يعرف في إذنه له في ذلك.
[مسألة: أخذ تسعة وثلاثين دينارا قراضا فربح العامل في المال دينارا]
مسألة وقال سحنون في رجل أخذ تسعة وثلاثين دينارا قراضا فربح العامل في المال دينارا تَمَّ على المال الحولُ: إن الزكاة تخرج من الأربعين دينارا كلها قبل أن يقتسما الذي ربح، ثم يقع على المقارض في نصف ديناره حصة الزكاة ما يقع عليه من الأربعين، ليس عليه أكثرُ من ربع عشر نصف الدينار الذي ربح، ليس يقع عليه(12/399)
أكثر من الحصة من جميع الأربعين.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب أن العامل يجب عليه في حَظِّهِ الزكاةُ وإن كان أقل من نصابٍ إذا كان في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة، أو في رأس مال رب المال وجميع الربح ما تجب فيه الزكاة.
وقد قيل: إنه لا يجب عليه في حظه من الربح زكاة حتى يكون في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة، ويكون أيضا في حظه من الربح ما يجب فيه الزكاة، وهذا القول تأوله محمد بن المواز على ابن القاسم ولا يُوجدُ له نصا، والثلاثةُ الأقوال كلها استحسان ليست بجارية على أصل ولا قياس، وقد مضى بيان هذا كله في رسم أوله مسائل بيوع من سماع أشهب فلا معنى لإِعادته.
[مسألة: أخذ المال قراضا يعمل به ثم أخذ منه رب المال ماله وللعامل ثياب يلبسها]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل إذا أخذ المال قراضا يعمل به ثم أخذ منه رب المال ماله وللعامل ثياب يلبسها كان اشتراها لسفره من مال القراض هل يكون لرب المال أن يأخذ منه الثياب التي كان يلبس العامل؟ قال: إذا كانت ثيابا لها قدرٌ وبالٌ فإِنها ترد وتباع ويدخل ثمنها في جملة مال القراض، وإن كانت ثيابا خَلِقَة تافهة ليس لها قدر تركت للعامل كما قال مالك في القِرْبَةِ والحبل والشيء الخفيف.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما مضى في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم ونحوُ ما في الموطأ، وهو مما لا اختلاف فيه احفظه وبالله التوفيق.
[مسألة: المقارض يسلب هل يكتسي من مال القراض]
مسألة وسئل سحنون: عن المقارض يُسْلَبُ هل يكتسي من مال القراض؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا كان من حقه أن(12/400)
يكتسي في سفره من مال القراض إذ فرق بين الأولى والثانية وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى النصرانِي بالمال خمرا فأسلم رب المال والخمر قائمة في يد المقارض]
مسألة وسُئِل سحنون عن نَصْرَانِي دفع إلى نصرَانِي مالا قراضا فاشترى النصرانِي بذلك المال خمرا فأسلم ربُّ المال والخمر قائمة في يد المقارَض لم تبَع وهي حين أَسْلَمَ رب المال في ثمنها ربح أَوْ لَا ربح فيها، والعاملُ يقول: خذ خمرك ورب المال يقول: إِنَّمَا قارضتك بمال ولم أقارضك بخمر فأدفع إِليَ مالي، وكيف إن قال رب المال: أدفع إلى هذا الخمر يكسرها فإنه لا يَحِلُّ لي ملكها، فقال الآخر: لا، أدفع إليك فيذهب ربحي!! أو قال: أنا أنتظر بها الأسواق؟ قال سحنون: هي مصيبة وقعت على رب المال، وينظر إلى قدر فضل النصراني فيها فيعطى منها ويهراق ما صار للمسلم.
قال محمد بن رشد: قولُ سحنون في نوازله الثانية من كتاب المديان والتفليس في المركب من الروم يُرْسِي بساحل المسلمين ومعهم الخمر للبيع وغير ذلك إن السلطان لا يجبرهم على بيعها للعشور، ولكن يوكل من يتحفظ بها حتى إذا بيعت أخذ من ثمنها العشور معارض لقوله في هذه المسألة، وقد مضى الكلام على ذلك هناك فلا معنى لِإعادته.
[: الرجل يدفع إلى الرجلين المال قراضا فيختلفان في المال عند من يكون منهما]
من سماع أصبغ بن الفرج من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب البيوع والصرف قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يدفع إلى الرجلين(12/401)
المال قراضاَ فيختلفان في المال عند من يكون منهما، قال: إذا كان ذلك نظر إلى صاحب المال فَاتُّبع قولُهُ فإن حَضَرَ الاشتراءُ أَحْضَرَاهُ، قلت: فإن اختلفا في الاشتراء أو البيع وقال هذا لا أراه؟ قال: لا بد لهما من أن يجتمعا ويتسالما وإلا رد المال وانسلخا منه، وليس للسلطان في هذا مَقالٌ ولا نظر، قال: وهذا في رأيي ما لم يُقْبَضْ المالُ فإذا قبض فهو إلى من دفعه ربه عند مقارضتهما إن كان دفع إليهما جميعا، وإن كان أحدهما فأحدهما وليس للآخر بعدُ كلام ولا مقال إذا كان يعلمه قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يتكلم فجمعت ذلك وتكلمنا معه فيهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القولُ فيها مستوفى في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى فلا معنى لإِعادته وبالله التوفيق.
[: دفع إليهما المال قراضا على غير شرط فعملا فيه جميعا ثم اختلفا]
ومن كتاب البيوع والصرف قال: وسألته عن الذي يدفع إلى الرجلين المال قراضا على أن لصاحب المال النصف ولأحدهما الثلث وللآخر السدس والعمل بينهما على قدر ذلك؟ قال: ليس في هذا خير، قال أصبغ: وإذا وقع فسخ ما لم يقع العمل ويفوت فإن فات بربح أو وضيعة وفراع رأيت أن ينفذ ذلك إذا لم يكن فيه اشتراط على صاحب السدس بأكثر من جُزْئِهِ من العمل، والنظرُ والكفايةُ لهما جميعا فإن كان كذلك وفات كانا على شرطهما في الأجزاء وكان للعامل فضل زيادة العمل الذي اشترط عليه بأجرة مثله.
قال محمد بن رشد: كراهيةُ ابن القاسم لمقارضته إياهما على أجزاء(12/402)
مختلفة هل يكون العمل بينهما على قدر أجزائهما من الربح بقوله: ليس في هذا خير، ضعيفةٌ على أصله في المدونة؛ إذ لم يراع فيها اختلافَ العاملين في النفاد في التجر والبصر به، فقال: إنه إذا قارضهما على أن يكون أحدهما بسدس الربح وللآخر الثلث إن ذلك لا يجوز؛ لأنه كأنه قال لأحدهما: اعمل مع هذا على أن لك ربح بعض عمل هذا، فالذي يأتي على تعليله في المدونة وهو الظاهر من قوله فيها أنه إذا قارضهما على أن لأحدهما ثلث الربح وللآخر السدس والعمل بينهما على قدر ذلك أن ذلك جائز؛ لأن الشركة بين العاملين على هذا جائزة، لو دفع إليهما المال قراضا على النصف من غير شرط فاشتركا همَا على العمل فيه على الثلث والثلثين على أن يكون على صاحب الثلث من العمل الثلث وعلى صاحب الثلثين الثلثان لجاز، وإنما تصح الكراهية في ذلك على مراعاة اختلاف العاملين في البصر بالتجر، وعلى ذلك يأتي اعتراض سحنون في المدونة عن ابن القاسم بقوله: أو ليس قد يجوز لصاحب المال أن يدفع المال قراضا على النصف وأقل من ذلك وأكثر؟ وهو اعتراض بين، ألا ترى أنه لو قارض أحدهما في مائة دينار على انفراد على أن يكون له ثلث الربح، وقارض الآخر في مائة على انفراد على أن يكون له ثلثا الربح فاشتركا جميعا في العمل بإذن صاحب المال دون شرط لَوجب أَلَّا يكون لواحد منهما من الربح إِلاَّ ما اشترط فيأخذ صاحب المال جميع ربح المائتين ويأخذ الذي قورض في المائة على الثلثين الثلث والذي قورض في المائة الأخرى على الثلث السدس.
فوجه الكراهية في ذلك على هذا أن العاملين لم يرض الذي هو أَبْصَرُ بالتجارة من صاحبه أن يكون له من الربح على قدر عمله إلَّا بما شرط عليه صاحب المال، فكأنه قال لِلْمُقْصِرِ في التجر منهما أعمل مع هذا على أن يكون لك من الربح مائة، وهذا القولُ أظهر، ألا ترى أنه لو دفع إليهما المال قراضا على غير شرط فعملا فيه جميعا ثم اختلفا في قسمة الربح بينهما لوجب أن يقسم بينهما على أن يكون حظه من الربح بينهما بنصفين، أو على أن يكون لأحدهما من الربح الثلث وللآخر السدس والعمل عليهما على قدر ذلك جاز على أصل ابن القاسم في المدونة، وكَرِهَهُ في هذه الرواية، فإن فات(12/403)
بربح أو وضيعة مضى على شرطهما، وإذا قارضهما على أن يكون لأحدهما من الربح الثلث وللآخر السدس والعمل بينهما بنصفين جاز على ما يدل عليه مذهب سحنون في اعتراضه على ابن القاسم، وهو الأظهر على ما ذكرناه، ولم يجز على مذهب ابن القاسم، قال فضل: القياس على مذهبه أن يُرَدَ العاملُ إلى قراض المثيل؛ لأنها زيادة داخلة في القراض، والصحيح عندي في القياس على مذهبه أن يُرَدَ إلى إجارة المثيل، ألا ترى أنه قال في المدونة كأنه قال لأحدهما اعمل على هذا على أن لك ربح بعض عمل هذا فما اشترط رب المال من المنفعة لأحد العاملين، فكأنه إنما يشترطها لنفسه لماله من القراض في جر النفع إليه.
يبين ذلك المسألةُ الواقعة بعد هذا في الكتاب، ومسألة المدونة إذا دفع إليه مالا على أن يجعله معه من يبصره بالتجارة.
وقولْه: فإن كان كذلك، يريد فإن كان الشرط أنَّ الربح بينهما على الثلث والثلثين والعمل عليهما بنصفين كانا على شرطهما في الأجزاء، وكان للعامل فضل زيادة العمل الذي اشترط عليه بأجرة مثله، فهو خلافُ قوله في المدونة، لأنه لم يراع الشرط، وإلّا فسد به القراض إذ جعل الربحَ بينهما على شرطهما وأرجع الذي عمل أكثر من جزئه من الربح بأجرة مثله في الزايد، فَجَعَلَ الكلامَ إِنما هو بين العاملين كالمتزارعين على الثلث والثلثين مستويان في العمل ويسلمان في العمل في مُزَارَعَتِهِمَا من كراء الأرض بما يخرج منها على ما ذهب إليه ابنُ حبيب من أنهما لا يُحَوَّلَانِ عن شرطهما، ويتعادلان فيما يخرجان، وبالله التوفيق.
[مسألة: مغاررة وبيع غرر]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن رجل دفع إِلى رجل مالا قراضا فاشترى سلعة، ثم إن العامل قال لصاحب المال: هل لك أن أدفع إليك مالك على أن يكون فلان بمثابتك في الربح متى ما بعنا فإِن كان ربحٌ قاسمته إياه كما أقاسمك، فرضي بذلك قال: هذا حرام لا يحل. وقاله أصبغ وهو مُغَارَرَةٌ وبيع غرر، وقليل في كثير وغير(12/404)
ذلك من سلف جر منفعة وغيره من قبل ما يجر من الربح بما أعطى إلى من يُحِبُّ ممن يجعل في مثابة رب المال، فهو جار إلى نفسه بماله الذي عمل، فكل هذه الأوجه من الفساد والإِغْرَار وأكثُرها تدخله ويجري فيه فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إِنَّ ذلك لا يجوز؛ لأنه عجل رأس المال لصاحبه قبل أَنْ ينض جميعُه على أن يعطي حظه من الربح لمن يريد منفعة ورفعه، فيدخله سلف جر منفعة، والربحُ أيضا غير معلوم قد يقل ويكثر فهو غرر وربا وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذ المال قراضا على أن يرسل فيه غلمانه ومن أحب]
مسألة وسألته: عن الذي يأخذ المال قراضا على أن يُرسل فيه غِلْمَانَهُ ومن أحب ولا يخرج هو إِن شاء، قال: لا يصلح.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يقارض الرجل على أن يخرج إلى البحيرة أوالفيوم يشتري طعاما]
مسألة وسئل ابنُ القاسم: عن الذي يقارض الرجل على أن يخرج إلى البحيرة أو الفيوم يشتري طعاما، فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة أنه جائز ما لم يشترط عليه جلبَ ما اشترى هناك من السلع إلى هلم، أو يسمى له سلعا يشتريها هنالك ويأتي بها، أو يحمل من هنا إلى هنالك سلعا يبيعها ثَمَّ فيكون فيه أجيرا؛ لأنه رسول بأجرة غرر، وهو كله خلافُ ما في المدونة؛ لأنه لم يُجِز فيها أن يدفع الرجل إلى الرجل مالا قراضا على أن يخرج به إلى بلد من البلدان يشتري به تجارة؛ لأنه قد حَجَّرَ عليه أَلَّا يشتري حتى يبلغ ذلك البلد، وروى الحارث عن ابن وهب أن مالكا سئل عن رجل يقال له: أخرج إلى مالي في موضع كذا فاعمل به(12/405)
قراضا، قال: لا خيرَ فيه لِموضع قوله أخرج، وكأنه رآه من وجه المنفعة.
قال: وسمعت مالكا وسئل عن الرجل يكون بالمدينة وهو من أهل مصر، فسأل الرجل بالمدينة أن يعطيه مالا قراضا يبتاع به متاعا بالمدينة ويخرج به إلى مصر ويبيعه ويدفع إليه رأس ماله وما يصيبه من الربح في نصيبه إلى وكيله بالفسطاط، قال مالك: لا بأس بذلك فرُوجع في ذلك وقيل له: إِنما أعطاه المال على أن يبتاع به ويخرج إلى مصر أَلَا تراه شرطا؟ قال: هذا لا بأس به هي بلده وإليها يخرج.
وروى ابن أبي أويس عن مالك مثلَه، وقول مالك هذا في رواية ابن وهب وابن أبي زيد وابن أبي أويس ليس بخلاف لما في المدونة، والحجة في جواز ذلك جعل عمر بن الخطاب المال الذي دفعه أبو موسى الأشعري إلى عبد الله وعبيد الله ليبتاعا به متاعا بالعراق ويبيعانه بالمدينة قراضا بإِشارة مَنْ أشار عليه بذلك من جُلسائه وبالله التوفيق.
[: أخذ من رجل تسعة عشر دينارا قراضا فربح فيها دينارا أفيها الزكاة]
ومن كتاب الزكاة والصيام وسئل أشهب: عن رجل أخذ من رجل تسعة عشر دينارا قراضا فربح فيها دينارا فصارت عشرين أفيها الزكاة؟ قال: إن كانا لم يكونا تقاسما قبل الحول ففيها نصف دينار يزكي التسعةَ عشر دينارا رُبُعُ عشرها، ويدفع بقيتها إلى ربها ويزكي الدينار رُيُعُ عشره، ثم يقتسمان ما بقي بينهما على قراضهما، وقاله أصبغ، وقال ابن القاسم جملة: إِنَّ فيها الزكاة.
قال محمد بن رشد: قول أشهب وأصبغ: إِن العامل يجب عليه في ربحه الزكاة مع جملة المال إذا كان في جميعه بحظ العامل ما تجب فيه الزكاة، هو مثلُ ما مضى من قول مالك في رسم الزكاة من سماع أشهب، وهو مذهب سحنون، خلافُ المشهور من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن العامل لا(12/406)
يجب عليه في حظه من الربح زكاة حتى يكون في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة.
وأما اشتراطهما في ذلك إِن لم يكونا تقاسما قبل الحول فهو مثلُ ما في كتاب الزكاة من المدونة أن العامل لا يجب عليه في حظه من الربح زكاةَ حَتَّى يَمرَّ الحولُ عليه من يوم يدفع المال إليه، وإن لم يعمل به إِلَّا قبل أن يحول عليه الحول بيسير، خلافُ ظاهر ما في كتاب القراض منها أن الزكاة تجب عليه في حظه من الربح، وإن لم يحل الحول عليه من يوم دفع إليه إذا كان قد حال الحول على رأس مال رب المال وربحه من يوم أفاد أو زكاة، وهو ظاهرُ قول ابن القاسم في هذه الرواية، وظاهرُ قوله فيها أيضا أن الزكاة تجب عليه في حظه من الربح إذا كان في جملة المال بربحه كله ما تجب فيه الزكاة خلاف المشهور من قوله وروايته عن مالك مثل قول أشهب، وروايته عن مالك ومثل قول سحنون وأصبغ وبالله التوفيق.
[: يدفع إلى الرجل مالا قراضا على أن الثلث لرب المال وللعامل الثلثان]
من نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج قال: سئل أصبغُ عن الرجل يدفع إلى الرجل مالا قراضا على أنَّ الثلث لرب المال وللعامل الثلثان فيقول العامل بعد القبض والِإشهاد أنا خارجٌ أَكْتَرِي دابة وأخرج، فيقول رب المال: أنا أكري منك دابة على أن تعطني نصف ربحك وهو الثلث، فيكون لي من الربح الثلثان، ويكون لك الثلث، فيقول: نعم فيعمل على ذلك فيربح أو يخسر، مالذي يكون للعامل أو لرب المال.
قال أصبغ: أرى أن ينظر إِلَى أمر الدابة وركوبها، فإن كان أمرُها يسيرا ليس بزيادة لها بال إلى سفر من الأسفار كثيرا، أو كثير المؤنة وبال مما لو اشترطها بَدْءا عند أصل(12/407)
القراض لجاز لخفة ذلك ويسارتِه، فأرى القراض صحيحا، وأرى لرب الدابة شرطه وأراه كفاسخٍ القراضَ الأول، فيقارضه ثانية بزيادة في الشرط؛ لأنه لم يعمل ولم يخرج، وقد كان لرب المال استرجاع ماله على هذا، فهو كقراض مستأنف له كما لو لم يكن بينهما ذكر دابة ولا كراء، فيقارضه على الثلث فلم يخرج حتى بَدَا لرب المال فاستغل ذلك فرجع إليه فسأله أن يزيده في الشرط ويأخذه على النصف أو يرده، ففعل كان ذلك جائزا، وكان ذلك له ولم يكن به بأس، وحمل أمرهما على الأمر الثاني، فكذلك هذا في مسألتك إذا كان أمر الدابة خفيفا مما قد كان يجوز اشتراط مثلها مع القراض ونحوها بمثلها، فإن كان على غير ذلك وكان لها بال وزيادة بينة في القراض وعون كبير يسافر عليها إلى مصرٍ من الأمصار ويحمل عليها الأمر الغليظ الذي يكف غيره من الأكرية ويكون زيادة بينة كبيرة فالقراض فيها فاسد ولو ابْتُدِئ، فكذلك في عاقب مسألتك حين أراد الخروج فجعله له بتلك الزيادة بالشرط وبما يخرج ويستوجب العمل والقراض فهو كالاِبتداء به، وهو فاسد عندي وينقض ما لم يفت، فإن فات بالعمل فهو أجير على قول ابن القاسم في الزيادة إنه بها أجير ويذكره زَعَمَ عن مالك، والربح والنقصان لرب المال، وعليه للعامل إجارة مثله كالرسول والأجير.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إِن القراض ليس بإجارَة تلزم بالقول، وهو يشبه في بعض حالاته الجُعل ويفارقه في أكثر أحواله، فله حكم على حياله يشبه المساقي إلا أنه لا يلزم بالعقد ولا بالقبض، وكل واحد منهما بالخيار ما لم يُشْغَلْ المالُ أو بعضه أو يسافر به، فإن شغله لم يكن له أن يرده ولا كان لرب المال أن يسترده حتى ينض، وكذلك إن سافر به لم يكن له أن يرده في غير البلد الذي أخذه فيه ولا لرب المال أن يأخذه منه بعد أن شخص(12/408)
به، فإذا كانا بالخيار وإن تشاهَدَا على القراض بجزء اتفقا عليه، فجائز أن يتفاسخاه إلَى قراض آخر يبتدئانه على ما يجوز فيه من الشروط وبالله التوفيق.
[مسألة: الزكاة لا تجب عليه في ربحه حتى يحول عليه الحول من يوم قبضه]
مسألة وسألته: عن المقارض يعمل بالمال منه فيفاصِل صاحبَه ويقتضي حصته من الربح وله مال لا يحمل في مثله الزكاة وقد حال عليه الحول إِلَّا أنه إذا جمع إلى ما ربح في القراض صار ما تجب فيه الزكاة، هل يضمه إلى ربح هذا القراض فيزكيه معه؟ أم يجعل ربح هذا القراض كالفائدة، وإن كان قد أخرج زكاته فيضمه إلى ماله الذي كان في يديه ويستقبل حولا.؟ قال أصبغ: قد أسقطت المأحذ في مسألتك وحجتك، أما تعلم أَنَّ المقارَض الذي ذكرتَ يصير له بعد الحول في ربحه لا ما يجب فيه الزكاة أنه يزكيه وإِن لم يكن مالا، وهذا قول مالك في موطإِه وغيره كثير من قوله وروايةُ أصحابه واجتماعُهم عليه وقولهم به أصلا من أصله وأصولهم، فأين يدخل إن كان له مال؟ هذا ليس بشيء في سؤالك، هذا خطأ والزكاة عليه فيما أصاب بعد أن يكون قد حال المال بيده كما استثنى مالك ما قل منه أو كثر، فلما كان هذا هكذا وَاجِبا لم يكن ذلك مالا يضيفه إلى فائدة إن كانت عنده لم يجب فيها شيء ولا غيره مما يعيد عند ذلك فافهم إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في نوازل أصبغ من كتاب زكاة العين، وهي ها هنا أكْمَلُ وأبينُ، ومرادُ أصبغ في الموضعين جميعا أن المقارَض لا يضم مالَه من مال قد حال عليه الحول ولا يبلغ ما تجب فيه الزكاة إلى ما ربح في القراض فيزكيه مكانه إن كان يبلغ بإضافته إليه ما تجب فيه الزكاة، وإن كان قد زكى الربح، ولكنه يضيفه إليه ويستقبل به حولا من أجل أن الربح وإن كان قد زكاه فلم يزكه على ملكه وإنما زكاه على ملك رب(12/409)
المال بدليل أنه يزكيه وإِن لم يبلغ ما تجب فيه الزكاة، ولم يذكر في السؤال الحجة التي احتج بها عليه السائل في أنْ يضيف ماله من مال قد حال عليه الحول ولا تجب فيه الزكاة إِلى ربح القراض الذي زكاه فيزكيه مكانه إِنْ كان يبلغ بإضافته إليه ما تجب فيه الزكاة، فَضعَّفَهَا هو وقال له: قد أسقطت المأخذ في مسألتك وحجتك، فيحتمل أن يكون احتج عليه بأن ربح العامل مزكي على ملكه لا على ملك رب المال بقول مالك وابن القاسم: إن الزكاة لا تجب عليه في ربحه حتى يحول عليه الحول من يوم قبضه، فأسقط هو حجته عنده التي احتج بها عليه بأنه لو كان الربحُ الواجبُ له في القراض مزكى على ملكه لما وجب عليه فيه الزكاة وإن كان قد حال عليه الحول من يوم قبضه إِلَّا أنْ يبلغ ما تجب فيه الزكاة، ولعمري إِن الحجة لكل واحد منهما على صاحبه فيما احتج به عليه لازمة له إذا لم يكن حظه من الربح مزكى على ملكه ولا أعتبر فيه النصاب، فيلزم أَلاَّ يعتبر فيه الحول، وهو ظاهر ما في كتاب القراض من المدونة أن المقارض يجب عليه في حظه من الربح الزكاة وإِن لم يقم المالُ بيده حولا إذا كان في رأس مال رب المال وحصته من الربح ما تجب فيه الزكاة، ولأنه أيضا إِنْ قلت: إِنَّ حظه من الربح مزكى على ملكه ولذلك اعتبرتَ الحول في حقه من يوم قبض المال وصار في يده، فيلزم أن يعتبر فيه النصاب وأَلاَّ تجب عليه فيه الزكاةُ إِلَّا أن يبلغ ما تجب فيه، وهذا القول تأوله محمد بن المواز على ابن القاسم ولا يُوجِدُ له نصا، فالمسألة على كل حال غير راجعة إلى أصل ولا جارية على قياس إذ لم يعتبر في ذلك ملك أحدهما دون صاحبه على انفراد في النصاب والحول كما اشترط فيها الحرية والإِسلام وعدم الدّين ولا ملكهما جميعا في ذلك أيضا، كما اشترط فيهما الحرية والإِسلام وعدم الدين، وقد مضى القولُ على هذا المعنى في رسم أوله مسائل بيوع من سماع أشهب وبالله التوفيق.
[مسألة: تمر الحائط المساقي إذا بلغ بجملته ما تجب فيه الزكاة]
مسألة قيل له: فالمساقي يصير في حصته من الثمن وَسْقَانِ يجذ من(12/410)
نخل له ثلاثة أوسق هل يضم جميع ذلك فيزكيه أم لا زكاة عليه إلا في الوسقين؟ قال أصبغ: وهذه أيضا كنت تستدل عليها بمسألة المساقي الذي لا تمر له سواه، تخرج مساقاتُه خمسة أوسق فإنما يصير له بعضها أن عليه أن يزكي ما صار له ولا يسقط الزكاة حين فرضت في الجميع بخمسة أوسق ووجبت كما وجبت في القراض الزكاة عليهما جميعا إذا كان عشرون فصاعدا، فهذه وتلك سواءٌ، على العامل أن يزكي ما كان له واجبا، فلما كان ذلك عليه لم يضف إلى غيره مما لم تجب وكان هذا بزكاته وسنته وهذا بسنته.
قال محمد بن رشد: أما المساقاة فلا اختلاف أحفظه في أن زكاة ثمرتها كلها حظ المساقي وحظ رب الحائط مزكاة على ملك رب الحائط لا على ملك العامل، فلا تعتبر شرائط وجوب الزكاة من الحرية والِإسلام والنصاب إلا في حق رب الحائط لا في حق العامل، فالزكاةُ واجبة في تمر الحائط المساقي إذا بلغ بِجُمْلته ما تجب فيه الزكاة أو لم يبلغ بجملته ما تجب فيه الزكاة إلا أن لرب الحائط حائطا غيره فيه من التمر ما إذا أضافه إلى تمر حائط المساقاة وجبت فيه الزكاة إذا كان حرا مسلما، وإن كان العامل في الحائط عبدا أو نصرانيا.
وإن جَذَّ المساقي من نخل له ثلاثة أوسق أو أربعة أوسق فلا تجب عليه فيها الزكاة، وإن كان قد صار له في حظه من تمر المساقاة ما إذا أضافه إليها وجبت فيها الزكاة، كان قد زكى ببلوغ تمر الحائط ما تجب فيه الزكاة أو لم يزك؛ لأنه إن كان زكى فإنما زكى على ملك رب الحائط لا على ملكه، وهذا ما لا اختلاف فيه، فكان وجه القياس أن يرد ما اختلف فيه من زكاة حظ العامل من ربح القراض إلى ما اتفق عليه من زكاة حظ العامل من تمر المساقاة ولكنهم لَمْ يَقُولُوا ذلك فانظر فيه وبالله التوفيق.(12/411)
[مسألة: العامل في المزارعة شريك]
مسألة قلتُ: فالمزارع إذا زارع على النصف والثلث أو الربع أو الخمس إذا صار في سهمه مَا لَا تجب فيه الزكاة غيرَ أنه إذا جمع الجميع وجبت فيه الزكاة؟ فقال: هو مثل هذا.
قال محمد بن رشد: مسألة المزارع هذه مخالفة للأصول وليست كالمساقاة؛ لأن العامل في المزارعة شريك، ومن قول مالك وجميع أصحابه أنه لا زكاة عليه حتى يبلغ حظه ما تجب فيه الزكاة، لا اختلاف بينهم في ذلك.
والمسألة مضروب عليها في كتاب أحمد، وذكر أنها لم تصح لأبي صالح، ويحتمل أن يريد أن المزارع كالمساقي في أنه إذا رفع من زرعه الذي بينه وبين شريكه ما لا تجب فيه الزكاة ولو زرع على انفراد لا تجب فيه إلا أنه إذا أضافه إلى ما رفع مع شريكه وجبت فيه الزكاة أنه لا زكاة عليه فيه، فتصح المسألة على هذا التأويل وإن كان فيه بعدٌ؛ لأن هذا الوجه يستوي فيه المزارع والمساقي وبالله التوفيق.
[مسألة: الربح والوضيعة على الربع والثلاثة أرباع]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت الرجل يبعث إلى الرجل بمائة دينار يشتري له بها طعاما على أن نصف الربح لرب المال والنصف فيما بينه وبين العامل وشرطا أنَّ ما كان فيه من وضيعة فعلى العامل ربعُ الوضيعة، كيف العمل إن جاء ربح أو وضيعة؟ قال أصبغ: أراه كالسلف وأراه سلفا لرب المال وأرى الربح والوضيعة على الربع والثلاثة أرباع، والعامل إجارة مثله في كفاية الثلاثة أرباع وعنايته والقيام فيها في الاشتراء والبيع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لما شرط أن له ربح ربع(12/412)
المال وعليه وضيعة حَكِمَ له بحكم السلف إذ هذا وجه من وجوه أحكامه، فحمله عليه وصار كأنه أسلفه ربع المال على أن يشتري له طعاما بثلاثة أرباعه ويبيعه له فوجب أن يكون ضامنا لرُبع المال في ذمته، ويكون له إجارة مثله في شرائه الطعام بثلاثة أرباعه وبيعه، ولو عُثِرَ على هذا قبل الشراء لفسخ الأمر بينهما وقبض ماله، ولو لم يعثر عليه إلَّا بعد أن اشترى الطعام وقبل أنْ يبيعه لوجب أن يُقاسِمه الطعامَ فيأخذ ثلاثة أرباعه ويعطيه أُجرةَ مثله في ابتياعه، ويأخذ منه ربع المائة دينار يتبعه بذلك دينا ثابتا في ذمته، يُباع عليه فيها حصته من الطعام، وما سوى ذلك من ماله وبالله التوفيق.
[: اشترى جارية من مال القراض فوطئها فحملت فقال اشتريتها للقراض]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في رجل اشترى جارية من مال القراض فوطئها فحملت، فقال: اشتريتها للقراض، قال: لا لأنه يتهم أن يكون أراد بيع أم ولده، قيل له: فإن أتى على ذلك بشاهدين أنه اشتراها للقراض؟ قال: تباع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم لا قسامة في العبيد من سماع ابن القاسم وفي رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: يأخذ الخمسين متاعه من صاحب المال إن كان قد أشهد على المقارض]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل دفع إلى رجل مائة دينار قراضا فخسر فيها خمسين، فأتى إلى أخ له فأخبره بما خسر وقال: إني أحب(12/413)
أن تسلفني خمسين دينارا حتى أريها صاحبي فتطيب نفسه، فإذا رآها أعطيتُك مالك فلما دفع احتبَس صاحبُ المال مالَه أترى إن قام بخمسين على صاحب المال أن يأخذها، فقال: نعم إذا كان قد أشهد على ذلك وأخبر بما خسر.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن له أن يأخذ الخمسين متاعه من صاحب المال إن كان قد أشهد على المقارض بما ذكر من أنه خسر في المال، وأنه دفعها إليه على الوجه الذي ذكره، وذلك إذا كان ما ادعاه من خسارة الخمسين يشبه، ويكون القول قوله في ذلك مع يمينه ولو لم يشبه قوله أو نكل عن اليمين أو لم يُعرف قوله إلا بإقراره به على نفسه بعد دفع المال لم يكن لصاحبه إليه سبيل إلا أن يعرف المال بعينه أنه له ببينة عدلة لم تفارقه وبالله التوفيق.
[مسألة: شرط خلط مال القراض بغيره]
مسألة وعن رجل دفع إلى رجل ألف دينار فأخرج الرجل من عنده مائة فكان صاحب المائة هو الذي عمل في المَال، والربح بينهما، فكانا يتحاسبان كل سنة فيتقسمان ذلك، ثم إنه خسر في آخر ذلك، قال: يرد ما ربح من أول ثم يقتسمان الربح على عدة المال ويكون للعامل صاحب المائة أجرة عمله في الألف.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه دفع إليه ألف دينار على أن يضيف إليها مائة من ماله ويعمل بها ويكون الربح بينهما بنصفين فَرآهُ قراضا فاسدا رَدَّهُمَا فيه إلى إجارة المثل، ولذلك قال في الجواب يرد ما ربح من أول ثم يقتسمان الربح على عدة المال ويكون للعامل صاحب المائة أجرة عمله، والفساد في ذلك إنما هو بما وقع فيه من شرطِ خَلْطِ مال القراض إلى ماله لا بما شرط عليه من أن يكون له نصف ربح الجميع؛ لأن ذلك يرجع إلى جزء(12/414)
معلوم كَأَنّهُ دفع إليه ألفه قراضا على أن يكون له من الربح خمسة أعشاره ونصف عشره، وذلك خلافُ مذهبه في المدونة؛ لأن الذي يأتي على مذهبه فيها في شرط خلط مال القراض بغيره أن يُرَدَّ العاملُ فيه إلى قراض مثله وهو قول ابن حبيب؛ لأنها منفعة داخلة في المال غير خارجة عنه ولا منفصلة منه.
وقد قيل: إن ذلك يكره فان وقع مضى، وهو قول أصبغ وروايتُه عن ابن القاسم، وقيل: يجوز ابتداء وهو قول أشهب.
فالذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم في المدونة أَنْ يُرَدّ العاملُ إلى قراض مثله في الألف للأعوام كلها، وتجبر الخسارة في العام الآخِر من ربح الأعوام المتقدمة كما قال، إلّا أن يكون كلما حاسبه وقبض حصته من الربح قال له: اعمل بما في يدك قراضا مُؤْتَنَفا فلا يجبر ما خسر بعد ذلك من الربح المتقدم على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وغيرهما من أصحاب مالكٍ إلّا ابن القاسم، وأما على مذهب ابن القاسم في المدونة فهما على القراض من أول ما دفعه إليه، وإن حاسبه في كل سنة وقبض حصته من الربح، وقال له: اعمل في يديك قراضا مؤتَنفا، وكذلك على مذهبه الذي قد نص عليه، وإن أحضر المالَ ما لم يدفعه إليه ثم يرده عليه على قراض مؤتنف، وقد قيل: إنهما على القراض الأول إذا رده إليه في الحين حتى يطول الأمر ويبرأ من التهمة، وقد مضى هذا المعنى في سماع سحنون وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا فابتاع به سلعة فقال صاحب المال قد نهيتك عنها]
مسألة وعن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فابتاع به سلعة فقال صاحبُ المال: قد نهيتك عنها، ويقول العاملُ: لم تَنْهَنِي عنها، قال: يحلف العاملُ أنه ما نَهَاهُ ويكون القولُ قولَه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأنه رب المال مدع عليه العدا ويريد تضمينه، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر وبالله التوفيق.(12/415)
[مسألة: المقارض يشتري المتاع بنظرة أيام]
مسألة وسئل: عن المقارَض يشتري المتاع بنَظِرَةِ أيَّامٍ، قال: لا خير فيه؛ لأنه يضمن ذلك الدَّين إذا تلف، وَإن ربح فيه أعطاه نصف الربح.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا اشترى سلعا بجميع المال فليس له أن يشتري متاعا بنظرةٍ على القراض، فإن فعل لم يكن له المتاع على القراض، وكان الربحُ له والوضيعة عليه، وهذا قوله في كتاب ابن المواز وهو ظاهر ما في المدونة، وإن أذن له رب المال في ذلك إلا أن يأذن له في أن يشتري على القراض على أنه إن ضاع مالُ القراض كان ضامنا لذلك في ذمته فيجوز وتكون السلعة على القراض، ولا يقام من قوله في هذه الرواية إن ربح فيه أعطاه نصف الربح أنه إن فعل ذلك يكون المتاع على القراض فيكون الربح بينهما والنقصان على القراض؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو أنهما عملا على ذلك ولا خير فيه، فلا يكون الحكمُ في ذلك على ما عملا عليه وكان الرب للمقارَض والنقصان عليه، وهذا في غير المُدِير وأما المُدِيرُ فله أن يشتري على القراض بالدين إلى أن يبيع ويقضي، وقد مضى هذا المعنى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: حضروا المحاسبةَ فجاء بماله كله إلا عشرا دنانير بقيت في دين]
مسألة قلت له: أرأيت لو حضروا المحاسبةَ فجاء بماله كله إلا عشرا دنانير بقيت في دين، فقال صاحب المال: أنا آخذ هذه السلعة بعشرة دنانير تكون دينا لك علي، قال: لا خير فيه، قيل له: أرأيت إن جهلا ذلك حتى عملا به وفات المتاع، قال: أرى عليه قيمة المتاع.
قال محمد بن رشد: قد مضى القّول على هذه المسألة والاختلافُ(12/416)
فيها مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإِعادته، وقد مضت المسألة أيضا في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم، وفي رسم القطعان من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع تجارة أو سلعة ليسافر بها فمات رب المال]
مسألة وعن رجل دفع إلى رجل مالا يعمل فيه فيسير في سفره، ثم يبدو لصاحب المال فيريد أخذ ماله فيُدْركُه في بعض الطريق فيأخذ ماله على من ترى نفقة العامل وهو راجع؟ قال: على صاحب المال حتى يرجع إلى أهله.
قال محمد بن رشد: هذا خلافُ ما في المدونة إلا أن يريد هنا أن العامل رضي بذلك، قال محمد بن المواز: وكذلك لو ابتاع تجارة أو سلعة ليسافر بها فمات رب المال فليس للورثة ولا للوصي منعُه إلا أن يرى الإمام لذلك وجها، قال أحمد: ما لم يكن سفرا يطول أمره جدا، وأما إذا أراد الوصي أخذ المال وبعضه عين لم يكن ذلك له حتى ينض جميعه، ولا ينبغي للعامل أن يُحْدِثَ فيه حدثا يريد أنه ليس له بعد موت رب المال أن يشتري بالمال إذا كان لم يشتر به شيئا بعدُ وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل عشرة دنانير قراضا وآخر عشرين فاشترى بها سلعتين]
مسألة قال: ولو أن رجلا دفع إلى رجل عشرة دنانير قراضا ودفع إليه آخر عشرين دينارا قراضا فاشترى بها سلعتين لا يدري بأيتهما اشترى واحدة منهما، قال: فإنهما بالخيار إن أحبا أن يضمناه السلعتني ويأخذا أموالهما فَعَلا، وإن أحبا أن يأخذا السلعتين فَعَلاَ فإن أخذاهما بيعتا لهما، فأعطى كلُّ واحد منهما رأس ماله وأعطى المقارض ربحه إن كانا أعطيا على النصف أخذ نصف الربح واقتسماه جميعا(12/417)
الباقي على قدر أموالهما وإن ضمناه مالهما وبرئا من السلعتين فإن كانا فيهما نقصانٌ فعليه النقصان، وله الربح إن كان فيهما ربح، قال أبو زيد: أخبرني ابنُ كنانة وابن القاسم في هذه المسألة على نحو هذا.
قال ابن القاسم إلا أن تكون أدنى السلعتين خيرا من عشرين أو ثمن عشرين فلا خيار لهما، فيكونان على قراضهما على قدر أموالهما؛ لأنهما ليس لهما في هذا كلام يقول أحدُهما: لا أدري أيتهما سلعتي، وهذه السلعة قد نقصت من عشرين، فإذا كانت أدنى السلعتين أدنى من عشرين بيعتا فأخذ صاحبُ العشرة عشرته وصاحب العشرين عشرتيه وكان الفضل بينهما على قدر رؤوس أموالهما، وكان للعامل في كل مال من الربح ما اشترط.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى الكلام عليها في نوازل سحنون بما لا مزيد عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى سلعة بالمائة التي كانت قراضا في يديه فباع نصفها بمائة دينار]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل دفع إلى رجل مائة دينار قراضا فعمل فيها ثمانية أشهر ثم تحاسبا فجاءه برأس ماله وبقي الربح في سلعته ثم بيعت السلعة عند رأس الحول فصار للعامل عشرون دينارا؟ فلا زكاة عليه، ويستقبل بها حولا، قيل له: أرأيت لو أن العامل اشترى سلعة بالمائة التي كانت قراضا في يديه فباع نصفها بمائة دينار ودفع إلى صاحب المال، وقال صاحب المال: أقر نصف تلك السلعة قراضا بيني وبينك؟ قال: لا خير فيه إنما هي الآن شركة ولا يصلح إلَّا أن يعملا فيها جميعا، قلت له: أرأيت لو أن العامل عمل(12/418)
في المائة ثمانية أشهر فجاءه بخمسة وتسعين دينارا وبقيت خمسة من المائة وما ربح في سلعة، وأنفق صاحبُ المال الخمسة والتسعين أو لم ينفقها، ثم باع تلك السلعة عند رأس الحول بخمسة وعشرين؟ قال: إن كان صاحب المائة أنفق الخمسة وتسعين لم يكن عليه زكاة الخمسة عشر الدينار التي يأخذها من مقارضه ولا على العامل، وإن كان لم ينفق الخمسة وتسعين فإنه يضم الخمسة عشر إليها فيزكيهما جميعا، ولا زكاة على العامل في العشرة حتى يحول عليها الحولُ.
قال محمد بن رشد: قولُ ابن القاسم في هذه الرواية إنه إذا قبض رب المال جميع ماله قبل الحول ثم صار للعامل بعد الحول من السلعة الربح التي كان أبقاها بيده عشرون دينارا فلا زكاة عليه فيها، ويستقبل حولا ظاهرُه خلافُ ما تقدم من قوله في، سماع سحنون: إنه سواء قبض رب المال قبل الحول جميع رأس المال أو بعضه إن صار لرب المال بعد الحول في نصيبه من الربح ما تجب فيه الزكاة أو فيما أبقاه بيده من رأس ماله مع حصته من الربح ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حصته الزكاة؛ لأنه إذا كان في حظ العامل من الربح عشرون دينارا كان في حظ رب المال منه مثلُ ذلك إلَّا أن يتأول أن الربح كان بينهما على الثلث لرب المال والثلثين للعامل فلا يكون قولُه في هذه الرواية على هذا التأويل مخالفا لقوله في سماع سحنون، وهو تأويل محتمل، غير أنه لم يره محمد بن المواز وذهب إلى أنه إذا قبض رب المال من العامل قبل الحول جميعَ رأس ماله فلا زكاة على العامل في حظه من الربح الذيِ أبقاه بيده إلى أن حال عليه الحول، وإن صار في حظ كل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة.
وأما إن قبض رب المال من العامل قبل الحول بعض رأس المال وأبقى بيده بعضا فصار له بعد الحول فيما أبقاه بيده من رأس ماله وفي حصته من الربح ما تجب فيه الزكاة فإنه يجب على العامل في حصته الزكاة قلت: أو كثرت(12/419)
وهذا ما لم يختلف فيه قول ابن القاسم، وأما إن كان لم يبلغ ما أبقاه بيده من رأس ماله مع حصته من الربح ما تجب فيه الزكاة فزكاه، وذهب محمد بن المواز إلى أنه إذا كان قد بقي بيد رب المال مما قبض قبل الحول ما إذا أضافه إلى الخمسة التي أبقاها بيده من رأس ماله وإلى العشرة التي وجبت له من الربح فزكاها وجب على العامل أن يزكي من العشرة التي وجبت له من الربح ما يقع منها للخمسة التي أبقى بيده من رأس المال، وذلك نصف دينار؛ لأن رأس المال مائة فالخمسة التي أبقى بيد العامل منها نصف عشرها ونصف عشر الربح دينار له منه نصفه فيخرج زكاة نصف دينار من العشرة الربح التي صارت له، وذلك تَنَاقض إذ لا فرق فيما يجب على العامل في حظه من الزكاة بين أن يجب على رب المال زكاةُ ما أبقى بيده مع ما يصير له من الربح ببلوغ ذلك ما تجب فيه الزكاة، أو بإضافته إلى ما بقي بيده مما قبض منه قبل الحول.
وقولُه: إذا قال رب المال: أقر نصف تلك السلعة قراضا بيني وبينك إنّ ذلك لا خير فيه؛ لأنها شركة ولا تصلح إلا أن يعملا فيها معناه إذا قال له: اعمل بها كلها قراضا على أن يكون لك نصف الربح ولي النصف إذْ هي مشتركة بينهما بنصفين، وأما لو أراد أن يعمل بها كلها فتكون حصته منها هي القراض فيكون له ربح الجميع لما كانت شركة، ولكان قراضا فاسدا من جهتين؛ أحدهما: القراض بالعروض.
والثاني: اشتراطُه عليه أن يضيف العاملُ ماله إلى مال القراض فيعمل بهما معا، وقد مضى حكم القراض بالعروض في غير ما موضع فلا معنى لِإعادة ذكره وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى رجل مالا قراضا فاشترى العامل سلعة فبارت عليه]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل ممن يُدِيرَ دفع إلى رجل مالا قراضا فاشترى العامل سلعة فَبَارَتْ عليه فَحَلّ حولُ صاحب المال أترى أن تقَوّمَ السلعة التي بيد مقارَضه؟ قال: لا؛ لأنه لا يدري أيربح أم(12/420)
يخسر؟ ولكن إذا قبض ماله زكاه لِمَا مضى من السنين، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قولُه: فاشترى العامل سلعة فبارت عليه دليلٌ على أنه كان مديرا وإذا بارت على المدير سلعته فلا يخرج بذلك عن حكم الِإدارة، فإذا كان في حكم المدير وإنْ بارت عليه سلعته وجب ألّا يقوم رب المال مع ماله الذي يدير ما بيد مقارَضه إذا كان يدار على ما في كتاب القراض من المدونة وفي غيرها من أنّ مال القراض لا يزكى إلّا عند المفاصلة وإن أقام بيد العامل أعواما فيزكيه عند المفاصلة، لِمَا مضى من الأعوام على قيمته ما كان بيده في كل عام زادت قيمته في كل عام أو نقصت، وقيل: إنه إن نقص في العام الثاني عَمّا كان عليه في العام الأول زكاة للعام الأول على ما رجع إليه في العام الثاني إلّا ما نقصته زكاة العام الأول، وإنما يقوم رب المال في كل عام ماله بيد مقارَضه إذا كان هو يديرُ والعامل لا يدير قيل: فيزكي رأس ماله وحصته من الربح خاصة دون حصة العامل منه، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب زكاة العين، وقيل: بل يزكي رأس ماله وجميع الربح وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وقد فَرَغْنَا من تفسير هذه المسألة في غير هذا الديوان والحمدُ لله رب العالمين.
تم كتاب القراض(12/421)
[: كتاب الوصايا الأول] [مسألة: الرجل إذا استخلف على تنفيذ وصيته وارثا من ورثته]
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم سمعت مالكا قال في الرجل يوصي بأن يُعتق عنه وأن يُحْمَلَ بمال في سبيل الله ويستخلف على ذلك وارثا فيريد بعضُ الورثة أن يُنَفذ ذلك وينظرَ فيه معه، قال: إن كان وارثا رأيت ذلك عليه، وإن لم يكن المستخلَف وارثا فليس ذلك عليه إلا فيما تبقى منفعته للورثة: العتق وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنّ الرجل إذا استخلف على تنفيذ وصيته وارثا من ورثته فليس له أن يغيب على تنفيذ ذلك سائرُهُم ولمن قام منهم أن ينفذ ذلك وينظر معه فيه مخافة أن يكون أوصى لهم بالوصية، والوصيةُ للوارث لا تجوز إلّا أن يجيزها الورثة، وسواء له سمّى له الميت ما يُنَفِّذُها فيه من عتق أو صدقة مال في السبيل أو بما سوى ذلك من وجوه البر على ما في هذه الرواية، أو كان قد فَوّض إليه جعل ذلك حيث أراه الله على ما قاله في رسم الشريكين بعد هذا، وأنه إذا استخلف على ذلك غيرَ وارث فليس عليه أن ينفذ شيئا من ذلك بحضرتهم ولا لهم أن يكشفوه عن(12/423)
ذلك.
قال في الرواية: إلَّا فيما تبقى منفعتُهُ للورثة العتق وما أشبهه، والمنفعة التي تبقى في العتق هو الولاء الذي ينجر عن المتوفى إلى من يرثه عنه، فلا يختص بذلك الورثة دون غيرهم؛ إذ قد يرثه من لا ينجر إليه من الولاء بشيء، ومن البنات والأخوات والزوجات والأمهات والجدات، وقد ينجر إلى من لا يرثه ممن حجب مِن ميراثه من الإِخوة والعصبة، فلا حق في كشف الوصي الأجْنَبِيّ عن العتق، إِنما هو لمن ينجر إليه الولاء عن الميت، وإن لم يكن وَارِثا له ولا كَلام في ذلك لمن لا ينجر إليه الولاء عنه وإن كان وارثا له، والذي يشبه العتق في بقاء المنفعة فيه للورثة هو الإِخدام والتعمير والتحبيس، فأما الإِخدام والتعمير فالحق فيه لجميع ورثته؛ لأن المرجع في ذلك إليهم، وأما التحبيس فمنها ما يرجع إلى أقرب الناس بالمحبس، ومنه ما يُخْتَلَفُ هل يرجع إلى ورثته أو إلى أقرب الناس به حسبما مضى تحصيلُهُ في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، فالحق في الحبس الذي يرجع إلى أقرب الناس بالمحبس لمن يرجع إليه منهم، والحق في الحبس الذي يختلف فيه هل يرجع إلى ورثته أو إلى أقرب الناس به لجميع ورثته وقرابته من الرجال والنساء من قام منهم كان له كشفه عنه حتى يعلم أنه قد أنفذه لِمَا قد يكون له فيه من المنفعة باتفاق أو على اختلاف، وهذا في الوصي المأمون، وأما غير المأمون فيكشف عن الوصايا كلها من العتق والصدقة بالعين وغير ذلك على ما قاله في رسم الوصايا من سماع أشهب بعد هذا: إِن السفيه المُعْلِنَ المارِق يُكْشَفُ عن كل شيء الصدقة وغيرها وهو محمول على أنه مأمون حتى يثبت أنه غير مأمون، ومن هذا المعنى كشف المرأة الموصى إليها بولدها إذا تزوجت حسبما يأتي القولُ فيه في رسم حلف ورسم كتب عليه ذكر حق من هذا السماع وباللَّه التوفيق.(12/424)
[مسألة: أوصى بثلث ماله يجعله حيث أراه الله]
مسألة قال مالك: إذا أوصى بثلث ماله يجعله حيث أراه الله فليجعله في سبيل الخير، وإن قال حيث شئت أو أَحْبَبْتَ فصرفه إلى أقاربه يعني أقاربَ الموصي أو إخوته فلم يُجِزْ الورثة ذلك فهي مردودة على كتاب الله.
قال ابن القاسم: إذا قال له حيث شئت فجعلها في بعض ورثة الميت، قيل له: اتق الله اجعلها في غيرهم، فإن أبَى إلّا فيهم ولم يُجِزْ ذلك الورثةُ كانت على موروثه على فرائض الله، قلت: ولا يجبره السلطان أن يجعلها في سبيل الخير، قال: لا ليس للسلطان في ذلك كلام.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه إذا أوصى إليه بثلث ماله يجعله حيث أراه الله أنه يجعله في سبيل الخير؛ لأنه لم يجعل الأمر في ذلك إلى اختياره، وإنما وكله إلى اجتهاده في أفضل وجوه البر وليس له أن يأخذه لنفسه ولا لولده ولا لِأحَدٍ من قرابته على ما قاله في رسم الشريكين بعد هذا وفي المدونة، بخلاف إذا قال له: اجعله حيث شئت أو حيث أحببتَ هذا إن أعطاه لولده أو لمن شاء من قرابته جاز ذلك؛ لأنه قد جعل الأمر فيه إلى اختياره، فله أن يفعل فيه ما شاء ما عدا أن يجعله لبعض ورثة الموصي فلا يجوز ذلك له إلّا أن يجيزه الورثة؛ لأنه يتهم أن يكون الميتُ أمره بذلك فتكون وصية لوارث.
فمعنى قوله: فصرفه بعض إلى أقارب الموصى أو إخوته أي أقاربه وإخوته الذين من ورثته، ولو صرفه إلى أقاربه وإخوته وهم ليسوا من ورثته لجاز ذلك، لا فرق بين أن يصرفه لقرابته نفسه أو لقرابة الموصي إذا لم يكن وارثا له، وقول ابن القاسم: إنه إن جعلها في بعض ورثة الميت قيل له: أتق الله اجعلها في غيرهم، معناه ما لم يبتل ذلك لهم فإن بتله لهم فلم يجز ذلك الورثة كانت موروثة على فرائض الله على ما قاله مالك، فقول ابن القاسم ليس بخلاف لقول مالك والله الموفق.(12/425)
[مسألة: أوصى بدين لوارث أو غير وارث وأوصى بعتق فأبطل ذلك الدين]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال فيمن أوصى بدين لوارث أو غير وارث، وأوصى بعتق فأبطل ذلك الدينُ ولم يَجُزْ لمن أقر له به، فإن ذلك العِتْقَ لا يكون إلّا في الثلث ما يبقى بعد ذلك الدين، ولا تدخل الوصايا في شيء من ذلك الدَّين، فإذا أوصى بوصايا لوارث أو غير وارث عتق العبد ولم تضره الوصايا قال ابن القاسم: وفرق بين الدين والوصايا في هذا؛ لأن الرجل إنما يوصي فيما بعد الدين فإن كان صادقا أو كاذبا لم يكن للعبد حجة إلّا فيما بعده؛ لأن الرجل لو قال: أعتقوا عبْدي بعد مائة دينار تدفعونها إلى وصيه له بدأه على ذلك جاز أو لم يجز لم يعتق العبد إلا بعد تلك المائة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها؛ لأن قوله فيمن أوصى بدين لوارث، أو غير وارث معناه فيمن أقر بدين لوارث أو غير وارث؛ وقد بين ابن القاسم وجه قول مالك فيها بما لا مزيد عليه فلا وجه للقول فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: مات وقد أوصى بعتق بعض رقيقه فمرض بعضهم]
مسألة قال مالك فيمن مات وقد أوصى بعتق بعض رقيقه فمرض بعضهم إنه يُقَوَّمُ مريضا ولا ينتظر به الصحة مخافة أن يموت إذا جمع المال.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: لأن الميت إذا مات وجب تنفيذ ما أوصى به من العتق وغيره، فوجب ألّا يؤخر ذلك من أجل مرضه.
[مسألة: الوصية لا تجوز إذا أبقاها بيده ولم يخرجها إلى غيره]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في رجل أوصى وأشهد(12/426)
في وصيته: أنه إن هلك من مرضه ذلك أو فيما بينه وبين سنة بكذا وكذا، ثم سَلِمَ وجاز الأجل ثم هلك والوصية كما هي لم يغيرها ولم يوص بغيرها أنها جائزة ولا ينقضها توانيه ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل أحد قولي مالك في رسم سلعة سماها بعد هذا.
والقول الثاني: أن الوصية لا تجوز إذا أبقاها بيده ولم يخرجها إلى غيره.
وتحصيل القول في هذه المسألة: أن الرجل لا يخلو في حين وصيته من حالين؛ أحدهما: أن يكون صحيحا دون مرض أصابه ولا سفر أراده وإنما أوصى لما جاء من التَرغِيب في استعداد الوصية.
والثاني: أن يكون أوصى في مرض أصابه أو عند سفر أَراده لغزو أو غيره.
فأما إذا أوصى في صحته دون سفر ولا مرض فَسَوَاءٌ قال فيها متى مَا مِت أو إن مت أَوْ إذا مت، وسواء أشهد على ذلك بغير كتاب أو بكتاب أقره عند نفسه أو وضعه عند غيره، ينفذ على كل حال متى ما مات إلّا أن يكون استصرف الكتاب بعد أن وضعه عند غيره فتبطل بذلك وصيته وكذلك إن أوصى في مرض أصابه أو عند سفر أراده، فقال في وصيته: متى ما مت وأما إن كان أوصى في مرض أصابه أو عند سفر أراده لغزو أو غيره فقال في وصيته إن مت ولم يزد، أو قال من مَرَضِي هذا أو سفري هذا أو قال يُخْرَجُ عني كذا وكذا ولم يذكر الموت بحال، فإن كان أشهد بذلك من غير كتاب فلا ينفذ الوصية إلّا أن يموت من ذلك المرض أو في ذلك السفر، وأما إن كان كتب بذلك كتابا وضعه عند غيره فإنها تنفذ على كل حال متى مات، وإنْ مات من غير ذلك المرض وفي غير ذلك السفر، واختلف قولُ مالك إن أقر الكتاب عنده ولم يضعه عند غيره فمرة قال: ينفذ على كل حال متى ما مات، وَمَرّة قال لا ينفذ إلا إن مات من ذلك المرض أو في ذلك السفر.
وجه القول الأول أن الوصية لما لم يكن لتنفيذها بمرض بعينه أو سفر بعينه قُرْبَةٌ في البر والأجر على غيره وكتب بذلك كتابا أقره عند نفسه بعد صحته من مرضه أو قدومه من سفره دل ذلك على أنه أراد إبقاء الوصية على حالها، ولعله لم(12/427)
يقصد أوّلا إلى تقيدها بذلك السفر أو المرض بعينه، وإنما ذكره دون غيره لغالب ظنه أنه يموت فيه، ووجه القول الثاني اتبَاع ما يقتضيه ظاهر اللفظ من التقييد، فالقول الأول أظهرُ من جهة المعنى، والثاني أظهر من جهة اللفظ، وكذلك إن قال وهو صحيح دون مرض أصابه ولا سفر أراده إن مت في هذا العام فيخرج عني كذا وكذا هو بمنزلة إذا قال إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا، وأشهب يقول: إن قيدها بمرض بعينه، فيجوز إن مات من مرضٍ غيره ولا يجوز إن مات في غير مرض وإن قيدها بسفر بعينه فيجوز إن مات في سفر غيره ولا يجوز إن مات في غير سفر، وهو قول بعيد في النظر وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لقرابته أو ذوي قرابته]
مسألة قال مالك فيمن أوصى لِقَرَابَتِهِ أو ذوي قرابته قال: لا أرى أن يدخل ولد البنات في ذلك.
قال عيسى بن دينار: وينظر في ذلك على قدر ما يرى قريبا لم يترك من قرابته غيرها ولا يعني ولد البنات وولد الخالات.
قال محمد بن رشد: قولُ مالك لا أرى أن يدخل في ذلك ولد البنات، ظاهره وإن لم يبق من قرابته من قبل أبيه يوم مات سواهم، وهو قول ابن القاسم في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس خلافُ قول عيسى بن دينار، ولأشهب في رسم أسلم من سماع عيسى بعد هذا أنه استحب أن يدخل في ذلك قرابتُهُ من قبل الرجال والنساء لأبيه وأمه، ومثله لابن أبي حازم في المدنية أنهم في ذلك شركاء شَرعا سواء لا يُفضل منهم أحد على صاحبه.
فهي ثلاثة أقوال في المذهب؛ أحدها: أنه لا دخول في ذلك لِقَرَابَتِهِ من قبل النساء بحال وهو قول ابن القاسم.
والثاني: أنهم يدخلون في ذلك بكل حال وهو قول مطرف وابن الماجشون وروايتهما عن مالك وحكى ابن حبيب: أنه(12/428)
قول جميع أصحاب مالك.
والثالث: قول عيسى بن ينار: أنه لا يدخل في ذلك قرابته من قبل النساء إلّا ألّا يبقى من قرابته من قبل الرجال أحد.
وأما إن لم يكن له يوم أوصى قرابة إلّا من قبل النساء فلا اختلاف في أن الوصية تكون لهم على ما قاله ابن القاسم في رسم أسلم بعد هذا، وعلى ما قال أيضاَ في الواضحة من رواية أصبغ عنه، قال: وكذلك إن كانوا قليَلا الواحد والاِثنين.
ويختلف هل يقسم ذلك بينهم بالاجتهاد أو على السواء؟ والقولان لابن القاسم في كتاب الوصايا، واختار سحنون إذا كان المال ناجزا أن يقسم بينهم بالسوية بخلاف غلة الحبس، وحكى ابن حبيب في الواضحة من رواية مطرف عن مالك أنه يقسم على الأقرب فالأقرب، والأحوج فالأحوج على قدر الحاجة وقرب القرابة كما يقسم الأحباس، ولا يلزم عمومهم على هذا القول، وإنما يُسْتَحْسنُ ذلك ومثلُهُ في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ أراه لابن وهب والله اعلم، وأما على القول بأنه يقسم بينهم بالسوية إذا كان يحاط بمعرفتهم فيلزم عمومهم وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بمائة دينار نقدا ولأخر بمائة دينار سلفا فلم يحمل ذلك ثلثه]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال في الرجل يوصي بمائة دينار نقدا وَلأخَرَ بمائة دينار سلفا فلم يحمل ذلك ثُلثُه، قال: إن لم يجز ذلك الورثة نُظِرَ إلى قيمة ربحها مُعَايَنَة فيحاص بها، وكان ما صار له في حصته بَتْلا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن معنى السلف الانتفاع به للتجر وغيره، فَيُنْظَرُ إلى ما يربح في المائة السلف إلى ذلك الأجل فيكون ذلك القدر كأنه هو الذي أوصى له به فيحاص به، ومثلُهُ في المجموعة لابن وهب وَعَلِيٍ عن مالك، وقال عنه علي: إلّا أن يكون أكثرَ من نصف الثلث فلا(12/429)
يزاد ولا تكون المائة سلفا أكثر من مائة بتلا، وهو يحمل على التفسير لرواية ابن القاسم هذه وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى عند موته بعتق مكاتبه وأن يكاتب غلام له آخر فلم يحمل ذلك الثلث]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعتُ مالكا قال فيمن أوصى عند موته بعتق مكاتبه وأن يُكَاتَبَ غلامٌ له آخر فلم يحمل ذلك الثلثُ: إنه يبدأ بالمكاتب الذي اعتق؛ لأنه عجل له العتق ولأنه لا يدري أتتم كتابة الآخر وعتقه أم لا.
قال محمد بن رشد: هذا بين صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أن الثلث إذا ضاق عن الوصايا يبدأ الأوْكَدُ فالآكد منها فإن استوت في التأكيد حوص فيما بينها وبالله التوفيق.
[: الربح للأيتام والضمان عليهم]
ومن كتاب قطع الشجر قال مالك في الذي يوصي إلى رجل بولده ويترك ثلاثمائة دينار ويأمر الوصي أن ينظر لهم فيها، فيتجر لهم فيها الوصي فتصير ستمائة دينار، ثم يأتي دين على الميت ألفُ دينار، أترى أن تدخل الستمائة دينار كلها في الدين؟ وذلك أن الستمائة دينار لو أنفقها الوصيُ على الورثة لم يضمنها الوصي له، ولم يضمنها له الورثةُ المُوَلّى عليهم، ولو كان الورثة كبارا كلهم لا يولي عليهم وليس(12/430)
مثلهم يولي عليهم باعوا مالَ الميت ثم تَجِرُوا بما نَضّ في أيديهم من المال لم يكن عليهم إلا ما كان نض في أيديهم، ولهم نماؤُه وعليهم نقصانه، وكذلك ما غابوا عليه من العين، وأما الحيوان الذي ورثوه ثم نما أو تلف فإنه ليس عليهم ضمان ما مات من ذلك إذا مات بأيديهم.
قال ابن القاسم: أخبرني بهذه المسألة من أثق به عن مالك، ولم اسمعها أنا من مالك.
قال محمد بن رشد: المخزومي يرى الربح للأيتام والضمان عليهم وسواء كان الذي ترك المُتوفي ناضا أو عروضا فباعها الوصي وتجز فيها للأيتام، وفرّق ابنُ الماجشون بين العين والعروض، فقال في العين كقول ابن القاسم، وقال في العروض كقول المخزومي، والاختلاف في هذا مَبني على اختلافهم في الدين الطارئ على الميت هل هو متعين في عَيْنِ التركة أو واجب في ذمة الميت، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب المديان والتفليس لتكرر المسألة هناك فاكتفينا بذلك عن إعادتها هنا مرة أخرى والله الموفق.
[: يدفع إليه السلطان مال الغلام المولى عليه فيحسن حاله فيدفعه إليه]
ومن كتاب أوله سلعة سماها وسئل عن الرجل يدفع إليه السلطان مال الغلام المولى عليه فيحسن حاله فيدفعه إليه أترى أن ذلك بمنزلة الوصي إذا رأى من حال وليه ما يرضيه فيدفعه إليه؟ قال: إن ذلك عندي لخفيف، أما كل من يَبِينُ أمرُهُ في سِنِّهِ وفضله فلا أرى عليه شيئا، وأراه يشبه الوصي في ذلك، وأما كل من كان فيه شك فلا أراه مثله وكأنه يراه ها هنا ضامنا إلّا أن يكون ممن لا يشك فيه فلا يرى عليه شيئا فأراه مثل الموصي.(12/431)
قال محمد بن رشد: ظاهرُ هذه الرواية أن الموصى من قبل الأب يجوز إطلاقُه مَن إلى نظره من الوِلَاية، وُيصَدَّق فيما يذكر من حاله، وإن لم يعرف ذلك إلا من قوله، وقد قيل: إن إطلاقه لا يجوز إلّا أن يتبين حالُهُ ويعلم رشده، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماعه بعد هذا من هذا الكتاب. وأما الوصي من قبل القاضي فقيل: إنه يجوز إطلاقه إذا تبين حاله وعلمِ رشده، وهو ظاهر هذه الرواية، فإذا عَقَدَ له بذلك عَقْدا ضمنه معرفة شهد آيَةَ لرشده، وقيل: إنه لا يجوز إطلاقُهُ بحال، وإلى هذا ذهب ابن زرب وهو دليل قول ابن القاسم في سماع أصبغ؛ لأنه إذا لم يجر ذلك للوصي من قبل الأب حتى يتبين حاله، فالوصي من قبل السلطان لا يجوز له ذلك بحال، إذْ هو أضعف حَالا، وقد قيل: إن إطلاق وصي القاضي من إلى نظره جائز بغير إذن القاضي وإن لم يُعرف ذلك إلّا بقوله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول أنفقوا على فلان ما عاش فيغرق له مال فيموت]
مسألة وسُئِلَ: عن رجل قال: أنفقوا على فلان عشر سنين فعزلت نفقة عشر سنين ثم أنفق عليه فهلك بعد سنتين أو ثلاثة لمن ترى بقية ما بقي مما عزل؟ قال: أراه لورثة المُوصِي وليس لورثة الذي أوصى له منه شيء، وإنما هذا عندي بمنزلة من يقول: أنفقوا على فلان ما عَاشَ فيُعْزَق له مالٌ فيموت فيرجع ذلك لورثة الذي أوصى، فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أوصى أن يُنْفق عليه عشر سنين فعزلت نفقته العشر سنين فهلك بعد سنة أو سنتين إنَّ ما بقي يكون لورثة الموصي؛ لأن المعنى فيما أوصى به أن يُنفق عليه عشر سنين إن هو عاش إليها، وذلك بخلاف لو أوصى له بخدمة عبد عشر سنين أو بسكنى دار عشر(12/432)
سنين هذا إن مات المخدَم أو المُسْكَن قبل تمام العشر سنين كان لورثته ما بقي من السنين في الِإخدام والسكنى على ما قاله في المدونة وغيرها، ولو أوصى أن يقام بإخدَامِهِ أو بإسكانه عشر سنين من غير تعيين لكان ذلك كالنفقة يرجع ما بقي منها إن مات قبل تمام السنين لورثة الموصي، وهذا إذا حَمَلَ الثلثُ نفقةَ العشر سنين أو لم يحملها فأجاز ذلك الورثة وقطعوا له بالثلث في نفقة العشر سنين فيكون ذلك بتلا لا يرجع شيء منه إلى ورثة الموصي على ما يأتي في رسم العارية من سماع عيسى، وكذلك إن كان مع هذه النفقة أهلُ وصايا فيُحَاصُّوا معها يكون ما صار للنفقة بالمحاصة بتلا للموصي له بها إن مات قبل أن يستنفذوه كان لورثته على ما في رسم العادية، وفي ذلك اختلاف سيأتي في غير ما موضع من الكتاب، من ذلك ما وقع في أول رسم الأقضية الثانيِ من سماع أشهب وفي آخر الرسم الأول من سماع أصبغ وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بالوصية ويكتب فيها إن مات من مرضه هذا ثم يصح]
مسألة وسئل: عن الذي يوصي بالوصية ويكتب فيها إن مات في سفره هذا أو من مرضه هذا ثم صح فتركها على حالها ثم يموت بعد ذلك، قال: إن وضعها على يدي رجل رأيتُ ذلك مجزيا عنه، فقلت: أفرأيت إن كانت في سنة؟ فكأنه أنكر ذلك ورأيته فيما أرى يرى ذلك جائزا إذا كانت عنده وإن أشهد عليها إلّا أن يضعها على يدي رجل، فقلت له: إنه قد أشهد عليها وهي عنده موضوعة، فقال لي: كَيْفَ ذَا يضعها عنده ويجوز؟ قال: لا، كأنه يقول: لا أرى ذلك قال سحنون: جيدة من قوله، وقد قال مالك في غير هذا الكتاب من كتاب باع غلاما بعشرين دينارا.
قال ابن القاسم: وسمعتُ مالكا يقول في الرجل يوصي بالوصية في مرضه أو عند سفره فيقول: إن أصابني في سفري هذا أو في مرضي هذا موت فجاريتي(12/433)
حرة ويوصي بوصايا، ثم يصح من ذلك المرض أو يقدم من ذلك السفر ثم يمكث حينا ثم يمرض فيموت فتوجد تلك الوصية بعينها ولم يُذْكَرْ لها ذُكْرٌ عند مَوْته ولا تغير ولا إجازة.
قال مالك: أراها جائزة.
قال سحنون: قول مالك في المسألة الأولى أجود، ولا يجوز إلا أن يكون أخرجها من يده وجعلها عند غيره وإلّا لم تجز.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من هذا السماع فلا معنى لإعادتْه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لموالي مائة دينار في وصيته أيدخل معهم موالي أبيه وأخيه]
مسألة وسُئِلَ: عن رجل قال: لمَوَالِي مائةُ دينار في وصيته أترى أن يدخل معهم موالي أبيه وأخيه؟ قال: إِنهم لموالي وما في ذلك أمر بين إلّا ما يستدل به عليه من كلامه، وما يرى أنه أراد به الموصي من ذلك، قال أصبغ: هذا إذا كان وَلَاؤهُم قد رجع إلى هذا المُوصِي، فأما إن لم يكن ولاؤهم رجع إليه فلا يدخلون في وصية، قال عيسى: قال لي ابن القاسم: إن بَيّنَ من أعتق فخاصة، وإلّا فكلهم موالية.
قال سحنون: قال ابن القاسم وسمعته غَيْرَ عَامّ وهو يقول: يدخلون معهم.
قال ابن القاسم: وذلك رَأْيي إلّا أن يسَتدل على أنه إنما أراد من أعتق خاصة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ تفسير لقول مالك، بدليل مَا لَهُ في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، وقال مطرف وابنُ الماجشون: إن كان يُحاط بموإليه الذين أعتق ولا يدخل معهم غيرُهُم، وإن كثروا حتى لا يحاط بهم دخل معهم موالي الموالي وأبناؤهم وكل من رجع إليه وَلَاؤُهم من قبل أبيه وجده وأخته؛ لأنه رمى به مَرْمَى الولاء إلا أن يقول(12/434)
عتاقتي، وقد مضى هناك القول على هذه المسألة مستوفى فأغنى ذلك عن إعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بثلثه لثلاثة نفر ثم قال لفلان عشرين ولفلان عشرة وسكت]
مسألة وسئل: عمن أوصى بثلثه لثلاثة نفر، ثم قال: لفلان عشرين ولفلان عشرة وسكت عن الثالث إِن للذي سكت عنه ثلث الثلث، ويعطي الذين أوصى لهم بالقسمة صاحب العشرة عشرة وصاحب العشرين عشرين، ثم يُنظر ما بقي من جميع الثلث فيقسم على ثلث الثلث وعلى العشرين والعشرة بالحصص.
قال محمد بن رشد: قوله: ثم لفلان عشرين ولفلان عشرة معناه قال ذلك على سبيل التفسير لما أوصى به لفلان عشرين ولفلان عشرة، فقال: إنه يكون للذي سكت عنه ثلث الثلث أقل أو أكثر، ويكون من الباقي لصاحب العشرة عشرة ولصاحب العشرين عشرين، فما بقي من الثلث قسم على ثلث الثلث وعلى العشرين والعشرة بالحصص، وذلك يرجع إلى أن يقتسموا جميع الثلث قل أو كثر على هذه التجزية يضرب فيه المسكوت عنه بثلث الثلث وصاحب العشرة بعشرة وصاحب العشرين بعشرين، فإن كان الثلث في التمثيل تسعين ضرب فيه المسكوت عنه بثلاثين وصاحب العشرة بعشرة وصاحب العشرين بعشرين فيصير للمسكوت عنه نصف التسعين خمسة وأربعون، ولصاحب العشرة سدس التسعين خمسة عشر، وأصاحب العشرين ثلث التسعين ثلاثون، وإن كان الثلث خمسة وأربعين كان للمسكوت عنه ثلثها خمسة عشر ولصاحب العشرة عشرة ولصاحب العشرين عشرين، وإن كان الثلث ثلاثين تحاص جميعهم فيها المسكوت عنه بعشرة ثلث الثلاثين، وصاحب العشرة بعشرة، وصاحب العشرين بعشرين، فيصير للمسكوت عنه ربع الثلاثين ولصاحب(12/435)
العشرة ربعها، ولصاحب العشرين نصفها، وكذلك على هذا القياس ما كان الثلث قَلَّ أو كثر على ما في سماع أبي زيد؛ لأن قول ابن القاسم فيه تفسير لهذه الرواية، وقد حكاها ابن حبيب على نصها من رواية أصبغ عن ابن القاسم ووصل بها.
قال أصبغ: وكذلك أن قَصُرَ الثلث، فبان بذلك ما ذكرناه من أن رواية ابن أبي زيد مفسرة لهذه الرواية، ولو كان قوله لفلان عشرين ولفلان عشرة لحمل ذلك على أنها وصية أخرى، ولوجب أن يضرب كل واحد منهما في الثلث مع المسكوت عنه بالأكثر مما سمى له أو من الثلث على ما قاله ابن القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى في الرجل يوصي بثلاثة أعبد لرجلين، ثم يقول بعد ذلك فلان وفلان من أولئك الرقيق لفلان لأحد الرجلين، وفلان للرجل الآخر أنه يضرب كل منهما فيهم بأكثر الوصيتين العبد الذي سمى لأحدهما، أو نصف الثلاثة الأعْبُدِ، أو العَبْدَانِ اللذان سميا للآخر ونصف الثلاثة الَأعْبُدِ، وقد حمل الفضل هذه الرواية على ظاهرها من أن قوله فيها لفلان عشرين ولفلان عشرة كان لِغير الفور، فقال: إنها على خلاف أصل ابن القاسم يريد في مسألة الأعبد التي ذكرناها والأولى أَنْ يُتَأَوَّلَ على ما يخرج فيه عن أصله فيما ذكرناه.
وقال أصبغ في كتاب ابن المواز: يأخذ المسكوت عنه ثُلُثَ الثلث، ويقسم ثلثا الثلث بين المسمى لهما على ثلاثة أجزاء لصاحب العشرة جزء ولصاحب العشرين جزءان، واستحسنه محمد بن المواز، قال: لأنه إنما قسم وصية الرجلين من الثلث، كيف يقسم بينهما وصاحبهما الثالث لم يُزَدْ في وصيته على ثلث الثلث ولا نقص منه.
قال الفضل: وإنَّ تفسير ابن المواز لَحَسَنٌ، وسواء على هذه الرواية كان المال عينا أو عرضا أو بعضه عينا وبعضه عرضا؛ لأنه لم يحمل قوله لفلان عشرين ولفلان عشرة على أنها وصية أخرى لهما بالعشرة والعشرين، ولو حمله على ذلك لقال: إِنَّ كل واحد منهما يحاص بالأكثر من وصيته، وإنما حمله على التفسير لما أوصى بها فَرَآهَا وصية واحدة لكل واحد منهما يحاص فيها المسكوت عنه بثلث الثلث إن ضاق الثلثُ عن وصاياهما أو فضلت منه فضلة بعد أن أخذ المسكوت عنه ثلث الثلث وأخذ(12/436)
صاحب العشرة عشرة، وصاحب العشرين عشرين، ورأيت لأبي صالح وابن لبابة أنهما قالا في هذه الرواية: معناها أن المال كله ناض فإذا كان في المال عرض وناض قسم العرض أثلاثا، وقسم ثلث الناض على المحاصة فحاص الذي سكت عنه بِثُلثِهِ، ويحاص صاحباه بأكثر وصيتهما، وإن كان المال عرضا كله حاص المسكوت عنه في الثلث بثلث الثلث، وحاص صاحباه بثلث الثلث وبالعدة المسماة لكل واحد منهما، فلا يصح أن يكون قولهما مفسرا للرواية، بل هو على خلاف مذهبه فيها حسبما بيناه، وقول أبي صالح هذا على ما لأصبغ في رسم الوصايا الصغير من سماعه من تفسيره لقول ابن القاسم، وسيأتي الكلام على ذلك هنالك إن شاء الله وبه التوفيق.
[مسألة: يوصي في أمة له إِن وسعها الثلث أن تعتق فنظر فإذا هي لا تخرج منه]
مسألة وسُئِل مالك: عن الرجل يوصي في أمة له إِن وسعها الثلث أن تعتق فنظر فإذا هي لا تخرج منه، فكيف ترى فيه؟ فقال: أرى إن كان يبقى منه الشيءُ الذي له بال لم أَرَ أن تعتق وإن كان الشيءُ الذي يبقى الشيءَ اليسير لم أر أن يمنع العتق لذلك، وأرى أن تعتق إِن كان الذي خسِر يسيرا.
قال ابن القاسم: وتغرَم هي ذلك اليسير.
قال سحنون: وأرى أن يكون ذلك رِقّا باقيا فيها.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا أنها تعتق كلها ولا تغرَم شيئا إِن كان الذي زادت قيمتُها على الثلث الشيءَ اليسير، قال في الكفالة من المدونة مثلُ الدينار والدينارين، ولا تغرَم هي ذلك اليسير، خلاف مذهب ابن القاسم أنها تغرمه.
قال في المدونة: فإِن لم يكن عندها اتبعت به دينا تؤديه إلى الورثة، وخلاف قول سحنون: إن ذلك يكون رِقّا باقيا فيها ولابن كنانة في المجموعة مثلُ قول سحنون إنه إن زادت قيمتُها على الثلث الشيء اليسير كان ذلك اليسير رقا باقيا فيها، وإن زادت قيمتُها على الثلث الشيء الكثير لم يعتق(12/437)
منها شيء، وله في المدنِيَة أنه إن كان حملها الثلث إلا الشيء اليسير منها مثل السدس من ثمنها أو نحو ذلك فما يُرَى أنه لا يضر الورثة لقلته ويسير خطبه عتقت كلها، وإن كان حمل منها اليسير لم يعتق منها شيء كما وقع له في المجموعة.
قال محمد بن رشد: وإنما قال مالك: إِنها تعتق كلها ولا تتبع بشيء إذا كانت قيمتها أكثر من الثلث بالشيء اليسير الدينار والدنانير؛ لأن هذا القدر مما لا يتَحقَّقُ زيادة لا سيما في الأمة الرفيعة؛ لأنها إنما تقوم بالاجتهاد، وقد يختلف البصر أبِالقيمة في تقويمها في مثل هذا القدر وشبهه، وإنما قال ابن القاسم: إن الجارية تُقَدِّمُ ذلك الشيء اليسير إِن كان لها مال مراعاة لقول من قال: إِنها إن لم يحملها الثلث بمالها تقوم بما حمل منها ويكون بقيته للسيد مضافا إلى ماله، وهو قول ربيعة والليث بن سعد ويحيى بن سعيد وابن وهب في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب المدير، وقال: إنها تتبع به دينا إن لم يكن لها مال مراعاة لقول من يقول بالِإسْتِسْعَاءِ في العبد بين الشريكين يعتق أحدُهما حظّه منه ولا مال له، وقول سحنون: إِنَّ ذلك يكون رِقّا باقيا فيها بعيدٌ؛ لأن الموصِي إنما أوصى بعتقها إِنْ حملها الثلث، ومثل قوله في المجموعة لابن كنانة خلاف ما له في المدنِيَة.
ويتحصل في المسألة على ظاهر الروايات إن زادت قيمةُ الأمة على الثلث الشيءَ اليسير ثلاثةُ أقوال؛ أحدها: أنها تعتق ولا تتبع بشيء، وهو قول مالك.
والثاني: أنها تعتق وتتبع بما زادت قيمتها على الثلث وهو قول ابن القاسم.
والثالث: أن ذلك يكون رقا باقيا فيها وهو قولُ سحنون وأحد قولي ابن كنانة، الذي أقول به وينبغي أن تكون الروايات عليه إِن كانت الزيادة اليسيرة متيقَّنة لا يمكن اختلاف البصراء فيها ففيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن تتبع بذلك دينا إن لم يكن لها، مال ويؤخذ من مالها إذا كان لها مال، وهو قول ابن(12/438)
القاسم.
والثاني: أنها يبقى ذلك رِقا فيها وهو قول سحنون.
والثالث: أنها تعتق قول ابن كنانة في المدينة وأنه إن كانت الزيادة اليسيرة كالدينار والدنانير في قيمة الأمة في الثلاثة والخمسين فلا بشيء كما قال مالك، ولا خلاف فإن زادت قيمتها على الثلث الكثير، قليل ولا كثير وله في المدونة أنه يعتق منها ما حمله الثلث وإن كان يسيرا ويرق الباقي، وإن كان حمل الثلثُ أكثرَها ولم يبق إلَّا اليسير منها الذي لا يضر بالورثة مثل السدس من ثمنها أو نحو ذلك أعتقت كلها، وهو بعيد جدا، فقول مالك في هذه المسألة أصح الأقوال وَأَوْلَاهَا بالصواب وبالله التوفيق.
[: أوصى بثلث ماله للفقراء من فخده فإن لم يكن فيهم ففي الذين يلونهم]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك: عن رجل أوصى بثلث ماله للفقراء من فخده، فإن لم يكن فيهم ففي الذين يلونهم.
قال مالك: أرى أن يبدأ بالذين قال يُعطي فقراؤهم بقدر ولا يُعطي أغنياؤهم شيئا، وإن فضِل فضلٌ أُعطي مسكنةُ الأقْصَيْن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إِنه يخص بذلك الفقراءُ من فخده دون الأغنياء، ويُعْطَوْن منه بقدر على سبيل الاجتهاد، ويؤثر في ذلك الأقرب على الأبعد والأجوحُ على من هو دونه في الحاجة، ويجعل الفضل فيمن بعدهم، والفَخِدُ أعم من العصبة وأخص من البَطْنِ والقبيلة، والبطنُ والقبيلةُ أخص من العشيرة. وبالله التوفيق.
[مسألة: وصيتها تنفذ وإن لم تمت من حملها إذا كتبت بذلك كتابا]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة أوصت إن حدث بها حدَثُ الموت من(12/439)
حملها هذا فافعلوا كذا وكذا، ثم إِنها وضعت وأقامت سنين، ثم هلكت؟ قال مالك: أكتبت بذلك كتابا؟ قال: نعم وفي وصيتها قَبْلَ أن تغيرها، قال: هي جائزة وينفذُ ما فيها.
قال محمد بن رشد: قولُه: إِن وصيتها تنفذ وإن لم تمت من حملها إذا كتبت بذلك كتابا، هو مثلُ أحد قوليه في رسم سلعة سماها، ولو كانت قد وضعت الكتابَ بيد غيرها لجاز قولا واحدا، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من السماع فلا معنى لِإعادته، واحْكُمْ في المسألة لقوله فيها قبل أن تغيرها؛ لَأنَّ ذلك حق لها قالته أو سكتت عنه.
[: الوصية التي يوصي بها الناس ويتشهدون فيها قبل أن يوصوا]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك عن الوصية التي يوصي بها الناس ويتشهدون فيها قبل أن يوصوا، قال: ذلك يعجبني وأراه حسنا، ومَا زالَ ذلك من شأن الناس، والذي أدركتهم عليه يكتبون التشهد قبل أن يوصوا، قال مالك في أثر الوصية في التشهد حين قال هو الذي أدركت عليه الناس.
قال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: ما أدركت عليه الناس بهذه البلدة يعني المدينة، فلا شك فيه أنه الحق، وروى أشهبُ في كتاب الوصية الذي فيه الحج والزكاة في التشهد مثلَ هذا وزاد قال، فقيل له: فإن رجلا عندنا كتب وصيته وكتب فيها أُؤمِنُ بالقَدَرِ خيرِه وشرِّه حُلْوِه ومُره، قال: لا والله لا أراه أَفَلَا كتبتَ والصُّفْرِية والَأبَاضِية، ليس هذا بشيء، وقد كتب من مضى وصاياهم فلم يكتب(12/440)
أحد منهم هذا في وصيته.
قال محمد بن رشد: هذا كله بيّن على ما قاله؛ لأنَ الرشد في الاتباع ويكره في الأمة كلها الابتداع فلن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مِمَّا كان عليه أولها (والمدينة) دارُ الهجرة وبها توفي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والصحابةُ خير الأمة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وتبليغ دينه وإقامة شرعه بها مُتَوَافِرُونَ، فما عملوا فيه ودرجوا عليه هو الهدى الذي لا ينبغي العدول عنه وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصِي بالرقبة أترى أن يشتري أبوه فيعتق عنه]
مسألة وسئل: عن الرجل يُوصِي بالرقبة أترى أن يُشْتَرَي أبوه فيعتق عنه؟ .
قال: إن كان تطوعا فإني أرى ذلك، وإن كان ظهارا أو ما أشبهه مما هو عليه فغيرُه أَحَبُّ إلي منه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إِن ذلك جائز في التطوع بل هو المختار المستحب؛ لِأنه أعظمُ في الأجر من عتق الأجنبي، لما في ذلك من صلة القرابة، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلا أَنْ يَجدَهُ مَمْلُوكا فَيَشْتَرِيهِ فَيُعْتِقُهُ» أي فيكون حرا بنفس شرائه إياه، لا أنه يستحِدثُ له عتقا بعد مِلْكِه إياه، إذْ لا يستقر له عليه ملك إِلَّا أنه يصير بشرائه إياه في حكم المملوك المعتق في وجوب الولاء له.
وأما قولهُ: إن كان ظهارا أو مما أشبهه مما هو عليه فغيرُه أحب إلي منه فتجاوزٌ في اللفظ ليس على ظاهره في استحاب عتق سِوَاهُ بل هو الواجب، إذ لا يُجْزِئ عنه في الظهار، والوصي ضامن إن فعل ذلك.(12/441)
وأما إن لم يعلم الوصي إنْ كان العتق الذي أوصى به تطوعا أو واجبا فلا ينبغي أن يَعتِقَ عنه من يعتق عليه من أب أو أخ ولا يصح له ملكه مخافة أن تكون وصيته بعتق واجب عليه، فإن فعل لم يلزمه ضمان وبالله التوفيق.
[مسألة: الوارث إذا زاد مما ورثه فكأنه قد أجاز للميت الوصية بأكثر من ثلث ماله]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى بمائة درهم في عتق رقبة من غلة حائط له منذ خمس وثلاثين، وكان قبل عتق الرقبة وصايا قدمت قبله، وكان في ذلك الزَّمان الرقبة توجد بمائة درهم، وهي اليوم لا توجد بذلك، فقال له الوصي: أفترى أن أزيد من عندي في ثمنها؟ فإِن نفسي بذلك طيبة، قال: لا يعجبني ذلك، فقيل له: فبعض من ورثه أو من أقاربه أو ممن أوصى له إن أحب أن يزيد في ذلك؟ فقال: ما أرى به بأسا، فقال له الرجل: أفترى أن يشتري له بأرض الروم رقبة؟ فإني أجدها بهذا الثمن إِلَّا أنها أعجمية؟ قال: ليس هذا الذي أراد الرجل ولا يعجبني ذلك، قيل له: أَفَيُعِينُ بهذا في عتق رقبة يتم بها عتقها؟. قال: ويكون غيره الذي يعتقها؟ قال: نعم، قال: لا خير فيه، فقيل له: أفنشتري نحن آخر رقبة بمائتي درهم فيعتقها عنهما؟. قال: لو أني أعلم أنك لا تجد لرأيت ذلك، فقال فإن لم أجد أفترى لي ذلك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: لم يُجِز للموصى إذا لم يحمل الثلثُ ثمنَ الرقبة أن يزيد فيها من عنده، وأجاز ذلك لبعض من ورث الميت أو أوصى له بوصية، والمعنى في ذلك أن الزيادة إن كانتَ من مال الميت الموصى جاز ذلك، وإن كانت من غير أصل مَاله لم يجز ذلك، فقولُه: أو من أقاربه معناه من أقاربه الذين يرثونه؛ لأن الوارث إذا زاد مما ورثه فكأنه قد أجاز للميت الوصية بأكثر من ثلث ماله، وكذلك الموصَى له إِن زاد من الوصية التي أوصى له بها(12/442)
الميت فكأنه قد ترك ذلك له ولم يجز للوصي إذا لم يحمل الثلث ما يشتري به رقبة في أرض الإِسلام أن يشتريها من أرض الروم؛ لأن ذلك خلاف ما أراد الموصِي كما قال، ولم يجز له أن يُعِينَ بذلك في رقبة يكون ولاؤها لغير الموصى فقال: لا خير في ذلك، ومعناه إذا كان في ذلك ما يشارك به في عتق رقبة فلا بأس أن يُعِينَ بها مكاتبا في آخر كتابته، وكذلك قال في الوصايا الأول من المدونة: إنه إن لم يكن في ذلك ما يشتري به رقبة شورك به في رقبة، فإن لم يجدوا إلَاّ أن يعينوا بها مكاتبا في آخر كتابَتِه فعلوا، قال: وهذا قول مالك فهو يحمل على التفسير لقوله في هذه الرواية وبالله التوفيق.
[مسألة: الوصي يريد بيع متاع الرجل مساومة]
مسألة وسئل: عن الوصي يريد بَيْعَ متاع الرجل مساومة ويرى أن ذلك خير له مثل ما يسومه الرجل بالدار وما أشبهه فَيُتَمِّنُه ويرى أن بيعه غِبْطَة، قال: لا بأس بذلك مساومة، أو فيمن يريد إذا كان ذلك منه على وجه النظر.
قال محمد بن رشد: معناه في الوصي على الثلث إذا باع بإذن الورثة أو على الصغار إذا باع بإذن الكِبَار أو في الوصي على الصغار إن لم يكن لأحد معهم في ذلك شرك، وأمّا إذا كان وصيا على الصغار وهم شركاء مع الكبار فباع الجميعَ بغير إذنهم فلا يجوز ذلك عليهم، وكذلك إذا كان وصيا على الثلث فباع بغير إذن الورثة، وسيأتي الكلامُ على ذلك في رسم سلف دينارا من سماع عيسى بعد هذا إن شاء الله، وبه التوفيق.
[مسألة: أوصى بخمسمائة درهم في رقبة بخمسمائة بشرط أن يعتق ثمن سبعمائة]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى بخمسمائة درهم في رقبة بخمسمائة بشرط أن يعتق ثمن سبعمائة، وإن اشترى بخمسمائة بغير شرط لم(12/443)
يجد مثلَها أفيشتريها بشرط أو يشتري دونها بغير شرط؟ قال: بل يشتري بغير شرط يعني غيرها وإن كانت دونها.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانت الرقبة واجبة فلا يجوز أن يشتريها بشرط، فإن فعل ضمن؛ لأن الرقبة الواجِبَةَ لا يجوز شراؤها بشرط العتق، وأما إن كانت الرقبة تطوعا فيكره له أن يفعل ذلك، فإن فعل لم يضمن وبالله التوفيق.
[: هلك زوجها وأوصى إليها بولدها وبما كان له من مال فتزوجت]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته وسئل مالك: عن امرأة هلك زوجها وأوصى إليها بولدها وبما كان له من مال، فتزوجت المرأةُ وخِيفَ على المال أَتَرَى أن يكشف؟ قال مالك: إن كانت المرأة لا بأس بحالها فلا أرى ذلك، وإن كان يُخَافُ كشف ما قِبَلَها.
قال محمد بن رشد: إنما يكشف ما قبلها إِن كان يخاف على المال عندها ولا يكشف إِن كانت لا بأس بحالها ولم يبين على ما يحمل عليه من جهل حالها، والظاهر من قول مالك في رسم الوصايا من سماع أشهب بعد هذا، أن المرأة إذا تزوجت غُلِبَتْ على جُل أمرها حتى تعمل بما ليس بصواب أنها عنده محمولة على الخوف عليها إذا تزوجت فيكشف ما قبلها، إِلَاّ أن يعلم أنه لا بأس بحالها وينزع الولد منها وإِن لم يقل الميتُ إِن تزوجت فانزعوهم منها إِلا أن يجعلهم في بيت على حدة ويقيم لهم ما يصلحهم من خادمهم ونفقتهم على ما قاله في رسم كتب عليه ذُكر حق بعد هذا، وكذلك لا يعزلون منها إذا عَزَلَتْهم في مكان عندها وأقامت لهم ما يصلحهم من نفقة وخادم وإن كان الميت قد قال: إِن تزوجت فانزعوهم منها، قَاله مالك في كتاب ابن المواز.(12/444)
قاله محمد؛ لأن الميت لم يقل: إن تزوجت فلا وصية لها وإِنما قال: إِن تزوجت فانزعوهم منها معناه إِنْ لم تَنْزِعْهم عن بيتها وتجعلْهم في بيت على حدة مع من يخدمهم بنفقة تقيمها لهم، ومثلُ ذلك في المدنية لمالك من رواية محمد بن يحيى السبائي عنه، وزاد فإن خشيت عليهم الضيعة فأولياؤهم أحق بهم.
قال ابن المواز. قال ابن القاسم: وأما المال فوجه ما سمعت فيه أَنْ يُنظر إلى حالها فإن رُضِي حالُها وسيرتُها والمال يسير لم يؤخذ منها (محمد) ولم يكشفه إِن كان المال كثيرا وهي مقلة وخيف من ناحيتها، وأرى أن ينزع المال منها، وقاله أصبغُ وهي على الوصية على كل حال إِلاَّ أن يكون مرره إلا من مر إبقاء المال عندها بعد النكاح في الحرم والدين واليسر والحرز فيقر بيدها، قلت: وإذا خيف على المال عندها فنزع منها ولم تعزل هي عن الوصية فليقدم معها من يكون المال عنده ويشاركها في النظر لهم وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد هو والوصي معه أن أباه أعتق هذا الرقيق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى إلى ابن له كبير وله ولد صغار ذكور وإناث وأشهد معه رجلا آخر وأعتق رقيقا أتجوز عتاقهم بشهادة ابنه وهو وصي مع الرجل؟ قال: نعم إذا لم يتهم مثل أن يَجُرَّ وَلَاء.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه شهد هو والوصي معه أنَ أباه أعتق هذا الرقيق أو أنه أوصى بعتقهم فتجوز شهادته مع الوصي إِن لم يكن لولائهم خطب، وإن كان لولائهم خطب لَمْ تجز شهادته إذا كان في الورثة نساء مِمن لا يثبت له الولاء، وإِن لَمْ يكن في الورثة إِلَّا من يثبت له الولاء جازت شهادته عليهم.
هذا نص قوله في المدونة وغيرها، وأما إن أعتقا العبيد ثم شهدا بعد تنفيذ العتق لهم أن الميت أوصى بذلك إليهما لم تجز شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما ليجيزاه وبالله التوفيق.(12/445)
[مسألة: أوصى في جارية له أن تباع رقبة فأبت الجارية وأحبت البيع على غير عتق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى في جارية له أن تباع رقبة فأبت الجارية وأحبت البيعَ على غير عتق، قال: إن كانت الجاريةُ رائعة رأيت أن تباع على غير شرط في العَتَاقَة وإن كانت من الخدم مِثْل ثَمَن سِتِّينَ دينارا رَأَيْتُ أن تباع رقبة بشرط.
قال محمد بن رشد: هذا في الوصايا الأول من المدونة أنها إن كانت من جواري الوطء ممن تتخذ، كان ذلك لها، وإن لم تكن منهن بيعت ممن يعتقها إلّا أنه لم يذكر في أثمانهن حدا، وقال في كتاب العيوب منها: إنّ أثمانَ الخمسين والستين من المرتفعات، فقيل: إن ذلك لما ها هنا إذ جعل أثمان الخمسين والستين من المرتفعات.
والصواب أنّ ذلك اختلاف من القول، فأثْمَان الخمسين والستين من المرتفعات اللاتي تجب المواضعة فيهن ولا يجوز التَّبَرِّي مِنْ حملهن وَلَسْنَ من المرتفعات اللائي لهن أنْ يُبَعن على غير شرط فتبطل الوصية فيهن، بدليل قوله في سماع أبي زيد: وأثمان الستين ليست بِرائعة في هذا، قال في كتاب الوصايا الأول من المدونة، وقد قيل: لا ينظر إلى قولها وتبَاع للعتق إلّا ألّا يُوجَدَ من يشتريها بوضيعة الثلث إن كان للميت مال يحمل الجارية، وقوله: إن كان للميت مال يحمل الجارية مفسر عندي لقول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ لأن الرجل لو أوصى أن يُباع عبده لم يجز ذلك على الورثة إذْ لم يحمله ثلث، وقد قال ابن لبابة في قوله في المدونة بيعوا عبدي من فلان لَمّا لم يأمر الموصي أن يعطاه إلّا بثمن لم يقل أحد إنه ينظر إلى العبد إن كان يخرج من الثلث أمْ لا يخَرج منه، وليس قوله بصحيح إِذ ليس للميت أن يحجر على ورثته إمساك عبد من عبيده إذا كان أكثر من ثلث ماله، وإنما كان للجارية الرائعة أن تباع على غير العتق؛ لأن العتق أضَرُّ بالجارية النفيسة.
قال ابن المواز: وهو كما قْال؛ لأنها قد تتخذ أمّ ولد فتعتق فيكون ذلك خيرا لها، والخادِم تبقى مملوكة أبدا فلا تعتق أحسنُ لها وإن لم(12/446)
ترض بذلك.
قال ابن المواز: وقد أبطل مالك وصية ابن سليمان إذ أوصى أن يعتق جواريه بعد سبعين سنة وَرَآهُ من الضرر.
قال ابن المواز: فإن بيعت بشرط العتق وضع ثلث ثمنها، وإن بيعت بغير شرط لم يوضع من ثمنها شيء، وبالله التوفيق.
[: تباع إن اختارت البيع]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك: عن رجل يوصي في جارية له لَهَا القدرُ أن تخير فإن شاءت بيعت، وإن شاءت أعتقت، ويعتقها بعض من كان ورثها ولعله قد كان بينه وبينها شيء، قال: ليس عتقه بشيء، وأرى أن تباع إن اختارت البيع، ثم قال: ما لهم ولها يعتقونها ليس لهم من ذلك شيء، هو ماله يصنع فيه ما أحب يعني المُوصِي فلا أرى لهم في ذلك قضاء حتى ينفذ من جعل ذلك له، فإما أعتق وإما باع ليس للورثة في ذلك قضاء.
قال محمد بن رشد: قولُهُ: هو مالُه يصنع فيه ما أحب يريد فتُنفَّذُ فيه وصيتُهُ بالتخيير لها بين البيع والعتق، وذلك إذا كان الثلث يحملها، والمسألة متكررة في رسم جاع من سماع عيسى، وقال في سماع سحنون: إن لها أن ترجع إلى البيع بعد أن اختارت العتق، وإلى العتق بعد أن اختارت البيع ما لم يفت الأمر فيها بالبيع والتقويم في العتق، وقال في رسم القطعان من سماع عيسى: إنها إنْ اختارت البيع فبيعت ثم ردت، فقالت: أنا أحب أن أعتق الآن قال: ليس ذلك لها.
وقال ابن وهب: ذلك لها؛ لأن بيعها لم ينفذ، ومعناه إذَا رُدَت بعيب، فالاختلاف في هذا على الاختلاف في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع، وبالله التوفيق.(12/447)
[مسألة: الصدقة والوصيةِ والرجل في مرضه ولا يحملها الثلث]
مسألة وسئل: عن الصدقة والوصيةِ والرجلُ في مرضه ولا يحملها الثلث أتَرَى أن يبدأ بالصدقة؟ قال: لَا بَلْ يتحاصون، وقد سألني رجل عن رجل أوصى ليتيم ولقوم فلم يَسَعْ ذلك الثلثُ، فقال الرجل: إنّ اليتيم محتاج كأنه رَآهُ من وجه الصدقة فقلتُ له: هم يتحاصون، فقيل له: أفرأيت إن قال في الصدقة بَتْلا لا رجوع فيها عشت أو مت، قال: فلا أدري، قلت له: أفيتحاص الذي تصدق بها عليه والذي أوصى له؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: ظاهرُ هذه الرواية أنّ السؤال فيها إنما هو عن الوصية بالصدقة والصدقَةُ على سبيل العطية هل يتحاصان الوصية بالصدقة على الوصية على سبيل العطية؟ فقال: إنهما يتحاصان. ولا اختلاف أحفظه في ذلك، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: قد قيل: إن الصدقة تقدم على الوصية؛ لأنها للفقراء والوصية للأغنياء فتؤخذ، ولا أعرف هذا القول ولا له وجه يصح، إذ قد يتصدق الرجل على الغني ويعطي الفقير، فلو كانت الصدقة على الغني تبدأ على العطية للفقير لَبَطَلت العلة التي عللت بها تبدية الصدقة على العطية، وإن قلت: إن العطية تبدأ على الصدقة من أجل أنها على فقير لزمك أن تبدي الوصية للفقير على الوصية للغني، وذلك خلاف الإِجماع، وإنما الاختلافُ المعلومُ في الصدقة المبَتلة في المرض والوصية، هل يتحاصان بعد الموت لاتفاقهما جميعا على أنهما من الثلث، أو تبدأ الصدقة المبتلة من أجل أنها تلزم المتصدق إن صح من مرضه، فروى الحارث عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول في الرجل يتصدق بالصدقة في مرضه ويوصي للناس بوصايا ثم يموت فيريد أهل الوصايا أن يدخلوا على المتصدق عليه في الصدقة قال: لا أرى ذلك لهم؛ لأنه لو عاش ثُمّ أراد أن(12/448)
يرجع في صدقته لم يكن ذلك لَه ومثل هذا في كتاب ابن حبيب وفي المختصر لابن عبد الحكم عن مالك، وقد اختلف قولُ مالك من هذا الأصل فيمن بتل عتق عبد في مرضه وأوصى بعتق عبد له آخر، فكان أولَ زمانه يقول: إنه يبدأ المبتل في المرض ثم رجع إلى أنهما يتحاصان وهو الذي يأتي على ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس من أنّ للرجل أنْ يرجع عما حبسه في مرضه إن مات منه وقد مضى الكلام على ذلك هناك مشروحا فلا معنى لإِعادته.
[: أوصى بعتقٍ بتل ودبر]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن القاسم: ولو أن رجلا أوصى بعتقٍ بتلٍ ودبر قال: إن كان في كلمة واحدة تحاصا، وإن لم يكن ذلك في كلام واحدٍ يبدّأ بالأول في الأول.
قال محمد بن رشد: قولُهُ: أوصى بعتق بتل لَا يستقيم، فمعناه أنه بتل عتقه في مرضه ودبر عبدا له آخر، وفي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: قوله في هذه الرواية إنهما يتحاصان إن كان ذلك في كلمة واحدة أي في كلام متصل، وهذا عندي على القول بأنه ليس له أن يرجع عما بتله في مرضه إن مات منه خلافُ ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس من أن للرجل أن يرجع عما حبس في مرضه إن مات منه.
والقول الثاني: أن المدبر يبدأ على المبتل، وهذا عندي على القول بأن له أن يرجع عما بتله في مرضه.
والقول الثالث: أنه يبدأ المبتل في المرض بما له من مزية عليه في أنه إن صح من مرضه عجل عتقه، وهذا كله إذا كان التدبير والتبتل في فور واحد، وأما إن كان أحدهما قبل صاحبه فيبدأ الأول، واختلفَ قولُ مالك في تبدية العتق المبتل في المرض والمدبر فيه على الموصي بعتقه فقال: يبدأ المبَتل والمدبر، وقال أشهب: يتحاصان، قال: وبلغني أن هذا أحد قولي مالك، فأما الاختلاف في المبتل في المرض والموصي بعتقه فله وجه، وهو ما ذكرت(12/449)
من الاختلاف في الرجوع في المبتل في المرض، وأما المدبر في المرض والموصي بعتقه فلا وجه للقول بأنهما يتحاصان؛ لأن الموصي بعتقه يصح الرجوع عنه باتفاق، والمدبر لا يصح الرجوع عنه باتفاق، فوجب ألّا يُختلف في تبدية المدبر وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصت أن عندها خمسة وثلاثين درهما وأن لها على زوجها أربعة أبعرة]
مسألة وسئل: عن امرأة مرضت فأوصت أن عندها خمسة وثلاثين درهما وأن لها على زوجها أربعة أبعرة، فقالت لزوجها وللورثة: إما أن تجعلوا الخمسة والثلاثين الدرهم التي عندي في سبيل الله، وإما أن تجعلوا بعيرا مما لي على زوجي في سبيل الله وتأخذوا الخمسة والثلاثين الدرهم، فلما حضرتها الوفاة سألوها عن الدرهم فلم تخبرهم وهلكت.
قال مالك: أرى أن يخرج عنها في ثلثها البعير الذي جعلته من الأربعة الأبعرة التي لها على زوجها، ولا ينظر في شأن الدراهم التي لم توجد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الدراهم التي لم توجد مصيبتها منهم، ولا بد من تنفيذ وصيتها بإخراج البعير من الخمسة الأبعرة التي لها على زوجها، وإنما ذلك بمنزلة من أوصى بعتق أحَدِ هَؤلاءِ الأعبد الخمسة فمات منهم واحد قبل موته وبالله التوفيق.
[مسألة: هلكت وأوصت إلى امرأة بوضع ثلثها في مواضع]
مسألة وسئل: عن امرأة هلكت وأوصت إلى امرأة بوضع ثلثها في مواضع وأن تجعل البقية حيثُ أراها الله، فكانت تقسمه ثم إن المرأة احتاجت التي استخلفت فقالت: هل ترى لي أن آخذ منه(12/450)
شيئا؟ قال: لا أرى أن تأخذي منه شيئا ولا تأكليه.
قال محمد بن رشد: إذا كانت الموصية قد فوضت إلى هذه المرأة جعل البقية حيث أراها الله من وجوه البر، فكان الذي أراها الله بوجه الاجتهاد أن يفرق تلك البقّية في المَسَاكين فاحتاجت هي حتى صارت في الحاجة بمنزلة من يفرق عليهم تلك البقية من المحتاجين، فلها أن تأخذ منها لنفسها مثل ما يعطي غيرها على ما قاله في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات في الذي خرج غازيا فبعث معه بمال ليعطي منه كل منقطع به فاحتاج هو ولم يكن عنده ما يقوي به إنّ له أن يأخذ منه بالمعروف والمعروف في ذلك هو أن يأخذ منه مثلَ ما يُعطي غيرَه ولا يُحَابى نفسَه في ذلك، وجوازُ ذلك يتخرج على قولين حسبما بينا وجهه هناك، وأما إن كان الذي أراها الله بوجه الاجتهاد من وجوه البر في تلك البقية جَعْلَهَا في غير الصدفة أو في الصدفة على من ليس مثل حالها فلا يصح لها أن تأخذ لنفسها من ذلك شيئا وإنْ كانت محتاجة وبالله التوفيق.
[: أوصى لجارية له بعشرة دنانير من ثمنها]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا وسئل: عن رجل أوصى لجارية له بعشرة دنانير من ثمنها أتراه عتقا؟ قال: لا ليس هذا عتقا.
قال عيسى: قال ابن القاسم: وإذا أوصى لها ببعضهما لم يعتق منها إلّا ما أوصى إلّا أن يكون لها مال فيقوم بقيتها في مالها فيعْتق على نفسها وإذا أوصى لها بثلثه عتقت في ثلثه وقومت فيه؛ لأنه حين عتق عليها من نفسها شقص أيحمل عليها مَا بقي من عتق نفسها بمنزلة من أعتق شِرْكا له في رأس فكان يُقوم عليه، فالذي يعتق عليه يتبعض عن نفسه أحْرى أن يُقَوّم عليه ما بقي من نفسه فيما يملك، وهو قول مالك: قال ابن القاسم: ولو(12/451)
كان فيما أوصى لصاحبه ما لا يتم به عتقُها وكان لها مالٌ قبل ذلك عتقت فيه وأخذ منها.
قال محمد بن رشد: أما الذي أوصى لجاريته بعشرة دنانير من ثمنها فبين أنه لا يعتق منها شيء؛ لأنه إنما أوصى لها بعشرة دنانير، فسواء كانت من ثمنها أو من غير ثمنها، بل إذا كانت من ثمنها فهو أحرى ألّا يعتق شيء منها فيها؛ لأنه إنما أوصى لها بالعشرة بعد أن تباع، وأما إذا أوصى له ببعضها، فلا اختلاف في أنه يعتق منها ما أوصى لها به من نفسها إذ قد علم أنه لا يصح لها ملكُ نفسها، أَلا ترى أنه من قال لعبده: قد وهبت لك نفسك أنه بذلك حر، وإنما اختلف إذا أوصى لها ببعضها ولها مَال هل يعتق بقيتها على نفسها في مالها أم لا؟ فقال في هذه الرواية: إنه يقوم بقيتُها على نفسها في مالها، وهو قول ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك، ومثله في سماع عيسى ويحيى، وقيل: إنه لا يقوّم عليها بقيتُها في مالها، وهو قول ابن وهب وروايته عن مالك في المدونة.
وأما إذا أوصى لها بثلثه فقيل: إنها لا يعتق منها إلّا الثلث وهو قول ابن وهب من رأيه، وقيل: إنه يعتق منها الثلث ويقوم بقيتُها على نفسها فيما بقي من الثلث، فإن لم يحملها الثلثُ رَقّ ما بقي منها ولم يقوم عليها في مالها إن كان لها مال من غير الثلث، وهو قول مالك في رواية ابن وهب في المدونة.
ووجه هذا القول أنه إذا أوصى لها بثلث ماله فقد قصد إلى حريتها فيه، وكأنه أوصى أن تعتق فيه وأن تعطى بقيته إن كان فيه فضل عن رقبتها وهذا القول اختيار سحنون فقال فيه: إنه أعدلُ الأقوال.
ووجه قول ابن وهب أنه إذا أوصى لها بثلث ماله فقد قصد إلَى حرية ثلثها وأن تعطي بقية ثلث ماله، فوجب أن يعتق ثلثها وأن تعطي بقية ماله ولا تعتق فيه ولا في مال إن كان لها سِوَاهُ؛ لأنه هو المعتق لثلثها إذا أوصى لها به وهو(12/452)
يعلم أنه لا يصح لها ملكَه، فكان بمنزلة إذا أوصى أن يعتق ثلثها وتعطي بقية ثلث ماله.
ووجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك ما ذكره في الرواية من أنه إذا أعتق عليه بعضها وجب أن يقوم عليها بقيتها فيما بقي من الثلث وفي سائر مالها إن كان لها مال بمنزلة من أعتق شركا له في عبد أنه يقوم عليه بقيتُهُ في ماله، وعلى هذا الاختلاف يأتي الاختلاف في تبدية الوصية للعبد في ثلثه على الوصايا حسبما يأتي القول فيه في رسم أسلم من سماع عيسى إن شاء الله.
وأما إذا أوصى له بدنانير أو بعرض من العروض فلا يعتق شيء منه في ذلك باتفاق إلّا أن يكون ذلك أكثرَ من الثلث فلا يجيز ذلك الورثة حسبما يأتي القول فيه في رسم الرهون من السماع المذكور إن شاء الله وبه التوفيق.
[مسألة: توصية الميت بإسقاط اليمين عنه لا يلزم الورثة]
مسألة قال: وسئل عن رجل كان شريكا لرجل فمرض أحدهما فأوصى إن فلانا عَالِمٌ بماليِ فما دفع إليكم من شيء فهو فيه مصدق ولا يمين عليه في ذلك، فرُفع أمرُه إلى السلطان وأتى بما قِبَلَه من الناض فقسمه بينه وبين ورثة شريكه، ثم أقام يقتضي ويقسم أقام بذلك عشر سنين وكتب له السلطان براءة من ذلك، وبقي بينهما دين وبلغ الورثةَ فقالوا: نُرِيدُ أن نستحلفك فيما اقتضيت أترى ذلك لهم وهذا الأمر منذ عشر سنين وقد كتب له السلطان منه البراءة؟ قال مالك: أرى أن ينظر السلطان في ذلك ويكشف أمره، فإن رأى أمرا صحيحا لم أرَ أن يستحلفه وإن استنكر شيئا رأيت أن يحلف، فقال له الرجل: يا أبا عبد الله بعد عشر سنين؟ قال: نعم إن رأى ذلك أمرا يُسْتَنْكَرُ.
قال محمد بن رشد: هذه اليمين في أصلها يمين تهمة وقد اختلف(12/453)
في لحوقها، وتوصية الميت بإسقاط اليمين عنه لا يَلْزَم الورثةَ؛ لأن الحق قد صار إليهم في المال بموته، فإن اتهموه استحلفوه على القول بلحوق يمين التهمة، فلذلك قال: إن السلطان ينظر في ذلك فإن رأى أمرا صحيحا لم تجب لهم عليه يمين، وإن رأى أمرا يستنكر أوجب لهم عليه اليمين وبالله التوفيق.
[: أوصى بابنه إلى أمه وأوصى أن ينفق عليها حيث كانت]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع وسئل: عن رجل أوصى بابنه إلى أمه وأوصى أن ينفق عليها حيث كانت، قال مالك: إن كان صغيرا وكانت محتاجة وكانت تلي مؤنته وحضانته فأرى أن ينفق عليها، فقيل له: أرأيت إن كانت غنية؟ قال مالك: ينظر في ذلك فإن كان ذلك أرفق به في حضانته والقيام به (وأنه لو انتزع منها تكلف به من يقوم له عليه ويحضنه) رأيت أن ينفق عليها من مال الغلام، وكأني رأيته لا يَرَى لَها النفقة إلّا في صغر الصبي.
قال ابن القاسم: رجع عنه وقال: إن كانت محتاجة انفق عليها، وإن كانت مُوسرة لم ينفق عليها فإن شاءت أقامت على ولدها وإن شاءت ذهبت حيث شاءت وعلى هذا نَبّه غير مرة وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: اختلف قولُ مالك في إيجاب النفقة لِلْحَاضِنِ بحق الحضانة فأوجب ذلك لها في رسم شك في طوافه في سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، ولم يوجب ذلك لها في رسم شك المذكور من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، ولا في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب منه، والاختلاف في ذلك جار على اختلافهم في الحضانة هل هي من حق(12/454)
المحضون أم من حق الحاضن فمن رآها من حق المحضون أوجب للحاضن أجرته في حضانته وكراء سكناه معه، ومن رآها من حق الحاضن لم يوجب له ذلك؛ لأنه لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويَأوِيهِ إلى نفسه ويجب له بذلك عليه حق، وتفرقةُ مالك في هذه الرواية بين أن يوجد من يحضن الصبيِ دون نفقة أو لا يوجد إن نُزِعَ من أمه قول ثالث في المسألة وبالله التوفيق.
[: أوصى إلى امرأته بولده منها ولم يقل إن تزوجت فانزعوهم منها فأرادت التزويج]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق وسئل مالك: عن رجل أوصى إلى امرأته بولده منها ولم يقل: إن تزوجت فانزعوهم منها، فأرادت التزويج، قال: أرى إن عزلتهم في بيت على حدة وأقامت لهم ما يصلحهم من خادمهم ونفقتهم فأراها أولى بهم، وإن لم تفعل انتزعوها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القولُ عليها في رسم حلف قبل هذا فلا وجه لِإعادته وبالله التوفيق.
[: أوصى بوصية إلى وارث أو غير وارث قال ثلثي يجعل حيث أراد الله]
ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال وسئل مالك: عن رجل أوصى بوصية إلى وارث أو غير وارث، قال: ثلثي يجعل حيث أرَادَ الله.
قال مالك: إن كان جعل ذلك إلى وارث هو له فليس له أن ينفذ شيئا من ذلك إلّا أن يعلم الورثة ويخصوهم، وإن كان جعل ذلك إلى غير وارث فإنه ليس له أن يأخذه لنفسه ولا لولده ولا لحاضنةٍ من الناس إلّا أن يكون لذلك وجه يسميه ويذكره وُيعرف أن الذي أعطى أَهْلا لذلك وليس لغير الوارث أن يكتم ما صنع ولا أن يعيبه ولا أرى عليه يمينا في ذلك، وليس(12/455)
الحديثُ في ذلك مثلَ القديم، فأما الأمر القريب العادة من ذلك، فإنه يعلمه، وأما ما قدم من ذلك وطال فليس عليه تجديد ذلك وذكره، والورثة هم أهملوا ذلك بحضرة ذلك وحدثانه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا فوض تنفيذ الوصية إلى غير وارث فليس له أن يأخذها لولده ولا لحاضنةٍ من الناس إلّا أن يكون لذلك وجه يعرف فيه صواب فعله؛ لأنه يتهم في ولده وَخَاصَّتِهِ من الناس فعليه إذا فعل ذلك أن يُعْلِمَ الورثةَ به.
قال أصبغ: إلّا أن يكون الورثةُ صغارا فعليه أن يعلمهم إذا كبروا؛ لأن ذلك من القضاء لنفسه، فعلى ما ذكرته في رسم سَنّ قبل هذا في الذي يوصي إلَى المرأة أن تجعل ثلثه حيث أراها الله، وقوله: ليس له أن يكتم ما صنع ولا يعيبه، معناه أن ذلك ليس من الحظ له أن يفعله فيعرض نفسه للتهمة فإن فعل ذلك وعيبه وادعى أنه قد نقده فلا غرم عليه فيه إلّا أن يتبين كذبه، وهو مصدق في ذلك مع يمينه ما لم يتبين كذبه إلّا أن يطول الأمرُ فلا يكون عليه يمين، هذا معنى قوله في الرواية: ولا أرى عليه يمينا في ذلك، وليس الحادث في ذلك مثلَ القديم، يريد أنّ القديم يصدّق فيه بلا يمين، والحادث يصدق فيه مع يمينه، وقد وقع في بعض النسخ فإنه ليس له أن يأخذه لنفسه ولا لولده ولا أن يحابي منه أحدا من الناس، وذلك بين في المعنى، وقد مضى في أول مسألة من السماع القولُ على بقية المسألة فلا معنى لإِعادة ذلك وبالله التوفيق.
[: ولي اليتم إن كان في حجره وكان لليتيم غنم ودابة أيشرب من لبنها ويركب دابته]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وقال في ولي اليتم: إنْ كان في حجره وكان لليتيم غنم ودابة أيشرب من لبنها ويركب دابته؟ قال: إن كان للبن ثمن وهو في موضعِ له ثمن، فلا أحبه وإن كان في موضع ليس له ثمن فلا أرى به بأساَ(12/456)
وأما دابته فلا أحب له أن يركبها ولا أحب له إن كان له مال عنده أن يستسلفه.
قال محمد بن رشد: اتفق أهلُ العلم جميعا على تحريم أكل مال اليتيم ظلما وإسرافا وعلى أن ذلك من الكبائر لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] ، واختلفوا في القدر الذي يجوز للأوصياء من ذلك ويسوغ لهم لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] ، فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يجوز للوصي أن يأكل من مال يتيمه إلاّ بقدر استغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه إن كان محتاجا إلى ذلك، قاله محمد بن المواز في كتابه عمن حكاه عنه من أهل العلم، وذلك على ما جاء عن عبد الله بن عباس، أنه قال للذي جاءه فقال له: إن لي يتيما أفأشْرَبُ من لبن إبله؟ قال ابن عباس: إن كنتَ تبغي ضالة أبله وتلي حرصها وتسقيها يوم وُرُودِها فاشرب غيرَ مُضِر بنسل ولا ناهِكٍ في الحلب، وأما إن كان غنيا عن ذلك فلا يفعل؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] ، وقد قيل: أن للغني أن يأكل منه بقدر قيامه عليه وخدمته فيه وانتفاع اليتيم به في حسن نظره له، فإن لم يكن له في ماله خدْمة ولا عمل سوى أنه يتفقدُه ويشرف عليه لم يكن له أن يأكل منه إلّا ما لا ثمن له ولا قدر لقيمته مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه على ما قاله في هذه الرواية ومثلُ الفاكهة من ثمر حائطه على ما قاله في أول سماع أشهب من كتاب الجامع، ولا يركب دوابه ولا ينتفع بظهر إبِلِه ولا يستسلف من ماله ومن أهل العلم من ذهب إلى(12/457)
أن لولي اليتيم إذا كان فقيرا أو احتاج أن يأكل من مال يتيمه بغير إسراف ولا قضاء عليه فيما أكل منه، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] . واختلف في معنى ذلك، فقيل: هو أن يأكل من ماله بأطراف أصابعه ولا يكتسي منه، وقيل: هو مَا سَدّ الجوع وَوَارَى العَوْرَةَ ليس لبس الكتانِ ولا الحُلَلَ، وقيل: هو أن يأكل من ثمره ويشرب من رسل ماشِيته بقيامه على ذلك.
وأما الذهب والفضة فليس له أخذ شيء منها إلّا على وجه القرض، وقيل: له أن يأكل من جميع المال وإن أتى على المال وليس عليه قضاء، وقيل: معنى قوله عز وجل: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] هو أن يأخذ من ماله قدر قوته قرضا فإن أيسر بعد ذلك قَضَاهُ، روي هذا القول عن سعيد بن المسيب، وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إني أنزلت مال الله مني بمَنْزِلَةِ مال اليتيم إن استغنيت استعففتُ وإن افتقرت أكلتُ بالمعروف فإذا أيسرتُ قضيته وبالله التوفيق.
[مسألة: قال ثلثي في سبيل الله وفي المساكين وفي الرقاب]
مسألة وقال: من قال: ثلثي في سبيل الله وفي المساكين وفي الرقاب، أو في سبيل الله وحدهُ أو لفلان ثلثي وحدهُ ولفلان مائة دينار، أو قال: في سبيل الله أو في المساكين أو في الرقاب أو في سبيل الله ولفلان ثلث مالي، قال: يعارلون الذي سمى له المائة.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إن الوصية بالجزء والتسمية يحاص بينهما ولا يبدأ أحدهما على الآخر سواء كانت التسمية لمعين والجزء لغير معين في وجه واحد أو في وجوه شتى أو كان الجزء لمعين(12/458)
والتسمية لغير معين في وجه واحد أو في وجوه شتى.
ومثله في رسم الوصايا الأول من سماع أشهب، وفي رسم الكبش من سماع يحيى، وروى ذلك أيضَاَ علي بن زياد عن مالك، وذلك إذا أبهم التسمية ولم يقل فيها إنها من الثلث مثل أن يقول عشرة دنانير من ثلثي لفلان أو في وجه كذا منه ولفلان أو في وجه كذا ثلثي أو قال لفلان أو في وجه كذا ثلثي ولفلان أو في وجه كذا منه عشرة دنانير فإن التسمية تبدأ قاله في رسم الوصايا المذكور، ولا خلاف في ذلك إذا أتى بمن قدمها أو أخرها إلّا أنه إذا أخرها كان الأمر في التبدية آكد.
وقد روي عن مالك: أن التسمية تقدم على الجزء، وروي عنه أن الجزء يقدم عليها، فهي ثلاثة أقوال لمالك إذا لم يأت في ذلك بمن وبالله التوفيق.
[مسألة: وجد فيما أوصى به على رجل منهم حق هو أكثر مما أوصى به]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى عند موته بما كان له وعليه، فوُجدَ فيما أوصى به على رجل منهم حق هو أكثر مما أوصى به، أترَى أن يشتري ما قبله؟ قال: نعم ولعله أن يكون قد وَهِمَ فأرى أن يستبرئ ما قبله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا إشكال فيه والحمد لله.
[مسألة: ما تركه الميت من المال لا يفي بما أوصى به لجميعهم]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى لعمةٍ له بدين لها عليه ولقوم آخرين بديون والذين أوصى لهم من الأباعد لهم بها شهود وليس للعمة شهود، قال: لا يجوز في مثل هذا لِذَوِي الأرحام إلّا أن يكون لهم(12/459)
ثبت، فإن لم يكن لهم ثبت فإني أرى الأباعدَ ممن لهم ثبت أحَقّ بماله وإن كان ممن لا يتهم عليه من ذوي رحمه، وإن لم يكن لهم بينة فإني أرى ذلك لهم ثابتا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن ما تركه الميت من المال لا يَفِي بما أوصى به لجميعهم مثل أن يكون ترك مائتي دينار فأقر لرجلين أجنبيين بمائة ومائة ولعمته بمائة فإن كان للأجنبيين بينة على مالهما كانا أحق بالمائتين؛ لأن من عليه دين يغترف مَالَه، فلا يجوز إقراره لصديق ملاطف ولا من يتهم عليه من ذوي رحمه، وإن لم يكن لهما بينة على مالهما بما أقر لهما به خَاصَّتْهُمَا العمةُ في المائتين بما أقر لها به أيضا بمنزلة إذا كانت لكل واحد منهم بينة على ما أقر لهم به، إذْ لَا حجة للأجنبيين على الميت فيما أقر به للعمة إذا لم يكن لهما بينة، إذ لو شاء لم يقر لهما بشيء، وهذا بين إذا أقر لَهُمْ معا أو أقر للعمة قبلُ، وأما إذا أقر للأجنبيين قبلُ فيتهم أن يكون أراد أن تدخل العمة عليهما فيما قد تقرر لهما ووجب بإقراره لهما أولا.
[مسألة: قول الموصي وإذا مات فمرجوعه إلى ورثته]
مسألة وقال مالك في رجل أوصى بوصية وأوصى فيها بأن غلاما له يخدم فلانا ما عاش، فإذا مات فَمَرْجُوعُهُ إلى ورثته، وأوصى أن فضلةَ ثلثه لفلان، فمكث الرجل الذي أخدم الغلام يسيرا، ثم مات، هل للرجل الذي أوصى له ببقية الثلث في العبد حق أم لا؟ قال مالك: إذا رجع العبد إلى ورثة الموصي كان للذي أوصى له لبقية الثلث.
قال محمد بن رشد: مثلُ هذا في رسم أسلم من سماع عيسى لمالك أيضا من رواية ابن القاسم.
وقال عيسى بن دينار من رأيه: لا شيء للموصى له ببقية الثلث في مرجع الغلام إذا قال الموصي فإذا مات فمرجوعه(12/460)
إلى ورثته، وجه قول مالك أن قول الموصي وإذا مات فمرجوعه إلى ورثته لا تأثير له فيما يوجبه الحكمُ؛ لأنه لو سكت عنه لكان مرجوعا إلى ورثته أي إلى حكم ماله المورث عنه بعد الوصايا بقوله: يخدمه ما عاش، فإذا رجع إلى ورثته على هذا الوجه وجب أن يدخل فيه الوصايا، فيكون للموصى له بقيةُ الثلث؛ لأنه بقيةُ الثلث، ووجه قول عيسى إتبَاع ظاهر لفظ المُوصي في قوله: إنه يرجع إلى ورثته؛ لأن الظاهر منه أن يرجع إليهم ملكا، ولما كان لو سكت عن هذا اللفظ كان للموصى له ببقية الثلث، أعتبر اللفظُ فلم يجعله ملغا لا حكم له، فقول مالك أصح من جهة المعنى، وقول عيسى أظهر من جهة اللفظ وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي لرجل بدين فيطلب فلا يوجد]
مسألة وسئل: عن رجل يُوصِي لرجل بدين فيُطْلَبُ فلا يُوجد، قال مالك: فيتصدق به عنه، ويقال: اللهم هذا عن فلان.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب المديان والتفليس، فقال فيها: فلا يوجد ولا يعرف معناه أنه لا يعرف موضعه؛ لأنه إذا لم يعرف فلا يصح أن يؤخذ ذلك، يفترق بين أن يكون الموصى له لا يُعْرَف أو يعرف فلا يُوجَدُ؛ فأما إذا كان لا يعرف فيفترق الأمر فيه بين أن يكون الموصي يورث بِوَلَد أوْ كَلاَلَةٍ، فإن كان يورث بولد جاز إقرارُهُ من رأس المال إن أوصى أن يتصدق به عنه أو يوقف له، فإن وقف فلم يأت له طالب تصدق به على ما قاله في سماع أبي زيد، واختلف إن كان يورث بكلالة، فقيل: إن أوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي له طالبٌ فذلك من رأس المال، وإن أوصى أن يُتَصَدَّق به عنه لم يقبل قوله، ولم يخرج من رأس المال ولا من الثلث، قال هذا في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، وقيل: إنه يكون من الثلث، وهذا القول(12/461)
قلم من كتاب المكاتب من المدونة، وقيل: إنه إن كان يسيرا جاز من رأس المال ووقف، فإن لم يأت له طالب، تصدق به، وإن كان كثيرا لم يكن في رأس المال ولا في الثلث.
قاله في سماع أبي زيد، ونحوه في أول رسم من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب.
وأما إن كان يعرف فطلب ولم يوجد فسواء كان الموصي يورث بكلالة أو ولد الوصيةُ جائزةٌ من رأس المال، ويوقف ما دام يُرْجَى وجوده فإن أيس منه تصدق به كما يُفعل باللُّقَطَةِ بعد التعريف فإن وجد صاحب الدين بعد التصدق غرمه له الذي تصدق به إلّا أن يشاءَ أن يُجِيزَ الصدقة وينزل على أجرها وبالله التوفيق.
[: يوصي للرجل بالعبد في وصيته وللعبد مال]
ومن كتاب البز قال: وسئل عن الرجل يوصي للرجل بالعبد في وصيته وللْعَبْدِ مال لمن ترى ماله؟ قال: إني لَا أرَى أن يكون شبيها بالعتق، وأن يكون مالُهُ لمن أوصى له به، قال: فقلتُ له: أفَتَرَاه مخالفا الصدقة والهبة إذا تصدق به أو وهبه؟ قال: نعم، إني لا أرى ذَلِكَ مخالِفا لهما.
قال ابن القاسم: وقد كان قال مالك قبل ذلك: هو مثلُ الهبة والبيع، ثم رجع فقال: أراه شبيها بالعتق وأن يسلم ماله للذي أوصى له به مع رقبته وثبت عليه، ورأيت مالكا مستحسنا له ومستبصرا فيه وهو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: اختلف قولُ مالك في العبد الموصى به فمرة رآهُ لِوَرَثة الموصي قياسا على البيع؛ لأن العبد الموصى به يخرج بالوصية من(12/462)
مِلْكٍ إلى ملك، فأشبه البيعَ، وهو أحد قوليه هنا، وقولُهُ في رسم الوصايا الأول من سماع أشهب بعد هذا، ومرة رآه للمُوصى له به قياسا على العتق، بخلاف البيع، لَمّا كَانت الوصيةُ على سبيل المعروف كالعتق، ولم يكن على سبيل المُكَايسَةِ كالبيع، وهو أحدُ قوليه ها هنا وقولُهُ في رسم العرية من سماع عيسى بعد هذا وَلَم يختلف قولهُ في الصدقة والهبة: أن المال فيهما يبقى للواهب والمتصدق كالبيع، فلا يكون تبعا للعبد كما هو في العتق إلّا أنّ الخلاف يدخل فيهما بالمعنى قياسا على الوصية؛ لأنهما أيضا من ناحية المعروف كالوصية وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بثلثه ويوصي فيه بوصايا فتدعي امرأته حملا]
مسألة وسئلِ مالك: عن الرجل يوصي بثلثه ويوصي فيه بوصايا فتدعي امرأتُه حَمْلا أترى أن تُؤَخر الوصايا حتى تضع ويستبرأ ذلك منها؟ قال: نعم، إني لأرَى أن يؤخر ذلك.
قال أشهب: تنفذ الوصايا من ثلثه قبل وضع الحمل، وخالفه أصبغ، وقال بقول مالك في سماع أصبغ من كتاب الكراء والأقضية.
قال محمد بن رشد: قولُ أشهب وأصبغ ليس في جميع الروايات، وفي المبسوط لابن نافع عن مالك مثلُ قول أشهب، قال: يعطي صاحب الثلث الثلث، وتؤخر قسمة الورثة حتى تضع المرأة، وقال ابن أبي أويس عن مالك: أرى أن تؤخر الوصايا حتى تضع المرأة ويستبرئ ذلك.
وقال محمد بن مسلمة مثل ذلك، وقال: لأنَما يهلك من يهلك من رأس المال وما زاد في رأس المال، فيكون ما أخذ الموصى له قد استوفى على غير ما أخذوا، وهو تعليل صحيح بين؛ لأن المال إن تلف في التوقيف بعْدَ تنفيذ الوصايا وجب(12/463)
للورثة الرجوعُ على الموصى لهم بثلثي ما قبضوا، ولعل ذلك قد فات بأيديهم وهم غرماء فيخسروا.
والاختلافُ في هذه المسألة جارٍ على الاختلاف في الموصى له بالثلث يَطْرَأ على الورثة بعد اقتسامهم التركة هل يكون حكمُهُ حكمَ الغريم يطرأ على الورثة وحكم الوارث يطرأ عليهم، فعلى القول بأن حكمه حكم الغريم يطرأ على الورثة يعطي صاحبُ الثلث الثلثَ، ويوقف سائرُ المال للورثة حتى يوضع الحمل، فيكون النِّماَءُ لهم والضمانُ عليهم لا يرجعون على صاحب الثلث بشيء إن تلف المال، ولا يرجع صاحبُ الثلث عليهم بشيء إِنْ نَمَا المالُ وعلى القول بأن حُكْمَهُ حكمُ الوارث يطرأ على الورثة يوقف جميعُ المال حتى تضع الحمل، ولا يُعَجل للموصى له بالثلث كما لا يعجل للأب السدس إذا مات ابنه وله ولد وامرأته حامل، ولا لامرأته الثمنُ حتى يوضع الحمل وان كان للأب السدس وللزوجة الثمن على كل حال وضع الحمل ذكرا أو أنثى وإن فشا فإن عجل الورثة للموصى له بالثلث الثلثَ ووقفوا بقية المال فتلف قبل أن يوضع الحملُ- وجب على قياس هذا القول أن يرجع الوارث على الموصى له بثلثي الثلث الذي قبض وإن نما المال رجع الموصى له عليهم بثلث النماء ولم يكن بينهم تراجع على قياس القول القول الثاني ولو كانت الوصية إنما هي بِعَدَدٍ من دنانير أو دراهم لوجب أن يعجل بتنفيذ الوصية وتُؤخر قسمة بقية المال حتى يوضع الحمل قولا واحدا إذْ لا اختلاف في أن الوصية بالعدد كالدين في وجوب إخْرَاجِهَا من التركة قبل القسمة لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ولا في استواء الحكم فيهما إذا طرأ بعد القسمة.
وقال ابن دحون: إنما وجب تأخير إنفاذ الوصايا حتى توضع الحمل؛ لأن القسمة لا تكون إلّا مع موجود، فإذا احتيج إلى القسمة لتنفيذ الوصايا وجب أن تقسم التركة، ولا يقسم نصيب غير موجود، فلا بد من التأخير حتى يوضع الحمل، وهذا التعليل على قياس(12/464)
التعليل الأول؛ لأن القسمة لما كانت غيرَ صحيحة وجب أن يكون ما تلف أو نَمَا من الجميع، وفيه دليل على وجوبا أداء الدين قبل وضع الحمل؛ لأنه يخرج من رأس المال قبل القسمة، ورأيت في حواشي بعض الكتب، قال الباجي: شهدت ابن أيمن حَكَمَ في ميت مات وترك امرأة حاملا أنه لا يقسم ميراثه ولا يُؤَدَّى دينُهُ حتى توضع الحمل فأنكرت ذلك عليه، فقال: هذا مذهبنا ولم يأت ابنُ أيمن بحجة، والصحيح أن يُؤَدَى دينه ولا ينتظر وضع الحمل، ولا يدخل في هذا اختلاف قول مالك في تنفيذ الوصية قبل وضع الحمل؛ لأن العلة في تأخير تنفيذ الوصية إلى أن يوضع الحمل على قول من رأى ذلك هي أنّ بقية التركة قد تتلف في حال التوقيف قبل وضع الحمل فيجب للورثة الرجوع على الموصى لهم بثلثي ما قبضوا ولعلهم معدمين أو غير معدمين فلا يجدون على من يرجعون.
وأما تأخير أداء الدين حتى يوضع الحمل فلا علة توجبه، بل توجب ترك التوقيف وتعجيل أداء الدين مخافة أن يهلك المال فيبطل حق صاحب الدين من غير وجه منفعة كان في ذلك للورثة وإذا وجب أن يقضي دينُ الغائب مما يوجد له من المال مع بقاء ذمته إن تلف المال الموجود له كان أحرى أن يؤدى الدين عن الميت من تركته لوجهين؛ أحدهما: أن الميت قد انقطعت ذمته.
والثاني: أنّ الحمل لا يجب له في التركة حق حتى يولد ويستهل صارخا، ولو مات قبل ذلك لم يورث عنه نصيبُهُ، والغائب حقه واجب في المال الموجود له لو مات ورِثه عنه ورثتهُ، فإذا لم ينتظر الغائب مع وجوب المال الذي يؤدى منه الدين الآن له، كان أحرى ألّا ينتظر الحمل إذ لم يجب له بعد في التركة حق، ومن قول ابن القاسم في المدونة وغيرها أنّ من أثبت حقا على صغير قُضِيَ له به عليه ولم يجعل للصغير وكيل يخاصم عنه في ذلك، فإذا قضي على الصغير بعد وضعه من غير أن يقدم له وكيل فلا معنى لانتظار وضع الحمل لِتَأدِيَةِ دين الميت، وهذا كله بين لا ارتياب فيه ولا إشكال والحمد لله.(12/465)
[مسألة: حضرته الوفاة فقال قد أوصيت ووضعت وصيتي على يدي فلان]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حضرته الوفاة فقيل له: أَوْص، فقال: قد أوصيت وكتبت وصيتي ووضعتها على يدي فلان فأنفِذواُ ما فيها فتوفي الرجل وأخرج الذي قال المتوفى قد وضعتها على يديه الوصيةَ وليس فيها شهود إلّا ما شهد على قوله من ذلك: أنه قال: قد وضعتها على يدي فلان فأنفذوا ما فيها.
قال مالك: أرى إن كان الرجلُ الذي ذكر أنها عنده عدلا أن ينفذ ما فيها.
قال ابن القاسم: وذلك رأي، قال العتيبي عن سحنون: الوصيةُ جائزةٌ عدلا كان أو غير عدل، قال يحيى: قلتُ لابن القاسم: لِمَ جوزها مالك ولم يُشْهَدْ عليها بعينها ولم يَشهد عليها إلّا الذي كانت عنده؟ قال: أراه بمنزلة الذي يوصي فيقول: قد أوصيت بوصايا أعملت بها فلتنفذ فما أخبركم أني أوصيت به فهي وصيتي فلينفذ ما فيها، فيكون ذلك ماضيا، وبمنزلة الرجل يوصي بديون لهم عليه، فيقول: قد كنت أدَايِنُ فلانا وفلانا فما أدعوه قِبَلِي فهم فيه مصدِّقون، فيكون ذلك لهم بلا يمين يستحلفون بها على ما ادعوا.
قال محمد بن رشد: اشتراطُ مالك العدالةَ في الذي قال الميت: إنه وضع وصيتَه عنده إذا أخرجها فقال هذه هي، وليس عليها شهود خلافُ ظاهر ما في المدونة والموازية في الذي قال: قد كتبت وصيتي وجعلت عند فلان فصدقوه وأنفذوا ما فيها أنه يصدق وينفذ ما فيها إن لم يشترط في ذلك عدالة مثلُ قول سحنون، وقولُه هو القياس إذ لا حجة للورثة عليه في الثلث، فله أن يجعل التصديق فيه إلى عدل وغير عدل، وقول مالك ها هنا في اشتراط العدالة استحسانٌ، وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات ما فيه بيان هذا فقف عليه.(12/466)
وقولُهُ في الذي قال: كنت أدَايِنُ فلانا وفلانا فما ادعوه قِبَلِي فهم فيه مصدقون إنّ ذلك يكون لهم دون يمين يستحلفون بها خلافُ قوله في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس في إيجابه اليمين في ذلك، واختلافُ قوله في هذا على الاختلاف في لحوق يمين التهمة إذ لم يسقط الميت عنهم اليمينَ وإنما قال: إنّهم يصدقون ولم يقل بيمين ولا بغير يمين، ولو قال: إنهم يصدقون بغير يمين لَمَا سَقَطَ عنهم بإسقاطه إياها عنهم على ما مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم حسبما بيناه وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن يشترى له رقبة بثلاثين دينارا فتعتق عنه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى أن يشترى له رقبة بثلاثين دينارا فتعتق عنه فسام الوصيُ بغلام فأبى سيدُه أن يبيعه إلّا بأربعين دينارا، فقال له أخ للغلام حر: بعه وأنا أعطيك عشرة دنانير، ولم يعلم بذلك الوصي فباعه وأعتقه، ثم علم الوصي بعد ذلك، فقال: إني لأرَى له في ذلك متكلما، فقيل له: فما تقول فيه؟ ما يتبين لي فيه شَيْءٌ قال ابن القاسم: أخبرني من أثق به عن ابن هرمز ومالك أنهما رأيا جميعا أنه عيب من العيوب يرجع به المشتري على البائع فيأخذه من الثمن.
قال ابن القاسم: وتفسيرُ ذلك أن ينظر كم ثمنُه بغير شرط العتق وكم ثمنه لو شرط فيه العتق؟ فينظركم بين القيمتين، فإن كان ذلك ربعا أو خمسا أو سدسا رجع إلى الثمن فأخذ بقدر ذلك من البائع، بمنزلة ما لو باعه وعليه دين وله امرأة أو ولد أو به عيب.
قال محمد بن رشد: قولُ مالك وابن هرمز من أن ذلك عيب يجب الرجوع للمشتري على البائع صحيحٌ؛ لأن الذي زاد العشرة دنانير قد شاركه(12/467)
في العبد الذي أعتق بربعه إذْ ودى رُبع الثمن إلى البائع، فصار الوصي إنما أعتق عن الذي أوصى إليه ثلاثة أرباع العبد، وتفسيرُ ابن القاسم لصفة الرجوع بقيمة العيب لا وجه له، وإنما الذي يصح في ذلك ولا يجوز غيره أن يرجع المبتاعُ على البائع بِرُبع الثلاثين التي دفع إليه؛ لأن الذي زاد العشرة قد شاركه في العبد بربعه فصار بمنزلة من اشترى عبدا فاعتقه ثم استحق منه ربعه فإنه يرجع على البائُع الثمن ويجعل ذلك في عتقٍ، وإن كانت الرقبة التي أوصى بها رقبة واجبة لم تجزه وضمن الوصي على مذهب أشهب، يغرم العشرين من ماله، واشترى رقبة أخرى فأعتقها عن الموصي، وَلَا شيء عليه على مذهب ابن القاسم في المدونة إذا لم يعلم، ويرجع بالعشرين على الورثة فيما بقي عندهم من ثلث مال الميت إن كانتَ بقيت عندهم منه بقية وبالله التوفيق.
[مسألة: الموصى أيقارض بمال يتيمه الذي أوصى إليه به]
مسألة وسئل مالك على الموصَى أيقارض بمال يتيمه الذي أوصى إليه به؟ قال: نعم لا بأس به ولا ضمان عليه فيه إن هلك إذا كان قد دفعه إلى أمين والوصي ينظر لمن يليه ومن اليَتَامَى مَنْ أموالُهم الغنم من أهل البادية فيمسكها لهم، ولو باعها أكلوا ثمنها، فيقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] يخلط طعامه بطعامه وزرعه بزرعه وماشيته بماشيته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن للوصي أن يدفع مال يتيمه مضاربة؛ لأنه ينظر له بما ينظر لنفسه، وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة) ومثل هذا في الرهون من المدونة أن الوصي يتجر لليتيم بماله أو يقارض له به، ويكره له أن يعمل هو(12/468)
به مضاربة قال في الزكاة من تفسير ابن مزين: فإن عمل به بقراض مثله جاز ولم يكن عليه فِيه ضمان إذا تلف، وإن عمل به بأكثر من قراض مثله فغبن اليتيم في ذلك رد إلى قراض مثله وضمن المالَ إن تلف، قال يحيى بن إبراهيم: قولُه في الضمان ضعيف.
[: يوصي بالوصية في مرضه ثم يصح من ذلك المرض ثم يمرض فيموت]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا وسمعتُ مالكا يقول في الرجل يوصي بالوصية في مرضه أو عند سفره فيقول: إن أصابني في سفري هذا أو مرضي هذا موتٌ فجاريتي حرة، ويوصي بوصايا ثم يصح من ذلك المرض أو يقدم من ذلك السفر ثم يمكث حينا ثم يمرض فيموت وتوجد تلك الوصية بعينها ولم يذكر لها ذكرا عند موته ولا تغييرا ولا إجَازَة، قال مالك: أرَاها جائزة، قلت لَهُ: فإن أوصى بوصية أخرى ولم يذكر نقضا لتلك؟ قال مالك: يجوزَانِ جميعا إلّا أن يكون في الأخرى مَا يَنقض الأولى فيؤخذ بالآخرة.
قال مالك: وإن كان في الأولى وصيةٌ لرجل وله في الأخرى مثلُ ما سمى له في الأولى فليس له إلّا في موضع واحد، وإن اختلفَ العَدَدَانِ أخذ له بالأكثر قال مالك: وإنما أكثر ما يوصي به الرجل عند سفر أو مرض ثم يصح من مرضه أو يقدم من سفره فيقرها كما هي ويرى أن له وصية أخرى موضوعة قد فرغ منها ووثق بذلك فلا أراها إلّا جائزة، وقد قال مالك في كتاب باع سلعة سماها: إنها لا تجوز إلّا أن يكون أخرجها من يده وجعلها على يدي غيره ولم يأخذها من يده حتى مات، قال سحنون: وهذا القول من قوله أحسن.(12/469)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول رسم من السماع فلا معنى لِإعادته حيث ما تكررت وبالله التوفيق.
[: شهادة الشاهدين في الوصية]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك: عن رجل أوصى في مرضه وأوصى إلى ثلاثة نفر مع امرأته وأحدهم غائب فشهد الوصيان أن هذه الوصيةَ وصيتُه ولم يشهد عليها غيرُهما وقد كان أوصى لهما في الوصية بشيء، قال مالك: ينظر إلى حالهما وإلى ما أوصى لهما به فإن كان الذي أوصى لهما به يسيرا لا يتهمان على مثله لم أرَ أن ترد بذلك شَهَادَتُهما ورأيتها جائزة.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية شهادةَ الشاهدين في الوصية إن كان الذي أوصى لهما به يسيرا مع أنه أوصى إليهما، فالظاهر من قوله أنه لم يَرَ ذلك تهمة في شهادتهما ومثلُه في المدونة سواء، والمنصوص له فيها أنه لا تجوز شهادةُ الموصى إليه وإن كان طالب الحق غيرَه، وعلى هذا يأتي قولُ سحنون في آخر كتاب الأقضية، وفي سماع أبي زيد من هذا الكتاب إجازةُ الشهادة مثلُ ما يَقُومُ من هذه الرواية، وقولُه: إن كان الذي أوصى لهما به يسيرا لا يتهمان عليه لم أرَ أن تُرَدّ شهادتُهما هو المشهور في المذهب أن شهادة الموصى له بشيء يسير في الوصية جائزة، وقد قيل: إنها لا تجوز، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، واختلف على القول بإجارتها، فقيل: إنها تجوز له ولغيره، وقيل: إنها تجوز لغيره ولا تجوز له، وقيل: إن كان معه شاهدٌ غيرُه جازت له ولغيره وإن لم يكن معه شاهد غيره جازت لغيره ولم تجز له، وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة، وقد مضى شرح هذا كله وبيانُه في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب الشهادات وفي مسألة أفردناها في(12/470)
التكلم على هذا المعنى وما يتعلق به فلا معنى لِإعادة القول في ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: المسلم يهلك ويترك خمرا في تركته ويوصي لرجل كيف يصنع بها]
مسألة وسئل مالك: عن المسلم يهلك ويترك خمرا في تركته ويوصي لرجل كيف يُصْنَعُ بها؟ قال: لا أرى أن يَكْسِرَهَاّ حتى يأتي بها السلطان فيعمله بذلك خوفا ممن يأتي بعده أن يُضمنه، وقد قال مالك في الخنزير يقتل.
قال محمد بن رشد: إنما قال في الخنزير: إنه يقتل دون أن يرفع الأمر في ذلك إلى السلطان، وإن الخمر لا يكسرها حتى يرفع الأمر في ذلك إلى السلطان؛ لأنّ الخنزير لا اختلاف في وجوب قتله، والخمر قد اختلف في جواز تخليلها وترك كسرها إذ قد قيل: إن المنع من تخليلها عِبَادَةٌ لا لِعِلة، وقيل: إنما منع من ذلك لَعَلّه ممن قال: إن المنع من ذلك إنما هو لعلة إجازته في الموضع الذي ترتفع فيه العلة، وقد اختلف في العلة ما هي؟ فقيل التعدي والعصيان في اقتِنَائِهَا، فعلى هذا القول يجوز لمن تخمر له عصير لم يرد به الخمر أن يُخلله، وقيل: بل العلة في ذلك التهمةُ لمُقتنيها ألّا يخللها إذا غاب عليها فعلى هذا القول يجوز لمن اقتنى خمرا ثم تاب أن يخللها، فعلى هذين القولين لا يجوز للوصي أن يهريق الخمر إذا وَجَدها في تركة الميت ويجب عليه أن يخللها، فلهذا رأى مالك للوصي ألّا يكسرها إلّا بِأمْرِ السلطان لئلا يُضَفَنَ إياها على هذين القولين إن كان مَذهب الحاكم الذي يرتفع إليه الأمر أحدهما، وسيأتي في سماع عبد الملك القولُ في الشطرنج يجده الوصي في تركة الميت وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عند موته وصيتي عند فلان فلما مات أخرج الوصية فإذا هي عتق وغيره]
مسألة وسئل مالك: عن رجل قال عند موته: وصيتي عند فلان رجل(12/471)
سماه وأشهد على ذلك، فلما مات أخرج الوصية فإذا هي عتق وغيره.
قال مالك: لا أرى مثل هذا إلّا جائزا وأبينُ ذلك لو كتب وصيتين ووضع عند كل رجل وصية، فإذا مات جازتا إذا اتفقتا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم البز، وقد مضى الكلام عليها وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بعتق رقيقه ولرقيقه رقيق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى بعتق رقيقه ولرقيقه رقيق، قال مالك: يعتق رقيقه ويقر رقيق رقيقه مماليك بأيديهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه على مذهبه في العبد يملك، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من باع عبدا وله مالُ فماله للبائع إلّا أن يشترطه المبتاع» فأضاف المال إليه إضافة الملك، وَلِذَلك يَطَأُ بملك يمينه، إذ لو لم يكن مالكاَ ليمينه لَمَا جاز له الوطء بملك يمينه؛ لِأن الله تعالى لم يبح الفرج بما عدا النكاح وملك اليمين، ومال العبد تبع له في العتق، بخلاف البيع، فوجب إذا أعتق عبدَه وله عبدٌ أنّ عبده يبقى بيده رقيقا له، وكذلك إذا أوصى بعتقه، وكذلك قال في المدونة: إن الرجل إذا حلف بعتق عبيده لا يعتق عليه عبيد عبيده، ولا يدخل الاختلافُ في هذه المسألة من قوله إن العبد إذا مَلَك من يُعتق على سيده يعتق عليه، وإن الرجل إذا حلف لّا يركب دابة فركب دابة عبده أنه حانث، ومن حمل ذلك على أنه اضطراب من قول مالك في أن العبد يملك فقد أخطأ، وليس هذا موضع التكلم على الفرق بين الموضعين وإنما يعتق رقيقُ الرقيق إذا أوصى بعتق الرقيق على مذهب الشافعي وأبي حنيفة في أن العبد لا يملك، وأن جميع ما بيده ملك لسيده فلا يجوز له على مذهبهما الوطء بملك يمينه، ويزكي السيدُ مالَه مع مالِه وبالله التوفيق.(12/472)
[: هلك ولابنه إبل فكانت إبله عند رجل فجاء أولياء الصبي فقالوا نبيع حيوانه فإنه صغير]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت قال: وسئل عن رجل هلك ولابنه إبل فكانت إبلُهُ عند رجل فجاء أولياءُ الصبي فقالوا: نبيع حيوانه فإنه صغير والحيوانُ تتلف والدنانير خير له، فقالت أمه ومن هو منه بسبيل: تُقَرُّ إبله ولا تباع، ويباع من رقابها ما يكون فيه نفقته.
قال مالك: من الناس من أصل ماله وعُهْدَتُهُ ومن يرى الناس له فيه الخير والنماء الماشيةُ، أولئك أهل العمود من أهل البادية، وليس يؤمر أولئك وهم صغار كلما هَلَكَ منهم هالك وترك ولدا صغيرا أن يبيعوا ماشيتهم، وينظر في ذلك فإن كانت الِإبل أمثلَ للغلام فيما يرى أهلُ العلم والمعرفة بذلك، وكان هو من أهل المواشي الذين يتخذونها أُمْسِكَتْ له وإن أراد غير ذلك، فليتبع الذي هو خير للغلام.
قال محمد بن رشد: هذا من وجه النظر لليتيم بين على قاله مالك فلا وجه للقول فيهِ بالله التوفيق.
[مسألة: يهلك فيوجد في بيته وصية ورجلان يشهدان أنه كتابه بيده]
مسألة وسئل: عن الرجل يهلك فيوجد في بيته وصية ورجلان يَشْهَدان أنه كتابه بيده.
قال مالك: لا تجوز وصيتُه وعسى أن يكون لهم يعزم على ذلك وإنما كتبها ووضعها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الرجل قد يكتب(12/473)
وصيته وهو متوان فيها غيرَ عازم على إنفاذها ولا يتبين عزمه على إنفاذها إلاّ بالإشهاد على ذلك أو على وضعها على يدي أحد، وكذلك الطلاق والصدقة إذا كتب الرجل طلاق امرأته بيده وأمسكه عند نفسه ولم يشهد عليه لا يؤخذ منه ويصدق في أنه لم يكتب مجمعا على الطلاق وإنما كتبه ليستشير وينظر، فإن رأى أن ينفذه أنفذه، وإن رأى ألّا ينفذه تركه، وإذا كتب بالصدقة كتابا بيده وأمسكه عند نفسه ولم يشهد عليه لا يؤخذ به، ويصدق في أنه إنما كتب ليستشِير في ذلك وينظر على ما قاله في أول رسم من سماع أشهب من كتاب طلاق السنة، فإن أرسل الكتاب بالطلاق أو الصدقة لزمه ذلك، وكان بمنزلة الِإشهاد ولم يصدق إن أرَاد أن يرده قبل أن يصل وزعم أنه إنما أرسله على أن يرده إن شاء على ما في سماع أشهب خلافُ مذهبه في المدونة وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لوارث بما مرجعه إلى غير وارث]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة أوصت بأن جاريتي تخدم ابني حتى يبلغ ثم هي حرة فقيل لها: إن هذا لا يجوز، فقالت: إن كان لا يجوز فثلثي يحج به عني.
قال مالك: يجوز أمرُ الجارية وتكون الخدمة بين الورثة حتى يبلغ الولد وتعتقه، قال أصبغ: فإن مات الغلام قبل بلوغه نظر فإن كانت من رقيق الحضانة عتقت وإن كانت من وغد الخدم خدمت الورثة إلى مبلغ الغلام ثم عتقت، وإن ماتت الخادم قبل بلوغ الغلام وتركت مالا فهو بين الورثة على كتاب الله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها من أن من أوصى لوارث بما مرجعه إلى غير وارث يدخل معه الورثة فيما أوصى به للوارث إلى أن يرجع إلى غير الوارث، وأن من أوصى لابنه أو لغيره بخدمة عبد حياته أو سنين معلومة أو حتى يبلغ ثم هو حر فمات(12/474)
قبل أن يبلغ أو قبل انقضاء السنين أنه يعجل له العتق وإن كان من عبيد الحضانة وإن كان من عبيد الخدّمة لم يعتق حتى ينقضي أمَد الخدمة بحد بلوغه أو انقضاء السنين وتكون الخدمة لورثته وبالله التوفيق.
[: يوصي بثلثه لمواليه أو لبني عمه فيهلك أحد منهم ويولد آخر قبل أن يجمع المال]
ومن كتاب نذر سنة يصومها وسئل مالك: عن رجل يوصي بثلثه لِمَوَاليه أو لِبَني عمه فيهلك أحد منهم ويولد آخر قبل أن يجمع المال على من ترى أن يقسم المال؟ على الذين كانوا أحياء يوم مات الموصى أو على الذين يدركهم القسم؟. قال: بلى، على الذين يدركهم.
قال محمد بن رشد: هذا على أحد قولي ابن القاسم في المدونة يوصي لأخواله وأولادهم مرة حَكَمَ لهم بحكم المُعَيّنِين، فقال: إن المال يقسم بينهم بالسواء. فعلى هذا يكونُ القسمُ على من كان منهم حيا يوم مات الموصى ويكون حظ من مات منهم لورثته، ومرة حكم لهم بحكم المساكين فقال: يقسم بينهم بالاجتهاد على من كان حيا منهم حين القسمة، ومن مَات قبل القسمة لم يكن له شيء، وقد مضى هذا في الذي يوصي لقرابته في أول رسم، وسيأتي هذا المعنى أيضا في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ، وانظر مسألة رسم الوصايا المتقدمة في سماع أصبغ وما ذكرنا من المعنى فيها وتدبر ذلك كله وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي وهو يريد الغزو فيستأذن ورثته في أكثر من ثلثه فيأذنون له]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يوصي وهو يريد الغزو فيسِتأذن ورثَتَه في أكثر من ثلثه فيأذنون له أترى ذلك جائزا له عليهم إن مات؟(12/475)
قال: نعم، فقيل له: والذي يريد سفرا فيستأذن ورثته فيوصي في أكثر من ثلثه فيموت أترى أن يجوز ذلك؟ قال: نعم، وأراه مثل المريض.
قال ابن القاسم: وذلك رأيي.
قال أصْبغ: وسمعت ابن وهب يقول في رجل أراد سفرا فاستأذن بعض ورثته في أن يهب له ميراثه منه ففعل ثم مات في سفره: إنّ لهم أن يرجعوا ولم يره مثلَ المريض، وقال لي: قد كنت قلتُ غيرَ هذا ثم رجعت إلى هذا.
قال أصبغ: وذلك الصواب وهو مثل الصحيح يستأذن في العول، وهذا أصح، قال أصبغ: المسافرُ يصنع في سفره ما شاء ولم يره مثل المريض، يريد في حجب ماله عنه إن أراد أن يبتل وينفذ.
قال محمد بن رشد: حَكَمَ مالك وابن القاسم في هذه الرواية لما فعله المسافر عند إرَادة الغزو أو السفر بحكم المريض فأمضيا عليهم ما أذنوا له به من الوصية بأكثر من ثلث ماله إن مات في سفره ذلك، وذلك من قول ابن القاسم خلافُ قوله في سماع عبد الملك بن الحسن من أن من حَضَرَ خروجه إلى حج أو غزو أو سفر من الأسفار فأقر بدين لزوجته أو لبعض ولده أو تصدق على ابنه الصغير بصدقة أن ذلك كلّه جائز وإن مات في سفره ذلك؛ لأنه حكمَ له فيما فعله من ذلك كله بحكم الصحة، فلم يتهمه في إقراره للوارث ولا في صدقته على ابنه مثل قول ابن وهب الذي رجع إليه في الذي أراد سفرا فاستأذن بعض ورثته في أن يهب له ميراثه ففعل يريد فقضى فيه بأن صرفه إلى بعض الورثة أو غيرهم أنّ لهم أن يرجعوا ولم يره مثل المريض، وأما لو لم يقض فيه المَوْرُوثُ بشيء لَمَا اختلف فيه حكم الصحة والمرض، ولَكان لهم أن يرجعوا في ذلك، وإن كان في المرض على ما قاله في الموطأ، وقولُ أصبغ مثل قول ابن وهب الذي رجع إليه ومثلُ قول ابن القاسم في سماع عبد الملك؛ لأنه لم يتهمه بالسفر وحكم له فيما فعله عند إرادته إياه بحكم الصحة في جميع الأشياء وبالله التوفيق.(12/476)
[مسألة: الوصية لليهود والنصارى]
مسألة قال ابن القاسم: وكره مالك الوصية لليهود والنصارى، قال سحنون: قال ابن القاسم: وكان قبل ذلك يجيزه ولست أرى به بأسا إذا كان ذلك على وجه الصلة مثلَ أن يكون أبوه نصرانيا أو يهوديا أو أخوه أو أخته فيصلهم على وجه صلة الرحم فلا أرى به بأسا وأراه حسنا، وأما بغير هذا فلا، وفي رواية عيسى بن دينار وسئل ابن القاسم عن هذا، فقال: لا أرى به بأسا لمثل أمه وأبيه وإخوته وما أشبه ذلك القرابة، وأما الأباعد فلا يعجبني ذلك وَلْيَعْطِفْ به على أهل الإِسلام. قال محمد بن رشد: حَدُّ الكراهة ما في تركه ثواب وليس في فعله عقاب، فمعنى كراهية مالك الوصية لليهود والنصارى هو أن يؤثرهم بالوصية لقرابته منهم على المسلمين الأجنبيين، فرأى الوصية للمسلمين الأجنبيين أفضل من الوصية لقرابته الذميين.
وقولُه: وكان قبلَ ذلك يجيزه معناه من غير كراهة لما جاء في صلة الرحم من الأجر، والوجهُ في ذلك أنه لم يترجح عنده على هذا القول الأفضل من الوجهين، فأجازه من غير كراهة وهي رواية ابن وهب عنه أن الوصية للكافر جائزة، واحتج بالحُلّةِ التي كساها عمَرُ أخا له مشركا بمكة، وهو الذي ذهب إليه ابن القاسم في رواية عيسى عنه، وقوله قبل ذلك وأراه حسنا قولٌ ثالث في المسألة، وأنه رأى الأجر في الوصية لصلة رحمه وإن كانوا ذميين أكثر من الأجر في المسلمين الأجنبيين.(12/477)
وأما الوصية للأباعد من الذميين فلا اختلاف في كراهة ذلك، لأن الوصية للمسلمين أفضل فالكراهة إنما تتعلق بإيثار الذميين على المسلمين لا بنفس الوصية للذميين؛ لأن في ذلك أجرا على كل حال، ففي موطأ ابن وهب عن مالك فيمن نذر صدقة على كافر أن ذلك يلزمه، وقال في موضع آخر: إن قال مالي صدقة على فقراء اليهود أن ذلك يلزمه يتصدق عليهم بثلث ماله، وقد قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] . والأسير الكافر، فإذا أوصى إليهم شفقة عليهم لفقرهم جاز ذلك على كراهة؛ لأن الأجْر في الصدقة على فقراء المسلمين أحرى، والإشفاق عليهم ينبغي أن يكون أكثر، وقد أجاز أشهبُ الوصيةَ للذميين كانوا ذوي قرابة أو أجنبيين إجازة مطلقة دون كراهة، ومعنى ذلك في الأجنبيين والله أعلم إذا كان لهم حق من جوار أو يد سلف لهم إليه أو ما أشبه ذلك، وأما إن لم يكن لذلك سبب فالوصية لهم محضورة إذ لا يوصِى للكافر من غير سبب ويترك المسلمَ إلّا مُسلم سُوء مريض الإِيمان، قال الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [المجادلة: 22] إلى قوله: {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] وأما الوصية للحربي فإنها لا تجوز؛ لأن ذلك قوة لهم، ويرجع ذلك ميراثا ولا يجعل في صدقة ولا غيرها، وكذلك من أوصى بما لا يحل قال ذلك أصبغ في الوصية والله الموفق.
[: يقول عند الموت سلاحي في سبيل الله]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل: عن الرجل يقول عند الموت: سلاحي في سبيل الله أترى لِمَنْ أوصي إليه أن يجعله حبسا؟ قال: لا أرى ذلك له، ولكن يجتهد فيه.(12/478)
قال محمد بن رشد: قولُهُ: لا أرى ذلك له يحتمل أن يكون معناه لا أرى ذلك عليه، أي لا يجب عليه أن يحبسه في السبيل؛ لأن الموصي لم ينص على أن تحبس في السبيل ولا على أن تبتل فيه، وإنما أوصى تجعل فيه فرأى له أن يجتهد في وجه جعلها فيه بما يراه إن رأى أن يحبسها فيه حبسها، وإن رأى أن يبتلها فيه بتلها؛ لأن له قد يكون بمعنى عليه في اللسان، قال الله عز وجل: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي عليها، ويحتمل أن يكون له على بابها ويكون المعنى في ذلك أنه رأى أن يبتلها في السبيل ولا يحبسها فيه، إذ لم ينص الموصي على تحبيسها على القول بأن من أعطى فرسا أو سلاحا في السبيل، فهو محمول على التبتيل حتى ينص عَلَى التحبيس، وهو ظاهر ما في رسم طلق بن حبيب ورسم باع غلاما ورسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد، ويكون الاجتهاد الذي جعله إليه بقوله ولكن ليجتهد فيه ألّا يبتلها إلّا لمن فيه خير وله دين، وهو من أهل النجدة والنكاية في العدو والعمل في الجهاد، فإذا بتل السلاح الموصي بها في السبيل لمن هذه صفته كان له أن يقاتل بها وأن يبيعها على نفسه فيما يحتاج إليه في غزوه وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بصدقة دينار من غلة له كل سنة أن يشتري بها قمح ويطعم المساكين]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أوصى بصدقة دينار من غلة له كلّ سنة أن يَشتري بها قمحٌ ويطعم المساكين، أترى أن يعطي بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أو بمد هشام؟ قال: إن كان الطعام كثيرا فإنني أرى أن يعطي بمد هشام، وإن كان قليلا فبالمد الأصغر، فقيل له: فإنه أوصى مع ذلك أن يعطي المساكين درهما درهما لكل مسكين فَكَثُرَ(12/479)
المساكين على الرجل فأعطاهم درهما بين رجلين؟ فقال: ما أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: المعنى فيما قاله في الطعام بين في الاستحسان وذلك أنه لما أوصى بالطعام الذي يشترى بالدينار كان سبيلُ ذلك في قدر ما يعطي منه لكل مسكين سبيلَ الكفارات التي ذكر الله فيها الإطعام الكثير أن يعطي بمد هشام ككفارة الظهار، وفي الطعام اليسير بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ككفارة اليمين، ولو أوصى أن يشتري به قمحا فيتصدق به على المساكين ولم يكن الطعام لما حد فيه أن يعطي بمد هشام ولا بمد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولكان له أن يتصدق بجميعه على المسكين والمسكينين وأقل وأكثر على ما يراه بوجه اجتهاده.
وأما الذي أعطى درهما بين مسكينين وقد كان أوصى الميتُ أن يعطي درهم درهم لكل مسكين فقد أخطأ في مخالفته حَدّ المُوصِي في ذلك، إلا أنه لم يره خطأ يلزمه به الضمان فقال: ما أرى عليه شيئا أي لا أرى عليه غرما؛ لأن الذي فعل كان سائغا له أن يفعله والله أعلم.
[مسألة: يأكل الرجل من مال ابنه الصغير]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يكون لابنه المالُ قد ورثه من أمه الضيعة يكون له، فيأتيها أبوه يأكل منها، قال: لا بأس بذلك أن يأكل الرجل من مال ابنه الصغير من الضيعة يكون له يأتيها فينزل بها ويأكل منها، وإنما كان ورثها من أمه فلا بأس أن يأكل منها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] إلى قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] فإذا جاز للرجل أن يأكل من مال أبيه وأمه وأخيه وعمه وخاله(12/480)
وصديقه بغير إذنهم الشيء اليسير الذي لا يقع التشاح في مثله ويعْلَمُ بمستقر العادة أنهم لا يكرهون ذلك فأحرى أن يجوز ذلك للوالد في مال ولده الذي ورثه عن أمه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأبِيكَ» ألا ترى أنه قد جاز له فيما تصدق به على ابنه لهذا الحديث ما لا يجوز له فيما تصدق به على غيره، وقد مضى القولُ على ذلك مستوفى في رسم حلف ألّا يبيع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، والحمد لله رب العالمين.(12/481)
[: كتاب الوصايا الثاني] [نعي له عبد أبق ثم مرض فأوصى بثلث ماله ثم مات وجاء العبد الآبق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الوصايا الثاني
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
من كتاب البيوع الأول قال سحنون أخبرني أشهب وابن نافع قال: سئل مالك عمن نعي له عبد أبق أو ذكر له غرق سفينته، ثم مرض فأوصى بثلث ماله، ثم مات، وجاء العبد الآبق، وسلمت السفينة، أيدخل ذلك في ثلثه؟ فقال نعم، ليس يشبه هذا الذي يكون له مال لم يعلم به، قد ينعى للرجل العبد وهو يرجوه وهو يائس منه، فهذا يدخل في الثلث.
وفي كتاب الوصية للصغير، من سماع أشهب وابن نافع قال: فأما الذي له العبد الآبق، والجمل الشارد، والذي قد كان له أصله وعمله، فإنه إذا رجع، رجع في الثلث، فقيل له: أرأيت الذي يكون له المال الغائب مثل السفينة والعبد، فيقال: قد غرقت السفينة أو مات العبد حتى يتقين ذلك؟ فقال: إذا علم [أنه] لم يرده فلا يدخل في الثلث، فقيل له: مثل السفينة يقال له قد غرقت؟ فقال إذا كان هكذا فنعم، ولم ير أن ذلك يرجع في الثلث إذا جاءت سلامته، من أجل أنه كان منه يائسا. وفي رواية(13/5)
عيسى من كتاب المكاتب من سماعه: قال ابن القاسم: إذا كانت قامت عنده البينة، وشهد عنده قوم قبل الوصية أو بعدها أن العبد مات، والسفينة غرقت، والفرس مات، أو بلغه ذلك فطال زمانه، ويئس هذه، ثم جاء خبر ذلك من بعد موته أنه لم يذهب منه شيء، فلا يدخل فيه شيء من الوصايا وهو كمال طارئ لم يعلم به، وإن كان ذلك شيئا بلغه فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات، ولم يشهد عنده أحد بهلاكه، إلا خبر بلغه، فإن الوصايا تدخل فيه. ولم يذكر في أول المسألة إباق العبد، وإنما ذكر هلاكه. قلت: فالعبد يأبق؟ قال تدخل فيه الوصية متى ما رجع.
قال محمد بن رشد: في ظواهر ألفاظ هذه المسألة الروايات اضطراب، ولا ينبغي أن يحمل شيء منها على التعارض والاختلاف؛ لأنها ترجع كلها عند التحصيل إلى أن ما كان أصله قد علمه، فإن الوصايا تدخل فيه، وإن غاب عنه فطال زمانه وبلغه هلاكه حتى كان الغالب عليه اليأس منه، من أجل ما بقي له فيه من الرجاء، حتى إذا تحقق عنده هلاكه بالشهادة أو الاستفاضة، حتى تحقق ذلك وتيقنه، فلم يبق له فيه رجاء، فلا تدخل فيه الوصايا إن جاء بعد ذلك، وإن كانت المدة لم تطل. ولا فرق في شيء من هذا كله بين المال الغائب، والعبد الآبق، والسفينة الغائبة، وبالله التوفيق.(13/6)