قال محمد بن رشد: قول مالك إنه يحلف مع شهادة الرجل والمرأة، ويستحق الميراث وإن لم يثبت له النسب بعد الاستيناء واليأس من أن يجد شاهدا آخر يثبت له به النسب هو مثل قوله في كتاب الشهادات من المدونة، وكتاب الولاء والمواريث منها في الميت يدعي رجل أنه مولاه ويأتي على ذلك بشاهدين على السماع، أو بشاهد واحد على أنه مولاه أعتقه - أنه يحلف مع الشاهد الواحد أنه أعتقه، أو مع الشاهدين على السماع، فَيُقْضَى له بالمال بعد الاستيناء، ولا يجر بذلك الولاء وذهب أشهب إلى أنه لا يقضي له بالمال إلا بعد ثبوت النسب أو الولاء وإلى أن الولاء يثبت بشهادة السماع، هذا قوله في كتاب الولاء والمواريث من المدونة، فقوله هاهنا وإنما يحلف الرجل في مثل هذا مع الشاهد الواحد، والشاهد والمرأة إلى آخر قوله هو على أصله، وقياس قوله خلاف لقول مالك المتقدم في هذه الرواية، وخلاف لقول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وبالله التوفيق.
[: كتب القضاة يقدم عليها بشهادة قوم يشهدون إنا لا نعلم لفلان وارثا إلا فلانا]
ومن كتاب الأقضية لابن كنانة وسأل ابن كنانة مالكا: عن كتب القضاة يقدم عليها بشهادة قوم يشهدون إنا لا نعلم لفلان بأرض مصر وارثا إلا فلانا، وذلك الميت مات بإفريقية، قال: اكتب إليه لا تجوز شهادتهم إلا أن يقولوا: نشهد إنا لا نعلم لفلان وارثا من الناس في شيء من الأرض إلا فلانا وفلانا، فيدفع ذلك إليه نفسه ويستحلف، ولا أرى أن يدفع ذلك إلى وكيله إذا قدم عليهم بالمغرب.(9/463)
قال محمد بن رشد: قوله إن شهادتهم لا تجوز إلا أن يقولوا نشهد أنا لا نعلم لفلان وارثا من الناس في شيء من الأرض إلا فلانا صحيح؛ لأن في قولهم لا نعلم له وارثا بأرض مصر إلا فلانا دليلا أنهم يعلمون له وارثا سوى فلان في غير أرض مصر، فإذا شهدوا أنهم لا يعلمون له وارثا من الناس في شيء من الأرض إلا فلانا، وأنهم لا يعلمون له وارثا إلا فلانا ولم يقولوا في شيء من الأرض صحت الشهادة، ووجب أن يدفع إليه ميراثه، قال في الرواية: ويستحلف، قيل: على البت في الموضع الذي شهد فيه الشهود على العلم، قياسا على يمين المستحق ما باع ولا وهب، من أجل أن الشهود إنما شهدوا بذلك على العلم، فيقول في يمينه: بالله الذي لا إله إلا هو ماله وارث غيري، أو ماله وارث غيري في شيء من الأرض، ولما وجب عليه اليمين على هذا لم ير أن يدفع المال إلى وكيله حتى يكتب إلى موكله، فيحلف في الموضع الذي هو فيه.
وفي نوازل عيسى من كتاب الوكالات بيان هذا، والذي أقول به: إنه لا يحلف إلا على العلم، فيقول: بالله الذي لا إله إلا هو ما نعلم له وارثا غيري، إذ لا يصح له القطع على أنه ليس له وارث غيره.
وقد قال ابن دحون: قوله: ويستحلف - حرف سوء حائل، كيف يستحلف من شهد له أكثر من واحد على ميراث، وقالوا في شهادتهم: لا نعلم له وارثا من الناس في شيء من الأرض إلا فلانا، لا اختلاف أنه لا يحلف مع بينته، وقوله لا يدفع ذلك إلى وكيله قول حائل، كيف لا يوكل من له مال غائب على قبض ماله، لا اختلاف في جواز ذلك إذا أثبت الوكالة على سنتها قبض الوكيل مال الموكل من ميراث كان أو غيره.
قال محمد بن رشد: وإنكار ابن دحون اليمين، وقوله لا اختلاف أنه لا يحلف مع بينته ليس ببين لأن لإيجاب اليمين عليه وجها ظاهرا وذلك(9/464)
أنه لو ادعى أحد أنه وارثه، وادعى عليه أنه يعلم ذلك للزمته اليمين أنه ما يعلم أنه وارثه باتفاق، ولو لم يدع عليه العلم بذلك للزمته اليمين على اختلاف في لحوق يمين التهمة، فلما كانت اليمين تجب عليه لو ادعى ذلك أحد عليه كان من تمام الحكم إيجاب اليمين عليه بذلك كيمين الاستحقاق، ومن أثبت دينا على غائب أو مفلس لا يقضي له به إلا بعد اليمين يحلف في الاستحقاق أنه ما باع ولا وهب، وفي الدين أنه ما قبض ولا أحال ولا وهب، والذي جرى به العمل ألا يمين في ذلك، ولا وجه لما أنكر أيضا من قول مالك: لا يدفع ذلك إلى وكيله إذا قدم عليه بالمغرب؛ لأنه لم يرد أن الوكالة لا تصح في ذلك، ولا يجب له القبض بها، وإنما أراد أنه لا يدفع إليه المال حتى يحلف موكله بما وجب عليه به اليمين حسبما ذكرنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الرجل على من لا يعرف]
مسألة وسئل مالك: أترى أن يشهد الرجل على من لا يعرف؟ قال: إن أحب إلي ألا يفعل، وإن الناس يشهدون بكون بعضهم يعرفه وفي ذلك بعض السعة.
قال الإمام القاضي: أما إذا أشهد الرجل على نفسه جماعة يعرفه بعضهم، فلمن لا يعرفه منهم أن يضع شهادته عليه، وهو من ذلك في سعة إذ قد أمن بمعرفة بعضهم له أن يكون تسمى باسم غيره، وأما إذا لم يكن يعرفه أحد منهم فيكره لهم أن يضعوا شهادتهم عليه في الكتاب، مخافة أن يكون قد تسمى باسم رجل غيره، فيقر أنه قد باع داره من هذا، أو يقر له على نفسه بحق فيكتبون شهادتهم عليه، فيشهد على خطوطهم بعد موتهم فتجوز الشهادة، وتؤخذ الدار من صاحبها، أو الحق بغير حق، قال ذلك(9/465)
مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ.
وذلك على مذهب من يجيز الشهادة على خط الشاهد، وقد مضى الاختلاف في ذلك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم.
وقد قال ابن عبدوس: يخشى في ذلك أن يجد الرجل شهادته في كتاب على من لا يعرف ويكون الشاهد قليل المعرفة، فيقول: أشهد على ما في الكتاب، والعلة الأولى هي الصحيحة؛ لأنه وإن كان ممن لا يجهل أنه لا يجوز له أن يشهد على خطه، وهو لا يعرف عين الذي أشهده فلا يأمن أن يموت فيشهد على شهادته، وهو لا يعرف عينه، وإذا كتب الرجل شهادته على من لا يعرفه بالعين والاسم فلا يصح له أن يشهد بها بعد موته، ولا يؤدي إلا في حياته على عينه، وكذلك لا يشهد على شهادته بها إلا على عينه، وهذا كله مما لا اختلاف فيه، فإن علم أنه لا يقف على عين المشهود له إذا غاب عنه فهي شهادة لا منفعة فيها، وإنما تسامح العلماء والخيار في موضع شهادتهم على من لا يعرفونه بعين ولا اسم سياسة منهم في نفع العامة، ولئلا ينهوهم على وَهْنِ شهادةِ مَنْ أوقع شهادته على من لا يعرف، فيجترئون على جحد الحقوق المنعقدة عليهم، إذا علموا أن الشهادة عليهم لا تصح إذا أنكروا، ففي جهلهم بالحقيقة في ذلك صلاح عظيم، وتحصين للحقوق؛ لأن المشهود عليه يهاب الوثيقة ويسبق إليه أن كلهم يشهد عليه إن جحد فيقر ولا يجحد، قال ابن القاسم في المجموعة: وإذا دعا الرجل ليشهد على امرأة لا يعرفها ويشهد عنده رجلان أنها فلانة فلا يشهد، قال في سماع حسين بن عاصم في بعض الروايات: لا يشهد إلا على شهادتهما، وقال ابن نافع فيه: أن يشهد، وذكره عن مالك.
قال القاضي: والذي أقول به: إنه إن كان المشهود له أتى بالشاهدين ليشهد له عليها بشهادتهما عنده أنها فلانة فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة فليشهد عليها،(9/466)
وكذلك لو سأل عن ذلك رجلا واحدا يثق به أو امرأة لجاز له أن يشهد، ولو أتاه المشهود عليه بجماعة من لفيف النساء فشهدن عنده أنها فلانة لجاز له أن يشهد إذا وقع له العلم بشهادتهن، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: اجتماع الشهادتين]
مسألة وسأله رجل، فقال: شهد لي شاهدان أني وارث فلان، فشهد أحدهما أنه لا وارث له غيري، وشهد الآخر أني وارثه ولا وارث له غيري وامرأته، فقد اجتمعت الشهادتان أني وارثه، فقال: أرى أحدهما يكذب الآخر، وما أرى أن تقبل شهادة من شهد هكذا بحتم، فقال: لا أشهد أن فلانا وارث فلان، لا وارث له غيره ما يدريه بهذا، ولربما كان ذلك في العبد الآبق، والجمل الشارد، فإذا وجد عند بعض من اشتراه جاء صاحبه الأول بمن شهد له أنه عبده أو جمله، ما باع ولا وهب ما يدريهم بهذا، فلا أرى شهادة من شهد هكذا تجوز، ولا أرى أن يشهد في مثل هذا إلا أنه لا يعلم له وارثا غيره، أو أنه جمله أو عبده لا نعلم أنه وهبه ولا باعه، فإذا شهدوا هكذا رأيت الشهادة جائزة جيدة، ومن القضاة من يكلف الناس البينة، ولا أرى ذلك جائزا ولا يقبل منهم هذا الأخذ، وهذا الذي أرى أنا جائزا.
قال: فإذا شهدوا هكذا على العلم كان جائزا.
قال: نعم، فقيل له: فإن شهد هذان الرجلان، فقال أحدهما: أشهد أنه وارثه ولا أعلم له وارثا غيره،(9/467)
وقال الآخر: أشهد أنه وارثه ولا أعلم له وارثا غيره وزوجة له، قال: هذا جائز، وأرى أن يوقف المال حتى يتبين من ذلك أنه مع الوارث زوجة أم لا.
قيل له: إنما مات بمصر، قال: يكتب إلى ذلك البلد حتى يتبين ذلك، قلت: ولا يحبس حق الزوجة فقط، ويدفع إلى هذا حظه، قال: لا، ولكن يحبس المال كله حتى يتبين من ذلك، قال أشهب: أرى الوارث بالخيار، إن شاء حلف مع شهادة الذي شهد له أنه لا يعلم له وارثا غيره، وأخذ المال كله، فإن أبى اليمين عزل من المال ما كان ينوب الزوجة لو كانت ثبت لها أنها زوجته، وصار للوارث ما بقي من المال بغير يمين.
قال سحنون: سئل ابن القاسم: عن الشاهدين يشهدان أن فلانا وارث فلان لا يعلم له وارثا غيره، ويقول أحدهما أو كلاهما وزوجة بموضع كذا وكذا، فقال: إن شهدا على الزوجة كلاهما ثبتت شهادتهما، ولم يقسم شيء من المال حتى تحضر الزوجة أو توكل أو يقسم لها القاضي، وإن كان أحدهما قال ذلك لم يعجل في قسم شيء من المال حتى يتبين ما قال الشاهد، فإن طال ذلك أعطي الوارث المال كله.
قال محمد بن رشد: لم يجز في هذه الرواية شهادة الشهود إذا شهدوا أنه لا وارث لفلان إلا فلان، وذلك يقضي بصحة تأويل من حمل ما في كتاب الشهادات وكتاب العارية من المدونة على ظاهره، من(9/468)
أن شهادة الشهود إذا شهدوا أنه ما باع ولا وهب شهادة لا تجوز، إذ قال فيها: إنها غموس وباطل، خلاف ما ذهب إليه ابن لبابة من أنها على مذهبه جائزة، وإن سماها غموسا وباطلا بدليل قوله عقب ذلك: وأرى أن يحلف. والأظهر أن قوله: وأرى أن يحلف - إنما يعود على ما قبل ذلك من الشهادة الصحيحة، فوقع في الكلام تقديم وتأخير.
وابن الماجشون من أصحاب مالك لا يجيز الشهادة في ذلك على العلم بأن يقولوا في الاستحقاق ما نعلمه باع ولا وهب، وفي الوراثة ما نعلم له وارثا غيره، ولا يرى الحكم بها حتى يشهدوا أنه ما باع ولا وهب ولا وارث له غيره، وهو مذهب أهل العراق؛ لأنهم يقولون: العلم كيفما وصل وكيفما أمكن وصوله من معرفة أو غلبة ظن يؤدي إلى اليقين، والقولان محتملان، وذلك أنه لا يصح للشاهد في الوراثة أن يشهد أن فلانا وارث فلان لا يعلم له وارثا غيره، إلا أن يكون قد تيقن أنه لا وارث له سواه (يقينا) لا يدخله فيه شك ولا ارتياب، فإن دخله في ذلك شك أو ارتياب من وجه من الوجوه، أو لم يداخله فيه شك ولا يحصل فيه عنده يقين لم يصح له أن يشهد أنه لا يعلم له وارثا سواه، وإن كان صادقا في قوله إنه لا يعلم له وارثا غيره، فخشي ابن الماجشون إذا شهد أنه ما يعلم له وارثا غيره ألا يكون عنده بذلك يقين، ولذلك لم يجز شهادته حتى يشهد أنه لا وارث له سواه، ولم يجز له مالك أن يشهد أنه لا وارث له سواه، إذ لا يصح له القطع على ذلك، لاحتمال أن يكون له وارث لم يعلم به، واكتفى منه بهذه العلة(9/469)
أن يشهد أنه ما يعلم له وارثا سواه.
وقول ابن الماجشون أظهر؛ لأن اليقين يقرب من العلم، وإن لم يكن حقيقته علما، ولا حرج على من قال فيما يتيقنه ولا يصح أن يعلمه علما يصح له به القطع عليه أعرف كذا وكذا، مثال ذلك: أن الرجل يشهد في الرجل المسلم الظاهر الخير والصلاح أنه مؤمن عدل رَضِيٌّ، فلا يكون كاذبا في قوله بحصول اليقين عنده بإيمانه وعدله، وإن كان لا يقطع على حقيقة أمره، لاحتمال أن يبطن خلاف ما يظهر، ولا يعلم ما يبطن سواه إلا الله عز وجل المطلع على ما في القلوب من الاعتقادات.
ولو قيل في هذه المسألة: إن الشهود إن كانوا ممن يعلم أن الشهادة على العلم لا تصح إلا مع اليقين قبلت منهم على العلم، وإن كانوا ممن يجهل ذلك لم يقبل منهم إلا على البت؛ لأن الجاهل يظن ما يتيقنه ويعتقد صحته بغالب ظنه علما لكان قولا، فبهذا أقول، وإذا شهد أحد الشاهدين في الميت أنه لا يعلم له وارثا غير فلان، وشهد الآخر أنه لا يعلم له وارثا غيره وغير امرأته، فاتفقت رواية أشهب عن مالك وسحنون عن ابن القاسم أن المال كله يوقف حتى يتبين أمر الزوجة، فإن طال ذلك أعطى الوارث المال كله على ما قاله ابن القاسم، وهو مفسر لقول مالك، يريد بعد أن يحلف أنه ما يعلم له زوجة، واليمين هاهنا لا ينبغي أن يختلف فيها من أجل الشاهد بالزوجة، سواء لم توجد المرأة حتى طال الأمد أو وجدت ولم تجد شاهدا آخر يشهد لها حتى طال الأمد لأن الوارث قد ثبت نسبه بشهادة الشاهدين فوجب أن يعطى جميع المال إذا طال الأمد.
ولو لم يكن للميت وارث ثابت النسب فادعت امرأة أنها زوجته، وشهد لها بذلك شاهد واحد لحلفت مع شاهدها وأعطيت ميراثها بعد الاستيناء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وما مضى في آخر الرسم الذي قبل هذا من قول مالك خلاف قول أشهب، وإنما لم ير أن يوقف حق الزوجة خاصة ويدفع إلى الوارث حقه مخافة أن يتلف ما وقف لها فتجد شاهدا آخر وقد استهلك الوارث ما قبضه وهو عديم فيذهب حقها، ويكون هو قد ورث دونها.
وأما قول أشهب: إن الوارث بالخيار بين أن يحلف مع شاهده الذي شهد له أنه لا يعلم له وارثا غيره، ويأخذ المال(9/470)
كله، وبين أن يأخذ منه ما سوى حق الزوجة بغير يمين، فالوجه فيه: أن الذي شهد له أنه لا يعلم له وارثا غيره شهد له بجميع المال، والذي شهد أنه يعلم له زوجة، شهادته بالزوجة لا تجوز؛ لانفراده بالشهادة لها بحصول شهادته أنه شهد له بثلاثة أرباع المال، أو بسبعة أثمانه إن كان ابْنًا، فَأَشْبَهَ ذلك الرجل يشهد له شاهد بمائة وشاهد بخمسين أنه إن شاء حلف مع شاهده بالمائة ويأخذها، وإن شاء أخذ الخمسين بغير يمين، وقوله: إنه إن شاء أن يأخذ ما سوى حق الزوجة بغير يمين، خلاف قول مالك في أول الرسم لابن كنانة أنه يستحلف، وقد مضى القول على ذلك، وقول مالك وابن القاسم أصح من قول أشهب وأولى بالصواب؛ لأن الذي شهد بالزوجية علم ما لم يعلم الشاهد الآخر فيبعد أن يحلف الوارث مع الشاهد الآخر، وأن يقاس ذلك على الذي شهد له شاهد بمائة وشاهد بخمسين؛ لأن الذي شهد بالمائة بت له الشهادة بها، وزاد في شهادته على الذي شهد بالخمسين، والذي شهد أنه لا يعلم له وارثا غيره لم يبت له الشهادة بجميع المال، ولا زاد في شهادته على الآخر بل نقص، إذ لم يعلم من أمر الزوجة ما علم هو، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم شهادة الرجل المرضي ولكنه يشرب النبيذ]
مسألة وسئل: عن الرجل المرضي في كل حالة لا تعرف له زلة إلا أنه يشرب نبيذ التين، قال: إن كان مسكرا فأرى أن ترد شهادته.
قال محمد بن رشد: قوله فأرى أن ترد شهادته إن كان يسكر، يريد: إن كان النبيذ يسكر، فأرى أن ترد شهادته وإن شرب منه قليلا لا(9/471)
يسكر، وهذا بين على ما قال، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، وهذا إذا شربه غير متأول ولا متمذهب بمذهب من أباح منه ما دون السكر، وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، فأما إذا شربه متمذهبا بمذهبهم معلوم بالصلاح والفضل، غير متهم باستباحة ما لا يحل له، فلا ترد شهادته إلا أن يسكر منه، وهكذا قرأناه إن كان يسكر بضم الياء وكسر الكاف، ويحتمل أن يقرأ يسكر بفتح الياء والكاف، أي: كان هذا الرجل الذي يشرب النبيذ المسكر فيسكر، فأرى أن ترد شهادته، وإن كان على الصفة التي وصفت من الرضا في جميع أحواله، إذ لا اختلاف بين الأمة في أن السكر من جميع الأنبذة حرام كالسكر من خمر العنب والتمر، وبالله التوفيق.
[الرجل يأتي على الرجل بشاهد واحد هل يحلف معه]
ومن كتاب القضاء لأشهب وسئل: عن الرجل يأتي على الرجل بشاهد واحد أنه شتمه أيكون له أن يحلف مع شاهده ويستحق ذلك عليه؟ أم يستحلف المدعى عليه ويبرأ؟
فقال: ما أرى أن يحلف في مثل هذا مع الشاهد، وليس في هذا يمين مع الشاهد، ولكن أرى إن كان الشاتم معروفا بالشتم والسفه أن يعزر، ولا يكون على المدعي يمين مع شاهده، ولا أرى أن يحلف مع الشاهد في مثل هذا، قلت: إنك لا ترى في مثل هذا يمينا مع الشاهد، أفترى على المدعى عليه يمينا؟ قال: نعم، ولعسى به أن أكون أرى عليه(9/472)
اليمين، ولعساني أن أكون أراه، ولكن ليس كلما أُرِيَ المرء أراد أن يجعلوه سنة يذهب به إلى الأمصار.
قال محمد بن رشد: تفسير قول مالك في هذه الرواية هو أن الرجل إذا ادعى على الرجل أنه شتمه، وأقام على ذلك شاهدا واحدا لم يحلف مع شاهده، ونظر في المدعى عليه فإن كان معروفا بالشتم والسفه عزر ولم يستحلف، وإن لم يكن معروفا بذلك استحلف، إلا أنه ضعف اليمين، فقال: ولعساني أن أكون أرى اليمين ولكن ليس كلما أُرِيَ المرء أراد أن يكون سنة يذهب بها إلى الأمصار.
والأظهر على أصولهم إيجاب اليمين، فتضعيفها ضعيف، وقد قيل: إن المدعى عليه يستحلف إذا كان للمدعي شاهد على دعواه، كان معروفا بالشتم والسفه أو لم يكن، وهو ظاهر ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود، وما في رسم الحدود من سماع أصبغ منه، فإن حلف برئ، وإن نكل ففي سماع ابن القاسم المذكور أنه يسجن أبدا حتى يحلف، وفي سماع أصبغ المذكور: أنه إن طال سجنه جدا ولم يحلف خلي سبيله ولم يؤدب.
وقال أصبغ: إن كان معروفا بالأذى والفحش أدب، وإلا فأدبه حبسه الذي حبس، فهذه الرواية موافقة لما في السماعين المذكورين من كتاب الحدود في أن المدعي لا يحلف مع شاهده مخالفة لما فيهما من إيجاب اليمين على المدعى عليه على ضعف في حال دون حال، وقد قيل: إنه يحلف مع شاهده ويحد له، وروي ذلك عن مطرف، وهو شذوذ أن يحد في الفرية بالشاهد مع اليمين.
ويتخرج في المسألة قول ثالث: إنه لا يحلف مع شاهده في الفرية، ويحلف معه فيما دون الفرية من الشتم الذي يجب به الأدب.
وكذلك اختلف في القصاص من الجراح العمد بالشاهد مع اليمين، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقتص بالشاهد مع اليمين، وهو قول مالك في كتاب الأقضية من المدونة، والثاني: أنه لا يقتص بالشاهد مع اليمين،(9/473)
وهو قول ابن القاسم في كتاب الشهادات منها، والثالث: أنه يقتص بالشاهد مع اليمين فيما صغر من الجراح ولا يقتص بذلك فيما عظم منها، مثل قطع اليد وشبهه، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك واختيار سحنون.
وكذلك اختلف أيضا إن لم يأت المدعي بشاهد ولا سبب على دعواه في الشتم أو في جراح العمد على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يمين على المدعى عليه، وهو قول مالك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود، قاله في دعوى الفرية.
والثاني: أن عليه اليمين، وهو قول مالك في رسم العقول والجنائز من كتاب الجنايات.
والثالث: أنه لا يمين عليه إلا أن يكون مشهورا بذلك، وهو قول ابن القاسم في أول سماع أصبغ من كتاب الجنايات.
فإن حلف على رواية أشهب، أو على رواية أصبغ إذ كان مشهورا بذلك برئ، وإن نكل عن اليمين سجن حتى يحلف ما لم يطل ذلك، فإن طال خلي سبيله ولم يؤدب، وقال أصبغ: إنه يؤدب إن كان معروفا بالأذى على أصله المتقدم، قال: وإن كان مبرزا في ذلك أي مشتهرا به مبرزا فيه خلد في السجن، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وتلخيصه، وبالله التوفيق.
[مسألة: كتب إليها زوجها بطلاقها مع من لا شهادة له هل تشهد على الخط]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة كتب إليها زوجها بطلاقها مع من لا شهادة له، فوجدت المرأة من يشهد أن هذا خط يد زوجها، فقال: إن وجدت من يشهد لها على ذلك نفعها ذلك.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في مختصر ابن عبد الحكم، وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ: أن الشهادة على الخط لا تجوز في طلاق، ولا عتاق، ولا نكاح، ولا حد من(9/474)
الحدود، ولا في كتاب القاضي إلى القاضي، ولا في كتاب القاضي بالحكم، ولا تجوز إلا فيما كان مالا من الأموال كلها خاصة، ووقعت الشاهدة عليها بعينها، وحيث لا تجوز شهادة النساء ولا اليمين مع الشاهد فثم لا تجوز الشهادة على الخط، وحيث يجوز هذا، يجوز هذا، فكان يمضي لنا عند من أدركنا من الشيوخ أن ما حكى ابن حبيب من هذا عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ فهو مذهب مالك لا خلاف فيه، وإن صح معنى قوله في هذه الرواية، وفي مختصر ابن عبد الحكم بمعنى ذلك، أي: يكون لها شبهة توجب لها اليمين على الزوج أنه ما طلق.
والذي أقول به: إن معنى ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ إنما هو أن الشهادة لا تجوز على خط الشاهد في طلاق ولا عتاق ولا نكاح، لا أنها لا تجوز على خط الرجل أنه طلق أو أعتق أو نكح، بل هي جائزة على خطه بذلك، كما تجوز على خطه بالإقرار بالمال، وذلك بين من قوله: ولا تجوز إلا فيما كان مالا من الأموال ووقعت الشهادة عليها بعينها إلى آخر قوله.
فالصواب أن يحمل قول مالك: نفعها ذلك - على ظاهره من الحكم لها بالطلاق عليه إذا شهد على خطه به شاهدان عدلان، وذلك إذا كان الخط بإقراره على نفسه بأنه قد طلق زوجته، مثل أن يكتب إلى رجل يعلمه أنه قد طلق زوجته، أو يكتب لزوجته بذلك على هذا الوجه فيشهد لها فيه على خطه.
وأما إن كان الكتاب إنما هو بطلاقه إياها ابتداء فلا يحكم عليه به إلا أن يقر أنه كتبه مجمعا على الطلاق. وفي قبول قوله: إنه كتبه غير مجمع على الطلاق بعد أن أنكر أن يكون كتبه - اختلاف، والله الموفق.
[مسألة: رجل شهد على رجل أنه حلف بطلاق زوجته في حق عليه فحنث]
مسألة وسئل: عن رجل شهد على رجل أنه حلف بطلاق زوجته في حق له عليه ليرفعنه إليه فحنث، فقال: ما هو بجائز الشهادة عليه.(9/475)
قال محمد بن رشد: ليس إسقاط شهادته في هذا ببين، وكان الأظهر أن تجوز شهادته عليه إذا شك عليه أنه قد حنث؛ لأن وقوع الطلاق عليه لا يدعوه إلى أن يعجل له حقه، وإنما يدعوه إلى ذلك اليمين بالطلاق ليقضينه إلى أجل مخافة أن يقع عليه الطلاق إن لم يقضه قبل الأجل، لكنه لما كان لو شهد عليه بذلك قبل أن يحنث والحق عليه لم يدفعه لم تجز شهادته، لاتهامه أن يكون إنما شهد عليه ليعجل له القضاء فلا يحنث، لم تجز شهادته عليه إذا شهد عليه أنه قد حنث، لاحتمال أن يكون قد ادعى ذلك عليه قبل الحنث فأراد أن يحقق دعواه عليه قبل الحنث بشهادته عليه بعد الحنث، وهو ضعيف، والله الموفق.
[مسألة: شهادة الصبيان المماليك بعضهم على بعض في الجراح]
مسألة وسئل: عن شهادة الصبيان المماليك، وشهادة الصبيان الجواري بعضهم على بعض في الجراح، أتجوز شهادتهم فيما بينهم كما تجوز شهادة الصبيان الأحرار بعضهم على بعض في الجراح فيما بينهم؟ فقال: لا تجوز شهادة بعضهم على بعض، ولا الصبيان من الجواري، ولا تجوز إلا شهادة الغلمان الأحرار بعضهم على بعض.
قال محمد بن رشد: أما الصبيان المماليك فلا أحفظ في المذهب اختلافا في أن شهادتهم لا تجوز، وكذلك الصبيان من أهل الذمة، وإنما تجوز شهادة الغلمان الأحرار من المسلمين.
قيل: في الجراح دون القتل، وهو دليل هذه الرواية، وقول غير واحد من كبار أصحاب مالك في المدونة.
وقيل: في الجراح والقتل وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، ولا يجوز على مذهبه وروايته عن مالك في ذلك(9/476)
شهادة صبي واحد، ولا شهادة الإناث، وقد قيل: إنه تجوز شهادة صبي واحد مع يمين المشهود له، قيل: إذا بلغ، وقيل: يحلف والده عنه ويستحق له ما شهد له به الشاهد من ذلك، وقع ذلك لابن الماجشون وابن نافع في المبسوطة.
وقيل أيضا في شهادة الإناث: إنها جائزة في الجراح دون القتل، وقيل: بل في القتل والجراح، وهو قول المخزومي في المدونة على أحد التأويلين في قوله، قيل: وحدهن دون صبي، كما تجوز شهادة امرأتين دون رجل فيما لا يحضره الرجال، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: لا تجوز منهن شهادة اثنتين إلا مع صبي وهو قول مطرف، وقول سحنون في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب.
فوجه من لم يجز شهادتهن بحال هو أن السنة إنما جاءت عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير في شهادة الصبيان، وهم الذين يقع بينهم الجراح في غالب الأحوال، ونفي الصبايا على الأصل في المنع من قبول شهادتهن.
ووجه من أجاز شهادتهن دون صبي هو أن العادة عنده أنهن لا يختلطن مع الصبيان في لعبهن، فوجب أن تجوز شهادة اثنتين منهن دون صبي، إذ ليس موضعا يحضره الصبيان في الغالب.
ووجه من لم يجز شهادتهن إلا مع صبي هو أن العادة عنده أنهن يختلطن مع الصبيان في اللعب، فوجب أن تقام الصبيتان مقام صبي فلا تجوز إلا مع صبي، وإنما تجوز شهادة الصبيان الذكور دون الإناث، وكل واحد منهما دون صاحبه، أو الإناث مع الذكر الواحد ما لم يتفرقوا أو يخببوا، فإن تفرقوا فلا تجوز شهادتهم إلا أن يكون قد أشهد العدول على شهادتهم قبل أن يتفرقوا، وهذا ما لا اختلاف فيه.
واختلف هل من شرط جواز شهادتهم ألا يحضره غيرهم من الرجال العدول؟ فذهب ابن حبيب إلى أن ذلك من شرط جواز شهادتهم، وهو مذهب ابن سحنون في نوازله، خلاف ما يقوم من قول أصبغ في نوازله،(9/477)
وخلاف ما في ظاهر المدونة عندي، ولا تجوز شهادة الصبيان عند من أجازها الكبير على كبير، وتجوز الصغير على صغير، واختلف في إجازتها لكبير على صغير، ولصغير على كبير، فلم يجز ذلك ابن القاسم، وأجازه ابن الماجشون، وقد وقع لمطرف في المبسوطة أن الصبيان لا تجوز شهادتهم بحال لا على صغير ولا على كبير في جرح ولا قتل؛ تعلقا بظاهر قول الله عز وجل {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، إذ ليس الصبي يرضى في شهادته، وذلك خلاف المشهور في المذهب المعلوم فيه.
ووجه إجازتها على المعلوم في المذهب: الإتباع لما جاء في ذلك عن السلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مع أن له حظا من النظر، وهو أن الشهادة لما كان طريقها اليقين لغالب الظن بصحتها، دون العلم بمغيبها جاز أن يكتفي فيها بشهادة الصبيان في الموضع الذي لا يحضره إلا الصبيان، كما يكتفي بشهادة النساء في الموضع الذي لا يحضره إلا النساء، وإن شهد الصبيان على الصبي أنه جرح صبيا فَنُزِيَ فِي جرحه فمات لم يكن في ذلك قسامة عند ابن القاسم، خلاف قول ابن نافع في المدونة.
واختلف إن شهد رجل على صبي أنه قتل رجلا أو صبيا، فقيل: لا قسامة في ذلك، وهو ظاهر ما في المدونة ونص ما في الأسدية، وقيل: فيه القسامة، وهو قوله(9/478)
في كتاب ابن المواز، وأما إن شهد رجل على كبير أنه قتل صبيا أو كبيرا فلا اختلاف في وجوب القسامة في ذلك، وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم.(9/479)
[: كتاب الشهادات الثاني] [مسألة: شهدا على رجل بمائة دينار فحكم عليه القاضي ثم رجع أحدهما](10/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم قال: سألت ابن القاسم عن الرجلين شهدا على رجل بمائة دينار فحكم عليه بها القاضي وقبضت منه، ثم رجع أحدهما فقال: وهمت أو قال: قد كان قبضها، فقال: إن قال: كان قد قبضها ولكن وهمت فلا شيء عليه، ولا يرد القضاء، وإن قال: إني شهدت بزور فعليه نصف الحق، قال ابن القاسم: وإنما يغرم الشاهد فيما تعمد إلا في الديات، قلت: ففي القتل إذا ادعى الشهود الوهم أو الشبه أيكون ذلك على العاقلة؟ قال: لا يكون من ذلك على العاقلة شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إنما يغرم الشاهد فيما تعمد إلا في الديات فإنه يغرم في العمد والخطأ؛ لأنه استثناء منقطع، وتقديره على الاتصال وإنما يغرم الشاهد فيما تعمد ولا يغرم فيما لم يتعمد إلا في الديات، وقوله: إنه لا يغرم فيما عدا الديات إلا أن يتعمد الشهادة بزور هو خلاف ظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة؛ لأن الظاهر من قول ابن القاسم فيه أن الشاهد يضمن ما أتلف بشهادته من المال، ويكون في الديات الدية في ماله إذا رجع عن شهادته بعد الحكم، وإن زعم أنه شبه عليه ولم يتعمد الزور، وهو ظاهر ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم ونص(10/7)
ما حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن القاسم وأصبغ خلاف رواية عيسى هذه في الأموال وموافق لها في الحدود، وتفرقته في الأموال بين أن يتعمد الزور أو يشبه عليه هو قول ابن الماجشون، حكى ذلك ابن حبيب عنه، وأنه قال: وهو قول جميع أصحابنا المغيرة وابن دينار وابن أبي حازم وغيرهم.
وأما الديات ففيها أربعة أقوال؛ أحدها: أن الدية في مال الشاهدين إذا رجعا عن شهادتهما بعد الحكم تعمدا الزور أو شبه عليهما، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وفي الواضحة وقول مطرف وأصبغ فيها، وظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة.
والثاني: أنه إن تعمدا كان عليهما القصاص، وإن شبه عليهما كانت الدية في أموالهما، وهو قول ابن نافع وأشهب، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والثالث: أنهما إن تعمدا كانت الدية من أموالهما، وإن شبه عليهما كانت على عواقلهما، وهو قول أصبغ في سماعه من كتاب الديات.
والرابع: أنهما إن تعمدا كانت الدية في أموالهما، وإن شبه عليهما كان هدرا، وهو قول ابن الماجشون والمغيرة وابن دينار وابن أبي حازم وغيرهم، فيتحصل في التعمد قولان؛ أحدهما: القصاص، والثاني: الدية في المال، وفي التشبيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الدية في المال، والثاني: أنها على العاقلة، والثالث: أنها هدر، وإذا رجع أحد الشاهدين بعد الحكم فوجب عليه الغرم غرم نصف المال أو نصف الدية، فإن كان الشهود ثلاثة فرجع أحدهم لم يلزمه شيء، واختلف إن رجع بعد ذلك أحد، فقيل: يكون عليه وعلى الراجع قبله نصف المال، وهو قول ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ، وقيل: يكون عليهما ثلثا المال، وهو قول ابن وهب وأشهب، فإن رجعوا ثلاثتهم كان المال عليهم أثلاثا، فلا خلاف إذا رجع الشهود كلهم في أن المال يكون عليهم على عددهم، ولا اختلاف أيضا في أنه لا شيء على من رجع إذا بقي من الشهود شاهدان فأكثر، وإنما الاختلاف إذا كان الشهود أكثر من اثنين مثل أن يكونوا عشرة فيرجع منهم تسعة فقيل: إنه يكون عليهم نصف المال، فإن رجع العاشر كان جميع المال على جميعهم بالسواء، وقيل: بل يكون عليهم تسعة أعشاره، فإن رجع العاشر كان عليه العشر الباقي على(10/8)
حسب ما ذكرناه، واختلف أيضا فيما استحق بشاهد ويمين فرجع الشاهد بعد الحكم وأقر أنه شهد بزور فقيل: عليه نصف الحق؛ لأن اليمين مقام الشاهد الآخر، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: عليه جميع الحق، وهو قول ابن القاسم وابن وهب واختيار ابن حبيب.
وإذا رجع الشاهد عن شهادته وكان قد شهد بزور ولم يشبه عليه فلا تجوز شهادته فيما يستقبل كان رجوعه قبل الحكم أو بعده، وأما إن كان شبه عليه ولم يتعمد الزور فلا ترد شهادته فيما يستقبل كان رجوعه قبل الحكم أو بعده، هذا قول ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ وهو قول سحنون في سماع يحيى من هذا الكتاب، وظاهر ما في كتاب الأقضية من المدونة أن شهادته لا تجوز فيما يستقبل إذا كان رجوعه بعد الحكم، وإن كان قد شبه عليه ولم يتعمد الزور، وبالله التوفيق.
[مسألة: قولهما إنا رأينا فلانا يزني ومعنا فلان وفلان]
مسألة وعن رجلين شهدا على رجل بالزنى، وقالا: معنا شاهدان آخران فلان وفلان وهما في البلد هل يمكنا أن يأتيا بهما أم يحدان إذا لم يأتوا جميعا، قال: أرى أن يحدا، وذلك أن قولهما: إنا رأينا فلانا يزني ومعنا فلان وفلان إنما يقولان: سلوا فلانا وفلانا يصدقان ما قلنا فإن قالا: نعم ثبتت شهادتهما، وإن قالا لا كانا قاذفين، فليس هذا وجه الشهادة إلا أن يأتوا جميعا، وقد بلغني ذلك عن مالك.
قال القاضي: علل ابن القاسم في هذه المسألة ضعف الشهادة وإيجاب الحد على الشاهدين بعلتين؛ إحداهما: تفرق الشهود في الشهادة فقال: ليس وجه الشهادة إلا أن يأتوا جميعا، والثانية: قول الشاهدين اللذين شهدا معنا فلان وفلان؛ لأنهما حصلا بقولهما هذا في معنى من قام على رجل بالزنى وشهد عليه به فلا يجزئه أن يأتي بثلاثة شهود سواه، ويحد إلا أن يأتي بأربعة شهداء، فكذلك هذان يحدان إن لم يأتيا على تصديق(10/9)
شهادتهما عليه إلا بشاهدين، وقوله: فإن قالا: نعم ثبتت شهادتهما، وإن قالا: لا كانا قاذفين هو من قول ابن القاسم على سبيل الإنكار بعد تمام ما حكي من معنى قولهما، كأنه قال: أثبتت شهادتهما إذا قالا نعم، وإلا كانا قاذفين هذا ما لا يصح، بل هما قاذفان على كل حال يحدان، وقد قيل: إن الشهادة على الزنى جائزة وإن تفرق الشهود ولم يأتوا معا، وعلى هذا القول يأتي ما وقع لابن القاسم في أول رسم المكاتب من سماع يحيى بعد هذا، وهو قول ابن الماجشون، واختلف أيضا إن كان الشهود في الزنى هم القائمون على المشهود عليه به، فقال ابن القاسم في رسم أوصى من هذا السماع: إن شهادتهم لا تجوز، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ أن شهادتهم جائزة، وإن كانوا هم القائمين بذلك مجتمعين جاءوا أو مفترقين إذا كان افتراقهم قريبا بعضهم من بعض، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته وأشهد رجلين فأمسكا عن ذلك زمانا ثم أرادا أن يشهدا]
مسألة وعن الرجل يطلق امرأته ويشهد على ذلك رجلين فأمسك الشاهدان عن ذلك زمانا وكانا مسخوطين أو غير ذلك، ثم أرادا: أن يشهدا فقالا: إن أعلمنا الحاكم أنه طلق منذ كذا وكذا لم تقبل شهادتنا، ولكننا نثبت الشهادة عليه الساعة؛ لأنا نشك أنه طلق ألبتة، قال: لا أرى أن يشهدا إلا على ما شهدا يسوقان ذلك على وجهه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم خلاف ما في سماع سحنون ونوازله، والذي يأتي على ما في سماع سحنون ونوازله، وهو أصح القولين إن أثبتوا الشهادة عليه بالطلاق ولا يجبروا فيها بما يسقطها ويؤدي إلى إبطالها فيستباح بذلك وطء الحرام ووجه القول الآخر: أنه لا ينبغي للشاهد أن يقر الحكم بإعمال شهادة من لا تجوز شهادته، وهو ضعيف، وبالله التوفيق.(10/10)
[مسألة: يشهد عليه فيقول المشهود عليه للقاضي سله عن الوضوء]
مسألة وعن الرجل يشهد على الرجل فيقول المشهود عليه للحكم سله لي عن الوضوء والتيمم فهل يسأله؟ قال: لا، وإنما هذا من كلام أهل الأهواء.
قال محمد بن رشد: يريد سله عن الوضوء والتيمم والصلاة هل ذلك واجب أم لا؟ فهل ترى أن يسأل الشاهد عن ذلك إذ لا يقول: إن ذلك غير واجب إلا أهل الأهواء، يريد المرجئة منهم، ولا يتهم من ظهر منه الخير والصلاح باعتقاد البدعة إلا أن يظهر منه ما يوجب اتهامه بذلك أو يذكر عنه أنه من أهل الأهواء في دينه مثل الإباضية والمرجئة فلا تقبل شهادته إذا توطأ الكلام عليه بذلك، وإن لم يتحقق ذلك بشهادة العدول إلا أن تأتي منه توبة ونزوع ظاهر بيِّن، حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة وحكاه عن مطرف وابن القاسم وأصبغ، وبالله التوفيق.
[مسألة: يستفتي العالم فيذكر له من أمره ما يوجب عليه طلاقا]
مسألة وعن الرجل يأتي مستفتيا في أمر ينوّى فيه ولو أقر بذلك عند الحاكم أو قامت عليه بينة فرق بينه وبين امرأته فيفتى أن لا شيء عليه، ومن كتاب كراء الدور والمزارع من سماع يحيى بن يحيى عن ابن القاسم قال يحيى: وسألته: عن المفتي يأتيه الرجل مستفتيا فيخبره أنه ابتلي بيمين يسأله عنها فيرى عليه حنثا أو يسأله عن أمر ارتكب أو عامل فيه أحدا يجب عليه فيما ساق من قضيته التي زعم أنه صاحبها حق لبعض الناس ثم يناكر صاحبه فيستشهد صاحبه بالمفتي أيلزمه أن يشهد عليه أم لا؟ فقال: نعم، ذلك واجب عليه، قال يحيى: وقلت له: وعلى من حضره حين سأل؟ قال: نعم إذا سمعوا القصة كلها حتى لا يخفى عليهم منها ما إن(10/11)
تركوه خافوا أن يكون في ذلك ما يفسد الشهادة، فربما سمع الرجل آخر كلام الرجل وفيه مقطع حق، ولو سمع الأول كان الأول يسقط الآخر فلا أرى لأحد أن يشهد عليه حتى يسمع الكلام كله أو يستشهد على شيء بعينه فيقوم به.
قال القاضي: أما الذي استفتى العالم في أمر ينوى فيه إذا أتى مستفتيا ولا ينوى إذا حضرته البينة فلا اختلاف في أنه لا يجوز له ولا لمن حضر استفتاءه إياه أن يشهد عليه أنه حلف بكذا، فإن شهدا عليه أو أحدهما باء بالإثم وكانا قد شهدا بزور إذا لم يؤديا الشهادة على وجهها بأن يقول العالم: استفتاني فلان في كذا وكذا ويقول الذي حضر سمعت فلانا يستفتي فلانا في كذا وكذا فلا يقطع شهادتهما عليه على هذا الوجه ما يجب من تنويته في يمينه، وأما الذي يستفتي العالم فيذكر له من أمره ما يوجب عليه طلاقا أو عتاقا أو حدا أو حقا لأحد من الناس فقال في رواية يحيى: إن العالم يلزمه أن يشهد عليه بما أقر به عنده إذا دعي إلى الشهادة عليه، وكذلك من حضره إذا سمع القصة كلها واستوعبها ولم يفته منها ما يخشى أن يكون فيه إبطالا للشهادة فليس رواية يحيى بخلاف لرواية عيسى؛ لأنهما مسألتان: مسألة رواية عيسى لا يجوز له أن يشهد فيها باتفاق، ومسألة رواية يحيى يلزمه أن يشهد فيها، وكل من سمع القصة واستوعبها، وذلك على مذهب ابن القاسم في المدونة، وأحد قولي مالك فيها؛ لأن مالكا لا يجيز في قوله الآخر للشاهد أن يشهد على الرجل بما سمع منه، وإن استوعب كلامه حتى يشهده على نفسه، وهي رواية ابن الماجشون عن مالك وقوله وقول ابن أبي حازم [وقع] في الثمانية، قال عبد المالك:(10/12)
كان رجل من قريش صديقا لي، وكانت بينه وبين وكيله محاسبة، وأجلسني مع رجل من أصحابنا لها ثم قال للوكيل: تكلم، فقال: قبضت منك كذا وكذا، ودفعت أيضا كذا وكذا، فقال القرشي: ما دفعت إلي شيئا، ثم قام وقال لي ولصاحبي: اشهدا لي بما سمعتما منه، فإنه كان جحدني حقي، فقلت له: لا والله ما لك عندنا شهادة ولا جلسنا لها ولا نشهدها، قال: فاذهب بنا إلى مالك، فإن أمرك أن تشهد فاشهد وإلا فدع، فقلت: لو أمرني أن أشهد ما شهدت؛ لأني لم أقعد للشهادة، فقمت معه إلى مالك، فلقيني عبد العزيز بن أبي حازم فقال له: يا أبا تمام، إن عبد الملك يكره أن يشهد لي وقص عليه القصة، فقال: ليس لك عنده شهادة، ثم دخلنا على مالك فقص عليه القصة فقلت: أمتع الله بك يا أبا عبد الله، الأمر على ما ذكر، فقال لي: يا عبد الملك، لا تشهد له، قال أصبغ: قال ابن القاسم: قال مالك: لا يعجلا بالشهادة حتى يريا صاحبه فيعلماه [أنه] إن لم يفعل شهدا عليه، فإن أضرم ولم ينصف شهدا عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالا سمعنا فلانا يذكر أنه شاهد لفلان في كذا وكذا وقد مات]
مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم في رجلين قالا: سمعنا فلانا يذكر أنه شاهد لفلان في كذا وكذا، وقد مات، أيشهدان على ذلك؟ قال: ما أحب أن يشهدا. قيل: فإن شهدا أتقبل شهادتهما؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وهو أمر متفق عليه، لا اختلاف في أنه لا يجوز لأحد أن يشهد على شهادة أحد بما سمع منه دون أن يشهده، وإنما اختلف إذا سمعه يشهد غيره على شهادته،(10/13)
[فقيل: إنه يجوز له أن يشهد على شهادته إذا سمعه يشهد على شهادته بها، وقيل: إنه لا يجوز أن يشهد على شهادته] حتى يشهده هو، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد رجلان على كتاب رجل]
مسألة وقال: إذا شهد رجلان على كتاب رجل جاز، وحلف مع ذلك، وإن شهدا على كتاب اثنين جاز وكانا بمنزلة الشاهدين، قال: فإن شهد رجل على كتاب ذكر حق أنه كتاب الذي عليه الحق بيده حلف صاحب الحق مع ذلك، وإن شهد على ذلك اثنان جاز وسقطت اليمين عنه، كذلك قال مالك.
قال القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفًى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يشهدعليه أنه طلق في رمضان ويشهد آخر أنه طلق في شوال]
ومن كتاب العرية وسئل: عن رجل شهد على رجل أنه صالح امرأته وشهد آخر أنه طلقها واحدة، قال: لا شهادة لهما؛ لأن شهادتهما قد افترقت، وليس هذا مثل الذي يشهد عليه أنه طلق في رمضان ويشهد آخر أنه طلق في شوال؛ لأن شهادة هؤلاء على الطلاق نفسه وشهادة هذين في أمرين مختلفين مثل أن يقول أحدهما: إنه حلف بالطلاق إن دخل دار فلان، وشهد آخر أنه حلف بالطلاق ألا يكلم رجلا فكلمه، فشهادتهما باطلة؛ لأنهما شهدا على أمرين مختلفين، قال:(10/14)
ويحلف مع شهادة كل واحد منهما على تكذيبه.
قال أصبغ عن ابن القاسم: وكذلك لو شهد شاهد أنه طلقها ألبتة وشهد آخر أنه صالحها، قال ابن القاسم: لا تجوز شهادتهما في ذلك كله ولا شيء منه؛ لأنه قد اختلف، وقال أصبغ مثله.
قال الإمام القاضي: هذه المسائل وما كان في معناها من الشهادة على الأقوال تنقسم على أربعة أقسام: قسم تلفق فيه الشهادة باتفاق، وهو أن يختلف اللفظ ويتفق المعنى، وقسم لا تلفق فيه الشهادة باتفاق، وهو أن يختلف اللفظ والمعنى وما يوجبه الحكم، وقسم المشهور فيه [أن الشهادة] تلفق، وقيل: إنها لا تلفق، وهو أن يتفق اللفظ والمعنى، وتختلف الأيام والمجالس، وقسم المشهور فيه أن الشهادة لا تلفق، وقيل: إنها تلفق، وهو أن يختلف اللفظ والمعنى ويتفق ما يوجبه الحكم، فقوله في الرجلين يشهد أحدهما على رجل أنه صالح امرأته ويشهد الآخر أنه طلقها واحدة أنه لا شهادة لهما صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه من القسم الذي يختلف فيه اللفظ والمعنى وما يوجبه الحكم، والحكم في ذلك أن يحلف على تكذيب كل واحد منهما، فإن نكل عن اليمين حبس حتى يحلف، وقيل: تطلق عليه طلقة بائنة، وذلك على اختلاف قول مالك في المدونة، وقوله: وليس هذا مثل الذي يشهد عليه أنه طلق في رمضان، ويشهد هذا أنه طلق في شوال يريد أنه ليس مثله على المشهور من أن الشهادة تلفق في ذلك، إذ قد قيل: إنها لا تلفق على ما ذكرناه، وهو قول ربيعة في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، ويقوم ذلك من قول ابن القاسم في رسم حمل صبيا من سماع عيسى بعد هذا أنه إذا شهد عليه شاهدان أنه طلق في يوم كذا وشاهدان أنه طلق في كذا لزمته ثلاث تطليقات ولم ينو، وقوله: وشهادة هذين في أمرين مختلفين مثل أن يقول أحدهما: إنه حلف بالطلاق إن دخل دار فلان وشهد(10/15)
آخر أنه حلف بالطلاق أن لا يكلم فلانا فكلمه إلى آخر قوله يريد أنه مثله على المشهور من أن الشهادة لا تلفق في ذلك، إذ قد قيل: إنها تلفق على ما ذكرناه؛ لأنه من القسم الذي يختلف فيه اللفظ والمعنى ويتفق ما يوجبه الحكم، فعلى القول المشهور إنها لا تلفق يحلف المشهود عليه مع شهادة كل واحد منهما على تكذيبه حسبما قاله فيكون عليه يمينان وقوله من رواية أصبغ عن ابن القاسم: وكذلك لو شهد شاهد أنه طلقها البتة وشهد آخر أنه صالحها لم تجز شهادتهما يريد أيضا على المشهور من أن الشهادة لا تلفق في ذلك، إذ قد قيل: إنها تلفق على ما ذكرناه؛ لأنها من القسم الذي يختلف فيه اللفظ والمعنى ويتفق ما يوجبه الحكم؛ لأن شهادتهما متفقة على وجوب التفرقة بينهما فيفرق بينهما بشهادتهما على هذا القول، ويحلف على رواية أصبغ أنه صالحها وأنه ما طلقها، فإن نكل طلقت عليه بالبتات، وقيل: يحبس حتى يحلف، فإن طال سجنه خلي سبيله ولم يكن عليه شيء، اختلف في ذلك قول مالك، ومثله مسألة سماع سحنون ومحمد بن خالد في الصبي يموت أبوه فيقوم له شاهد عدل أن أباه تصدق عليه بعبد وقبضه له، وشهد له شاهد آخر أنه نحله إياه؛ لأن شهادتهما متفقة على وجوب العبد له مختلفة في اللفظ والمعنى، فيقضى له به دون يمين على القول بأن الشهادة تلفق، وهو قول ابن الماجشون على قياس قوله في سماع محمد ابن خالد في الشاهدين يشهدان لرجل بمائة دينار فيقول أحدهما: هي من بيع، ويقول الآخر: هي من سلف أن الشهادة تامة؛ لأنهما قد اجتمعا على إخراجها من يد المشهود عليه، ولا يقضى له به حتى يبلغ فيحلف مع أي الشاهدين شاء على القول بأن الشهادة لا تلفق، وهو قول ابن القاسم في سماع محمد بن خالد؛ لأن معنى قوله فيه يحلف مع شاهده على الصدقة إنما هو إذا ادعى أن الشاهد على الصدقة هو المحق منهما مخافة أن يكون أبوه قد أشهد في صحته على اعتصاره، فإذا حلف على الصدقة بطل إشهاد أبيه به على الاعتصار، ومثله مسألة سماع أبي زيد وفي رسم القضاء المحض(10/16)
من سماع أصبغ فيمن شهد عليه شاهد واحد أنه حلف على شيء أنه إن فعله فامرأته طالق وشهد آخر أنه إن فعله فإحدى امرأتيه طالق؛ لأنها شهادة اختلف فيها المعنى واللفظ واتفق ما يوجبه الحكم، فقال ابن القاسم: إنه لا شهادة لهما على قياس القول بأن الشهادة لا تلفق، وقال أصبغ على قياس القول بالتلفيق إنهما يطلقان جميعا إن أنكر كما لو أقر ولا نية له، وهو مذهب ابن الماجشون على ما وقع له في سماع محمد بن خالد، ومن هذا المعنى ما قال ابن سحنون عن أبيه إذا جرح الشاهد رجلان كل واحد بمعنى غير الآخر قال: هي جرحة لاجتماعهما على التجريح إنه رجل سوء، وقد قال أيضا: إنه لا يجرح حتى يجتمع رجلان على معنى واحد إما كذاب، وإما شارب خمر، أو آكل حرام، ونحوه، والله الموفق.
[: الأب يشهد على ابنه في حقوق أو طلاق أو عتاق]
ومن كتاب يوصي بمكاتبه وسألته: عن الأب يشهد على ابنه أو الابن يشهد على أبيه في حقوق أو طلاق أو عتاق، قال: أما شهادة الأب على ابنه فهي تجوز في جميع ما ذكرت إلا أن تكون عداوة تعلم، وشهادة الابن على أبيه جائزة في الحقوق والعتاق، وأما في الطلاق فإنه إن شهد على أمه أو على غير أمه إذا لم تكن أمه حية فهي جائزة إلا أن تكون عداوة تعلم، وإن شهد على غير أمه وأمه حية كانت تحته أو طلقها فلا تجوز شهادته عليه في طلاق التي تحته، قال سحنون: إذا شهد على أبيه أنه طلق أمه فإن كانت أمه مدعية للفراق طالبة له فلا تجوز شهادته، فإن كانت منكرة لذلك جاحدة(10/17)
له جازت شهادته؛ لأنه شهد عليهما جميعا، وإذا كانت الأم طالبة لذلك لم تجز؛ لأنه شاهد لأمه.
قلت: أرأيت إن شهد رجل على امرأة من نساء أبيه أنه طلقها وهي من ضرائر أمه هل تجوز شهادته؟ فقال: لا تجوز شهادته إلا أن تكون المرأة هي الطالبة للفراق فتجوز شهادته، قال أصبغ: شهادة الابن على أبيه بطلاق أمه جائزة إلا أن يكون بينهما عداوة أو يعلم أنها طالبة للفراق فلا تجوز شهادة الابن لها، فإن كانت عداوة الابن بينه وبينهما جميعا سقطت عنهما بالعداوة كالأجنبيين، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] قال القاضي: لا اختلاف في جواز شهادة الأب على ابنه والابن على أبيه في الحقوق والعتاق، وأما شهادته عليه في الطلاق فقوله: إنه إن شهد على أمه أو غير أمه إذا لم تكن أمه حية فهي جائزة إلا أن تكون عداوة تعلم معناه إلا أن تكون أمه مدعية للطلاق على ما قاله سحنون وأصبغ؛ لأن قولهما تفسير لقوله، وقوله: إن شهد على غير أمه وأمه حية كانت تحته أو طلقها فلا تجوز شهادته عليه في طلاق التي تحته معناه إلا أن تكون المرأة هي الطالبة للفراق على ما قاله بعد ذلك؛ لأن قوله يبين بعضه بعضا، فلا خلاف بين ابن القاسم وأصبغ وسحنون في شيء من هذا كله، ولأصبغ في الواضحة إن شهادته على أبيه بطلاق غير أمه جائزة وإن كانت أمه حية إذا لم تكن في عصمته، فتحصيل هذه المسائل أن شهادته على أبيه بطلاق أمه جائزة إلا أن تكون طالبة للطلاق، وأن شهادته عليه بطلاق غير أمه جائزة إن كانت أمه ميتة، وغير جائزة إن كانت حية في عصمته إلا أن تكون المرأة هي الطالبة للفراق، والنظر عندي ألا تجوز شهادته عليه(10/18)
بطلاقها وإن كانت هي الطالبة للفراق إذا كانت [أمه] حية في عصمته، واختلف إن كانت أمه حية في غير عصمته، فقيل: إن شهادته لا تجوز إلا أن تكون المرأة هي الطالبة للفراق وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وقول مطرف وابن الماجشون، وقيل: إنها جائزة وإن لم تكن طالبة للطلاق، وهو قول أصبغ.
وقد قال بعض أهل النظر على قياس قول ابن القاسم في هذه المسألة: ولو شهد الابن على أبيه أنه طلق زوجتيه جميعا إحداهما أمه، فإنه ينظر في ذلك، فإن كانت أمه غير طالبة للطلاق والزوجة الأخرى طالبة له طلقتا جميعا، كانت الشهادة واحدة أو مفترقة، إذ لا تهمة في ذلك، وإن كانت الأم طالبة للطلاق والأخرى غير طالبة له لم تطلق واحدة منهما، كانت الشهادة واحدة أو مفترقة؛ لأنه يتهم في أمه أن يشهد لها فيما ترغب، ويتهم في ضرة أمه أن يشهد عليها بما تكره طلبا لرضا أمه إذ هي ضرتها، وإن كانتا جميعا كارهتين للطلاق لم تجز شهادته إن كانت الشهادة واحدة؛ لأنها تسقط في زوجة أبيه للتهمة فيها بسبب أمه، وتسقط في أمه لاتهامه في بعض الشهادة، وتجوز إن كانت مفترقة في أمه، ولا تجوز في الأخرى للتهمة فيها بسبب أمه، وإن كانتا جميعا طالبتين للطلاق لم تجز شهادته إن كانت الشهادة واحدة؛ لأنها تسقط في أبيه للتهمة فيها، وتسقط في الأخرى لاتهامه في بعض الشهادة، وتجوز إن كانت الشهادة مفترقة لغير أمه فتطلق إن كان معه غيره، ويحلف أبوه إن لم يكن معه غيره، ولا تجوز لأمه؛ لأنه شاهد لها بالطلاق الذي تطلبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: المشهود على شهادته إذا أنكر الشهادة وزعم أنه لم يشهدهما عليه]
مسألة قال ابن القاسم: إذا شهد الرجلان على شهادة رجل غائب فقطع بشهادتهما الحق مع شاهد ويمين وصاحب الحق إن كان(10/19)
شاهد شيء يجوز فيه شاهد ويمين أو شاهدان ثم جاء الذي شهد على شهادته فأنكر أن يكون شهد بتلك الشهادة، قال: الحكم ماض، ولا غرم عليهما إن [قال] : شهدا علي بباطل.
قلت: فلو كان قدم قبل شهادتهما؟ فقال: هذا القول قال: فلا شهادة لهما، ويستحلف صاحب الحق مع شهادة الباقي منهما.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت في بعض الروايات في أثناء المسألة التي قبلها فكتبتها بعدها ليتصل الكلام فيها بعضه ببعض، ووقعت أيضا في سماع أبي زيد وفي رسم الأقضية من سماع يحيى، وزاد فيها في سماع يحيى من قول مالك: إن القضاء يفسخ خلاف قول ابن القاسم، فوجه قول ابن القاسم أنه جعل إنكار المشهود على شهادته للشهادة بعد الحكم كرجوع الشاهد عن الشهادة بعد الحكم في أن الحكم لا يرد لاستواء المسألتين في أن الحاكم حكم بما يجوز له من الشهادة، ولم يكن منه تفريط، فوجب ألا يرد حكمه، ووجه قول مالك في الفرق بين المسألتين هو أن المشهود على شهادته إذا أنكر الشهادة وزعم أنه لم يشهدهما عليه لا يخلو من أن يكون صادقا أو كاذبا، فإن كان صادقا بطلت الشهادة بصدقه أنهما كذبا عليه في الشهادة، وإن كان كاذبا بطلت شهادته لكذبه، إذ لا تجوز شهادة الكاذب، فلما كانت تبطل في كل وجه ولم يمكن أن يضمن الشاهدان على الشهادة لثبوتهما على شهادتهما ولا المشهود على شهادتهما إذا لم يثبت عليه أنه أشهدهما على شهادته ثم رجع عنها وجب أن يرد القضاء لئلا يتلف على المقضي عليه ماله، والشاهدان إذا رجعا عن شهادتهما مقران على أنفسهما بالعداء على المحكوم عليه فوجب أن يضمنا، ولم يصح للحاكم أن يرد الحكم(10/20)
برجوعهما؛ لأن الجرحة ثبتت عليهما بنفس الرجوع، فوجب ألا يصدقا فيه كما لا يصدقان فيما يشهدان به بعد ذلك، وأما إذا أنكر المشهود على شهادته الشهادة قبل أن يحكم بها وقطع على أنه لم يشهد عليها فلا اختلاف في أنه لا يحكم بها، ولو لم ينكرها ولا قطع على أنه لم يشهد عليها، وإنما قال: لا أذكرها وأنا شاك فيها لتخرج ذلك على اختلافهم في العمل بالحديث إذا رواه الراوي فتوقف فيه المروي عنه وشك فيه ولم يقطع على أنه لم يحدث به، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي له ببقية الثلث فتحوط الوصايا بالثلث وهوشاهد على الوصية]
مسألة وسألته: عن رجل يوصي له ببقية الثلث فتحوط الوصايا بالثلث وهو شاهد على الوصية هل تجوز شهادته ولم يبق له من الثلث شيء؟ قال ابن القاسم: إن كان الميت رجلا يداين الناس ويشك في أمره أن يكون له ديون على الناس يقينا فلا أرى شهادته تجوز، وإن كان لا يداين الناس فشهادته جائزة.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأنه متهم في شهادته، وإن أحاطت الوصايا بالثلث إذا كان مما يرجى أو يطرأ له مال يبقى له من ثلثه بقية، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصرانيين يختصمان إلى حكم المسلمين في مال فرضيا بشهادة نصرانيين]
مسألة وسألته: عن النصرانيين يختصمان إلى حكم المسلمين في مال فرضيا بشهادة نصرانيين، قال ابن القاسم: لا يحكم بينهما(10/21)
بشهادة النصري ويتراضيان فيما بينهما على ما أحبا.
قلت: وكذلك المسلمان يرضيان بشهادة المسخوطين؟ قال: لا يحكم بينهما بشهادة المسخوطين وليرضياهما بما أحبا، قلت: فإن تراضيا بشهادة مسخوطين ثم أبى أحدهما بعدما شهدا عليهما؟ قال ابن القاسم: إذا علما بشهادتهما ورضيا فإن ذلك يلزمهما، وليس لهما أن ينكصا، وهما بمنزلة ما لو رضيا بغير شهادتهما.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يحكم بينهما بشهادة النصري، ولا بشهادة المسخوطين معناه إذا رضيا أن يحكم بينهما بشهادتهم دون تعيين بأن يقولا: قد رضينا أن يحكم بيننا بشهادة شاهدين من النصارى أو ممن لا تجوز شهادته من المسخوطين المسلمين، وهذا ما لا اختلاف فيه؛ لأن رضاهما بذلك غرر، والحكم به لا يجوز؛ لأنه خلاف ما أمر الله به من استشهاد من يرضى من الشهداء، وأما لو رضيا بما يشهد به عليهما شاهدان مسخوطان سمياهما في أمر اختلفا فيه فلما شهدا عليهما أبى أحدهما، فقال ابن القاسم في هذه الرواية: إذا علما بشهادتهما ورضيا فإن ذلك يلزمهما يريد أن ذلك إنهما يلزمها إذا رضيا بما شهدا بعد الشهادة والعلم بما شهدا، وقد قيل: إنهما إذا رضيا قبل الشهادة بما يشهدان لزمهما ما يشهدان به ولم يكن لهما ولا لأحدهما أن ينكصا عن ذلك، وقد(10/22)
مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: صاحب السوق أخذ سكران فسجنه وشهد عليه هو وآخر معه]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال في صاحب السوق أخذ سكران فسجنه وشهد عليه هو وآخر معه، قال: لا أرى أن تجوز شهادته؛ لأنه قد صار خصما حين سجنه، ولو رفعه إلى غيره قبل أن يسجنه وشهد مع الرجل جازت شهادته.
قال محمد بن رشد: إنما جازت شهادته عليه وإن أخذه فرفعه ما لم يسجنه؛ لأن ما فعل من أخذه ورفعه لازم له من أجل أنه موكل بالمصلحة ولو لم يكن صاحب سوق موكلا بالمصلحة فأخذه سكران فرفعه إلى غيره لم تجز شهادته عليه على ما قال في المسألة التي بعدها، وبالله التوفيق.
[مسألة: أربعة نفر شهدوا على رجل بالزنى فتعلقوا به فأتوا به إلى السلطان وشهدوا عليه]
مسألة وقال في أربعة نفر شهدوا على رجل بالزنى فتعلقوا به فأتوا به إلى السلطان وشهدوا عليه فقال: لا أرى أن تجوز شهادتهم، وأراهم قذفة، ورواها أصبغ في كتاب الحدود.
قال محمد بن رشد: إنما لم تجز شهادتهم عليه؛ لأن ما فعلوا من أخذه وتعلقهم به ورفعهم إياه إلى السلطان لا يلزمهم ولا يجب عليهم، بل هو مكروه لهم؛ لأن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله تعالى، فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله» ، وقال لهزال: «يا هزال، لو سترته بردائك لكان خيرا لك» ، فلما فعلوا ذلك كانوا طالبين له ومدعين(10/23)
الزنى عليه وقذفة له، فوجب عليهم الحد له إلا أن يأتوا بأربعة شهداء سواهم على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة، ولو كانوا أصحاب شرط موكلين بتغيير المنكر ورفعه أو أحدهم فأخذوه فجاءوا به وشهدوا عليه لقبلت شهادتهم؛ لأنهم فعلوا في أخذه ورفعه ما يلزمهم على قياس قوله في المسألة التي قبلها، وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون وأصبغ أنه إذا شهد أربعة بالزنى على رجل جازت شهادتهم وإن كانوا هم القائمين بذلك مجتمعين جاءوا أو مفترقين إذا كان افتراقهم قريبا بعضه من بعض، ووجه ذلك أنه لما كان ما فعلوا من قيامهم عليه مباحا لهم، وإن كان الستر أفضل لم يكونوا خصما إذ لم يقوموا لأنفسهم، وإنما قاموا لله، فوجب أن تجوز شهادتهم، وقد مضى هذا الاختلاف مجردا على التوجيه، في أول رسم من السماع، ولو كانت الشهادة فيما يستدام فيه التحريم من حقوق الله كالطلاق والعتق لجازت شهادتهما [في ذلك] وإن كانا هما القائمين بذلك؛ لأن القيام به متعين عليهما، وقد قال بعض المتأخرين: لا يجوز ذلك على مذهب ابن القاسم وقوله في هذه المسألة خلافا لمطرف وابن الماجشون، ووجهه بأن كل من قام في حق يريد إتمامه فمتهم أن يزيد في شهادته ليتم ما قام فيه، وهو عندي بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة النساء على الولادة والاستهلال]
مسألة وسئل: عن المرأتين تشهدان على استهلال الصبي أتجوز شهادتهما؟ قال: نعم، قيل: فشهدتا أنه غلام [أتجوز] ؟ قال: لا(10/24)
أراه إلا وسيكون مع شهادتهما اليمين كأنه يرى ذلك، قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: والقياس أن لا تجوز شهادتهما؛ لأنه يصير نسبا قبل أن يصير مالا.
قلت: مات بأي شيء يرث ويورث؟ قال: بأدنى المنزلتين إلا أن يكون لا يبقى ويخاف عليه الحوالة إن احتبس إلى أن يوجد رجال يشهدون على رؤيته فتجوز شهادة النساء فيه حينئذ، قال ابن القاسم: وكذا المرأة تلد ثم تهلك هي وولدها في ساعة يحلف أبو الصبي أو ورثته مع شهادة النساء أن الأم ماتت قبله فيستحقون ميراثه من أمه؛ لأنه مال، قال سحنون: وإنما تجوز شهادة النساء على الولادة والاستهلال إذا كان البدن قائما ورأى الناس أن قد تم أمره وكمل جسده، وكذا شهادتهن في القتل.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم في هذه الرواية شهادة امرأتين على استهلال الصبي وعلى أنه غلام مع اليمين، وهذا يدل من مذهبه على أن شهادتهما على الاستهلال جائزة وإن غاب البدن وفات، إذ لو كان حاضرا لاستغنى عن شهادة النساء فيه إنه غلام بنظر الرجال إليه، وكذلك القتل الخطأ لا يشترط في إجازة شهادة النساء فيه حضور البدن على مذهبه، قال في المدونة: لأنه مال، وشهادة النساء في المال جائزة خلاف قول ربيعة وسحنون في المدونة إن شهادة النساء لا تجوز على الاستهلال ولا على أهل الخطأ إلا مع حضور البدن، وعلى قولهما لا تجوز شهادتهن في أنه ذكر أو أنثى، وهي رواية مطرف عن مالك وأشهب عن مالك أيضا في كتاب ابن سحنون، وهو قول ابن هرمز، وهو القياس(10/25)
على ما قاله ابن القاسم ههنا في رواية أصبغ عنه؛ لأنه في الاستهلال فيصير نسبا قبل أن يصير مالا على ما قاله وفي القتل الخطأ، وإن كان مالا، فإذا جوزت شهادة النساء فيه مع مغيب البدن آل ذلك إلى جواز شهادتهن فيما عدا المال من الموت الذي يقطع العصمة بينه وبين أزواجه فيكون لهن أن يتزوجن، وقد يكون له أمهات أولاد ومدبرون فيعتقون، وقد يوصى بعتق وبتزويج بناته فتؤول إجازة شهادتهن في مثل الخطأ إذا لم يعرف الموت بحضور البدن ميتا إلى أن تجوز في ذلك كله، وشهادتهن فيما عدا المال لا تجوز ففي ذلك من قول ابن القاسم نظر، وهو استحسان، والقياس قول سحنون وربيعة ألا تجوز شهادتهن إلا في صفة القتل إذا عرف الموت لا في القتل إذا لم يعرف الموت، وكذلك الشاهد الواحد يشهد على مثل الخطأ فلا تجوز إلا أن يعرف الموت بحضور البدن ميتا، وأما شهادة النساء في المرأة تلد ثم تهلك هي وولدها في ساعة على أيهما مات أولا فلا اختلاف في إجازتها؛ لأنها شهادة على مال لا تتعدى إلى ما سوى المال، وقول سحنون وكذلك شهادتهن في القتل يريد في القتل الخطأ على ما مضى القول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهادة على الشهادة في الزنى]
مسألة قال ابن القاسم: في الشهادة على الشهادة في الزنى لا تجوز حتى يشهد أربعة على أربعة في موضع واحد ويوم واحد وساعة واحدة في موقف واحد على صفة واحدة.
قال محمد بن رشد: ليس من شرط صحة الشهادة على الزنى تسمية الموضع ولا ذكر اليوم والساعة، وإنما من شرط صحتها عند ابن(10/26)
القاسم ألا تختلف الشهود في ذلك، فإذا شهد أربعة على رجل بالزنى فقالوا: رأيناه معا يزني بفلانة غائبا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة تمت الشهادة، وإن قالوا: لا نذكر اليوم ولا نحد الموضع، وإن قالوا في موضع كذا وساعة كذا من يوم كذا كان أتم في الشهادة، وإن اختلفوا في الموضع أو في الأيام فقال بعضهم: كان [ذلك] في موضع كذا، وقال بعضهم: بل كان في موضع كذا، أو قال بعضهم: كان في يوم كذا، وقال بعضهم: بل في يوم كذا بطلت شهادتهم عند ابن القاسم وجازت عند ابن الماجشون، قال: لأنهم اختلفوا فيما لو لم يذكروه لتمت الشهادة ولم يلزم الحاكم أن يسألهم عنه، فيحتمل أن يريد أنه لا يلزمه أن يسألهم عن ذلك إذا اتفقوا على أن رؤيتهم إياه إنما كانت معا في زنى واحد، ويحتمل أن يريد أنه لا يلزمه أن يسألهم عن ذلك بحال إذا شهدوا عنده فقال كل واحد منهم: إنه رآه يزني كالمرود في المكحلة، ويكون من مذهبه أن الأفعال تلفق في الشهادة كما تلفق الأقوال خلاف ما ذهب إليه ابن القاسم من أنها لا تلفق كما تلفق الأقوال، والأول أبين، ولا تجوز شهادة أربعة على أربعة في الزنى إلا إن شهد الأربعة معا على شهادتهم كل واحد من الأربعة أنهم رأوه معا يزني بفلانة فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وإن تفرق إشهادهم لهم مثل أن يشهدوا اليوم أحدهم، وغدا الثاني، وبعد غد الثالث، والذي يليه الرابع، وأما إن تفرقوا في الإشهاد مثل أن يشهد أحدهم اليوم على شهادته جميع الأربعة ثم يشهدهم الثاني غدا، ثم الثالث بعد غد ثم الرابع في الذي يليه فلا يجوز ذلك إلا على القول بجواز تفرق الشهود في تأدية الشهادة على الزنى، وقد مضى ذكر الخلاف في ذلك في أول رسم من هذا السماع؛ لأن الإشهاد على الشهادة كتأدية الشهادة فيما يلزم فيها، وإن لم يسمع الأربعة من جميع الأربعة وإنما سمعوا من بعضهم(10/27)
جاز أن يسمع من الباقين شاهدان كان الباقون واحدا أو اثنين أو ثلاثة، فلا بد في الشهادة على الشهادة من أربعة على جميع الأربعة أو اثنين اثنين على كل واحد منهم إن تفرقوا فلا يجزئ أقل من أربعة، ولا يحتاج [إلى] أكثر من ثمانية، ويجوز في تعديلهم أيضا اثنان على كل واحد منهم أو أربعة على جميعهم، هذا مذهب ابن القاسم، وبه قال ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، وقال مطرف عن مالك: لا يجوز في الشهادة على الشهادة في الزنى إلا ستة عشر شاهدا أربعة على كل واحد من الأربعة تفرقوا أو اجتمعوا، ولا يجزئ في تعديلهم إلا أربعة على كل واحد منهم فيكونون ثمانين فيما بين الشهود والمعدلين، ويريد ابن القاسم بقوله في موضع واحد ويوم واحد وساعة واحدة أن يكون الزنى الذي شهد عليه الأربعة زنى واحدا، ويريد بقوله في موقف واحد أن يشهدوا كلهم معا على شهادتهم لكل واحد من الشهود الأربعة وأن يؤدي الشهود الأربعة الشهادة على الشهادة عند الحكم معا غير مفترقين، وقد قيل: إنهم إن تفرقوا في ذلك جاز، وقد تقدم ذكره، فإن شهد أربعة على أقل من أربعة أو أقل من أربعة على أربعة كانوا قذفة يحدون إلا أن يأتوا بما يوجب الحد على المشهود عليه، وذلك أربعة سواهم يشهدون على شهادة أربعة أو على معاينة الزنى على القول: بأنه لا يجوز تفرق الشهود في تأدية الشهادة في الزنى، وأما على القول بأنه جائز فيجزئهم إن كانوا ثلاثة أن يأتوا بشاهد يشهد معهم على شهادة الأربعة أو على شهادة نفسه، وقد زدنا هذا المعنى بيانا وتحصيلا في كتاب الرجم من كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.(10/28)
[: أمي قرئ عليه كتاب فقال أشهد على ما فيه]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار سئل عن رجل أمي قرئ عليه كتاب فقال: أشهد على ما فيه، أتجوز شهادته وهو لا يصف ما فيه حتى يقرأ عليه؟ قال: نعم، تجوز شهادته، وليس كل الناس يسوقون كل ما أشهدوا عليه وإن كان ممن يكتب حتى يقرأ الكتاب، فإذا قرأه عرف شهادته وحفظها، ولو قيل له بعدما يقرأها أيستظهرها ما استظهرها، فإن كان عدلا وأثبت ما قرئ عليه جازت شهادته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ليس على الشاهد أن يستظهر الكتاب الذي وضع فيه شهادته، وحسبه أن يعرف ما تضمنه إذا قرئ أو قرأه فيقول: أشهد بما فيه، وهذا في الاستراعاءات التي تكتب على معرفة الشاهد فيضع فيه شهادته ثم يشهد بما تضمنت، وهذا إذا كان الشاهد من أهل اليقظة والفهم بمعاني ما تضمنه الكتاب إذا قرأه أو قرئ عليه، وأما إذا كان على غير هذه الصفة فلا ينبغي للحاكم أن يجيز شهادته إلا أن يؤديها لفظا فيقيدها عند الحاكم أو كاتبه على ما يشهد بها، وأما ما يشهد به المتعاملان على أنفسهما فليس على الشاهد أن يقرأ الكتاب ولا أن يقرأ عليه إن كان أميا، وحسبه إذا ذكر الشهادة أن يقول: أشهدني فلان وفلان على ما في هذا الكتاب عنهما وإن لم يقرأه ولا عرف ما فيه إلا أن يكون الشاهد من أهل العلم فيستحسن له إذا شهد على شيء مكتوب في كتاب أن يقرأه لئلا يكون فيه فساد، فإن رأى فيه فسادًا نبّه عليه فاستدرك فسخه قبل فواته، وبالله التوفيق.(10/29)
[مسألة: الذي يبيع الخمر لا تجوز شهادته]
مسألة سئل: عن رجل شهد بشهادة على رجل فقال المشهود عليه: إن هذا الشاهد علي له حوانيت يؤاجرها من الخمارين، وأتى عليه بشهيدين، وذكر الشاهد أنه [قد] حبس تلك الحوانيت على امرأته وأتى عليه بشهود، قال: إن شهدوا عليه أنه يتولى كراءها ردت شهادته ولم تقبل ولا نعمى عين؛ لأن الذي يلي الحرام لغيره كالذي يليه لنفسه، بل الذي يليه لنفسه لو كان يعذر لكان أعذر فلا تقبل شهادته ولا ينعم عينا.
قال محمد بن رشد: في هذه المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: هذا أنها جرحة تبطل شهادته.
والثاني: قول محمد بن إبراهيم بن دينار الذي في المدونة والمبسوطة أنها ليست بجرحة تبطل شهادته، قال: أما الذي يبيع الخمر فلا تجوز شهادته ولا ينعم عينا، وعليه العقوبة الموجعة، وأما الذي يكري بيته فلا أرى أن ترد شهادته.
والثالث: قول ابن القاسم في المدنية والمبسوطة أيضا أن شهادته لا تجوز إلا أن يعذر بجهل، قال: أما الذي يكري بيته من خمار أو يبيعه ممن يبيع فيه خمرا فإنها لا تقبل شهادته(10/30)
إلا أن يعذر بجهل، وإنما لم يجز ابن القاسم شهادة من يكري حانوته ممن يبيع فيها خمرا؛ لأن فعل ذلك عون على ما لا يحل من بيع الخمر التي لعن الله عز وجل على لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من استباحه فقال: «لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وآكل ثمنها» فالعون على ما لا يحل لا يحل، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . لا أنه رأى الكراء عليه حراما كثمن الخمر، وذلك بين من قوله: لأن الذي يلي الحرام لغيره مثل الذي يليه لنفسه إلى قوله: لكان أعذر؛ لأن الكراء لو كان عليه حراما كثمن الخمر لكان الذي يتولاه لنفسه أشد من الذي يتولاه لغيره لا محالة، ولما لم يكن الكراء عليه حراما كثمن الخمر لم يسقط ابن دينار شهادته، وجعله من الذنوب التي لا تسقط الشهادة، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن مثل هذا ليس من شيم أهل العدالة لا سيما وقد قيل: إن الكراء عليه حرام لا يحل له كثمن الخمر، والأظهر أنه ليس هو عليه حرام كثمن الخمر، وإنما يؤمر بالصدقة به على سبيل التورع ويفعل ذلك الإمام به على سبيل الأدب له، ووجه قول ابن القاسم في المدنية والمبسوطة أنه لما كان هذا الفعل قد يمكن أن يظن الجاهل أنه سائغ له وأن الإثم فيه إنما هو على بائع الخمر في الحانوت لا عليه؛ لأنه أكرى منه ما يجوز له كراؤه من غير عذره بالجهل، وهو أعدل الأقوال وأولاها بالصواب، وأما الذي يبيع الخمر فلا اختلاف في أن شهادته لا تجوز، وكذلك في كتاب الرجم من المدونة أن الذي يعصر الخمر ويبيعها لا تجوز شهادته وإن كان لا يشربها، قال مالك في المجموعة وكتاب ابن المواز ولو باعها عصيرا لم ترد شهادته، وبالله التوفيق.(10/31)
[مسألة: شهادة الشريك على شريكه]
مسألة وسئل: عن الرجلين يكونان شريكين جميعا متفاوضين يبيع أحدهما من رجل سلعة ويوجهها له وشريكه حاضر شاهد على بيعه ثم يخالف إلى السلعة ذلك الشريك الذي باعها فيبيعها من رجل آخر وينفذها له فيبيع المشتري الأول السلعة وليس له شاهد على الشراء إلا الشريك في السلعة الذي حضر حين باعها، هل ترى شهادته جائزة؟ أم هل ترى له أن يأخذ من فضل ما باعها به شريكه على الثمن الأول الذي كان باعها به أولا إذا جحد شريكه البيع وهو شاهد عليه؟ وكيف إن كان للمشتري الأول بينة على الشراء وقد باع المشتري السلعة بفضل هل يكون له ذلك الفضل؟ فقال: شهادة الشريك غير جائزة على شريكه، وأرى إن كان قد باعها شريكه بأكثر من الثمن الأول أن لا يأخذ من ذلك الفضل شيئا وإن كان للمشتري بينة على الشراء منه وقد فاتت [السلعة] من يد الذي اشتراها بفضل باعها به فأرى ذلك الفضل للمشتري الأول؛ لأنه ثمن سلعته، والمشتري مخير إذا كانت له بينة، وقد فاتت في قيمتها وفي الثمن الذي باعها به يكون مخيرا في ذلك على بائعها.
قال القاضي: قوله: إن شهادة الشريك غير جائزة على شريكه يريد في نقض البيع الثاني ورد السلعة إلى المشتري الأول صحيح؛ لأن ما باع شريكه فكأنه هو قد باعه؛ لأن شريكه وكيل له على البيع، ويد الوكيل كيد الموكل فصار في شهادته كمن باع سلعة من رجل ثم شهد لغيره أنه باعها(10/32)
منه قبل ذلك، وأما شهادته على الفضل للمشتري الأول فذلك جائز؛ لأنه شهد على نفسه وعلى شريكه بفضل في أيديهما أنه للمشتري الأول، فعليه أن يدفع إليه حصته من الربح ويحلف مع شهادته على الشريك فيأخذ منه نصف الربح الآخر؛ لأن السلعة سلعته فله أن يجيز البيع ويأخذ الثمن، وهذا بين، وأما إن كان للمشتري بينة على الشراء منه وقد فاتت السلعة من يد الذي اشتراها بفضل باعها به، فقوله: إن الفضل للمشتري الأول؛ لأنه ثمن سلعته بين صحيح، وقوله: إن المشتري مخير إذا كانت له بينة وقد فاتت في قيمتها وفي الثمن الذي باعها به يريد في قيمتها يوم تعدى عليها البائع وفي الثمن الذي باعها به وإن كان المبتاع الثاني قد باعها ففاتت في يد المبتاع الثالث كان مخيرا في أخذ أي ثمن شاء، وفي أن يضمن البائع الأول قيمتها، فإن ضمن البائع الأول قيمتها وأخذ منه الثمن جازت البيعتان جميعا، وإن أخذ الثمن الثاني انتقضت البيعة الأولى؛ وإن ألفاها قائمة بيد المشتري الثالث كان مخيرا بين أن يأخذ سلعته فتنتقض البيعتان جميعا أو يأخذ الثمن [الأول فتجوز البيعتان جميعا، أو يأخذ الثاني] فتنتقض البيعة الأولى، وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي فقامت تدعي ما في البيت من متاع النساء والرجال]
مسألة وسئل: عن الذي يشهد لامرأته إن كان شيء تغلق عليه باب بيتها فهو لها، فقال: سواء أشهد لها أو لم يشهد لها، ما في البيت مما يعرف أنه متاع النساء فهو لها إلا أن يكون اشترى لها من متاع الرجال شيئا فأشهد لها أنه إنما يشتريه لها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المشهد لامرأته بهذه الشهادة توفي فقامت تدعي ما في البيت من متاع النساء والرجال فلم ير لها فيما أشهد لها به منفعة إذ لم يشهد لها على شيء بعينه أنه لها،(10/33)
وإنما أشهد لها بما في بيتها، ولعل ما تدعيه من متاع الرجال لم يكن في بيتها يوم الإشهاد فقال: سواء أشهد لها أو لم يشهد لها، ما في البيت مما يعرف أنه من متاع النساء فهو لها، يريد وما كان فيه من متاع الرجال فهو لورثته إلا أن يكون اشترى لها من متاع الرجال شيئا فأشهد لها أنه إنما يشتريه لها، وفي قوله: إلا أن يكون اشترى لها إلى آخر قوله، دليل على أنه لو أشهد لها على شيء بعينه من متاع الرجال أنه لها لم يكن لها، وفي ذلك نظر؛ لأنه إن لم يعلم أصل الملك له صح الإقرار لها، وإن علم أصل الملك له كان إقراره هبة تصح لها بحيازتها إياها؛ لكونها في بيتها وتحت يدها إلا على ما في سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات في نحو هذه الحيازة والقياس على مذهب ابن القاسم؛ لأن يد الزوج عنده هي المغلبة على يد الزوجة إذا اختلفا فيما هو من متاع الرجال والنساء، ولو قامت في حياته تدعي ما في بيتها من متاع الرجال وتحتج بما أشهد لها به من أن جميع ما في بيتها لها، فناكرها في ذلك وادعاه لنفسه وزعم أنه لم يكن في بيتها يوم أشهد لها بما أشهد وأنه إنما اكتسبه بعد ذلك لوجب أن ينفعها الإشهاد ويكون القول قولها مع يمينها إلا أن يقيم هو البينة أنه اكتسب ذلك بعد الإشهاد، ويحتمل أن يكون معنى المسألة أنه أشهد لها بذلك في مرضه الذي مات منه فلا يكون في بطلان الشهادة إشكال، ولا في أنها لا يكون لها من متاع الرجال إلا ما أشهد عند اشترائه أنه إنما يشتريه لها كلام، وبالله التوفيق.
[: قال امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص]
ومن كتاب حمل صبيا على دابة قال ابن القاسم في رجلين شهدا على رجل أنه أشهدهما في رمضان أنه طلق امرأته واحدة، وشهد رجلان آخران أنه أشهدهما في شوال أنه طلق امرأته واحدة، وشهد رجلان آخران(10/34)
أنه أشهدهما في ذي القعدة أنه طلق امرأته واحدة أنها ثلاث تطليقات، ولا يدين إذا اختلفت الأيام والمجالس، وكذلك إذا شهدوا أنه أشهدنا على طلقة طلقة لزمت ثلاث ولا يدين، قال: وكذلك أيضا لو قال امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص، ثم قال من الغد عند قوم آخرين امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص، ثم قال من الغد عند قوم آخرين امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص أنه تلزمه ثلاث تطليقات، وهو بمنزلة لو أن رجلا أشهد على نفسه قوما أن عليه لفلان مائة دينار، ثم أشهد آخرين من الغد أن لفلان عليه مائة دينار، ثم أشهد آخرين من الغد أن عليه لفلان مائة دينار أنه يلزمه ثلثمائة دينار إن طلبها ولي الحق، وفي سماع أصبغ في النكاح الأول قال أصبغ: يعني إذا شهدوا عليه بمائة ثم مائة مفترقين وادعى أنها مائة واحدة، قال أصبغ: وأنا أرى غير ذلك كله، أما الطلاق فأرى أن يحلف ويدين ولا يكون عليه إلا طلقة واحدة إلا أن يجدد الطلاق عند كل شهيدين فيقول: اشهدوا أنها طالق ويقع الإشهاد عليه كذلك فتكون الشهادات طلاقا طلاقا فيكون بتاتا، وأما أن يقول: اشهدوا أني قد طلقتها فيدين ويترك، وأما الحق فإني أرى إن كان له كتاب في كل شهادة فهي أقوال مختلفة، وإن كان كتابا وأحدا فهو حق واحد، وإن كان بغير كتاب أصلا إنما كان يشهد مجملا ههنا وههنا فمائة واحدة ويحلف، وكذلك إذا تقارب ما بين ذلك مثل أن يشهد ههنا، ثم يقوم إلى موضع آخر، فيشهد، ثم يتحول إلى موضع آخر فيشهد آخرين.(10/35)
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: إنه يلزمه ثلاث تطليقات ولا يدين إذا شهد عليه شاهدان بطلقة وشاهدان بطلقة وشاهدان بطلقة في أوقات مختلفة [يأتي على قياس قول ربيعة في المدونة أنه إذا شهد عليه شاهد بطلقة وشاهد بطلقة وشاهد بطلقة في أوقات مختلفة] إن الشهادة لا تلفق في ذلك ويحلف ما طلق ولا يلزمه شيء، وأما على القول بأن الشهادة تلفق فيلزمه طلقة واحدة لاجتماع الشاهدين عليها ويحلف فيما زاد، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقوله في رسم القطعان بعد هذا فينوى في هذه المسألة، وهو قول مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى، وكذلك قوله في هذه الرواية إن الرجل إذا أشهد على نفسه شهودا بمائة دينار لفلان ثم أشهد آخرين من الغد بمائة، ثم أشهد من الغد آخرين له بمائة تلزمه ثلثمائة إن طلبها ولي الحق يأتي على القول بأن الشهادة لا تلفق إذا شهد للرجل شاهد أن فلانا أقر له بمائة في يوم كذا، وشهد شاهد آخر أنه أقر له من الغد بمائة وشهد ثالث أنه أقر له من الغد بمائة فيحلف مع كل شاهد ويستحق ثلثمائة، وأما على القول بأن الشهادة تلفق في هذه المسألة فيأخذ مائة واحدة باجتماع الشهود عليها بتلفيق الشهادة ويحلف المطلوب ما له عليه شيء، أو ما له عليه إلا مائة واحدة أشهد له بها شاهدا بعد شاهد بعد شاهد ولا يلزمه شيء غيرها فيأخذ في مسألة الكتاب مائة واحدة ويحلف المطلوب أنه ما له عليه إلا مائة واحدة أشهد له عليها شهودا بعد شهود، فإن نكل عن اليمين حلف الطالب أنها ثلاثة حقوق وأنها ثلثمائة، وإن أنكر أن يكون له عليه شيء أصلا أدى الثلثمائة ولم يكن على الطالب يمين، وقوله في الكتاب: إنه يلزمه ثلثمائة إن طلبها ولي الحق يريد بعد يمينه أنها ثلاثة حقوق، فإن نكل عن اليمين حلف المطلوب أنها حق واحد وأدى مائة واحدة.
وتفرقة أصبغ بين أن يقول أشهدكم أنها طالق أو(10/36)
أشهدكم أني قد طلقتها واحدة ينبغي أن يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، وإن كانت مخالفة لظاهره، وأما تفرقته في الحق بين أن يكون كتاب واحد في جميع الشهادات أو كتاب في كل شهادة فهي تفرقة صحيحة لا اختلاف في أن الرجل إذا أتى [إلى القوم] بكتاب عليه فيه مائة دينار فأشهدهم على نفسه به، ثم أشهد على الكتاب بعينه بعد مدة قوما آخرين، ثم بعد مدة قوما آخرين أنه حق واحد، وكذلك لا اختلاف في أن الرجل إذا أتى بكتاب عليه فيه مائة دينار إلى قوم فأشهدهم على نفسه به، ثم أتى بكتاب آخر إلى قوم آخرين عليه أيضا فيه مائة دينار فأشهدهم على نفسه به، ثم أتى بكتاب آخر إلى قوم آخرين [عليه] فيه أيضا مائة دينار فأشهدهم على نفسه فقام الطالب بالكتب الثلاثة أنه يقضي له بثلثمائة دينار، وإنما مسألة الخلاف إذا أشهد شهودا بعد شهود بغير كتاب وبينهما مدة من الزمان، وإن كتب صاحب الحق بما أشهد عليه كل جماعة كتبا على حدة لم يخرج بذلك عن الخلاف، وبالله التوفيق.
[: خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها]
ومن كتاب أوله شهد على شهادة ميت وسئل عن شاهد شهد على مال من الأموال غير الفروج والحرية من حيوان أو عقار يعلمه لرجل ويرى الذي هو بيده يبيعه ويهبه ويحوله عن حاله فلا يقوم بعلمه ثم يشهد عند القاضي أن هذه الدار والعرية يعلمها لفلان، فيقول له القاضي: ما منعك أن تقوم حين رأيت هذا المتاع يباع ويحول عن حاله بهبة أو صدقة؟ فيقول له الشاهد: لم يسألني أحد عن علمي، ولم أر فيها فرجا يوطأ ولا حرا يستخدم، ولم أكن علي أن أقاتل الناس ولا(10/37)
أخاصمهم، هل تدفع شهادته بذلك؟ أم هل الفروج والأموال في ذلك سواء؟ قال ابن القاسم: لا أرى شهادته مقبولة إذا كان حاضرا يرى الدار تباع والعقار لا يقوم بعلمه، وكذلك هو أيضا في الفروج والحيوان وغير ذلك إذا كانت هذه الأشياء تحول عن حالها بعلمه، وقال ابن وهب: بلغني عن ربيعة أنه قال في رجل شهد في عتق أو طلاق فأخفى شهادته حتى يبيع العبد واستحل في ذلك الحرام ثم جاء بعد ذلك يشهد وهو عدل لا بأس به قال: لا شهادة له إذا كان عالما أنه لا شهادة عنده لما أقر وأخبر ثم شهد [بعد ذلك] أن عنده شهادة فهو الذي لا شهادة له، ولعله ألا يسلم لما اجتمع من قوله وعلمه.
قال القاضي: قوله: لا أرى شهادته مقبولة إذا كان حاضرا يرى الدار تباع والعقار لا يقوم بعلمه معناه إذا كان المشهود [له] حاضرا لم يعلم بشهادة الشاهد؛ لأنه إن كان حاضرا عالما بشهادة الشاهد فهو الذي أضاع ماله إذ لم يقم بحقه فيدعو الشاهد إلى تأدية الشهادة إذ لا اختلاف في أنه لا يلزم الشاهد أن يقوم بشهادته لحاضر في المال حتى يدعوه إلى ذلك، قال الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وإنما الذي يلزمه ويحق عليه إذا رأى المال يفوت ويحول عن حاله أن يعلمه بأن له عنده شهادة، فإن لم يفعل كان ذلك جرحة فيه وبطلت شهادته على هذه الرواية، وكذلك قال مطرف وابن الماجشون، إنما تسقط شهادة الشهود إذا لم يكن عند طالب الحق علم بذلك، وأما إذا علم طالب الحق بعلمهم ولم يقم بهم فلا يضرهم، فقولهما تفسير لهذه الرواية في أن شهادة الشهود لا تبطل بتركهم القيام بالشهادة؛ إذ لا يصح لهم القيام بها مع حضور المشهود له(10/38)
حتى يدعوهم إلى القيام بها، وإنما تبطل بتركهم إعلامه بشهادتهم له، وكذلك الشاهد الواحد أيضا تبطل شهادته إذا أمسك عن أن يعلمه بشهادته على القول بالقضاء باليمين مع الشاهد في الأموال، وهو مذهب مالك لم يختلف فيه قوله، وأما على قول من لا يرى القضاء باليمين مع الشاهد فلا تبطل شهادته إذا أمسك عن إعلامه إلا أن يعلم أن معه شاهدا آخر، وما لم ير الشهود العقار والمال يفوت ويحال عن حاله فلا تبطل شهادتهم بالإمساك عن إعلام؛ لأن الإخبار بشهادتهم في هذا الموضع ليس بواجب وإنما هو مستحب؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها» ، قال غير ابن القاسم في المجموعة وكذلك إذا كان المشهود له غائبا تبطل شهادة الشهود إذا رأوا المال والعقار يباع ويحول عن حاله فلم يقوموا بشهادتهم.
قال محمد بن رشد: وهذا على القول بأن السلطان يوكل من يقوم للغائب بحقه، وهو أحد قولي ابن الماجشون، وروي ذلك عن أصبغ، وأما على القول بأن السلطان لا يمكن أحدا من القيام على غائب في حق يطلبه له ولا يسمع له بينة إلا بوكالة يثبتها عنده، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة وقول مطرف حسبما مضى القول فيه في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الأقضية، فإنما على الشهود أن يخبروا الجيران بتعدي من تعدى على مال الرجل ويشهروا ذلك ويذيعوه، فإن فعلوا ذلك لم تبطل شهادتهم، وقد وقع لأشهب في المبسوطة ما ظاهره أن شهادة الشهود لا تبطل بالإمساك عن القيام بالشهادة كان الحق لله تعالى في طلاق أو حرية أو لمخلوق في مال من الأموال خلاف قول ابن القاسم في هذه الرواية في الوجهين، وهو بعيد؛ لأن ما يستدام فيه التحريم يلزم الشاهد القيام فيه بشهادته، ويأتي على ظاهر قول أشهب أنه لا يلزمه أن يقوم في ذلك بشهادته حتى يدعى إليها، وفي المسألة قول ثالث وهو الفرق بين حقوق الله تعالى وحقوق المخلوقين، وهو قول سحنون، قال: لست أرى(10/39)
ما قال ابن القاسم من ذلك يريد هذه الشهادة، ولا أرى ذلك إلا فيما هو لله وما يلزم الشاهد أن يقوم به وإن كذبه المدعي لذلك ويلزم الحاكم الحكم به، وذلك في الحرية والطلاق وأشباه ذلك، وأما العروض والرباع والحيوان التي يدعيها بعض الناس على بعض فلا تبطل شهادته في ذلك من قبل أن صاحبها إن كان حاضرا يرى ماله يباع ويوهب فهو الذي أضاع حقه وتركه، وإن كان رب المال غائبا لم يكن للشاهد شهادة إن قام بها، فمن أجل ذلك لم يضره ترك القيام بشهادته، وقول سحنون هذا هو أظهر الأقوال؛ لأن الحرية والطلاق وما أشبههما من حقوق الله يلزم الشاهد القيام بشهادته في ذلك، وإن لم يدع إلى القيام بها؛ لأنه يعلم بما عنده من الشهادة أن الحرام يستدام بإمساكه عن الشهادة ويقطع على ذلك فهو بتركه القيام مبيح للحرام، فالجرحة بذلك بينة، وما سوى ذلك من حقوق المخلوقين التي لا يتعلق لله بها حق كالعقار يعلمه للرجل فيراه بيد غيره يتصرف فيه بما يتصرف ذو الملك في ملكه لا يقطع بما عنده من الشهادة أنه ظالم ومتعد لاحتمال أن يكون الذي يعلمه له قد باعه منه أو وهبه له فلا يكون لهذا الاحتمال مجرحا بترك إعلام المشهود له بما له عنده من الشهادة إن كان حاضرا ولا بترك رفع شهادته إلى السلطان إن كان غائبا، وبيان هذا الذي ذكرناه أن الشهادة تنقسم على خمسة أقسام: شهادة لا يصح القيام بها إلا بعد الدعاء إليها وهي الشهادة للحاضر بالمال، فهذه الشهادة تبطل شهادة الشاهد فيها على هذه الرواية بتركه إعلامه المشهود له لا بترك رفعه شهادته إلى السلطان، وشهادة يلزم الشاهد القيام بها وإن لم يدع إليها وهي الشهادة بما يستدام فيه التحريم من الطلاق والعتق وشبه ذلك، فهذه تبطل شهادة الشاهد فيها بتركه رفع شهادته إلى السلطان إلا على ظاهر قول أشهب، وشهادة يختلف في وجوب القيام بها وفي رفع شهادته إلى السلطان إلا على ظاهر قول أشهب، وشهادة يختلف في وجوب القيام بها وفي صحته إذا لم يدع إليها، وهي الشهادة بالمال لغائب، فهذه الشهادة في بطلان شهادة الشاهد فيها بتركه الرفع إلى السلطان على القول بوجوب الرفع وصحته قولان، وشهادة لا يلزم القيام بها إذا لم يدع إليها وهي(10/40)
الشهادة على ما مضى من الحقوق التي لا يتعلق بها حق لمخلوق كالزنى وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فهذا لا يلزم فيه القيام ويستحب فيه الستر إلا في المستهتر فلا تبطل شهادة الشاهد في ذلك بترك رفع شهادته إلى السلطان وإن كان المشهود عليه مستهترا باتفاق، وشهادة لا يجوز للشاهد القيام بها وإن دعي إليها وهي الشهادة التي يعلم الشاهد من باطنها خلاف ما يوجبه ظاهرها، وذلك مثل أن يأتي الرجل إلى العالم فيقول: حلفت بالطلاق ألا أكلم فلانا فكلمته بعد ذلك بشهر إلا أني كنت نويت في يميني ألا أكلمه شهرا، فهذا إن دعته امرأته إلى أن يشهد لها فيما أقر به عنده من أنه حلف بالطلاق ألا يكلم فلانا وأنه كلمه بعد شهر لم يجز له أن يشهد عليه بذلك، وقد مضى هذا في أول رسم من سماع عيسى، والله تعالى الموفق.
[مسألة: الولادة لا يشهد فيها إلا النساء]
مسألة قال ابن القاسم: ومن قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت توأما فأرى شهادة النساء فيه جائزة؛ لأن الولادة لا يشهد فيها إلا النساء، وكذلك الاستهلال وكل ما لا يحضر ذلك من أمور النساء إلا النساء فإن شهادتهن جائزة وإن لم يثبت النساء شهادتهن لعتقا؛ لأنه يعتق من كل واحد منهما نصفه، فإذا كان يعتق من كل واحد منهما نصفه بالقضاء عتق عليه النصف الثاني بالسنة، كذا يقول أهل العلم.
قال القاضي: قوله: إن شهادة النساء تجوز فيمن ولد منهما أولا صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الولادة لا يحضرها إلا النساء، فجازت شهادتهن(10/41)
في ذلك كما تجوز في الاستهلال، وقوله: إنهما يعتقان جميعا إذا لم يثبت النساء أيهما ولد أولا صحيح أيضا، وأما تعليله لذلك بأنه لما كان يعتق من كل واحد منهما نصفه بالقضاء عتق عليه النصف الباقي بالسنة فهو تعليل غير صحيح، وإن كان ابن الماجشون قد جامعه عليه، فقال: يعتق نصف كل واحد منهما بالقول الأول ويعتق النصفان الباقيان بالاستتمام كمن أعتق نصف عبده فإنه يعتق عليه كله، وذلك أنه لم يعتق نصف كل واحد منهما، وإنما أعتق الذي ولد منهما أولا، فلما لم يعلم من ولد منهما أولا وجب أن يعتقا جميعا؛ إذ لا يحل استرقاقهما مع العلم بأن أحدهما حر، ولا استرقاق أحدهما لاحتمال أن يكون هو الذي وجبت له الحرية بولادته أولا، كمن أعتق أحد عبديه أو طلق إحدى امرأتيه ثم شك فلم يدر أي عبديه أعتق ولا أي امرأتيه طلق أن العبدين يعتقان وأن المرأتين تطلقان، وكمن قال: أول عبيدي يدخل هذه الدار فهو حر فدخلها عبيده واحدا بعد واحد وجهل الأول منهم أنهم يعتقون كلهم، ولو كان يعتق أنصافهما بالقول الأول وباقيهما بالاستتمام لوجب إن لم يحكم بذلك حتى مات ألا يستتم عتقهما بعد الموت، وهذا لا يصح في هذه المسألة، فبان بهذا ضعف هذا التعليل، ومن أهل العلم من يقول: إنهما يعتقان جميعا ويكون عليهما نصف قيمتهما، ولم ير ذلك مالك ولا قال به هو ولا أحد من أصحابه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهيدين يشهدان عند القاضي فيزكي أحدهما صاحبه]
مسألة وعن الشهيدين يشهدان عند القاضي فيزكي أحدهما صاحبه هل يجوز ذلك؟ قال: لا تجوز تزكيته له؛ لأن التزكية شهادة، وقال مالك: لأنه إذا شهد وزكى فإنما هو الذي أثبت الحق وحده.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأنه إذا زكى أحد الشاهدين صاحبه فلم يتم الحكم إلا بشهادة المزكي وحده، ولو زكيا جميعا شاهدا وشهد على شهادة آخر في ذلك الحق جاز ذلك على ما في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.(10/42)
[: القاضي إذا عزل وقد شهد الشهود عنده وأثبت ذلك في ديوانه ولم يقم على ذلك بينة]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته وسئل: عن القاضي يأمر ببيع التركة فتباع أو يقضي بالقضية ثم يعزل هل تجوز شهادته فيما قضى أو أمر به من بيع التركة؟ قال: قال مالك: لا تجوز شهادته وحده ولا مع غيره، قيل له: فإن قام شاهد واحد على أمر القاضي وقضائه هل يحلف مع شاهده؟ قال: لا يحلف مع شاهده على شهادته ولا يجوز في ذلك إلا شهيدان؛ لأنه من وجه الشهادة على الشهادة، والشهادة على قضاء القاضي شهادة على شهادة، فلا يجوز في ذلك إلا شهيدان.
قال الإمام القاضي: قوله: إن القاضي لا تجوز شهادته إذا عزل فيما قضى فيه أو أمر به من بيع التركة هو مثل ما في كتاب الأقضية من المدونة، وليس في ذلك ما يدل على أنه تجوز شهادته في ذلك قبل أن يعزل، بل لا تجوز في ذلك شهادته عزل أو لم يعزل، وإنما يجوز له قبل أن يعزل أن يسجل فيما قضى به ويشهد على ذلك ويخاطب بذلك ابتداء على وجه الإعلام والإخبار لا على وجه الشهادة، وقد مضى بيان هذا في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وأما قوله: إن المقضي له لا يحلف مع الشاهد على أمر القاضي وقضائه فهو على خلاف أصله في المدونة؛ لأنه قال في الأقضية منها: إن القاضي إذا عزل وقد شهد الشهود عنده، وأثبت ذلك في ديوانه ولم يقم على ذلك بينة إن المشهود عليه يحلف بالله ما هذه الشهادة في ديوان القاضي مما شهدت به الشهود علي، فإن نكل عن اليمين حلف المشهود له وثبت له الشاهدان، فإذا كان يستحق ذلك باليمين مع النكول فأحرى أن يستحقه باليمين مع الشاهد، ولا فرق بين ذلك وبين الحكم؛ لأنه شعبة من الحكم، ونحوه ما في كتاب النكاح الثاني منها أن الزوجين إذا اختلفا في فريضة القاضي كان القول قول الزوج إذا أتى بما يشبه، فإن لم يأت بما يشبه يريد أو نكل عن اليمين كان القول قول المرأة إن أتت بما يشبه، فإذا كانت المرأة تستحق القضاء باليمين مع النكول(10/43)
وجب أن تستحقه باليمين مع الشاهد، وقد تأول بعض الناس أن مذهب ابن القاسم في هذه المسألة أنه لا يمين على الزوج إذا أتى بما يشبه، ولا على الزوجة إذا ادعى الزوج ما لا يشبه وأتت هي بما يشبه، قاله على قياس قول ابن القاسم في هذه الرواية، وفي الواضحة بأن حكم الحاكم لا يستحق باليمين مع الشاهد، وهو من التأويل البعيد، فالظاهر من مذهبه في المدونة أن حكم الحاكم يستحق باليمين مع الشهادة بخلاف الشهادة على الشهادة، وهو قول مطرف وأصبغ والأظهر في النظر؛ لأن اليمين مع الشاهد على الحكم يمين على المال لاستحقاقه بذلك المال بخلاف اليمين مع الشاهد على الشهادة إذ لا يستحق بذلك المال، ويجوز في الشهادة على حكم القاضي على مذهب ابن القاسم شاهد وامرأتان؛ لأنه إذا أجاز ذلك في الشهادة على الشهادة وفي الشهادة على الوكالة فأحرى أن يجيزه في حكم القاضي إذ قد أجيز فيه الشاهد واليمين، ولا اختلاف في أنه لا يجوز شاهد ويمين في الشهادة على الشهادة ولا في الشهادة على الوكالة، وسحنون وابن الماجشون لا يجيزان شاهدا وامرأتين في شيء من ذلك كله على أصلهما في أنه لا يجوز شاهد وامرأتان إلا فيما يجوز فيه شاهد ويمين، وأما كتاب القاضي إلى القاضي فلا اختلاف في أنه لا يجوز في ذلك شاهد ويمين؛ لأنه كالشهادة على الشهادة، وقد وقعت المسألة لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا الرسم في بعض النسخ، قال مالك في كتاب القاضي إلى القاضي لا يشهد عليه إلا شاهد واحد فيريد صاحب الحق أن يحلف مع شاهده قال: لا يجوز في هذا إلا شاهدان، وذلك لأنها شهادة على شهادة، فليس يكون في مثل هذه الشهادة على الشهادة شاهد ويمين، ولا ينفذ إلا بشهيدين، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصبي يكون له شاهد على حقه فيستحلف له الذي عليه الحق]
مسألة وسئل: عن الصبي يكون له شاهد على حقه فيستحلف له الذي عليه الحق فيكبر الغلام فيقول له: احلف مع شاهدك وخذ،(10/44)
فيقول: أنا أريد أن أحلف ويبرأ فقال: ليس عليه أن يحلف ثانية، قد حلف مرة.
قال القاضي: وقعت هذه المسألة في رسم البيوع من سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، وزاد فيها قال أصبغ: لأنه قد برئ يوم حلف وهو بريء أبدا حتى يحلف الصبي فيكون حلفه كالشهادة الحادثة القاطعة، فعلى قول أصبغ هذا لا يجب توقيف الدين، وقد قيل: إنه إذا حلف الذي عليه الحق أخذ الدين منه فوقف حتى يكبر الصبي فيحلف ويأخذه، ومعنى ذلك إذا لم يكن مليا وخيف عليه العدم، وهو في القياس صحيح، إذ لو كان المدعي فيه شيئا بعينه لوجب توقيفه أو بيعه وتوقيف ثمنه إن خشي عليه على ما يأتي لابن القاسم في سماع محمد بن خالد، وإذا وقف الدين أو العرض فضمانه من الصبي إن حلف ومن الغريم إن نكل ولم يحلف؛ لأنه إنما وقف لمن يجب له منهما بتمام الحكم ببلوغ الصغير، فإن حلف لم يجب لأحدهما على صاحبه شيء حلف أو نكل؛ لأنه إن حلف وجب له وكانت مصيبته منه، وإن نكل عن اليمين وجب للمدعى عليه وكانت مصيبته منه، وقد قيل: إنه يحلف ثانية إذا بلغ الصبي فأبى أن يحلف، وهو بعيد، ووجهه أن يمينه أولا لما لم تكن واجبة ليسقط عنه بها الحق كانت إنما أفادت تأخير الحكم إلى بلوغ الصغير، فإذا بلغ استؤنف الحكم، واختلف إن بلغ الصغير وهو سفيه فينكل عن اليمين وحلف الذي عليه الحق وبرئ هل له إذا رشد أن يحلف؟ فقال: ليس ذلك له لأنه ما كان له أن يحلف مع شاهده بخلاف الصغير له أن يحلف مع شاهده، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، وقيل ذلك له مثل الصغير؛ لأنه يقول: إنما نكلت لسفهي، وهو قول ابن كنانة ومطرف، ولا اختلاف في أن الذي عليه الحق إذا نكل يغرم، ولا يجب على الصغير إذا بلغ أن يحلف؛ لأن نكوله كالإقرار، وكذلك الوكيل الغائب يقيم شاهدا واحدا على حق الغائب فيقضى على الذي عليه الحق باليمين إلى أن يقدم(10/45)
الغائب فيحلف مع شاهده أنه إن نكل عن اليمين غرم ولم يكن على الغائب إذا قدم وليس لولي الصغير أن يحلف مع شاهده ويستحق له حقه، واختلف هل ذلك للأب أم لا؟ فالمشهور المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن ذلك ليس له، وقال ابن كنانة: ذلك له لأنه يمونه وينفق عليه، وهذا فيما لم يل الأب أو الوصي المعاملة؛ لأن ما ولي أحدهما فيه المعاملة فاليمين عليه واجبة؛ لأنه إن لم يحلف غرم، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، وقد وقع في كتاب تجمعت فيه أقضية مالك والليث أن الصغير يحلف مع شاهده كالسفيه، وهو بعيد؛ لأن القلم عنه مرفوع فلا يحرج من الحلف على باطل، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الرجل لابن امرأته]
مسألة وسئل: عن شهادة الرجل لابن امرأته فقال: لا أرى أن تجوز ولا شهادته لامرأة أبيه ولا لامرأة ابنه؛ لأنه كأنه إنما يشهد لامرأته أو لابنه أو لأبيه؛ لأنهم يجرون في ذلك لأنفسهم، وليس ذلك بمنزلة شهادة الأخ لأخيه، وشهادة الأخ لأخيه قد تجوز وتسقط، وإنما تجوز إذا كان منقطعا عنه وليس في عياله ولا يناله معروفه ولا صلته، وكانت له الحال الحسنة، وكان عدلا، فليس يتهم هذا إذا كان بهذه الصفة أن يجر إلى نفسه، وقد خرج من التهمة، وأولئك التهم فيهم بينة ولهم لازمة وإن كانوا منقطعين عمن شهدوا له؛ لأنهم يستجرون ذلك إلى من يتهمون عليه، قال سحنون: تجوز شهادة الرجل لأم امرأته ولأبيها ولولدها إلا أن تكون المرأة ممن ألزم السلطان ولدها النفقة عليها لضعف زوجها عن النفقة عليها، وتجوز شهادة الرجل لزوج ابنته ولابن زوجها ولأبيه وأمه.
قال محمد بن رشد: أما شهادة الرجل لابن زوج ابنته وأبويه فلا(10/46)
يخالف ابن القاسم سحنون في أن شهادته لهم جائزة؛ لأن التهمة فيهم بعيدة، وإنما يخالفه في شهادته لزوج ابنته ومن أشبهه، وقد مضى القول في معاني هذه المسألة كلها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يشهد لبعض ولده على بعض]
ومن كتاب الجواب وسألته: عن الرجل يشهد لبعض ولده على بعض لصغير على كبير أو لكبير على صغير، قال: إن شهد لصغير أو لكبير سفيه في حجره على كبير فلا يجوز؛ لأنه يتهم بالجر إلى نفسه لمكان الذي في حجره وولايته، وإن شهد لكبير على صغير أو لكبير على كبير جازت شهادته إذا كان عدلا إلا أن يكون المشهود له ممن يتهم على مثله لانقطاع يكون منه إليه والأثرة له والحب له على غيره والآخر ليس بتلك المنزلة عنده أو عرف منه الشنآن له والجفوة عنه دون الآخر فلا يجوز ذلك، وروى سحنون عن ابن القاسم مثله، وقال سحنون: وأنا أقول: لا تجوز شهادة الأب لابنه على حال لا لكبير على صغير ولا لصغير على كبير.
قال محمد بن رشد: أما إذا شهد لصغير أو سفيه في حجره على كبير أو لمن له إليه انقطاع على من ليس له إليه انقطاع، أو كانت بينه وبين المشهود عليه من بنيه عداوة فلا اختلاف في أن شهادته في ذلك كله غير جائزة، وإنما الاختلاف إذا شهد لكبير على كبير، أو على من في حجره من صغير أو سفيه، أو لمن في حجره من صغير على من في حجره من صغير أو سفيه، فأجاز ذلك ابن القاسم ولم يجزه سحنون، وحكى ابن عبدوس عنه أنها جائزة مثل قول ابن القاسم، وله في كتاب ابنه أنه رجع عن ذلك فقال: لا تجوز مثل قوله ههنا، ولو شهد لولده على ولد ولده لم نجز شهادته له قولا واحدا، ولو شهد لولد ولده على ولده جازت شهادته له(10/47)
قولا واحدا والله أعلم، ومن هذا المعنى شهادته لأحد أبويه على الآخر، وشهادته على أبيه بطلاق أمه أو غير أمه وأمه حية، وشهادته لأبيه على ولده أو لولده على أبيه، وقد مضى هذا القول على ذلك كله مستوفى في أول سماع أشهب وفي رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى هذا، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الفار من الزحف هل تجوز شهادته]
مسألة وسألته: عن الفارّ من الزحف هل تجوز شهادته؟ وهل ترد حتى يتوب؟ أم لا تقبل أبدا؟ وهل على الناس إذا فروا من الزحف شيء إذا فر إمامهم؟ قال ابن القاسم: تقبل شهادته إذا تاب وعرفت توبته وظهرت وإلا لم تقبل شهادته إذا فر مما لا يفر من مثله، وحد الفرار من الزحف الفرار من الضعف كما قال الله عز وجل: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] إلى قوله: {مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] فلا يحل الفرار من المثلين، فإذا زادوا على ذلك وكثروا فلا بأس بالفرار إذا خافوا الضعف، ولا يحل للناس إذا فر إمامهم أن يفروا إذا كانوا مثليهم على ما فسرت لك.
وتجوز شهادة الفار من الزحف إذا تاب وعرفت التوبة منه والاجتهاد والبر واختبر بزحف ثان بعد ذلك فلم يفر منه أو لم يختبر به غزا بعد ذلك أو لم يغز إذا ظهرت توبته وعرفت، قال أصبغ عن ابن القاسم مثله..
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الفرار من الزحف إذا كان(10/48)
العدو ضعف المسلمين في العدة على هذه الرواية أو في الجلد والقوة على قول ابن الماجشون وروايته عن مالك من الكبائر، وقد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن أتى كبيرة من الكبائر وجب ألا تجوز شهادته حتى تعرف توبته منها، ومن الناس من ذهب إلى أنه ليس من الكبائر، وأن قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] خاص في أهل بدر؛ لأنهم لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وينهزموا عنه، فأما فيما بعد ذلك فلهم الانهزام.
قال يزيد بن حبيب: أوجب الله عز وجل لمن فر يوم بدر النار، ثم كانت أحد بعدها فأنزل الله فيها: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155] ثم كانت حنين بعدها فأنزل الله فيها: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 27] فنزل العفو فيمن تولى من بعد يوم بدر، والصحيح أن الفرار من الزحف ليس بمخصوص بيوم بدر وأنه عام في كل زحف إلى يوم القيامة، وكان الله تعالى به نبيه موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وشرعه له على ما جاء عن النبي عليه(10/49)
السلام في تفسير قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] ثم لم ينسخه بعد ذلك حتى صار من شريعتنا، ومن الدليل على أن الوعيد المذكور في الآية ليس بخاص لأهل بدر ما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: «كنت في سرية من سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحاص الناس حيصة فكنت ممن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فقلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا فيها وعرضنا أنفسنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون فقال: بل أنتم العكارون» يريد بالعكارين الكرارين؛ لأن عبد الله بن عمر إنما لحق بالمقاتلة يوم الخندق بعد أن رده النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل ذلك، وهذا بعد بدر، فدل ذلك على أن حكم الفرار من الزحف بغير تحرف إلى قتال أو تحيز إلى فئة باق إلى يوم القيامة وداخل في الكبائر، والله الموفق.
[مسألة: قبلت شهادته في أمر ثم شهد بعد ذلك في أمر آخر]
مسألة وسألته: عن رجل قبلت شهادته في أمر ثم شهد بعد ذلك في(10/50)
أمر آخر فطلب المشهود عليه أن توضع فيه العدالة هل ترى أن توضع فيه العدالة؟ قال ابن القاسم: إن كان ذلك قريبا من شهادته الأولى وتعديله فيها الأشهر وما أشبهها ولم يطل ذلك جدا فلا أرى ذلك، وإن كان قد طال رأيت أن توضع فيه وأن يسأل عنه طلب ذلك المشهود عليه أو لم يطلبه، والسنة عندي في مثل هذا طويل كثير؛ لأن في ذلك ما تتغير الحالات وتحدث الأحداث.
قال أصبغ: إلا أن يكون الرجل المعروف بالخير المشهور الذي لا يحتاج مثله إلى ابتداء السؤال فلا يسأل عنه ثانية ولا ينصب عنه.
قال محمد بن رشد: قوله: وسألته عن رجل قبلت شهادته في أمر معناه وسألته عن رجل مجهول الحال غير معروف بالعدالة فقبلت شهادته في أمر بعد أن عدل، ثم شهد بعد ذلك في أمر آخر هل يكتفي بالتعديل الأول أو يطلب فيه التعديل ثانية؟ فقال: إن كان ذلك قريبا من شهادته الأولى بالأشهر اكتفي بالتعديل الأول، وإن كان الأمر قد طال طلب فيه بالتعديل ثانية؛ لأن الأحوال قد تتغير في الطول من الزمان والسنة طول، وفي نوازل سحنون أن التعديل يطلب فيه كلما شهد قرب ذلك أو بعد حتى يكثر تعديله وتشتهر تزكيته، وقول ابن القاسم استحسان، وأما قول سحنون فإنه إغراق في الاستحسان، فإن طلب القاضي التعديل فيه ثانية بعد السنة على قول ابن القاسم أو بالقرب والبعد على قول سحنون فعجز المشهود له عن أن يعدله ثانية إذ لعله لا يعرفه غير الذين عدلوه أولا وقد ماتوا أو غابوا وجب أن تقبل شهادته ولا يردها فيبطل حقا وقد شهد به من قد زكى وثبتت عدالته؛ لأن ما فعل من طلب العدالة إنما هو استحسان غير واجب، والقياس في ذلك أن يكون محمولا على التعديل الأول ما لم يتهم بأمر أو يغمز(10/51)
بشيء أو يستراب في أمره لوجه يظهر منه، وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة، وأما الشاهد المعروف بالعدالة الذي قبل من غير تزكية فلا يطلب فيه تزكية إذا شهد ثانية كما لم يطلب فيه أولا، فقول أصبغ مفسر لقول ابن القاسم غير مخالف له، ومثله لمالك في كتاب ابن سحنون قال: أما الرجل المشهور عدالته فلا يكلف التعديل ثانية، وإن لم يعرفه القاضي إلا أنه صح عنده أنه عدل شهرته وبالله التوفيق.
[: شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته أو فرية أو شرب الخمر في أيام مختلفة]
ومن كتاب القطعان قال ابن القاسم: قال مالك: إذا شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته أو فرية أو شرب الخمر في أيام مختلفة فقال هذا: أشهد أنه طلق امرأته، أو رأيته يشرب الخمر، أو قذف فلانا في شوال، وشهد آخر على مثل ذلك إلا أنه قال في رمضان، فإنه يضرب في الفرية والخمر ويطلق عليه، وكذلك رأى ابن القاسم.
قال الإمام القاضي: إذا اختلف الوقت في شهادة الشهود على القول لفقت الشهادة وجازت على المشهور من مذهب ابن القاسم حسبما ذكرناه في رسم العرية، وإذا اختلف الوقت في شهادة الشهود على الفعل لم تلفق الشهادة وبطلت عند ابن القاسم حسبما ذكرناه في آخر رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده، فإنما قال ابن القاسم في هذه الرواية إنه يحد في الشرب إذا قال أحد الشاهدين: رأيته شرب الخمر في شوال، وقال الآخر: رأيته يشربها في رمضان من أجل أن الشهادة في هذا على الفعل مسندة إلى القول إذ هو المعتبر به فيها؛ لأنه إنما يجب عليه في الشرب حد القذف؛ لأنه كما قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى فلم يخرج ابن القاسم في هذه المسألة عن أصله في أن الأفعال لا تلفق إذا اختلفت الأوقات، وهذا نحو قوله في الأيمان(10/52)
بالطلاق من المدونة إذا شهد شاهدان على رجل أنه حلف بالطلاق أن لا يدخل دار عمرو بن العاص، وشهد أحدهما أنه دخلها في رمضان، وشهد آخر أنه دخلها في ذي الحجة أنها تطلق عليه؛ لأنه لفق الفعل لما كان ما يوجبه مسندا إلى القول، قال مالك في المبسوطة: وأما شهادة أحدهما على أنه شرب في رمضان والثاني في شوال بمنزلة أن لو قال أحدهما: رأيته يشرب الخمر بقدح نضار، وقال الآخر: بل كان شربها في قدح قوارير، ومحمد بن مسلمة وابن نافع يقولان: إنه لا يحد في الشرب حتى يجتمع الشاهدان فيه على وقت واحد، وهو الأظهر على حقيقة أصل ابن القاسم في أن الأفعال لا تلفق، وبالله التوفيق.
[: الحكم لو شهد رجل وغابت المرأتان فشهد على شهادتهما امرأتان]
ومن كتاب العشور قال ابن القاسم في امرأتين شهدتا على شهادة امرأتين ومع ذلك رجل شاهد في أصل الحق يشهد مع المرأتين الغائبتين: إنه لا يجوز ذلك إلا أن يكون مع المرأتين رجل، وإنما تجوز شهادة المرأتين بأبدانهما فلا بد أن يكون مع المرأتين رجل، قال: واحتج في ذلك بشهادة الرجل أنها لا تجوز ببدنه ويحلف معه، وإنه إذا غاب بدنه لم يجز أن يشهد على شهادة رجل واحد إلا رجلان، ثم يكون ذلك كشاهد يحلف معه، وفي سماع أصبغ من كتاب القضاء المحض قال أصبغ: وأنا لا أرى ذلك ولا يعجبني أرى ما جازت فيه شهادتهن تامة بلا رجل ولا يمين مثل الاستهلال وعيوب النساء وما تحت الثياب أن تجوز شهادتهن فيه على شهادة مثلهن بلا رجل معهن كما لو شهدن هن أنفسهن.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إن الحق إذا كان عليه شاهد وامرأتان فشهد الرجل وغابت المرأتان فشهد على شهادتهما امرأتان أن ذلك لا يجوز إلا أن يكون معهما رجل كما أن الشاهد الواحد إذا غاب لا يشهد(10/53)
على شهادته إلا رجلان، يريد أو رجل وامرأتان، هو معنى ما في الشهادات من المدونة، بل نصه خلاف قول ابن الماجشون وسحنون في أن شهادة النساء لا تجوز إلا فيما يجوز فيه شاهد ويمين، ولم يتكلم ابن القاسم في الشهادة على شهادة النساء فيما تجوز فيه شهادتهن دون رجل إلا أن في قول أصبغ في كتاب القضاء المحض: وأنا لا أرى ذلك ولا يعجبني وأرى أن تجوز شهادتهن فيه على شهادة مثلهن بلا رجل معهن كما لو شهدن هن أنفسهن يدل على أن الذي رواه عن ابن القاسم أنه لا بد في الشهادة على شهادتهن من رجلين أو رجل وامرأتين، وأنه لا يجوز في ذلك شهادة النساء وحدهن، وهو القياس؛ لأن شهادتهن إنما جازت على الأصل وحدهن بلا رجل للضرورة إلى ذلك ولا ضرورة إلى انفرادهن في الشهادة على شهادتهن فوجب ألا يجزئ في ذلك إلا رجلان أو رجل وامرأتان، وظاهر قول أصبغ أنه يجزئ في ذلك امرأتان على امرأتين؛ لقوله كما لو شهدن هن أنفسهن، وقد قال بعض أهل النظر وأراه ابن لبابة: معنى قول أصبغ: أنه لا تقوم امرأتان بشهادة امرأتين حتى، يكن أربعة فيقمن بشهادة امرأتين على مذهب أصبغ، وهو تأويل بعيد لا وجه له في النظر، ووجه ما ذهب إليه أصبغ أن المرأتين لما أقيمتا فيما لا يحضره الرجال مقام رجلين أقام هو المرأتين في الشهادة على شهادتهما مقام رجلين، وليس ذلك بصحيح؛ لأن شهادة الرجال على شهادتهن غير ممتنع، فوجب ألا ينفردن بذلك دونهم، وبالله التوفيق.
[: إقرار المريض في مرضه بدين لمن لا يتهم عليه]
ومن كتاب أوله باع شاة وسألته: عن رجل أقر عند موته أنه شهد على فلان هو وفلان وفلان فقطعت يده وأنا شهدنا بالزور فما لزمني فأدوه عني، قال ابن القاسم: لا أرى عليه شيئا؛ لأنه قد بقي على الشهادة اثنان، فالشهادة قائمة، ولو أقر واحد من الشهيدين الباقيين بعد إقرار هذا كان نصف دية اليد على الميت وعلى النازع منهما، ولو أقر الثالث كان على كل واحد منهم ثلث الدية، وكان الذي أقر به(10/54)
الميت في رأس ماله، قلت: فلو كان لم يقر أحد غيره وبقيت الشهادة قائمة كما هي حتى قسم مال الميت ثم نزع أحد الشهيدين الباقيين؟ قال: يكون ذلك بمنزلة دين طرأ على الميت يؤخذ ما ينوبه من ذلك من الذي للورثة، كذلك القتل لو أقر أنه شهد على رجل مع رجلين فقتل بشهادتهم ثم نزع عند الموت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن إقرار المريض في مرضه بدين لمن لا يتهم عليه جائز، فإذا كان هذا الذي أقر له بأنه شهد عليه بالزور فقطعت يده ممن لا يتهم على الإقرار له في مرضه وجب أن يؤخذ من رأس ماله ما يلزمه بالإقرار، وليس في قوله: وأنا شهدنا عليه بالزور دليل على أنه لو قال: إنا شبه علينا لم يلزمه شيء؛ لأن ذلك إنما هو في السؤال لا في الجواب، فلا دليل فيه، وهو سواء على مذهبه، قال: إنا شهدنا بالزور أو شبه علينا، وقد مضى هذا والاختلاف فيه في أول سماع عيسى، وقوله: لا أرى عليه شيئا؛ لأنه قد بقي على الشهادة اثنان صحيح لا اختلاف فيه، قد ذكر ذلك صاحب الاتفاق والاختلاف أن هذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: وقد قيل: إنه يلزمه ثلث دية اليد في ماله، فإن رجع آخر لزمه الثلث أيضا، فإن رجع الثالث لزمه الثلث، وأما قوله: ولو أقر واحد من الشهيدين الباقيين بعد إقرار هذا كان نصف الدية على الميت وعلى النازع منهما فإن هذا موضع يختلف فيه؛ لأن ابن وهب وأشهب يقولان: إنه يلزمهما الثلثان، وفي قوله: إنه لو نزع أحد الشهيدين الباقيين بعد أن قسم المال كان ما ينوب المقر من ذلك كدين طرأ بعد القسمة يؤخذ ما ينوبه من ذلك من الذي للورثة ما يدل على أنه لا يلزم توقيف شيء من المال لإقراره على نفسه أنه شهد بالزور مخافة أن يقر الشهيدان الباقيان أو أحدهما بمثل ما أقر به هو، إذ ليس في رجوعه هو دليل على أنه سيرجع من سواه منهما، وكذلك لو نزع الشاهد الباقي بعد ذلك لكان فضل ما بين الثلث والربع كدين طرأ أيضا عليه يؤخذ ذلك من ورثته، وذلك أنه يجب عليه برجوع أحد الشهيدين نصف الدية،(10/55)
وهو الربع، ويجب عليه برجوع الشاهد الثاني ثلث جميع الدية، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة المختفي]
مسألة وسئل: عن رجلين أدخلهما رجل في بيت وأمرهما أن يسمعا ويحفظا ما سمعا، ثم قعد برجل آخر من وراء البيت فاستنطقه حتى أقر له بماله عليه، فشهد الرجلان بذلك، هل يلزمه ما شهدا به عليه على هذه الصفة أم لا يلزمه حتى يقر على نفسه بالمال وهو ينظر إلى الرجلين اللذين يشهدان عليه؟ قال: أما الرجل الذي يشهد عليه مثل الضعيف أو المخدوع أو الخائف الذي يخاف أن يكون إنما استجهل أو استضعف أو خدع فلا أرى ذلك ثابتا عليه، ويحلف ما أقر بذلك إلا لما يذكر ولا يدري ما يقول، وأما الرجل الذي يقر على غير ما وصفت لك ولإقراره ذلك وجه من الأمر عسى أن يقول في خلوته تلك أنا أقر لك خاليا ولا أقر لك عند البينة بأمر يعرف وجه إقراره وناحية ما طلب منه فإنه عسى أن يثبت ذلك عليه، وقال عيسى بن دينار: أرى ذلك ثابتا عليه.
قال محمد بن رشد: لا إشكال في أنها لا تجوز على القول بأن شهادة السماع لا تجوز، وهي أن يشهد الشاهد على الرجل بما سمع من إقراره دون أن يشهده على نفسه، وهو أحد قول مالك في المدونة وقول ابن أبي حازم وابن الماجشون وروايته عن مالك في المدنية ومثله لمالك في كتاب ابن المواز قال: لا يشهد الرجل على الرجل بما سمع من إقراره على نفسه دون أن يشهده على ذلك إلا أن يكون قاذفا، فإنما اختلف في شهادة المختفي الذين يجيزون شهادة السماع، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أن الشاهد يشهد على الرجل بما(10/56)
سمع من إقراره وإن لم يشهده إذا استوعب كلامه، وهو قول أشهب وسحنون وعيسى بن دينار، وعامة أصحاب مالك وأكثر أهل العلم، فهؤلاء منهم من أجاز شهادة المختفي على الإطلاق وأباح له الاختفاء بحملها، وهو قول عمرو بن حريث، حكى ذلك البخاري عنه في كتابه، قال: وكذلك يفعل بالكاذب الفاجر، واحتج لإجازة ذلك بحديث ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انطلق وأبي بن كعب يوما إلى النخل التي فيها ابن صياد، حتى إذا دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحائط طفق يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه وابن صياد مضطجع في فراشه في قطيفة له فيها رمرمة أو زمزمة فرأت أم ابن صياد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صياد: أي صاف هذا محمد فتناهى ابن صياد، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو تركته بين» ومنهم من لم يجزها على(10/57)
الإطلاق، وإلى هذا ذهب سحنون، وذلك أنه سئل عن شهادة المختفي فقال: حدثني ابن وهب أن الشعبي وشريحا كانا لا يجيزانها، ومنهم من كره له الاختفاء لتحملها وقبلها إذا شهد بها وهم الأكثر، وهو ظاهر قول عيسى بن دينار ههنا خلاف قول ابن القاسم في تفرقته بين من يخشى أن ينخدع لضعفه وجهله بما يقربه على نفسه، وممن يؤمن ذلك منه لنباهته ومعرفته بوجه الإقرار على نفسه، ولعله يقول: إنما أقر لك حيث لا يسمعني أحد، فيتبين أنه إنما يذهب إلى اقتطاع حقه، ولو أنكر الضعيف الجاهل الإقرار جملة للزمته الشهادة به عليه، وإنما يصدق عنده مع يمينه إذا قال إنما أقررت لوجه كذا مما يشبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدان على صبي أنه جرح إنسانا والشاهدان أعداء لوصي الصبي]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجلين يشهدان على صبي أنه جرح إنسانا والشاهدان أعداء لوصي الصبي هل تجوز شهادتهما؟ قال ابن القاسم: أرى شهادتهما جائزة، وكذلك أيضا إذا شهدا على الميت بدين عليه أن شهادتهما جائزة، ولا ينظر إلى عداوة الشهداء للوصي، وأما إذا شهدا على صغير أو كبير حائز لأمره والشهداء أعداء لأبي المشهود عليه فشهادتهما غير جائزة ولو كانا مثل أبي شريح وسليمان بن القاسم، قيل لسحنون: فإن شهد رجل بيني وبينه عداوة على أبي أو على ابني أو على أخي بمال هل تجوز شهادته عليه؟ فقال: نعم شهادته على والدك وابنك وأخيك جائزة بالمال، قيل: فإن شهد عليهم بقصاص أو حد؟ قال: لا تجوز شهادته وليس القصاص كالأموال، وكذلك في الجرحة لا تجوز شهادته في تجريح أبيك أو ابنك أو أخيك.
قال محمد بن رشد: معنى إجازة ابن القاسم شهادة أعداء الوصي على الصبي بجرح إذا لم يكن له بيد الوصي مال يؤخذ منه دية الجرح، أو(10/58)
إذا كانت دية الجرح الثلث فصاعدا؛ لأن عمد الصبي خطأ، فالعاقلة تحمل منه ما بلغ الثلث، وكذلك إجازته لشهادتهم بدين على الميت معناه إذا كانت الشهادة قبل أن يصير المال بيد الوصي، وأما إذا شهدوا بعد أن صار المال بيده فشهادتهم عليه غير جائزة؛ لأنهم يتهمون على إخراج المال من يده بالعداوة، وكذلك حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وذلك تفسير لقول ابن القاسم، وأما شهادة أعداء الرجل على ابنه أو على أبيه فقال ابن القاسم فيها: إنها غير جائزة يريد في المال والجراح، وذلك على أصله الذي تقدم له في رسم جاع من أن شهادة الرجل لا تجوز لامرأة أبيه ولا لامرأة ابنه ولا لزوج ابنته [ولا لابن زوجته] ولا لأبويها، وقال سحنون فيها: إنها جائزة في الأموال دون الجراح والقتل والحدود، وذلك على أصله أيضا في أن شهادة الرجل تجوز لامرأة أبيه وامرأة ابنه وزوج ابنته وابن زوجته وأبويها في المال، إذ لا فرق بين شهادة الرجل لولد من لا تجوز له شهادته وبين شهادة الرجل على ولد من لا تجوز عليه شهادته، فمنع ابن القاسم من إجازة الشهادة في الوجهين، وأجازها سحنون في الوجهين، ولا اختلاف بينهما في أنها لا تجوز فيما عدا المال من الجراح والقتل والحدود، وحكى محمد بن سحنون: أن محمد بن رشيد خالف أباه سحنونا في الجراح فساوى بينها وبين المال في جواز الشهادة بخلاف القتل والحدود فلا اختلاف بينهم في أنها لا تجوز في القتل والحدود، وأما التجريح في ذلك فيجري على الاختلاف في ذلك ولا يخالف ابن القاسم سحنونا في أن شهادة العدو تجوز في المال على أخي عدوه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد على الرجل بأربعين دينارا ثم يقول الحق خمسون]
مسألة قال عيسى: سألت ابن القاسم عن الذي يشهد على الرجل(10/59)
بأربعين دينارا فيقضى عليه بشهادته، ثم يأتي بعد ذلك فيقول: الحق خمسون، ولكني نسيت، وقد كان ادعى ذلك صاحب الحق أو لم يدعه، هل يقبل ذلك منه وتقبل شهادته؟ قال ابن القاسم: إن كان عدلا مشهور العدالة ممن لا يتهم رأيت أن تجوز؛ لأنه يقول: ذكرت وإن كان على غير ذلك لم أر أن تجوز.
قال القاضي: هذه مسألة ستأتي بكمالها في أول سماع يحيى، فهناك يأتي الكلام عليها إن شاء الله، وقد مضى طرف منه في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يهجر الرجل فيسلم عليه ولا يكلمه هل تراه قد خرج من الشحناء]
مسألة وعن الرجل يهاجر الرجل ثم يبدو له فيسلم عليه من غير أن يكلمه في غير ذلك وهو مجتنب لكلامه هل تراه قد خرج من الشحناء؟ قال: سمعت مالكا يقول: إن كان مؤذيا له فقد برئ من الشحناء، قال ابن القاسم: وأرى إن كان غير مؤذ له أنه غير بريء من الشحناء، قلت: فهل ترى شهادته غير جائزة عليه باعتزاله وهو غير مؤذ له؟ فقال: لا تقبل شهادته عليه.
قال الإمام القاضي: معنى قول مالك وابن القاسم: إن المسلم يخرج من الشحناء إن كان المسلم عليه مؤذيا للذي ابتدأ بالسلام ولم يضر الذي ابتدأ بالسلام تركه لكلام المؤذي، وإن كان المسلم عليه غير مؤذ للذي ابتدأ بالسلام فلا يخرج الذي ابتدأ بالسلام سلامه من الشحناء حتى يكلمه إذ لا عذر له في ترك كلامه، فإذا كان مؤذيا له جازت شهادته عليه إذا سلم عليه، وإن لم يكن مؤذيا له لم تجز شهادته عليه حتى يرجع إلى كلامه، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أنه إن كان الذي بينهما خاصا فلا يخرج من الهجران ولا تجوز شهادته عليه حتى يرجع إلى كلامه، وإن لم يكن الذي بينهما خاصا برئ من الهجران بالسلام وإن لم(10/60)
يكلمه وجازت شهادته عليه، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[: بينهما عبد فشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه وهما منكران جميعا]
ومن كتاب العتق وسئل ابن القاسم: عن رجلين بينهما عبد أو عبدان فشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه وهما منكران جميعا، قال: لا أرى أن تجوز شهادة واحد منهما على صاحبه، وبلغني عن مالك أنه قال ذلك.
قلت لابن القاسم: فيحلفان؟ قال: لا أرى موضع اليمين؛ لأنه لا تجوز شهادة واحد منهما على صاحبه، قال: وقد قال مالك: كل من شهد على رجل بشهادة فكان غير عادل في شهادته أو متهما فيها فإنه لا يمين على المشهود عليه بشهادته.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن شهادة كل واحد منهما غير جائزة على صاحبه إذا لم يكن لهما مال سوى العبد إذ لا تهمة على الشاهد منهما في شهادته على صاحبه إذا لم يكن للمشهود عليه مال، فإن كان معه شاهد آخر تمت الشهادة وقضي عليه بعتق نصيبه، وإن لم يكن معه شاهد غيره لزمته اليمين بشهادته أنه ما أعتق نصيبه، ولا اختلاف أيضا في أن شهادة كل واحد منهما على صاحبه بعتق نصيبه لا تجوز إذا كان للمشهود عليه مال يلزمه فيه التقويم؛ لأن الشاهد يتهم على أنه إنما شهد عليه ليقوم له عليه نصيبه [وإنما الاختلاف إذا لم تجز شهادته هل يعتق عليه نصيبه أم لا؟ فقيل: إنه لا يعتق عليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية، ودليل قول غيره في العتق الثاني من المدونة ودليل أحد قولي ابن القاسم فيه أيضا، وقيل: إنه يعتق عليه نصيبه] لأنه مقر على نفسه بوجوب عتقه(10/61)
على شريكه بالتقويم، وهو المنصوص لابن القاسم في المدونة وفي رسم المكاتب من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب، واختلف إذا لم تجز شهادته عليه لملائه هل تلزمه اليمين بشهادته أم لا؟ فقيل: إنه لا تلزمه يمين، وهو قوله في هذه الرواية وفي رسم الشجرة من سماع ابن القاسم المتقدم وفي نوازل سحنون، وقيل: إن ذلك آكد من الخلطة فتجب عليه اليمين، وقد مضى القول على ذلك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم المتقدم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حضره الموت فقال ما شهد به ابني علي من دين فهو مصدق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل قال عند موته أو في حياة منه وصحة: ما شهد به علي فلان فهو مصدق في ديون الناس قبلي، والمسمى عبد له أو لغيره أو رجل محدود أو نصراني أو امرأة قال: سمعت مالكا يقول في رجلين تنازعا في أمر فقال أحدهما لصاحبه: فلان يشهد عليك بما أقول، فقال الآخر: اشهدوا أن ما قال فلان حق وأنا أرضى به، فسئل فشهد فقال: ما أقر ولا أرضى به ولا ظننت يشهد بمثل هذا، قال مالك: لا يلزمه شيء مما قال، قال ابن القاسم: يريد أن يرد إلى وجه ما يحكم به الحاكم، ولا يلزمه رضاه بالرجل، وسئل عن رجل حضره الموت فقال: ما شهد به ابني علي من دين أو شيء فهو مصدق من دينار إلى مائة دينار أو لم يوقت وقتا ثم مات فشهد ابنه بذلك لقوم بديون، وشهد لبعض الورثة بدين أيضا، قال: لا يثبت ذلك عندي إلا بيمين إن كان عدلا قال: ومذهبه عندي مذهب القضاء، قال: وإن لم يكن عدلا أو نكل المشهود له عن اليمين لزم الشاهد قدر ميراثه من هذا(10/62)
الدين، وإن كان سفيها لم يجز إقراره في ميراثه ولم يحلف طالب الحق.
قلت: وهذا قول مالك في السفيه إن إقراره لا يلزمه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: كذا وقعت هذه المسألة: وسئل مالك عن رجل قال عند موته أو في حياة منه وصحة: ما شهد به علي فلان فهو مصدق إلى آخر السؤال، وهو غلط؛ لأن المسئول إنما هو ابن القاسم، وذلك أنه سئل عن الرجل يشهد على نفسه في صحته أو في مرضه أن فلانا مصدق فيما يشهد به علي من ديون الناس، فذهب إلى أن ذلك لا ينفذ عليه ولا على ورثته بعده ولا يلزمهم ذلك إلا على وجه ما يحكم به من شهادة الشاهد العدل، واحتج لذلك بما سمعه من مالك في الرجلين يتنازعان في الأمر فيرضى أحدهما فيه بشهادة رجل أن ذلك لا يلزمه، وقد مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم تحصيل الاختلاف في مسألة الرجلين يتنازعان في الشيء فيرضى أحدهما في ذلك بشهادة رجل هل يلزمه ما شهد عليه أم لا؟ ولا يدخل شيء من ذلك الاختلاف عندي المسألة التي سئل عنها ابن القاسم؛ لأن قوله في صحته أو في مرضه: ما شهد به علي فلان وهو ممن تجوز شهادته أو لا تجوز من ديون الناس قبلي فهو مصدق في ذلك حكم على ورثته، فلا يجوز له أن يوصي بذلك، ولم يرد ابن القاسم بما احتج به من قول مالك المساواة بين المسألتين، وإنما وجه ما ذهب إليه أن مالكا إذا قال في مسألة المتنازعين إن التصديق لا يلزم فيه وإن كان قد قيل: إنه يلزم فأحرى ألا يلزم في مسألة الذي أوصى أن يصدق فلان فيما يشهد به عليه من الديون، وكذلك مسألة الذي حضره الموت فقال، ما شهد به ابني علي من دين أو شيء فهو مصدق من كذا إلى كذا أو دون توقيف لا يدخل الاختلاف المذكور فيه لما ذكرنا من(10/63)
أنه حكم على ورثته وإن كان أصبغ قد أنكر هذه الرواية في الواضحة، وقال: لا أعرفها من قوله، ولكن يصدق من جعل إليه التصديق كان عدلا أو كان غير عدل كقول مالك فيمن قال: وصيتي عند فلان فما أخرج فيها فأنفذوه أن ذلك نافذ، وما استثنى مالك عدلا من غير عادل، وذلك سواء ما لم يسم من يتهم عليه تهمة بينة من أقاربه ممن هو كنفسه فإنكاره ليس بصحيح إذ لا يشبه مسألة الوصية التي شبهها بها مسألة التصديق في الشهادة بالدين لوجوه منها أن الثلث له حيا وميتا، فله أن يوصي به لمن شاء من غير الورثة بخلاف إقراره بالديون، وأيضا فإن الوصية قد خفف أمر الشهادة فيها بخلاف غيرها فأجيز فيها شهادة الموصى له فيها بالشيء اليسير، وأجاز بعض أهل العلم فيها شهادة الكافر في السفر، وقول أصبغ: إن مالكا لم يشترط العدالة في مسألة الوصية ليس بصحيح أيضا؛ لأن الذي له في رسم البر من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا اشتراط العدالة، وسحنون هو الذي قال: إن قول الذي قال الميت صدقوه مصدق عدلا كان أو غير عدل وهو ظاهر ما في المدونة والموازية، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك ابنين فاختلفا في وصية ألف دينار لرجل]
مسألة وسألته: عن رجل هلك وترك أربعة من الولد فشهد اثنان لرجل بألف دينار، وقال الآخران: هي لفلان لغير ذلك الرجل وصية، قال: يقضى بأعدل الشهود، قلت: فإن استويا في العدالة؟ قال: تقسم الألف بينهما، قلت له: فرجل هلك وترك ابنين فاختلفا في وصية ألف دينار لرجل قال أحدهما: هو فلان، وقال الآخر: بل فلان؟ قال: يدعى اللذان أوصى لهما بالألف إلى الأيمان فإن حلفا كلاهما مع شهادة الابنين لهما اقتسما الألف، وإن نكل أحدهما كانت الألف لمن حلف منهما. قلت: فإن نكلا عن اليمين وقالا: لا علم لنا؟ قال: أرى أن يدفع كل واحد منهما من الابنين الذي يصيبه من الألف إذا قسمت على الورثة إلى من(10/64)
شهد له، قال: وإن لم يكن غيرهما وكانت تخرج من الثلث أذياها، وإن كان معهما غيرهما لم يكن عليهما أكثر مما صار في أيديهما منها.
قال محمد بن رشد: قوله في المسألة الأولى يقضى بأعدل الشهود صحيح على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها؛ لأن البينة قد كذبت بعضها بعضا في عين المشهود له وفيما شهدت له به إن كان دينا أو وصية، وأما قوله: إن الألف تقسم بينهما إذا استويا في العدالة فمعناه إن حملها الثلث ولم يكن للميت وارث غيرهم، مثال ذلك أن يترك المتوفى ثلاثة آلاف دينار ولم يترك من الورثة سوى الأربعة بنين، فإنه يقال للابنين اللذين شهدا بالوصية: ادفعا إلى الذي شهدتما له خمسمائة دينار ثلث ما ورثتماه، ويقال للآخرين اللذين شهدا بالدين: ادفعا إلى الذي شهدتما له نصف دينه؛ لأنكما قد ورثتما نصف مال المتوفى؛ وذلك لأن البينتين إذا تكافأتا في العدالة سقطتا ووجب على كل واحد من الشهود أن يعطي الذي شهد له ما يجب له في حظه من الميراث لو ثبت ما شهد له به ولم يجب على سائر الورثة شيء إن كان للميت وارث سواهم، بيان هذا أنه لو ترك المتوفى ألفي دينار وأربعمائة دينار وترك ثمانية من الولد فشهد اثنان منهم لرجل بألف دينار، وقال آخران منهم: بل هي لفلان لغير ذلك الرجل وصية لوجب على اللذين شهدا بالوصية أن يدفعا إلى الذي شهدا له بها ثلث ما يجب لهما بالميراث وذلك مائتا دينار؛ لأنه يجب لكل واحد منهما ثلثمائة دينار، ولو وجب على اللذين شهدا بالدين أن يدفعا إلى الذي شهدا له ربع ما يجب لهما بالميراث، وذلك مائة وخمسون دينارا خمسة وسبعون من نصيب كل منهما؛ لأنه يجب لكل واحد منهما ثلثمائة دينار، ولم يجب على سائر البنين فيما ورثاه شيء إذا لم تثبت الشهادة لواحد منهما وبطلت بتكذيب بعضها بعضا، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: ولو كان الثلث لا يحمل الألف لبطلت شهادة اللذين شهدا أنها وصية، وكانت الألف للذي شهد له الآخران بها دينا؛ لأن اللذين شهدا أنها وصية يجران إلى أنفسهما؛ لأن ما لم يحمل الثلث من الألف يكون على قولهما ميراثا لهما ولسائر الورثة(10/65)
فيتهمان على ذلك، وهما كما قال إذا تقدمت الشهادة بالدين، وأما إن تقدمت الشهادة بالوصية أو جاء الشهود معا فلا وجه للتهمة في ذلك، ويأتي على رواية المدنيين عن مالك أن تعمل الشهادتان جميعا حمل الثلث الألف أو لم يحملها، فيقضي بالألف من رأس المال للذي شهد له الابنان أنها دين له، ويقضي بالألف من ثلث بقية المال للذي شهد له الآخران أنها له وصية إن حملها الثلث وإلا فما حمل منها، ولو كان المشهود له رجلا واحدا فقال الابنان: أوصى له بألف دينار وصية، وقال الآخران: بل أقر له بها دينا لكانت له الألف بشهادتهما جميعا حملها الثلث أو لم يحملها على القول بأن الشهادة تلفق إذا اتفقت فيما يوجبه الحكم وإن اختلفت في اللفظ والمعنى، وعلى القول بأنها لا تلفق يقضي بأعدل البينتين فإن استوتا في العدالة سقطتا ووجب على كل واحدة من البينتين للمشهود له ما يجب له في نصيبه بإقراره له، وكذلك لو كانا ابنين فشهدا له بألف، وقال أحدهما: هي وصية، وقال الآخر: بل هي دين لتخرج الأمر أيضا على الاختلاف في تلفيق الشهادة، فعلى القول بأنها تلفق تكون له الآلف بشهادتهما إن حملها الثلث، وإن لم يحملها الثلث كان المشهود له بالخيار إن شاء أخذ ما حمل الثلث من الألف دون يمين، وإن شاء حلف مع شهادة الذي شهد له بها أنها دين وأخذ جميعها، وعلى القول بأنها لا تلفق لا بد له من اليمين فيحلف مع أيهما شاء ويأخذ ما وجب له بشهادته، وقد مضى في رسم العرية تحصيل القول فيما يلفق من الشهادات المختلفات مما لا يلفق منها فلا معنى لإعادته، وأما المسألة الثانية فهي صحيحة بينة في المعنى، وفيما مضى ما فيه بيان لها؛ لأن الشهود إذا اختلفوا في أعيان المشهود لهم فقد أكذب بعضهم بعضا، وإنما قال: إن الموصى لهما يحلف كل واحد منهما مع شهادة الابنين لهما أو يحلف كل واحد منهما مع الذي شهد له منهما؛ لأن الشاهدين لا تبطل شهادتهما بتكذيب بعضهما بعضا، ولو كانوا أربعة فشهد اثنان منهم أنه أوصى لرجل بألف، وقال الآخران: بل إنما أوصى بها لفلان رجل آخر لسقطت الشهادتان جميعا ولم يكن لواحد من المشهود لهما إلا ما يجب له في نصيب الذي شهد له بإقراره، وبالله التوفيق.(10/66)
[مسألة: الشهادة لا تثبت إلا برجلين أو رجل وامرأتين]
مسألة وسألته: عن امرأتين شهدتا على شهادة رجل وشهد معهما امرأتان على حق من الحقوق هل يجوز ذلك؟ قال مالك: تسقط شهادة المرأتين على شهادة الرجل ويحلف صاحب الحق مع شهادة المرأتين اللتين شهدتا على أصل الحق، قال: ولا تجوز شهادة النساء على شهادة رجل لو كن ألفا إلا مع رجل؛ لأن الشهادة لا تثبت إلا برجلين أو رجل وامرأتين، وامرأتان وألف امرأة سواء حيث لا تجوز شهادتهن إلا مع رجل.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم مشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها أنه لا تجوز شهادة امرأتين على شهادة رجل إلا مع رجل، ولا شهادة امرأتين على شهادة امرأتين إلا مع رجل، فلا يشهد على شهادة رجل ولا على شهادة امرأتين إلا رجلان أو رجل وامرأتان خلاف مذهب ابن الماجشون وسحنون في أن شهادة النساء لا تجوز ألا فيما يجوز فيه شاهد ويمين، وقد مضى هذا في رسم العشور.
[مسألة: شهد على شهادة نفسه]
مسألة وسألته: عن رجل شهد على شهادة نفسه وشهد مع آخر على شهادة رجل في ذلك الأمر نفسه، قال: لا أرى أن تجوز شهادته إلا على شهادة نفسه، وأما على شهادة رجل يشهد بمثل ما شهد به فلان فإنه لا يجوز؛ لأنه كأنه عاد في تحقيق شهادته.
قال القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا شهد بشهادة وشهد مع آخر على شهادة رجل بتلك الشهادة فلم يتم الحكم إلا بشهادته وحده، وهذا نحو ما تقدم في رسم شهد على شهادة ميت في الشاهدين بالحق يزكي أحدهما صاحبه.(10/67)
[مسألة: تعديل الأخ أخاه وشهادته له]
مسألة قلت لابن القاسم: هل يجوز أن يعدل الرجل امرأته والمرأة زوجها والأخت أخاها والأخ أخته؟ قال مالك: لا تعدل المرأة أحدا لا امرأة ولا رجلا لا فيما تجوز شهادتهن ولا في غيره، قال: والرجل لا يقبل منه تعديل امرأته كما لا تجوز شهادته لها.
قلت: فالأخ لأخته؟ قال: نعم؛ لأن شهادته تجوز لها إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه من لا يجوز للرجل أن يشهد له فلا يجوز له أن يعدله؛ لأنه إذا اتهم في شهادته له فهو أحرى أن يتهم في تعديله إياه، ألا ترى أنه قد اختلف في تعديل الأخ أخاه وشهادته له جائزة، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: شهادة الوارث فيما وهب من مال موروثه في مرضه]
مسألة وسألته: عن رجل حضره الموت وله أخوان شاهدان في ذكر حق، فقال لهما: إنه لا شاهد لي غيركما، وأنتما ترثاني وابنتي فلانة، فلو أسلمتما لها ميراثكما مني أو وهبه أحدكما صاحبه ليكون الواهب شاهدا ففعل وتصدق على أخيه بموروثه، ثم هلك الرجل، قال: لا تجوز شهادته؛ لأنه حق قد ثبت لهما في المرض، فلا أراه يجوز.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية شهادة الوارث فيما وهب من مال موروثه في مرضه، وأعتل لبطلانها بأن ذلك حق وجب له في مرض الميت فلم تجز شهادته فيه إذ لا تجوز شهادة أحد فيما وهب من ماله لابنه؛ لأنه يتهم في تصحيح هبته، وفي قوله لأنه حق قد ثبت لهما في المرض نظر إذ لا يجب لهما الميراث إلا بعد موته، وإنما يجب(10/68)
لهما في مرضه التحجير فيما زاد على الثلث، وفي الوصية لوارث، وقد أجاز أصبغ في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب شهادتهما في ذلك، وأعتل لهما بأنهما خرجا عنه بالهبة قبل أن يصير إليهما بالملك التام، فتأول بعض الناس عليه أن الهبة على تعليله لا تلزمهما، وليس ذلك بصحيح، إذ لو لم تلزمهما الهبة إلا أن يجيزاها بعد موته لما صح أن تجوز شهادتهما؛ لأن إجازتهما لهبتهما بعد موته كابتداء الهبة، وإجازته لهبتهما ولشهادتهما بين من قوله فلا أعرف نص خلاف في أن هبة الوارث لميراثه في مرض الموروث جائزة وهو بين من قول ابن القاسم في هذه الرواية ونص من قوله في رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه قال فيه: إن ذلك يلزمه إلا أن يقول: كنت أظنه يسيرا لا أعلم أنه يبلغ هذا القدر ويشبه ذلك من قوله فيحلف على ذلك ولا يلزمه، ومثله لمالك في الموطأ؛ لأنه قال فيه: إن الميت إذا قال لبعض ورثته إن فلانا- لأحد من ورثته- ضعيف، وقد أحببت أن تهب له ميراثك فأعطاه إياه أن ذلك جائز إذا سماه له الميت، إذ لا فرق بين أن يهب أحد الورثة ميراثه لمن سواه من الورثة أو لأجنبي من الناس ولا بين أن يسميه له الميت أو لا يسميه له، وما في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات محتمل للتأويل على ما سنذكره إذا مررنا به إن شاء الله، ومن الناس من ذهب إلى أن هبة الوارث لميراثه هي مرض الموروث لا تجوز؛ لأنه وهب ما لم يملك بعد على ما في المدونة من أن المريض إذا استأذن ورثته في أن يوصي لبعضهم، فأذنوا له لزمهم إذ لم يحكم له بحكم المالك في الميراث للمرض، وإنما كان له التحجير على موروثه فيه، فإذا رفع عنه التحجير بالإذن لزمه وإن لم يكن مالكا للمال، وقال: إن ذلك يقوم أيضا من قول مالك في الموطأ إن الوارث إذا وهب لموروثه في مرضه ميراثه منه فمات قبل أن يقضى فيه أنه يرد إليه، إذ لو أجاز هبته له لقال: إنه لا يكون له من ذلك إلا ميراثه منه، قال: فكما لا تجوز هبته له من أجل أنه لم يتقرر له(10/69)
عليه ملك فكذلك لا تجوز لغيره، وليس ذلك بصحيح، والفرق بينه وبين غيره أنه إذا وهبه له فقد علم أن القصد في ذلك إنما هو ليرفع الحجر عنه في أن يصرفه إلى من أحب من الورثة، إذ لا يحتاج إلى هبته إن صح ولا ينتفع بها إن مات، فإذا لم يقض فيها بشيء حتى مات رجعت إلى الواهب، وإذا وهبه لغيره فقد ملكه بالهبة ما وهبه إياه، ولا يقال إن ذلك لا يجوز من أجل أنه وهبه ما لم يملكه بعد؛ لأنه لم يثبت له الآن، وإنما وهبه له بشرط ملكه له بموت موروثه، كما لو قال: إن ملكت فلانا فهو حر أو إن ملكته فهو لفلان، فلا فرق في وجه القياس بين صحة الموروث ومرضه في هبة الوارث لميراثه منه، والتفرقة في ذلك بين الصحة والمرض استحسان، ويتحصل على هذا في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، في الحالين، والفرق بينهما وبالله التوفيق.
[مسألة: من كان عدلا مؤتمنا فلا يحتاج إلى اختبار صدقه]
مسألة وسئل: عن رجل يعرف الدابة أو الرأس ويشهد له على ذلك هل يجمع له دواب أو رقيق فيدخل فيهم، ثم يقول للشهود أخرجوها؟ قال: لا ليس ذلك على أحد في دواب ولا رقيق ولا ثياب ولا غير ذلك، وهذا خطأ ممن يفعله إذا كان الشهود عدولا لا يشك في عدالتهم قبل شهادتهم، ولم يلتمس منهم غير ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من لا يؤتمن في قوله حتى يختبر صدقه من كذبه فليس ممن تجوز شهادته، ومن كان عدلا مؤتمنا في قوله مقبول الشهادة فلا يحتاج إلى اختبار صدقه من كذبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد لرجل بحق على رجل وعلى الشاهد نفسه حق عليهما جميعا]
مسألة وسئل: عن شاهد شهد لرجل بحق على رجل وعلى الشاهد(10/70)
نفسه حق عليهما جميعا وليس للمشهود له عليهما أيهما شاء أخذه بحقه قضاه أحدهما ثم شهد له صاحبه، قال: تجوز شهادته إذا كان عدلا على ما ذكرت، وليس في هذا تهمة إذ لم تقع شهادته على المشهود عليه بشيء ينتفع به الشاهد أو يكون عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا لم يكن بعضهما حميلا ببعض فلا منفعة للشاهد الذي لم يقض ما عليه في قضاء صاحبه ما عليه، إذ لا يلزمه إلا ما عليه، قضى صاحبه ما عليه أو لم يقض، وبالله التوفيق.
[مسألة: الترجيح بين البينتين هل يكون بزيادة العدالة خاصة]
مسألة وسئل ابن دينار: عن الرجلين يدعيان الشيء فيأتي كل واحد منهما ببينة لا يعرفها الإمام إلا بالتعديل فيعدل هل يقضي بذلك الشيء لمن هو أعدل معدلين بمنزلة الشهداء إذا كان بعضهم أعدل من بعض، فقال: ما علمت ذلك إلا في الشهداء ولا أرى ذلك في المعدلين.
قال محمد بن رشد: هذا قول ابن الماجشون في الواضحة، وروى مطرف عن مالك فيها أنه يؤخذ بأعدل المعدلين، وهذا الاختلاف مبني على الترجيح بين البينتين هل يكون بزيادة العدالة خاصة أو بزيادة العدالة وبما يغلب به على الظن صحة الشهادة من كثرة الشهود وما أشبه ذلك، فمن ذهب إلى أن الترجيح لا يكون إلا بزيادة العدالة خاصة وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك يقول: إنه يقضي بأعدل المعدلين؛ لأن زيادة عدالة [أحد] المعدلين لا يفيد زيادة عدالة المعدلين، وإنما يفيد زيادة غلبة(10/71)
الظن بصحة عدالة المعدلين، وهو قول ابن الماجشون وابن دينار، ومن ذهب إلى أن الترجيح يكون بزيادة العدالة وبما يغلب به على الظن صحة الشهادة من كثرة العدد وما أشبه ذلك يقول إنه يقضى بأعدل المعدلين؛ لأن زيادة عدالتهم وإن لم تفد زيادة عدالة المعدلين، فإنها تفيد زيادة غلبة الظن بصحة عدالتهم ككثرة العدد الذي يفيد زيادة غلبة الظن بصحة الشهادة، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق.
تم كتاب الشهادات الثاني بحمد الله تعالى(10/72)
[: كتاب الشهادات الثالث]
[: العدل يشهد عند القاضي ثم يعود فيزيد في شهادته أوينقص]
كتاب الشهادات الثالث(10/73)
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: سألت ابن القاسم عن العدل يشهد عند القاضي ثم يعود فيزيد في شهادته أو ينقص، فقال: إذا كان منقطع العدالة ممن لا يتهم في عقله فما زاد أو نقص قبل أن يقع الحكم بعلمه فهو مقبول منه، وأما ما رجع عنه أو نقصه فيما كان شهد به أو زاد كلاما فيه نقص الشهادة الأولى وذلك بعد أن يحكم بشهادته فهو غير مقبول، ولا يفسخ الحكم الذي كان من تحويله شهادته، ولا لما زاد أو نقص، وأما ما زاد بعد الحكم مما زعم أنه كان نسيه مثل أن يكون شهد لرجل على رجل بثلاثين دينارا ثم يذكر أنها كانت خمسين فجاء يشهد بتمام الخمسين، فإن ذلك يقبل منه وتجوز شهادته فيه.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا كان منقطع العدالة ممن لا يتهم في عقله فما زاد أو نقص قبل أن يقع الحكم بقوله فهو مقبول منه، يريد أنه يقبل قوله في أنه شبه عليه فتجوز شهادته فيما يستقبل ولا يؤدب، ولو كان على غير ذلك من ظهور عدالته لم يقبل قوله في أنه شبه عليه وردت شهادته فيما يستقبل، هذا دليل قوله في هذه الرواية وظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة، قال فيه ولو ودب لكان لذلك أهلا، ومثله حكى ابن حبيب في(10/75)
الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ إلا أنه لم يذكر الأدب خلاف ظاهر ما في كتاب الأقضية من المدونة أنه يقبل قوله في أنه شبه عليه، وإن لم يكن مبرزا في العدالة فتجوز شهادته فيما يستقبل إلا أن يعرف منه كذب في شهادته فترد شهادته في هذا وفيما يستقبل، يريد ويؤدب، وقال سحنون: لا يؤدب الراجع عن شهادته قبل الحكم لئلا يمتنع من شهد على باطل عن الرجوع عن شهادته خوف العقوبة، كالمرتد إذا تاب لم يعاقب، وقوله: فهو غير مقبول في الذي رجع بعد الحكم عن شهادته أو نقص شيئا منها أو زاد كلاما فيه نقص الشهادة يريد أن قوله: لا يقبل في أنه شبه عليه فيسقط عنه الغرم، بل يغرم وإن شبه عليه، وهو ظاهر ما في أول رسم من سماع ابن القاسم ومثل ما في كتاب السرقة من المدونة، وقيل: معناه أن قوله غير مقبول في فسخ الحكم؛ لأنه يمضي ولا يفسخ برجوعه عن شهادته باتفاق، وقيل: معناه أن شهادته لا تقبل فيما يستقبل، وإن شبه عليه، وهو قول مالك في كتاب الأقضية من المدونة خلاف قول سحنون: إنها لا ترد فيما يستقبل إذا شبه عليه، فتحصيل القول في هذه المسألة أن الشاهد إذا رجع عن شهادته، وقد كان شبه عليه فإن كان ذلك قبل الحكم بشهادته قبل رجوعه وجازت شهادته فيما يستقبل، وإن كان ذلك بعد الحكم بها لم يرد الحكم، واختلف هل يضمن أم لا؟ وهل ترد شهادته فيما يستقبل أم لا؟. ويقبل قوله إنه شبه عليه إذا كان مبرزا في العدالة باتفاق، وإذا لم يكن مبرزا فيها على اختلاف، وإذا رجع عن شهادته أو عن شيء منها ولم يأت في رجوعه بما يشبه وتبين أنه تعمد الزور أدب ولم تقبل شهادته فيما يستقبل كان رجوعه قبل الحكم أو بعده، وقيل: إنه لا يؤدب إذا كان رجوعه قبل الحكم ويضمن ما أتلف بشهادته إذا كان رجوعه بعد الحكم، ولا يرد الحكم، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى عليه أنه شهد في ذكر حق له على فلان فقال ما أذكر ثم ذكر]
مسألة قلت: فإن سئل وهو عند القاضي فقيل له: إن فلانا قد ادعى أنك تشهد في ذكر حق له على فلان، فقال: ما أذكر أنه(10/76)
أشهدني عليه بشيء وماله عندي علم، ثم انصرف فذكر فعاد إلى القاضي بعد أيام فشهد في ذلك الحق أيقبل قوله؟ قال: نعم، وتجوز في ذلك شهادته إن كان ممن لا يشك في عدله ولا يتهم في شيء من علمه، ومثل ذلك المريض يسأل في مرضه عن علم كان عنده فيقول: مالك عندي علم، فيصح فيشهد في ذلك الحق، فيقال: ما منعك أن تشهد إذ سألك وأنت مريض؟ فيقول: خفت على نفسي الخطأ والوهم في الزيادة والنقصان لشدة ما كان بي من المرض إن ذلك يقبل منه إذا كان لا يتهم لعدله وصلاح حاله، فتجوز في ذلك الحق شهادته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته مرة ثانية، وبالله التوفيق.
[مسألة: استقال الشاهد قبل القضاء أو بعده وادعى أنه غلط ثم تذكر]
مسألة قال سحنون: وأنا أقول إذا استقال الشاهد قبل القضاء أو بعد القضاء وادعى أنه غلط ثم تذكر أو شبه عليه قبل قوله، وأقيل في شهادته فيما يستقبل إذا كان عدلا مرضيا.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان ذلك قبل القضاء فلا اختلاف في أنه يقبل قوله فتجوز شهادته فيما يستقبل ولا يؤدب إذا كان عدلا مرضيا، وأما إذا استقال بعد الحكم فقيل: إنه لا تجوز شهادته فيما يستقبل وإن شبه عليه، وهو قول مالك في الأقضية من المدونة خلاف قول سحنون هذا إنه تجوز شهادته فيما يستقبل إذا شبه عليه، وكذلك يختلف أيضا في وجوب الغريم [عليه] إذا شبه عليه، وأما الأدب فلا يجب عليه إذا شبه عليه، وقد مضى فوق هذا القول على ذلك كله مستوفى، وبالله التوفيق.(10/77)
[مسألة: للقاضي أن يكتب في تعديل من شهد عنده]
مسألة وسألته: عن القاضي يشهد عنده الرجل من بعض أهل الكور التي قد استقضى لأهلها قاض، فإن سأله من يعدله لم يقدر الشاهد على ذلك، ولعله أن يكون من أهل العدالة حيث يعرف بكورته، أترى للقاضي أن يكتب إلى قاضي بلده أن يعدل عنده ثم يكتب إليه بالذي ثبت عنده من تعديله، والقاضي الذي شهد عنده يخاف أن يكون قضاة الكور غير محتاطين في تعديل من قبلهم، فلعل الشاهد إن كان غير عدل أن يتعدل لضعف حال القضاة، فقال: لا ينبغي للقاضي إذا شهد عنده من لا يعرف أن يكتب في تعديله إلا إلى قاض يرضى حاله ويثق باحتياطه ويكون على يقين من حسن نظره لنفسه في دينه، وما حمل من أمر من ولي النظر له، فإن كان لا يثق به حتى لا يكون في نفسه مأمونا في دينه فطنا في نظره غير مخدوع لغفلة فلا يكتبن إليه في تعديل أحد يشهد عنده، وإن كان في الكور رجال يرضى القاضي حالهم ويعرف صلاحهم فليكتب إليهم سرا أن يسألوا له عن الشاهد سؤالا حثيثا، قال: فإن كان عندهم مشهورا بالعدالة معروفا بالصلاح فكتبوا إليه بذلك وهو بناحيتهم واثق أجاز شهادته وإلا تركه حتى يتعدل عنده بمن يرضى.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية وفي سماع زونان بعد هذا إنه لا يجوز للقاضي أن يكتب في تعديل من شهد عنده إلا إلى قاض يرضى حاله ويثق باحتياطه ولم ينص في شيء من ذلك هل يلزمه أن يكتب إليه في تعديل من شهد عنده إذا كان من أهل العدالة والرضى أم لا يلزمه ذلك، والذي أقول به أنه يلزمه ذلك إذا كان ذلك القاضي من أهل عمله على ما قاله في رسم الأقضية لابن غانم من سماع أشهب من كتاب(10/78)
الأقضية، ولا يلزمه ذلك إلا أن يشاء إذا لم يكن ذلك القاضي من أهل عمله على ما يأتي في رسم الأقضية من هذا السماع بعد هذا، إلا أن يكون المطلب في حق هو لله من طلاق أو عتق أو ما أشبه ذلك؛ لأنه يلزمه أن يحتاط في الفروج بما يجد إليه السبيل من الكتاب إلى من يعلم عدالته من القضاة، وأما ما لم يكن فيه حق لله فلا يلزمه السؤال عن الشاهد إلا في موضعه، ويستحب له أن يكتب إلى أهل عمله من القضاة وإلى عدول موضع الشاهد؛ لأن الكشف عن البينة على القاضي الذي شهدت عنده، فإذا عجز عن ذلك كلف المشهود له تزكيتهم عنده، فهذه الروايات كلها يفسر بعضها بعضا، وقد حمل بعض أهل النظر ما في هذا الرسم من هذا السماع وما في سماع زونان على أنه يلزمه أن يكتب في تعديل من شهد عنده إلى قاضي موضعه، وإن لم يكن من أهل عمله كما لو كان من أهل عمله، وهو من التأويل البعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: القاضي لا يقبل الشاهد إذا لم يعرفه]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الشاهد لا يعرفه القاضي بعدالة منقطعة ولا بحال فاسدة وهو ممن يشهد الصلوات في المساجد ولا يعرف بأمر قبيح، أيجيز شهادته أم لا؟ فقال: لا ينبغي له أن يقبل إلا عدلا ثابت العدالة.
قلت له: فصف لي الذين ينبغي أن يجيز شهادتهم على علمه بهم والذين يردهم على علمه بهم ومن يجوز له الوقوف في أمره حتى يعدل عنده فقال: من عرفه بعدالة ممن لو لم يكن قاضيا لزمه أن يعدله عند غيره إذا شهد ولم يسعه الوقوف في تعديله أجاز شهادته إذا شهد عنده، ومن عرفه بسوء حال ممن لو لم يكن قاضيا لزمه أن يجرحه عند غيره إذا استشهد به عليه رد شهادته إذا شهد عنده، ومن كان لا يجيزه حسا فهو يرى ظاهرا(10/79)
صالحا وليس بمداخل له ولا مختبرا حاله ولا هو في نفسه بحال رضى ولا هو مطلع منه على شيء قبيح فليسأله من يعدله ممن هو أخبر به منه، فإن لم يأت بمعدلين ممن يرضى وسعه ألا يجيز شهادته.
قال محمد بن رشد: قوله: إن القاضي لا يقبل الشاهد إذا لم يعرفه بعدالة ولا سخطة، وإن كان ظاهر الصلاح بمشاهدة الصلوات في المساجد، وبأنه لا يعرف بأمر قبيح هو قول جمهور أهل العلم ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه؛ لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إذ لا يرضى إلا من تعرف عدالته، ومن أهل العلم من قال: إن الشاهد محمول على العدالة بظاهر الإسلام فتجوز شهادته ويحكم الحاكم بها إلا أن يجرحه المشهود عليه، وهو قول الحسن ومذهب الليث بن سعد على ظاهر قول عمر بن الخطاب: " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة "، وقد أجاز ابن حبيب شهادة من ظاهره العدالة بالتوسم فيما يقع في الأسفار بين المسافرين من المعاملات والتجارات والأكرية بينهم وبين المكارين مراعاة لهذا القول، وحكي ذلك عن مالك وأصحابه، وهو خلاف ظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة إذ لم تجز شهادته للقرباء دون أن تعرف عدالتهم إلا أنه رخص في وجه تعديلهم فأجاز فيهم التعديل على التعديل، وروي عن يحيى بن عمر أنه أجاز شهادة من لم تعرف عدالته في الشيء اليسير، وذلك أيضا استحسان مراعاة لقول الليث ومن ذهب مذهبه، ولما سأله عن حد العدالة التي إذا علمها القاضي من الشاهد لزم قبول شهادته، قال: هو الذي يعلم من عدالته ما لو دعي إلى(10/80)
تزكيته لزمه أن يزكيه، وليس بجواب مقنع؛ لأن السؤال يبقى عليه في حد العدالة التي إذا عرفها لزمته التزكية، وأحسن ما يقال في حد العدالة التي تلزم بها التزكية وإجازة الشهادة هو أن يكون الرجل مجتنبا للكبائر، متوقيا من الصغائر، متصاونا عن الرذائل؛ لأن ارتكاب شيء من الكبائر فسوق، فمن أتى بكبيرة من الكبائر لم تجز شهادته حتى تعرف توبته منها، والصغائر لا يمكن السلامة منها من جميعها بدليل قول الله عز وجل لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقول الخضر لموسى: واستكثر من الحسنات، فإنك لا بد مصيب السيئات، واعمل خيرا فإنك لا بد عامل شرا، فمن لم يتوق منها ولا بالى بها لزمه اسم الفسق بالإكثار منها، والكبائر قيل فيها: إنها سبع لحديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وآكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وسقط عن الراوي لهذا الحديث السابع وهو الزنى على ما جاء في غيره من الأحاديث، وقد جاء أن من الكبائر عقوق الوالدين وأكل الربا وشهادة الزور واستحلال بيت الله الحرام، ومما لا يختلف فيه أنه من الكبائر شرب الخمر والحرابة والسرقة، وما أشبه ذلك كثير، وقد جاء عن بعض أصحاب «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن الكبائر فعد منها سبعة وقال: هن إلى السبعين أقرب» ولا يقال في شيء مما يعصي الله به إنه صغير إلا بالإضافة إلى ما هو أكبر منه؛ لأن كل ما استوجب به فاعله العقاب عليه من الله فهو كبير، هذا تحقيق القول في الصغائر والكبائر، وإنما شرطنا في صفة الشاهد أن يكون متصاونا عن الرذائل؛ لأن صيانة العرض من الدين فمن لم يصن عرضه لم يصن دينه، والله أعلم، وقوله ولم يسعه الوقوف عن تعديله يدل على أن من دعي إلى تعديل شاهد يعلم عدالته وجب عليه أن يعدله فرضا واجبا كما أنه(10/81)
يلزمه فرضا واجبا أن يشهد بما علمه إذا دعي إلى الشهادة لقول الله عز وجل: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وهو نص قول ابن القاسم في المبسوطة، قال: إن وجد من يعدله غيره فهو في سعة وإلا لم يسعه إلا أن يعدله ولا يبطل حق امرئ مسلم، وقال ابن نافع: إن أراد الذي يعرفه أن يعدله فحسن، ووجه ذلك أنه لما كانت العدالة لا يقطع بها، وإنما يشهد أنه عدل بما يظهر إليه من حاله بطول اختباره وسعة التوقيف عن الشهادة لاحتمال أن يكون حاله على خلاف ما اختبر منه، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الشهادة في هذا طريقها غلبة الظن، إذ لا سبيل فيها إلى حقيقة العلم، فإذا غلب على ظنه عدالته بطول الاختبار وجب عليه أن يزكيه كما يجب عليه أن يقبله ويحكم بشهادته إذا شهد عنده، وبالله التوفيق.
[: القاضي يضرب الرجل ثم يعزل فيشهد على المضروب في حق يعلمه قبله]
ومن كتاب الصبرة وسألته عن القاضي أو غيره من أهل العدل من ولاة السوق أو الشرطة يضرب الرجل على ما ثبت عنده من نية ثم يعزل فيشهد على المضروب في حق يعلمه قبله فيريد رد علمه عنه للذي كان من ضربه إياه أيكون ذلك له؟ فقال: إن كان القاضي أو صاحب الشرطة أو صاحب السوق من أهل القناعة والعدل ممن لا يتهم أن يكون ضربه تعديا عليه ولا يضرب مثلهم إلا في حق واجب على من ضربوا فشهادة كل واحد منهم جائزة على من ضرب إذا شهد عليه بعد عزله أو في ولايته.
قلت له: أرأيت إن كان إنما شهد عليه في الأمر الذي(10/82)
ضرب فيه أو لذلك الخصم الذي ضربه له في تلك الخصومة بعينها أترى شهادته جائزة عليه؟ قال: لا أرى ذلك ولا أحب أن أجيز علمه عليه في تلك الخصومة ولا ما جر إليها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذ لا تهمة عليه في شهادته عليه في غير ما ضربه فيه، ويتهم إذا شهد عليه في الخصومة التي ضربه فيها أو في شيء مما جر إليها أنه إنما شهد عليه ليحقق عليه المعنى الذي ضربه من أجله فيسقط عن نفسه الظنة في ضربه إياه، قال أصبغ في الواضحة: ولو شهد المضروب عند وال غيره على حق فأعلمه أنه غير عدل، وأني قد ضربته حدا من حدود الله فإني أرى أن ترد شهادته بقوله وحده، وأما بعد عزله فلا يجوز ذلك عليه شهادته ليجرحه بذلك؛ لأنه يريد أن ينفذ حكمه عليه بشهادته، وقول أصبغ هذا نحو قول ابن الماجشون في كتاب القاضي إلى القاضي بتعديل الشاهد من أهل عمله معارض لرواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الأقضية، وقد مضى القول على ذلك مشروحا فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: العدل يشهد على الرجل فيريد المشهود عليه أن يجرحه]
مسألة وسألته عن الرجل العدل يشهد على الرجل، فيريد المشهود عليه أن يجرحه بأن زعم أن الشاهد ينتمي إلى أب لم يلحق به نسبه فيكشف القاضي أمره، فإذا الشاهد ابن أمة رجل مات عنها وقد ولدت هذا الشاهد في حياته أو هي حامل فولدت بعد موته فزعمت أن حملها كان من سيدها فأقره الورثة وأقروا أمه ولم يقروا لها [بإلحاق] هذا الشاهد بأبيهم ولم يقسموا له ميراثا غير أنهم(10/83)
لم يدعوا رقبته ولا رقبة أمه، سكت الورثة عنها فانتسب لهذه الشبهة، ولم ينكر عليه بنو الرجل إذ لم يكلفهم سهمه فكان أمرهم على أن سكت بعضهم عن بعض.
فقلت: أتراه مجرحا بهذا الانتماء وهو معروف بالعدالة؟ فقال: أرى أن يسأل عنه بنو الميت، فإن أقروا له بالنسب لم يضره ترك الميراث وجازت شهادته، وإن لم يقروا له ولم تقم له بينة على إقرار الميت بوطء الأمة رأيته مجرحا بهذا؛ لأن عتاقته لا تثبت إلا بثبات النسب.
قلت: أرأيت إن كان الورثة أعتقوه وأمه وهم ينكرون نسبه وهو عدل غير أنه مقيم على الانتماء إلى الميت أترى ألا تجوز شهادته ما كان مقيما على الانتماء الذي لم يثبت له؟ قال: إني أراه مستحقا بذلك وما أحب أن تمضي شهادة مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، والمعنى فيها أن الأمة كانت ممن لا تصلح للفراش، فلذلك لم يلحق السيد ولدها، ولو كانت ممن تصلح للفراش للحقه الولد وورث إلا أن يشهد عليه أنه مات على استبرائها أو أنه لم يطأ فلا يلزمه الولد حيا كان أو ميتا وإن كانت تصلح للفراش، قاله ابن دحون، وهو صحيح، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدعي المقضي عليه أنه وجد عدولا يجرحون بعض الذين قطع القاضي بشهادتهم]
مسألة وسألته: عن القاضي يقضي للرجل ويسجل له بذلك ويشهد له عليه فيدعي المقضي عليه أنه وجد عدولا يجرحون بعض الذين قطع القاضي بشهادتهم ذلك الحق عليه، أترى أن يمكنه من ذلك؟ فقال: نعم، إن رأى القاضي لذلك وجها فيما يحتج به الخصم ويدعيه مثل أن يقول: والله ما كنت علمت بسوء حال(10/84)
هؤلاء الذين شهدوا علي، ما كان سكوتي عنهم إلا جهالة بحالهم، فلما أنبأني بحالهم عدول ممن يعرفهم ادعيت فسادهم، فإذا ادعى هذا ونحوه وتبين للقاضي أنه غير ملد نظر له.
قلت: أرأيت إن مات القاضي أو عزل أيجوز للذي ولي بعده أن يدعو بالتجريح الذي كان ادعاه عند الأول؟ قال: نعم، هو في ذلك بمنزلة الذي كان قبله، قال: ولو لم يدعه القاضي الأول بالتجريح ما كان للذي خلف مكانه أن يمكنه من ذلك ولا يتعقب النظر في قضاء قاض عدل قد أنفذه قبله، قلت: أرأيت إن ادعى عند القاضي الذي ولي بعد الأول الجهالة بحال الشهداء مثل الذي ادعى عند الأول حين رأيت أن ينظر له الأول بعده، فادعى مثل ذلك عند القاضي الثاني أترى أن ينظر له ولم يدع ذلك عند الأول؟.
قال الإمام القاضي: قوله: إن القاضي يمكن المقضى عليه بعد التسجيل عليه بالقضاء من التجريح إذا كان لما ادعاه وجه هو مثل ما في الأقضية من المدونة، وسكت عن الجواب إذا قام بذلك عند من ولي بعده دون أن يدعي ما قام به عند الأول، وفي ذلك اختلاف، قيل: إنه يمكنه مما دعا إليه كما كان يمكنه الأول منه، وكذلك وقع في بعض الروايات، يفعل في هذا مثل ما كان يفعل في الأول، وقال ابن المواز وغيره ليس ذلك له؛ لأنه حكم قد وقع، وقد قيل: إن الأول لا يمكنه من ذلك بعد أن ابتدأ الحكم عليه بالقضاء، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يمكنه من ذلك هو ومن بعده.
والثاني: أنه لا يمكنه من ذلك لا هو ولا من بعده.
والثالث: أنه يمكنه من ذلك هو ولا يمكنه منه من بعده، وهذا في المطلوب، وأما الطالب ففيه قول رابع سوى هذه الثلاثة الأقوال، وهو قول(10/85)
ابن الماجشون؛ لأنه فرق بين أن يعجز في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجز بعد أن وجب على المطلوب عمل ثم رجع على الطالب، وقد مضى هذا في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب النكاح، وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا عجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه السلطان بعد التلوم والإعذار وهو يدعي أن له حجة فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم عليه، فلا يسمع منه بعد نفوذه عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة شاهدين من المسلوبين على الذين سلبوهم]
مسألة وسئل: عن الرجلين يعرض لهما اللصوص فيسلبونهما فيشهدان أن هؤلاء اللصوص سلبونا هذا المتاع وهذه الدواب لمتاع أو دواب قائمة في أيدي اللصوص بعينها، فقال: يقام عليهم بشهادتهما حد المحاربين ولا يستحقان ذلك المتاع والدواب إلا بشهيدين سواهما أو بشاهد يحلفان معه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة اختلف في تأويلها، فقيل فيها: إنها مخالفة لما في المدونة إذ لم يقل فيها: إنه يحلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه ويستحق متاعه ودوابه على قياس قوله في كتاب السرقة منها إنه يقام على المحاربين الحد بشهادة الذين شهدوا عليهم أنهم قطعوا عليهم الطريق وأخذوا أموالهم ويعطوا المال بشهادة بعضهم لبعض ولا يقبل شهادة أحد منهم في مال نفسه أنه أخذ منه، وقيل: إنها ليست مخالفة لها والمعنى فيها أنهما شريكان في المتاع والدواب، فلذلك لم تجز شهادة واحد منهما لصاحبه، إذ لا يختص بشيء من المتاع والدواب دونه، وقيل: إنهما يستحقان الدواب والمتاع بشهادتهما، وإن كانا شريكين فيهما، وهو الذي يأتي على ما حكى ابن حبيب عن مطرف وروايته عن مالك في أن شهادة شاهدين من المسلوبين على الذين سلبوهم جائزة في الحد وفي المال لأنفسهما ولأصحابهما؛ لأن شهادتهما إذا جازت في الحد جازت في المال(10/86)
لأنفسهما ولغيرهما، إذ لا يصح أن يجاز بعض الشهادة ويرد بعضها، وقد قيل: إن شهادتهما لا تجوز في الحد ولا في المال لغيرهما إذا لم تجز لأنفسهما؛ لأن من اتهم في بعض شهادته بطلت [شهادته] كلها، وهو قول أصبغ، فيتحصل في شهادة المسلوبين على السالبين بالسلب والمال أربعة أقوال؛ أحدها: أن شهادتهم عليهم جائزة بالسلب والمال لأنفسهم ولمن سواهم فيقام الحد على السالبين بشهادتهم ويقضى بما شهدوا به من المال لهم ولمن سواهم، وهو قول مطرف وروايته عن مالك.
والثاني: أن شهادتهم لا تجوز لا في الحد ولا في المال لا لأنفسهم ولا لمن سواهم، وهو قول أصبغ.
والثالث: أن شهادتهم تجوز في الحد وفي المال لغيرهم ولا تجوز لأنفسهم، فإن كان الشهود أربعة قضي للاثنين منهم بشهادة الاثنين وللاثنين بشهادة الاثنين، وإن كانوا اثنين قضي لكل واحد منهما بشهادة صاحبه مع يمينه، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.
والرابع: أنه لا يجوز في ذلك أقل من أربعة شهداء، وإنما تجوز شهادتهم في الحد وفي أموال الرفقة ولا تجوز في أموال الشهداء، وهذا كله إنما هو إذا شهدوا فقالوا: سلبونا فأخذوا منا هذا المال وهذا المتاع والجارية لفلان والدابة لفلان والثوب لفلان وكذا لفلان وكذا لفلان وكان الذي شهد به الشهود من ذلك لأنفسهم كثيرا، وأما إن كان الذي شهدوا به لأنفسهم من ذلك يسيرا لا يتهمون عليه فشهادتهم جائزة في الجميع لهم ولغيرهم، ولا يدخل في هذا الاختلاف الذي في الوصية لموضع الضرورة في ذلك ولموضع الضرورة فيه وقع الاختلاف المذكور إذا كان الذي يشهد به الشاهد لنفسه كثيرا، فمن لم يراع الضرورة وأعمل التهمة أبطل الشهادة في الجميع، ومن راعى الضرورة وأسقط التهمة أعمل الشهادة في الجميع، وعلى هذا يأتي ما في المدونة؛ لأنه لم يبطل شهادة الشاهد لنفسه من جهة التهمة، وإنما أبطلها من أجل أنه لا تجوز في السنة شهادة أحد لنفسه، والشهادة إذا بطل بعضها للسنة لم يبطل جميعها على المشهور في(10/87)
المذهب، ولو شهد على السالبين بالسلب دون المال لم يختلف في إجازة شهادتهم عليهم في الحد ولا في شهادة بعضهم لبعض بعد ذلك فيما وجد بأيديهم من المال، وسيأتي من هذا المعنى في نوازل سحنون ونوازل أصبغ، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهود الأربعة إذا اختلفوا في الطلاق]
مسألة قال: وسمعت مالكا قال في أربعة نفر كانوا في مجلس واحد فأتوا السلطان فشهد رجلان منهم أن رجلا كان معهم جالسا حلف بطلاق امرأته البتة أو اثنتين، وقال الآخران: نشهد أنه ما طلق إلا واحدة، وكلهم يزعم أن طلاقه الذي سمعوا منه إنما كان في كلام واحد، فقال: تطلق عليه بشهادة اللذين أثبتا الأكثر من الطلاق، وكذلك لو قال اثنان: نشهد أنه أعتق غلاميه زيدا وميمونا، وقال الآخران: نشهد لما تقول ولا تكلم بغير عتاقة زيد وحده إنه يعتق عليه زيد وميمون بشهادة اللذين أثبتا ذلك عليه، قال: وإنما مثل ذلك عندنا كمثل رجل ادعى أنه أسلف رجلا عشرين دينارا فجاء بأربعة شهداء عدول مرضيين أشهدهم عليه في مجلس واحد حين دفع السلف إليه فشهد اثنان بالله لأسلفه عشرين دينارا بحضرتنا جميعا، وقال الآخران: نشهد بالله لما أسلفه يومئذ بحضرتنا حتى افترقنا إلا عشرة دنانير، فوجه الجواب الذي مضى به الأمر في هذا أن يؤخذ بالعشرين الدينار؛ لأن اللذين شهدا له بها أثبتا وحفظا ما أغفله الآخران أو نسياه، فالشاهدان بالأكثر أحق بالتصديق؛ لأن البينة على المدعي فيما جاء به من شاهد على تصديق دعواه حكم له بشهادته إذا كان عدلا، قال ابن القاسم:(10/88)
ولكن لو أن أربعة نفر شهد منهم رجلان على رجل أنه طلق امرأته وشهد الآخران أنه لم يتفوه في مجلسه ذلك بشيء من الطلاق ولكنه حلف بعتق غلام له سمياه لم أر لهم شهادة أجمعين لا في طلاق ولا في عتاق؛ لأن بعضهم أكذب بعضا، وهو الذي سمعناه، قال: وإن اختلفوا فقال بعضهم: نشهد أنه طلق امرأته فلانة أو أعتق غلامه فلانا، وقال الآخران: نشهد أنه ما ذكر امرأته فلانة حتى تفرقنا، وما حلف بطلاقها، ولكنه حلف بطلاق امرأته فلانة يريدون امرأة أخرى، وقالوا: نشهد ما أعتق الذي شهدتم له بالعتاقة، دلكنه أعتق فلانا آخر فإن الشهادة تبطل وتسقط من قول الأولين والآخرين في العتاق والطلاق على هذا النحو؛ لأن بعضهم أكذب بعضا.
قال محمد بن رشد: قوله: في الشهود الأربعة إذا اختلفوا في الطلاق فشهد الاثنان منهم أنه حلف بطلاق امرأته البتة أو اثنتين، وقال الآخران: لم يطلق إلا واحدة أنه يؤخذ بشهادة اللذين أثبتا الأكثر من الطلاق يدل على أن البتة عنده تتبعض، وهو قول أشهب وسحنون، وعليه يأتي ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة من تلفيق شهادة الشهود إذا شهد أحدهم بالثلاث والآخر بالبتة خلاف قول أصبغ في نوازله من كتاب الأيمان بالطلاق وما حكى ابن حبيب عن ابن القاسم وما في كتاب ابن المواز وفي المبسوطة لمالك من أن البتة لا تتبعض، وقوله: إنه يؤخذ بشهادة اللذين أثبتا الأكثر من عدد الطلاق أو عدد المال هو المشهور من مذهب ابن القاسم، وقد رأى ذلك في أحد قوليه تكاذبا وتهاترا، والقولان قائمان من المدونة، وفي المسألة قول ثالث وهو الفرق بين أن تكون الزيادة بزيادة لفظ مثل أن يشهد الشاهدان أنه أقر له بعشرين، ويقول الآخران: بل أقر له بأحد وعشرين، أو بغير زيادة لفظ مثل أن يقول الشاهدان: أقر له بتسعة عشر، وقال الآخران: بل أقر له بعشرين، وهي تفرقة لها وجه من النظر.
وفي قوله: شهد اثنان بالله لأسلفه، وقال الآخران: نشهد بالله لما أسلفه إجازة الشهادة(10/89)
مع اليمين خلاف ما في كتاب ابن شعبان من أنه لا تقبل شهادة من شهد وحلف، والصواب: أن لا تبطل بذلك شهادته إلا أن يتبين من يمينه أن له شهودا قبل المشهود عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى قد أمر نبيه باليمين فيما أمره به من الشهادة في غير ما آية من كتابه فقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] وأما إذا شهدت إحدى البينتين بخلاف ما شهدت به البينة الأخرى مثل أن تشهد إحداهما بعتق، والثانية بطلاق، أو إحداهما بطلاق امرأة، والثانية بطلاق امرأة أخرى، أو إحداهما بعتق عبد والثانية بعتق عبد آخر، أو إحداهما بعرض والثانية بعتق وما أشبه ذلك فهذا لم يختلف فيه قول ابن القاسم ولا قول مالك في رواية المصريين عنه في أن ذلك تكاذب وتهاتر يحكم به بأعدل البينتين، فإن تكافأتا في العدالة سقطتا جميعا.
وروى المدنيون عن مالك أنه يقضي بالبينتين جميعا استوتا في العدالة أو كانت إحداهما أعدل من الأخرى، وقد مضى هذا المعنى في نوازل أصبغ من كتاب التخيير والتمليك، وسيأتي في نوازل سحنون من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون بينهما الجارية فيشهد أحدهما أن شريكه وطئها فأحبلها]
مسألة وسئل: عن الرجلين تكون بينهما الجارية فيشهد أحدهما أن شريكه وطئها فأحبلها، قال ابن القاسم: إن كان المشهود عليه مليا فلا سبيل للشاهد إليها؛ لأنه إنما جحده ما كان يحكم عليه به من نصف قيمتها، وإن كان معدما كان له نصف رقبتها ولم يكن له إلى ولدها سبيل، واتبعه بنصف قيمة الولد إن أقر به يوما ما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة إن المشهود عليه إن كان مليا فلا سبيل للشاهد إليها؛ لأنه إنما جحده ما كان يحكم له به(10/90)
عليه من نصف قيمتها صحيح لا يدخل فيه اختلاف قول ابن القاسم في هل يعتق نصيبه عليه إذا شهد على شريكه أنه أعتق نصيبه وهو موسر أم لا يعتق عليه ويبقى بيده ملكا له حسبما مضى القول فيه في رسم العتق من سماع عيسى، وسيأتي في رسم المكاتب من هذا السماع، إلا أنه لم يبين ماذا يكون الحكم في نصيبه إذا لم يكن له إليه سبيل، والحكم في ذلك أن يكون موقوفا؛ لأنه مقر لشريكه وشريكه ينكر ذلك، ويقول: بل هو لك ملكا، فإن أقر الشريك بأنه أحبلها كانت أم ولد له وغرم له نصف قيمتها، وإن لم يقر حتى يموت عتق حينئذ النصف الموقوف، وإنما لم يعتق في حياة المشهود عليه من أجل أنه إن أقر كانت له أم ولد وغرم القيمة للشاهد فكيف يعتق أم ولد رجل لكن يوقف ذلك النصف ويبقى نصفها الثاني بيد المشهود عليه رقيقا يبيعه إن شاء ويفعل به ما شاء مما يفعله ذو الملك في ملكه هو وورثته بعده.
وأما قوله: إن كان معدما كان له نصف رقبتها واتبعه بنصف قيمة الولد إن أقر به يوما ما فهو على القول بأن الأمة بين الشريكين إذا وطئها أحدهما فأحبلها ولا مال له يباع نصفها للذي لم يطأ في نصف القمة، فإن كان فيه نقصان عن نصف قيمتها يوم حملت اتبعه بما نقص من نصف القيمة واتبعه أيضا بنصف قيمة الولد، وأما على القول: بأنه يتبعه بنصف قيمتها يوم حملت ولا يكون له عليه شيء من قيمة الولد فالجواب في ذلك على ما تقدم إذا كان مليا سواء، وهذان القولان في الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما فتحمل ولا مال له لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر كتاب أمهات الأولاد من المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي القوم بذكر حق كتبه على نفسه لرجل غائب فيشهدهم على نفسه بما فيه]
مسألة وقال في رجل يأتي القوم بذكر حق كتبه على نفسه لرجل غائب فيشهدهم على نفسه بما فيه، قال: لا أرى للقوم أن يكتبوا شهادتهم في الذكر الحق يكون على هذا الوجه في غيبة من كتب لأني أخاف أن يريد هذا الكتاب الذي كتبه على نفسه للغائب أن(10/91)
يستوجب مخالطته لتجب عليه اليمين إن ادعى بشيء عليه يريد أن يعنته بتلك اليمين فعسى أن يفتدي منه بأضعاف ما أقر له به على نفسه مما لم يحضره ولم يقبل إقراره له فيه، ولكن ليكتب القوم القصة على حالها يذكرون إقراره لهذا الغائب بما أقر له به ويذكرون مغيب الآخر عنه، فإن جاء الغائب فصدقه وأراد قبض ما أقر له به لزم المقر إقراره ولزمت الغائب بذلك مخالطته واستوجب به إن ادعى قبله شيئا استحلافه، وإن أنكر ما كان من إقراره له وترك اقتضاءه ذلك لم يلزمه بالذي صنع المقر خلطة يستوجب بها إحلافه إن ادعى شيئا قبله، وهي في سماع ابن القاسم في كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن المعاملة الواحدة خلطة توجب اليمين خلاف رواية أصبغ عن ابن القاسم في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وقد قيل: إن رواية يحيى هذه تفسير رواية أصبغ فيكون المعنى فيها أنها قد تضاف هذه المعاملة إلى معاملة قبلها فتصير بذلك خلطة، ولا أقول إنها مخالفة لها ولا إن رواية أصبغ مفسرة لها، وإنما أقول إنها مسألة أخرى؛ لأنه تكلم في رواية أصبغ على أنهما تقابضا وتناجزا، وتكلم في هذه الرواية على المبايعة بالدين، فالمبايعة الواحدة لا توجب الخلطة إذا كانت بالنقد والتناجز على رواية أصبغ يوجبها إذا كانت بالدين على هذه الرواية، وإنما الخلاف عندي إذا كانت المبايعة الواحدة بالنقد فلم يقع النقد ولا حصل التناجز، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في سماع أصبغ المذكور من كتاب الأقضية، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بثلث ماله لرجل ولم يشهد إلا شاهد واحد]
مسألة وقال في الرجل يوصي بثلث ماله لرجل: إنه إن لم يقم(10/92)
بذلك إلا شاهدا واحدا حلف الموصى له مع شاهده واستحق الوصية، قال: وإن أوصى به في سبيل الله أو المساكين أو القبيلة من القبائل أو ما أشبه ذلك من الأمر المفترق والذي لا يحاط بعدة أهله ولا يشهد على الوصية إلا شاهد واحد إنه ليس لأحد من الغزاة أن يحلف مع الشاهد ويستحق بذلك ما أوصى به الرجل في سبيل الله، وليس لأحد من المساكين أن يحلف عن جميع المساكين ولا عن نفسه يريد أن يستحق الوصية بيمينه مع الشاهد؛ لأنه لا يدري ما يصير له من ذلك لو ثبت، وكذلك ما أوصى به لقبيلة أو لكل ما لا يحصى عددهم ولا يحاط بعلمهم..
قال الإمام القاضي: أما الموصى له الواحد فلا اختلاف أنه يحلف مع الشاهد ويستحق وصيته، وكذلك الجماعة المعينون المسمون يحلف كل واحد منهم ويستحق حقه من الوصية، وإن مات واحد منهم حلف كل واحد من ورثته واستحق ما يجب له من الوصية، وأما إذا أوصى للمساكين أو في السبيل أو لبني زهرة أو لبني تميم أو لقريش أو للأنصار أو ما أشبه ذلك مما لا يحصى ولا يعرف، وإنما الواجب أن تكون الوصية لمن حضر منهم على الاجتهاد، فلا اختلاف في أنه لا يمين في ذلك مع الشاهد، ويختلف إذا أوصى لمن يحصرهم العدد كإلى فلان ومساكين إلى فلان وما أشبه ذلك، فقيل: إنه يحلف جلهم ويستحقون الوصية لأنفسهم ولمن غاب منهم، وقيل: إنه لا يمين في ذلك مع الشاهد، والقولان قائمان من كتاب الوصايا الثاني من المدونة في الذي يوصي لأخواله وأولادهم، وكذلك يختلف في الحبس المعقب، ففي كتاب ابن المواز أن اليمين لا تصلح فيه مع الشاهد، وقال عبد الملك عن مالك إذا حلف الجل منهم نفذت الوصية عليهم وعلى غائبهم إن قدم ومولودهم إذا ولد وفي السبيل بعدهم، وروى عنه ابن حبيب قال: يحلف من أهل الصدقة رجل واحد مع(10/93)
الشاهد وتنفذ له ولأهلها ولمن يأتي.
قال عن مالك أيضا: وإن باد شهودها ولم يثبت إلا بالسماع حلف أيضا واحد من أهلها مع الذين شهدوا بالسماع بأنهم لم يزالوا يسمعون من العدول أنها حبس على بني فلان ثم تستحق حبسا، وبالله التوفيق.
[: الصبي يقوم له شاهد أن أباه كان تصدق عليه بغلام ويشهد آخر أن أباه كان نحله إياه]
ومن كتاب كراء الدور والمزارع قال يحيى: قال ابن القاسم في الصبي يقوم له شاهد أن أباه كان تصدق عليه بغلام ويشهد آخر أن أباه كان نحله إياه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت ههنا ساقطة الجواب، ووقعت في سماع سحنون ومحمد بن خالد كاملة الجواب، وقد مضى القول عليها مستوفى في رسم العرية من سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدان على حكم قاض فيقول أحدهما بشهادتي حكم القاضي مع غيري]
مسألة وفي الشهيدين يشهدان للرجل أن قاضيا من القضاة مات أو عزل وقضى له بكذا وكذا، وأن ذلك القاضي إنما قضى بذلك الحق بشهادتهما فيه، قال: أرى شهادتهما جائزة، وما أرى أمرا أتهمهما فيه، قيل له: أما ترى أنهما قد شهدا لأنفسهما بأن القاضي الأول قد قبل شهادتهما وقطع الحق بهما فيتهمان من أجل ذلك؟ فقال: ما أرى هذه تهمة أرد بها شهادتهما، وما أراهما جرا إلى أنفسهما شيئا يتهمان فيه، وسئل عنها سحنون فقال: سمعت ابن القاسم يقول في الرجلين يشهدان على حكم قاض فيقول أحدهما بشهادتي حكم القاضي مع غيري فلا تجوز شهادتهما على الحكم؛ لأنه يريد إمضاء شهادته، قال ابن القاسم: ولو كان اللذان شهدا على الحكم قالا بشهادتهما حكم القاضي عليه وأشهدنا على(10/94)
حكمه رأيتها جائزة؛ لأنه كان يحكم بشهادتهما لو لم يشهدا على الحكم، فمن ثم رأيتها جائزة.
قال القاضي: ظاهر رواية سحنون أن شهادتهما لا تجوز على الحكم وتجوز على أصل الشهادة فيحكم القاضي الذي شهدا عنده بشهادتهما، وهو قول مطرف في الواضحة، وقال ابن الماجشون وابن نافع وأصبغ لا تجوز في ذلك شهادتهما على حال لا على أصل الشهادة ولا على [أصل] الحكم بها؛ لأنها إذا سقطت في الحكم بما اتهما فيه سقطت كلها، واختار ذلك ابن حبيب، وظاهر رواية يحيى أن الشهادة على الحكم جائزة، بل هو نص جلي، فهي ثلاثة أقوال في المسألة أظهرها كلها رواية يحيى لبعد التهمة فيها؛ لأن قولهما إن ذلك القاضي إنما قضى بذلك الحق بشهادتهما فيه زيادة لو سكتا عنها لم تفتقر إليها الشهادة فوجب ألا تؤثر في إبطال الشهادة، ولبعد التهمة فيها قصرها في رواية سحنون على موضعها خاصة ولم يعدها إلى أصل الشهادة كما لا تعد إلى غيرها، ووجه القول الثالث: أن أصل الشهادة وفرعها كشيء واحد، فإذا بطلت في البعض بطلت في الكل، وبالله التوفيق.
[: ثلاثة نفر شهدوا على رجل أنهم رأوه يزني فجلدوا الحد فجاء من الغد رابع]
ومن كتاب المكاتب قال يحيى: وسألته عن ثلاثة نفر شهدوا على رجل أنهم رأوه يزني فجلدوا الحد فجاء من الغد رابع عدل زعم أنه كان معهم إذ رأوه يزني، أترى أن تقبل شهادتهم بعد الضرب ويكونون عدولا على حالهم قبل أن يضربوا؟ فقال: نعم، تقبل شهادتهم وتشهر عدالتهم ويعلم الناس أن قد سقط التجريح عنهم وتمت شهادتهم بالرابع.
قال الإمام القاضي: هذا خلاف ما مضى من قوله في أول رسم من(10/95)
سماع عيسى، فليس هذا وجه الشهادة إلا أن يأتوا جميعا، فالذي يأتي على ما في سماع يحيى أن يحد الرابع إلا أن يأتوا جميعا، وهو قول محمد بن المواز، ولو جاء الشاهد الرابع على رواية يحيى هذه قبل أن يحد الثلاثة سقط الحد عنهم وحد المشهود عليه بالزنى، وقد نص على ذلك ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقد مضى بقية القول في هذه المسألة في سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه وينكران ذلك]
مسألة وسألته: عن الشريكين في العبد يشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه وينكران ذلك، فقال: إن كان لا مال لهما غيره فلا شيء على واحد منهما، وإن كانا موسرين فلا ينبغي لواحد منهما أن يسترقه، وذلك أن كل واحد منهما مقر أنه حر يعتق على صاحبه يغرم نصف قيمته، فإنما كل واحد منهما متبع لصاحبه بالقيمة التي لو أقر بالذي شهد به عليه غرمها له وكان العبد حرا كله، قال: وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا فلا شيء على الموسر، وأما المعسر فلا ينبغي أن يسترق منه شيئا؛ لأنه قد شهد أنه حر على صاحبه، قلت: أرأيت إن ملكه أحدهما يوما ما ملكا تاما؟ قال: أراه عتيقا كله وولاؤه لشريكه الذي كان شهد هو عليه إلا أن يملكه الموسر الذي شهد على المعسر فلا يعتق منه إلا النصف الذي كان تملكه المعسر، وذلك أنه لو أقر بالذي شهد عليه لم يعتق عليه منه إلا نصفه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهما إن كانا موسرين لم يسترق واحد منهما نصيبه، وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا استرق الموسر نصيبه ولم يسترق المعسر نصيبه هو [مثل] أحد قولي ابن القاسم في كتاب(10/96)
العتق الثاني من المدونة، وقد مضى القول على هذا المعنى مبينا مشروحا في رسم العتق من سماع عيسى، وقوله: أرأيت إن ملكه أحدهما يوما ما ملكا تاما [معناه أرأيت إن ملك الشاهد منهما نصيب المشهود عليه قبل أن يعتق عليه نصيبه إن كان المشهود عليه موسرا فكمل جميعه له] قال: أراه عتيقا كله وولاؤه لشريكه الذي كان شهد هو عليه، معناه أنه يعتق كله عليه، نصف القديم بالشهادة على شريكه أنه أعتق نصيبه وهو موسر لما يوجب ذلك من تقديمه عليه وعتقه فكان إنما جحده القيمة، والنصف الذي اشتراه من شريكه بإقراره أنه حر يعتق شريكه إياه وولاؤه كله للشريك المشهود عليه؛ لأنه مقر أنه حر من عتاقته، وأما إن كان المشهود عليه معسرا فاشترى الشاهد نصيبه فلا يعتق عليه إلا النصف الذي اشتراه من شريكه المعسر كما قال لأن نصيبه الذي كان له أولا لا شيء عليه فيه بشهادته على معسر، وبالله التوفيق.
[: شهادة السائل المتكفف]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن الرجل الحسن الوجه الظاهر الصلاح يسأل الصدقة مما يتصدق به على أهل الحاجات، أو يأتي الرجل الشريف فيسأله أن يتصدق عليه، أتجوز شهادته وهو لا يتكفف الناس إذا كان عدلا، وهو معروف بالمسألة غير أنه لا يتكفف العامة، قال: إذا كان معروفا بالمسألة فهو غير جائز الشهادة، وإن لم يتكفف وإن كان عدلا، وسألته بعد يوم أجاب في ذلك فكان فيما كتب إليه أن سأله عن الرجل الذي لا بأس به وهو ممن يتصدق عليه ويطلب الأخذ من الصدقة إذا خرجت من عند إمام أو فرقت وصية الرجل أو ما أشبهه، يطلب الأخذ من مثل(10/97)
هذا الوجه بكل ما يقدر عليه وليس يتكفف الناس، فقال: ما أرى مثل هذا إلا متعففا عن المسألة غير متكفف الناس ولا يسأل في عامتهم، فلا أرى أن ترد شهادة مثل هذا إذا كان عدلا وإنما ترد شهادة السائل المتكفف، فأما المعترض لإخوانه المتعفف والآخذ من مثل ما وصفت فلا أرى أن ترد شهادته بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما اختلف جواب ابن وهب في هاتين المسألتين لاختلاف السؤال فيهما، وذلك أنه سأله في السؤال الأول عن الذي يسأل سؤالا مصرحا دون تعريض حتى يعرف بالسؤال فرأى ألا تجوز شهادته، ومعنى ذلك إذا سأل لغير سبب يعرف فقال في المجموعة: وأما من نزلت به مصيبة ألجأته فيسأل بعض إخوانه وليس بالمشهور بالمسألة فلا ترد شهادته، وقال ابن كنانة في المجموعة وكتاب ابن سحنون وكذلك إن رزىء برزية مثل دية وقعت عليه وشبهه من العذر لم ترد شهادته بذلك إذا كان عدلا.
وسأله في السؤال الثاني عن الذي يأخذ من الصدقات ويطلب الأخذ منها بكل ما يقدر عليه من التلطف والتعرض مع التستر عن السؤال المصرح المكشوف فرأى أن تجوز شهادته، وهذا بين من ألفاظ المسألتين إذا اعترت، وقد ذهب بعض الشيوخ إلى أن ذلك اضطراب من قول ابن وهب في هذه المسألة فقال: اضطرب ابن وهب في هذه المسألة، وجواب الآخر أشكل بالأولى وجواب الأولى أشكل بالأخر فإن كان ثقل عليه سؤال الرجل الأول من الرجل الشريف أو ما يتصدق به على أهل الحاجة فكان ينبغي أن يثقل عليه أكثر طلب الثاني من وصية أو إمام كما ذكر أو ما أشبه ذلك بكل ما يقدر عليه، وكلاهما سائل لا محالة،(10/98)
والأول أعذر عندي وأخف؛ لأنه ليس في قوله بكل ما يقدر عليه، قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا} [البقرة: 273] إلى قوله: {إِلْحَافًا} [البقرة: 273] فدل على أنهم يسألون بغير إلحاف، والعائد على نفسه وعلى عياله بالحلال هو في سبيل الله، وهذه صفة عنهم، والله أعلم، مع أنه قد توجهت المدحة من الله عز وجل لهم، والذي أرى أن لا ترد شهادتهما إذا كانا عدلين، وفي هذا كفاية إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا نص قول محمد بن حارث في هذه المسألة، وإلى قوله كان يذهب من أدركنا من الشيوخ في تأويل [قول] ابن وهب فيقولون: المسألة العامة تبطل شهادة الشاهد باتفاق، والمسألة الخاصة تبطلها على أحد قولي ابن وهب، ولا يميزون بين التصريح بالسؤال وبين التعريض به والتلطف فيه مع التستر به، وما ذهبنا إليه في تأويل المسألة من أن من عرف بالتصريح بالسؤال في خاص أو عام ردت شهادته إلا أن يكون لذلك سبب يعذر به، ومن لم يصرح بالسؤال جازت شهادته، وإن أخذ الصدقات بكل ما يقدر عليه من التعريض والإلطاف مع التستر عن السؤال أولى، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة لمتعرض للولاة الطالب لجوائزهم]
مسألة وسألته: عن المتعرض للولاة الطالب لجوائزهم على حال ما يلتمس قبلهم من الصلات والأعطية إذا كان عدلا أترى أن ترد شهادته بما تعرض مما في أيديهم؟ فقال: إن طالب ما في أيدي الولاة المتعرض لهم المعروف به لغير عدل عندي؛ لأن حالات(10/99)
الولاة في زمانك ما تعلم، [فإذا كان بالطلب منهم والتعرض لهم معروفا فما أرى إلا أن ترد شهادته.
قال محمد بن رشد: أحاله من أمر الولاة على ما يعلم بقوله: لأن حالات الولاة في زمانك ما تعلم] ولم يبين ما ذلك الذي يعلم، والذي أراد، والله أعلم، قبح أحوالهم وسوء طريقتهم فيما يحمون، وتعديهم في كثير مما يأخذون مع تفويض الأمر إليهم في قسمة المال وإعطاء الجائزة منه لمن يستحقها، ولذلك شرط في رد شهادة من قبل جوائزهم أن يكون معروفا بالطلب لهم يريد مكثرا للأخذ منهم، ولو كانوا على غير هذا من التحجير عليهم في إعطاء المال باجتهادهم لسقطت شهادة من قبل جوائزهم وإن لم يتكرر ذلك من فعلهم إلا أن يعذروا في ذلك بجهلهم، وما يأتي لسحنون في آخر سماعه بعد هذا يبين هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: لشاهد يشهد عند القاضي فيسأله المشهود له أن يكتب إلى قاضي الكورة]
مسألة وسألته عن الشاهد يشهد عند القاضي فيسأله المشهود له أن يكتب إلى قاضي الكورة التي يعرف بها الشاهد أن يعدل عنده ثم يكتب إليه بما ثبت من أمره أيلزم القاضي أن يفعل ذلك به؟ فقال: لا يلزم القاضي الذي شهد عنده الرجل أن يكتب إلى غيره من القضاة في تعديل الشاهد، وليس مثل هذا عليه، وعلى من شهد له شاهد بموضع من المواضع وعند قاض من القضاة أن بعدل شاهده حيث شهد وعند من شهد، ولكن استحب في حال النظر من القاضي المتفقد الذي يريد أن ينتهي إلى استبراء(10/100)
ما استراب أن يتخذ في نواحي الكور رجالا عدولا مرضيين ممن يثق بحسن نظرهم ويأمن غفلتهم فيكتب إليهم يسألهم عن صلاح من شهد عنده من أهل نواحيهم، فإن جاءه بما يرضى من عدالة الشاهد أمضى بذلك شهادته، وإن لم يكن في كور الشاهد من يفزع إليه ويأمن ناحيته ويرضى صلاحه ممن يريد مساءلته عن الشاهد عنده فلا يكتبن إلا إلى أهل القناعة والرضى، وعلى المشهود له أن يعدل شاهده حيث شهد أو يدع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم الكبش قبل هذا فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعت ما لا يثبت إلا بشهادة شهيدين فإن جاءت بشاهد عدل]
مسألة وسألت ابن وهب: عن الجارية تدعي الحرية والمرأة الضعيفة تدعي حقا فتزعمان أن بينتهما ببلد من نواحي الكور تريد أن ترفع إلى موضع شهادتها؛ لأنها لا تقدر لضعفها على جلب البينة أفترفع أم لا يلزم ذلك خصمها؟ فقال: أما الأمة فإن جاءت بشاهد واحد عدل استوجبت به الرفع إلى موضع شاهدها الآخر ويتخذ عليها حميل ثقة بقيمتها إلى الأجل الذي يوقفها السلطان حين يرفعها، وإن لم تأت بشاهد عدل على ما ادعت من حريتها لم تستوجب ما أرادت من رفعها ولم تخرج من يد سيدها ولم يمنع من شيء مما أحله الله له منها إذا لم يكن إلا دعواها فقط، وأما المرأة التي تدعي حقا فإن كان ما تدعي مما يستحق باليمين مع(10/101)
الشاهد فإن جاءت بشاهد واحد حلفت مع شاهدها واستحقت حقها، مضت بذلك السنة، ولا رفع في مثل هذا؛ لأنها لا تستوجب الرفع إلا بعد شهادة شاهد، فإذا شهد لها شاهد استحقت حقها باليمين مع الشاهد واستغنت عن الرفع، وإن كانت ادعت ما لا يثبت إلا بشهادة شهيدين فإن جاءت بشاهد عدل استوجبت الرفع إلى موضع شاهدها، وإن لم تأت بشاهد عدل لم ترفع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى بيانها وتحصيل القول فيها في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب الأقضية، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون في يده المنزل فيدعيه رجل]
مسألة وسألته: عن الرجل يكون في يده المنزل فيدعيه رجل ويزعم أنه غصبه إياه وغلبه عليه، فيسأله السلطان البينة على ما ادعى فيأتي بشهداء عدول على ما ادعى من الغصب، فيدعي الذي هو في يده أنه اشتراه من الذي قامت له البينة على الغصب اشتراء صحيحا، فيسأله السلطان البينة على ما ادعى من اشترائه فيأتيه على ذلك ببينة عدول لعلهم أعدل من الذين شهدوا على الغصب، قال: قلت: أيهما أحق بالمنزل؟ قال: أرى أن من حاز منزلا وصار معروفا في يده وقامت له بينة على اشترائه من مدعيه قبله بالغصب الذي ذكرت أحق به وأولى بالقضاء له فيه من المدعي له قبله ليس في يديه شيء، وإن جاء بالبينة على الغصب لحيازته إياه وعدالة شهدائه على اشترائه منه.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الغصب فقال فيها: إن بينة الشراء أحق وأولى وإن(10/102)
علم أن الغصب كان قبل الشراء، وحكى ابن حبيب في الواضحة مثله عن مطرف وابن القاسم وأصبغ إلا أنه [زاد] من قولهم متصلا بآخر المسألة إلا أن يكون الشهود الذين شهدوا على الشراء إنما شهدوا أنه اشترى منه وهو مغصوب بحاله لم يرد إليه ولم يملكه فيكون شراء مفسوخا مردودا بالغصب الذي كان قبله، ويرد الثمن الذي أخذ فيه، وقال محمد فيها: وهذا إذا علم أنه اشتراه وهو في ملك المستحق، وروى زياد عن مالك: أن من غصب منزلا أو شيئا من الأشياء فلا يجوز له أن يشتريه حتى يرده في يد أهله ويخرج منه، وقاله المدنيون، وتحصيل القول في هذه المسألة عندي أن شراء الغاصب الشيء المغصوب وهو في يده لا يخلو من ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يشتريه وهو على حاله من الامتناع به عن صاحبه يعلم أنه لا يرده إليه إن لم يبعه منه، فهذا لا اختلاف في أنه بيع فاسد.
والثاني: أن يشتريه وهو قد طاع برده إلى صاحبه يعلم أنه إن لم يبعه منه صرفه عليه، فهذا لا اختلاف في أنه بيع صحيح.
والثالث: أن لا يتحقق هل صحت عزمة الغاصب على رد الشيء المغصوب على ربه قبل الشراء أم لا؟ فهذا هو موضع الخلاف في المسألة، يحكم بفساد البيع فيه على رواية زياد عن مالك، وبذلك حكم ابن بشير في أرحا الخزان التي عند قرطبة، ولم يبح للسلطان شراءها حتى صحت لصاحبها ستة أشهر، فحكم فيه بجوازه على ظاهر هذه الرواية ورواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الغصب وظاهر ما في كتاب الصرف والغصب من المدونة وعلى ظاهر ما حكاه ابن حبيب أيضا عن مطرف وابن القاسم وأصبغ من أن البيع جائز وإن كان في يد الغاصب إلا أن يكون الشهود شهدوا أن الشراء وقع والغصب قائم بحاله، وقول محمد وهو إذا اشتراه وهو في ملك المستحق محتمل للقولين، وقد قيل: إن قوله في هذه الرواية اشتراء صحيحا معناه بالشهادة على أن البيع وقع بعد رجوعه إلى يد ربه، فهو مثل رواية زياد عن مالك، والتأويل الأول أظهر، وأما بيع الشيء المغصوب من غير الغاصب وهو في يد الغاصب فإن(10/103)
كان الغاصب ممن لا تأخذه الأحكام مقرا بالغصب أو منكرا له فالبيع فاسد، وإن كان مقرا بالغصب ممن تأخذه الأحكام فالبيع جائز، وإن كان منكرا للغصب ممن تأخذه الأحكام يخرج ذلك على اختلاف في جواز شراء ما فيه خصومة، والقولان قائمان من المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدون على شهادة رجل غائب فيقطع الحق بشهادتهم على شهادته]
مسألة وسألته: عن القوم يشهدون على شهادة رجل غائب فيقطع الحق بشهادتهم على شهادته ثم يقدم الشاهد الغائب فينكر أن يكون قبله من ذلك العام شيئا أو يكون أشهد أحدا على شهادته فيما شهدوا به على شهادته أيمضي القاضي القضاء بهذه الشهادة؟ قال: سمعت مالكا يقول: يفسخ القضاء الذي قضى به في مثل هذا الوجه، وقال: كيف يقطع حق شهادة على شهادة رجل وهو ينكرها وينكر أن يكون أشهدهم عليها؟ فلا أرى أن يجوز مثل هذا ولا يمضي به حكم، وقد قال ابن القاسم في سماع عيسى: إذا شهد رجلان على شهادة رجل فقطع بشهادتهما الحق مع شاهد أو يمين صاحب الحق إن كان شيئا يجوز فيه شاهد ويمين أو شاهدان ثم جاء الذي شهد على شهادته فأنكر أن يكون شهد بتلك الشهادة، قال: الحكم ماض ولا غرم عليهما ولا يقبل قول الشاهد إنهما شهدا عليه بباطل، قلت: فلو كان قدم قبل أن يحكم بشهادتهما فقال هذا القول فقال: لا شهادة لهما، ويستحلف، صاحب الحق مع شهادة الثاني.
قال الإمام القاضي: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في(10/104)
رسم يوصى لمكاتبه من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا نكاح إلا بولي وشهيدي عدل]
مسألة قال يحيى: سألت ابن وهب عن رجل كان مقرا في صحته بنكاح امرأة وتسأل المرأة أيضا عما يزعم الرجل من نكاحه إياها فتصدقه وتقر بمثل إقراره وليس على أصل تناكحهما بينة، فمات الرجل وهو مقيم على إقراره بنكاحها فطلبت ميراثها منه أيجب لها ميراث بهذا الإقرار؟ قال: لا ميراث بينهما إلا أن تقوم بينة على أصل النكاح أو يطول زمان ذلك جدا وهما مقران كما ذكرت ومناكحتهما فاشية بقول الجيران وظاهر الذكر فأرى الميراث بينهما بذلك الذكر الفاشي مع طول الزمان، وإلا فلا ميراث بينهما، قلت: أرأيت إن كانت المرأة تخبر في حياة الرجل وصحته بما يدعيه من نكاحها ويقر به من ذلك فتنكر قوله وتجحد دعواه، فلما مات أقرت وطلبت ميراثها؟ قال: لا شيء لها؛ لأنها إنما طلبت مالا تريد أخذه بدعواها بلا بينة تقوم على أصل نكاحها، وسألت عن ذلك ابن القاسم فقال لي مثل قول ابن وهب غير أنه لم يستثن مع إقرارهما طول الزمان وظهور ذكر ذلك في الجيران ولم يره نكاحا حتى يثبت أصله بالبينة لقول عمر بن الخطاب: "لا نكاح إلا بولي وشهيدي عدل " وسألت عن ذلك أشهب فقال لي مثل قول ابن القاسم غير أنه لم يذكر قول عمر ولم يحتج به.
قال محمد بن رشد: أما الولي فهو شرط في صحة العقد، وأما الإشهاد فليس بشرط في صحته ولكنه لا يتم عند المناكرة إلا به، فقول عمر بن الخطاب: " لا نكاح إلا بولي وشهيدي عدل " معناه لا نكاح يتم عند المناكرة إلا أن يكون بولي ويشهد عليه شاهدان، فإذا تقار الرجل والمرأة(10/105)
على النكاح ولم تقم على أصله بينة وهما غير طارئين فلا يخلو الأمر من وجهين؛ أحدهما: أن تكون المرأة في ملكه وتحت حجابه.
والثاني: أن تكون بائنة منه منقطعة عنه، فأما إذا كانت في ملكه وتحت حجابه فالميراث بينهما قائم والزوجية بينهما ثابتة إذا طال كونه معها واشتهر؛ لأنه إذا لم يطل ذلك ويشتهر فوجوده معها ريبة توجب عليهما الأدب والحد إن تقارا على الوطء ولم تكن لهما بينة على النكاح على اختلاف في وجوب الحد إذا لم يقرا بزنى، وإنما أقرا بما لو أقاما عليه البينة لم يكن عليهما شيء، ولا يؤخذ أحد بأكثر مما أقر به على نفسه، وهو أصل أشهب، وكذلك إن لم يعلم منها إقرار بما كان يقر هو به ويذكره من نكاحها بكون الميراث بينهما قائما والزوجية بينهما ثابتة؛ لأن كونها في ملكه وتحت حجابه كالإقرار منها بالنكاح أو أقوى، وأما إذا كانت بائنة منقطعة عنه فقال: إنه لا ميراث بينهما وإن طال ذلك وفشا ذكره في الجيران، و [هو] ظاهر قول ابن القاسم وأشهب في هذه الرواية، وهو بعيد؛ لأن النكاح مما تصح فيه الشهادة على السماع إذا طال الأمر ومضى من الزمان ما يبيد فيه الشهود على اختلاف بينهم في حد ذلك، وقيل: إنهما يتوارثان إذا طال ذلك وفشا ذكره في الجيران فشهدوا فيه على السماع، وهو قول ابن وهب في هذه الرواية أن الميراث بينهما بالذكر الفاشي مع طول الزمان يريد الطول الذي يبيد فيه الشهود، وأما إن لم يمض من المدة ما يبيد فيه الشهود وتجوز فيه شهادة السماع فلا اختلاف في أن الميراث لا يكون بينهما إلا أن تقوم بينة على أصل النكاح، ولو اشتهر الأمر اشتهارا يخرج عن حد الشهادة على السماع إلى حد التواتر الذي يوجب العلم لجاز للشاهد أن يشهد بذلك على انقطاع قولا واحدا، وإن لم يطل الأمر، فالاختلاف إنما هو إذا طال الأمر وشهد الشهود العدول فيه على السماع لا على القطع من ناحية(10/106)
السماع، ويحتمل أن يكون ابن وهب تكلم على أن الأمر اشتهر واستذاع حتى يشهد فيه الشهود على القطع، وأن ابن القاسم وأشهب إنما تكلما إذا شهد الشهود على السماع لا على القطع فلا يكون بينهما اختلاف، ويحتمل أن يكون الخلاف بينهما إنما يرجع إلى حد الطول الذي يجوز فيه شهادة السماع لا إلى نفس إجازة شهادة السماع في ذلك.
وقوله في الرواية: إن المرأة إذا كانت في حياته تنكر قوله وتجحد دعواه فلما مات أرادت أن ترثه بإقراره لها بالنكاح إن ذلك لا يكون لها، يريد وإن طال ذلك وفشا في الجيران فشهد به على السماع، صحيح بين لا إشكال فيه ولا كلام لأنها قد كذبت البينة وأقرت على نفسها أنه لا ميراث لها فيه، وإنما الكلام إذا لم يعلم منها في حياته إقرار ولا إنكار، فلما مات ادعت صحة ما كان يقر به من نكاحها مع طول ذلك واشتهاره في الجيران والشهادة [به] على السماع، فالصحيح في النظر أنها ترثه بذلك إذا لم يعلم منها إنكار أو يرثها هو أيضا بذلك أعني بالشهادة على السماع مع الطول خلاف ظاهر ما في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب النكاح، وقد مضى هناك، وفي رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الأقضية طرف من القول على هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[: لم يكن له شاهد فقضي على المدعي عليه باليمين فنكل عنها]
ومن كتاب أوله: أول عبد ابتاعه فهو حر وسألته: عن الرجل يقيم الشاهد الواحد على حق له قبل رجل فقال له: احلف واستحقه، فيرد اليمين على المطلوب فيحلف ويبرأ، ثم يجد صاحب الحق شاهدا آخر أيلحقه بشهادة الأول ويستحق حقه أم لا يكون ذلك له؟ فقال: ليس ذلك له إذا عرض عليه استحقاق حقه بيمينه مع شاهده فلم يقبل بذلك قطع(10/107)
بحقه، وليس هو مثل الذي لا يجد بينة أو تغيب بينته فيقضي على خصمه باليمين ثم يجد البينة على حقه، أو يقدم شهداؤه الغيب فهذا الذي يستحق حقه لما يحدث له من إحضار بينته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها أربعة أقوال؛ أحدها: ظاهر قوله في هذه الرواية إن نكوله عن اليمين مع شاهده ويمين صاحبه قطع بحقه فلا يكون له شيء، وإن أتى بشاهدين سوى الأول، وهو قول ابن كنانة وابن القاسم في المبسوطة.
والثاني: أنه إن جاء بشاهدين سوى الأول قضي له بهما، وإن أتى بشاهد واحد لم يقض له بشيء.
والثالث: أنه إن أتى بشاهدين سوى الأول قضى له بهما وإن أتى بشاهد واحد قضى له به مع الشاهد الأول وأخذ حقه دون يمين، وهو قول عيسى بن دينار ورواية ابن الماجشون عن مالك.
والرابع: أنه إن أتى بشاهدين قضى له بهما، وإن أتى بشاهد واحد سوى الأول استؤنف له الحكم فحلف معه، واختلف على هذا القول إن نكل عن اليمين، فقيل: يحلف المطلوب ثانية، روي ذلك عن ابن القاسم، وقيل: لا يرد اليمين على المطلوب ثانية؛ لأنه قد حلف عليه مرة، وهو قول أحمد بن ميسر، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يعلم أن له شاهدا سوى شاهده أو علم به وهو بعيد الغيبة في الموضع الذي يكون له أن يقدم ببينته إذا استحلف المدعى عليه ولا شاهد له.
قال ابن دحون: فإن اشترط عند يمين المطلوب أنه يقوم إن وجد شاهدا آخر أو شاهدين على ذلك وحلف المطلوب فله ذلك عند الجميع، ومعنى قوله عندي إذا رضي المطلوب أن يحلف على ذلك، وأما إن لم يرض فلا يلزمه الرضى كما لا يلزمه الرضى بذلك إذا لم يكن للطالب شاهد، بل هو هنا أحرى ألا يلزمه، واختار أصبغ القول الأول، قال: ومما يبين ذلك أن لو لم يكن له شاهد فقضي على المدعي عليه باليمين فنكل عنها فردت على المدعي فنكل عنها فلم يأخذ شيئا ثم وجد بينة على دعواه أنه يقضى له بها.
قال أصبغ: وهذا الذي لا أعرف غيره من قول أصحاب مالك يريد أصبغ أن المدعي كان قادرا على أن يأخذ حقه بيمينه عند نكول المدعى عليه كما كان قادرا على أخذ حقه ببينة مع شاهده، وتنظيره بين المسألتين صحيح، وإن لم(10/108)
يوجد في المسألة التي احتج بها نص اختلاف بين أصحاب مالك كما زعم فإن الاختلاف عندي داخل فيها بالمعنى، فعلى قياس القول الأول لا يقضى له ببينة إن جاء بها ولا بشاهد مع يمينه، وعلى القول الثاني يقضى له ببينته إن جاء بها ولا يقضى له بشاهد مع يمينه لنكوله أولا عن اليمين، وعلى القول الثالث يقضى له ببينته إن جاء بها وشاهد مع يمينه إن جاء بشاهد واحد، وكذلك أيضا لو نكل المدعى عليه عن اليمين فغرم بعد يمين المدعي ثم وجد بينته على القضاء أو شاهدا واحد فأراد أن يحلف معه ويسترجع ما غرم لجرى الأمر في ذلك على الأقاويل الثلاثة، وقد ذهب بعض الناس إلى أن هذه المسألة معارضة لأول مسألة من رسم المكاتب، وليس ذلك عندي بصحيح، والفرق بين المسألتين أن الطالب في هذه المسألة قد رضي بترك حقه في أن يحلف مع شاهده واستحلف المطلوب فصار ذلك حكما له باليمين فلا تبطل على أحد القولين، ومسألة كتاب المكاتب الحق فيها إنما هو لله، ولا يجوز فيه إلا أربعة شهداء، فإذا شهد فيه أقل من أربعة شهداء لم تجز شهادتهم ولا كان لها حكم يتعلق بالمشهود عليه ولا بالمشهود له القائم بالشهادة، فوجب إذا جاء شاهد رابع أن يضاف إلى الثلاثة فيقام الحد على المشهود عليه ولا يحد الثلاثة إن كانوا لم يحدوا بعد، وهذا على القول بأنه ليس من شرط صحة الشهادة على الزنى أن يأتي الشهود جميعا؛ لأنه على هذا القول بمنزلة من أقام شاهدا واحدا على نسب أو على عتق فلم يحكم بشهادته، إذ لا يجوز في ذلك أقل من شهادة شاهدين حتى جاء بشاهد آخر، ولا اختلاف في أنه يضاف إلى الشاهد الأول فيحكم بشهادتهما، وقد مضى في رسم الصبرة القول في إتيان المحكوم عليه ببينة لم يعلم بها، وهي من شرح هذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقتل أخوه وللمقتول أولاد هم ورثته فشهد الأخ على رجل أنه قتل أخاه]
مسألة وسألته: عن الأخ العدل المشهور بالصلاح يقتل أخوه وللمقتول أولاد هم ورثته، فشهد الأخ على رجل أنه قتل أخاه(10/109)
ذلك أتجوز شهادته؟ قال: لا أرى ذلك، قلت: لم؟ وإنما وارثه بنو أخيه، فشهادته الآن ليست لأخيه، إنما هي لبني الأخ، قال: أعظم إجازة شهادته في دم أخيه أو ما يجر إلى ذلك، قال: ولا تجوز شهادته أيضا في الحدود إن قذف في بدنه أو قذفت أمه، وإن كان ليس بأخيه لأمه، قال: وأجيز شهادته له في النكاح والحقوق إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: أربعة أولاد لرجل شهدوا على أبيهم بالزنى وأبوهم معدم وهم عدول]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال سحنون: سئل أشهب عن أربعة أولاد لرجل شهدوا على أبيهم بالزنى، وأبوهم معدم، وهم عدول، قال: يرجم الأب، قيل لأشهب: فإن كان الأب موسرا؟ قال: لا تجوز شهادتهم لمكان الميراث، وقال أصبغ: إلا أن يكون الأب إذ زنى كان بكرا فتقبل شهادتهم مليا كان أو معدما ويجلد، قال سحنون: قلت لأشهب: وكذلك لو شهدوا على أبيهم أنه قتل فلانا عمدا؟ قال: نعم والمعسر أيضا لا تجوز شهادتهم عليه؛ لأنهم يريدون الاستراحة منه لمكان النفقة عليه.
قال محمد بن رشد: مساواة أشهب في هذه المسألة بين أن يشهدوا على أبيهم بزنى أو بقتل فيها نظر؛ لأن شهادتهم عليه بالقتل إذا دعوا إلى الشهادة عليه واجبة عليهم، لقول الله عز وجل:(10/110)
{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] الآية، ومستحبة لهم إذا لم يدعوا إليها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها الحديث» فوجب إذا شهدوا عليه بالقتل أن تجوز شهادتهم عليه دعوا إلى الشهادة عليه أو لم يدعوا إليها إلا أن يتهموا بجر ميراثه إلى أنفسهم، أو بالاستراحة من النفقة عليه، وشهادتهم عليه بالزنى مكروه لهم؛ لأنهم مأمورون في ذلك بالستر على أنفسهم وعلى الناس، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله» وقال لهزال: «يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك» فالصواب أن لا تجوز شهادتهم عليه بالزنى؛ لأن ذلك عقوق منهم له إلا أن يعذروا في ذلك بجهل أو يكونوا قد دعوا إلى الشهادة عليه مثل أن يقذفه رجل بالزنى فيقوم عليه بحده فيسأل القاذف بنيه أن يشهدوا له بزناه ليسقط عنه حد القذف، وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول أشهب، والله أعلم، وإذا سقطت شهادتهم عنه بأي وجه سقطت وجب الحد عليهم، وقد قاله سحنون إذا سقطت شهادتهم بالظنة، ولا فرق بين أن تسقط بالظنة أو بالجرحة، ورأى ابن لبابة شهادتهم عليه مما يوجب قتله جائزة مليا كان أو معدما، قال: ولا يتهم العدول بالميراث ولا بطرح النفقة، وهو قول له وجه في المبرز في العدالة(10/111)
البائن في الفضل في الموضع الذي يتعين عليه فيه الشهادة، ويأتي على قياس قول ابن القاسم في الإمام يشهد عنده على المرأة المحصنة أربعة بالزنى أحدهم زوجها فلا يعلم بذلك حتى يقيم عليها حد الرجم إن له الميراث منها ويحد إلا أن يلاعن خلاف قول أصبغ في أنه لا ميراث له منها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصغير يموت أبوه فيقوم له شاهد عدل أن أباه تصدق عليه بعبده فلان]
مسألة قال ابن القاسم في الصغير يموت أبوه فيقوم له شاهد عدل أن أباه تصدق عليه بعبده فلان وقبضه له وشهد له آخر أن أباه نحله إياه، قال: لا أرى شهادته واحدة، وأراها مختلفة؛ لأن النحل يعتصر، والصدقة لا تعتصر، فهذان أمران مختلفان، ثم قال: أرأيت لو أن رجلا قام له شاهد على رجل أنه أسلفه مائة دينار وقام آخر فشهد له أيضا أن له عليه مائة دينار من ثمن جارية، فكذلك مسألتك الأولى، وأرى أن يحلف مع شاهديه مع كل واحد منهما ويستحق مائته.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة ههنا وفي سماع محمد ابن خالد، ووقعت أيضا في رسم كراء المزارع والدور من سماع يحيى ساقطة الجواب، وقد مضى القول عليها مستوفى في رسم العرية من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل الواحد هل يعدل الرجل أو يجرحه]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل الواحد هل يعدل الرجل أو يجرحه؟ قال مالك: لا، قلت له: فالقاضي إذا كان له من يسأل في السر؟ قال: لا أحب للقاضي أن يسأل في السر أقل من اثنين، ولا يقبل في التعديل أقل من اثنين، ولا يقبل في السر إلا اثنين، وكذلك في العلانية.(10/112)
قال الإمام القاضي: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزكية النساء]
مسألة وقال ابن القاسم: لا تجوز تزكية النساء ولا تجريحهن ولا شهادتهن في الهلال في رمضان ولا في الحج ولا في الفطر.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب وفي غيره من المواضع، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ثبوت شهادة الشاهد بشاهد ويمين]
مسألة وقال أشهب في الرجل يقيم شاهدا على رجل أن فلانا وكله على حق له يطلبه قبل هذا الرجل أيحلف الوكيل مع شاهده أنه وكيل قال: لا يحلف الوكيل مع شاهده، وكذلك سمعت، ولا تثبت الوكالة إلا بشاهدين.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الوكالة لا تثبت بشاهد ويمين يريد وإن كانت الوكالة في المال صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أنه لا يجوز أن يشهد على شاهد ويحلف المدعي مع هذا الشاهد على شهادة ذلك الشاهد؛ لأن المعنى فيهما جميعا سواء، ألا ترى أن سحنون علل في المدونة المنع من ثبوت شهادة الشاهد بشاهد ويمين بأن الشاهد ليس بمال، فكذلك الوكالة ليست بمال، فعلى تعليله لا تثبت بشاهد ويمين كما لا تثبت شهادة الشاهد بشاهد ويمين، وقد قال ابن دحون: إنه يلزم من أجاز شهادة النساء على الوكالة في المال أن يجيز شاهدا ويمينا على الوكالة في المال؛ لأنها تئول إلى المال، وليس ذلك بصحيح، إذ ليس كل موضع يجوز فيه شاهد وامرأتان يجوز فيه شاهد ويمين، وإنما الذي يقول سحنون(10/113)
وابن الماجشون أن كل موضع يجوز فيه شاهد ويمين يجوز فيه شاهد وامرأتان، وهما لا يجيزان شهادة النساء في الوكالة على المال إنما يجيزانها على نفس المال وفيما لا يحضره إلا النساء، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد على الرجل وهو من أهل العدل فلا يحكم القاضي بشهادته]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يشهد على الرجل وهو من أهل العدل فلا يحكم القاضي بشهادته حتى يقع فيما بينه وبين المشهود عليه خصومة، أترى أن ترد شهادته بذلك؟ قال: لا وإنما يرد كل ما شهد به بعد الخصومة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع أشهب وفي رسم باع شاة من سماع عيسى، ويأتي في نوازل أصبغ فنتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد عليه أنه وجد به ريح شراب فيقول المتهم للقاضي إنه عدو لي]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يشهد على الرجل أنه وجد به ريح شراب فيقول المشهود عليه للقاضي إنه عدو لي مصارم، فيسأل القاضي عن ذلك رجلا والرجل يعلم أن الشاهد عدو للمشهود عليه والشاهد عدل، أترى أن يجيزه بذلك؟. قال: نعم، قيل له: فإن كان الرجل المسئول قد أقر عنده الذي وجد به ريح شراب أنه شراب أترى إذا سأله القاضي عن الشاهد أنه عدو للمشهود عليه أترى أن يجيزه بذلك؟ قال: لا يجيز بذلك حتى يقام على المشهود عليه الحد، ثم قال: أرأيت لو أن رجلا أقر عنده رجل أن لفلان عنده دنانير فشهد على ذلك الرجل بذلك الحق رجال هم أعداؤه وهم عدول، فقال المشهود عليه هم أعدائي فسأل القاضي الذي أقر عنده أهم أعداؤه وهو يعلم أينبغي(10/114)
له أن يعلمه بذلك؟ فقال: لا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما يأتي لسحنون في نوازله بعد هذا وخلاف ما مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم وفي أول رسم من سماع عيسى، وقد مضى القول على ذلك في الموضعين، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة امرأتين في جراح العمد]
مسألة قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة امرأتين في جراح العمد إنما تجوز في جراح الخطأ وقتل الخطأ، وسئل عنها سحنون، فقيل له: إنها ذكرت بمصر فقال: شهادة النساء في جراح العمد جائزة، وأصل قولنا في هذا أن كل ما جاز فيه اليمين مع الشاهد فشهادة النساء فيه جائزة، وما لا تجوز فيه اليمين مع الشاهد فشهادة النساء فيه ساقطة، فوجدنا اليمين مع الشاهد جائزة في جراح العمد، فمن ثم جازت شهادة النساء فيه، وهو قول ابن الماجشون، وكذلك لو شهدت امرأتان ورجل، أن رجلا أوصى بوصية للمساكين لم تجز الوصية؛ لأنه ليس فيها يمين مج الشاهد؛ لأن النساء إنما تجوز شهادتهن في كل موضع يكون فيه اليمين مع الشاهد، وهذا موضع لا يجوز فيه اليمين مع الشاهد.
قال محمد بن رشد: هذا الأصل الذي التزمه سحنون وابن الماجشون من أن كل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد تجوز فيه شهادة النساء لم يلتزمه ابن القاسم؛ لأنه لم يجز في هذه الرواية شهادة امرأتين في جراح العمد وهو يجيز القصاص في جراح العمد باليمين مع الشاهد، ويحتمل أن يتأول مذهبه على ذلك؛ لأن قوله اختلف في القصاص من(10/115)
الجراح باليمين مع الشاهد على ما ذكرنا وحصلنا القول فيه في رسم القضاء من سماع أشهب، واختلف قوله أيضا في إجازة شهادة النساء في ذلك أيضا فقال في هذه الرواية: إن شهادتهن لا تجوز في ذلك، ووقع في المجموعة وكتاب ابن سحنون اختلاف قول ابن القاسم في ذلك، وأن الذي رجع إليه أنها لا تجوز، فيحتمل أن يقال: إنه إنما أجاز شهادة النساء في ذلك على القول بأن اليمين تكون في ذلك مع الشاهد، وأنه إنما منع من إجازة شهادة النساء في ذلك على القول بأن اليمين مع الشاهد لا يكون في ذلك [عنده] وأما قول ابن الماجشون في المنع من إجازة شهادة النساء في الوصية بالمال للمساكين فهو إغراق على طرد أصله، وليس بثابت في جميع الروايات، والصواب إجازة شهادة النساء في ذلك على أصله؛ لأن اليمين مع الشاهد إنما امتنع من أجل أن صاحب الحق غير معين لا من أجل أن الوصية بالمال لا تستحق باليمين مع الشاهد، فمذهب ابن الماجشون وسحنون أن شهادة النساء لا تجوز إلا فيما يجوز فيه الشاهد واليمين، وأن الشاهد واليمين لا يجوز إلا فيما يجوز فيه شهادة النساء، فكل موضع يجوز فيه هذا يجوز فيه هذا، وكل موضع لا يجوز فيه هذا لا يجوز فيه هذا.
وأما على مذهب ابن القاسم المشهور عنه فكل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد يجوز فيه شهادة النساء، وليس كل موضع يجوز فيه شهادة النساء يجوز فيه اليمين مع الشاهد، فما يجوز فيه شهادة النساء أعم وأكثر مما يجوز فيه الشاهد واليمين؛ لأن شهادة النساء تجوز عنده على الوكالة في المال وعلى شهادة الشاهد بالمال، ولا يجوز عنده في شيء من ذلك شاهد ويمين، وإذا قلنا على، مذهبه في هذه الرواية إنه يجيز القصاص باليمين مع الشاهد ولا يجيز شهادة النساء في ذلك فليس أيضا كل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد تجوز فيه شهادة النساء، فعلى هذا من الأشياء ما يجوز فيه هذا وهذا، ومنها ما لا يجوز فيه هذا ولا هذا، ومنها ما يجوز فيه هذا ولا يجوز فيه هذا، وبالله التوفيق.(10/116)
[مسألة: لاعب الشطرنج أما المدمن عليها فلا تجوز شهادته]
مسألة وكتب إلى سحنون يسأل عن الحديث الذي ذكر عن عمر في قوله: " والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مضروبا حدا أو مجرحا في شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة " وكتب يقول: ما الحال التي يستوجب بها الرجل المسلم أن يكون عدلا يلزم من عرفه من الحكام قبول شهادته ويلزم من عرفه من أهل العدل تعديله حتى يقول فيه عند القاضي هو عندي عدل، وأنتم لا تجيزون من المعدل غير هذا القول، فقد يكون الرجل ظاهر الصلاح من أهل المساجد، وربما كان مع ذلك من أهل الحج والجهاد لا يعلم منه من جاوره إلا خيرا، أو لعله لم يخالطه في الأخذ والإعطاء فيعرف به قبح دينه، وربما كان على هذه الصفة وهو يقارب بعض الأشياء المكروهة غير الكبائر والمستشنع من الأمور، فإن قلت: إنه لا يجوز لمن قارب الذنوب أن يوصف بالعدالة والرضا، فمن هذا الذي يسلم من مقاربة الذنوب والزلل، وقد قيل: اتقوا زلة العالم، وانتظروا فيئته، فما هي هذه الزلة من العالم؟. وهل هو إذا واقعها بها مجرح ساقط الشهادة، فقد ذكر في وصية الخضر لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث يقول: «واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات واعمل خيرا فإنك لا بد عامل شرا» ، وهو نبي مرسل، فكيف بمن دونه من الناس؟ وقد يكون الرجل يقبل(10/117)
صلة السلطان ويأكل طعامه، وسلاطين هذا الزمان من قد علمت، أتراه [لذلك] مجرحا ساقطا الشهادة؟ فإن قلت: إن ذلك لجرحة في شهادته فقد قبل جوائز السلطان من قد علمت من أئمة الهدى والعلم، قد أخذ ابن عمر جوائز الحجاج، والحجاج من قد علمت، وأخذ ابن شهاب جوائز عبد الملك بن مروان وغيره من الخلفاء، وأخذ مالك جوائز أبي جعفر، فإن قلت: إنهم كانوا يأخذون ذلك على الخوف فإن منهم من يأمن السلطان بترك الأخذ منه فلم ير إلا خيرا، وقد ذكر أن أبا جعفر أمر لمالك بثلاث صرر دنانير فاتبعه الرسول [بها] . فسقطت منها صرة في الزحام، فلما أتاه بالصرتين سأله عن الثالثة، فأنكر أن يكون أخذ غير الصرتين فلزمه مالك بالثالثة وألح عليه فيها حتى أتى بها بعض من وجدها فدفعها إليه، فمالك لم يفعل هذا إلا متطوعا، فإن رأيت طرح شهادة من أخذ من السلطان فجميع القضاة منه يرزقون وإياه يأكلون، قال سحنون: اكتب إليه: أما قولك: ما الحال التي يستوجب بها الرجل المسلم أن يكون عدلا يلزم الحكم قبول شهادته فهو الرجل المشهور بالعدالة في بلده المتواتر عليه بهذا الذي يكون عند الحكم من معرفته مثل الذي يكون عند الذي يريد تعديله وقد جازت شهادته وعرفت عدالته، وقد قال مالك: من الرجال رجال لا يسأل عنهم لشدة عدالتهم والاجتماع على ذلك منهم، فأما قولك ويلزم من عرفه عدالته ويكون الرجل ظاهر الصلاح من أهل المساجد والجهاد فلا يزكيه بذلك حتى يعرف باطنه كما عرف ظاهره ويثبت عنده من معرفة باطنه مثل الذي ثبت من(10/118)
معرفة ظاهره، ولن يكون ذلك ولا يوقع على حقيقته إلا بالصحبة الطويلة والمعاملة والأخذ والإعطاء، فإذا فعل ذلك زكاه.
[وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان يقال إذا مدح الرجل الرجل: أصحبته في سفر؟ أخالطته في ماله؟ كأنه يرى أنه لا يوقع على صحة معرفته إلا بالمخالطة والسفر.
وأما قولك: وربما قارب بعض الأشياء المكروهة وقارب بعض الذنوب فإن ذلك لن يسلم منه أحد، وليس أحد بمعصوم من الخطأ والزلل، فإذا كان الأمر الخفيف من الزلة والفلتة لم يضره ذلك في عدالته، وقد كان مالك يقول: من الرجال رجال لا تذكر عيوبهم، يقول: يكون العيب خفيفا، والأمر كله جميل حسن، فلا يذكر اليسير الذي ليس أحد منه بمعصوم مع هذا الصلاح الكثير] وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في لاعب الشطرنج: أما المدمن عليها فلا تجوز شهادته، فإن كان ذلك منه على غير الإدمان وكان الأمر الخفيف قبلت شهادته، فلو كان من قارب هذه الذنوب التي لا يسلم منها أحد لا تقبل شهادته ما قبلت لأحد شهادة، قال: وقال الله لنبيه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقد كان يقال: ليس المتقي لحدود الإسلام كاللاعب فيها، وأما قولك فقد كان يقال: اتقوا زلة العالم فزلته عندنا والله أعلم أن يبتدع بدعة فيتبع عليها، ألا ترى أنه قد قيل: اتقوا زلة العالم، فإنه إذا زل زل بزلته عالم كثير، وإذا فعل ذلك من العمال عمال أمير المؤمنين المضروب على أيديهم فهو ساقط الشهادة عندنا، وأما(10/119)
الأكل فمن كان ذلك منه الزلة والفلتة فغير مردود الشهادة، وهذا من الذنوب التي وصفت لك، وأما المدمن الأكل عندهم فساقط الشهادة، وأما ما احتججت به من قبول ابن شهاب ومالك لجوائز السلطان فقد قست بغير قياس، واحتججت بما لم يحتج به من قبل أن قبول مالك لها من عند من تجري على يديه الدواوين وهو أمير المؤمنين، وجوائز الخلفاء جائزة لا شك فيها على ما شرط مالك لاجتماع الخلق على قبول العطاء من الخلفاء ممن يرضى منهم وممن لا يرضى، وجل ما يدخل بيوت الأموال بالأمر المستقيم، والذين يظلمون قليل في كثير، ولم نعلم أحدا من أهل العلم أنكر [أخذ] العطاء من زمن معاوية إلى اليوم.
وأما قولك في القضاة فإنما هم أجراء للمسلمين أجروا أنفسهم [للمسلمين] فلهم أجرهم من بيت مال المسلمين، وأما ما ذكرت عن ابن عمر فقد سمعت علي بن زياد ينكر ذلك عن ابن عمر ويدفعه.
قال محمد بن رشد: لم يجب سحنون على السؤال الأول من هذه المسائل في معنى ما ذكر عن عمر بن الخطاب من أن «المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مضروبا حدا» إلى قوله وهو كلام ظاهره أن الشاهد محمول على العدالة لمجرد الإسلام، وقد تعلق بذلك أبو حنيفة، فقال: إن مجرد الإسلام يقتضي العدالة، وإن كل من أظهر الإسلام يحكم له بالعدالة وتقبل شهادته حتى يعرف فسقه، وحكى عنه أبو بكر الرازي أن ذلك في زمن أبي حنيفة؛ لأن القرن الثالث الذي أثنى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(10/120)
وأما بعد القرن الثالث، فلا يكتفي في عدالة الشاهد بمجرد الإسلام، والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي وأصحابهما من أن الشاهد لا تقبل شهادته بمجرد إسلامه حتى تعرف عدالته بكونه على الأحوال المرضية فيه لقول الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فنقول: إن قول عمر بن الخطاب هذا ليس على ظاهره من وجوب قبول شهادة الشاهد بمجرد إسلامه؛ لأنا لو اتبعنا ظاهره لوجب أن نجيز شهادة المسلم وإن علمنا فسقه إذا لم يتهم في ولاء، ولا قرابة ولا علمت منه شهادة زور ولا كان مجلودا في حد، إذ لم يستثن في الحديث إلا هؤلاء الثلاثة، فلما لم يصح ذلك بالإجماع وجب ألا يحمل الحديث على ظاهره، وأن يكون المعنى الذي قصد فيه أن الإسلام شرط في قبول شهادة الشاهد كما أن البلوغ والحرية شرط في قبول شهادته، فمعنى قوله على هذا التأويل أن المسلمين هم الذين تجوز شهادة بعضهم على بعض لا الكفار، ويدل على صحة هذا التأويل قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول " ويحتمل أن يريد بقوله رضي(10/121)
الله عنه: «المسلمون عدول بعضهم على بعض» الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنهم محمولون على العدالة بتعديل الله إياهم حيث يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الآية وبقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] الآية وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» فلما كان هذا أحكام الصحابة كان الأمر في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر على أن كل مسلم عدل؛ لأنهم كانوا أصحابه، فلما بعد العهد في آخر خلافة عمر وظهرت شهادة الزور فيمن شهد من غير الصحابة فأخبر بذلك ولم يكن ظن به قال: "والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول " وهذا التأويل أسعد بالظاهر والله أعلم، ومن تعلق بظاهر قول عمر هذا في حمل الشاهد على العدالة حتى تعرف جرحته يلزمه أن يحكم بشهادة الشاهد المجهول الحال دون تعديل في الحدود والقصاص وهو لا يقول بذلك فقد نقض أصله وسقط قوله، وإنما تبتغى العدالة في الشاهد حيث لا يعدم العدول في أغلب الأحوال، وأما حيث يعدمون كشهادة الصبيان فيما يقع فيما بينهم من الجراح والقتل، وكشهادة أهل الرفقة فيما يقع بينهم في السفر ففي ذلك اختلاف وتفصيل ليس هذا موضع ذكره، وأما قول سحنون(10/122)
في صفة الشاهد الذي يجب على الحاكم قبول شهادته ويجب على من عرفه تعديله إنه المعروف بالعدالة وإن قارب بعض الذنوب والأشياء المكروهة، فإنه قول صحيح بين لا اختلاف فيه، وقد اختلف فيما يحد به العدالة من الألفاظ، وأحسن ما رأيت في ذلك أنه المجتنب للكبائر، المتوقي من الصغائر؛ لأن من واقع الكبائر فهو فاسق، ومن لم يبال بالصغائر ولا توقى منها فليس بعدل؛ لأن كل صغيرة إذا انفردت فهي كبيرة إذ قد استوجب عليها عقاب الله إلا أن يغفر له، فلا يقال فيها إنها صغيرة إلا بإضافتها إلى الكبيرة لكنه لما لم تمكن السلامة منها لم يخرج عن العدالة بالوقوع في شيء منها، وأما الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فهم معصومون من الكبائر، وأما الصغائر فقيل: إنهم غير معصومين منها بدليل قول الله عز وجل لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] والذي أقول به أنهم معصومون من القصد إلى إتيان الصغائر، كما أنهم معصومون من القصد إلى إتيان الكبائر إلا أنهم يؤاخذون لمكانتهم ومنزلتهم بما ليس بكبائر ولا صغائر في حق من سواهم، وهذا نحو قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» سأل الله عز وجل ألا يؤاخذه فيما ليس في وسعه ولا يدخل تحت طاقته وقدرته، وأن يغفر ذلك له، وإن كان الله قد تجاوز لعباده عنه بقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وقول سحنون: إن قبول الجوائز من العمال المضروب على أيديهم جرحة تسقط الشهادة والعدالة صحيح، ومعناه عندي إذا قبضوا ذلك من العمال على الجباية الذين إنما جعل عليهم قبض الأموال وتحصيلها دون وضعها في وجوهها ومواضعها(10/123)
بالاجتهاد في ذلك، وأما الأمراء الذين فوض إليهم الخليفة وخليفة الخليفة قبض الأموال وجبايتها وتصريفها باجتهادهم في وجوهها ومواضعها كالحجاج وشبهه من الأمراء على البلاد المفوض جميع الأمور فيها إليهم فقبض الجوائز منهم كقبضها من الخلفاء، فإن صح أخذ ابن عمر جوائز الحجاج فهذا وجهه، وأما القضاة والأجناد والحكام فلهم أن يأخذوا أرزاقهم من العمال المضروب على أيديهم أعني العمال الذين فوض إليهم النظر في ذلك وضرب على أيديهم فيما سوى ذلك من إعطاء مال الله لمن يرونه بوجه اجتهادهم، وقد روي عن مالك أنه قال: لا بأس بجوائز الخلفاء، فأما جوائز العمال ففيها شيء، يريد، والله أعلم، العمال الذين ظاهر أمرهم أن الأمور كلها مفوضة إليهم، وأن الخليفة قد أنزله في جميعها منزلته ولم يتحقق ذلك، فلذلك قال: إن في أخذ الجوائز منهم شيء يريد أن ذلك مكروه فتركها أحسن، ولو تحقق ذلك لم يكن لكراهة أخذ الجوائز منهم وجه، كما أنه لو تحقق أنه لم يؤذن لهم في إعطاء المال باجتهادهم لمن لم يعمل عليه عملا لم يكن لتسويغ أخذ الجوائز منهم وجه، فإذا كان المجبي حلالا وعدل في القسمة فاتفق أهل العلم على جواز أخذ الجوائز منه، [وإذا كان المجبي حلالا ولم يعدل في القسمة فيه، فمنهم من أجاز الجوائز منهم..] ، وهم الأكثر، ومنهم من كرهه حتى يعدل في القسمة فيه، وإذا كان المجبي يشوبه حلال وحرام فمنهم من كره أخذ الجوائز منه وهم الأكثر، ومنهم من أجازه، وإذا كان المجبي حراما فمنهم من حرم أخذ الجوائز منه والأرزاق على عمل من الأعمال، روي هذا القول عن مالك، ومنهم من أجازه، ومنهم من كرهه، وإن كان الغالب عليه الحرام فله حكم الحرام، وإن كان الغالب عليه الحلال فله حكم الحلال، وفيه كراهة ضعيفة، وإن كان الخليفة يجبي الحلال والحرام، فمن أخذ مما يعلم أنه حلال فله ما ذكرناه من حكم المجبي الحلال، ومن أخذ ما يعلم أنه حرام(10/124)
فله ما ذكرناه من حكم المجبي الحرام، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق.
[: تضعان في ليلة فيختلط الصبيان]
من نوازل سحنون من كتاب الشهادات وسئل: عن رجل استودع صبية ثم غاب صاحب الصبية عنه زمانا ثم قدم وقد مات المستودع فقامت البينة للرجل أن الميت أقر أن لفلان عندي وصيفة وديعة وهاتان الجاريتان ابنتاي فقال الشهود: قد أشهدنا الميت أن واحدة من هؤلاء الجواري [الثلاث] ، جاريتك والجاريتان ابنتاه إلا أنا لا نعلم أيتهن جاريتك منهن، قال: لا تجوز شهادتهم، ولا شيء للمدعي؛ لأن الشهادة لا تكون إلا قاطعة بتة على شيء بعينه، وهم لا يعرفون ما يشهدون عليه ولا يحدونه ولا يقصدون قصد الصبية بعينها.
قال محمد بن رشد: لم يقل سحنون في هذه المسألة إنه يحكم فيها بالقافة كما قال في أول مسألة من نوازله من كتاب الاستلحاق في الرجل يسافر بامرأته فينزل على الرجل في قريته ومعه أم ولد له حامل وامرأة ضيفه حامل فتضعان في ليلة فيختلط الصبيان فلا يعرف كل واحد منهما ولده فيدعي كل واحد منهما صبيا منهما، يقول هذا ولدي، ويقول الآخر هذا ولدي، وكلاهما لا يدعي منهما صبيا بعينه لأنهما قد اختلطا ولا يعرفان إنه يدعي لهما القافة، فقيل إن ذلك اختلاف من قوله، ولا فرق بين المسألتين، وقيل: إن قوله في كتاب الاستلحاق مبين لقوله في هذه المسألة(10/125)
لأنه زاد فيها من وجوب الحكم بالقافة ما سكت عنه في هذه، وقيل وهو الأظهر: إنهما مسألتان مفترقتان حكم في تلك بالقافة؛ لأنه مجرد إثبات نسب كل واحد منهما من أبيه، ولم يحكم في هذه بالقافة؛ لأن ذلك يئول إلى القضاء برق إحداهن والحكم بها لمدعيها ملكا، وذلك ما لا يجوز إعمال قول القافة فيه، ألا ترى أنه لو ادعى رجل ولد أمة رجل فقال زوجتنيها فولدت هذا الولد مني وأنكر ذلك سيد الأمة وادعى أن الولد له ولدته من زنى لم يجز أن يحكم به لمدعيه لقول القافة، وهذا بين، والله أعلم.
[مسألة: شهادة القائف الواحد على ما يقول]
مسألة وسئل سحنون: أترى للقاضي أن يقضي بقائف واحد؟ فقال: لا يقضي بواحد ولا يلحق به نسبا، قيل: فإن لم يجد إلا قائفا واحدا؟ قال: يكتب إلى البلدان ويرسل حتى يأتيه قائف آخر، قيل له: فإن كتب ولم يجد؟ قال: يكتب أيضا وينتظر أبدا ولا يقضي بقائف واحد وقد أخبرني ابن نافع عن مالك قال: لا يجوز من القافة إلا اثنان، قيل له: فيقضي بغير العدول من القافة؟ قال: لا يكون القائف الذي يقضي به إلا عدلا وإلا لم يجز، وفي سماع محمد بن خالد قال: قلت لابن القاسم: هل تقبل شهادة القائف الواحد على ما يقول؟ فقال: أما مالك فقد كان يقول: لا يقبل إلا اثنان عدلان، قال ابن القاسم: ويرى أن شهادة الواحد مقبولة إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: القياس على أصولهم أن يحكم بقول القائف الواحد وإن لم يكن عدلا؛ لأنه علم يؤديه وليس من طريق الشهادة كما يقبل قول النصراني الطبيب فيما يحتاج إلى معرفته من ناحية الطب كالعيوب والجراحات، فاشتراط ابن القاسم فيه العدالة استحسان، وقد روى ابن وهب عن مالك إجازة القضاء بقول الواحد منهم ولم يشترط في ذلك(10/126)
عدالة، ووجه قول سحنون ورواية ابن نافع عن مالك في أنه لا يجوز أن يقضي منهما إلا باثنين عدلين مراعاة للاختلاف، إذ من أهل العلم من لا يرى الحكم بالقافة أصلا، وهو مذهب أبي حنيفة، إذ لا يصح عنده القطع من ناحية الشبه على أن الولد لمشبهه، وإنما هو دليل قد يخطئ ويصيب فلا يجب عنده أن يحكم بالولد لمن تقول القافة إنه من نطفته، ويجوز لمن يقع في قلبه مثل ذلك ولمن يعلم حقيقة الأمر فيه أن يسر به، وإن لم يكن مع ذلك وجوب حكم ولا قضى كما «فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ دخل مجزز المدلجي عليه فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» وهذا الحديث أصل عندنا في وجوب الحكم بقول القافة، والوجه فيه عند أبي حنيفة ما ذكرته، ولمالك في سماع أشهب من كتاب الاستلحاق أنه لا يقضى من القافة إلا بقول قائفين، فظاهره مثل رواية ابن نافع هذه إلا أنه علل ذلك بأن الناس قد دخلوا ولم يشترط في ذلك عدالة فدل ذلك من تعليله على ما ذكرنا(10/127)
من أن ذلك ليس على حكم الشهادة، وإنما استحب أن يكونا اثنين استظهارا في الحكم للمعنى الذي ذكره، فانظر في ذلك وتدبره، وبالله التوفيق.
[مسألة: دعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ]
مسألة وسئل سحنون عن قول الله تعالى: [ {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] فقال: إذا كان للرجل عندك علم قد أشهدك عليه، وأما إذا لم يكن له عندك علم، وإنما يريد أن يشهدك ابتداء فأنت في سعة إذا كان يجد في البلد غيرك من يشهده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القيام بالشهادة الذي أمر الله به] حيث يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] و {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ينقسم على وجهين؛ أحدهما: أن يدعى ليشهد على الشهادة ويستحفظ إياها.
والثاني: أن يدعى أن يشهد بما علمه استحفظ إياه أو لم يستحفظ.
أما الوجه الأول وهو أن يدعى ليشهد ويستحفظ الشهادة فإن ذلك واجب وفرض على الجملة يحمله بعض الناس عن بعض كالجهاد والصلاة على الجنائز وما أشبه ذلك، فإذا كان الرجل في موضع ليس فيه من يحمل ذلك عنه تعين عليه الفرض في خاصته؛ لأن الله قال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] فإذا قيم بها فقد امتثل الأمر وسقط الفرض، إذ لا معنى لقيام من قام بها بعد ذلك.
وأما الوجه الثاني وهو أن يدعى ليشهد بما علمه واستحفظ إياه فإن ذلك واجب عليه لقول الله عز وجل:(10/128)
{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] فمن كانت عنده شهادة فلا يحل له أن يكتمها ويلزمه إذا دعي إليها أن يقوم بها، وأما إن لم يدع إلى القيام بها فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها» وهذا فيه تفصيل قد مضى القول فيها مستوفى في رسم شهد على شهادة ميت من سماع عيسى، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يجب على كل من دعي إلى شهادة أن يجيب سواء دعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ لقول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشاهد لا يصح أن يسمى شاهدا إلا بعد أن يكون عنده علم بالشهادة، وأما قبل أن يعلم فليس بشاهد ولا داخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] إلا من هو شاهد، وهذا بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: كيف يعدل الرجل عند القاضي]
مسألة وسئل سحنون: كيف يعدل الرجل عند القاضي؟ فقال: يقولون للقاضي هو عندنا من أهل العدل والرضى جائز الشهادة، قيل له: فإن لم يقولوا: وهو عندنا عدل رضا إلا أنهم قالوا هو عندنا عدل فلم يزيدوا عدى هذا؟ فقال: وهذه تزكية أيضا، قيل له: فهل ينبغي للقاضي أن يقول لهم ترضون بشهادته لكم وعليكم؟ فقال: ليس عليه أن يسألهم عن هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الشاهد يقول في تعديل الشاهد هو عندي من أهل العدل والرضى أو هو عندي من أهل العدل ولا يزيد على ذلك صحيح، وإنما جازت شهادته بأن يقول: هو عندي من أهل العدل ولم(10/129)
يلزمه أن يقول هو من أهل العدل؛ لأن القطع على ذلك لا يصح، وإنما يشهد الشاهد بما يغلب على ظنه من عدالته بما ظهر إليه من أحواله، وهذا نحو قول أصبغ: لا أرى أن يقول الرجل في تعديل الرجل هو عدل، وليقل أراه عدلا، ولو قال: هو عدل ولم يقل: عندي كما قال في هذه الرواية ولا قال أراه عدلا كما قال أصبغ لجازت شهادته ولم تكن غموسا وإن كان ظاهر القطع بما لا يصح القطع عليه؛ لأن المعنى في ذلك عند الشاهد ما يغلب على ظنه من عدالته، ولا يدخل في هذا عندي الاختلاف الحاصل فيمن شهد لمستحق عرض من العروض أنه ما باع ولا وهب حسبما مضى القول فيه في رسم الأقضية لابن كنانة من سماع أشهب، واختار أن يقول المعدل في تعديل الشاهد هو عندي من أهل العدل والرضى فجمع بين اللفظين؛ لأن الله قال في موضع: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقال في موضع: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فإن اقتصر على أحذ اللفظين اكتفي به؛ لأن الله قد ذكر كل لفظ منهما على حدة فكان ذلك كافيا في صفة الشاهد الذي يجوز قبول شهادته؛ لأن من كان من أهل العدل فهو من أهل الرضى ومن كان من أهل الرضى فهو من أهل العدل، وبالله التوفيق.
وقوله: أليس على القاضي أن يسأل الشهود المزكين هل يرضون بشهادته لهم وعليهم صحيح أن ذلك ليس عليه، بل الأظهر أن ذلك لا ينبغي له إذ قد يكونون عنده من أهل العدل والرضى ولا يرضى بشهادتهم عليه لعداوة بينه وبينهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يجوز في التزكية إلا المبرز الناقد الفطن الذي لا ينخدع في عقله]
مسألة قيل: أرأيت كل من تجوز شهادته هل تجوز تزكيته؟ قال: لا ليس هو كما ذكرت، وتجوز شهادة الرجل ولا تجوز تزكيته،(10/130)
ولا يجوز في التزكية إلا المبرز الناقد الفطن الذي لا ينخدع في عقله ولا يستنزل [في رأيه، ولا ينبغي لأحد أن يزكي رجلا إلا رجلا قد خالطه في الأخذ والعطاء وسافر معه ورافقه، قال مطرف بن عبد الله: لا يجوز في الجرحة والتعديل إلا كل عدل منقطع، وليس كل من جازت شهادته تجوز في الجرحة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال] ، وهو مما لا اختلاف فيه من أنه لا يجوز في العدالة إلا العدل الرضى المبرز في العدالة العارف بوجوه التعديل والتجريح، فإنه لا ينبغي للرجل أن يزكي الرجل حتى يختبره فيعرف من باطنه ما عرف من ظاهره، ولا يكون ذلك إلا بالمخالطة في الأخذ والإعطاء والسفر والمرافقة، وقد مضى ذلك في سماع سحنون، وأما قول مطرف بن عبد الله فمعناه إذا لم ينص الجرحة ما هي، وإنما قال: أشهد أنه ليس من أهل الرضى والعدالة، وأما إذا نص على الجرحة ما هي مثل أن يشهد عليه أنه شارب خمر أو صاحب قيان أو عدو للمشهود عليه، أو ما أشبه ذلك فشهادته بذلك جائزة إذا كان جائز الشهادة وإن لم يكن مبرزا في العدالة، وذلك منصوص له ولأصبغ في الواضحة، قالا: ويجرح الشاهد لمن هو مثله وفوقه ودونه في الإسفاه والعداوة، وقال ابن الماجشون: ولا يجرح في الإسفاه بمن هو دونه، وقد مضى ذلك في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل ينبغي للقاضي أن يسأله التعديل كلما شهد]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يشهد عند القاضي فيسأله التعديل فيعدل عنده ثم يأتي بعد ذلك بشهر أو شهرين أو سنة أو سنتين فيشهد عنده أيضا هل ينبغي للقاضي أن يسأله التعديل كلما شهد(10/131)
عنده أو يجتزئ بالعدالة الأولى؟ فقال: نعم يسأله التعديل إذا شهد عنده بعدما عدل بشهر أو شهرين أو سنة أو سنتين، كلما شهد عنده سأله العدالة حتى يكثر تعديله وتشتهر تزكيته مرة بعد مرة ويكثر ذلك عند القاضي فإذا كثر ذلك عنده رأيت ألا يسأله تزكية فيما يستقبل، وفي سماع عيسى من كتاب الجواب إذا شهد بحدثان ما عدل فلا يسأله تعديلا، وإذا طال ذلك فأرى أن يسأله التعديل والثبت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم الجواب من سماع عيسى مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهادة على الشهادة في العدالة]
مسألة وسئل عن الشهادة على الشهادة أتجوز في العدالة كما تجوز الشهادة على الشهادة في الأموال؟ قال: وما معنى قولك في الشهادة على الشهادة في العدالة لعلك تريد العدالة على العدالة؟ فقيل له: إنما أردت أن يكون لي قِبَل رجل علم وأنا أخاف أن يسألني القاضي تعديله، فلا أجد من يعدله إلا رجلين مرضيين أخاف عليهما الموت أو رجلين خارجين في سفر فقلت لهما: اشهدا لي أن فلانا عندكما عدل ورضى، فأشهدا لي على ذلك رجلين، ثم سألني القاضي عدالة شاهديّ، فشهد الشاهدان أن فلانا وفلانا أشهدانا أن فلانا من أهل العدل والرضى، فقال: يطلب القاضي من الخصم من يعدله غيرهما، فإن لم يجد جازت الشهادة فيهما على الشهادة إذا كان الغيب الذين زكياه من(10/132)
أهل الحضر ولم يكونا من أهل البادية؛ لأن البدوي لا يعدل الحضري، وهو الذي سألت عنه من العدالة على العدالة، قيل له: فالتجريح أتجوز فيه الشهادة على ما وصفت لك في العدالة في غيبة الشهود أو مرضهم، فقال: نعم ذلك جائز.
قال محمد بن رشد: في الواضحة لمطرف وابن الماجشون خلاف قول سحنون هذا في أن الشهادة على الشهادة جائزة في التعديل والتجريح، وذلك أنهما قالا: إن العدالة لا تكون في الشاهد إلا عند السلطان من بعد أن يشهد في الحين الذي يقطع بشهادته، فأما أن يسترعي الرجل تعديله الرجل ويشهد على ذلك منه كما يفعل في الشهادة تكون عنده إذا أراد أن يشهد عليها أو يكون الشاهد يحمل شهادته لا يعرفه بالعدالة ولا بغيرها فيعدله عنده من يثق به؛ فهذا الذي لا يجوز ولا علمنا أحدا قاله ولا عمل به إلا أن يشهد شاهد على شهادة شاهد غائب أو ميت فيخبر بعلمه بعدالته مع شهادته على شهادته بالحق الذي أشهد به عليه، ولو أن شاهدا شهد عند حاكم فاستعدله فكان رجل مريض يعدله لا يستطيع بمرضه أن يبلغ إلى القاضي فأراد أن يبعث إلى القاضي تعديله إياه مع رجلين عدلين يشهدهما على أنه عدل فذلك جائز؛ لأن الشهادة قد وقعت عند الحاكم، والعدالة ههنا إنما هي عند القطع بالشهادة، وقال به أصبغ واستحسنه، وقد ذكر ابن سحنون أن أباه رجع عن الشهادة على الشهادة في العدالة والتجريح إلا في تعديل البدوي فذلك جائز، وما رجع إليه سحنون وقاله مطرف وابن الماجشون في الواضحة هو الصواب إن شاء الله؛ لأن التعديل لا يكون إلا بعد الشهادة، ولو جاز قبل الشهادة لجازت شهادة غير العدل؛ لأن الناس قد تتغير أحوالهم فإنما يعولون عند الشهادة، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد هذان الرجلان وهذان الرجلان لرجلين بحقوق مختلفة وزكى هؤلاء هؤلاء]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يأتي بشهيدين على رجل بحق ثم يأتي بشاهدين آخرين يشهدان له أيضا بذلك الحق على الرجل(10/133)
الذي شهد عليه الشاهدان الأولان فيزكي الشاهدان الآخران الأولين، قال: شهادتهما جائزة وتزكيتهما، وقد ثبت الحق على من شهدا له، قيل له: لم؟ قال: من قبل أن الشاهدين قد ثبتا لا محالة؛ ولأن الشاهدين الآخرين زادا صاحب الحق خبرا، أرأيت لو جاءوا مجيء مزكين ألم تثبت تزكيتهم؟ فلما قالوا: شهدنا أن هؤلاء شهدوا بحق وأن الحق لهذا فقد زادوه قوة وتثبيتا لحقه، قيل له: فلو شهد هذان الرجلان وهذان الرجلان لرجلين بحقوق مختلفة، وزكى هؤلاء هؤلاء؟ فقال: تزكيتهم وشهادتهم جائزة، والحق حق لمن شهدوا له.
قال الإمام القاضي: هاتان المسألتان صحيحتان بينتا المعنى فلا وجه للقول فيهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجرحة على السماع]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت لو أني سمعت رجلين يقولان: نشهد أن فلانا عندنا غير عدل ولا رضى، فشهد ذلك الرجل عند القاضي فأمكن القاضي المشهود عليه من تجريح الشاهد فلم يجد اللذين عرفاه بالجرحة حضورا، هل يجوز لي أن أجرحه على شهادة هؤلاء؟ فقال: لا تجوز الجرحة على السماع، قلت: وكذلك لو سمعت رجلين يقولان: نشهد أن فلانا عدل رضى؟ قال لي: نعم كذلك لا يجوز أن تعدله على السماع.
قال الإمام القاضي: قوله: لا تجوز الجرحة على السماع، وكذلك لا يجوز أن يعدله على السماع، معناه أنه لا تجوز الجرحة على السماع على الوجه الذي ذكره من أن يسمع رجلين يقولان: فلان عندنا غير عدل ولا(10/134)
رضى، أو فلان عندنا عدل رضى فيشهد على ما سمعه منهما؛ لأن ذلك إنما هو شهادة على شهادة ليست بشهادة سماع، ولا يجوز للشاهد أن يشهد على شهادة الشاهد حتى يشهده أو يسمعه يؤديه عند الحاكم أو يشهد عنده على شهادته على اختلاف في ذلك، وأما شهادة السماع في ذلك فهي جائزة، وهي أن يسمع الشاهد من أهل العدل وغيرهم أن فلانا عدل رضى، أو أنه غير عدل ولا رضى فيشهد على السماع بذلك ولا يسمى من سمع منهم فتكون الشهادة بذلك جائزة، وهذا مما لا أعلم فيه اختلافا إلا أنه قد قيل: إن الشهادة على السماع لا تجوز بأقل من أربعة شهداء، وأما العدالة على العدالة فهي جائزة إذا كان الشهود على الأصل غرباء، وإن كانوا من أهل البلد لم يجز ذلك حتى يأتوا بتعديلهم أنفسهم، وسواء كان مُعدِّل الغرباء غريبا أو من أهل البلد، غير أنه إن كان المعدلون من أهل البلد فعدلهم ناس من أهل البلد فلم يُعرفوا لم يجز بعد على أولئك تعديل، ولو كان المعدلون الأولون غرباء فعدلهم ناس من أهل البلد فلم يعرفوا، ثم عدل أولئك غيرهم من أهل البلد فلم يُعرفوا جاز أيضا أن يعدلهم غيرهم ثم لم تجز بعد عليهم، هذا نص [قول] ما ذكره ابن حبيب في الواضحة، وهو غلط، والصواب ولو كان المعدلون الأولون غرباء فعدلهم ناس من أهل البلد فلم يعرفوا جاز أيضا أن يعدلهم غيرهم، ثم لم يجز بعد عليهم غيرهم، فإذا سقط المضروب عليه فيما نص عليه ابن حبيب صحت المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: عدله أربعة وجرحه رجلان]
مسألة قيل له: فإن عدله أربعة وجرحه رجلان، وقد تكافؤا في العدالة والأربعة أعدل من الرجلين اللذين جرحاه إلا أنهم كلهم عدول، بشهادة من تأخذ من ذلك؟ قال: آخذ بشهادة المجرحين؛ لأن اللذين جرحاه قد اطلعا منه على شيء لا علم للمعدلين به.(10/135)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: معروفا بالعدالة قال المجرحون نشهد أنه غير عدل ولا رضى]
مسألة قيل: فلو أن المجرحين قالوا للقاضي: نشهد أنه عندنا غير عدل ولا رضى ولم يصفوه بزنى ولا أَنْبِذَةٍ ولا بِقِيَان هل يكون ذلك تجريحا؟ قال: نعم يكون تجريحا إذا كان الشهود من أهل الانتباه والمعرفة بما يجرح به الرجل، قال أشهب: إذا كان الرجل معروفا بالعدالة مشهورا فيها؟ فقال المجرحون: نشهد أنه غير عدل ولا رضى لم يقبل منهم حتى يبينوا جرحتهم إياه ما هي وينصوها إلا أن يكون الرجل ليس بمشهور في العدالة، وإنما استخبر بمن يعدله فيجزي المجرحين بأن يقولوا: نعلم غير عدل ولا رضى كما يقول المعدلون له نعلمه عدلا رضى.
قال محمد بن رشد: تفرقة أشهب بين من كان مشهور العدالة وبين من لم يقبل إلا بتعديل لها وجه من النظر، وقول سحنون في مساواته بين الوجهين أظهر، والله أعلم؛ إذ قد قيل: إنه ليس للحاكم أن يكشف عن السبب الذي جرحوا به الشاهد؛ لأنهم قد يقولون: زنى وهم أربعة فيرجم إن كان محصنا أو يقولون: شرب خمرا فيحد فستر الحاكم على الشاهد وترك كشفه وإسقاط شهادته لتجريح من جرحه من العدول أولى من الكشف عن أمر قد تسوء العاقبة فيه، وستر المعترف بالذنب أولى من كشفه إلى حكم؛ لأنه إذا بلغ إليه لم يكن له إلا إقامة الحد ولا عفو له ولا شفاعة تنفع إذا رفع إليه والستر عليه يختار ما لم يبلغ إلى حاكم لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -(10/136)
لهزال: «يا هزال، لو سترته بردائك؛ لكان خيرا لك» . وقوله: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا، فليستتر بستر الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله» ، وقوله لصفوان إذ عفا عن سارق ردائه بعد أن رفعه إليه: «فهلا قبل أن تأتيني به» وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة من يستحلف أباه جاهلا في الحقوق]
مسألة قيل لسحنون فالذي يقطع الدنانير والدراهم هل يكون هذا جرحة؟ فقال: ليس هذا جرحة عندي وأراه خفيفا، قال أصبغ: قال ابن القاسم في الذي يقطع الدراهم جاهلا بكراهيتها، أو يستحلف أباه جاهلا في الحقوق أنه عقوق، وأنه لا تجوز شهادته، وإن كان جاهلا.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم في كتاب ابن المواز في الذي يقطع الدنانير أنه ترد شهادته، إلا أن يعذر بجهل، فهي ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك ليس بجرحة، وإن لم يكن جاهلا، وهو ظاهر قول سحنون. والثاني: أن ذلك جرحة، وإن كان جاهلا يظن أن ذلك جائز له، وهو قول ابن القاسم، في رواية أصبغ عنه هذه. الثالث: أن ذلك جرحة إلا أن يعذر بجهل، وهو قول ابن القاسم، في كتاب ابن المواز، وهذا الاختلاف عندي إنما هو إذا قطع الدنانير والدراهم وهي وازنة، فردها ناقصة(10/137)
في البلد الذي لا تجوز فيه الناقصة، وهي تجري فيه عددا بغير وزن على أن ينفقها، ويبين بنقصانها ولا يغش بها، فلم ير سحنون قطعه إياها على هذا الوجه جرحة، إذا كان لا يغش بها غيره، ورأى ابن القاسم في رواية أصبغ ذلك جرحة، وإن جهل أن ذلك لا يجوز له؛ لأن المكروه في ذلك بيِّن، لا يصدق أحد في أنه جهله، ورأى ابن القاسم، في كتاب ابن المواز أنها جرحة إلا أن يعذر بجهل، وهذا أعدل الأقوال، وأما إن قطعها وردها ناقصة، وغش بها، فلا إشكال، ولا اختلاف في أن ذلك جرحة، تسقط عدالته وشهادته، وأما إن قطعها وهي مقطوعة أو غير مقطوعة، إلا أنها لا تجوز بأعيانها، وإنما يتبايع بها بالميزان، فلا إشكال ولا اختلاف في أن ذلك ليس بجرحة، وإن كان عالما بمكروه ذلك، ويحتمل أن يكون تكلم سحنون على قطع الدنانير المقطوعة، أو التي ليست بمقطوعة، وهي تجري بالميزان، وتكلم ابن القاسم في رواية أصبغ عنه على قطع الدنانير التي تجوز بأعيانها وردها ناقصة ليغش بها، وتكلم فيما حكى عنه ابن المواز على أنه فعل ذلك، وبين بنقصانها، ولم يغش بها، فلا يكون في شيء من ذلك اختلاف، وقد مضى تحصيل القول فيما يجوز من قطع الدنانير والدراهم، مما لا يجوز في قول أصبغ من سماع ابن القاسم وغيره، من كتاب الصرف، فمن أحب الوقوف على الشفاء من ذلك تأمله في تلك المواضع، وسيأتي في آخر رسم القضاء المحض، من سماع أصبغ، القول في تحليف الرجل أباه هل هو جرحة أم لا؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: هل يمكن القاضي المشهود عليه من التجريح في كل الشهود]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت التجريح هل يمكن القاضي المشهود عليه من التجريح في كل الشهود إذا طعن الخصم في ذلك، أو طلب إليه أن يمكنه من التجريح، هل يمكنه في الرجل البائن(10/138)
الفضل المبرز في العدالة؟ قال: نعم، يمكنه من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرء يجرح أخوه بأنه عدو]
مسألة قال سحنون: إذا جاءت الجرحة في الإخوة والعم الأدنى ذي الرأي والشرف والتجمل؛ فإنه لا يجرح أخ من جرح أخاه ولا عمه الذي هذه حالهما؛ لما يدافع من عيب من هو وجهه ولسانه، ومن جرحته له سبة، وعيب عليه، وهذا كله يرجع من الموالي أنه كان يدفع ذلك عن نفسه، قال: وأما سوى هؤلاء فجرحته وشهادته وعدالته له جائزة، قلت: أفيجرح المرء عن ابن أخيه وعن ابن عمه؟ قال: نعم، هذا ... ولا يشتم أحد بابن عمه أنه غير عدل، ولا يدخل منه حشمة ولا عيب إلا ما هو بعيد، لا ترد من أجله شهادته ولا تقوى به تهمته، وسئل عن المرء يجرح أخوه بأنه عدو، هل يجرح أخ المجروح من جرح أخاه؟ قال: نعم، لا عيب في العداوة، ولا حشمة وصير جرحة بالعداوة قليل، ألا ترى أن شهادته في أعظم من الجرحة بالعداوة نفعا وخطرا جائزة، وهو أن يشهد له بالمال العظيم، ويخرجه عنه من(10/139)
شهد عليه بالمال العظيم ذلك جائز منه، لا اختلاف فيه عند أحد من علمائنا.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: إن هذا الشاهد يجرح من جرح أخاه بعداوة صحيح على القول بأنه يعدله، وأما على القول بأنه لا يعدله، فلا يجرح من جرح أخاه بعداوة ولا بإسفاه، وقد قيل: إنه يجرح من جرحه بعداوة أو بإسفاه على القول بأنه يعدله، وهو ينحو إلى قول من يجيز شهادته له فيما عدا الأقوال مما تقع فيه الظنة بالعصبية والحمية من القتل والحدود، فقول سحنون هذا في تفرقته بين أن يجرح من جرحه بعداوة أو بإسفاه قول ثالث في المسألة، فلا يجوز على مذهبه لمن جرح أخوه بفسق، أن يجرح من جرحه بفسق ولا بعداوة، ويجوز لمن جرح أخوه بعداوة أن يجرح من جرح أخاه بفسق وبعداوة، ولا اختلاف في أن للرجل أن يجرح من جرح عمه بعداوة؛ إذ لا اختلاف في أنه يعدله، وإنما يختلف في تجريح من جرحه بإسفاه على قولين، فإنما يتحصل الثلاثة الأقوال في تجريح الرجل من جرح أخاه، ورأيت لابن دحون أنه قال: معنى قول سحنون إذا جرح عمك وأخوك بفسق، فلا يجوز لك أن تجرح من جرحه بفسق، ويجوز لك أن تجرحه بعداوة، وإن جرح عمك أو أخوك بعداوة، جاز لك أن تجرح من جرحه بفسق أو عداوة، وهو بعيد غير صحيح في المعنى، فتدبره.
وقد مضى في أول رسم، من سماع ابن القاسم، تحصيل القول فيما تجوز فيه شهادة الأخ لأخيه مما لا تجوز، والأصل في هذا الاختلاف كله قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه» والظنين المتهم، فاختلافهم إنما يعود إلى ما يغلب على ظن كل واحد منهم في أنه متهم في المعنى الذي شهد فيه أو غير متهم فيه؛ إذ هو الذي تعبد(10/140)
الحاكم كما أنه تعبد في أن يقبل شهادة الشاهد، إذا غلب على ظنه عدالته، ويردها إذا غلب على ظنه أنه غير عدل، أو لم يكن له به علم؛ إذ لا طريق له إلى العلم بذلك والقطع عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد عليه فيقيم المشهود عليه البينة أنه عدو له مهاجر له]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يشهد عليه الرجل، فيقيم المشهود عليه البينة أنه عدو له مُهَاجِر له، هل تسقط عنه شهادته؟ فقال: إن كان عدوا له أصل عداوتهما في أمر الدنيا في الأموال والمواريث والتجارات، ونحو ذلك من أمر الدنيا، فإن شهادته عنه ساقطة، وإن كانت عداوة الشاهد للمشهود عليه إنما هي غضب لله لجرمه وخونه وفسقه، وجرأته على الله، لا لغير ذلك، فأرى شهادته غير ساقطة.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا صحيح مفسر لجميع الروايات؛ لأن العداوة إن كانت غضبا لله، فهي واجبة، ولا تسقط شهادة الشاهد بما هو مأمور به، وواجب عليه، وإنما تسقط بما هو منهي عنه، ومحظور عليه، من الهجران الذي هو محرم في الشريعة؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» ، ولهذا المعنى لم تسقط شهادة القاضي على من أقام عليه حدا، أو ضربه في أمر يوجب عليه الضرب، على ما مضى في أول رسم الصبرة، من سماع يحيى، وبالله التوفيق.(10/141)
[مسألة: بين الرجل وبين آخر خصومة شهادة أحدهما على صاحبه]
مسألة قال لسحنون: قال ابن وهب: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه قال: إن كان بين الرجل وبين آخر خصومة، لم تبلغ تلك الخصومة أن كانت بينهما فيها مشاتمة، فإن شهادة أحدهما على صاحبه جائزة، وإن كان بينهما عداوة معلومة لم تجز شهادته عليه، وإن كانت بينهما عداوة ثم اصطلحا بعد ذلك؛ جازت شهادته عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع أشهب، وفي رسم باع شاة، من سماع عيسى، وتأتي في نوازل أصبغ فنتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله.
[مسألة: شهادة المنجم]
مسألة وسئل سحنون عن شهادة المنجم الذي يدعي أنه يعرف القضاء، هل تجوز شهادته؟ قال: هذه جرحة بينة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يعرف القضاء؛ معناه أنه يدعي أنه يعرف من ناحية النظر في النجوم ما قضى الله به وقدّره قبل أن يكون، والقول بهذا ضلال ليس بكفر، فهي جرحة بينة على ما قال، وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلطان، فمن أحب الوقوف عليه، والشفاء من معرفته، تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة تارك الجمعة]
مسألة قال سحنون عن ابن وهب في تارك الجمعة بقرية يجمع فيها من غير مرض ولا علة، قال: لا أرى أن تقبل شهادته، قال(10/142)
سحنون: إذا تركها ثلاثا متواليا؛ للحديث الذي جاء، قال أصبغ: قال ابن القاسم في الذي يترك الجمعة، يرى أن ترد شهادته، إلا أن يعرف له عذر، ويساءل عن ذلك ويكشف، فإن علم له عذر من وجع أو أمر أو اختفاء من دين، أو ما أشبه ذلك؛ فأرى ألا ترد شهادته، وإن كان على غير ذلك رأيت أن ترد شهادته إلا أن يكون ممن لا يتهم على الدين ولا على الجمعة لبروزه في الصلاح وعلمه، فهو أعلم بنفسه، قال أصبغ: والمرة الواحدة في ذلك إذا تركها من غير عذر تهاونا بها ترد شهادته، ولا ينتظر به ثلاثا؛ لأن ترك هذه الفريضة ثلاثا وأقل وأكثر سواء، هي فريضة مفروضة مفترض إتيانها كفريضة الصلاة لوقتها، فلو ترك الصلاة لوقتها متعمدا مرة واحدة لم ينتظر به أن يفعل ثلاثا، وكان بمنزلة التارك أصلا للأبد؛ لأنه عاص لله في قليل فعله دون كثيره، ومتعد لحدوده، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] .
والذي قيل فيمن ترك الجمعة ثلاثا طبع الله على قلبه، إنما هو في الإثم والنفاق، وينتظر به الثالثة للتوبة، فإن فعل وإلا طبع الله على قلبه، وليس ذلك في الترك له هملا، ولا في الإبطال لشهادته، لا، بل يطرح ويوقف ويعاقب إن شاء الله، وقد بلغني عن بعض الأمراء ممن مضى من أئمة الدين، أنه كان يأمر إذا فرغ من الجمعة أن من وجد لم يشهد الجمعة ربط في عمود وعوقب، وأراه عمر بن عبد العزيز، قال أصبغ: لا، بل لا أشك فيه أنه عمر بن عبد العزيز، وقد قال تعالى:(10/143)
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] عزيمة، وأمر مأمورا به، موجب ليس فيه ترفيه لبعض ببعض.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: إن شهادة التارك للجمعة بقرية يجمع فيه أهل الجمعة، لا ترد إلا أن يفعل ذلك ثلاثا متوالية أظهر مما ذهب إليه أصبغ، من أنها ترد بالمرة الواحدة، ومعنى ما ذهب إليه سحنون إنما هو إذا لم يعلم له في ذلك عذر، ولم يكن معروفا بالفضل والصلاح على ما قاله ابن القاسم؛ لأن من لم يعلم بالصلاح والفضل إذا ترك الجمعة ثلاثا متواليا لا يصدق فيما يدعيه من العذر، بخلاف من علم بالصلاح والفضل، فليس قول ابن القاسم وسحنون بمخالف؛ لقول ابن وهب، والله أعلم.
وإنما قلنا: إن قول سحنون أظهر من قول أصبغ من أجل أن المسلم لا يسلم من مواقعة الذنوب، فإذا ثبت هذا وجب ألا يجرح الشاهد العدل بما دون الكبائر من الذنوب التي يقال فيها: إنها صغائر، بإضافتها إلى الكبائر، إلا أن يكثر منها، فيعلم أنه متهاون بها، وغير متوق منها؛ لأن من كانت هذه صفته فهو خارج عن حد العدالة؛ ولما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر ولا علة؛ طبع الله على قلبه بطابع النفاق» دل على أن ما دون الثلاث بخلاف ذلك في عظم الإثم، وشرط الوعيد، فوجب أن يلحق ذلك بالصغائر، ولا ترد شهادة من ترك الجمعة مرة واحدة اشتغالا بما سواه من أمور دنياه حتى يفعل ذلك ثلاثا متواليات، فيتبين بذلك أنه متهاون بدينه(10/144)
غير متوق فيه، وكذلك القول في تارك صلاة واحدة من الصلوات حتى يخرج وقتها من غير عذر، لا يجب أن ترد بذلك شهادته حتى يكثر ذلك من فعله، واحتجاج أصبغ لرد شهادته بذلك، بقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] غير صحيح؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو لمن عصى الله ورسوله بترك الإيمان، وتعدي حدود الإسلام؛ لأن الخلود في النار، إنما هو من صفات الكفار، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل يجوز للشهود أن يشهدوا لرجل بحق ويجرحوا له الذين شهدوا عليه]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الشهود هل يجيز لهم أن يشهدوا لرجل بحق، ويجرحوا له الذين شهدوا عليه في ذلك الحق؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأن ذلك معنيان، فجائز أن يشهدوا له بهما جميعا كما يجوز أن يشهدوا له بحقين مختلفين، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة تارك الحج القادر عليه]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يكون قويا على الحج كثير المال لا يحج، هل يكون ذلك جرحة يطرح بها علمه؟ فقال: إن كان قويا على الحج لا يعذر بقلة مال، ولا بضعف بدن، وتطاول زمانه، ووفره متصل، ولم يحج، فلا أرى شهادته جائزة، قيل له: فإنه يعرف، وهو ابن عشرين سنة كثير المال، قوي البدن، لم يزل وفره متصلا(10/145)
حتى بلغ ستين سنة لم يحج.
فقال: إذا تطاول أمره هكذا، أو ما أشبه هذا، فإني أرى شهادته غير جائزة كما أعلمتك، قيل له: أفلا يعذر بالأندلس وبعد الشقة والبحر الذي بينهم وبين الحج؟ فقال: لا، قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ، وهذا إذا كان في موضع يبعد عن الحج، أفلا يرتحل عنها إلى موضع لا يكون بينه وبين الحج بحر، فلا أرى له عذرا، وإن كان بالأندلس.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الحج من أحد دعائم الإسلام الخمس، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا» ، فإذا ترك الرجل الحج حتى طال زمانه الستين سنة ونحوها، وهو قادر عليه بوفور ماله وصحة بدنه مع السبيل الآمنة، وجب أن ترد بذلك شهادته، وإنما شرط الطول في ذلك مع القدرة لاختلاف أهل العلم في الحج هل هو على الفور أم في التراخي، فلا يكون من أخر الحج وهو قادر عليه قد أتى كبيرة؛ إذ من أهل العلم من يقول: إن ذلك جائز له، لا إثم عليه فيه، ولا حرج إلا أن يؤخره تأخيرا كبيرا يغلب على الظن فواته به، والذي أقول به: إن ذلك لا يكون إلا بعد بلوغ حد التعمير، وهو سبعون سنة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «معترك أمتي ما بين الستين إلى السبعين» فمن ترك الحج بعد السبعين، وهو قادر عليه، فهو عندي(10/146)
آثم بإجماع مجرح ساقط الشهادة، وإن لم يقم لنا دليل أنه آثم فيما دون السبعين، فإذن أسقط سحنون شهادته فيما قاربها من الستين من أجل أن من شرط الشهادة أن يكون مرضيا بما يظهر من أفعاله؛ لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، ومن أخر الحج تأخيرا كبيرا من غير عذر، فليس بمرضي في ظاهر أمره، وإن لم يكن آثما عند ربه بما له في ذلك من السعة باختلاف أهل العلم، وفي المدنية لابن دينار، وابن القاسم من رواية عيسى عنه أن الشيخ الكبير الذي لم يحج وهو موسر، شهادته جائزة؛ لأنه عسى أن يكون له علة، ويقول: أحج بعد اليوم، وهذا صحيح إذا ادعى أن له علة، وأما إن أقر أنه لا علة له، ولم يحج، وهو شيخ كبير، قد تجاوز حد التعمير؛ فشهادته ساقطة على كل حال؛ لأن للواجب على التراخي حالا يتعين فيها الأداء، وهي الحال التي يغلب فيها على ظن المكلف فوات الفعل بالتأخير، وهو بلوغ حد التعمير في مسألتنا هذه، وقوله في أهل الأندلس: إنه لا عذر لهم في ترك الحج بسبب البحر؛ لقدرتهم على الانتقال إلى موضع لا يكون بينهم وبين الحج بحر؛ معناه أنهم إن كانوا من أهل الأندلس بموضع يتعذر الجواز منه، فإنهم يقدرون على الانتقال منه إلى موضع لا يتعذر الجواز منه، فإنما تكلم والله أعلم على ما وصف له من تعذر الجواز في البحر في موضع دون موضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الذي لا يؤدي زكاة ما له]
مسألة وسئل سحنون عن الذي لا يؤدي زكاة ما له، هل يكون ذلك جرحة يطرح بها علمه؟ فقال: نعم، لا شك فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا شك فيه؛ لأن الله قد قرن(10/147)
الصلاة بالزكاة في غير ما آية من كتابه، وقال أبو بكر الصديق: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فمن لم يؤد زكاة ماله فهو فاسد ساقط الإمامة والشهادة. وهذا إذا أقر على نفسه أنه لا يؤدي زكاة ماله، وأما إذا لم يقر على نفسه بذلك فشهادته جائزة؛ لأن ذلك من السرائر، وعسى إن لم يؤدها ظاهرا خوفا من السلطان أن يؤديها سرا، وهو نص قول ابن دينار، وابن القاسم من رواية عيسى عنه في المدنية، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد عند القاضي في حق والشاهد غير عدل]
مسألة وسئل سحنون عن رجل شهد عند القاضي في حق، والشاهد غير عدل، هل يجوز لي أن أجرحه وأنا أعلم أنه شهد علي، وأنا شاهد على ذلك الحق، وأنا أعلم أنه غير عدل؟ فقال: لا يجوز لك أن تجرحه، فكيف يجوز لك أن تجرحه، وأنت ترى حقا قد وقف على الهلاك، إن جرح الشاهد هلك المال، وفي هذا آثار.
قال محمد بن رشد: هذا ما مضى في سماع سحنون، وهو أصح مما تقدم في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، وفي أول رسم من سماع عيسى، وقد مضى القول على ذلك، فلا معنى لإعادته، وقال سحنون: إذا أخبر الشاهد بالدين رجلان أو رجل وامرأتان أنه قضاه، فلا يشهد، ووقف إذا لم يخبره إلا رجل واحد، وبالله التوفيق.(10/148)
[مسألة: شهادة من ضرب في الحد]
مسألة ابن وهب، عن معاوية بن صالح: أن العلاء بن الحارث حدثه عن مكحول أنه قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز شهادة ستة: مضروب في حد، ومجرب عليه شهادة زور، والخائن، والخائنة، والقانع، وذو الغمر» والغمر الغل.
قال محمد بن رشد: ليس في قوله في هذا الحديث: «لا تجوز شهادة ستة» دليل على أنه تجوز شهادة غيرهم، والمعنى في ذلك أنه خرج على سؤال سائل سأل عن هذه الستة فقال: إنه لا تجوز شهادتهم، فسماهم ولم يحصرهم بعدد، وعددهم الراوي، وأخبر بعدد من سمع منه أنه لا تجوز شهادته، وإنما لم تجز شهادة من ضرب في الحد، وإن كانت الحدود كفارات لأهلها على ما جاء في الصحيح من الآثار؛ لأن الحد إنما يرفع الإثم، ويبقى عليه حكم الفسق، فإن تاب وظهرت توبته قبلت شهادته باتفاق، إلا أن يكون حدا في قذف، فقد قيل: إن شهادته لا تجوز وإن تاب؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ، وهو مذهب أهل العراق، والصحيح أنها جائزة إذا تاب، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، وصفة توبته عند مالك أن يظهر صلاح حاله أو الزيادة في صلاحها، وعند غيره أن يكذب نفسه، ويقر عليها أنه شهد بالزور، وأما من جربت عليه شهادة زور، فلا تجوز شهادته، وإن تاب، وقيل: إنها تجوز إن تاب، وقيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، والمعنى في ذلك أنه إن أتى تائبا، فأخبر أنه شهد بزور قبلت توبته، وإن عثر عليه أنه شهد بزور لم تقبل توبته، وإن(10/149)
تاب، وهو الصحيح إن شاء الله، وأما الخائن والخائنة فلا اختلاف في أن شهادتهما غير جائزة؛ لأن الخيانة فسق تبطل به الشهادة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ، وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الآية.
وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من علامات المنافق: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر» الحديث، فمن خان أمانته لن تقبل شهادته، وأما القانع فهو السائل، وشهادته لا تجوز إذا كان يتكفف الناس، ويسأل في عامتهم، إلا الشيء اليسير، وأما إذا لم يسأل في العامة، وإنما سأل سؤالا خاصا، فقد مضى من القول فيه في رسم الأقضية، من سماع يحيى ما فيه كفاية، وأما ذو الغمر فهو العدو، ولا اختلاف في أن شهادته لا تجوز على عدوه إذا كانت عداوته لغير الله على ما مضى فوق هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة ذي الظنة والحنة]
مسألة ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، عن الحكم بن مسلم السالمي، عن الأعرج، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه: «قضى ألا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة» .
قال محمد بن رشد: ذو الظنة هو ذو التهمة، والمتهم في شهادته لا(10/150)
تجوز باتفاق، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، ولا جار إلى نفسه» والحنة هي العداوة. وقد مضى القول فيها، وفي بعض الروايات الحنة من الحقوق، وهو تصحيف، والله أعلم.
[مسألة: الموقوف على الحد هل تقبل شهادته]
مسألة ابن وهب، عن يحيى بن أبي أيوب، عن المثنى بن الصباح، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا موقوف على حد» .
قال الإمام القاضي: الموقوف على الحد هو الذي ثبت عليه ما يوجب أن يحد من أجله من زنا أو قذف أو شرب خمر أو ما أشبه ذلك، ولا اختلاف في أن شهادته لا تجوز، وإن تاب؛ لأن توبته لا تسقط عنه الحد، فإذا حد قبلت شهادته إن تاب، وقد مضى هذا قبل هذا، وقد مضى القول في الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه، والله الموفق.
[مسألة: شهادة الأخ لأخيه في النكاح]
مسألة وقال سحنون: لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النكاح، إذا(10/151)
كانت الشهادة على أشراف قوم هم أشرف منهم؛ لأنه يتهم إنما يريد أن يشرف نفسه بتزويج أخيه إليهم، فهو متهم في هذه الشهادة.
قال الإمام القاضي: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى، في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: خاصم في أرض فأتى بالبينة على صاحبه فشهد له شاهد شهادة عليه فيها مضرة]
مسألة وسئل عن رجل خاصم في أرض أو دار، فأتى بالبينة على صاحبه، فشهد له شاهد شهادة عليه فيها مضرة، وعلى رجل آخر غائب عنهم في البلد، أو غير البلد الذي اختصما فيه، وليس بين الغائب والحاضر الذي شهدت عليه البينة شرك بمورث في الأمر الذي شهدوا فيه، فأتى الغائب فأخبره الحاكم بما شهدت عليه البينة، فيقول الغائب: لم أحضر شهادتهم، فمن البينة التي شهدت له علي، وأنا في البلدان غائب عنهم، أردهم حتى يشهدوا بحضرتي، فإن لي في ردهم منفعة، قال: إذا كان المشهود عليه حاضرا في القرية التي فيها المنازعة أو قريبا منها، فإنه يؤمر بإحضاره لتشهد البينة عليه، وأما الغائب البعيد الغيبة، فلا أرى ذلك، فإن قصد الحاكم في أن يأمر بإحضار الحاضر أو القريب الغيبة، ثم أتى الخصم فسأل إعادة البينة، فإني أرى أن يعيدها إن قدر على ذلك، وإن لم يقدر على ذلك لمغيب البينة، فقد فات ذلك، وصارت حاله إلى حال الغائب البعيد الغيبة، فليدفع شهادتهم بما يقدر عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المشهود عليه إن كان حاضرا في القرية التي فيها المنازعة أو قريبا منها، فإنه يؤمر بإحضاره لتشهد البينة عليه استحسان، والقياس ما في كتاب الأقضية من المدونة: أن البينة لا تعاد،(10/152)
ويعلمه الإمام بهم، وهذا إذا كان المشهود عليه مشهور العين، وأما إذا لم يكن مشهور العين، فلا بد من إعادة الشهادة على عينه إذا أنكر في القريب والبعيد، وهو قول ابن الماجشون وغيره: إن المشهود عليه إذا كان مشهور العين لم يحتج إلى الشهادة على عينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: النكاح أيجوز للرجل أن يشهد عليه بالسماع]
مسألة وسئل عن النكاح أيجوز للرجل أن يشهد عليه بالسماع كما يشهد على الموت؟ قال: أما جل أصحابنا، فإنهم يقولون في النكاح إذا اشتهر الخبر في النكاح أن فلانا تزوج فلانة، وسمع الدفاف، وكثر به القول أن فلانا تزوج فلانة، فإنه يجوز للرجل أن يشهد أن فلانة هي امرأة فلان، وكذلك في الموت يسمع النياحة، ويشهد الجنازة أو لا يشهد، إلا أنه يكثر به القول من الناس: إنا شهدنا جنازة فلان، فالشهادة فيه جائزة أن فلانا مات، وإن لم يحضر الموت، وكذلك النسب يسمع الرجل الناس يقولون فلانا هو ابن فلان، ويكثر بذلك القول أنه يشهد على نسبه، وكذلك القاضي يتولى القضاء ولا يحضره حين ولي إلا بما سمع من الناس، ورآه يقضي بين الناس، فإنه يشهد أنه كان قاضيا، فهذه الأربعة وجوه تجوز فيها الشهادة على السماع.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن هذه الأربعة الأشياء تجوز الشهادة فيها على القطع من جهة السماع إذا انتشر ذلك، واستفاض وكثر به القول حتى وقع العلم به للشاهد من جهة السماع، وكذلك ما عدا هذه الأربعة الأشياء؛ لأن الأخبار المتواترة يقع العلم بها ضرورة فيما طريقه العلم، وغلبة الظن فيما طريقه غلبة الظن، كالتعديل والترشيد وشبه ذلك.
وفي قوله: أما جل أصحابنا إلى آخر قوله دليل على أن منهم من لا يقول بذلك، ولا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف بينهم هل تجوز في هذه الأربعة(10/153)
الأشياء، وفيما سواها الشهادة على السماع دون القطع بأن يقولوا: سمعنا سماعا فاشيا من أهل العدل وغيرهم كذا وكذا، ويحكم بذلك، أو لا يجوز ولا يحكم به، فالذي عناه سحنون والله أعلم بقوله في هذه الرواية أما جل أصحابنا، فإنهم يقولون: إن الشهادة في هذه الأربعة الأشياء تجوز على القطع من ناحية السماع، ولا تجوز على السماع دون القطع؛ إذ من شأنها أن تستفيض حتى تصح الشهادة فيها على القطع، وإن غير الجل يجيزون فيها أعني في هذه الأربعة الأشياء شهادة السماع بدون القطع، كما يجيزون ذلك في غيرها، وقد قيل: السماع دون القطع لا يجوز إلا في هذه الأربعة أشياء، فيتحصل فيما تجوز فيه الشهادة على السماع دون القطع أربعة أقوال؛ أحدها: أن الشهادة على السماع دون القطع لا تجوز لا في هذه الأربعة الأشياء، ولا فيما سواها، وهو مذهب ابن القاسم؛ لأنه قال في المدونة: إن شهادة السماع لا يثبت بها النسب ولا الولاء ويقضي له بالمال دون ثبات النسب والولاء، وكذلك لم يرها عامة في الحبس إلا مع القطع على المعرفة بأنها تحترم بحرمة الأحباس، ولا في الشراء المتقادم إلا مع الحيازة. والثاني: أنها تجوز في هذه الأربعة أشياء وفيما سواها، وهو دليل ما حكاه ابن حبيب في الواضحة من إجازة الشهادة على السماع في الملك دون الحيازة، وما تأولناه على سحنون فيما حكاه عن غير الجل من أصحاب مالك. والثالث: أن شهادة السماع تجوز فيما عدا هذه الأربعة أشياء، ولا تجوز في هذه الأربعة أشياء، وهو الذي تأولناه من حكاية سحنون عن جل أصحاب مالك في هذه الرواية. والرابع: أن شهادة السماع تجوز في هذه الأربعة أشياء، ولا تجوز فيما عداها عكس القول الثالث.
وقد مضى في آخر رسم الأقضية، من سماع يحيى الاختلاف في إجازة شهادة السماع في النكاح، وسيأتي في سماع أصبغ القول في إجازتها في الضرر بين الزوجين، وبالله التوفيق.
[مسألة: يلزم الشاهد أن يأتي لأداء شهادته]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الشاهدين يأتيهما صاحب الشهادة أن(10/154)
يشهدا له فيقولا له: الهبوط إلى الحاضرة يشق علينا، إلا أن تنفق علينا وتعطينا دواب نهبط عليها؟ قال: أما إذا كان مثل الساحل منا، فأرى للقاضي أن يكتب إلى رجل يشهد عنده الشهود، ويكتب شهادتهم، ولا يعني الشهود إليه بالقدوم، قال: ولا ترى هذه ولاية للمشهود عنده؟ قال: لا يستغني القاضي عن مثل هذا، قيل له: وكم بعد الساحل من هاهنا؟ فقال: ستون ميلا، فقال له: فإن كان الشهود على بريد أو بريدين فقال: إذا كان الشهود يجدون الدواب والنفقة، فلا أرى لصاحب الحق أن يعطيهم دواب ولا نفقة، فإن فعلوا فشهادتهم ساقطة؛ لأنهم قد ارتشوا على شهادتهم، قيل له: فلو كانوا لا يجدون النفقة ولا الدواب؟ فقال: لا أرى بأسا أن يكري لهم دواب، وينفق عليهم.
قال الإمام القاضي: الأصل في هذه المسألة قول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ؛ لأن معناه عند أهل العلم فيما قرب دون ما بعد، وهذا مما يخصص فيه عموم القرآن بالإجماع، فإذا كان الشاهد بحيث يلزمه الإتيان لأداء شهادته، فواجب عليه أن يركب دابته، ويأكل طعامه، فإن لم يفعل وركب دابة المشهود له، وأكل طعامه سقطت شهادته؛ لأنه قد ارتشى عليها؛ إذ قد أخذ من المشهود له ما يلزمه القيام به من ماله، وخفف ذلك ابن حبيب إذا كان ذلك قريبا وكان أمرا خفيفا، وينبغي أن يحمل على التفسير لقول سحنون، فالقريب الذي يلزم الشاهد أن يأتي لأداء شهادته ينقسم على هذا التأويل قسمين: قريب جدا تقل فيه النفقة ومؤنة الركوب، فهذا لا يضر الشاهد ركوب دابة المشهود له، وإن كانت له دابة، ولا أكل طعامه، وغير قريب جدا تكثر فيه النفقة ومؤنة الركوب فهذا تبطل فيه شهادة الشاهد إن ركب دابة المشهود له، وله دابة أو أكل طعامه عند سحنون، وقد قيل: إنها لا تبطل شهادته بذلك، وهو ظاهر قول ابن(10/155)
حبيب في الواضحة عن مطرف وأصبغ في الشاهد يشهد في الأرض النابتة، فيحتاج إلى تعينها بالحيازة لها، أنه لا بأس أن يركب دابة المشهود له، ويأكل طعامه، وهو الأظهر؛ إذ ليس ما يصير إلى الشاهد من هذا مالا يتموله. فإن قيل: إنه يوفر بأكل مال المشهود له نفقته على نفسه، قيل له: هذا يسير، لا يتهم الشاهد في مثله، وأما إن كان الشاهد لا يقدر على النفقة، ولا على اكتراء دابة، وهو ممن يشق عليه الإتيان راجلا، فلا تبطل شهادته إن أنفق عليه المشهود له، أو اكترى له دابة؛ إذ لم يسقط بذلك عن نفسه ما هو واجب عليه أن يفعله، وقد قيل: إنه تبطل شهادته بذلك إذا كان مبرزا في العدالة، وهو قول ابن كنانة.
وأما إذا كان الشاهد من البعد بحيث لا يلزمه الإتيان لأداء شهادته، وليس للقاضي من يشهد عنده بموضعه الذي هو به، فلا يضره أكل طعام المشهود له، وإن كان له مال ولا ركوب دابته، وإن كانت له دابة، وكذلك إذا احتجب السلطان عن الشاهد لم يضره أن ينفق عليه المشهود له ما أقام منتظرا له إذا لم يجد من يشهد على شهادته وينصرف، وقد قيل: إن شهادتهم تبطل بذلك؛ لأنهم يوفرون على أنفسهم النفقة، وهو الأظهر، فانظر على هذا أبدا إذا أنفق المشهود على الشاهد في موضع لا يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه جاز، وإن أنفق عليه في موضع يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه، فلا يجوز ذلك إلا فيما يركب الشاهد إذا لم تكن له دابة، ولم يقدر على المشي، فلا اختلاف في أنه يجوز للشاهد أن يركب دابة المشهود له، إذا لم تكن له دابة، وشق عليه المشي جملة من غير تفصيل بين قريب ولا بعيد، ولا موسر ولا معسر، وإنما يفترق ذلك حسبما ذكرناه في النفقة، وفي الركوب إذا كانت له دابة، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة المختفي]
مسألة وسئل سحنون عن شهادة المختفي فقال: أخبرنا ابن وهب، عن أشهل بن حاتم: أن شريحا والشعبي كانا لا يجيزان شهادة المختفي الذي يدخل بيت رجل.(10/156)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم باع شاة، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتجر في البادية فهلك فيها وكان معه غلام له فادعى الغلام أن سيده قد دبره]
مسألة قال سحنون: عن ابن القاسم، عن مالك، عن رجل كان يتجر في البادية فهلك فيها، وكان معه غلام له، فادعى الغلام أن سيده قد دبره فأقام شهودا من أهل شهادته على ذلك، فقال مالك: إذا كانوا عدولا جازت شهادتهم له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم القبلة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ترك عبدا فشهد أحد ولديه بعتق نصف العبد وشهد الآخر بعتقه كله]
مسألة وقال في رجلين هلك أبوهما، وترك عبدا، فشهد أحدهما أن أباه أعتق نصفه، وشهد الآخر أنه أعتق كله، فقال: قد اجتمعا على النصف، فهو حر، ويعتق على الذي أقر بالجميع ما يصير له من حصته منه؛ لأنه لا يكون ذلك ضررا على صاحبه؛ لأنه قد أفسد أولا، وليس يزيد ما أعتق منه أيضا فسادا، بل هو حينئذ يزيد خيرا فيعتق من العبد ثلاثة أرباعه، ويكون الربع رقا للذي شهد بعتق نصفه، ولا يعتق عليه؛ لأنه لم يحدث هو عتقا إنما أحدثه أبوه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(10/157)
[: كتاب الشهادات الرابع] [مسألة: شهدا لرجل بألف درهم قال أحدهما حل له الحق وقال الآخر بل إلى سنة](10/159)
قيل لسحنون: أرأيت إن شهد شاهدان لرجل بألف درهم، وقال أحدهما: قد حل له الحق، وقال الآخر: بل إلى سنة؟ فقال: إن شاء صاحب الحق أن يحلف مع شاهده الذي شهد له بحلولها، ويحق حقه فعل، وإن شاء كانت له إلى سنة، ولا يمين عليه، وليس هذا مثل الأول أن يقول المطلوب، فأنا أحلف مع الشاهد الذي يشهد علي بأنها إلى سنة، ويكون شاهدا لي بذلك؛ لأنه إنما شهد على الآخر، ولا يحلف في ذلك مع الشاهد الواحد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الشاهدين اجتمعا على أن الحق كان إلى سنة، فقال أحدهما: قد انقضت، وقال الآخر: لم تنقض بعد، فوجب أن يحلف الطالب مع شاهده الذي شهد له أنها قد انقضت؛ لأنه هو المدعي لانقضائها، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى، فلما أقام شاهدا على دعواه، كان من حقه أن يحلف مع شاهده، ولم يكن للمطلوب أن يحلف مع شاهده إلا أن ينكل الطالب عن اليمين، فيحلف هو ويكون المال إلى الأجل، ولو اختلف الشاهدان في الأجل، فقال أحدهما: كان إلى ستة أشهر فقد حل، وقال الآخر: كان إلى سنة، فلم يحل؛ لوجب أن يحلف المطلوب مع شاهده الذي شهد له بأن الحق كان(10/161)
إلى سنة؛ لأن شاهده زاد في شهادته على ما شهد به، شاهد الطالب بدليل أنه لو أقام كل واحد منهما شاهدين على دعواه؛ لوجب أن تكون بينة المطلوب أعمل؛ لأنها زادت، وهذا على المشهور من قول ابن القاسم في أن البينتين إذا اختلفتا في القلة والكثرة كانت البينة التي زادت أعمل، وقد قيل: إن ذلك تكاذب، وينظر إلى الأعدل منهما، وقد فرق بين أن تكون الزيادة في اللفظ، مثل أن تشهد إحدى البينتين بمائة، والثانية بمائة وخمسين، أو في المعنى، واللفظ مختلف، مثل أن تشهد إحداهما بمائة، والثانية بتسعين. وقوله: وليس هذا مثل الأول يريد مسألة جرت بينهما في المجلس لم تذكر، وهي المسألة التي بعد هذه، أو ما كان في معناها، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد له أحدهما بألف وشهد الآخر بخمسمائة]
مسألة قلت: أرأيت إن شهد شاهدان لرجل بألف درهم، وشهد أحدهما أنه قضى الطالب منهما خمسمائة درهم، وأنكر الطالب القبض؟ فقال: لا أرى الطالب يستحق بشهادتهما الألف؛ لأن أحدهما أدخل عليه في شهادته ما نقصت خمسمائة، فكأنه في هذا الموضع إنما شهد له أحدهما بألف، وشهد الآخر بخمسمائة، فإن شاء الطالب أخذ الخمسمائة بلا يمين فذلك له، وإن أحب أن يحلف ويستحق ألفا بالشاهد الذي شهد له بالألف، فإذا حلف استحقها إلا أن يحلف المطلوب مع الشاهد له بالقضاء منها خمسمائة أنه قضاه خمسمائة، فإن حلف لم يجب للطالب إلا خمسمائة، قال: وإن أبى المطلوب أن يحلف لم يكن على الطالب يمين؛ لأنه قد حلفه مرة على الذي يريد المطلوب أن يحلفه عليه الآن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مشكلة؛ إذ لا يخلو الأمر فيها من وجهين؛ أحدهما: أن يكون المطلوب مكذبا للشاهدين جميعا، منكرا لجميع(10/162)
الحق. والثاني: أن يكون مصدقا للشاهدين جميعا، مدعيا ما شهد له به أحدهما، من أنه قبض الطالب منه خمسمائة، فإن كان مكذبا للشاهدين جميعا، منكرا لجميع ذلك، كان وجه الحكم في ذلك أن يوقف الطالب، فإن كذب الشاهد الذي شهد بأن المطلوب قضاه خمسمائة، وقال: إنه شهد بزور، بطلت شهادته له بإقراره أنه شهد بزور، ولم يكن له أن يأخذ الخمسمائة حتى يحلف عليها مع الشاهد الآخر، وإن قال: إنه شبه عليه، ولم يتعمد الزور لم تبطل شهادته له، وأخذ الخمسمائة بلا يمين؛ لاجتماع الشاهدين له عليها، وإن شاء أخذ الألف بيمينه مع الشاهد الذي شهد له بها، ولم يكن للمطلوب أن يحلف مع الشاهد الذي شهد له بالقضاء؛ لأنه مكذب له، وإن صدقه وقال: إنه شهد بحق، أخذ الخمسمائة بلا يمين، ولم يكن له إلا ذلك.
وإن كان المطلوب مصدقا للشاهدين جميعا، مدعيا لما شهد له أحدهما من أنه قضى الطالب منها خمسمائة، كان وجه الحكم في ذلك أن يحلف مع شاهده الذي شهد له أنه قضاه خمسمائة، ويبرأ منها، ويؤدي إلى الطالب الخمسمائة الباقية، فإن نكل عن اليمين حلف الطالب أنه ما قضاه شيئا، وأخذ جميع الألف، فالمعنى في المسألة أنه أجاب فيها أولا على أن المطلوب مكذب للشاهدين جميعا، منكر لجميع الحق، وعلى أن الطالب يدعي الألف، وينكر الاقتضاء الذي شهد به أحد الشاهدين، ولا يدعي عليه تعمد الشهادة بالزور، فلذلك قال: إن الطالب مخير بين أن يأخذ الخمسمائة بلا يمين، أو الألف مع اليمين.
وقوله بعد ذلك: إلا أن يحلف المطلوب مع الشاهد له بالقضاء أنه قضاه خمسمائة إلى آخر قوله، معناه إن رجع بعد يمين الطالب على الألف إلى الإقرار بأصل الحق، وادعى ما شهد له أحد الشاهدين من القضاء؛ لأنه حينئذ يكون له ما ذكره من أن يحلف مع الشاهد له بالقضاء أنه قضاه خمسمائة، فإن حلف بطلت عنه، ولم يجب للطالب إلا خمسمائة، وإن نكل عن اليمين غرم الألف دون أن يحلف الطالب، وقد تقدمت يمينه، فهذا معنى المسألة عندي؛ إذ لو كان أولا مقرا(10/163)
بأصل الحق، مدعيا لقضاء الخمسمائة لما مكن الطالب من أن يحلف على الألف، ويستحقها إلا بعد أن ينكل المطلوب عن اليمين مع الشاهد الذي يشهد له بقضاء الخمسمائة، ولو كان أحدا متماديا على إنكاره أولا لأصل الحق وتكذيب الشاهدين؛ لما مكن من اليمين مع الشاهد بأنه قضاه خمسمائة لتكذيبه إياه، وهذا كله بين، والحمد لله.
[مسألة: هل تجوز شهادة بعضهم لبعض فيما تقاضى من الكراء]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت قوما تكاروا سفينة، وقدموا الكراء إلى صاحب المركب، فعطب المركب قبل البلاغ، فأرادوا الرجوع على صاحب المركب، فأنكرهم أنه ما تقاضى منهم شيئا، هل تجوز شهادة بعضهم لبعض فيما تقاضى من الكراء؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: أجاز شهادة بعضهم لبعض على صاحب المركب، وإن كان كل واحد منهم قد شهد لمن شهد له، وفي ذلك اختلاف: قيل: إن شهادة بعضهم لبعض جائزة، وإن كانت في مجلس واحد، وهو ظاهر قول سحنون هذا، وقيل: إنها لا تجوز، وإن كانت في مجالس شتى؛ إذ ليس موضع ضرورة، وكانوا يجدون من يشهد من سواهم إذا أرادوا أن ينقدوا الكراء، وإلى هذا رجع سحنون فيما حكى محمد عنه، وقيل: إنها إن كانت في مجلس واحد لم تجز، وإن كانت في مجالس شتى جازت، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وسواء تكاروا السفينة على أن لكل واحد موضعا بعينه، سماه منها بما سمى له من الكراء أو تكاروها منه جملة واحدة على الاشتراك فيها، والإشاعة إلا أن يشترط عليهم أن بعضهم حملاء عن بعض بما ينوبه من الكراء، فإن اشترط ذلك عليهم لم تجز شهادة بعضهم لبعض، فيما نقد من الكراء؛ لأنه يشهد لنفسه، ولا(10/164)
اختلاف في هذا؛ إذ ليس بموضع ضرورة، وقد مضى ذكر الاختلاف فيه في موضع الضرورة، في رسم الصبرة، من سماع يحيى، فتأمل ذلك هناك تجده فيه مستوفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال قتلني فلان فجاء المدعى عليه بالبينة أنه كان يوم ضرب ببلدة نائية]
مسألة وسئل عمن شهد له بدم على رجل أصابه عمدا، فجاء المشهود عليه بقوم يشهدون أن القاتل كان معهم يريد يوم قتل القتيل ببلدة نائية غير موضعه الذي قتل فيه، قال: وهذا مما وصفت لك في المسألة فوق هذا إذا حق الحق لأهله؛ فلا مخرج من شهادة الشهود إلا بجرحة، وقال أصبغ مثله، قيل: فرجل، قال: قتلني فلان فجاء المدعى عليه بالبينة أنه كان يوم ضرب هذا معهم ببلدة نائية غير موضعه الذي ضرب فيه، قال: يبرئه ذلك ويخرجه؛ لأنه خرج من حد الشهادة، وصار في حد الدعوى إلا أنها دعوى إن لم ترد حلف معها الولاة وقتلوه.
قال محمد بن رشد: أما الذي شهد له بدم عمد، فجاء المشهود عليه بشهود يشهدون أنه كان ذلك اليوم ببلد كذا ناء عن الموضع الذي قتل فيه، فالمشهور في المذهب ما قاله سحنون من أن الشهادة عامة على المشهود عليه بالدم لا يبطلها عنه شهادة من شهد أنه كان ذلك اليوم في غير ذلك البلد، وقد ذهب إسماعيل وغيره إلى أن الشهادة بذلك ساقطة، وهو قول محمد بن عبد الحكم، قال في آداب القضاة: الذي كنت أسمع فيما كنا نتناظر فيه مع أصحابنا أن شاهدين لو شهدا على رجل أنه أقر عندهم بعرفات يوم عرفات من هذا العام بمائة دينار لفلان، وشهد آخران أنه كان عندهم بمصر في ذلك اليوم بعينه، أن شهادة الذين شهدوا عليه بالمائة أحق وأولى، وقالوا: لأن هذين شهدا بحق، ولم يشهد الآخران بحق،(10/165)
ولست أعرف لهذا معنى، والذي أرى إن كان الشاهدان اللذان شهدا أنه كان بمصر في ذلك الوقت أعدل، ألا يكون له شيء، ألا ترى أن رجلين لو شهدا على رجل بحق أقر به عندهما في سنة مائتين، وشهد شهود عدول أعدل منهما أنه مات قبل ذلك بشهر أنها جرحة، ولو كانت في العدالة سواء لطرحتها، وكذلك لو شهدا أنه ولد بعد المائتين، ولكلا الوجهين وجه وحظ من النظر، وستأتي هذه المسألة في نوازل أصبغ، فنتكلم عليها إذا انتهينا إليها، إن شاء الله، وأما التدمية والشبهة التي توجب القسامة، فلا اختلاف في سقوطها بالشهادة للمدعى عليه، أو المتهم بالدم أنه كان في ذلك اليوم في غير ذلك البلد، وسيأتي هذا المعنى في سماع يحيى، من كتاب الديات، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا على معرفة خط رجلين في كتاب]
مسألة قيل: أرأيت رجلين شهدا على معرفة خط رجلين في كتاب؟ فقال: هي جائزة؛ لأنهما قد شهدا على كل واحد، قيل له: فهل يشهدان أيضا على وكالة في ذلك الحق لمن يخاصم به، وعلى وراثة يأخذها من له ذلك الكتاب الذي شهدا فيه على معرفة كتاب الرجلين؟ فقال: نعم؛ لأنهما في كل هذا شاهدان مبتديان ماضيان، لا ينالهما بشهادتهما شيء؛ لأنهما قد بلغا. . . تمام الشهادة وأفضل ما تؤخذ به الحقوق، ولأنهما اثنان، وبالاثنين تؤخذ الحقوق، وتمضي لأهلها.
قلت: فهل يعذلان شاهدا شهد في ذلك، ويشهدان هما على شهادة شاهد معه في ذلك الكتاب؟ قال: نعم، هما في ذلك على مثل حالهما في المسألة التي قبلها.(10/166)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، لا إشكال فيها؛ لأنهما شاهدان، فإذا جاز أن يشهدا للرجل في حقوق مختلفة كان أحرى أن تجوز شهادتهما في الحق الواحد في وجوه مختلفة، وبالله التوفيق، وليس ما أجازه من شهادة الرجلين على شهادة الشاهد، وتعديلهما للشاهد الآخر في ذلك الحق بخلاف لما قاله ابن القاسم في رسم شهد، من سماع عيسى، في الشاهدين يشهدان لرجل بحق، فيعدل أحدهما صاحبه؛ لأن الأمر يئول في ذلك إلى الحكم بشهادة المزكي وحده، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعرف خطه في الكتاب لا يشك في ذلك أيشهد بما فيه]
مسألة قلت: أرأيت الرجل يعرف خطه في الكتاب لا يشك في ذلك، ولا يذكر كل ما فيه؟ فقال: اختلف أصحابنا فيه، والذي أقول به أنه إذا لم ير في الكتاب محوا، ولا لحقا، ولا شيئا يستنكره، ورأى الكتاب خطا واحدا، فأرى له أن يشهد بما فيه، وأن يقول: أشهد بما فيه، وهذا أمر لا يجد الناس منه بدا، ولا يستطيع أحد أن يذكر جميع ما في الكتاب، قيل له: ولو أنه لم يذكر من الكتاب شيئا، إلا أنه يعرف خط الشهادة أنه خط بيده، ولا يشك في ذلك. فقال: هذا أمر لا يجد الناس منه بدا، ومن يستطيع أن يحفظ كل ما في الكتاب؟ وأراه واسعا، وقد أخبرتك باختلاف أصحابنا في هذه المسألة، فاعمل فيها برأيك، وقد أخبرتك أنه إن لم ير في الكتاب شيئا يستنكر، ورآه خطا واحدا أنه يقوم به، قيل له: فلو أنه عرف أنه كتب الكتاب كله، أو عرف خطه في الكتاب(10/167)
كله، وفيه شهادته، ولم ير شيئا يستنكره، ولم يذكر منه شيئا؟ فقال: أرى أن يشهد بها، ولو أنه أعلم القاضي بذلك لرأيت للقاضي أن يجيز شهادته إذا عرف أن الكتاب كله خط يده، قال سحنون: وجميع أصحابنا يقولون: إن شهادته جائزة، إذا ذكر أنه هو خط الكتاب، وكتب شهادته بيده، ولم ير فيه محوا، ولا يشكون أنها جائزة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مجودا مشروحا مبينا في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أتى بكتاب فيه شهادته ولا يذكر هو شيئا من ذلك]
مسألة قال سحنون: قال ابن وهب، عن مالك إذا أتى الرجل بكتاب فيه شهادته، فعرف خطه بيده، ولا يذكر شهادته، ولا شيئا منها فيقول بعض الشهود الذي في الكتاب معه، نشهد أنه كتاب يدك، وأنك كتبت معنا، ولا يذكر هو شيئا من ذلك؟ قال: إن كان يستيقن أنه كتابه، وخط يده فعلم ذلك وتيقنه، فليشهد عليه، وإن كان إنما يعلم ذلك بخبر غيره، وقولهم له فلا أرى أن يشهد على ذلك، وإن ارتاب الرجل حين رأى كتابا يشبه كتابه، فيقول: عسى أن يكون إياه، وخاف أن يكون يشبه كتابه، فلا أرى أن يشهد على ذلك، وليخبر بعلمه بالغا ما بلغ، ولا أرى أن يجيز السلطان ذلك إلا أن يشهد الرجل أنه كتابه وشهادته.
قال محمد بن رشد: وهذه مسألة أيضا قد مضى القول في معانيها، في رسم الشجرة المذكور، فلا معنى لإعادته.(10/168)
[مسألة: يشهد إذا استيقن أنه خط يده وإن لم يثبت عدة المال]
مسألة وقال ابن وهب عن مالك: إنه قال: من عرف خط يده في شهادة ذكر حق، ولم يثبت عدة المال إن استيقن أنه خط يده، وكان لا يثبت عدة المال فليشهد عليه، وينبغي للقاضي القضاء به إذا شهد عنده أنه خط يده، ولم يشهد عنده على عدة المال.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يشهد إذا استيقن أنه خط يده، وإن لم يثبت عدة المال خلاف ما في سماع أبي زيد من أنه لا يشهد، وإن استيقن أن الخط خطه، وذكر أن فلانا أشهده في أمر دار حتى يذكر شهادته، ويثبتها حرفا بحرف، وهذا الاختلاف إنما هو إذا وضع الرجل شهادته على معرفته في عقد استرعاء، وأشهد آخر على نفسه بمال أو بشهادة فيها مال، أو حق فيها سوى المال، يقيد شهادته بخط يده بما أشهد عليه، واستحفظ إياه، فلما دعي إلى أداء الشهادة عرف خط يده واستيقنه، ولم يذكر الشهادة لنسيانه لها بعد ذكره إياها، فوجه القول بأنه يشهد تيقنه صحة الشهادة لمعرفته بخط يده، وأنه لم يضع شهادته في الوقت الذي وضعها فيه، إلا وهو عالم بها، ووجه القول بأنه لا يشهد بها أنه غير ذاكر لها في وقت أدائه إياها، وأما ما أشهد عليه الشاهد من العقود بالمبايعات والإقرارات، فليس على الشاهد أن يقرأها، ولا يحفظ ما فيها، وحسبه أن يتصفح منها عقد الإشهاد، فيجوز له أن يؤدي شهادته على ما أشهد عليه، وإن لم يعرف ما في الكتاب ولا عدد المال إذا عرف أعيان المشهدين له على أنفسهم.
قال ابن دحون: فإن عرف الشاهد عين المشهود عليه، ولم يعرف عين المشهود له، فلا يشهد إلا أن يبين، وأما إذا لم يعرفهما جميعا فلا يشهد. قلت: وكذلك إذا عرف المشهود له، ولم يعرف المشهود عليه، لا يشهد ألبتة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي بذكر حق قد مات شهوده ويأتي بشاهدين عدلين على الكتاب]
مسألة وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول في الرجل يأتي(10/169)
بذكر حق قد مات شهوده، ويأتي بشاهدين عدلين يشهدان على كتاب كاتب ذكر الحق، قال: تجوز شهادتهما على كتاب الكاتب، إذا كان عدلا مع يمين صاحب الحق، فإن لم يحلف حلف الذي عليه الحق، فإن نكل عن اليمين غرم، فقيل لمالك: أفرأيت إن مات صاحب الحق وقام ورثته بذلك الكتاب مع شهادة الرجلين على كتاب الكاتب؟ قال مالك: يحلفون بالله ما علموا أن صاحبهم قبض من هذا الذكر الحق شيئا مع شهادة الرجلين، ويقضى لهم بذلك الحق، ومع هذا آثار في موطأ ابن وهب.
قال الإمام القاضي: قوله: إنه يحلف مع شهادة الشاهدين على كتاب كاتب ذكر الحق معناه إذا كتب شهادته فيه، فلا مزية في هذا الكاتب ذكر الحق على غيره ممن كتب شهادته فيه إذا شهد على خط، وأما قوله: إن الورثة يحلفون مع شهادة الرجلين على كتاب الكاتب بالله ما علموا أن صاحبهم قبض من هذا الذكر الحق شيئا، فقد مضى من القول فيه في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، ما لا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الزيادة في صفة الدراهم كالصفة في عددها]
مسألة قلت: أرأيت إن شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم فقال أحدهما: هي بيض، وقال الآخر: هي سود، وللسود فضل في الصرف على البيض؟ قال: إذا ادعى الطالب السود قلت له: احلف مع شاهدك، وهي لك، فإن أبى أن يحلف ردت اليمين على المطلوب، فقضيت للطالب بالبيض، وذلك لأن البيض أدناهما في الصرف.
قال محمد بن رشد: بنى سحنون جوابه في هذه المسألة على أن الزيادة في صفة الدراهم كالصفة في عددها، فجعل شهادة أحدهما أنها بيض، والآخر أنها سود، كشهادة أحدهما: أنها ألف، والآخر أنها ألف وخمسمائة إن(10/170)
ادعى الطالب الأكثر في العدد، أو الأفضل في الصفة، أخذه مع يمينه لانفراد أحد شاهديه به، وإن نكل عن اليمين حلف المطلوب أنه ما له عليه إلا الأدنى في الصفة، أو الأقل في العدد، وإن كان منكرا للجميع حلف أنه ما له عليه شيء، وكان للطالب في الوجهين الأقل في العدد أو الأدنى في الصفة؛ لاجتماع الشاهدين على ذلك، وإن نكل المطلوب عن اليمين استحق الطالب عليه الأكثر في العدد، أو الأفضل في الصفة، وإن ادعى الطالب الأقل في العدد، أو الأدنى في الصفة أخذه بلا يمين لاجتماع الشاهدين جميعا عليه، ومساواة سحنون في هذه المسألة بين الزيادة في العدد والزيادة في الصفة، هي على أصل ابن القاسم وروايته عن مالك في السلم الثاني من المدونة، أن القول قول المسلم إليه إذا اتفقا على النوع، واختلفا في الصفة كما إذا اختلفا في العدد، والأظهر في القياس والنظر أن تكون شهادة أحدهما: أنها بيض، والآخر أنها سود كشهادة أحدهما له ببغل، والثاني بحمار، أو كشهادة أحدهما له بدنانير، والثاني بدراهم، فإن كان المطلوب منكرا حلف الطالب مع أي شاهديه شاء، واستحق ما حلف عليه، فإن نكل حلف المطلوب، ولم يكن للطالب شيء؛ لأنه نفى نفسه عن البيض بدعواه السود، وإن كان مقرا بما شهد به عليه أحدهما، فادعى الطالب ما شهد به الشاهد الآخر حلف مع شهادته واستحقه، فإن ادعى الحقين جميعا والشاهدان يقولان: إنه حق واحد بطلت شهادتهما له لتكذيبه إياهما، وحلف المطلوب وبرئ، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا بألف درهم قال أحدهما وزنها خمسة دوانق وقال الآخر بل هي كيل]
مسألة قلت: أرأيت لو شهدا بألف درهم فقال أحدهما: وزنها خمسة دوانق، وقال الآخر: بل هي كيل؟ فقال: يحلف الطالب مع شاهده ويأخذها كيلا، فإن نكل عن اليمين رددتها على المطلوب، فإن حلف قضيت للطالب بها على أن وزن كل درهم خمسة دوانق. قال: ومثل ذلك الشاهدان يشهدان لعبد أنه أعتق، فقال(10/171)
أحدهما: أعتقه إلى سنة، وقال الآخر: بل عتقه بتلا، فقال: يعتق إلى سنة لأدنى ما شهد به، وقد قال مالك في العتق مثل هذا. قيل له: فإن ادعى المالين؟ فقال: إن كان الشاهدان وقفا على أنهما شهدا على مال واحد، فليس ذلك له، ويحلف مع الذي شهد له بأجود المالين، وإن أبى أن يحلف ورد اليمين على المطلوب حلف المطلوب أنه ليس له عليه أجود المالين، وإن شاء حلف أنه ليس له عليه من المالين شيء، وكان للطالب أدنى المالين ولا يمين عليه، وإن كانا لم يوقفا وقفا على شهادتهما إن قدر على إيقافهما، فإن شهدا وزعما أنه مال واحد كان كما وصفت لك، وإن زعما أنه شهد كل واحد منهما على حدة لم يستحق بشهادتهما شيئا من المال إلا بيمينه، فإن شاء حلف على المالين واستحقهما جميعا، وإن شاء حلف على أحدهما واستحقه، ورد اليمين على المدعى عليه في المال الآخر، فهذا وما أشبهه هكذا.
قال: ولكن لو شهد لرجل شاهدان؛ فقال أحدهما: أشهد لفلان على فلان ببغل، وقال الآخر: أشهد أن له عليه حنطة زعما جميعا أنها شهادة واحدة أبطلت شهادتهما، إن زعم رب الحق أنهما حقان مختلفان، قال: وإن زعم أن أحدهما محق، أحلفته مع شاهده المحق، وأعطيته ما ادعى مما يشهدان له به، وذلك ما اجتمع له عليه الشاهدان، قال: وإن شهد له ثلاثة فشهد له منهم شاهدان، بأن له عليه بغل، وشهد الآخر بأن له عليه عشرة أرادب حنطة، وزعموا جميعا أنها شهادة واحدة، فإن ادعى الطالب جميع ذلك بطلت شهادتهم جميعا؛ لأنه أكذبهم جميعا في شهادتهم، وإن(10/172)
ادعى ما شهد له به الرجلان أخذه بلا يمين، وإن ادعى ما شهد له به الشاهد الواحد حلف مع شاهده، واستحق حقه إلا أن يقول الذي شهد بالحق عليه إن الحق هو الذي شهد عليه الشاهدان، فلا يكون له عليه إلا ما شهدا به، وتبطل شهادة الشاهدين؛ لأن الشاهدين صارا مكذبين لشهادة الشاهد الذي شهد له، فإن أبى أن يأخذ ذلك فسأل المطلوب أن يكرهه على أخذ ما شهد به الشاهدان كان ذلك له، وإن لم يكرهه على أخذ ما يجحده فيما شهد به الشاهدان كان ذلك له، وإن لم يكرهه على ذلك لم يجبرهما على شيء، وتركهما على حالهما، قال: ومتى رجع الطالب فيما كان ترك من ذلك، كان له أخذه، ولم أر عليه يمينا فيما يجحده فيما شهد له به الشاهد، وشهادة الشاهدين عليه بإكذابه في شهادته، وذلك أنهما صارا مجرحين له، ألا ترى لو أن رجلا جاء شاهدا على رجل بحق فجرحه المشهود عليه، بطلت شهادته، ولم ألزمه شيئا بشهادته، إلا أن يأتي بشاهد سوى شاهده بخلطة لا يعرف لها منتهى، وليس شهادة الشاهدين عليه توجب اليمين فيما أنكر لأنهما شهدا على شاهد أنه يشهد بباطل، وقد انقطعت الخلطة التي شهد شاهدهما بها، وشهد على انقطاعها، ألا ترى لو شهد رجلان لرجل بمائة دينار، فقضى عليه بها قاض، ثم جاء المدعي من الغد يدعي مالا آخر، لم أحلف له حتى يأتي بالبينة على خلطة، لا يقطع منها شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله في الشاهدين يشهدان بألف درهم فيقول أحدهما: وزنها خمسة دوانق، ويقول الآخر: بل هي كيل إن الطالب يحلف مع شاهده، ويأخذها كيلا، فإن نكل عن اليمين ردت على المطلوب، فإن(10/173)
حلف قضي للطالب بها على أن وزن كل درهم خمسة دوانق صحيح، لا اختلاف فيه إن كانت الدراهم لا تجوز بأعيانها، وإنما تجوز بالوزن؛ لأن اختلافهما إنما يعود إلى الزيادة في الوزن والعدد لا في الصفة، فللطالب أن يأخذ الأدنى بغير يمين، أو يأخذ الأكثر بيمينه، وإذا أخذ الأدنى حلف المطلوب على الزيادة، وله رد اليمين على الطالب، ووقع في بعض الروايات: فإن نكل قضيت للطالب بها على أن وزن كل درهم خمسة دوانق، وهو غلط لا وجه له.
وأما إن كانت الدراهم تجوز بأعيانها، وتجري عددا دون وزن، فيدخل فيها من الاختلاف بالمعنى ما دخل في المسألة التي قبلها، ويحلف الطالب إن أنكر المطلوب مع أي شاهديه شاء، فإن نكل حلف المطلوب، ولم يكن للطالب شيء؛ لأنه أقر بدعواه التي هي كيل؛ أنه لا شيء عليه من النواقص.
وأما قوله في الشاهدين يشهدان للعبد بالعتق، فيقول أحدهما: أعتقه بتلا، ويقول الآخر: أعتقه إلى سنة، أنه يعتق إلى سنة، فهو صحيح؛ لأنهما قد اجتمعا على أنه حر إلى سنة، وانفرد أحدهما بالشهادة على تعجيل العتق، فوجب أن يعتق إلى سنة على ما اجتمعت عليه شهادة الشاهدين بعد يمين السيد أنه ما أعتقه إن أنكر العتق، أو أنه ما عجل عتقه إن أقر أنه أعتقه إلى سنة، فإن نكل عن اليمين عجل عليه العتق، وقيل: إنه يحبس حتى يحلف، ولم يكن للعبد أن يحلف مع الشاهد الذي شهد بتعجيل العتق؛ إذ لا يستحق العبد باليمين مع الشاهد.
وقوله: إنه إن ادعى المالين والشاهدان يقولان: إنه مال واحد إن ذلك ليس له، ويحلف مع الذي شهد له بأجود المالين، يريد أن له أن يحلف معه إن شاء، فيستحق ما شهد له به، وإن شاء أن يأخذ أدنى المالين، فيكون ذلك له دون يمين.
وقوله في الذي شهد له أحدهما ببغل، والآخر بحنطة، وزعم أن أحدهما محق أنه يحلف مع المحق منهما، ويأخذ ما ادعى مما شهد له به صحيح بين، وأما قوله: وذلك ما اجتمع له عليه الشاهدان، فمعناه وذلك أنه لم يجتمع له عليه الشاهدان على أن ما نافية لا موجبة؛ إذ لم يجتمع له على ذلك الشاهدان، ولو اجتمعا له على ذلك لم يجب عليه يمين. وقوله في الذي يشهد له ثلاثة شهود؛ اثنان منهم ببغل، والثالث بحنطة، وزعموا أنها شهادة واحدة أن(10/174)
الطالب إن ادعى الذي شهد به الشاهد الواحد حلف مع شاهده، واستحق حقه لا يصح على مذهب ابن القاسم؛ لأن الشاهدين يسقطان شهادة الشاهد الواحد كما يسقطان شهادة الشاهدين لو كانا أربعة، فشهد اثنان منهم ببغل واثنان بحنطة، وزعموا أنها شهادة واحدة، وإنما يأتي قول سحنون في هذه المسألة على قول مطرف وابن الماجشون في أن شهادتهما جميعا جائزة، فيقضى للطالب بالبغل والحنطة، وأما الشاهد الواحد فلا تسقط بشهادته شهادة الشاهدين إذا خالفهما في الشهادة، ولا شهادة الشاهد الواحد إذا خالفه في الشهادة، وإنما تبطل بتكذيب الطالب إياهم بدعواهم أنهما حقان، وهم يزعمون أنه حق واحد.
وأما قوله: ولم أر عليه يمينا فيما يجحده فيما شهد له به الشاهد؛ لسقوط شهادته، فقد مضى القول على ذلك، وذكر الاختلاف فيه في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
وأما قوله: إلا أن يأتي بشاهد سوى شاهده بخلطة، لا يعرف لها منتهى إلى آخر قوله، فقد مضى القول عليه مستوفى في رسم الصبرة، من سماع يحيى، وفي كتاب في سماع أصبغ منه، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد له العدل عند القاضي أن هذا المتاع جعله فلان عندي رهنا على أن أبيعه]
مسألة قلت لسحنون: أرأيت الرجل يجعل المتاع على يديه رهنا على أنه إن لم يقض الراهن الدين إلى الأجل باع عليه الرهن هذا الأمين الذي جعل الرهن على يديه، فلما حل الأجل لم يكن لصاحب الحق شاهد على الدين، وعلى الرهن إلا العدل الذي جعل الرهن على يديه، فشهد له العدل عند القاضي أن هذا المتاع جعله فلان عندي رهنا على أن أبيعه، وأقضي ثمنه فلانا غريمه، هل تجوز شهادته؟ قال: أرى شهادته جائزة، ويحلف صاحب الحق مع شاهده إذا شهد بها العدل عند القاضي قبل أن يبيع المتاع، فإن شهد بها بعدما باع المتاع لم تجز شهادته؛ لأنه يريد طرح الضمان عن نفسه، ويشهد لنفسه أنه لم يتعد فيما صنع.(10/175)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى، لا وجه للقول فيها، والله الموفق.
[مسألة: شهد له شهود بأنه حاز رهنا وآخرون بأنه لم يحزه]
مسألة قيل له: فرجل شهد له شهود بأنه حاز رهنا، وشهد له آخرون بأنه لم يحزه، قال: شهادة من شهد له بالحوز هي المأخوذ بها، ولا يخرج حق أحد من يديه بأن يشهد عليه بأنه ليس بيده، وشهادة من أحقه ماضية، إلا أن يخرج من الشهود من لا مخرج له من شهادته إلا بجرحة.
قال محمد بن رشد: الجواب في هذه المسألة صحيح؛ لأن المعنى فيها أن المرتهن للرهن قبل قيام الغرماء على الراهن قام بعد قيامهم عليه، والرهن بيده، فادعى أنه حازه حين ارتهنه قبل قيام الغرماء على الراهن، وشهد له بذلك شهود، وشهد آخرون له أنه لم يحزه إلا بعد قيام الغرماء عليه، فوجب أن تكون شهادة من شهد بالحوز القديم أعمل؛ لأنها علمت من الحوز ما جهل الشهود الآخرون منه.
وقوله: ولا يخرج حق أحد من يديه بأن يشهد عليه أنه ليس بيديه معناه بأن يشهد عليه، بأنه ليس بيده باحتياز صحيح؛ لأن الشهود لم يشهدوا أنه ليس بيديه، وإنما شهدوا أنه لم يحزه قبل قيام الغرماء على الراهن، ولو ادعى المرتهن أن الرهن بيده، وأقام بينة على أن قد حازه قبل قيام الغرماء على الراهن، فقال الغرماء: ليس الرهن بيده، وأقاموا بينة على أنه لم يحز الرهن لوجب أيضا أن تكون بينة المرتهن أعمل؛ لأنها شهدت له بالحيازة، فهي محمولة على أنها بيده، من حينئذ حتى يثبت رجوعها إلى يد الراهن، وقد اختلف إذا ألفي الرهن بعد قيام الغرماء بيد المرتهن، فادعى أنه احتازه قبل قيام الغرماء وكذبه الغرماء على قولين قائمين(10/176)
من كتاب الهبة والصدقة من المدونة، وهذا كله مبني على القول بأن رهن من أحاط الدين بماله جائز، ما لم يقم عليه الغرماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: الولاء يثبت بالإقرار]
مسألة وسئل سحنون عن رجل مات فأقام رجل البينة أنه مولاه أعتقه، فيعطى ميراثه، ثم يأتي رجل آخر فيقيم البينة أنه مولاه وأنه أعتقه، ولم توقت البينة في شهادتهما وقتا، وكيف إن شهدت بينة الأول على إقراره بالولاء، فأخذ ميراثه، ثم جاء آخر فأقام البينة أنه مولاه أعتقه؟ قال: إذا أتى كل واحد منهما بالبينة مثل بينة صاحبه، كان الميراث بينهما نصفين، ولو أتى أحدهما ببينة على إقراره بالولاء، وأتى الآخر ببينة على أنه أعتقه كانت البينة التي شهدت بالعتق أولى بالميراث من البينة التي شهدت على إقراره.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا أتى كل واحد منهما بالبينة مثل بينة صاحبه كان الميراث بينهما نصفين، هو مثل ما لابن القاسم في كتاب الولاء والمواريث من المدونة، وقد قيل: إن الميراث لا يخرج من يد الأول الذي أعطاه إلى غيره، إلا أن يأتي ببينة هل أعدل من ببينة الأول، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، وأما إن أتى كل واحد منهما ببينة مثل بينة صاحبه في العدالة قبل أن يدفع المال إلى أحدهما، فلا اختلاف في أن الميراث يكون بينهما نصفين، إلا أن يكون المولى مقرا بالولاء لأحدهما، فيكون أحق بالميراث إلا أن تكون بينة الآخر أعدل، ولو أتى كل واحد منهما ببينة على إقراره بالولاء؛ لكان الميراث لأعدلها بينة، فإن استوتا في العدالة كان الميراث بينهما نصفين، وهذا إذا لم يعلم لمن أقر له منهما أولا، فإن علم كان الأول أولى، وفي ذلك اختلاف، وكذلك إذا أقر بولاء ثم(10/177)
أقر بنسب كان الولاء أولى من النسب؛ لأن الولاء يثبت بالإقرار، ولا يثبت النسب بالإقرار، وفي ذلك اختلاف: قد قيل: إن النسب أولى، وهو ظاهر قول أصبغ في العتبية، وهو يدل من مذهبه أن الولاء يثبت بالإقرار، وإذا أقر بابن عم ثم أقر بأخ كان الأخ أحق، وقد قيل: إن ابن العم أحق لأنه المقر له أولا، وكذلك إن أقر بأخ، ثم أقر بعد ذلك بأخ فقيل: إن المقر له الآخر يدخل مع الأول، وقد قيل: إن الأول أحق؛ لأنه المقر له أولا، فيتحصل في إقراره بالولاء لرجل، وبالنسب لآخر ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الولاء أولى من النسب تقدم أو تأخر، وهذا على القول بأن الولاء يثبت بالإقرار. الثاني: أن النسب أولى من الإقرار تقدم أو تأخر. وقيل: المتقدم أولى من المتأخر كان النسب أو الإقرار، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال من شهد علي منهما فهو ابن الزانية]
مسألة قال سحنون: وسئل المغيرة عن رجل كان له على رجل حق فتقاضاه، فأنكر المدعى عليه الحق وجحد، فقال الطالب: إن لي عليك البينة فلان وفلان، فقال: من شهد علي منهما فهو ابن الزانية، فقام الرجلان فشهدا عليه، قال مالك: عليه الحد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه يحصل قاذفا لهما بشهادتهما عليه، ولا يحل لهما أن يكتما شهادتهما إذا دعيا إلى القيام بها؛ لقول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول أشهد أن أبي إذ كان قاضيا قضى لفلان بكذا وكذا]
مسألة قلت: أرأيت الرجل يقول: أشهد أن أبي إذ كان قاضيا قضى لفلان بكذا وكذا، هل تجوز شهادته على قضاء أبيه؟ قال: نعم.(10/178)
قال الإمام القاضي: قد قيل: إنها لا تجوز، وقد مضى القول فيها، وفيما هو في معناها من شهادته عنده أو معه أو على شهادته في نوازل سحنون، من كتاب الأقضية، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ليدفعن إليه حقه في وقت معين فشهدوا أنه قضاه قبله]
مسألة وسئل عن رجل حلف لرجل ليدفعن إليه حقه لوقت سماه، ثم جاء بعد الوقت برجل وامرأتين، فشهدوا أنه قضاه قبل الوقت؟ قال: يسقط عنه الحق، ولا يخرجه من الحنث الواجب الماضي لا يخرج منه بشهادة النساء ولا اليمين، قيل: فإن جاء بذلك قبل الوقت؟ قال: يسقط ذلك عنه من قبل أنه إذا حلف مع شاهده أو كانت امرأتان مع شاهد قبل وقت الحنث سقط الحق قبل وقت الحنث، فحل الأجل، وليس عليه شيء يقضيه، وإنما خرج عن اليمين بإسقاط الحاكم عنه الحق، ليس أن شاهدا وامرأتين ولا شاهدا ويمينا أسقط عنه الطلاق أو وقع عليه به.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، من كتاب الأيمان بالطلاق، فلا معنى لإعادة القول فيه، وهي متكررة في غير ما موضع منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: تدخل على نفسها رجالا تشهدهم على نفسها بغير إذن زوجها وزوجها غائب]
مسألة قال سحنون: للمرأة ذات الزوج أن تدخل على نفسها رجالا تشهدهم على نفسها بغير إذن زوجها، وزوجها غائب، ولا تمنع من ذلك؛ لأنه لو كان زوجها حاضرا، فأرادت أن تدخل على نفسها شهداء لم تمنع من ذلك، إلا أنه لا يدخل عليها الشهداء في مغيب زوجها إلا ومعها ذو محرم منها.(10/179)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن من حق المرأة أن تدخل على نفسها رجالا تشهدهم على نفسها بغير إذن زوجها، بما تريد أن تشهد به مما يجب عليها، أو يستحب لها؛ لأنها والرجل في ذلك سواء، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ، وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما حق امرئ مسلم يكون له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة» وليس للزوج أن يمنع زوجته من شيء من ذلك، فإذا كان من حقها ذلك كان لها أن تفعله في مغيبه، والاختيار كما قال: أن لا تدخل الشهود على نفسها بغير محضر زوجها، إلا مع ذي محرم منها؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة، إلا مع ذي محرم منها» فإن لم يكن لها ذو محرم منها، قام أهل الصلاح والفضل في ذلك مقامهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الصبيان فيما بينهم]
مسألة وسئل سحنون ما الذي يؤخذ به في شهادة الصبيان فيما بينهم، أتراها جائزة في الجراح والقتل، أم لا تجوز إلا في الجراحات وحدها؟ فقال: قد اختلف أصحابنا فيها بالروايات عن مالك، واختلف فيها آراؤهم، فمنهم من يقول: شهادتهم في الجراح(10/180)
جائزة، ولا تجوز في القتل، ومنهم من يقول: شهادتهم جائزة في القتل والجراح، وكل رواية عن مالك، والذي آخذ به من ذلك، وأراه حسنا، وهو أعدل عندي، ولا توفيق إلا بالله، أن تجوز شهادتهم صغارا حيث تجوز كبارا، قيل له: فلم لا تجوز شهادة الواحد منهم، ويحلف مع شهادته كما تجوز شهادة الكبير، ويحلف معه صاحب الحق ويستحق حقه؟ فقال: إن شهادة الصبيان لا تجوز على العدالة، وإنما تجوز على الاضطرار إذا لم يكن معهم كبير، ألا ترى أنهم إذا خالطوا الناس، وخيف عليهم أن يخببوا، فلا تجوز شهادتهم؛ لأنها لم تكن على أصل عدالة، ولو كانت على أصل عدالة لم يضرهم مخالطة الناس؛ لأن مخالطة الناس لا تزيل العدالة حيث كانت بعد ثبتها، ولا يزيلها بعد أن تثبت إلا حدث ينقضها، قيل له: فالصبايا هل ترى أن تجوز شهادتهن في الجراحات صغارا كما تجوز كبارا؟ قال: نعم؛ إذا كان معهن ذكر جازت شهادتهن، فإنما يعتبر ذلك فيهن صغارا بشهادتهن كبارا، فشهادتهن في الجراحات والقتل جائزة إذا كان ذلك خطأ؛ لأنه يصير مالا، فشهادتهن في الأموال جائزة، فحيث تجوز شهادتهن كبارا جازت شهادتهن فيه صغارا، وهذا في الجراحات خطأ والقتل خطأ، ولا تجوز في غير هذا، قيل له: لم لمْ تقبل شهادة الصغار من الذكور والإناث في الحقوق كما قبلتها في الجراحات، وأنت تقول: شهادتهن صغارا جائزة، حيث تجوز(10/181)
شهادتهن كبارا؟ فقال: قد أخبرتك أن شهادتهن لم تجز إلا على الاضطرار، فإذا زال الاضطرار لم تجز شهادتهن، والحقوق غير الجراحات؛ لأن الحقوق قد يحضرها الرجال والنساء ويشهدون عليها، والجراحات والقتل بين الصبيان لا يحضرها غيرهم؛ لأن الكبار لا يكون معهم الصبيان حيث كانوا، ألا ترى أن الصغار إذا شهدوا على الكبار أن شهادتهم غير جائزة؛ لأنها مواضع يحضرها الكبار، فلا تجوز شهادة الصبيان فيها، وإنما تجوز شهادة الصبيان حيث لا يحضرهم غيرهم، أولا ترى لو أن رجلا صغيرا وكبيرا شهدا على جرح خطأ أو قتل خطأ لم تجز شهادة الصغير؛ لأن الكبير قد حضره، فليس مع الكبير شهادة للصغير، ويقال لصاحب الحق: احلف مع شاهدك الكبير، واستحق حقك، وإلا بطل ما ادعيت.
قال أصبغ: لا تجوز شهادة الإناث من الصبيان في الجراح فيما بينهم، وهو قول ابن القاسم أيضا، قيل: فالعبيد الصغار، لمَ لم تجز شهادتهم في الجراحات والقتل إذا لم يكن معهم غيرهم على الاضطرار، كما جوزت شهادة الأحرار الصغار؟ فقال: لأن شهادتهم كبارا غير جائزة، وإذا كانوا صغارا كانت أحرى ألا تجوز. قلت: أرأيت الصبيتين إذا شهدتا على الجراح الخطأ، هل يحلف مع شهادتهما كما يحلف مع الكبار في الحقوق؟ فقال: لا يحلف مع شهادتهما؛ لأن شهادتهما ليست على أصل العدالة، ألا ترى أن الغلام الصغير إذا شهد وليس معه غيره أنه لا يحلف مع شهادته؛ لأنه ليس بعدل، فموقف الصبيتين والثلاث والأربع، وأكثر من ذلك بموقف الصبي، ولا يكن أمثل منه حالا، ولا تجوز شهادته، وكما لا تجوز شهادته وحده، ولا يحلف(10/182)
الرجل معه، فكذلك لا تجوز شهادة الصبيات، ولا يحلف معهن، وإنما جاءت الآثار عن علي بن أبي طالب أنه كان يحكم بشهادة الصبيان فيما بينهم، والصبيان لا يكونون إلا اثنين فصاعدا، واسم الصبيان بجمع الذكور والإناث، والإناث وإن كثرن مقامهن مقام صبي واحد، والصبي لا يحلف مع شهادته، فكذلك ما سألت عنه، ولا تجوز شهادة الصبيان إذا حضر معهم رجل كبير واحد، فإذا شهد الصبيان في الجراح، وشهد معهم رجل لم تجز شهادة الصبيان؛ لأنه إنما تجوز شهادة الصبيان في الضرورة، فإذا كان رجل فقد ذهبت الضرورة، ولا تجوز شهادة الصبي؛ لأن الحديث إنما جاء بجواز شهادة الصبيان، والصبي لا يقال له صبيان، وسئل عن شهادة الصبيان إذا قيدت قبل أن يفترقوا ويخببوا، فأشهد عليه العدول، ثم بلغ منهم من هو عدل رضا قبل أن يحكم بها، فرجع عما كان شهد به؛ إذ قد كان صبيا، أتكون شهادته باطلا؟ فقال: هي شهادة لم يحكم بها، فإذا رجع عنها بعد بلوغه سقطت، وكان في رجعته عنها كشهود عدول شهدوا أن الذي شهد به الصبيان لم يكن، وشهادة الصبيان إنما الجرحة فيها أن يشهد العدول أنها لم تكن؛ لأن جرحتهم، لم تكن بالأحداث ولا خلاف العدول في حالهم؛ لأنهم لم يؤخذوا على العدل والرضا، ولم تجز شهادتهم بالعدالة، فجرحتهم إنما هي أن يشهد العدول أن الذي شهدوا به لم يكن، ولو كانت شهادتهم بالعدل ثبتت ومضت، وعلى ذلك. . . ما سقطت إلا بالجرحة أنهم غير عدول؛ لأن(10/183)
الشاهد العدل الكبير لا يجرح بأن الذي شهد به لم يكن، ولا يجرح إلا بما يكون به غير عدل فيما شهد به من الظنون والأسفاه، قيل له: فإن سئل الذي شهد، وهو صبي عن شهادته بعد بلوغه وعدله، وقبل الحكم بها، فشك فيها هل يضرها ذلك؟ فقال: لا يسأل عنها، ولو شك ما ضرها ذلك؛ لأنه لا يحتاج منه فيها يوم يشك إلى شيء، ولأن الشك منه ليس بشهادة منه على نفسه بأنه شهد بباطل، وإنما جعلت رجعته عنها كمثل شهادة الكبير بأن الذي شهد به الصبي لم يكن، فهو حين شك لم يشهد بباطل ما كان قيد من شهادته وهو صغير، قال: ولو كان قيدت شهادتهم على أمر، ثم شهد قبل الحكم، وبعد البلوغ والعدل منهم اثنان، أن الذي شهدنا نحن وهم به من ذلك الأمر باطل أسقطت شهادتهما، الشهادات كلها منها ومن غيرها؛ لأن شهادة الصبيان إذا شهد كبير أو عدلان أنها لم تكن تسقط. قيل له: فإن كان صبيان جميعا اختلفوا، فشهد اثنان بأن صبيا قتل صبيا، وشهد آخران ليس منهما القاتل أن دابة أصابته جبارا؟ فقال: تمضي شهادة الصبيين اللذين شهدا على الصبي بالقتل؛ لأنهم إذا كانوا صبيانا جميعا في حال شهادتهم كانوا كالكبار، لا يبطل ما شهد به الكبير بأن يشهد كبير مثله أن الذي شهد به لم يكن قبل، فشهادة الصبيين اللذين شهدا في صغرهما أنه أصابته دابة جبارا لو شهدا أيضا بعدما بلغا أن الذي شهد به الصبيان اللذان شهدا أن صبيا قتله باطل أن دابة أصابته فقتلته، كما كانا شهدا، وهما صبيان، فلم يؤخذ بقولهما، وأخذ بقول غيرهما، قال: لا تكون شهادتهما اليوم جائزة؛ لأنه من شهد فلم تؤخذ شهادته في حال، ثم حدث له حال غيرها، فشهد بما لم يكن أخذ من شهادته مثل عبد شهد، فلم يقبل فيعتق فجاء بها لا تؤخذ منه، ومثل من شهد وهو غير عدل، فلم يقبل فحسنت حاله(10/184)
فشهد بذلك فلا يقبل، ولا من كل من شهد لما يحسن من حال نفسه يوم يشهد بالشهادة الآخرة، قال: ولا شهادة للصبيان في موضع يحضره الكبار؛ لأنهم إنما جازت شهادتهم بحال الضرورة إليها.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في آخر سماع أشهب مستوفى، فليس لإعادته معنى، وهو قول سحنون في صدر هذه المسألة، في شهادة الصبايا أن ذلك يعتبر فيهن صغارا بشهادتهن كبارا، فشهادتهن في الجراح والقتل جائزة، إذا كان ذلك خطأ؛ لأنه يصير مالا، فشهادتهن في الأموال جائزة، فحيث تجوز شهادتهن كبارا، جازت شهادتهن فيه صغارا خلاف ما تقدم له في أول سماعه، من أن شهادة النساء في جراح العمد جائزة، وحيث يكون اليمين مع الشاهد، وقد مضى هنالك من تحصيل مذهبه في ذلك، ومذهب ابن القاسم، ما لا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
وقوله بعد ذلك: ولا تجوز شهادة الصبيان إذا حضر معهم رجل كبير واحد معناه إذا كان عدلا، وكذا في الواضحة لابن الماجشون، وهو مذهب سحنون؛ لأنه متبع له فيه في جميع وجوهه، من ذلك قوله: إن شهادة الصبيان بجرح بأن يشهد العدول، بأنها لم تكن خلاف قول أصبغ في نوازله بعد هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد أخوها وزوجها معه أنها كانت حلفت في شيء بعتق لتفعلنه]
مسألة وسئل المغيرة عن المرأة تتوفى، وليس لها وارث إلا بنات، فشهد أخوها وزوجها معه أنها كانت حلفت في شيء بعتق لتفعلنه، وأنها لم تفعله حتى ماتت، أتجوز شهادة أخيها، وزوجها معه أو ترد لجره الولاء إلى نفسه بشهادته؟ قال: لا تجوز شهادته، قلت: فهل يعتق عليهما حصتهما في الرقيق؟ فقال: نعم، يعتق عليهما، قيل: فهل يقوم عليهما ما بقي؟ قال: لا، وكان مالك لا يرى أن يعتق عليهما.(10/185)
قال محمد بن رشد: قول المغيرة هذا مثل قول عبد العزيز بن أبي سلمة، في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، خلاف مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك فيه، وفي المدونة وغيرها، وقد مضى في السماع المذكور تحصيل القول في هذه المسألة، وتوجيه الاختلاف فيها، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الغني إذا مطل]
مسألة وسئل سحنون عن قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» أترى أن تجوز شهادة الغني إذا مطل، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن مطله ظلم؟ " فقال: لا أرى أن تجوز شهادته إذا مطل؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى مطل الغني ظلما، فمن كان ظالما، فلا ينبغي أن تجوز شهادته.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله من أن المعروف بالمطل من غير ضرورة، لا ينبغي أن تجاز شهادته؛ لأن مطل الرجل بحقه إذاية له في ماله، ولا يحل إذاية الرجل المسلم في ماله، كما لا يحل إذايته في دمه، ولا في عرضه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته بعرفة: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» ، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] ، وبالله التوفيق.(10/186)
[مسألة: عبد وحر شهدا على رجل بقتل فقتل ولم يعلم السلطان ثم تبين له بعد ذلك]
مسألة وقال في عبد وحر شهدا على رجل بقتل فقتل، ولم يعلم السلطان ثم تبين له بعد ذلك، فقال: الذي قام بالدم فعليه الدية.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الذي قام بالدم فعليه الدية معناه عندي، إن كان علم أنه عبد، ولم يعلم الشاهد الحر، ولو علم الشاهد الحر أيضا؛ لوجب أن تكون الدية عليهما، وإن لم يعلم القائم بالدم، وعلم الشاهد الحر كانت الدية عليه، وإن لم يعلم واحد منهما كانت الدية على عاقلة الحاكم؛ لأن ذلك من خطئه، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على ما لمالك في كتاب الرجم من المدونة في الإمام، يقيم الحد على المرجوم، ثم يعلم أن أحد الشهود كان عبدا، والذي يوجبه النظر أن تكون الدية إذا لم يعلم واحد منهم على جميعهم: القائم بالدم، والشاهد الحر، والإمام لأنهم متشاركون في قتله خطأ؛ لأن شهادته لم ترد أولا فيستوجب الرد اليوم، ولكنها كانت جائزة.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما يأتي في سماع أبي زيد من أن الحق يرد ولا يقطع، ووجه قول سحنون أن شهادة العبد لما لم ترد أولا، لم يتهمه في إعادتها، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد أظهر؛ لأن الحكم بشهادة العبد حكم مردود، فإن أعاد العبد شهادته بعد عتقه اتهم في أن يريد إجازة شهادته التي قد وجب ردها، ونقض الحكم الذي وقع بها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحدود تدرأ بالشبهات]
مسألة وعن أربعة شهدوا على رجل أنه زنى، وهو صحيح العقل، وشهد رجلان من غير الأربعة أنه زنى في ذلك اليوم الذي شهد فيه الشهود في ذلك الموضع، أنه قد كان ذاهب العقل، ليس معه عقله؟ قال سحنون: إن كانوا قاموا به إلى الحاكم وهو صحيح(10/187)
العقل، فالشهادة ماضية عليه بالحد، إذا صححوا الشهادة بما يثبت به الحد، وقول الشاهدين ليس ذلك بالذي يزيل ما ثبت من الحدود، وإن كان الرفع إلى الحاكم والرجل مجنون ذاهب العقل، فقد قال بعض أصحابنا: إنه يصرف عنه الحد؛ لأن الحد لله، وليس ذلك كحقوق الناس إذا رفع وبه الجنون.
قال محمد بن رشد: تفرقته بين أن يقام إلى الحاكم وهو صحيح، أو مجنون استحسان على غير قياس ولا أصل، والذي يأتي على الأصول أن يصرف عنه الحد، قاموا به إلى الحاكم، وهو صحيح أو مجنون؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وأي شبهة أقوى من أن يشهد له شاهدان عدلان أنه كان في وقت زناه مجنونا ذاهب العقل، وأما الحقوق، فالقياس فيها أن شهادة الصحة أعمل؛ لأنها أثبتت الحكم، وعلمت ما جهلته البينة الأخرى على ما في سماع أبي زيد في القوم، يشهدون أن المرأة أوصت في مرضها بكذا وكذا، وهي صحيحة العقل، ويقول آخرون: إنها كانت موسوسة، وما لأصبغ في سماعه من كتاب العتق، وقد قيل: إنه ينظر إلى أعدل البينتين، فإن استوتا في العدالة بطلت الوصية؛ لأن تكافؤهما يوجب سقوطهما جميعا، وإذا سقطتا حصل الشك في صحة عقله في حين إشهاده، وعلى هذا يأتي قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، من كتاب الوصايا، وفي سماع أصبغ من كتاب العتق في الذي يقول: إن مت من مرضي فغلامي فلان حر، وإن صححت منه فغلامي فلان حر لآخر، فشهد شاهدان له أنه صح من مرضه، وشهد آخران أنه لم يصح منه، معناه وتكافئوا في العدالة، أنه يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأنه رأى الشك في صحته من مرضه حاصلا بتكافؤ البينتين، فأعتق من كل واحد منهما نصفه؛ إذ لا يدري من هو الذي وجب له العتق منهما، ويتخرج في المسألة قول ثالث: إن شهادة المرض أعمل؛ لأنهم قالوا: رأينا منه اختلاطا في ذمته حين أشهدنا. وقال الآخر: لم نر منه اختلاطا؛ فوجب أن تكون شهادة من أوجب الاختلاط أولى من شهادة من نفاه، وبالله التوفيق.(10/188)
[مسألة: شهادة الذي يطأ الجارية يشتريها قبل أن يستبرئها]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يشتري الجارية فيطؤها قبل أن يستبرئها، أترى تقبل شهادته؟ فقال: لا، قال: وأرى أن يؤدب مع طرح الشهادة أدبا موجعا إذا كان عالما بمكروه ذلك، قيل له: فإن كانت صبية لم تبلغ المحيض فوطئها قبل أن يستبرئها؟ فقال: إذا كان مثلها يوطأ، فلم يستبرئها، فسبيلها سبيل التي قد حاضت من طرح الشهادة والعقوبة.
قال محمد بن رشد: أما سقوط شهادة الذي يطأ الجارية يشتريها قبل أن يستبرئها، وهي ممن يحمل مثلها، ووجوب الأدب عليه إذا كان ممن لا يجهل فبين؛ لأن ذلك أمر متفق على تحريمه بوجهين؛ أحدهما: نص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من المنع من ذلك بقوله: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» ؛ والثاني: القياس على ما أوجبه الله تعالى على الحرة من عدة الطلاق والوفاة بقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] فنهى عن العقد لما كان سببا إلى الوطء، فكيف بالوطء؛ لأن المعنى في ذلك في الحرة والأمة سواء، وهو ما يخشى من اختلاط الأنساب، وأما الصبية التي لم تبلغ المحيض ومثلها يوطأ، فإن كان الحمل مأمونا عليها، فلا تسقط شهادة من وطئها قبل أن يستبرئها؛ إذ قد قيل: إنه لا استبراء فيها، روى ذلك علي بن زياد، عن مالك، قال: وهو الأمر عندنا، وهو أحسن ما سمعت، ومعنى ما ذهب إليه سحنون أن التي لم تبلغ المحيض إذا كان مثلها يوطأ، فلا يؤمن أن يكون ذلك الوقت حد بلوغها، ومحيضها، فتحمل قبل أن تحيض، والله أعلم.(10/189)
[مسألة: كتاب قاض إلى قاض في الزنا]
مسألة قال سحنون: لا يثبت كتاب قاض إلى قاض في الزنا إلا بأربعة شهداء على أنه كتابه، كما أنه لا تقبل شهادة على الزنا إلا بأربعة، فكذلك لا يثبت فيه كتاب قاض إلا بأربعة، قلت له: من يقول هذا؟ قال: أنا أقوله من قبل أنه لا يجوز للقاضي المكتوب إليه أن ينفذ كتاب القاضي الكاتب إليه إلا بشهادة من يجوز على أصل الحق، ولا بينة عنده بأقل من ذلك.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا يأتي على رواية مطرف عن مالك في أن الشهادة على الشهادة في الزنا لا تجوز فيها إلا أربعة على كل واحد من الأربعة، اجتمعوا على الشهادة على جميعهم، أو افترقوا مثل أن يشهد ثلاثة على الرؤية، ويغيب واحد، فلا تثبت شهادته إلا بأربعة، وابن القاسم يقول: يجوز أن يشهد على شهادته اثنان، وهو مذهب ابن الماجشون، فيأتي على قولهما أنه يجوز أن يشهد على كتاب القاضي في الزنا شاهدان، وهو الذي يوجبه القياس والنظر؛ لأن الشهادة قد تمت على الزنا بأربعة شهداء، فلا يحتاج إلى إثبات قول القاضي بكتابه ينبغي أن يثبت في الزنا بما يثبت في غير الزنا؛ إذ لا فرق ببن الموضعين فيما يلزم الشاهد في تحمل نقله؛ لأنه قول في الوجهين، وبالله التوفيق.
[مسألة: الفقيه يخرج إلى الصيد منتزها هل يجرح مثل هذا شهادته]
مسألة قال سحنون: وسألته عن الرجل الفقيه الفاضل الصالح يخرج إلى الصيد منتزها، هل يجرح مثل هذا شهادته؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ذلك ليس بحرام، إنما هو مكروه، فتركه أحسن، ومن أهل العلم من أجازه ولم ير فيه كراهة، وبالله التوفيق.(10/190)
[مسألة: يتداعيان في الشيء لا يعرفانه فقالا جميعا قد رضينا بشهادة فلان]
مسألة قال في رجلين يتداعيان في الشيء لا يعرفانه، فقالا جميعا: قد رضينا بشهادة فلان، قال سحنون: يلزمهما ما شهد به فلان عليهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: شهادة من ثبت عليه حد من الحدود]
مسألة وسئل سحنون عن المحدودين في القذف أو الزنا هل تجوز شهادتهما في القذف والزنا؟ والمحدود في شرب الخمر والسرقة هل تجوز شهادته في شرب الخمر والسرقة إن تابوا؟ قال: لا تجوز شهادة من ثبت عليه حد من الحدود، كائن ما كان وأقيم عليه في مثله الحد، وهو يجري مجرى شهادة ولد الزنا أنه لا تجوز، وهو كان أبعد في الغيرة، وإنما ترد فيه بالتهمة أن يكون الناس له أسوة، وقاله أصبغ، قلت: فرجل جنى على رجل جناية فاقتص لتلك الجناية، هل تجوز شهادته في مثل الجرح الذي اقتص به منه؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: إنه لا تجوز شهادة أحد فيما حد فيه من الحدود، وإن تاب هو أحد قولي مالك، روى عنه مطرف وابن الماجشون أنها لا تجوز، وروى عنه ابن نافع وابن عبد الحكم أنها جائزة، وهو قول ابن كنانة وظاهر ما في الديات من المدونة، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما، واختلف في ذلك أيضا قول أصبغ، فله في الواضحة مثل قول سحنون، ورواية مطرف، وابن الماجشون، وفي الثمانية مثل قول ابن كنانة، ورواية ابن نافع وابن عبد الحكم، وشهادة ولد الزنا في الزنا، وفي(10/191)
نفي الرجل عن أبيه جارية على هذا الاختلاف، والمشهور من قول ابن القاسم أنها لا تجوز، فهو قوله في سماع أبي زيد من هذا الكتاب، وفي سماع عيسى، من كتاب الحدود، وظاهر ما في الديات من المدونة أنها جائزة، واختلف إذا شهد أربعة على الزنا أحدهم ولد زنا، فقيل: إنهم يحدون كما لو كان أحدهم عبدا، وهو قول أصبغ ومذهب ابن القاسم في المدونة؛ لأنه قال فيها إذا شهد على المرأة أربعة شهود بالزنا؛ أحدهم زوجها جلد الثلاثة، ولاعن الزوج، ولا فرق بين المسألتين، وقيل: إنهم لا يحدون بخلاف إذا كان أحدهم عبدا، وهو قول ابن أبي حازم في المبسوطة واستحسان ابن القاسم فيها، وأما إن لم يعثر على أنه زوجها، أو على أنه ولد زنا حتى أقيم الحد، فيدرأ الحد عن الثلاثة، ويحد ولد الزنا والزوج إلا أن يلاعن، واختلف هل يرثها إن كانت رجمت؟ فقال ابن القاسم: إنه يرثها إلا أن يعلم أنه تعمد الزور، أو يقر بذلك على نفسه له قتلها. قال غيره: لأن الله فرض له الميراث، فلا يمنع منه بظن، وقال أصبغ: لا يرثها؛ لأن عليه اللعان وهو يجرحه من أن يكون شاهدا، وأرى فيه تهمة العامد لقتل وارثه، والسنة ألا يرث عامد من دية من قتل شيئا، ولا من ماله، وهذا الاختلاف يدخل بالمعنى في إجازة شهادة الأب على ابنه الموسر بقتل عمدا أو زنا، وهو محصن، وقد مضى القول على ذلك في أول سماع سحنون. وأما قول سحنون في أن شهادة الرجل لا تجوز في جرح اقتص منه في مثله، فهو شذوذ أغرق فيه في القياس، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الصبيان في القتل]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم
قال محمد بن خالد: سمعت ابن القاسم يقول: إن شهادة الصبيان تجوز في القتل كما تجوز في الجراحات.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في آخر سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وإنما تجوز شهادتهم في القتل إذا(10/192)
شهد العدول على رؤية البدن مقتولا، روى ذلك ابن القاسم عن مالك، وقاله غير واحد من أصحابه، ولا يدخل في هذا عندي الاختلاف الذي ذكرناه في رسم أوصى، من سماع عيسى، في شهادة المرأتين في الاستهلال وقتل الخطأ لضعف شهادة الصبيان، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا لرجل بمائة دينارأحدهما أنها له من بيع باعه إياه والآخر من سلف]
مسألة قال ابن القاسم في رجل توفي وترك ولدا صغيرا وورثة معه، فقام لولده الصغير شاهدان على غلام من غلمان أبيه، فقال أحدهما: إن أباه تصدق عليه به في حياته، وشهد آخر أنه نحله إياه في صحة منه، إن كان الغلام قد بلغ الحلم حلف مع شاهده على الصدقة ثم يستحقها، وإن كان صغيرا لم يبلغ، وخيف على الغلام بيع ووقف المال حتى يبلغ الحلم، فإن حلف استحق ثمنه، وإن نكل عن اليمين كان ميراثا، قال: فكلمت ابن القاسم في ذلك وقلت له: إنهما قد اجتمعا له، وإن كان قد اختلفا في بعض الشهادة على قطع الحق، فقال: لا أرى أن تثبت له الصدقة إلا بيمين، وقال: أرأيت لو أن شهيدين شهدا لرجل بمائة دينار، فشهد أحدهما أنها له من بيع باعه إياه، وشهد الآخر أنها له قبله من سلف أسلفها إياه؟ قال ابن الماجشون: الشهادة تامة، وذلك أنهما قد اجتمعا على إخراجها من يديه بغير شيء يجب على المدعي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تقدمت في سماع سحنون،(10/193)
ووقعت أيضا في رسم الدور والمزارع من سماع يحيى دون جواب، ومضى القول عليها مستوفى في رسم العرية، من سماع عيسى، لما اقتضاه من القول فيها، فذلك يغني عن إعادته، وإنما يكون له على قول ابن الماجشون أخذ المائة دون يمين، إذا ادعى ما قاله أحدهما، وأما إن ادعى المائتين جميعا، فقد أكذبهما إذا قالا: إنها شهادة واحدة، وقد مضى القول على هذا مستوفى في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الغائب الواحد]
مسألة قال محمد بن خالد: سمعت ابن القاسم يقول: شهادة الغائب الواحد مقبولة إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، في أول نوازل سحنون، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: شهد كل واحد منهما لصاحبه أن الميت أوصى له]
نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج قال: سئل أصبغ عن رجلين شهدا على وصية، فشهد أحدهما: أن الميت أوصى لصاحبه بوصية مال بكذا وكذا، وشهد الموصى له أيضا أن الميت أوصى للشاهد بوصية مال أيضا، فشهد كل واحد منهما لصاحبه أن الميت أوصى له، قال: إن كانا شهدا على كتاب واحد، وفيه هذه الوصايا لهما جميعا، فشهادتهما باطلة؛ لأن كل واحد منهما شهد لنفسه ولغيره، والوصية لها بال؛ لأنهما يشهدان على جميع ما في الكتاب ويثبتان الوصية بشهادتهما، وفيها وصية لكل واحد منهما لها بال وقدر، فهما متهمان في شهادتهما، فشهادتهما ساقطة في جميع الوصية يسقط ما كان فيها من وصاياهما وغير وصاياهما، قال: وأما لو شهدا على غير(10/194)
كتاب ولا وصية مكتوبة فيها هذه الوصايا، ولكن أتى هذا فشهد أن الميت أوصى لفلان بكذا وكذا، ثم قام المشهود له بالوصية، فشهد عند ذلك القاضي أن الميت أوصى لفلان الذي شهد له بالوصية بكذا وكذا، رأيت شهادتهما جائزة، شهادة كل واحد منهما لصاحبه لا تهمة على واحد منهما فيها؛ لأنهما لم يشهدا على كتاب تجتمع فيه الوصايا، فيتهمان بأن يثبتا وصاياهما ووصايا غيرهما، وإنما شهد كل واحد منهما منفردا بالشهادة لغيره ليس لنفسه فيها شيء، فأرى أن يحلف كل واحد منهما مع صاحبه الذي شهد له، ويستحق حقه ووصيته.
قال محمد بن رشد: أما إذا شهد كل واحد من الشاهدين لصاحبه أن الميت أوصى له بوصية لها قدر وبال، والوصية لهما بكتاب واحد، فما قاله من أن شهادتهما باطلة لا تجوز وتسقط لهما ولغيرهما هو المشهور في المذهب، وقد قيل: إن شهادتهما تجوز لغيرهما، وهو الذي يأتي على قياس قول أصبغ بعد هذا في هذه النوازل في العبدين، يشهدان بعد عتقهما أن الذي أعتقهما غصبهما من رجل مع مائة دينار إن شهادتهما تجوز في المائة، ولا تجوز في غصب رقابهما؛ لأنهما يتهمان أن يريدا إرقاق أنفسهما، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب.
وأما إذا شهد كل واحد منهما لصاحبه أن الميت أوصى له بكذا وكذا بغير كتاب، أو كانت وصية كل واحد منهما في كتاب على حدة، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن شهادة كل واحد منهما لصاحبه جائزة، يحلف معه، ويستحق وصيته، وإن كانت شهادة كل واحد منهما لصاحبه في مجلس واحد، وهو ظاهر قول أصبغ هذا، وظاهر قول سحنون في نوازله. والثاني: أنها لا تجوز وإن كانت في مجالس شتى، وهو أحد قولي سحنون حكاه ابنه عنه. والثالث: الفرق بين أن تكون شهادتهما في(10/195)
مجلسين، أو في مجلس واحد، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وقد مضى هذا في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك ابنته وأخوين له فأسلم الأخوان ميراثهما لابنته]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل هلك وترك ابنته وأخوين له، فأسلم الأخوان ميراثهما لابنته، وخرجا عنه إليها في مرض أبيها، وقبل موته، وبعد أن حجب ماله عنه، وذلك أن الابنة طلبت ذلك إليهما وسألتهما أن يسلما إليها مالهما في ميراث أبيها ففعلا ذلك بها وأسلما ذلك إليها كل ما تصير إليهما من ميراث أخيهما، فلما مات الأب وجدت الابنة ذكر حق لأبيها على رجل بشهادة الأخوين اللذين أسلما الميراث إليها.
هل تجوز شهادتهما لها، وقد كان هذا الذكر الحق مما خرجا منه إليها مع ما بقي من ميراثه؟ قال: نعم، شهادتهما جائزة لا تهمة عليهما فيها؛ لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بذلك شيئا؛ لأنهما قد خرجا من جميع ذلك، وذلك قبل أن يصير إليهما بالملك التام؛ لأنه إنما كان محجوبا عن ماله لهما إن مات ليس أنهما أولى بماله منه، ولو كان المال وجب لهما وجوب ملك كما يملك الرجل ماله، ثم وهباه لرجل لم يكن لهما فيه شهادة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى معناها في رسم العتق، من سماع عيسى، والكلام عليها مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد لامرأة بشهادة وأثبتها القاضي ولم يحكم بها حتى تزوج الشاهد تلك المرأة]
مسألة وسألته عن رجل شهد لامرأة بشهادة، وأثبتها القاضي، ولم يحكم بها حتى تزوج الشاهد تلك المرأة، أترى أن يحكم القاضي بها؟ قال أصبغ: نعم، وليس هذا مثل الذي يوصي لرجل بوصية(10/196)
وليس هو وارثه، ثم يكون وارثه بعد ذلك، فلا تجوز تلك الوصية. . . على هذا فرق بين ذلك أن الشاهد إنما كانت ترد شهادته بالظنة، والظنة هاهنا إنما حدثت بعد الشهادة، ألا ترى لو أن رجلا شهد على رجل بشهادة، ولم يقض بها حتى كانت بينه وبين المشهود عليه خصومة ودعوى لم يبطل ذلك شهادته، وجازت عليه إذا كان قد شهد بها قبل الخصومة والظنة والتهمة، وإن كانت لم تنفذ فهي الآن تنفذ، ولا ترد لما ذكرت إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: شهادة الشاهد تسقط بوجهين؛ أحدهما: التهمة في الشهادة بالعداوة وبالظنة؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، ولا جار إلى نفسه» . والثاني: الجرحة في الدين؛ لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] .
فإذا شهد الرجل بشهادة وهو مجرح في دينه، أو متهم في شهادته؛ لم تجز شهادته، وأما إن شهد بشهادة وهو عدل غير متهم في ظاهر أمره، فقبلت شهادته، ثم حدث بعد قبولها، وقبل الحكم بها ما لو علم قبل قبولها لم يقبل، ففي ذلك تفصيل، أما التهمة بالعداوة تحدث، والظنة تقع، فلا يؤثر ذلك في إجازة الشهادة إلا أن يعلم لذلك سبب قبل أدائها مثل أن يشهد الرجل للمرأة، ثم يتزوجها، فيشهد عليه أنه كان يخطبها قبل أن يشهد لها وما أشبه ذلك، فإن شهادته تبطل بدليل قول ابن القاسم في سماع حسين بن عاصم في الرجل يشهد على الرجل أنه حلف بطلاق امرأته البتة إن تزوجها قبل أن يتزوجها، فأتى(10/197)
المشهود عليه ببينة تشهد له أن الشاهد كان يخطب هذه المرأة قبل أن يتزوجها، هو أن شهادته تبطل، ولأصبغ في ثمانية أبي زيد أن الشاهد إذا خاصم المشهود عليه بعد الشهادة لم تبطل شهادته، إلا أن يقر أن الذي يطالبه به من ذلك كان قبل إيقاع الشهادة، وأما الجرحة بالأحداث يظهر منه مثل أن يقتل، أو يجرح، أو يزني، أو يسرق، أو يشرب خمرا، أو يقذف حرا، وما أشبه ذلك؛ ففيه اختلاف، قيل: إن ذلك كله يبطل الشهادة، وهو قول مطرف وأصبغ، وروايته عن ابن القاسم، وقيل: إنه ما كان من ذلك يستسر به كالزنا والسرقة والشرب وما أشبه ذلك؛ بطلت به الشهادة؛ إذ لا يؤمن أن يكون قديما قبلها، وما كان منه لا يستسر به، ويعلم أنه كان خلوا منه يوم شهد كالقتل والجراح والقذف وما أشبه ذلك، لم تبطل به الشهادة كما لا تبطل بالخصومة والتزويج، وهو قول ابن الماجشون، وظاهر قول أصبغ هذا أن مجرد الخصومة في القليل والكثير توجب العداوة بين المتخاصمين، وتسقط شهادة أحدهما على صاحبه، وهو ظاهر ما في أول سماع أشهب أيضا، وفي ذلك اختلاف قد مضى تحصيله هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد أن هذه الدار لأبيه مات وأوصى بها لفلان]
مسألة وسئل عن رجل شهد أن هذه الدار لأبيه، مات وأوصى بها لفلان، والدار في يد رجل ينكر ذلك، أترى أن تجوز شهادته، والدار تخرج من الثلث؟ قال أصبغ: لا، أرى أن تجوز شهادته مخافة أن يطرأ على أبيه دين، فيرجع في الدار، فيكون قد انتفع بذلك، ولقد كان وقع في قلبي منها شيء ثم تبين لي بعد ذلك أنه لا تجوز شهادته في هذا.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأن الموصى له إنما يأخذ وصيته على ملك الميت الموصي إن قبلها، وإن لم يقبل كانت لجميع الورثة، فهو بشهادته جار إلى نفسه، وبالله التوفيق.(10/198)
[مسألة: يقول الرجل في تعديل الرجل هو عدل]
مسألة قال أصبغ: لا أحب أن يقول الرجل في تعديل الرجل: هو عدل، وليقل: أراه عدلا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في أول نوازل سحنون، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: شهد عند القاضي بشهادة لرجل على رجل]
مسألة وسئل عن رجل شهد عند القاضي بشهادة لرجل على رجل، والمشهود عليه قائم يسمع، فلما فرغ من شهادته تحول إلى المشهود عليه فقال له والقاضي يسمع: إنك تشتمني وتشبهني بالمجانين، وتهددني، وما أشبه ذلك من الكلام، ألا ترى أن يطرح القاضي بهذا الكلام شهادته عنه؟ فقال: لا أرى أن يطرح شهادته عنه بهذا الكلام وما أشبهه، إلا أن يثبت بينهما عداوة قديمة بينة، فتطرح شهادته عليه، وأما مثل هذا الكلام فما أراه شيئا.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في الثمانية أن قوله هذا إن كان على وجه الشكوى والاستنهاء من الأذى، ولم يكن على وجه مطلب خصومة، ولا سمى السمة، فلا أراه شيئا، وإن سمى السمة، وهي مما إن قام بها كان في مثلها خصومة ومطالبة، أو كان ذلك منه على وجه الطلب له بالخصومة، وإن لم يسم السمة ساعته، فأرى شهادته ساقطة، وهو مفسر لقوله هاهنا، ولابن الماجشون في الثمانية أن شهادته تبطل بهذا القول، ولا تجوز؛ لأنه قد أخبر أنه عدوه، فكيف تجوز شهادته عليه؟ قال: فلو قال ما هو أدنى من(10/199)
هذا؛ لكان فيه طرح شهادته، وقول ابن الماجشون أظهر وأولى بالصواب، والله أعلم.
[مسألة: ليس لحر أن يرق نفسه]
مسألة وعن رجل هلك ولم يترك وارثا غير ابن عم له فيما يرى الناس، فأعتق ابن العم غلامين مما ورث عن الهالك، فشهدا بعد عتقهما أن سيدهما أشهدهما في حياته أن جاريته فلانة حامل منه، ثم ولدت الجارية، قال أصبغ: لا شهادة لهما؛ لأن شهادتهما ترقهما، وليس لحر أن يرق نفسه، وليس هذا من الشهادة التي يقال لا يتهمان فيها فتجوز، ولا من الأشياء التي يؤخذ فيها بإقرارهما بالعبدية.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إلا أن في إجازة شهادتهما إبطال عتقهما، وفي إبطال عتقهما رد شهادتهما، فإذا كانت الإجازة توجب الرد، وجب أن تكون مردودة، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشتريا من رجل عبدا ثم ادعى أحدهما أن البائع كان أعتقه]
مسألة وقال أصبغ في رجلين اشتريا من رجل عبدا، ثم ادعى أحدهما: أن البائع كان أعتقه، قال: لا تجوز شهادته على البائع، وأرى أن يعتق عليه نصابه منه بشهادته، ثم أرى أن يقوم عليه ما بقي من العبد؛ لأني أتخوف أن يكون إنما أقر بهذا احتيالا؛ لئلا يقوم عليه ما بقي من العبد، قال: والولاء للمشهود عليه أنه كان أعتقه.(10/200)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها: أن الشاهد لا يعتق عليه نصيبه للضرر الداخل على أشراكه، وعبد العزيز بن أبي سلمة يقولان: إنه يعتق عليه نصيبه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه، وقول أصبغ هذا قول ثالث في المسألة، وقد مضى ذكر هذا في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: بينة شهدت على رجل أنه زنى بمصر وأخرى بالعراق]
مسألة وسئل أصبغ عن بينة شهدت على رجل أنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وشهدت بينة أخرى أنه كان يومئذ بالعراق، قال أصبغ: هذا حد قد ثبت لا تزيله هذه البينة التي شهدت أنه كان بالعراق؛ لأنها لم تشهد على فعل آخر، إنما شهدت أن الذي قالت البينة الأولى لم يكن، فذلك غير مقبول، قيل له: فلو شهدت بينة أنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وشهدت بينة أنه سرق ذلك اليوم بالعراق، أتوجب عليه الحدين جميعا؟ قال: لا، بل تطرح كلتا الشهادتين؛ لأنهم شهدوا على أمر مختلف وفعلين لا يمكنان جميعا، فإن قلنا: إن إحدى البينتين قد شهدت بحق، فإنا لا ندري أيهما هي، فسقطت الشهادة بالشك، قيل: وكذلك لو قالت هذه البينة: إنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وقالت الأخرى: إنه قتل إنسانا بالعراق؟ قال: أطرحهما جميعا، قلت: فشهدت إحدى البينتين أنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وشهدت بينة أخرى أنه زنى ذلك اليوم بعينه بالعراق، أتطرح هذه أيضا؟ قال: لا، بل أثبت عليه حدا واحدا؛ لأن كلتا البينتين إنما شهدت بالزنى، فحد الزنى حد واحد؛ لأني أعلم أن إحدى البينتين صادقة، فقد وجب عليه الحد إما بهذه وإما بهذه؛ فلا بد من إقامة الحد عليه بأحد الزنائين، قال: وكذلك لو شهدت أيضا بينة أنه قتل فلانا بمصر، وشهدت أخرى أنه قتل(10/201)
فلانا بالعراق، وقام أولياء المقتولين جميعا قتلته بهما؛ لأن إحدى البينتين صادقة.
قال محمد بن رشد: تفرقة أصبغ هذه في اختلاف البينتين، إذا شهدت إحداهما على رجل أنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، بين أن تقول البينة الأخرى: إنه كان ذلك اليوم بالعراق، أو إنه سرق أو قتل ذلك اليوم بالعراق، أو. . . إنه زنى ذلك اليوم بالعراق، أيضا فإن قالت: إنه كان بالعراق، وإنه زنى بالعراق؛ أقيم عليه حد الزنى، وإن قالت: إنه زنى أو قتل بالعراق، سقط عنه الحدان جميعا، هو على قياس المشهور من مذهب ابن القاسم في أن البينتين إذا اختلفتا بالزيادة كانت التي زادت أعمل، وإن اختلفتا في الأنواع سقطتا جميعا، إلا أن تكون إحداهما أعدل من الأخرى، فيقضى بالأعدل، وقد قال ابن القاسم: إن البينتين إذا اختلفتا بالزيادة سقطتا، إلا أن تكون إحداهما أعدل؛ فيقضى بالأعدل كاختلافهما في الأنواع، فيلزم على قياس هذا إذا قالت إحدى البينتين: إنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه كان ذلك اليوم بالعراق، أو إنه زنى ذلك اليوم بالعراق؛ أن تسقط البينتان جميعا، إلا أن تكون إحداهما أعدل من الأخرى، فيقضى بها، كما لو قالت: إنه سرق ذلك اليوم بالعراق أو قتل، وهو الذي يوجبه القياس والنظر؛ لأن كل بينة منهما مكذبة لصاحبتها في الوجوه كلها؛ إذ لا يمكن أن يكونا جميعا صادقين، فإذا لم يمكن ذلك وجب أن يسقطا جميعا، إلا أن تكون إحداهما أعدل من الأخرى، فيقضى بالأعدل؛ لأن الظن يغلب أنها هي الصادقة، وقول أصبغ: إنه يقام عليه حد الزنى إذا قالت إحدى البينتين: إنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه زنى في ذلك اليوم بالعراق، وإنه يقتل إذا قالت إحدى البينتين: إنه قتل فلانا بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه قتل فلانا لرجل آخر ذلك اليوم بالعراق، وقام أولياء القتيلين جميعا بعيد، لا سيما في الزنى؛ لما جاء من أن الحدود تدرأ بالشبهات.
وتعليله لإقامة الحد والقتل عليه بما قال(10/202)
من أنه يعلم أن إحدى البينتين صادقة غير صحيح؛ لأنه إذا علم أن إحداهما كاذبة، واحتمل أن تكون كل واحدة منهما هي الكاذبة، احتمل أن تكونا جميعا كاذبتين، وإذا احتمل أن تكونا جميعا كاذبتين، وأن تكون إحداهما صادقة، والثانية كاذبة، لم يصح أن يحكم بأن إحداهما صادقة إلا أن تكون هي أعدل، فيغلب على الظن صدقها، وإلى هذا نحا محمد بن عبد الحكم على ما قد ذكرناه عنه، في نوازل سحنون، ويأتي على قياس قول مطرف وابن الماجشون عن مالك في أن البينتين إذا شهدت إحداهما، بخلاف ما شهدت به البينة الأخرى، واستوتا في العدالة أنه يقضي بما شهدتا به جميعا، أنه يحد حد الزنى، ويقطع في السرقة إذا شهدت إحدى البينتين أنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه سرق في ذلك اليوم بالعراق، وهو بعيد جدا، والله الموفق.
[مسألة: صبيين شهدا على صبي أنه قتل هذا الصبي الساعة وشهد رجلان أنه لم يقتله]
مسألة وسئل أصبغ عن صبيين شهدا على صبي أنه قتل هذا الصبي الساعة، وشهد رجلان أنه لم يقتله، وأنهما كانا حاضرين حتى سقط الصبي فمات، وأن الصبي الذي شهد عليه الصبيان لم يضربه ولم يقتله، قال أصبغ: أرى شهادة الصبيين تامة، ولا يلتفت إلى شهادة الكبيرين، وإنما ذلك عندي بمنزلة أن لو شهد كبيران أنه قتله، وشهد كبيران آخران أنه لم يقتله على نحو مسألتك، فشهادة من شهد بالقتل أولى، قيل له: أو لا ينظر إلى العدالة في هذا؟ قال: اعلم أن الدماء والجراح والعتاق والطلاق والحدود، كلها لا ينظر فيها إلى العدالة بعد أن يكون من شهد عليه عدلا مرضيا في شهادته، فهي أولى من شهادة من تعرض لها بالرد، وإن كانوا أعدل.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا إغراق في القياس على أصل(10/203)
غير مسلم الصحة، فقد ذكرنا في المسألة التي قبل هذه، أن الذي يوجبه القياس والنظر أن ينظر إلى أعدل البينتين إذا اختلفتا، وإن كانت الواحدة موجبة والثانية نافية، فكيف إذا كانت إحداهما صبيانا، فقول سحنون في نوازله: إن شهادة الصبيان تسقط بتكذيب الكبار لهم، هو أولى بالصواب، والله أعلم.
[مسألة: شهد على شهادة أبيه]
مسألة وسئل عمن شهد على شهادة أبيه وأبوه عدل مرضي مشهور العدالة، لا يحتاج إلى تزكية، فيأتي الابن فيشهد على شهادة أبيه، قال: لا تجوز شهادة الابن على شهادة أبيه، ولا شهادة الأب على شهادة ابنه، انظر أبدا كل من لا يجوز لك أن تعدله، فلا يجوز لك أن تشهد على شهادته، وإن كان المشهود على شهادته عدلا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا: إنه لا تجوز شهادة أحدهما على شهادة صاحبه، بخلاف ما مضى لسحنون في نوازله من إجازة شهادة الابن على قضاء أبيه؛ لأنه إذا جاز أن يشهد الابن على ما قضى به أبوه، والأب لو شهد في ذلك، لم تجز شهادته، كان أحرى أن تجوز شهادته على شهادة أبيه؛ إذ لو شهد الأب في ذلك لقبلت شهادته، وقد مضى في نوازل سحنون من كتاب الأقضية تحصيل القول في هاتين المسألتين، وفيما هو في معناهما من شهادة كل واحد منهما عند صاحبه ومعه، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أعتق عبدين ثم إن العبدين شهدا أن هذا المعتق غصبهما من هذا الرجل]
مسألة وسمعته سئل عن رجل أعتق عبدين، ثم إن العبدين شهدا أن هذا المعتق غصبهما من هذا الرجل، وغصب معهما مائة دينار، قال: لا يرجعان في الرق للذي شهدا أن هذا المعتق غصبهما منه بشهادتهما؛ لأنه لا يجوز لحر أن يرق نفسه، وتجوز شهادتهما في(10/204)
المائة التي يزعمان أنه غصبها معهما، قلت: وكيف يجوز بعض الشهادة ويبطل بعض؟ قال: هو بمنزلة امرأتين شهدتا في وصية رجل بوصايا وعتق، فأجيز شهادتهما في الوصية، وأبطلها في العتق.
قال الإمام القاضي: لسحنون في كتاب ابنه أنه لا تجوز شهادتهما في المائة ولا لأنفسهما، وهو الأظهر؛ لأن شهادتهما على غصب المعتق لهما إنما لم تجز من أجل أنهما يتهمان على أنهما أرادا إرقاق أنفسهما، والشهادة إذا رد بعضهما للتهمة ردت كلها بخلاف إذا رد بعضها للسنة، فساوى أصبغ في هذا بين أن يرد بعضها للتهمة، أو للسنة في أنه يجوز من الشهادة التي فيها التهمة ما لا تهمة فيه، كما يجوز من الشهادة التي فيها ما لا يجوز في السنة ما يجوز فيها، وقد قيل: إن الشهادة إذا رد بعضها للسنة ردت كلها، فالمشهور إذا رد بعض الشهادة للتهمة أن ترد كلها، وقد قيل: إنه يرد منها ما لا تهمة فيه، وهو قول أصبغ هذا، والمشهور إذا رد بعض الشهادة للسنة أن يجوز منها ما أجازته السنة، وقد قيل: إنها ترد كلها، وذلك قائم من المدونة، من قوله في شهادة النساء للوصي: إن الميت أوصى إليه أن شهادتهن لا تجوز إن كان فيها عتق وأبضاع النساء، وكذلك المشهور في المذهب أيضا أن الشهادة إذا رد بعضها لانفراد الشاهد بها دون غيره؛ أنها تجوز فيما تصح فيه شهادة الشاهد الواحد، وتبطل فيما لا يصح إلا بشهادة شاهدين، مثال ذلك: أن يشهد الرجل على وصية رجل وفيها عتق ووصايا لقوم، فإن الموصى لهم بالمال يحلفون مع شهادة الشاهد، وتكون وصاياهم فيما بعد قيمة المعتق، وقد قيل: إن الشهادة كلها مردودة، حكى ذلك السدي عن أشهب وجميع جلسائه، وأما إذا لم يأت الشاهد بالشهادة على وجهها، وسقط عن حفظ بعضها؛ فإنها تسقط كلها بإجماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد لابنه ولأجنبي بحق على رجل فدفع الغريم الحق حين شهد الأب]
مسألة وسئل عن رجل شهد لابنه ولأجنبي بحق على رجل، فدفع(10/205)
الغريم الحق حين شهد الأب، وظن أن ذلك يلزمه، أو دفع إلى الأجنبي حصته، وحكم عليه بذلك، فلما اقتسماه هو والابن، وبان به الأجنبي، طلب الغريم نقض ذلك، وتكلم في شهادة الأب، قال أصبغ: ذلك له، يرد ذلك الحكم؛ لأنه حكم خطأ وخلاف السنة وظلم؛ لأن شهادته لابنه كشهادته لنفسه، وشهادته للأجنبي كشهادته لابنه؛ لأن أمرهما واحد، لا يكون للأجنبي شيء إلا كان لابنه فيه نصيب، فهو مردود كله، وهذا إنما قلنا إذا سقط بعض الشهادة سقطت كلها، فإذا نقض، فإن كان مع الأب شاهد غيره حلف مع شهادته واستحقا، وإلا فلا، قلت: فإن كان الغريم دفع من غير قاض ولا سلطان حكم عليه، ولكنه دفع من قبل نفسه، وقال: ظننت أن شهادة الأب جائزة، إذا شهد لأجنبي مع ابنه فدفعت إليه، ولم أرد أن ألجئهم إلى السلطان، ثم أخبرت أن شهادة الأب لا تجوز، فأنا أريد الرجوع.
قال: ليس له رجوع، ولا كلام في هذا، وأراه بمنزلة الذي ينفق على المطلقة قبل أن يستبين بها حمل، أو يقول: ظننت أنه كان يلزمني، فليس له رجوع عليها إن انفش حملها، وقبل أن ينفش لما قد تقدم، وإنما له لما يستقبل، فأما إذا دفع ومضى، فليس له فيه رجوع، قلت: وكذلك إن شهد شاهد لرجل بحق على رجل، فدفع إليه بغير يمين، ثم أتى بعد ذلك يتعقبه بيمين وقال: لم أظن أن لي عليه يمينا، فأنا أريد أن أستحلفه أيكون ذلك له؟ فإن لم يحلف رد ما أخذ أو كيف؟ فقال لي: هذا أبعد وأبعد، لا يكون له قول ولا رجوع.
قال محمد بن رشد: إنما لم يكن له رجوع إذا دفع بشهادة الأب؛ لأنه حمل عليه أنه علم أن ذلك لا يلزمه، ولم يصدقه فيما ادعى من أن ظن أن ذلك يلزمه، وقد قيل: إنه يصدق في ذلك إذا كان ممن يشبه أن يجهل مثل هذا، وهذا الذي يأتي على ما في كتاب الصلح، في الذي يصالح عن(10/206)
دم الخطأ، وهو يظن أن الدية تلزمه، وفي كتاب الشفعة في الذي يثيب على الصدقة، وهو يظن أن الثواب يلزمه، وكذلك اليمين إذا تطوع بتركها، فليس له فيها رجوع؛ لأنه لا يصدق فيما ادعى من أنه ظن أنه لم يكن عليه يمين، ويدخل في ذلك من الاختلاف ما دخل في الذي دفع بشهادة الأب، ولو حكم عليه بالدفع بشهادة الأب؛ لوجب أن يرجع بماله؛ لأنه حكم خطأ يجب فسخه، وكذلك لو حكم عليه بالدفع بالشاهد الواحد دون يمين؛ لكان من حقه أن يستحلفه، فإن نكل عن اليمين حلف واسترجع ماله، ولا خلاف في ذلك أعلمه.
وأما الذي ينفق على المطلقة قبل أن يستبين حملها، ثم يتبين أنه لم يكن بها حمل، فقد قيل: إنه لا رجوع له عليها، وإن أنفق عليها بقضاء، وهو قول مالك في كتاب النكاح لابن المواز، ومعنى ذلك عندي إذا لم تقر الزوجة أنه لم يكن بها حمل، وادعت أنها أسقطته، وفي مسألة الذي ينفق على المطلقة، ثم يتبين أنه ليس بها حمل أربعة أقوال؛ الرجوع من غير تفصيل، وأن لا رجوع من غير تفصيل، والفرق بين أن ينفق بقضاء أو بغير قضاء على وجهين، وقد مضى القول على هذه المسألة في سماع ابن القاسم، من كتاب طلاق السنة، وفي أول سماع أصبغ، ورسم المكاتب منه من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدان أن رجلا طلق امرأته البتة وأنهما رأياه بعد ذلك يزني بها]
مسألة قال أصبغ في الشاهدين يشهدان أن رجلا طلق امرأته البتة، وأنهما رأياه بعد ذلك يزني بها كالمرود في المكحلة، فقال: تسقط شهادتهما في الطلاق؛ لأنهما قاذفان حين رمياه بالزنا، وعليهما له الحد بقذفهما إياه، قلت: ولم حملت عليهما الحد، وإنما شهدا أنه وطئ امرأته التي أثبتها أنت تحته، ولم تقض بطلاقها؟ قال: ألا ترى أنهما يزعمان أنها ليست بامرأته، وأنه وطئها زانيا بها، وهما على ذلك، وأنها ليست له بامرأة، فلذلك رأيت عليهما الحد قائما لا يزول، قال ابن الماجشون: الحد ساقط(10/207)
عنهما لسقوط شهادتهما في الطلاق؛ لأنه إذا سقط في الطلاق، فإنما شهدا أنه وطء امرأته، وهي امرأته كما هي لم تزل، قال أصبغ وعبد الملك: ولو شهدا عليه بطلاق امرأته البتة، وشهدا أنهما رأياه على بطنها أو في لحاف عريانين جميعا فيما دون ما يحق الزنا، فالطلاق لازم، يفرق بينهما، ويؤدبان فيما فعلا من ذلك.
وسئل سحنون عنها فقال: الشهادة ساقطة، ولا حد عليهما؛ لأنهما لما سقطت شهادتهما في الطلاق، ولم تجز فيه لم يجب عليهما الحد، ونظيرتها الرجل يهلك، ويترك أخاه، وأمة حاملا، وعبدين، فأعتقهما الأخ، فشهد العبدان أن الأمة حامل من سيدها، وأن الأمة ولدت غلاما أن الشهادة ساقطة؛ لأنها لو ثبتت رد عتقهما، وصارا رقيقين، فلما بطلت الشهادة لم يلزمهما من إقرارهما بالرق شيء، وقاله أصبغ.
قيل لأصبغ: فلو بتل عتقهما في مرضه، وله مال مأمون، أو كان ذلك لهما من الهالك بوصية عتقا بعد موته، فشهدا بهذه الشهادة بعد تنفيذ الوصية لهما، أو قبل تنفيذها لهما بالعتق؟ فقال: أما الذي بتل عتقهم قبل موته، أو كان ذا مال مأمون، وأوصى لهم بالعتق، وحملهما الثلث، فشهادتهما جائزة، يرد بها الأمر كله إلى سبيل ما شهدوا به، ولا يضرهما ذلك؛ لأن عتقهما تام ماض، كان هذا، أو لم يكن، والموصى بعتقهم إذا كان في ثلث الميت ما يحملهم فهم كالمبتلين قبل موته، وشهادتهما جائزة لا يرقون هاهنا بشهادتهم شيئا من أنفسهم، قلت: فلو كان الثلث لا يحملهم فأتمه الوارث عن نفسه وأمضاه لهما؟ قال: لا تجوز شهادتهما، وكان مثل أول المسألة؛ لأن الشهادة إن أجيزت رجع الرق عليهما فيما فضل عن الثلث، فسقطت شهادتهما، وصارا بمنزلة ما لو ابتدئ عتقهما.(10/208)
قال الإمام القاضي: قد قيل: يلزمه الطلاق ويحد الشاهدان، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وعلى مذهب أكثر أصحاب مالك، في أن شهادة القاذف لا تجوز قبل الحد ولا بعده، وقال: هو قبل الحد هو شر منه بعد الحد؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، فكيف تقبل شهادته في شر حاليه، وليس قوله بصحيح؛ لأن الله تعالى إنما نهى عن قبول شهادته بعد الحدود، لا على قبولها قبل الحد بقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ؛ إذ من حقه أن يعذر إليه ليأتي بما يصدق قوله، وقول ابن الماجشون وأصبغ وسحنون في هذه المسألة على ما ذهب إليه الشافعي من سقوط شهادة القاذف بنفس القذف قبل إقامة الحد عليه، وهو قول أصبغ في إيجاب الحد على الشهيدين، وإن سقطت شهادتهما في الطلاق أظهر من قول ابن الماجشون وسحنون، وإن كان محمد قد تابعهما على قولهما فقال: إن الحد لا يلزمهما إلا بعد القضاء عليه بالطلاق؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] .
والإذاية قد حصلت بما رمياه به من وطئه إياها بعد طلاقها البتة، والمسألة التي نظرها سحنون بها فقال: إنها نظيرة لها، لا تشبهها؛ لأن الشهادة فيها لما ردت من أجل أن الشاهدين يتهمان على أنهما أرادا إرقاق أنفسهما، وجب أن يبقيا على حالهما من الحرية، ولا يلزمهما إقرارهما بالرق؛ إذ لا يجوز لحر أن يرق نفسه، والطلاق لما ردت الشهادة فيه من أجل أن الشاهدين يجرحان بما شهدا به من أنهما رأياه يزني بها بعد الطلاق، لم يمنع أن يلزمهما الحد؛ لأنه حق عليهما يجب أن يؤخذا به بخلاف الرق الذي لا يجوز للحر أن يلحقه بنفسه، فالحد في مسألة الطلاق مختلف في وجوبه، والرق في المسألة التي نظرها بها متفق على سقوطه، وذهب ابن(10/209)
كنانة فيهما إلى أن ينفذ حريتهما على الأخ؛ لأنه أعتقهما بشبهة الميراث، وتجوز شهادتهما للأمة، ويلحق نسب ابنها، ويغرم له الأخ القيمة، ويكون الولاء له، قال: لأني إن أجزت شهادتهما في الرق، كنت قد حكمت بشهادة العبيد، وإن لم أجز شهادتهما، ونفذت عتقها قالت الأمة: لمَ لم تحكم لي بشهادتهما وهما حران، فهي مهملة، والجواب فيها ما قلت لك، وكذلك قال فيها القاضي ابن كنانة في رجل ورثه بنو عم له، فورثوا معهم أختا لهم جهالة، فصار لها في حظها عبد فأعتقته، ثم تبين لهم أنهم أخطئوا على أنفسهم، وأنها ليست بعصبة؛ أن العتق ينفذ عليها لشبهة الميراث، وتغرم القيمة لإخوتها، ويكون الولاء لها، وقال يحيى: يرد عتقها؛ لأنها أعتقت ما لم تملك، وهو الصحيح، والله أعلم.
[: شهادة غير العدول]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم
قال عبد الملك: سئل ابن القاسم عن الرجل يحبس في الدم، فيأتي المدعي ببينة ليسوا بعدول، ويكون الشهود جماعة، فيقولون: قد كان هذا الأمر عندنا فاشيا مشهورا، فحبس هذا في الحبس إلى متى يكون حبسه؟ فقال ابن القاسم: شهادة غير العدول بمنزلة من لم تقم القاضي له بينة، فإن كان من أهل الريب فليحبسه الشهر ونحوه، وإن كان بريئا، فلا يحبس إلا أن يكون الذي ادعى عليه قريبا اليوم واليومين ونحوه.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة في المدعى عليه الدم إذا شهد عليه غير العدول، وهو من أهل التهم: إنه يحبس الشهر ونحوه هو مثل ما في سماع عبد الملك من كتاب الديات، خلاف ظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب الديات، وخلاف نص ما في الواضحة لمالك، من أن(10/210)
من ألطخ القاضي بالدم، ووقعت التهمة عليه، ولم يتحقق من ذلك ما تجب به القسامة أنه يحبس الحبس الطويل، ولا يعجل بإخراجه منه، حتى تتبين براءته، أو يأتي عليه السنون الكثيرة، قال مالك: ولقد كان الرجل يحبس في الدم باللطخ والشبهة، حتى إن أهله ليتمنون له الموت من طول حبسه، ولا يطلق إذا سرح بعد الشهر، أو بعد الطول حتى يستحلف خمسين يمينا، قاله في سماع ابن القاسم من كتاب الديات. وقوله: وإن كان بريئا؛ يريد وإن كان غير متهم، فلا يحبس إلا أن يكون الذي ادعى عليه قريبا اليوم واليومين ونحوه، هو مثل ما في سماع عبد الملك من كتاب الديات، خلاف ظاهر ما في سماع ابن القاسم منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: لشاهد يشهد عند القاضي فيكلفه العدالة لجهالته به]
مسألة وسئل عن الشاهد يشهد عند القاضي فيكلفه العدالة لجهالته به، فيقول الشاهد: لست أعرف هاهنا، وأنا معروف في بلدي، فاكتب إلى قاضي بلدي، فأعدل عنده هل ترى أن يكتب في عدالته إلى قاض معروف بتجويز البينة والعدالة، وأنه يقبل كل من شهد عنده ويعدل، فإن بعض القضاة غير موثوق بهم؟ قال ابن القاسم: لا ينبغي للقاضي أن يكتب في مثل هذا، ولا يحل له إلا أن يكون قاضيا عدلا موثوقا بناحيته، ولا يجيز كتاب جائر إذا ثبت ذلك عنده، ولا يحل له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى، في رسم الكبش، من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: العامل ورب المال شهادة كل واحد منهما لصاحبه]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن الشاهد يشهد للرجل والذي شهد(10/211)
له في يد الشاهد مال قراض أو سلف، هل ترد لذلك شهادته مليا كان أو معدما؟ فقال: إن كان الشاهد مليا جازت شهادته أسلفه أو قارضه؛ لأن العدم عندي من أعظم التهمة، وقال أشهب: إذا كان عدلا جازت شهادته مليا كان أو معدما، قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في العامل ورب المال: إن شهادة كل واحد منهما لصاحبه جائزة، وسئل عنها سحنون فقال: إذا شهد العامل لرب المال، والمال قائم بيد العامل، لم يشتر به شيئا، فلا تجوز شهادته؛ لأنا نتهمه أن يكون إنما شهد له ليقر المال بيده، فإن كان المال قد صرفه في سلع، فشهادته له جائزة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى، في آخر سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدتا على امرأة أنها ضربت بطن امرأة فألقت مضغة]
مسألة قال عبد الملك: سئل أشهب وأنا أسمع عن امرأتين شهدتا على امرأة أنها ضربت بطن امرأة فألقت مضغة، قال: تحلف مع شهادتهما، وتستحق دية جنينها.
قلت: فهل عليها كفارة؟ قال: لا كفارة عليها.
قال محمد بن رشد: قوله: وتستحق دية جنينها؛ معناه وتستحق حقها من دية جنينها، وقد قال ابن دحون: إنما أتى بهذه المسألة على أنه ليس للجنين وارث غير أمه، ولو كان له ورثة غيرها حلفوا كلهم، واقتسموا الغرة على كتاب الله؛ لأنها ليست قسامة، وهو كلام غير معتدل؛ لأنها لا(10/212)
تستحق دية الجنين على قول من يرى أنها موروثة على فرائض الله، وإن انفردت بها، وإنما تستحق منها بيمينها الثلث، ويكون سائرها لبيت المال، وإنما تستحق جميع دية الجنين بيمينها على مذهب من يرى أنها لها خاصة، ليس للأب فيها شيء ولا لغيره؛ لأن الجنين عضو من أعضائها، وهو قول ربيعة، أو على مذهب من يرى أنها للأبوين على الثلث والثلثين، وأيهما انفرد بها فهو أحق بها، وبذلك كان مالك يقول: ثم رجع عنه، وهو قول المغيرة وابن دينار وابن أبي سلمة، وقال ابن الماجشون بقول مالك الذي رجع إليه: إن دية الجنين موروثة على فرائض الله تعالى، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل يعدل الرجل أخاه]
مسألة وسألت أشهب هل يعدل الرجل أخاه؟ فقال: لا يعدله.
قلت: فهل تجوز شهادته له في الجراحات خطأ كان أو عمدا؟ فقال: نعم.
قال الإمام القاضي: قول أشهب هذا: إن الرجل لا يعدل أخاه؛ خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وفي المبسوطة لابن نافع وابن الماجشون: أنه لا تجوز تزكية الأب لابنه، ولا الابن لأبيه، ولا الزوج لزوجه، ولا الأخ لأخيه، واحتج ابن الماجشون في رد تزكية الأب لابنه بقول الله عز وجل: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] ، فجعل صلاح ذريته من صلاحه وصلاحه من صلاحهم، وقال(10/213)
مطرف بن عبد الله: ليس ذلك على ما قالا، وشهادة الأخ لأخيه إذا كان منقطع العدالة في كل شيء جائزة إلا في الولاء، وقال أبو المصعب الزهري: تجوز شهادته إلا في ولاء أو مال يجره إليه إذا كان فقيرا، وتجوز تزكيته له إذا كان منقطع العدالة، إلا فيما يدفع به عنه عارا، وقال مالك: تجوز تزكية الرجل إذا كان عدلا غير متهم لابنه وأبيه وأخيه ولامرأته إذا زكاهم، روى ذلك عنه ابن نافع وزياد بن عبد الرحمن، والمشهور أنه لا تجوز تزكية الرجل إلا لمن تجوز شهادته له، وبالله التوفيق.
[: يشهد لعمه في حق له على رجل وليس للعم وارث غيره]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن الرجل يشهد لعمه في حق له على رجل، وليس للعم وارث غيره، هل تجوز شهادته؟ قال: نعم؛ إذا كان عدلا منقطعا في الشهادة، ولم يكن محتاجا إلى ما في يديه، وليس هو ممن يمونه، ولا يحمل نفقته، قال: ولا تجوز شهادته له في فرية، أو حد جر إليه مما يجمعه، وإياه عصبية أو محمية.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال: إن شهادة الرجل لعمه بالمال وإن لم يكن له وارث سواه جائزة؛ لأن التهمة بالميراث ضعيفة، فلا يتهم فيها المبرز بالعدالة، وأما شهادته له في الفرية والحدود، وما تكون فيه العصبية والحمية، فبين أنه لا تجوز شهادته له فيه كالأخ، وبالله التوفيق.
[: ابني عم شهدا لابن عم لهما على مال]
ومن كتاب الوصايا
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم سئل عن رجل أوصى لفقراء أقاربه بحائط يغتلونه، فلم يشهد على تلك الوصية إلا أغنياء(10/214)
بني عمه، فقال: لا تجوز شهادتهم خوفا من أن يحتاجوا إلى ذلك يوما ما، إلا أن يكون شيئا تافها يسيرا، لا خطب له، ولا يتهمون في مثله لغناهم، ولعله لا يدركون ذلك، فإذا كان الأمر الخفيف الذي لا يتهمون على جر ذلك لأنفسهم رأيت ذلك لهم، وذلك أني سمعت مالكا سئل عن ابني عم شهدا لابن عم لهما على مال ولأموال، قال: إن كانا قريبي القرابة يتهمان في جر الولاء إليهما، فلا يجوز، وإن كانا من الفخر من الأباعد لا يتهمان على جر ذلك لأنفسهما، رأيت شهادتهما جائزة، وإن كان الولاء يرجع إليهما يوما ما، قال ابن القاسم: وهذه المسألة تشبه مسألتك. قال ابن القاسم: ولأنه لو استغنى بعض فقرائهم، وافتقر بعض أغنيائهم، أخرج من استغنى منهم، ودخل من افتقر، وإنما تقسم على من يكون فقيرا يوم يقع القسم في كل عام، وقاله أصبغ كله إلا أن يتباعد جدا، أو تتباعد التهمة فيما يرى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، فلا وجه للقول فيها، والله الموفق.
[: يبعث مع الرجلين بمال يدفعانه إلى رجل ويقول اشهدا أنتما عليه]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يبعث مع الرجلين بمال يدفعانه إلى رجل، ويقول: اشهدا أنتما عليه، فيفعلان ويذكر الذي بعث بالمال إليه أنه لا تجوز شهادتهما عليه؛ لأنهما(10/215)
يدفعان عن أنفسهما غير الغرم من العيب والتهمة وما أشبه ذلك، قال: ولا يكون عليهما غرم؛ لأنه بذلك أمرهما وبعثهما يشهدان عليه، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال من أن شهادتهما على المبعوث إليه لا تجوز لما يلحقهما في ذلك من الظنة، وأنه لا غرم عليهما؛ لأنه قد أذن لهما في الدفع إليه دون إشهاد، فيحلف المبعوث إليه أنهما ما دفعا إليه شيئا، ويغرم الباعث، ولا شيء على المبعوث معهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي بشاهد على حقه وهو كبير سفيه مولى عليه قد احتلم]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يأتي بشاهد على حقه وهو كبير سفيه مولى عليه قد احتلم، أنه يحلف مع شاهده، وإن كان سفيها، وليس هذا مثل الصبي هاهنا، فإن أبى أن يحلف حلف الآخر وبرئ، فإن نكل غرم، وإن حلف برئ، ولم يستأن به كما يستأنى بالصغير، وقاله أصبغ كله، والسفيه في اليمين بمنزلة العبد والنصراني، وهما يحلفان في حقوقهما، والحقوق تقع عليهما، هذه السنة الثابتة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الكبير السفيه المولى عليه يحلف مع شاهده، وهذا فيما لم يل وليه المبايعة فيه عليه، وأما ما ولي فيه المبايعة عليه مثل أن يبيع له سلعة، فينكر المبتاع، ويجحد الثمن، فإن كان دفع السلعة حلف هو مع الشاهد باتفاق، فإن نكل عن اليمين حلف المبتاع، وغرم هو؛ إذ لم يشهد، قيل: القيمة؛ على القول بأن الإشهاد لا يلزمه إلا عند دفع السلعة، وقيل: الأكثر من القيمة، أو الثمن؛ على القول بأنه يلزمه الإشهاد على الثمن، وإن لم يدفع السلعة، وإن كان لم يدفع السلعة فقيل: إنه لا يمين عليه مع الشاهد، ويحلف المولى عليه معه، وقيل: إنه هو الذي يحلف، فإن نكل عن اليمين غرم بعد يمين المشتري،(10/216)
وهذا على الاختلاف في وجوب الإشهاد عليه بالثمن، وإن لم يدفع السلعة، فإن نكل السفيه عن اليمين مع الشاهد في الموضع الذي يحلف فيه معه حلف المطلوب وبرئ، ولم يكن للسفيه أن يحلف إذا رشد كالكبير المالك لأمر نفسه، وقال ابن كنانة: إن نكل عن اليمين حلف المطلوب، وبرئ إلى أن يرشد السفيه، فيحلف ويستحق حقه كالصغير، وبه قال مطرف، وهو أظهر من قول ابن القاسم، وأما الصغير فلا يحلف مع شاهده، ويؤخر عنه اليمين إلى أن يبلغ بعد أن يحلف المطلوب، ولا يحلف مع شاهده، ولا الولي عنه، وقد روي عن مالك أنه يحلف مع شاهده، وهو بعيد شاذ، وعن ابن كنانة أن الأب يحلف عنه. وهذا كله فيما لم يل وليه المعاملة فيه، وأما ما ولي المعاملة فيه فيحلف؛ لأنه إن نكل غرم بما صنع من الإشهاد، وأما العبد المأذون له في التجارة والنصراني، فهما كالكبير كما قال: يحلفان في حقوقهما يريد مع شاهدهما، وفي الحقوق تقع عليهما يريد بالدعوى، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد عليه رجلان بجرحة فقالا رأيناه سكران]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه رجلان بجرحة فقالا: رأيناه سكران، أو رأيناه يسرق؛ فجرحاه بذلك في شهادة شهداها أنه يقام عليه الحد إذا قطعا عند الحاكم بمعاينة، فهو علم ودياه يومئذ، فهي شهادة يؤديانها، ولا يضرهما تركهما قبل ذلك؛ لأن ذلك ستر سترا به عليه.
قال محمد بن رشد: في المدنية لمالك من رواية محمد بن صدقة، مثل رواية أصبغ هذه: إنه يقام عليه الحد، وقال عيسى عن ابن القاسم: لا أرى أن يقطع ولا يحد، وقال عيسى: أحب إلي أن يقطع ويحد، وهو الذي يوجبه النظر للعلة التي ذكرها من أن الشاهد لا يضره ترك القيام بشهادته على السارق والزاني؛ لما أمر به من الستر، وبالله التوفيق.(10/217)
[مسألة: الشاهد تجوز شهادته للمشهود له إذا كان موسرا بماله عليه من الدين مليا به]
مسألة قال أصبغ: قال لي ابن القاسم في رجل أقام على ميت بينة بألف دينار، فجاء أولياء المقتول بشهيدين يشهدان أنه أبرأه، فجاء المدعي بشهيدين على هذين الشهيدين أن للميت عليهما دينا، أو له عندهما مالا قراضا أو وديعة؛ أنهما إن كانا موسرين بذلك جازت شهادتهما على ما شهدا، وإن كانا غير موسرين بذلك لم تجز شهادتهما؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما الطلب، وما أشبه ذلك، وإنهما إن أقرا بالدين إلا أنهما معسران، لم ينفعهما ذلك، ولم تجز شهادتهما، وإن قالا في الوديعة والقراض قد ضاع ذلك، فأما الوديعة فأرى شهادتهما جائزة، ولا يستحلفهما إن لم يكونا متهمين، وإن كانا متهمين استحلفا، وسكت عن الجواب في القراض هاهنا، ولم يجب بشيء، قال أصبغ: وأرى أنهما سواء، وذلك إذا كان ذهابهما طريا، مما لا يجري عليهما فيه خصومة ولا حجة، وإن ذكرا ذهابا قديما مما تدخل فيه التهمة والخصومة، لم تجز شهادتهما.
قال الإمام القاضي: قوله: إنهما إن كانا موسرين بذلك، جازت شهادتهما على ما شهدا به صحيح لا اختلاف في أن الشاهد تجوز شهادته للمشهود له إذا كان موسرا بماله عليه من الدين مليا به، لا مشقة عليه في إحضاره، كما أنه لا اختلاف عندي في أن شهادته له لا تجوز إذا كان مليا بماله عليه من الدين، إلا أنه لا يمكنه إحضاره إلا ببيع ما يشق عليه من عقاره وعروضه؛ لأنه يتهم أن يكون إنما شهد له ليؤخره إلى أن تأتي فائدته،(10/218)
فلا يبيع عقاره وعروضه، واختلف إذا كان معدما، فلم ير ابن القاسم شهادته له جائزة، وإن كان الحكم يوجب تأخيره؛ لأنه اتهمه أن يكون إنما شهد له ليترك طلبه وتحليفه، وذلك بين من قوله في هذه الرواية؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما الطلب وما أشبه ذلك، ورأى أشهب شهادته له جائزة على ما مضى له في سماع زونان؛ لأن الحكم يوجب له التأخير، فلم يتهمه في أنه شهد له ليسقط عنه اليمين، ورأى ذلك خفيفا، لا يتهم العدل في مثله، فهذا تحصيل هذه المسألة عندي: وجه تجوز فيه شهادته باتفاق، ووجه لا تجوز فيه باتفاق، ووجه يختلف في جوازها فيه.
وقوله: وإن قالا في الوديعة والقراض قد ضاع ذلك، فأما الوديعة فأرى شهادتهما جائزة، ولا يستحلفهما، بين لا إشكال فيه؛ لأنه إذا لم يجب عليهما غرم ولا يمين فلا وجه لإسقاط شهادتهما، وقال: إنهما إن كان متهمين استحلفا، يريد وبطلت شهادتهما؛ إذ لا يتهم بجحد الودائع إلا من ليس بعدل، فإذا ادعى الذي عنده الوديعة أو القراض أنه ضاع منذ مدة لزمته اليمين عند ابن القاسم، وإن كان عدلا، ولم تجز شهادته؛ لأنه يتهم أن يكون إنما شهد ليسقط عنه اليمين، ولزمه الغرم عند أصبغ، قاله في سماعه، من كتاب الوديعة، وعليه يدل قوله هاهنا، وإن كان ذهابها قديما مما تدخل فيه التهمة والخصومة لم تجز شهادتهما؛ لأن وجه الخصومة في ذلك على مذهبه أن يكلف إقامة البينة على أنه قد سمع منه التشكي بتلفها، فإن لم يأت على ذلك ببينة لزمه الغرم، وإن كان التلف قريبا لم تلزمه يمين، وجازت شهادته، ويأتي على قياس رواية ابن نافع عن مالك في إيجاب اليمين عليه، وإن لم يتهم ألا تجوز شهادته، وأشهب يخفف أمر اليمين، فيرى شهادته جائزة، إلا في الموضع الذي يجب عليه فيه الضمان، وبالله التوفيق.
[: له عليه حق فيلزمه فيطلب من آخر أن يعطيه دنانيره ويشهد على ذلك]
ومن كتاب القضاء المحض قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل له على(10/219)
رجل حق فيلزمه، فقال الملزوم لرجل معه: اذهب ائتني بدنانير، فذهب الرجل فأتاه بدنانير، فدفعها إليه، فقبضها منه، وأوصلها إلى الذي يسأله الحق، ثم لبثوا أياما، فأتى الرجل المرسل إلى صاحب الحق الطالب يسأله شهادته بدفعه الدنانير إلى الذي عليه الحق، وزعم أنها له، وأراد أخذها من الذي عليه الحق، أترى للذي له الحق الطالب أن يشهد؟ وهل ترى شهادته جائزة؟ قال: نعم، أرى شهادته جائزة؛ لأنه قد انقطع ما بينهما، ولا يجر بها إلى نفسه شيئا، وليس للذي كان الحق عليه هاهنا حجة تطرح بها شهادته، ولا يدفعها بشيء، وليس هاهنا تهمة، فأرى شهادته جائزة، وقاله أصبغ، ولو كان إنما هو دفعها إليه عنه لم تجز، ولكنه دفعها إلى صاحبه، فكان هو الدافع عن نفسه إلى الغريم، فشهادته جائزة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، لا إشكال فيها، فلا معنى للقول فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قوله إحدى امرأتيه أو امرأته وله امرأتان طالق]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه شاهد واحد أنه حلف على شيء أنه إن فعله فامرأته طالق، وشهد آخر أنه قال: إن فعله فإحدى امرأتيه طالق، ففعله وجحد شهادتهما، قال: لا تجوز شهادتهما؛ لأنها قد اختلفت. قال أصبغ: لا يعجبني ما قال ابن القاسم، ولا أدري كيف أجاب فيها بفهم أو بغير فهم، أو علم أو غيره، وأرى قوله: إحدى امرأتيه أو امرأته، وله امرأتان سواء، لا يفترق ذلك؛ لأن الحكم فيه يرجع إلى أمر واحد، وإلى النية والتدين، فإن كانت واحدة وإلا طلقتا جميعا، فهي شهادة مجتمعة غير مفترقة، فإن أقربها وادعى النية فله ذلك، وإن أنكرها كان(10/220)
كمن أقر، ولا نية له، فتطلقان جميعا بالشهادة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم العرية، من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدون على شهادة الرجل عند القاضي وهم لا يعرفونه والقاضي يعرفه بالعدالة]
مسألة قال أصبغ: سألت أشهب عن القوم يشهدون على شهادة الرجل عند القاضي، وهم لا يعرفونه، والقاضي يعرفه بالعدالة أو يعدله عند القاضي غيرهم، أتجوز شهادته بعينه؟ قال: نعم؛ إذا عرفه القاضي بالعدالة جازت شهادته، قال أصبغ: ذلك بعد معرفة أخرى بأنه الرجل الذي شهد على شهادته بعينه لا يحتمل اسمه لغيره، فيكون غير الذي عرف القاضي بالعدالة والمعدلون.
قال الإمام القاضي: قوله: وهم لا يعرفونه؛ معناه لا يعرفونه بالعدالة، ويعرفونه بالعين والاسم، مع أن يكون مشهورا لا يختلط بغيره، وأما إن كانوا لا يعرفونه بالعين والاسم، أو كانوا يعرفونه بالعين والاسم ولكن ليس بمشهور، فلا تجوز الشهادة؛ لاحتمال أن يكون الذي شهدوا على شهادته غير الذي عرفه القاضي بالعدالة والمعدلون، وهذا معنى قول أصبغ، فهو تفسير لقول ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: تحليف الرجل أباه في حق يدعيه فيه]
مسألة وسئل عن الذي يقع له القضاء على أبيه باستحلافه، أو الحد يقع له عليه، فيريد أخذه فيقال له: إنه عقوق أن تستحلفه أو تحده فيستحلفه أو يحده، فقال: لا تجوز شهادته، قيل له: فإن كان جاهلا بأنه عقوق، فرأى ألا تجوز أيضا شهادته وقال: إن عذر بالجهالة في هذا عذر أيضا في أشياء كثيرة من ارتكاب الحرام، وما(10/221)
أشبه ذلك، فلا أرى أن تجوز شهادته، قال أصبغ: ثم سألته أيضا عمن استحلف أباه في حقه، وحقه حق، قال: أراه عقوقا، وإن كان حقه حقا، فلا أرى أن تجوز شهادته.
قال محمد بن رشد: اختلف في تحليف الرجل أباه في حق يدعيه فيه، أو حده على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك مكروه، وليس بعقوق فيقضى له بذلك، ولا تسقط به شهادته. والثاني: أن ذلك عقوق، فلا يقضى له بذلك، وهو مذهب مالك في المدونة في اليمين، في كتاب المديان، وفي الحد في كتاب القذف، وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لما أوجبه الله من بر الأبوين بنص القرآن، وبما تظاهرت به الآثار، وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمين للولد على والده، ولا للعبد على سيده» . والثالث: أن ذلك عقوق، إلا أنه يقضى له به، وتكون جرحة فيه تسقط به شهادته، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وهو بعيد؛ لأن العقوق إن كان من الكبائر، فلا ينبغي أن يمكن من فعله أحد، وبالله التوفيق.
[: تفتدي من زوجها ويقوم لها بينة يشهدون لها على السماع أن زوجها كان يضربها]
ومن كتاب النكاح قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن التي تفتدي من زوجها ويقوم لها بينة يشهدون لها على السماع أن زوجها كان يضربها؛ أتجوز في مثل هذا شهادة السماع؟ قال: نعم، ومن يشهد في هذا إلا بالسماع؟ يسمع في ذلك الرجل من أهله، ومن الجيران، وما أشبه ذلك، ويكون ذلك أمرا فاشيا، قلت: أفيجوز في مثل هذا شاهدان على السماع؟ فقال: السماع البين في مثل هذا، والأمر المعروف أحب إلي، وعسى بهذا أن يجوز، فأرى أن تجوز.
قلت: أيحلف مع ذلك؟ قال: لا.(10/222)
قلت: فإن شهد لها شاهد واحد على البتات، فقطع الشهادة أن زوجها كان يضربها ويضيق عليها، أتحلف معه؟ قال: وكيف يعرف ذلك؟
قلت: يقول سمعته واستبان عندي، قال: إن كان هذا يكون فعسى، وانظر فيه، قال أصبغ: وهو عندي جائز إن لم يكن معه غيره، فكان معه سماعا قاطعا، وإلا حلفت معه، وإن كان معه سماع منتشر، وإن كان غير قاطع رد عليها العطية والوضيعة؛ لأنه مال تحلف عليه مع شاهدها ويمضي الفراق، قال أصبغ: ثم سألته بعد ذلك، فقال: نعم تحلف مع شاهدها، ويرد عليها، وهو مثل الحقوق، وأنا أرى ذلك؛ لأنها إنما تحلف على مال، والطلاق قد مضى بغير ذلك.
قال الإمام القاضي: إجازة ابن القاسم في هذه الرواية شهادة السماع في ضرر الزوج بزوجته دون يمين خلاف أصله في المدونة في أن شهادة السماع، لا يثبت بها النسب ولا الولاء، وإنما يستحق بها المال مع اليمين، واختياره ألا يكتفى في ذلك بشهادة الشاهدين، إنما هو مراعاة لما ذهب إليه ابن الماجشون من أنه لا تجوز في شهادة السماع أقل من أربعة شهداء، وقد مضى تحصيل الخلاف فيما تجوز فيه شهادة السماع مما لا تجوز في صدر نوازل سحنون.
وأما الشهادة في ذلك على البت من جهة السماع، فلا اختلاف في إجازتها، فإن لم يشهد بذلك إلا شاهد واحد حلفت معه، واستردت مالها على ما قاله في آخر المسألة، ولا وجه لتمريضه ذلك في أول المسألة بقوله: فعسى، وانظر فيه، وقول أصبغ: إنه إن لم يكن مع الشاهد على البت غيره حلفت معه، وإن كان معه سماع قاطع أو منتشر غير قاطع ردت عليها العطية والوضيعة، يدل على أنه أنزل السماع منزلة شاهد آخر على البت، فلو انفردت على مذهبه شهادة السماع لم يستحق بها المال دون يمين، فقوله على قياس قول ابن القاسم، وروايته عن مالك(10/223)
في المدونة خلاف روايته عنه في هذه الرواية، فتدبر ذلك وأنعم النظر فيه.
[: شاهد الزورهل تقبل شهادته]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في شاهد الزور: هل تقبل شهادته؟ قال: إن عرفت منه توبة وإقبال وتزايد في الخير فأرجو، قيل له: إنها سر، قال: إن عرفت بالتزيد، فأرجو أن تقبل شهادته، ولا أظنه إلا قول مالك.
قال محمد بن رشد: في بعض الروايات أنها سر، وفي بعضها أنها أشد، وفي بعضها أنها أشر، وفي بعضها أنها أبين، والصحيح في المعنى من ذلك رواية من روى أنها سر يريد أن ما يستسر به لا تقبل توبته منه كالزنديق، وظاهر هذه الرواية خلاف ما في المدونة من أنها لا تجوز أبدا وإن تاب وحسنت حاله، وقد قيل: إن معنى رواية أبي زيد هذه إذا أتى تائبا مستهلا مقرا على نفسه بشهادة الزور، قبل أن تظهر عليه، ومعنى ما في المدونة، إذا عثر عليه أنه شهد بزور، ولم يستهل هو بذلك على نفسه، وهو الأولى، والله أعلم.
[مسألة: شهد أحدهما على رجل أنه صالح امرأته وشهد الآخرأنه طلقها طلقة أو البتة]
مسألة وقال في رجلين شهد أحدهما على رجل أنه صالح امرأته، وشهد الآخر أنه طلقها طلقة أو البتة، قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: لا شيء عليه، لا طلاق عليه؛ لأن شهادتهما توجب اليمين عليه، وهذه مسألة قد تقدمت في مواضع، ومضى القول فيها مستوفى في رسم العرية، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(10/224)
[مسألة: يقضى بشاهدي المطلوب]
مسألة وسئل عن رجل أتى بشاهدين يشهدان أن له على فلان عشرين دينارا، وجاء المشهود عليه بشاهدين يشهدان أن هذا المدعى عليه أقر عندنا منذ أشهر أن ليس له قبل فلان شيء، ولا يدري الشاهدان اللذان شهدا على الحق أقبل هؤلاء الشهود أم بعد؟ قال: أرى أن يقضي بشاهدي المطلوب، قيل له: فإن لم يعلم شاهدا المطلوب، ولا شاهدا الطالب متى شهدوا هؤلاء قبل هؤلاء، أم هؤلاء قبل هؤلاء؟ قال: يقضى بشهداء المطلوب.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المطلوب لم ينكر العشرين، لكنه أقر بها، وادعى البراءة منها، واستظهر على ما ادعاه بإقرار الطالب أنه لا شيء له عنده، فالطالب يقول: إنما أقررت له بأنه لا شيء له عندي قبل أن يجب لي عليه العشرون، والمطلوب يقول: إنما أقر بذلك لبراءتي منها إليه بعد وجوبها له علي، فقيل: القول قول المطلوب، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية؛ لأن قوله يقضى بشاهدي المطلوب، معناه يقضى بأن يكون القول قول المطلوب من أجل شهادة شاهدين، وقيل: القول قول الطالب، وهو الذي يأتي على قول ابن نافع في سماع يحيى من كتاب الدعوى والصلح، وهذا إذا كانت بينهما مخالطة، ولو لم تكن بينهما مخالطة؛ لكان القول قول المطلوب قولا واحدا، ولو كان له قبله حق قديم غير هذا؛ لكان القول قول الطالب قولا واحدا، بدليل ما في سماع أشهب من كتاب الوديعة، ووجه القول الأول هو أن إقرار الطالب أنه لا حق له قبله دليل على أنه قد استوفى حقه منه؛ إذ لا يشهد أحد بأنه لا حق له عند من لم يكن قط عنده حق، ووجه القول الثاني: أن الدين قد وجب على المطلوب بإقراره على نفسه، فلا يسقط عنه إلا بيقين، وهو الأظهر، وكذلك إذا أقر المطلوب بعشرين، وأتى ببراءة بعشرين فقال: هي العشرون التي أقررت لك بها، وقال الطالب: بل هي غيرها، يكون القول قول الطالب إن كان له قبله غيرها، والقول فيها قول المطلوب إن لم يكن كان له قبله(10/225)
غيرها، ولا كانت بينهما مخالطة، ويختلف إن لم يكن له قبله حق، وكانت بينهما مخالطة على القولين المذكورين، ولسحنون في نوازله من كتاب المديان والتفليس قول ثالث في هذه المسألة، وهو تفرقته بين أن يأتي المطلوب ببراءة واحدة تستغرق العدد أو ببراءات مفترقات، وهو قول ضعيف، وأما إن كان المطلوب منكرا للعشرين التي قامت عليه البينة بها، فلا إشكال ولا اختلاف في أن القول قول الطالب؛ إذ لا تسقط بينة بأمر محتمل، وإنما يختلف إذا أتى بالبينة أنه قضاه العشرين بعد الإنكار، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الذي عليه الحق]
مسألة وسئل عن رجل يكون له على رجل عشرة دنانير، فيشهد الذي عليه الحق أن طالب العشرة دنانير أقر أنها ليست له، وأنها لفلان، وشهد بذلك عليه رجل آخر مع الذي عليه الحق؟ قال: لا تجوز شهادة الذي عليه الحق، ويحلف ذلك الرجل مع شاهده، ويستحق العشرة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أن شهادة الذي عليه العشرة، لا تجوز للطالب؛ لأنه شاهد لنفسه على المشهود عليه أنه لا حق له قبله، وسواء كان الطالب المشهود عليه حاضرا أو غائبا، بخلاف ما كان حاضرا ليس في الذمة مثل أن يقر الرجل أن المال الذي دفعه إليه فلان هو لفلان، أو أن الشيء الذي وضعه على يديه فلان قد تصدق به على فلان، فهذا يفرق فيه بين أن يكون المشهود له حاضرا أو غائبا على ما في كتاب الشهادات وغيره من المدونة، وبالله التوفيق.(10/226)
[مسألة: قيد الرجل ما أشهد عليه بخط يده ثم نسي بعد ذلك]
مسألة قلت له: كنت قاعدا عند ضمام، فجاء رجل فأشهدني على شهادة ضمام، فكتبت شهادتي، ثم جاء الرجل بعد حين بكتاب فيه شهادتي، وعرفت خطي، وأثبت أن ضماما أشهدني على شهادته في أمر دار، أذكر ذلك غير أني لا أحفظ أن هذا الكتاب الذي فيه شهادتي قرئ علي، ولا أحفظ أنه أشهدني على هذه الدار التي في هذا الكتاب، قال: إن لم تثبت شهادتك في الكتاب حرفا بحرف، فلا تشهد.
قال محمد بن رشد: إنما هذا إذا قيد الرجل ما أشهد عليه بخط يده ثم نسي بعد ذلك، ولم يذكر جميع ما قيده غير أنه يعرف أنه خطه، وفي هذا اختلاف، وقد مضى بيانه في نوازل سحنون قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدوا على رجل فقال بعضهم قال امرأتي طالق وقال آخرون قال غلامي حر]
مسألة قال ابن القاسم في نفر جماعة شهدوا على رجل أنه تكلم بكلمة واحدة، فقال بعضهم: إنما قال: امرأتي طالق، وقال آخرون: إنما قال: غلامي حر؛ لا طلاق عليه ولا حرية عليه، وكذلك لو شهد بعضهم أنه أقر لفلان بمائة دينار، وقال الآخرون: إنه أقر له بمائة درهم أنه لا يلزمه الدنانير ولا الدراهم، ولو شهد بعضهم أنه أقر لرجل بمائة دينارا، وشهد الآخرون أنه أقر له بخمسين دينارا قال: يغرم المائة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الصبرة، من سماع يحيى، وفي نوازل سحنون وأصبغ، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.(10/227)
[مسألة: ما تكافؤ البينة]
مسألة وسئل ابن القاسم: ما تكافؤ البينة؟ قال: أن يكونوا في العدالة سواء، ولا ينظر إلى الكثرة من القلة، قيل: أريت إن كان لي شاهد عدل، وجاء صاحبي بشاهدين عدلين إلا أن شاهدي أعدل من الشاهدين؟ قال: يقضى بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق، ولا يلتفت إلى شهادة الشاهدين وإن كانا عدلين.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها أن الترجيح بين البيتين إنما يكون بكثرة العدالة لا بكثرة العدد، وروى مطرف وابن الماجشون عن مالك: أن البينتين إذا استوتا في العدالة، وإحداهما أكثر من الأخرى، قضى بالأكثر عددا، إلا أن يكون الأقل عددا كثيرا يكتفي بهم الحاكم فيما يلتمس من الاستظهار، فهنالك لا تغني كثرتهم شيئا، ويكون استواؤهم في العدالة كما لو لم يشهد فيه أحد، فإن كان الشيء المشهود فيه بيد أحد المدعيين أقر بيده، وإن لم يكن بيد واحد منهما استحلفا جميعا، وقسم بينهما بعد الاستيناء إن كان مما يرى الحاكم الاستيناء فيه، ومن أهل العلم من لا يرى الترجيح أصلا، لا في العدالة ولا في العدد، ويقول: إذا شهد شاهدان عدلان ممن تنقطع بهما الشهادة لو لم يكن غيرهما، فهما ومن هو أعدل منهما، وأكثر عددا من البينة بمنزلة سواء؛ لأنهما قد أحقا لمن شهدا له ما أحقه أولئك الذين هم أعدل وأكثر، وهو قول المخزومي، قال ابن حبيب: ولو أخذ أحد بهذا ما أخطأ.
وأما قول ابن القاسم: إنه يقضى بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق إذا كان أعدل من الشاهدين، فهو خلاف قوله في سماع أصبغ عنه من كتاب الدعوى والصلح، وخلاف ما حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون، من أن الشاهدين إذا كانا عدلين أحق من اليمين مع الشاهد الذي هو أعدل أهل زمانه، وهو الأظهر؛ إذ من أهل العلم من لا يرى الحكم باليمين مع الشاهد أصلا، ومن لا يرى الترجيح بين البينتين أصلا، فالقول بأنه يقضى بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق إذا كان أعدل من(10/228)
الشاهدين، إغراق في القياس، وقد مضى في آخر سماع عيسى القول في الترجيح بين المعدلين، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد لابن امرأته]
مسألة ولا تجوز شهادة رجل يشهد لابن امرأته، وكذلك شهادة المرأة لابن زوجها، أنها لا تجوز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم جاع، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: شهادة رجل على قضاء قاض أنه قضى لفلان على فلان بهذا الحق]
مسألة قال: ولا تجوز شهادة رجل على قضاء قاض أنه قضى لفلان على فلان بهذا الحق حتى يشهد على أنه قضى به شاهدان.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ذكرا أن رجلا استودعهما شهادة والذي استودعهما الشهادة غائب]
مسألة وسئل عن رجلين ذكرا أن رجلا استودعهما شهادة، والذي استودعهما الشهادة غائب، فقاما بتلك الشهادة، فشهدا بها وقضى بشهادتهما مع رجل غيرهما، ثم جاء الشاهد الغائب الذي شهد الرجلان على شهادته، فأنكر أن يكون أشهدهما على شيء من هذا الأمر؟ قال: لا ينظر إلى قوله، ويمضي على ما شهدا أولا.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته هنا، وبالله التوفيق.(10/229)
[مسألة: شهادتهم لمن شهدوا له في مجلسين]
مسألة قيل: أرأيت لو شهدت لرجل أن له على رجل عشرة دنانير، وشهد لي الرجل الذي شهدت له أن لي على رجل عشرة دنانير في مجلس واحد؟ قال: إذا كنتما عدلين لا تتهمان في شهادتكما، جازت شهادتك له، وشهادته لك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الاختلاف في هذه المسألة في نوازل سحنون، وتحصيله أن في شهادة الشهود لمن شهدوا له في مجلس واحد ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها لا تجوز. والثاني: أنها جائزة، والثالث: أنها جائزة إن كانت على رجلين، وغير جائزة إن كانت على رجل واحد، وأما شهادتهم لمن شهدوا له في مجلسين فهي جائزة إن كانت على رجلين، وإن كانت على رجل واحد فعلى قولين، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد قطع بشهادة حق فظن أنه حر ولم يعلم بذلك حتى عتق]
مسألة وعن عبد قطع بشهادة حق، فظن أنه حر، ولم يعلم بذلك حتى عتق؟ قال: يرد الحق ولا يقطع.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما مضى قرب آخر نوازل سحنون، وقد مضى من القول على ذلك هنالك، ما لا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة ابن الملاعنة في الزنا]
مسألة قال ابن القاسم: تجوز شهادة ابن الملاعنة في الزنا، ولا يشبه ولد الزنا.(10/230)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في آخر نوازل سحنون، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا عليه وأختلفا]
مسألة وقال فيمن شهد عليه شاهد واحد في شيء إن فعله فامرأته طالق، وشهد آخر أنه قال: إن فعله فإحدى امرأتيه طالق، ففعله وأنكر شهادتهما، قال: لا تجوز شهادتهما؛ لأنها قد اختلفت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تكررت في مواضع، ومضى القول عليها مستوفى في رسم العرية، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة السماع]
مسألة قال: وإنما تجوز شهادة السماع أن يقول: لم أزل أسمع أن فلانا مولى فلان فيرثه، ولا يجر ولاءه، ولا يرث مواليه، ولا بني عمه يريد الميت، ولا عصبته، إنما يرث ما له قط، ولا يجر ولاءه ولا يثبت له نسب، إلا أن يكون أمرا مشتهرا مثل أن يقول: أشهد أن نافعا مولى ابن عمر، وأن عمر هو ابن الخطاب؛ لأن هذا أمر معروف، ولا يختلف فيه أحد، فإذا كان مثل هذا أجزت له الولاء، وأثبت له النسب، قيل له: أنشهد الساعة أنك ابن القاسم، ولا أعرف أباك، ولا أعرف أنك ابنه إلا بالسماع؟ قال: نعم، تقطع بهذه الشهادة، ويثبت بها النسب، ويرث ويورث، ويجر الولاء إذا كان في مثل هذا الأمر المعروف.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن السماع إذا كان مشتهرا في الولاء والنسب مثل ما اشتهر من أن نافعا مولى(10/231)
ابن عمر، ومن أن عمر هو ابن الخطاب، يثبت به النسب والولاء، ويشهد الشاهد فيه على القطع، فيقول: نشهد أن فلانا هو ابن فلان، وأن فلانا هو مولى فلان، وأما إذا لم يكن السماع بذلك، مشتهرا اشتهارا يصح للشاهد به الشهادة على القطع، فقال في شهادته: لم أزل أسمع من أهل العدل وغيرهم أن فلانا هو ابن فلان، وأن مولى فلان ففي ذلك اختلاف، قيل: إنه يثبت بذلك النسب والولاء، وهو قول أشهب، والذي يأتي على قياس قول ابن القاسم في سماع أصبغ، في إجازة شهادة السماع، في ضرر الزوجين، وقيل: إنه لا يثبت بها النسب ولا الولاء، ويستحق بها الميراث، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية وفي المدونة، ويتخرج في المسألة قول ثالث: أنه لا يثبت بها النسب ولا يستحق بها المال؛ لأن المال لا يستحق إلا بعد ثبات النسب أو الولاء، وقد مضى في صدر نوازل سحنون تحصيل الاختلاف فيما تجوز فيه الشهادة على السماع مما لا تجوز، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهادة على الشهادة في الزنا]
مسألة قال ابن القاسم تجوز شهادة ثلاثة على ثلاثة في الزنا واثنين على واحد.
قال محمد بن رشد: هذا نص قول ابن القاسم في المدونة: أن الشهادة على الشهادة في الزنا لا تتم بأقل من أربعة شهداء إذا شهدوا على كل واحد من الأربعة الذين شهدوا على الرؤية، وكذلك لو شهد منهم اثنان على اثنين، أو اثنان على ثلاثة، أو اثنان على واحد، فإن لم يفرقوا لم يكن بد من اثنين على كل واحد، فيصيروا ثمانية، ويجوز في تعديلهم ما يجوز في تعديل غيرهم اثنان على كل واحد منهم، أو أربعة على جميعهم، وهو مذهب ابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ؛ فقول ابن القاسم في(10/232)
الرواية: يجوز ثلاثة على ثلاثة في الزنا، واثنين على واحد؛ كلام خرج على سؤال سائل، فلا دليل فيه على أنه لا يجوز عنده أقل من ذلك؛ لأنه يجوز على مذهبه اثنان على الثلاثة، واثنان على الواحد حسبما ذكرناه، وذهب مالك في رواية مطرف عنه إلى أنه لا يجوز في الشهادة على الشهادة في الزنا إلا ستة عشر شاهدا أربعة على كل واحد من الأربعة اجتمعوا أو افترقوا، وكذلك لا يجوز عنده في تعديل الشهود على الزنا إلا ستة عشر شاهدا أربعة على كل واحد من الأربعة، اجتمعوا أو افترقوا، وفي تعديل الشهود على الشهود إلا أربعة وستون أربعة على كل واحد من الستة عشر، اجتمعوا أو افترقوا، ويتخرج في المسألة قول ثالث، وهو أنه واحد من الستة عشر اجتمعوا أو افترقوا، ويتخرج على كل واحد منهم إن افترقوا، وقد مضى طرف من هذا المعنى في آخر نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الرجل على الرجل بما سمع منه دون أن يشهده]
مسألة قال ابن القاسم في قاض شهد عنده رجل لرجل أن له على فلان مائة دينار، فذهب فأتى بشاهد آخر، فمات الشاهد الذي شهد وعزل القاضي، فأراد القاضي أن يشهد أنه قد شهد عنده فلان أن له على فلان مائة دينار أتثبت شهادته؟ قال: نعم، إن شهد معه غيره، وإلا فلا.
قال الإمام القاضي: شهادة الرجل على الرجل بما سمع منه دون أن يشهده، تنقسم على ثلاثة أقسام؛ أحدها: شهادته عليه بما سمع منه من قذفه لرجل بما يجب له به عليه حد أو أدب. والثاني: شهادته عليه بما سمع منه من إقراره على نفسه لرجل بحق. والثالث: شهادته عليه بما سمع منه من شهادته على غيره، فأما شهادته عليه بما سمعه منه من قذفه لرجل بما يجب له به عليه حد أو أدب، فلا اختلاف في أن شهادته عليه جائزة، وأما شهادته عليه بما سمع منه من إقراره على نفسه لرجل بحق، ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه لا يشهد ولا تجوز شهادته إن شهد، وهو أحد قولي مالك في(10/233)
المدونة، وقول ابن أبي حازم، وابن الماجشون وروايته عن مالك في المدنية، ومثله لمالك في كتاب ابن المواز، قال: لا يشهد الرجل على الرجل بما سمع من إقراره على نفسه دون أن يشهده على ذلك، إلا أن يكون قاذفا. والثاني: أن شهادته جائزة، وهو أحد قولي مالك في المدونة، واختيار ابن القاسم فيها، وأما شهادته عليه بما سمع منه من شهادته على غيره بحق أو قذف أو زنا، فلا اختلاف في أنه لا يجوز له أن يشهد على شهادته بما سمع منه دون أن يشهده، فإن شهد لم تجز شهادته، وحد إن كان شهد على شهادته في زنا على اختلاف في ذلك، وقد ذكرناه في غير هذا الكتاب، واختلف إن سمعه يؤديها عند الحاكم، أو كان هو الحاكم فشهد بها عنده أو سمعه، يشهد غيره على شهادته، ولم يشهده هو، فالمشهور أن شهادته على شهادته جائزة، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية ورواية حسين بن عاصم عنه في بعض روايات العتبية من هذا الكتاب، والذي يأتي على قياس قوله في المدونة في إجازة شهادة الرجل على الرجل، بما سمع منه إذا استوعب كلامه، وإن لم يشهده، وقد قيل: إنها لا تجوز، وهو الذي يأتي على قياس أحد قولي مالك في المدونة، ورواية ابن الماجشون عنه في المدنية، وما حكاه ابن المواز عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدوا على امرأة أنها أوصت بكذا فشهد آخرون أنها كانت موسوسة]
مسألة وسئل عن قوم شهدوا على امرأة أنها أوصت بكذا وكذا في مرضها، وهي صحيحة العقل، فشهد آخرون أنها كانت موسوسة؟ فقال: أرى أن تثبت شهادة الذين شهدوا في الوصية، وتطرح شهادة الذين شهدوا أنها موسوسة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى التكلم عليها في آخر نوازل سحنون، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(10/234)
[مسألة: يكون عدوا لرجل فشهد له وعليه بشهادة]
مسألة قال: وسئل عن الرجل يكون عدوا لرجل، فشهد له وعليه بشهادة، أتجوز له وعليه، أم لا تجوز له، ولا تجوز عليه، كان ذلك في شهادة واحدة أو في شهادات مفترقة؟ قال: يجوز له، ولا يجوز عليه إن كان هذا في شهادات مفترقة، وإن كان في شهادة واحدة، لم يجز له ولا عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إنه يجوز له، ولا يجوز عليه إن كانت الشهادتان مفترقتين؛ لأن شهادة الرجل تجوز لعدوه، ولا تجوز عليه، ولا تجوز له ولا عليه إن كانت الشهادة واحدة؛ لأن شهادة الرجل على عدوه لا تجوز لأنه متهم فيها، وإذا سقط بعض الشهادة للتهمة بطل جميعها على المشهور في المذهب، وقد قيل: إنها يجوز منها ما لا تهمة فيه، وهو قول أصبغ في نوازله حسبما بيناه فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة ابن خمس عشرة سنة]
مسألة قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة ابن خمس عشرة سنة، إلا أن يحتلم حتى يبلغ ثمان عشرة سنة، فإذا بلغها جازت شهادته، وإن لم يحتلم، وقال ابن وهب: تجوز شهادة الغلام إذا أتى عليه خمس عشرة سنة، وإن لم يحتلم إذا كان عدلا؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أجازهم في القتال يوم الخندق، ولم يجز ابن أربع عشرة سنة يوم أحد، وكان أحد قبل الخندق بسنة.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم أنه لا تجوز شهادته إذا لم يحتلم حتى يبلغ سبع عشرة سنة، ففي الحد الذي يحكم به لمن لم(10/235)
يحتلم بحكم من احتلم ثلاثة أقوال ترجع إلى قولين؛ أحدهما: أنه لا يحكم له بالبلوغ إذا لم يحتلم حتى يبلغ من السن ما لا يجاوزه أحد في الغالب، إلا احتلم وهو السبعة عشر عاما، أو الثمانية عشر عاما. والثاني: أنه يحكم له بالبلوغ إذا بلغ من السن سن من قد يحتلم من الناس، وإن لم يكن ذلك غالبا، فأول سن الاحتلام خمسة عشر عاما، وآخره سبعة عشر عاما، أو ثمانية عشر عاما، فيحكم له بالبلوغ عند ابن وهب ببلوغ أول سن الاحتلام، ولا يحكم له به عند ابن القاسم إلا ببلوغ آخره في جميع العبادات قياسا على الشهادات؛ لأنها من العبادات التي خاطب الله عباده بها حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] ، وقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] ، وهو مصدق فيها إذا ادعى أنه لم يحتلم، كما يصدق في العبادات التي بينه وبين خالقه من الصلاة والصيام وما أشبه ذلك.
واختلف هل يصدق أنه لم يحتلم فيما يتعين عليه من الحقوق والحدود في بدنه، فقيل: إنه لا يصدق في ذلك، وقيل: إنه يصدق فيه، وإلى هذا يرجع عندي اختلاف قول مالك في المدونة في وجوب إقامة الحد على من أنبت وإن لم يحتلم؛ لأن الإنبات يكون عند أول سن الاحتلام، فله حكمه، وقد قيل: إن اختلاف قول مالك في المدونة في وجوب الحد على من أنبت، ولم يحتلم لا يرجع إلى التصديق في الاحتلام، وأنه على ظاهره في وجوب الحد بالإنبات، ولزوم جميع العبادات له، وإن أحد قولي مالك في وجوب الحد على من أنبت، وإن لم يحتلم يأتي على قياس قول ابن وهب في إجازة شهادة من بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم، وهو بعيد؛ لأن قول ابن وهب شذوذ، وحجته بالحديث ضعيفة، فقد قال ابن عبد الحكم وغيره في غير العتبية: إنه إنما أجازه؛ لأنه(10/236)
رآه مطيقا للقتال، ولم يسأله عن سنه، فلا دليل فيه على أنه حد للبلوغ.
وإن ادعى الشاهد قبل أن يبلغ أقصى سن الاحتلام في الغالب أنه قد احتلم لم يصدق؛ لأنه يتهم في إجازة شهادته بخلاف الحدود والعبادات إذا ادعى أنه لم يحتلم، فيصدق في العبادات قولا واحدا؛ لأنه فيما بينه وبين خالقه، وفي الحدود على اختلاف، فوجه القول بتصديقه ما جاء من أن الحدود تدرأ بالشبهات، ووجه القول بأنه لا يصدق اتهامه في إسقاط الحد عن نفسه، وحد جواز الشهادة حد بتوجه الخطاب، ولزوم التكليف؛ لأن من لم يتوجه إليه الخطاب ولا لزمه التكليف، فليس بمتحرز في شهادته؛ إذ ليس يأثم ولا يجرح في الكذب فيها لارتفاع العلم عنه، ولا تجوز شهادة من لا يتحرج في عبادته.
[مسألة: الشهادتان في مجلس واحد ولفظ واحد اختلفا فيه]
مسألة قال: ولو أن رجلا شهد له أن عند عبد الله عشرة دنانير، وشهد شاهد آخر أن له على عبد الله عشرين دينارا قال: يحلف مع كل شاهد يمينا، وتكون له العشرون والعشرة، ويأخذ منه ثلاثين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن قول. أحد الشاهدين له عنده خلاف قول آخر له عليه؛ لأن لفظة عنده، تقتضي الأمانة، ولفظة عليه تقتضي الذمة، فكل واحد منهما شهد له على عبد الله بغير ما شهد له به عليه الآخر، فله أن يحلف مع كل واحد منهما، ويستحق الثلاثين، وإن شاء أن يحلف مع أحدهما، ويرد اليمين على المطلوب فيما شهد به الشاهد الآخر، وإن شاء أن يرد اليمين على المطلوب في الجميع، وليس له أن يأخذ العشرة دون يمين؛ إذ لم يجتمع له عليها الشاهدان بخلاف إذا شهد أحدهما أن له عليه عشرة، وشهد الآخر أن له عليه عشرين، هذا له أن يأخذ العشرة دون يمين؛ لاجتماع الشاهدين عليهما، وإن شاء أن يحلف مع(10/237)
الشاهد الذي شهد له بالعشرين ويأخذها، وهذا إذا كانت الشهادتان في مجلس واحد ولفظ واحد، اختلفا فيه فقال أحدهما: إنه أقر له بعشرة، وقال الآخر: بل أقر له بعشرين، وإن كانت الشهادة في مجلسين، فهما حقان، وله أن يحلف مع كل واحد منهما، ويستحق ما شهد له به، ولو قال الشاهدان اللذان شهد أحدهما: أن له عنده عشرة دنانير، وقال الآخر: إن له عليه عشرين دينارا: إنها شهادة واحدة لبطلت شهادتهما، إن زعم رب الحق أنهما حقان مختلفان، وإن زعم أن أحدهما محق حلف مع الذي ادعى أنه محق، وأخذ ما حلف عليه، وقد مضى في نوازل سحنون بيان هذا في الشاهدين، يشهد أحدهما لرجل ببغل، والآخر بحنطة، ولا فرق بين المسألتين، وبالله التوفيق.
كمل كتاب الشهادات بحمد الله وحسن عونه.(10/238)
[: كتاب السداد والأنهار] [مسألة: الماء يكون بين الرجلين فتهور البئر فيقال لأحدهما اعمل ولك الماء كله](10/239)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على من لا نبي بعده، ولا شفيع نرجوه سواه، سيدنا محمد
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن تفسير قول مالك في الماء يكون بين الرجلين، فتهور البئر، فيقال لأحدهما: اعمل ولك الماء كله، أو اعمل مع صاحبك إن كل أرض كانت مشتركة لم يقتسمها أهلها من نخل أو أصول أو أرض فيها زرع زرعوه جميعا، فانهدمت أو تهورت البئر، فإنه يقال لصاحبه إذا كان بينهما الأصل: اعمل مع صاحبك، أو بع حصتك من الأصل والماء، أو قاسمه الأصل، فخذ حصتك ويأخذ حصته، فيؤمر من أحب أن يعمل عمل، ومن أحب أن يترك ترك، ومن عمل منهما كان له الماء كله حتى يأتيه شريكه بما يصيبه من النفقة، فيرجع على حقه من الماء، وإن كان بينهما زرع أو شجر مثمر في أرض لهما، فإن من أبى أن يعمل يجبر على ما أحب أو كره، أو يبيع ذلك ممن يعمل معه، وأما كل أرض مقسومة أو شجر مقسومة، أو زرع لرجلين في أرض مقسومة بينهما، إلا أن ماءهما واحد، فتهور البئر، وتنقطع العين، فيأبى أحدهما أن يعمل، ويرضى بهلاك زرعه أو شجره أو أصوله، فإن ذلك له، ولا يكلف النفقة معه، ويقال للآخر: اعمل ولك الماء(10/241)
كله إلا أن يأتي شريكه بالذي يصيبه من النفقة في حصته، فيرجع على حقه من الماء، وإنما الشريكان في الأصول والزرع إذا انهارت البئر بمنزلة الشريكين في الدار تنهدم، فيأبى أحدهما أن يبني، ويريد الآخر البنيان فيقال له ابن مع صاحبك، أو قاسمه العرصة، فما صار له بنى فيه، وما صار لك صنعت فيه ما شئت، وكذلك الأصول والزرع إذا كان بين الرجلين، قال سحنون: كان ابن نافع يقول والمخزومي: إنما هذا في كل بئر ليس عليها حياة لا زرع ولا نخل ولا غيره، فأما كل بئر عليها حياة أو عين، فتهور فيأبى أحدهما أن يعمل، فإنه يجبر على أن يعمل معه أو يبيع نصيبه ممن يعمل معه بمنزلة السفل، يكون لرجل والعلو لآخر فينهدم، فإن صاحب السفل يجبر على أن يعمل، فإن أبى بيع عليه.
قال محمد بن رشد: إذا كان للشريكين في الأرض زرع بينهما قد زرعاه جميعا، فلا تجوز قسمته مع الأرض، والواجب في ذلك إذا أرادا قسمة الأرض أن يقتسماها دون الزرع، ويبقى الزرع مشتركا بينهما إلى أن يحصداه ويدرساه، ويقتسماه بالكيل، فقوله في أول هذه المسألة إن كل أرض كانت مشتركة لم يقتسمها أهلها من نخل أو أصول أو أرض فيها زرع زرعوه جميعا، فانهدمت البئر أو تهورت، فإنه يقال لصاحبه إذا كان بينهما الأصل: اعمل مع صاحبك، أو بع حصتك من الأصل والماء، أو قاسمه الأصل، فخذ حصتك، ويأخذ حصته، فيؤمر من أحب أن يعمل عمل، ومن أحب أن يترك ترك، ومن عمل منهما كان له الماء كله حتى يأتيه شريكه بما يصيبه من النفقة، فيرجع على حقه من الماء، معناه إذا كان الزرع قد استغنى عن الماء، وإنما يحتاج إلى سقي الأرض بعد حصاد الزرع، فأراد أحدهما إصلاح البئر ليسقيا بمائها الأرض بعد حصاد الزرع منها، وأبى الآخر من(10/242)
ذلك، فحينئذ يكون ما قال من أنه يقال للآبي منهما: اعمل مع صاحبك، أو بع حصتك من الأصل والماء، أو قاسمه الأصل بمنزلة إذا لم يكن في الأرض زرع سواء، وقال: إنه يقال للآبي منهما: إما أن تعمل مع صاحبك، أو تبيع حصتك من الأصل، أو تقاسمه إياه، ولم يقل إذا أبى من الثلاثة الأوجه كلها ماذا يحكم به عليه منها، والذي يحكم به عليه منها القسمة، فكان صواب الكلام أن يقال يقال للآبي منهما: لا بد لك من أن تقاسم شريكك، إلا أن تعمل معه، أو يبيع حصته، فإن باع حصته، وأبى المشتري أن يعمل قيل له ما قيل للبائع: لا بد لك من أن تقاسم شريكك، أو تعمل معه أو تبيع حصتك.
وقوله في الرواية بعد ذلك وإن كان بينهما زرع أو شجر مثمر في أرض لهما، فإن من أبى أن يعمل يجبر على ما أحب أو كره، على أن يعمل أو يبيع ذلك ممن يعمل معه، معناه إذا احتاج الزرع أو الثمر إلى السقي، وهو صحيح؛ إذ لا يمكنهما قسمة ذلك مع الأرض، وقال: إن من أبى أن يعمل يجبر على ما أحب أو كره على أن يعمل أو يبيع ذلك ممن يعمل، ولم يقل إذا أبى منهما جميعا على أيهما يجبر منهما، وفي ذلك اختلاف، قيل: إنه يجبر على أن يعمل معه، وقيل: إنه يجبر على أن يبيع ممن يعمل معه، وهو قول ابن القاسم في رسم الكبش، من سماع يحيى، وسيأتي القول على ذلك هنالك إن شاء الله.
وقد قيل: إن البيع على هذا الشرط لا يجوز ويباع عليه من حظه بقدر ما يلزمه من العمل فيما بقي من حقه بعدما بيع عليه منه، وهو قول مالك في رسم الصلاة، من سماع يحيى، من كتاب الأقضية، وأصح القولين في النظر، وقد قال سحنون: إن البيع على الشرط إنما جاز على وجه الضرورة إذا لم يكن للبائع مال، وليس قوله ببين؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأنه يقدر على أن يباع عليه من حظه دون شرط بقدر ما يلزمه من الإنفاق في عمل ما بقي من نصيبه، وقد ذكرنا ذلك في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب الأقضية.
وأما الأرض المقسومة، فإن لم يكن عليها حياة فلا اختلاف في أن الآبي لا يلزمه العمل مع صاحبه،(10/243)
ويقال لصاحبه: اعمل ولك الماء كله، أو ما زاد تعمله إلى أن يأتيه صاحبه الآبي بما يصيبه من النفقة، ويدخل في كون الماء له إلى أن يأتيه شريكه بحظه من النفقة اختلاف بالمعنى من مسألة نوازل عيسى بن دينار بعد هذا من هذا الكتاب.
وأما إذا كان عليها حياة فقال ابن القاسم ذلك بمنزلة إذا لم يكن عليها حياة سواء، وقال ابن نافع والمخزومي: إن الشريك في العين أو في البئر يجبر على أن يعمل معه، أو يبيع نصيبه ممن يعمل معه بمنزلة العلو يكون لرجل والسفل لآخر فينهدم، وهو تنظير غير صحيح؛ إذ لا يقدر صاحب العلو أن يبني علوه حتى يبني صاحب السفل سفله، ويقدر الذي يريد السقي بماء البئر المشتركة بينهما إذا انهدمت أن يصل إلى ما يريده من السقي بأن يصلح البئر، ويكون أحق بجميع الماء إلى أن يأتيه صاحبه بما ينوبه من النفقة، فقول ابن القاسم أصح من قول ابن نافع والمخزومي، والله أعلم، وبه التوفيق.
[: الكلأ يختلف باختلاف مواضعه]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا قال: وسئل عن الرجل تكون له الأرض فيها العشب، فيريد أن يحميها، أترى ذلك له؟ قال: نعم؛ إذا كان له بها حاجة، وإن لم تكن له بها حاجة، فلا أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: الحكم في الكلأ يختلف باختلاف مواضعه، ومواضعه تنقسم على قسمين؛ أحدهما: أن يكون في أرض غير متملكة. والثاني: أن يكون في أرض متملكة، فأما إذا كان في أرض غير متملكة مثل الصحاري والبراري والفيافي، فلا اختلاف في أن الناس كلهم فيه سواء، ليس لأحد منهم أن يمنعه، ولا أن يبيعه، وهو قائم في موضعه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع الكلأ» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» ، فنهى عن منعه، وعما هو ذريعة إلى منعه؛ لأن صاحب الماشية إذا(10/244)
منع من الماء لم يقدر على الإقامة على الرعي، فإن جاء رجلان لرعي كلأ هذا الموضع معا كانا فيه أسوة، واختلف إن سبق أحدهما إليه، فنزله وجعل يرعى ما حوله أو حفر فيه بئرا، هل يكون أحق بقدر حاجته من كلأ ذلك الموضع دون الفضل أم لا على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يكون أحق بشيء من كلئه، والناس معه فيه أسوة، وهو نص قول ابن القاسم وروايته عن مالك في كتاب حريم البئر من المدونة. والثاني: أنه يكون أحق من الناس بقدر حاجته من كلأ، ذلك الموضع الذي نزله، وجعل يرعى ما حوله، وإن لم يحتفر فيه بئرا، وهو قول أشهب، فرآه أحق بالسبق إلى ذلك الموضع والنزول فيه، ومعناه إذا انتجع إليه، وقصده من بعد، وأما إذا مر به فنزله، فلا يكون لمجرد سبقه إليه أحق بمقدار حاجته من كلئه، والله أعلم، وقد تئول أن قول أشهب ليس معناه أنه جعله بمجرد السبق إلى النزول في ذلك الموضع أحق من الناس بقدر حاجته من كلئه، وإنما معناه أنه جعل رعيه لكلأ ذلك الموضع إحياء له؛ لأنه لما رعاه صار له عليه يد، فيكون أحق بما يحدث فيه من الكلأ مرة أخرى، إلا أن يفضل عن حاجته منه فضل، فيكون الناس في الفضل أسوة، ولا اختلاف في الفضل على حال. والقول الثالث: أنه لا يكون أحق بقدر حاجته من كلأ ذلك الموضع الذي سبق إليه بالنزول، وإن رعاه إلا أن يحفر فيه بئرا، فيكون أحق بقدر حاجته من الكلأ، كما يكون أحق بقدر حاجته من الماء، وهو ظاهر قول المغيرة وأعدل الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأنه لا يقدر على المقام على الماء إذا لم يكن له في ذلك الموضع مرعى، فتذهب نفقته في البئر باطلا، وكذلك لو سبق بالنزول في ذلك الموضع، فبنى فيه بنيانا، أو أنفق فيه نفقة؛ لوجب على قياس هذا أن يكون أحق بقدر حاجته من كلأ ذلك الموضع، من غيره؛ لئلا تذهب نفقته باطلا، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» فمن الضرر(10/245)
البين أن يدخل عليه غيره في قدر حاجته من كلأ الموضع الذي أنفق فيه نفقته، وأما إذا كان الكلأ في أرض متملكة، فإن الأرض المتملكة تنقسم في ذلك على أربعة أقسام؛ أحدها: أن تكون محظرة، قد حظر عليها بحيطان كالجنات والحوائط. والثاني: أن تكون غير محظرة إلا أنها حماه ومروجه التي قد بورها للمرعى، وترك زراعتها من أجل ذلك. والثالث: فدادينه وفحوص أرضه التي لم يبورها للمرعى، وإنما ترك زراعتها لاستغنائه عن زراعتها، وليجمها للحرث، فنبت فيها الكلأ. والرابع: العفا والمسرح من أرض قريبة، فأما الأرض المحظرة التي قد حظر عليها كالحوائط والجنات، فلا اختلاف فيما كان فيها من الكلأ أن صاحبه أحق به، له أن يبيعه ويمنعه احتاج إليه أو لم يحتج إليه، وليس لأحد الدخول عليه، في حائطه لرعي، ولا احتشاش إلا بإذنه، وأما العفا والمسرح من أرض قريبة، فلا اختلاف في أنه لا يبيعه، ولا يمنع الناس عما فضل من حاجته منه، إلا أن يكون عليه في تخلص الناس إليه بدوابهم ومواشيهم ضرر من زرع يكون له حق إليه، فيفسد عليه بالإقبال عليه والإدبار، وأما الأرض التي بورها للمرعى، وترك الانتفاع بزراعتها من أجل ذلك، فقيل له أن يمنع إن احتاج إليه ليرعاه، ويبيع إن لم يحتج إليه ممن يرعاه أو يحتشه، وهو مذهب ابن القاسم وابن الماجشون، فإن لم يحتج إليه ولا وجد من يبيعه منه جبر(10/246)
على أن يخلي بين الناس وبينه، ولا يباح له أن يمنع الناس منه، ويترك حتى ييبس ويفسد، وقيل: إن له أن يمنع إن احتاج إليه، وليس له أن يبيع، وهو قول أشهب، وأما فحوص أرضه وفدادينه التي لم يبورها للمرعى، فقال ابن القاسم وأشهب: له أن يمنع إن احتاج، وليس له أن يبيع إن لم يحتج إليه، وقال ابن الماجشون: له أن يمنع إن احتاج، وأن يبيع إن لم يحتج إليه، فأشهب يرى أنه ليس له أن يبيع مراعي أرضه، كان قد بورها للكلأ، أو لم يبورها لذلك، وابن الماجشون يرى أن له أن يبيع مراعي أرضه، كان قد بورها للكلأ، أو لم يبورها لذلك، وابن القاسم يفرق في إجازة البيع له إذا استغنى عنه بين الأرض التي بورها للمرعى، وبين التي لم يبورها للمرعى، فتحصل في مجموع الطرفين ثلاثة أقوال، وفي كل طرف منها على انفراده قولان.
وقد اختلف فيما وقع في كتاب حريم البئر من المدونة من قول مالك، إذا كانت لرجل أرض، فلا بأس أن يمنع كلأها إذا احتاج إليها، وإلا فليخل بين الناس وبينه، ومن قوله فيه: لا بأس أن يبيع الرجل خصب أرضه ممن يرعاه عامه ذلك، بعد أن ينبت، ولا يبيعه عامين ولا ثلاثة، فقيل: إن ذلك اختلاف من قوله، مرة رأى أن للرجل أن يبيع خصب أرضه، كان قد وقفها للمرعى، أو لم يوقفها له، مثل قول ابن الماجشون، ومرة رأى أنه ليس له أن يبيعه كان قد وقف الأرض للمرعى، أو لم يوقفها له، مثل قول أشهب، وقيل: ليس ذلك اختلافا من قوله، ومعناه أنه فرق في ذلك بين الأرض التي وقفها للمرعى، والتي لم يوقفها له، مثل قول ابن القاسم، وهو تأويل عيسى بن دينار في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[: القيمة في العروض المستهلكة]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت وقال مالك في خليج لرجل يجري تحت جدار لرجل آخر، فجرى السيل فيه فهدمه، فقال صاحب الحائط لصاحب الخليج:(10/247)
ابن لي حائطي، وقال الآخر: لا أبنيه، فقال مالك: أريتك لو أراد صاحب الحائط أن يسقي به أكان يدعه؟ قال: لا، قال: فإني أرى أن يقضى ببنيانه على صاحب الخليج الذي أفسد حائط الرجل.
قال محمد بن رشد: إنما وجب على رب الخليج بناء الحائط؛ لأنه هو الذي ساق الماء فيه، فأشبه سائق الدابة في وجوب ضمان ما وطئت عليه، فإذا كان لرب الحائط أن يسقي به سقط الضمان عن صاحب الخليج؛ لأن رب الحائط قد ساق الماء فيه معه، فلم ينفد على صاحب الحائط فيما صنعه، وإنما قال: إنه يقضى ببنيانه على صاحب الخليج، ولم يقل: إنه يلزمه قيمته على أصل المذهب في وجوب القيمة في العروض المستهلكة؛ إذ لا قيمة له على انفراده، فإنما يقوم بأن يقول: كم قيمة جميع الحائط قبل أن ينهدم هذا الجدار منه؟ وكم قيمته والجدار مهدوم؟ فتكون قيمة الجدار على الصفة التي كان عليها من البلاء ما بين القيمتين، وقد لا يكون فيما بين القيمتين، ما يقام به الحائط جديدا، فوجب أن يكون على المستهلك للحائط بإجراء الماء في الخليج ما يبنى به الحائط جديدا؛ إذ لا يتحصن لصاحب الحائط حائطه إلا بذلك، وهو معنى(10/248)
قوله: إنه يقضى ببنيانه على صاحب الخليج؛ لأن المراد بذلك أن يكون عليه إجارة الأجراء في بنيانه، وإجارة من يقوم بولاية بنيانه، فيستأجر الأجراء وما يحتاج إليه في ذلك من المواعن والآلات، أو يلي هو ذلك بنفسه، فلا يكون عليه سوى الأجر.
وإلزام المستهلك في هذه المسألة أكثر من قيمة ما استهلك شبيه بما قالوا فيمن استهلك، فرد خف لرجل أنه لا يلزمه قيمته على انفراد، وإنما يلزمه ما نقص من قيمتهما جميعا، وكان يمضي لنا عند من أدركنا من الشيوخ أن هذه المسألة من المسائل التي قضى فيها بالمثل في العروض، كشروى الجلود في مسألة الذي باع البعير الذي قام عليه واستثنى جلده، فاستحياه المبتاع، وكرفو الثوب في مسألة الذي خرق ثوبا لرجل خرقا يسيرا، وليس ذلك بصحيح؛ إذ لم يقض على مستهلك الحائط بمثله في صفته من البلاء؛ إذ لا يمكن ذلك، ولا يصح فيكون كمسألة شروى الجلد، فأما مسألة الرفو فليس بقضاء بالمثل؛ لأنه لم يستهلك له رفوا، وإنما خرق له ثوبا صحيحا لا رفو فيه، فلا معنى للمسألة إلا ما ذكرناه فيها، وبالله التوفيق.
[: إقطاع الرجل الرجلَ العين من واديه هبة من الهبات]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الأقضية الثاني قال سحنون: قال أشهب وعبد الله بن نافع: سئل مالك عن واد كان لرجل، فأقطع رجلا عينا في الوادي، فمات القاطع(10/249)
والمقطع، فقام ولد المقطع، فأرادوا الرفع في العين، فأبى ابن القاطع، وليس يعرف كيف أقطعهم العين، إلا أنها في أيديهم منذ ستين سنة، فقال مالك: أقطعهم عينا لا هم أحدثوا فيها شيئا بحضرتهم ثم جاءوا يخاصمونهم، فيقولون: قد أحدثنا وأنتم تنظرون، فهم يريدون أن يأخذوا الوادي كله، فليس هكذا يكون، وكذلك لو أعطى رجل رجلا بيتا، فأي بيت هو وما ذرعه؟
قال محمد بن رشد: إقطاع الرجل الرجلَ العين من واديه هبة من الهبات، تفتقر إلى ما تفتقر إليه الهبات من حيازة الشيء الموهوب في صحة الواهب، فالمعنى في هذه المسألة أنه أقطعه من واديه عينا لم يسم له موضعا، ولا حد له مقدارا، فحاز منه قدرا ما في موضع ما، وبقي في يديه ستين سنة بعد موت القاطع، ثم أراد أن يرفع العين إلى أرفع من موضعه ليستكثر فيه من ماء الوادي، فلم ير ذلك لهم؛ إذ لم يفعلوه في حياة القاطع، ولا بعد موته بحضرة الورثة منذ مدة تكون حيازة عليهم، وضعف وجوب ذلك لهم بما ذكره من أن القاطع لم يحد لما أقطعه قدرا معلوما، يقول: فهو لو حد له قدرا معلوما فلم يستوفه في حياته لم يكن له أن يأخذه بعد وفاته، فأحرى إذ لم يحد له حدا ألا يكون له أن يستزيد فيه بعد وفاته شيئا، هذا معنى هذه المسألة عندي، وقوله: لا هم أحدثوا فيها شيئا بحضرتهم، ثم جاءوا يخاصمونهم فيقولون: قد أحدثنا وأنتم تنظرون، معناه لا هم أحدثوا فيها شيئا بحضرتهم، فتكون لهم بذلك حجة عليهم في مخاصمتهم إياهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: حريم الآبار والعيون]
مسألة وسئل عن حريم الآبار والعيون قال: إنما الحريم في الفلوات التي ليست لأحد، فأما الرجل يحتفر في حقه البئر والعين، فذلك له إلا أن يضر ذلك بجاره ضررا بينا، فإن الرجل يعمد إلى(10/250)
بئر جاره أو عينه، فيحتفر إليها في حده ليستفرغ ماءها، ويصيره إلى بئره، فإذا كان ذلك ضررا بينا، فلا أرى ذلك له، وأما الحريم في الفلوات فليس له أمد معلوم، وذلك يختلف، وربما يصير ذلك إلى الإضرار، فما كان لا يضر فلا بأس به، وله أن يحتفر، وذلك يختلف، أما الأرض الخشخاش الصخور الشديدة، فإن الحفر في ذلك لا يكاد يضر صاحبه، وإن تقاربت الآبار في ذلك، وأما الأرض البطاح اللينة، فإنها إذا تقاربت انتشف بعضها مياه بعض، فأرى أن يبعد عنه بقدر ما لا يضر بمائه، وليس لذلك حد معلوم من الأذرع، إنما ينظر في ذلك إلى الإضرار بأهل تلك الآبار، قال ابن نافع: وقد بلغني في حريم البئر العادية خمسين ذراعا، والبئر البادية خمسة وعشرون ذراعا، أخبرنا به ابن أبي ذؤيب، عن ابن شهاب.
قال محمد بن رشد: الأرض الخشخاش هي الأرض الرملة التي تسمع لها جلبة عند المشي عليها، قال الخليل: الخشخشة صوت السلاح والينبوت والصخور الأرض المصخرة، فيريد أن الأرض الرملة المصخرة(10/251)
الشديدة بخلاف الأرض البطحاء اللينة في انجلاب الماء إليها من قرب، وهذا مثل قوله في المدونة سواء، ومن الآبار آبار تكون في أرض رخوة، وأخرى تكون في أرض صلبة أو في صفا، فإنما ذلك على قدر المضرة بالبئر، فحريم الآبار عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما هو ما يضر بها قرب أو بعد، ولا حد في ذلك، والحد المروي فيه عن ابن شهاب لا وجه له في النظر والقياس، إلا أن يكون ذلك عن توقيف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجب الوقوف عنده.
وقوله في هذه الرواية: إلا أن يضر ذلك بجاره ضررا بينا، هو أن يستفرغ ماء بئر جاره، وذلك خلاف لظاهر ما في المدونة إذ أطلق الضرر فيها من غير تقييد بصفة، وابن كنانة يقول: إن له أن يحفر في داره بئرا، وإن أضر ذلك ببئر جاره، وأشهب يقول: إنه إن كان يجد بدا من احتفار ذلك، وليس بمضطر إليه منع من ذلك، وإن كان مضطرا كان له أن يحفر وإن أضر بجاره، فيتحصل في ذلك أربعة أقوال: له أن يحفر وإن أضر حفره ببئر جاره، وليس له أن يحفر إذا أضر حفره ببئر جاره، والفرق بين أن يستفرغ ماء بئر جاره أو لا يستفرغه، والفرق بين أن يجد مندوحة عن الحفر أو لا يجد، وبالله التوفيق.
[: فيما قرب من العمران من الموات الذي يتشاح الناس فيه]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل مالك فقيل له: إن عاملنا أقطعنا أرضا أربعمائة ذراع من حد كذا إلى حد كذا، فغبت عنها، فوثب عليها رجل فعمرها وبنى فيها، ثم قدمت فأردت أخذها فقال: لا أراك(10/252)
حزت ما قطع لك بعمارة ولا بناء حتى جاء غيرك فعمر وبنى، يقطع أحدهم فيذهب ويدعها، ولا يعمرها حتى يريد منعها بذلك شأن قطيعة هذا ضعيفة لم يحزها بعمارة ولا بناء حتى عمرها غيرك، فقال: إنما عمرها وأنا غائب، فقال له: كم غبت؟ فقال: ثلاثة أشهر، فقال له: فما كان هنالك أحد يعلمه أنك أقطعتها؟ فقال: لا أدري، فقال: وما عمارة هذا لها مؤنة؟ فقال: إي؛ لعمري إن لها لمؤنة، بنى فيها حوانيت، فقال له: ما أرى قطيعتك إلا ضعيفة، لم تحزها حتى عمرها غيرك، وأريت من أقطعك إياها؟ فقال: والينا، فقال: وأريت واليكم أمر أن يقطع أحدا؟ ما أرى أمرك إلا ضعيفا، وارفع أمرك إلى السلطان.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن العامل أقطعه الأربعمائة ذراع من الأرض الموات فيما قرب من العمران، بدليل قوله بنى فيها حوانيت؛ إذ لا تبنى الحوانيت في الفيافي والقفار، وقد اختلف فيما قرب من العمران من الموات الذي يتشاح الناس فيه، فقيل: ليس لأحد أن يحييه إلا بقطيعة من الإمام، فإن فعل نظر الإمام في ذلك، فإن رأى أن يقره له أقره، وإن رأى أن يقره للمسلمين ويعطيه قيمة بنيانه منقوضا أو يأمره بنقضه فعل، وإن رأى أن يقطعه غيره أقطعه، ويكون للأول قيمة بنيانه منقوضا، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وهو معنى ما في المدونة إذا قال فيها: إن ما قرب من العمران وما يتشاح الناس فيه، ليس لأحد أن يحييه إلا بقطيعة من الإمام، وقيل: إنه إن فعل أمضى ذلك الإمام مراعاة للخلاف، وهو قول أشهب، فعلى هذا القول تأتي روايته هذه عن مالك في(10/253)
هذه المسألة؛ لأن معنى ما ذهب إليه فيها أن المقطع لما غاب عنها وتركها هذه المدة؛ دل ذلك من فعله على أنه قد سلمها وترك حقه فيها، فوجب أن تكون للذي عمرها وأحياها ببناء الحوانيت فيها، وإن لم يستأذن الإمام في ذلك على قياس قول أشهب، مراعاة للاختلاف في ذلك؛ إذ قد قيل: إنه ليس على أحد أن يستأذن الإمام في إحياء موات قريب من العمران، ولا ما بعد منه مع ضعف هذا الإقطاع؛ إذ ليس للعامل أن يقطع شيئا من الموات إلا بإذن الإمام، وهذا إذا لم يعلم الثاني بإقطاعها للأول، ولو علم بذلك؛ لكان متعديا، ولم يكن له إلا قيمة بنيانه منقوضا، وإن كانت عمارته إياها قبل أن يحوزها الأول بعمارة، أو بنيان بعض؛ لأن للإقطاع حكما من الأحكام لا يفتقر إلى حيازة على ما يأتي في رسم شراء الدور والمزارع من سماع يحيى من هذا الكتاب، فليس قوله في هذه المسألة، لا أراك حزت ما قطع لك بعمارة ولا بناء حتى جاء غيرك، فعمر وبنى بخلاف لما في سماع يحيى على ما ظنه أهل النظر، فالعلة في سقوط حق الأول فيما أقطع عمارة الثاني له بعد تركه إياها، ومغيبه عنه لما يظهر في ذلك من الرضا بتسليم حقه فيه لا ترك حيازته إياه بالعمارة كما ظن بعض أهل النظر، ولو كان الإقطاع يفتقر إلى حيازة، لوجب أن يراعى في ذلك موت المقطع، وذلك ما لا يصح بوجه من الوجوه؛ إذ لم يقطع ماله فيحتاج إلى أن يحاز عنه في حياته وصحته، وفي قوله: وارفع ذلك إلى السلطان، مع أنه قد رأى أمره ضعيفا دليل على القول بتصويب المجتهدين؛ لأن المعنى في قوله: وارفع ذلك إلى السلطان، فعساه سيرى أمرك قريبا فيقضي لك به بخلاف ما أراه، فلولا أنه يراه إن فعل ذلك باجتهاده مصيبا، وإن كان خلاف ما يراه هو باجتهاده، لما ساغ له أن يأمره بالرفع إليه؛ لئلا يخطئ فيقضي له بخلاف الحق عنده، وهذا نحو قوله في الأقضية من المدونة في الذي يرى خطه في ذكر حق، ولا يذكر الشهادة أنه يؤديها، وإن كانت لا تنفع عنده، وبالله التوفيق.(10/254)
[مسألة: الماء الذي ينزل من السماء في كل زمان يستقر بالأرض]
مسألة وسئل عن قول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] أهو الخريف فيما بلغك؟ فقال: لا والله، بل هذا في الخريف والشتاء في كل شيء ينزل الله من السماء ماء إذا شاء، ثم هو على ذهاب به لقادر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن ذلك في كل زمن من الأزمان، لا يخص ذلك بالخريف دون غيره؛ لأنه ظاهر من عموم اللفظ، وموجود بالمعنى؛ لأن الماء الذي ينزل من السماء في كل زمان يستقر بالأرض، فمنه ماء العيون والأنهار والآبار، ولو شاء الله لأذهبه فهلك الناس جهدا وعطشا وجوعا؛ إذ لا نبات ولا حياة إلا بالماء، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ولا وجه لمن خصص ذلك بالخريف دون غيره من الأزمان، ولعل الذي قال ذلك تأول أن الماء الذي ينزل بالخريف جل المنفعة به إسكانه في الأرض للشرب والسقي عند الحاجة إليه؛ إذ لا يحتاج أكثر الأرض في ذلك الوقت إلى سقي؛ إذ ليس بوقت سقي زرع، وليس ذلك بصحيح، بل ما ينزل من السماء في كل زمان يستقر بالأرض لمنافع الناس، فجميع مياه الأرض من السماء، ويروى أن في الأرض أربعة أنهار من الجنة، وهي: النيل، والفرات، وسيحان، وجيحان، والجنة في السماء، وقد قيل: إن الماء الذي أخبر الله أنه أنزله من السماء فأسكنه في الأرض، هو ماء الأربعة الأنهار التي ورد الخبر فيها أنها من الجنة، وأن المطر النازل في الأرض إنما هو من البحر؛ بدليل قول(10/255)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة» وبدليل قول أبي ذؤيب الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
وقد قال بعض أهل التأويل في قول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] إن طعامه كل ما نبت من الحبوب والثمار؛ لأنه إنما ينبت بما سقاه من ماء البحر، وهو من التأويل البعيد، والصحيح أنه ما حسر عنه ماء البحر من صيده فمات على الأرض؛ لأن ذلك مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عباس، وقيل: طعامه ما ملح من صيده، وقال ابن عبد البر: القول بأن ما ينزل من المطر هو ماء السماء من غير البحر، هو قول أهل العلم والدين، والذي أقول به: إن تصحيح شيء من هذا، والقطع عليه من التخرص في علم الغيوب؛ إذ ليس في ذلك في(10/256)
القرآن، ولا في شيء من السنن والآثار نص جلي يوقف عنده، والذي نشاهده ونعلمه بالمعاينة نزول الماء من السحاب، ولا ندري هل تسوقه من بحور الأرض أو من بحور السماء، أو هل يخلقه الله عز وجل في السحاب عند نزوله، وكيفما كان فالقدرة فيه عظيمة، والاعتبار به واجب، والشكر لله تعالى على إنعامه به على خلقه لازم، واختلف في قوله في هذه الآية: {بِقَدَرٍ} [الحجر: 21] ، فروي عن ابن عباس أنه قال: ما عام بأكثر مطرا من عام، ولكن الله تعالى يصرفه حيث يشاء وقرأ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50] ، وقيل: معناه مفترقا نثرا، وليس بمجتمع صبا، وهو أظهر، والله أعلم.
[مسألة: بينهم بئر يسقون عليها فاقتسموها على مناضح خمسة]
مسألة وسئل عن قوم كانت بينهم بئر يسقون عليها، فاقتسموها على مناضح خمسة هكذا، وكل واحد منهم يسقي من منضحته، ثم إن بعضهم انقطع من ناحية منضحته الماء، وارتفع تلقاءه التراب، فلا يقدر على أن يسقي شيئا، يرسل الدلو فيخرج ولا ماء فيه، ومنهم من يسقي على حاله، أفيسقي معهم من مناضحهم، أم يكفوا حتى يسقوا جميعا؟ فإنه قد دعا هو إلى ذلك فأبوا عليه، وقالوا له: اضرب لنفسك، فقال مالك: إني لا أرى لمثل هذا فيه سنة بينهم جارية، فقيل له: قد اختلف في ذلك، فقال: أرى أصوب ذلك أن يقضى عليهم أن يضربوا في البئر حتى يسقوا جميعا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إن لم يكن لهم سنة جارية بينهم من عرف قد عرفوه، واستمر العمل عليه عندهم؛ وجب عليهم(10/257)
جميعا أن ينقوا معه موضع منضحته، حتى يسقي كما يسقون؛ لأن التراب إنما ارتفع تلقاء منضحته من نضحهم جميعا، فعليهم كنس ما أثره نضحهم من ارتفاع التراب تلفا منضحة أحدهم، وبالله التوفيق.
[: معدن كان بين رجلين فعطلاه ثم جاء أحدهم إلى والي المعدن فسأله أن يقطعه]
ومن كتاب الأقضية الأول
وسئل عن معدن كان بين رجلين فعطلاه وتركاه أربعة أشهر، ثم جاء أحدهم إلى والي المعدن، فسأله أن يقطعه فأقطعه إياه، وأن لأهل المعادن قبلنا سنة، فقال مالك: كتبت تسأل عن كذا وكذا، ولست أدري ما سنة أهل المعادن التي ذكرت، فإن جاء أحدهما الإمام بعد تركهما إياه، فسأله أن يقطعه إياه فأقطعه، فإني أرى إن كان شريكه الذي كان معه فيه أولا مقيما بالبلد فأقطعه شريكه، فتركه يعمل، وينظر إن أجابه المعدن، وأدرك فيه نيلا جاءه، وقال: أنا معك فيه كنت لك شريكا، وإن لم يجب وأكدى، فلست منه في شيء، فلا أرى ذلك له، وإن كان جاءه حين أقطعه بحداثة ذلك قبل أن يعمل فيه، أو بعد ما عمل بيسير، فأرى أن يدخل معه، وإن كان غائبا حين أقطع صاحبه، فأرى المعدن للذي أقطعه، ولا أرى للغائب فيه شيئا، كيف يكون له فيه شيء إذا أقطعه شريكه، وهو لو أقطعه غير شريكه لم يكن له فيه شيء، كتب به إلى صاحب المعدن.
قال محمد بن رشد: قوله: وسئل عن معدن كان بين رجلين معناه أنه كان بينهما بقطيعة من الإمام لهما، وإقطاع الإمام المعادن ليس على(10/258)
تمليك الأصل: وإنما هو على وجه الانتفاع بالنيل، فللإمام إذا ترك المقطع المعدن الذي أقطع إياه أو غاب عنه أن يقطعه غيره، وله إذا طال عمله به، وانتفاعه به، أن يقطعه سواه، وإن لم يتركه إلا أن يقطعه إياه حياته، أو إلى أجل، فليس له أن يقطعه لغيره حتى يموت، أو حتى يحل الأجل، ولم يبين في هذه الرواية إن كان قد طال عملهما في المعدن، وانتفاعهما به قبل أن يعطلاه، ويتركا طولا لو شاء الإمام أن يخرجهما منه جميعا ويقطعه سواهما، كان ذلك له أم لا، فقوله: إذا أقطعه أحدهما وشريكه حاضر، فجاء بحدثان ذلك أن له الدخول معه؛ معناه عندي بعد يمينه أنه ما ترك حقه فيه إن كان لم يطل عملهما فيه، وانتفاعهما به؛ لأنه إذا لم يطل عملهما فيه، وانتفاعهما به، فليس للإمام أن يخرجهما منه، ولا أحدهما إلا برضاه، ولو كان قد طال عملهما فيه، وانتفاعهما به؛ لما كان له الدخول معه، وإن جاء بحدثان ذلك؛ إذ للإمام أن يخرجه منه، ويقطعه لغيره شاء أو أبى، وإنما يكون للإمام إذا غاب الذي أقطعه المعدن أن يقطعه لغيره في الغيبة البعيدة، وأما إذا سافر كما يسافر الناس فلا، هذا الذي ينبغي أن تتأول الروايات عليه، واختلف إذا مات على ما مضى تحصيل القول فيه في سماع يحيى من كتاب الزكاة.
[مسألة: لا تباع مياه المواشي]
مسألة قال: ولا تباع مياه المواشي، وقال: وإنما يشرب بها، ويشرب بها أبناء السبيل، ولا يمنع من أحد، قيل: فهل يصلح فيها عطاء؟ قال: لا.
قال الإمام القاضي: مياه المواشي هي الآبار أو المواجل، أو الجباب التي يحفرها الرجل ويصنعها في البراري، أو في المهامه لماشيته؛ فيكون أحق بما يحتاج إليه لماشيته، ويخلى بين الناس وبين الفضل؛ لقول النبي(10/259)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» فقوله في هذه الرواية: إنما يشرب بها أهلها؛ يريد أهلها، وليشرب أبناء السبيل، ولا يمنع أحد؛ ليس على ظاهره في تساوي حق أهل الماء وغيرهم فيه، وإنما يريد أنه يشرب بها أهلها، ثم يشرب بها أبناء السبيل، فالواو هاهنا على الترتيب لا على التشريك.
وقوله: ولا يمنع من أحد؛ يريد لا يمنع الفضل من أحد، فإن تشاح أهل البئر في التبدئة بدئ الأقرب فالأقرب إلى حافرها، قلت ماشيته أو كثرت، وإن استووا في القرب منه استهموا، فإن اجتمعوا والمارة والماء يقوم بهم كلهم بدئ أنفس أهل الماء، ثم أنفس المارة، ثم دواب أهل الماء، ثم دواب المارة، ثم مواشي أهل الماء، ثم مواشي الناس، وبدأ أشهب دواب المسافرين قبل دواب أهل الماء، وإن لم يقم بهم كلهم وتبدئة أحدهم تجهد الآخرين بدئ من كان الجهد عليه أكثر بتبدئة صاحبه، فإن استووا في الجهد فقيل: إنهم يتواسون في ذلك، وقيل: يبدأ أهل الماء لأنفسهم ودوابهم، وأما إن لم يقم بهم كلهم، وخيف على البعض بتبدئة البعض، فيأخذ أهل الماء لأنفسهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم، فإن فضل فضلٌ أخذ المسافرون لأنفسهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم، فإن فضل فضلٌ أخذ أهل الماء لدوابهم قدر ما يذهب الخوف عنهم، فإن فضل فضلٌ أخذ المسافرون لدوابهم قدر ما يذهب الخوف عنهم، ولا اختلاف في هذا الوجه، والبئر والجب والماجل سواء عند مالك.
وذهب المغيرة إلى أن لصاحب الماشية أن يمنع فضلة مائه، ووجه قوله أنه صدقه في أنه احتفر لنفسه لا للصدقة من أجل أنه ليس بمعين بخلاف البئر، ولم يصدقه مالك فيه كما لم يصدقه في البئر، ولو أشهد عند حفره للبئر أنه إنما يحفرها لنفسه لا على وجه الصدقة؛ لكان له أن يمنع فضلة مائها، فالرجل فيما بينه وبين الله في فضلة ماء البئر التي احتفرها في المهامه لماشيته على ما نواه في حفرها، إن كان أراد به الصدقة، لم يجز له(10/260)
أن يمنعه وأن يبيعه، وعلى هذا يحمل قوله في المجموعة لا يجوز بيع ذلك، وإن كان احتفرها لنفسه، كان له أن يمنعه وأن يبيعه، وعلى هذا يحمل قوله في المدونة أكره بيع ماء بئر الماشية، وقوله في هذه الرواية: لاتباع مياه المواشي؛ معناه لا يباح لأربابها بيعها، ولا يصدقون في أنهم احتفروها لأنفسهم، فعلى هذا التأويل تتفق الروايات، وهو أولى من حملها على التعارض، والله الموفق.
[: لا يمنع نقع بئر ولا يمنع رهو ماء]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب العرية قال عيسى: وسألته عن رجل له ماء يسقي به، وفي الماء فضل يجري على قوم تحته في أرضهم فغرس الذي تحته على ذلك الماء غروسا، ثم بدا لهذا الذي له أصل الماء أن يحفر له بركا يحبسه فيها عنهم، قال: ليس له ذلك أن يحبسه عنهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ليس له أن يحبسه عنهم لوجوه ثلاثة؛ أحدها: قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع نقع بئر، ولا يمنع رهو ماء» ؛ لأن من أهل العلم من حمله على عمومه في جميع المياه كلها كانت متملكة، أو غير متملكة، فلم يجيزوا لأحد أن يبيع فضلة مائه، ولا أن يمنعه بحال، وهو قول يحيى بن يحيى في رسم أول عبد ابتاعه، من سماع يحيى بعد هذا، ومنهم من تأوله في الماء يكون بين الشريكين يسقي هذا يوما وهذا يوما، فيروي أحدهما زرعه أو نخله في بعض يومه، فليس له أن يحبس الماء عن صاحبه بقية يومه، وهو معنى هذه المسألة، فهو في حبسه(10/261)
عنهم على هذا الوجه داخل تحت النهي على كلا التأويلين. والثاني قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار» ؛ لأن من الضرر البين أن يمنعه ما لا حاجة له به فيضر به فيما لا منفعة له فيه، وقد قيل: إن هذا هو الضرر؛ إذ قد اختلف في الضرر والضرار، فقيل: إنهما اسمان لشيء واحد، وهو أن يضر الرجل بأخيه على وجه من الوجوه، وإن كان بعضه أشد من بعض، وقيل: إن الضرر هو أن يضر بأخيه فيما له فيه منفعة، والضرار أن يضر به فيما لا منفعة له فيه، أو فيما عليه فيه مضرة، وقيل: إن الضرار إنما هو أن يضر بأخيه فيما عليه فيه مضرة، فيكون قد أضر بنفسه وبغيره، والضرر ما عدا ذلك بأن يضر به فيما له فيه منفعة، أو فيما لا منفعة له فيه.
والثالث: أنه لما تركه يغرس على فضل مائه، فقد تعين له بذلك حق فيه، فليس له إذا استغنى عنه أن يحبسه عنه، ولا أن يبيعه إلى أن يحفر بئرا أو يستنبط عينا على ما يأتي بعد هذا في رسم البراءة، ويجري هذا على الاختلاف في السكوت هل هو كالإذن أم لا، وأما إن غرس على فضل مائه دون علمه، فله أن يبيعه إن وجد له ثمنا، ويكون هو أولى بالثمن الذي يبيعه به على ما قاله عيسى بن دينار بعد هذا في رسم البراءة، إلا على قول من لم يجز بيع الماء على حال، وليس له أن يحبسه عنه إذا لم يحتج إليه، ولا وجد له ثمنا لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الضرر والضرار، وعن منع نقع البئر، ورهو الماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: الماء يكون بين الرجلين يعمل أحدهما ويأبى الآخر]
مسألة وسئل عن الماء يكون بين الرجلين يعمل أحدهما، ويأبى(10/262)
الآخر، فلما عمل نصف العمل أتاه الذي أبى أن يعمل فقال: أنا أعمل الساعة معك، فإن خرج الماء أعطيتك نصف ما أنفقت، وإلا فلا شيء لك، قال: ليس ذلك له، ولا يعمل معه حتى يعطيه نصف ما عمل، ويستقبل العمل معه فيما بقي خرج الماء أو لم يخرج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إنما كان مخيرا من أول بين أن يعمل معه أو يتركه يعمل، فيكون أحق بالماء إن كان انقطع جميعه أو بما زاد بعمله، إن كان لم ينقطع جميعه حتى يأتيه بنصف ما أنفق، فإذا أبى أن يعمل معه حتى عمل بعض العمل، فليس له أن يعود إلى العمل معه حتى يعطيه نصف ما عمل، ألا ترى أنه لو قال له من أول: اعمل نصف العمل وحدك، وأنا أعمل معك النصف الباقي، فإن خرج الماء أعطيتك نصف ما عملت وحدك، وإلا لم يكن لك علي شيء لم يكن ذلك له إلا برضاه، فكذلك إذا أراد أن يعمل معه بعد أن عمل وحده نصف العمل لم يكن ذلك له، إلا أن يعطيه نصف ما عمل، وهذا بين إن شاء الله عز وجل، وبه التوفيق.
[: تفقعت الأرض في جنانه عن عرق من أصل الشجرة في جنان آخر]
ومن كتاب الثمرة وسئل ابن القاسم عن الرجل تفقعت الأرض في جنانه عن عرق من أصل الشجرة في جنان آخر، لمن يكون ذلك العرق؟ قال ابن القاسم: إن كان فيه لصاحب الشجرة منفعة إن قلعه،(10/263)
غرسه في مكان آخر، فذلك له أن يفعله، وإن كان ليس له فيه منفعة، ولا عليه فيه مضرة، فهو لصاحب الأرض، إلا أن يكون قد بلغ، فهو إن قلع كان له ثمن لخشبه أو حطب، فإنه إن كان كذلك كان له على صاحب الأرض ثمنه مقلوعا، قال عيسى: إلا أن يكون إقراره بحاله مضرا بأصل الشجرة التي هو منها، فلا يكون ذلك له إلا برضا من صاحب الشجرة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقول عيسى تفسير لقول ابن القاسم وتتميم له، قال ابن القاسم في المجموعة إلا أن يشاء الذي ظهرت في أرضه أن يقطع عروقها المتصلة بشجر الأول حتى لا يضر بها، ويعطيه قيمتها مقلوعة فذلك له، وهو أيضا تفسير لقول عيسى بن دينار وتتميم له، فالمسألة كلها بينة صحيحة ليس فيها اختلاف ولا كلام، ومن حقه أن يقطع عروقها المتصلة بها، وإن أضر ذلك بالشجرة التي هي منها؛ لأن له أن يقطع ما دخل في أرضه من عروق شجر غيره كما له أن يقطع ما دخل في هواه من أغصان شجر غيره.
[: المعاملة في الرحى الخربة أو في موضعها من الأرض بجزء منها]
ومن كتاب أوله رجل شهد على شهادة ميت وعن رحى بين ورثة قد خربت، فيقول الورثة لرجل منهم: اعملها مناصفة، فإذا طحنت فلك النصف ولنا النصف، فعملها حتى طحنت، هل يحل له النصف؟ أو يكون له قيمة ما عمل؟ قال ابن القاسم: إن كانوا إنما يريدون نصف الغلة فلا يحل، وهو(10/264)
حرام، وإن كان إنما يريدون أن للعامل نصف الأرض ونصف الرحى فلا بأس به إذا كان عمل الرحى محدودا معلوما.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أحفظه في أن المعاملة في الرحى الخربة أو في موضعها من الأرض بجزء منها [جائز] إذا كان العمل محدودا معروفا كالمغارسة في الأرض بجزء منها قياسا على ما جوَّزته السنة من المساقاة، وليست بإجارة منفردة ولا بجُعْل منفرد، وإنما هي سنةٌ على حيالها، وأصلٌ في نفسها أخذت بشبهة من الإجارة والجعل فهي تشبه الإجارة في لزومها بالعمد، وتشبه الجعل في أن العامل لا يجب له شيء حتى تطحن الرحى، فإن تلف البنيان قبل ذلك بهدم أو غيره حتى لم يبق منه شيء كانت مصيبته منه، ولم يكن من حقه أن يعيده ثانية، ولا لرب الأصل أن يلزمه ذلك، وإن كان بقي منه شيء كان من حقه أن يعيده ثانية، ولم يكن لرب الأرض أن يلزمه ذلك إن أباه، ولا اختلاف أيضا أحفظه في أن المعاملة على بناء الرحى الخربة بجزء من الغلة دون الأصل لا تجوز ولا تحل؛ لأنه غرر؛ إذ قد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» فإن وقع ذلك وأدرك قبل العمل فسخ، وإن لم يعثر على ذلك إلا بعد العمل كان للعامل أجرة مثله فيما عمل، وكان عليه رد ما اغتل، وبالله التوفيق.
[: يسدوا مصرف الوادي عن مرج الآخرين حتى يرجع إليهم]
ومن كتاب النسمة وسئل ابن وهب عن القوم يكون لهم مرج يزرعون فيه، وللمرج وادٍ فإذا كانت السيول سقاء مرجهم وإن ذلك الوادي(10/265)
انصرف عن مرجهم إلى مرج غيرهم فهل [يحل] لهم أن يسدوا مصرف الوادي عن مرج الآخرين حتى يرجع إليهم؟ قال: إن كان الماء دخل أرضهم قبل أن ينصرف فهم أولى به حتى يسقوا به ما عندهم ثم يسرحوا الفضل إلى إخوانهم حتى يسقوا ما عندهم، وإن كان الماء إنما انصرف عنهم قبل أن يدخل شيئا من أرضهم فلا أرى لهم أن يقطعوه عن إخوانهم إلا أن يكون فيه سعة لهم جميعا؛ لأن الماء غيث يسوقه الله إلى من يشاء، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50] يريد المطر، فإذا صرفه الله إلى قوم فلا ينبغي لأحد أن يقطعه دونهم إلا أن يكون ذلك الماء وقع في أرضهم فهم أولى به حتى يسقوا ما عندهم، فأما أن ينقلوه من مكان بعيد فيصرفوه إليهم دون من هو أقرب إليه منهم فلا، قال ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة، والأصل فيها قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سيل مهزور ومذينب: «يمسك الأعلى إلى الكعبين، ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل» ؛ لأنهما واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر، فقوله في هذه الرواية فهم أولى به حتى يسقوا ما عندهم يريد والحد في ذلك أن يبلغ الماء في مرجهم إلى الكعبين على ما جاء في الحديث، وقد اختلف إذا بلغ الماء إلى الكعبين هل يرسله كله إلى من تحته أو لا يرسل إليه منه إلا ما زاد على الكعبين؟ فقال ابن(10/266)
القاسم: يرسل جميعه، وقال مطرف وابن الماجشون: لا يرسل منه إلا ما زاد على الكعبين، وهو الأظهر، وروى [علي بن] زياد عن مالك أن معنى الحديث أن يُجري الأول الذي هو أقرب إلى الماء من الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية إلى حد الكعبين حتى يروى حائطه، ثم يفعل الذي يليه كذلك ما بقي من الماء شيء، قال: وهذه السنة فيهما وفيما يشبههما مما لا حق فيه لأحد بعينه أن الأول أحق بالتبدئة، ثم الذي يليه إلى آخرهما رجلا، ويحتمل عندي أن يكون [معنى] رواية [علي بن] زياد هذه إذا كان ماء الوادي كثيرا فوق قدر ما يتأتى السقي به، فيأخذ منه الأول المقدار الذي وصفه فيسقي به حائطه ما احتاج إلى السقي به، ثم الذي بعده من بقية ماء الوادي كذلك، [ثم الذي بعده من بقية ماء الوادي كذلك] ، أيضا إلى أن يتم الماء، وأن يكون معنى رواية من سواه إذا لم يكن في ماء الوادي فضل عما يسقي به واحد بعد واحد فلا تكون رواية [علي بن] زياد عن مالك على هذا التأويل مخالفة لما تقدم، والله أعلم.
والأظهر أنه اختلاف من القول في صفة قسم الماء بين الأعلى ومن تحته إذا كان الماء كثيرا، فعلى المشهور يرسل الأعلى جميع الماء في حائطه حتى ينتهي فيه إلى الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته فيمسكه أيضا في حائطه حتى ينتهي إلى الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته هكذا أبدا ما لم يحتج الأول الأعلى إلى إعادة السقي ثانية فيكون أحق به، ثم الذي تحته، ثم الذي تحته كالسقية الأولى، ما لم يحتج الأول الأعلى أيضا إلى إعادة السقي ثالثة فيكون أحق به، ثم الذي تحته ثم الذي تحته كالسقية(10/267)
الثانية ما لم يحتج الأول الأعلى إلى إعادة السقي رابعة فلا يكون في الماء حق لمن لم ينته إليه حتى احتاج الأول الأعلى إلى إعادة السقي، وعلى رواية [علي بن] زياد عن مالك لا يأخذ الأعلى الماء كله لحائطه حتى يبلغ إلى الكعبين، وإنما يأخذ من الماء في ساقيته إلى حائطه حتى يبلغ إلى الكعبين، وإنما يأخذ من الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون فيها إلى الكعبين، ثم الذي تحته كذلك، ثم الذي تحته كذلك، حتى يتم الماء، وأما إن لم يكن في الماء كله إلا قدر ما يتأتى به السقي لواحد فلا حق للأسفل إلا فيما يفضل عن الأعلى، وبالله التوفيق.
[: له بئر عليها زرع ونخل فانهار بئره ولجاره فضل ماء]
ومن كتاب البراءة وسئل عن رجل كانت له أرض قريبة من ماء قوم فغرس بمائهم ونبتت عليه الشجر وهم يعلمون، ثم إن أصحاب الماء أرادوا أن يحبسوا ماءهم، فقال صاحب الغرس: تركتموني حتى غرست، ثم تريدون أن تحبسوا عني، وقال أصحاب الماء: إنما غرست عليه وهو ماء لا أستطيع حبسه، قال: ليس لأصحاب الماء أن يحبسوا ذلك عنه إلى أجل يُضرب له لاحتفار بئر أو استنباط عين إلا أن لا يكون في الماء فضل عن حاجة أصحابه وإنه إن [كان] أخذ من مائهم شيئا دخل على أصحاب الماء الضرر والهلاك في غللهم فيكونوا أولى بمائهم، ولقد سمعت مالكا قال في رجل كانت له بئر عليها زرع ونخل فانهار بئره(10/268)
ولجاره فضل ماء، قال: أرى أن يقضى له على جاره بفضل مائه حتى يصلح بئره بلا ثمن ولا شيء، فهذا يشبهه. قال ابن القاسم: ولو لم يعلموا بذلك فأرادوا صرف مائهم، وفي مائهم فضل أنه إن كان ليس لهم في الفضل منفعة رأيته أولى به، قال: وإن كان لهم فيه منفعة فهم أحق بمائهم، قال: وليس له في ذلك قول وإن باعوه إلا أن يرضوا أن يبيعوه منه، قال عيسى: أرى أهل الغرس أولى بالماء بالثمن الذي يبيعه به أهله.
قال الإمام القاضي: قوله فغرس بمائهم يريد فغرس بفضل مائهم، وقوله: ثم إن أصحاب الماء أرادوا أن يحبسوا معناه أرادوا أن يحبسوا فضل مائهم، إذ لا اختلاف في أن الرجل أحق بجميع مائه إذا لم يكن له فيه فضل عما يحتاج إليه، وإنما القول فيما فضل عن حاجته، فإن لم يكن لغيره إليه حاجة إلا ما يريده من ابتداء الانتفاع به بزرع أو خضر يزرعها عليه أو نخل يغرسها عليه فلصاحبه أن يمنعه منه إلا بثمن يواجبه عليه وجد فيه ثمنا عند سواه أو لم يجد، وأما إن كانت لغيره إليه حاجة لسقي نخل قد كان غرسها عليه فنبتت به فإن كان ذلك بعلم صاحب الماء كان أحق به بغير ثمن إلى أن يحفر بئرا أو يستنبط عينا وجد صاحبه به ثمنا عند سواه أو لم يجد، وإن كان ذلك من غرسه النخل على فضلة ذلك الماء بغير علم صاحب الماء كان أحق به بغير ثمن إلى أن يحفر بئرا أو يستنبط عينا إن لم يجد صاحبه فيه ثمنا عند سواه، وإن وجد فيه ثمنا عند سواه كان أحق بفضلة مائه يبيعها ممن شاء، وما لم ينفذ البيع فيه فهو أحق به بالثمن الذي يعطي غيره به على ما قاله عيسى بن دينار، فهذا معنى قوله عندي لا أنه يكون له أن يأخذه بعد نفوذ البيع بالثمن كالشفعة، وسيأتي في(10/269)
سماع محمد بن خالد إذا غرس على فضل مائه بعطية منه، وأما إن كانت لغيره حاجة إلى أن يسقي به نخلا أو زرعا قد كان زرعه أو غرسها على أصل ما كان له من بئر فانهار أو عين فجفت فإنه يقضي له به إلى أن يصلح بئره، قيل بثمن وقيل بغير ثمن، والقولان في المدونة، ومعنى ذلك عندي إذا كان يجد له ثمنا عند سواه، وأما إن لم يجد له ثمنا عند سواه فيقضي له بغير ثمن قولا واحدا، وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، وإنما معناه أنه يقضى له به بغير ثمن إذا لم يوجد له ثمن عند سواه وبثمن إذا وجد له ثمن عند سواه، والأظهر أن ذلك اختلاف من القول إذا وجد له ثمن عند سواه، ووجه هذا الاختلاف اختلافهم في تأويل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع نقع بئر ولا رهو ماء» فمن حمله على هذا الموضع قال: إنه يقضى له به بغير ثمن، ومن حمله على البئر يكون بين الشريكين يسقي به هذا يوما وهذا يوما فيروي أحدهما حائطه في بعض يومه ويستغني عن الماء بقية يومه أنه ليس له أن يمنعه من شريكه في بقية ذلك اليوم، قال: إنه يقضي له به بالثمن، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، والله أعلم.
[: الرحى تكون بين النفر فتنهدم وتخرب فيدعو أحدهم إلى عملها ويأبى ذلك بعضهم]
من مسائل سئل عنها عيسى بن دينار
وسئل [عيسى] عن الرحى تكون بين النفر فتنهدم وتخرب فيدعو أحدهم إلى عملها ويأبى ذلك بعضهم، قال: يقال لمن(10/270)
أبى منهم العمل إما أن تعمل معه وإما أن تبيع ممن يعمل معه، يجبر على ذلك، وكذلك قال مالك.
قلت: فلو عمل بعضهم فأنفق فلما تمت وطحنت قال الذي لم يعمل: هذا نصف ما أنفقت وأكون على حظي منها، قال: ذلك له ويكون على حظه منها مبنيا.
قلت: فلو كان العامل اغتل منها غلة كثيرة قبل رده إليه ما أنفق لمن تكون تلك الغلة؟ قال: قد اختلف في ذلك، فقال محمد بن إبراهيم بن دينار المدني: يكون للعامل منها بقدر ما أنفق وما كان له فيها قبل أن ينفق ويكون للذي لم يعمل بقدر ما كان بقي له من قاعتها وبقية سدها وحجارتها وما كان فيها من صلاح، وأما ابن القاسم فقال لي مرة: الغلة كلها للعامل دون من أبى أن يعمل معه حتى يعطي قيمة ما عمل، وهي بمنزلة البئر يغور ماؤها أو ينهدم منها ناحية فيريد أحد الشريكين العمل ويأبى صاحبه، فيقال لمن أبى أن يعمل: اعمل معه أو بع ممن يعمل، فإن أبى وخلى بينه وبين العمل وحده كان الماء كله للعامل حتى يدفع [إليه] نصيبه من النفقة، فكذلك الرحى، قال عيسى: وبهذا القول رأيت ابن بشير يحكم، ثم قال لي ابن القاسم في الرحى: يحاصه بما اغتل فيما أنفق، ولو كان لم يرد عليه نصف ما أنفق حتى اغتل منها جميع نفقته لرجع هذا في حظه ولم يكن عليه شيء. قال عيسى: والذي آخذ به في ذلك أن تكون الغلة كلها للعامل ويكون عليه للذي لم يبن كراء نصيبه من قاعة الرحى وما كان فيها باقيا من العمل فإن أراد الدخول معه فيما بنى دفع إليه(10/271)
ما ينوبه من قيمة العمل الذي في الرحى قيمته يوم يدخل معه وليس يوم عمله ولا قدر ما ينوبه من النفقة التي أنفق فيها إلا أن يكون ذلك بحدثانه. قال: وبلغني عن ابن وهب أنه قال في الغلة مثل قول ابن دينار أن يكون للعامل من الغلة بقدر ما أنفق فيها وما كان له منها وللذي لم يعمل بقدر ما كان له من قاعتها وباقي غلتها، وتفسير ذلك أن تقام الرحى غير معمولة وتقام معمولة فإن كانت قيمتها قبل أن تعمل عشرة وقيمتها بعد العمل خمسة عشر كانت ثلث الغلة للعامل وثلثاها بينه وبين شريكه، ويكون على الذي لم يعمل ما ينوبه من أجر العامل في قيامه بعملها، ثم إن أراد الذي لم يعمل أن يدخل مع الذي عمل في الرحى دفع إليه ما ينوبه من قيمة الرحى على قدر حظه منها قيمته يوم يدفع ذلك إليه وليس ما ينوبه من النفقة الأولى ولكن قيمته يوم يدخل معه، وقال يحيى بن يحيى مثله كله في اقتسام الغلة ورد القيمة، وقال: به آخذ، قال: وقد سمعت ابن القاسم يقول غير ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في أول هذه المسألة إنه يقال لمن أبى أن يعمل إما أن تعمل معه وإما أن تبيع ممن يعمل معه يجبر على ذلك قد مضى القول عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وقول محمد بن إبراهيم بن دينار المدني: إن العامل يكون له من الغلة بقدر ما أنفق وما كان له منها قبل أن ينفق ظاهره أن الغلة تفض على منتهى نفقته وقيمة ما كان له من أصل الرحى وعلى قيمة ما كان للذي(10/272)
لم يعمل من أصل الرحى بأن ينظر كم نفقته التي أنفق في الرحى وكم قيمة قاعة الرحى على ما كانت عليه قبل النفقة فإن كانت النفقة عشرين وقيمة قاعة الرحى قبل النفقة عشرين كان للعامل ثلاثة أرباع الغلة خلاف التفسير الذي فسر الراوي بقوله بأن تقام الرحى غير معمولة وتقام معمولة فإن كانت قيمتها قبل أن تعمل عشرة وقيمتها بعد العمل خمسة عشر كان للعامل ثلثا الغلة وللذي لم يعمل الثلث إذ لو أراد ذلك لقال: إن العامل يكون له من النفقة بقدر ما زادت نفقته في الرحى وبقدر ما كان له فيها قبل النفقة. وقول عيسى بن دينار إن الذي لم يعمل إن أراد الدخول مع الذي عمل فيما عمل يدفع إليه ما ينوبه من قيمة العمل الذي في الرحى قيمته يوم يدخل معه وليس يوم عمله ولا قدر ما ينوبه من النفقة التي أنفق إلا أن يكون ذلك بحدثانه مفسر لقول ابن القاسم الأول الذي قال فيه: إن الغلة كلها للعامل دون من أبى أن يعمل معه حتى يعطي قيمة ما عمل، ولم يبين إن قام عليه بحدثان ما عمل هل يكون عليه أن يعطيه ما ينوبه من النفقة التي أنفق أو من قيمتها، وفي ذلك قولان قائمان من المدونة: أحدهما أنه ليس له أن يدخل معه إلا أن يعطيه ما ينوبه من مبلغ النفقة التي أنفق، والثاني أنه لا يلزمه أن يدفع إليه إلا ما ينوبه من قيمة النفقة، إذ قد يغبن في استئجار الأجراء وفيما ابتاع من متاع الرحى، وأما إن أراد الدخول معه بعد أن بلي البنيان فلا يلزمه أن يدفع إليه إلا ما ينوبه من قيمته على حالته التي هو عليها من البلى قولا واحدا، ووجه العمل في ذلك أن يقال: كم قيمة الرحى اليوم على ما هي عليه من البنيان القديم، وكم كانت تكون قيمتها اليوم لو كان هذا البنيان الذي فيها جديدا فينقص ما بين القيمتين من النفقة التي أنفق أو من قيمتها على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك فما بقي كان عليه ما ينوبه منه، وقد قيل: إن ذلك يرجع إلى أن يكون عليه ما ينوبه مما زادت قيمة الرحى بالبنيان على ما هو عليه بأن تقام خربة وعلى ما هي عليه فيكون عليه ما ينوبه مما بين القيمتين إلا أن يكون ذلك أكثر من قيمة ما أنفق فلا يكون عليه أكثر من قيمة ما أنفق، وكذلك حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف أنه يكون عليه الأقل من قيمة البنيان أو من قيمة ما(10/273)
أنفق، ولا خلاف في أنه لا يلزمه أن يعطيه أكثر مما أنفق، فليس قول عيسى بن دينار بخلاف لقول ابن القاسم الأول إلا فيما ذكر من أنه يقوم عليه للذي لم يبن كراء نصيبه من قاعة الرحى لأن ابن القاسم لا يرى عليه في ذلك كراء. ووجه قوله أن الرحى مهدومة لا كراء لها، وإنما صار لها كراء ببنيانه فوجب ألا يكون عليه في حظ شريكه كراء، ووجه قول عيسى بن دينار أن الكراء فيها موجود إذا أكريت على أن يبني وقد بناها العامل وانتفع بها، فوجب عليه أن يكون في حصة شريكه الكراء، وهو أظهر، والله أعلم. وقوله في آخر المسألة: وقال يحيى بن يحيى مثله في اقتسام الغلة يريد مثل قول ابن دينار، وقوله: وقد سمعت ابن القاسم يقول غير ذلك يريد أحد قوليه المتقدمين، إما أن تكون الغلة كلها له حتى يأتيه شريكه بما ينوبه من قيمة ما عمل من التفسير الذي ذكرناه، وإما أن يحاصه بما اغتل فيما أنفق، وقد روي عن ابن القاسم في المسألة قول ثالث وقع له في المبسوطة، وهو الفرق بين أن تكون الرحى مهدومة فيبنيها أحد الأشراك أو تكون قائمة فينخرق سدها وتتعطل الرحى بسبب ذلك فيأبى أحد الشريكين أن يصلحه ويصلحه الآخر فقال: إنه يحاص بما أنفق في إصلاح السد بما اغتل بخلاف إذا كانت الرحى مهدمة، فتحصيل الخلاف في هذه المسألة أن فيها ثلاثة أقوال: أحدها أنه يحاص بالنفقة في الغلة كانت الرحى مهدومة أو انخرق سدها، والثاني أنه لا يحاص بالنفقة في الغلة في الوجهين، والثالث الفرق بينهما فإذا قلت: إنه لا يحاص بالنفقة في الغلة ففي حكم الغلة ثلاثة أقوال: أحدها أنها تكون كلها للعامل إلى أن يريد الشريك الدخول معه فيأتيه بما يجب عليه في ذلك على التفسير الذي ذكرناه ولا كراء عليه في حظ شريكه من الرحى، وهو قول ابن القاسم، والثاني أن الغلة تكون للعامل أيضا ويكون عليه كراء حصة شريكه من الرحى وهو قول عيسى بن دينار، والثالث أن الغلة تكون بينهما فيكون للذي لم يعمل منهما بقدر قيمة حظه من الرحى على ما كانت عليه، وللذي(10/274)
عمل بقدر حظه منها أيضا وبقدر عمله على الاختلاف الذي ذكرناه في تأويل ذلك إلى أن يريد الشريك الدخول معه فيأتيه بالواجب عليه فيما عمل على ما ذكرناه من التفسير في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له رحى قد خربت فيريد أن يعامل رجلا على عملها ومرمتها]
مسألة وسئل عيسى عن الرجل يكون له رحى قد خربت أو منصب رحى فيريد أن يعامل رجلا على عملها ومرمتها ما يجوز في ذلك؟ فقال: يجوز في ذلك أن يقول له: ابن لي رحائي هذه على صفة كذا وكذا، بصخر كذا وكذا [وخشب كذا وكذا] فيصف له جميع بنيانها فإذا تمت فنصفها لي ونصفها لك من أصلها أو ثلثاها لي وثلثها لك من أصلها أو كائن ما كان من الأجزاء، فهذا الجائز، أو يقول: ابن لي رحائي هذه على صفة كذا وكذا أو أنفق فيها كذا وكذا وهي لك [بذلك] كذا وكذا. سنة فيجوز ذلك أيضا، وقال حسين بن عاصم مثل ذلك إلا أنه قال: لا يجوز ذلك إلا في النهر المأمون.
قلت: فلو قال له: ابن لي رحائي هذه على صفة كذا وكذا فإذا تمت فغلتها بيني وبينك، أو لك من غلتها يوم وليلة في كل جمعة، فعمل العامل على ذلك واغتلاها زمانا جميعا، ثم تبين لهما أن ذلك لا يصلح، كيف يصحح مثل هذا؟ فقال: يكون للعامل فيه قيمة ما أدخل في الرحى من صخرها وحجارتها وخشبها قيمته يوم أدخله في الرحى، وتكون له أجرته فيما(10/275)
اشتغل في ذلك وقيمة عمل من عمل في الرحى من الأجراء وغيرهم، وتكون الغلة كلها لرب الرحى، يرد العامل إليه ما وصل إليه منها، إن كان الذي أخذ منها طعاما فمكيلته، وإن كان دنانير أو دراهم فعدتها. وإن كان لا يعرف مكيلة ما أخذ من الطعام غرم قيمة خرص ذلك ولا يغرم مكيلة الخرص، قال: وذلك لأن رب الرحى استأجر العامل على عمل الرحى واشترى منه أداتها بأمر غرر لا يجوز فصار للعامل قيمة ما أدخل في الرحى وأجرة عمله، وصارت الغلة كلها لرب الرحى يرد العامل ما أخذ مما لم يجز له ويعطى ما يجوز له من قيمة عمله بمنزلة ما لو قال له: اعمل لي رحى في هذه فإذا تمت فلك نصف غلة رحائي هذه الأخرى، أو لك يوم من غلتها كل جمعة، أو لك ثمر جناني هذه قبل أن يحل بيعها، فهذا إذا وقع وفات كان له قيمة ما أدخل في الرحى وأجرة عمله لأنه اشترى منه الصخر والحجارة وما أدخل في الرحى من الخشب والأداة واستؤجر على عمله بأمر لا يجوز فهو يعطى ما يجوز ويرد الذي أخذ مما لا يجوز له. قال يحيى: سألت ابن القاسم عن ذلك فقال لي: تكون الغلة كلها للعامل [ويكون عليه كراء قاعة الرحى] ، ويكون له قيمة عمله منقوضا، قال يحيى: والذي آخذ به أن يعطى قيمة عمله قائما تاما.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أحفظه في المذهب في أن المعاملة في منصب الرحى على إقامتها وعملها بجزء منها جائز إذا كان العمل موصوفا محدودا، كان النهر مأمونا أو غير مأمون حسبما مضى القول فيه في رسم شهد من سماع عيسى، ولا في أن المعاملة على عملها بغلتها(10/276)
بعد تمام عملها مدة معلومة جائزة أيضا إذا كان النهر مأمونا على ما قاله حسين بن عاصم ولا في أن المعاملة فيها بجزء من غلتها دون شيء من أصلها لا يجوز كان النهر مأمونا أو غير مأمون، واختلف إذا وقع ذلك فلم يعثر عليه حتى فات بالعمل هل يحكم له بحكم الإجارة الفاسدة أو بحكم الكراء الفاسد إذ لم ينصا في معاملتهما كراء ولا إجارة، ولو نصا فيها كراء أو إجارة لكان الحكم فيها على ما نصاه دون خلاف، فقال عيسى بن دينار: إن الغلة كلها تكون لرب الرحى يرد إليه العامل ما أخذ منها، ويكون له إجارة مثلها فيما عمل وقيمة ما أدخل فيها من الخشب والحجارة والأداة على حكم الإجارة الفاسدة، لأنه رأى البناء على ملك رب الرحى، وروى يحيى عن ابن القاسم أن الغلة كلها تكون للعامل يرد عليه رب الرحى ما أخذ منها، ويكون له على العامل كراء قاعة الرحى على حكم الكراء الفاسد، لأنه رأى البناء على ملك بانيه، واختلاف ابن القاسم ويحيى بن يحيى في قيمة البنيان هل يكون له قائما أو منقوضا وجهه أن ابن القاسم لم يعذر الباني بالجهل بفساد المعاملة فجعله كالباني في ملك غيره بغير شبهة، إذ بنى وهو يعلم أنه متى قيم عليه فسخت المعاملة بينهما وأخرج عن الرحى فلم يوجب له إلا قيمة بنيانه منقوضا، وسواء على هذا عثر عليه بالقرب أو بعد أن طالت المدة، وعذره يحيى بن يحيى بالجهل فأوجب له قيمة بنيانه قائما كمن بنى فيما يظن أنه ملكه فاستحق من يده بقرب ذلك أو بعد أن طالت المدة، وهذا عندي فيمن يشبه أن يجهل ذلك وإلا [يضر] بجهله، وأما العالم الذي لا يشبه أن يجهل ذلك فلا يجب له إلا قيمة بنيانه منقوضا عندهما جميعا، والجاهل الذي لا يشبه أن يعلم ذلك له قيمة بنيانه قائما عندهما جميعا، وقد قيل: إن هذا الاختلاف إنما يصح إذا طالت المدة إلى القدر الذي يرى أن الرجل قد يكتري الرحى على أن يبنيها إلى هذه المدة ثم يخرج عند انقضائها فيأتي قول ابن القاسم على أصله فيمن بنى فيما اكترى بإذن صاحب الدار أنه ليس له إذا خرج إلا قيمة(10/277)
بنيانه منقوضا، ويأتي قول يحيى بن يحيى على رواية المدنيين عن مالك أنه من بنى بوجه شبهة على غير وجه التعدي فله قيمة بنيانه قائما، وأما لو عثر على ذلك بحدثان البنيان لوجب أن يكون له قيمة بنيانه قائما قولا واحدا، والتأويل الأول هو الصحيح في المسألة إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له المنصب يصيد فيه الحيتان فيشكو جيرانه أن ذلك يضرهم]
مسألة وسئل عيسى عن الرجل يكون له المنصب يصيد فيه الحيتان الأعوام ثم يشكو [جميع] جيرانه أن ذلك يضر بهم، أترى أن يمنع [ذلك] من ضررهم وهو يحتج باستحقاقه ذلك عليهم هذه الأعوام؟ قال: نعم لهم أن يمنعوه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ ليس لمن يلي النهر من جانبه أن يختص بالصيد فيما يوازي أرضه دون جماعة الناس ولا أن يعمل مصايد فيها يمنع الحيتان أن تجوزها فقال: إنه إن فعل ذلك فشكا جيرانه بعد مدة أن ذلك يضر بهم يريد في أن الحيتان لا تخلص إليهم كان لهم أن يمنعوه، وذلك كما قال، إذ ليس هذا مما يستحق بالقدم لأنه أمر يتكرر ولا يختص جيرانه بالضرر بذلك دون جماعة الناس، وقال: إن لهم أن يمنعوه من الضرر بهم ولم يبين وجه المنع كيف يكون، ووجه الأمر في ذلك أن ينظر إلى ذلك المنصب فإن كان إذا قلع لم يكن له قيمة كانوا بالخيار بين أن يأمروه بقلعه وبين أن يتركوه فيشتركوا في الصيد معه فيه بالسواء، وإن كانت له قيمة إذا قلع كانوا بالخيار بين أن يعطوه قيمته مقلوعا ويشتركون في الصيد فيه معه وبين أن يأمروه بقلعه، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على أصولهم. وقد حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أن أهل هذه المصايد الذين عملوها يبدأون بالاصطياد(10/278)
فيها، فإذا نالوا حاجتهم خلوا بين الناس وبينها يصطادون فيها وبها، وذلك عندي إذا اتفقوا على أن يقروها ولا يقلعوها وتشاحوا في الصيد فيها فأراد أربابها أن ينفردوا بالصيد فيها دون جماعة الناس، وأراد جماعة الناس أن يكونوا معهم شرعا واحدا. وأما إن أراد جماعة الناس أن يجبروهم على القلع فذلك لهم، وإن أرادوا هم أن يقلعوا مصايدهم فذلك لهم إلا أن يعطوهم قيمتها مقلوعة، وهذا بين إذا كانوا عملوا المصايد في موضع لا شبهة لهم في عمله فيه، وأما إن كانوا عملوها من النهر في موضع يليه أرضهم من الناحيتين فيتخرج ذلك على قولين: أحدهما أنهم لا يعذرون بالجهل [في ذلك] ، ويكون الحكم فيه على ما تقدم، والثاني أنهم يعذرون بالجهل في ذلك ولا يكون للناس أن يأخذوها منهم بقيمتها مقلوعة إلا بعد أن يستغلوا منها قيمة نفقتهم فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: بنى رحى جزء منها في أرض جاره على أن يطحن له طعامه]
مسألة وسئل عن رجل ابتنى رحى فأخرج طرف سده في أرض جاره على أن يطحن طعامه فيها في كل شهر مديا فقال: هذا جائز. قلت له: أرأيت إن لم يوقت الطعام؟ قال: لا يجوز، قيل له: فإذا وقع؟ قال: يعطى صاحب الأرض قيمة ما ترك له من نصف الماء وإخراج السد في أرضه ويكون عليه لصاحب الرحى أجرة ما طحن له على هذا الشرط إذا كان إنما تركه يبني ويخرج سده في(10/279)
أرضه على أن يطحن له ولولا ذلك لمنعه من ذلك ولسأل أن يقاسمه الماء لأن له نصفه وللعامل نصفه. قيل له: أرأيت لو باع صاحب الرحى رحاه قبل أن يفسخ هذا الشرط واشترط على المشتري أن يحمل شرط صاحب الأرض أو علم المشتري بذلك فاشترى ولم يشترط عليه لعلمه بذلك؟ قال: إذن فسخ شراؤه ويكون العمل بين مبتني الرحى وصاحب الأرض على ما فسرت لك إلا أن تفوت الرحى فتلزمه القيمة.
قلت: فلو لم يعلم المشتري بذلك ولم يشترطه؟ قال: إذن يكون البيع جائزا ويكون العمل بين المبتني وصاحب الأرض في ذلك كله كما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أخرج طرف سد رحاه في أرض جاره على أن يطحن له فيها طعامه كل شهر مديا إن ذلك جائز معناه إذا ضرب لذلك أجلا لأنه إذا لم يضرب لذلك أجلا لم يجز لأنه مجهول، ويدخل في ذلك اختلاف بالمعنى على ما سنذكره، وأما إذا لم يوقت ما يطحن له من الطعام في كل شهر ففي ذلك اختلاف بالمعنى يجوز على ما حكاه ابن حبيب عن مالك وأصحابه من أنه يجوز أن يواجب الرجل صاحب الحمام على ما احتاج إليه هو وعياله من النورة ودخول الحمام سنة، وأن يواجب الخياط على خياطة ما احتاج إليه هو وأهله من الثياب سنة، وأن يواجب الفران على طبخ ما احتاج إليه هو وأهله من الخبز سنة، أو على طحين ما يحتاج إليه هو وأهله سنة إذا عرف الفران والخياط والطحان وصاحب الحمام ناحية عياله وما يحتاجون إليه مما عولوا عليه، ولا يجوز على مذهب ابن القاسم في المدونة في أنه لا يجوز شيء من ذلك(10/280)
إلا أن يشترط منه أمرا معروفا، فقول عيسى بن دينار في هذه المسألة على قياس قول ابن القاسم في المدونة؛ لأن معنى قوله فيها على أن يطحن له فيها طعامه أو ما يحتاج إليه لنفقته ونفقة عياله، فإذا وقع ذلك على الجهل في أحد الطرفين أو في كليهما على مذهبه وقياس ما في المدونة فهو عقد فاسد يجب فسخه إلا أن يفوت فيصحح بالقيمة، وفواته يكون بإنفاذ السد إلى أرضه فلذلك قال: إنه يعطى صاحب الأرض قيمة ما ترك له من نصف الماء وإخراج السد في أرضه ويكون له على صاحب الرحى أجرة ما طحن له على هذا الشرط؛ لأن هذا هو وجه تصحيح عقدهما بالقيمة لفواته، فإذا باع صاحب الرحى رحاه قبل أن يفسخ الشرط واشترط على المشتري ما كان اشترط عليه صاحب الأرض أو علم بذلك المشتري ودخل عليه كان بيعا فاسدا، فإن فات بما يفوت به البيع الفاسد صحح بالقيمة وصحح ما كان انعقد بين البائع وصاحب الأرض بالقيمة أيضا على ما تقدم، وإن لم يفت رد وكان العمل بين البائع وصاحب الأرض على ما تقدم، وإن لم يعلم المشتري بذلك ولا شرط عليه حمل الشرط كان البيع جائزا وكان العمل بين صاحب الرحى وصاحب الأرض على ما تقدم، فالمسألة كلها صحيحة بينة لا إشكال فيها. وقد اختلف في المعاملة على هذا فقيل: إنها بمعنى الارتفاق ولا يكون الثمن في ذلك إلا معلوما، فإن انهدم السد كان صاحب الرحى بالخيار بين أن يعيده أو يترك إعادته فيرجع موضعه من الأرض إلى ربه وقد وجب له الثمن المسمى على كل حال يستوفي بقيته منه إن كان لم يستوفه، وهو قول ابن الماجشون، والقياس على هذا القول أن يجوز إخراج طرف سد رحاه في أرض جاره على أن يطحن له فيها كل شهر مديا أو ما يحتاج إليه على القول بأنه لا يحتاج إلى توقيت الطعام إذا عرف ناحية عياله ما كانت الرحى قائمة طاحنة من غير أن يضرب لذلك أجلا، وقيل: إنها بمعنى البيع في جميع وجوهه فيكون موضع السد من الأرض لصاحب الرحى بما سمى له من الثمن على كل حال لا يرجع إلى صاحبه على حال، وهو قول مطرف وأصبغ، فعلى هذا القول لا بد من تسمية الأجل على كل حال لا يدخل في ذلك اختلاف، وبالله التوفيق.(10/281)
[مسألة: ليس لمن له إحدى ضفتي النهر أن يبني فيها رحى إلا بإذن الآخر]
مسألة وسئل عيسى عن رجل ابتنى رحى فأخرج طرف سده في أرض قوم فجعل لهم أياما معلومة من الشهر في الرحى على أن أسلموا له إخراج طرف سده في أرضهم، فقال: إن كان جعلهم شركاء في الرحى بعد أن تتم بقدر تلك الأيام من الشهر وشرطوا للرجل عملا موصوفا ثم يكونون فيه شركاء [من الغلة] ثم يكون عليهم من إصلاحها إذا خربت والقيام بها مثل ما لهم منها من تلك الأيام فذلك جائز، وإن كان إنما لهم غلتها تلك الأيام فقط ولا شيء لهم من أصل الرحى فلا خير فيه، فإذا فات ذلك بإخراج السد فيه فلهم قيمة أرضهم وعليهم أن يردوا ما أخذوا من الغلة.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قال، إذ ليس لمن له إحدى ضفتي النهر أن يبني فيها رحى وينفذ سده إلى برية غيره الذي له الضفة الأخرى إلا بإذنه ورضاه، فإذا أذن له في ذلك على أن يكون له شرك في أصل الرحى بجزء من الأجزاء يتفقان عليه من نصف، أو ثلث أو ربع أو أقل أو أكثر فذلك جائز إذا تواصفا بنيان الرحى لأنه قد باع منه نصف الماء وموضع إخراج السد في أرضه بالجزء من أصل الرحى مبنية فلا بد أن يكون البناء موصوفا معلوما، ولا يجوز أن يأذن له في ذلك على أن يكون له أيام من الشهر من غلتها دون أن يكون له مقدار ذلك من أصلها لأنه غرر، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» ، وقد مضى القول في المسألة التي قبلها إذا أذن له في ذلك على أن يطحن له فيها كل شهر كذا وكذا فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(10/282)
[مسألة: أراد الأعلون إنشاء رحى عندهم وذلك يضر برحى الأسفلين]
مسألة وسئل عيسى عن ساقية بين قوم أعلين وأسفلين، فللأعلين نصفها يسقون بها يومين ثم يسرحون ذلك الماء إلى الأسفلين فيسقون بها يومين، فهذا فعلهم ما احتاجوا إلى السقي، فإن استغنوا سرحوا الماء إلى الأسفلين حتى يقع في النهر الأعظم فأنشأ الأسفلون على الساقية رحى فطحنت زمانا في غير أيام السقي، ثم أراد الأعلون إنشاء رحى عندهم وذلك يضر برحى الأسفلين فأرادوا دفعهم وادعوا بأنهم سبقوهم إلى العمل، فقال: إن كان أراد الأعلون إنشاء رحى عندهم أنشأوها إن أحبوا ثم اقتسموا الماء كله كما كانوا يقتسمون يومين يومين، فإذا كان يوم الأعلين طحنوا فيها وسقوا وصنعوا بمائهم ما شاءوا ثم أرسلوا على الأسفلين فطحنوا في يوميهم أيضا وسقوا وصنعوا ما شاؤوا، قال: وإن أراد الأعلون أو الأسفلون قسمة الساقية بنصفين وكره ذلك الآخرون لم يكن لهم أن يقتسموها إلا باجتماعهم لأن في ذلك ضررا عليهم لأنه يصير عليهم ما كانوا يسقون به في يومين لا يسقون به إلا في أربعة فيكثر عناؤهم ويضر ذلك بهم.
قال الإمام القاضي: المعنى في هذه المسألة أن الأعلين أرادوا أن يعملوا على ذلك الماء رحى في حقهم وأرضهم على غير الساقية التي يمر عليها الماء إلى الأسفلين أو عليها بعينها على صفة لا يمكن الأسفلين السقي ولا الطحن بما يصل إليهم من الماء حتى يغلقوا رحاهم ويردوا الماء على ساقيته القديمة أو على حالته الأولى أو يمكنهم ذلك بنقص يدخل عليهم فيه، ولهذا قال: إن الأسفلين إذا سبقوا إلى العمل كان للأعلين أن يعملوا فيقتسموا الماء على ما كانوا يقتسمونه عليه، فإذا كان يوم سقيهم صنعوا بمائهم ما شاؤوا من سقي أو طحن، إذا كان يوم الأسفلين عقلوا رحاهم وصرفوا الماء على ساقيته أو حالته إلى الأسفلين فصنعوا به ما شاؤوا(10/283)
[أيضا] من سقي أو طحن لأن الضرر يرتفع عن الأسفلين بهذا في حقوقهم، ولو لم يرتفع الضرر به عنهم في حقهم لمنعوا من إنشاء الرحى جملة، ولو أراد الأعلون أن ينشئوا في حقهم رحى على هذه الصفة فيطحنوا فيها أيام سقيهم وأيام استغناء الأسفلين عن السقي ابتداء قبل أن ينشئ الأسفلون رحى في أرضهم لكان ذلك لهم على قياس هذه الرواية، ولم يكن ذلك لهم على ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ قالوا: إن الأشياء تتقادم والعلم يدرس فيصير ذلك استحقاقا لهم على الأسفلين وحقا لهم دونهم ولا حجة للأعلين على الأسفلين في إنشاء رحى على ذلك الماء في حقهم بحال؛ لأنهم لا يملكون من الماء ومن استحقاقه إلا ما يأتيهم من الأعلين من شرب يومهم، وهذه المسألة لا تخلو من سبعة أوجه: أحدها أن يكون كل واحد منهما من الأعلى والأسفل إن أنشأ رحى [على الساقية] في حقه طحنا جميعا معا في غير أيام السقي ولم يضر أحدهما بصاحبه في نقص طحن ولا غير ذلك، فهذا لمن شاء منهما أن ينشئ رحى في حقه فيطحن فيها في غير أيام السقي ولا كلام لصاحبه كان الأعلى أو الأسفل لأنه يقدر أن ينشئ رحى في حقه متى شاء فيطحنا جميعا من غير أن يضر أحدهما بصاحبه، والثاني أن يكون كل واحد منهما من الأعلى والأسفل إن أنشأ رحى في حقه لم يمكن صاحبه أن ينشئ رحى في حقه فيمكنه الطحن فيها إلا بهدم الرحى الأولى، فهذا ليس لأحدهما أن ينشئ رحى في حقه إلا بإذن صاحبه ورضاه، فإن بدر وبنى كان لصاحبه أن يهدمها عليه إلا أن يتراضيا على شيء يجوز بينهما، والثالث أن يكون كل واحد منهما من الأعلى والأسفل إن أنشأ رحى في حقه لم يمكن صاحبه أن ينشئ رحى في حقه فيمكنه الطحن فيها إلا بقطع الماء عن الرحى الأولى وتبطيل الطحن فيها فهذا لمن شاء منهما أن(10/284)
ينشئ رحى في حقه فيطحن فيها في غير أيام السقي ما لم ينشئ صاحبه رحى في حقه، فإن أنشأ رحى في حقه اقتسما الماء على حقهما يومين يومين أو أقل أو أكثر فيطحن كل واحد منهما في حقه ثم يقطع الماء عن رحاه ويعطلها حتى يطحن صاحبه في حقه هكذا أبدا، والرابع أن يكون إن أنشأ الأعلى رحى في حقه أضر ذلك برحى الأسفل إلا أن يقطع الماء عن رحاه ويعطلها، وإن أنشأ الأسفل رحى في حقه لم يضر ذلك بالأعلى، فهذا هو الوجه الذي تكلم عليه عيسى بن دينار في هذه الرواية، وقد مضى القول عليه، والخامس عكس هذا الوجه الرابع، وهو إن أنشأ الأعلى رحى في حقه لم يضر ذلك بالأسفل، وإن أنشأ الأسفل رحى في حقه أضر ذلك بالأعلى إلا أن يقطع الماء عن رحاه ويعطلها، والجواب فيه عكس الجواب في الوجه الرابع إلا أنه لا يدخل فيه قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ، والسادس أن يكون إن أحدث الأعلى في حقه رحى لم يمكن الأسفل أن يحدث في حقه رحى فيمكنه الطحن فيها إلا بعد هدم رحى الأعلى، وإن أحدث الأسفل في حقه رحى لم يضر ذلك بالأعلى، فهذا ليس للأعلى أن يحدث في حقه رحى ابتداء، ولا بعد أن أحدث الأسفل إلا بإذنه ورضاه، وللأسفل أن يحدث في حقه رحى يطحن فيها في غير أيام السقي ولا كلام للأعلى في ذلك، والسابع عكس هذا الوجه السادس، وهو إن أحدث الأعلى رحى في حقه لم يضر ذلك بالأسفل، وإن أحدث الأسفل في حقه رحى لم يمكن الأعلى أن يحدث في حقه رحى فينتفع بالطحن فيها، والجواب فيه عكس الجواب في الوجه السادس ليس للأسفل أن يحدث في حقه رحى ابتداء ولا بعد إحداث الأعلى، وللأعلى أن يحدث في حقه رحى فيطحن فيها في غير أيام السقي ولا كلام للأسفل في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: نهر إلى جانب قرية يبس من ناحية من نواحيه شيء حتى صار أريضا يعتمل]
مسألة وسئل عن نهر إلى جانب قرية يبس من ناحية من نواحيه(10/285)
شيء حتى صار أريضا يعتمل لمن يكون ذلك؟ قال لصاحب الأرض الذي يلي النهر من الناحية التي يبست إن كانت تلك الأرض لرجل، وإن كانت بور القوم فهي بسبيل البور، قال: ولو كان النهر مال إلى ناحية عن مجراه فصار مجراه في أرض لرجل كان يليه بأرضه فإن الأرض التي انكشف عنها الماء بين الرجلين اللذين كانا يليان النهر بأرضيهما من جانبيه قال سحنون: أرى مجرى النهر مواتا لا يكون لمن يليه بأرضه إلا بقطيعة من الإمام القاضي.
قال محمد بن رشد: المعنى في قول عيسى بن دينار أنه حكم بموضع النهر لمن كان يليه من جانبيه لما كان الماء من حقهما أن ينشئا عليه رحى دون غيرهما، فإذا يبس شيء من ناحية من نواحيه حتى صار أرضا يعتمل فهو لمن كان يليه بأرضه من تلك الناحية ما بينه وبين النصف، فإن يبس منه أكثر من النصف كان ما زاد على النصف لمن يلي النهر من الجهة الأخرى كما أنه إذا مال عن مجراه يكون الموضع الذي مال عنه بين الرجلين اللذين كانا يليانه بأرضيهما ويكون للذي صار النهر في أرضه أن ينشئ عليه رحى دون غيره، وهو مذهب ابن الماجشون، حكى ذلك ابن حبيب عنه، وحكي عن مطرف وأصبغ مثل قول سحنون أن مجرى النهر موات لا يكون لأحد إلا بقطيعة من الإمام القاضي يبست ناحية منه أو يبس النهر كله أو تحول عن مجراه إلى مجرى آخر، قال: لأن الأنهار التي لم ينشئها الناس ليست ملكا لأحد، وإنما هي طريق للمسلمين فمواضعها فيء لجميع(10/286)
المسلمين لا يستحقها من كان يلي النهر من جهته بمالهما من الحق في إنشاء الأرحاء عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبيع الرجل خصب أرضه]
مسألة وسئل عيسى عن قول مالك: إذا كانت لرجل أرض فلا بأس أن يمنع كلأها إذا احتاج إليه، وإلا فليخل بين الناس وبينه، وعن قوله: لا بأس أن يبيع الرجل خصب أرضه عامه ذلك ولا يبيعه عامين ولا ثلاثة، وذلك أن يبلغ مرعاه.
قلت: أي خصب هذا الذي أجاز له بيعه؟ وأي خصب الذي أمره إذا لم يحتج إليه أن يخلي بين الناس وبينه؟ فقال: أما الخصب الذي يجوز له بيعه ومنع الناس منه احتاج إليه أو لم يحتج فمروجه وحماه، وأما الذي لا يجوز له منعه الناس إلا إذا احتاج إليه فما سوى المروج والحمى من خصب فدادينه وفحوص أرضه وما أشبهها، فإنه لا يجوز له منعها إذا لم يحتج إليه، ويجبر على أن يخلي بين الناس وبينه إلا أن يكون عليه في تخلص الناس إليه بمواشيهم ودوابهم مضرة مثل أن يكون له الفدان فيه الخصب وحواليه زرع فإن أرادوا التخلص إليه بالمواشي أضر ذلك بزرعه الذي حواليه، فهذا وما أشبهه يكون له منعه، وإن لم يحتج إلى ذلك الخصب ولا يجبر على أن يخلي بين الناس وبينه لما عليه في ذلك من المضرة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في(10/287)
رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أصول المياه لا تستحق بالانتفاع بها]
مسألة وكتب إلى عيسى في رجل يقال له مغيرة ابتاع من رجل ماء ملاصقا لأرض رجل يقال له حارث، وكان الماء في داخل بور ابتاعه مغيرة، فقطع عنه الشجر وغرس عليه الثمار حتى أطعمت منذ عشرين سنة أو نحوها وأغلق عليها بحائط، ثم إن حارثا قام عليه يدعي أنه كان منتفعا بذلك الماء قبل إغلاق مغيرة عليه، وشهدت له بذلك بينة، قال فكتب إليه: نرى أن لا حق لحارث فيما قام به على مغيرة، وأن الحق لمغيرة، ولو كان أيضا أصل الماء لحارث خالصا دون مغيرة فأغلق عليه مغيرة بحائط وغرس عليه الثمار واحتازه وما حوله بالعمل والعمران وحارث شاهد ذلك حتى أتى عليه نحو الذي ذكرت من السنين لكان مغيرة أحق به إذا ادعاه ملكا لنفسه وأبطلت دعوى حارث فيه، فكيف والماء في داخل البور الذي ابتاعه مغيرة؟ وإنما ثبت لحارث أنه كان منتفعا به قبلما أغلق عليه مغيرة، وليس تستحق مياه الفلوات بالانتفاع بها دون استحقاق أهلها، وقد ترد الماشية مياه غير أهلها وترعى مرعى غير أهلها فيريد أهل الماشية أن يستحقوا ذلك بورود ماشيتهم عليه ورعيها فيه، أفيكون ذلك لهم؟ لا يكون ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، قوله فيها إنه لا يستحق حارث أصل الماء الذي في الحائط الذي ابتاعه مغيرة بما شهد له به(10/288)
بأنه كان منتفعا به قبل أن يغلق عليه مغيرة بحائط صحيح، لأن أصول المياه لا تستحق بالانتفاع بها، إذ من حق من قرب منها أن ينتفع بما فضل منها بلا ثمن إن لم يجد [له] صاحبه ثمنا باتفاق، وإن وجد فعلى اختلاف. وقوله: ولو كان أصل الماء لحارث فأغلق عليه مغيرة وغرس عليه واحتازه حتى أتى عليه من السنن ما ذكرت لكان مغيرة أحق به إذا ادعاه ملكا لنفسه، معناه إذا ادعاه ملكا لنفسه بأن يقول: اشترته منه أو وهبه لي أو تصدق به علي، أو يقول: ورثته عن أبي أو عن فلان لا أدري بأي وجه تصير إلى الذي ورثته عنه، وأما مجرد دعوى الملك دون أن يدعي شيئا من هذا فلا ينتفع به مع الحيازة إذا ثبت أصل الملك لغيره، وبالله التوفيق.
[: أعطاه موضعا يعمل له فيه رحى على جزء من غلتها]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب
الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل كان له موضع رحى فأعطاه رجلا يعمل فيه رحى على أن يكون للعامل من غلتها غلة يوم وليلة كل جمعة، فعمل الرجل على ذلك وأقام على تلك الحال نحوا من ثلاثين سنة، ثم تبين لهم أن ذلك لا يصلح، كيف يصحح مثل هذا؟ قال ابن القاسم: تكون الغلة كلها للعامل، ويغرم له صاحب الأرض كل ما أخذ من غلتها إن كان أخذ طعاما فمكيلة ما أخذ، وإن كان أخذ دنانير أو دراهم غرم ذلك كله، وإن كان لا يعرف مكيلة ما أخذ من الطعام غرم قيمة خرص(10/289)
ذلك كله، ولا يغرم مكيلة الخرص، قال: ويغرم العامل لصاحب الأرض كراء ذلك الموضع لجميع السنين التي انتفع بها فيها.
قلت: وكيف يكون كراؤها؟ وإنما يؤخذ الكراء منه اليوم، أترى أن يقوم كراؤه على أن مستكريه أنظر بالكراء ثلاثين سنة؟ فقال: إنما الذي وقع اليوم حكم من الأحكام، ولم يكن فيما مضى كراء مؤخرا فيكون على ما ذكرت، ولكن يقوم الكراء عاما بعام على قدر رغبة الناس فيه أو زهادتهم على حال النقد وبما كان يكري به مثله عاما بعام.
قلت: ويصنع بالنقض ماذا؟ قال: يقال لصاحب الأصل إن شئت فاقلع نقضه يرفعه عنك، وإن شئت فأعطه. قيمته مقلوعا وتكون الرحى لك، قال يحيى: لا آخذ بهذا، ولكن يعطى قيمته قائما.
قلت: فإن قال: لم أقلع نقضي وإنما وضعته على أمر كنت أراه جائزا بيني وبينك، ولم أغصب ولم أظلم، بل تكون لي قيمته صحيحا، قال: ليس ذلك كذلك، وليس له إلا أن يقلعه أو بأخذ قيمته مقلوعا إن رضي بذلك صاحب الأصل، ولا يجبر على غرم قيمته مقلوعا إلا أن يشاء.
قلت: فإن كان للعامل في الموضع شرك فأحب أن يقر عمله ويأخذ الغلة كلها حتى يرد عليه قيمة العمل أيكون له أن يقر ذلك ويغتل الرحى؟ أم يجبر على القلع؟ قال: إن كان الموضع ينقسم قيل له: قاسم صاحبك وأقر عملك في حظك واقلع ما صار في حظ شريكك، وإن لم ينقسم قيل لهما: إن اتفقتما على العمل وإلا أجبر صاحبك على البيع ممن يعمل معك إن كره العمل إذا(10/290)
لم ينقسم، فإذا باع ممن يعمل معك وأراد هو العمل غرم لك قيمة ما يصير عليه في حظه من نقضك مقلوعا، ولا يغرم قيمته صحيحا، ويكونان شريكين في الموضع والعمل على قدر حقوقهما في الأصل، بهذا يؤمر الشريك إذا أراد العمل، أو المشتري إذا باع الشريك فكره العمل، قال يحيى: لا نأخذ بهذا القول، ولا أرى أن يباع عليه، قال سحنون: إنما جوز هذا البيع لحال الضرر إذا كان البائع لا مال له، ولو كان له مال لما جاز بيعه ممن يبنيه باشتراط ولكان بيعا مكروها لا يجوز، ولكن يجبر على العمل على ما أحب أو كره، وكذلك الجارية يأذن لها سيدها بالإحرام فتحرم ثم يطؤها إن عليه أن يحجها، فإن قام عليه الغرماء وفلسوه باعوها وجاز ذلك بحال الضرر ممن يحجها وحط بذلك عن المشتري، فكل ما ضارع هذا الأصل مما يشبهه فإنما جاز بيعه بحال الضرورة، وكذلك البئر تكون بين الرجلين وعليها لقوم حياة فانهارت فإن من أبى يجبر على البيع أو العمل، وكذلك مسألة الأمة لها الولد الصغير يعتق السيد أحدهما أنه لا يجوز له بيع الرقيق منهما إلا من فلس أو ضرر فحينئذ يكون ما قال ابن القاسم تباع ويشترط على المبتاع ألا يفرق بينه وبين أمه، وهذه مثالها في كتبك كثير مما لا يجوز بيعه إلا على الفلس والضرر وبيع السلطان.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت رواية يحيى هذه في نوازل عيسى بن دينار مختصرة، وتكلمنا هناك على بعض وجوهها، ووقعت ههنا بكمالها، فنتكلم على ما بقي من وجوهها إن شاء الله. قوله في أول المسألة: وإن كان لا يعرف مكيلة ما أخذ من الطعام غرم قيمة خرص ذلك كله، ولا يغرم مكيلة الخرص معناه إذا لم يدع واحد منهما معرفة ذلك، وأما إن(10/291)
ادعيا جميعا معرفته واختلفا فيه فالقول قول الغارم العامل، فإن نكل عن اليمين حلف صاحب الأصل وأخذ ما ادعى، وإن ادعى أحدهما معرفة مبلغ ذلك وقال الآخر: لا أدري فالقول قول من ادعى المعرفة منهما، قيل: مع يمينه، وقيل: بغير يمين على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، وإنما قال: إذا جهلا ذلك أنه لا يغرم مكيلة الخرص وإنما يغرم قيمته؛ لأنه إن أخذ مكيلة الخرص من الطعام دخلت المزابنة، إذ لا يدري هل أخذ أقل من حقه من الطعام أو أكثر، فيدخله التفاضل في الصنف الواحد من الطعام مع الغرر والمزابنة، ولو أخذ منه على غير خرص دق الطعام ما لا يشك أنه أقل مما اغتل أو أكثر لجاز ذلك لأنه هبة من أحدهما لصاحبه، وكذلك إذا كان الذي اغتلا دراهم لا يعرفان مبلغها أو دنانير لا يعرفان مبلغها الواجب فيه أن يتحرى مبلغ الدنانير فيأخذ منه دراهم فيها نقدا قبل افتراقهما، وأن يتحرى أيضا مبلغ الدراهم إن كان الذي اغتل دراهم، فيأخذ منه فيها دنانير نقدا قبل افتراقهما بصرف يومهما أو بما يتفقان عليه من الصرف، ولا يجوز أن يأخذ من الدنانير ما تحريت به الدنانير ولا من الدراهم ما تحريت به الدراهم للعلة التي ذكرناها في الطعام إلا أن يأخذ عددا لا يشك أنه أقل من حقه أو أكثر على قياس ما ذكرناه في الطعام، وقال: إن العامل يغرم لصاحب الأصل كراء ذلك الموضع لجميع السنين التي انتفع بها فيها، ولم يبين من أي يوم، ويتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أن الكراء يكون عليه من يوم وقعت المعاملة بينهما، والثاني أن الكراء يكون عليه من يوم شرع في البنيان، والثالث أن الكراء إنما يكون عليه من يوم اغتل على الاختلاف في هذا النوع من الفساد في المغارسة. وقوله: إن الكراء إنما يقدر بالنقد عاما بعام صحيح لا إشكال فيه، لأن ما فات من البيع الفاسد إنما يصحح بالقيمة نقدا يوم الفوات وإن تأخر الحكم عن ذلك، وقد مضى في نوازل عيسى بن دينار توجيه اختلاف ابن القاسم ويحيى بن يحيى في النقض هل يكون للعامل قيمته قائما أو منقوضا، فلا معنى لإعادته، وإنما يكون له قيمته قائما عند يحيى على ما هو عليه من البلى، يوم الحكم لا يوم عمله، وقد مضى بيان ذلك والقول فيه في أول النوازل المذكورة، وقد(10/292)
ذكرنا هناك في ذلك تأويلين: أحدهما أن يحط من نفقته قدر ما بين قيمة البناء جديدا أو باليا، والثاني أن ذلك يرجع إلى أن يكون له في ذلك ما زاد بنيانه في قيمة الرحى على ما هو عليه من البلى، وهذا التأويل أظهر في هذه المسألة، والتأويل الأول أظهر في مسألة النوازل المذكورة، ولم يأت ابن القاسم بحجة فيما اعترض به عليه يحيى بن يحيى بقوله: فإن قال لم أقلع نقضي، وإنما وضعته على أمر كنت أراه جائزا بيني وبينك ولم أغصب ولم أظلم، بل تكون قيمته لي صحيحا إلى قوله: ليس ذلك كذلك، وقد مضى القول على ذلك مستوفى في النوازل المذكورة فلا معنى لإعادته، وسأله إن كان للعامل في الموضع شرك هل يكون من حقه أن يقر عمله وتكون له الغلة حتى يأتيه شريكه بما يجب عليه من قيمة العمل أم لا؟ فلم يعطه في ذلك جوابا بينا، والجواب أن ذلك ليس له عنده، وإنما الواجب في ذلك على مذهبه في أنه ليس للعامل إلا قيمة عمله منقوضا أن يقسم إن كان ينقسم فيقر ما صار من عمله في حظه، ويقلع ما صار منه في حظ شريكه إلا أن يشاء شريكه أن يأخذه بقيمته مقلوعا، وإن كان لا ينقسم أجبر الشريك أن يعطيه قيمة حظه من العمل منقوضا ولم يكن له أن يأمره بقلعه، إذ لا ينقسم، فإن لم يكن له مال بيع عليه في ذلك حظه من الرحى قائما، ولا يجوز أن يبيع حظه من أصل الرحى على أن يؤدي المشتري إلى الشريك العامل قيمة حظ البائع منه من النقض منقوضا لأنه غرر إلا أن يكون ذلك بعد معرفتهما بالقيمة، ويختلف إذا أدى الشريك إلى العامل قيمة حظه من العمل منقوضا وأبى أن يعمل معه فيما يستقبل على ثلاثة أقوال: أحدها أن يقال له: إما أن تعمل معه وإما أن تبيع ممن يعمل معه بشرط، فإن أبى من الوجهين جميعا فقيل: إنه يجبر على أن يعمل معه إن كان له مال إلا أن يبيع حظه بغير شرط فيقال للمبتاع ما قيل للبائع، وقيل: إنه يجبر على أن يبيع ممن يعمل معه، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وإن لم يكن له مال أجبر على بيع حظه ممن يعمل معه بشرط ألا يبذر فيبيعه بغير شرط قبل أن يباع عليه بالشرط فيقال للمبتاع ما قيل للبائع، وهذا على القول بأن البيع على هذا الشرط جائز، وهو مذهب ما في المدونة وقول ابن القاسم(10/293)
في هذه الرواية، والقول الثاني أن البيع على هذا الشرط لا يجوز، ويجبر على العمل معه إن كان له مال، وإن لم يكن له مال بيع عليه من حظه بقدر ما يلزمه من العمل فيما بقي من حظه بعد ما بيع عليه منه، وهو قول مالك في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الأقضية، والقول الثالث: الفرق بين أن يكون له مال أو لا يكون، فإن كان له مال لم يمكن من بيع حظه على هذا الشرط وأجبر على العمل معه، وإن لم يكن له مال مكن من ذلك، وهو قول سحنون إن البيع على هذا الشرط لا يجوز إلا على حال الضرورة، وهو قول يحيى: لا آخذ بهذا القول ولا أرى أن يباع عليه معناه لا آخذ بأن القيمة تكون في ذلك منقوضة على ما تقدم من مذهبه ولا بأن يكون الحكم في ذلك حكم من استحق من يده ما بناه بشبهة فيكون من حقه إذا أبى أن يعطيه قيمة بنيانه قائما أن يعطيه قيمة الأصل، فإن أبى كانا شريكين فيه لأن ذلك يؤول إلى أن يباع على صاحب الأصل أصله وأن يباع عليه هو بنيانه، وإنما الذي يكون من حقه للشريك الذي له في الموضع أن يقر عمله فيه وتكون له الغلة حتى يأتيه شريكه بما يجب عليه من قيمة العمل، ويحتمل أن يريد بقوله: ولا أرى أن يباع عليه إلا أن يكون من حقه إذا أبى شريكه أن يعطيه قيمة بنيانه قائما أن يعطيه هو قيمة الأصل ويكونا فيه شريكين، إذ قد قيل ذلك في حكم الاستحقاق، وهذا التأويل أصح من جهة المعنى، لأن الفسخ من جهة الفساد شبيه بالاستحقاق، والتأويل الأول أظهر من جهة اللفظ، وبالله التوفيق.
[مسألة: قرية بها غامر فأراد أهلها أن ينتفعوا بحرثه كيف يقسم بينهم]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن قوم سكنوا قرية لبعضهم فيها أكثر من بعض، وللقرية غامر، فأرادوا أن(10/294)
يخترقوه وينتفعوا بحرثه كيف يقسم بينهم؟ أعلى قدر مالهم من أصل سهام القرية؟ أم على قدر ما في أيديهم اليوم منها؟ أم على عددهم؟ وعسى أن يكون في القرية من ليس بيده منها إلا مسكنه أو الشيء القليل منها، فقال: إن ادعوا الغامر لأصل القرية وبذلك يجاورون جيرانهم من أهل القرى قسم الغامر على أصل سهام القرية على قدر ما لهم في أصل ذلك، ومن لم يكن له من أصل سهام القرية شيء بميراث ولا باشتراء سهم ولا عطية سهم وإنما اشترى أو أعطي حقولا بأعيانها أو حوزا من الأرض بعينه أو دارا أو مقصلة أو ما أشبه هذا مما يشترى بعينه ليس ما اشترى سهما من السهام يجاري به في القسمة أهل الميراث فلا حق لهؤلاء في الغامر وهو يقسم على كل ذي سهم من أهل الميراث، ومن اشترى أو أعطي شيئا مشاعا فهو يكون به قسيما على قدر سهامهم، قال: وإن ادعوا الغامر أجمعون لأنفسهم وفيهم وارث وغير وارث ومشتري سهم ومعطاه ومشتري غير سهم فتداعوا فيه كلهم فقال كل واحد الغامر لي دونكم فإنه يقسم على أهل القرية كلهم إذا تداعوا فيه أجمعون على عددهم كالشيء الذي يتداعى فيه رجلان فلا يستحقه واحد منهما دون صاحبه، فيقسم بينهما بعد أن يحلفا جميعا على ما ادعياه فيه.
قلت له: فالغامر يكون بين عمران قريتين مثل أن تكون(10/295)
قرية في ناحية الشرق وأخرى في ناحية الغرب وبينهما الميل أو الأميال وفيما بين عمران القريتين ومنتهى ما حرث من مزارعها أرض غامرة فيريد أهل إحدى القريتين حرث ذلك الغامر ويدعونه من حوز أرض قريتهم، ويريد أهل القرية الأخرى مثل ذلك ويدعون مثل دعواهم ولا بينة لهؤلاء ولا لهؤلاء على منتهى حوزهم من الغامر، ولا هل لهم دون أهل القرية الأخرى، فكيف ترى أن يقسم بينهم؟ قال: إن ادعاه هؤلاء لأصل القرية وهؤلاء مثل ذلك قسم بينهم بنصفين، ولا ينظر إلى قلة عمران إحدى القريتين، وإن قل جدا ولا إلى كثرة عمران الأخرى وإن كثر جدا، ثم يقسم أهل كل قرية نصفهم على سهامهم في قريتهم، وإن ادعوه أجمعون لأنفسهم يدعيه كل واحد منهم له دون صاحبه قسم بينهم أجمعين.
قلت: فإن كانت القريتان كلتاهما من شق واحد متجاورتين والغامر أمامهما أتقسمه بينهما نصفين أيضا؟ قال: لا ولكن لأهل كل قرية ما كان حذاء غامرها من الغامر قل ذلك أو كثر، وهو عندي بمنزلة الفناء يكون حذاء الدارين [فإنما] يعطى صاحب كل دار من الفناء إذا تداعيا فيه ما كان حذاء بنيان داره قل ذلك أو كثر.
قال محمد بن رشد: هذه ثلاث مسائل، قال في الأولى منها: إن لأهل القرية أن يقتسموا غامر قريتهم على قدر سهامهم فيها إن ادعوه لأصل القرية، أو على عددهم إن ادعاه كل واحد منهم لنفسه بعد أيمانهم، ولم(10/296)
يبين إن كان هذا الغامر داخل القرية أو خارجا عنها، وذلك يختلف، أما إذا كان داخل القرية فلا اختلاف في أنه يقسم بينهم على ما قال بالسهمة على وجه قسمة الأرض بين الأشراك لأنه كالساحة للدار ذات البيوت، ألا ترى أنه لا يجوز للإمام إقطاعه، قيل: إذا اجتمعوا كلهم على قسمته أو جلهم ورؤساؤهم ومن إليه عماد أمرهم كساحة الدار لا تقسم إلا باجتماعهم على قسمتها، وهو قول أصبغ، وقيل: إنه يقسم بينهم وإن دعا إلى ذلك بعضهم كالأرض بين النفر، وهو الصحيح في النظر المشهور في المذهب المعلوم من مذهب مالك وعامة أصحابه ابن القاسم وغيره. وأما إذا كان الغامر خارج القرية فاختلف أصحاب مالك في قسمته، ذهب ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وابن نافع في أحد قوليه ومالك في رواية محمد بن يحيى السبائي عنه إلى أنه يقسم بينهم على ما يدعونه من أنه من أصل قريتهم، أو على عددهم بعد أيمانهم إن ادعاه كل واحد منهم ملكا لنفسه بالسهمة على وجه القسمة، وذهب ابن وهب وابن كنانة وأصبغ وابن نافع في أحد قوليه إلى أنه لا يقسم وإن اتفقوا على قسمته لما لعامة المسلمين فيه من المرافق باحتطابهم منه ومراعي دوابهم فيه من المارة وغيرهم إلا أن يثبت أنه لهم ومن حيز قريتهم فيقسم بينهم على ما يثبت حقهم فيه بالسهمة أيضا على وجه القسمة، وعلى قياس هذا القول يأتي ما وقع في كتاب الشهادات من المدونة في قوم ادعوا عفوا من الأرض وأقام هؤلاء بينة وهؤلاء بينة وتكافأت البينتان أنه يكون كسائر عفو بلاد المسلمين إذ لم ير أن يقسموه بينهم بعد أيمانهم إذ تكافأت البينتان؟ والمسألة الثانية في الغامر يكون بين قريتين إحداهما في الشرق والثانية في الغرب أو إحداهما في القبلة والثانية في الجوف يأتي على هذا الاختلاف في جواز قسمته، وكذلك إن كان متوسطا بين قرى كثيرة إلا أنه لا يقسم على مذهب من رأى أن قسمته بالسهمة، وإنما يقسم بالتعديل بالقيمة ويجعل نصيب كل قرية مما يليها ليرتفع الضرر بذلك عنهم بدخول بعضهم على بعض، وهذا القول اختار(10/297)
ابن حبيب وقال: إنه لا تحمل الشعراء المجاورة للقرى أو المتوسطة بينها محمل العفا من الأرض الذي هو لعامة المسلمين، ألا ترى أنه ليس للإمام أن يقطع منها أحدا شيئا لأنه حق من حقوقهم كالساحة للدار أو للدور إنما العفا فيما بعد من العمران مما لا تناله ماشيتهم في غدوها ورواحها، فهذا لا حق فيه لأحد من [أهل] ، القرى التي تجاوره ولا لغيرهم إلا بقطيعة من الإمام القاضي إن رأى إقطاعه بالناس أرفق من إقراره كما هو على حاله، واعترض الفضل قال ابن حبيب: إنه ليس للإمام أن يقطع شيئا من الشعراء التي تكون بين القرى، قال: وأين يقطع الإمام القاضي إلا فيما قرب من العمران، وهذا لا يلزم؛ لأنه إنما أراد أنه ليس للإمام أن يقطع من الشعراء القريبة من القرى جدا لأن إقطاعها ضرر بهم في قطع مرافقهم منها التي كانوا يختصون بها لقربهم منها على ما سنذكره فيما تكلمنا على أول مسألة من رسم الدور والمزارع إن شاء الله عز وجل؛ والمسألة الثانية في الغامر يكون حذاء قريتين متجاورتين تجري أيضا على الاختلاف المذكور في جواز القسمة إلا أنها لا تقسم على مذهب من رأى قسمة الغامر بالسهمة ولا بالتعديل بالقيمة، وإنما يكون لكل قرية من الغامر ما كان حذاء غامرها كما قال، وبالله التوفيق.
[: ليس له أن يحدث ما يضر بالمخاضة التي هي ممر المسلمين]
ومن كتاب الصبرة
قال: وسألته عن الرجل تكون [له] في أرضه مخاضة نهر فيريد أن ينصب في موضعها رحى، وتلك الرحى تغور المخاضة، أو ينصب الرحى تحتها فيغرق بالمخاضة ويقطعها أيجوز ذلك له؟ فقال: ليس ذلك له أن يحدث رحى ولا غيرها بموضع يجر بذلك العمل ضررا على الناس في المخاضة بقطعها ولا تغويرها ولا أمر(10/298)
يغيرها عن حالها مما يرى أنه ضرر وجر إلى فساد المخاضة التي هي طريق للعامة.
قلت: فإن كانت المخائض منها على قرب مثل الميل أو الميلين أو الغلوة أو الغلوتين أيجوز له أن يرد الناس إلى بعض تلك المخائض فينتفع هو بما أحب أن يضع في أرضه وموضع رحاه؟ فقال: لا يجوز له تحويل الناس عن طريقهم إلى غيرها، ولا يجوز للناس منعه مما لا يضر بهم، فإن كان يقدر على عمل الرحى ولا يضر ذلك المخاضة ولا يغيرها عن حالها لم يمنع من العمل، قيل له: إن الضرر لا يتبين إلا بعد فراغه من العمل، قال: يقال له إن الذي يريد من العمل يخاف عاقبته، فإن زعمت أنه غير مضر فاعمل، فإن تبين ضرر عملك أبطلناه عليك ورددنا المخاضة على حالها، فإن شاء أن يعمل عمل على ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه ليس له أن يحدث ما يضر بالمخاضة التي هي ممر المسلمين من تغديرها أو تغويرها أو توعيرها وإن كانت المخائض منها على قرب مثل الميل أو الميلين أو الغلوة أو الغلوتين لما على الناس من المشقة في خروجهم عن طريقهم الغلوة الواحدة وهي منتهى السهم مائتا ذراع فما زاد على ذلك لقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ولو كانت المخائض على القرب جدا لم يمنع من إحداث الرحى على ما قاله في نوازل أصبغ بعد هذا ليسارة المؤونة على الناس في خروجهم عن طريقهم الشيء اليسير، فلا يمنع من منفعته بما يريد أن يحدثه في أرضه لما ليس فيه كبير مشقة على الناس، والأصل في هذا قول رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتمع ضرران ينفي الأصغر الأكبر» لأن منع الرجل(10/299)
من أن يحدث رحى في أرضه ضرر به، ورد الناس عن طريقهم إلى غيرها ضرر بهم، فأي الضررين رأى أنه أصغر أي أقل ضررا بقي لصاحبه أي لم يلتفت إليه معه، ولا حد في ذلك إلا ما يؤدي إليه الاجتهاد الذي هو أصل في تقييد الأحكام عند عدم النص، «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن واليا: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأي، قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله» . وأما قوله إن لم يتبين الضرر بالمخاضة إلا بعد العمل فإنه يقال له اعمل على أنه إن أضر عملك بالمخاضة أبطلناه عليك فهو صحيح، ومعناه إذا رجعت المخاضة إلى حالها بإبطال عمله، ولو كانت المخاضة لا ترجع إلى حالها بإبطال عمله لوجب أن يمنع من العمل بما يخاف أن يضر كما يمنع بما يوقن أن يضر على قياس قوله هذا، وليس بخلاف لما في سماع حسين بن عاصم بعد هذا في نحو هذا أنه لا يمنع من منافعه الحاضرة لشيء لا يدري أيكون أم لا، وسنتكلم على الفرق بين المسألتين هناك إذا وصلنا إليها إن شاء الله، وبه التوفيق.
[: الموات الذي يستحقه الناس بالإحياء]
ومن كتاب يشتري الدير والمزارع قال يحيى: قلت لابن القاسم: أرأيت ما قرب للأمصار والمدن من الموات الذي لا يجوز للناس أن يستحيوه إلا بأمر الإمام القاضي إذا أقطعه الإمام القاضي رجلا أيورث عنه أو يبيعه إن شاء؟ فقال: نعم.(10/300)
قلت: ويكون أحق به وإن لم يعمره؟ فقال: نعم، ليست حاله حال المعادن.
قال محمد بن رشد: الموات الذي يستحقه الناس، بالإحياء لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» هي الأرض الميتة لا نبات فيها، قال ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن غانم عنه بدليل قول الله عز وجل: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65] فلا يصح الإحياء إلا في البور، والإقطاع يكون في البور والمعمور إلا في معمور أرض العنوة التي الحكم فيها أن تكون موقوفة لا تقسم ولا تملك، فإذا أقطع الإمام القاضي أحدا شيئا من الأرض المعمورة فلا كلام في أن المقطع يستحقه بنفس الإقطاع، وكذلك إذا أقطعه شيئا من الموات ليحييه يستحقه بنفس الإقطاع فيورث عنه ويكون له أن يتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره، إلا أن للإمام أن يأخذه بإحيائه، فإن لم يفعل أو عجز عن ذلك أقطعه سواه، إذ ليس له أن يتحجر ما أقطع عن الناس فلا ينتفع به هو ولا سواه، والأصل في ذلك ما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع لبلال بن الحارث من العقيق ما يصلح للعمل فلم يعمله، فقال عمر بن الخطاب: إن قويت على عمله فاعمله وإلا فأقطعه للناس، فقال له: قد أقطعنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترط عليك فيه شرطا، فأقطعه عمر للناس ولم يكن بلال اعتمل شيئا» فإن باعها أو وهبها أو تصدق بها بعد عجزه عن عمارتها قبل أن ينظر الإمام القاضي في ذلك نفذ ذلك ومضى، لأن الغرض ألا تبقى الأرض محجرة عن الانتفاع بها، والمبتاع والموهوب له والمتصدق عليه يحل محل البائع والواهب، فقوله في الرواية قلت: ويكون أحق بها وإن لم يعمرها؟ قال: نعم معناه أنه أحق بها إذا قال(10/301)
أنا أعمرها، وأما إن قال: لا أعمرها أو عجز عن عمارتها فللإمام أن يقطعها سواه، ولو أحياها سواه بعد أن عجز هو عن عمارتها بغير قطيعة من الإمام القاضي لجرى ذلك على الاختلاف فيمن أحيا ما قرب من العمران بغير إذن الإمام القاضي هل يمضي ذلك مراعاة للاختلاف في استئذان الإمام القاضي في إحياء ما قرب من العمران أو لا يمضي ويخرج عنها ويكون له قيمة بنيانه منقوضا. وأما لو أحياها سواه قبل أن يعجز هو عن عمارتها وهو عالم بذلك لكان متعديا عليه فيها لأنه قد استوجبها بنفس الإقطاع وإن لم يحزها بالعمارة ولا بالبناء خلاف ما تأول بعض الناس عليه ما وقع في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وليس ذلك بتأويل صحيح حسبما ذكرناه هناك. وفي قوله فقال: نعم ليست حاله حال المعادن لما سأله هل يكون أحق به وإن لم يعمره نظر لأن الظاهر منه أن المعادن بخلافه في ذلك، وذلك يقتضي ألا يكون الأحق بالمعادن حتى يعمرها، والمعادن لا حق له في أصولها وإن عمرها لأن الإقطاع فيها إنما هو في الانتفاع بنيلها لا في أصولها، فإنما تصح المسألة بأن يعاد قوله: ليست حاله حال المعادن على السؤال الأول، وهو سأله عن الموات إذا أقطعه الإمام القاضي رجلا أيورث عنه أو يبيعه إن شاء؟ فقال: نعم، لا على المسألة التي بعدها الذي أعاده عليه. وقد مضى في رسم الأقضية الأول من سماع أشهب طرف من القول في حكم إقطاع المعادن، وبقية القول في ذلك في سماع يحيى من كتاب الزكاة، ولو أقطعه أصل المعدن بإفصاح لكان حكمه حكم إقطاع الأرض الموات سواء، وحد البعيد من العمران الذي يكون لمن أحياه دون إذن الإمام القاضي ما لم ينته إليه سرح ماشية العمران واحتطاب المحتطبين إذا رجعوا إلى المبيت في مواضعهم من العمران على ما حكى الداودي في كتابه من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يقطعون الأرضين التي جلا عنها أهلها بغير قتال ومن عفا الأرض ما لم تنله أخفاف الإبل في المرعى يريد إذا رجعت إلى المبيت في(10/302)
مواضعها على ما جرت به عادة الرعاة، وقال أبو حنيفة: هو أن يصيح صائح في طرف العمران فلا يسمعه من ذلك المكان، وما ذكرناه من أن الإقطاع لا يكون في المعمور من أرض العنوة هو ظاهر ما وقع في كتاب الداودي، ومثله حكى ابن حبيب عن مالك من رواية ابن القاسم عنه. قال: لا أرى للإمام أن يقطع أحدا من أرض العنوة المعمورة شيئا، قال ابن القاسم: وإنما الإقطاع في أرض الموات وفيها الخطط مثل أفنية الفسطاط التي بقرب المصلى وبالموقف إذ كانت فلاة لم يكن فيها إلا الحصن فاختط المسلمون ما كان منها صحراء فنزلوه، وبقي الحصن والعمران لم يكن لأحد، ولم يكن فيه خطط، والخطط لا تكون في المعمور كما فسرت لك عن مالك، وإنما لم يجز أن يأذن الإمام القاضي للناس بالاختطاط في قرى العنوة التي لم تقسم أو يقطع أحد منها شيئا لأن عمر بن الخطاب قد أوقفها فيئا لجميع المسلمين ولم يجعلها في المقاسم، ورأيت للخمي أن إقطاعها جائز، وليس ذلك بصحيح على مذهب مالك. وحكم إحياء الموات يختلف باختلاف مواضعه، وهي على ثلاثة أوجه: بعيد من العمران، وقريب منه لا ضرر على أحد في إحيائه، وقريب منه في إحيائه ضرر على من يختص بالانتفاع به، فأما البعيد من العمران فلا يحتاج في إحيائه إلى استئذان الإمام القاضي إلا على طريق الاستحباب على ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، وأما القريب منه الذي لا ضرر في إحيائه على أحد فلا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام القاضي على المشهور في المذهب، وقيل: إن استئذان الإمام القاضي في ذلك مستحب وليس بواجب، واختلف إن وقع ذلك بغير إذن الإمام القاضي على القول بأنه لا يجوز إلا بإذنه، فقيل: إنه يمضي مراعاة للخلاف، وهو قول المغيرة وأصبغ وأشهب، وقيل: إنه يخرج منه ويكون له قيمة بنيانه منقوضا، وهو القياس، ولو قيل: إنه يكون له قيمته قائما للشبهة في ذلك لكان له وجه. وأما القريب منه الذي في إحيائه ضرر كالأفنية التي(10/303)
يكون أخذ شي؟ منها ضررا بالطريق وشبه ذلك فلا يجوز إحياؤه بحال، ولا يبيح ذلك الإمام القاضي، وبالله التوفيق.
[مسألة: ما يحجر الرجل من الموات البعيد عن المدائن]
مسألة قلت: أرأيت ما يحجر الرجل من الموات البعيد عن المدائن والإمام القاضي حيث يجوز له أن يحييه فيكون أولى به أفيستحقه بالتحجير دون العمل؟ فقال: لا يكون أولى به من أحد حتى يعمل إلا أن يحجر ذلك وهو يريد أن يعمله إلى الأيام اليسيرة حتى يمكنه العمل ولم يتحجر ذلك ليقطع منفعة الناس ويرجيه لأن يعمل يوما ما.
قلت: فإن تحجر كثيرا وعمل اليسير؟ فقال: هو مثل الذي يتحجر اليسير ويؤخر عمله ينظر فيما يتحجر فإن كان قويا عليه وإنما أخر عمله لوقت تلين فيه الأرض عليه أو يرخص الأجراء أو ما أشبه ذلك مما يؤخر الناس أعمالهم إليه لمثله من العذر فذلك له، فإن رأى أنه أراد أن يتحجر على الناس ما لا يقوى على عمله فأراد أن يستحق كثير ما تحجر بقليل ما عمل وعمر فليس له إلا عمرانه، ويشرع الناس معه في فضل ذلك فيكون لمن عمره وقوي على عمله.(10/304)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة حسنة، وفيها اختلاف، حكى ابن حبيب في الواضحة أن الإمام القاضي ينظر فيما تحجر فإن كان به قوة علي عمارته من عامه أو ما قرب من عامه مثل السنتين والثلاث خلاه وإياه، وإلا منعه منه وأقطعه غيره، وقد حكى أشهب عن عمر بن الخطاب في ذلك حديثا أنه ضرب [له] ، أجلا ثلاث سنين، وقد أنكر ابن القاسم في المدونة أن يكون سمع من مالك في ذلك شيئا، وبالله التوفيق.
[مسألة: التحجير للموات]
مسألة قلت: فلم صار للرجل ما أقطعه الإمام القاضي مبتولا له، وإن لم يعمله ولم يكن لمن تحجر أن يستحق شيئا إلا بعمله؟
قال محمد بن رشد: كذا وقعت هذه المسألة دون جواب عما سأله عنه من الفرق بين المسألتين، والفرق بينهما بيّن واضح، ولوضوحه وبيانه أمسك عن جوابه موبخا له على سؤاله عما لا يشكل، وذلك أن الإقطاع حكم من الإمام القاضي يستحق به المقطع ما أقطع إياه، والتحجير للموات ليس بإحياء له فيستحقه به إذ لا يستحق الموات إلا بالإحياء، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا مواتا فهي له» وبالله التوفيق.
[مسألة: استحق مواتا بعمله ثم تركه حتى صار إلى خراب]
مسألة قلت: فلم استحق مواتا بعمله ثم تركه حتى صار إلى خراب أليس يكون لمن أحب أن يعمره؟ قال: بلى.(10/305)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وقول سحنون معناه فيما بعد من العمران، وأما ما قرب منه فلا يبطل استحقاقه له بتركه إياه حتى يعود إلى حاله الأول، وقوله عندي صحيح على معنى ما في المدونة من أن ما قرب من العمران ليس لأحد أن يستحييه إلا بقطيعة من الإمام القاضي، لأن الإمام القاضي إذا أقطعه إياه صار بمنزلة ما اختط أو اشترى، وقد نص في المدونة على أنه ما استحق أصله بخطط أو شراء لا يزول ملكه عنه بتركه إياه حتى يعود إلى حالته الأولى، ولو أحيا القريب من العمران بغير إذن الإمام القاضي على مذهب من يرى أن ذلك له لبطل حقه فيه بتركه إياه حتى يعود إلى حاله الأولى إذ لا فرق بين القريب والبعيد على مذهب من لا يرى استئذان الإمام القاضي واجبا فيما قرب من العمران ولا فيما بعد منه. وقد روي عن سحنون أن من أحيا مواتا فلا يخرج عن ملكه بتعطيله إياه، وإن عمره غيره كان الأول أحق به، قال ابن عبدوس: قلت له: أو لا يشبه الصيد إذا ند من صائده؟ قال: لا. فيتحصل فيمن أحيا مواتا ثم تركه حتى عاد لحالته الأولى فأحياه غيره ثلاثة أقوال: أحدها أن الثاني أحق به في القريب والبعيد، والثاني أن الأول أحق به في القريب والبعيد، والثالث الفرق بين القريب والبعيد، ولا أعرف نص خلاف في أن من اشترى مواتا أو اختطه لا يزول ملكه عنه بتركه إياه حتى يعود إلى حالته الأولى، إلا أن الاختلاف يدخل في ذلك بالمعنى من مسألة الصيد يند من يد صائده فيستوحش ويصيده غيره، إذ قال محمد بن المواز فيه إن الثاني أحق به، ولم يفرق بين أن يكون الأول قد صاده أو ابتاعه، فيلزم مثل هذا في إحياء الموات، ويتحصل فيه أيضا ثلاثة أقوال: أحدها أن الأول أحق به، والثاني أن الثاني أحق به، والثالث الفرق بين أن يكون الأول أحياه أو اختطه أو اشتراه، فإن كان أحياه كان الثاني أحق به، وإن كان اختطه أو اشتراه كان الأول أحق(10/306)
به، ومحمد بن عبد الحكم يرى في الصيد أن الأول أحق به على كل حال، فيأتي فيه أيضا ثلاثة أقوال: أحدها أنه للأول على كل حال، والثاني أنه للثاني على كل حال، والثالث الفرق بين أن يكون الأول صاده أو ابتاعه. وقد يفرق بين الصيد والموات على مذهب محمد بن عبد الحكم بأن الصيد غلب صاحبه على بقائه بيده، والموات لم يغلب صاحبه على ترك عمارته إياه، فيتحصل في مجموع المسألتين خمسة أقوال: أحدها أن الأول أحق من الثاني في الصيد والموات، والثاني أن الثاني أحق من الأول في الصيد والموات، والثالث أن الأول أحق بالصيد والموات إن كان اشتراه، وأن الثاني أحق بهما إن كان الأول صاد الصيد أو أحيا الموات، والرابع الفرق بين الصيد والموات، فيكون الثاني أحق بالصيد، والأول أحق بالموات وهو الذي يأتي على ما حكاه ابن عبدوس، والخامس الفرق بينهما بضد ذلك، فيكون الثاني أحق بالموات، والأول أحق بالصيد، وإنما يكون الثاني أحق بالموات من الأول على قول من يراه أحق به منه حسبما بيناه إذا كانت المدة قد طالت بعد أن عاد إلى حالته الأولى، وأما إن أحياه الثاني بحدثان ما عاد إلى حالته الأولى فإن كان عن جهل منه بالأول فله قيمة عمارته قائمة لأن له في ذلك شبهة، وإن كان عن معرفة منه بالأول فليس له إلا قيمة عمارته منقوضة بعد يمين الأول: إن تركه إياه لم يكن إسلاما منه لحقه فيه، وإنه كان على إعادة عمارته، ولا يصدق إذا طالت المدة أنه لم يسلم حقه فيه وأنه كان على إعادة عمارته له، وبالله التوفيق.
[: مناصب الأرحية أرحية الأنهار أتقسم]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن مناصب الأرحية أرحية الأنهار أتقسم؟ قال: نعم إذا انقسمت فكان فيما يصير للسهم منتفع، وهو موضع معتمل.(10/307)
قلت: فإن لم تنقسم وأراد أحد الشريكين أو أحد الورثة العمل وضعف الآخرون ماذا يحكم به على من ضعف منهم عن العمل؟ قال: يخير بين أن يقاومه حتى يحصل لأحدهما، أو يبيع معه إن دعا أحدهما إلى البيع يجبر على أحد الأمرين لا بد.
قلت: أرأيت إن دعا القوي إلى العمل أو إلى المقاومة ودعا الضعيف إلى البيع وقال: ضعفت عن العمل فكيف أقوى إن قاومتك على الاشتراء منك أيهما ترى أن يجبر؟ وهل فيها من شفعة إن باع أحدهما وهي مما لا ينقسم؟ قال: يجبر الشريك على البيع إذا دعا إلى ذلك شريكه وكره العمل والمقاومة كان قويا على العمل أو ضعيفا واجدا للثمن لو قاومه أو معدما، أيهم دعا إلى البيع أجبر له على ذلك شريكه إذا لم ينقسم، فإن باع أحدهما وهي مما لا ينقسم لم يكن له فيه شفعة، قال: والحكم بين الشريكين في إجبار أحدهما على البيع في كل ما لا ينقسم من الرقيق والدواب والأمتعة مثل ما وصفت لك من موضع الرحى.
قال محمد بن رشد: المعنى في سؤاله عن مناصب الأرحية هل تقسم إنما هو في منصب الرحى الواحدة الخربة هل تقسم بين النفر المشتركين فيه أم لا؟ وأما مناصب الأرحية ذوات العدد القائمة أو الخربة تكون بين النفر فلا اختلاف فيه ولا إشكال في أنها تقسم بينهم إذا اعتدلت في القسم فصار لكل واحد منهم رحى على حدة، فقوله في منصب الرحى أنه يقسم إذا كان فيما يصير للسهم منتفع وهو موضع معتمل معناه إذا صار لكل واحد منهم بالسهمة من منصب الرحى ما يمكنه أن يعمل فيه رحى، وما أرى ذلك يتفق، فإن اتفق جازت القسمة وحكم بها على مذهبه في(10/308)
الدار الواحدة أنها تقسم بين النفر إذا صار لكل واحد منهم منها موضع للسكنى، وكذلك الحمام الخرب يقسم بين النفر على مذهبه إذا صار في حظ كل واحد منهم منه ما يمكنه أن يعمل فيه حماما ولا يراعى في ذلك على مذهب ابن القاسم نقصان الثمن، وانظر هل يقسم على مذهب ابن القاسم الحمام القائم والرحى القائمة، وإن كان في قسمته إبطال لهما إذا كان كل واحد منهما يمكنه أن يعمل في حظه الذي يصير له من الرحى رحى وفي حظه الذي يصير له من الحمام حماما، والأظهر أن ذلك لا يجب على مذهبه، وقال مالك: إنه يقسم وإن لم يصر في حظ أحد إلا قدر قدم وما لا منفعة له فيه، ولم يتابعه على ذلك أحد من أصحابه إلا ابن كنانة، وقال ابن الماجشون: لا يقسم إلا أن يصير في حظ كل واحد منهم ما ينتفع به في وجه من وجوه المنافع، وإن قل نصيب أحدهم حتى كان لا يصير له بالسهمة إلا ما لا منفعة له فيه في وجه من وجوه المنافع لم يقسم، وقال مطرف: إن لم يصر في حظ واحد منهم ما ينتفع به لم يقسم، وإن صار في حظ واحد منهم ما ينتفع به قسم، دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل الذي لا يصير له في نصيبه ما ينتفع به أو صاحب النصيب الكثير الذي يصير له في حظه ما ينتفع به، وقيل: إنه لا يقسم إلا أن يدعو إلى ذلك صاحب النصيب القليل، وقيل: إنما يقسم إذا دعا إلى ذلك صاحب النصيب الكثير. وقوله في هذه الرواية إذا لم ينقسم المنصب ودعا أحد الشريكين إلى العمل وضعف الآخر عنه أنه يخير الذي ضعف عن العمل بين أن يقاومه حتى يحصل لأحدهما أو يبيع معه إن دعا أحدهما إلى البيع يجبر على أحد الأمرين لأنه كلام وقع على غير تحصيل، ففيه نظر، لأن الذي يوجبه الحكم إذا لم ينقسم أن يباع ويقسم الثمن بينهما، فمن دعا إلى ذلك منهما جبر صاحبه عليه وكان من حقه أن يأخذه بالثمن الذي يعطى فيه إن شاء، فإنما يخير الذي ضعف عن العمل أو أباه بين أن يقاوم صاحبه أو يبيع إذا دعاه صاحبه إلى المقاومة، وهذا بين من قوله في بقية المسألة. وقوله: فإن باع أحدهما وهي مما لا ينقسم لم يكن له فيه شفعة هو خلاف مذهبه في المدونة لأن له فيها أن الرحى إذا بيعت من أصلها فإن(10/309)
في الأرض والبيت الذي وضعت فيه الرحى الشفعة بما ينوبها من الثمن، وقوله إنه لا شفعة له في ذلك هو على قياس مذهبه في أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» لأن فيه دليلا على أن الشفعة لا تكون إلا فيما يقع [فيه] الحدود إذ لم يختلف قوله فيما عملت أنه لا شفعة فيما لا ينقسم بحال مثل النخلة أو الشجرة تكون بين النفر، فإنما أوجب الشفعة في الرحى على مذهبه في المدونة مراعاة لقول من يوجب فيها القسمة، وذهب مطرف إلى أن الشفعة في الأصول كلها وإن كانت مما لا ينقسم بحال كالنخلة أو الشجرة بين الرجلين لأنها من جنس ما ينقسم، وعلى ما في المدونة من مذهب ابن القاسم جرى العمل عندنا في الرحى ألا تقسم وأن تكون فيها الشفعة، وهو خلاف قول مالك في القسمة لأنه يوجبها، وخلاف أصل بن القاسم في الشفعة لأنها لا تجب على أصل مذهبه، وهو نص قوله في هذه الرواية، وبالله التوفيق.
[مسألة: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر]
مسألة قال: وسألته عن الحائط من حجرة الرجل يسقط وفي الحجرة بئر له يشرب منها جيرانه زمانا حتى مات بعضهم، وشرب الأبناء بعدهم حتى طال الزمان، ثم أراد منعهم وردها على حالها الأول، فقال: إن كانت معروفة في غلقه وحجرته حتى انهدم الجدار فتركها شربا لجيرانه ردها إن شاء وإن طال زمانها إلا أن يأتوا بأمر يستحقونها به، وإن كان ما ذكر من أمر الجدار مجهولا(10/310)
وتقادم الأمر فيها جدا لم يمنع أحد ممن يشرب منها إلا أن تقوم البينة على عارية أو إرفاق أوامر بين يستحقها به دونهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الأمر محمول على ما هو عليه أو على ما يعرف حتى تقوم البينة بخلافه، فإن عُرف أن البئر كانت في حجرته وفي غلقه فمن حقه أن يعيدها على ما كانت عليه إلا أن يثبت عليه أنه أباحها للناس إباحة مؤبدة، وإن لم يعرف أنها كانت في حجرته وتحت غلقه لم يكن له أن يحجر عليها ويدخلها تحت غلقه إلا أن يثبت أنها كانت في ملكه فأعارها للناس أو أرفقهم بالشرب منها مدة ما، فيكون من حقه أن يعيدها إلى ملكه، والأصل في هذا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» وبالله التوفيق.
[مسألة: الرحى تكون للرجل متقادمة فيريد رجل أن يحدث فوقها رحى أو تحتها]
مسألة قال: وسألته عن الرحى تكون للرجل متقادمة فيريد رجل أن يحدث فوقها رحى أو تحتها، قال: إن كان ذلك مضرا بالقديمة يغيرها عن حالها في نقص طحين أو يكثر بذلك مؤونة عملها أو شيء مما يضر بصاحبها ضررا يتبين عند أهل المعرفة بالأرحاء منع الذي يريد أن يحدث فوقها أو تحتها رحى لما يخاف من إدخال الضرر على صاحب الرحى المتقادمة.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، ومثله حكاه(10/311)
ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، وحكي عن أصبغ أنه لا يمنع إلا أن يبطل عليه بذلك رحاه أو يمنعه من جل منفعتها، قال: لأن الانتفاع بالأنهار وحوز منافعها ليس بحق ثابت كحق ذي الخطة إذا بنى عليه في فنائه ما يضر به، وإنما هو كالموات، فإذا كان إن أنشأ الثاني رحاه انتفعا جميعا فلا يمنع، وإن أضر بالأول إلا أن يبطلها أو يذهب بجُل منفعتها، واحتج على ذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سيل مهزور ومذينب «يمسك الأعلى حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل على الأسفل» فقال: ألا ترى لو أراد رجل أن ينشئ في حقه حائطا فوق حائط صاحبه لم يكن لصاحبه الأسفل حجة في أن يقول له لا تنشئ في حقك حائطا فوق حائطي لأنك إذا فعلت ذلك استأثرت بالماء علي حتى تسقي به حائطك فلا يأتيني منه إلا ما يفضل عنك، أو لعله لا يفضل عنك [منه] شيء لقلة الماء، هذا معنى قوله دون لفظه، ولا يلزم ابن القاسم ما احتج به عليه أصبغ من الحديث لأنه يخالفه في تأويله، ومعناه عنده إذا أنشأ الأعلى حائطه قبل الأسفل أو أنشأ حائطيهما معا، وأما إذا أنشأ الأسفل حائطه قبل الأعلى فلا يبدأ عنده الأعلى بالسقي عليه إلا أن يكون فيما يفضل عنه ما يكفي الأسفل، وذلك ظاهر من قوله في [أول] سماع أصبغ بعد هذا على ما سنبينه هناك إن شاء الله، وبه التوفيق.
[مسألة: إن تشاحا فليس لكل رجل إلا نصف النهر]
مسألة قلت: أرأيت إن كان بعدوتي نهر موضع رحيين والعدوة الواحدة لرجل والأخرى لآخر، وهما متقاربتان إن عمل المنصب الذي بهذه العدوة فنفذ سده إلى العدوة الأخرى أبطل منصب(10/312)
الأخرى، وإن عمل الآخر كذلك تبطل هذه الأخرى أترى أن يقتسما الماء أم يجوز لأيهما سبق إلى العمل أن ينفذ سده وإن كان ذلك لا يضر بأرض [أهل] العدوة التي ينفذ إليها السد غير أن في ذلك إبطال منصب الأخرى؟ قال: إن تشاحا فليس لكل رجل إلا نصف النهر، فإن كان في نصفه ما يعمل عليه رحى فذلك له، وليس له أن ينفذ سده إلى برية غيره إلا بإذن أهل تلك البرية، أضر ذلك بهم أو لم يضر، وذلك أن نصف الماء لهم إن تشاحوا إن شاؤوا أن يسقوا به أو يحولوه إلى منافعهم كان ذلك لهم، وإن لم يكن في نصف الماء ما يحمل عمل رحى منعا جميعا من العمل حتى يتراضيا على ما يحل لهما.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها، ولا لبس في شيء من معانيها، ولا اختلاف في شيء من وجوهها، فلا معنى لتكلف القول فيما يستغنى عنه، وبالله التوفيق.
[: المسرح يكون لقوم من حوز منزلهم فيريد بعضهم حرثه ويأبى ذلك بعضهم]
ومن كتاب [أوله] أول عبد ابتاعه فهو حر قال: وسألته عن المسرح يكون لقوم من حوز منزلهم فيريد بعضهم حرثه ويأبى ذلك بعضهم، أترى أن يترك مرعى أم يقسم؟ فقال: الذي يريد أخذ حقه أعذر من الذي يريد أن يبور أرضه للمرعى وأرض شريكه وهو كاره، فأرى أن تقسم، ثم يحرث من شاء، ويرعى من شاء في نصيبه.
قال الإمام القاضي: هذا على ما تقدم من مذهب ابن القاسم في(10/313)
قسمة الشعراء في أول رسم هذا السماع، وقد مضى من القول على ذلك هنالك بيان ما يجب قسمته منها باتفاق إذا دعا إلى ذلك أحد الأشراك مما لا يجوز باتفاق ومما لا يجب إلا على اختلاف، والمسارح مقيسة على ذلك، وما وقع في سماع عبد الملك عن ابن وهب من أن المسارح لا تقسم وإنما تقسم الأرضون خلاف قول ابن القاسم هذا، وموضع اختلافهما إنما هو إذا كان المسرح خارجا عن أرض قريتهم هل يقسم بينهم على ما يدعونه من أنه مالهم وملكهم؟ وإذا كان بين القرى هل يقسم بينهم أيضا على ما يدعيه أهل كل قرية من أنه من حيّز قريتهم أم لا؟ وكذلك يختلف أيضا إذا كان بإزاء القريتين أو القرى هل يقسم بينهم إذا ادعوه؟ فقيل: إنه لا يقسم بينهم لما فيه من الحق لغيرهم ممن يمر به فيرعى فيه، وقيل: إنه يقسم بينهم بأن يأخذ أهل كل قرية منه ما كان بإزاء قريتهم فيقسمونه بينهم دون يمين إن اتفقوا أو بعد أيمانهم إن اختلفوا، وأما إن كان داخلا في أرض قريتهم أو خارجا عنها فثبت أنه مالهم وملكهم فلا اختلاف بينهم في وجوب قسمته بينهم، قيل: إذا دعا إلى ذلك بعضهم، وقيل: إذا دعا إلى ذلك جميعهم أو جلهم ومن إليه عماد أمرهم، والأول أظهر، والله أعلم.
[مسألة: أخذ نصيبه وأراد أن يقره مسرحا لماشيته أن يحميه من الناس ويبيع كلأه]
مسألة قلت: أفيجوز لمن أخذ نصيبه وأراد أن يقره مسرحا لماشيته أن يحميه من الناس ويبيع كلأه؟ قال يحيى: قد كرهه بعضهم وأجازه بعضهم، وقول الذي كرهه أعجب إلي لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» فقد نهى عن منع فضل الماء فكيف الكلأ بعينه؟ فلا أرى أن يبيعه ولا يمنعه، ثم قال: أربع لا أرى أن يمنعن الماء [للشفة] والنار والحطب والكلأ.(10/314)
قال الإمام القاضي: قد مضى تفصيل القول في حكم الكلأ وما يجوز من بيعه ومنعه، وموضع الاختلاف في ذلك والاتفاق فيه في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، والحكم في الحطب كالحكم في الكلأ سواء على التفصيل الذي ذكرنا فيه. وأما الماء فالكلام إنما هو في فضلته، فما كان في ملك الرجل منه فاختلف هل له أن يمنع فضلته من جاره فيما يريد من ابتداء الانتفاع أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أن له أن يمنعه إياها إلا بثمن يواجبه عليها، وجدلها ثمنا عند سواه أو لم يجد، وهو المشهور في المذهب، والثاني أنه ليس له أن يمنعه إياها إلا أن يجد لها ثمنا عند سواه، فإن لم يجد لها ثمنا عند سواه لم يكن له أن يحبسها عنه وهو لا يحتاج إليها، والقول الثالث أنه ليس له أن يمنعه إياها بحال، ولا أن يأخذ فيها ثمنا من أحد، وهو الذي ذهب إليه يحيى بن يحيى على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع نقع بئر ولا يمنع رهو ماء» ، وهذا كله في العين أو البئر التي تكون في أرض الرجل ولا ضرر عليه في الدخول إلى الاستقاء منها، وأما البئر تكون في دار الرجل أو في حائطه الذي قد حظر عليه فله أن يمنع من الدخول عليه في ذلك، وقد مضى في رسم البراءة من سماع عيسى القول في منع الرجل فضلة مائه ممن يريد أن يسقي به شجرا أو نخلا قد تقدم غرسه لها فلا معنى لإعادة ذكر ذلك، ومضى في رسم الأقضية الأول من سماع أشهب حكم مياه آبار المواشي التي تحتفر في المهامه فلا معنى لإعادة ذكر ذلك أيضا، وأما النار فلا اختلاف في أنه لا يجوز لأحد أن يمنع من الاقتباس منه إذ لا ضرر عليه في ذلك، ولا يجوز لأحد أن يمنع أحدا ما ينتفع به إذا كان ذلك لا يضر به لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضرر والضرار، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسرح لأهل القرية التي هو في حوزها إن تداعى فيه أهل قريتين]
مسألة قلت لابن القاسم: أرأيت المسارح تكون في بعض القرى(10/315)
ينتجعها من حولها من أهل القرى بمواشيهم ثم يريدون أن يقتسموها فيدعي فيها كل من كانت ماشيته تسرح فيه وإن كان إنما يتخطى إليه القرى؟ قال: فلا حق فيه لمن كان يتخطى القرى إليه، وقد يسرح الناس بعضهم عند بعض على مسيرة الميل والأميال واليوم والأيام، أفبهذا يستحق أحدهم كل أرض سرحت فيه ماشيته؟ قال: ولكني أرى أن المسرح لأهل القرية التي هو في حوزها، فإن تداعى فيه أهل قريتين أو ثلاثة أو أربعة وكلهم حول ذلك المسرح وهو واسط بينهم ولم يثبت بالبينة لبعضهم دون بعض قسم بينهم على عدة القرى التي يدعيه أهلها وليس على قدر عمران تلك القرى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن من كان يتخطى القرى إلى المسرح بماشيته فلا حق له فيه أي لا يقبل دعواه في أنه له مسرح ماشيته فيه، وإنما يقبل فيه دعوى من كان يتصل به من أهل القرى فيقسم بينهم على الاختلاف في ذلك حسبما مضى القول فيه في أول الرسم وفي قسمة الغامر في أول رسم من السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يسكن القرية وليس له فيها إلا مسكنه فيعمر من غامرها أرضا ثم يريدون إخراجه]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يسكن القرية وليس له فيها إلا مسكنه أو شيء اشتراه بعينه ليس من أهل الميراث ولا ممن اشترى من أهل الميراث سهما فيعمر من غامرها أرضا يخترق ويزرعها زمانا وأهل القرية حضور لا يغيرون عليه ولا يمنعون من عمله ثم يريدون إخراجه، فقال: ذلك لهم إلا أن تقوم له بينة على اشتراء أو هبة أو حق يترك له به ما عمر إلا أن يطول زمانه جدا.(10/316)
قلت: أتراه مثل ما يستحق الرجل بعمارته من دار رجل أجنبي وأرضه أو إنما تراه بحال الوارث أو المولى مع مواليه؟ فقال: ينظر السلطان فيه على قدر ما يعذر به أصحاب أصل الأرض في سكوتهم لما يعلم من افتراق سهامهم وقلة حق أحدهم لو تكلم فيه، فإنه يقول: منعني من الكلام سكوت أشراكي وقلة حقي، فلما خفت تطاول الزمان وما يحدث من دعوى الغامر تكلمت، فأراه أعذر من الذي يستحق عليه من خاصة داره أو خاصة أرضه شيء، ولا أبلغ به حد الورثة فيما بينهم ولا حد المولى الذي يرتفق في أرض مواليه أو الصهر في أرض أصهاره إلا أن يكون ذلك الغامر للرجل أو الرجلين أو النفر القليل فلا يعذرون بسكوتهم ويحملون فيما عمر جارهم من غامر أرضهم على ما يحمل عليه من جيز عليه من داره أو أرضه شيء، قال: وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك أعذر في السكوت وأوجب حقا وإن طال الزمان جدا.
قال الإمام القاضي: حكم غامر القرية أن يصدق فيه أهل القرية أنه لهم على أصل سهامهم فيها، فإذا عمر منه شيئا من لا حق له فيه من غير أهل القرية أو ممن ليس له في القرية إلا مسكن بعينه أو حقل بعينه بحضرة أهل القرية كان حكمه حكم من حيز عليه ما له وهو حاضر لا يغير ولا ينكر إلا أنه رأى مدة الحيازة في ذلك على أهل القرية أطول من مدة الحيازة على الرجل الأجنبي لما يعذرون به من افتراق سهامهم وقلة حق كل واحد منهم ودون مدة الحيازة على الأوراث والأصهار، وفي حد ذلك اختلاف كثير سيأتي القول فيه في موضعه من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق إن شاء الله، وإنما يستحق ما عمر بطول المدة التي ذكر إذا ادعى أنه إنما عمر ذلك باشتراء منهم أو هبة أو صدقة، وأما إذا لم يدع ذلك وأراد أن يستحق(10/317)
ما عمر بعمارته إياهم بحضرتهم فليس ذلك له، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على قياس قول ابن القاسم في أن غامر القرية محمول على أنه لأهل القرية، ويأتي على قول ابن وهب ومن قال بقوله في أن غامر القرية لا يصدق أهل القرية أنه لهم ولا يقسم بينهم إلا أن يثبت أنه لهم أن يكون ما عمر لمن عمر بطول المدة التي ذكر بمجرد دعواه أنه له، وفي سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب الاستحقاق من قول ابن وهب ما يدل على ما ذكرناه عنه، وقال في الرواية: إنهم إذا قاموا عليه قبل أن تطول المدة فلهم إخراجه، ولم يقل إذا أخرجوه هل يكون له قيمة بنيانه إن كان بنى قائما أو منقوضا، والذي يوجب النظر أن يكون له قيمة بنيانه قائما إن كانوا قاموا عليه بحدثان ذلك، وإن كانوا قاموا عليه بعد أن طالت المدة ولم تبلغ إلى الحد الذي يكون الحيازة فيه عليهم عاملة أن يكون له على مذهب ابن القاسم قيمة بنيانه منقوضا وعلى رواية المدنيين عن مالك قيمته قائما. وأما قوله في آخر المسألة: وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك أعذر في السكوت وأوجب حقا وإن طال الزمان جدا فمعناه أنهم يحملون في حد الحيازة محمل الأصهار والقرابة من أجل الاشتراك، وقد اختلف في ذلك، فذهب مطرف إلى أن الشركاء فيما حازه بعضهم على بعض بمنزلة الأجنبيين، وقال أصبغ: الشركاء فيما حازه بعضهم على بعض بمنزلة الأوراث والقرابة، هذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قوله: وإن طال الزمان جدا لأنه إذا كان الشريك يستحق على شريكه حظه من عامر قريته بطول الحيازة فأحرى أن يستحق عليه حظه من غامرها بذلك فيقول: إن معنى قوله وإن طال الزمان جدا أي طال حتى خرج عن الحد الذي يستحقه به الأجنبي ما لم يتجاوز الحد الذي تكون به الحيازة بين الأصهار والقرابة ولم يشترط سحنون في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب هذا الحد من الطول فقال: إنه يكون لهم إذا كانوا قد عمروه وزرعوه زمانا بعلمهم فلم يرفعوا ذلك إلى السلطان، فهو خلاف مذهب ابن القاسم لأنه يرى سكوتهم إلى الحد الذي تكون فيه الحيازة بين الأجنبيين تبطل دعواهم، ورأى ابن القاسم سكوتهم إلى الحد الذي تكون فيه الحيازة بين القرابة يوجب أن(10/318)
يكون القول قول الحائزين في أن الذي حازوه انفردوا به دون أشراكهم، وبالله التوفيق.
[: تكون له الرحى فيبني تحتها رجل رحى فنقصت رحى الأول من طحينها]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد: وسألت ابن القاسم عن الرجل تكون له الرحى فيبني تحتها رجل رحى فنقصت رحى الأول من طحينها، قال ابن القاسم: ليس ذلك له إذا أدخل عليه ضررا.
قلت له: إنهما يرتفقان جميعا، قال ابن القاسم: قد أضر به فيما صنع لأن رحاه كانت تطحن قبل أن يبني هذا طحينا غير هذا فليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم المكاتب من سماع يحيى، وهو المشهور في المذهب، وخالف في ذلك أصبغ حسبما ذكرناه عنه هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: من له ماء يسقي به وفيه فضل عنه هل له أن يقطعه عن جيرانه]
مسألة وسألته عن الرجل يكون له الماء يسقي به وفيه فضل عنه فيغرس قوم غراسا على فضل ذلك الماء بعطية منه فيطعم الغرس فيريد صاحب الماء أن يقطعه عنهم، قال: ليس له ذلك إلا أن يحتاج إليه فيكون أولى به منهم.
قال محمد بن رشد: كان القياس في هذه المسألة ألا يكون لصاحب الماء أن يقطع [عنه] فضلته وإن احتاج إليها لأنه قد أعطاه(10/319)
إياها، والمعنى في ذلك عندي إنما هو إذا لم يصرح [له] بعطية الفضلة، وإنما قال له: اغرس على فضل مائي أو خذ فضل مائي فاغرس عليه، فيكون من حقه أن يقول: إنما أردت أن يأخذه على سبيل العرية إلى أن أحتاج إليه أو طول ما أستغني عنه فيحلف على ذلك ويأخذه إذا احتاج إليه، وأما إذا صرح بالعطية أو بالهبة فقال: قد وهبتك فضل مائي أو قد أعطيتك إياه فلا يكون له أن يأخذه منه وإن احتاج إليه، ولو صرح بالعرية لكان له أن يرجع فيه إذا انقضت المدة التي أعاره إليها أو إذا مضى من المدة ما يرى أنه أعاره إليها إن كان لم يضرب له أجلا، وقد قال ابن أبي زيد: قوله بعطية يريد العرية لا التمليك، والعرية في هذا على التأبيد إلا أن يحتاج إليه إلا أن هؤلاء أنفقوا وغرسوا وهو يعلم، ولا ماء لهم غيره، فهذا كأنه تسليم والله أعلم، قاله ابن أبي زيد، وقال: أعرف نحوه لسحنون، وقد مضى في رسم البراءة من سماع عيسى زيادات في معنى هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[: يحتظر على جنانه بجدار ويقطع عمن يرتفق بماء تلك العين ما كانوا يترفقون]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب قال عبد الملك بن الحسن: سألت ابن وهب عن الرجل يكون له الجنان وليس عليها حائط وفيها عين يغسل فيها من جاورها من النساء ثيابهن، ويقصرن شققهن، ويرتفقون بها كانوا على هذه الحال منذ زمان طويل، فأراد صاحب الجنان أو من ابتاعها منه أن يحتظر على جنانه بجدار ويقطع عمن يرتفق بماء تلك العين ما كانوا يترفقون به من الغسل والوضوء وغير ذلك من حوائجهم، فادعوا أن لهم فيها هذا المرفق، وشهد لهم على ذلك شهود، وزعم صاحب الجنان أن العين له وفي جنانه، وأنه(10/320)
لم يكن ضره من ورد العين لغسل ثوبه وغير ذلك، وأن اختلاف الناس إليها أضر بها، فأراد أن يحظر على جنانه ويجعل العين في حظيره ويقطع طريق من كان يرتفق بها، فهل ذلك له؟ فقال: له أن يمنع ماءها إذا شاء ويبيحه إذا شاء، وليس ما كان يصنع قبل ذلك من إباحته إياه وإرفاقه جيرانه والناس والمارة بالذي يقطع عنه حقه ولا منعه وإصرافه حيث شاء وبيعه إن شاء إذا كان ما كان فيه إنما كان معروفا منه، ولم يكن ذلك منه عن صدقة كانت منه بأصل العين أو بحبس على الناس فله أن يحظره ويقطع ما شاء، وسواء كان مستنبطها أو مشتريها، وإنما هي بمنزلة بئر الزرع والأجنة إلا أني أحب له أن لا يمنع الشرب [بغير] حكم يحكم له به عليه، وقال لي أشهب: نعم ذلك له، وليس عليه أن يدخل في حظيره، ولم يكن له أن يمنعهم قبل أن يحظر من غسل ثيابهم في تلك العين إلا أن يكونوا يغسلون ثيابهم من حائطه في موضع يخاف على بعض ما فيه منهم فيكون له أن يمنعهم وإن لم يكن الحائط محظرا إذا كان على ما وصفت لك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف في شيء من معانيها، فلا معنى لبيان ما لا يخفى من وجوهها، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسرح يكون بين القوم فيريدون اقتسامه]
مسألة وسئل ابن وهب عن المسرح يكون بين القوم فيريدون(10/321)
اقتسامه هل ذلك لهم؟ فقال: لا يغير عن حاله التي كان عليها، وليس تقسم المسارح إنما تقسم الأرضون.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: لهم قرية يسكنونها ويزرعونها وأمام مزرعتهم مرعى لماشيتهم]
من نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد وسئل سحنون عن قوم لهم قرية يسكنونها ويزرعونها وأمام مزرعتهم مرعى لماشيتهم فعمد أكثر أهل تلك القرية إلى ذلك المرعى فحرثوه وزرعوه وبقي منهم ناس لم يأخذوا من المرعى شيئا ولم يزرعوا فيه شيئا وزرع الذين اختطوا سنين وزمانا أيكون للذين لم يأخذوا فيه معهم شيء أم لا؟ قال: لا يكون لهم معهم شيء.
قلت: ويكون المرعى للذين زرعوا وعملوا؟ قال: نعم إذا كانوا قد عمروه وزرعوه زمانا ولم يرفع ذلك إلى السلطان حتى عمروه كما وصفت فأراه للذين عمروه بالحرث دون الذين لم يعمروا.
قال الإمام القاضي: قول سحنون هذا خلاف قول ابن القاسم في آخر سماع يحيى: وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك أعذر في السكوت وأوجب حقا وإن طال الزمن جدا، وهذه المسألة تتخرج على اختلافهم في غامر القرية ومرعاها إذا كان خارجا عنها، إذ قد قيل: إنه محمول على أنه لأهل القرية على قدر سهامهم فيها إن حاز أحد منهم بالعمارة شيئا، وقيل: إنه محمول على أنه موات لجميع المسلمين إلا أن يدعيه أهل القرية فيصدقون في ذلك، وقيل: إنه محمول على أنه موات(10/322)
لجميع المسلمين إلا أن يثبت أنه لأهل القرية، فعلى القول بأنه محمول على أنه لأهل القرية على قدر سهامهم فيها إن حاز أحد منهم بالعمارة شيئا منه دون سائرهم وهم حضور لا يغيرون ولا ينكرون مدة تكون الحيازة فيها عاملة بين الأقارب أو بين الأجنبيين على الاختلاف فيما حازه بعض الأشراك على بعض هل هم في ذلك بمنزلة الأجنبيين أو بمنزلة الأقارب كانوا أحق بما حازوه إن ادعوا أنهم استخلصوه لأنفسهم من أشراكهم بقسمة أو ابتياع أو هبة أو صدقة مع أيمانهم على ذلك، وعلى القول بأنه محمول على أنه موات لجميع المسلمين إلا أن يدعيه أهل القرية فيصدقون في ذلك إن حاز أحد منهم بالعمارة شيئا منه دون سائرهم وهم حضور لا يغيرون ولا ينكرون مدة تكون فيها الحيازة عاملة بين الأجنبيين، كان القول قول الحائزين مع أيمانهم فيما حازوه أنه مالهم وملكهم وبطل فيه دعوى الحاضرين للحيازة عليهم، وعلى القول بأنه محمول على أنه موات لجميع المسلمين إلا أن يثبت أنه لأهل القرية إن حاز أحد منهم شيئا منه بالعمارة دون سائرهم وهم حضور لا يغيرون ولا ينكرون كان القول قول الحائزين فيما حازوه واعتمروه بمجرد دعواهم أنه لهم دون يمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: العلو يكون لرجل والأسفل لآخر فيخاف على حيطان الأسفل الضعف]
مسألة قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن العلو يكون لرجل والأسفل لآخر فيخاف على حيطان الأسفل الضعف من قبل شقوق بها إن بنى الأعلى، قال: يهدم الأسفل ويبني مثل ما كان أولا.
قلت: وعلى من رفد الأعلى؟ قال: على الأسفل.
قال محمد بن رشد: في المجموعة لابن القاسم خلاف رواية سحنون هذه عنه أن على صاحب العلو إدعام علوه حتى يبني صاحب(10/323)
السفل إذا احتاج إلى ذلك، ولكلا القولين وجه من النظر، ورواية سحنون أبين.
[: غرس في واد فجاء رجل آخر فغرس في ذلك الوادي]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب الأقضية والأحباس قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن رجل غرس في واد فكان ماء ذلك الوادي يسقي به غرسه فجاء رجل آخر فغرس في ذلك الوادي، قال: ليس له أن يحدث على الأول ما يقطع رحاه إلا أن يكون فيه ماء يكفيهما جميعا، قال أصبغ: وذلك إذا اشترك الأول بالإحياء والغرس والانتفاع بالماء.
قال محمد بن رشد: قوله فجاء رجل آخر فغرس في ذلك الوادي يريد أنه غرس فوق الأول ليكون أحق بالماء منه على ما يوجبه الحكم في ماء النهر أن يبدأ الأعلى على الأسفل في السقي به حسبما أحكمته السنة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في سيل مهزور ومذينب «أن يمسك الأعلى حتى يبلغ الماء إلى الكعبين ثم يرسله على الأسفل» فلم ير ذلك له إذا لم يكن فيما فضل عنه من الماء ما يكفيه لأنه قال: إن ذلك إنما يكون له إذا كان في الماء ما يكفيهما جميعا، فعلى قوله إذا لم يكن فيما فضل عنه من الماء ما يكفيه بدئ هو بالسقي عليه فكان له هو ما فضل عنه، وقول أصبغ مبين لقول ابن القاسم أن الثاني إنما يمنع أن ينشئ غرسا فوق الأول ينقطع به الماء عنه إذا بدئ بالسقي عليه أو كان لا يفضل عنه ما يكفيه إذا كان غرسه قد انتفع بالماء ونبت به وحيي من أجله، ولأصبغ في الواضحة(10/324)
خلاف قول ابن القاسم هو أن للثاني أن ينشئ حائطا فوق حائط الأول وإن لم يكن في الماء إلا ما يقوم به فانقطع السقي عن الأسفل على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يمسك الأعلى حتى يبلغ إلى الكعبين ثم يرسل على الأسفل» إذ عم ولم يخص، فوجب أن يحمل على عمومه إنشاء الأعلى قبل الأسفل أو الأسفل قبل الأعلى. وقول ابن القاسم أظهر وأولى لأن الماء إذا لم يكن فيه إلا ما يسقي به أحدهما فأحدث الثاني حائطا فوق الأول أضر بالثاني وأبطل عليه حائطه ومنعه منفعة قد سبق إليها وحازها، وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضرر والضرار فوجب أن يخص بنهيه هذا عموم قوله: «يمسك الأعلى حتى يبلغ إلى الكعبين ثم يرسل على الأسفل» فيكون مخصصا في الموضع الذي لا ضرر فيه، وهو إذا أنشأ جميعا حائطيهما معا أو أنشأ الأعلى حائطه قبل الأسفل، فإنما ذهب أصبغ بقوله إلى تبيين مراد ابن القاسم وإن كان لا يقول بقوله، وبالله التوفيق.
[مسألة: الفحص العظيم البورليس لأهل المنازل المحيطة به أن يقتسموه]
مسألة قال: وسئل عن المنازل تكون محيطة بفحص عظيم ويكون لأهل تلك المنازل فيما يلي كل منزل منها أرض غامرة تحرث، وأكثر ذلك الفحص بور يرعى فيه أهل تلك المنازل وغيرهم من المارة ويحتطبون فيه، ولا يزال بعضهم يتزيد إلى أرضه العامرة منه، وكيف إن اجتمعوا على اقتسامه؟ قال: أرى أن يترك على حاله ولا يجوز لهم اقتسامه للمنفعة التي فيه لمن بعدهم ممن يأتي وللمارة التي قد جرت فيه منفعتهم من رعيهم ومناخ إبلهم(10/325)
واحتطابهم فيه، فإن فعلوا شيئا من ذلك لم أر لمن زرع منهم أن يدخل معهم في شيء من ذلك، قال أصبغ: ويمنعون ويرد ويترك على حاله، وهو الحق، وهو بحال الماء المورود وسطهم فهو للعامة منهم وغيرهم وليس لهم اقتطاعه ولا ردمه ولا شيء منه ولا لأحد منهم قرب منه أو بعد لا جميعا ولا شتى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الفحص العظيم البور الذي يرعى فيه الناس ويحتطبون منه ليس لأهل المنازل المحيطة به أن يقتسموه ولا أن يتزيدوا إلى عامرهم منه فيتملكوه لما في ذلك من قطع منافع الناس منه، وإنما اختلف في قسمة البور الغامر والمسرح والشعراء التي تكون بإزاء القرى متصلا بها حيث يشبه أن يكون من حيزها حسبما مضى القول فيه مستوفى في أول رسم سماع يحيى، وفي رسم أول عبد ابتاعه فهو حر، وبالله التوفيق.
[: كان يبني رحى فأرادوا منعه لغاشية الرحى وما يردها من الناس]
من نوازل سئل عنها أصبغ وقال أصبغ في رجل كان يبني رحى أو بنى في جوار مغتسل لقوم أو مستقى فأرادوا منعه لغاشية الرحى وما يردها من الناس هل لهم منعه؟ وكيف إن كان على المغتسل طريق سائرة عامرة هل له بذلك حجة عليهم؟ وكيف إن غور صاحب الرحى مجازا فوقها لعامة أو لخاصة قريبا فردهم عنه إلى مجاز فوقه أو تحته هو أخصر لهم أو فيه بعض الجور عليهم إلا أنه لا مضرة عليهم فيه؟ قال أصبغ: الجواب فيه إن شاء الله إن كان يضر بهم وبغاشيتهم ومستقاهم وممرهم أو ينتقص منها شيئا(10/326)
فيفسده عليهم ويغور أرضهم إلى غيرها لم يكن ذلك له على حال إلا أن يكون تحويل الطريق الذي ذكرت الأمر اليسير جدا ليس فيه عطف عليهم في ممرهم ولا عرج عن سعة طريقهم إنما هو اليمنة واليسرة، الظل بالظل، والجنب بالجنب واليمين باليمين، شيء لا يتباعد ولا يضر، فإن كان ذلك كذلك مما لم يلحقهم ضرره ولا عاقبته في طريقهم إذا أقبلوا ولا مخرجه إذا أدبروا من طريقهم هذه الأولى ولا في غاشيتهم ولا في خشونة مستقاهم ولا في مغتسل، فإذا كان هكذا وصح فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان عليهم فيها وكف فحيث وجد الضرر على الطالب وجب على السلطان دفع الضرر.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة جيدة بينة صحيحة، وقد مضى بيانها ووجه الحجة فيها في رسم الصبرة من سماع يحيى فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: لهم مجرى ماء وهم فيه أشراك فاندفنت الساقية فأرادوا حفرها وتنقيتها]
مسألة وسئل أصبغ عن قوم لهم مجرى ماء، وهم فيه أشراك، فلبعض الناس عليه أجنة كثيرة، ولبعضهم جنان أو جنانان، لبعضهم أكثر من بعض، فاندفنت الساقية، فأرادوا حفرها وتنقيتها، كيف تحفر على عدة الأجزاء أم على عدة الجماجم؟(10/327)
قال: لا بل على الأجزاء والأنصباء فيه، والانتفاع فيه، وهو كالشفعة تكون على قدر الحقوق، وهو أيضا بمنزلة حقوق القسام تكون على قدر الحقوق والأنصباء، ولسنا بقول ابن القاسم فيه إنه على الجماجم، ولا نعلم شيئا من هذا يكون على الجماجم في أنواع العلم إلا كنس المراحيض المشتركة لأن الانتفاع بها وفيها سواء، ولا يحاط فيه بعلم معرفة ذلك، فإن اختنقت الساقية واحتاجت إلى الكنس وكان بعضهم ينتفع بأعلاها وبعض بأسفلها فدعا الأسفلون الأعلين إلى الكنس، وقالوا لهم: تكنسون معنا لأن مجرى مائكم علينا، فإن اختنقت عندنا أضرت بكم، وقال الأعلون: لا حاجة لنا بكنسها، وذكروا أنها ليست مضرة لهم فقال: أرى أن يكنسوا معهم لأن مجرى مائهم فيها.
قلت: فإن اختنقت في أعلاها فدعا الأعلون الأسفلين إلى الكنس فأبوا عليهم؟ قال: ذلك لهم إلا أن يعينوهم، وإنما أمرنا الأعلين بالكنس مع الأسفلين لأن مجرى مائهم ووسخهم عليهم، وليس للأسفلين على الأعلين مجرى.
قال الإمام القاضي: أما إذا اندفنت الساقية في أعلاها قبل أن تصل إلى واحد منهم، وهي إن نقيت وصل الماء إلى جميعهم، وإن لم تنق لم تصل إلى واحد منهم، فالذي ذهب إليه أصبغ من أن حفرها وتنقيتها يكون على قدر الحقوق لا على عدد الجماجم هو الأظهر مما قيل في ذلك لأنه أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم، فله في كتاب الأقضية من المدونة في أجرة القاسم إنما تكون على عدد الرؤوس لا على قدر الأنصباء،(10/328)
وله في أول سماع يحيى عنه من كتاب البضائع والوكالات في أجرة الأجير على الخصام أنها تكون على قدر الأنصباء لا على عدد الرؤوس، وذلك اختلاف من قوله، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى والقياس، وهذا الاختلاف داخل في مسألتنا هذه وفي غير ما مسألة، من ذلك مسألة نوازل سحنون من كتاب الجعل والإجارة في القوم يستأجرون الأجير وعلى حرز أعدال متاع أو حرز حبال مقاث ولبعضهم منها القليل، ولبعضهم الكثير، وما أشبه ذلك من المسائل، واختلف أيضا قول ابن القاسم في تنقية الكنف، فالمعلوم من مذهبه الأظهر من الأقوال أنها تكون على عدد الرؤوس، وهو على قياس قوله إنها تكون على قدر الأنصباء، وهو قوله في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، وعليه يأتي ما روي عنه من أن تنقية كنف الدور المكتراة تكون على أرباب الدور، فتفرقة أصبغ بين كنس الكنف وسائر المسائل المذكورة هو أظهر الأقوال، ويتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها تفرقة أصبغ هذه بين تنقية الكنف وما سواها من المسائل، والثاني أن الحكم في جميعها أن يكون على عدد الأنصباء لأن من قال في كنس الكنف إنه يكون على قدر الأنصباء، وهو مذهب أشهب في سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وأحد قولي ابن القاسم على ما ذكرناه، فأحرى أن يقول ذلك في سائر المسائل، والثالث أن الحكم في جميعها أن يكون على عدد الرؤوس لأن من قال في أجرة القسام وفيما سواها من المسائل المذكورة إنها تكون على عدد الرؤوس فأحرى أن يقول ذلك في تنقية الكنف، وأما إن اندفنت الساقية بعد أن وصلت إلى واحد منهم فإنه يقال للذي لم تصل إليه: إما أن تعمل مع الذي وصلت إليه، وإما أن يعمل هو وحده ويكون أحق بحظك من الماء حتى تأتيه بما يجب عليك من النفقة على الاختلاف الذي ذكرناه من عدد الجماجم وقدر الأجزاء، وأما إذا اختنقت الساقية بعد أن تجاوزت حظ(10/329)
أحدهم وهو الأعلى منهم فلا يلزم الأعلى أن يعمل مع الأسفل إذ لا منفعة له في العمل ولا ضرر عليه في تركه لتأتي السقي له في الحالتين جميعا، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على أصولهم، وقوله فيها: فإن اختنقت الساقية فاحتاجت إلى الكنس وكان بعضهم ينتفع وبعضهم بأسفلها لأنها هي الساقية التي يتصور فيها أن ينتفع بعضهم بأعلاها وبعضهم بأسفلها، وأما ساقية ماء السقي فأعلاها ينتفع به الأعلى والأسفل، وأسفلها لا ينتفع به إلا الأسفل وحده، وقد مضى الحكم في ذلك وتفصيل القول فيه. وأما حكم الساقية التي تجري في المحاج بالأثقال والرحاضات فالحكم فيه على ما قال أصبغ في الرواية من أن يعمل الأعلى مع الأسفل ولا يعمل الأسفل مع الأعلى للعلة التي ذكرها من أن ماء الأعلين ووسخهم يجري على الأسفل، وليس للأسفل على الأعلى مجرى، وقد بين ذلك سحنون فيما حكى عنه ابن أبي زيد في النوادر من رواية أبي بكر بن محمد فقال: على الأول أن يكنس وحده حتى يبلغ إلى الثاني، ثم على الأول والثاني الكنس حتى يبلغا إلى الثالث، ثم على الأول والثاني والثالث الكنس حتى يبلغوا إلى الرابع، هكذا أبدا حتى يبلغوا إلى آخرها، وهذا لا اختلاف فيه إذا كانت تجري في الأزقة والطرق، وأما إذا كانت تجري في الدور والأملاك فقيل: إن على كل واحد من أرباب الدور والأملاك أن ينقي ما في داره أو ملكه منها، وهو الذي يأتي على مذهب أشهب وأحد قولي ابن القاسم في أن تنقية الكنف المشتركة على قدر الأنصباء، وتنقية كنف الدور المكتراة على أرباب الدور لا على المكترين، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل يلزم استئذان الإمام في إنشاء الأرحى على الأنهار]
مسألة وسئل عن إمام اغتصب أرحية على نهر، وتلك الأرحية قديمة بذلك الموضع، فعمد الغاصب فخربها وبنى تحتها قريبا من موضع المغصوبة منه أرحية بنقض المغصوبة، فأقامت الأرحية بالموضع الذي أنشأها فيه الغاصب زمانا طويلا خمسين سنة أو(10/330)
أكثر تداولها أمراء، ثم إن ورثة المغصوب قاموا طالبين بحقهم فأنصفوا منه، وقضي لهم به، وأمر أهل الغاصب ومن كانت تلك الأرحية في أيديهم من ورثة أولئك الأمراء بقطع نقضهم من الموضع الذي أحدث فيه الغاصب الأرحية، وذلك إذ لم تقم لورثة المغصوب البينة على نقض، وقامت لهم البينة على أصل الأرحية فوق هذا الموضع الذي أحدث فيه الغاصب، فأمر بقلع النقص وخراب تلك الأرحية من أجل أن موضع الأول لا يمكن أن تكون فيه أرحية لقرب المحدثة من موضع الأرحية الأولى فشق على أهل الغاصب قلع نقضهم لما يصير عليهم فيه من المؤونة، فباعوا ذلك النقض من المغصوب، فلما اشتراه المغصوب وصار له بالموضع الذي كان الغاصب أحدث فيه أرحية رأى أن يقر النقض على حاله ويبني بذلك الموضع أرحية من قبل أن ذلك الموضع لا يجوز لأحد أن يبني فيه رحى لمكان ضرورته بموضع الأول وإن هذا الموضع ليس لأحد من الناس، وإنما هو نهر للمسلمين عامة، فبنى المغصوب منه بذلك الموضع أرحية وأنفق فيها أموالا عظيمة والإمام والقاضي وجميع الناس ينظرون إليه ينفق ويبني ويعمل حتى فرغ منها بالمؤونة العظيمة، ثم اغتلها بعد ذلك سنتين أو ثلاثا، ثم قام عليه الإمام اليوم بعد ما وصفت لك فأراد(10/331)
أن يخرب عليه الإمام ما عمل، وقال له الإمام إن هذا الموضع الذي أقررت فيه أرحيتك ليس لك، وإنما هو للناس، وأنا الناظر فيه وموضعك الذي قضى لك فيه فوق هذا، وأراد أن يخرب عليه، فكان من حجة المغصوب في ذلك أن قال: أما موضعي الذي بنيت فيه فإن الغاصب الأول حين أخرق أرحيتي ونقلها من موضعها إلى هذا الموضع أفسد علي المنصب وغدره، وإنما غدره ليصلح على نفسه هذا الموضع الذي نقل إليه النقض، ومع ذلك أيضا إني يوم غصبني هذا الغاصب لو أردت أن أنقلها إلى هذا الموضع لم يكن لأحد أن يمنعني منه، ولا على أحد فيه مضرة، ولا لأحد أن يبني بهذا الموضع أرحى لموضع ضرر ذلك بأرحيتي التي من فوق، وإن الموضع الذي أقررتها به ليس لأحد من الناس، بل أنا أعظم الناس فيه حظا لأني لا أترك أحدا يبني فيه رحى لأنه يبطل علي أرحيتي التي فوق، ومع ذلك أيضا أنه يقول المغصوب منه للإمام: أيها الإمام، أنت تنظر إلي أبني وأنفق الأموال وأستغل الأموال العظام، وأنت قضيت لي بتخريبها، ثم تزعم اليوم أنك أولى الناس بالموضع مني لأنك تزعم الناظر للناس، والإمام القاضي يقول خذ موضعك الذي قضيت لك له به فابن فيه ودع هذا لما يعلم أن ذلك الموضع لا يستقيم فيه أرحية [بعد] لما أفسد فيه الغاصب الأول وغدر ذلك الموضع، قال أصبغ: لا أرى لذلك الإمام القاضي نقضه عليه ولا العرض له، وأراه(10/332)
جاهلا خاطئا لما يريد أن يفعل من هذا فلا يخطئ ثانية كما أخطأ أولا، فقد أخطأ في الأمر الأول حين فسخه وعرض فيه لأنه لم ينقضه لنقض المغصوب منه بعينه، فقد ذكرتم في المسألة أنه لم تثبت له بينة على النقض أنه له ولا أنه بنيانه، وإنما فسخه لموضع المحدث على موضع الأول، ولم يكن من الصواب ذلك لأن الأول قد مات ما كان أحيا وصار الثاني كمن أحيا مواتا آخر بعده فلا يمات حي لموات قد مات لا يقدر على إحيائه لأنه قد استغدر وصار مواتا ممتنعا من الإحياء، وإنما كان يجوز له أخذ النقض لو كان للأول فيه نقض معروف كان أدخل فيه يوجد قائما أيضا لم يتغير ولم يبل مما كان يكون له منتفع إذا قلع كالسواري تحت البنيان تخرج إلى بنيان غيره إذا غصبت، فأما شيء قد بلي وأكله الماء فلا ينزع وإن كان غصبا لأنه لا ينتفع به، وموضعه [ليس] لصاحبه فينتزعه وصاحبه مضر، وإنما كان ينبغي للإمام أن يقضي في هذا للمغصوب منه بقيمة بنيانه ورحاه يوم هدمها الغاصب الأول، وإن كان الأمر هكذا في بلاء الحجارة والنقض، فإن كان ذهب بحجارتها [مع ذلك] بأمر مشهود عليه قضى له بالقيمة قائمة، وإن لم يذهب قضى له بما بين القيمتين ما نقص الهدم والفساد منها حينه إلى وقت قلعها مبنية، فإذا جهل هذا وأخطأه وأخطأ العمل فيه بصوابه وفسخ وأمر بالقلع وقضى به فاشتراه المغصوب منه وأقره بإقراره إياه وبما زاد فيه واعتمل وبنى فلا أرى أن يعرض له فيه ولا ينقض عليه، ولا ينقض الإمام(10/333)
حكمه الماضي له به لأنه وجه شبهة من القضاء والفوت، وإنما هذا بمنزلة ما لو قضى له فاشتراه غيره وأرضى صاحبه المنقوض له منه ومن النفقة وأقره لنفسه أو زاد فيه لم ينبغ في الحق أن يفسخ على هذا المشتري الأجنبي لأنه يصير ذلك بمنزلة محي مستأنف في ذلك الموضع، ولا يكون أيضا للإمام عليه خيار في قلعه أو إثباته بالنظر بزعمه للمسلمين، لا أرى هذا له ليس من قبل أنه علم به فأقره فقط، ولكنه من قبل أنه قد كان لهذا أن يحييه يومئذ لو كان معطلا مهدوما من أصله بغير إذن الإمام القاضي وبغير علمه لأن ذلك سنتهم في أنهارهم وعملهم وعملها مباح لهم فيها من أول الإسلام إلى هلم جرا لا يستأذنون إماما فيه لأن أنهارهم إنما هي لهذا ولمثله من المنافع، وهذا الغالب عليها ولمصائدهم كنحو أرحيتهم ليست مساقي في طرق حمالة ولا سيارة ولا مساقي لغيرها من الأرض ولا مركوبة فيمنعون المارة وغيرها فيمنعون حينئذ، وليست لها مصارف إلا هذه المنافع فهي لهم فيها وإن قربت من العمران.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة أرحى القنطرة بقرطبة لما نزلت كتب فيها إلى أصبغ، فأجاب فيها بهذا الجواب، وهو جواب صحيح على مذهبه في أنه لا يلزم استئذان الإمام القاضي في إنشاء الأرحى على الأنهار فيما قرب من العمران لأن الواجب كان في ذلك على أصله هذا إذا كان الغاصب قد خرب الرحى التي غصبها وغدر موضعها بالرحى التي أحدث تحتها حتى لا يمكن أن تعاد فيها الرحى أن يقر الرحى الثانية للغاصب على حالها، ويكون عليه للمغصوب قيمة رحى مبنية على ما كانت عليه يوم هدمها(10/334)
من جودة البناء ورداءته، وإنما كان يجب أن يقضي على الغاصب بتخريب الرحى التي أحدثها تحتها إن كان لم يغدرها بذلك، ويمكن إذا خربت أن تعاد على حالها ويكون عليه مع هذا قيمة بنيانها، فيمكن أن يتأول قوله وأمر القاضي أهل الغاصب بقلع نقضهم على هذا، ويقال: إن سكت عن ذكر قيمة البنيان للعلم به فلا يكون الحكم على هذا خطأ كما تأول أصبغ وهو الأولى لأنه يبعد أن يحكم للمغصوب منه بما لا منفعة له فيه من هذه الرحى المحدثة لا أكثر فيمضي مال الغاصب في غير منفعة تصل إلى المغصوب أو أن يحكم له بقيمة رحاه على الغاصب ثم يقضي عليه أيضا بهدم رحاه التي أحدثها، وعلى كلا التأويلين لا يكون للإمام ما ذهب إليه من أن يخرج المحكوم له المغصوب من الرحى المحدثة إذ قد اشترى نقضها من ورثة الغاصب الذين قضى عليهم بقلعه وأقره في موضعه لأنه ينزل بذلك منزلة بانيه الذي قد استحقه ببنيانه إياه لأن ذلك إحياء له على مذهبه وإن لم يستأذن الإمام لا سيما وقد بنى هو بذلك الموضع أرحية بعلم الإمام والقاضي وجميع الناس كما ذكر في السؤال، وقول أصبغ في هذه المسألة: إن من أنشأ رحى فيما قرب من العمران على نهر فليس عليه أن يستأذن الإمام في ذلك بعيد عندي، والصواب أن ذلك لا يكون له إلا بإذن الإمام إذا كانت الضفتان لجميع المسلمين كما لا يكون له إذا كانت الضفتان ملكا لرجل إلا بإذن ربهما، وقد قيل فيمن أحيا مواتا فيما قرب من العمران بغير إذن الإمام: إن للإمام أن يخرجه منه ويعطيه قيمة بنيانه منقوضا، فعلى هذا القياس يكون للإمام في هذه المسألة ما ذهب إليه من أن يخرج المحكوم له من الرحى المحدثة ويعطيه قيمة بنيانه منقوضا، وبالله التوفيق.
[: لا ضرر ولا ضرار]
من سماع حسين بن عاصم من ابن القاسم قال حسين: سألت ابن القاسم عن سداد الأرحية إذا كانت قد تقادمت في أيدي أهلها أربعين سنة أو خمسين سنة فيشتري قوم خشبا في جبل هو على ذلك الوادي فيريدون المرور بها في(10/335)
النهر حتى يبلغوها موضع نفاقها أو موضع حاجتهم إليها فيمنعهم أهل الأرحية ويقولون: لا تمروا بها على سدادنا ولا تخرقوها علينا، فيعطونهم على تلك الخشب ليفتحوا لها فرجا في سدادهم ويمتنعون بذلك أصلا فلا يريدون أن يفتحوا لهم لتمر خشبهم، قال ابن القاسم: أرى أن يوكل الإمام القاضي رجلا حازما ممن يخاف الله بهدم ما يضر الناس من تلك السداد في ممرهم بخشبهم وسفنهم ويترك ما وراء ذلك مما لا يضرهم في ممرهم بخشبهم وحوائجهم لسفنهم من سده لينتفع به إذا لم يكن في ذلك مضرة، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» فتفسير ذلك ألا يتخذ أحد ما يضر بأحد ولا يمنع أن يتخذ ما لا يضر بأحد، قال: ولا أرى أن يأخذوا من أحد شيئا مما وصفت لك، وأرى أن يؤمروا بهدمها وتخلية الناس في طريقهم في نهرهم كما وصفت لك، وأرى أن يخرق من ذلك السد لممر القوارب لحوائج الناس في حمولتهم وصيدهم وغير ذلك مما يحتاجون إليه إذا كان النهر تمر به القوارب العظيمة يحمل الناس فيه حوائجهم من أطعماتهم وغير ذلك، وليس لأحد أن يقطع بسده ممر الناس في النهر.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال؛ لأن منفعة عامة المسلمين بالمرور في النهر بخشبهم وقواربهم لوجوه منافعهم لا يستحقها عليهم أصحاب(10/336)
السداد بطول المدة، إذ ليس هو حق لمعين فيحمل عليه بطول السكوت أنه راض بترك حقه في ذلك، فالواجب في ذلك ما ذكر من أن يخرق من السد موضع تمر منه الخشب والقوارب لمنافع الناس من حوائجهم وصيدهم، ولا يهدم جميع السد فيبطل على صاحبه رحاه وإن كان المرور في النهر يسهل بذلك؛ لأن الضرر على صاحب الرحى بإبطال الرحى عليه أكثر من الضرر الذي يلحق المارة في مرورهم على الموضع الذي خرق منه، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتمع ضرران نفى الأصغر الأكبر» فتأوله أهل العلم في مثل هذا المعنى، وهو كثير في غير ما وجه واحد، ولو أراد رجل ابتداء أن ينشئ رحى في حقه على النهر ويقطعه بسد لم يكن ذلك له إلا أن يترك بالسد بابا مفتوحا يمر به من احتاج إلى المرور فيه [إذا كان المرور فيه] متصلا، وإن لم يكن متصلا كان له أن يسده في الأوقات التي لا يحتاج الناس إلى المرور عليه لأن النهر كالطريق فلا يباح لأحد أن يحدث فيه ما يقطعه، ولا يمنع من أن يحدث فيه ما ينتفع به مما لا يضر به ولا يقطعه، وأما إن أراد أن يحدث فيه ما يضر به بعض الضرر ولا يقطعه فذلك إلى اجتهاد الإمام القاضي في أي الضررين أكبر إن كان الذي على المارة فيه أو على الذي يمنع من منفعته فيما يريد أن يبني فيه أو ينشئ عليه، وقد وقع في المبسوطة لمحمد بن إبراهيم المدني خلاف قول ابن القاسم هذا، قال: وسئل محمد بن إبراهيم المدني وكتب إليه من الأندلس عن الخشب التي تقطع بالمغرب عندنا فتطرح بالوادي فربما مرت بأصحاب السداد [فيمنعونهم من خرق السداد] وهم يصلحونها كما كانت فقال: إن كان خرقهم إياه يضر بصاحب السد لم أر أن يخرقوا شيئا، وإن كان لا يضر بهم وهم يصلحونه لا يخاف عليه حاله من أجل ما أخرق(10/337)
صاحب الخشب بعد إصلاحهم إياه فأرى أن لا يمنعوا من خرق ما مروا به على ما ذكرت لك، وقول ابن القاسم أظهر لما بيناه، والله أعلم.
[مسألة: لا تحجروا على الناس]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم يقول في الرجل تكون له الرحى القديمة فيتخذ رجل تحتها رحى فيقول صاحب الرحى القديمة: أنا أخشى أن تضر هذه الثانية برحائي فيبعث معهم رجالا من أهل البصر بالعمل فيقولون: لا فساد على رحاه من الرحى التي تحتها، فيأمر بالعمل ويأذن له بالبنيان، فإذا فرغ أضرت بالرحى العليا وجمعت عليها الماء فلم تتركها تدور، قال ابن القاسم: إذا اجتهد السلطان أولا كما ذكرت ثم أمره بالبنيان بعد أن رأى أهل البصر أنها لا تضر ثم أضرت فلا أرى أن تقلع، ولتقر على حالها، لأنها حكومة قد وقعت، فأنفق بها صاحب الرحى نفقته فلا سبيل إلى ردها، وليصبر صاحب الرحى العليا، قال ابن القاسم: ولو تركه صاحب الرحى العليا فعمل حتى طحنت رحاه وفرغ منها، ثم قام إلى السلطان وذكر ضرها فلم أر للسلطان أن يهدم الرحى عنه لأنه قد تركه حتى أنفق عليها النفقة العظيمة ثم يريد قلع عمله فليس ذلك له إذا كان حاضرا يرى عمله: قال ابن نافع أرى أن لا يمضي الضرر فيها على أحد كان أمر السلطان بالنظر فيه أو لم يأمر، وأرى أن يقلع إذا تبين لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» .(10/338)
قال ابن وهب: إذا رآه يبني حتى طحنت ثم أراد منعه من ذلك لم يكن ذلك له كانت رحاه قائمة أو قد خربت لأنه تركه ينفق ويحوز ما كان هو قد حازه من النهر حتى صار لغيره ثم أراد القيام عليه فيه فليس ذلك له لأن النهر موات، وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تحجروا على الناس.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب في هذه المسألة زيادة متصلة بقول ابن وهب، وهي: وقال ابن وهب فيمن أحيا مواتا ثم تركه فأحيا غيره فهو لغيره، وفي قول عمر هذا بيان من هذا، قال ابن وهب: فإذا ادعى صاحب الرحى القديمة أنه إنما كان تركه إياه على غير علم بضرورته وكان ذلك لا يخفى على أحد من الناس أنه يضر لم يكن له قول، وأقرت الرحى المحدثة على حالها، وإن كان ذلك يخفى حلف صاحب الرحى القديمة وكان له أن يقلع إن شاء، وفي هذه الرواية بيان لما يتأول عليه قوله بعد هذا إن شاء الله. ومساواة ابن القاسم في هذه المسألة بين الذي يبني بأمر السلطان وحكمه، وبين الذي يبني بحضرة صاحب الرحى العليا وعلمه في أن بنيانه لا ينقض، والمعنى الموجب لذلك مختلف، أما الذي يبني بأمر السلطان وحكمه فإنما قال ابن القاسم إن بنيانه لا يقلع وتقر رحاه على حالها من أجل أن الخطأ في ذلك ليس هو منه وإنما هو من الشهود إذ شبه عليهم فظنوا أن بنيانه لا يضر بالرحى التي فوقها، فكان ذلك بمنزلة الشاهد يرجع عن شهادته بعد نفوذ الحكم فيقول: شبه علي ويدعي الوهم والغلط فمن قولهم إن الحكم لا يرد، وإنما اختلفوا في الشاهد هل يغرم التالف بشهادته أم لا حسبما مضى القول(10/339)
فيه في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات؟ فعلى القول بأن الشاهد يغرم ما أتلف بشهادته وإن ادعى أنه شبه عليه فيها يلزم أهل البصر في هذه المسألة غرم قيمة الرحى العليا إن كانت بطلت، أو غرم ما نقص من قيمتها إن كان نقص بذلك طحينها ولم يبطل جملة، وأما على القول بأن الشاهد لا يغرم ما أتلف بشهادته إذا كان قد شبه عليه فيها ولم يتعمد الزور فلا يلزمهم شيء إلا اليمين إن ادعى عليهم صاحب الرحى العليا أن ذلك كان مما لا يخفى عليهم، وأنهم تعمدوا الزور في شهادتهم على الاختلاف في يمين التهمة، وذلك إذا كان ذلك مما يمكن أن يخفى، وأما إن كان مما لا يمكن أن يخفى على أحد من الناس فيلزمهم الغرم، ولا يمكنوا من اليمين. وأما الذي بنى بحضرة صاحب الرحى العليا وعلمه فإنما قال: إن بنيانه لا يقلع ويقر على حاله من أجل أنه جعل سكوته على البنيان مع العلم به كالإذن له فيه، وهو أصل قد اختلف فيه، قوله حسبما ذكرناه في غير ما موضع من هذا الديوان، وكذلك ساوى ابن نافع أيضا بين المسألتين في أن البنيان يقلع ولا يمضي الضرر على من حصل عليه، ووجه ما ذهب إليه أنه رأى حكم السلطان بذلك خطأ منه إذ قد تبين الضرر فبان له أنه قد أخطأ في حكمه ولم ير السكوت بمنزلة الإذن، وقول ابن القاسم أصح لأنه لم يخطئ في وجه الاجتهاد وإنما أخطأ عليه الشهود، ولو أخطأ في وجه الاجتهاد مثل أن يظن أن من حقه أن يبني رحاه في حقه وإن أبطل ذلك رحى غيره لوجب عليه أن ينقض حكمه بذلك قولا واحدا، إذ لم يختلف في أنه ليس له أن يبني رحى في موضع يبطل به رحى غيره، وإنما اختلف هل له ذلك إذا كان لا يبطلها وينقص من طحينها حسبما مضى القول فيه في رسم المكاتب من سماع يحيى، وفي سماع محمد بن خالد وقول ابن وهب في الذي ترك الرجل يبني رحى في موضع يضر برحاه ثم أراد أن يقوم عليه في ذلك أنه ليس له ذلك موافق لقول ابن(10/340)
القاسم في الجواب ومخالف له في العلة، لأنه جعل العلة في ذلك أن النهر موات فمن أنشأ فيه رحى كان كمن أحيا مواتا من الأرض إن تركه حتى عاد إلى حالته الأولى كان لمن أحياه بعده، فجعل تركه إياه يبني رحى في موضع يبطل به رحاه بمنزلة تركه إياه رحاه حتى تبطل، إذ لو ترك رحاه حتى تبطل وتذهب ويعود الموضع إلى حاله قبل أن يبني فيه الرحى لكان لغيره أن يبني في ذلك الموضع بعينه رحى، فكيف فيما قرب منه؟ وهذا إنما يصح فيمن بنى على النهر رحى في موضع لا حق له فيه وإنما هو لجماعة المسلمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه]
مسألة قال: وسمعته يقول: إذا كانت أرض لرجل على أرض رجل وللأسفل موضع رحى في أرضه ليس له موضع ساقية، فيقول لجاره الأعلى: ائذن لي أشق بالنهر في أرضك فأمر الساقية فيها إلى رحائي، فيأذن له وتطحن الرحى، فيريد صاحب الأرض العليا أن يؤخر الساقية عن أرضه فيقول رب الرحى: قد أنفقت النفقات حتى طحنت رحائي، فلما استقامت أردت أن تبطلها علي، فقال: ينظر في ذلك، فإن كان قد وهبها له لم يكن ذلك له، وإن كان إنما أذن له فيها ولا يعرف أهبة أم شراء أم صدقة أحلف رب الأرض [بالله] لما تصدق عليه ولا وهب ولا كان ذلك الإذن منه إلا عارية، فإذا حلف نظر، فإن كان مضى لذلك من الأجل ما يرى أن مثل تلك العارية تكون إلى مثله في مثل ما اعتمره عاملها أخرج له صاحب الرحى وأعطاه رب الأرض قيمة ما أنشأ على(10/341)
تلك الساقية من عمل إن قلع كان له ثمن، وإن لم ينشئ شيئا أكثر من حفر الساقية وإجراء الماء فيها لمنفعته فلا أرى فيها قيمة عمل، وأرى له إخراجه منها، وإن لم يكن سكن مثل الذي يرى أن مثله عمل ذلك العمل إليه ثم أراد إخراجه لم يكن له ذلك حتى يتم أجل مثلها.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الكتب، وقوله فيها إنه إذا لم يعلم على أي وجه أذن له في ذلك إن كان على الهبة أو العارية كان القول قوله مع يمينه أنه إنما أذن له في ذلك على سبيل العارية صحيح لا اختلاف فيه، إذ لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، فإن نكل عن اليمين كان القول قول رب الساقية، وهذا إذا تداعيا في ذلك فقال صاحب الساقية: وهبتني، وقال صاحب الأرض: بل أعرتك، وأما إذا لم يدع صاحب الساقية على صاحب الأرض الإفصاح بالهبة وقال: إنما ظننت أنك تريد الهبة، وعلى ذلك حفرت الساقية، ولو علمت أنك لم ترد الهبة لما حفرتها وأراد أن يحلفه على ذلك لجرى ذلك على الاختلاف في لحوق يمين التهمة. وقوله إنه إذا حلف على العارية ومضى لها من الأجل ما يرى أنه أعاره إياه لم يكن له إلا قيمة نقضه منقوضا إن كان له فيما عمل فيها نقض هو مثل ما له في المدونة خلاف رواية المدنيين عن مالك، وأما قوله إن أراد إخراجه قبل أن يمضي من المدة ما يرى أنه أعاره إليه فليس ذلك له فهو خلاف ما له في كتاب العارية من المدونة لأن الذي له فيها إن له أن يخرجه ويعطيه قيمة بنيانه قائما، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون المخاضة في أرضه فيريد أن ينشئ فيها رحى وذلك الرحى توعر المخاضة]
مسألة وسألته عن الرجل يتخذ في أرضه رحى فيسد النهر حتى إذا انتهى إلى آخر السد إلى البرية عرض له رجل من فوقه جرف فيقول: لا تسد إلى موضع جرفي إني أخاف إذا خنق الماء من(10/342)
أسفل وجاء السيل أن يحفر الجرف فيذهب أرضي، فنظر فيه فوجد ذلك إذا كان السيل ربما احتفر فكان كذلك، وربما نجا فلم يضر بأرضه ولم يحتفر، قال ابن القاسم: لا أرى أن يمنعه بذلك من سد النهر إلى موضع الجرف لأنه قد احتج بضرورة وعساها ألا تنزل أبدا به فيمنع هذا لما يخاف أن يجيء أو لا يجيء من منافعه الحاضرة لشيء لا يدري أيكون أم لا؟ وأرى أن يعمل ولا يمنع، قال: فأما لو نظر إليه أهل البصر بعمل الأرحية والأنهار فقالوا: إنه لا شك [أنه] إن جاء سيل إن كان على صاحب الجرف فذهب بأرضه لرأيت له قلع ذلك السد وكل ما يخشى ضرره في أرضه مما هو آت لا شك فيه، وليس هذا مثل الأول أن يقول: ربما أفسده البنيان أو ربما سلم، هذا لا يمنع من العمل لشيء لا يدري أيكون أم لا يكون؟ وهذا الأمر الآخر [هو] الذي لا أشك فيه ولا يترك وإنشاء الضرر عليه في أرضه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا في هذه المسألة إنه لا يمنع من منافعه الحاضرة لشيء لا يدري هل يكون أم لا صحيح وليس بمعارض على ما ظنه بعض الناس لما وقع في رسم الصبرة من سماع يحيى في الذي تكون المخاضة في أرضه فيريد أن ينشئ فيها رحى وذلك الرحى توعر المخاضة أو تغرقها أنه يمنع من العمل، فإن لم(10/343)
يتيقن الضرر بالمخاضة إلا بعد الفراغ من العمل قيل له: إن الذي يريد من العمل يخاف عاقبته، فإن زعمت أنه غير مضر فاعمل، فإن تبين ضرر عملك أبطلناه عليك ورددنا المخاضة على حالها، فإن شاء أن يعمل على ذلك عمل. والفرق بين المسألتين أن الضرر في مسألة سماع يحيى وإن كان لا يتبين قبل العمل فهو يتبين بعده، فإن تبين بعده قدر على إزاحته، وما يخاف ويتقى في هذه المسألة ليس له حد معلوم إذ لا يتبين بتمام العمل، ولعله لا يقع ولا يقدر على إزاحته أيضا إن وقع، ولا يصح أن يقال للذي يريد العمل اعمل على أنه إن وقع ما يخاف لزمك الضمان، إذ لا يدرى متى يقع إن وقع، ولعله لا يقع إلا بعد موته وبعد انتقال الأملاك، وهذا بين والحمد لله.
[مسألة: وجه المنفعة بالماء السقي]
مسألة وسألته عن النهر الصغير تكون عليه الأرحية والأجنة والكروم والشجر فيسقي بماء ذلك النهر أهل كل قرية شجرهم وأجنتهم والأرحية بعضها فوق بعض إلى آخر النهر والقرى على النهر فيشربون من مائه ويردون عليه بمواشيهم فيقل ماؤه في الصيف من أجل ما كثر عليه من السداد سداد الأرحية فلا يأتي القرى السفلى من الماء ما يسقون به ويردونه بمواشيهم، وربما جفت شجرهم، قال: أرى أن يهدم الوالي تلك السداد إذا علم أن الماء سيأتيهم عامة بهدم السداد ويكون ذلك منفعة للقرى فأرى أن يأمر بخرق السداد إلا أن يخرج من أرض قوم وحوزهم فيكونون أولى بذلك وأحق حتى يفرغوا من حاجتهم، ثم يكون الأسفلون كلهم فيها بالسوية، ثم يقسم أهل كل قرية ماءهم إذا كانوا يحتاجون إليه(10/344)
على قدر ما لهم في القرية، قال: وإن كان لأحدهم شرب معلوم من أهل القرية الأسفلين أعطيه إذا ثبت ذلك له إذا أحقه ببينة عدول أو أمر بين.
قلت: فإن كانوا يردون آبارا لهم وعيونا بمواشيهم وكان نهرهم كما وصفت لك من الأرحية والأجنة والشجر فقل ماء النهر في الصيف أترى أن يخرق تلك السداد ويسقي الناس شجرهم وأجنتهم ويبطل الأرحاء؟ فقال: نعم أرى ذلك إذا كان خرقها يبلغ إليهم ويتمتعون به رأيت ذلك ورأيت ألا يمنعوا منافعهم من ذلك، فإن رأى أن ذلك الخرق في السداد لا ينفعهم ولا يسقون به شيئا لم أر خرق تلك السداد إذ لا ينفعهم ولا يسقون به شيئا. فلا أرى لهم أن يخرقوه.
قال الإمام القاضي: وقعت هذه المسألة في بعض الكتب، وهي مسألة صحيحة بينة لا وجه للقول فيها لأن وجه المنفعة بالماء السقي، فهو مقدم على الطحن، فإذا قل الماء ولم يمكن السقي به إلا بهدم السداد وجب أن تهدم، والله الموفق.
[مسألة: النهر الكبير الذي يكون عليه السواني والأرحية]
مسألة وسألته عن النهر الكبير الذي يكون عليه السواني والأرحية فيكثر ذلك فيقل ماؤه في الصيف فيسد الأعلى رحاه فيحبس الماء ليلة وبعض يوم ثم يرسله فيطحن رحاه ويسقي شجره، ثم يتولاه الذي يليه فيفعل مثل ذلك، فربما بقي الأسفل لا يطحن رحاه أياما يحبس الأعلون الماء عنه، قال: أرى للوالي أن يأمر رجالا أمناء كل قوم بناحيتهم فيمنعون من سد ذلك الماء ولا يدعونهم وذلك، ويرسلونه إذا كان في إرساله للأسفلين في طحينهم(10/345)
وأجنتهم منفعة، قال: فإن لم يكن لهم في ذلك منفعة تركوا وذلك ولم أر أن يمنعوا من منافعها إذا لم يضروا بأحد.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت أيضا في بعض الكتب، وهي بينة لا وجه للقول فيها، والله ولي التوفيق برحمته.
[مسألة: اشترى من رجل حظه في قرية من عامرها وغامرها ولم يعرف حد ما اشترى]
مسألة قال ابن القاسم: من اشترى من رجل حظه في قرية من عامرها وغامرها ولم يعرف حد ما اشترى في تلك القرية [من الشعراء] ولا حد ما يصير للبائع ولا كم جزء ينقسم فلا يجوز الاشتراء وأراه بيعا مفسوخا.
قلت لابن القاسم: فإن كل المشتري قد غرس من تلك الشعراء ما كان يصير لصاحبه أو دونه قليلا؟ قال: أرى ذلك قد فات بعمارته لأنه قد دخلها نماء ويمضي البيع ويقوم الحظ كله العمران والشعراء والدور على المعرفة بها بعد رؤيتها جميعا ويعطى البائع تلك القيمة ويمضي البيع للمشتري.
قلت: فإن كان المشتري عمر من الشعراء الشيء اليسير؟ قال: أرى أن يرد البيع ويفسخ ويعطى هذا قيمة مثله في عمله يوم يحكم فيها، وإنما هو عندي بمنزلة الرجل يشتري دارا بيعا مفسوخا فيهدم منها بيتا أو يبني فيها بيتا فإن ذلك لا يفوت له ردها.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا في بعض الكتب في بعض الروايات وهي صحيحة، قوله فيها: إن البيع فاسد إذا لم يدر قدر ما(10/346)
اشترى كما قال، ومعناه إذا لم يعرف البائع أيضا قدر ما باع، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه لأن البيع لا يجوز إلا أن يكون معلوما في معلوم إذ لا يصح فيه المجهول «لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» ، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع لأنها تنقسم إلى سبعة أقسام، فمن أحب الوقوف عليها وأراد الشفاء منها تأملها في موضعها المذكور، وتفرقته إذا كان البيع في الحظ المشترى فاسدا بين أن يغرس من الشعراء اليسير جدا أو ما له منها قدر وبال صحيح أيضا، وقد مضى بيانه والقول فيه في كتاب جامع البيوع في أول رسم من سماع أشهب منه وفي نوازل أصبغ أيضا فلا معنى لإعادته، والله ولي التوفيق برحمته، وله الحمد كثيرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
انتهى كتاب السداد والأنهار بحمد الله وعونه(10/347)
[: كتاب المديان والتفليس الأول]
[: العبد يستتجره سيده ثم يفلس وعليه دين للناس]
كتاب المديان والتفليس الأول(10/349)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب الرطب باليابس قال ابن القاسم: قال مالك في العبد يستتجره سيده ثم يفلس وعليه دين للناس: إن سيده لا يحاص الغرماء بما كان في يد العبد من المال الذي استتجره به إلا أن يكون أسلفه سلفا أو باعه بيعا فإنه يحاص به الغرماء، فإن باعه بيعا وكتب عليه دينا كثيرا لا يشبه مال العبد فإن الغرماء أولى به إلا أن يكون ارتهن منه رهنا فهو أولى برهنه، وإن كان الذي كتب عليه سيد العبد يشبه مال العبد فهو يحاص الغرماء به، قال سحنون: وإنما يكون أولى بالرهن إلى مبلغ قدر قيمة سلعته وما يشبه أن يكون ثمن سلعته، فأما ما لا يشبه أن يكون ثمن سلعته فلا يكون أولى به إلا بقدر قيمة سلعته، ويسقط الفضل الذي ازداد على قدر قيمة السلعة.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن العبد إذا استتجره سيده ثم(10/351)
فلس وعليه ديون للناس أن سيده لا يحاص الغرماء بما دفع إلى العبد من المال الذي استتجره به ولا فيما أسلفه أو باعه دون محاباة كالأجنبي يحاص الغرماء بما أسلفه وبثمن ما باعه، وإن كان ارتهن منه بذلك رهنا كان أحق به من الغرماء، واختلف إن كان باعه بيعا حاباه فيه العبد على قولين: أحدهما أنه لا يحاص الغرماء بشيء ويبطل جميع دينه، وهو ظاهر هذه الرواية وما في كتاب المأذون له في التجارة من المدونة، والثاني أنه يبطل الزائد على قيمة السلعة ويحاص الغرماء بقيمة سلعته، وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول وإن معنى قوله في هذه الرواية وفي المدونة إن الغرماء أولى به يريد بالزائد على قيمة سلعته وإن له أن يحاصهم بقيمة سلعته، وهو الصحيح في النظر وإن كان ظاهر ما في هذه الرواية وما في المدونة خلافه، واختلف إن كان ارتهن منه رهنا بجميع دينه على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يكون أحق برهنه بجميع ما رهنه به، وهو ظاهر هذه الرواية وما في المدونة، والثاني أنه يكون أحق برهنه إلى قدر قيمة سلعته ويبطل الزائد، وهو قول سحنون، والثالث أن الرهن يفسخ ويكون أسوة الغرماء بقدر قيمة سلعته، وهو قول ابن القاسم من رواية عيسى عنه في سماع ابن القاسم من كتاب الرهون، وقد قيل: إن قول سحنون مفسر لقول ابن القاسم، وهو الصحيح في النظر، فترجع المسألة إلى قولين: أحدهما أنه أولى برهنه إلى مبلغ قيمة سلعته، والثاني أنه لا يكون أولى به ويحاص الغرماء بقيمة سلعته، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا خلع الرجل من ماله لغرمائه فإنه يترك له ما يعيش به هو وأهله]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: وإذا خلع الرجل من ماله لغرمائه فإنه يترك له ما يعيش به هو وأهله، وإن واجر نفسه فكذلك، العتبي: وكذلك قال لي سحنون: يترك له قدر كسوته ولا يترك قدر كسوة امرأته، قال ابن القاسم: أرى أن يترك له ما يكفيه أياما هو وزوجته وولده إن كان ولد صغار، وتترك لبسته إلا(10/352)
أن يكون فيها فضل عن لبسة مثله، وإن كان ما له من ذلك الشيء اليسير الذي لا خطب له ترك له ما يعيش به الأيام.
قال محمد بن رشد: قوله: يترك له ما يعيش به هو وأهله يريد الأيام على ما قاله ابن القاسم وعلى ما في المدونة، وهي العشرة ونحو ذلك، وقال مالك في الواضحة وكتاب ابن المواز قدر الشهر، وليس ذلك عندي باختلاف من القول، وإنما هو على قدر الأحوال وما جرى به العرف من تقوت أهل ذلك المكان، وقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له شيء، وهو قول ابن كنانة ووجه القياس، والأول استحسان، ووجهه أن الغرماء قد علموا أنه ينفق على نفسه وعياله فكأنهم عاملوه على ذلك، وأهله الذين يترك لهم النفقة الأيام أو الشهر على ما ذكرناه من التفصيل في ذلك هم أزواجه وكل من تلزمه النفقة عليه من صغار ولده وأمهات أولاده ومدبراته، ولم ير سحنون أن يترك له قدر كسوة امرأته، وشك مالك في ذلك في المختصر لأنها لا تجب إلا بمعاوضة وبطول الانتفاع بها فيكون ذلك كالنفقة لها بعد المدة المؤقتة، وهذا عندي إنما هو في ابتداء كسوتها، وأما إذا فلس وعلى زوجته كسوة قد كساها إياها لا فضل فيها عن كسوة مثلها وهو قائم الوجه فليس للغرماء أن يستردوها منها قولا واحدا، والله أعلم، لأن الغرماء قد دخلوا معه على ذلك. وقوله في هذه الرواية وإن واجر نفسه فكذلك معناه، وإن واجر نفسه ففضل عن نفقته ونفقة أهله فضل أنه يؤخذ منه وبالله التوفيق.
[مسألة: اكتتب ذكر حق على رجل وأشهد له أنه إذا جاء بذكر الحق فهو براءته]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول فيمن اكتتب ذكر حق على رجل وأشهد له أنه إذا جاء بذكر الحق فهو براءته، فجاء به فادعى أنه سرقه فقال: إذا جاء به ترك واحلف بالله ما اغتلته وبرئ، وذلك مما يجوز بين الناس.(10/353)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه لأنه لما أشهد له أنه إن جاء به فقد برئ فأتى به وجب أن يكون القول قوله مع يمينه إنه لم يأخذه إلا بعد أن أدى ما عليه فيه لا سيما إذا ادعى عليه [فيه] سرقته وهو ممن لا تليق به السرقة، ولو أتى به فادعى أنه قد أدى ما عليه فيه ولم يكن صاحب الحق أشهد له أنه برئ إن أتى به لما برئ بالإتيان به ولكان القول قول الطالب إن ادعى أنه سرق منه أو ضاع له فسقط إليه وما أشبه ذلك، وكذلك على مذهب سحنون إن ادعى عليه أنه سرقه منه، ومعناه عندي إذا كان ممن يليق به ما ادعاه عليه من السرقة، وأما إن ادعى أنه دفعه إليه ليدفع إليه حقه فلم يفعل فيتخرج في ذلك قولان: أحدهما أن القول قول المطلوب، وهو الذي يأتي على ما في رسم العرية من سماع عيسى من هذا الكتاب في مسألة الذي يقوم على رجل بذكر حق ممحو فيقر أنه محاه وظن أنه قضاه، وعلى ما في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون في مسألة الرهن يوجد بيد الراهن فيدعي أنه قد أدى ما عليه فيه، والثاني أن القول قول الطالب إن كان بالقرب على ما في نوازل سحنون من كتاب الرهون، وإشهاده للذي عليه الحق أنه إن جاء بذكر الحق فقد برئ خلاف إشهاده على أنه من جاء به اقتضى ما فيه على ما يأتي له في رسم سن من هذا السماع ورسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبارئ امرأته وهي حامل على أن تكفيه مؤونة رضاع ولدها]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول في شريكين تحاسبا فكتب أحدهما لصاحبه البراءة من أخذ حق قبله ثم جاء بذكر حق قبله لم يقع في أصل البراءة اسمه فادعى صاحب البراءة أنه قد دخل هو وغيره في البراءة، قال: يحلف بالله لقد دخل في حسابنا(10/354)
ويبرأ منه لأن القوم إذا تحاسبوا دخل أشباه هذا بينهم، فلو كان كل من جاء منهم بعد ذلك بذكر حق فيه شهد آخر بما فيه لم يتحاسبوا ليبرأ بعضهم من تباعة بعض.
قال الإمام القاضي: هذا بين لا إشكال فيه ولا اختلاف لأن ذكر الحق الذي قام الطالب به قبل البراءة، وإذا كان قبلها فالقول قول المطلوب أنه قد دخل في البراءة، لأن الحقوق إذا كانت لرجل على رجل بتواريخ مختلفة فالبراءة من شيء منها دليل على البراءة مما قبله، وهذا من نحو قولهم فيمن أكرى دارا مشاهرة أو مساناة إن دفع كراء سنة أو شهر براءة للدافع مما قبل ذلك، ومثل ذلك ما وقع في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك في الذي يبارئ امرأته وهي حامل على أن تكفيه مؤونة رضاع ولدها ثم تطلبه بنفقة الحمل فقال: إنه لا شيء عليه من ذلك لأنه يعرف أنه لم يكن يمنعها الرضاع ويعطيها هذا، وإنما الاختلاف إذا قام بذكر حق فادعى أنه بعد البراءة، وزعم المطلوب أنه قبل البراءة وأنه قد دخل فيها، وفي ذلك ثلاثة أقوال قد مضى تحصيلها في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات، وسيأتي في الرسم الذي بعد هذا من هذا الكتاب، وفي نوازل سحنون ورسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وقبله ودائع للناس وقراض لا يعرف شيء منها بعينه وعليه ديون]
مسألة قال: وسمعت مالكا يقول فيمن هلك وقبله ودائع للناس وقراض، وعليه ديون، فلما هلك لم يوجد عنده شيء من ذلك يعرف ولم يوص، قال: يتحاصون جميعا فيما ترك إلا أن يوصي في مال بعينه فيجوز لمن أوصى له به من قراض أو وديعة لمن لا يتهم عليه، قال ابن القاسم: وأما في الفلس فلا يصدق لأنه لو أقر عند الموت بدين لأجنبي جاز إقراره، ولو أقر به في الفلس لم يجز إقراره.(10/355)
قال محمد بن رشد: قوله فيمن هلك وقبله ودائع للناس وقراض لا يعرف شيء منها بعينه وعليه ديون إنهم يتحاصون جميعا فيما ترك إلا أن يوصي في مال فيجوز لمن أوصى له به من قراض أو وديعة لمن لا يتهم عليه صحيح لا اختلاف في شيء من ذلك كله أعلمه. وأما قوله: إنه لا يصدق في التفليس فيما أقر به من قراض أو وديعة ففي ذلك اختلاف كثير، قيل: إن ذلك جائز يريد مع يمين المقر لهم، وهو أحد قولي مالك في رسم العرية من سماع عيسى، وقيل: إنه لا يجوز، وهو قول ابن القاسم ههنا، وفي آخر كتاب الوصايا الثاني من المدونة، وفي رسم البيع والصرف من سماع أصبغ، وفي رسم الأقضية من سماع أشهب، وقيل: إنه يجوز إن كان على الأصل بينة ولا يجوز إذا لم تكن على الأصل بينة، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقد قيل في رواية أبي زيد: إنها مفسرة لأحد القولين، ولا اختلاف أنه لا يجوز إقراره بعد التفليس بدين لأجنبي ولا لغيره. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من كتاب تضمين الصناع، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأتي علي من مهرها كذا وكذا وله ولد من غيرها أو ولد منها]
مسألة قال: قال مالك: ومن قال: لامرأتي علي من مهرها كذا وكذا، قال: ذلك في مرضه وله ولد من غيرها أو ولد منها لم يتهم أن يولج إليها ذلك دون ولده.
قال محمد بن رشد: قوله: ولد من غيرها أو ولد منها كلام مجمل لأن الولد يقع على الصغير والكبير وعلى الواحد والجميع، وعلى الذكر والأنثى، والحكم في ذلك يختلف، ويختلف أيضا باختلاف حاله معها، فالذي يتحصل عندي في هذه المسألة على منهاج قول مالك وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أن حال الرجل المقر لامرأته معها لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يعلم منه ميل إليها وصبابة بها، والثاني أن يعلم منه(10/356)
الشنآن لها والبغض فيها، والثالث أن يجهل حاله معها ومذهبه فيها، فأما إذا علم منه ميل إليها وصبابة بها فلا يجوز إقراره لها إلا أن يجيز ذلك الورثة، وأما إذا علم منه البغض فيها والشنآن لها فإقراره جائز لها على الورثة، وأما إذا جهل حاله معها في الميل إليها والبغض فيها فلا يخلو أمره من وجهين: أحدهما أن يورث بكلالة، والثاني أن يورث بولد، فإذا ورث بكلالة فلا يجوز إقراره لها، وأما إذا ورث بولد فإن الولد لا يخلو من أن يكونوا إناثا أو ذكورا، صغارا أو كبارا، واحدا أو عددا، منها أو من غيرها، فأما إن كان الولد إناثا يرثنه مع العصبة فسواء كن واحدة أو عددا، صغارا أو كبارا من غيرها أو كبارا منها يتخرج ذلك عندي على قولين: أحدهما أن إقراره جائز، والثاني أنه لا يجوز من اختلافهم في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، فإن كن صغارا منها لم يجز إقراره لها قولا واحدا، وأما إن كان الولد ذكرا وكان واحدا فإقراره لها جائز، صغيرا كان الولد أو كبيرا، منها أو من غيرها، وأما إن كان الولد ذكورا عددا فإقراره لها جائز إلا أن يكون بعضهم صغيرا منها وبعضهم كبيرا من غيرها فلا يجوز إقراره لها، فإن كان الولد الكبير في الموضع الذي ترفع التهمة عن الأب في إقراره لزوجه عاقا له لم ترفع التهمة عنه وبطل الإقرار على ما في سماع أصبغ وإحدى الروايتين في المدونة، وإن كان بعضهم عاقا له وبعضهم بارا به يخرج ذلك على ما ذكرته من الاختلاف في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، وكذلك الحكم سواء في إقرار الزوجة لزوجها، ولا فرق أيضا بين أن يقر أحدهما لصاحبه بدين أو يقر أنه قبض منه ماله عليه من دين، وبالله التوفيق.
[: باع من رجل راويتي زيت بعشرين دينارا فقبض عشرة دنانير وبقي عشرة ففلس]
ومن كتاب قطع الشجر من سماع ابن القاسم قال ابن القاسم: وسئل مالك عمن باع من رجل راويتي زيت بعشرين دينارا فقبض عشرة دنانير وبقي عشرة ففلس(10/357)
المشتري وقد باع راوية وبقيت في يده راوية فأراد البائع أخذها بعينها، قال: أما في هذا الوجه فإني أرى حين اقتضى عشرة أنه قبض نصف ثمن كل راوية، فأرى أن يرد خمسة دنانير نصف ثمن الراوية التي أدرك بعينها، ثم يكون أحق بها من الغرماء، وكذلك أيضا لو باع عشرة روايا زيت بمائة دينار ثم اقتضى خمسين وبقيت له خمسون فأفلس المشتري وقد باعها إلا راوية واحدة فأراد البائع أخذها ولا يدخل الغرماء فيها أنه يرد خمسة دنانير نصف ثمن الراوية هذه التي أدرك، وذلك أنه حين قبض خمسين دينارا فقد اقتضى نصف ثمن كل راوية، فعلى نحو هذا يكون فيما نرى، وما كان من هذا الصنف وما أشبهه من الأعدال التي تباع بالمال العظيم وأثمانها مستوية في جملة واحدة فينتقد بعض الثمن فإنه ما انتقد من الثمن إنما ينتقده من ثمن جميعها إن كان قليلا أو كثيرا، فعلى هذا يحسب إذا نزل مثل هذا الأمر في المفلس، فكل ما كان من هذا النحو فإن الأمر فيه إذا جاءت فيه هذه المنزلة مثل ما وصفنا فيمن وجد ماله بعينه وقد أخذ بعض الثمن وباع بعضا، وقد فسرنا ذلك في موضع غير هذا، فذلك كذلك، قال مالك: إلا أن يشاء الغرماء في الراوية إذا وجدها أن يدفعوا إليه ما بقي من ثمنها ويأخذوها فذلك لهم.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة فيها في المذهب قولان: أحدهما هذا أن العشرة المقبوضة من ثمن الراويتين تفض على ما باع منها المبتاع المفلس وعلى ما وجد قائما بيده، فلا يكون للبائع أن يأخذ الراوية التي(10/358)
أدرك بيد المبتاع إلا أن يرد ما نابها من العشرة المقبوضة كما لو باعها على حدة بعشرة فاقتضى من ثمنها خمسة، والقول الثاني أنه ليس للبائع أن يأخذ الراوية التي وجد إلا أن يرد جميع العشرة التي قبض، فإن أراد ذلك قبض الراوية التي وجد وكان أسوة الغرماء بالعشرة الأخرى التي هي ثمن للراوية الفائتة، وهو قول مالك في الموطأ لأنه قال فيه: فإن قبض من ثمن المتاع شيئا فأحب أن يرده ويقبض ما وجده من متاعه ويكون فيما لم يجد أسوة الغرماء فذلك له، وهذا القول أقيس لأنها صفقة واحدة فلا تبعض، ووجه القول الأول أنه لما افترق حكم ما فات مما لم يفت حكم لكل واحد منهما بحكم ما اشترى على حدة بعد أن يقبض الثمن على الجميع، ويأتي على مذهب الشافعي في هذه المسألة أنه يأخذ الراوية التي أدرك بالعشرة التي بقيت له ولا يرد شيئا، وتكون العشرة التي قبض ثمنا للراوية التي فاتت، وأهل الظاهر يقولون: إنه إذا قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء بجميع ما بقي له منها، ولا يكون له حق في أخذ شيء مما أدرك بدليل قوله في الحديث: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به» . وقوله في آخر المسألة قال مالك: إلا أن يشاء الغرماء في الراوية التي وجدها أن يدفعوا إليه ما بقي من ثمنها ويأخذوها فذلك لهم صحيح على قياس قوله في أول المسألة، يريد ويضرب بما بقي من دينه معهم، ويأتي على ما في الموطأ أن ذلك ليس لهم حتى يدفعوا إليه جميع دينه، وهو نص قول مالك في رواية ابن وهب عنه، ولو جد الراويتين جميعا وقد قبض بعض ثمنهما كان مخيرا بين أن يسلفهما ويكون أسوة الغرماء بما بقي له وبين أن يرد ما قبض ويكون أحق بهما قولا واحدا في المذهب خلافا لأهل الظاهر في أنه أسوة الغرماء ولا خيار له، وخلافا للشافعي في أنه يكون له من الراويتين بحساب ما بقي له من الثمن، وبالله التوفيق.(10/359)
[مسألة: له على رجل دين فقضاه واكتتب منه براءة]
مسألة وسئل عمن كان له على رجل دين فقضاه واكتتب منه براءة فيها: وهو آخر حق كان له عليه فيأتيه بعد ذلك بذكر حق لا يعلم أكان قبل البراءة أو بعدها، قال: أرى براءته من ذلك أن يحلف لقد دخل هذا الذكر حق في هذه البراءة ويبرأ من ذلك، ولعله أن يأتي عليه بذلك بعد موته فلا يكون ذلك له.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الطالب أتى بذكر حق أشكل إن كان قبل البراءة أو بعدها إما لكونهما مؤرخين بشهر واحد أو عاريين من التاريخ أو أحدهما فلا يعلم المتقدم من المتأخر منهما، ووقع قوله فيها لا يعلم أكان قبل البراءة أو بعده معرى من الضبط، فإن كان أراد أن الطالب لا يعلم إن كان ذكر الحق الذي قام به قبل البراءة أو بعدها فإيجابه اليمين على المطلوب لقد دخل هذا الذكر حق في هذه البراءة مختلف فيه لأنها يمين تهمة من غير تحقيق دعوى، فيجري على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة وصرفها؛ وإن كان أراد أن الطالب ادعى أن ذكر حقه الذي قام به بعد البراءة وحقق الدعوى بذلك ولم يعلم صحة قوله لالتباس التواريخ فلا اختلاف ولا إشكال في لحوق اليمين في ذلك ولا في وجوب صرفها، إلا أنه اختلف هل يكون القول قول الطالب أو قول المطلوب على ما ذكرناه من الاختلاف في الرسم الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: العروض تكون مختلفة فيبيعها في صفة واحدة ويقبض بعض ثمنها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الأثمان إذا كانت مختلفة أو العروض تكون مختلفة فيبيعها في صفة واحدة ويقبض بعض ثمنها ثم(10/360)
يفلس مشتريها قبل أن يقبض بقيته، قال: يقوم ثم يفض الثمن عليها ثم ينظر إلى ما اقتضى فيوضع على كل سلعة قدر ما يصيبها في المحاصة من قدر الثمن، فإن شاء الغرماء أن يتموا له بقية ثمن السلعة التي وجد على قدر المحاصة كان ذلك لهم، وإن أبوا وشاء البائع أخذها رد بقدر ما اقتضى من ثمنها وأخذ. سلعته، وتفسير ذلك أن يبيع ثلاثة أرؤس بمائة دينار ويقبض من الثمن ثلاثين دينارا ثم يفلس ويكون قيمة العبيد أحدهم نصف الثمن، والآخر ثلاثة أعشار الثمن، والآخر عشري الثمن، فيقسم الثلاثين على قيمة العبيد فيكون لصاحب النصف خمسة عشر، ولصاحب الثلاثة أعشار تسعة دنانير، ولصاحب العشرين ما بقي، فما فات منهم كان له في مال الغريم بقية ثمنه يحاص به الغرماء، إن فات الذي قيمته نصف المائة كان قد اقتضى من ثمنه خمسة عشر وبقي له من ثمنه خمسة وثلاثون يحاص به الغرماء، وإن أدركه فأراد أخذه رد مما قبض خمسة عشر دينارا واحدة إلا أن يرغب الغرماء في حبسه فيعطوه خمسة وثلاثين دينارا تمام الثمن، وكذلك إن أدرك صاحب العشرين فكان قد اقتضى من ثمنه ستة دنانير وبقي له من ثمنه أربعة عشر، وإن أدرك صاحب الثلاثة أعشار كان قد اقتضى من ثمنه تسعة دنانير وبقي له من ثمنه أحد وعشرون، فعلى ما فسرت لك يكون الأمر فيهم، وإن أراد الغرماء أن يأخذوه أعطوه بقية الثمن على ما فسرت لك الغرماء يخيرون عليه.
قال الإمام القاضي: هذه المسألة حقها أن تكون متصلة بالمسألة الأولى من الرسم لأنها معطوفة عليها لأنها في المعنى مثلها، إذ لا فرق [في المعنى] بينهما إلا في فض الثمن على ما فات منها، وما بقي فهو(10/361)
يفض في المسألة الأولى على العدد لاستواء المكيل والموزون في الصفة والقيمة، وفي هذه على القيم لاختلاف العروض في الصفة والقيمة، فيدخل فيها من الاختلاف ما ذكرناه في المسألة الأولى، ولا معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: أنفق من مال يتيمه في صنيع يصنعه له]
مسألة وقال فيمن ولي يتيما فزوجه أو ختنه فأنفق في ذلك [من ماله] نفقة عظيمة ودعا لعابين وجعل لهم من ماله جعلا، قال مالك: كل ما أنفق من ماله في باطل فعليه غرم ذلك، وما أنفق في وليمته من نفقة في صنيع معروف بغير سرف فليس بذلك بأس ولا بأس على من دعي إليه أن يأكل منه.
قال محمد بن رشد: ساوى في ظاهر قوله بين التزويج والختان في أنه لا ضمان عليه فيما أنفق من مال يتيمه في صنيع يصنعه له في ذلك بغير سرف، وهو في التزويج أبين، لأن الوليمة فيه حق، وقد أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها، فهي مندوب إليها، ومحضوض عليها، ومن أهل العلم من أوجبها بظاهر الأمر بها، والدعوة في الختان ليست بواجبة عند أحد من أهل العلم ولا بمستحبة، وإنما هي من قبل الجائز الذي لا يكره تركه، ولا يستحب فعله، فالوجه في إسقاط الضمان في ذلك عن الوصي ما جرى من العرف والعادة بفعل أهل الثروة ذلك حتى صار ترك ذلك عندهم لوما. وأما ما أنفق من ماله في لعب ولهو فلا إشكال في أنه لذلك ضامن كما ذكر، وبالله التوفيق.
[مسألة: الخراج بالضمان]
مسألة وقال مالك في الرجل يوصي إلى رجل بولده ويترك ثلاثمائة(10/362)
دينار ويأمر الوصي أن يتجر لهم فيها فيتجر لهم فيها الوصي فتصير ستمائة دينار ثم يأتي دين على الميت ألف دينار، قال: أرى أن تؤخذ الستمائة دينار كلها في الدين، وذلك أن الثلاثمائة دينار لو أنفقها الوصي على الورثة لم يضمنها له الوصي ولم يضمنها له الورثة المولى عليهم، ولو كان الورثة كبارا كلهم لا يولى عليهم لم يستخلف عليهم وليس مثلهم يولى عليهم باعوا مال الميت ثم تجروا بما نض في أيديهم من المال لم يكن عليهم إلا ما كان نض في أيديهم، ولهم نماؤه وعليهم نقصانه، وكذلك ما غابوا عليه من العين، وأما الحيوان الذي ورثوا مما تلف فإنه ليس عليهم ضمان ما مات من ذلك إذا مات بأيديهم، قال ابن القاسم: أخبرني بهذه المسألة من أثق به عن مالك ولم أسمعها أنا منه.
قال محمد بن رشد: قوله وذلك أن الثلاثمائة دينار لو أنفقها الوصي على الورثة لم يضمنها الوصي ولم يضمنها الورثة المولى عليهم هو نص قول مالك في النكاح الثاني من المدونة خلاف قول المخزومي فيه، وإنما قال: إن الستمائة دينار كلها تؤخذ في الدين لأن ربح المال تابع للضمان فيه لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخراج بالضمان» فلما كان عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضمان الثلاثمائة دينار من الغريم الذي أحيا الدين على الميت تلفت في يد الموصى الذي يتجر بها أو أنفقها على يتيمه وجب أن يكون الربح له، والمخزومي يرى أن الربح للأيتام والضمان عليهم، وسواء كان الذي ترك المتوفى ناضا أو عروضا فباعها الوصي وتجر فيها للأيتام، وفرق ابن الماجشون بين العين والعروض فقال في العين كقول ابن القاسم وفي(10/363)
العروض إذا باعها الوصي كقول المخزومي، وهذا إذا لم يعلم الوصي بالدين الطارئ، وأما إذا علم به فتجر في المال فهو كالمتعدي في الوديعة يتجر بها فيكون الربح فيها له والضمان عليه، واختلافهم في هذه المسألة مبني على اختلافهم في الدين الطارئ على الميت هل هو متعين في عين التركة أو واجب في ذمة الميت، فمن قال إنه متعين في عين التركة لأن الميت لا ذمة له إذ قد [. . . . . . . . . . . .] قد جعل الربح للغرماء لأن المال قد تعين لهم، ومن قال إنه واجب في الذمة إذ قد يطرأ له مال لم يعلم به فيكون دينهم فيه إن تلف هذا المال جعل الربح للأيتام، والله الموفق.
[: يأخذ الأم ويحاص الغرماء بما وصل إليه من ثمن الولد]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل عن الرجل يبيع الرمكة من الرجل بثمن إلى أجل فيأخذها المشتري فينزي عليها فتنتج عنده فيبيع نتاجها ثم يفلس فيجد البائع رمكته فيقول: أنا أريد أن آخذ رمكتي وأحسب عليهم يريد الغرماء ما باع من نتاجها، وقال الآخرون له: لا ولكن إن شئت فخذها بجميع مالك وإلا فدعها وقاضنا، فتفكر فيها طويلا ثم قال: أريتك لو باع عبدا فاستغله؟ ثم قال: أريتك لو باع منها بأكثر من ثمنها مثل أن يكون ابتاعها بعشرين ثم باع منها بثلاثين دينارا بأي شيء يريد أن يرجع؟ ثم قال: ما أرى له شيئا إلا أن يأخذها بجميع ماله الذي باعها به أو يتركها ويحاص الغرماء.(10/364)
قال محمد بن رشد: حكم للولد في هذه المسألة بحكم الغلة إذ قال: إنه [إذا] باع نتاجها ثم فلس أنه ليس للبائع إلا أن يأخذها بجميع ماله الذي باعها به، أو يتركها ويحاص الغرماء، وقد اختلف في ذلك فقيل: إنه يأخذها بما يقع عليها من الثمن، وذلك بأن يفض على قيمتها يوم وقع البيع وعلى قيمة الولد يوم بيعوا ويحاص الغرماء بما يقع على الأولاد منه، وقيل فيه أيضا: إنه يأخذ الأم ويحاص الغرماء بما وصل إليه من ثمن الولد، وهذا القول هو الذي أنكره في هذه الرواية، وأما إذا باع الأمهات وأدرك الأولاد فقيل: إنه يأخذهم بما ينوبهم من الثمن إذا فض على قيمة الأم يوم وقع البيع فيها وعلى قيمة الأولاد يوم بيعوا ويحاص الغرماء بما ناب الأم منه، وهو قول ابن القاسم في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى بعد هذا، ووقع فيه لمالك أن الأم تقوم فيحاص الغرماء بقيمتها ويأخذ الولد، وهو غلط، والله أعلم، فقد رأيت في بعض الكتب أخذ الولد بما يصيبهم من الثمن وحاص الغرماء بما يصيب الأم من الثمن مثل قول ابن القاسم، وهو الصحيح. وأما إذا مات الولد أو الأم فلا اختلاف في أنه ليس له أن يأخذ إلا الباقي منها بجميع الثمن أو يتركه ويحاص الغرماء، فهذا هو تحصيل القول في هذه المسألة.
[مسألة: إسقاط الحق قبل وجوبه]
مسألة وسئل عن رجل صالح رجلا على دراهم كانت له عليه على أن يدفع إليه خمسة دراهم كل شهر وليس للذي عليه الحق أن يستحلف طالب الحق إن ادعى أنه دفع إليه شيئا لم يأت ببينة عليه، قال مالك: هذا الشرط غير جائز، وإن قيم عليه حلف، ولا ينفعه ما كتب في شرطه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة كان الشيوخ يحملونها على(10/365)
الخلاف لما في آخر الرسم الأول من سماع أشهب من كتاب العيوب من إعماله الشرط فيه بإسقاط اليمين، ولما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات من تفرقته في ذلك بين المأمون وغير المأمون، وبين الذي يبيع لنفسه ولغيره، فيحصلون من ذلك في المسألة ثلاثة أقوال: إعمال الشرط، وإبطاله، والتفرقة بين المأمون والذي يبيع لغيره، وبين الذي ليس بمأمون ويبيع لنفسه، والذي أقول به إنها ليست بخلاف لذلك؛ لأن المعنى فيها مختلف: تلك أسقط اليمين فيها إن كانت قد وجبت قبل أن يعلم بوجوبها، وهذه أسقط اليمين فيها قبل وجوبها، فلا يدخل الاختلاف فيها إلا بالمعنى من أجل أن إسقاط الحق قبل وجوبه أصل مختلف فيه في المذهب لا من هذه المسائل، وقد مضى بيان هذا مستوفى في سماع أشهب من كتاب العيوب، فقف على ذلك هناك وتدبره، وبالله التوفيق.
[: تكارى من رجل على محامل كراء مضمونا فلم يحمله حتى هلك المكاري]
ومن كتاب القبلة وسئل مالك عن رجل تكارى من رجل على محامل أو أحمال كراء مضمونا فلم يحمله حتى هلك المكاري وعليه للناس دين، قال: يكون المتكاري أسوة الغرماء يحاصهم بقدرها كما لو أن رجلا سلف في سلعة موصوفة يضمنها البائع للمشتري ثم مات البائع معدما وترك ديونا حاص المبتاع الغرماء في تركة البائع بقيمة السلعة يوم تكون المحاصة والقضاء حتى يصير له نصف سلعته إن كان يصير للغرماء نصف حقوقهم، وثلثها إن صار لهم ثلث حقوقهم، ولا يدفع إليه ذلك ثمنا، ولكن يشتري له من تلك السلعة على شرطه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقوله يحاصهم بقدرها يريد بقيمة الركوب معجلا لا إلى أجل إن كان مؤجلا كما تكون المحاصة بالسلع الثابتة في الذمة إلى أجل بقيمتها حالة يوم تكون المحاصة(10/366)
والقضاء، هذا قول مالك في هذه الرواية، ومثله في سماع أصبغ بعد هذا خلاف قول سحنون إنه يحاص له بقيمة ذلك إلى أجله فما صار له في المحاصة بقيمة الكراء لا يقضيه ولكن يكتري له به إلى الجهة التي يريد السير إليها، ولا يجوز له أن يأخذ ما وقع له في المحاصة على أن يتبع المكري ببقية حقه لأن ذلك رباء وقيل: إن ذلك جائز لأن التفليس يرفع التهمة، ولو أراد أن يأخذ ذلك بجميع حقه لجاز إن كان ذلك مثل رأس ماله فأقل برضى المكتري لأنه إقالة، ومعنى المسألة أنه لم يقبض الجمال ولا ركب، ولو قبض أو حمل عليها لكان أولى بها، وبالله التوفيق.
[: الرجل يرهقه الدين فيقوم غرماؤه عليه فيمكنهم من ماله]
ومن كتاب شك وسئل مالك عن الرجل يرهقه الدين فيقوم غرماؤه عليه فيمكنهم من ماله فيبيعونه ويقتسمونه ولا يأتون السلطان، ثم يداينه آخرون فيريدون أن يدخلوا عليهم فيما في أيديهم، قال: ليس ذلك لهم، وأرى إذا بلغوا هذا أن يكون مثل من جاء إلى السلطان، وأرى الآخرين فيه أسوة، وإنما يكون الآخرون أولى من الأولين إذا كان ذلك من كسبه.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان ذلك من كسبه يريد إذا كان ذلك مما اكتسبه بالتجارة من أموال الغرماء الآخرين لأن ما اكتسبه ببدنه من إجارة أو عمل صناعة فالأولون يدخلون فيه مع الآخرين، وقوله: إن تفليس غرمائه إياه فيما بينهم دون السلطان تفليس بمنزلة تفليس السلطان هو مثل ما في سماع أصبغ وأبي زيد بخلاف إذا قاموا عليه فلم يجدوا عنده شيئا، وبالله تعالى التوفيق.(10/367)
[: ما يجوز للورثة من المصالحة إذا ترك المتوفى مالا يفي بديون الغرماء]
ومن كتاب ليرفعن أمرا وسئل مالك عن رجل هلك وعليه دين فقال ابنه لغرمائه: من أراد منكم أن أصالحه على النصف ويكون أبي في سعة فعلت، ففعلوا، أترى أباه قد برئ من الدين وأنه من ذلك في حل؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا كلام، لأن المعنى فيها أن الميت لم يترك مالا فسواء صدقه الغرماء [في] أنه لم يترك مالا أو كذبوه، لأنهم إن صدقوه وقع الصلح على التحليل [خاصة] وإن كذبوه وقع على التحليل وعلى إسقاط اليمين، وإن جاء غريم آخر لم يعلم به لم يلزمه أن يصالحه كما صالح الأولين، ولم يكن له عليه إلا اليمين، ولا كان من حقه أن يدخل على الأولين فيما صالحوا به، وسيأتي في الرسم الذي بعد هذا، وفي رسم يسلف، ورسم البيوع من سماع أشهب القول فيما يجوز للورثة من المصالحة إذا ترك المتوفى مالا يفي بديون الغرماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: تقرعند الموت بصداق كان على زوجها أنها قبضته منه]
مسألة وسئل مالك عن المرأة تقر عند الموت بصداق كان على زوجها أنها قبضته منه أتصدق في ذلك؟ قال: هذه وجوه تختلف، أما كل امرأة يكون لها أولاد قد كبروا وقد يكون بينها وبينه غير الحسن فهذه لا تتهم أن تكون ولجت ذلك إليه، وأرى أن تصدق في ذلك، وأما المرأة التي لا ولد لها ومثلها يتهم فلا أرى ذلك(10/368)
بجائز، ومثل ذلك الرجل يقر بالدين للرجل، فلو أقر لولد أو لأخ أو لأب أو لمن يتهم أن يصنع ذلك له لانقطاعه إليه من الرجال أو غيرهم لم أر أن يجوز ذلك إليه ولو كان لمن لا يتهم عليه مثل التجار الذين يعرفوا أنهم لم يكن بينهم من الأمور الذين لا يتهمونه على شيء رأيت ذلك جائزا، قال سحنون: وقد يتهم أيضا في صديق ملاطف إذا كان ورثته عصبة.
قال الإمام القاضي: قد مضى في آخر أول رسم من السماع تحصيل القول في إقرار أحد الزوجين لصاحبه بدين في المرض، فلا معنى لإعادته، وأما إقرار من سوى أحدهما لصاحبه بدين في المرض فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها أن يقر لوارث، والثاني أن يقر لقريب غير وارث أو صديق ملاطف، والثالث أن يقر لأجنبي، والرابع أن يقر لمن لا يعرف، فأما إذا أقر لوارث والمقر له من الورثة في القرب من المقر بمنزلة من لم يقر له منهم مثل أن يقر لأحد ولده أو لأحد إخوته أو لأحد بني عمه الوارثين له وما أشبه ذلك، أو أقرب منهم مثل أن يقر لابنته وله عصبة أو لأخ شقيق وله أخ لأم أو لأمه وله أخ شقيق، أو لأب أو لأم أو عم أو ابن عم، فإن هذا لا اختلاف في أن إقراره له لا يجوز. قال في كتاب ابن المواز: إذا لم يكن لذلك وجه أو سبب يدل على صدقه وإن لم يكن قاطعا إلا أن يكون المقر له عاقا والذي لم يقر [له] بارا به فقيل: إن إقراره له جائز كالزوجة إذا أقر لها وقد عرف الشنآن والبغض منه لها، وقيل: إن إقراره له غير جائز بخلاف الزوجة على اختلاف الرواية في ذلك(10/369)
في المدونة، وأما إذا أقر لوارث والمقر له من الورثة أبعد من المقر ممن لم يقر له منهم، مثل أن يقر لعصبة وله ابنة أو لأخ لأم وله أخ شقيق، أو لأخ شقيق أو لأب أو لأم وله أم فإن هذا لا اختلاف في أن إقراره له جائز، واختلف إن كان من لم يقر له من ورثته بعضهم أقرب إليه من المقر له وبعضهم بمنزلته مثل أن يقر لبعض إخوته أو عصبته وله ابنة، أو لبعض بني عمه وله أخت، أو كان من لم يقر له منهم بعضهم أقرب إليه من المقر له وبعضهم أبعد منه، مثل أن يقر لأمه وله ابنة وأخ أو أخت أو ما أشبه ذلك على قولين: أحدهما أن إقراره جائز لأنه لا يتهم على ابنته للعصبة، ولا على ابنته لأمه، والثاني أن إقراره لا يجوز لأنه يتهم على بعض العصبة لبعض وعلى أمه لأخيه أو لأخته، لأنه إذا أقر لبعض العصبة وله ابنة فقد أخذ من الابنة ومن بعض العصبة أو أعطى بعض العصبة، فمرة رأى إقراره جائزا لأنه لا يتهم في أن ينتقص الابنة، ومرة رأى إقراره غير جائز لأنه رأى أن ينتقص بعض العصبة دون بعض. وأما إذا أقر لقريب غير وارث أو صديق ملاطف فالمشهور في المذهب أن إقراره يجوز إن كان يورث بولد، ولا يجوز إن كان يورث بكلالة، وهو قول سحنون هذا، وقيل: إن إقراره جائز كان يورث بكلالة أو ولد، والقولان في المدونة على ما وقع من اختلاف الرواية في كتاب الكفالة منها، وقد قيل: إن كان يورث بولد جاز إقراره من رأس المال، وإن كان يورث بكلالة جاز من الثلث وهذا على ما في كتاب المكاتب من المدونة، وقيل: إن إقراره لا يجوز كان يورث بكلالة أو ولد، وهذا على ما في كتاب أمهات الأولاد من المدونة في الذي يقر في أمة أنها ولدت منه ولا ولد معها. وأما إذا أقر لأجنبي فلا اختلاف في أن إقراره له جائز، فإن طلب ولم يوجد تصدق بها عنه كاللقطة بعد التعريف على ما قاله في رسم اغتسل من هذا الكتاب ومن كتاب الوصايا. وأما إذا أقر لمن لا يعرف فإن كان يورث بولد جاز إقراره من رأس(10/370)
المال أوصى بأن يتصدق به عنهم أو يوقف لهم، واختلف إن كان يورث بكلالة فقيل: إنه إن أوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي لذلك طالب فذلك جائز من رأس المال، وإن أوصى أن يتصدق به عنهم لم يقبل قوله ولا يخرج من رأس المال ولا من الثلث، قال هذا في رسم إن خرجت من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، وقيل: إنه يكون من الثلث، وهذا القول قائم من كتاب المكاتب من المدونة، وقيل: إنه إن كان يسيرا جاز من رأس المال، وإن كان كثيرا لم يكن في رأس المال ولا في الثلث، وقعت هذه التفرقة في أول سماع عيسى من كتاب الوصايا، وبالله التوفيق.
[مسألة: فلس العبد وفي يده مال لسيده]
مسألة وقال مالك: إذا فلس العبد وفي يده مال لسيده لم يؤخذ منه إلا أن يكون استتجره به، فإن كان استتجره به أخذ منه وما كان له من مال، لم يلحق رقبته من ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا فلس العبد وفي يده مال لسيده لم يؤخذ منه، يريد أنه لا يؤخذ منه للغرماء، ويكون السيد أولى به، وهذا إذا قامت عليه بينة، وأما إن لم يعرف ذلك إلا بإقرار العبد له فلا يجوز، وإن قامت عليه وفيه محاباة فقد مضى الاختلاف في ذلك في أول رسم من السماع، فلا معنى لإعادته. وقوله: فإن كان استتجره به أخذ منه وما كان له من مالا يريد أنه يؤخذ ذلك منه للغرماء فيتحاصون فيه، ولا يضرب السيد معهم فيه به على ما مضى في أول السماع، ولا اختلاف في ذلك. وقوله: إنه لا يكون في رقبته شيء من ذلك صحيح لا اختلاف فيه لأنه دين(10/371)
من الديون فهو في ذمته بخلاف الجنايات التي تكون في رقبته، وبالله التوفيق.
[: هلك وترك عليه ثلاثة آلاف دينار ولم يترك من المال إلا ألف دينار]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا وسئل مالك عن رجل هلك وترك عليه ثلاثة آلاف دينار ولم يترك من المال إلا ألف دينار، ولم يترك وارثا إلا ابنا له، فيقول ابنه لغرمائه: خلوا بيني وبين هذا الألف دينار التي ترك أبي وأنظروني بدين أبي سنتين وأنا ضامن لكم جميع دين أبي، قال: أرأيت إن كان معه وارث غيره وترك مالا لا يعرف أفيه وفاء أم لا؟ . قلت له: قد سمعت منك قولا، قال: فما هو؟ قلت له: إن كان فيه فضل كان بينه وبين ورثته على فرائض الله فلا بأس به، وإن كان فيه فضل كان له بما ضمن من النقصان فلا خير فيه، قال: نعم، قلت له: إنما أردت منك أنه وارث وحده ولم يترك إلا ألف دينار، وعلى أبيه ثلاثة آلاف، فسأل الغرماء أن يؤخروه في الأجل على أن يضمن لهم ما نقص من المال، فقال: أما مثل هذا فلا بأس به، وقد بلغني عن ابن هرمز مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة إنها مسألة ردية لولا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبع فيها ابن هرمز ما أجازها لأنه أخذ عينا ليعطي إلى أجل أكثر منه، ولأنه ضمن ما على أبيه من دين، وذلك مجهول لا يدري ما يطرأ على والده من دين، فلو قدم غريم لم يعلم به للزمه أن يدفع إليه، ولو اشترط ألا أودي إلا دين من حضر لم يجز لأن الغائب إذا قدم أخذ حصته منه بالحق، فكله مجهول، وكله غرر. وقول ابن دحون هذا غير صحيح، إذ لا يصح أن يتأول على مالك ولا على غيره من أهل العلم أنه أجاز هذه المسألة اتباعا لابن هرمز وهو يرى أنه كمن أخذ عينا ليعطي إلى أجل أكثر منه، وليضمن ما يطرأ على المتوفى من(10/372)
دين، وهو مجهول، إذ لا يجوز عند أحد من العلماء أن يقلد العالم العالم فيما يرى باجتهاده أنه خطأ، وإنما اختلفوا هل له أن يترك النظر في نازلة إذا وقعت ويقلد من قد نظر فيها واجتهد أم لا؟ ومذهب مالك الذي تدل عليه مسائله أن ذلك لا يجوز، فلم يتابع مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة ابن هرمز على قوله دون نظر، بل رآها جائزة لا بأس بها بنظره، وحكى ما بلغه عن ابن هرمز من إجازتها استظهارا لصحة نظره، واحتجاجا على من خالفه فيه، والوجه في ذلك أن الألف دينار التي ترك المتوفى لم تدخل بعد في ضمان الغرماء فيكونوا قد دفعوها في أكثر منها إلى أجل بدليل أنها لو تلفت ثم طرأ للميت مال لكانت ديونهم فيه، وكانت مصيبة الألف من الوارث، فلما كانت الألف باقية على ملك المتوفى جاز أن يحل الوارث فيها محله ويعمل مع الغرماء فيها ما كان يجوز له أن يعمله معهم لو كان حيا، ألا ترى أنه لو فلس فلم يوجد له إلا ألف دينار وللغرماء عليه ثلاثة آلاف دينار لجاز أن يتركوا له الألف ويؤخروه بحقوقهم حتى يتجر بها ويوفيهم حقوقهم، ولم يكونوا إذا فعلوا ذلك قد أعطوا ألفا في أكثر منها إلى أجل وإن كانوا قد ملكوا أخذ الألف إذ لم يحصل بعد في ضمانهم، فكذلك حالهم مع الوارث لأنه إذا رضي بذلك فقد أنزل نفسه منزلته، وكأنه أحيا ذمته وأبقاها، فهذا هو الذي ذهب إليه مالك، والذي يدل على ذلك من إرادته أنه لم يجز ذلك لأحد الورثة إذا كانوا جماعة إلا على أن يكون الفضل بينهم، لأن تجارته في الألف التي تركها الغرماء في يده إنما هي على ملك المتوفى، فهذا وجه قول مالك في هذه المسألة، والله أعلم، وسيأتي في رسم البيوع من سماع أشهب مسألة من هذا المعنى سنتكلم عليها إن شاء الله، وبه التوفيق.
[مسألة: يتيم كان له مال عند رجل فاستهلكه وأفلس الرجل]
مسألة وسئل عن يتيم كان له مال عند رجل فاستهلكه وأفلس الرجل أترى أن يبدأ اليتيم؟ قال: بل أراه أسوة الغرماء.(10/373)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن مال اليتيم إذا استهلكه صار دينا من الديون في ذمته، لا مزية له على سائر الديون، فوجب أن يكون أسوة الغرماء، ولا خلاف في هذا أعلمه عند أحد من العلماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا صالحه وهو لا يعرف أن له بينة فله أن يقوم عليه ببقية حقه إذا وجد بينته]
مسألة وسئل عن رجل كان له على رجل ذكر حق فضاع كتابه منه ونسي شهوده فاقتضاه فجحده بعض الحق وقال: ما لك علي إلا مائة دينار، وقال الآخر: بل لي عليك مائتا دينار ولكن قد ضاع كتابي وما أحفظ ما أشهدت عليك فيه فيصالحه على أن يزيده على المائة ويحط عنه من المائتين، ثم يجد بعد ذلك كتابه وفيه أسماء شهوده فيقوم بذلك، أترى أن له عليه نقض ما كان صالحه عليه؟ قال: إذا عرف هذا من قوله فإني أرى ذلك عليه، وأرى أن يغرم له بقية حقه.
قال محمد بن رشد: قوله إذا عرف هذا من قوله يريد إذا عرف من قوله قبل الصلح أن له ذكر حق قد ضاع منه وما يعرف شهوده، ففي هذا دليل على أنه إن لم يعرف ذلك من قوله فلا قيام له عليه في نقض الصلح، وذلك خلاف ما في كتاب الصلح من المدونة أنه إذا صالحه وهو لا يعرف أن له بينة فله أن يقوم عليه ببقية حقه إذا وجد بينته مثل ما في كتاب الجدار لمالك أنه إذا صالحه وهو جاهل ببينته أنه لا حق له، وقد يحتمل أن يكون معنى قوله: إنه إذا عرف هذا من قوله رجع ببقية حقه دون يمين، وإن لم يعرف ذلك من قوله لم يكن له أن يرجع عليه إلا بعد يمينه أنه إنما صالحه وكتابه قد ضاع وهو لا يعرف شهوده، فلا يكون على هذا(10/374)
التأويل في هذه الرواية دليل على خلاف ما في المدونة بل يكون مفسرا له في إيجاب اليمين، وقد فرق في كتاب الجدار بين المسألتين، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه إذا صالحه فلا رجوع له عليه بوجود ذكر حقه، ولا بعثوره على بينة لم يعلم بها، والثاني أن له الرجوع عليه في الوجهين، والثالث أنه يرجع عليه إن وجد ذكر حقه ولا يرجع عليه إن عثر على بينة لم يكن علم بها. وقد يحتمل أن يقال في هذه الرواية على ظاهرها: إنها ليست بخلاف لما في المدونة وإنما فرق بين المسألتين، فتأتي على هذا التأويل وهو تأويل ظاهر. وفي المسألة قول رابع وهي التفرقة بعكس ما في كتاب الجدار، ولا اختلاف في أنه إذا صالحه ثم أقر له بحقه أن له الرجوع عليه، ولا في أنه إذا صالحه وله بينة غائبة قريبة الغيبة يعلم بها أنه لا رجوع له عليه إذا قدمت بينته، واختلف إذا كانت بعيدة الغيبة فاستحلفه أو صالحه فلما قدمت بينته أراد القيام بها عليه على ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا قيام له عليه في الوجهين، والثاني أن له القيام عليه في الوجهين، والثالث أنه له أن يقوم عليه إذا استحلفه وليس له أن يقوم عليه إذا صالحه، وهذا القول هو مذهب ما في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له على الرجل الحق فيغيب شهوده ثم يطلبه فيجحده أياما]
مسألة وسئل عن الرجل يكون له على الرجل الحق فيغيب شهوده ثم يطلبه فيجحده أياما ثم يدعوه إلى الصلح فيشهد في السر ويقول: إني إنما أصالحه لأنه جحدني وأخاف أن يذهب بحقي ولكن أصالحه فإذا حضر شهودي قمت على حقي، أفترى له ذلك؟ فقال: ما له تعجل يصالحه ثم يجيء يطلب هذا ويقول إنما أردت كذا وكذا؟ فكأنه لم يرد ذلك له، ورأى الصلح(10/375)
جائزا عليه فيما رأيت من تحسين قوله، قال ابن القاسم: وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: لم يفرق في هذه الرواية بين أن يكون مغيب شهوده قريبا أو بعيدا، فالظاهر فيها أنه لا ينتفع بالإشهاد في السر وإن كانت غيبته بعيدة جدا خلاف ما في نوازل أصبغ من كتاب الدعوى والصلح أنه ينتفع بالإشهاد إن كانت غيبة شهوده بعيدة جدا، ويحتمل أن تتأول هذه الرواية على أن غيبة الشهود فيها ليست ببعيدة فلا يكون في المسألة اختلاف، وهو الأولى، ولا احتمال في أنه لا ينتفع بالإشهاد في السر إذا كانت بينته قريبة الغيبة، وبالله التوفيق.
[: يهلك ويترك عرضا وعليه دين أكثر من عرضه]
ومن كتاب يسلف في المتاع وقال ابن القاسم: قال مالك في الرجل يهلك ويترك عرضا وعليه دين أكثر من عرضه فيقول بعض ورثته لأهل الدين: لا تكسروا عروضه ونحن نضمن لكم دينكم، قال مالك: لا أرى بأسا إن كانوا إن أصابوا في العروض فضلا عن الدين اقتسموه على فرائض الله فلا أرى به بأسا، وإن كانوا لا يقتسمونه على فرائض الله فلا أحبه، يعني بذلك الذين ضمنوه، قال ابن القاسم: والناض مثل العروض.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول الرسم الذي قبل هذا، فلا معنى لإعادته. وقوله وإن كانوا لا يقتسمونه على فرائض الله فلا أحبه معناه وإن كانوا لا يقتسمونه على فرائض الله ويكون [ذلك] للذين ضمنوه فلا أحبه، وهو الذي أراد بقوله يعني بذلك(10/376)
الذين ضمنوه وقول ابن القاسم إن الناض مثل العروض يريد أنه مثله في أن ذلك لا يجوز، كان الفضل للذين ضمنوا، وأما إن كان الفضل لجميع الورثة فالعروض أخف من العين، وهو جائز في الوجهين، وبالله التوفيق.
[: كان عليه دين فذكر في مال عنده أنه وديعة عنده]
ومن كتاب كتب عليه ذكر حق وسئل مالك عن رجل كان عليه دين فذكر في مال عنده أنه وديعة عنده، قال: إن كانت له بينة أو أتى بأمر يعرف فصاحبه أحق به من الدين إلا أن يأتي بأمر لا يعرف.
قال محمد بن رشد: قد مضى في آخر أول رسم من السماع أن إقراره بالدين جائز، فهو في الوديعة مثله أو أجوز، فيجوز إقراره بها إلا أن يأتي بأمر لا يعرف، وهو دليل قوله في هذه الرواية، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وعليه دين وترك مالا فأراد الورثة مصالحة امرأته]
مسألة وسئل مالك عن رجل هلك وعليه دين وترك مالا وعروضا فأراد ورثته أن يصالحوا امرأته ويخرجوها من الميراث، قال: إن كانت العروض معروفة لم يكن به بأس، وإن كان لا يعرف فلا أحبه، قال مالك: «إن عبد الله بن عمرو بن حرام أبا جابر بن عبد الله صاحب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان استشهد يوم أحد، وإنه كان عليه دين رهقه، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إذا كان الجداد فأت فآذني، قال: فآذنته، قال: فوضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه يده ودعا فيه، فكال منه لأهل دينه وبقي بعد ذلك مثل(10/377)
الذي كان فيه بعد قضاء الدين» .
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مجملة يفسرها ما في [كتاب] الصلح من المدونة لأن مصالحة الورثة المرأة على أن يخرجوها من الميراث اشتراء منهم لما يجب لها من الميراث فيما تخلفه الميت بعد تأدية الدين بوجوب إخراج الدين قبل الميراث بنص قول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وبما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما تخلفه أبو جابر الذي احتج به في الرواية مالك، فلا يجوز ذلك إلا بما يصح التتابع به، فإن لم يكن فيما تخلفه الميت بعد تأدية الدين دنانير ولا دراهم جاز أن يصالحوها بعرض من التركة وبما شاؤوا من أموالهم، وإن كان فيما تخلفه الميت بعد تأدية الدين دنانير ودراهم جاز أن يصالحوها بعرض من التركة ومن أموالهم، ولم يجز أن يصالحوها بدنانير ولا بدراهم من أموالهم ولا من التركة إلا أن يكون ذلك مثل الواجب لها من ذلك أو أقل فتكون واهبة لبقية حقها، وهذا كله على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وأما على ما في رسم البيوع من سماع أشهب فلا يجوز مصالحة(10/378)
الورثة للمرأة علي حال من أجل الدين لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا سبيل للحميل على المحمول عنه حتى يؤدي عنه]
مسألة وقال في رجلين اشتريا سلعة تعاقدا عليها، فلما أراد البائع أن يكتب الكتاب عليهما قال أحدهما لصاحبه: أنا أكتب الكتاب علي ولا تكتبه عليك حتى يكون خلوا إن أردت سفرا في متجرنا لم يمنع لمكان الدين، ثم كتب الكتاب على أحدهما، ثم باعا السلعة، فقال الذي لم يكتب الكتاب عليه: ادفع إلي نصف الثمن، فأبى الذي كتب عليه الكتاب وقال: أنا ألزم بهذا الدين وأتخوف أن تأخذه فتفسده أو تقضيه غرماءك، فلا أدفع إليك منه شيئا، [وغلبه على ألا يدفع إليه شيئا] فلما حل الأجل قال الذي عنده المال: سرق مني عشرة دنانير فهي بيني وبينك كما كان يكون الربح بيني وبينك أن لو جاء فيها ربح، قال: أرى أن يغرم العشرة التي كانت عنده الذي حبسها عن شريكه، ولو قال: إنها سرقت مني أو هلك المال كله لم ينفعه ذلك ورأيته غارما لها إذا حبسها عنه، فقيل له: أفرأيت لو استأدى عليه أترى أن يدفع إليه نصف الحق الذي كان عليه للذي كتب عليه الحق؟ قال: لا أرى أن يدفع إليه منه شيئا.(10/379)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن أحد المشترين طاع لصاحبه أن يكتب جميع الثمن عليه من ثمن السلعة ونصفه حمالة عن شريكه فيها لئلا يكون للبائع أن يطالبه به فيمنعه من سفره، ومعنى ذلك إذا أبرأه البائع ورضي باتباع الحميل دونه على اختلاف في ذلك، فقد قيل: إن ذلك يلزمه ولا يكون له عليه رجوع، وقيل: إنه لا يرجع عليه إلا أن يموت الحميل أو يفلس، وقيل: إن له الرجوع عليه إن شاء وإن لم يمت ولا فلس، وقيل: إنه لا يعدى عليه حتى يبلى الغريم لأنه حمالة وشرطه باطل، فاحتبس المكتوب عليه جميع الثمن من أجل أنه كتب عليه مخافة أن يفسده ويتلفه فلا يجد له مالا يرجع فيه عليه إن أدى عنه فصار متعدلا عليه في إمساك حقه عنه، ووجب أن يكون ضامنا له وأن لا يصدق فيما ادعاه من سرقته، إذ لو حاكمه وأراد أن يقبض حصته من الثمن من أجل أنه تحمل به عنه لم يكن ذلك له، وفي كتاب ابن حبيب أن ذلك له، وهو بعيد، إذ لا سبيل للحميل على المحمول عنه حتى يؤدي عنه، وبالله التوفيق.
[: الغريم إذا غاب وحل أجله وقام غرماؤه يريدون بيع ماله]
ومن كتاب أوله الشريكين قال مالك في الغريم: إذا غاب وحل أجله وقام غرماؤه يريدون بيع ماله - قال مالك: أرى أن يبيع السلطان ماله ولا يستأنى به قدومه إذا قامت البينة وأرادوا حقوقهم فذلك لهم ولا يستأنى به حجته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يستأنى به قدومه ولا ينتظر به حجته صحيح لا اختلاف فيه أعلمه، وإنما الاختلاف هل يستأنى به مخافة(10/380)
أن يكون عليه دين لغير من قام به فروى ابن وهب عن مالك أنه لا يستأنى به لأن له ذمة بخلاف الميت الذي لا ذمة له، وهو ظاهر هذه الرواية لأنه قال فيها: إذا قامت البينة وأرادوا حقوقهم فذلك لهم، ومعناه بعد أيمانهم، وفي المدونة أن الحي والميت سواء إذا كان معروفا بالدين لم يعجل بقضاء من حضر، وأوقف حتى يستبرأ أمره ويجتمع أهل دينه أو يعرفوا فيضرب لهم بحقوقهم، قال: فهذه أعدل روايتهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل يباع ماله في دينه]
مسألة قال مالك في رجل يباع ماله في دينه، قال مالك: على الوالي أن يستأني بالعروض مثل الشهر والشهرين مثل الدور وما أشبه ذلك يستأني بها ويتسوق بها ويطلب بها الأثمان، وأما الحيوان فيستأنى بها الشيء اليسير ولا يكون مثل العروض.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يستأنى بالعروض الشهر والشهرين مثل الدور لفظ مشكل لاحتمال أن يكون أراد أن العروض يستأنى بها الشهر والشهرين كما يستأنى بالدور، ويحتمل أن يكون قوله مثل الدور تفسير للعروض فيكون معنى قوله: إن العروض التي هي الدور يستأنى بها الشهر والشهرين بخلاف الحيوان، ومثله في كتاب ابن المواز أن الدور يستأنى بها الشهر والشهرين، والعروض والحيوان يستأنى بها اليسير، محصل الاختلاف إنما هو في العروض هل يستأنى بها الشهر والشهرين مثل الدور أو الأيام اليسيرة مثل الحيوان، والعلة في الحيوان أنه لا يستأنى بها إلا لشيء اليسير هي ما يتكلف من الإنفاق عليها، وأما العروض فالذي يوجبه النظر فيها أن يستأنى بما كان رفيعا كثير الثمن منها الشهر والشهرين، وبما دون ذلك منها الأيام اليسيرة، ولا يستأنى بما كان يسير الثمن منها شيئا، ويباع من ساعته، مثل الحبل والدلو والسوط وشبه ذلك، وبالله التوفيق.(10/381)
[: من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم وأنه أصيب بماله وتبين كذبه]
ومن كتاب البز وسئل عن رجل كان يبيع في السوق ويشتري من الناس، وكانت في يده تجارة ثم إنه تفالس وزعم أنه أصيب به وشهد له ناس أنه ليس عنده شيء قال: وكيف يعرف هؤلاء أنه ليس عنده شيء؟ ثم قال: فأين ما كان يرى عنده؟ قال: يزعم أنه أصيب به، قال: فأرى أن يسجنه ولا يعجل سراحه، يريد بذلك أنه ملد ظالم يغيب أموال الناس، وإني لأرى لهؤلاء الذين يصنعون مثل هذا يتفالسون بالأموال من غير أمر يأتون به أن يقاموا من الأسواق ولا يتركوا يبيعون به وأن يخرجوا منه فإنه لا يزال رجل منهم يعمل مثل هذا ثم يقعد بعد ذلك ويظهر له مال ومتاع، فأرى أن يخرجوا ولا يقروا في سوق المسلمين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم وأنه أصيب بماله وتبين كذبه فإنه يحبس أبدا حتى يموت في السجن أو يؤدي إلى الناس أموالهم ولا تقبل شهادة من شهد أنه ليس له مال إذا لم يعرف تلاف ماله، وقد قيل: إنه يضرب بالدرة المرة بعد المرة، وهو قول سحنون؛ وأما من اتهم أنه قد خبأ مالا وغيبه فإنه يحبس حتى يؤدي أو يثبت عدمه فيحلف ويسرح، وأما من جهل حاله فإنه يحبس بقدر ما يتلوم له ويختبر فيه حاله ويستكشف فيه عن أمره ثم يخلى سبيله وإن لم يثبت عدمه إذا لم يظهر يسره، وقدر ما يستبرأ أمره فيه يختلف باختلاف الدين فيما روى ابن حبيب عن ابن الماجشون، فيحبس(10/382)
في الدريهمات اليسيرة قدر نصف شهر، وفي الكبير من المال أربعة أشهر، وفي الوسط منه شهران، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقر لامرأته بالدين تكون قد أسلفته إياه فيما بينها وبينه ويقول قد قضيتك إياه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يقر لامرأته بالدين تكون قد أسلفته إياه فيما بينها وبينه ويقول: قد قضيتك إياه، قال مالك: الدين عندي مثل المهر إن لم تكن له بينة غرم، وهو مخالف عندي لما يشتري لها ويبيع لها ويقتضي لها إنما ذلك وكالة، فالرجل توكله امرأته ويدفع إليها ولا يشهد فيما باع لها ولا فيما ابتاع لها ولا فيما اقتضى لها، فليس في هذا إلا يمينه بعد، وهو مخالف عندي لما أقر به من السلف، وأرى إن لم يأت ببينة أن عليه غرم ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله وهو مخالف عندي لما يشتري لها ويبيع لها ويقتضي لها إنما ذلك وكالة تدل على أنه يحكم له بحكم الوكيل فيما باع واشترى لامرأته وإن لم تثبت وكالته للعرف الجاري من تصرف الرجال لأزواجهم في أمورهن. وقد اختلف في الوكيل يدعي أنه دفع إلى موكله ما قبض له من غرمائه أو ما باع به متاعه على أربعة أقوال: أحدها أن القول قوله مع يمينه جملة من غير تفصيل، وهو قوله في هذه الرواية وفي سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات وفي المدونة، والثاني أنه إن كان لقرب ذلك بالأيام اليسيرة فالقول قول الموكل أنه ما قبض منه شيئا وعلى الوكيل إقامة البينة، وإن تباعد الأمر مثل الشهر ونحوه فالقول قول الوكيل مع يمينه يحلف ويبرأ، وإن طال الأمر جدا لم يكن على الوكيل ولا على الزوج يمين، وهو قول مطرف عن مالك، والثالث أنه إن كان بحضرة ذلك وقربه بالأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه، وإن طال الأمر جدا صدق دون يمين، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم، والرابع تفرقة أصبغ بين(10/383)
الوكيل على الشيء بعينه وبين الوكيل المفوض إليه، فالوكيل على الشيء بعينه غارم حتى يقيم البينة على الدفع وإن طال الأمر، والوكيل المفوض إليه يصدق في القرب مع يمينه وفي البعد دون يمين، فإن مات الوكيل أو الزوج بحدثان ما جرى ذلك على أيديهما كان ذلك في أموالهما إذا عرف القبض وجهل الدفع، وإن كان موتهما بغير حدثان ذلك وما يكون في مثله المخرج والقضاء والدفع فلا شيء في أموالهما وإن لم يعرف الدفع ولم يذكر، ولا خلاف عندي في هذا الوجه، وأما السلف والمهر فلا يصدق فيه على الدفع في قرب ولا بعد، وبالله التوفيق.
[: أحق بزيته إذا عرف أنه هو بعينه وإن خلطه مع غيره]
ومن كتاب باع غلاما وقال مالك في روايا زيت باعها صاحبها خمس روايا ثم إن صاحبها صبها في جرار ثم صب معها جرتين أخريين اشتراهما وقد اقتضى نصف ثمن الخمس روايا ثم فلس المشتري وقد باع بعض ذلك أو لم يبع، قال: إذا عرف ذلك أخذه إن وجده بعينه إن لم يبع منه شيئا إذا أبى الغرماء أن يدفعوا إليه حقه، وإن باع منه شيئا وقد اقتضى رد نصف ثمن ما وجد مما اقتضى على حساب الروايا إذا لم يصبها وقد باع بعضها وبقي بعضها وقد وصفناه في موضع آخر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما مضى في رسم قطع الشجرة وعلى ما في كتاب المأذون له في التجارة من المدونة أنه أحق بزيته إذا عرف أنه هو بعينه وإن خلطه مع غيره. وقوله وإن باع منه شيئا وقد اقتضى رد نصف ثمن ما وجد مما اقتضى على حساب الروايا إذا لم يصبها وقد باع بعضها وبقي بعضها كلام فيه التباس ومراده به أن ما باع من الروايا مفضوض على الخمس روايا وعلى الجرتين اللتين صبهما معها، فإن كان باع منها جرتين وفيها راويتان وبقيت الخمس روايا عنده حتى فلس وقد اقتضى البائع نصف ثمن الخمس روايا كان(10/384)
البائع أحق بخمسة أسباع الخمس روايا بعد أن يرد من الثمن [الذي قبض] نصف خمسة أسباعه ويحاص الغرماء بنصف ثمن السبعين الفائتين بالبيع، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل دين بغير بينة]
مسألة وسئل عن رجل كان له على رجل دين بغير بينة، ثم إن الذي عليه الدين وقع له حق على الذي يسأله ولا بينة بينهما، فهلك الذي عليه الدين ولا دين لأحد عليه غيره، فأراد أن يكتم الدين الذي عليه بدينه الذي له حين عرف أن دينه لا يؤدى وحين لم تكن له بينة وحين عرف أنه إن أقر بما عنده أخذ منه، قال مالك: ما أرى أن يكتم ورثته ذلك، ولكن يخبرهم صدق ذلك ويلحقه من ذلك ما لحقه أو يغرم ما غرم.
فقلت له: يا أبا عبد الله أيحتسب الذي له ويؤدي؟ قال: نعم، وأخبرني عنه سعد بن عبد الله المعافري في الجحد مثل ذلك إلا أن يجحد من جحده ولم أحضره أنا.
قال محمد بن رشد: لم يجز له في هذه الرواية أن يكتم ما عليه ويقتطعه في الدين الذي له وإن لم يكن لأحد عليه دين سواه، وهو معنى ما في كتاب الوديعة من المدونة، وفي ذلك اختلاف كثير، قيل: إن ذلك لا يجوز، وهو قوله في هذه الرواية وفي المدونة، وقيل: إن ذلك له جائز، وهو قول أشهب وابن وهب، وقيل: إنه له مكروه، وقيل: إنه له مستحب، وقيل: إن ذلك جائز إن لم يكن عليه دين، ولا يجوز له إن كان عليه دين(10/385)
إلا أن يأخذ مقدار ما يصير له في المحاصة، وقيل: إنه يجوز له أن يأخذ مما دفع إليه بغير أمانة ولا يجوز له أن يأخذ مما دفع إليه بأمانة، وقد مضى في سماع أصبغ من كتاب النذور القول على هذا المعنى أيضا، فقف عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها]
مسألة وسئل عن رجل قال: ما كان لي على قرابتي من حق فهو لهم عند الموت فهلك وكان له عند رجل منهم قراض، قال: أراه له فيما يحضرني والذي أرى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، وكان الأظهر ألا يكون له القراض إذا كان قائما بيده لأنه في أمانته فهو له عنده، ولا يقال إنه له عليه إلا إذا كان قد استهلكه فثبت له في ذمته، ووجه ما ذهب إليه أنه وإن كان له عنده فعليه أن يؤديه إليه لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] فإذا وهبه ماله عليه من الحق في صرفه إليه وجب أن يكون له، وبالله التوفيق.
[مسألة: مات وعليه دين يحيط بماله]
مسألة وقال مالك: من مات وعليه دين يحيط بماله فإن الكفن مبدأ على الدين، قال: ومن كان له رهن في يد رجل ثم مات ولا مال له غير ذلك الرهن فلا يكفن منه، والمرتهن أحق به من الكفن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقد تكررت في هذا الرسم بعينه من هذا السماع في كتاب الجنائز، ومضى القول عليها هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(10/386)
[: هلك وترك مالا ليس فيه وفاء من دينه]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عن رجل هلك وترك مالا ليس فيه وفاء من دينه فقال ابن له: أنا آخذ هذا المال وأضمن دين أبي، قال مالك: إن كان يضمن دين أبيه وما كان فيه من فضل رده إلى الورثة فلا بأس به إن شاء الله، وإن كان نقصانا كان عليه فلا بأس به، وإن كان يأخذه على أن يكون له الفضل بما ضمن من النقصان فلا خير
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم أخذ يشرب خمرا فلا وجه لإعادته، وتكررت أيضا بالمعنى في رسم يسلف في المتاع، وبالله التوفيق.
[: أوصى في مرضه أن لفلان عليه أربعين دينارا]
ومن كتاب تأخير صلاة العشاء
وسئل عن رجل أوصى في مرضه أن لفلان عليه أربعين دينارا، وأوصى مع ذلك أنه مصدق فيما قال، قال: فادعى الرجل أن له عليه خمسين دينارا، قال: أرى أن يحلف ويأخذ خمسين دينارا.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى أن يحلف ويأخذ خمسين يريد يحلف على تحقيق دعواه في الخمسين دينارا، وقال ابن دحون: إنما ألزمه اليمين لأن كل من اقتضى دينا من مال ميت أو مفلس فلا بد له من أن يحلف ولا تنفعه بينته إلا أن يسقط ذلك عنه الورثة أو الغرماء، ولو طرأ غريم غائب كان له أن يحلف من لم يحلف ويحلف هو أيضا، وليس قول ابن دحون بصحيح لأن هذه اليمين لا بد منها، ولا اختلاف فيها، وأما اليمين على تحقيق دعواه في الخمسين دينارا ففيها اختلاف وقع في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا في الرجل يوصي لرجال بديون لهم عليه فيقول: قد كنت أداين فلانا وفلانا فما ادعوه قبلي فهم فيه مصدقون(10/387)
إن ذلك يكون لهم بلا يمين يستحلفون بها على ما ادعوا فيحلف على هذه الرواية إن له عليه خمسين دينارا، وإنه ما قبضها ولا أسقطها عنه، وإنها لباقية له إلى حين يمينه، ويحلف على ما في رسم البز من كتاب الوصايا إنه ما قبض الخمسين دينارا التي صدقه المتوفى فيها ولا أسقطها عنه، وإنها لباقية له قبله إلى حين يمينه. والاختلاف المذكور في تحقيق دعواه في الخمسين جار على اختلافهم في لحوق يمين التهمة لأن الورثة تتهمه في أن يدعي أكثر من ماله ولا تحقق عليه الدعوى بذلك ولو حققت عليه الدعوى بذلك مثل أن يقول له: قد أقررت عندنا أنه لم يكن لك عليه إلا كذا وكذا للزمته اليمين قولا واحدا، ولم يسقط عنه الميت اليمين وإنما أوصى أنه مصدق فيما يدعيه ولم يقل بيمين ولا بغير يمين، ولو قال: إنه مصدق دون يمين لما سقطت اليمين عنه بإسقاطه إياها عنه على ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الشركة ومن كتاب الوصايا حسبما سنبينه هناك إن شاء الله، وسيأتي في رسم أسلم من سماع عيسى ورسم الوصايا الصغير من سماع أصبغ مسائل من هذا المعنى في التصديق في الدعوى نتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله، وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات في التصديق في الشهادة وبينا هناك الفرق بين التصديق في الدعوى وبين التصديق في الشهادة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجبر على أخذها عند الموت والفلس]
مسألة وسئل عن رجل ابتاع طعاما إلى أجل من رجل فمات الذي عليه الحق فقيل للذي له الحق: خذ حقك، قال ذلك له الورثة، قال: لا حتى يحل حقي، قال: أرى أن يجبر عند موته على أخذه، وذلك أن مال الميت يباع، ولعله ألا يكون فيه وفاء، فأرى أن يجبر على ذلك، قال ابن القاسم في العروض: يجبر على أخذها عند الموت والفلس.(10/388)
قال القاضي: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها لأن الدين يحل على المتوفى بموته، ومن حق من عليه دين أن يؤديه عن نفسه، والله الموفق.
[: يوصي لرجل بدين فيطلب فلا يوجد ولا يعرف]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وسئل مالك عن الذي يوصي لرجل بدين فيطلب فلا يوجد ولا يعرف، قال: يتصدق به عنه، قال مالك: ويقول: اللهم هذا عن فلان.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: ولا يعرف أي لا يعرف موضعه؛ لأنه إذا لم يعرف فلا يصح أن يوجد، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم حلف ليرفعن أمرا، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهادة على خط المقركالشهادة على إقراره]
مسألة وسئل عن رجل أوصى عند موته أن ينظر في كتبه فما كان له من حق قبض، وما كان عليه قضي، فلما مات أخرجت كتبه الذكور الحق فإذا في ذكر حق منها ذكر حق فلان على فلان بأربعة عشر دينارا، وفيه شهود، وأسفل منه بخط يد صاحب الحق الميت: قبضت منه ثمانية دنانير مما في كتابي هذا، أعليه أن يحلف ويبرأ من الثمانية دنانير؟ قال مالك: ما أرى عليه من يمين، ولكن يؤخذ منه ما بقي بعد الثمانية بغير يمين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الشهادة على خط المقر كالشهادة على إقراره؛ سواء عند من يجيز الشهادة في ذلك على(10/389)
الخط، والشهادة في ذلك جائزة على المشهور في المذهب لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت إلا ما يروى عن محمد بن عبد الحكم من أنه قال: لا تجوز الشهادة على الخط مجملا ولم يخص موضعا من موضع، وستأتي هذه المسألة في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى، وقد مضى من تحصيل القول في الشهادة على الخط في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات ما فيه شفاء، وبالله التوفيق.
[: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر]
ومن كتاب مساجد القبائل وسئل عن عبد كان تاجرا وأنه باع متاعا من التجار وكتب عليهم ذكورات حق وأنهم ادعوا أنهم قد دفعوا إلى سيده بعض ما كان له عليهم، قال: أرأيت سيده أكان يقتضي شيئا؟ قال: نعم قد كان السيد يقتضي، وقد كان العبد يقتضي، قال: أما إذا كان يقتضي فإني أرى أن يحلف السيد فيما ادعي عليه ويحلف العبد فيما ادعي عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله [أنه] إذا كانا جميعا يقتضيان لزمت كل واحد منهما اليمين فيما ادعي عليه لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» ولو كان السيد لا يقتضي لم يجب عليه اليمين في دعوى الاقتضاء على القول بأن اليمين لا تلحق بمجرد الدعوى دون خلطة، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكافة(10/390)
أصحابه، وقد مضى القول في ذلك مستوفى في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.
[مسألة: الكري تكون له الإبل يحمل عليها وهو يديلها تحتهم فيفلس]
مسألة وسئل عن الكَرِيّ تكون له الإبل يحمل عليها وهو يديلها تحتهم فيفلس وتحت أحدهم بعير منها، أتراه أحق به من سائرهم؟ قال: نعم أرى ذلك، قال ابن القاسم: وذلك رأيي. قلت لسحنون: هل يكون أصحاب الكراء المضمون وغيرهم سواء وكل واحد من أصحاب الحمولة أولى بما في يده من غيره؟ قال: نعم.
قلت: فلو أن الجمال احتاج فأراد أن يتسلف من بعض أهل الحمولة على أن يرهنه ما في يده من الإبل أيجوز ذلك وتراه رهنا مقبوضا محوزا؟ قال: نعم، ألا ترى أنه لو فلس الجمال كان كل واحد من هؤلاء أحق بما تحته من غيره من الغرماء ومن أصحاب الأحمال؟
قلت لسحنون وأصحاب الأحمال: أولى بما تحت أحمالهم من الإبل كما يكونون في المحامل؟ قال: نعم.
قلت: فإن أراد الجمال أن ينقل تلك الإبل ويديلها بينهم وأبى ذلك أصحاب الأحمال؟ قال: لا يكون ذلك للجمال إلا عن رضى من أصحاب الحمولة، وهذا في الكراء وغيره سواء.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة معروفة لسحنون أجاز أن يرهنه(10/391)
ما تحته وهو في منافع الراهن، وهو بعيد، وكذلك أجاز أن يرهنه جملا تحت غيره يكون قبض راكبه له قبضا للمرتهن، وهو أبعد؛ لأنه كان في قبض غيره ولم يحدث له قبض مستأنف للرهن؛ ولأنه في منافع الراهن وفي أجرة غيره فهو بعيد من حكم الرهن وأصله، وقد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في آخر سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[: البيع على تعجيل الحق]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل عن رجل كان لقوم عليه دين ولرجل منهم أربعة عشر دينارا ونصف، فأراد الخروج إلى موضع، فأراد قضاء دينه، فقضاه أربعة عشر دينار ونصفًا دراهم، قال: لا خير فيه، هذا مكروه أن يعطى في نصف دراهم قبل محل الأجل، ولكن يعطيه في ذلك عرضا، قيل: فيعطيه دينارا ويأخذ منه نصفا فضة؟ قال: أعجب إلي أن يأخذ في ذلك عرضا، كأنه خففه لقلة النصف، قال ابن القاسم: ولا بأس به.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز إذا كان له عليه أربعة عشر دينارا ونصف دينار مؤجلة أن يأخذ منه قبل محل الأجل أربعة عشر دينارا وصرف نصف دينار لأنه لا يجوز له أن يأخذ دراهم عن ذهب لم يحل أجلها؛ لأنه يدخله صرف إلى أجل، وأجاز أن يأخذ منه أربعة عشر دينارا وعرضا بالنصف دينار، وفي ذلك نظر لأنه عجل له الأربعة عشر دينارا على أن باع منه العرض بنصف دينار، والبيع على تعجيل الحق لا يجوز؛ لأنه يدخله: "ضع وتعجل"، ألا ترى أنهما يتهمان على أن يعجل له الأربعة عشر دينارا على أن يأخذ منه بالنصف دينار عرضا لا يساوي إلا ربع دينار فيكون قد عجل له حقه على أن يحط عنه منه ربع دينار، ولم يجز أن يأخذ منه خمسة عشر دينار ويدفع إليه بالنصف الزائد على حقه فضة لأنه صارفه في النصف دينار على أن يعجل له الأربعة عشر دينارا ونصف التي كانت له(10/392)
عليه، وذلك لا يجوز؛ لأنه يخاف أن يكون زاده في صرف نصف المثقال لموضع التعجيل فيدخله: ضع وتعجل، وقد يدخله أيضا: ذهب نقدا بفضة نقدا، وذَهَب إلى أجل؛ لأنه أعطاه خمسة عشر مثقالا نقدا على دراهم معجلة وعن ذهب مؤجل، وخفف إذا أخذ منه خمسة عشر دينارا أن يدفع إليه بالنصف دينار الزائد على حقه عرضا وإن كان يدخله: ضع وتعجل؛ لأنه يخاف أن يكون أعطاه في النصف دينارٍ عرضا قيمته أكثر من نصف دينار على أن يعجل له حقه إلا أنه استخف ذلك ليسارته، ولم ير ابن القاسم به بأسا، وقد كرهه مرة، وقع اختلاف قوله في ذلك في سماع أبي زيد من كتاب الصرف، وقد مضى القول على ذلك هنالك، وبالله التوفيق.
[: خالط رجلا بمال فكان لأحدهما قبل صاحبه فضل]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد وسئل مالك: عن رجل خالط رجلا بمال فكان لأحدهما قبل صاحبه فضل، ثم إن الذي غاب بفضل غاب وذهب ولا يعرفه صاحبه بنسب ولا دار إلا الاسم، قال مالك: يتصدق به عنه ويقول حين يتصدق: اللهم هذا عن فلان لمكان الذي له عندي، فإن جاء بعد ذلك دفع إليه حقه.
قال محمد بن رشد: قوله يتصدق به عنه، معناه: إن شاء، إذ لا يلزمه ذلك مخافة أن يأتي فيلزمه غرمه؛ إذ هو ثابت في ذمته لا يبرأ منه إلا برده لربه أو بأن يرفع ذلك إلى الإمام ويدفعه إليه فيوقفه الإمام له.
وقوله: ويقول حين يتصدق به عنه: اللهم هذا عن فلان، معناه: أنه يقول ذلك في نفسه؛ لأن النية تكفيه في ذلك، وليس عليه أن يحرك بها لسانه.
وقوله: إنه إن جاء بعد ذلك دفع إليه حقه صحيح لا يدخل فيه الاختلاف الحاصل بين أهل العلم فيمن تصدق باللقطة بعد التعريف هل يضمنها لصاحبها أم لا؛ لأنها ليست في ذمته بخلاف هذا، وقد جاء في الحديث «أن شأنه بها» ، وبالله التوفيق.(10/393)
[: الذكر حق يكتب ويكتب فيه ومن جاء بذكر الحق اقتضاه فيأتي به غير صاحبه]
ومن كتاب سن رسول الله وقال مالك في الذكر حق يكتب ويكتب فيه: ومن جاء بذكر الحق اقتضاه فيأتي به غير صاحبه، قال: لا أرى أن يدفع إليه شيئا إلا بوكالة؛ لأني لا أدري بما وصل ذلك الكتاب إليه، لعله وجده وقد سقط من صاحبه أو ما أشبه ذلك فلا أرى أن يعطى إلا بوكالة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما يأتي في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وهي مسألة صحيحة لا اختلاف فيها للمعنى الذي ذكره في الرواية وبينه فيها بإشهاد صاحب الحق أن من جاء بذكر الحق اقتضاه غير عامل بخلاف إشهاده للذي عليه الحق أنه إن جاء به فقد برئ، وقد مضى القول على ذلك في أول رسم من السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: جحد رجلا حقا له فأراد صاحب الحق أن يستحلفه]
مسألة وسئل: عن رجل جحد رجلا حقا له فأراد صاحب الحق أن يستحلفه: ما أسلفتك شيئا، وقال الآخر: أحلف لك: ما لك عليّ شيء، قال: أرى أن يحلف: ما لك عندي شيء، وما الذي ادعيت عليّ إلا باطلا، فإن أبى أن يحلف حلف صاحب الحق واستحق حقه، وقال هذا مُوَرِّكٌ، قال أصبغ: حضرت ابن القاسم وقد(10/394)
حكم أن يحلف ما أسلفه شيئا.
قال محمد بن رشد: قول مالك إنه يحلف: ما له عنده شيء وما الذي ادعى عليه إلا باطلا هو في المعنى مثل ما في المدونة في الشهادات منها، ومثل ما حكى أصبغ أنه حضر ابن القاسم وقد حكم بأن يحلف: ما أسلفه شيئا؛ لأن حلفه: ما الذي ادعى عليه إلا باطلا يستغرق كل دعوى ويكفي من كل لفظ، وقد قيل: إنه يقبل منه أن يحلف: ما له عنده حق، وقع الاختلاف في ذلك في آخر سماع أصبغ من كتاب النذور، وفي غيره من المواضع، والأظهر أنه لا يقبل منه إلا أن يحلف: ما أسلفه شيئا؛ لأن الطالب يقول بمفهوم قوله: إنه يريد أنه قضاني، وهو لو صرح بأنه قضاني لكان القول قولي إني ما قبضت منه شيئا، فيريد أن يأتي بكلام يتحيل فيه أن يكون القول قوله في القضاء، وهو قوله: ما لك عندي شيء، وما أشبه ذلك من الألفاظ.
والأصل عندي في هذا الاختلاف اختلافهم في اليمين هل هي على نية الحالف أو على نية المحلوف له، فمن رأى اليمين على نية الحالف قبل من الحالف أن يحلف: ما له قبله حق؛ لأنه يقدر إن استحلفه ما أسلفه [شيئا] أن ينوي أنه ما أسلفه شيئا هو عليه باق له، فلا يكون كاذبا في يمينه كما لو حلف ما له قبله حق، فلما كان يقدر على هذا لم يكن لإيجاب اليمين عليه أنه ما أسلفه شيئا كبير فائدة، ومن رأى اليمين على نية المحلوف له لم يقبل من الحالف إلا أن يحلف ما أسلفه شيئا؛ لأنه إن حلف على ذلك، وقد كان أسلفه فقضاه كان آثما كاذبا، فلزم ذلك لينكل عن اليمين فيكون القول قول الطالب، وبالله التوفيق.
[: يستدين فيزرع وقد استأجر فيه أجراء ثم يعجز فيه فيستدين ثم يفلس]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
من كتاب الأقضية الثاني
قال سحنون: قال لي أشهب: سئل مالك: عن الذي يستدين(10/395)
فيزرع وقد استأجر فيه أجراء ثم يعجز فيه فيستدين ثم يفلس، قال: يبدأ صاحب الدين الآخر فالآخر، وإنما يكون ذلك إذا فلس ولم يكن له شيء يحيي به الزرع فاستدان في عمله وحياته، فالآخر يبدأ وهو خير للذي قبله أحياه له ولم يدعه يموت، فإن فضل فضل أخذه وإلا فلا شيء له؛ لأنه كان يموت ويذهب، وكذلك إن كان الأجراء قبل أوجروا فإنه يبدأ الآخر.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه استدان دينا فزرع به زرعا واستأجر في عمل الزرع أجراء بدين فعمل الأجراء ما استأجرهم عليه ثم عجز عن بقية عمل الزرع فاستدان دينا آخر فاستأجر به أجراء على بقية عمل الزرع فيبدأ الدين الآخر على الدين الأول وعلى إجارة الأجراء، فإن فضل فضل عن الدين الآخر بدئ فيه الأجراء على الدين الأول، وهي مسألة صحيحة على معنى ما في الرهون من المدونة في الزرع يرتهن فيخشى عليه الهلاك فيأخذ الراهن من رجل آخر مَالًا فينفقه فيه - أن الآخر يكون أحق بالزرع، فإن فضل فضل كان للمرتهن الأول.
وعلى قياس القول [الأول] فإن أجير السقي أحق بالزرع من الغرماء، وقد اختلف في ذلك فقيل: إنه أحق في الموت والفلس، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز وقول ابن الماجشون وأصبغ في الواضحة، وقيل: إنه أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، وهو قول المخزومي، وقيل: إنه أحق في التفليس دون الموت، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، والقياس قول المخزومي؛ لأنه لم يبع منه الزرع فيكون أحق به، وإنما باع منه منافع قد استهلكت، ولكلا القولين الآخرين وجه من النظر، وذلك أن الزرع لما كان ناميا بسقي الأجير صار كالبائع له ويده عليه إلا أنه في أرض المستأجر المفلس، فمن غلب كون يده عليه رآه أحق به في الموت والفلس، كمن باع سلعته ففلس المبتاع قبل قبضها، ومن غلب كونه(10/396)
في أرض المستأجر رآه أحق به في الفلس دون الموت، كمن باع سلعة ففلس المبتاع بعد قبضها، وهي قائمة بيده، وكذلك اختلف أيضا في رب الأرض إذا فلس المكتري هل يكون أحق بالزرع أم لا على هذه الثلاثة الأقوال؛ لأن المعنى فيها جميعا سواء.
واختلف على القول بأن كل واحد منهما أحق إذا اجتمعا، فقيل: إنهما يتحاصان، وقيل: يبدأ رب الأرض، وقيل: يبدأ الأجير، فإن كان الزرع مرهونا كان المرتهن أحق من الغرماء بما فضل عن رب الأرض وأجير السقي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، فعلى هذا إذا اكترى الرجل أرضا فزرع فيها زرعا فخشي عليه الهلاك فاستأجر على سقيه، ثم عجز عنه أيضا فاستأجر على سقيه وإحيائه آخرين، ثم رهنه فإنه يبدأ الساقي الآخر على الأول، والأول على المرتهن، والمرتهن على سائر الغرماء، ورب الأرض على ما ذكرناه فيه من الاختلاف يحاص الأجراء الأولين في قول، ويكون أحق منهم في قول، ويكونون أحق منه في قول، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة.
ومعنى قوله: وكذلك إن كان الأجراء قبل أوجروا، فإنه يبدأ الآخر، يريد: أن الأجير في الزرع وإن كان الحكم فيه أن يكون أولى بالزرع من الغرماء فلا يكون في هذه المسألة أولى من الغرماء الآخرين بل يبدأ الغرماء الآخرون عليه؛ لأن الزرع إنما حيي بأموالهم إذا كان صاحبه قد عجز عنه، فكما يبدأ الغريم على الغريم من أجل أن الزرع إنما حيى بالدين المتأخر، فكذلك يبدأ على الأجير من أجل ذلك، وقد وقع في كتاب ابن المواز لمالك: أن الأول من الأجراء يبدأ على الثاني، وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف مع شاهده إنه عجوة]
مسألة وسئل مالك: عمن أتى على امرأة بذكر حق بعد موتها فيه كذا وكذا صاعا من تمر عجوة فمحا الموضع الذي فيه(10/397)
العجوة في السطر ولم يأت على الذكر حق بشهادة إلا كاتب الصحيفة يشهد أنه يعرف كل ما في الكتاب إلا تسمية العجوة إنه ليس كتابه، وقد محي، ولا أدري أعجوة هو أم لا؟
قال ابن القاسم: قال مالك: أما أنتم فلستم تحلفون إنه غير عجوة فأرى أن يحلف مع شاهده إنه عجوة، وإن هذا الحق له، ثم يعطاه.
قال محمد بن رشد: قوله أما أنتم فلستم تحلفون إنه غير عجوة، معناه: أما أنتم فإذا لم تحلفوا إنه غير عجوة فأرى أن يحلف مع شاهده إنه عجوة؛ لأن القول قولهم إنه غير عجوة؛ لأنه لما ثبت له شاهد بالعدة وأنها تمر، قيل له: احلف مع شاهدك على صحة ما شهد به، ثم يقال للورثة: احلفوا على أي صنف من التمر تقرون به، فإن حلفوا على صنف ما أخذه، ولم يكن له غيره، وإن لم يحلفوا، قيل له: احلف على أي صنف تدعيه وخذ، فتكون يمينه يمينا واحدة على الصنف، وعلى أن شاهده شهد بحق، وعلى أنه لم يقبض ذلك، وبالله التوفيق.
[: جاء بسفينة له اشترى من رجال ولم يدفع إليهم من الثمن شيئا حتى فلس]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل مالك: عن رجل جاء بسفينة له، فاشترى من هذا قمحا فصبه فيها، ثم اشترى من هذا قمحا فصبه فيها حتى اشترى من رجال فصبه في السفينة كله ولم يدفع إليهم من الثمن شيئا حتى فلس، أتراهم أحق بقموحهم من الغرماء؟
قال: نعم، إن علم ذلك اقتسموه بينهم بالمكيلة على الحصص.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على معنى ما في المأذون له من المدونة وعلى ما مضى في رسم باع غلاما وغيره من سماع(10/398)
ابن القاسم، ولو نقص الكيل وكان من نقصان المركب كان بينهم على الحصص، ولم يكن على المفلس شيء بخلاف إذا نقص ببيع أو تلف أو استهلاك فإنهم يكونون أسوة الغرماء بما ناب ما نقص من الثمن، ولو زاد القمح من نداوة البحر كانت الزيادة بينهم على قدر ما لكل واحد منهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكتب في ذكرحق ومن قام بذكر الحق اقتضاه به ثم يجيء به رجل]
مسألة وسئل: فقيل له: قلت في الذي يكتب في ذكر حق، ومن قام بذكر الحق اقتضاه به ثم يجيء به رجل أنه لا يقتضي ما فيه إلا بوكالة يقيمها، فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، وقد تقدمت والعلة فيها في رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: يشتري سلعة بدين على أن يقضيه من عطائه إذا خرج فلم يخرج]
ومن كتاب الأقضية وسئل: عن الرجل يتعين في عطائه فيحبس العطاء وله مال فيه وفاء بما عليه من تلك العينة، أنأخذ ذلك من ماله؟
قال: لا أرى ذلك.(10/399)
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في آخر السماع، والمعنى فيها أنه حكم للعطاء بحكم الدين الثابث في الذمة في أن مصيبته ممن اشتراه إن مات الذي عليه الدين أو فلس، ومعنى ذلك في العطاء المأمون، فإذا تعين على هذا في العطاء بأن يشتري سلعة بدين على أن يقضيه من عطائه إذا خرج فلم يخرج بطل حقه، وإن خرج بعضه حل عليه من الدين بحساب ما خرج منه على ما يأتي في آخر السماع.
وكذلك لو اشترى العطاء فلم يخرج لم يكن له على هذا القول شيء، وقد قيل: إنه إذا تعين في عطائه أو باعه كان ذكر العطاء كالأجل وتعلق ذلك بذمته إن لم يخرج العطاء أو مات قبل خروجه، وهو اختيار محمد بن المواز وقول مالك في رواية أشهب عنه في الواضحة، وهذا القول يأتي على قياس قول غير ابن القاسم في المدونة في الذي يشتري السلعة بدنانير له غائبة - أنه ضامن لها إن تلفت وإن لم يشترط الضمان، ويأتي على قياس قول ابن القاسم في هذه المسألة ألا يجوز التعيين في العطاء إلا بشرط الحلف.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيع لا يجوز إلا بشرط الضمان لمن لم يخرج العطاء، والثاني: أنه جائز والحكم يوجب الضمان، والثالث: أنه جائز ولا يلزمه الضمان، وأما العطاء الذي ليس بمأمون فلا يتعين فيه حق من ابتاعه أو تعين فيه باتفاق، ويختلف هل يجوز ذلك بغير شرط الحلف أم لا على قولين، ويحتمل أن يلفق بين الروايات بأن تحمل هذه الرواية على العطاء المأمون، وما في الواضحة واختيار ابن المواز على العطاء الذي ليس بمأمون، فلا يكون في المسألة اختلاف إلا في جواز البيع ابتداء بغير شرط الخلف في العطاء الذي ليس بمأمون. وبالله التوفيق.
[مسألة: بايعه بشرط ألا يقاصه]
مسألة وسئل: عمن كان له على رجل مال فلقيه ومعه سلعة يبيعها(10/400)
فأراد شراءها منه، فقال له البائع: إني أخاف أن تقاصني بثمنها وأنا إنما أريد أن أبيعها لحاجة كذا وكذا، قال: فإني لا أقاصك بثمنها، فاشتراها منه على ذلك، ثم أراد مقاصته بثمنها وللناس عليه ديون سوى دينه كثرة إلا أنه لم يفلس، أترى أن يقاصه؟
قال: نعم، أرى ذلك له إن ألح على ذلك.
قيل له: إنه قد اشترى على أن لا يقاصه وعلم أنه إنما يبيعها لأمر سوى أمره فاشتراها على ذلك، فقال: أرى ذلك له، وهو يقول: إنما اشتريت منك لأقاصك ولأستوفي حقي من تحت يدي، فإني أرى ذلك، فروجع فيها، فقال: قد أنباتك بالذي قبلي.
قال الإمام القاضي: قد اختلف وجوب الحكم بالمقاصة، فقيل: إنه لا يحكم بها، وهي رواية زياد عن مالك، وظاهر مسألة كتاب الصرف من المدونة، والمشهور أنه يحكم بها.
واختلف على هذا القول إذا بايعه بشرط ألا يقاصه على ثلاثة أقوال: أحدها هذا: أن الشرط غير عامل، والثاني: أنه عامل، والثالث: أن البيع فاسد إذا كان الدين حالا؛ لأنه إذا اشترط ترك المقاصة، فكأنه شرط أن يؤخره بالدين فيدخله البيع والسلف.
فإذا قلنا: إن البيع جائز والشرط عامل فيلزمه أن يؤخره قدر ما يرى؛ لأن قوله: لا أقاصك، بمنزلة قوله: أؤخرك، إذ لا يكون له أن يترك مقاصته ثم يطالبه برده إليه في الحين، كالذي يسلف الرجل سلفا حالا ثم يطالبه بأدائه في الوقت.
وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم العشور من سماع عيسى من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل دين فقضاه إياه فأقام شهرا ثم جاءه يتقاضاه]
مسألة وسئل: عن رجل كان له على رجل دين فقضاه إياه وأشهد على ذلك شاهدين، فأقام شهرا ثم جاءه يتقاضاه(10/401)
الدين، فقال له: قد قضيتك وأشهدت عليك بذلك فلانا وفلانا، فقال: ما قضيتنيه، فقال له: أتحلف وأعطيكه؟ فقال له: نعم أحلف، فحلف فقضا إياه. فلما حلف أراد أن يأتي عليه بالشاهدين، أترى ذلك له عليه بعد يمينه ورضاه بها؟ قال: نعم، فليأت بهما.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب ابن المواز من رواية ابن عبد الحكم عن مالك، وفي الثمانية من قول مطرف وابن الماجشون.
وزاد ابن الماجشون: أنه أثم حين ألجأه إلى اليمين بالباطل وبينته حاضرة يعلمها.
وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون خلاف قولهما في الثمانية مثل ما في المدونة: أنه لا قيام له إذا استحلفه وهو عالم ببينته تاركا لها.
وجه هذا القول: أنه قد رضي بيمين صاحبه وإسقاط بينته فيلزمه ما رضي به؟
ووجه القول الآخر: أنه يقول لم أرض بيمينه وإسقاط بينتي، وإنما قلت له، وأنا أظن به أنه لا يجترئ على اليمين بالباطل، ولو علمت أنه يجترئ على اليمين لما مكنته منها، فلا يدخل هذا الاختلاف في الصلح.
وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم أخذ يشرب خمرا، وبالله التوفيق.
[مسألة: النساج يفلس فيخرج الغزل فيقول هذا لفلان]
مسألة وسئل: عن النساج يفلس أو الصائغ، فيخرج النساج الغزل فيقول هذا لفلان، أو يخرج الصائغ السبيكة فيقول هذه لفلان، فقال: لا، إلا أن يأتي صاحب الحلي بشبهة بشاهد.
قيل: إنما أعطاه حليا فجاءه بسبيكة فقال هذه لفلان وهذه لفلان، فقال: ليس هو في ذلك بمصدق، يقال له أفسدت أمانتك، ولعلك أن تكون تخص صديقك أو تواتي هذا ليرد عليك، فلا أرى ذلك له عليه.(10/402)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، ومضى القول فيها أيضا مستوفى في رسم الشجرة تطعم بطنين من سماع ابن القاسم من كتابه تضمين الصناع، وبالله التوفيق.
[: أعطى الابن الغرماء ما نض من مال الميت وصالحهم في الباقي]
ومن كتاب البيوع وسئل: عمن توفي وترك عليه مائتي دينار دينا وستين دينارا، وترك من العين مائتي دينار بيع فيها متاعه وما كان له، فقال ابن الميت: أنا أدفع إليكم ما نض وأتحمل لكم بنصف ما بقي وتحللوا أبي من نصفه.
فقال: ما يعجبني هذا ولا أحبه، وإنما يجوز هذا بأن يقر مال أبيه بيده ويتحمل بدينه كله، يكبر الصغير وينمو ويصلح ما في يده، ولا يكون ما فضل له ولكن يكون للورثة معه، فهذا الذي يصلح ويجوز.
فأما أن ينض المال ويبيع المتاع ويصير عينا فيدفعه إليهم ويصالحهم فيما فضل على أن يتحمل لهم بالنصف ويوضع عن أبيه النصف فلا يعجبني هذا.
قلت: أرأيت إن أسلم له كل شيء وتحمل به، ثم جاء بعد هذا الدين دين آخر، فقال الغريم الذي طرأ: أنا أغرمك أيضا قد تحملت عن أبيك، وقال هو: إنما تحملت بهذا الدين الذي قد علمت.
فقال: أرى ذلك لازما له أن يغرم لهم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أنه إذا أعطى الابن الغرماء ما نض من مال الميت وصالحهم في الباقي على أن يتحمل لهم بنصفه ويضعوا عن أبيه النصف لم يجز.
ووجه الكراهة في ذلك أنه إن جاء غريم آخر لم يعلم به كان له أن يدخل على الغرماء فيما قبضوه فيحاصهم(10/403)
في ذلك بجميع دينه إذ لم يضعوا عن الميت منه شيئا، ولا يكون لهم أن يضربوا معه بجميع دينهم إذ قد وضعوا عن الميت نصف ما كان بقي من حقوقهم، فيكون من حجتهم حينئذ أن يقولوا: لو علمنا أنه يطرأ علينا من يدخل معنا فيما صار إلينا ويحاصنا فيه بجميع دينه لم نرض أن نحط عن الميت شيئا لما في ذلك من انتقاص حقوقنا، فكان في هذا قولا وحجة، فإذا لم تلزمهم الوضيعة لم يلزم الابن الضمان وانتقض الصلح.
ويجوز أن يضمن الابن جميع دين أبيه أو نصفه أو ثلاثة أرباعه على أن يقر المال بيده عرضا كان أو عينا، وعلى أن يدفعه إليهم أيضا إذا لم يشترط عليهم وضيعة شيء مما بقي من حقوقهم للعلة التي ذكرناها من طرو غريم لم يعلم به، فلا دليل في قوله: وإنما يجوز هذا بأن يقر مال أبيه بيده ويتحمل بدينه كله فيكبر الصغير وينمو ويصلح ما في يده، على أنه لا يجوز أن يتحمل بالبعض، ولا على أنه لا يجوز إذا دفع إليهم ما اجتمع في تركة الميت أن يتحمل بالباقي في كله أو بما شاء منه إذا لم يشترط عليهم وضيعة شيء من حقوقهم.
وقد مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم وجه جواز دفع مال الميت إلى ابنه بشرط ضمان ديون غرمائه فلا معنى لإعادته.
وإذا دفع إليه مال أبيه على أن يضمن للغرماء حقوقهم فطرأ غريم لم يعلم به لزمه ضمان دينه، ولو اشترط ألا يضمن دين من طرأ لم يجز إذا كان الضمان على أن أسلم إليه مال الميت، ولو لم يسلم إليه مال الميت ودفع إلى الغرماء لكان له أن يضمن لهم أو لمن شاء منهم دون من يطرأ؛ لأنه متطوع بالضمان، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل دين حال فقال له عجل لي سبعين دينارا ولك تأخير غيره]
مسألة وسئل: عمن كان له على رجل دين حال، فقال له: عجل لي(10/404)
سبعين دينارا ولك تأخير غيره إلى خمسة أشهر، فجاءه فكتب عليه وأخذ السبعين، ثم قال: إني أراك أحب إليك لو وضعت عنك وعجلتني، فقال: إي والله ولكن لم أطمع بذلك، فقال: فأنا أفعل فانقدني مالي.
قال مالك: بعدما وجب ذلك وكتبه لا يصلح ذلك، فإن كان ذلك عند المراوضة قبل وجوب ذلك فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان بعد وجوبه ووقوعه فلا خير فيه، ولكن أي شيء أعطاه في تلك الذهب؟ فقيل: طعام، فقال: لو أخذ منه ثيابا أو دواب ولا يضع له بعضا ويأخذ بعضا يتعجله وإن كان ثمن ذلك الثياب والدواب أقل مما اشتراها به، ولا يأخذ منه طعاما ولا إداما وإن كانت حالة.
قيل: له أرأيت إن أخذ من صنف طعامه أقل منه؟
فقال: لا يأخذه، يدخلون في الأمور حتى يغيروها عن حالها التي كانت عليها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أنه إذا أخذه ببعض ما كان له عليه من الدنانير فلا يجوز له بعد ثبوت التأخير أن يضع عنه منه على أن يعجل له، ويجوز له إن كانت الدنانير التي أخره بها من ثمن الطعام أن يأخذ منه بها قبل محل الأجل ثيابا أو دواب قيمتها أقل مما كان له عليه، ولا يجوز له أن يأخذ منه طعاما مخالفا للطعام الذي باعه ولا أفضل ولا أكثر عددا.
واختلف: هل يجوز له أن يأخذ أقل من كيل طعامه أو أدنى في الصفة، فلم يجز ذلك في هذه الرواية، وأجازه في غيرها، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى على الرجل مائة دينار فصالحه منها على خمسين إلى أجل]
مسألة وسئل: عن رجل له على رجل عشرة دنانير فجحده إياها فأتى عليه بشاهد واحد، فقيل له: احلف مع شاهدك وخذ حقك، فكره اليمين وخلا بغريمه، فقال له: إني قد علمت أنك لم يدعك(10/405)
أن تجحدني إلا العشرة فاطرح عني اليمين وأنا أكتبها عليك إلى سنة، فقال: ما هذا بحسن، أرأيت لو قال أعطيك قرضا؟
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا إنه لا يجوز له أن يطرح عنه اليمين على أن يؤخره بالعشرة دنانير هو على أصله في المدونة، بدليل قوله في كتاب الصلح منها: إن الرجل إذا ادعى على الرجل مائة دينار فصالحه منها على خمسين إلى أجل إن ذلك جائز إذا كان مقرا؛ لأن العلة في أن ذلك لا يجوز عنده إذا كان منكرا إسقاط اليمين عنه على أن يؤخره، إذ من حق المدعي عليه أن ينكل عن اليمين فيردها على المدعي فيكون إنما أخره ليسقط عنه اليمين، خلاف قول ابن القاسم إن ذلك جائز وإن كان منكرا.
وقوله أظهر؛ لأن الأيمان إنما هي شرع تعبد الناس بالحكم بها في الظاهر وهي غير واجبة في الباطن، إذ لو كشف لنا عن حقيقة الأمر لم تكن ثم أيمان، فالمدعي يعلم إذا كان محقا أنه لا يمين عليه وأن تحليف المدعى عليه إياه بصرف اليمين عليه ظلم له، فلم يسقط عن نفسه بالتأخير شيئا واجبا عليه.
فالذي أقول به في هذه المسألة: إن تأخير الحق عنه على أن يسقط عنه اليمين جائز إن كان المدعى عليه يعلم وجوب الحق عليه، وغير جائز إن كان يشك في ذلك؛ لأن من حقه أن يحلفه إذا كان يشك فيما يدعيه قبله، ولا يحل له ذلك إذا علم أن الحق قبله.
ووقع في سماع أشهب من كتاب الحمالة والحوالة مسألة، قال فيها بعض الشيوخ: إنها معارضة لرواية أشهب هذه، وهي أنه سئل: عمن كانت له على رجل مائة درهم فسأله أن ينظره ويتحمل له بها حميل، فقال: لا بأس بذلك.
ولا تعارض عندي بين المسألتين؛ لأن المعنى فيهما مختلف.
ووجه جواز تأخيره لحقه على أن يتحمل له به حميل: هو أنه لو شاء أخذ منه حقه معجلا، فإذا أخره به على أن يتحمل له به حميل فهو بمنزلة ما لو أسلفه إياه ابتداء على أن يأخذ منه به حميلا.
ولو كان معسرا إن قام عليه لم يجد عنده إلا بعض حقه لما جاز أن يؤخره بالجميع على أن يعطيه به حميلا، والله الموفق.(10/406)
[: يوصي فيقول لي عند فلان كذا وكذا]
ومن كتاب الوصايا وسمعته يسأل عن الرجل يوصي فيقول لي عند فلان كذا وكذا، فقال: يحلف المدعى عليه، وإن أبى أن يحلف غرم. قيل له: أيحلف من غير مخالطة؟ قال: ليس في هذا مخالطة ولا شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المدعى عليه يحلف من غير مخالطة صحيح؛ لأن الورثة لا يعلمون من يشهد لهم بالخلطة.
وهذه المسألة هي إحدى المسائل الخمس التي يجب اليمين فيها دون خلطة، وقد مضى القول فيها في سماع أصبغ من كتاب الأقضية.
وسواء ادعى الورثة معرفة الدين قبله أو قالوا لا ندري إلا ما ادعاه موروثتا.
وأما قوله: وإن أبى أن يحلف أغرم، فمعناه: بعد أيمان الورثة إن ادعوا معرفة الدين قبله، وبالله التوفيق.
[: بيع الورثة للتركة إذا لم يعلموا بالدين]
ومن البيوع الأول وسئل مالك: عمن توفي وترك مالا قيمته ألفا دينار وترك مائتي دينار دينا عليه، وقام بعض الورثة فباع بعض الأموال لنفسه وقال فيما بقي وفاء لما عليه من الدين، قال: لا يجوز ذلك البيع ويفسخ، ولا ميراث لأحد حتى يقضى الدين، ولعل تلك الأموال ستهلك، فأرى هذا البيع مردودا لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ولعل تلك الأموال ستهلك قبل أن تباع ويقضى الدين، وما يقال إنه يبلغ ألف دينار لا يباع إلا بمائة.
قلت: أرأيت إن استقام ذلك وجاء الأمر على العافية أيجوز ذلك البيع؟
فقال: لا أرى ذلك يجوز وأرى أن يرد.
قال محمد بن رشد: رواية أشهب هذه أن البيع لا يجوز ويفسخ(10/407)
وإن كان بإذن جميع الورثة من أجل الدين لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، خلاف ما مضى في رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم من أن مصالحة الورثة المرأة قبل تأدية الدين جائزة، وخلاف ما في كتاب المديان من المدونة في أن بيع الورثة للتركة إذا لم يعلموا بالدين جائزة.
فالبيع والقسمة في شيء من التركة قبل تأدية الدين على رواية أشهب هذه مفسوخ لمطابقة النهي له بمخالفة أمر الله فيه لقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] لا خيار للغرماء في إجازته، وذلك جائز على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إذا وفوا الدين من أموالهم أو من بقية التركة.
وعلى هذا يأتي قول مالك في الذي يحلف بعتق رقيقه ليقضين غريمه إلى شهر فيمنع من بيع رقيقه حتى يقضي أنه إن باع منهم وقضى الحق من ثمنهم قبل الأجل لسلم من الحنث، واضطرب قول ابن القاسم في انتقاض القسمة إذا كانوا قد قسموا جميع التركة ثم طرأ دين فأبوا أن يخرجوه من أموالهم، وفي هذا تفصيل قد ذكرته في غير هذا الكتاب، وهو كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لفلان عشرة دنانيرمن مالي وصية ولي عليه خمسة فأنكر]
مسألة وسئل: عمن أوصى لرجل بمائة درهم أعطوه إياها وخذوا منها خمسة دنانير لي عليه، فقال الموصى له: ما له علي شيء، فأطرق فيها، ثم قال: ما أراه أعطاه المائة درهم إلا على هذا، فلينظر فإذا كان في المائة درهم فضل عن الخمسة دنانير أعطيه الموصى له في رأيي، وإن كانت الخمسة دنانير أكثر من المائة درهم أحلف فيما فضل في رأيي، فإن لم يحلف غرمها.
قيل له: يحلف وإن لم تكن بينهما مخالطة؟
فقال: وإن لم تكن بينهما، مخالطة، ليست المخالطة هنا شيئا.
ومن سماع عيسى(10/408)
بن دينار في كتاب بع ولا نقصان عليك قال: وقال مالك في الذي يقول عند الموت لفلان عندي عشرة دنانير ولي عنده خمسة دنانير فأنكر الذي أقر له بالعشرة أن تكون عليه الخمسة، قال: يأخذ العشرة وعلى الورثة البينة في الخمسة أنها عليه.
قيل: فلو قال لفلان عشرة دنانير من مالي وصية ولي عليه خمسة فأنكر؟
قال: لا يكون له إلا الخمسة؛ لأنه لم يوص إلا بالخمسة حين قال ولي عليه خمسة، قال: وقال مالك كذلك.
قال محمد بن رشد: الفرق بين أن يوصي له بعشرة ويدعي أن له عليه خمسة وبين أن يقر له بعشرة ويدعي أن له عليه خمسة بين لا إشكال فيه.
وقد مضى القول في إيجاب اليمين عليه دون خلطة فيما أوصى أن له عنده وفي نكوله عن اليمين في رسم الوصايا فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يشتري من العبد الشيء اليسير مثل الخفين وما أشبهه]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل قال أشهب: سألت مالكا: عن الرجل يشتري من العبد الشيء اليسير مثل الخفين وما أشبهه، فقال: لا يشتري من العبد إلا أن يكون عبدا يشتري ويبيع، فإن كان عبدا لا يشتري ولا يبيع فلا يشتري منه إلا بإذن أهله ولا يصدقه بقوله قد أذن لي أهلي حتى يسألهم عن ذلك أو يرده عليه ولا يشتريه، وربما باع العبد ثيابه فليرده عليه ولا يشتريه وعسى بأهله أن يكونوا عبيدا.
قال محمد بن رشد: في سماع أشهب من كتاب الضحايا أنه يصدق العبد الفصيح الذي مثله يؤتمن فيما ادعى من أن ذلك له وأنه أذن(10/409)
له في البيع، فيحتمل أن تفسر بذلك رواية أشهب هذه، فإن حملت على ظاهرها فذلك على التورع لا على ما يلزم ويجوز بدليل ما روي من أن عبد الله بن عمر مر في بعض أسفاره على راع يرعى على رأس جبل فاشترى منه شاة ضحى بها ولم يسأله عن شيء، وبالله التوفيق.
[: اعترف في مرضه لامرأة له بثلاثين دينارا ثم صح فقال إنما أردت أن أولجها إليها]
ومن كتاب الوصايا الصغير قال أشهب: وسمعته يسأل عمن اعترف في مرضه لامرأة له بثلاثين دينارا ثم صح، فقال: إنما أردت أن أولجها إليها أتراها تلزمه؟
قال: نعم تلزمه، أقر لها وهو مريض وينكرها وهو صحيح.
وسئل عنها سحنون فقال مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الإقرار في المرض يلزمه إذا صح، ولا اختلاف في هذا ولا كلام، وإنما الكلام إذا أقر أحد الزوجين في مرضه ثم مات من مرضه ذلك قبل أن يصح منه، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقرت بقبض المهر وأقر الزوج بأنه لم يدفعه فطلبت المرأة مهرها]
مسألة قيل لسحنون: فلو أن امرأة قالت في مرضها إني قبضت مهري من زوجي، ثم إن زوجها مرض، فقال: إني لم أدفع إلى امرأتي مهرها فمات الزوج وبقيت المرأة.
وكيف إن لم يمت الزوج وقامت المرأة تطلب مهرها وتزعم أن قولها في مرضها كان محاباة له، وتقول: قد أقر لي زوجي ولم يستحل ما قلت، وقال الزوج: بل كان الكلام الذي تكلمت به في مرضي محاباة لك، فكل واحد منهما يكذب صاحبه.
قال سحنون: يلزمها إذا صحت، فإن مات الزوج وأراد ورثته أن يلزموها ذلك كان ذلك(10/410)
لهم، وإن تمادى بالزوجة المرض حتى مات الزوج ثم ماتت بعده فالإقرار يلزمها.
قال محمد بن رشد: إذا أقرت المرأة في مرضها أنها قد قبضت مهرها من زوجها ثم مرض هو فأقر أنه لم يدفع إليها مهرها، ثم قامت المرأة تطلب مهرها، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون طالبة له وهي مريضة لم تصح بعد من مرضها؛ والثاني: أن تقوم طالبة له بعد أن صحت من مرضها؛ والثالث: أن تموت من مرضها فيقوم ورثتها طالبين له بعد موتها.
وكل وجه من هذه الوجوه الثلاثة لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تقوم عليه وهو مريض لم يصح بعد من مرضه. والثاني: أن تقوم على ورثته بعد أن مات من مرضه، والثالث: أن تقوم عليه بعد صحته.
فأما الوجه الأول: وهو أن تقوم عليه وهي مريضة فإن كان هو مريضا بعد أو قد صح من مرضه كان لها صداقها، وإن كان قد مات من مرضه لم يكن لها شيء.
وأما الوجه الثاني: وهو أن تقوم طالبة له بعد أن صحت من مرضها، فإن كان هو مريضا بعد أو قد مات لم يكن لها شيء، وإن كان قد صح من مرضه كان لها صداقها.
وأما الوجه الثالث: وهو أن تموت من مرضها فيقوم ورثتها طالبين له بعد موتها، فإن كان هو مريضا بعد أو قد صح من مرضه كان لها صداقها، وإن كان هو قد مات من مرضه ذلك نظرت فإن كانت ماتت قبله كان لها صداقها، وإن مات قبلها فقيل: إن الإقرار يلزمها ولا يكون لها شيء، وهو قول سحنون في هذه الرواية وروي مثله عن مالك، وقيل: إن الإقرار لا يلزمها ويكون لها صداقها، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وبالله التوفيق.
[: والي اليتيم يسأله السائل فيعطيه شيئا من زرع يتيمه]
ومن كتاب الوصايا والحج والزكاة وسمعته يسأل عن والي اليتيم يسأله السائل فيعطيه شيئا من(10/411)
زرع يتيمه أو غير ذلك، فقال: أرجو ألا يكون بذلك بأس يرجو بركة ذلك لليتيم.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح، ومعناه: في اليسير الذي جرت العادة بالمسامحة فيه.
والأصل في جواز ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] فإذا جاز للوصي أن يأكل بالمعروف من مال يتيمه كان أحرى أن تجوز له به الصدقة عن اليتيم لما يرجوه له في ذلك من الأجر والثواب، وبالله التوفيق.
[مسألة: المولى عليه يدان ثم يموت]
مسألة وسمعته سئل: عن المولى عليه يدان ثم يموت، فقال: لا يقضى دينه ولا يكون في ماله، وهو في موته مثله في حياته، إلا أن يوصي به بثلثه فذلك له إذا أمره به وقد بلغ الوصية.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن الدين يكون في ثلثه إذا أقر به في مرضه أو في صحته، ولم يختلف أنه إن أوصى به في ثلثه جاز ولزم ذلك على جهة الوصية إلا ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ أن ذلك جائز ما لم يكثر، والصحيح أنه لا يكون في ثلثه إلا أن يوصي بذلك، فإن أوصى به كان ذلك في ثلثه قل أو كثر، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه في ماله المأمون في نفسه وذاته]
مسألة وسمعته يسأل فقيل له: إن ابني تزوج امرأة ولم يوامرني وهو يريد الذهاب معها ويتركني وأنا شيخ كبير لا أقدر على نزع الشوكة من رجلي حتى تنزع عني، فقال: إن كان ابنك قد بلغ وهو(10/412)
يلي نفسه وليس بسفيه ولا ضعيف العقل فذلك جائز، وإن كان لا يلي نفسه وهو سفيه مأخوذ على يديه فليس ذلك له، فقال الرجل: أله أن يخرج عني ويدعني؟
فقال: نعم ذلك له إن كان غير سفيه وهو رجل يسافر ويخرج إلى العراق، فإذا كان قد بلغ ولم يكن سفيها ولا مأخوذا على يديه فذلك له، وإن كان سفيها أو ضعيفا يخاف عليه فليس له ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن المالك لأمر نفسه له أن يذهب حيث شاء وليس لأبيه أن يمنعه من ذلك، وأما السفيه الذي لا يملك ماله ويخشى منه أبوه أو وليه السفه في ذاته والفجور بانفراده فله أن يضمه إلى نفسه ويمنعه من السفر والمغيب عنه.
واختلف في السفيه في ماله المأمون في نفسه وذاته، فقيل: إن للوالي أن يضمه إليه ويمنعه من الذهاب والسفر حيث شاء، وهو قول مالك في هذه الرواية، وقيل: ليس ذلك له، وهو ظاهر قول مالك في كتاب النكاح من المدونة إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء على ما تأوله عليه ابن أبي زيد من قوله، يريد بنفسه لا بماله، وبالله التوفيق.
[: أسلف رجلا أربعين درهما أمر له بها عند صراف فقبضها منه]
ومن كتاب الأقضية الأول وسئل مالك: عن رجل أسلف رجلا أربعين درهما أمر له بها عند صراف فقبضها منه، فلما تقاضاه إياها قال دفعتها إلى الصراف حسبته لك وكيلا.
فقال: ما شأنه وشأن الصراف، ذلك عليه.
قيل: أترى أن يحلف له الصراف إن جحده؟
فقال: ذلك يختلف، إن كان متهما رأيت أن يحلف هذه شبهة، وإن لم يكن متهما لم أر أن يحلف.
قال سحنون: وقال ابن نافع: ويحلف له الصراف على كل حال.(10/413)
قال الإمام القاضي: قول ابن نافع هو الصحيح في النظر الجاري على الأصول.
وأما تفرقة مالك بين المتهم في ذلك فهو استحسان على غير حقيقة القياس، وإنما يرجع الأمر في ذلك إلى اعتبار الخلطة، فإذا قلت إنها قد حصلت بينه وبين الصراف بقبض الدراهم عنده وجبت له عليه اليمين وهو قول ابن نافع، وإن قلت: إنها ليست بخلطة فلا يحلف في وجه القياس كان متهما أو لم يكن، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق بمال له وقام الغرماء عليه فلم يجدوا غير ذلك الذي تصدق به]
مسألة وسئل: عن رجل تصدق بمال له أو أعتق عبدا له ثم مكث حينا ثم إن الغرماء قاموا عليه فلم يجدوا له شيئا غير ذلك الذي تصدق به أو العبد الذي أعتق، كيف يفعل به؟
قال مالك: أما الصدقة فإن جاء الغرماء بالبينة أنه تصدق بها يوم تصدق وهو لا وفاء عنده فيما يرون ردت الصدقة ولم تجز وإلا جازت، وأما العبد فلا يرد عتقه؛ لأن شهادته قد جازت وتمت حرمته وصار حرا جرت عليه الحدود وله.
قال ابن القاسم في الصدقة: إذا لم يعلموا بالصدقة وأقاموا البينة على أنه لم يكن له وفاء يوم تصدق به ردوا منها قدر حقوقهم وكان ما بقي لمن تصدق به عليه، وإن علموا كانت الصدقة جائزة لمن تصدق بها عليه ولم يرد منها شيئا.
قال محمد بن رشد: الذي يعرف من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن العبد يرد عتقه أيضا إذا أعتقه وهو مستغرق الذمة بغير علم الغرماء كالصدقة سواء، ورواية أشهب هذه أن العتق لا يرد لحرمته وجواز شهادته استحسان، ومعناه: إذا طالت المدة، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز إن العتق لا يرد علم الغرماء به أو لم يعلموا إذا طال ذلك وولد له الأولاد.
والوجه في ذلك: أن المدة إذا طالت احتمل أن يكون الغريم قد أفاد فيها مالا ثم ذهب ولم يعرف، فلم ير أن يرد العتق الذي قد تمت حرمته إلا بيقين، وهو أن يقوم الغرماء بعقب العتق.
وقد تأول أن قول ابن(10/414)
القاسم ليس بخلاف لهذه الرواية، ومعناه: إذا قام الغرماء بعقب العتق، ومعنى هذه الرواية إذا قاموا بعد المدة الطويلة، فتتفق الروايتان على هذا التأويل.
والأظهر أنه اختلاف من القول إذا طالت المدة، فوجه القول في أن العتق يرد أنه عتق عداء، إذ لا يجوز لمن عليه دين أن يتلف ماله بالعتق كما لا يجوز أن يتلفه بالصدقة، فوجب أن يرد العتق كما ترد الصدقة.
ووجه القول بأنه لا يرد أن دين الغرماء إنما هو في ذمة السيد لا في عين العبد، إذ لو تلف العبد لم يبطل الدين، فوجب أن ينفذ العتق لحرمته، إذ لا يبطل الدين بعتقه؛ لأنه باق في الذمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن المشتري السلعة من رجل آخر ثم أفلس المشتري قبل الأجل]
مسألة وسئل مالك: عن رجل باع سلعة بدين من رجل إلى أجل، فرهن المشتري السلعة من رجل آخر ثم أفلس المشتري قبل الأجل والسلعة قائمة عند مرتهنها.
قال مالك: بائعها بالخيار إن شاء افْتَكَّهَا من مرتهنها بما رهنت عنده ويحاص الغرماء بما افتداها به كان ذلك له، وإن أحب أن يسلمها ويحاص الغرماء بثمنها كان ذلك له.
فإن افتداها من المرتهن كان الغرماء بالخيار، إن شاءوا دفعوها إليه، وإن شاءوا أعطوه ثمنها؛ فإن أعطوه ثمنها وتركها حاص في جميع ذلك بما افتداها به، ولا يحاص بثمنها إلا في إسلامها للمرتهن وتركها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى لا وجه للقول فيها.
وقد قيل: إنه لا يضرب بما افتك به الرهن كافتكاك رقبة العبد الجاني إذا كان قد باعه وجنى وفلس المشتري قبل أن يفتكه، وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري بالدين في عطائه فيكتب ذلك في ديوانه فيخرج له نصف العطاء]
مسألة وسئل: عن الرجل يشتري من الرجل بالدين في عطائه أو(10/415)
إلى أول عطاء يخرج له، فيكتب ذلك في ديوانه، فيخرج له نصف العطاء، أيحل حقه كله عليه؟
قال: إن أمثل ذلك عندي لو أخذ منه ما خرج من عطائه فقط.
وسئل: عن الرجل يتعين في عطائه فيحبس العطاء وله مال فيه وفاء بما عليه من تلك العينة، أيؤخذ ذلك من ماله؟
قال: لا أرى ذلك.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الأقضية من هذا السماع، فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على سيدنا محمد.(10/416)
[: كتاب المديان والتفليس الثاني] [مسألة: يحبس في الدين ولا مال له](10/417)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب أوله
نقدها نقدها قال عيسى: وسألته عن الرجل يحبس في الدين ولا مال له، قال: ليس على القاضي أن يسأل الذي عليه الحق البينة أنه لا مال له، والذي يشهد في مثل هذا على البتات أنه لا مال له شاهد زور، وإنما يسأل القاضي عنه أهل الخبرة به والمعرفة، فإن لم يجد له مالا أحلفه وخلى سبيله.
قال القاضي: قوله وسألته عن الرجل يحبس في الدين ولا مال له، معناه: ولا مال له في ظاهر أمره، إذ لو عرف أنه لا مال له لم يجب سجنه لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
وقوله: إنه ليس على القاضي أن يسأل الذي عليه الحق البينة أنه لا مال له، ومعناه: أنه ليس ذلك عليه حتى لا يجزئه دونه، إذ له أن يجتزئ في ذلك بأن يسأل عنه أهل الخبرة والمعرفة. وإذا لم يكن ذلك عليه فليس له أن يفعله ويترك السؤال عنه، وإن فعل ذلك مضى. وهذا في المجهول الحال الذي لا يتهم(10/419)
بتغييب ماله فيحبس حبس تلوم واختبار. وأما من حبس للتهمة بأنه غيب ماله فلا يجوز للقاضي أن يكتفي بالسؤال عنه دون أن يكلفه البينة على عدمه.
وصفة الشهادة على العدم أن يقول الشاهد إنه يعرفه فقيرا عديما لا يعلم له مالا ظاهرا ولا باطنا.
واختلف إن شهد أنه فقير عديم لا مال له ظاهرا ولا باطنا، فقيل: إنها شهادة لا تجوز؛ لأنها تحمل على ظاهرها من البتات.
وقيل: إنها جائزة؛ لأنها تحمل على العلم.
وأما إن نص في شهادته على البت والقطع فلا تجوز شهادته قولا واحدا.
فقوله في هذه الرواية: والذي يشهد في مثل هذا على البتات أنه لا مال له شاهد زور صحيح لا اختلاف فيه إن كان نص في شهادته على البت والقطع، وإن كان لم ينص على ذلك فيها وإنما قال إنه لا مال له ولم يزد على ذلك فهو أعدل، على أحد القولين.
وقد مضى في سماع أشهب من كتاب الشهادات التكلم على هذا المعنى في نظير هذه المسألة، فتأمل ذلك وقابله بقولي هاهنا فإن بعضه مبين لبعض، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجلين دين فأخذ أحدهما فحبسه في حقه]
مسألة وسئل: عن رجل له على رجلين دين كتب عليهما وأيهما شاء أخذ بحقه، فأخذ أحدهما فحبسه في حقه، فأراد المحبوس أن يحبس الذي أبى صاحب الحق أن يحبسه.
قال ذلك له إذا كان له مال أو يخاف أن يكون قد خبأ مالا، فذلك له يعمل به مثل ما يعمل صاحب الدين بالذي عليه الحق.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه ضامن لنصف الحق عنه، فإذا سجن فيه كان له هو أن يسجن الذي ضمن عنه لما يجب له من الرجوع عليه فيما سجن فيه، وبالله التوفيق.(10/420)
[مسألة: له على رجلين حق فسأله رجل عن حقه فقال ما لي عليهما شيء]
مسألة وعن رجل له على رجلين حق وأيهما شاء أخذ بحقه، فسأله رجل عن حقه، فقال: ما لي عليهما شيء، ثم ادعى كل واحد منهما أنه قد دفع إليه ذلك الحق، وأقر صاحب الحق أنه قد قبضه من أحدهما، فقال: أراه شاهدا للذي زعم أنه دفع إليه؛ لأنه لم تبق لصاحب الحق تهمة يجر بها إلى نفسه شيئا، فأراها شهادة قاطعة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه شاهد لأحدهما على الآخر بما لا منفعة له فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل قد أشهد هاهنا ثم يزيد شهودا بعد شهود]
مسألة وسئل: عن رجل ادعى على رجل مائة دينار وأقر بها الذي ادعيت قبله وأنه قد أوصلها إليه، فأقام شهيدين يشهدان أنه أقر أنه أوصل إليه خمسين دينارا وأقام عليه شهيدين آخرين أنه أوصله خمسين دينارا، وقال الذي له الحق: إنما هي خمسون دينارا ولكني أشهدت له شهودا بعد شهود، أفتراها مائة أم خمسين؟
قال: أراها خمسين؛ لأن الرجل قد أشهد هاهنا ثم يزيد شهودا بعد شهود، فأراها خمسين إلا أن يكون كتب له براءتين، فإن هذا مما يستدل أنه أمران مختلفان وإلا فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قوله أراها خمسين، يريد مع يمين الذي له الحق أنها خمسون واحدة.
وفي رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب(10/421)
الشهادات خلاف هذا أن القول قول الذي عليه الحق. وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى على رجل حقا فقال المدعى عليه ما أعرفك]
مسألة وعن رجل ادعى على رجل حقا فقال المدعى عليه ما أعرفك ولا كانت بيني وبينك خلطة قط، ثم ادعى بعد ذلك المدعى عليه قبل المدعي بحق وأتى عليه ببينة، هل تنفعه بينته وهو قد أنكر خلطته، فقال: لا أرى أن تنفعه بينته ولا تجوز شهادتهم إلا أن تكون بعد ذلك خلطة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة جارية على أصل مختلف فيه في المذهب قائم من المدونة من كتاب اللعان وغيره.
وقوله في آخر المسألة: إلا أن تكون بعد ذلك خلطة - لفظ وقع على غير تحصيل، إذ لا تعتبر الخلطة مع قيام البينة.
فإذا أقام البينة بحق له عليه من معاملة قديمة قبل إنكاره أن تكون بينه وبينه خلطة لم ينتفع بها، وإن أقام البينة بحق له عليه من معاملة حديثة بعد إنكاره أن يكون بينه وبينه خلطة قضي له بها وإن لم يكن بينهما بعد ذلك خلطة.
وإن قالت البينة لا تدري هل كانت المعاملة قبل الإقرار أو بعده فالقول قول الطالب مع يمينه أنها بعد الإقرار. وإنما تعتبر الخلطة مع مجرد الدعوى.
فقوله: إلا أن تكون بعد ذلك خلطة إنما يصح إن ادعى قبله دعوى لم يقم عليها بينة من معاملة حديثة بعد أن أنكر خلطته؛ لأنه إن كانت بينهما بعد ذلك خلطة لحقته اليمين، وإن لم تكن بينهما خلطة لم تلحقه، وبالله التوفيق.
[: أكراه الدار بستة دنانير فنقده ثلاثة وبقي عليه ثلاثة ففلس المكتري]
ومن كتاب استأذن سيده وسألته: عن الذي يكتري الدار سنة بستة دنانير فينقده ثلاثة(10/422)
دنانير ويبقى عليه] ثلاثة، فلما سكن ستة أشهر فلس المكتري.
قال: يخير صاحب الدار، فإن شاء ترك الدار لتمام السنة وحاص الغرماء بثلاثة دنانير في مال المفلس، فإن أبى إلا أن يأخذ داره رد نصف الثلاثة التي قبض وقبض داره وحاص الغرماء بما زاد في مال المفلس؛ لأن الثلاثة التي قبض كانت كراء لما سكن ولما بقي، فلما كانت كراء لما سكن ولما بقي، قيل له: رد ما كان كراء لما بقي من السنة وتأخذ دارك وتحاص الغرماء بنصف كراء ما سكن؛ لأنه قد صار لك عديما بذلك، إلا أن يشاء الغرماء أن يعطوه دينارا ونصفا تمام كراء الستة الأشهر التي بقيت ويأخذوا الدار إلى السنة فيكون ذلك لهم إذا أعطوه دينارا ونصفا؛ لأنه لو أخذ داره كان عليه أن يرد عليهم دينارا ونصفا، فإذا أقروا ذلك في يده وأعطوه دينارا ونصفا فذلك تمام ثلاثة دنانير كراء الستة أشهر التي بقيت، فيكونون أولى بالدار ويحاص بدينار ونصف صاحب الدار في مال المفلس، وذلك تمام ستة دنانير.
وكذلك أيضا العمل في البز وفي جميع الأشياء إذا اشترى رجل عدلين ففلس المشتري فلم يوجد عنده إلا عدلا واحدا وقد قبض البائع نصف الثمن كان العمل فيه على ما فسرت لك في كراء الدور وفي كل شيء كذلك العمل فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على مذهب ابن القاسم(10/423)
في المدونة وعلى معنى ما تقدم في رسم قطع الشجر من سماع ابن القاسم، وفي بعض وجوهها اختلاف.
فأما قوله: إذا فلس المكتري بعد ستة أشهر إن صاحب الدار يخير فإن شاء ترك الدار إلى تمام السنة وحاص الغرماء بثلاثة دنانير في مال المفلس، فلا أعرف فيه نص خلاف، إلا أنه داخل فيه بالمعنى، وذلك أن هذا إنما يصح على قياس قول أشهب الذي يرى قبض أوائل الكراء قبضا لجميع الكراء، فيجيز أخذ الدار للمكري من الدين.
وأما ابن القاسم فالقياس على أصله أن يحاص الغرماء بكراء ما مضى ويأخذ داره، ولا يكون له أن يسلمها ويحاص الغرماء بالثلاثة دنانير.
وإذا أسلم الدار وحاص الغرماء ببقية كرائه قبض ما صار له في المحاصة إن كان الكراء وقع بالنقد.
وأما إن لم يكن وقع بالنقد ولا كان العرف فيه النقد فلا يجب أن يقبض ما صار له في المحاصة؛ لأنه لم يسلم السكنى، ويوقف، فكلما سكن شيئا أخذ بقدره من ذلك.
وأما قوله فإن أبى إلا أن يأخذ داره رد نصف الثلاثة التي قبض وقبض داره، ففيه ثلاثة أقوال في المذهب: أحدها هذا، والثاني: أنه ليس له أن يأخذها إلا أن يرد الثلاثة التي قبض وهو الذي يأتي على ما في الموطأ لمالك، والثالث: أن له أن يأخذ داره ولا يرد شيئا، وتكون الثلاثة التي قبض ثمن الستة التي سكن، روي ذلك عن ابن أبي زيد وهو مذهب الشافعي.
وأهل الظاهر يقولون إنه إذا قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء بجميع ما بقي له منه، ولا يكون له حق في أخذ شيء مما أدرك بدليل قوله في الحديث: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به» .
واختلف إذا أعطاه الغرماء دينارا ونصفا تمام كراء الستة الأشهر التي بقيت وأخذوا الدار إلى تمام السنة، فقيل: إنهم يكونون أحق بها ويحاص صاحب الدار بدينار ونصف في مال المفلس سوى الدار، وهو(10/424)
قوله في هذه الرواية، وقيل: إنهم يكونون أحق بدينار ونصف من السكنى؛ لأنهم افتدوه بذلك فيكرون به الستة الأشهر الباقية حتى يستوفوه منها كما لو فدوها به من رهن؛ لأنهم حلوا فيها محل ربها، فلما كان أحق بها كانوا أحق منها بما فدوه حتى يستوفوه، وقيل: إنهم لا يكونون أحق بشيء منه ويحاصهم فيه صاحب الدار بالدينار ونصف الباقي له من ثمن الماضي.
وقد قال ابن وهب: إنه ليس للغرماء أخذ بقية الكراء حتى يدفعوا إليه جميع دينه من الكراء، وبالله التوفيق.
[: حصد الزرع ودرس وجاء الغرماء فطلب الولد في الزرع إجارة ما حصدوا]
من كتاب العرية وعن رجل توفي وترك ولدا وترك زرعا قد أفرك، فلما حصد ودرس جاء غرماء الميت ولم يترك مالا غير الزرع فطلب الولد في الزرع إجارة ما حصدوا ودرسوا، هل ترى ذلك لهم؟
قال ابن القاسم: نعم، ذلك لهم يأخذون إجارة ما عملوا فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه، إذ لا يلزم الورثة أن يحصدوه ويدرسوه للغرماء من أموالهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: سلف دنانير في عبد موصوف إلى أجل فمات قبل أن يدفع العبد]
مسألة وفي رجل سلف رجلا دنانير في عبد موصوف إلى أجل فمات الذي عليه العبد قبل أن يدفع العبد كيف يحاص أهل الدين؟
وهل يجوز له أن يأخذ ثمنه منه وإن كان اشترى منه قمحا؟
قال ابن القاسم: يحاص أهل الدين بقيمة تلك السلعة ما كانت، فما صار له في المحاصة اشترى له به ما بلغ من حقه، ويكون ما بقي دينا له على الغريم يتبعه به إن بلغ ما صار إليه في(10/425)
المحاصة نصف عبد أو ثلث عبد اشتري ذلك له، واتبعه بنصف عبد أيضا إن كان الذي صار له في المحاصة نصف عبد، وإن كان أقل أو أكثر من ذلك فإنما يتبعه بما نقص من العبد.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يحاص أهل الدين بقيمة تلك السلعة ما كانت، يريد قيمتها حالة خلاف قول سحنون إنه يحاص له بقيمتها إلى أجلها.
وقد مضى هذا المعنى وغيره من معاني المسألة في رسم القبلة من سماع ابن القاسم.
وإذا وقف ما صار لهم بالمحاصة ليشتري لهم به ما بلغ من حقوقهم فحال السعر بزيادة اتبعوا الغريم بالنقصان، وإن حال بنقصان لم يرجع الغرماء عليهم بالفضل إلا أن يكون فيما صار لهم أكثر من حقوقهم فيردوا الفضل على الغرماء، قاله ابن حبيب في الواضحة، وهو بيان وزيادة في المسألة، والأصل في ذلك أن الرخص والغلاء للغريم وعليه؛ لأنه موقوف على ملكه، ولو تلف لكانت مصيبته منه ولم يلحق سائر الغرماء من ذلك شيء، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه]
مسألة وعن الرجل يفلس فيوقف السلطان ماله ويكون في ماله دابة لرجل، فيموت الغريم الذي عليه الدين قبل أن يقسم السلطان ماله، فيجد صاحب الدابة دابته هل تراه أحق بدابته من الغرماء؟
قال مالك: إذا وقفت له فهو أحق بها وإن مات الغريم قبل أن يقبضها، وإن مات الغريم قبل أن توقف له فهو أسوة الغرماء.
قلت: ما يوقف له أليس إذ أفلس ووقف ماله فهو أحق بدابته وإن لم يجيء إلا بعد موت المفلس إذا لم يقسم ماله؟
قال: لا يكون وقف ماله وقفا حتى توقف له الدابة بعينها، يتعلق بها فلس فيقول هذه دابتي وتوقف له حتى يثبتها.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة صحيحة مفسرة لما في كتاب(10/426)
الهبات من المدونة. والأصل فيها قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» ؛ لأنه إذا وقف له ليثبته ففد أدركه، وبالله التوفيق.
[مسألة: السكوت هل يعد إذنا في الشيء وإقرارا به أم لا]
مسألة وسئل: عن رجل جاء قوما فقال أنا أشهدكم أن لي على فلان كذا وكذا دينارا وفلان ذلك مع القوم في المجلس ساكت فلم يقل نعم ولا لا، ولم يسأله الشهود عن شيء، ثم جاء يطلب ذلك قبله فأنكر أن يكون عليه شيء، هل يلزمه شيء؟
قال: نعم، ذلك لازم إذ سكت ولم يقل شيئا.
قال محمد بن رشد: اختلف في السكوت هل يعد إذنا في الشيء وإقرارا به أم لا على قولين مشهورين في المذهب منصوص عليهما لابن القاسم في غير ما موضع من كتبه: أحدهما هذا: أنه إذن، والثاني: أنه ليس بإذن، وهو قول ابن القاسم أيضا في سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح وفي سماع أصبغ من كتاب المدبر.
وأظهر القولين أنه ليس بإذن؛ لأن في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» دليلا على أن غير البكر بخلاف البكر في الصمت.
وقد أجمعوا على ذلك في النكاح، فوجب أن يقاس ما عداه عليه إلا ما يعلم بمستقر العادة أن أحدا لا يسكت عليه إلا راضيا به فلا يختلف في أن السكوت عليه إقرار به، كالذي يرى حمل امرأته فيسكت ولا ينكر ثم ينكره بعد ذلك وما أشبه(10/427)
ذلك. وقد مضى هذا في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح وفي غير ما موضع من كتابنا هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قام بذكر حق له ممحو على رجل فطلبه فادعى أنه قد قضاه]
مسألة وسئل: عن رجل قام بذكر حق له ممحو على رجل فطلب منه ما فيه وأقام عليه بما فيه البينة، فادعى الغريم أنه قد قضاه إياه ومحاه عنه، فهل يلزمه الحق أو ما ترى؟
فقال ابن القاسم: يلزمه الحق إذا ثبتت البينة ويحلف بالله ما قضاه ولا محاه عنه.
وعن رجل قام بذكر حق على رجل ممحو وأقر صاحب الحق أنه محاه وظن أنه قد قضاه وله بينة على ما في هذا الذكر الحق قال الغريم قد قضيته وما محاه إلا من قبض، فما ترى؟
قال ابن القاسم: يحلف الغريم بالله لقد قضاه ولا شيء عليه، وهذه مخالفة للأولى؛ لأن هذا قد أقر له بأنه محاه.
قال محمد بن رشد: الفرق بين المسألتين بين على ما قاله، ولا اختلاف في المسألة الأولى.
وأما الثانية فيتخرج فيها بالمعنى اختلاف حسبما ذكرته في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبتاع العبد بماله بدين إلى أجل ففلس مشتريه وقد مات العبد]
مسألة وسألته: عن الرجل يبتاع العبد بماله بدين إلى أجل ففلس مشتريه وقد مات العبد في يده وبقي ماله أو بقي العبد وفات ماله.
قال: إذا وجد العبد وفات ماله بانتزاع من السيد فاستهلكه أو غير ذلك أو استهلاك من العبد أو بوجه من الوجوه فإنه يقال له إن شئت فخذ العبد ولا شيء لك غيره، وإن شئت فدع وحاص فيه وفي جميع ماله المفلس بمالك عليه، فإن اختار العبد فلا شيء له غيره إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا ماله على المفلس(10/428)
ويأخذوا العبد فذلك لهم.
وإن كان العبد قد فات فوجد ماله فإنه لا سبيل إلى مال العبد ولا خيار له في ذلك وهو أسوة الغرماء في مال العبد والمفلس.
قلت له: وإن كان مال العبد رقيقا أو عروضا قائمة معروفة؟
قال: وإن كان معروفا فلا سبيل له إليه، وقال: مال العبد ضعيف، ألا ترى أن مالكا قال: لو أن رجلا ابتاع عبدا بماله فذهب بعض ماله أو كله في عهدة الثلاث لم يكن له أن يرده لما ذهب من ماله، ولو أنه وجد به عيبا وقد ذهب ماله رده ولم يكن عليه فيما ذهب من ماله شيء، إلا أن يكون انتزعه منه فيكون عليه أن يرد معه ما انتزع من ماله مما اشتراه به.
قلت: فما اكتسبه عنده أله أن يحبسه إذا رده بالعيب وقد كان انتزعه منه قبل أن يظهر على العيب، أعليه أن يرده مع العبد إذا رده بالعيب؟
قال ابن القاسم: قال مالك: إذا رده رد معه ما اكتسب من ماله كان عنده اكتسبه أو اشتراه به فانتزعه أو كان في يده فإنه يرده ويرد ماله.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة صحيحة جارية على أصولهم في أن مال العبد تبع له، ولا اختلاف أحفظه في شيء من وجوهها إلا في مجرد انتزاع مال العبد في التفليس هل هو فوت فيه بخلاف الرد بالعيب أو ليس بفوت فيه مثل الرد بالعيب؟ فقيل: إنه ليس بفوت فيه مثل الرد بالعيب.
وإذا فلس مشتري العبد بعد أن انتزع ماله وهو قائم بيده لم يتلف ولا استهلكه بعد أن البائع أحق به يأخذه مع العبد إن شاء أخذ العبد وترك محاصة الغرماء، كما أن مشتري العبد إذ وجد به عيبا بعد أن انتزع ماله وهو قائم بيده لم يكن له أن يرده إلا بماله، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية بدليل قوله فيها: وفات ماله بانتزاع من السيد فاستهلكه، إذ لم ير مجرد الانتزاع في المال فوتا فيه إلا أن يستهلكه السيد، وسواء استهلكه بالانتفاع به مثل أن يكون طعاما فيأكله أو ثوبا فيستهلكه باللباس أو بما لا منفعة له فيه، مثل أن يكون(10/429)
عبدا فيقتله أو يعتقه أو يهبه أو يتصدق به، الحكم في ذلك كله سواء، هو في التفليس فوت بخلاف الرد بالعيب، إذ ليس لمشتري العبد أن يرده بالعيب بعد أن استهلك ماله بشيء من هذه الوجوه إلا أن يرد قيمة ذلك معه. وقيل: إن مجرد الانتزاع فيه فوت.
وإذا فلس المشتري بعد أن انتزع المال وهو قائم بيده فليس للبائع أن يأخذه، وهو بالخيار بين أن يأخذ العبد بجميع الثمن وبترك ماله، أو يتركه ويحاص الغرماء بجميع الثمن فيه وفي ماله وفي سائر مال المفلس، بخلاف الرد بالعيب، إذ ليس للمشتري أن يرد العبد بعد انتزاع ماله إلا أن يرثه معه، فإتلاف مال العبد فوت في التفليس وفي الرد بالعيب، تلف قبل الانتزاع أو بعده، يكون الحكم في ذلك كله بمنزلة إذا لم يكن له مال.
واستهلاك المشتري إياه قبل الانتزاع أو بعده يفترق فيه التفليس والرد بالعيب، يكون الحكم فيه في التفليس بمنزلة إذا لم يكن له مال، وفي الرد بالعيب لا يرده إلا أن يرد معه قيمة ما استهلك من ماله أو مثله في ماله مثل.
ومجرد الانتزاع إذ كان المال قائما بيد المبتاع يختلف فيه في التفليس على قولين: أحدهما: أن الانتزاع فوت كالتلف، والثاني: أنه ليس بفوت فيه ويكون للبائع أن يأخذه مع العبد إن أراد أخذه، وفي الرد بالعيب ليس له أن يرده إلا بماله.
وسواء في هذا كله ابتاع المشتري العبد بماله أو اكتسبه عنده بتجارة أو وهب إياه، إلا أن يكون السيد هو الذي وهبه إياه أو اكتسبه عنده من عمل يده فلا يكون للبائع فيه حق لا في التفليس إن أراد أن يأخذه ولا في الرد بالعيب إن رد عليه.
والحكم في مال العبد في الاستحقاق بخلاف هذا، للمستحق أن يأخذ مال العبد من يد المشتري وإن كان العبد قد مات عنده قبل الاستحقاق.
والفرق في هذا بين الاستحقاق وبين التفليس أن العبد في الاستحقاق لم يخرج عن ملك مستحقه فكان له أن يأخذ ماله سواء وجد العبد أو لم يجده، وكذلك له أن يغرم المشتري الذي استحق العبد من يده(10/430)
قيمة مال العبد إن كان قد استهلكه، وجد العبد أو لم يجده، ويأخذه من يد الموهوب له إن كان وهبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصائغ يفلس فيقر لقوم بمتاع عنده ولا بينة لهم إلا قوله]
مسألة وعن الصائغ يفلس فيقر لقوم بمتاع عنده ولا بينة لهم إلا قوله، هل يقبل قوله: إذا قال هذا لفلان ولا بينة لهم، أو أقر بدين لرجل عليه وليس له بينة، أيأخذ مع من أقام البينة أم لا؟
قال: سمعت مالكا يقول غير مرة: إن إقراره بالمتاع جائز لأهل المتاع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، ومضى تحصيل القول فيها أيضا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب تضمين الصناع، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبيع الغزل من الرجل فيستنسجه ثوبا ثم يفلس فيوجد الثوب في يده]
مسألة وسألته: عن الصناع إذا صنع أحدهم لرجل عملا فقال له صاحب المتاع: هات ما عملت لي وسآتيك بحقك، أو وخره أياما ثم فلس قبل أن يتقاضى الصانع أجرة عمله، هل يكون الصانع أولى بذلك الشيء الذي عمله فيه من الغرماء إذا وجده بعينه حتى يتقاضى حقه؟
قال: إن كل صنعة صنعها صانع لرجل لم يجعل فيها أكثر من عمل يديه مثل الخياطة والقصارة والصياغة ونحو ذلك من الأعمال، فإذا خرجت من يده بما ذكرت فليس هو أولى بها، وإن وجدها فهو أسوة الغرماء بأجر عمله الذي وجب له عليه في جميع مال المفلس، وكل صانع أخرج من عنده عمله شيئا(10/431)
سوى عمله فأدخله في ذلك الشيء مثل الصباغ يجعل الصباغ والصيقل يجعل متاع السيف والفراء يسترقع الفرو فيجعل من عنده الجلود، فإن هؤلاء ونحوهم إذا أدركوا السلعة قائمة بعينها نظر إلى قيمة الصبغ الذي في الثوب كم قيمته لا يبالي نقص ذلك الصبغ الثوب أو زاده، ثم ينظر كم قيمة الثوب أبيض وكم قيمة الصبغ.
وإنما ينظر قيمة ذلك يوم يحكم فيه، فإن كان قيمة الصبغ خمسة دراهم وقيمة الثوب أبيض عشرة دراهم كان لصاحب الصبغ ثلث الثوب ولغرمائه ثلثاه إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه جميع ما واجبه عليه المفلس من الأجر ويأخذوا الثلث فذلك لهم، أو يرضى هو أن يكون أسوة الغرماء في مال المفلس بجميع حقه فيكون ذلك له.
وإن لم يرض أن يكون أسوة الغرماء ولم يرض الغرماء أن يفتكوا ذلك الثوب، فالثلث له بالغ ما بلغ ثمنه وإن زاد على أجره الأول أضعافا أو نقص أضعافا من أجره الأول أضعافا، فإذا أسلم إليه فيه ثلثه فله نماؤه وعليه نقصانه، وهو بمنزلة الرجل يبيع الغزل من الرجل فيستنسجه ثوبا ثم يفلس فيوجد الثوب في يده، فإن صاحب الغزل مخير إن شاء أسلمه وكان أسوة الغرماء، وإن أبى نظر إلى قيمة الغزل وقيمة العمل عمل الثوب، فإن كان قيمة الثوب الغزل خمسة دراهم وقيمة العمل عشرة دراهم أو قيمة العمل خمسة دراهم وقيمة الغزل عشرة دراهم كان هو والغرماء شركاء في الثوب، هذا بقيمة الغزل والغرماء بقيمة العمل، إلا أن يشاء الغرماء أن يعطوه جميع حقه ويستخلصوا جميع الثوب فذلك لهم، وإن أبوا وأسلموا إليه ما(10/432)
صار له في الثوب كان ذلك له ولم يكن له أكثر من ذلك نقص الثمن الذي صار له في الثوب عن ثمن الغزل أو زاد فذلك له، إذا أسلم إليه كان له نماؤه وعليه نقصانه، وليس له في مال المفلس أكثر مما له في الثوب وإن نقص الذي صار إليه في الثوب أضعاف ثمن الغزل ليس له أكثر من ذلك، وليس ينظر في هذا إلى ثمن الثوب، ربما كان ثمن الثوب أدنى من قيمة العمل وربما كان قيمة الغزل أكثر من جميع الثوب، وإنما ينظر إلى قيمة الغزل وقيمة عمل الثوب فيكونون فيه شركاء في الثلث والثلثين أو النصف أو ما كان فيضربون بذلك السهم في ثمن الثمن، فقس ما يرد عليك من الصناعات والغزل ونحوه مما يعمل على ما فسرت لك، والله الموفق للصواب.
قال محمد بن رشد: الأصل في مسألة الصانع يفلس الذي استأجره والشيء الذي استعمل إياه بيده قبل أن يدفعه إليه أو بعد أن دفعه إليه وفي مسألة الغزل التي أدخلها عليها ونظرها بها - قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» ؛ لأن الصانع بائع للصنعة التي استؤجر على عملها، فإذا أفلس المستأجر قبل أن يدفع الأجرة والسلعة بيد الصانع لم يدفعها بعد فلا اختلاف في أنه أحق بالسلعة من الغرماء حتى يستوفي أجرته؛ لأنها كالرهن في يديه، ولا اختلاف في هذا.
وأما إذا أفلس قبل أن يدفع الأجرة وقد قبض السلعة معمولة، فإن لم يكن للصانع فيها غير عمل يده مثل أن يكون ثوبا فخاطه أو قصره أو غزلا فنسجه أو فضة فصاغها وما أشبه ذلك، فالمشهور أنه أسوة الغرماء، وهو قوله في هذه الرواية، وقيل: إنه أحق بعمله، فإن شاء أخذه بأجرته وكان شريكا للغرماء في المتاع المعمول بقيمة عمله فيه، وإن شاء(10/433)
تركه وكان أسوة الغرماء، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في هذا الكتاب.
وهذا إذا علم أن الصانع لم يأخذ أجرته ببينة قامت على ذلك، مثل أن يكون دفع إليه المتاع معمولا على أن يأتيه بأجرته بحضرة بينة.
وأما إن فلس والمتاع بيده معمولا فلا يصدق بعد التفليس أنه لم يدفع الأجرة على أصولهم في أن المفلس لا يجوز إقراره بعد التفليس.
وأما إن كان له فيها شيء قد أخرجه من ماله سوى العمل، مثل الصباغ يصبغ الثوب بصبغة أو الرقاع يرقع الثوب برقاعة أو الصيقل يجعل متاع السيف من عنده وما أشبه ذلك فلا اختلاف في أنه أحق بما أخرج من ذلك كله من عنده؛ لأنه قائم بعينه كالسلعة المبيعة يدركها البائع في التفليس قائمة لم تفت.
وأما عمل يده المستهلك فيكون أحق به على رواية أبي زيد التي ذكرناها، ولا يكون أحق به على رواية عيسى وهو المشهور في المذهب حسبما ذكرناه.
فيكون على قياس رواية أبي زيد إذا أبى الغرماء أن يعطوه جميع أجرته بالخيار بين أن يكون أسوة الغرماء بجميع أجرته، وبين أن يكون أحق بقيمة ما جعل في السلعة من عنده من صبغ أو رقاع وبقيمة عمل يده، يكون بذلك كله شريكا للغرماء في السلعة، بأن يقال كم قيمة السلعة غير معمولة؟
فإن قيل: عشرة، قيل: كم قيمة ما أخرج فيها من عنده وكم قيمة عمل يده؟
فإن كان قيمة ما أخرج فيها من عنده خمسة وقيمة عمل يده خمسة كان شريكا للغرماء فيها بالنصف، والقيمة في ذلك يوم الحكم على ما نص عليه في هذه الرواية.
وقد قيل: إنه يكون شريكا فيها بما زاد عمله فيها من صبغ أو غيره، قاله ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وهو بعيد في القياس، إذ قد يزيد عمله فيها أضعاف قيمته وقد لا يزيد فيها إلا بعض قيمة عمله، وقد لا يزيد فيها شيئا، وقد ينقص من قيمتها، فالقياس أن يكون شريكا بقيمة ما أخرج من عنده من صبغ وعمل يوم يحكم بالغا ما بلغ، كما يأخذ البائع في التفليس سلعته إذا وجدها قائمة زادت قيمتها أو نقصت.
وأما على قياس رواية عيسى هذه وهو المشهور في المذهب فلا يكون إذا أبى الغرماء أن يعطوه جميع أجرته أحق إلا بقيمة ما أخرج من عنده، وهو الذي يكون به شريكا.
وأما قيمة عمل يده فقيل: إنه يكون به(10/434)
أسوة الغرماء وهو القياس، وقيل: إنه لا يكون له فيه شيء، وإنما يقال له أنت بالخيار بين أن تحاص الغرماء بجميع أجرتك، وبين أن تكون شريكا لهم في السلعة بقيمة ما أخرجت فيها من عندك خاصة دون عمل يدك، وهو ظاهر رواية عيسى هذه، ولا يحمله القياس.
ومسألة الغزل التي ساقها على هذه المسألة ومثلها بها صحيحة لا اختلاف أحفظه فيها ولا إشكال في شيء من معانيها، والحجة بها لإيجاب الشركة للصانع فيما أخرج من عنده بينة واضحة، ولم ير النسج في الغزل المبيع فوتا، ومثله البقعة تبنى.
وفي كتاب محمد أن الرجل إذا باع جلودا من رجل فقطعها المشتري نعالا ثم فلس فلا يكون البائع أحق بها؛ لأنها قد فاتت، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ في الثوب يقطعه قميصا أو ظهائر، والخشبة يعمل منها توابت وأبوابا.
والفرق عندهم بين ذلك وبين الغزل ينسج والبقعة تبنى أن البقعة والغزل قائم بعينه إلا أنه قد زيد فيه غيره، والقطع في الثياب والجلود نقصان فيها وإفاتة لها.
وقد وقف مالك في رواية مطرف عنه في الثياب تقطع فقال: ما أدري ما هذا لو كانت أدما فقطعت خفافا أو نعالا وتفاوت هذا لم أره شيئا، وإن كان شيئا متقاربا لم يأت فيه فوت فأراه أحق به من الغرماء.
والذي يوجبه عندي فحص القياس على ما أجمعوا عليه في الجارية يصيبها عور أو عمى أو الثوب يخلق أو يبلى أن صاحبه أحق به إن شاء أن يأخذه بجميع الثمن أن لا يكون القطع في الثياب ولا في الجلود فوتا، وأن يكون لصاحبها أن يأخذها مقطوعة ناقصة بجميع الثمن إن شاء، وأن يكون شريكا مع المبتاع فيها بقيمة الخياطة والعمل إن لم يأت حتى خيطت الثياب أو عملت النعال من الجلود، إلا أن يكون القطع فيها فسادا لها مثل أن يقطع الثوب تبابين وهو لا يقطع من مثله تبابين، أو الجلد نعالا وهو لا يقطع من مثله نعال، فيكون ذلك فوتا فيها بمنزلة البلى والفساد في الثوب إذا تفاحش جدا.
وإذا كان عور الجارية أو نقصان الثوب من جناية قد أخذ لها المبتاع ثمنا نصف ثمنهما مثلا فإن صاحبها الغريم مخير بين أن يأخذها بنصف حقه ويحاص الغرماء بالنصف الباقي أو يتركها ويحاص الغرماء بجميع حقه، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه حقه كاملا(10/435)
فلا يكون له كلام، وبالله التوفيق.
[: من تقاضى منه شيئا قبل أن يفلس فهو له دون الغرماء]
ومن كتاب [أوله] يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسألته: عن الرجل يكون عليه دين للناس وقد غرق في الدين إلا أنه لم يفلس بعد ولم يوقف للتفليس ففطن به بعض غرمائه أنه قد غرق في الدين فيبادر إليه فيتقاضى منه حقه ثم يعلم الغرماء بذلك ويقومون على تفليسه.
قال: قال مالك: من تقاضى منه شيئا قبل أن يفلس فهو له دون الغرماء، وإن كان قد أحاط الدين بماله وغرق في الدين فمن تقاضى منه شيئا ما دام قائم الوجه وهو يتاجر الناس فهو له.
قال ابن القاسم: وإن كان الذي تقاضى منه قد فطن لعدمه وبادر الغرماء فذلك له دون الغرماء.
قلت: فلو كان جميع الغرماء قد تشاوروا في فلسه وأرادوا أن يفلسوه إلا أنهم لم يرفعوا ذلك بعد إلى السلطان ولم يقفوه للتفليس بعد إلا أنهم قد تشاوروا في فلسه فخالف بعض الغرماء فتقاضى منه، أيكون له ذلك؟
قال: لا أرى ذلك له، وهو بين جميع الغرماء.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا: إن قضاء الغريم بعض غرمائه بعد أن تشاوروا في تفليسه لا يجوز - هو مفسر لأحد قولي مالك في المدونة، والقول الثاني: أن قضاءه لا يجوز وإن لم يتشاوروا بعد في تفليسه، وأصبغ يرى قضاءه جائزا وإن تشاوروا في تفليسه ما لم يفلسوه، فهي ثلاثة أقوال، أظهرها ما اختاره ابن القاسم من قولي مالك أن قضاءه جائز ما لم يتشاور الغرماء في تفليسه، وبالله التوفيق.(10/436)
[مسألة: يواجر الرجل ببقرة ليدرس له فيدرس النهار ثم يفلس صاحب الزرع]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يواجر الرجل ببقرة يدرس له زرعا فيدرس النهار وينقلب الليل، ثم يفلس صاحب الزرع، قال: الدارس أولى بالطعام حتى يستوفي إجارته.
قال الإمام القاضي: قال ابن المواز: لأنه وإن انقلب في الليل فإن الأندر بحاله لا ينقلب به صاحبه، بخلاف الصانع في دار الرجل مثل الخياطة والصياغة وما أشبه ذلك من الأعمال فينقلب ويتركها، فلا يكون الصانع أحق بها من الغرماء.
وقول محمد بن المواز صحيح؛ لأنه ما لم يتم عمل الزرع فله حكم كونه بيده وإن غاب عنه بالليل لما يلزمه من حفظه حين مغيبه عنه.
وكذلك لو أكمل عمله ما لم يسلمه إلى ربه بأن يقول له: خذ زرعك فقد أكملت عمله هو أحق به؛ لأنه كالرهن بيده ضمانه منه إن ضيعه.
ولو فلس صاحبه بعد أن أسلمه إليه لكان أسوة الغرماء فيه وفيما سواه من ماله بجميع أجرته.
ويأتي على قياس رواية أبي زيد في النسج أن يكون أحق من الغرماء بقيمة عمله في الزرع يكون له فيه شريكا.
وقد مضى هذا المعنى في الرسم الذي قبل هذا، وتأتي المسألة متكررة في سماع أبي زيد، وسنتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله تعالى.
[مسألة: الذي أقر بالاقتضاء لا يصدق فيما ادعاه إن كان إقراره على وجه الشكر]
مسألة وسئل: عن رجل لقي رجلا فقال: أشهدك أني قد تقاضيت من فلان مائة دينار كانت لي عليه فجزاه الله خيرا فإنه أحسن قضائي فليس لي عليه قليل ولا كثير، فلقي الرجل الذي أشهده الرجل الذي زعم أنه قد قضاه فقال له: قد لقيني فلان فزعم أنك قد قضيته مائة دينار كانت له عليك وقد أشهدني على ذلك، فقال: قد كذب إنما أسلفته مائة دينار، فالقول قول من؟
قال ابن القاسم: القول قول من زعم أنه أسلفه مع يمينه إلا أن يأتي الآخر(10/437)
ببينة أنه قد تقاضاها في دينه.
وقال ابن القاسم: هي بينة. قال أبو حمزة: وكذلك قال المخزومي.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في آخر كتاب المديان من المدونة، ومثل ما في رسم المكاتب من سماع يحيى أن الذي أقر بالاقتضاء لا يصدق فيما ادعاه من أنه اقتضى ذلك من حق واجب له إن كان إقراره على وجه الشكر، قال ذلك في هذه الرواية من قوله في كتاب الشهادات من المدونة.
وفي سماع سحنون بعد هذا من هذا الكتاب أن من أقر للرجل أنه أسلفه فقضاه - يصدق في دعوى القضاء إذا كان إقراره بالسلف على وجه الشكر.
والفرق عندي بين أن يقر الرجل للرجل أنه أسلفه على وجه الشكر فقضاه فينكر المقر له الاقتضاء، وبين أن يقر أنه اقتضى منه حقا له قبله على وجه الشكر له في أنه أحسن قضاءه فينكر أن يكون كان له عليه حق ويطلبه بما أقر أنه اقتضاه منه - هو أن السلف معروف آتاه الله وفضل تفضل به عليه يلزمه [شكره لقول الله عز وجل: {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] ، ولقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من آلت إليه يد فليشكرها» الحديث، فحمل عليه أنه إنما قصد إلى أداء ما تعين عليه من الشكر، لا إلى الإقرار على نفسه بوجوب السلف عليه، إذ قد قضاه إياه على ما ذكر، وحسن القضاء واجب على من عليه أن يفعله، فلم يجب على المقتضي أن ينكره، فلما لم يجب ذلك عليه وجب ألا يكون له تأثير في الدعوى وأن يكون القول قول القاضي؛ لأن المقتضي قد أقر بالقبض ويدعى أنه كان له عليه حقا فلا يصدق في ذلك على مذهب ابن القاسم، ويأتي على أصل أشهب في قوله: إنه لا يؤخذ أحد(10/438)
بأكثر مما يقر به على نفسه أن يكون القول قول المقتضي؛ لأنه لم يقر أنه قبض منه إلا ما له عليه، وهو قول ابن الماجشون نصا في هذه المسألة بعينها.
ويقوم من هذه المسألة أن من كان له حق على رجل بوثيقة فدفع الذي عليه الحق ذلك الحق إلى الذي له الحق ودعا إلى قبض الوثيقة منه أو تخريقها أن ذلك ليس له، وإنما له أن يشهد عليه وتبقى الوثيقة بيد صاحب الدين؛ لأنه يدفع بها عن نفسه، إذ لعل الذي كان عليه الدين يسترعي بينة قد سمعوا إقرار صاحب الدين بقبضه منه أو حضروا دفعه إليه ولم يعلموا على أي وجه كان الدفع، فيدعي أنه إنما دفع إليه ذلك المال سلفا أو وديعة ويقول هات بينة تشهد لك أنك إنما قبضت ذلك مني لحق واجب لك، فبقاء الوثيقة بيده وقيامه بها يسقط عنه هذه الدعوى التي تلزمه.
وكان شيخنا الفقيه أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقيم ذلك فيما أخبرني عنه غير واحد من أصحابنا وأنا أشك أن أكون سمعته منه من آخر مسألة من كتاب المديان من المدونة، وهو كلام صحيح، إلا أن محمد بن عبد الحكم يرى أنه من الحق أخذ الوثيقة وقطعها، وهو قول عيسى بن دينار في بعض روايات العتبية، وقول أصبغ في الواضحة مثله في المرأة تقوم على ورثة زوجها بكتاب فيه بقية صداقها وليس بكتاب نكاحها إذا أخذت ما فيه نقدا ولم تأخذ عما فيه أرضا أو عقارا، ولا أعلم من يخالفهم في ذلك نصا، وإنما اختلف أصحاب مالك في كتاب النكاح إذا قامت به على ورثة زوجها وقبضت ما كان لها فيه من حق وأبت من دفعه، فقال مطرف: إن للورثة قبضه منها وقطعه، وقال أصبغ: ليس ذلك لهم.
وأما إذا أبى الذي بيده الوثيقة من الإشهاد على نفسه بقبض ما فيها وقال للذي كان عليه الدين خذ الوثيقة أو قطعها فتلك براءتك، فليس ذلك له ويلزمه الإشهاد على نفسه، يقوم ذلك من غير ما مسألة، منها مسألة في رسم العرية من هذا السماع، وبالله التوفيق.
[: المشتري يرد بالعيب فلم يقبض ثمنه من البائع حتى فلس والعبد بيده]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال في عبد بيع فباعه مشتريه ثم فلس وقد خرج عن ملكه(10/439)
فحاص بالثمن ثم وجد بالعبد عيبا فرده، فقال: أنا آخذه وأرد ما أخذت، إن ذلك له.
قال محمد بن رشد: ويتحاص فيما يرد الغرماء، وهذا على القول بأن الرد بالعيب نقض بيع، وأما على القول بأنه ابتداء بيع فلا يكون ذلك له، وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم وأشهب، فالمشهور عن ابن القاسم أنه ابتداء بيع، والمشهور عن أشهب أنه نقض بيع.
وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب.
وعلى قياس القول بأنه نقض بيع قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز في المشتري يرد بالعيب فلم يقبض ثمنه من البائع حتى فلس والعبد بيده، فلا يكون الراد له أولى به من الغرماء، ويأتي على قياس القول بأنه ابتداء بيع أن يكون أحق به من الغرماء.
وأما من اشترى سلعة شراء فاسدا ففسخ البيع وقد فلس البائع فلا يكون المبتاع أحق بها حتى يستوفي ثمنها، قال ذلك ابن المواز وهو صحيح؛ لأن ردها بالفساد نقض للبيع، ولا يقال فيه إنه ابتداء بيع، لكونهما جميعا مغلوبين على الرد.
وقد روي عن سحنون أن المبتاع أحق بها حتى يستوفي ثمنها، فحكم للرد بالفساد بحكم ابتداء البيع لما كان الملك قد انتقل للمشتري بالبيع الفاسد ووجب به الضمان منه، فهو قول له وجه.
وإنما يكون الرد بالفساد نقض بيع على الحقيقة دون شبهة ولا اختلاف على القول بأن الملك لا ينتقل بالبيع الفاسد وأن المصيبة فيه من البائع وإن قبض المشتري إذا قامت البينة على التلف، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بيع فأبق ثم فلس مشتريه فقال البائع أنا أحاص بالثمن]
مسألة وقال في عبد بيع فأبق ثم فلس مشتريه، فقال البائع: أنا أحاص بالثمن، فإن رجع العبد يوما ما أو وجد أخذته ورددت ما أخذت.
قال: ليس ذلك له، إما أن يرضى أن يتبع العبد ويطلبه ولا شيء له غيره، وإما أن يحاص بالثمن، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا الثمن إليه.(10/440)
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في سماع أبي زيد وفي آخر أول رسم من سماع أشهب من كتاب السلم والآجال أن البائع مخير بين أن يحاص الغرماء وبين أن يطلب العبد، فإن وجده كان أحق به، وإن لم يجده رجع فحاص الغرماء.
وفي ذلك من قوله نظر، إذ لا حد لوقت طلبه يجب له بالبلوغ إليه الرجوع إلى محاصة الغرماء والرجوع على كل واحد منهم بما كان يجب له في المحاصة لو حاصهم إن تحاصوا قبل أن يجده.
قال أصبغ: ليس له إلا المحاصة، ولا يجوز له أن يتركها ويتبع العبد؛ لأنه دين بدين وخطار، وهو أظهر الأقوال، ومثله ما في سماع عيسى من كتاب الجنايات أن العبد إذا جرح ثم أبق، فقال المجروح إما أن تدفع إلي قيمة جرحى وإما أن تخلي بيني وبين الغلام أطلبه، أنه لا خير فيه؛ لأنه غرر وخطار، والواجب في ذلك على قوله أن يرجى الأمر إلى أن يوجد العبد فيخير سيده بين أن يسلمه أو يفتكه بدية الجرح، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجارية توهب للثواب وتوطأ]
مسألة وقال في الجارية توهب للثواب إن الوطء فيها إذا وطئها فوت تجب به القيمة، وكذلك الاعتصار إذا وطئها الابن لم يكن للأب أن يعتصرها وإن لم تحمل، [قال ابن القاسم] : ولكن المفلس لو فلس بعدما وطئها أخذها صاحبها وهي سلعته بعينها، وهو أولى من الغرماء.
قال محمد بن رشد: في النوادر لسحنون عقب هذه المسألة: لا أدري ما هذا يريد، لا أدري ما الفرق بينهما.
وما الفرق بينهما عندي إلا بين، وذلك أن الوطء لو لم يكن في الهبة للثواب ولا في الاعتصار فوتا لآل ذلك إلى عارية الفروج وإحلالها بأن يهب الرجل الجارية لمن له اعتصارها منه أو للثواب فيستمتع بها مدة من الزمان ثم يستردها.
والتفليس لا تهمة(10/441)
في التخيير فيه بعد الوطء؛ لأنه أمر طارئ يوجبه الحكم بالسنة القائمة فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يتهمان فيه على القصد إلى المكروه، وبالله التوفيق.
[: يبيع الأمة من الرجل بدين فيفلس صاحبها وقد ولدت عنده أولادا]
ومن كتاب [أوله] بع ولا نقصان عليك وسئل: عن الرجل يبيع الأمة من الرجل بدين فيفلس صاحبها وقد ولدت عنده أولادا فباعهم، فوجد بائع الأمة أمته.
قال: إن وجد أمته خير بين أن يأخذها وليس له في ولدها شيء، وبين أن يتركها ويضرب مع الغرماء بثمنها كله.
وأما إذا وجد أولادها وقد باع الأمة قسم الثمن على الأمة وأولادها، فأخذ الأولاد بنصيبهم من الثمن، ويضرب مع الغرماء في مال المفلس بما أصاب الأم من الثمن.
فقلت: ففي أي مسألة يكون مخيرا إذا وجد الأولاد ولم يجد الأم بين أن يأخذهم ولا شيء له غيرهم وبين أن يدعهم ويضرب مع الغرماء جميع الثمن؟
قال: ذلك إذا ماتت الأم ووجد الأولاد.
قال سحنون: قال ابن القاسم: لو أن رجلا ابتاع جارية أو رمكة فولدت عنده أولادا فباع أولادها وأكل أثمانهم، ثم فلس وقام صاحبها فإنه إن أحب أخذها لم يأخذها إلا بجميع ما باعها به أو يسلمها.
ولو وجد ولدها- وقد فاتت الأم بموت- لم يكن له أن يأخذ ولدها إلا بجميع ما باع به أمهم أو يسلمهم فيحاص الغرماء.
وقال مالك: إذا فاتت الأمهات في يدي الغريم لم يضمن، وإن كان باع الأم وبقي ولد أخذ الولد وقومت الأم فحاص بقيمتها الغرماء.
قال الإمام القاضي: تحصيل القول في هذه المسألة أنه إن فاتت(10/442)
الأم أو الأولاد بموت لم يكن له أن يأخذ الباقي منهما إلا بجميع الثمن، وأما إن فات الأولاد ببيع ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس له إلا أن يأخذ الأم بجميع الثمن أو يترك ويحاص الغرماء، وهو قول ابن القاسم هاهنا وفي الواضحة وروايته عن مالك، والثاني: أنه يأخذ الأم بما يقع عليها من الثمن بأن يفض على قيمة الأم يوم وقع البيع وعلى قيمة الولد يوم بيعوا ويحاص بما وقع على الولد من الثمن؛ والقول الثالث: أنه يأخذ الأم ويحاص الغرماء بما وصل إليه من ثمن الولد، فحكم للولد في القول الأول بحكم الغلة، وحكم له في القول الثاني بحكم أمه، وأما القول الثالث فليس بجار على أصل.
وأما إن فاتت الأم ببيع ووجد الأولاد ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه مخير بين أن يحاص الغرماء بجميع الثمن وبين أن يأخذ الأولاد بما يصيبهم من الثمن ويحاص الغرماء بما أصاب الأم منه، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه جميع الثمن، والقول الثاني: أنه يأخذ الولد ويحاص الغرماء بقيمة الأم، وهو قول مالك هاهنا في بعض الروايات، ومعناه: إذا أبى الغرماء أن يدفعوا إليه جميع الثمن وأبى هو من ترك الأولاد ومحاصة الغرماء بجميع الثمن.
وفي بعض الروايات: أخذ الولد بما يصيبهم من الثمن وحاص الغرماء بما يصيب الأم من الثمن، مثل قول ابن القاسم.
فعلى هذه الرواية لا يكون في هذا الوجه إلا قول واحد، ولم يجر ابن القاسم في هذه المسألة على أصل واحد في القياس؛ لأنه حكم في بعض وجوهها للولد بحكم الغلة، وذلك إذ فات الأولاد ببيع أو موت، وحكم لهم بحكم الأم في بعض الوجوه، وذلك إذا فاتت الأم ببيع أو موت ووجد الأولاد، وإذا وجدهم قياما مع الأم وكان القياس أن يحكم لهم بحكم الغلة في جميع الوجوه، فلا يكون له إذا وجد الأم إلا أن يأخذها وحدها بجميع الثمن أو يحاص الغرماء، كان الأولاد قياما معها أو كانوا قد فاتوا ببيع أو موت، ولا يكون له إلى الولد سبيل وإن وجدهم مع الأم أو دونها، أو أن يحكم لهم في جميع الوجوه، فيكون له إذا وجدهم مع أمهم أن يأخذهم معها بجميع الثمن، وإن وجدهم قياما وقد فاتت أمهم ببيع أو موت كان له أخذهم بما ينوبهم من الثمن، وكذلك إذا وجد الأم قائمة وقد(10/443)
فات الولد ببيع أو موت كان له أن يأخذ الأم بما ينوبها من الثمن إلا أن هذا لم يقولوه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حضرته الوفاة وفي بيته خيش ومسح فقال المسح الشعر أعطوه فلانا]
مسألة وعن رجل حضرته الوفاة وفي بيته خيش ومسح مملوئين طعاما، فقال المسح الشعر أعطوه فلانا، هل يأخذه بالطعام أو بغير الطعام؟ قال: بل بالطعام.
قيل: فإن قال: الخريطة الحمراء أعطوها فلانا والخريطة مملوءة دنانير، قال: تكون له الخريطة وما فيها.
قال ابن القاسم في الذي يقول أعطوا فلانا زقا كذا وكذا فيوجد الزق ملآن عسلا، قال: يعطاه بالعسل.
قيل: فلو كان ملآن دراهم؟ قال: إذا لا يكون له إلا الزق إلا أن يكون عرف أن فيه دراهم فهو له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى لا وجه للقول فيها. وبالله التوفيق.
[مسألة: الحكم بالشهادة على الخط]
مسألة
وسمعته يسأل عن رجل توفى ففتح تابوت له فإذا فيه كيس مكتوب عليه لفلان بن فلان، وفيه مال، فطلب ذلك الرجل الكيس، فقال: أرى إن شهد له أنه خط الميت المستودع وكتابه بيده رأيت أن يدفع إليه، وإن لم يشهد على ذلك لم يدفع إليه إلا ببينة.
وإنما هو بمنزلة القرطاس يوجد عنده فيه حساب لفلان عندي كذا وكذا، فإن شهد أنه خط الميت رأيت ذلك له، وإلا لم(10/444)
يكن له شيء، وقاله أصبغ. أو خط المستودع صاحب المال الذي كتب اسمه عليه مع ما وجد أنه في حوز المستودع حيث أقر فأراه لربه أيضا.
قال أصبغ: وهذا لمن يقضي بالخط، والخط عندنا علم ثابت واضح صحيح. وقد بلغنا عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقضي بالخط في شهادة الشاهد، وهو أشد.
وأما خط المرء بعينه فهو الإقرار صراحا، وقد قال مالك: إذا شهد على الخط شاهدان لم يكن على صاحب الحق يمين؛ لأن ذلك إقرار، وإن لم يكن له إلا شاهد واحد حلف معه واستحق، وإن يكن شاهد بالحق وشاهد على الخط تمت الشهادة.
قال الإمام القاضي: ساوى أصبغ بين أن يشهد أنه خط الميت للمستودع أو خط صاحب الوديعة مع وجودها في حرز الميت المستودع، وقد قيل: إنه لا يقضى بها لصاحب الوديعة إذا شهد أن الخط خطه؛ لأنه يمكن أن يكون بعض الورثة أخرجها إليه فكتب عليها اسمه وأخذ على ذلك جعلا.
ولا اختلاف في أنه لا يقضى له بها إذا وجد عليها اسمه ولم يدر من كتبه، ولا في أنه يقضى له بها إذا شهد أنه خط الميت المستودع أو خط صاحب الوديعة إلا على مذهب من لا يرى الحكم بالشهادة على الخط في موضع من المواضع.
وقد مضى تحصيل القول في الشهادة على الخط في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات، فمن أحب الوقوف على ذلك تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[: يستأجر البناء يبني له عرصة مقاطعة فيبنيها ثم يفلس صاحبها]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب قال ابن القاسم، في الرجل يستأجر البناء يبني له عرصة مقاطعة كل ذلك من عند البناء فيبنيها ثم يفلس صاحبها: إن البناء أولى بها بمنزلة سلعته بعينها.(10/445)
قال القاضي: قوله كل ذلك من عند البناء، يريد: أن كل ما يحتاج إليه في بنيانها من نقض وقراميد وجص وغير ذلك من عنده.
وقد تأول بعض الشيوخ أن العرصة أيضا من عند البناء، لقوله: إن البناء أولى بها، أي: بالدار، إذ لم يفرق بين أن تكون من عنده أو قد أسلمها إلى المفلس، وهو من التأويل البعيد؛ لأن العرصة إذا كانت من عند البناء فالبيع أملك بما تعاملا عليه من الإجارة، وهو قد سماها إجارة.
وقوله: إن البناء أولى بها - يحتمل أن يريد: أن البناء أولى بالدار مبينة حتى يستوفي جميع أجرته.
ومعنى ذلك: إذا كانت الدار بيده لم يسلمها بعد إلى صاحبها المفلس؛ لأنها كالرهن بيده وإن لم يخرج فيها شيئا من عنده غير عمل يده.
ويحتمل أن يكون إنما تكلم على أنه قد أسلم الدار إلى المفلس، فيكون معنى قوله: إنه أولى بها - أنه أولى بقيمة ما أخرج من عنده في بنيانها من نقض وصخر وآجر وقرميد وغير ذلك، كان مما يمكن قلعه وأخذه أو مستهلكا مما لا يمكن ذلك فيه، يكون بذلك كله شريكا للغرماء في العرصة مبنية بقيمته يوم الحكم إلا أن يشاء أن يترك حقه في ذلك ويحاص الغرماء بجميع أجرته، أو يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه جميع أجرته ويستخلصوا الدار، وهو أولى ما حملت عليه المسألة، لقوله فيها كل ذلك من عند البناء، فدل على أنه إنما قال: إنه أولى بها من أجل ذلك؛ إذ لو كانت الدار بيده لم يسلمها بعد لكان أحق بها في أجرته وإن لم يخرج فيها شيئا من عنده غير عمل يده.
وإذا شارك الغرماء في الدار مبنية بقيمة ما أخرج فيها من عنده لم يكن له في قيمة عمل يده شيء على ظاهر قوله في رسم العرية من سماع عيسى، والقياس على أصله أن يحاص بذلك الغرماء.
وقد قيل: إن من حقه أن يقوم عمل يده مع ما أخرج من عنده فيكون بذلك شريكا في الدار، وهو الذي يأتي على ما في سماع أبي زيد في مسألة النسج، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الضأن عليها الصوف فيجزها ويزيد في ثمنها ثم يفلس]
مسألة وقال ابن القاسم، في رجل يشتري الضأن عليها الصوف(10/446)
فيجزها ويزيد في ثمنها لمكان الصوف، فيجز صوفها ثم يفلس: إنه ينظر في ذلك كم كان قدر الصوف من رقابها، ولا ينظر إلى ما بلغ ثمن الصوف، ثم يأخذ غنمه بما بقي بعد حصة قيمة الصوف من الثمن، ثم يحاص الغرماء بحصة قيمة الصوف، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه الذي يأخذ به غنمه فذلك لهم، ويحاص بحصة قيمة الصوف من الثمن، وكذلك الأصول كلها إذا اشتراها وفيها ثمر قد طاب وحل بيعه فيبيع الثمرة ثم يفلس وكذلك الدار لها الغلة قد حلت فاشتراها بغلتها بما تجوز به المبايعة إن كانت غلتها عرضا فاشتراها بعين أو كانت الغلة عينا فاشتراها بعرض، فهو على ما فسرت لك في الغنم يجز صوفها.
وإذا اشترى الرجل شيئا من ذلك وليس فيه شيء مثل النخل ليس فيه تمر قد طاب والدار ليست فيها غلة قد حلت، فيغتل المشتري ذلك سنين، أو يفيد العبد مالا عند المشتري فينزعه منه، أو تكتسي الغنم عنده صوفا فيجزها سنين ثم يفلس، فليس للبائع في شيء مما اغتل المشتري شيء، إن شاء أخذ سلعته بعينها بجميع دينه وإن شاء أسلمها وحاص الغرماء بجميع دينه.
وإنما يأخذ سلعته يوم يأخذها على نحو ما باعها عليه إن كانت النخل فيها تمر قد طاب يوم يأخذها، فالتمر للغرماء، ويأخذ الأصل كما باعه ليس فيه تمر إن شاء، أو يسلمه ويحاص الغرماء بجميع دينه.
والدار كذلك إذا حلت الغلة، فإن أرادَ صاحبُ الأصلِ أَخْذَهَا أَخَذَهَا وكانت الغلة للغرماء مثل التمر.
فأما العبد فله أن يأخذه بماله الذي أفاد عند مشتريه، والغنم كذلك له أن يأخذها وعليها صوفها إلا أن يعطيه الغرماء ديته فذلك لهم، ليس غلة الدار وثمرة النخل مثل العبد بماله أو الغنم بصوفها، فرق بين ذلك أن الرجل يشتري الضأن وعليها صوفها ولا يسميه ولا يشترطه ويكون له، ويشتري النخل(10/447)
وفيها التمر وقد طاب فلا يكون له إلا أن يشترطه، وقد قال مالك في غير هذا الكتاب: إذا باع الحائط ولا ثمر فيه ثم فلس وفيه ثمرة إنه يأخذه بثمره.
قال الإمام القاضي: قوله في أول المسألة في الذي يشتري الضأن عليها صوفها فيجزها ثم يفلس إن البائع يأخذ الغنم مجزوزة بما يصيبها من الثمن ويحاص الغرماء بما يصيب الصوف منه، معناه: إذا كان الصوف قد فات بعد الجز، وأما لو أدركه قائما بيد المشتري المفلس لكان أحق به يأخذه إن شاء مع الغنم بجميع الثمن ويؤدي ثمن جزازه؛ لأنه كمشتري سلعتين.
ولغير ابن القاسم وهو أشهب في التفليس من المدونة أن الصوف إذا جزه المشتري غلة ليس للبائع إلا أن يأخذها مجزوزة بجميع الثمن أو يتركها ويحاص الغرماء، وهو قول ابن وهب في رواية أصبغ عنه.
وأما إن اشترى الغنم ولا صوف عليها فحدث لها صوف ثم فلس فالصوف تبع للغنم ما لم يجز، فإن جز كان غلة، ولا اختلاف في هذا.
وأما إن اشترى الأصول وفيها ثمرة قد طابت ثم فلس فالبائع أحق بالنخل والثمرة وإن جذت ما كانت قائمة، كمشتري سلعتين، ولا اختلاف في هذا بين ابن القاسم وأشهب.
والفرق عند أشهب بين هذه المسألة وبين الغنم تشترى وعليها صوفها أن الصوف لما كان يدخل في البيع وإن لم يشترط كان في حكم التبع لها، كالأصول تشتري بثمرتها قبل الإبار.
وأما إذا اشترى الأصول ولا ثمرة فيها أو فيها ثمرة لم تؤبر ثم فلس ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن البائع أحق بالثمرة ما لم تؤبر، وذلك يتخرج على قول أصبغ في الرد بفساد البيع؛ لأنه إذا قال فيه إن الثمرة تبقى للمبتاع وإن لم تطب إذا كانت قد أبرت، فأحرى أن تبقى للغرماء في التفليس، وعلى قول بعض المدنيين في المدونة قول أشهب وأكثر الرواة أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها حتى أبرت.
والثاني: أنه أحق بها ما لم تطب، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية.
والثالث: أنه أحق بها ما لم تيبس.
والرابع أنه أحق بها ما لم تجذ، وهو نص ما في المدونة وظاهر قول مالك في هذه الرواية.
وأما إذا اشترى الأصول وفيها ثمرة قد أبرت ولم تطب ثم فلس ففي ذلك(10/448)
ثلاثة أقوال: أحدها: أن البائع أحق بالثمرة ما لم تطب.
والثاني: أنه أحق بها ما لم تيبس.
والثالث: أنه أحق بها ما لم تجذ، وهو قوله في المدونة.
فسواء على مذهب ما في المدونة اشترى الأصول ولا ثمرة فيها أو اشتراها وفيها ثمرة لم تؤبر أو اشتراها وفيها ثمرة قد أبرت ولم تطب إذا فلس، فالبائع أحق بالثمرة ما لم تجذ. فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[: شهدا على رجل أنه قال لفلان علي مائة دينار أو لفلان لا يدريان أيهما هو]
ومن كتاب يدير ماله وقال في رجلين شهدا على رجل أنه قال لفلان علي مائة دينار أو لفلان، لا يدريان أيهما هو.
قال: ليس عليه أن يغرم أكثر من المائة ويحلف هذان ويقتسمان المائة بينهما.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة متكررة في رسم البيوع من سماع أصبغ من كتاب الدعوى والصلح، وزاد فيها هناك: قال أصبغ: يحلف كل واحد منهما أنه هو وأن له عليه مائة ثانية، فمن نكل منهما فهي للآخر إن حلف، وإن نكلا جميعا اقتسماها بغير يمين بمنزلة حلفهما جميعا، فإن رجع الشهيدان عن شهادتهما بعد الحكم وزورا أنفسهما غرما ذلك للمشهود عليه إذا كان يوم شهدا منكرا لشهادتهما. وقول أصبغ هذا تفسير لقول ابن القاسم.
وفي قوله: فإن رجع الشهيدان عن شهادتهما بعد الحكم وزورا أنفسهما غرما ذلك للمشهود عليه إذا كان يوم شهادتهما منكرا لشهادتهما - دليل على أنه لا فرق فيما يلزم المقر بهذه الشهادة بين أن يكون مقرا بها أو منكرا لها.
وإنما يفترق ذلك فيما يلزم الشهيدين من الغرم برجوعهما عن الشهادة.
وقد رأيت لابن دحون أنه قال: معنى هذه المسألة أن المقر هو الشاك وأنه أنكر إقراره فيلزمه بالبينة غرم المائة ويحلف الرجلان ويقتسمانها بينهما.
ولو كان مقرا بما قال للزمه غرم مائتين، فرد ابن دحون هذه المسألة بالتأويل إلى ما في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح من أن الرجل إذا قال علي مائة دينار دين لا(10/449)
أدري هل هي لفلان أو لفلان، فادعاها الرجلان جميعا أنهما يحلفان ويغرم لكل واحد منهما مائة مائة، بخلاف الوديعة يقر بها ويقول: لا أدري لمن هي منهما - أنهما يحلفان جميعا ويقتسمانها بينهما.
وقد اختلف في الوديعة أيضا على ما وقع لمالك في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب القراض في المقارض بمالين يزعم أنه قد ربح خمسين دينارا ولا يدري من أي المالين الربح نسي ذلك أنه لا شيء له من الخمسين وتكون لصاحبي المالين، لكل واحد منهما خمسة وعشرون.
فعلى التأويل الأول يدخل الاختلاف في الدين كما دخل في الوديعة، ويتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يلزمه لكل واحد منهما غرم مائة مائة في الوديعة والدين إذا حلفا أو نكلا، وهو الذي يأتي على ما في رسم القطعان من كتاب القراض في مسألة القراض؛ لأنه إذا لزمه أن يغرم لكل واحد منهما مائة مائة فيما في أمانته، فأحرى أن يلزمه ذلك فيما في ذمته.
والثاني: أنه لا يلزمه أن يغرم لهما أكثر من مائة واحدة فيقتسمانها بينهما إن حلفا أو نكلا، وتكون للحالف منهما إن نكل أحدهما عن اليمين، وهو الذي يأتي على ما تأولناه في هذه الرواية؛ لأنه إذا لم يلزمه في الدين الذي هو في ذمته أن يغرم أكثر من مائة فأحرى ألا يلزمه ذلك في الوديعة التي هي في أمانته.
والثالث: الفرق بين الوديعة والدين على ما في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الدعوى، وعلى ما تأوله ابن دحون تخرج مسألة الدين من الاختلاف.
وقوله لا يدريان أيهما هو، معناه: أنهما لا يدريان ذلك من أجل أن المشهود عليه هو الذي قال لفلان علي مائة دينار أو لفلان من أجل أنه لم يدر لمن هي منهما، فحصل الشك من المشهود عليه لا من الشاهدين.
ولو كان الشك من الشاهدين بأن يقولا أشهدنا فلان أن عليه مائة دينار لأحد هذين الرجلين وسماه لنا إلا أننا لا ندري من هو منهما نسيناه، لما جازت شهادتهما على المشهور في المذهب، وحلف لكل واحد منهما إن كان منكرا أو لمن أنكر منهما إن كان مقرا لأحدهما.
وقد قيل: إن شهادتهما جائزة يلزمه بها مائة واحدة تكون لمن حلف منهما إن نكل أحدهما، أو لهما(10/450)
يقتسمانها بينهما إن حلفا أو نكلا، وهو الذي يأتي على ما وقع في رسم الأسدية من كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة ولابن وهب في رسم الأقضية والوصايا من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات.
وقد قيل في هذا النحو من الشهادة: إنها تجوز في الوصية بعد الموت ولا تجوز على الحي.
ويتحصل فيها في الجملة ثلاثة أقوال: إجازتها في الوجهين، وإبطالها في الوجهين، والفرق بين الموضعين، وبالله التوفيق.
[مسألة: تطلق وهي حامل ثم يفلس زوجها الذي طلقها]
مسألة وقال في المرأة تطلق وهي حامل ثم يفلس زوجها الذي طلقها، قال: لا تحاص بنفقتها الغرماء وإنما هي بمنزلة امرأته التي تكون تحته فيفلس أنها لا تحسب لها نفقة، يريد: أنه لا تحاص بنفقتها الغرماء.
قال محمد بن رشد: معناه: لا تحاص بنفقتها فيما يستقبل، وأما ما أنفقت على نفسها فيما مضى فلها أن تحاص به الغرماء إن كانت ديونهم مستحدثة بعد أمد إنفاقها على ما مضى لسحنون في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة.
وقد مضى من القول على ذلك هناك ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.
[: يدفع إلى امرأته نفقة ولدها وقد طلقها ثم يفلس]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار
وقال ابن القاسم، في الرجل يدفع إلى امرأته نفقة ولدها وقد طلقها فيدفع إليها نفقة كثيرة ثلاثين دينارا أو نحو ذلك ثم يفلس، قال: إن كان يوم دفع إليها عليه دين يحيط بماله أخذ ذلك كله منها؛ لأنه فار بماله.(10/451)
قال القاضي: وقعت هذه المسألة في سماع عيسى من كتاب الرضاع وزاد فيها هناك فإن لم يكن عليه دين لم يؤخذ منها شيء.
فأما قوله: إنه إن كان يوم دفع ذلك إليها عليه دين يحيط بماله أخذ ذلك كله منها؛ لأنه فار بماله، فهو صحيح لا اختلاف فيه إذا فلس بحدثان دفعها قبل أن ينفق منها شيء، وأما إن فلس بعد أن أنفق بعضها فإنما يرد ما بقي منها، إذ من حق المديان أن ينفق على ولده مما بيده من المال وإن كانت الديون مستغرقة له ما لم يفلس.
وأما قوله في كتاب الرضاع: فإن لم يكن عليه دين لم يؤخذ منها شيء - فإنما يصح على قول أشهب وروايته عن مالك، لا على أصل ابن القاسم.
وقد بينا ذلك في السماع المذكور من كتاب الرضاع فتأمل ذلك هناك تجده صحيحا إن شاء الله.
[مسألة: الغرماء يحلفون مع شاهدهم على إبراء الميت من الصداق ويستحقون حقوقهم]
مسألة وسألته: عن الرجل يهلك فتقوم عليه امرأته بصداق عليه إلى أجل ببينة وقد قام عليه غرماؤه فشهد لهم عليها شاهد واحد أن المرأة صالحت زوجها على أن وضعت عنه ذلك الصداق.
قال: يحلف الغرماء مع شاهدهم ويستحقون حقوقهم، فإن أبوا أن يحلفوا حلف من رضي واستحقوا حقهم، قيل له: فإن حلفوا فاستحقوا حقهم.
ثم طرأ للميت مال فطلبت المرأة حقها، هل يحلف الورثة مع شاهدهم أيضا ويبطل حق المرأة؟ أم أيمان أهل الدين تجزئهم؟
قال: بل يحلفوا مع شاهدهم ويبطلوا حق المرأة.(10/452)
قال محمد بن رشد: قوله: إن الغرماء يحلفون مع شاهدهم على إبراء الميت من الصداق ويستحقون حقوقهم، أي: يستحقون حقوقهم في تركة الميت فيتحاصون بها دون المرأة - صحيح على قياس قول مالك في الميت يقوم عليه الغرماء وله دين بشاهد واحد أن الغرماء يحلفون مع الشاهد على الدين فيستحقونه؛ لأنفسهم من ديونهم؛ لأنها يمين مع الشاهد يصلون بها إلى استيفاء حقوقهم في المسألتين جميعا، فلا فرق في المعنى والقياس بين أن يبرئوا الميت من الصداق بحلفهم مع الشاهد فيستحقون تركته في ديونهم وبين أن يثبتوا له الدين بحلفهم عليه مع الشاهد به فيستحقونه في ديونهم.
وقد حكى ابن حبيب عن أصبغ أنه لا يحلف الغرماء في إبراء الميت وإنما يحلفون في دين له؛ لأن حلفهم على الدين رجم بالغيب، إذ لا يعلمون ذلك، وهو بعيد قد أنكره ابن المواز، وقال: إن ذلك ليس رجما بالغيب وإنما يحلفون بخبر مخبر كحلفهم على إثبات دين له، وذلك بين لا فرق في هذا المعنى بين الموضعين.
وأما قوله: فإن أبوا أن يحلفوا، حلف من رضي منهم واستحقوا حقهم - يريد: ويرجع اليمين على المرأة في حظ من نكل منهم، فيحاص بذلك من حلف.
مثال ذلك: أن يترك الميت عشرين دينارا وعليه لامرأته عشرون دينارا، ولغريمين عشرون دينارا، عشرة عشرة لكل واحد منهما، فإن حلف الغريمان جميعا مع الشاهد على إبراء الميت من الصداق أخذا العشرين لأنفسهما فاستوفيا حقوقهما، وإن نكلا جميعا حلفت هي وحاصتهما في العشرين التي ترك المتوفى بجميع حقها، فصار لها عشرة ولكل واحد منهما خمسة خمسة، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر رجعت اليمين عليها في حظ الناكل، فإن حلفت استحقت ما كان يصيب الناكل لو حلف، وذلك خمسة، فيكون لها خمسة وللحالف عشرة وللناكل خمسة.
وقد قيل: إن حقها يبطل بيمين من حلف منهم؛ لأنه إنما يحلف أن ما شهد به الشاهد حق، إذ لا يمكن أن تبعض شهادة الشاهد فيحلف على مقدار حقه منها. ويلزم على قياس هذا القول أن يكتفي بيمين أحدهم.
وإن لم ينكل واحد منهم فيقال لهم إما أن يحلف واحد منكم أن ما شهد به الشاهد حق، وإما أن يرجع اليمين عليها(10/453)
فتحلف على تكذيبه وتستحق حقها فتحاصكم بجميعه.
والقول الأول أصح أن يحلفوا جميعا فيستحق كل واحد منهم بيمينه قدر حقه مما حلف عليه، كما يحلف جميع الورثة إذا لم يكن عليه دين فيستحق كل واحد منهم بيمينه قدر حقه مما حلف عليه. وكما يحلف جميع الغرماء مع الشاهدين للميت.
وقال في هذه المسألة: إن الغرماء يحلفون مع شاهدهم ويستحقون حقوقهم. فالظاهر من قوله أنه بدأ الغرماء بالأيمان على الورثة، وفي هذا تفصيل.
أما إذا كان فيما ترك المتوفى فضل عن ديون الغرماء فلا اختلاف في أن الورثة يبدءون بالأيمان، فإن حلفوا بطل دين الميت واستحقوا ما فضل عن ديون الغرماء، وإن أبوا أن يحلفوا حلف الغرماء واستحقوا حقوقهم وحلفت المرأة فاستحقت في دينها ما فضل عن ديون الغرماء، إذ قد نكل الورثة أولا عن اليمين.
وإن نكل الغرماء أيضا عن اليمين حلفت المرأة فاستحقت دينها وحاصت الغرماء في جميع ما يخلفه المتوفى.
وأما إن لم يكن فيما ترك المتوفى فضل عن ديون الغرماء فاختلف قول مالك فيمن يبدأ باليمين إن كان الورثة أو الغرماء، فالظاهر من قوله في موطأه إن الورثة يبدءون باليمين، وروى ابن وهب عنه أن الغرماء يبدءون باليمين وهو اختيار سحنون وعليه تأول قول مالك في موطأه، فقال: إنما بدأ الورثة باليمين من أجل أن الغرماء لم يحلفوا بعدما قبضوا ديونهم، ولو كانوا قد حلفوا لكانوا هم المبدئين باليمين، وهو تأويل بعيد.
والصواب: أن ذلك اختلاف من قول مالك، والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في تعليل الدين الثابت على المتوفى، هل هو متعين في تركة الميت أو في ذمته؟
فمن علل أنه متعين في ذمة الميت بدأ الورثة باليمين، ومن علل أنه متعين في عين التركة بدأ الغرماء باليمين.
وهذا الاختلاف في التعليل لا يرجع إلى الاختلاف في الحكم.
ووجهه: أن الميت لا يطرأ له مال إلا في النادر، فمن راعى ذلك النادر قال: دين المتوفى متعين في ذمته؛ لأنه إن تلف ما تخلف من المال وطرأ له مال لم يعلم به كان الدين فيه باتفاق، ومن لم(10/454)
يراع ذلك النادر، قال: الميت لا ذمة له، فالديون التي عليه متعينة في تركته.
فوجه تبدئة الورثة باليمين وإن لم يكن في تركته فضل عن ديون الغرماء هو أنه قد يطرأ للميت مال فيكون من حقوقهم أن يحلفوا مع الشاهد على إبطال دين المرأة فيستحقوا ذلك المال الطارئ، وبالله التوفيق.
[مسألة: البيع والسلف لا يفسخ إذا رضي مشترط السلف بتركه أو رده بعد قبضه]
مسألة وسئل: عن رجل جاء بذكر حق فيه شراء وسلف، فقال صاحب الحق: إنما بعته متاعا بهذه الدنانير وأسلفته إياها بعد بيعي منه، وقال الذي عليه الحق: إنما هو بيع وسلف، قال: القول قول صاحب الحق إلا أن يأتي الذي عليه الحق ببينة، وعلى صاحب الحق اليمين، فإن أبى أن يحلف حلف الذي عليه الحق وفسخ الشراء، وقاله سحنون.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله إذا كان ما قد وقع في ذكر الحق محتملا للصحة والفساد، مثل أن يذكر فيه أنه باع منه سلعة بمائة دينار وأسلفه عشرة دنانير فادعى البائع أنه أسلفه العشرة الدنانير بعد نفوذ البيع على غير شرط، وقال المبتاع: بل شرطت ذلك عليك في عقدة البيع، فوجب أن يكون القول قول البائع؛ لأنه مدعي الصحة، فإن نكل عن اليمين كان القول قول المبتاع على ما ادعى من الفساد.
وفي قوله: إن الشراء إذا حلف يفسخ - نظر؛ لأن المشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك: أن البيع والسلف لا يفسخ إذا رضي مشترط السلف بتركه أو رده بعد قبضه على ما وقع في أصل الأسدية وأصلحه سحنون في المدونة، فيحتمل أن يكون قوله في هذه الرواية إن البيع يفسخ على ما روي عنه من أن(10/455)
البيع والسلف إذا وقع يفسخ على كل حال، ويحتمل أن يكون إنما رأى فسخه من أجل أن السلف قد قبض، مثل قول سحنون وما ذهب إليه ابن حبيب من أن السلف إذا قبض فقد تم الفساد ووجب فسخ البيع ولم يجز إمضاؤه برد السلف.
وأما إن كان ما وقع في ذكر الحق ظاهره الصحة على ما ادعى البائع فلا يمين للمبتاع عليه فيما ادعاه من الفساد، إلا أن يقول: كنا أشهدنا على الحلال ومعاملتنا في السر على الحرام، فتلزمه اليمين إن كان ممن يتهم باستحلال مثل هذا، ولا تلزمه اليمين إن كان ممن لا يتهم بذلك.
ولو باع منه السلعة بمائة دينار نقدا على أن يسلف البائع المبتاع عشرة دنانير إلى شهر وكتبا بذلك ذكر حق تشاهدا عليه، فقال البائع: إنما بعتك السلعة بمائة دينار على أن أسلفك من ثمنها عشرة دنانير إلى شهر، فالبيع صحيح لا فساد فيه؛ لأن مآله إلى أن بعت منك السلعة بتسعين دينارا نقدا وعشرة دنانير إلى أجل، وقال المبتاع: إنما اشتريت منك السلعة على أن تسلفني عشرة دنانير من غير ثمنها فالبيع فاسد؛ لأنه يدخله بيع وسلف، وذهب وعروض بذهب معجلة ومؤجلة لوجب أن يكون القول قول البائع مع يمينه؛ لأنه مدعي الصحة، فإن نكل عن اليمين فسخ البيع بالنكول دون أن ترجع اليمين على المبتاع لتشاهدهما على الفساد في الظاهر، بدليل ما وقع في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الدعوى والصلح في مسألة الذي يصالح الوارث على جميع حظه من ميراث رجل وله حظ مجهول في منزل ببلد آخر، فادعى أحدهما على صاحبه أنه علم ذلك الحظ ففسد الصلح لوقوعه عليه، فأنكر أن يكون علم به أو وقع الصلح عليه ليصح فيما عداه مما علما به، فقال: إنه يحلف ما علم به، فإن نكل فسخ الصلح، يريد دون رد يمين؛ لأن الظاهر أن الصلح قد وقع عليه؛ لأنه من المورث وهما قد تصالحا على جميع المورث.
وقد قال بعض الشيوخ: إن رد اليمين في هذه المسألة خلاف قوله في مسألة كتاب الدعوى والصلح المذكورة، إذ قال فيها: إن البيع يفسخ دون رد يمين، وليس ذلك بصحيح، بل يرجع اليمين في ذلك في وجه دون وجه على ما فصلناه، وبينا القول فيه وشرحناه، وبالله التوفيق.(10/456)
[مسألة: أوصى أن عليه دينا لأناس لا يعرفون وأوصى أن يتصدق ببعض متاعه]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى أن عليه دينا لأناس لا يعرفون، وأوصى أن يتصدق ببعض متاعه، يقول: ليس هو لي وليس له صاحب يعرف.
قال: يبدأ هذا على الدين إلا أن يقيم بينة على الدين فيبدأ به ثم يبدأ هذا بعده.
قال: وهذا كله واحد، فإن كان ورثه ولد قبل قوله في جميع ذلك أوصى بأن يتصدق به عنهم أو يوقف لهم، وإن كان يورث كلالة فأوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي لذلك طالب فذلك جائز عليهم من رأس المال، وإن أوصى بأن يتصدق به عنهم لم يقبل قوله ولم يخرج من رأس المال ولا من الثلث، وهذا ناحية قول مالك.
قال محمد بن رشد: قوله: يبدأ هذا على الدين، يريد: أنه تبدأ الأشياء المعينة على الدين، وهذا إذا لم تقم على واحد منهما بينة أو قامت على جميعهما بينة.
وأما إن قامت على أحدهما بينة دون الآخر فيبدأ الذي قامت عليه البينة منهما على الذي لم تقم عليه البينة.
وقد مضى تمام القول في هذه المسألة مستوفى في رسم ليرفعن أمرا إلى السلطان من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يرهقه الدين وفي يده جارية فيزعم أنها قد أسقطت منه]
ومن كتاب أسلم وله بنون وسئل: عن الرجل يرهقه الدين وفي يده جارية فيزعم أنها قد أسقطت منه، أيقبل قوله أم تباع للغرماء؟
قال: لا يقبل قوله في ذلك إلا أن تقوم على ذلك بينة من النساء، أو يكون قبل ادعائه بذلك سماع أو أمر قد فشا في الجيران حتى يستدل به على صدقه، فإن كان كذلك قبل قوله، وإلا فقوله باطل وهي تباع للغرماء.
وفي رواية محمد بن خالد عن ابن القاسم مثله. قال ابن القاسم: أو يكون قد سمع ذلك منه.(10/457)
قال الإمام القاضي: قول ابن القاسم: أو يكون قد سمع ذلك منه قبل أن تستغرق الديون ذمته، وهو ثابت في بعض الروايات دون بعض، والمسألة كلها صحيحة لا اختلاف أعلمه في أنه لا يصدق من استغرقت الديون ذمته في أنه أعتق أمته ولا في أنها ولدت منه إذا لم يكن معها ولد، ولا في أنه يصدق إذا كان معها ولد.
واختلف إذا باعها ثم أقر بعد البيع أنها كانت ولدت منه ولا ولد معها، فقيل: إنه لا يصدق كما لا يصدق إذا زعم أنه أعتقها، وقيل: إنه يصدق وترد إليه إذا لم يتهم فيها بخلاف إذا زعم أنه أعتقها. والقولان في كتاب اللقطة من المدونة.
واختلف إذا أقر في مرضه الذي مات منه أنها ولدت منه ولا ولد معها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إن كان يورث بولد عتقت من رأس المال، وإن كان يورث بكلالة لم تعتق من رأس المال ولا من الثلث؟
والثاني: أنه إن كان يورث بولد أعتقت من رأس المال، وإن كان يورث بكلالة أعتقت من الثلث؟
والثالث: أنها لا تعتق من رأس المال ولا من الثلث كان يورث بكلالة أو ولد.
فيتحصل من ذلك في كل طرف قولان: تعتق من رأس المال، ولا تعتق من رأس المال ولا من الثلث إذا ورث بولد، وتعتق من الثلث ولا تعتق من رأس المال ولا من الثلث إذا ورث بكلالة، وبالله التوفيق.
[مسألة: للشريك أن يدخل على شريكه فيما اقتضى بغيرإذنه من دين هو بينهما]
مسألة قال عيسى: وسألته عن الرجلين لهما الحق على الرجل بذكر حق واحد وللذي عليه الحق حق على أحدهما فيقاصه الشريك الذي عليه للغريم الحق بماله من ذلك الحق المشترك بنصيبه منه بغير إذن صاحبه. أيكون له ذلك؟
فقال: يدخل معه صاحبه فيما اقتضى منه كانت مقاصة أو تقاضيا عن ظهر يد.
قلت: وإن كان الذي عليه الحق مليا؟
قال: نعم، وإن كان الذي عليه الحق مليا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إذ لا فرق في المعنى بين أن(10/458)
يقتضي منه حقه أو يقاصه به، فيما كان له عليه من دين، ولا اختلاف أعلمه في أن للشريك أن يدخل على شريكه فيما اقتضى بغير إذنه من دين هو بينهما دخلا فيه بالطوع منهما.
وإنما اختلف إذا باعه بعرض أو كان عرضا فباعه بعين، فقيل: إنه لا يدخل عليه، وهو الذي يأتي على ما في السلم الثاني من المدونة على اختلاف في تأويل ذلك، وقيل: إنه يدخل عليه إن شاء، فيأخذ منه نصف ما أخذ ويكون ما بقي على الغريم بينهما، وقيل: إنه يأخذ منه نصف ما أخذ، فإذا اقتضى حقه رجع عليه بقيمة ما أخذ منه يوم أخذه إن كان أخذ منه عرضا، قيل: بالغا ما بلغ، وقيل: ما لم يكن أكثر من نصف ما بقي على الغريم وبعدد ما أخذ منه إن كان أخذ عينا، ويكون أيضا ما بقي على الغريم بينهما، وقيل: إنه يأخذ منه نصف ما أخذ، فإذا اقتضى حقه رجع عليه شريكه بعدد ما قبض منه.
واختلف أيضا إذا كان الدين لهما من ميراث أو جناية لم يدخلا فيه بطوعهما، فقيل: إنه يدخل على شريكه فيما اقتضى منه، وهو قول ابن القاسم، وقيل: إنه لا يدخل عليه في ذلك وهو مذهب سحنون.
واختلف إذا صالحه أحدهما ببعض حقه فاختار الرجوع عليه، فقيل: إنه يرجع عليه على حساب ما كان له عليه في الأصل، وقيل: بل إنما يرجع عليه على حساب ما بقي له عليه بعد ما وضع عنه. والقولان في كتاب الصلح من المدونة.
قيل: ويتبعان جميعا الغريم، وقيل: بل يتبعه الذي لم يصالح، فإذا قبض حقه رجع عليه الذي صالح بما أخذ منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بوصايا ويقول من جاء يدعي من دينار لعشرين فاقضوه]
مسألة قال ابن القاسم: وسألت مالكا عن الذي يوصي بوصايا ويقول من جاء يدعي قبلي من دينار إلى عشرين دينارا فاقضوه بغير بينة، فقال: تكون تلك العشرون دينارا من رأس المال ولا يزاد من ماله على عشرين دينارا أن لو جاء يدعي قبله بأكثر منها، لو ادعى رجل عشرة دنانير وآخر خمسة عشر وادعى قبله من نحو(10/459)
هذا العدد حتى بلغت أكثر من مائة دينار؟
قال: يتحاصون في العشرين دينارا على قدر ما ادعى كل واحد منهم إن كان عدد ما ادعى كل واحد منهم أدنى من عشرين دينارا.
قال ابن القاسم: ولا أرى لمن ادعى قبله أكثر من عشرين دينارا في عشرين دينارا شيئا.
قال مالك: وأرى أن لا يعجل في العشرين دينارا حتى يعلم كل من يدعي قبله شيئا.
قال: ولا يشاع هذا الأمر ولا يفشى ولا يستتر به.
قال ابن القاسم: والدين الذي تكون عليه بينة مبدأ على العشرين دينارا.
وفي سماع محمد بن خالد قال ابن القاسم: قال مالك في رجل حضرته الوفاة، فقال عند موته: إنني كنت لابست الناس ووقعت بيني وبينهم ديون، فمن جاء يدعي قبلي شيئا من دينار إلى خمسة وعشرين دينارا فاقضوه إياه: إنه إن جاء أحد يطلب كما ذكر صدق مع يمينه وكان ذلك من رأس ماله.
قال الإمام القاضي: قوله في الذي يوصي فيقول من جاء يدعي قبلي من دينار إلى عشرين دينارا فاقضوه بغير بينة، إن العشرين تخرج من رأس ماله دون زيادة عليها، فيتحاص فيها كل من ادعى أدنى من عشرين صحيح في المعنى.
والوجه في ذلك أن لفظة من في قوله من جاء يدعي قبلي من كذا إلى كذا، يحتمل أن تكون بمعنى الشرط فيقتضي العموم ويكون بمنزلة قوله كل من جاء يدعي قبلي من كذا إلى كذا فاقضوه، ويكون المعنى المفهوم من إرادته أنه علم أن عليه لجماعة لا يعرف عددهم حقوقا دون العشرين فأراد أن يقضي كل من ادعى أن له عليه أدنى من عشرين ليتخلص من جميع ما عليه من الديون، ويحتمل أن تكون لفظة من في قوله من جاء يدعي قبلي من كذا إلى كذا بمعنى الذي، فلا تقتضي العموم، ويكون ذلك بمنزلة قوله الرجل الذي يدعي قبلي من كذا إلى كذا فاقضوه، ويكون المعنى المفهوم من إرادته أنه علم أن عليه حقا دون العشرين لرجل واحد لا يعرف عينه ولا اسمه، فأراد أن يقضي ذلك(10/460)
الرجل حقه وجعل العلامة على أنه صاحب الحق إتيانه وادعاءه القدر الذي سمى.
فلما كان اللفظ محتملا للوجهين على ما ذكرناه وجب أن يحمل على الثاني منهما الذي هو بمعنى الذي؛ لأنه الأقل على أصولهم في وجوب ترك الحكم بما شك فيه من الوصايا وغيرها.
ولو جاء بعد لفظة "مَنْ" بفعل يظهر فيه الإعراب لارتفع في ذلك الإشكال، مثل أن يقول: مَنْ يجئ بالجزم يدعي من كذا إلى كذا فاقضوه، أو مَنْ يِجِيءُ بالرفع يدعي من كذا وكذا إلى كذا وكذا فاقضوه؛ لأن الجزم يدل على الشرط وهو بمعنى العموم بخلاف الرفع، ولا خلاف فيما ذكره من أن العشرين إذا أخرجت من رأس المال يتحاص فيها كل من ادعى أدنى من عشرين، يريد: بعد أيمانهم، وأنه لا حق فيها لمن ادعى أكثر من عشرين.
واختلف فيمن ادعى عشرين فقيل: إنه لا شيء له حكى ذلك سحنون عن ابن القاسم، وهو على القول بأن "إلى" غاية لا يدخل ما بعدها فيما قبلها، وقيل: إنه يحاص بها وهو على القول بأن "إلى" بمعنى "مع"، وهو الأظهر في هذه المسألة. وفي ألفاظ المسألة دليل على القولين.
وأما من ادعى دينارا فإنه يحاص به في العشرين، قال: من جاء يدعي قبلي دينارا إلى عشرين أو من دينار إلى عشرين. ولو قال: من جاء يدعي قبلي ما بين دينار إلى عشرين لدخل الاختلاف في الدينار أيضا، فقد اختلف أهل العلم فيمن قال لفلان: علي ما بين دينار إلى عشرة، فقيل: إنه يحكم عليه بثمانية، وقيل: بتسعة، وقيل: بعشرة، ولكل قول منها وجه.
وقد قيل: إنه لا يحكم عليه بشيء؛ لأنه إنما أقر له بما بين الواحد والعشرة ولا شيء بينهما وهو بعيد.
وما في سماع محمد بن خالد عن مالك من رواية ابن القاسم عنه ليس بخلاف لما قبله من قوله في رواية عيسى عن ابن القاسم؛ لأن قوله: إني كنت لابست الناس ووقعت بيني وبينهم ديون - دليل على أنه أراد بقوله من جاء يدعي قبلي حقا من دينار إلى خمسة وعشرين دينارا العموم، بمنزلة ما لو قال: كل من جاء يدعي قبلي حقا من دينار إلى خمسة وعشرين دينارا.
وقد رأيت لابن دحون أنه قال: هو(10/461)
خلاف لما قبله، لا يلزم الورثة في هذه المسألة على ما قبله غير إخراج خمسة وعشرين دينارا فيتحاص فيها كل من ادعى خمسة وعشرين فأقل، وقوله بعيد جدا، لا إشكال عندي في أنه لا يجوز رد هذه المسألة إلى التي قبلها.
ولو قال: إن التي قبلها ترد إليها لكان له وجه لما ذكرناه من الاحتمال فيها.
وهذا الذي ذهبنا إليه من الفرق بين أن يقول من جاء يدعي قبلي من كذا إلى كذا، وبين أن يقول كل من جاء يدعي قبلي من كذا إلى كذا قد نص عليه ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ، فلم يراع التسمية مع كل إلا أنه قصر ذلك على الثلث بمنزلة ترك التسمية، مثل أن يقول: من ادعى علي حقا فاقضوه إياه، وذلك من قصره إياه على الثلث خلاف لما في العتبية، إذ لم يقصر فيها شيئا من ذلك على الثلث عم أو خص سمى العدد أو لم يسمه.
وإيجاب اليمين عليه في سماع محمد بن خالد يجري على الاختلاف في لحوق يمين التهمة حسبما ذكرناه في مسألة رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم.
وقد قيل: إن الخلاف في ذلك لا يدخل في هذه؛ لأن المصدق في تلك معين وفي هذه غير معين، والقياس أن لا فرق بينهما؛ لأن المعنى يجمعهما، وهو اتهام الورثة مع تصديق المتهم.
ولو نص المتوفى على تصديقهم دون يمين لسقطت عنهم اليمين قولا واحدا، والله أعلم، وبالله التوفيق.
[: نكاح اليتيم بغير إذن وصيه]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسئل: عن يتيم له وصي واليتيم مصلح وقد بلغ الحلم ومثله لو طلب ماله أعطيه لصلاحه، تزوج بغير إذن وليه، ثم فسد وقبحت حاله بعد النكاح وقبل أن يدخل عليها، وسفه وصار ممن تجوز عليه الولاية فطلقها في سفاهة ثم صالح أختانه على أن أخذ منهم أقل من نصف ما ساق إليها، وذلك بعلم الوصي.
قال: لا يجوز أن يضع عنهم شيئا من نصف الصداق وإن أذن بذلك الوصي.
قيل له: فإن زعم(10/462)
ختنه أنه قد دفع إليه أكثر من النصف وأنكر هو ذلك؟
قال: يغرم ختنه نصف الصداق كاملا إلى وصيه وإن أقر له السفيه أنه قد اقتضاه كله لم يبره ذلك وكان عليه غرمه مرة أخرى؛ لأنه لم يكن له أن يعطيه شيئا.
وأما نكاحه على ما ذكرت من صلاحه من غير إذن وليه فهو جائز، وهو مثل ما لو أذن له وليه إذا كان يوم تزوج على ما ذكرت من حسن حاله.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم نكاح اليتيم بغير إذن وصيه إذا كان في تلك الحال رشيدا في أحواله، وهذا هو المعلوم من مذهبه المشهور من أقواله أن الولاية الثابتة على اليتيم لا يعتبر بثبوتها إذا علم الرشد ولا بسقوطها إذا علم السفه، خلاف للمشهور من مذهب مالك وعامة أصحابه أن المولى عليه بوصي من قبل أب أو مقدم من قبل سلطان لا تجوز أفعاله وإن علم رشده حتى يطلق من الولاية التي لزمته.
وقد روى زونان عن ابن القاسم مثل قول مالك، وروى ابن وهب عن مالك مثل قول ابن القاسم.
وأما اليتيم الذي لم يوص به أبوه إلى أحد ولا قدم عليه السلطان وليا ولا ناظرا ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن أفعاله كلها بعد البلوغ جائزة نافذة رشيدا كان أو سفيها معلنا بالسفه أو غير معلن به، اتصل سفهه من حيت بلوغه أو سفه بعد أن أنس منه الرشد من غير تفصيل في شيء من ذلك، وهو قول مالك وكبراء أصحابه.
والثاني: أنه إن كان متصل السفه من حين بلوغه فلا يجوز شيء من أفعاله، وأما إن سفه بعد أن أنس منه الرشد فأفعاله جائزة عليه ولازمة ما لم يكن بيعه بيع سفه وخديعة بينة، مثل أن يبيع ثمن ألف دينار بمائة دينار وما أشبه ذلك، فلا يجوز ذلك عليه ولا يتبع بالثمن إن أفسده من غير تفصيل بين أن يكون معلنا بالسفه أو غير معلن به، وهو قول مطرف وابن الماجشون.
والثالث: أنه إن كان معلنا بالسفه فأفعاله غير جائزة، وإن لم يكن معلنا به فأفعاله جائزة، من غير تفصيل بين أن يتصل سفهه أو لا يتصل، وهو قول أصبغ.
والرابع: أنه ينظر(10/463)
إلى حاله يوم بيعه وابتياعه وما قضى به في ماله، فإن كان رشيدا في أحواله جازت أفعاله كلها، وإن كان سفيها لم يجز منها شيء من غير تفصيل بأن يتصل سفهه أو لا يتصل، وهو قول ابن القاسم.
واتفق جميعهم على أن أفعاله جائزة لا يرد منها شيء إذا جهلت حاله ولم يعلم برشد ولا بسفه.
وكذلك اتفقوا أيضا أن على الإمام أن يولي عليه إذا ثبت عنده سفهه فخشي ذهاب ماله، وبالله التوفيق لا شريك له وبه التوفيق.
[: بيع مال الغائب لغرمائه]
ومن كتاب الجواب وسألته: عن الرجل يغيب ببلد قريب الغيبة أو بعيد فيبيع السلطان ماله لغرمائه، والغائب حي يعرف موضعه ولا يُعْرَفُ عَدَمُهُ وَلَا مَلَاؤُهُ فيجد الرجل السلعة بعينها فيريد أخذها، هل يكون ذلك له؟
قال ابن القاسم: إن كانت غيبته غيبة قريبة الأيام اليسيرة التي ليس فيها ضرر على الغرماء ولا يعرف ملاؤه في ذلك كتب إليه فيه وكشف عن أمره حتى يفلس فيأخذ أصحاب السلع سلعهم، أو لا يفلس.
وإن كانت غيبته بعيدة ولا يعرف عدمه فيها ولا ملاؤه، أو يعرف عدمه ولا يدرى أين هو أو لا يعرف موضعه، فهو بمنزلة المفلس يأخذ من وجد سلعته بعينها، ويتحاص جميع غرمائه في ماله الذين حلت ديونهم والذين لم تحل جميعا.
وإن كانت غيبته بعيدة، إلا أنه يعرف ملاؤه فيها بموضعه الذي هو فيه لم يفلس ولم يكن مفلسا، وقضي الغرماء الذين حلت ديونهم كما تعدى على مال الغائب ويترك الآخرون إلى آجالهم، ومن وجد سلعته لم يكن له إليها سبيل. ورواها أصبغ عن ابن القاسم،(10/464)
وقال: هي حسنة إن شاء الله تعالى.
وفي آخرها غمز وكسر ولا يحملها القياس، وأشهب يخالفه فيها ويرى أن يفلس وإن كان يعرف ملاؤه في غيبته، سألته عنها فقال لي: واحتج، قال لي: أرأيت رجلا حاضرا بمصر وله مال بالأندلس لا يدرى ما حدث عليه، ألا يفلسوه؟
قال أصبغ: وذلك القياس عندي، وهو أعجب لي.
وقد قال في كتاب القضاء المحض: قول ابن القاسم أحب إلي استحسانا، قال: والقياس قول أشهب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة تكلم فيها على وجهين: أحدهما: بيع مال الغائب لغرمائه، والثاني: تفليسه.
فأما بيع ماله لغرمائه فلا اختلاف في وجوب بيع ذلك لهم كما لو كان حاضرا، إلا أنه يختلف هل يُستأنَى بذلك إن خشي أن يكون عليه دين لسواهم أم لا، فقيل: إنه لا يستأنى به؛ لأن له ذمة، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في بعض روايات المدونة، وظاهر قوله في هذه الرواية، وقيل: إنه يستأنى به ولا يعجل بقضاء من حضر حتى يستبرأ أمره ويجتمع أهل دينه كالميت الذي لا ذمة له، وهو قول ابن القاسم وغيره من الرواة في المدونة.
وهذا في الحاضر والقريب الغيبة، وأما البعيد الغيبة فلا اختلاف في وجوب الاستيناء به إذا خشي أن يكون عليه دين.
وأما تفليسه حتى يقضى دين من لم يحل دينه ويكون من وجد سلعته أحق بها إذا جهلت حاله فلا اختلاف في أنه لا يقضى بذلك في القريب الغيبة حتى يكتب في أمره ويكشف عن حاله، ولا في أنه يقضى بذلك في البعيد الغيبة.
واختلف إن علم ملاؤه في بعد غيبته، فقيل: إنه يفلس، وقيل: إنه لا يفلس، على القولين المذكورين في هذه الرواية.
وهذا الاختلاف إنما هو عندي فيما كان على مسيرة العشرة الأيام ونحوها، وأما الغيبة البعيدة على مسيرة الشهر ونحوه وفي مثل مصر من الأندلس فلا اختلاف في أنه يجب تفليسه فيها وإن عرف ملاؤه، وبالله التوفيق.(10/465)
[مسألة: ليس له أن يرجع إلى اليمين بعد أن يردها على المدعي]
مسألة وسئل: عن الرجل يدعي قبل الرجل حقا فيقول: احلف لي على أن ما ادعيت عليك به ليس بحق وابرأ، فيقول المدعى عليه: بل احلف أنت وخذ، فإذا هم المدعي أن يحلف بدا للمدعي عليه، وقال: لا أرضى بيمينك ولم أظن أنك تجترئ على اليمين وما أشبه ذلك، وهل ذلك عند السلطان وغيره سواء؟
قال ابن القاسم: ليس للمدعى عليه أن يرجع، ولكن يحلف المدعي ويحق حقه على ما أحب الآخر أو كره، قد رد عليه اليمين فليس له الرجوع فيها، وسواء كان ذلك عند السلطان أو غيره إذا شهد عليه بذلك أو أقر به.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة متكررة في هذا السماع من كتاب الدعوى والصلح، ومثله في كتاب الديات من المدونة، ولا اختلاف أعلمه في أن ليس له أن يرجع إلى اليمين بعد أن يردها على المدعي.
واختلف هل له أن يرجع إليها بعد أن نكل عنها ما لم يردها على المدعي، فقال: ليس ذلك له، وهو ظاهر ما في الديات من المدونة، ورواية عيسى من ابن القاسم في المدنية.
وقيل: ذلك له، وهو ظاهر قول ابن نافع في المدنية، والقولان يحتملان، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة يكون لها على زوجها الصداق فيحيط بماله إلى أجل قريب أو بعيد]
مسألة وسمعته يسأل عن المرأة يكون لها على زوجها الصداق يحيط بماله إلى أجل قريب أو بعيد، هل له أن يعتق أو يهب؟
قال ابن القاسم: لا، ليس ذلك له، وهو دين من الديون.(10/466)
والدليل على ذلك أن المرأة أسوة الغرماء إذا فلس الزوج أو مات، تضرب مع الغرماء بصداقها، فلما نزلت هذه المنزلة لم يكن لزوجها أن يبطل دينها عليه.
قال محمد بن رشد: أما إذا دخل الرجل بزوجته فلا إشكال ولا اختلاف في أنه لا يجوز له أن يهب ولا أن يعتق إذا كان الصداق الذي عليه يحيط بماله إلا أن يدخل الاختلاف في ذلك من اختلافهم في وجوب إسقاط الزكاة به، وهو بعيد.
وأما إذا لم يدخل بزوجته فله أن يهب ويعتق إذا لم يحط بماله نصف صداقها؛ لأنه يملك إسقاط نصفه عن نفسه بالطلاق، وبالله التوفيق.
[: أقر له بعشرة دنانير فأتاه بدنانير ينقص كل دينار ثلث أو ربع وقال هذا مالك]
ومن كتاب العتق وسئل: عن رجل أقر أن لرجل عليه عشرة دنانير نقدا، فأتاه بدنانير ينقص كل دينار ثلث أو ربع، وقال: هذا مالك علي، أيقبل قوله؟
قال: نعم، يقبل قوله ويحلف إذا كان إنما هو بإقراره، وإنما النقصان بمنزلة العدد، بمنزلة ما لو قال: ليس لك إلا خمسة أو ستة وادعى الآخر غير ذلك، فالقول قول المقر.
وقد بين أيضا له النقصان في أول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها ولا لبس في شيء من معانيها، وبالله التوفيق.
[: المبتوتة تكون في بيت بكراء فيفلس زوجها]
ومن كتاب باع شاة وسألته: عن المبتوتة تكون في بيت بكراء فيفلس زوجها، هل هي أولى من الغرماء؟
قال ابن القاسم: إن كان زوجها قد غرم الكراء فهي أولى به من الغرماء، وإن كان لم يؤد كانت أولى وكان عليها الكراء من مالها.(10/467)
قال محمد بن رشد: قوله تكون في بيت بكراء، يريد كراء لوجيبة معلومة تستغرق العدة، بدليل قوله: وإن لم يؤد كانت أولى وكان عليها الكراء، إذ لو كان الكراء مشاهرة لكان أهل الدار أحق بدراهم.
وقوله: إن كان زوجها قد غرم الكراء فهي أولى به صحيح؛ لأنه إذا غرم الكراء صار السكنى حقا من حقوقه، فوجب أن تكون المرأة أحق به من الغرماء، كما كانت تكون أحق به من الورثة لو مات بعد أن بت طلاقها وهي ساكنة فيها، وكما كانت تكون أحق به منهم في عدة الوفاة.
وقوله: إن الكراء يكون عليها من مالها إن كان الزوج لم يؤده قبل أن يفلس صحيح، يريد: ولا تحاص به الغرماء إذ لم يجب لها قبل التفليس، وإنما يجب لها في المستقبل.
وقوله هذا يدل على قياس قول ابن القاسم في المدنية في الذي يطلق امرأته طلاقا بائنا ثم يموت: إن حق المرأة لا يسقط في السكنى إن كانت الدار للميت أو كانت بكراء فنقد الكراء، ويسقط إن لم تكن الدار للميت؛ لأن القياس يوجب أن تكون أحق من الغرماء في التفليس في الموضع الذي تكون فيه أحق من الورثة في الموت.
ويجب في هذه المسألة إذا فلس الزوج قبل أن ينقد الكراء أن يحاص به الغرماء على قياس قول ابن القاسم في كتاب طلاق السنة من المدونة: إن الكراء لا يسقط عن الزوج بالموت إذا طلق ثم مات؛ لأنه إذا لم يسقط بالموت وكان دينا من الديون يبدأ في الموت على الميراث وجب ألا يسقط في التفليس وأن يكون دينا من الديون يحاص به الغرماء.
ويجب في هذه المسألة ألا تكون المرأة أحق بالسكنى وإن كان الزوج قد نقد الكراء على قياس رواية ابن نافع عن مالك في كتاب طلاق السنة من أن السكن الواجب بالطلاق يسقط بالموت، كان المسكن للميت أو لم يكن.
ولو طلقها ولا مسكن له فدفع إليها خراج عدتها ثم فلس لتخرج ذلك على قولين: أحدهما: أن الغرماء أولى بذلك، والثاني: أنها هي أولى به منهم إن كان يوم دفع ذلك إليها قائم الوجه.
وقد تكلمنا على وجه تخريج هذين القولين في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب الرضاع فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.(10/468)
[مسألة: يشهد لامرأته في صحته بحق لها عليه ثم مكثت سنتين أو ثلاثا ثم فلس]
مسألة وسئل: عن الرجل يشهد لامرأته في صحته بحق لها عليه ثم مكثت سنتين أو ثلاثا ثم فلس أتحاص الغرماء؟ قال: نعم إذا جاءت ببينة.
قال ابن القاسم: إذا قامت عليه البينة على إقراره قبل التفليس حاصت الغرماء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على المشهور في المذهب من أن من أقر بدين لوارث في صحته أن ذلك له في حياته وبعد وفاته، ويأتي فيها على قول ابن كنانة والمخزومي وابن أبي حازم ومحمد بن مسلمة أن ذلك لا يكون له إلا في حياته، ولا يكون له بعد وفاته إلا أن يكون لها أن تحاص بذلك الغرماء بعد التفليس، وبالله التوفيق.
[: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر]
من نوازل عيسى بن دينار وسئل عيسى: عن رجل كانت له دنانير أو دراهم أو شيء مما يكال أو يوزن مما إذا غاب عليه لم يعرفه بعينه على رجل وعلى أبيه، فدفع الأب ما عليه إلى ابنه ليدفعه إلى الغريم، فقال له: هذا ما لك على أبي، ثم ادعى الغريم بعد ذلك أنه إنما قبضه من الابن قضاء عنه وأنكر ما قال الابن.
قال: القول ما قال الغريم مع يمينه، إلا أن يأتي الابن ببينة تشهد له أنه قال له: هذا الحق على أبي.
قلت: فإن أتى بالبينة على أمر أبيه إياه أن يدفع ذلك عنه؟
قال: لا ينفعه ذلك حتى يأتي بالبينة على الدفع، كان على الأمر بينة أو لم تكن.
قال عيسى: إلا أن تقوم البينة أن ذلك الشيء الذي قضى شيء أبيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الابن مدع فيما ذكر من أنه قضاه الحق الذي كان له على أبيه، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وبالله التوفيق.(10/469)
[مسألة: يسلف في ضحايا ليوتى بها في الأضحى فلا يأتيه بها إلا بعد ذلك]
مسألة وسئل: عن الرجل يقول لغريمه وقد حل حقه: إن عجلت لي كذا وكذا من حقي فبقيته عنك موضوع إن عجلت ذلك لي نقدا الساعة أو إلى أجل يسميه، فعجل ذلك له نقدا أو إلى أجل إلا الدرهم والنصف أو أكثر من ذلك يعجز عنه، هل تكون له الوضيعة لازمة؟
فقال: ما أرى الوضيعة تلزمه إذا لم يعجل له جميع ذلك، وأرى الذي له الحق على شرطه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال:
أحدها: قوله في هذه الرواية وهو قول أصبغ في الواضحة، ومثله في آخر كتاب الصلح من المدونة: أن الوضيعة لا تلزمه إلا أن يعجل له جميع ما شرط إلى الأجل الذي سمى وهو أصح الأقوال.
والثاني: أن الوضيعة له لازمة بكل حال، ولا ينتفع صاحب الدين بشرطه، وهو قول ابن الماجشون، ونحوه ما في سماع أشهب من كتاب الضحايا في الذي يسلف في ضحايا ليوتى بها في الأضحى فلا يأتيه بها المسلم إليه إلا بعد ذلك أنه يلزمه أخذها ولا خيار له في تركها، وما في السلم من المدونة في السلم ينعقد على تعجيل رأس المال فيتأخر النقد إلى حلول الأجل بهروب من المسلم وهو عرض أن السلم لازم للمسلم إليه، ولا خيار له فيه.
والثالث: أن الوضيعة لا تلزمه إلا أن ينقص الشيء اليسير من شرطه، وهو على ما روى مطرف عن مالك في الذي يسلف في الضحايا على أن يؤتى بها في الأضحى فلا يؤتى بها في الأضحى أنها لا تلزمه إلا أن يأتيه بها بقرب الأضحى بعد اليوم واليومين.
والرابع: أنه يلزمه من الوضيعة بقدر ما عجل له من حقه، وهذا يأتي على ما في سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.(10/470)
[مسألة: السلطان إذ باع مال الميت فقضى بعض غرمائه وبقيتهم حضور]
مسألة وسئل: عن الرجل يكون له على الرجل الذكر الحق فلا يقوم عليه حتى يموت الذي عليه الحق، فاقتسم ورثته ماله وهذا حاضر ينظر، ثم قام بعد بذكر الحق.
قال: فلا شيء له إلا أن يكون له عذر في تركه القيام أو يكون لهم سلطان يمتنعون به أو نحو هذا مما يعذر به فهو على حقه أبدا وإن طال زمانه إذا كان له عذر من بعض ما وصفنا؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» .
قال الإمام القاضي: هذا خلاف قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب: إن السلطان إذ باع مال الميت فقضى بعض غرمائه وبقيتهم حضور ثم قاموا عليهم أن لهم الدخول عليهم، ولا يضرهم علمهم بموت صاحبهم وأن ماله بيع لمن قام طالبا لحقه من غرمائه، وفرق بين ذلك وبين بيع مال المفلس يباع لبعض غرمائه وبقيتهم حضور لا يقومون، إن المفلس له ذمة تتبع، فيحمل سكوتهم على أنهم رضوا باتباع ذمته، والميت لا ذمة له فيكون القول قولهم إنهم إنما سكتوا غير راضين بترك حقوقهم، وقد كان شيخنا الفقيه أبو جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: ليس بين المسألتين فرق بين، ولو قيل في هذا الفرق بالعكس لكان راتبه.
فتحصل في المسألة على ما كان يذهب إليه أربعة أقوال: ألا قيام في المسألتين، والقيام فيهما جميعا، والفرق بينهما على ما في نوازل سحنون، والفرق بينهما على عكسه حسبما ذكرناه عن الشيخ، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه يبيع قبل أن يولى عليه]
مسألة وسئل عيسى: عن السفيه يبيع قبل أن يولى عليه، هل يجوز بيعه؟
قال: أما ابن كنانة وابن نافع وجميع أصحاب مالك فيقولون بيعه قبل أن يولى عليه جائز إلا ابن القاسم وحده فإنه كان يقول(10/471)
بيعه وقضاؤه في ماله قبل أن يولي عليه سواء لا يجوز؛ لأنه لم يزل في ولاية منذ كان وإن لم يكن له ولي؛ لأن السلطان ولي من لا ولي له، فإذا كان في ولاية السلطان حتى ولى السلطان عليه وليا يتولاه ويقوم به، جعل عليه من أمره مثل الذي كان إليه منه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم جاع من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: رجل فلس فأدرك رجل ماله بعينه]
من سماع يحيى من ابن القاسم من كتاب الأقضية وسئل عبد الله بن وهب: عن الرجل يفلس فيجد أحد الغرماء متاعه بعينه بيد المفلس فيريد أخذه ويريد الغريم دفعه إليه، فيقول الغرماء: لا ندفعه إليه بل نحبسه عليك لما نرجو فيه من الزيادة وندفع إلى رب السلعة حقه الذي له عليك، فيقول المفلس: إني أخاف أن يهلك قبل أن يباع علي فيبقى حق رب السلعة دينا علي ولم ننتفع بالذي نرجو من الزيادة فيه، فإن حبستموه علي فهو لكم بالثمن وأنا بريء من ضمانه، فيقولون: بل ضمانه منك وزيادته لك، ونحن أحق بحبسه عليك لما نرجو من زيادته لك فيما نقص من حقنا الذي عليك، فيدفعوا (كذا) إلى الغريم حقه ثم تهلك السلعة قبل أن تباع.
قال: أرى ضمانها من الغرماء يقاصهم بها المفلس فيما لهم عليه، فإن بيعت وسلمت كان فضلها للمفلس.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة قول النبي عليه(10/472)
السلام: «أيما رجل فلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» فاتفق مالك وأصحابه لهذا الحديث وما كان في معناه: على أن البائع أحق بسلعته التي باع في التفليس من الغرماء بجميع الثمن الذي باعها به، واختلفوا إن أراد الغرماء أن يأخذوها لفضل يرجونه فيها ويئول إليه ثمنها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لهم شاء المفلس أو أبى. فعلى هذا القول وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ وروايته عن مالك في المدونة وفي رسم طلق من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب في بعض الروايات تكون مصيبة السلعة إن تلفت من المفلس والنقصان عليه إن بيعت بأقل من الثمن، كما تكون الزيادة له إن بيعت بأكثر من الثمن.
فإن كانوا أدوا الثمن إلى البائع من مال الغريم المفلس تحاصوا في ثمنها قل أو كثر، وإن كانوا أدوه من أموالهم فبيعت بأكثر من الثمن أخذ الثمن من أداه منهم أو جميعهم إن كانوا أدوه جميعا وتحاصوا في الفضل مع جملة مال الميت، وإن بيعت بأقل من الثمن أخذه من أداه منهم واتبع الغريم بالبقية فحاص به الغرماء. وإن تلفت اتبعوا الغريم بجميع الثمن الذي أدوه فيها وحاصوا به الغرماء؛ لأنه كان السلف منهم له.
والثاني: أن ذلك لا يكون لهم إلا برضا المفلس، فعلى هذا القول وهو قول ابن وهب في هذه الرواية إن رضي كانت المصيبة منه والنقصان عليه كما تكون الزيادة له حسبما مضى تفسيره في القول الأول، وإن كان لم يرض كان الربح والزيادة [لهم حسبما مضى تفسيره في القول الأول، وكانت المصيبة والنقصان منهم.
فإن كانوا أدوا الثمن من أموالهم خسروه إن تلف، وخسروا النقصان إن بيعت بأقل من الثمن الذي أدوه فيها.
وإن كانوا أدوه من مال المفلس فتلفت السلعة] حوسبوا بجميع الثمن فيما لهم عليه من الديون، فكان ذلك قصاصا منها، وتحاصوا في بقية مال المفلس بما بقي من ديونهم، وهو معنى قوله في هذه الرواية: أرى ضمانها من الغرماء يقاصهم بها المفلس فيما لهم عليه. وإن(10/473)
كانوا أدوه من مال المفلس فبيعت السلعة بنقصان حوسبوا أيضا بما انتقص من ثمنها فيما لهم عليه من الديون فكان ذلك قصاصا منها.
والقول الثالث: أن ذلك لا يكون لهم إلا أن يزيدوا زيادة يحطونها عن المشتري المفلس من دينهم، وتكون السلعة لهم نماؤها وعليهم بوارها، وهو قول أشهب، وبالله التوفيق.
[: إذا تقاضى الآخرين ادعى كل واحد منهم أنه هو الذي قضاه العشرة]
ومن كتاب المكاتب وسألته: عن الرجل تكون له ثلاثون دينارا على ثلاثة نفر على كل رجل عشرة، فيقتضي من أحدهم العشرة التي قبله فإذا تقاضى الآخرين ادعى كل واحد منهم أنه هو الذي قضاه العشرة دنانير فيشك المقتضي.
قال: إن لم ينص الذي اقتضاها منه باسمه حلف الغرماء كلهم وبرءوا من الثلاثين دينارا.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال؛ لأنه قد أقر أنه قبض العشرة من أحدهم، فالقول قول كل واحد منهم مع يمينه أنه هو الذي قبض منه، ولا اختلاف في هذا عندي إذا جاءوا مجتمعين؛ لأنه يحقق الدعوى على اثنين منهم أنهما كاذبان، فلا بد من يمين كل واحد منهم، ولو جاءوا مفترقين لجرى له الأمر في إيجاب اليمين على كل واحد منهم على الاختلاف في لحوق يمين التهمة.
ولو جاءوا مجتمعين فنكلوا عن اليمين لوجب على أصولهم أن يحلف هو ما يعلم من دفعها إليه منهم، فلو حلف كانت العشرة بين جميعهم فأدى كل واحد منهم سبعة إلا ثلثا، وإن نكل عن اليمين لم يكن له شيء.
وإن حلف واحد منهم ونكل اثنان برئ من حلف ورجعت اليمين على المقتضي، فإن حلف أدى كل واحد من الناكلين سبعة إلا ثلثا، وإن نكل لم يكن له شيء.
وإن حلف اثنان منهم ونكل واحد برئ الحالفان ورجعت اليمين على المقتضي، فإن حلف أدى الناكل سبعة(10/474)
إلا ثلثا، وإن نكل لم يكن له شيء.
ولو جاءوا مفترقين فنكل كل واحد منهم عن اليمين على القول بإيجابها عليه لغرم العشرة بعد يمين المقتضي على الاختلاف في رد يمين التهمة، ولو جاءوا مجتمعين فحلفوا له ثم تذكر ممن قبض لم ينفعه ذلك ولا كان له طلب على أحد منهم؛ لأنه حكم قد نفذ.
ولو وجد بينة لم يعلم بها بالذي قبض منه كان له القيام بها، فإن كان علم بها وحلفهم كان الحكم على قولين: أحدهما: أنه لا قيام له وهو قول ابن القاسم، والثاني: أن له القيام وهو قول مالك في رواية أشهب من هذا الكتاب.
[مسألة: ليس للغرماء أن ينتزعوا مال المدبر]
مسألة قال يحيى: قلت له: فإن تصدق رجل على رجل مفلس بدنانير يؤديها في دينه فلم يقبل وقال الغرماء: نحن نقبل ذلك عليك فلا ينبغي لك أن تضر بنا في ترك ما تصدق به عليك.
قال: لا يجبر على أخذ الصدقة؛ لأنه يقول: لا ألزم نفسي مذمة ولا أوجب علي منة وسيرزقني الله فأؤدي إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة قد أغنى ابن القاسم عن القول فيها بنصه على العلة فيها.
ولو قبض الهبة على أنه بالخيار في قبولها وردها فأراد ردها، وقال الغرماء: نحن نقبلها - لتخرج ذلك على قولين: أحدهما: أن ذلك للغرماء وهو الذي يأتي على ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، والثاني: أن ذلك ليس لهم وهو الذي يأتي على ما في كتاب التفليس من المدونة في أنه ليس للغرماء أن ينتزعوا مال المدبر، فتدبر ذلك، والمسألة متكررة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الهبات والصدقات، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقر بوطء أمة رجل ويدعي أنه اشتراها منه وينكرسيدها أن يكون باعها منه]
مسألة وسئل يحيى عن الرجل يقول للرجل إن لي عليك مائتي(10/475)
دينار وقد قضيتني منها مائة فاقضني المائة الباقية، فقال الرجل: ما لك علي شيء ولا كان لك عندي شيء قط، ولكنك مقر بأنك قبضت مني مائة دينار، فأثبت أنها كانت لك علي من دين، وإلا فارددها علي. أفترى يرد عليه إذا لم يثبت أنها كانت له دينا عليه؟ أم لا ترى ذلك عليه؟
قال: يقال لهذا المقر له: بأي شيء دفعت إليه ما قال إنه قبضه منك؟
فإن قال: دفعت إليه وديعة وما كان له عندي شيء قط حلف على قوله بالله أنه دفعها إليه وديعة أو سلفا إن ادعاه، ثم يبرأ من الذي ادعاه عليه بعد أن يحلف ما كان له عليه شيء قط ويأخذ المائة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جارية على أصل اختلف فيه قول ابن القاسم في غير ما مسألة، من ذلك قوله في الرجل يقر بوطء أمة رجل ويدعي أنه اشتراها منه وينكر سيدها أن يكون باعها منه، فالمشهور من قول ابن القاسم في المدونة وغيرها أنه يحد إن لم يقم بينة على الشراء، وروى عيسى عنه في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب الأقضية أنه يدرأ عنه الحد بالشبهة، وهو الذي يأتي على قول أشهب أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما أقر به على نفسه، وهو لم يقر بزنا وإنما أقر بوطء من يحل له على زعمه.
فجواب يحيى بن يحيى في هذه المسألة على المشهور من مذهب ابن القاسم؛ لأن مدعي المائتين يقر أنه قبض من المدعى عليه مائة ويدعي أنه قبضها من حق واجب له، فعليه أن يقيم البينة على ذلك، فإن عجز عن إقامة البينة حلف المدعى عليه أنه ما له عليه حق وأخذ منه المائة التي أقر أنه قبضها منه.
قال في الرواية بعد يمينه على ما يدعي من أنه دفعها إليه وديعة أو سلفا، واعترض ذلك ابن دحون، فقال: لا يلزمه أن يحلف أنها وديعة أو سلف؛ لأن القابض قد أقر بالقبض وادعى أنه قبضها من دين له فليس على البائع أكثر من اليمين أنه ليس له عليه شيء، وليس باعتراض بين؛ لأنه لم يقر أنه قبض المائة إلا من حق واجب له، فإذا لم يصدق في ذلك وكان مدعيا فيه وجب أن يكون القول قول المدعى عليه إنه دفعها إليه(10/476)
وديعة أو سلفا.
ويأتي في هذه المسألة على قول ابن القاسم الثاني وعلى قول أشهب وأصله في أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه أن يحلفا جميعا ولا يكون على واحد منهما شيء، يحلف المدعى عليه المائتين أنه ما له عليه حق، ويحلف المدعي أنه ما قبض المائة التي أقر بقبضها إلا من المائتين التي كانت له عليه على ما زعم.
ولو أقر أنه قبض منه مائة ولم يبين فلما طلبها منه وادعى أنه أسلفه إياها أو أودعه إياها قال: إنما قبضتها من مائتين كانت لي عليه دينا لم يصدق في ذلك على أصولهم قولا واحدا، وبالله التوفيق.
[: باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا]
ومن سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال سحنون: سألت أشهب عن قوم اكتروا من جمال ودفعوا إليه دنانيرهم ثم أفلس الجمال قبل أن يركبوا ثم أدرك رجل منهم دنانيره في يده بعينها يشهد له عليها هل يكون أحق بها؟
قال: لا، وليس هذا مثل السلع.
قلت: فإن كانوا قد أخذوا عليه حميلا ثم دفع القوم إلى الجمال إلا رجلا منهم واحدا دفع إلى الحميل، ثم فلس والمال في يد الحميل، لمن هو؟
قال: إن كان الجمال لم يأمر الدافع بالدفع إلى الحميل بالمال فإن الدافع لا يدخل عليه أصحابه، وإن كان الجمال أمر الدافع بالدفع فالمال الذي بيد الحميل للغرماءكلهم.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا إن المكتري إذا فلس المكري لا يكون أحق بدنانيره وإن أدركها قائمة بيد المكري يشهد له أنها دنانيره بعينها، هو مثل قوله في كتاب المأذون له بالتجارة من المدونة خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وعامة أصحاب مالك في أن الرجل أحق بالعين والعرض في الفلس كان العين والعرض من بيع أو قرض، وخلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أنه أحق بالعين والعرض إذا(10/477)
كانا جميعا من بيع، وأسوة الغرماء فيهما جميعا إذا كانا من قرض.
والاختلاف الحاصل بين ابن القاسم وأشهب في العين هل يكون صاحبه أحق به من الغرماء في الفلس جار على اختلافهم في العين هل يتعين أم لا، والصحيح قول ابن القاسم وروايته عن مالك أنه أحق في الفلس بالعرض والعين كانا من بيع أو قرض، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» ؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عم بقوله «فأدرك رجل ماله» ، إذ لم يخص فيه عينا من عرض ولا قرضا ولا بيعا.
ووجه ما ذهب إليه ابن المواز: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فهو أحق به من غيره» الحديث؛ لأنه جعل هذا الحديث مخصصا لعموم الحديث الأول ومبينا له في أن المراد به البيع دون القرض، وهو بعيد؛ لأن الخاص لا يحمل على التخصيص للعام إلا إذا كان معارضا له.
ووجه قول أشهب أن العين لا يتعين، وهو أبعد الثلاثة الأقوال.
وأما تفرقته بين أن يدفع المكتري الدنانير إلى الحميل بأمر الجمال أو بغير أمره، فهي صحيحة على أصله في أن العين لا يتعين؛ لأن قبض الحميل بأمر الجمال كقبض الجمال؛ إذ هو وكيل له فصارت يده كيده..
وإذا دفع إليه بغير أمره فليس بوكيل له، وإنما هو وكيل للدافع، فوجب أن تكون يده كيده وأن يكون أحق بما في يده كالرهن في الموت والفلس قولا واحدا، وبالله التوفيق.
[مسألة: المتكاري أولى بالإبل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يكتري كراء مضمونا إلى مكة ذاهبا وراجعا فإذا أتى مكة نزل عن بعض الإبل التي كانت تحته وأخذ في حجه وخرجت الإبل إلى الرعي ثم فلس الجمال، هل(10/478)
يكون أولى بها أم تراها إذا خرجت إلى الرعي خروجا من يده فيكون أسوة الغرماء؟ قال: المتكاري أولى بالإبل.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد غمزها محمد بن المواز، وقال: إنما يجب أن يكونوا أولى بالإبل إذا كان الكراء في معين، وقد أجرى أصحاب مالك المعين والمضمون على حكم واحد أنه أولى بما تحته. وقد علم أن الجمال يقبض جماله في كل ليلة ويرعاها ويتصرف فيها.
والذي ذهب إليه محمد بن المواز من التفرقة في هذا المعنى بين الكراء المضمون والمعين وهو ظاهر قول غير ابن القاسم في كتاب الرواحل والدواب من المدونة ليس الراحلة بعينها مثل المضمون، وقد مضى الكلام على هذا المعنى مستوفى في آخر سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، فلا معنى لإعادته، ومضى في رسم القبائل من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب الكلام على طرف منه.
[مسألة: أقر بدين من غير قرض وادعى قضاءه]
مسألة وقال في الرجل، يقول: كان لفلان علي دينار فتقاضاه مني أسوأ التقاضي فلا جزي خيرا، فيقول المقر له: ما تقاضيت شيئا.
قال: أرى الدين على المقر، وليس هو بمنزلة الذي يقر على وجه الشكر.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: وليس هو بمنزلة الذي يقر على وجه الشكر، يريد: أنه ليس بمنزلة الذي يقر بالسلف على وجه الشكر ويدعي القضاء.
وقد مضى في رسم يوصي من سماع عيسى الفرق بين الذي يقر بالسلف على وجه الشكر ويدعي القضاء وبين الذي يقر بالاقتضاء على وجه الشكر ويدعي أنه اقتضى حقا كان له.
ولو أقر بدين من غير قرض وادعى قضاءه لم يصدق، وروى ذلك ابن أبي أويس عن مالك، قال: قال مالك، في الرجل يقول: كان لفلان علي ألف دينار فقضيته، قال مالك: هو لها ضامن حتى يأتي بالبينة أنه قد قضاه إياها، وسواء عندي كان(10/479)
إقراره بذلك على شكر أو على غير شكر، إذ ليس بموضع شكر على ما مضى القول فيه في رسم يوصي من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصحة تدفع التهمة]
مسألة وقال في الرجل يقر في مرضه لبعض من يتهم عليه بدين من وارث أو غيره ممن لو مات لم يكن له، فأوصى بذلك ثم صح بعد ذلك صحة بينة ثم مرض فمات، فذلك الدين ثابت عليه يؤخذ من رأس ماله ويحاص به الغرماء المعروفين الذين لهم البينات.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال: إن ذلك يكون من رأس ماله؛ لأن الصحة تدفع التهمة، فسواء أقر له وهو صحيح أو أقر له وهو مريض ثم صح.
وقوله: إنه يحاص به الغرماء المعروفين الذين لهم البينات، معناه: إذا كان الدين الذي للأجنبيين محدثا بعد الإقرار، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه الذي يموت أبوه ولا يوصي به إلى أحد فيبيع متاعه أو يتلفه]
مسألة وسئل: عن السفيه الذي يموت أبوه ولا يوصي به إلى أحد أو مات وصي أبيه ولم يوص به إلى غيره، فيبيع متاعه أو يتلفه ولا ولي له بأمر السلطان ولا وصي له فيليان ماله، أترى ما باع من ماله جائزا لمن اشتراه منه؟
قال ابن القاسم: إذا كان معروفا بالسفه وهو يعرف بالتبذير فباع شيئا لم يجز اشتراؤه لمن اشتراه ورأيته مفسوخا وإن طال زمانه ولا أرى أن يعدى عليه برأس ماله ولا غيره، وهو كمن هو في الولاية؛ لأن حاله مسخوطة فلا أرى أن يجوز من أمره شيء، وذلك رأي من أرضى من أهل العلم والذي آخذ به.
قلت له: إن قوما زعموا أن كل ما باع أو بذر من ماله(10/480)
وهو لا وصي له ولا ولي بأمر القاضي يرد ذلك عليه أنه جائز، قال: لا أرى ذلك له ولم أسمعه ممن أرتضيه، وهذا مما لا ينبغي له أن يقوله ولا يجوزه، وأرى أن يفسخ عنه كل ما باع أو بذر إذا كان حاله على ما أخبرتك.
قيل: فإن كان ممن لا يعرف بالتبذير ولا بالخير ولا بالشر إلا أنه يشرب الخمر وهو في ذلك ربما أحسن النظر في ماله، أترى أن بيعه جائز؟
قال: لا أرى مثل هذا جائز الأمر إذا وقع لعله لا يرد فعله إذا لم يكن مولى عليه، وقد يموت الرجل فجأة ولا يوصي ويموت وصيه ولا يوصى به، فإن السلطان وصي من لا وصي له، وقد يغفل القاضي ولا يولي عليه، فلا يجوز لذلك بيع السفيه، ولا يجوز بيعه إذا كانت حاله حالا يسخطه، وقد قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، فأرى أن يرد كل ما بذر من ماله ولا يعدى عليه في شيء؛ لأنه ممن وجبت عليه الولاية، إلا أن يجد الرجل ماله بعينه فيكون أحق به منه، وليس يخرجه من حال السفه وإن لم يكن له ولي إلا حال الرشد والصلاح؛ لأنه ممن وجب عليه الولاية فلا أرى بيعه جائزا.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد تقدمت والقول فيها مستوفى في رسم جاع من سماع عيسى، ومضت أيضا في نوازله فلا معنى لإعادة القول في ذلك.(10/481)
[مسألة: البكر أفعالها لا تجوز حتى تدخل بيتها ويرضى حالها]
مسألة قلت له في البكر تأخذ مبلغها الذي يجوز لها القضاء فيه في مالها، أرأيت إذا بلغت ثلاثين سنة أتراها جائزة الأمر في مالها؟
فقال: لا أراها جائزة القضاء في مالها وإن تزوجت وإن مات عنها أبوها وإن بلغت ما ذكرت حتى تدخل بيتها ويرضى حالها، كذلك قال لي مالك.
قلت: فابنة الخمسين والستين وقد وقفت عن الأزواج أتراها بمنزلة التي ذكرت؟
قال ابن القاسم: إذا عنست كما ذكرت وكان لا بأس بنظرها جاز قضاؤها في مالها، وإن كانت على غير ذلك لم يجز ذلك.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية في البكر بين أن تكون ذات أب أو وصي أو يتيمة مهملة في أن أفعالها لا تجوز حتى تدخل بيتها ويرضى حالها، يريد: بأن يشهد العدول على صلاح أمرها، فأفعالهما جميعا على هذه الرواية قبل أن يتزوجهما ويدخل بهما زوجهما ما لم تعنسا مردودة وإن علم رشدهما ما لم يحكم لهما به.
وبعد أن تعنسا ببلوغ الخمسين سنة أو الستين سنة أو تتزوجا ويدخل بهما زوجهما مردودة إلا أن يعلم رشدهما وإن لم يحكم لهما به، هذا الظاهر من قول ابن القاسم في هذه الرواية؛ لأنه قال فيها: إنها إذا عنست وكان لا بأس بنظرها جاز قضاؤها في مالها.
فالظاهر من قوله أنه لم يجز قضاؤها في مالها بعد التعنيس إلا أن يعلم حسن نظرها، فهما جميعا على هذه الرواية بدخول أزواجهما بهما أو بتعنيسهما قبله ببلوغ الخمسين سنة أو الستين محمولتان على السفه ما لم يعلم رشدهما، وفيما قبل ذلك لا تجوز أفعالهما وإن علم رشدهما ما لم يحكم السلطان لهما بالرشد أو يرشدهما الأب إن كانت ذات أب.
وقد تئول على ابن القاسم في هذه الرواية أنها إذا عنست وهي بكر(10/482)
كانت محمولة على الرشد وجازت أفعالها إلا أن يعلم سفهها، وهو خلاف ما بيناه من ظاهرها.
وقد اختلف في هاتين المسألتين اختلافا كثيرا، فقيل في ذات الأب: إنها تخرج بالحيض من ولاية أبيها، وقيل: إنها لا تخرج به من ولايته حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويمر بها بعد دخول زوجها بها العام ونحوه، وقيل: حتى يمر بها بعده العامان، وقيل: حتى يمر بها بعده سبعة أعوام، وقيل: إنها لا تخرج من ولايته وإن طالت إقامتها مع زوجها حتى يشهد العدول على صلاح حالها، وقيل: إنها تخرج من ولايته إذا عنست وإن لم يدخل بها زوجها.
واختلف في حد تعنيسها فقيل: أربعون عاما، وقيل: من الخمسين إلى الستين، وقيل: إن أفعالها جائزة بعد البلوغ، وقيل: إنها لا تجوز حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويمر بها بعد دخوله بها العام ونحوه، وقيل: العامين ونحوهما، وقيل: الثلاثة الأعوام ونحوها، وقيل: إنها لا تخرج من الولاية وإن تزوجت ودخل بها زوجها حتى يشهد العدول على صلاح أمرها، وهو الظاهر من هذه الرواية على ما بيناه، وقيل: إنها تجوز إذا عنست وإن لم تتزوج.
واختلف في حد تعنيسها من الثلاثين سنة ومما دون الثلاثين إلى الخمسين والستين، وهو حد انقطاع المحيض عنها.
فهذه ستة أقوال، ويتخرج فيها قول سابع أيضا وهو أن تجوز أفعالها بمرور سبعة أعوام من دخول زوجها بها.
والمشهور في البكر ذات الأب أنها لا تخرج من ولاية أبيها ولا تجوز أفعالها وإن تزوجت حتى يشهد العدول على صلاح أمرها.
والذي جرى به العمل عندنا أن تكون أفعالها جائزة إذا مرت سبعة أعوام أو نحوها من دخول زوجها بها على رواية منسوبة إلى ابن القاسم، والمشهور في البكر اليتيمة المهملة أن تكون أفعالها جائزة إذا عنست أو مضى لدخول زوجها بها العام ونحوه، وهذا الذي جرى به العمل.
فإن عنست في بيت زوجها جازت أفعالها باتفاق إذا علم رشدها أو جهل حالها، وعلى اختلاف إذا علم سفهها.
وإذا مات الأب فإن عنست في بيت زوجها جازت أفعالها باتفاق إن علم رشدها أو جهل حالها، وردت إن علم سفهها.
هذا الذي أعتقده في هذه المسألة على منهاج قولهم، وبالله التوفيق.(10/483)
[: ضعيف العقل تزوج فأراد وليه أن يغير ذلك]
من نوازل سحنون قال سحنون، في البكر تعطي زوجها بعض مالها وذلك قبل الدخول بها ليملكها أمرها أو تباريه بشيء من مالها، فقال: إن كان لها أب أو وصي فلا يجوز لها أن تعطيه شيئا من مالها قبل البناء؛ لأنها محجور عليها، ويلزم الزوج الطلاق ويرد عليها ما أخذ منها.
ولو كانت البكر يتيمة وكانت لا أب لها ولا وصي حتى لا تكون محجورا عليها في مالها جاز ذلك للزوج ولم يرد ما أخذ منها؛ لأنها عندي بمنزلة السفيه الذي لا وصي له أن أموره كلها جائزة عليه [بياعاته] وأشريته وهبته وصدقته ما لم يحجر عليه، فإذا حجر لم يجز شيء مما صنع، لا بيعه ولا شراؤه ولا هبته [ولا صدقته] ولا أعطايته، فكذلك البكر في عطيتها زوجها ومخالعتها بمالها جائز عليها إن كانت يتيمة ولم تكن محجورا عليها، فإن كان لها أب أو وصي حتى تكون محجورا عليها لم يجز لها شيء مما صنعت وكان مردودا إليها ولزم الزوج الطلاق.
قال سحنون: ومما يدل على ذلك أن مالكا سئل: عن رجل ضعيف العقل تزوج فأراد وليه أن يغير ذلك، قال: إن كان مُوَلَّى عليه لم أر نكاحه جائزا فإن كان غير ذلك فهو جائز.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان لها أب أو وصي فلا يجوز لها أن تعطيه شيئا من مالها قبل البناء - فيه نظر، إذ لا فرق في ذلك بين قبل البناء وبعده [في المهملة ولا في ذات الأب والوصي؛ لأن ذات الوصي لا تخرج من ولاية الوصي إلا بإثبات الرشد، وذات الأب لا تخرج من ولاية(10/484)
الأب بنفس البناء دون أن تمضي مدة ما عند أحد من العلماء.
فإن خالعت ذات الوصي زوجها دون إذن الوصي قبل البناء أو بعده] رد عليها ما أخذ منها ومضى الطلاق عليه.
وإن خالعت ذات الأب زوجها دون إذن أبيها قبل البناء أو بعده بمدة يسيرة رد عليها ما أخذ منها ومضى الطلاق عليه، وإن كان بعده بمدة كثيرة جرى الأمر على ما ذكرناه من الاختلاف قبل هذا في آخر سماع سحنون.
واختلف فيما حلفت به أو نذرته من صدقة مالها هل يلزمها ذلك إذا ملكت أمر نفسها أم لا؟ على قولين مرويين عن مالك: أحدهما: في سماع ابن القاسم من كتاب النذور، والثاني: في سماعه أيضا من كتاب النكاح، وقد مضى بيان ذلك هنالك.
وأما اليتيمة البكر المهملة دون أب ولا وصي فالمشهور أن خلعها لا يجوز ولا شيء من أفعالها، وهو نص قول أصبغ في نوازله من هذا الكتاب ومن كتاب التخيير والتمليك.
وذهب سحنون هاهنا إلى أن خلعها يجوز وكذلك سائر أفعالها قياسا على السفيه اليتيم الذي لا وصي له.
فعلى قوله تجوز أفعالها وإن كانت سفيهة معلومة السفه، وهو شذوذ من القول لم يتابعه عليه أحد من أصحاب مالك، وأجمع أصحاب مالك كلهم حاشا ابن القاسم على أن أفعال السفيه جائزة إذا لم يكن في ولاية، وقد روى ابن وهب عن مالك أن أفعاله لا تجوز مثل قول ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقر على نفسه في مرضه أن لفلان علي جل المائة]
مسألة وسئل: عن رجل أقر على نفسه في مرضه أن لِفُلَانٍ عَلَيَّ جُلَّ المائةِ أو عظم المائة] أو قرب المائة أو أكثر المائة أو نحو المائة أو شبه المائة أو مائةً إلا قليلا، أو مائة إلا شيئا، فقال: الذي سمعت من أصحابنا ورأيت عليه أكثرهم أن قالوا يعطى(10/485)
المقر له من ثلثي المائة إلى أكثر على قدر ما يرى الحاكم، وقد خالفنا فيه هؤلاء، يعني أهل العراق، وقالوا: يزاد على الخمسين دينارا ودينارين.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال؛ لأن هذه الألفاظ كلها تقتضي بأن له عليه أكثر المائة، فوجب ألا يحط عنه منها إلا أقل من ثلثها؛ لأن الثلث هو آخر حد القليل وأول حد الكثير.
وقول أهل العراق بعيد، إذ لا يقال في واحد وخمسين ولا في اثنين وخمسين إنها جل المائة ولا إنها أكثر المائة ولا إنها مائة إلا شيئا ولا مائة إلا قليلا.
وقد روي عن ابن الماجشون أنه إذا قال له: عندي مائة إلا شيئا - أن الشيء عقد من عقود المائة فما دونها فيعطى تسعين ويجتهد فيما يزاد عليها، وهو قول له وجه.
وهذا كله إنما يحتاج إليه في الميت الذي يتعذر سؤاله عن مراده، وأما المقر الحاضر فيسأل عن تفسير ما أرد بقوله ويصدق في ذلك مع يمينه إن نازعه في ذلك المقر له فادعى أكثر مما أقر له به، وتحقق الدعوى في ذلك.
وأما إن لم تحقق الدعوى فعلى قولين في إيجاب اليمين عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول وصي اليتيمة أبا هذه أوصى بها وبمالها إلي فأنا أبرأ إليه من مالها]
مسألة وسئل: عن الذي يأتي باليتيمة التي قد بلغت أو باليتيم الذي قد بلغ إلى القاضي فيقول: إن أبا هذا أو أبا هذه أوصى به وبماله إلي وقد بلغ مبلغ الرضا فأنا أبرأ إليه من ماله واكتب لي براءة منه، أترى أن يكتب له منه براءة ولا يعرف أنه وصيه إلا بقوله؟
قال: نعم.
قيل: كيف تكتب له البراءة؟
قال: يكتب إن فلانا أتى بفتى على صفة كذا وكذا وزعم أنه وصيه وزعم أنه يسمى فلانا،(10/486)
أو بامرأة من صفتها كذا وكذا وزعم أنها تسمى كذا فذكر أن أباها أوصى بها إليه وبمالها وأنها قد بلغت مبلغ الأخذ لنفسها والإعطاء منها فسألنا أن نأمره يدفع إليها مالها وأن نكتب له البراءة منه فأمرناه بذلك فدفع ذلك عندنا وهو كذا وكذا، وقد أشهدنا على براءته من المسمى في هذا الكتاب.
قيل: ولا يجوز له أن يكتبها إلا هكذا؟
قال: نعم، لا يجوز له أن يكتبها إلا هكذا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم وعلى معنى ما في كتاب طلاق السنة من المدونة وعلى ما جاء في آخر سماع أصبغ من كتاب السلطان في مسألة الذي ادعى أن رجلا رهنه قدحا في كساء أن السلطان يأمره ببيع القدح في الكساء على ما زعم أنه عنده رهن به من غير حكم على الغائب، وفي ذلك اختلاف، قد قيل: إنه لا يأمره ببيعه حتى يثبت عنده ارتهانه إياه، وبذلك جرى العمل، وهو على أصل مطرف وابن الماجشون في مسألة كتاب طلاق السنة التي أشرنا إليها، وعلى قياس ذلك لا يلزم القاضي في هذه المسألة أن يأمر الرجل بدفع شيء ولا أن يكتب له براءة بشيء، ويقول له: شأنك في الدفع إليه والإشهاد عليه إلا أن يثبت عنده ما ذكره من أن أباه أوصى به إليه، وقد قيل: إنه لا يكتب له إلا أن يثبت ما ذكره من أن أباه أوصى به إليه وأنه رشيد، وهذا على القول بأن وصي الأب ليس له أن يرشد إلا بأمر السلطان، وقيل: يكتب له إذا ثبت عنده أنه رشيد وإن لم يثبت عنده أنه وصي عليه، فهي أربعة أقوال في المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه المولى عليه يبتاع أمة فتحمل منه ثم يعثر على ذلك]
مسألة قال أصبغ في السفيه المولى عليه، يبتاع أمة فتحمل منه ثم يعثر على ذلك، فقال: أرى أن ترد الأمة إلى بائعها ويرد البائع(10/487)
الثمن كله على السفيه ويكون الولد ولده ولا يكون عليه من قيمتهم شيء.
قال عيسى: ولو أن رجلا أسلف مولى عليه مالا أو أسلمه إياه في شيء أو ابتاع منه شيئا فاشترى به المولى عليه أمة فحملت منه كانت أم ولد ولم يكن للمشتري أن يأخذها بسلفه إياه المال وابتياعه منه شيئا، فإن كان قد قبض منه ما كان ابتاع بالمال رد ذلك الشيء إلى المولى عليه، وأسقط الثمن.
قال محمد بن رشد: أما إذا أولد السفيه الجارية التي ابتاعها بمال أسلف إياه أو بثمن سلعة باعها فلا خلاف في أنه لا سبيل للذي أسلفه أو باعه عليها؛ لأنها وإن كانت من أموالهما فليست بعين أموالهما، وهما سلطاه على أموالهما.
وأما إذا أولد الأمة التي اشتراها فقيل: إن ذلك فوت أيضا لا سبيل للذي باعه إياها عليها؛ لأنه هو سلطه عليها، فإنما فعل من وطئه إياها بعد الشراء ما يجوز له، والحمل ليس من كسبه إذ لم يقع باختياره ولا هو من فعله، بخلاف العتق الذي هو من فعله وكسبه، وهو قول أصبغ في سماع عيسى من كتاب العتق.
وقيل: إن ذلك ليس بفوت وترد الأمة إلى بائعها، وهو قول أصبغ هاهنا وقول عيسى بن دينار في سماعه من كتاب العتق؛ لأنه وإن كان الحمل ليس من كسبه ولا من فعله فالأمة عين مال البائع، وهذا استحسان، والقول الأول هو القياس إلا فرق بين أن يولد الأمة التي اشتراها من مال يسلفه إياه أو من سلعة باعها، كما لا يفترق ذلك في المديان للعلة التي ذكرناها، والله الموفق.
[مسألة: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يقر على نفسه أن لفلان عليه مائة دينار ناقصة ويدعي المقر له أنها وازنة، قال: ليس له إلا ما أقر له به.
قال محمد بن رشد: يريد ويحلف المقر على ما يذكره من النقصان، وهذا ما لا إشكال فيه ولا اختلاف، إذ لا فرق بين اختلافهما في(10/488)
العدد أو في قدر النقصان، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: أتى بذكر حق له على رجل فيه ألف دينار فأتى المشهود عليه ببراءة ألفي دينار]
مسألة قيل: أرأيت إن أتى بذكر حق له على رجل فيه ألف دينار فأتى المشهود عليه ببراءة ألفي دينار يزعم أن تلك الألف قد دخلت في هذه المحاسبة والقضاء، قال: يحلف ويبرأ.
قيل له: فإن أتى ببراءات مفترقة إذا اجتمعت مع الذكر الحق أو الذكورات الحق كانت أكثر أو أقل، وليس شيء من ذلك منسوبا أنه من الذكورات الحق ولا من غير ذلك؟
فقال: إذا كانت البراءات مفترقة وليس واحدة منها إذا انفردت فيها جميع هذه الذكورات الحق أو الذكر الحق فإني لا أراها براءة مما أثبت قبله، وإن كان في واحد منها جميع هذا الذكر الحق وصارت بقية البراءات زيادة على ما أثبت قبله فإني أرى أن يحلف ويبرأ.
قال القاضي: تفرقة سحنون هذه بين أن يأتي المطلوب ببراءة واحدة تستغرق ما في ذكر الحق الذي عليه وبين أن يأتي ببراءات كثيرة تستغرقه إذا جمعت تفرقة ضعيفة لا وجه لها؛ لأن الحق قد يقضى مجتمعا ومفترقا شيئا بعد شيء.
وقد روى ابنه محمد عنه أنه رجع عن هذا القول إلى أنه يبرأ بالبراءات المفترقة وإن كانت ليس في كل واحدة منها إذا انفردت كفاف ذكر الحق.
ولو قيل: إنه إن كانت البراءة واحدة أو البراءات إذا جمعت مثل ذكر الحق سواء أو أقل كانت براءة، وإن كانت البراءة الواحدة والبراءات إذا جمعت أكثر من ذكر الحق لم تكن براءة لكان لذلك وجه بأن يقال: إن(10/489)
المعنى في ذلك أن المطلوب أنكر المخالطة وزعم أنه لم يبايعه سوى هذه المبايعة التي فيها ذكر الحق وادعاها الطالب، فإذا لم يكن في البراءة الواحدة بانفرادها أو البراءات باجتماعها أكثر من ذكر الحق لم يكن للطالب دليل على ما ادعاه من المخالطة، وأنه قد عامله غير هذه المعاملة التي فيها ذكر الحق، فوجب أن يحلف المطلوب أنه لم يكن له عليه سوى ذكر الحق، وتكون البراءة أو البراءات براءة له منه.
وإن كان في البراءة الواحدة أو البراءات زيادة على ذكر الحق كان في ذلك للطالب دليل على ما ادعاه من المخالطة وأنه قد عامله فيما سوى هذا الذكر الحق، فوجب أن يحلف الطالب أنه قد عامله فيما سوى هذا الذكر الحق وأن البراءة أو البراءات التي استظهر بها المطلوب إنما هي من ذلك، فلا يكون شيء من ذلك براءة للمطلوب من الذكر الحق.
وقد مضى القول على هذه المسألة في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات ما فيه بيان لها وكشف عن معانيها، وبالله التوفيق.
[: رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه]
ومن سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد: سألت ابن القاسم عن الرجل يسلف الرجل مالا فيشتري المسلف به متاعا ثم يفلس فيقوم المسلف مع الغرماء فيجد المتاع الذي اشتري بماله، فيقول: هذا المتاع أنا أولى به؛ لأنه ابتيع بمالي.
قال ابن القاسم: قال مالك: هو أسوة الغرماء.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، إذ ليس المتاع ماله الذي أسلفه بعينه، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» ، وبالله التوفيق.(10/490)
[مسألة: يبيع من الرجل شققا إلى أجل فيقطعها ثيابا ويخيطها ثم يفلس]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يبيع من الرجل شققا إلى أجل فيقطعها ثيابا ويخيطها ثم يفلس المبتاع ويجد البائع شققه مقطوعة، كيف الأمر في ذلك؟
قال: يسلك به في ذلك قول مالك في الذي يبيع العرصة فيبني فيها المبتاع ثم يفلس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في آخر رسم العرية من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة القول في ذلك، وبالله التوفيق.(10/491)
[: كتاب المديان والتفليس الثالث] [مسألة: السيد لا يحجر على عبده إلا بالسلطان](10/493)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول، فيمن دفع إلى عبده مالا يتجر به وأمره ألا يبيع إلا بالنقد ولا يشتري إلا به وحجر عليه في ذلك، فداين العبد الناس: إنهم أحق بما في يده لا شك فيه وإن لم تكن هي أموالهم بعينها.
قال أصبغ: وهذا مأذون له إذا أطلقه على البعض فهو الكل، كمثل ما لو وضعه يتجر في البز وحده فتجر في غيره كان لازما له؛ لأنه قد نصبه للناس، وليس كل الناس يعلمون بعضا دون بعض.
وقال أصبغ: قلت له: فإن قصر ما في يديه عما عليه، أيكون ما بقي في ذمته أيضا؟
قال: هو الذي أُصْغِي إليه وَأَسْتَحْسِنُهُ ويسبق إليَّ، والله أعلم.
وقاله أصبغ على قياس القول الأول في صدر هذه المسألة وطريقها استحسانا، وفيها ضعف إن شاء الله.
قال سحنون: هو كما شرط سيده، وليس له أن يتعدى ما أُمِرَ به، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو دفع إلى عبده مالا قراضا أنه يصير بذلك مأذونا له في التجارة وحكم القراض ألا يباع بالدين في الأحرار والعبيد، وكل من قبض(10/495)
مالا قراضا فليس له أن يبيع بالدين. وكذلك الذي يشترط على عبد هو مأذون له في التجارة ممنوع أن يبيع بالدين، فإذا باع به كان متعديا ولا يجوز على مولاه عداه.
قال محمد بن رشد: قوله في صدر هذه المسألة: إنهم أحق بما في يديه - لا شك فيه، وإن لم تكن هي أموالهم بعينها، يريد: أنهم يكونون فيما في يديه أسوة للغرماء إن لم تكن أموالهم بعينها، وإن كانت أموالهم بعينها كان من وجد منهم ماله بعينه أحق به من غيره من الغرماء على حكم الحر إذا فلس. وهذا مما لا إشكال فيه.
وفي قوله: لأنه قد نصبه للناس وليس كل الناس يعلمون بعضا دون بعض دليل على أنه لو أشهد بتجارته في البز وحده وأعلن بذلك وعلم به ثم تجر في غيره لم يلزمه في ماله ما داين به، وهو دليل قوله أيضا في المدونة؛ لأنه لا يدري الناس لأي أنواع التجارة أقعده.
ويدخل في هذا اختلاف بالمعنى؛ لأنه من باب التحجير، فيأتي على قول مالك في المدونة: إن السيد لا يحجر على عبده إلا بالسلطان أنه لا ينفع إشهاد السيد وإعلانه إنما أذن له بالتجارة في البز وحده. ويأتي على قول سحنون: إن السيد يحجر البيع بالدين على عبده دون السلطان - أن الإشهاد والإعلان ينفعه في ذلك.
وقوله: إن ما قصر عنه ما في يده يكون في ذمته، هو مثل ما في المدونة ولا خلاف فيه أعلمه.
وقوله: وقاله أصبغ على قياس القول الأول، يريد: أن ما بقي مما لم يف به ما في يديه فيكون في ذمته على قياس القول بأن تحجير البيع بالدين عليه لا يلزمه، ويكون من داينه أحق بما في يديه.
والقول الثاني هو قول سحنون الذي حكاه بعد ذلك من أن تحجير البيع بالدين عليه لازم له، فلا يكون من بايعه بالدين أحق بما في يديه، إذ لا يجوز عدوه على سيده.
وظاهر قول سحنون أن السيد إذا أذن لعبده في التجارة وحجر عليه الدين أن الغرماء لا يكون لهم حق فيما في يده من المال الذي أذن له بالتجارة فيه وإن لم يعلموا بذلك.
ومسألة القراض التي احتج بها لا يلزم ابن القاسم الحجة بها، إذ لا يوافقه عليها بل يخالفه فيها، فيقول: إنه إذا دفع إلى عبده مالا قراضا فداين فيه(10/496)
الناس تكون فيه ديونهم إلى أن يعلموا أنه بيده قراض فلا يكون لهم فيه شيء.
وكذلك الحر أيضا لو دفع إليه مالا قراضا فعلم الغرماء الذين عاملوه فيه بالدين أنه مال قراض بيده لم يكن لهم فيه شيء واتبعوا ذمته بديونهم.
وأما إذا لم يعلموا فيفترق الحر من العبد؛ لأن الحر يلزمه ضمان المال فيكون لصاحبه محاصة الغرماء فيه، والعبد لا يضمن لسيده فينفرد الغرماء إذا لم يعلموا بجميعه؛ لأنه فرط حين لم يعلمهم.
وقال ابن دحون: قول سحنون ضعيف ليس المأذون له مكان المقارض؛ لأن المأذون له حجر عليه التجارة فيما عدا البز لم يلزمه بخلاف المقارض.
وقول ابن دحون ليس بصحيح؛ لأن قول سحنون إنما ضعف من أجل أنه جعل تحجير السيد على عبده الدين لازما للغرماء وإن لم يعلموا بتحجيره المداينة عليه، لا من أجل الفرق بين تحجير الدين على العبد وبين دفع المال إليه على سبيل القراض، إذ قد بينا أنه لا فرق بينهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: سلف في ثوب أو دابة ففلس المسلف إليه]
مسألة قال أصبغ: وسئل: عمن سلف في ثوب أو دابة ففلس المسلف إليه، فقال: الذي اشترى والغرماء أسوة في المال يحاص بقيمة دابته أو ثوبه الذي سلف فيه، فما حصل له في المحاصة اشترى له به شرطه أو ما بلغ شرطه.
قال أصبغ: وتفسيره أن يحاص بقيمته وما يساوي مثله يوم التفليس؛ لأنه لو تم المال يومئذ كان يعجل له، فما أدرك في محاصته جعل له في مثله من أجزائه يشترى له يكون به شريكا ثم يبيع بباقيه جزءا نصفا أو ربعا أو ثلثا على مثل ذلك مما ثاب لغرمائه مال، إن شاء الله.
وكذلك لو سلف في طعام ففلس المسلف إليه أنه يحاص بقيمة طعامه حالا، فما صار له في المحاصة اشترى له به طعام وما عجز عن حقه اتبعه به في ذمته.
وقال سحنون: يحاص بقيمته طعاما إلى أجله.(10/497)
قال الإمام القاضي: قد مضت هذه المسألة في رسم القبلة من سماع ابن القاسم وفي رسم العرية من سماع عيسى، وقول ابن القاسم أصح من قول سحنون؛ لأنه لا يلزم على قول سحنون إذا كان له على المفلس دين إلى أجل ألا يحاص الغرماء إلا بقيمة الدين إلى أجله.
[: الرجل إذا ادعى على الرجل مائة دينار فصالحه منها على خمسين إلى أجل]
ومن كتاب البيع والصرف قال: وسئل: عن رجل له على رجل حق فجحده إياه، فأراد إحلافه، فقال: لا تحلفني، وأخرني إلى سنة، وأنا أقر لك، فقال: لا خير فيه، وهو سلف جر منفعة، قلت له: إن وقع أيفسخ التأخير ويثبت الحق معجلا، والمقر يجحده ويقول: إنما أقررت ورضيت بما رضيت به من ذلك على ما جعل لي من التأخير افتداء من اليمين على رءوس الناس والشهرة والشغب والخصومة، ونحو ذلك من القول، وأنا أحلف ما له علي شيء، هل يكون له ذلك أم لا؟ وهل يسقط عنه إذا حلف مع سقوط التأخير الذي أسقطته؟
قال لي: نعم، يكون على رأس خصومته، وأرى ذلك له، ولا يلزمه من ذلك الإقرار شيء.
قال محمد بن رشد: قوله في تأخير الحق عنه على أن يسقط عنه اليمين إنه سلف جر منفعة، هو على أصل مالك في سماع أشهب في رسم البيوع، وعلى أصله أيضا في المدونة بدليل قوله في كتاب الصلح منها: إن الرجل إذا ادعى على الرجل مائة دينار، فصالحه منها على خمسين إلى أجل، إن ذلك جائز إذا كان مقرا خلاف قول ابن القاسم فيها: إن ذلك جائز، وإن كان منكرا؛ لأنه إن كان حقه حقا فله تأخيره، وإن كان باطلا فليس له أن يأخذ منه شيئا.
وقد مضى في رسم البيوع من سماع أشهب من القول على هذه المسألة ما فيه بيان، إن شاء الله وبه التوفيق.(10/498)
[مسألة: المقارض يفلس بديون عليه فيقر في بعض ما في يديه أنه مال القراض]
مسألة وسألته: عن المقارض يفلس بديون عليه، فيقر في بعض ما في يديه أنه مال القراض.
قال: لا يقبل قوله.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب وفي رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، من سماع ابن القاسم أيضا من كتاب تضمين الصناع، وقلنا: إنها مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن إقراره جائز، والثاني: أنه لا يجوز، والثالث: الفرق بين أن تكون على أصل القراض بينة أو لا تكون، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم.
ومن الناس من ذهب إلى أن الخلاف في جواز إقراره، إنما هو إذا لم يكن على أصل القراض بينة، وأما إذا كان على أصله بينة فلا اختلاف في أن إقراره جائز، وهذا بعيد؛ لأن الظاهر من هذه المسألة الذي هو كالنص فيها، إنما تكلم على من فلس وقد علم أنه مقارض، وقد قال فيها: إن قوله لا يقبل.
ومن ذهب إلى أنه لا خلاف في جواز إقراره إذا كان على الأصل بينة - يقول في هذه المسألة: المعنى فيها أن يقر فيما في يديه مما ليس من تجر القراض أنه من القراض؛ لئلا يباع عليه ثياب أو بسط توجد في داره وهو يتجر بالقراض في الحنطة، فيقول هي من القراض، فلا يصدق. ولو كان يتجر في مال القراض في الثياب أو البسط قبل منه بعد يمينه ولم يبع عليه.
ومنهم من ذهب إلى أن رواية أبي زيد في الفرق بين أن يكون على الأصل بينة أو لا تكون مفسرة للقولين جميعا، فلا يكون في المسألة على هذا التأويل اختلاف، وبالله التوفيق.
[: المال يباع على العامل إذا قام عليه غرماء صاحب المال]
ومن كتاب البيوع قال: وسمعته يقول في رجل أخذ من رجل مالا قراضا فاشترى متاعا وخرج إلى أطرابلس، فقام عليه بأطرابلس، غرماء صاحب المال وغرماء العامل، قال: فرق مالك بين أن يقوم عليه(10/499)
غرماء صاحب المال، وغرماء العامل، فقال: إذا قام غرماء صاحب المال بيع المتاع، فأعطي العامل حصته من ذلك، وكان ما بقي لغرماء صاحب المال، فإذا قام على العامل غرماؤه، فأرادوا أن يباع فيأخذوا ربحه؛ لأن لهم فيه فضلا، لم يبع حتى يحضر صاحب المال.
قال أصبغ مثله؛ لأنه ليس للعامل في المال بعينيه شيء.
ولا يجبر العامل على البيع ولا يمنع منه إن شاء ذلك هو عند ذلك أو بعده، فإذا باع ونض فوجد المال قضى لهم صاحب المال دينهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة متكررة في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده من سماع عيسى من كتاب القراض.
وقوله: إنه إذا قام على العامل غرماء صاحب المال، بيع المتاع، فأعطى العامل حصته من ذلك، وكان ما بقي لغرماء صاحب المال، معناه: إذا كان لبيعه وجه لا ضرر فيه على العامل، فإن كان عليه فيه ضرر لربح يرتجيه في أسواقه لم يبع عليه حتى يأتي أسواقه، وكذلك في تفسير ابن مزين، وكتاب ابن المواز عن مالك أنه لا يباع إلا أن يرى لذلك وجه ومصلحة، وهو معنى ما في المدونة.
وقوله: وقال أصبغ مثله، معناه: وقال أصبغ مثل قول ابن القاسم: إن العامل إذا قام عليه غرماؤه لم يبع عليه مال القراض، حتى يحضر صاحب المال.
وعلل ذلك بما ذكره من أنه ليس للعامل في المال بعينه شيء، وهو تعليل صحيح، إذ لا شيء له في المال حتى يباع وينفق إلى رب المال رأس ماله.
وقوله بعد ذلك: ولا يجبر العامل على البيع ... إلى آخر قوله - معناه: إذا قام عليه غرماء صاحب المال، بدليل قوله في آخره: قضى لهم صاحب المال دينهم، ومن قوله الذي تقدم: إن المال يباع على العامل إذا قام عليه غرماء صاحب المال، فلا وجه له عندي إلا أن يكون معناه: يجبر على البيع ولا يمنع منه إن شاء ذلك، إذا قام عليه غرماء صاحب المال، ولا وجه لبيعه في ذلك الوقت.
وأما إذا قام على العامل غرماؤه،(10/500)
فلا إشكال في أنه لا يباع المال عليه حتى يحضر صاحبه؛ لأنه لا ربح له في المال حتى يرجع إلى رب المال رأس ماله. وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع عبدا بيعا فاسدا فأعتقه وقيمته أكثر من الثمن وليس له غيره]
مسألة قال أصبغ وسحنون: سألنا ابن القاسم: عن الذي يعتق عبيدا له وعليه دين يستغرق بعضهم، ثم يستحدث دينا بعد ذلك، ثم يقوم به الغرماء الأولون الذين أعتق ولهم عليه الدين.
قال: يرد من عتق العبيد بقدر الذي كان لهم من الدين يوم أعتق، فيباع ذلك لهم، ويدخل معهم فيه الغرماء الآخرون، ثم يعتق ما بقي من العبيد، ولا يباع منهم شيء بعد ذلك، ولا يباع للأولين. إلا أول مرة على ما فسرته لك فقط.
قال أصبغ: وقد قال بعض الناس: إذا دخل الآخرون على الأولين في ثمن ما بيع لهم أولا فحاصوهم فيه حتى ينتقصوهم فيه، بيع للأولين ثانية بقدر ما أخذ منهم، فدخلوا عليهم فيه أيضا بالحصص، ثم يرجع إلى البيع أيضا أبدا هكذا حتى يستوفي الديون أو يستغرق بيع العبيد، فلا يعتق منهم شيء.
قال أصبغ: وليس هذا عندنا بشيء فكأن هذا يصير ردا للعتق للآخرين. وليس للآخرين في العتق مقال؛ لأنه قد سبق ديونهم، وإنما يرد للأولين قدر ما تلف من ديونهم يوم قاموا عليه، ثم أعتق ما بقي، وأثبت عتقه، ولا يزول، فإذا بيع ذلك للأولين، صار كأنه مال لهم عليه أقروه في يديه، إلى أن استحدث دينا وفلس، فإنهم يتحاصون جميعا في ماله، وليس ما كان نفذ فيه العتق، مما فضل يوم أعتق على الدين بمال له.
ولا لهم وقد سألت ابن القاسم عن هذا القول الذي قاله من قاله، فعرفه ولم يعجبه، ولم يره ولا رآه ظلما ولا أعلم إلا وقد خلا(10/501)
بصدره، أو قاله مرة ثم رجع عنه على بصيرة وعلم إلى ما كتبت عنه في سؤالي إياه.
قال محمد بن رشد: قوله: وقد قال بعض الناس، هو أشهب، والله أعلم.
وقد حكى ابن المواز عنه فيمن ابتاع عبدا بيعا فاسدا فأعتقه، وقيمته أكثر من الثمن، وليس له غيره، فإنه يباع منه قدر الثمن فقط؛ لأن القيمة إن كانت أكثر، لم يلزمه إلا بعد القبض ولكن يتبع بالزائد، فقال: إن ذلك من قوله رجوع منه إلى أصل ابن القاسم في غريم قبل غريم، وليس ذلك من قوله بصحيح؛ لأنه إنما تكلم على أن المبتاع أعتق العبد وهو في يد البائع قبل أن يقبضه، وما كان بيده فهو رهن بالثمن الذي وقع البيع به، فلا يصح أن يدخل عليه فيه بحال، ولو أعتقه بعد القبض لنفذ عتقه على أصله، واتبع بالقيمة دينا في ذمته، فلم يختلف قول أشهب فيمن أعتق عبده وعليه دين لا يستغرقه، ثم استدان دينا بعد العتق فدخل الغرماء الآخرون على الأولين فيما بيع لهم من العبد أنه يباع لهم منه ثانية بقدر ما أخذ منهم ثم إن دخلوا عليهم في ذلك بيع لهم منه ثالثة بقدر ما أخذ منهم، وهكذا أبدا حتى تستوفي الديون جميعا أو تستغرق بيع العبد، ولا اختلف قول أصبغ في أنه لا يباع للغرماء الأولين ثانية ما انتقصهم به الآخرون واختلف في ذلك قول ابن القاسم، فكان أولا يقول مثل قول أشهب، ثم رجع فقال: إنه يباع من العبد بقدر ديون الأولين فيدخل عليهم في ذلك الغرماء الآخرون، ولا يباع للأولين إلا قدر ما بيع لهم أولا، واختلف في ذلك أيضا قول مالك، فمرة قال: إنه لا يباع للغرماء الأولين ثانية بما انتقصهم به الغرماء الآخرون، ومرة قال: إنه يباع لهم منه بذلك أبدا حتى تستوفى جميع الديون، أو تستغرق بيع جميع العبد.
وهذا القول هو الذي رجع إليه مالك على ما حكاه ابن كنانة وابن نافع عنه في المدونة. وحكى ابن القاسم عنه فيها أن القول الآخر هو الذي رجع إليه، وأقام عليه.
حكى عنه القولين فيمن دبر عبده وعليه دين لا يستغرقه، ثم استدان بعد التدبير دينا آخر. ولا فرق في هذا بين التدبير والعتق والصدقة والحبس والهبة.(10/502)
واختلف في هذه المسألة أيضا قول ابن كنانة، فله في المدنية فيمن دبر عبده وعليه دين ثم استدان بعد التدبير دينا آخر، أنه يباع من المدبر بقدر الدين الذي كان قبل التدبير، فيعطيه أصحاب الدين كان ذلك لهم، ولا يباع للآخرين منه شيء حتى يموت السيد.
ورأيت له في مسائل منتخبة لابن لبابة: سئل: عن الرجل يدبر عبده وعليه دين، فيجرح المدبر رجلا حرا، ويقوم أهل الدين عليه بدينهم؟ فقال: لا ترقه الجناية، وإنما يرقه دين سيده، فإن قام غرماؤه يريدون رد تدبيره، بيع منه بقدر دينهم، فإذا بيع قال المجني عليه: أنا أولى بما بيع منه؛ لأن جرحي في رقبته، وديونكم في مال سيده، فيأخذه ثم يباع منه أيضا بقدر ديونهم، فيقول المجني عليه: أنا أولى بما بيع منه؛ لأن جرحي في رقبته، وديونكم في مال سيده، فيأخذ المجروح فلا يزال هكذا يباع ويأخذه المجروح حتى يباع منه بقدر الجرح وبقدر الدين، فإن بقي منه شيء كان مدبرا حتى يموت السيد، فدين السيد يرقه؛ لأنه لا يجوز له تدبير وعليه دين، والمجروح يأخذه؛ لأن جرحه في رقبته، ولولا الدين لم يرق ولم يبع منه شيء، وأخذه المجروح فاختدمه دون الغرماء حتى يموت السيد، فإن كان له مال يعتق فيه عتق واتبعه المجروح ببقية عقل جرحه.
وإن لم يكن له مال عتق ثلثه ورق ثلثاه، واتبع العتيق بثلث ما بقي من جرحه، وكان الورثة مخيرين في افتكاك الثلثين بثلثي ما بقي من دية جرحه أو إسلامه، فأي ذلك فعلوا كان لهم.
وهذا اختلاف من قول ابن كنانة، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى والقياس، والذي يلزم في مسألة جناية المدبر هذه على قياس قوله الآخر ألا يباع من المدبر شيء لأهل الدين ثانية، ويكون دينهم في ذمة السيد المدبر، يتبعونه به إلى أن يموت، ويكون أهل الجناية أحق باختدام ما بقي من المدبر بعد الذي بيع منه في الدين واختدموه في جنايتهم، فإن استوفوا بقية جنايتهم من خدمته قبل أن يموت السيد اختدمه أهل الدين أيضا إلى أن يموت السيد، فيباع منه بما بقي من دينهم ويعتق ثلث الباقي.
وإن لم يستوف أهل الجناية بقية جنايتهم من خدمته إلى أن يموت سيده، بيع منه لأهل الدين بدينهم، إذ قد ذهبت(10/503)
ذمته بموته، فكان أهل الجناية أحق بما بيع منه، ثم يباع لهم بدينهم ثانية، فيكون أهل الجناية أحق، هكذا أَبَدًا إلى أن يستغرق ذلك بيع المدبر، أو يفضل منه فضلة فيعتق ثلثها، ويرق للورثة ثلثاها.
ولا اختلاف بعد موت السيد في وجوب البيع ثانية للغرماء إذا أخذ منهم ذلك أهل الجناية، وهكذا أبدا إلى أن يباع المدبر كله أو يفضل منه فضلة فيعتق ثلثها، ويرق ثلثاها للورثة.
ولو دبر الرجل عبده ثم استدان دينا بعد التدبير، وجنى المدبر جناية، لكان أهل الجناية أحق باختدام المدبر في جنايتهم من أهل الدين، ولا يباع من المدبر شيء حتى يموت السيد، فإذا مات بيع منه لأهل الدين بدينهم، وكان أهل الجناية أحق بذلك، ثم يباع لهم ثانية وثالثة أبدا إلى أن يستغرق البيع جميعه أو تفضل منه فضلة فيعتق ثلثها، ويرق للورثة ثلثاها.
مثال ذلك: أن يدبر الرجل عبده، وقيمته مائة دينار، ثم يستدين بعد التدبير عشرة دنانير، ويجني المدبر جناية قيمتها ثمانون دينارا، فيكون الحكم في ذلك أن يستخدم أهل الجناية المدبر في جنايتهم إلى أن يموت السيد، ويكونون أحق بذلك من الغرماء، فإن استوفوا في حياة السيد من خدمة المدبر عشرة دنانير مثلا، ثم مات السيد، كان الباقي لهم من الجناية سبعين دينارا، وللغرماء في ديونهم عشرة دنانير، فيباع لهم من المدبر عشره بعشرة دنانير، ويكون أهل الجناية أحق بذلك، فيأخذوه منهم، ثم يباع لهم منه ثانية أيضا عشره بعشرة دنانير، ويكون أهل الجناية أحق بذلك، فيأخذوه منهم، ثم يباع لهم منه ثالثة أيضا عشره بعشرة دنانير، ويكون أهل الجناية أحق بذلك، فيأخذوه منهم، ثم يباع لهم منه رابعة فيأخذوه أهل الجناية، ثم خامسة، فيأخذوه أهل الجناية، ثم سادسة فيأخذوه أهل الجناية، ثم سابعة، فيأخذوه أهل الجناية، فيستوفوا بذلك جميع جنايتهم، ثم يباع لهم ثامنةً - عشرُهُ بعشرةِ دنانيرَ، فيستوفوا دينهم، ويبقى من المدبر خمسه، فيعتق ثلثه ويرق ثلثاه للورثة، ولا اختلاف في هذا أعلمه.
ورأيت لابن دحون أنه قال: اتفاقهم على هذه المسألة حجة على ابن(10/504)
القاسم فيما اختاره وأخذ به ورجع إليه في الذي يعتق وعليه دين لا يستغرق العبد المعتق، ثم يستدين بعد العتق دينا آخر، من أنه لا يباع للغرماء الأولين ثانية، بما انتقصهم به الغرماء الآخرون مما بيع لهم، إذ لا فرق بين المسألتين؛ لأن الدين يرد التدبير، والجناية أولى بذلك، وكذلك دين الأولين، يرد العتق، والغرماء الآخرون أولى ببعض ذلك، فإذا وجب في مسألة الجناية أن يباع من المدبر ثانية لأهل الدين بما أخذ منهم أهل الجناية، وجب في مسألة العتق أن يباع للغرماء الأولين ثانية بما أخذه منهم الغرماء الآخرون، فترد المسألة المختلف فيها إلى المسألة المتفق عليها.
هذا معنى قوله دون لفظه، وليس قوله عندي بصحيح، والفرق بين المسألتين على ما اختاره ابن القاسم، وأخذ به في مسألة العتق، أن العتق لا يرده الدين الحادث بعده إذا مات المدبر، والمدبر مملوك، والمعتق حر، فلا يعود عليه دين حدث بعد عتقه، ودين الآخرين حدث بعد عتقه، فإذا دخلوا على الأولين، كان ما انتقصهم دينا حدث لهم على المعتق، فلا يرد العتق به؛ لأن الذي حدث للأولين من الدين إنما هو من أخذ الآخرين، ودين الآخرين بعد العتق، فلا يرد العتق من أجله؛ لأن ذلك ظلم للعبيد، وهو قوله في الرواية ورآه ظلما، يريد ظلما للعبيد في أن يرد عتقهم بدين حادث بعد عتقهم.
والتدبير بخلاف ذلك؛ لأنه يرده كل دين حدث بعده إذا مات السيد المدبر، ويتخرج في مسألة العتق عندي قول ثالث، وهو ألا يكون للغرماء الآخرين دخول على الغرماء الأولين في ثمن ما بيع لهم من العبد المعتق؛ لأنه إنما بيع لهم، فمصيبة الثمن منهم إن تلف، على معنى ما في المدونة في ثمن الرهن يضيع بيد الذي أمره السلطان ببيعه، أن مصيبته من المرتهن الذي بيع له، لا من الراهن الذي بيع عليه، ويلزم في مسألة العتق على قياس قوله فيما لو تلف الثمن في يد البائع قبل أن يدفع إلى الغرماء الأولين أن تكون مصيبته من الغريم المعتق، فيباع بذلك من العبد المعتق ثانية.
ووجه إيجابه للغرماء الآخرين الدخول على الغرماء الأولين في ثمن ما بيع لهم من العبد المعتق أو العبيد المعتقين أنه إنما بيع ذلك لجميعهم، ولو بيع للأولين ولم يعلم بدين الآخرين إلا بعد البيع(10/505)
لوجب ألا يكون لهم عليهم في ذلك دخول قولا واحدا، والله أعلم، وبه التوفيق.
[: الصبي يكون له شاهد واحد على حقه من مورثه فيستحلف الذي عليه الحق ليبرأ]
ومن كتاب البيوع وسئل: عن الصبي يكون له شاهد واحد على حقه من مورثه فيستحلف الذي عليه الحق ليبرأ؛ لأن الصبي لا يحلف، فيحلف فيكبر الصبي فيقال له: احلف مع شاهدك واستحق، فيرد اليمين على الغريم ويقول له: احلف وتبرأ.
قال: ليس عليه أن يحلف ثانية قد حلف مرة، فاليمين ساقطة عنه.
قال أصبغ: لأنه قد برئ يوم حلف، وهو بريء أبدا حتى يحلف الصبي فيكون حلفه كالشهادة الحادثة القاطعة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ: لأنه قد برئ يوم حلف وهو بريء أبدا حتى يحلف الصبي ... إلى آخر قوله - يقتضي أنه لا يجب توقيف الدين، وقد قيل: إنه إذا حلف الذي عليه الحق أخذ الدين منه ووقف حتى يكبر الصبي فيحلف ويأخذه، ومعنى ذلك إذا لم يكن مليا.
وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من كتاب الشهادات، فلا معنى لإعادته، وسيأتي من معنى هذه المسألة وما يتعلق بها في هذا الرسم، وفي رسم الوصايا والأقضية من هذا السماع ما فيه بيان لها.
وقد مضى القول عليها في سماع أصبغ من كتاب الشهادات أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: إقرارالمريض بالدين لمن لا يتهم عليه]
مسألة وسألته: عن المريض يكون عليه الدين للناس، فيقضي بعض غرمائه في مرضه، ثم يموت في ذلك المرض ولم يترك مالا، هل يرجع الآخرون على هؤلاء بشيء يحاصونهم؟
فقال: إن(10/506)
كان مرضا مخوفا فليس له أن يقضي بعضهم دون بعض، وإن كان مرضا ليس بمخوف حتى يحجب عن القضاء في ماله، فقضاؤه جائز.
قال الإمام القاضي: تفرقته في هذه الرواية بين أن يكون مرضه مرضا مخوفا أو غير مخوف - مفسر لقول ابن القاسم وروايته عن مالك في كتاب المديان من المدونة، في أن المريض إذا كان الدين يغترق ماله لا يجوز له أن يقضي بعض غرمائه دون بعض، خلاف قول غيره فيها: المريض لم تحجر عليه التجارة، وهو كالصحيح في تجارته وإقراره بالدين لمن لا يتهم عليه؛ لأن الظاهر منه أن قضاءه بعض غرمائه جائز، وهو قول سحنون، وأحد قولي مالك، وقع اختلاف قوله في ذلك في كتاب الإقرار من النوادر. فالاختلاف في جواز قضائه بعض غرمائه دون بعض - إنما هو إذا كان مرضه مرضا مخوفا يحجب فيه عن القضاء في ماله.
وأما إذا كان مرضه مرضا غير مخوف، لا يحجب فيه عن القضاء في ماله، فلا اختلاف في أن حاله في مرضه ذلك حال الصحيح، وقد اختلف قول مالك في المدونة في رهنه وقضائه.
فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن رهنه وقضاءه جائز وإن كان مريضا؛ والثاني: أن رهنه وقضاءه لا يجوز وإن كان صحيحا؛ والثالث: الفرق في ذلك بين أن يكون مريضا أو صحيحا، وكذلك إقراره بالدين لمن يتهم عليه.
وأما إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه، فلا اختلاف في جوازه، وإن كان مريضا، وإنما لا يجوز قضاؤه بعض غرمائه دون بعض، على القول بأن قضاءه لا يجوز، إذا كان ما بيده من المال لا يفي بما عليه، وأما إن كان ما بيده من المال يفي بما عليه من الديون، وإن كانت مستغرقة له، فقضاؤه جائز.
قال ذلك إسماعيل القاضي، وهو صحيح ينبغي أن يحمل على التفسير لما في المدونة ولهذه الرواية؛ لأنه إذا قضى بعض غرمائه وفيما بقي من ماله ما يفي بحقوق من بقي منهم، فلم يحاب من قضاه على ما لم يقضه، فمعنى قوله في المدونة إذا كان الدين يغترق ماله، أي إذا لم يكن له به وفاء. ومعنى قوله في هذه(10/507)
الرواية: يكون عليه الدين للناس، أي: دين لا يفي به ما بيده من المال. وبالله التوفيق.
[مسألة: الأيمان هل تحمل على بساطها]
مسألة وسألته عن الرجل يكون له الحق على الرجل حالا فيسأله أن يؤخره وينظره به إلى الصدر، فيأبى ويقول: اكتب حقي عليك حالا وأنا أنظرك حتى يتهايا، ففعل، ثم بدا له أن يأخذه به قبل أن يتهايا له، فقال: إن شهد له على أنه قد أنظره إلى أن يتهايا له رأيت ذلك له.
وإن كان كتبه له حالا وإنما هو رجل أشهد له بحقه أنه حال وأنظره إلى أن يتهايا له، رأيت ذلك له، إلا أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد يتهايا بعد الصدر وما أراد إلا فيما بينه وبين ذلك إن تهايا إلى ذلك، فإن حلف رأيت ذلك له.
قال أصبغ: لا أرى له فيما بينه وبين الصدر شيئا إذا لم يتهايا له بغير مرزية من بيع عقار يلجئه إليه، أو ربع قد كان له، إنما استنظره مخافة ذلك، وذلك في الذي كتبه حالا، فإذا حل الصدر أخذه به ولم يحلف، وأما الوجه الآخر إذا أنظره فيهما إلى أن يتهايا له فهو على الصدر وبعد الصدر متى ما تهايا له، إذا لم يكن في بساط التأخير طلب للذي عليه الحق للصدر، فإذا كان كذلك لم يجاوز الصدر، ولم يتعجل دونه إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة بين والاختلاف الواقع فيها بين ابن القاسم وأصبغ، جار على أصل مختلف فيه في المذهب، وهو الأيمان هل تحمل على بساطها أو على ما تقتضيه ألفاظها دون الاعتبار بما خرجت عليه من بساطها؟
فجعل ابن القاسم ذكر الصدر الذي خرج التأخير عليه دليلا على صدق قوله فيما ادعى أنه لم يرد أن يؤخره إلى ما بعده، واستحلفه على ذلك. واستحلافه على ذلك جار على(10/508)
الاختلاف في لحوق يمين التهمة.
وجعل أصبغ ذكر الصدر الذي خرج التأخير عليه كالتصريح بأنه إنما أخذه فيما بينه وبين الصدر، ويتخرج في المسألة قول ثالث، وهو أن يلزمه التأخير إلى أن يتهايا له، كان ذلك قبل الصدر أو بعده. وهذا على القول بترك الاعتبار بالبساط ومراعاة ما تقتضيه الألفاظ. وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك دينا له عليه شاهد واحد وترك ولدا كبيرا سفيها مولى عليه]
مسألة وسألته: عن رجل هلك وترك دينا على رجل له عليه شاهد واحد، وترك ولدا كبيرا سفيها مولى عليه.
قال: يحلف ويستحق حقه، فإن نكل حلف المطلوب، فإن حلف برئ وبطل عنه ما ادعى عليه، وإن حسنت حالة السفيه يوما ما لم يكن له أن يحلف ويأخذ، ولو كان يكون ذلك له ما كان له أن يحلف وهو سفيه ويستحق حقه، ولو كان ينتظر به حتى يحسن حاله، بمنزلة الصغير ينتظر به الكبر، وكذلك النصراني يكون له شاهد واحد فيحلف معه، فإن حلف استحق، وإن نكل حلف المطلوب، وليس يقال: وإن أسلم يوما ما حلف، والنصراني حالته شر من السفيه في حالته، ولعله أن يكون نصرانيا سفيها فيؤمر إن أسلم يوما ما أن يحلف بعد أن يترك، ليس هذا بشيء.
قال الإمام القاضي: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في هذا السماع من كتاب الشهادات، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى سلعتين مختلفتين ففلس المشتري فوجد البائع إحدى السلعتين]
مسألة وسمعته، يقول عن مالك: إنه بلغه عنه أنه قال في رجل اشترى سلعتين مختلفتين ففلس المشتري، فوجد البائع إحدى(10/509)
السلعتين في يديه وفاتت الأخرى، فافتك الغرماء السلعة الباقية بثمنها، ودفعوه إليه، أنه يرجع يحاصهم بثمن السلعة الفائتة في ثمن السلعة التي افتكوها.
قال أصبغ: وذلك أنها مال من مال المفلس ضمانها منه، ونماؤها له، يعني الغريم، يحط به عنه من دينه، وإنما الثمن الذي افتكوها به سلف منهم له جائز لهم، ماض ذلك عليه في صريح الحكم في قول العلماء والناس.
قال القاضي: قوله: فافتك الغرماء السلعة الباقية بثمنها، معناه: بما أصابها من الثمن الذي باعها به مع الأخرى.
وقوله: إنه يرجع فيحاصهم بثمن السلعة الفائتة في ثمن السلعة التي افتكوها، يريد: ويضربون معه فيها وفي جميع مال المفلس بما لهم عليه من الديون، وبالثمن الذي افتكوها به، وإن كانوا افتكوها من أموالهم، كما كان يضرب هو به لو أسلمها ولم يؤدوا إليه ثمنها؛ لأن ذلك كالسلف منهم له، على ما قاله أصبغ، وإن كانوا افتكوها من مال المفلس، ضربوا معه فيها وفي سائر مال المفلس بما كان لهم عليه من الديون.
وقول أصبغ: وذلك أنها مال من مال المفلس ضمانها منه ونماؤها له، يعني الغريم، تعليل صحيح، وذلك مذهبه.
وقوله في المدونة وفي سماع ابن القاسم من هذا الكتاب في بعض الروايات، خلاف ما مضى في أول سماع يحيى من أن الضمان والنقصان من الغرماء، والفضل للمفلس، فعلى هذا لا يضرب الغرماء معه فيها بما افتكوها به من أموالهم إلا إذا سلمت وبيعت بربح. وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: عليه دين يحيط بماله أو بعضه فتحمل بحمالة وهو يعلم أنه سيغرم]
مسألة قال أصبغ: سمعته يقول في رجل عليه دين يحيط بماله أو بعضه، فتحمل بحمالة وهو يعلم أنه سيغرم: إنه لا يسعه ذلك فيما بينه وبين الله.
قال: والحمالة أيضا عند مالك مفسوخة لا تجوز،(10/510)
ورآها من ناحية الصدقة، ولم يرها من ناحية البيع.
قال أصبغ: وذلك أن الحمالة معروف. ألا ترى أن حمالة المرأة لا تجوز إذا كانت ذات زوج إذا جاوزت الثلث الذي يجوز قضاؤها فيه؛ لأنها أنزلت كالصدقة. ألا ترى أن حمالة العبد الْْمُسْتَتْجَرِ أيضا لا تجوز؛ لأنها ليست من التجارة، إنما هي معروف وليس المعروف من التجارة التي سلط عليها.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي عليه دين يحيط بماله أو ببعضه، إنه لا يسعه فيما بينه وبين خالقه أن يتحمل بحمالة وهو يعلم أنه يغرم، وإن الحمالة تفسخ وترد ولا تجوز؛ لأنها من المعروف، صحيح بين لا إشكال فيه.
وقوله في الذي لا يحيط الدين إلا ببعض ماله: إن حمالته لا تجوز، معناه: إذا كانت حمالته التي تحمل بها لا يحملها ما فضل من ماله عن الدين الذي عليه، وأما إن كانت الحمالة التي تحمل بها يحملها ما يفضل من ماله بعد ما عليه من الدين، فهي جائزة في الحكم سائغة لمن فعلها، وإذا كان الرجل قائم الوجه يبيع ويشتري ويتصرف في ماله، فحمالته وهبته وصدقته جائزة نافدة، وإن علم أن عليه ديونا كثيرة، ما لم يعلم أنها مستغرقة لماله، فهي على الجواز حتى يثبت أنه لا وفاء له بما فعل من المعروف.
وقد مضى هذا المعنى في سماع عيسى من كتاب الرضاع، والمسألة بعينها متكررة في سماع أبي زيد من كتاب الكفالة والحوالة، وبالله التوفيق.
[مسألة: فلسه قوم ثم داينه رجل منهم]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن رجل فلسه قوم ثم داينه رجل منهم، ثم فلس ثانية، فلم يكن في ماله وفاء بدينه الذي أسحره الآخر به، ثم داينه بعد ذلك بشيء آخر، فربح فيه ربحا كثيرا ثم فلس ثالثة، أيكون هذا الذي داينه أولى بجميع ما بيده حتى(10/511)
يستوفي دينه الأول والأوسط والآخر؟
قال: لا. ولكن له ماله الذي داينه به آخر مرة، وما فضل فهو والغرماء الأولون فيه أسوة بجميع دينه ما بقي من أول وأوسط، وإنما ذلك بمنزلة ما لو داينه غيره، فكل من فلس ثم داينه آخرون، ثم فلس ثانية، فالذين داينوه بعد تفليسه أولى حتى يستوفوا رءوس أموالهم، ويكون الربح والفضل لجميع غرمائه. قال أصبغ مثله، وهي جيدة صواب كلها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة، فلا وجه للقول فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: عليه دين قام عليه الغرماء ولا مال له فجاء من يسلفه أو يعينه إلى أجل]
مسألة قال أصبغ: وسمعته وسئل: عن رجل عليه دين قام عليه الغرماء، ولا مال له، فجاء من يسلفه أو يعينه إلى أجل، أعليه أن يأخذ ذلك فيقضيه الغرماء؟
قال: ليس ذلك عليه، وفي التعيين أبين، والسلف أيضا ليس ذلك عليه، وقاله أصبغ.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه أنه لا يلزم المديان أن يستسلف، ولا أن يستوهب، ولا أن يستعين ليؤدي ما عليه من الدين ولا أن يقبل شيئا من ذلك إن طاع له بذلك أحد، لأن الغرماء لم يعاملوه على ذلك ولا دخلوا معه عليه، ولا يلزمه قبول معروف أحد، ولا تحمل مِنَّتِهِ وإن طاع الرجل أن يسلف الطالب فيقضيه ماله على الغريم المطلوب ويرجع به عليه، لزمه ذلك ولم يكن له أن يمتنع منه؛ لأن المعروف إنما هو للطالب ليس للغريم المطلوب، فلا قول له في ذلك ولا وجه لامتناعه منه، هذا قول مالك وجميع أصحابه، خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من أن من أدى عن رجل مالا بغير أمره فليس له أن يرجع به عليه، وبالله التوفيق.(10/512)
[مسألة: قام عليه غرماؤه ففلسوه فيما بينهم وأخذوا ماله ثم داينه آخرون]
مسألة قال: وسمعته يقول عن مالك في رجل قام عليه غرماؤه ففلسوه فيما بينهم وأخذوا ماله، ثم داينه آخرون أن الآخرين أولى بما في يديه بمنزلة تفليس السلطان.
قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: ولو قاموا عليه فلم يجدوا في يديه شيئا فتركوه، لم أر هذا تفليسا ورأيت إن داينه آخرون بعد ذلك ثم فلس، أن يدخل الأولون مع الآخرين، إلا أن يكونوا بلغوا به السلطان وكان هو الذي فلسه، فذلك تفليس وإن لم يوجد له شيء، وذلك أن السلطان يكشفه ويبلغ من كشفه ما لا يبلغ هؤلاء، قال: ولو أعلم أنهم كانوا يبلغون منه مثل ذلك؛ لأنفسهم دون السلطان لرأيت ذلك تفليسا، ولكن لا أحب أن أقوله مخافة ألا يبلغوا ذلك، وقاله أصبغ.
قال: وتفليسهم إياه فيما بينهم أليق إذا فعلوا ذلك واجتمعوا فيه وبلغوه، وتبين ذلك تفليسا كالسلطان.
ومما يبين ذلك أن يجدوا له الشيء اليسير، أو السقط في الحانوت الذي يكشف فيه ويفلس، فيأخذون ما وجدوا ويقتسمونه على تفليسه، واليأس من ماله، فيطلقونه فهو عندي تفليس كالسلطان سواء، والسلطان هكذا كان يفعل ونحوه.
قال محمد بن رشد: هذا هو حد التفليس الذي يمنع من دخول من فلسه على من عامله بعد التفليس.
وأما حد التفليس الذي يمنع قبول إقراره، فهو أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه أو يقوموا عليه فيتستر عنهم فلا يجدوه، قال محمد: ويحولوا بينه وبين التصرف في ماله بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، إلا ألا يكون لواحد منهم بينة، فيكون إقراره جائزا لمن أقر له، إذا كان في مجلس واحد أو قريب بعضه من بعض.
قال ابن حبيب: وإن كان المقر لهم ممن يتهم عليه أو إلا أن يكون من له بينة لا(10/513)
يستغرق ماله أو إلا أن يكون إقراره عند القيام عليه قبل أن يستسلم ويسكت، فيجوز، إذ لا يقدر على أكثر من ذلك.
وقد روي عن مالك أن إقرار المفلس يجوز لمن يعلم منه إليه تقاضيا ومداينة وخلطة مع يمينه، ويحاص من له بينة، ولذلك وجه.
واختلف إذا قضى بعض غرمائه بعد أن تشاوروا في تفليسه قبل أن يفلسوه فلم يجزه ابن القاسم، وأجازه أصبغ.
وفي قوله في هذه الرواية: وذلك أن السلطان يكشفه ويبلغ من كشفه ما لا يبلغ هؤلاء، ما يقوم منه أن للإمام أن يفتش عليه داره، وكذلك قال ابن شعبان: إنه تفتش عليه داره.
وكان الشيوخ المتأخرون يختلفون في ذلك، والأظهر أن يفتش عليه، فما ألفي فيها من متاع النساء فادعته زوجته كان لها، وما ألفي فيها من عروض تجارته بيع لغرمائه، ولم يصدق إن ادعى أنه ليس له.
وما ألفي فيها من العروض التي ليست من تجارته فادعى أنها وديعة عنده أو عارية أو ما أشبه ذلك، جرى ذلك على ما قد ذكرته من الاختلاف في ذلك في غير ما موضع، من ذلك ما في رسم البيع والصرف من هذا السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكارى أرضا يزرعها واستأجر أجراء يقومون فيها بسقيها وعلاجها ثم فلس]
مسألة قال: وسمعته، وسئل: عمن تكارى أرضا يزرعها واستأجر أجراء يقومون فيها بسقيها وعلاجها، ثم فلس، قال: صاحب الأرض والأجراء في الزرع أولى من سائر الغرماء، وأنهم يتحاصون في ذلك رب الأرض والأجراء. وقاله أصبغ.
وقال: قلت لابن القاسم: فإن كان استأجر فيها أجراء لسقيها فعجزوا عنها ثم تركوها، فاستأجر غيرهم ثم فلس، ففضل عن رب الأرض والأجراء فضلة، أيكون أولئك الأولون العاجزون أحق بما فضل، أو يكونون كذا أسوة مع من بقي.
قال: بل يكونوا (كذا) أحق بما فضل عنهم حتى يستوفوا، وقاله أصبغ؛ لأنهم أحيوا أولا وأول(10/514)
حياته منهم وبهم، وإنما بدئ هؤلاء عليهم؛ لأن بهم تم بمنزلة الرهن أن لو رهنه قوما فأحيوا بما لهم، ثم عجزوا فرهنه غيرهم، إن الآخرين أحق، وما فضل فللأولين برهنهم وإحيائهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: الأجير يستأجره الرجل فيستتجره]
ومن كتاب الصدقة والأحباس وقال مالك في الأجير يستأجره الرجل فيستتجره: إنه لا بأس بذلك، قال: وما استدان في ذلك فإنما يلحق ذمته إذا لم يكن في يديه مال، قيل لابن القاسم: الضمان يقع عليه إذا استأجره وأطلعه في حانوت أجلسه فيه يعمل فيه، فما دخل عليه كان للذي استأجره، قال: نعم، قلت: وترى هذه الإجارة جائزة؟
قال: نعم، قلت له: ألا تراه كأنه استأجره بشرط على أن يضمن له ما تلف؟
قال: لا، وأين الشرط؟
قلت: إذا كان الضمان يقع عليه، فكأنه شرطه في الأصل، قال: لا، وهذه سنة المسلمين لا شك فيها، أرأيت الرجل يستأجر النواتية في سفينته بشيء مسمى يحملون فيها، ويكرونها له، إنه لا بأس به، والضمان عليهم فيما حملوا من الأطعمات، فهذه سنة المسلمين وأجرتهم وعملهم.
وكذلك لو تكارى قوما في ظهر له يكرونه ويحملون عليه ويرحلونه، فهم ضامنون لما حملوا من الأطعمة، وكذلك عبده الصانع يضعه للعمل ويستتجره، فما لحقه في ذلك، كان في ذمته.
قال الإمام القاضي: قوله في أول المسألة في الأجير يستأجره الرجل فيستتجره: إنه لا بأس بذلك - صحيح، ومعناه: إذا كان العمل الذي استأجره لعمله من نحو العمل فيما استتجره فيه، فيجوز ذلك إذا رضي الأجير ولا(10/515)
يكون به بأس. وهذا على معنى قوله في كتاب الرواحل من المدونة في أن من أكرى دابة إلى بلد فليس له أن يركبها إلى بلد غيره إلا برضا المكري.
وقد قيل: إن له أن يركبها إلى غير ذلك البلد إذا كان الطريق مثله في الحزونة والسهولة، شاء ذلك المكري أو أبى، وهو قول مالك في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وقيل: إنه لا يجوز أن يركبها إلى غير ذلك البلد وإن رضي المكري؛ لأنه فسخ دين في دين، وهو قول غير ابن القاسم في كتاب الرواحل والدواب من المدونة.
فهذه الثلاثة الأقوال تدخل في هذه المسألة، ولو استأجره على أن يستتجره لجاز ذلك باتفاق إذا لم يضرب عليه خراجا معلوما، ولم يجز باتفاق إذا ضرب عليه خراجا معلوما، ويجوز على اختلاف إذا استأجره على أن يجيئه بغلته وخراجه من غير أن يسمي عليه من ذلك شيئا معلوما.
وقوله: إذا استأجره فاستتجره إن ما استدان في ذلك يلحق ذمته إذا لم يكن في يديه مال، معناه: إنه يلحق ذمته منه ما لم يف به ما بيده من المال الذي استتجره فيه، إذ لا يصح أن يستتجره بغير مال.
وقوله بعد ذلك متصلا بقول مالك، قيل لابن القاسم: الضمان يقع عليه إذا استأجره وأطلعه في حانوت أجلسه فيه يعمل فيه إلى آخر قوله استئناف مسألة أخرى غير الأولى؛ لأن الأولى في اسْتِتْجَارِ الرجل من استأجره، وقد ذكرنا ما يتخرج في ذلك من الأقوال، والثانية: في الأجير الصانع يجلسه الذي استأجره في حانوت على أن يعمل للناس ويلي معاملتهم، وهذا جائز باتفاق إذا رضي بذلك الأجير الصانع، إذ لا يلزمه بغير اختياره، لما يتمونه في ذلك من الأخذ والإعطاء، ويلزمه في ذلك من الضمان.
ولو استأجره على ذلك ابتداء لتخرج ذلك على قولين، كالذي يستأجر الأجير على أن يجيئه بالغلة، وقد ذكرنا ذلك، وبالله التوفيق.
[: إقراره بالدين في مرضه الذي مات منه لبعض أبناءه دون بعض]
ومن كتاب الوصايا قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، قال في رجل له ولد، كلهم(10/516)
بار به في حال واحدة، فأوصى أن لبعضهم عليه دينا، قال: لا يجوز إقراره ذلك، وقال: إن كان بعضهم بارا حسن الحال، وآخر عاق خبيث فأوصى لهذا العاق الخبيث بدين له عليه، ذكره من قبل أمه أو بشيء فهو جائز، وإن كان أوصى بذلك للبار لم يجز.
قال أصبغ: هي جيدة، وذلك إن التهمة بالتوليج تسقط في العاق ويصير كالأجنبي، وإن التهمة واقعة في الآخر بأن يكون أوصى له بما ليس عليه، فتكون وصية لوارث، وذلك بمنزلة الزوجة يقر لها بدين فإن كان بها صبا معروفا ذلك منه، أو كان يورث كلالة لم يجز وكانت تهمة، وإن كان له ولد وكان بها غير صب وليس الذي بينهما بالحسن لم يتهم وجاز لها؛ لأنه أقر بدين وليس بوصية، وسواء كان الولد منها أو من غيرها إذا لم يتهم فيها بصبابة وميل.
قال محمد بن رشد: قوله: إن وصيته للعاق من ولده بدين له عليه جائزة، مثل إحدى الروايتين في كتاب المديان من المدونة.
وتحصيل القول في هذه المسألة: إذا كان ولده كلهم مستوين في البر به أو العقوق له، فلا اختلاف في أنه لا يجوز إقراره بالدين في مرضه الذي مات منه لبعضهم دون بعض، وأما إذا كان بعضهم بارا وبعضهم عاقا له، فاختلف في إقراره للعاق على قولين: أحدهما: أنه جائز، وهو قوله في هذه الرواية، وفي إحدى الروايتين من كتاب المديان من المدونة، والثاني: أنه لا يجوز، وهو قوله في الرواية الثانية من المدونة، والوصية بالدين في الصحة أو المرض كالإقرار له بالدين في مرضه الذي توفي منه سواء. وكذلك القول في الإخوة والأخوات وسائر العصبة والقرابات.
وأما إقرار أحد الزوجين بدين في مرضه الذي مات منه، أو وصيته له به في صحته أو في مرضه الذي مات منه، ففيه تفصيل قد مضى تحصيله في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. وشهادة الأب لأحد بينه على بعض من هذا(10/517)
المعنى، إلا أن تهمته في الشهادة لبعضهم على بعض أخف من تهمته في إقراره لبعضهم دون بعض بدين في مرضه الذي توفي منه أو وصيته له به، ففي الموضع الذي يتفق على أنه لا يجوز إقراره له، وهو إذا كانوا مستويين في البر به أو العقوق له، يختلف في جواز شهادته له، وفي الموضع الذي يختلف في جواز إقراره له وهو إذا كان بعضهم بارا به، وبعضهم عاقا فأقر للعاق منهم يتفق على جواز شهادته له، إلا أن يكون المشهود له في حجره صغيرا، أو كبيرا سفيها، والمشهود عليه كبيرا، فلا تجوز شهادته له باتفاق؛ لأنه يتهم لحيازته المال.
وأما شهادته لبعض ولده على أجنبي، فلا تجوز بحال، وإن كان المشهود له عاقا، وأما شهادته عليه لأجنبي فتجوز، إلا أن يكون عاقا له ومعاديا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول في مرضه لفلان علي ثلاثون دينارا وثلاثون من بقية حساب بيننا]
مسألة وسئل: عن الرجل يقر في مرضه فيقول لفلان علي ثلاثون دينارا، وثلاثون من بقية حساب بيني وبينه، ولم يسم في الأولى شيئا، قال: أرى له عليه ستين دينارا إذا قال: له عليَّ ثلاثون دينارا، وثلاثون دينارا من بقية حساب بيني وبينه، فله ستون يأخذها، سمعته يقولها، وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه ولا احتمال؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه، إنما يعطف على غيره، وبالله التوفيق.
[: العبد تكون تحته الحرة الحجر عليها في مالها]
ومن كتاب الوصايا والأقضية قال أصبغ: سألت ابن وهب عن العبد تكون تحته الحرة، الحجر عليها في مالها إلا في الثلث، كما أيحجر الحر على امرأته إلا في ثلثها. قال: وما للعبد وما لها؟ قلت: إنها زوجته، فالمولى(10/518)
يرثها، وليس له على مالها سبيل، ليس له أن يحجر عليها، قيل له: أيتصدق بمالها؟
قال: نعم..
قلت له: لعله يعتق يوما ما.
فقال: والله ما اجتمع الناس في الحر رأسا.
قلت: أفليس ذلك رأيك في الحر أنه يحجر على امرأته في مالها إلا في الثلث؟
قال: ذلك أحب إلي.
قلت: فالحر تحته الأمة يحجر عليها؟
قال: ما للحر وما للأمة؟ الأمة مالها لسيدها. ألا ترى أن الأمة لا تختلع من زوجها إلا بإذن سيدها؟
قال أصبغ: ليس قوله في الحرة تحت العبد بشيء، ذلك له، وهو زوج وهو حق من حقه.
قال: وقال مالك في رواية أشهب وابن نافع مثله، ورواية أبي زيد عن ابن القاسم مثل رواية أشهب وابن نافع عن مالك.
قال محمد بن رشد: وقعت رواية أشهب هذه في أول سماع أشهب من كتاب النكاح كاملة، ورواية أبي زيد في سماعه من كتاب الصدقات والهبات، وذلك أظهر من قول ابن وهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ: «لا يجوز لامرأة قضاء في ذي بال من مالها بغير إذن زوجها» ، فعم ولم يخص زوجا من غير زوج، ولا حرا من عبد، فوجب أن يحمل قوله على عمومه، لا سيما إذا كان لذلك وجه من النظر، وهو ما ذكره في سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: الميت يثبت عليه الدين فيجد الوصي براءة منه بشاهد واحد والورثة صغار]
مسألة قال أصبغ: سألت أشهب عن الميت يثبت عليه الدين فيجد الوصي براءة منه بشاهد واحد، والورثة صغار. قال: يحلف(10/519)
الطالب أنه ما قبض، فإن حلف دفع إليه المال وعجل له، فإذا كبر الصغار حلفوا، فإن حلفوا استرجعوا المال. قال أصبغ: هي جيدة حسنة.
وكذلك لو كان الدين لهم عليه بشاهد واحد حلف، فإن حلف برئ إلى مبلغهم.
وهذا قول مالك وابن القاسم في هذا، فالآخر مثله.
قال الإمام القاضي: قوله: فإن حلف الطالب دفع إليه المال، يدل على أنه لا يؤخذ منه، فيوقف إذا حلف في المسألة الأخرى، وهو دليل قول أصبغ فيها: فإن حلف برئ إلى مبلغهم على ما قد ذكرناه في رسم البيوع من هذا السماع.
وقد قيل: إنه يؤخذ منهم فيوقف حتى يكبر الصغار فيحلفوا مع شاهدهم. ومعنى ذلك إذا خيف عليه العدم.
وقد مضى القول على هذه المسألة فيما تقدم من هذا السماع، ومن رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من كتاب الشهادات فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: أوصى فقال لفلان في هذا الكيس مال]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى فقال: لفلان في هذا الكيس مال، فقال: أما أنا فأرى أن يعطى عشرين دينارا؛ لأن عشرين دينارا تجب فيه الزكاة، فهي مال، قيل له: أرأيت إن كان فيه مائتا درهم، أترى أن يعطاها؟ قال: نعم بعد أن يحلف.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة، وجهها: أن الله تبارك وتعالى إنما سمى مالا من الأموال ما تجب فيه الزكاة منها، وذلك أنه قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وعنى بذلك المقادير التي تجب فيها الزكاة بما بينه على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «ليس فيما دون(10/520)
خمس أواق من الورق زكاة» وليس في عشرين دينارا ناقصة بينة النقصان زكاة، فوجب إذا قال الموصي في وصيته: يعطى فلان من هذا الكيس مال أن يعطى منه أقل ما سماه الله مالا، وهو عشرون دينارا إن كان فيه ذهب، أو مائتا درهم إن كان فيه ورق، وإذا قال له فيه مال أن يعطى عشرين دينارا إن كان فيه دنانير، أو مائتي درهم إن كان فيه دراهم، بعد يمينه على ما ادعى إذا ادعى أن له فيه عشرين دينارا أو أكثر، أو مائتي درهم أو أكثر باتفاق، إن كذبه الورثة وادعوا أن حقه فيه أقل من ذلك، أو على اختلاف إن قال الورثة لا نعلم مقدار ما فيه ونحن نتهمه فيما ادعاه، وكذلك إن ادعى أن له فيه أقل من عشرين دينارا أو أقل من مائتي درهم، فيكون له ما ادعى من ذلك بعد يمينه على ما ادعاه باتفاق، إن كذبه الورثة، أو على اختلاف إن لم يكذبوه واتهموه. وبالله التوفيق.
[: قال كان بيني وبين فلان معاملة فما ادعى من شيء أعطوه وهو فيه مصدق]
ومن كتاب الوصايا الصغير قال أصبغ: قيل لابن القاسم: فإن أوصى فقال: كان بيني وبين فلان معاملة، فما ادعى من شيء أعطوه، وهو فيه مصدق.
فقال: إن ادعى ما يشبه معاملة مثله لمثله أعطيه، وأحسبه رواها عن مالك.
قال ابن القاسم: ويكون ذلك من رأس المال.
قال: وليس كل الناس في قلتها وكثرتها سواء.
قال: وإن ادعى ما لا يشبه بطل ذلك فلم يكن في رأس مال ولا ثلث.
قال أصبغ:(10/521)
وإنما يبطل عند ذلك الزيادة على ما يشبه، ولا يبطل عنه كل شيء، يعطى ما يشبه مما لا يتبين فيه كذبه، ويحمل محمل الشهادة له وعليه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة صحيحة بينة لا اختلاف فيها إلا في اليمين، فإنه سكت عنها.
وقد اختلف في وجوبها حسبما مضى القول فيه في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم، ورسم أسلم من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته. وقول أصبغ مفسر لقول ابن القاسم، لا خلاف له.
ولو قال: أعطوه ما ادعى واحسبوه من ثلثي، لكان له ما ادعى وإن لم يشبه ما لم يتجاوز الثلث، وبالله التوفيق [اللهم لطفك يا مولاي] .
[: يبيع أرضا أو دارا لولده في حجره]
ومن كتاب الكراء والأقضية وسمعته يقول، في الذي يبيع أرضا أو دارا لولده في حجره، والأب مليء أو مفلس أو سفيه أو لا بأس بحاله، قال: إن كان الأب ليس بسفيه ولا مولى عليه جاز بيعه، ولم يكن للابن أن يرده إن كبر إذا كان نظرا له، ويتبع أباه بثمن ما باع من ماله، ويكون لأبيه أن يحاسبه بما أنفق عليه إن شاء عند ذلك من يوم باع.
وإن كان الأب سفيها مثله يولى عليه لم يجز عليه بيعه وإن لم يكن عليه ولي؛ لأنه لو باع لنفسه لم يجز له بيع؛ لأن كل من كان مثله يولى عليه في سفهه إذا مات أبوه أو وصيه، كان بمنزلة المولى عليه؛ لأن جل الناس يهلكون في الأسفار ويموت الرجل فجأة، ولعل ذلك لا يرفع إلى قاض فيستخلف عليه نظرا له، فيبايع مثل هذا فيذهب بماله، فهذا عظيم فيمن كان في مثل هذا الحد ممن قد ولي عليه إن لم يول عليه بمنزلة واحدة. وليس من مات فجأة(10/522)
أو مات بأرض غربة، أو غفل عن وصية يكون ولده أدنى حرمة ممن أوصي بهم، وهذا عظيم، وهو الذي سمعت من غيري وهو رأيي، والحق بَيِّنٌ نَيِّرٌ.
قال الإمام القاضي: الظاهر من قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن كان الأب ليس بسفيه ولا مولى عليه جاز بيعه، أنه إن كان مولى عليه، لم يجز بيعه ولا فعله وإن علم رشده، خلاف ما تقدم من قوله في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من أن أفعال المولى عليه جائزة إذا علم رشده، فلم يعتبر في رواية عيسى بالولاية ولا بعدمها، واعتبر حاله في حين قضائه، واعتبر في هذه الرواية بالولاية ولم يعتبر بعدمها وهي رواية زونان عنه: أن من لزمته ولاية وصي من أب أو سلطان لا يحلها عنه إلا السلطان.
والمشهور من قول مالك أنه يعتبر بالولاية وبعدمها، فلا تجوز أفعال المولى عليه وإن علم رشده، وتجوز أفعال الذي ليس بمولى عليه وإن علم سفهه، فقف على تحصيل هذه الثلاثة الأقوال، فإنها جيدة دقيقة خفية قل من يعرفها ويحصلها.
وقوله: ولم يكن للابن أن يرده إن كبر إذا كان نظرا له، يدل على أن الأب في بيع عقار ابنه بخلاف الوصي في بيعه عقار يتيمه، إذ لا يجوز للوصي أن يبيع عقار يتيمه إلا لوجوه معلومة قد حصرها أهل العلم بالعد لها.
واختلف الشيوخ المتأخرون هل يصدق الوصي فيها أم لا؟
فقيل: إنه يصدق فيها ولا يلزمه إقامة البينة عليها، وقيل: إنه لا يصدق فيها ويلزمه إقامة البينة عليها.
وأما الأب فيجوز بيعه عقار ابنه الذي في حجره إذا كان بيعه على وجه النظر، من غير أن يحصر وجوه النظر في ذلك بعدد، وفعله في ذلك على النظر حتى يثبت خلافه، مليا كان أو مفلسا على ما نص عليه في الرواية.
وقوله: ويكون لأبيه أن يحاسبه؛ فما أنفق عليه إن شاء عند ذلك من يوم باع - يدل على أنه لا يكون له عنده أن يحاسبه بما أنفق عليه قبل أن(10/523)
يبيع، ومعناه: إذا لم يكتب النفقة، وذلك خلاف لما في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة. وأما النفقة فلا اختلاف أن له أن يحاسبه بها.
وقد مضى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى تحصيل الخلاف في أفعال السفيه الذي ليس في ولاية، وبذلك تتم المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجلين إذا أسلما إلى رجل في طعام أو عروض فأقاله أحدهما]
مسألة وسمعته يقول، وسئل: عن رجلين لهما على رجل حق فوكلا عليه وكيلا فقام، فقال: إنما اقتضيت حق فلان، وقال الغريم: بل دفعت لك حق فلان الآخر، والغريم معدم. فقال: إن كان حقهما واحدا مجتمعا فهو بينهما، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان حقهما مجتمعا فلا إشكال في أن ما اقتضى الوكيل بينهما وإن اتفقا على أنه إنما اقتضى حق أحدهما فكيف إذا اختلفا في ذلك؛ لأن الدين إذا كان بين الشريكين فاقتضى أحدهما منه شيئا كان لصاحبه الدخول معه فيه، ولا خلاف في هذا أحفظه إذا كان ذلك الدين اشتركا فيه بطوعهما لم يصر لهما من ميراث ولا جناية؛ لأن سحنون يفرق بين الوجهين، فيقول: إنما يكون لصاحبه الدخول معه فيما اقتضى إذا كان ذلك الدين اشتركا فيه بطوعهما إلا ما وقع في كتاب السلم الثاني من المدونة في أن الرجلين إذا أسلما إلى رجل في طعام أو عروض فأقاله أحدهما من نصيبه دون صاحبه أن ذلك جائز وإن لم يرض صاحبه.
فقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وقيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول وإنه إنما لم ير مالك لشريكه الدخول على شريكه فيما أخذ من غريمهما؛ لأنه إن دخل عليه في ذلك كان كل واحد منهما قد أقاله من بعض حقه فيصير بيعا وسلفا وبيع الطعام قبل أن يستوفى. فلما لم يجز لم ير مالك الدخول على شريكه فيما أقاله فيه.
وفي قوله في المسألة: إن كان حقهما واحدا مجتمعا فهو بينهما - دليل على أنه إذا لم يكن واحدا مجتمعا فلا يكون(10/524)
بينهما. وإذا لم يكن بينهما فالقول قول الوكيل، وهو قول أصبغ، وحكى ذلك ابن لبابة في منتخبه عن ابن القاسم، وروى عيسى عنه في رسم العارية من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات أن ذلك بينهما وإن اختلفا، فقال الغريم قضيت حق فلان، وقال الوكيل بل قبضت منك حق فلان. وكذلك على هذه الرواية لو اتفقا على أنه إنما اقتضى حق أحدهما.
ووجه هذا القول أن الوكيل لا يصدق إذا كان الغريم عديما مفلسا على أنه إنما طلب حق أحدهما إذا لم يكن له على ذلك بينة؛ لأنه يتهم على محاباته والجر إليه، كما يتهم الغريم على ذلك، والأظهر أن القول قوله ولا يتهم في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: غاب عن أهله ثم بعث إليهم بمائة دينار نفقة وعليه دين]
مسألة وسئل ابن القاسم، عن رجل غاب عن أهله ثم بعث إليهم بمائة دينار نفقة وعليه دين فطلب الغرماء حقوقهم منها، فقال الرسول قد أوصلتها إلى عياله. هل يعدى الغرماء على عياله أو على الرسول أو يقبل قول الرسول قد دفعت؟
فقال: أرى أن يحلف الرسول على الدفع ويقبل قوله ويعدى الغرماء على أهل الرجل فينتزع منهم إن كان أقاموا عليهم بحضرة ذلك، يريد إن أقروا، وإن كانوا إنما أقاموا بعد ما يرى أنهم قد أكلوها واستنفقوها لبعد ذلك وطوله فلا شيء عليهم، وهو بمنزلة ما ينفق الرجل على عياله وعليه دين، وقاله أصبغ كله.
وإن ادعى العيال أنهم قضوا منه دينا كانوا أدانوه وفي كراء منزل حين قام الغرماء بحدثان ذلك في الحين الذي يجوز لهم القيام، لم يصدقوا إلا أن يأتوا من ذلك ببرهان أو لطخ أو سبب.(10/525)
قال الإمام القاضي: قوله أرى أن يحلف الرسول على الدفع ويقبل قوله ويعدى الغرماء على أهل الرجل إن أقروا، خلاف المشهور من قول ابن القاسم المعلوم من مذهبه وروايته عن مالك في أن من دفع مالا إلى رجل وأمره أن يدفعه إلى غيره أن عليه ما على ولي مال اليتيم من الإشهاد بقوله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا} [النساء: 6] ... الآية، وأنه لا يبرأ من المال ولا يصدق بدفعه إلى المأمور إذا أنكر المأمور القبض، مثل قول ابن الماجشون فيمن بعث ببضاعة مع رجل إلى رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها إليه، وهو مصدق وإن أنكر القابض كانت دينا أو صلة.
ويمكن أن يقول ابن القاسم مثله في المعنى من مسألة اللؤلؤ الواقعة في كتاب الوكالات من المدونة؛ لأنها تقتضي تعمير ذمة الآمر بقول المأمور قد فعلت ما أمرتني به.
وإذا وجب أن يعمرها بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الشراء وجب أن تخلى ذمة نفسه بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الدفع. وإذا وجب أن تخلى ذمته بقوله فإخلاء أمانته بقوله أوجب.
ومن رواية عيسى عنه في كتاب الخيار في الذي يشتري الثوب من الثوبين على أن أحدهما قد وجب عليه يختاره فيضيع أحدهما فيدعي أنه قد كان اختار هذا الباقي ورضيه أنه يصدق في ذلك.
وقد رأيت للقاضي ابن زرب في هذه المسألة أنه قال إنما صدق الرسول على الدفع؛ لأنه إنما وكله على دفع نفقتهم على ما كان يدفعها هو، وليس من شأن الأزواج والآباء أن يدفعوا النفقات بالبينات إلا أن تكون الزوجة قد رفعت أمرها إلى الإمام فاستعدته على الزوج.
فإن لم يعلم الرسول بذلك ودفع بدون بينة فأنكرت الزوجة حلف وبرئ أيضا، وغرم الزوج للمرأة نفقتها بعد يمينها، ولم يكن له الرجوع على الرسول.
وإن كان الرسول قد علم برفع المرأة أمرها إلى الحاكم ودفع دون بينة فأنكرت المرأة ضمن للزوج؛ لأنه حينئذ متعد بتفريطه.
قال غيره من الشيوخ على قياس قوله ولو ادعى على الرسول أنه علم برفعها إلى الإمام وأنكر ذلك حلف الرسول ما علم بذلك ثم يحلف(10/526)
على الدفع ويبرأ، وذلك كله لا يصح؛ لأن الزوج إنما يصدق في دفع النفقة إلى امرأته إذا ادعى بعد مضي المدة أنه كان ينفق عليها وأنه كان يدفع إليها نفقتها أو ما تنفق منه شيئا بعد شيء أو جملة واحدة.
وأما إن ادعى أنه دفع إليها مائة دينار لتنفق منهما على نفسها فيما يستقبل أو في سنة قد كانت أنفقت على نفسها من مالها فيما مضى وأنكرت ذلك فلا يصدق بإجماع.
فحكم الرسول في المائة دينار التي بعثها الزوج معه إلى امرأته لتنفقها حكمه في ألا يصدق في دفعها إليها إذا أنكرت إلا على ما وصفناه من مذهب ابن الماجشون وما يتخرج على قول ابن القاسم في المسائل التي ذكرناها فإنه يصدق على الدفع ويبرأ، أو تصدق هي فيما زعمته من أنها لم تقبض وتأخذ نفقتها من الزوج، ولا يعدى عليه الغرماء بشيء.
ولو كان القول قول الزوج في دفع المائة إليها لنفقتها وكان الرسول قد حل محله في ذلك على ما زعم ابن زرب لوجب أن يكون للغرماء أن يأخذوا المائة منها وإن أنكرت إذا حلف الرسول على الدفع.
وإلى هذا ذهب وقد خالفه أصبغ بقوله: يريد إن أقروا. فقول ابن زرب خطأ صراح لا خفاء به، ولا وجه للمسألة سوى ما ذكرنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي بذكر حق له على آخر بمائة دينار ويأتي المطلوب ببراءة بمائة دينار]
مسألة قال: وسمعته وسئل: عن الرجل يأتي بذكر حق فيه شهود على رجل بمائة دينار، ويأتي المطلوب ببراءة بمائة دينار دفعها إليه لا يدري شهودها أكانت قبل ذلك الذكر حق أو بعده، ليس فيها تاريخ. قال: يحلف ويبرأ، يعني صاحب البراءة.
قال أصبغ: يعني يحلف أنها قضاء لذلك الحق ويبرأ. وقاله أصبغ، وهذا هو القضاء وصوابه ولا يجعل له مالين، كما لو كان للحق تاريخ والبراءة بعده بمال دفعه وادعى صاحب الحق أنه غيره لم يقبل قوله، وحلف الآخر أنه هو وبرئ.
وسئل: عن رجل أتى بذكر حق على رجل فيه ألف دينار،(10/527)
فأتى المشهود عليه ببراءة بألفي دينار فزعم أن تلك الألف قد دخلت في هذا عند المحاسبة والقضاء، أو أتى ببراءات مفترقة إذا جمعت استوت مع الذكر الحق أو الذكورات الحقوق أو كانت أكثر أو أقل، وليس شيء من ذلك منسوب ليس فيه شيء يشبه أن يكون من الذكورات الحقوق ولا غير ذلك، ويقول في الأكثر قد دخل فيه على الحساب والقضاء مع غيره، فرأى ذلك كله سواء وأنه له براءة يحلف في ذلك إذا ادعى الآخر غير ذلك، وقاله لي قولا لفظا ثابتا، ويتم له بقية الذكورات الحق إذا كانت البراءات أقل من ذلك.
قال: وهو أحب إلي، وهو الذي أرى وأستحسن. قال أصبغ: ورددتها عليه مرة بعد مرة فثبت على ذلك، وقاله أصبغ كله. فهذا كله باب واحد، وهو كالطلاق وللطلاق تفسير.
قال محمد بن رشد: مساواته في هذه الرواية بين أن تكون البراءة الواحدة أو البراءات أقل من ذكر الحق أو أكثر في أنها براءة للمطلوب، هو المشهور في المذهب الأظهر من الأقوال.
وقد قيل: إنها لا تكون براءة له، وهو قول ابن نافع في سماع يحيى من كتاب الدعوى والصلح، وذلك إذا كانت بينهما مخالطة. [وأما إذا لم تكن بينهما مخالطة] فلا اختلاف في أنها تكون له براءة. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات.
وتفرقة سحنون في نوازله من هذا الكتاب قول ثالث في المسألة ضعيف لا وجه له. وقد مضى هنالك بيان القول في ذلك.
ومعنى قوله وهو كالطلاق وللطلاق تفسير، هو أن يطلق الرجل امرأته فيدعي بعد انقضاء عدتها أنه قد كان راجعها قبل أن تنقضي عدتها ويأتي برجعة مكتوبة قبل ذلك بمدة لا يعلم إن كانت قبل الطلاق أو بعده، فيقول(10/528)
هي بعد الطلاق، وتقول المرأة هي قبله من طلاق آخر، فيدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في البراءة التي لا يعلم إن كانت متأخرة عن ذكر الحق أو متقدمة عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج بصداق مائة فينقدها خمسين ثم يطلقها قبل الدخول]
مسألة قال أصبغ: وسألت عن الرجل يتزوج بصداق مائة فينقدها خمسين ثم يطلقها قبل الدخول ويقوم عليه غرماؤه.
قال: يقسم ما أخذت على النصفين النصف الذي لها والنصف الآخر؛ لأنها إنما أخذتها على الجميع، فيسترجع منها نصف ما كانت أخذت يأخذه الغرماء منها وتحاصهم المرأة فيها بتمام نصف صداقها، بمنزلة الرجل يبيع السلعتين أو العبدين بمائة دينار فيقتضي الخمسين ثم تستحق إحدى السلعتين أو العبدين ويفوت الآخر في يد المشتري ثم يفلس، فيفض ما كان أخذ على قيمتهما، فما أصاب المستحق من ذلك أخذه الغرماء؛ لأنه إنما اقتضى ما اقتضى عنهما جميعا، ثم رجع البائع فحاصهم فيه ببقية ثمن الفائت وفي جميع مال المفلس، وقاله أصبغ، وهو بمنزلة السلعتين يبيعهما بمائة أو الرأسين فيقتضي خمسين وتفوت واحدة أخرى فيكون أحق بها، فإن أخذها كانت الخمسون التي اقتضى عنها عليهما جميعا، فرد لهذه التي أخذ خمسة وعشرين فكانت مالا من مال المفلس، ودخل فيها وفي غيرها من ماله مع غرمائه بما بقي من ثمن السلعة الفائتة وهو خمسة وعشرون. وهذا قول مالك وأصحابه وأصح أقاويله وأقاويلهم فيها.
وكذلك مسألة المرأة، وتفسيرها في المرأة أن الخمسين التي أخذت نصفها للنصف الذي يكون لها بالطلاق، والنصف للذي يسقط عنه به؛ لأنه له، ولا يكون عليه؛ لأنها قد قبضتها على البضع كله حين قبضتها حتى يتمه، فلم يتم البضع(10/529)
فعليها رد حصة ما لم يتم تتبع به. فالخمسون تقسم نصفين: نصفها لها على نصف صداقها. ويتبقى لها نصفها وهو ربع الصداق وهو خمسة وعشرون، فترد الباقي وهو خمسة وعشرون، ثم تضرب به مع الغرماء دينا في مال الزوج كله كشيء لم يقبض، فكأنها إنما قبضت خمسة وعشرين ثم طلق قبل التفليس فكانت لها في نصف صداقها، وتتبعه بما بقي، وهي حسنة كلها، وهو قول مالك في الرأسين وهي من غر المسائل.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يتزوج المرأة بصداق مائة فينقدها خمسين ثم يطلقها قبل الدخول ويقوم عليه غرماؤه: إن ما أخذت يقسم على النصفين، يريد: النصف الذي يجب لها بالطلاق، والنصف الآخر الذي لا يجب لها إلا بالموت أو الدخول، فيسترجع منه نصفه؛ لأنها قبضته عما لم يجب لها إذا طلقها قبل أن يدخل بها، كان الذي قبضته النصف أو أقل أو أكثر، إنها ترد أبدا نصف ما قبضت إلى الغرماء، ثم تحاصهم فيه وفي جميع مال الزوج المفلس بما يبقى لها من نصف صداقها.
ومعنى ذلك عندي إذا قام عليه الغرماء قبل أن يطلقها فطلقها، وأما إن طلقها قبل أن يقوم عليه الغرماء فيتخرج ذلك على قولين:
أحدهما: أنها ترد نصف ما قبضت أيضا إلا أن يكون الزوج قد سلم لها جميعه قبل أن يقوم عليه الغرماء، وهو الظاهر من هذه الرواية إذ لم يفرق فيها بين أن يكون الطلاق قبل قيام الغرماء عليه أو بعد ذلك، وهو الذي ينقاس أيضا على أصل ابن القاسم.
والثاني: أنها لا ترد إلا ما زاد على النصف الذي يجب لها بالطلاق إن كانت قبضت أكثر من النصف؛ لأن ما قبضت قد صار في يدها وحازته كالرهن فوجب أن تكون أحق به، وهو الذي ينقاس على أصل أشهب في أن من صار بيده شيء من مال غريمه فهو أحق به من الغرماء كالرهن وإن لم يرهن إياه.
وهذا كله على القول بأن المرأة لا يجب لها بالعقد إلا نصف الصداق وأنها إن قبضت جميعه فالغلة بينهما والضمان عليهما، وأما على القول بأن الغلة لها والضمان منها فلا إشكال في أنها(10/530)
لا ترد إذا طلقت وقام على الزوج الغرماء إلا ما زاد على النصف الواجب لها بالطلاق.
وقد اختلف إذا فلس الزوج قبل الدخول فحاصت المرأة الغرماء بجميع صداقها ثم طلقها، فقيل: إنها ترد نصف ما صار لها في المحاصة؛ لأنها حاصت بجميع صداقها وإنما كان لها أن تحاص بنصفه، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المدنية، فقف على افتراق هذه الوجوه الثلاثة إذا طلق قبل أن يقوم الغرماء عليه، أو إذا طلق قبل أن قام الغرماء عليه وقبل المحاصة، وإذا طلق بعد أن قام الغرماء عليه وبعد المحاصة.
وأما مسألة الذي يبيع السلعتين بمائة دينار فيقتضي خمسين ثم تستحق إحدى السلعتين وتفوت الأخرى في يد المشتري ويفلس المشتري، فإن فلس قبل استحقاق السلعة فض ما كان أخذ على قيمتها قولا واحدا، وإن فلس بعد استحقاق السلعة فعل ما ذكرناه مما يتخرج في ذلك من الاختلاف إذا فلس الزوج بعد الطلاق وقول أصبغ في المسألة التي ساقها عليها وشبهها بها، وهذا قول مالك وأصحابه، وأصح أقاويله وأقاويلهم كلام فيه نظر؛ لأن قوله: وهذا قول مالك وأصحابه، يقتضي أنهم اتفقوا عليه. وقوله: وأصح أقاويله وأقاويلهم، يقتضي أن أقاويلهم اختلفت في ذلك.
فمعنى الكلام: وهذا مشهور قول مالك وأصحابه وأصح أقاويله وأقاويلهم؛ لأن الاختلاف في ذلك معلوم من قوله وقول أصحابه، وقد ذكرنا ذلك في رسم قطع الشجر من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يسأل رجلا دينارين فأتاه بدينار فأبى الطالب أخذه إلا جميعا أيجبر على ذلك]
ومن كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: وسئل: عن رجل يسأل رجلا دينارين، فأتاه بدينار فأبى الطالب أخذه إلا جميعا، أيجبر على ذلك؟
فقال: إن كان الذي عليه الحق موسرا لم يجبر الطالب على أخذ الدينار وأجبر الغريم على دفع الدينارين جميعا إليه، وإن كان معسرا أجبر الطالب على أخذ الدينار وأنظر المطلوب بما بقي، وقاله أصبغ، والحق حقه. وروى أبو زيد عن ابن القاسم في الرجل(10/531)
يكون له على الرجل حق وقد حل فيأتيه ببعض حقه فيقول: لا أقبله منك إلا جملة، أله ذلك، أم يجبر على قبض ما جاءه به؟ قال: أرى أن يجبر على قبض ما جاءه به.
قال القاضي: أما إذا كان الغريم معسرا فلا اختلاف ولا إشكال في أنه يجبر الذي له الحق على قبض ما جاءه به وينظره ببقية حقه، لقوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
وأما إن كان موسرا ففي ذلك قولان:
أحدهما: أنه يجبر على قبض ما جاءه به، وهو قول ابن القاسم في رواية أبي زيد هذه وقول مالك في كتاب ابن المواز.
والثاني: أنه لا يجبر على قبض ما جاءه به ويجبر الغريم على دفع جميع حقه إليه، وهو قول أشهب هاهنا وفي كتاب العدة وقول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
وكذلك لو كان له عليه دينار مجموع فأتاه بنصف دينار وهو موسر أو معسر.
وأما لو كان له عليه دينار دراهم لم يلزمه أن يأخذه منه إلا أن يشاء موسرا كان أو معسرا. وهذا إذا بايعه بالدينار صفقة واحدة.
وقد مضى بيان هذا في رسم تأخير العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: لا توله والدة على ولدها]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ، في رجل له أمة ولها ولد صغير فدبر ولدها الصغير ثم ادَّانَ ولا مال له غير الأمة وولدها، فقام عليه الغرماء بدينهم فأرادوا بيع الأمة.
قال: لا أرى للسلطان أن يبيعها لهم، وذلك أن بيعها تفرقة بينها وبين ولدها، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوَلَّهْ والدة على ولدها» .
ولا يجوز للسلطان أن يبيعها(10/532)
لهؤلاء الغرماء، وأرى أن تحبس على ولدها موقوفة حتى يبلغ التفرقة، فإذا بلغ بيعت في دين سيدها.
وإنما رأيت حسبها على ولدها؛ لأن ولدها لما امتنع فيه البيع للذي سبق فيه من التدبير ولم يجز في السنة التفرقة بينها وبين ولدها صارت كالمدبرة مع ولدها فهي موقوفة عليه تخرج لهم فيتقاضون من خراجها دينهم إلى أن يبلغ ولدها التفرقة كما لو كانت مدبرة، فإن تقاضوا من خراجها دينهم قبل أن يبلغوا التفرقة فذلك، وإن بلغوا التفرقة وبقي من دينهم بيعت أو بيع منها وفاء دينهم، أو يموت السيد قبل ذلك فينظر، فإن كان في الأمة وفاء بالدين بيعت وعتق ثلث المدبر؛ لأنه ثلث ما بقي من ماله، وإن كان في بعضها وفاء لدينه نظر إلى ثلث ما بقي بعد قضاء الدين فيعتق مبلغ ذلك من قيمة الصبي المدبر.
قال: وإن كانت هي المدبرة ولا تدبير في ولدها فالجواب فيها سواء تخارج لهم إلى موت سيدها أو يبلغ ولدها التفرقة فيباع لهم في دينهم، فإن كان فيه وفاء وإلا فما بقي من الدين اقتضوه من خراجها إلى أن يموت سيدها فيباع منها بقدر الدين ويعتق منها ثلث ما بقي.
قال أصبغ: ولو أن نصرانيا له أمة نصرانية ولها ولد صغير فدبر السيد ولدها الصغير ثم إنها أسلمت لم يجز للسلطان أن يبيعها عليه من المسلمين؛ لأن بيعها تفرقة، ولكن يخارجها عليه وتخرج من خدمته كما كان يفعل بها لو كانت هي المدبرة إلى أن يبلغ ولدها التفرقة ثم تباع من المسلمين، إلا إن رجع النصراني في تدبير الصبي فيباع مع أمه من المسلمين ولا يعرض له في رجوعه عن تدبيره.
قال محمد بن رشد: هاتان المسألتان صحيحتان لا وجه للقول فيهما، إذ لا إشكال في شيء من معانيهما، وبالله التوفيق.(10/533)
[مسألة: يكون له عليه مائة دينار فيأتيه رجل يزعم أنه رسول صاحب المائة]
مسألة وسئل: عن الرجل يكون له على الرجل مائة دينار فيأتيه رجل يزعم أنه رسول صاحب المائة إليه أرسله فيقول للذي عليه الدين هات خمسين وأنا أحط عنك خمسين فإن أبى صاحبها الذي أرسلني أن يحطها فهي علي في مالي أنا لها ضامن، أو يزعم أنه وكله على قبض خمسين وقد وضع عنك خمسين فلا يصدقه الغريم فيقول الرسول هات الخمسين وأنا ضامن للخمسين التي أحط عنك إن أنكرها، هل تلزم الرسول الخمسين في الوجهين جميعا إن أنكر صاحب المائة على مثل هذا الشرط؟ أم تراها لازمة له إذا زعم أن الغريم حطها ولا تلزمه إذا حطها هو وضمنها وعلى ذلك قبض الخمسين؟
قال أصبغ: أراهما جميعا سواء إذا كان يقبض على هذا الشرط أن ذلك عليه كله، فأرى أن ينظر في قبضه، فإن كان إنما يقتضي لغائب بعيد الغيبة أو بوجه يطول عليه مكثها عنده إلى ذلك لينتفع بها انتفاعا أو يتقاضى ويقضي فيها ما شاء فلا أراه جائزا وأراه ضامنا للانتفاع وزيادتها له.
وإن كان صاحبها قريبا ومفاصلته إياه قريبا وإنما هو كالرسول يأخذ ويذهب به فيعرف ذلك فيرضى أو لا يرضى فيضمن وليس لقبضه إياه عنده مكث كمكث الودائع والبضائع المطول أمرها، فأراه جائزا وأراه لازما، وليس في هذه جريرة زيادة لا ضمان زيادة ولا تهمة فهو عند هذا معروف له.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أن الضمان لازم له في الوجهين جميعا في حياته وبعد وفاته؛ لأن ذلك يشبه المبايعة، إذ لم يرض الذي عليه الدين أن يدفع إليه الخمسين إلا على أن يضمن له حط الخمسين الأخرى عنه، فإذا كان التزم له ضمانها لانتفاعه بالخمسين التي(10/534)
قبض لطول كونها في يده جرح فيما بينه وبين خالقه ولم يسقط ذلك عنه ما لزمه من الضمان، ولو كان حطها عنه والتزم له ضمانها في مكان يلزمه دفع الخمسين إليه للزمه ذلك في حياته وسقطت عنه بعد وفاته؛ لأنه معروف على غير عوض، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يبطل من بيع السفيه]
مسألة وسئل أصبغ عن البكر تحتاج فتبيع بعض عروضها وتنفق ذلك على نفسها وتصنع في ذلك البيع والإنفاق على نفسها ما كان يصنعه السلطان، أو تبيع ذلك عليها أمها أو واحد ينظر لها من أقاربها وهو غير وصي.
ولو أرادت أو أراد من باع ذلك لها رفع ذلك إلى السلطان لم يقدر على ذلك وخاف فيما بين ذلك ضيعة عليها.
وكيف إن كانت قادرة على أن ترفع ذلك إلى السلطان أو يرفع ذلك الذي نظر لها فيه فتركت إلا أنها نظرت في ذلك أو نظر لها الناظر بالذي كان ينظر به السلطان من حسن البيع واستقصاء الثمن وبيع ما لم يكن لها بد من أن يباع لها وحسن النظر في الإنفاق، هل يرد مثل هذا السلطان إذا ثبت عنده على هذه الصفة، وهذا الذي اجتهد كان يأمر به لها.
قال أصبغ: أما بلوغ المعذرة من السلطان وغير المعذرة فسواء، ليس هذا ينقص ولا يزيد ولا يقدم ولا يؤخر، والقول فيها أنا نرى إن كان الذي باعت أو بيع لها الشيء الذي له بال وقدر مثل العقار الصالح والأمر الكبير من غيره، فهو مردود على كل حال أصله لا يجوز ولا يجاز، وهو بيع سفيه وسفه ومال يتيم لم يبلغ مما لا يباع عليه إلا بالوالي الناظر أو السلطان الناظر بعد النظر والحاجة والاستقصاء، فهو مردود، وأصله لا يجوز: فإذا رد نظر فإن كان الثمن حول في نفقة لا بد منها ولها بيع وأمر لا محيص عنه ولا غناء ولا يرجع(10/535)
إلى شيء غيره لها بوجه من الوجوه مهما كان لو باعه وصي أو سلطان كان كذلك يبيع، ومما لو رفع إلى القاضي لباع به للحاجة ومما لا بد منه، فأرى حينئذ أن يحسب للمشتري ذلك الذي أكلت أو أنفقت أو أنفق عليها منه في الحد الذي لو كان بيع بصحة أنفق منه وأقيم له، ولا يبطل كله فيكون ظلما، ويكون قد كان غنى لأهله.
وإنما الذي يبطل من بيع السفيه ما لا مخرج له منه إذا قبضه حتى يصنع به ما شاء ويبذره ويعمل فيه بشهواته، فهو الذي يكون هدرا كله عنه، فأما ما وصفت لك فلا أرى ذلك وأراه بمنزلة ما لو أدرك في يد السفيه بعد قبضه وقبل تلفه فهو كان يرد إلى المشتري ويفسخ البيع، فكذلك ما دخل في موضعه وجرى فيه فأراه محسوبا له، غير أن أصل بيع العقار يفسخ ويرد وإن كان الذي باع أو بيع بما وصفت خفيفا لا قدر له مثل الدويرة الصغيرة والغلقة والبيت الخرب والأمر اليسير جدا الخفيف باله فبيع لنفقته ومصلحته كما وصفت لك ودخل مدخل ذلك فهو نافذ، وبيع من باع مثل هذا نظر جائز إذا كان موضعه وحقه، ولا يرد أصله إذا كان جعل في نفقة اليتيم ومصلحته وانتفع به في حينه ولم يكن له شيء غيره ونحوه. وقد سألته أنا عنها أو ما يشبههما [إن شاء الله تعالى] .
قال محمد بن رشد: فرق أصبغ فيما باعته البكر على نفسها فيما لا بد لها منه من نفقتها أو باعه عليها حاضنها لذلك بوجه السداد الذي لو رفع الأمر فيه إلى الإمام لفعله، بين أن يكون ذلك الشيء الخفيف الذي لا قدر له مثل الدويرة الصغيرة والغلقة والبيت الخرب وما أشبه ذلك، وبين أن يكون الشيء الذي له بال مثل العقار الصالح والأمر الكبير، فقال في الشيء(10/536)
الخفيف والأمر اليسير من ذلك: إنه يجوز ولا يرد، ومعنى ذلك إذا علمت الحاجة إلى البيع، وأما إن لم تعلم الحاجة فالبيع مردود، وذلك بين من قوله ولا يرد أصله إذا كان جعل في نفقة اليتيم [ومصلحته وانتفع به في حينه ولم يكن له شيء غيره.
وقال في الشيء الذي له بال وقدر مثل العقار الصالح والأمر الكبير: إن البيع يرد ولا يجوز على كل حال، غير أنه إن كان الثمن حول في نفقة اليتيم وما] لا بد له منه ولا محيص له عنه لم يبطل عنه وأخذ المشتري من ماله، وفي ذلك من قوله نظر: كيف يرد السلطان بيع ما كان بيعه سدادا وما لو رفع إليه لفعله؟
ووجه ذلك: هو أنه قد يحدث من الأحوال ما يكون رد البيع به يوم يرد هو الحظ لليتيم بخلاف ما كان الأمر يوم وقع البيع به.
وفي هذا اختلاف: قد قيل: إن السلطان لا يرد البيع إذا كان سدادا يوم وقع، وقد مضى بيان هذا في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب التخيير والتمليك.
وقول أصبغ: إن اليتيم لا يبطل عنه ثمن ما باع من ماله أو باعه عليه من لا يجوز بيعه عليه إذا أنفقه في مصلحته وما لا بد له منه، خلاف ما روي عن ابن القاسم في المدنية والمبسوطة من أنه لا يتبع به على حال من الحال، أنفقه في فساد أو غير ذلك، مثل قول ابن كنانة فيهما، قال: ولو أن المولى عليه باع سلعة أو ابتاعها من أحد بدين أو أخذ مالا من أحد سلفا فاستهلكه، إن ذلك المال يبطل عنه ولا يتبع به مليا كان أو معدما، إلا أن يكون استنفق ذلك في شيء وقى به النفقة عن ماله، مثل أن يكون اكتسى أو ابتاع به طعاما أو نحو ذلك مما لو لم يكن ابتاعه هو من ذلك المال ابتيع له ذلك من ماله، فأرى أن يكون ذلك في ماله إن كان له مال، وما أنفق منه من قليل أو كثير في فساد فإنه يبطل ولا يتبع به، وهو اختيار عيسى بن دينار، قال: قول ابن كنانة هو الحق الذي لا ينبغي أن يكون غير ذلك إن شاء الله.
فيتحصل فيما باع اليتيم دون إذن وصيه أو الصغير من عقاره أو أصوله بوجه من السداد في نفقته التي لا بد له منها إذا كان لا شيء له غير الذي(10/537)
باع أو كان ذلك أحق ما باعه من أصوله ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيع يرد على كل حال ولا يتبع بشيء من الثمن، وهو قول ابن القاسم [وهو أضعف الأقوال] .
والثاني: أن البيع يرد إن رأى ذلك الوصي، ولا يبطل الثمن عن اليتيم ويؤخذ من ماله، وهو قول أصبغ.
والثالث: أن البيع يمضي ولا يرد إلا أن يكون باع بأقل من القيمة أو باع ما غير ذلك أحق بالبيع في نفقته فلا اختلاف في أن البيع يرد وإن لم يبطل الثمن على اليتيم لإنفاقه إياه فيما لا بد له منه.
وأما ما باع اليتيم من ماله وأنفق ثمنه في شهواته التي يستغني عنها فلا اختلاف في أنه يرد ولا يتبع بشيء من الثمن كان الذي باع من ماله يسيرا أو كثيرا أصلا أو عرضا، وهو محمول فيما باع وقبض من الثمن أنه أنفقه فيما له منه بد حتى يثبت أنه أنفقه فيما ليس له منه بد.
وقد قيل: إن بيع الحاضن على محضونه في نفقته ماله قدر وبال جائز، ذكر ذلك ابن الهندي في وثائقه، وهو الذي يأتي على مذهب من أنزله منزلة الوصي بالحضانة، وهو دليل ما في كتاب القسمة من المدونة ورواية ابن غانم عن مالك أن كل من ولي يتيما قريبا كان أو بعيدا فهو يحوز ما وهب له، وقال ذلك ابن وهب في الأمهات والأجداد والجدات دون سائر القرابات، وقاله ابن كنانة في الأخ أيضا.
فيتحصل في ذلك أربعة أقوال: أحدها: أن الحاضن لا يكون كالوصي بحال، والثاني: أنه يكون كالوصي على كل حال، والثالث: أنه يكون كالوصي إذا كان أما أو من الأجداد أو الجدات دون سائر القرابات، والرابع: أنه يكون كالوصي إذا كان من الأجداد أو الجدات أو الإخوة دون سائر القرابات، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا كانت بالغة في السن قد عرف رشدها فباعت أيجوز بيعها]
مسألة قلت له: يا أبا عبد الله إذا كانت بالغة في السن قد عرف رشدها فباعت، أيجوز بيعها؟ فقال: نعم بيعها جائز إذا بلغت في(10/538)
السن وعرف رشدها وكان بيعها نظرا لنفسها.
فقال له رجل من أصحابنا: أترى أن أربعين سنة من السنين لها؟ فقال: نعم، ولم يذكر لنا عقارا ولا غيره.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة وبيانه مستوفى في سماع سحنون، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: قال لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف درهم]
مسألة قال ابن القاسم: إذا قال الرجل لفلان علي ألف درهم وعلى فلان وفلان، فأراها كلها عليه خاصة وإن كان كلامه نسقا.
قال: وإذا قال لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف درهم فلا أرى عليه إلا ثلث الألف؛ لأن الأول قد أقر بألف على نفسه، ثم ندم فأدخل ما أدخل ليسقط بعض ذلك عن نفسه، ولأن الآخر إنما هو إقرار واحد وشهادة واحدة فيؤخذ بحصة ما يلزمه من ذلك ويسقط عنه ما بقي إذ لم تجز شهادته فيما بقي.
قال محمد بن رشد: أما الذي قال لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف درهم فلا اختلاف أنه لا يلزمه بإقراره هذا إلا ثلث الألف، وأما إذا قال لفلان علي ألف درهم وعلى فلان وفلان فإن لم يكن ذلك نسقا [لزمته الألف كلها، وإن كان ذلك نسقا] متتابعا فقيل: إنه تلزمه الألف كلها ويحمل ذلك منه على الندم، وقيل: إنه لا يلزمه إلا ثلثها ويصدق فيما ادعاه من أن آخر كلامه مبين لأوله.
وقد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى(10/539)
في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ من كتاب جامع البيوع، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قام عليه غريمه بعد موته فادعى أن له عليه مائة دينار]
مسألة قال أصبغ، في رجل قام عليه غريمه بعد موته فادعى أن له عليه مائة دينار فشهد له عند السلطان وطلب مال الميت فلم يوجد له كفاف لدين هذا الطالب، فباع السلطان ماله ثم أوقفه على يدي عدل وضاع المال وجاء غرماء يطلبون دينا كان لهم على الميت وأثبتوا دينهم.
قال أصبغ: مصيبة المال من الذي وضع له المال، ويرجع الغرماء عليه فيحاصونه بأخذ كل واحد منهم على قدر دينهم.
قال الإمام القاضي: قوله: إن مصيبة المال من الذي وضع له المال صحيح لا اختلاف في أن ما وقف لغريم بعينه في الموت أو في الفلس حتى يدفع إليه أن مصيبته منه إن تلف قبل أن يدفع إليه.
وأما قوله: إن الغرماء الذين طرءوا يرجعون عليه فيحاصونه ففي ذلك اختلاف، قيل: إنهم يرجعون عليه، وهو قول أصبغ هذا وظاهر ما في كتاب التفليس من المدونة، وقيل: إنهم لا رجوع لهم عليه، وهو الذي يأتي على ما في كتاب القسمة من المدونة في بعض الروايات أن الذين إذا طرأ على الورثة وقد اقتسموا التركة وتلف جميع ما في يدي بعضهم ببينة قامت على ذلك أن من تلف جميع ما في يديه ببينة فلا يرجع ولا يرجع عليه؛ لأن ما تلف بيد الأمين فهو بمنزلة ما قامت البينة على تلفه، لا فرق بين تلفه بيد الأمين أو ببينة قامت عليه بعد قبضه إياه.
وهذا على اختلافهم في الوارث يطرأ على الورثة والغريم على الغرماء أو الموصى له على الموصى لهم وقد تلف ما في أيدي بعضهم ببينة قامت على ذلك، فقيل: إنه لا رجوع له على من تلف ما في يديه ببينة، وقيل: إن له الرجوع عليه، وقيل: يرجع عليه في العين ولا يرجع عليه في العرض، فهي ثلاثة أقوال.(10/540)
وأما ما وقف في التفليس أو الموقف لاستبراء ما على المفلس أو الميت من الديون، فقيل: إن ضمانه من المفلس عرضا كان أو عينا وهو قول أشهب، وقيل: إن ضمانه من الغرماء عينا كان أو عرضا وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك، وقيل: إن ضمانه من الغرماء إن كان عينا ومن المفلس إن كان عرضا وهو قول ابن القاسم، ومعناه: إذا كانت ديونهم عينا، وأما إن كانت ديونهم مماثلة للمال الموقف فضمانه منهم عينا كان أو عرضا.
فتحصيل مذهبه: أن ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم المفلس؛ لأنه إنما باع على ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء.
وقال أصبغ: المصيبة في الموت من الغرماء وفي التفليس من الغريم المفلس، وبالله التوفيق.
[: أجير السقي وصاحب الأرض المكري لها إذا فلس المكتري أو مات]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في أجير يسقي الزرع وأجير يحرز الزرع وصاحب الأرض أنه إذا فلس صاحب الزرع فإن صاحب الأرض والأجير الذي يسقي الزرع أولى من الغرماء يتحاصون بينهم، فإن فضل شيء من حقهم تحاص فيه الغرماء ودخل معهم الأجير الذي يحرز.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن الأجير الذي يحرز الزرع أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، وإنما اختلف في أجير السقي وصاحب الأرض المكري لها إذا فلس المكتري أو مات، وقد مضى تحصيل هذا الاختلاف وتوجيهه مستوفى في أول سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: النوتي يكون له المركب يحمل عليه القمح ثم يفلس النوتي والمركب له]
مسألة وسئل ابن القاسم، عن النوتي يكون له المركب يحمل عليه(10/541)
القمح ثم يفلس النوتي والمركب له، قال: هو أسوة الغرماء، ولا يكون أولى بالمركب من الغرماء.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي في هذه المسألة أن صاحب المركب أكرى من الرجل على أن يحمل له طعاما أو متاعا في مركبه ولم يعين له المركب بأن يشير إليه فيقول مركبي هذا أو يسميه فيقول مركبي الفلاني ولا أسلم إليه المركب، فوجب أن يكون المكتري إذا فلس المكري صاحب المركب أسوة الغرماء، كمن اكترى دابة غير معينة لحمل طعام أو متاع ففلس الكري صاحب الدابة قبل أن يسلمها إلى المكتري.
وإذا حاص الغرماء اكتري له بما صار له من الكراء ما بلغ واتبعه ببقية حقه.
ولو عين المركب لوجب أن يكون أحق به قبض أو لم يقبض على قياس الدابة المعينة.
وقد قال بعض أهل النظر في هذه المسألة: إنها مسألة حائلة مخالفة للأصول وليس قوله بصحيح؛ لأن المعنى فيها هو ما حملتها عليه، وبه يصح ويرتفع الاعتراض عنها.
وقد مضى القول مستوفى في مسألة الكري يفلس في آخر سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب فلا معنى لإعادته، وتكررت المسألة أيضا في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: هو أسوة الغرماء في تلك السلعة ولا يكون أولى بها]
مسألة وسئل ابن القاسم، عن رجل كان لي عليه عشرة دنانير فتقاضيته فأعطى رجلا سلعة يبيعها ويوفيني الثمن، ففلس الرجل الذي لي عليه العشرة قبل أن يبيع ذلك الرجل السلعة. قال: هو أسوة الغرماء في تلك السلعة ولا يكون أولى بها.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة صحيحة على قياس قول ابن القاسم في الرهون من المدونة أن الراهن ذا قال للمرتهن أنفق على الرهن على أن نفقتك فيه - أنه يكون أحق بما فضل من الرهن عن حقه حتى(10/542)
يستوفي نفقته، إلا أن يكون عليه غرماء فلا يكون أحق ببقية الرهن في نفقته منهم.
ولو أراد صاحب السلعة أن يسترد السلعة من عند الذي دفعها إليه ليبيعها ويؤدي ثمنها إلى صاحب العشرة الدنانير لم يكن ذلك له على قياس قول ابن القاسم في مسألة الذي أنفق على الرهن على أن تكون نفقته فيه، وأشهب يرى أنه يكون أحق من الغرماء ببقية الرهن في نفقته لقوله أنفق ونفقتك فيه.
فعلى قياس قوله يكون صاحب العشرة دنانير أحق بالسلعة من الغرماء وإن لم ينص على أنها له بيده رهن بحقه، فالخلاف بين ابن القاسم وأشهب قائم من هذه المسألة في الرهن، هل تفتقر صحته إلى التصريح به أم لا؟
فلو دفع رجل إلى رجل سلعة ولم يزد على أن قال له أمسكها حتى أدفع إليك حقك لكانت له رهنا يكون أحق بها من الغرماء عند أشهب، ولم تكن له رهنا يكون أحق بها من الغرماء عند ابن القاسم، لكنه يكون من حقه أن يمسكها حتى يدفع إليه حقه ما لم يقم عليه الغرماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل فلس فأقر فقال هذا مال فلان لرجل قارضه]
مسألة قال ابن القاسم، في رجل فلس فأقر فقال: هذا مال فلان، لرجل قارضه أو هذا المتاع من ماله القراض - كان مصدقا، وكذلك الموت، هو في ذلك مصدق في التفليس والموت، وصاحبه أولى به إذا كانت له بينة على أصل القراض والوديعة.
قلت: أرأيت إن فلس فأقر في شيء بعينه أنه لفلان وأنها سلعته بعينيها وعلى أصل البيع بينة إلا أنهم لا يعرفون السلعة بعينها إنما يشهدون على إقرارهما أنه باع منه عبدا أو جارية أو دابة بكذا وكذا قبل التفليس ثم أقر في التفليس ولا يشهدون أن هذه دابته - أن قوله جائز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى بيان القول فيها في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ وفي غيره من المواضع المذكورة فيه، فلا وجه لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.(10/543)
[مسألة: عبد بيع فأبق ثم فلس مشتريه]
مسألة قال ابن القاسم، في عبد بيع فأبق ثم فلس مشتريه، فقال البائع: أنا أحاص بالثمن فإن رجع العبد يوما ما أو وجد أخذته ورددت ما أخذت، قال: ليس ذلك له إما أن يرضى أن يتبع العبد ويطلبه ولا شيء له، وإما أن يحاص بالثمن إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه الثمن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكررت في رسم أوصى من سماع عيسى، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتحاصان صاحب الأرض والأجير]
مسألة وقال، في رجل اكترى أرضا فزرعها واستأجر أجيرا فعمل له فيها فعجز الأجير عن سقيها فاستأجر غيره ثم فلس مكتري الأرض، قال: يتحاصان صاحب الأرض والأجير الآخر، ويكونون أولى من الغرماء، فإن فضل عن حقهم شيء كان الأجير الأول أولى من الغرماء حتى يستوفي حقه.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع أشهب فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: دفع إلى رجل ثوبا يصبغه فصبغه ثم دفعه إلى صاحبه ثم فلس صاحب الثوب]
مسألة وقال في رجل دفع إلى رجل ثوبا يصبغه أو غزلا ينسجه فصبغه أو نسجه ثم دفعه إلى صاحبه قبل أن يستوفي حقه ثم فلس صاحب الثوب، قال: يكون العامل شريكا في الثوب بقيمة الصبغ(10/544)
والنسج. قيل له: فإن كان الصبغ ينقص الثوب؟ قال: وإن كان ينقص فإنما يكون شريكا بقيمة الصبغ.
قال الإمام القاضي: قوله: إنه يكون شريكا بقيمة النسج وهو لم يخرج فيه إلا عمل يده خلاف ما مضى في رسم العرية من سماع عيسى، وقد مضى القول على هذه المسألة هناك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكرى البناء يبني له دارا فيبني ثم يفلس صاحب الدار]
مسألة وسئل: عن رجل استأجر صائغا يعمل له في بيته حليا فكان الصائغ يأتي البيت يعمل فإذا كان الليل ترك الحلي ثم انصرف إلى منزله، ففلس صاحب الحلي؟ قال: الصائغ أسوة الغرماء؛ لأنه لا ضمان عليه.
قيل له: أرأيت من استأجر أجيرا ببقره يدرس له أندرا، فكان يأتي ببقره فيدرس فإذا كان الليل انقلب ثم فلس صاحب الزرع؟ قال: فهو أولى، ولا يشبه الصائغ.
قيل له: فالرجل يكرى البناء يبني له دارا فيبني ثم يفلس صاحب الدار؟ قال: فالبناء أسوة الغرماء.
وسئل: عمن دفع عبده إلى رغاف وأعطاه إجارة على تعليمه، فكان عنده يعلمه ففلس السيد؟ قال: المعلم أولى به من الغرماء، يريد: إلا أن يدفعه في عمل ينقلب إلى سيده كل ليلة مثل الصباغ والخياط فإنه يكون أسوة الغرماء.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم يوصى لمكاتبه في سماع عيسى القول في مسألة المستأجر على درس الزرع والفرق بينها وبين مسألة الصائغ يستأجر على أن يعمل في بيت الرجل، فلا معنى لإعادته.
وقوله في مسألة البناء: إنه أسوة الغرماء - معناه: إذا لم يخرج في البنيان أكثر(10/545)
من عمل يده، وهو خلاف ما تقدم له قبل هذا في مسألة النسج. وأما إذا جعل شيئا أخرجه من عنده مع عمل يديه فلا اختلاف في أنه يكون أحق به. وقد مضى القول على ذلك مستوفى في رسم سلف من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
وتفرقته في مسألة الذي يدفع عبده إلى رغاف ليعلمه بإجارة معلومة بين أن ينقلب إلى سيده كل ليلة أو لا ينقلب ويكون مأواه ومبيته عند الرغاف صحيحة، ومعناه عندي: إذا فلس سيده وهو عنده لم يرده إلى الرغاف، وأما إذا فلس وهو بيد الرغاف قد رجع إليه من عند سيده على عادته فهو أحق به أيضا؛ لأنه كالرهن بيده.
ومعنى قوله: أعطاه إجارة على تعليمه، أي: واجبة عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعطى مالا قراضا فادان ديونا فأفلس]
مسألة وقال، في رجل أعطى مالا قراضا فادان ديونا فأفلس: إن المقارض فيما أعطاه أسوة الغرماء إلا أن يدرك من ماله شيئا بعينه فيكون أحق به، وقول المقارض: إن هذا مال فلان، فلا يقبل قوله في ذلك؛ لأنه مصدق على ما لا يتهم أن يكون في ذمته إلا مثل ما يلزم ذمته من غيره، وهو أيضا يقبل قوله فيما يدعي من وضيعة أو ربح، وذلك لمن يؤذن له في المدانية.
قال الإمام القاضي: كذا وقع، وقال في رجل أعطى مالا قراضا فادان ديونا فأفلس، وصواب الكلام في رجل أعطي مالا قراضا فادان ديونا فأفلس؛ لأن المفلس إنما هو المقارض الذي أعطي المال لا المقارض الذي أعطاه، وذلك بين من قوله: إن المقارض فيما أعطاه أسوة الغرماء، ويريد بقوله فيما أعطاه أي بما أعطاه؛ لأنه إذا لم يدرك ماله الذي أعطاه بعينيه كان به أسوة الغرماء في جميع مال المفلس، وإذا أدرك ماله بعينه وقامت بذلك البينة فهو أحق به من الغرماء بلا خلاف.
وأما إذا لم تقم بينة ففي تصديق المقارض المفلس في أن هذا هو مال القراض اختلاف قد مضى تحصيله في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ وفي غير ما موضع(10/546)
فلا معنى لإعادته.
ووقع في هذه الرواية: وقول المقارض إن هذا مال فلان فلا يقبل قوله في ذلك، وفي رواية أخرى: فيقبل قوله في ذلك، وهي الرواية الصحيحة؛ لأنه اعتل لقبول قوله بما ذكره من أنه مصدق على ما لا يتهم أن يكون في ذمته إلا مثل ما يلزم ذمته من غيره، يريد: أن الذي يلزم ذمته قبل قوله أو لم يقبل سواء فلا تهمة عليه في إقراره.
بيان ذلك بالمثال: أن يكون مال القراض مائة فيفلس المقارض رجلان لكل واحد منهما عليه مائة مائة فيوجد له مائتان، فيقول المقارض المفلس في إحدى المائتين إنها مال المقارض بعينه.
فإن قبل قوله أخذها وكان أحق بها، وكانت المائة الباقية بين الغريمين واتبعاه بمائة خمسين خمسين، وإن لم يقبل قوله تحاصوا ثلاثتهم في المائتين فوجب لكل واحد منهم منها ستة وستون وثلثان واتبعوه جميعا بمائة: ثلاثة وثلاثين وثلث، ثلاثة وثلاثين وثلث، فالتعليل يدل على صحة هذه الرواية، ويدل على صحتها أيضا قوله: وهو أيضا يقبل قوله فيما يدعي من وضيعة أو ربح، إذ لا يصح أن يقول وهو أيضا يقبل قوله وهو قد قال أولا إنه لا يقبل قوله.
وقوله في الرواية وذلك لمن يؤذن له في المداينة صحيح إن كان عمل في مال القراض بالدين؛ لأن المقارض لا يجوز له أن يعمل في مال القراض بالدين إلا بإذن صاحب المال، فإن عمل فيه بالدين دون إذن صاحب المال كانت الوضيعة عليه، وإن كان عمل فيه بالدين بإذنه كانت الوضيعة عليه وكان العامل مصدقا فيها كما لو باع واشترى بالنقد فادعى الوضيعة، وبالله التوفيق.
[مسألة: صاحب السفينة أولى بما فيها من الغرماء]
مسألة وقال في الجمال يتكارى على حمل متاع فيحمل ثم يفلس صاحب المتاع والمتاع على الإبل: إنه أولى به.
وسئل: هل يكون صاحب الحانوت أولى بما فيه من الغرماء؟ قال لا.
قيل: له فصاحب السفينة أولى بما فيها من الغرماء؟ قال: نعم إنما هي حمولة.
قيل: له وكذلك الجمال؟ قال: نعم.(10/547)
قال محمد بن رشد: قوله في المتكاري يفلس ومتاعه على الإبل التي اكتراها: إن الجمال أولى به حتى يستوفي كراءه - هو نص قوله في المدونة وغيرها، وفي ذلك تفصيل: أما إذا أسلم المتاع إلى الجمال ليحمله على جماله فأفلس صاحب المتاع والمتاع بيد الجمال فلا اختلاف في أنه أحق به في الموت والفلس من الغرماء؛ لأنه كالرهن بيده، وأما إذا أسلم الجمال الإبل إلى المكتري ليحمل عليها متاعه ففلس المكتري قبل أن يصل أو عند وصوله قبل أن يحوز متاعه ويرد الإبل إلى الجمال، فالمشهور أن الجمال أولى بالمتاع حتى يستوفي جميع كرائه، وهو الذي في كتاب التفليس من المدونة.
وعلل ذلك بأنه إنما بلغ الموضع على إبله، والعلة الصحيحة في ذلك أنه كالرهن بيده؛ لأن كونه على ظهور إبله قبض ويتخرج في ذلك قولان سواه: أحدهما: أنه أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، إذ ليس المتاع بيده رهن له قد حازه فيكون أحق به في الموت والفلس جميعا، ولا هو عين ما باعه فيكون أحق به في التفليس دون الموت على ما جاء في الحديث المأثور الصحيح في ذلك، والثاني: أنه أحق في الفلس دون الموت، ووجه هذا القول أن حمل المتاع من البلد إلى البلد على الإبل تنمية له، فأشبه اكتراؤه عليه ابتياعه إياه فوجب أن يكون المكري الجمال أحق به في الفلس دون الموت كما لو باعه منه.
وهذا على قياس القول في رب الأرض يكري الأرض فيزرعها المكتري ثم يفلس أن رب الأرض أحق بالزرع من الغرماء في الفلس دون الموت على هذا التعليل الذي وصفناه.
وقد مضى في أول سماع أشهب ما يبين ما ذهبنا إليه في هذه المسألة، ومسألة السفينة محمولة على مسألة الدابة؛ لأن المعنى فيهما جميعا سواء.
وأما مسألة الحانوت والدار فلا اختلاف في أنه لا يكون واحد منهما أولى بما فيها من المتاع والأثاث إذا فلس المكتري لهما قبل أن يستوفي كراءه منهما لا في الموت ولا في الفلس إذ لم يبعه شيئا من ذلك ولا هو رهن بيده، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى عرصة وبنى فيها فجاء البائع يطلب الثمن فوجده قد فلس]
مسألة وسئل: عن رجل باع عرصة فبنى فيها المشتري ثم جاء(10/548)
البائع يطلب ثمن عرصته فإذا الرجل المشتري قد فلس، قال: إن شاء حاص الغرماء بماله وإن أبى نظر كم قيمة العرصة وقيمة البنيان، فإن كانت قيمة العرصة ربع الدار أو ثلثها بيعت الدار فدفع إليه ثلث ثمن الدار أو ربع ثمنها، فعلى هذا يحسب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا إشكال فيها ولا اختلاف، وهي نظيرة مسألة الغزل التي مضت في رسم العرية من سماع عيسى ومضى التكلم عليها هناك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إلى صائغ سوارين يعملهما له ثم فلس]
مسألة وسئل: عن رجل دفع إلى صائغ سوارا يعمله له، ثم دفع إليه سوارا آخر بعد ذلك، فعمل أحدهما فأخذه صاحبه ولم يعطه أجره، فلم يفرغ من الآخر حتى فلس.
قال يحيى: السوار الذي في يده بإجارته فيه، ويكون أسوة الغرماء في السوار الآخر الذي دفع إليه كان معا أو مفترقا، يريد دفع السوارين.
قلت له: أرأيت إن كان لم يفلس فعمل أحدهما ولم يعمل الآخر فقال الصائغ ادفع إلي إجارة السوارين فقال قد دفعت إليك إجارة الأول الذي أخذته وقال الصائغ لم آخذ منك شيئا؟
قال: إن كان دفعهما جميعا معا والإجارة واحدة كان القول قول الصائغ، فإن كانا مفترقين واحدا بعد واحد حلف صاحب السوارين وكان القول قوله: إلا أن يطلب إجارته بحدثان ذلك، فإن فعل ذلك رأيت القول قول الصائغ مع يمينه.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي فلس بعد أن قبض أحد السوارين من الصائغ قبل أن يدفع إليه من أجرته شيئا إن الصائغ يكون أحق بالسوار الذي بيده في أجرته فيه ويكون أسوة الغرماء بأجرة السوار(10/549)
الذي دفعه، صحيح إذا كان استعماله إياهما في صفقتين.
وأما إن كان استعماله إياهما في صفقة واحدة فمن حق الصائغ أن يمسك السوار الذي بيده بجميع أجرته في السوارين كالرهن؛ لأنه ارتهنهما جميعا صفقة واحدة بأجرتهما جميعا، فمن حقه أن يمسك الباقي في يديه حتى يقبض جميع حقه، كمن ارتهن سوارين أو عبدين بعشرين دينارا فدفع أحدهما إلى الراهن ليدفع إليه نصف حقه فلم يفعل حتى فلس أنه أحق بالباقي في يده من السوارين أو العبدين من الغرماء حتى يستوفي جميع حقه. وهذا مما لا إشكال فيه ولا اختلاف.
فقوله: كانا معا أو مفترقين - يريد: دفع السوارين، كلام غير صحيح وقع على غير تحصيل. وتفرقته في مسألة اختلافهما في دفع الأجرة بين أن تكون الأجرة وقعت فيهما صفقة واحدة أو في صفقتين يمضي على مسألة التفليس ويبين ما ذهبنا إليه فيها من الفرق بين الوجهين.
وقوله: إن الصائغ إذا طلب أجرته بحدثان ما دفع السلعة التي استعمل إياها كان القول قوله مع يمينه وحدثان ذلك هو اليوم واليومان والثلاثة على ما في كتاب الرواحل والدواب من المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: حبس في دين فجاء من يشهد للمحبوس أنه ليس له شيء]
مسألة وسئل: عن رجل حبس في دين فجاء من يشهد للمحبوس أنه ليس له شيء، وجاء من يشهد للغريم أن المحبوس موسر بهذا الدين.
قال: لا ينظر إلى الذين شهدوا لهذا ولا لهذا، وأرى أن يرسل ويدس في ذلك أهل الصلاح في السر، فإن كان له مال ضيق عليه حتى يؤخذ منه الحق، وإن كان معدما لا شيء له فأرى أن يخلى حتى يرزقه الله تعالى. وإنما يدس في ذلك أهل العدل والمعرفة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وفيها(10/550)
إذا اعتبرت اضطراب؛ لأنه قال فيها: إنه لا ينظر إلى الذين شهدوا لهذا ولا لهذا، وأرى أن يرسل ويدس في ذلك أهل الصلاح في السر.
وقوله فيها إنه لا ينظر إلى الذين شهدوا لهذا ولا لهذا، يريد إذا تكافأت البينتان في العدالة فوجب أن يبقى مسجونا على الأصل في أنه محمول على الملأ حتى يثبت عدمه، وهو قد قال: إنه يرسل، فيقوم من الرواية قولان: أحدهما: أنه ينظر إلى أعدل البينتين، فإن استوتا في العدالة سقطتا وبقي مسجونا على حاله فكانت بينة العدم على هذا أعمل عند تكافئ البينتين، والثاني: أنه ينظر إلى أعدل البينتين، فإن استوتا في العدالة سقطتا أيضا وأرسل من السجن حتى يسأل عنه في السر فينكشف من حاله ما يوجب أن يعاد إليه، فكانت بينة العدم على هذا أعمل عند تكافئ البينتين.
وفي المسألة قولان آخران: أحدهما: أن بينة العدم أعمل وإن كانت أقل عدالة، وقع هذا القول في أحكام ابن زياد لمحمد بن غالب وغيره من معاصيره، قالوا: إن شهادة الذين شهدوا على اليسار أعمل ويحبس بشهادتهم حتى تقوم بينة أنه أعدم بعد ذلك بجائحة أصابته.
ووجه ما ذهبوا إليه أنهم رأوا أن الذين شهدوا بملائه علموا من حاله ما جهلته البينة الأخرى التي شهدت بعدمه، فجعلوا ذلك من باب الزيادة في الشهادة.
والقول الثاني: أن شهادة العدم أعمل وإن كانت أقل عدالة وهذا القول يتركب على قياس قوله في هذه الرواية إنه ينظر إلى أعدل البينتين؛ لأنه لا ينظر إلى أعدل البينتين إلا عند استوائهما جميعا في ألا مزية عند أحدهما في زيادة معرفة أو علم على الآخر أو إذا لم يجعل للذين شهدوا بالملأ مزيد في العلم والمعرفة على الذين شهدوا بالعدم على مذهبه في هذه الرواية، وهو الصحيح في المعنى، إذ لم يثبتوا الشهادة بأنهم يعرفون له مالا أخفاه وإنما شهدوا أنهم يعلمونه عديما في ظاهر حاله كما شهدت البينة الأخرى أنهم يعلمونه عديما في ظاهر حاله، وجب أن تكون بينة العدم أعمل من بينة الملأ؛ لأن بينة العدم أوجبت حكما وهو إطلاقه من السجن إن كان قد سجن أو ارتفاع السجن عنه فيما ثبت عليه من الدين إن كان لم يسجن، وبينة الملأ لم توجب حكما؛ لأنها أبقته على حكم الأصل من كونه محمولا على الملأ الذي يوجب سجنه بما ثبت(10/551)
عليه من الدين حتى يثبت عدمه، اللهم إلا أن تكون الشهادتان بعد أن أطلق من السجن بما بان من عدمه؛ لأن شهادة الملأ هنا هي التي توجب الحكم برده إلى السجن، وشهادة العدم لا توجب إلا بقاءه على حكم الأصل الذي به وجب تسريحه من السجن.
ولو قال الشهود بملائه إنهم يعلمون له مالا باطنا أخفاه لما صح أن يختلف في أن شهادتهم أعمل من شهادة من شهد بعدمه، وبالله التوفيق.
[مسألة: المقارض إذا تداين في القراض بإذن رب المال]
مسألة وسئل: عن رجل أفلس وضرب على يده ولم يكن له مال فأتاه رجل من الناس فأعطاه مالا قراضا وهو يعلم بإفلاسه، فداين به الناس حتى فلس، ثم أراد الذي أعطاه المال أن يأخذ ماله، لم يكن ذلك له؛ لأن الناس إنما داينوه لما في يديه ولم يداينوه في ذمته، فالغرماء أولى بماله.
فإن فضل فضل كان له إلا أن يتعدى المقارض في المال بشيء، مثل أن يسلف أو يخالف إلى ما نهاه عنه، فكل ما تعدى فيه كان ضامنا له، بمنزلة ما لو أسلفه إياه فيكون في ذمته، فكذلك ما تعدى فيه.
قال ابن القاسم: كذلك قال لي مالك لا ينبغي أن يداين في القراض، فإن أدان فيه فهم أولى به.
قال: ولا يحل القراض على أن يقول داين، وإن كان تعدى وماله معروف في الذي تعدى فيه ببينة أو إقرار فهو أحق به من الغرماء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها أن المقارض إذا تداين في القراض بإذن رب المال فالغرماء أولى بالمال منه حتى يستوفوا ديونهم، وإذا تداين فيه بغير إذن رب المال وقد علموا أنه مال قراض فرب المال أولى بماله من الغرماء.
وكذلك إذا أسلف منه أو تعدى ما أمره به فهو أحق بماله في جميع ذلك، ولا يجوز على رب المال(10/552)
عداؤه. وقد مضى في أول سماع أصبغ ما فيه بيان لهذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أجير السقي في الزرع أو النخل إذا فلس صاحب الزرع أو النخل]
مسألة قال ابن القاسم، في أجير السقي في الزرع أو النخل إذا فلس صاحب الزرع أو النخل: إن الأجير أولى من الغرماء. وأما الأجير يحرس الزرع أو النخل فهو أسوة الغرماء.
قال الإمام القاضي: قد تكررت هذه المسألة في أول هذا السماع ومضى القول عليها مستوفى في أول سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل قام عليه غرماؤه ففلسوه فيما بينهم وأخذوا ماله ثم داينه آخرون]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك، في رجل قام عليه غرماؤه ففلسوه فيما بينهم وأخذوا ماله ثم داينه آخرون: إن الآخرين أولى بما في يديه من الأولين بمنزلة السلطان.
قال ابن القاسم: ولو قاموا فلم يجدوا في يديه شيئا وداينوه فلم يجدوا له شيئا فتركوه، لم أر هذا تفليسا، وروايته: إن داينه آخرون بعد ذلك ثم فلس أنه يدخل الأولون من الآخرين إلا أن يكون بلغوا به السلطان وكان السلطان هو الذي فلسه لهم فذلك تفليس، وإن لم يوجد له شيء، وذلك أن السلطان يكشفه ويبلغ من كشفه مَا لَا يَبْلُغُ هؤلاء ولو أعلم أنهم كانوا يبلغون من ذلك لرأيت أَنَا ذلك تفليسا، ولكن لا أحب أن أقوله مخافة ألا يكونوا يبلغون ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم البيوع الثاني من سماع أصبغ فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(10/553)
[مسألة: تزوج امرأة وأصدقها عبدين ودفعهما إليها ثم فلست المرأة وطلقها الزوج]
مسألة وقال في رجل تزوج امرأة وأصدقها عبدين ودفعهما إليها ثم فلست المرأة وطلقها الزوج، قال: هو أحق بأحد العبدين من الغرماء.
قال محمد بن رشد: قوله وطلقها الزوج، يريد قبل البناء. وقوله: إنه أحق بأحد العبدين من الغرماء، يريد: أنه يكون شريكا فيهما، قاله ابن أبي زيد وهو صحيح. والمسألة كلها صحيحة لا اختلاف فيها.
والأصل في أنه يكون أحق من الغرماء بما وجب له من الصداق إذا أدركه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل فلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» .
ولو فات الصداق في يديها باستهلاك منها له لكان له محاصة الغرماء بنصف قيمته، ولو فات في يديها بأمر من السماء لم يكن عليها فيه شيء على مذهب ابن القاسم روايته عن مالك في أنهما شريكين فيه إذا طلقها قبل البناء تكون المصيبة إن تلف منهما والغلة بينهما.
وعلى القول بأن الغلة لهما والمصيبة منها إن أصدقها عبدا فمات وطلقها قبل البناء وقد فلست - أنه يحاص الغرماء بنصف قيمته.
وقد قال ابن المواز على قياس قول ابن القاسم وروايته عن مالك: إن المرأة إذا طلقت قبل البناء وفلست فإن عرف المهر بيدها فالزوج أحق بنصفه، وإن لم يوجد إلا نصفه فإن عرف هلاكه بغير سببها فليس له إلا نصف ما وجد ولا محاصة له بما بقي، وإن هلك بسببها حاص بنصف ما ذهب فيه وفي سائر مالها، وهو صحيح، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحاص الذي كان له عليك المائة مع غرماء العبد فيما في يد العبد]
مسألة قال ابن القاسم، في عبد كان لي وأذنت له في التجارة(10/554)
فداين الناس وكان لرجل علي مائة دينار فأحلته بها على عبدي ثم فلس العبد. قال: يحاص الذي كان له عليك المائة مع غرماء العبد فيما في يد العبد.
قيل له: فإنه حاص فصار له في المحاصة نصف حقه، قال: يرجع على السيد بنصف الحق ويرجع غرماء العبد على السيد بما صار لغريمه في المحاصة وهو خمسون دينارا؛ لأنه هو الذي أدخله عليهم، فإن لم يكن عنده شيء باعوا من العبد ما كان لهم أن يرجعوا به على السيد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، ولا تصح إلا على معنى ما، وهو أن يكون السيد أحال غريمه على عبده ولا دين له عليه، فلما فلس العبد لم يعلم إن كانت الإحالة قبل ديون الغرماء فيكون من حق المحال أن يحاص الغرماء ولا يكون للغرماء رجوع على السيد بشيء، أو بعد ديون الغرماء فلا يكون للمحال محاصة الغرماء، والسيد مقر أن الإحالة كانت بعد ديون الغرماء والمحال منكر لذلك ومدع أن الديون إنما لحقت العبد بعد الإحالة. فعلى هذا التأويل تستقيم المسألة.
وقد قال فيها ابن دحون: إنها مسألة غير مستقيمة؛ لأنه إن كان أحال الغريم على دين له على العبد فليس للمحال رجوع ولا للغرماء رجوع على السيد بما وقع للمحال في المحاصة، وإن كان أحاله على ماله الذي في يدي العبد فلا يخلو أن يكون ذلك قبل أن يتداين العبد أو بعد أن يتداين، فإن كان قبل أن يتداين فلم يقبض المحال حتى فلس العبد فلا رجوع له ولا للغرماء على السيد بما يقع للمحال في المحاصة؛ لأنه أحد أهل دين العبد، وإن كان بعد أن تداين العبد أحال عليه فذلك لا يجوز على الغرماء؛ لأنهم أولى بما في يدي العبد من السيد وممن أحاله السيد.
وليس قوله بصحيح لاحتمال المسألة سوى الوجوه التي قسم المسألة إليها وفسرها على معنى ما في المدونة وما في سماع ابن القاسم من كتاب الكفالة والحوالة.
فمن الوجوه التي تحتملها الوجه الذي ذكرنا أنه تصح عليه المسألة، وهو أن السيد أحال غريمه على العبد على غير أصل دين كان له على العبد؛ لأن الحوالة على غير أصل(10/555)
دين حمالة، وحمالة العبد لسيده إذا لم يكن عليه دين جائزة لازمة له في ذمته، وإن مات أو فلس كالحر سواء.
فلما أحاله عليه قبل أن يفلس ثم فلس كان له أن يحاص الغرماء ويرجع على الذي أحاله ببقية حقه لما ذكرناه من أن الحوالة على غير أصل دين حمالة، وكان لغرماء العبد أن يرجعوا على السيد بما صار لغريمه المحال في المحاصة على ما ذكرناه في تأويل المسألة من أن السيد مقر أنه أحاله على عبده بعد أن اغترقت الديون ذمته، وبالله التوفيق.
[مسألة: مفلسا ورث أباه أووهب له ماذا يكون للغرماء منه]
مسألة قلت: أرأيت لو أن مفلسا ورث أباه أو وهب له ماذا يكون للغرماء منه؟
قال: إن ورثه لم يعتق إذا كان الدين يحيط به وكان الدين أولى به كشيء أفاده. وأما إن وهب له فهو معتق عليه وليس لأهل الدين فيه شيء؛ لأنه لم يوهب له ليأخذه أهل الدين إنما أراد حين وهب له أن يعتقه، فإذا أخذه أهل الدين كان أضر به.
قال الإمام القاضي: أشهب يقول: إن العتق أولى به في الميراث كالهبة، وبه قال محمد بن المواز، ولا وجه للتفرقة في ذلك بين الميراث والهبة.
واعتلاله لوجوب العتق فيه بالهبة بأنه لم يوهب له ليأخذه أهل الدين، إنما أراد أن يعتقه - اعتلال فاسد، إذ لا يدرى حقيقة ما أراد، فلعله إنما أراد منفعة الموهوب له بأن تؤدى عنه ديونه من ثمنه، لا سيما إن كان ممن يجهل أنه لا يصح له ملكه.
ولا يصح في المسألة على مقتضى القياس إلا قولين (كذا) : أحدهما: أنه يعتق في الوجهين جميعا وهو قول أشهب، والثاني: أنه لا يعتق في الوجهين جميعا ويباع للغرماء فيهما.
والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم فيمن ملك من يعتق عليه هل هو حر بنفس ملكه إياه أو ليس بحر حتى يعتقه أو يعتق عليه، فعلى القول بأنه حر بنفس ملكه إياه يكون حرا في الوجهين جميعا ولا يكون لأهل الدين فيه حق وهو قول أشهب، وعلى القول بأنه لا يكون حرا حتى يعتقه أو يعتق(10/556)
عليه بدليل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه قال: «لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» ، لا يعتق عليه ويباع للغرماء في الوجهين جميعا.
وعلى هذا الاختلاف يأتي الاختلاف الواقع في كتاب العتق الأول من المدونة في الذي يشتري أباه وعليه دين يغترقه، هل يرد البيع أو يباع عليه في الدين؟
وإذا اشتراه وليس عنده ثمنه كله هل يرد البيع أو يباع منه ببقية الثمن للبائع ويعتق الباقي؟
فذهب مالك إلى أنه يرد البيع في المسألتين جميعا على قياس القول بأنه لا يصح أن يتقرر له عليه ملك، وذهب ابن القاسم إلى أنه يباع عليه إذا اشتراه وعليه دين ويباع عليه منه ببقية الثمن للبائع وبعتق الباقي إذا اشتراه وليس عنده ثمنه كله.
وقد تأول بعض الناس على ما في المدونة لمالك بظاهر قوله فيها إنه فرق بين المسألتين، فقال في الذي يشتري أباه وعليه دين: إنه يباع عليه في الدين، وفي الذي يشتريه وليس عنده ثمنه كله: إن البيع يرد، وليس ذلك بصحيح، إذ لا وجه للتفرقة بين المسألتين كما لا وجه للتفرقة بين الميراث والهبة.
وإنما أدخل سحنون قول المخزومي في المدونة حجة لمالك على ابن القاسم في المسألتين جميعا.
ويتخرج على قياس القول بأن من ملك من يعتق عليه لا يكون حرا بنفس الملك حتى يعتق عليه أنه لا يحد إن كانت أمة فوطئها عالما بوجوب عتقها عليه خلاف ما في سماع عيسى من كتاب الحدود من أنه يحد إلا أن يعذر بجهالة ولو اشترى الرجل من يعتق عليه من ورثته وهو صحيح أو مريض بثلث ماله فأقل فلم يعلم بذلك حتى مات، ورثه على القول بأنه حر بنفس الشراء، ولم يرثه على القول بأنه لا يكون حرا حتى يعتق.
وقد اختلف إذا اشتراه في مرضه بثلث ماله فأقل وعلم بذلك قبل أن يموت، فقيل: إنه يعجل له العتق في مرضه ويرث، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنه لا ميراث له بحال؛ لأن فعل المريض لا ينظر فيه إلا بعد الموت وهو قول أشهب، وقيل: إنه ينظر فيه بعد الموت فإن خرج(10/557)
من الثلث ورث، وإن لم يخرج من الثلث لم يرث، وهو ظاهر قول ابن القاسم في أول سماع عيسى من كتاب الوصايا.
وأما إذا اشتراه في مرضه بأكثر من الثلث فقيل: إنه لا يرث بحال وهو قول أشهب، وقيل: إنه يرث إن حمله الثلث بعد الموت، وهو أحد قولي ابن القاسم، وقيل: إنه إن كان ممن له أن يستلحقه كان له أن يشتريه بجميع ماله ويرث، وإن لم يكن له أن يستلحقه لم يكن له أن يشتريه إلا بالثلث ولا يرث، وقيل: إنه إن كان ممن يحجب جميع الورثة عن الميراث كان له أن يشتريه بجميع ماله ويرث، وإن لم يكن ممن يحجب جميع الورثة عن الميراث لم يكن له أن يشتريه إلا بالثلث ولا يرث، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجمال يفلس وفي يدي هذا جمل يركبه]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الجمال يفلس وفي يدي هذا جمل يركبه، قال: كل من كان في يديه جمل يركبه كان أولى به من غيره.
قال أصبغ: كذلك قال لنا ابن القاسم.
قيل له: إنه كان يدخل بينهم يجعل هذا البعير تحت هذا يوما ثم يجعل تحته غيره من الغد، ويجعل ذلك البعير تحت غيره.
قال: إنما ينظر إليه حين فلس، فكل من كان في يديه بعير حين فلس كان أحق به وإن كانت تحته أمس غيره.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم القبائل من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب وكتاب الرواحل والدواب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: المريض يبيع في مرضه فيحابي في بيعه بأكثر من الثلث]
مسألة قال سحنون: لو أن رجلا مرض فباع في مرضه دارا ثمنها ثلاثمائة دينار بمائتي دينار وحابى بمائة دينار ولا مال له غيرها ثم(10/558)
أخذ المائتين فاستنفقها ثم مات، فإنه يقال للورثة: إن صاحبكم قد حابى بمائة ولا يحمل ذلك ثلثه من قبل أنه استنفق المائتين، فإما أن تمضوا بيعه وإما أن تختلعوا من ثلثه للمشتري، فإن أجازوا مضى البيع، وإن لم يجيزوا بيع من الدار بقدر المائتين التي استنفقها، ثم يكون للمشتري ثلث ما بقي من الدار بعد الذي بيع منها.
قال الإمام القاضي: اختلف في المريض يبيع في مرضه فيحابي في بيعه بأكثر من الثلث، مثل أن يكون له عبد قيمته ثلاثمائة دينار فيبيعه بمائة دينار ثم يموت ولا مال له غيره على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الورثة يخيرون ابتداء بين أن يجيزوا البيع وبين أن يمضوا للمشتري من العبد ثلثه بالوصية وثلثه بالمائة التي دفع، وهذا إذا كانت قيمته على حالها والمائة باقية، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا.
والثاني: أنه يمضي منه للمشتري بالثمن قدر ما لا محاباة فيه ثم يخير الورثة في المحاباة فإن شاءوا أجازوها وأمضوها وإلا قطعوا له بثلث الميت وهو ثلث العبد إذ لا مال له غيره، وهذا قول عيسى بن دينار من رأيه، وهو قريب من القول الأول، إذ لا فرق بينه وبينه إلا في تخيير الورثة هل يكون ابتداء أو بعد أن يمضي منه للمشتري بالثمن قدر ما لا محاباة فيه، ولا يئول ذلك إلى اختلاف في المعنى.
والقول الثالث: أن الورثة يخيرون ابتداء بين أن يجيزوا البيع وبين أن يردوه ويعطوا المشتري مِئَتَهُ التي كان دفع ويقطعوا له بثلث الميت في العبد المبيع وهو ثلثه إذ لا مال له سواه، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الشفعة ورواية أصبغ عن ابن القاسم عن مالك في الواضحة.
وعلى هذا القول يأتي قول سحنون هذا في الذي باع في مرضه دارا تساوي ثلاثمائة بمائتين ولا مال له غيرها فأخذ المائتين واستنفقها في مرضه ثم مات؛ لأن الثلث إنما ينظر فيه بعد الموت، فلما مات وهو قد استنفق المائتين التي قبضها من المشتري لم يصح أن يمضي له المائة التي(10/559)
حاباه بها في مرضه، إذ لا مال به سواها، فوجب ألا يكون له إلا ثلثها يقطع له بذلك في الدار، وكان وجه العمل في ذلك على ما قال، إن لم يجز الورثة البيع أن يباع من الدار للمشتري بالمائتين التي استنفقها الميت على التنقيص بأن يقال للمشترين كم تأخذون من هذه الدار بمائتين؟ فيقول أحدهم: أنا آخذ خمسة أسداسها بمائتين، ويقول الآخر: أنا آخذ أربعة أخماسها بذلك، ويقول الآخر: أنا آخذ ثلاثة أرباعها بذلك، ويقول الآخر: أنا آخذ ثلثيها بذلك، ويقول الآخر: أنا آخذ نصفها بذلك، فإذا وقفت على ما وقفت عليه من الأجزاء بيع منها ذلك الجزء بالمائتين ودفعت إلى المشتري، وكان له ثلث ما يبقى من الدار، السدس إن كان بيع منها بالمائتين النصف، والتسع إن كان بيع منها بالمائتين الثلثان، ونصف السدس إن كان بيع منها بالمائتين الثلاثة الأرباع، ويكون للورثة ما بقي، الثلث أو التسعان أو السدس، وهذا على القول بأن من أوصي له بشيء بعينه فلم يحمله الثلث ولا أجازه الورثة يقطع له بالثلث في الذي أوصي له به.
وأما على القول بأنه يكون له شائعا في جميع مال الميت فتباع الدار كلها فيعطى المشتري من ذلك المائتين التي استنفق الميت وثلث ما بقي إذ لا مال له سوى الدار، ولا يكون على ظاهر هذه الرواية للورثة أن يلزموا المشتري أن يأخذ في المائتين من الدار ما يجب لهما منها بغير رضاه ولا له أن يلزمهم ذلك بغير رضاهم، خلاف ظاهر ما في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا.
وقد رأيت لابن دحون أنه قال في قول سحنون في هذه المسألة: لا يتم هذا الجواب حتى يكون المشتري يبرأ إليهم بما اشترى ويطلب رأس ماله فهناك تباع الدار ويعطى رأس ماله وثلث ما يبقى، فكأنه ذهب إلى أن يفسر قول سحنون هذا بما في سماع أبي زيد، وما في سماع أبي زيد بقول سحنون، والظاهر أنه اختلاف.
واختلف أيضا إن أراد المشتري أن يزيد ما حاباه به الميت زائدا على الثلث ويستخلص البيع هل يكون ذلك له أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك له وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الشفعة، والثاني: أن ذلك ليس له وهو ظاهر ما في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا، وبالله التوفيق.(10/560)
[مسألة: يشتري البيض على أن تفقس]
مسألة وسئل مالك: عن الذي يشتري البيض على أن تفقس: أن ذلك جائز.
قال محمد بن رشد: قيل في التفقيس إن معناه: أن يكشف عن البيض ليعلم فاسدها من غير ذلك، ويحتمل أن يريد بالتفقيس الكسر، فإن كان اشتراها على أن يختبرها بما يصح اختبارها به من غير كسر فما وجد منها فاسدا رده فلا إشكال في جواز البيع على هذا الشرط، وإن كان اشتراها على أن يكسرها فما وجد منها فاسدا رده مكسورا فذلك جائز أيضا؛ لأن الحكم يوجب له رده إذا وجد فاسدا قبل الكسر وبعده، اشترط ذلك أو لم يشترطه، وبالله التوفيق.
[: سجن الرجل في دين امرأته فأراد أن تدخل عليه امرأته في السجن تبيت معه]
من نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون: إذا سجن الرجل في دين امرأته فأراد أن تدخل عليه امرأته في السجن تبيت معه فإنه لا يكون له ذلك.
وكذلك إن سجن لغير امرأته فليس له أن تدخل امرأته عليه في السجن؛ لأنه إنما أدخل تأديبا له وتضييقا عليه، فإذا كان لا يمنع من لذته فلم يضيق عليه.
قال الإمام القاضي: قول سحنون هذا صحيح بين في المعنى.
وقد قال ابن المواز: إذا حبس الزوجان في دين فطلب الغريم أن يفرق بينهما وطلب الزوجان أن يجمعا فذلك لهما إن كان السجن خاليا، وإن كان فيه غيرها حبست المرأة مع النساء وحبس الرجل مع الرجال، ولا يفرق بين الأب والابن ولا بين الإخوة في السجن.
وقول ابن المواز: إن للزوجين أن يجمعا في السجن إذا كان خاليا خلاف لقول سحنون، وقول سحنون أظهر، والله أعلم.(10/561)
[مسألة: لا يجوز أن يشترى دين على الميت]
مسألة قال سحنون: إذا مات الرجل وعليه دين لقوم شتى فقام بعضهم إلى السلطان فأثبت عنده دينه فباع السلطان مال الميت وقضى هؤلاء الذين قاموا بحقوقهم، فقام الآخرون بعد ذلك يريدون الدخول مع الذين اقتضوا فيما اقتضوا: فإن ذلك لهم يدخلون عليهم فيأخذون منهم قدر حقوقهم، ولا يضرهم أن يكونوا علموا بموت صاحبهم، وأن ماله يباع لغرمائه؛ لأنهم يقولون كنا على حقوقنا، وعلمنا أنه لا يبطلها عنا قيام أصحابنا.
قيل له: فما الفرق بينه وبين المفلس إذا باع السلطان ماله لبعض غرمائه وبقيتهم حضور لا يقومون فلم ير لهم الدخول على الذين اقتضوا حقوقهم؟
فقال: إن المفلس له ذمة تتبع، وإن الميت قد انقطعت ذمته، فلذلك رأيت لهم الدخول على أصحابهم.
وقد أخبرني ابن القاسم أنه قال: لا يجوز أن يشترى دين على الميت؛ لأن الميت لا ذمة له يطلب فيها وقد انقطعت ذمته، وأن المفلس له ذمة يتبع بها، فهذا أيضا يدلك على مسألتك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في نوازل عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له على النصراني الدين فيموت ويترك خمرا وخنازير]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يكون له على النصراني الدين فيترك النصراني خمرا أو خنازير هل يجبر ورثة النصراني على بيع الخمر والخنازير حتى يقضوا المسلم حقه؟
قال: لا يجبرهم السلطان على بيعه، ولكن صاحب الدين يتربص بورثة الميت، فإذا باعوا وصارت الخمر والخنازير مالا قضى السلطان على الذين(10/562)
باعوها بدفع الدين إلى المسلم.
وكذلك المركب من الروم يرسي بساحلنا معهم الخمر وغير ذلك أن السلطان لا يجبرهم على بيعها للعشور، ولكن يوكل من يتحفظ بها حتى إذا بيعت أخذ من ثمنها العشور.
قال محمد بن رشد: أما قوله في الذي يكون له على النصراني الدين فيموت ويترك خمرا وخنازير: إن السلطان لا يجبر ورثته على بيع الخمر والخنازير، ولكن صاحب الدين يتربص بورثة الميت فإذا باعوا وصارت الخمر والخنازير مالا قضى السلطان على الذين باعوها بدفع الدين إلى المسلم - فهو صحيح بيّن في المعنى؛ لأن دين صاحب الدين ليس في عين الخمر والخنازير، وإنما هو في ذمة الميت، ولو كان في عين الخمر والخنازير لما وجب أن يبيعها ليستوفي حقه منها، ولما كان الواجب في ذلك، إلا أن يأخذ حقه منها المتعين له فيها فيهرق الخمر ويقتل الخنازير أو يسرحها إن لم يقدر على قتلها وتغييب جيفها، وخشي أن يضر ذلك بالناس.
وأما قوله في المركب من الروم يرسي بساحل المسلمين ومعهم الخمر وغير ذلك للبيع: إن السلطان لا يجبرهم على بيعها للعشور، ولكن يوكل من يتحفظ بها حتى إذا بيعت أخذ من ثمنها العشر، فهو بعيد، إلا أن يكون معنى ذلك أنهم صولحوا على أن يؤخذ منهم العشر إذا باعوا كأهل الذمة.
وأما إن كانوا صولحوا على العشر فالواجب أن يؤخذ منهم عشر ما معهم من الخمر والخنازير فتكسر الخمر وتقتل الخنازير أو تسرح؛ لأن المسلمين أشراك لهم في جميع ما نزلوا به باعوا أو لم يبيعوا، هذا قول ابن القاسم في سماع عيسى وسحنون وأصبغ من كتاب التجارة إلى أرض الحرب.
ألا ترى أنهم يمنعون عنده من وطء جواريهم للشرك الذي للمسلمين معهم، وأنهم إن أرادوا الرجوع بمن معهم من الرقيق أو بما معهم من الأموال قبل البيع أخذ منهم العشر من ذلك كله وانطلقوا بما بقي.
وقد قال سحنون في نوازله من كتاب القراض في النصراني يقارض النصراني، فيشتري المقارض بمال القراض خمرا أو خنازير ثم يسلم صاحب المال: إن ذلك مصيبة نزلت(10/563)
به، وينظر إلى قدر فضل النصراني فيها فيعطاه منها، ويهراق ما صار للمسلم.
فإذا قال هذا في مال القراض مع أن من حجة صاحب المال أن يقول إنما قارضته بمال ولم أقارضه بخمر، فأنا أنتظر حتى ينض المال فآخذ رأس مالي وحصتي من الربح فأحرى أن يقوله في مال الحربي الذي قدم للتجارة بأمان، فإنما يصح قول سحنون في هذه المسألة على قول ابن وهب في سماع أصبغ من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وما لأشهب في كتاب ابن المواز من أن أهل الحرب إذا قدموا للتجارة لا يؤخذ منهم ما صولحوا عليه من عشر أو غيره حتى يبيعوا كأهل الذمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار لنفسه ولا دافع مغرم]
مسألة وسئل: عن رجلين لهما دين بصك واحد على رجل، فشهد أحدهما أنهما قد تقاضيا دينهما ذلك، قال سحنون: أرى شهادته على شريكه ساقطة، لما يريد أن يدفع عن نفسه من رجوع صاحبه عليه، وأرى أن يرجع على شريكه بما ينوبه ويرجع المشهود عليه بتمام حقه على غريمه، ولا يكون للشاهد الرجوع على أحد.
قيل: لسحنون: وترى شهادته ساقطة، كان المشهود عليه مليئا أو معدما؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا بيّن على ما قاله، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جارٍّ لنفسه ولا دافع مغرم» فهو إذا شهد على شريكه في الدين أنه قد قبض حقه منه كما قبض هو يدفع عن نفسه بشهادته عليه ما يجب له عليه من الرجوع عليه بنصف ما قبض وتغريمه إياه ذلك.
وإذا بطلت شهادته عنه ورجع عليه لم يكن له هو الرجوع على الذي كان عليه الدين كما قال؛ لأنه مقر أنهما قد استوفيا(10/564)
حقهما منه فلا شيء لهما قبله. وسواء على ما قال كان المشهود عليه مليا أو معدما؛ لأن له الرجوع عليه في الحالتين جميعا، وبالله التوفيق.
[مسألة: له دين عليه فقال له اقضني خمسين وأنا أضع عنك الباقي]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل كان له دين على رجل، فقال له قبل محل الأجل: اقضني من ديني خمسين دينارا وأنا أضع عنك ما بقي، فلم يعلم بمكروه ذلك إلا بعد الأجل أو قبل حلول الأجل.
قال: إن علم بذلك قبل حلول الأجل رد ما كان أخذ منه وكان المال إلى أجله، وإن لم يعلم بذلك إلا بعد الأجل فإن رب الحق يرجع بما وضع عنه عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله، وهو مما لا إشكال فيه؛ لأن تعجيل بعض الحق قبل حلول أجله على أن يوضع عنه بقيته سلف جر منفعة، وذلك رِبًا عند مالك وعامة أهل العلم، مقيس على الربا المحرم في التنزيل على ما أجمع عليه أهل التأويل، وهو أن يؤخره بدينه بعد حلول أجله على أن يزيده فيه، فإذا عثر على ذلك قبل حلول الأجل رد إليه ما عجل له؛ لأن التمادي على ذلك إلى الأجل حرام، وإن لم يعثر على ذلك حتى حل الأجل رجع عليه ببقية حقه؛ لأن إسقاطه عنه على أن يعجل له مما عجل ربا ولم يرد عليه شيئا مما عجل له؛ لأن ذلك قد فات، وبالله التوفيق.
[مسألة: لرجل على رجل ثلاثمائة درهم فدفع المطلوب منها إلى الطالب مائة]
مسألة قلت: أرأيت إن كان لرجل على رجل ثلاثمائة درهم كل مائة منها في صك على حدة، منها صك قرض، وصك منها كفالة عن رجل، وصك منها كفالة عن رجل آخر، ودفع المطلوب منها إلى الطالب مائة، من أيها تكون؟
قال: إن قال الذي عليه الحق(10/565)
قضيت حق فلان، وقال الطالب: ما قبضت منك إلا مبهما، رأيت أن يكون ثلث ما قبض عن كل صك؛ لأنه كان يقتضيه إياها كلها وهي حالّة.
وإن كان قضاه إياها ومنها الحالّ والآجل فهي من الحق الحال وليست من الآجل، وليس يقبل قول القاضي إنما قضيتك حق فلان؛ لأنه الآن يحابي من أحب منهم.
ولو أنه حين أتاه بالمال قال: أقضيك حق فلان - كان القول في ذلك قول القاضي؛ لأنه مال يقضي القاضي أيها شاء إلا أن يكون المطلوب مخوفا فيكون المال بينهم.
وكذلك لو مات الطالب قبل أن يبين من أي شيء اقتضى كان المال على الصكوك كلها إذا كانت حالّة، وإن ادعى القاضي غير ذلك. قال: فإن ماتا جميعا فكذلك يكون أيضا.
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب: ولو أنه حين أتاه بالمال قال أقضيك حق فلان كان القول في ذلك قول الطالب؛ لأنه مال فيقتضي القابض أيه شاء.
والأول أصح؛ لأن القاضي وهو الدافع أملك بالقضاء، فوجب أن يكون من حقه أن يدفع أيها شاء إذا نازعه الطالب في ذلك عند القضاء.
وأما إذا اختلفا بعد القضاء، فقال القاضي: إنما قضيتك حق فلان، وقال الطالب: ما قبضت منك إلا مبهما - فالقول قول الطالب مع يمينه يحلف ما قبض إلا مبهما ويكون ذلك مفضوضا على الصكوك كلها، ولا يصدق الدافع القاضي؛ لأنه مدع ويتهم أيضا بمحاباة الذي يدعي أنه قضى عنه.
وكذلك لو قال الطالب: إنما قبضت حق فلان وقال القاضي: بل قضيتك مبهما - كان القول قوله مع يمينه ومضى ذلك على الصكوك كلها.
ولو اختلفا فقال الطالب: إنما دفعت إلي حق فلان، وقال القاضي: بل دفعت إليك حق فلان لوجب أن يفض ذلك على الصكوك جميعا بعد يمين كل واحد منهما على دعواه أو نكولهما جميعا عن اليمين، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين كان القول قول الحالف منهما.
وهذا كله على قياس قول ابن القاسم في هذه الرواية ومذهبه في المدونة وروايته عن مالك فيهما. وقد(10/566)
قيل: إن القول قول القاضي المقتضي، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة.
وقد قيل: إن القول قول القاضي الذي عليه الحق، وهو قول ابن كنانة ورواية محمد بن صدقة عن مالك في المدنية، فسواء على هذين القولين ادعيا البيان جميعا أو ادعى أحدهما البيان والآخر الإبهام يحلف على القول الواحد الطالب على ما يدعي من البيان أو على ما يدعي من الإبهام، فإن حلف على ما يدعي من الإبهام فض ذلك على جميع الصكوك، ويحلف على القول الثاني المطلوب على ما يدعي من البيان أيضا أو على ما يدعي من الإبهام، فإن حلف ما يدعي من الإبهام فض ذلك على جميع الصكوك، فإن نكل عن اليمين حلف الآخر، وكان القول قوله على حكم المدعي والمدعى عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بألف درهم وقال لي عنده عشرون دينارا فاقتضوها منه]
مسألة وسئل سحنون: عمن أوصى عند موته لرجل بألف درهم، وقال: لي عنده عشرون دينارا فاقتضوها منه، فأخبر الموصى له بالوصية، وسئل: عن العشرين فتبرأ، وأنكر أن يكون له قِبَله شيء وطلب الوصية.
قال سحنون: يحاسب في الألف بالعشرين ثم يكون له ما بقي.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من هذا الكتاب فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
تم كتاب المديان والتفليس والحمد لله.(10/567)
[كتاب الرهون الأول] [يبعث مع الرجل بالثوب يرهنه ويأمره بشيء فيزداد لنفسه بغير علم صاحب الثوب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم كتاب الرهون الأول من سماع ابن القاسم عن مالك من كتاب الرطب باليابس أخبرني محمد بن عمر بن لبابة قال: أخبرني العتبي قال: قال سحنون: قال عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك في الرجل يبعث مع الرجل بالثوب يرهنه ويأمره بشيء، فيزداد لنفسه بغير علم صاحب الثوب، فلما حل الأجل طلب المرتهن عشرة، فقال رب الثوب: ما دفع إليّ إلا خمسة، وما أمرته إلا بذلك، فأقر الرسول أو أنكر، فقال: يؤخذ من صاحب الثوب الآمر العشرة إن كان ثمن الثوب ذلك، وتكون الخمسة لصاحب الثوب قبل رسوله، فإن زعم أنه دفعها إليه كلها، حلف وبرئ، وإن أنكر أن يكون أخذ من المرتهن إلا خمسة، كان الغرم كله على صاحب الثوب أيضا، وكان على الرسول اليمين بالله ما أخذها، ويبرأ. قال سحنون وعيسى بن دينار: إذا قال: إنما أمرته بخمسة، وقال الرسول: ما ارتهنته إلا بخمسة، فإن كان للراهن بينة أنه أمره بخمسة غرم خمسة وأخذ رهنه، ولم يكن للمرتهن على الرسول إلا يمينه بالله ما رهنه إلا(11/5)
بخمسة، ويبرأ، وإن لم تكن له بينة، وإنما هو قوله وقول الرسول، وقال المرتهن: ارتهنته بعشرة، فالقول قول المرتهن فيما بينه وبين أن يحيط بالرهن مع يمينه، ثم يقال لصاحب الرهن: افد رهنك بقيمته أو دعه بما فيه، فإن كان الذي ادعى المرتهن أكثر من ثمن الرهن، أحلف الرسول بالله ما رهنته إلا بخمسة ويبرأ، ولا يكون لصاحب الرهن ولا للمرتهن أن يتبعاه بشيء، فإن قال الرسول: رهنته بعشرة، وما أمرني الراهن أن أرهنه إلا بخمسة، فكان لصاحب الرهن بينة، أنه إنما أمره بخمسة، غرم خمسة، وأخذ رهنه، واتبع الرسول المرتهن بخمسة، وإن لم تكن له بينة، وله البينة على أن الرهن له، أحلف أنه لم يأمره إلا بخمسة، ثم غرم قيمة الرهن إن كانت أدنى من عشرة، وأخذ رهنه، واتبع المرتهن الرسول بما نقص من العشرة، واتبعه الراهن، بما غرم فوق الخمسة. قال: وإن قال الرسول: أمرتني بعشرة، وقال الآمر: ما أمرتك إلا بخمسة، كان القول قول الرسول مع يمينه، وقيل لهذا افتك رهنك أو دعه، فإن فداه لم يتبع الرسول بقليل ولا كثير، إذا حلف أنه أمره بعشرة.
قال الإمام القاضي: قول مالك في أول هذه المسألة: إذا طلب المرتهن عشرة، وقال رب الثوب: لم آمره إلا بخمسة، إن العشرة تؤخذ من صاحب الثوب إذا كان ثمنه ذلك. أقر الرسول أو أنكر، معناه: أقر الرسول أنه رهنه بعشرة أو أنكر، وزعم أنه إنما رهنه بخمسة، وهو صحيح؛ لأن الرهن شاهد لمرتهنه بمبلغ(11/6)
قيمته، فالقول قوله مع يمينه أنه ارتهنه بعشرة، ويأخذ العشرة من صاحب الثوب، ويرجع صاحب الثوب على الرسول، فإن كان مقرا أنه رهنه بعشرة، فاستزاد الخمسة لنفسه، أخذها منه، وإن ادعى أنه إنما رهنه، فالعشرة له، ودفعها إليه، فالقول قوله مع يمينه على ذلك، وفي تصديقه على أنه قد دفع العشرة إليه اختلاف كثير، قيل: إنه يصدق مع يمينه، قرب أو بعد، وقيل: إنه لا يصدق بحال، وقيل: إنه يصدق في القرب مع يمينه، وفي البعد دون يمين، وقيل: إنه لا يصدق في القرب ويصدق في البعد مع يمينه. وإن أنكر وزعم أنه إنما رهنها بخمسة، لم يكن عليه إلا اليمين ويبرأ، وإذا أقر الرسول أنه رهنها بعشرة، وأن الخمسة استزادها لنفسه فرضي المرتهن أن يتبعه بالخمسة سقطت عنه اليمين.
والمسألة كلها صحيحة مبنية على أصل مالك ومذهبه، في أن الرهن شاهد لمرتهنه إلى مبلغ قيمته، إذا كان قائما بيده، أو بيد من جعلاه على يده على اختلاف في ذلك، أعني في كونه شاهدا له إذا لم يكن بيده، وإنما جعلاه على يدي عدل بدليل قول الله عز وجل {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ؛ لأنه تعالى لما جعل الرهن عوض التوثق بالكتاب، والإشهاد عند عدم الكتاب، وجب أن ينوب منابه في بعض أحواله، وهو ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، من أن يكون شاهدا له إلى مبلغ قيمته، قيل: ويستحق ذلك في ذمة الراهن، وهو قول مالك في هذه الرواية يؤخذ(11/7)
من صاحب الثوب الآمر العشرة دينار، خلافا لقول مالك في هذا. وفيما سواه تفسير له.
قولهما فإن كان للراهن بينة أنه أمره بخمسة، غرم خمسة، وأخذ رهنه، ولم يكن للمرتهن على الرسول إلا يمينه بالله ما رهنته إلا بخمسة، ويبرأ، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الراهن إذا أخذ رهنه خرج من الرهن؛ ولم يبق بيد المرتهن ما يكون له شاهدا على دعواه وقولهما: وإن لم تكن له بينة، وإنما هو قوله، وقول الرسول، وقال المرتهن: ارتهنته بعشرة، فالقول قول المرتهن فيما بينه وبين أن يحيط بالرهن مع يمينه صحيح أيضا لا اختلاف فيه في المذهب؛ لأن الرهن إنما هو شاهد للمرتهن بقيمته، وأما قولهما: ثم يقال لصاحب الرهن: افد رهنك بقيمته أو دعه بما فيه، فقد ذكرنا أن ذلك خلاف لما تقدم من قول مالك.
وقوله: فإن كان الذي ادعى المرتهن أكثر من ثمن الرهن، يريد مثل أن يكون قيمة الرهن ثمانية، فيدعي أنه ارتهنه منه بعشرة، حلف الرسول بالله ما رهنته إلا بخمسة، ويبرأ، ولا يكون لصاحب الرهن ولا للمرتهن أن يتبعاه بشيء، يريد ويحلف المرتهن، لقد ارتهنته بعشرة، فيستحق بيمينه قيمة الرهن، ويبرأ صاحب الثوب بيمين الرسول الراهن فيما زاد على قيمة الرهن؛ لأن رسوله بمنزلته،(11/8)
لو كان هو الراهن، ولو نكل الرسول عن اليمين لغرم الخمسة تمام العشرة التي حلف المرتهن عليها؛ لأنه ضيع بتركه الإشهاد، وإن نكل المرتهن عن اليمين، وحلف الرسول، لم يكن له إلا الخمسة التي حلف عليها الرسول قبل صاحب الثوب، والقول قول الرسول أنه دفعها إليه إن أنكر أن يكون قبضها منه، وقد ذكرنا الاختلاف في ذلك.
وقولهما: فإن قال الرسول رهنته بعشرة، وما أمرني الراهن أن أرهنه إلا بخمسة، فكان لصاحب الرهن بينة، أنه إنما أمره بخمسة، غرم خمسة وأخذ رهنه، واتبع الرسول المرتهن بخمسة، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الراهن إذا أخذ رهنه خرج من الرهن، ولم يبق بيد المرتهن ما يكون له شاهدا على دعواه، حسبما ذكرناه. وقولهما: وإن لم تكن له بينة وله البينة على أن الرهن له، أحلف أنه لم يأمره إلا بخمسة، ثم غرم قيمة الرهن إن كانت قيمته أدنى من عشرة، وأخذ رهنه. واتبع المرتهن الرسول بما نقص من العشرة، واتبعه الراهن، يريد صاحب الثوب الآمر بالرهن بما غرم فوق الخمسة صحيح، وبيانه: أن الرسول قد أقر أنه رهنه بعشرة، وأن صاحب الثوب لم يأمره إلا بخمسة، فإن أراد المرتهن أن يتبع صاحب الثوب بالخمسة التي أقر أنه تعدى فيها، لم يكن عليه يمين، وإن أراد أن يتبع صاحب الثوب بقيمة الرهن، والرسول ببقية العشرة، كما قال، لم يكن ذلك له إلا بعد أن يحلف أنه رهنه إياه(11/9)
بعشرة، فإن نكل عن اليمين لم يكن له قِبَل صاحب الثوب إلا الخمسة التي أمر بها، ويتبع الرسول بالخمسة التي أقر له بها وإذا حلف وأخذ من صاحب الثوب قيمته، كان لصاحب الثوب أن يرجع على الرسول بما غرم زائدا على الخمسة، لإقراره أنه لم يأمره إلا بخمسة، وأنه تعدى في الخمسة الأخرى، فهذا بيان قوله هذا.
وقولهما قال: وإن قال الرسول أمرتني بعشرة وقال الآمر: ما أمرتك إلا بالخمسة، كان القول قول الرسول مع يمينه. وقيل لهذا افد رهنك أو دعه، فإن لم يتبع الرسول بقليل ولا كثير، إذا حلف أنه أمره بعشرة صحيح، إلا أن فيه إجمالا، يفتقر إلى شرح.
وبيان ذلك، أن الرسول يحلف لقد أمره بالعشرة التي رهنتها به، ولقد دفعها إليه، فجمع ذلك في يمين واحدة، وقيل: بل يحلف يمينين، فإذا حلف كان صاحب الثوب مخيرا بين أن يفتك ثوبه بقيمته، أو يسلمه، ولم يكن له على الرسول شيء؛ لأنه قد حلف أنه أمره بعشرة، ودفعها إليه، ويرجع المرتهن على الرسول ببقية العشرة التي أقر بقبضها منه إن كانت قيمة الثوب أقل من عشرة، ولو ادعى المرتهن عشرين، وأقر الآمر بخمسة، وقال الرسول خمسة عشر، وقيمة الثوب عشرة، فليحلف المرتهن، ثم يحلف رب الثوب، فإن شاء الآمر ثوبه فليرد عشرة، ثم يحلف الرسول يمينين ويغرم خمسة التي زادت على قيمة الثوب؛ لأنه أقر أنه قبض من المرتهن خمسة عشر، ويحلف للآمر يمينا لقد أوصل إليه عشرة، وأخرى للمرتهن، ما قبضت منك إلا خمسة عشر. قال ذلك في كتاب ابن المواز، وهو صحيح على أصولهم. وبالله التوفيق.(11/10)
[مسألة: ارتهن زرعا فعجز عنه صاحبه فقال له زدني مالا آخر أصلح به زرعي]
مسألة وقال مالك من ارتهن زرعا فعجز عنه صاحبه، فقال صاحب الزرع: زدني مالا، آخر أصلح به زرعي ليلا، فأبى، فأخذ مالا من غيره. فأصلح به زرعه حتى انتعش، قال: يبدأ الذي أسلفه على المرتهن الأول في الزرع حتى يستوفي حقه.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في كتاب الرهون من المدونة في هذه المسألة، ومعناها: إذا أذن المرتهن في ذلك للراهن. وفي كتاب ابن المواز لمالك أن الأول يبدأ ثم الثاني. ولكلا القولين وجه. فوجه القول الأول أن المرتهن لما أذن للراهن أن يستسلف ما يصلح به الزرع ليلّا يهلك، فقد رضي بتبدئته على نفسه، وصار حائزا له.
ووجه القول الثاني أن المرتهن الأول قد حاز الزرع لنفسه، فلا يخرج مقدار دينه منه عن يده، ويكون فيه حائزا لغيره إلا بإفصاح وبيان، وحسبه أن يكون بإذنه في ذلك حائزا للثاني ما فضل عن حقه، ولو لم يأذن له في ذلك لوجب أن يكون الثاني أسوة الغرماء فيما فضل من الرهن عن حق المرتهن الأول وبالله التوفيق.
[مسألة: باع من غلام له سلعة بدين وارتهن منه رهنا فلحق العبد دين]
مسألة وقال مالك في رجل باع من غلام له سلعة بدين وارتهن منه(11/11)
رهنا فلحق العبد دين. قال: إن كان دين السيد معروفا ببينة، وكان دينه بقدر مال العبد، فهو أحق بالرهن، وإن كان على غير ذلك، ولو قامت له بينة، لم أر أن يكون أحق به من الغرماء. قال عيسى: قال ابن القاسم: أرى أن يفسخ للبائع رهنه؛ لأنه لم يكن ذلك على وجه الرهن، وإنما هو على وجه التاليج، فيحاص بقيمة ما باع عبده الغرماء، فيما ارتهن وفيما بقي من ماله، ولا يكون أولى بالرهن فيما له عليه؛ لأنه كان أوله غير جائز، والأجنبي لا يشبهه؛ لأن الأجنبي لو باع جارية قيمتها خمسون دينارا بألف دينار، وارتهن رهنا، وكان مشتريها من غير أهل السلعة، جاز ذلك، والسيد ليس كذلك في عبده، فهذا فرق ما بين مبايعة السيد عبده، والأجنبي لم يروها سحنون. قال سحنون: إذا تبين في ذلك محاباة، وارتهن به رهنا، كان أولى بالرهن بقيمة السلعة التي باع منه، ولا يكون أولى بالرهن بقيمة السلعة التي باع منه، ولا يكون أولى بالرهن بالزيادة التي ازدادها على قيمة سلعته، ولكنها تسقط الزيادة، وتثبت منه قدر قيمة السلعة ويكون أولى بالرهن بتلك القيمة من الغرماء.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس، فمن أحب الوقوف عليه. تأمله هنالك.
وفي قوله: والأجنبي لا يشبهه؛ لأن الأجنبي لو باع جارية قيمتها خمسون دينارا بألف دينار، وارتهن رهنا، وكان مشتريها من غير أهل السفه جاز ذلك، ما يدل على أنه لا قيام على بيع المكايسة بالغبن ولا أعرف في المذهب في ذلك نص خلاف، وكان من الشيوخ من يحمل مسألة سماع أشهب، الواقعة في أول رسم منه على الخلاف، ويتأول منها وجوب القيام بالغبن في بيع المكايسة؛ لقوله فيها: إن كان هذا المال رابحا كثير الفضل على ما باعه(11/12)
إياه، لا يشبه تغابن الناس في البيوع، فأرى أن يرد عليه ماله ويقضيه دينه، ويقع عليه الحنث، ليس ذلك عندي بصحيح؛ لأنه إنما رأى له الرد بالغبن من أجل اضطراره إلى البيع مخافة الحنث على ما ذكر في الرواية. وهذا من نحو تضعيفهم وكالة الراهن من المرتهن على بيع الرهن، حسبما يأتي القول عليه في الرسم الذي بعد هذا إن شاء الله.
وقد حكى بعض البغداديين على المذهب وأراه ابن القصار، أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث، وليس ذلك بصحيح لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» . وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غبن المسترسل ظلم» دليل أنه لا ظلم في غبن المسترسل، وما لم يكن فيه ظلم، فهو حق لا يحب القيام به. وقد استدل بعض الناس على ذلك بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الأمة «إن زنت فبيعوها ولو بضفير» وبقوله لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لا تشتره ولو باعكه بدرهم» وهذا لا دليل فيه؛ لأنه خرج على التقليل مثل قوله في(11/13)
الحقيقة: «ولو بعصفور» وقوله: «من بنى مسجدا ولو بقدر مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة» (12) وما أشبه ذلك كثير، وإنما الخلاف المعلوم في الرد بالغلط في بيع المكايسة، حسبما مضى القول فيه في الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا دارا أو غلة ثم قال المرتهن للراهن استأجرني أتقاضى لك]
مسألة وقال مالك في رجل ارتهن رهنا: دارا أو غلة، ثم قال المرتهن للراهن: استأجرني أتقاضى لك، وآخذ الخراج وأتقاضى لك بإجارة معلومة، فما اجتمع من مال فضل عن إجارتي حبسته، فكلما حل شيء من حقي اقتضيته لمحله. قال مالك: لا بأس به إذا لم يتعجل القضاء إلا لمحله، ولم يكن في أصل البيع شرط. قال الإمام القاضي: يلزم على أصولهم أن يكون ما يقتضي مطبوعا عليه، حتى يحل نجم من حقه، فيقتضيه، ويطلع على الباقي حتى يحل نجم آخر هكذا أبدا.
وقوله ولم يكن في أصل البيع شرط أي لم يشترط عند عقد الصفقة أنه يستوفي دينه من الخراج؛ لأن هذا لا يجوز، إذ هو مجهول، وإذ لا يدري لعل الغلة لا تصح، إلا أن يشترط عليه ضمان(11/14)
ذلك، على ما وقع في آخر رسم الرهون من سماع عيسى بعد هذا. وإنما شرط ألا يتعجل القضاء؛ لأنه يخاف أن يكون أرخص عليه في الأجرة، ليعجل له بالقضاء، فيدخل له، ضع وتعجل. وكذلك لو تقاضى له الخراج دون أجر، على أن يستوفيه من دينه قبل محله، لم يجز إذ كان في اقتضائه عناء. وقد أجاز في كتاب حريم البير من المدونة أن يأذن راهن الدار لمرتهنها بعد عقد البيع أن يكريها ويأخذ حقه من كرائها، ومعنى ذلك إذا كان الدين حالا أو لم يكن في ذلك عناء. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال للراهن قد حزت لك رهنك وقبضته فهل يضمن بذلك]
مسألة وقال له لو أن رجلا قال لرجل أراد أن يضع على يديه رهنا لرجل ويسلفه أو يبيعه قد حزت لك رهنك وقبضته، فدفع بقوله: إنه ضامن.
قال ابن القاسم: وذلك رأي، إنه ضامن لقيمة الرهن الذي أراد أن يرهنه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لا إشكال في أنه ضامن لقيمة الرهن لأنه قد غره. وبالله التوفيق.
[يرهنه الرهن ويقول له إن لم آتك بحقك إلى وقت كذا فأنت موكل ببيعه]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن الرجل يرهن الرجل الرهن، ويقول له: إن لم آتك بحقك إلى كذا وكذا من الأجل، فأنت موكل ببيعه، وتستوفي حقك، ويشهد له بذلك، قال مالك: لا يباع الرهن إلا(11/15)
بإذن السلطان، كان على يدي أحد، أو على يدي صاحب الرهن، وهو مما يكتبونه في رهونهم، إنه ليس في حرج وما أشبهه. وهذا كله فيه لا يباع رهن، اشترط فيه بيع إلا بأمر السلطان، وشدد في ذلك وقال: لا يباع رهن اشترط فيه بيع إلا بأمر السلطان. قال ابن القاسم: وقد بلغني عن مالك أنه قال: إذا أصاب وجه البيع إنه يمضي، فات أو لم يفت، ثم قال: إذا كان ذلك شيئا تافها رأيت أن يمضي البيع، فات أو لم يفت، وإن كان شيئا له بال، مثل الدور والأرضين وما أشبه ذلك، رد إذا لم يفت، وأحب قوله: إلى أن يمضي البيع إذا أصاب وجهه وكان تافها أو شيئا له بال؛ لأن صاحبه قد ضمن وباع المرتهن ما أذن له فيه فأرى البيع له جائزا إذا أصاب وجه البيع، فات أو لم يفت:
قال محمد بن رشد: الرهن وثيقة في يد المرتهن بحقه، وهو باق على ملك ربه، فليس له أن يبيعه إلا بإذنه، فإن أدى وغاب، رفع أمره إلى السلطان فباعه له عليه بعد أن يثبت عنده الدين والرهن. واختلف هل عليه أن يثبت عنده ملك الراهن له؟ على قولين، يتخرجان على المذهب، وذلك عندي إذا أشبه أن يكون له، وأما إذا لم يشبه أن يكون له، مثل أن يرهن الرجل حليا أو ثوبا لا يشبه أن يكون من لباسه ولا من تجارته، أو ترهن المرأة سلاحا أوثوبا لا يشبه أن يكون من لباسها، فلا يبيعه السلطان حتى يثبت عنده ملك الراهن له، فإن لم يكن في البلد سلطان، أو كان وعسر الرفع إليه باعه بحضرة العدول، وجاز البيع على الراهن، ولم يكن له على المشتري فيه سبيل، إلا أن يكون باعه بأقل من قيمته، فيكون له أن يأخذه بالثمن الذي اشتراه به، وهذا في العروض، وأما العقار والأصول فله أن يأخذها من المشتري بالثمن، إذا لم يبعها السلطان، وإنما باعها هو بحضرة العدول، وإن استقصى الثمن وباع بالقيمة، وقال أشهب: إن كان مقتاة أو قضبا أو ثمرا(11/16)
يجنى شيئا بعد شيء، فيخشى عليه الفساد، فبيع المرتهن له جائز، دون مؤامرة السلطان، ولا ملأ، ولا جماعة. وقوله عندي مفسر لما تقدم.
وقد حمله بعض الناس على أنه خلاف لمذهب مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة وغيرها، واختلف إن شرط المرتهن على الراهن في أصل العقد أنه موكل على بيع الرهن، مثل أن يقول: أبيعك بكذا إلى أجل كذا، على أن ترهنني كذا، وأنا موكل على بيعه دون مؤامرة سلطان، أو يقول له بعد أن حل دينه عليه: أؤخرك بديني إلى أجل كذا، وعلى أن ترهنني كذا وأنا موكل على بيعه دون مؤامرة سلطان أو يقول له بعد أن حل دينه عليه: أؤخرك بديني إلى أجل كذا، على أن ترهنني كذا وأنا موكل على بيعه دون مؤامرة سلطان على قولين: أحدهما إن ذلك جائز لازم، ليس له أن يفسخ وكالته ولا يعزله عن بيعه، لما له في ذلك من الحق، وهو إسقاط العناء عنه في الرفع إلى السلطان، إذ أدى به، وإسقاط الإثبات عنه إن أنكر وكان غائبا، وهو قول إسماعيل القاضي، وابن القصار، وأبي محمد عبد الوهاب. والثاني إن ذلك لا يجوز ابتداء، وله أن يعزله. واختلف على هذا القول إن باع قبل أن يعزله على ثلاثة أقوال: أحدها إن ذلك جائز جملة من غير تفصيل بين الأصول والعروض، وهو قول مالك الأول الذي بلغ ابن القاسم على ما وقع هنا وفي المدونة، واختيار ابن القاسم هنا، وهو قول أصبغ. وهذا إذا أصاب وجه البيع، وأما إن باع بأقل من القيمة، فيكون للراهن أن يأخذه من المشتري بالثمن الذي اشتراه به، فإن تداولته الأملاك كان له أن يأخذه بأي الأثمان شاء على حكم الشفيع يأتي بعد أن تداولت الأملاك بالبيع في الشقص. والثاني إن ذلك جائز في العروض، إذا أصاب وجه البيع، ومردود في الأصول، وإن أصاب وجه البيع، ما لم تفت، يريد بما يفوت به البيع الفاسد في العروض، من حوالة الأسواق فما فوقه، فإن فات بشيء من ذلك،(11/17)
مضت، ولم يكن للراهن عليها سبيل، وإن كانت قائمة بيد المشتري لم تفت بوجه من وجوه الفوت، كان للراهن أن يأخذها بالثمن، وهو قول مالك الثاني الذي رجع إليه هاهنا. والثالث إن ذلك جائز في العروض إذا أصاب وجه البيع، ومردود في الأصول، فاتت أو لم تفت، وهو قول أشهب؛ لأنه قال: إن فاتت كان بائعها ضامنا. ومعنى قوله عندي: إن له أن يأخذها حيث وجدها، وعلى أي حال وجدها بالثمن الذي باعها به الراهن، واستوفاه لنفسه في حقه. ويكون الرجوع بالدرك عليه إن كان في ذلك درك، مثل أن يجد الدار في يد المشتري مهدومة، وقد اشتراها قائمة بمائة، وقيمتها مهدومة على ما وجدها عليه خمسون، فيدفع إلى المشتري المائة التي اشتراها به، ويرجع على البائع بخمسين، وإن وجدها عند مشتر اشتراها من المشتري من الراهن بأكثر من الثمن الذي باعها به الراهن، أخذها من المشتري الثاني بالثمن الذي اشتراها به المشتري الأول من الراهن، وانتقض البيع الثاني فيها، فرجع المشتري الثاني الذي أخذت من يده الدار، ببقية ثمنه، على الذي باع منه وهو المشتري الأول.
وإنما وقع هذا الاختلاف في توكيل الراهن للمرتهن، على بيع الرهن عند حلول الأجل، من غير مؤامرة سلطان، من أجل أنها وكالة اضطرار، لحاجته إلى ابتياع ما اشتري أو إلى استقراض ما اقترض أو إلى التأخير بما حل عليه من الدين بعد حلوله، ولأن الرهن لا يباع على الراهن إلا إذا أدى في بيعه أو بعد غيبته، ولم يوجد له مال يقضى عنه الدين منه فيحتاج إلى البحث عن ذلك وعن قرب غيبته من بعدها، وذلك ما لا يفعله إلا القاضي، فأشبه ذلك حكمه على الغائب. ولو طاع الراهن للمرتهن بعد البيع وقبل حلول أجل الدين بأن يرهنه رهنا ويوكله على بيعه عند حلول أجل دينه دون مؤامرة سلطان لجاز ذلك باتفاق؛ لأن ذلك كله معروف من الراهن المرتهن في الرهن والتوكيل على البيع. وبالله التوفيق.(11/18)
[هلك وعنده سيف رهنا فجاء صاحبه إلى الورثة فقال إنما رهنته بدينار]
ومن كتاب شك في طوافه قال وسئل مالك عن رجل هلك وعنده سيف رهنا فجاء صاحبه إلى الورثة فقال: إنما رهنته بدينار، وقال الورثة لا علم لنا بما رهنته، إلا أن سيفك قيمته خمسة دنانير، قال: أرى أن يحلف ويأخذه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الورثة ينزلون منزلة موروثهم، فإذا لم يدعوا علم ما ارتهنه به، كانوا بمنزلة موروثهم لو كان حيا، فقال: لا أدري بكم ارتهنته، أو أعرف، إلا أني لا أريد أن أحلف، ووجب أن يكون القول قول الراهن فيما يقر أنه رهنه به، وإن كان ذلك أقل من قيمة الرهن، ولو ادعوا علم ما ارتهنه به موروثهم، لوجب أن يكون القول قولهم إلى مبلغ قيمة الرهن. وهذا إذا أقر الورثة بالرهن، أو قامت للراهن به بينة، ولو ادعى أنه رهن ولم يكن له على دعواه بينة، فقال الورثة: لا علم لنا بما تدعيه، وإنما وجدنا هذا المتاع في تركة موروثنا، ولا نعلم لك فيه حقا، لوجب أن يحلف على ذلك من كان منهم كبيرا يظن به علم ذلك على اختلاف في ذلك، إن لم يدع الراهن عليهم العلم، فإن نكلوا عن اليمين على القول بوجوبها عليهم، حلف الراهن، لقد علموا ذلك، على اختلاف في ذلك أيضا. وأما إن ادعى الراهن عليهم العلم، فلا اختلاف في وجوب اليمين عليهم ولا في وجوبها على الراهن إذا نكلوا عن اليمين، وكذلك لا اختلاف في وجوب اليمين على الورثة، ولا في ردها على الراهن إذا أنكروا الرهن وكذبوا الراهن، وادعوا أنهم يعرفون ملك السلعة لموروثهم.
وستأتي هذه المسألة في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من هذا السماع، بزيادة، وفي رسم إن أمكنتني من سماع عيسى. وتأتي أيضا في رسم أسلم منه وفي آخر رسم الرهون منه عكس هذه المسألة إذا مات الراهن،(11/19)
فتداعا ورثته مع المرتهن وسنتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله. وبه التوفيق.
[مسألة: رهنت السيف بخمسة فقضيته أربعة وبقي دينار وكان السيف يساوي خمسة]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا قال: ولو رهنته بخمسة، فقضيته أربعة، وبقي دينار، فكان السيف يساوي خمسة، لم يأخذه حتى يغرم الخمسة، إنما كان على الميت اليمين، وقد سقطت عنه حين مات، فلا يأخذه حتى يؤدي الخمسة، من رواية عيسى عن ابن القاسم، وأما سحنون فلم يروه عن أحد وقد أجازه برأيه، قال ابن القاسم: وإنما ذلك للإقرار بأصل الدين.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: وكان السيف يساوي خمسة، لا فائدة له؛ لأن الغرم يلزمه، كان يساوي خمسة أو أقل أو أكثر، لإقراره أنه رهن بخمسة، وادعائه أنه قد قضى الأربعة، ويلزم من كان مالكا أمر نفسه من الورثة أن يحلف ما علم أن الميت قبض الأربعة التي ادعى أنه دفعها إليه، على اختلاف في لزومها له، وفي وجوب ردها عليه، إلا أن تحقق عليه الدعوى بالعلم، فتجب عليه اليمين ويكون له ردها باتفاق.
وقد مضى بيان هذا قبل هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: كانت له جارية ولها بنت صغيرة فأراد سيدها أن يرهن الصبية]
مسألة وسئل عن رجل كانت له جارية، ولها بنت صغيرة بنت ست سنين أو أقل، فأراد سيدها أن يرهن الصبية من رجل، ويخرج بأمها إلى بلد وهي جارية يطؤها ويستمتع منها، وتخدمه، قال مالك: لا خير في ذلك، إلا أن تكون قد أثغرت وكأنه رأى إذا لم تثغر إثغارا يعجل عليها وضرب لذلك مثلا فقال: ابنة مخاض، وابنة لبون،(11/20)
ليستا سواء، كلها بنات المخاض، ولا بنات اللبون، وقال له رجل: إنه لا يبيعها، وهو يفتكها،. قال: ليس هذا بشيء أرأيت لو مات في سفره أو فلس ألم يبعها الغريم في حقه؟ ليس يصلح هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا خير في أن يرهن الرجل عبده ابن أمته الصغير، ويخرج بأمه إلى بلد آخر، صحيح، لا إشكال فيه، إذ لا كلام في أنه لا يجوز أن يفرق بين الوالدة وولدها في الحوز وإن جمعهما الملك، وإنما الكلام هل يفرق بينهما في الملك إذا جمعهما الحوز، فأجازوا ذلك في الهبة والصدقة، لما كان طريقها المعروف، ولم يجيزوه في البيع لما كان طريقه المكايسة، وكذلك لو رهنه عبده الصغير، لم يجز أن يحوزه إياه وحده دون أمه وإن لم يخرج بها عن البلد. وإذا رهن الرجل الرجل عبده الصغير دون أمه، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها أن يرهنه إياه بشرط أن يحوزه إياه دون أمه، والثاني أن يرهنه إياه على أن يحوزه إياه مع أمه. والثالث أن يرهنه إياه دون شرط، فأما إذا رهنه إياه بشرط أن يحوزه إياه دون أمه، فهو رهن فاسد لا يجوز، ويفسخ، وأما إذا رهنه إياه على أن يحوزه إياه مع أمه، فهو رهن جائز، إلا أنه يختلف هل يكره ذلك ابتداء أم لا؟ فكره ذلك كله مالك في سماع يحيى بعد هذا، ولم ير ابن وهب به بأسا، وهو الأظهر، إذ لا يخرج الرهن بارتهانه عن ملك راهنه على أن تكون أمه معه في الرهن، فلم يفترقا في ملك ولا حوز، وكرهه مالك لوجهين ضعيفين: أحدهما أنه رأى المرتهن كأنه قد ملك الرهن لما كان أحق به من الغرماء، والثاني أنه لما كان لا يجوز أن يباع منفردا دون أمه، لم يكن فيه من الحق إلا ما يقع عليه من الثمن إذا بيع أمه، وذلك لا يعرف إلا بعد التقويم، فأشبه ذلك رهن الغرر، إذ قد اختلف فيه حسبما يأتي بيانه في تكلمنا على أول مسألة من سماع أصبغ إن شاء الله. وأما إذا رهنه إياه دون شرط، فإنه يجبر على أن يحوز معه أمه، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد. بعد هذا، قال: أمه تكون معه في الرهن؛ لأن معناه أنها تكون معه في الحوز، لا داخلة معه في الرهن ويتخرج(11/21)
في ذلك قول آخر على معنى ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، وهو أنه إذا أبى الراهن، أن يحوز الأم معه، وأبى المرتهن إلا أن يحوز رهنه أن يباعا جميعا من رجل واحد، فيكون للمرتهن رهنا ما ناب الولد من الثمن. وقوله: إن الإثغار ليس بحد لجواز التفرقة إلا إذا لم يعجل، صحيح في المعنى، منصوص عليه في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة. وبالله التوفيق.
[أسلف رجلا سلفا ورهنه عبدا ووضعه على يدي رجل وشرط عليه]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل عن رجل أسلف رجلا، سلفا ورهنه عبدا ووضعه على يدي رجل، وشرط الذي أسلف على الذي وضع الرهن على يديه، أنك ضامن لما أصاب الرهن، فهلك العبد، أتراه ضامنا؟ قال: نعم، أراه ضامنا، قيل له: فإن قال: ما نقص رهنك، قال ما أحراه أن يضمن، وأراه ضامنا، قال لا: ولكن الآخر أبين، وما أراه أن يضمن.
قال الإمام القاضي: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول رسم، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[يرهن الدار من رجل ويضعها على يديه ثم يطلب أن يعطى في ذلك أجرا]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك عن الرجل يرهن الدار من رجل ويضعها على يديه، ويقتضي غلتها، ويقوم في ذلك، ثم يطلب أن يعطى في ذلك أجرا فيما قام به، قال: من الناس من يكون ذلك له، فأما الرجل الذي مثله يشبه أن يعمل، ومثله يؤاجر نفسه في مثله، فإن(11/22)
طلبه فأرى ذلك له، وأما من مثله يعين فلا أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما في رسم جاع فباع امرأته من كتاب الجعل والإجارة، أنه تكون له إجارة مثله إن كان يشبه أن يكون مثله يعمل بالإجارة، وإنما يكون ذلك له بعد يمينه أنه ما قام في ذلك وعني فيه احتسابا، وأنه إنما فعل ذلك ليرجع بحقه فيه، على معنى ما قاله في أول سماع يحيى من الكتاب المذكور، وبالله التوفيق.
[وضع حائطا مرهونا على يدي رجل فأراد الذي وضع على يديه أن يساقيه صاحبه]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا قال: وسئل عن رجل رهن رجلا حائطا له ووضعه على يدي رجل، فأراد الذي وضع على يديه أن يساقيه صاحبه الذي هو له، قال: أراه عيبا، وأراه قد رهن رهنه وكأنه لا يراه رهنا، فقيل له: أفيساقيه الذي له الدين من الذي وضع على يديه؟ قال: ما أرى بذلك بأسا، قيل له: أفيضع الرهن على يدي ابن الذي له الحائط؟ قال: أراه قد رهن رهنه، وضعفه، وقال: لا يعجبني أن يضعفه على يدي ابنه ولا امرأته ولا أخيه، وقال: هذا وهن للرهن وضعف له، فلا خير فيه. قال سحنون: معناه في الابن أنه صغير، ولو كان كبيرا بائنا عنه جاز.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إن العدل إذا ساقى في الحائط الراهن بطل الرهن، وإذا ساقى المرتهن صاحب الدين لم يكن بذلك بأس؛ لأن الرهن لا يكون رهنا إلا أن يحاز عن الراهن، لقول الله عز وجل(11/23)
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فإذا رجع إلى الراهن بأي وجه كان من مساقاة أو عارية أو إجارة بطل، وإذا رجع من العدل إلى المرتهن لم يؤثر ذلك في صحة الرهن، إذ لو حازه لنفسه من أول لجاز ذلك؛ لأن حيازته لنفسه أقوى من حيازة غيره له؛ لأنه إذا حاز لنفسه، كان الرهن شاهدا له على اتفاق في المذهب، وإذا حازه له غيره، لم يكن شاهدا إلا على اختلاف، وهو أحق به من الغرماء في الوجهين جميعا قولا واحدا، وقول سحنون في الابن، معناه: أنه صغير ولو كان كبيرا بائنا عنه جاز صحيح، مفسر لقول مالك، فقوله: إنه لا يعجبه أن يضع الرهن على يدي ابن الراهن، معناه: إذا كان ساكنا معه، وأما إذا كان بائنا عنه غير ساكن معه، فحيازته له جائزة إن كان كبيرا، أو غير جائزة إن كان صغيرا. هذا قول سحنون ها هنا. وقول ابن الماجشون في الواضحة والقياس أن يستوفي الصغير والكبير في أن حيازتهما للرهن جائزة إذا كانا بائنين عنه، كما يستويان في أن حيازتهما ليست بجائزة، إذا كانا ساكنين معه، وكذلك الزوجة والأخ لو كانا بائنين عن الرهن جاز أن يوضع الرهن على أيديهما. وقد نص على ذلك ابن الماجشون في الزوجة، وكذلك إن كانا ساكنين معه، فحازا ذلك في غير موضع سكناهما وبالله التوفيق.
[مسألة: أراد الذي له الدين أن يبيعه بيعا ويرتهن منه رهنا ويجعل آجالها واحدة]
مسألة وسئل عن رجل كانت له أذهاب إلى آجال مختلفة، فأراد الذي له الدين أن يبيعه بيعا، ويرتهن منه رهنا، ويجعل آجالها واحدة في الرهن، قال: لا خير فيه، فقيل له: أفيبيعه بيعا ويرهنه رهنا ويجعل فيه دينه كله الذي له عليه؟ قال: لا خير فيه، قال ابن القاسم: وإنما كره ذلك؛ لأن الرجل لو كان له على رجل دين إلى(11/24)
أجل، فقال له الذي له الحق، هل لك أن أعطيك دينارا أو دراهم على أن ترهنني بحقي الذي لي عليك أو أضع من حقي الذي عليك، على أن ترهنني، لم يكن في هذا خير، وهو وجه من وجوه الربا، كأنه ازداد في حقه، فإذا باعه بيعا على أن يرهنه رهنا بدين له آخر، فقد صار بمنزلة ما وصفت لك؛ لأنه يضع له من ثمنه على أن يرهنه، وهو أيضا يشبه الحمالة بالجعل، فالرهن والحمالة في هذا سواء، وهما قول مالك جميعا.
قال الإمام القاضي: أما إذا كانت له عليه أذهاب إلى آجال مختلفة فباعه بيعا على أن يرهنه رهنا بثمن ما باعه منه وبالأذهاب التي له عليه إلى آجال مختلفة، على أن يكون إلى أجل واحد، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز؛ لأنه يدخله البيع والسلف، شرط أن تكون الأذهاب حالة، أو إلى أقرب الآجال أو إلى أبعدها، أو مؤخرة عن ذلك؛ لأنه إن شرط أن تكون معجلة أو إلى أقرب الآجال، كان السلف من المبتاع، وإن شرط أن تكون إلى أبعد الآجال، أو مؤخرة عن ذلك، كان السلف من البائع، ولا يجوز البيع على شرط السلف من أحد المتبايعين، وأما إن باعه بيعا على أن يرهنه رهنا بثمن ما باع منه، وبالأذهاب التي له عليه إلى آجالها بأعيانها فقال في هذه الرواية: إنه لا خير في ذلك؛ لأن قوله أفيبيعه بيعا ويرهنه رهنا ويجعل فيه دينه كله الذي له عليه؟ معناه: يجعله فيه كله إلى أجله، لا يعجله له ولا يؤخره هو عنه، وهو مثل ما في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال. وعلى قياس ما قاله ها هنا من أنه لا يجوز أن يعطيه شيئا، ولا أن يضع عنه(11/25)
من دينه الذي له عليه شيئا على أن يرهنه به رهنا؛ لأنه إذا باعه على أن يرهنه، فقد وضع عنه من ثمن ما باعه، على أن يرهنه، وقد أجاز ذلك كله في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الكفالة والحوالة، وهو الأظهر؛ لأن قوله في هذه الرواية: وهو وجه من وجوه الربا كأنه ازداد في حقه، ليس ببين، إنما العلة في ذلك الغرر في الرهن، حسبما بيناه في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال، فيحتمل أن يكون أراد أن الغرر في الرهن، هو الذي ازداده في حقه بما زاد في ثمن السلعة التي ابتاع، أو في قيمة التي باع، فرأى ذلك مما يضارع الربا، وهو بعيد، والأظهر فيه الجواز، والله أعلم. وقوله أيضا: وهو شبه الحمالة بالجعل، ليس بشبه بين؛ لأن الحمالة بالجعل إنما هي أن يعطي الحميل شيئا، أو يضع عنه شيئا، على أن يتحمل عنه، وإنما أعطى أو وضع للمحتمل عنه على أن يعطيه حميلا أو رهنا، ولا يظهر للفساد في ذلك وجه، سواء ما بينه في رسم أوصى من سماع عيسى من الكتاب المذكور، والشبه الذي رآه بينهما، هو أنه ابتياع غرر في المسألتين جميعا، إلا أنه في الحمالة بالجعل، غرر في حق المتبايعين جميعا، وفي إعطاء العرض على أخذ الرهن غرر من جهة أخذ الرهن، لا من جهة معطيه. والله أعلم.
[أسلف رجلا مالا ورهنه دارا ووضعها على يدي رجل]
ومن كتاب كتب عليه ذكر حق وسئل مالك عن رجل أسلف رجلا مالا ورهنه دارا ووضعها
على يدي رجل، وقال الذي وضعت على يديه: أنا حميل بما نقص من رهنك، وأسلفه سلفا آخر، وأرهنه رهنا آخر، ووضع على يدي(11/26)
الرجل الذي وضع على يديه الرهن الأول الذي يحمل له بما نقص من رهنه، فحل أجلهما فقضاه بعض حقه، ثم لقيه بعد ذلك فقال: إنما قضيت لك الحق في الحمالة التي فيها الرهن، وقد أعلمتك ذلك عند القضاء، فأنكره ذلك وقال: بل هذا من الآخر. قال: قال مالك: أرى أن يقسم الذي اقتضى بينهما، فإن كان الأول ستين، والآخر ثلاثين، كان قد اقتضى من الأول عشرين؛ ومن الآخر عشرة، للأول الثلثين، وللآخر الثلث، يقسم عليهم بالحصص إذا كان مثل هذا، فعلى مثل هذا النحو يكون فيه الأمر.
قال محمد بن رشد: قوله: إنما قضيت لك الحق في الحمالة التي فيها الرهن غلط، وإنما صوابه في الرهن الذي فيه الحمالة؛ لأن السلفين في كل واحد منهما رهن، ولا حمالة إلا في أحدهما، وقوله: أرى أن يقسم الذي اقتضى بينهما، يريد بعد أيمانهما، يحلف كل واحد منهما على ما ادعاه، فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا، قسم ما اقتضى بين المالين كما ذكر، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف. ووجه ذلك، أنه لم ير واحدا منهما أشبه بالدعوى فوجب إلا يبدأ أحدهما على صاحبه باليمين، وهذا مثل ما في كتاب الكفالة من المدونة في الجعل، أحدهما من قرض، والآخر من كفالة، ومثل ما في كتاب الرهون منها في الحقين يكون في أحدهما رهن دون الآخر. وقد قيل: إن القول قول القابض مع يمينه، وهو قول غير ابن القاسم في كتاب الكفالة من المدونة وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس. وقيل: إن القول قول الدافع مع يمينه، وهو قول ابن كنانة ورواية محمد بن صدقة بن حبيب عن مالك، وكذلك لو اختلفا عند القضاء، في أي الحقين يبدأ بالقضاء؟ لجرى الأمر فيه عندي على هذا الاختلاف، إلا أنه لا يمين في شيء من ذلك. وقد فرق في سماع أبي زيد، من كتاب المديان والتفليس، بين اختلافهما عند القضاء، وبعد القضاء، على اختلاف وقع في ذلك في الرواية، فانظر ذلك، وأنعم النظر فيه. وبالله التوفيق.(11/27)
[مسألة: الغلام أو الدار المرهونة توضع على يد رجل أيكريها]
مسألة وسألت مالكا عن الرهن: الدار، أو الغلام يؤاجره، أو يكري الدار الذي وضع على يديه الرهن، أم المرتهن، أم صاحب الدار، أو الغلام؟ قال ليس لصاحب الدار أن يكريها، ولا يؤاجر غلامه، والمرتهن أولى بإكرائها من الذي وضعت على يديه ومن صاحبها، وكيف حيازة الرهن أن يكري المرتهن الدار أو الغلام، أو الذي وضعت على يديه؟ وإلا لم تعرف له حيازة حتى يرى يكريها ويرهنه ديون أخرى، فلا أرى لصاحبها أن يكريها، والحيازة أن يكريها المرتهن، أو الذي وضعت على يديه، إلا أنهم يجمعون له الغلة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، لا اختلاف فيها ولا إشكال في شيء من معانيها، فلا وجه للقول فيها. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن رهنا ووضعه على يدي رجل واشترط أنه حميل بما نقص]
مسألة وسئل مالك عن رجل رهن رهنا ووضعه على يدي رجل، فاشترط الذي وضع على يديه أنه حميل بما نقص رهنه، فحل الحق، فأمره السلطان أن يبيع الدار في حقه، فبيعت فنقص من حقها وأمره أن توقف بعد البيع شهرين، يطلب بها الزيادة، فقال صاحب الحق للذي تحمل له يما نقص من الرهن: قد بيعت الدار، وليس فيها وفاء، فاقضني ما نقص، وقال الحميل: قد ضرب لي أجل شهرين لطلب الزيادة في الدار، فإن وجدت الزيادة وإلا غرمت إليك، وأبى صاحب الحق. قال: أرى ذلك للذي وضع الرهن على يديه الذي تحمل بما نقص من الرهن أن يؤخر عنه ذلك الشهرين الذين ضرب السلطان.(11/28)
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الروايات، وهي مسألة ضعيفة؛ لأنه ضمن الحميل ما تقص عن حقه. وهو إنما ضمن ما نقص من رهنه.
وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في أول رسم من السماع فلا معنى لإعادته. وستأتي هذه المسألة في نوازل أصبغ بزيادة معنى سنتكلم عليه إذا مررنا به - إن شاء الله - وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن رجلا جارية إلى أجل وهو معسر فأيسر صاحب الجارية]
مسألة وسئل مالك عن رجل رهن رجلا جارية إلى أجل، وهو معسر، فأيسر صاحب الجارية، فقال لصاحب دينه: أنا أعطيك رهنا من هذه الجارية: أصلا أو دارا أو ما أشبهه، وادفع إلي الجارية، فإني أريد أن أبيعها، فإنها ليست لي بموافقة، فقال: ليس ذلك إلا برضى صاحب الحق. قيل له: فإنه باعها. قال: إن كان باعها رأيت أن يعطى المرتهن الثمن في حقه، حل الأجل أو لم يحل، ويمضي عليه البيع.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ليس للراهن أن يعوض المرتهن من الرهن الذي رهنه إياه برهن آخر إلا بإذنه ورضاه، بين صحيح لا إشكال فيه؛ لأنه قد تعين له حق في عينه، فهو يقول: لا يخرج من يدي بعوض سواه، وإن كانت قيمته أكثر؛ لأني أخشى أن يستحق العوض من يدي وأنا أعني في بيعه إن كان أصلا لا يباع إلا بعد التقصي في طلب الزيادة فيه. وقوله: إن الراهن إذا باع الرهن يريد بغير إذن المرتهن يعطي المرتهن الثمن في حقه، حل الأجل أو لم يحل، ويمضي عليه البيع، نص في أنه لا خيار له في أن يفسخ البيع، ومعناه: إذا باعه بمثل حقه فأكثر؛ إذ لا منفعة له في نقص البيع، بل فيه ضرر عليه وعلى الراهن، وأما إن باعه بأقل من حقه،(11/29)
فله أن ينقض البيع، ويبقى له رهنا بحاله؛ لأنه يقول: أنا أرجو أن ترتفع أسواقه إلى وقت بيعه عند حلول الأجل، أو ينمو إلى ذلك إن كان حيوانا، وأما ما وقع في المدونة من قوله: إن البيع لا يجوز إلا أن يجيزه المرتهن، معناه. إذا باعه بأقل من حقه، أو كان الدين عرضا؛ إذ لا يلزمه قبض العرض قبل حلوله، إلا أن يكون ... ولو كان الرهن عينا، فباع الراهن الرهن بعرض، لكان المرتهن بالخيار، بين أن يرد البيع أو يجيزه، فيوقف له العرض رهنا إلى حلول الأجل، فليس ما في المدونة بخلاف لهذه الرواية على ما تأولناه فيهما وذهب أشهب إلى أن بيع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن إذا لم يجز بيعه بمنزلة عتقه، يعجل للمرتهن حقه من ثمن الرهن إن كان فيه وفاء أو من مال الراهن إن لم يكن فيه وفاء، ويمضي البيع، ولا يكون للمرتهن خيار في رده إذا تمسك به أحد المتبايعين، وإن لم يكن في ثمنه وفاء بحقه، إذا كان للراهن مال يفي بما نقص من حقه، وإن أجاز بيعه بقي دينه إلى أجله، ووقف له الثمن رهنا إلا أن يأتي الراهن برهن ثقة يشبه الرهن الذي باع. وذهب سحنون إلى أنه إن لم يأت برهن يشبه الرهن الذي باع، عجل له الثمن، إذ لا فائدة في توقيفه، وهو ظاهر ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة في مسألة النصراني يرهن عبده بعد أن يسلم؛ لأنه قال فيها: يباع فيقضي الغريم دينه، إلا أن يأتي برهن ثقة، وكذلك روى ابن وهب والحكم عن مالك، أنه يعجل الثمن إذا لم يأت برهن، خلاف قوله في كتاب الرهون من المدونة. قاله فيها في الراهن يبيع الرهن بإذن المرتهن، فقال: لم آذن له في بيعه ليأخذ الثمن، لا فرق بين أن يبيعه بإذنه أو بغير إذنه، فيجيز البيع، وبالله التوفيق.(11/30)
[دفع إلى رجل رهنا ثم قضاه ثم جاء صاحب الدين بعد ذلك يدعي أنه أعطاه الرهن]
ومن كتاب الشريكين يكون لهما مال قال: وقال مالك في رجل دفع إلى رجل رهنا ثم إنه قضاه، ودفع إليه رهنه، ثم جاء صاحب الدين بعد ذلك، يدعي أنه أعطاه الرهن، وأنه لم يوفه حقه كله، وقد أعطاه بعضه. قال مالك: أرى أن يحلف الراهن، ويسقط عنه ما ادعاه عليه الذي أسلفه.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو أنكر المرتهن أن يكون قبض منه شيئا من حقه، وقال: دفعت إليه الرهن على أن يأتيني بحقه، فلم يفعل، لكان القول قول الراهن على هذه الرواية، خلاف ما في نوازل سحنون بعد هذا من أن القول قول المرتهن إذا كان قيامه عليه بالقرب، ولا اختلاف بينهم إذا طال الأمر، إن القول قول الراهن، إذ لا فرق بين اختلافهما في جميع الحق أو في بعضه، ولكلا القولين وجه، والاختلاف في هذا جار عندي على اختلاف قول مالك في المتبايعين يختلفان في الثمن بعد قبض السلعة، فقول مالك هذا على قياس رواية ابن وهب عن مالك: إن القول قول المشتري في الثمن إذا قبض السلعة، وهذا القول أظهر؛ لأن القبض باب من الأيمان. قال الله عز وجل: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وقول سحنون في نوازله على قياس رواية ابن القاسم عن مالك إنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإن قبض المشتري السلعة، وهو على خلاف أصله في نوازله من كتاب جامع البيوع، لاختياره فيها رواية ابن وهب، على رواية ابن القاسم. وقد روى ابن القاسم عنه الروايتين جميعا. ولو لم يقر المرتهن بدفع الرهن إلى الراهن، وادعى أنه تلف له، فسقط إليه، لكان القول قوله قولا واحدا إذا كان قيامه عليه بالقرب. وقد مضى في أول رسم من سماع ابن(11/31)
القاسم من كتاب المديان، بيان هذا مع نظائر لها هناك. وبالله التوفيق.
[مسألة: تسلف من امرأته سلفا ورهنها جارية كانت تخدمها]
مسألة وقال مالك في رجل تسلف من امرأته سلفا ورهنها جارية كانت تخدمها، هل يكون ذلك حيازة للرهن أو قبضا له؟ قال: أحب إلي أن لو جعلها بين غيرها.
قال محمد بن رشد: قوله: أحب إلي أن لو جعلها بين غيرها، تضعيف منه لحيازتها إياها عنه، لكونها معه في منزل واحد، وهو نحو ما يأتي في سماع أصبغ من هذا الكتاب، خلاف قول ابن وهب في سماع زونان وخلاف قول سحنون في آخر سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وكذلك اختلف أيضا إذا تصدق عليها بها أو وهبها وهي معها تخدمها، هل تصح حيازتها لها عنه أم لا؟ على قولين فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك جائز في الرهن والصدقة، وهو قول سحنون في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه إذا رأى الحيازة عاملة في الرهن، فأحرى أن يراها عاملة في الصدقة. والثاني أن ذلك غير جائز فيهما جميعا وهو قول مالك في هذه الرواية، وقوله في سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه إذا ضعف الحيازة في الصدقة، فأحرى أن يضعفها في الرهن. والثالث الفرق بين الصدقة، والرهن، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا من هذا الكتاب، وكذلك لو تصدقت هي بالخادم التي تخدمها على زوجها، أو رهنته إياها، بدليل ما وقع في سماع أشهب، من كتاب الصدقات والهبات، من استدلاله بهبتها له، على هبته لها؛ لأن أيديهما جميعا على الخادم، فمرة غلب يده، ومرة غلب يدها، والأظهر أن تغلب يده، فيفرق بين أن يكون هو الذي وهبها أو رهنها، أو تكون هي التي وهبتها ورهنته لأن يده أقوى من يدها، بدليل أنه يختلف قول مالك وابن القاسم، في أن القول قول الزوج إذا اختلفا في متاع البيت، وهو مما يكون(11/32)
للرجال والنساء. وقد قيل: إنه لا يد لها مع الزوج، والقول قوله إذا اختلفا في متاع البيت، وإن كان ذلك من متاع النساء. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن في حقه مصفحا أو كتبا ثم احتاج أن يقرأ فيها]
مسألة وقال مالك في رجل ارتهن في حقه مصفحا أو كتبا فيها علم، أو سلاحا، ثم احتاج أن يقرأ في المصحف أو الكتاب، أو نزل به عدو، فاحتاج إلى السلاح، فقال: لا ينتفع بشيء من الرهن.
قال الإمام القاضي هذه الرواية تدل على جواز بيع كتب العلم، خلاف ما في المدونة من أنه كره بيعها، إذ لا يصح أن يرهن ما لا يجوز بيعه بحال، وهو قد أجاز رهنها، إذ لم يمنع إلا من الانتفاع بها بعد رهنها. وقوله: ثم احتاج أن يقرأ في المصحف أو في الكتب، أو يقاتل بالسلاح، ثم احتاج الراهن إلى ذلك، فقال: إنه لا ينتفع بشيء من الرهن، ولم يبين إن فعل، هل يبطل الرهن بذلك أم لا؟ وفي هذا تفصيل. أما المصحف والكتب، فإن قرأ فيها عند المرتهن دون أن يخرجها من يده، فلا يبطل الرهن فيها بذلك أذن فيها المرتهن أو لم يأذن، إلا أن يكون رهنه إياها على ذلك، وأما إن أخذها من عنده، فقرأ فيها عند نفسه، فإن كان بغير إذن المرتهن لم يبطل الرهن بذلك، وإن كان بإذنه كان ذلك حكم المرتهن لغير الرهن إن قام عليه الغرماء قبل أن يرده كان إسوة الغرماء.
واختلف هل من حقه أن يرده إليه رهنا كما كان أم لا؟ فقيل: ذلك من حقه، وهو قول أشهب في كتبه، وقيل: ليس ذلك من حقه، إلا أن يكون أعاره على ذلك، وهو قول ابن القاسم في المدونة في رسم العتق من سماع عيسى بعد هذا. وقول أشهب(11/33)
أظهر؛ لأن من حكم العارية أن ترجع إلى المعير بعد انقضاء أمد العارية إن كان لها أمد، أو بعد أن يمضي من المدة ما يرى أنه أعارها إليه إن لم يكن لها أمد، فإذا رجعت إليه على مذهب أشهب الذي يوجب صرفها إليه، كانت رهنا على حالها الأول.
واختلف إن ردها إليه باختياره على القول بأنه لا يجب عليه ردها، هل يكون رهنا أم لا؟ على قولين: أحدهما أنها لا تكون رهنا، وهو قول مالك في رسم العتق بعد هذا من سماع عيسى. والثاني ألا تكون رهنا على حالها الأول، وهو قول ابن القاسم فيه. والاختلاف في هذا يرجع إلى اختلافهم في الرهن، هل تفتقر صحته إلى التصريح به أم لا؟ فيفتقر إليه على قول مالك هذا. وقول ابن القاسم في المدونة: إن المرتهن لا يكون أحق بما أنفق على الرهن من الغرماء، وإن قال له الراهن: أنفق على أن نفقتك في الرهن حتى يقول له: أنفق على أن نفقتك الرهن بها أيضا، ولا تفتقر إليه على قول ابن القاسم ها هنا وقد مضى القول على هذا المعنى في أول سماع أبي زيد، من كتاب المديان والتفليس وحكم السلاح يقاتل به إلى الراهن حكم الكتب، يقرأ فيها عند نفسه على ما ذكرناه.
وأما انتفاع المرتهن بالرهن فلا يجوز بغير إذن الراهن، ويجوز بإذنه إذا كان ذلك شرطا في أصل البيع في الدور والأرضين باتفاق. وفي الحيوان والثياب على اختلاف، ولا يجوز ذلك بعد عقد البيع ولا في السلف بحال.
وهذا كله منصوص عليه في المدونة وبالله التوفيق.(11/34)
[رجل أوصى عند موته أن متاعا كذا وكذا لفلان عندي ولم يسم الثمن]
ومن كتاب صلى نهارا وسئل عن رجل أوصى عند موته أن متاعا كذا وكذا لفلان عندي ولم يسم الثمن الذي رهنه به عنده، فسئل صاحب المتاع فقال: صدق، متاعي عنده رهن بكذا وكذا عشرة دنانير، وقد قضيته خمسة دنانير من ذلك، فقال مالك الرهن: يسوى ذلك، قال: نعم، الرهن يسوى أكثر من ذلك. قال: لا يصدق فيما قال: إني دفعت إليه، ولكن يأخذه حتى يدفع إليه العشرة دنانير، ثم قال: أرأيت لو قال قضيته إياها أكان يصدق؟ إنما كانت على الميت يمين. وقد ذهب، وسقطت عنه اليمين حين مات، قيل له: أيحلف الورثة أن أباهم لم يقبض الخمسة؟ قال مالك: إن كان فيهم من يتهم أنه يعلم ذلك أحلف.
قال محمد بن رشد: سؤال مالك في هذه المسألة السائل، هل يسوى الرهن ما زعم الراهن أنه رهنه به أم لا؟ لا تأثير له في حكم المسألة؛ لأنه قد أقر أنه رهنه بعشرة، فسواء كان الرهن يساوي عشرة أو لا يساويها لا يصدق فيما زعم أنه قضاه منها.
وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في أول رسم شك في طوافه الثاني قبل هذا فلا معنى لإعادته. وقوله: إن كان فيهم من يتهم أنه يعلم ذلك أحلف, هذا على القول بلحوق يمين التهمة دون تحقيق الدعوى. والقولان قائمان من المدونة من كتاب النكاح والغرر والسرقة. وبالله التوفيق.
[مسألة: يهلك وعنده رهن لرجل فيقول صاحب الرهن هو رهن في دينار]
مسألة قال سحنون: وسألت أشهب عن رجل يهلك، وعنده رهن لرجل، فيقول صاحب الرهن: إنما هو رهن في دينار، وقيمته(11/35)
عشرة دنانير. قال: إن لم يكن أحد يدعي فيه شيئا ولا يعرف إلا بقول الراهن أحلف وأخذ رهنه، فقلت له: فإن كان في عشرة دنانير، وقد قبضت خمسة وبقيت خمسة، قال: أراه ضامنا لعشرة، وأرى على الورثة إن كان فيهم أحد بالغ يرى أن مثله يعلم ما قال الراهن، فاليمين عليه أنه لا يعلم أن أباه اقتضى شيئا، وأما من كان غائبا أو صغيرا فلا يمين عليهم.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة والتي قبلها سواء. وقد مضى القول فيهما وبالله التوفيق. اللهم لطفك.
[ترك رهنا رأسا وهلك ولم يكن مال يكفن فيه]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وفي رجل ترك رهنا رأسا وهلك، ولم يكن مال يكفن فيه هل ترى أن يؤخذ من ثمن الغلام ما يكفن به، أم الرهن أولى؟ قال: أرى أولى من الكفن.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس، ومن كتاب الجنائز. ومضى القول عليها في كتاب الجنائز، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[ارتهن بدين له على رجل عبدا له بعينه ووضعه على يدي ابنه]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الأقضية
قال سحنون: قال لي ابن نافع وأشهب: سئل مالك عمن(11/36)
ارتهن بدين له على رجل عبدا له بعينه ووضعه على يدي ابنه وضمن له ابنه دينه، والابن مع أبيه في منزله، فوثب علي الغرماء يريدون محاصتي، فقال له: رهنك ضعيف، وابنه معه في المنزل، والعبد يخدمه، فهم يقولون: لم تحز رهنك، فإن كان ابنه الذي تحمل لك هذا ليس مولى عليه، فهو ضامن لما خس من حقك، إن دخل عليه الغرماء في العبد فذلك لك عليه، وإنما تكتب الحمالات في الرهون مخافة مثل هذا، فأنا أرى ذلك عليه إن لم يكن مولى عليه، فقال له: إن الابن يقول: إنما تحملت لك، وبيدي العبد، فهذا العبد أنا أدفعه إليك وأسلمه بيدك، فقال مالك: ليس ذلك له، وهو لما خس من حقك ضامن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أن الابن ضامن لما نقص من حقه إذا دخل عليه الغرماء في الرهن، من أجل أنه ضمن دينه وفرط في الرهن إذا لم يجزه عن أبيه الراهن له. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن الأمة الحامل]
مسألة وسئل عن الأمة الحامل ترهن، أيجوز أن يشترط، فيقول: ليس ولدها معها في الرهن؟ قال: لا يجوز ذلك لأحد.
قال محمد بن رشد؛ رأيت لبعض أهل النظر، أنه قال: إنما لم يجز أن يستثنى الولد في الرهن؛ لأنه لا يجوز أن يستثنى في البيع، وليس ذلك ببين؛ لأن الأمة الحامل، إنما لم يجز له أن يستثني جنينها لأنه يصير مشتريا للجنين بما وضع من ثمن الأم، فكأنه باع الأمة بالثمن الذي سما فيها وبالجنين الذي اشترطه، فصار بائعا للأمة، مبتاعا للجنين في صفقة واحدة، وهذا بين على القول بأن المستثنى مشترى، وأما على القول بأنه مبقى على(11/37)
ملك البائع، فلا علة في ذلك تفسره، وعلى هذا أجازه من أجازه من أهل العلم.
وهذا لا يدخل. في الرهن؛ لأن الأمة وجنينها باقيان على ملكه، وإن رهن أحدهما دون الآخر؛ لأنه لما لم يجز أن يرهن الجنين دون أمه ابتاعها على غير قياس، لم يجز أن ترهن الأم دون الجنين استحسانا أيضا دون قياس. فهذا وجه المنع من رهن الأمة دون جنينها. ولقد كان القياس أن يجوز رهن كل واحد منهما دون الآخر قياسا على جواز رهن الثمرة التي لم تؤبر دون الأصل، ورهن الأصل دونها، وإن كان ذلك لا يجوز في البيع؛ لأنه غرر، فلا يدخل على التحقيق في رهن الأمة دون جنينها، إلا ما يدخل في رهن الأمة لها الولد الصغير، دون ولدها عند من كره ذلك، فينبغي أن يدخل في رهن الأمة دون جنينها الذي في بطنها، ذلك الاختلاف. وقد مضى تحصيله في رسم شك في طوافه الثاني فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: له عليه دين وارتهن منه حائطا له وأحلف بالطلاق ليوفينه الثمن إلى أجل]
مسألة وسئل عمن له على رجل دين، وارتهن منه حائطا له، وأحلف بالطلاق ليوفينه الثمن إلى أجل سماه له، فلما دنا الأجل وخاف الحنث، باعه تلك النخل التي ارتهنه إياها بذلك الدين، ثم قال له: إنما بعته حين خفت الحنث، وأنا أظنه سيرد علي مالي وأقضيه حقه، وقال المشتري: ابتعت منك بالشهود والبينة، فقال مالك: أرأيت هذا الذي يطلب رد هذا الحائط عليه، أطيب النفس بالحنث؟ فقيل له: نعم، فقال: إن كان هذا المال مالا رابحا كثير الفضل على ما باعه إياه، لا يشبه تغابن الناس في البيوع، فأرى أن يرد عليه ماله الذي باع، ويقضيه دينه، ويقع عليه الحنث.
قال الإمام القاضي: اعترض ابن دحون هذه المسألة فقال فيها:(11/38)
إنها مسألة ضعيفة، كيف يفسخ البيع للغبن، وذلك جائز بين كل متبايعين، إلا من خصته السنة بالرد؟ لو اشترى رجل من غير مولى عليه ما يساوي مائة درهم بدرهم، لزم ذلك ولم يفسخ، ولم يختلف في ذلك. وقد مضى القول في توجيهها وما يتعلق بها في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي وترك رهونا لا يعرف أصحابها ولا يدرى كم فيها]
مسألة وسئل عمن توفي وترك رهونا لا يعرف أصحابها، ولا يدرى كم فيها؟ ولذلك زمان، قال: أرى أن تباع هذه الرهون، ثم يحبس ثمنها سنة أو نحوها ينتظر الخبر، وأن يعرف أصحابها، قيل له: سنة، قال: ليس في ذلك وقت ينتظر فيهم إلا قدر ما يرى، فإن لم يأت لها طالب يستحقها، قبضها الغرماء في حقوقهم، فإن جاء بعد ذلك طالب يستحق شيئا رجع على الغرماء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة؛ لأن المعنى فيها أنه قد علم أنها رهون ببينة أو بإقرار الورثة بذلك، وإنما يباع ويوقف أثمانها إذا كان لذلك وجه، مثل أن يخشى الفساد عليها وما أشبه ذلك، وأما إن لم يخش الفساد عليها، فتوقيفها أولى من توقيف أثمانها، إذ قد يحتاج إلى الشهادة على أعيانها، ويريد من استحق منها شيئا متاعه بعينه، وإذا بيعت ووقفت أثمانها فتكتب صفاتها، فإن جاء من يدعي شيئا منها فعجزعن إقامة البينة عليه ووصفه، استحقه بيمينه على الصفة، فأخذه وودى ما أقر أنه رهنه به مع يمينه على ذلك أيضا. وبالله التوفيق.
[مسألة: غريم لم يكن فيمن علم به الابن من غرماء أبيه وكان الابن قد دفع إليه مال أبيه]
مسألة قيل له: أرأيت إن جاء غريم لم يكن فيمن علم به الابن من غرماء أبيه، وكان الابن قد دفع إليه مال أبيه، وتحمل بما على أبيه(11/39)
من دين أيغرمه له الابن؟ فإنه يقول: لم أعلم أن هذا عليه، وإنما تحملت بما علمت، قال مالك: إن جاء غريم لم يكن الابن علم به، فإن الغريم يأخذ ماله على أبيه من ابنه؛ لأنه قد رضي بذلك.
قال الإمام القاضي هذه مسألة مقطوعة، وأصلها في رسم البيوع من سماع أشهب من كتاب المديان والتفليس، وفي رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم منه. وقد غمزت إن كانت التركة عينا والدين عينا، فقيل كيف يجوز للابن أن يسلم إليه عينا ليؤدي عينا أكثر منه إلى وقت، أو يؤدي ذهبا وقد أخذ فضة، أو فضة وقد أخذ ذهبا؟ وقد بينا هذه المسألة في الموضعين المذكورين من كتاب المديان بيانا شافيا، وبينا منه قول مالك فيها بيانا لائحا، ينفي اعتراض المعترض عليه فيها. وبالله التوفيق.
[ارتهن حائطا فأصابت الريح نخلا فطرحتها فأراد صاحب الأصل بيع الخشب]
ومن كتاب الأقضية الثاني قال وسئل عمن ارتهن أصل حائط، فأصابت الريح نخلا فطرحتها، فأراد صاحب الأصل أن يبيع الخشب، فمنعه صاحب الرهن، وقال: هي من رهني، فقال: ذلك له، وقد صدق فأرى أن تباع ويوضع الثمن على يدي عدل حتى يحل حقه فيقضيه؛ لأن من الخشب ما إن ترك فسد. قلت: أرأيت إن كان خشبا لا يفسد إلى حلول الأجل؟ قال: إن كان من الخشب ما إن ترك فسد.
قلت: أرأيت أن يترك ولا يباع حتى يحل الحق، إلا أن يجتمع رأي صاحب المال وصاحب الأصل جميعا على البيع، فيباع ويوضع الثمن على يدي عدل إلى الأجل، فإن لم يجتمع رأيهما(11/40)
على ذلك، ترك دينا ولم يبع حتى يحل الأجل.
قال الإمام القاضي: قوله: إن القول قول المرتهن في أن النخل من الرهن، وقد صدق، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن النخل تبع للأصل في الرهن، بمنزلة البيع، إذا باعه الأصل دخل فيه النخل، كذا قال في المدونة: إن النخل تبع للأصل والأصل تبع للنخل، وكذلك قوله: إنه يباع إذا خشي عليه الفساد صحيح، لا اختلاف فيه؛ لأن تركه حتى يفسد، من إضاعة المال المنهي عنه، فمن دعا إلى ذلك منهما، كان ذلك له، بخلاف إذا لم يخش عليه الفساد، لا يباع إلا أن يجتمع رأيهما على ذلك، بخلاف المتقارضين يختلفان في بيع سلع القراض. إن الإمام ينظر في ذلك، وإنما قال: إن الثمن يوضع على يدي عدل، وإن كان الأصل بيد المرتهن؛ لأن من حق الراهن أن يقول: أنا لا أئتمنه على الثمن، وإن كنت أئتمنته على الأصل، ولا يدخل في هذا الاختلاف الذي يدخل في الرهن إذا أراد المرتهن أن يكون في يديه وأبى ذلك الراهن، على ما يأتي القول قيه في رسم الصلاة من سماع يحيى. وأما قوله: إنه يكون على يدي العدل حتى يحل الأجل، فمعناه إلا أن يأتي الراهن برهن مثله، فيكون من حقه أن يأخذ الثمن، فإن لم يأت برهن مثله ففي ذلك اختلاف. قيل: إن الثمن يوقف إلى الأجل، وهو قوله ها هنا، وقوله في المدونة في الرهن يبيعه الراهن بإذن المرتهن، إذ لا فرق بين أن يبيعه بإذنه، أو يبيعه بوجه نظر، يحكم له به عليه وقيل: إنه يعجل له حقه، إذ لا فائدة في تأخيره، وهو قول سحنون. ودليل ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة وقول مالك في رسم الأقضية الثالث بعد(11/41)
هذا من هذا السماع، وقول أشهب في سماع أصبغ من كتاب الخدمة، وأما إن باعه بغير إذنه، فلا اختلاف في أنه يعجل له حقه إذا كان فيه وفاء، واختلف إذا لم يكن فيه وفاء، فقيل إنه يعجل له بقية حقه من ماله، بمنزلة العتق، وهو قول أشهب، وقيل: إنه لا يقضي بقية حقه حتى يحل الأجل.
وقد مضى هذا المعنى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[الأمة ترهن ولها ولد صغير بغير ولدها]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل عن الأمة ترهن، ولها ولد صغير، بغير ولدها، أجائز هو؟ قال: نعم ذلك الرهن جائز، وقد ترهن الوليدة ولها أولاد صغار يبيعونه فيكون الرهن جائزا، فإذا بيعت الوليدة في الرهن، بيع معها ولدها، فكان له في رهنه ثمن الوليدة، ولم يكن له ثمن أولادها في الرهن، إلا أن يفضل فضل عن ثمن الوليدة، فيكون أسوة الغرماء في ثمنهم. قيل له: ترى الرهن ماضيا. وإذا بيعت الأم بيع أولادها معها، فقال: نعم إلا أن يشتريها سيد ولدها، قلت له: إنما فلس، قال: تباع بولدها، ثم يكون ثمنها للمرتهن في حقه.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك في هذه الرواية أن يرهن الرجل الرجل أمته، ولها ولد صغير، يريد ويكون الولد معها في حوز المرتهن، وكره ذلك في سماع يحيى. وقد مضى القول على ذلك في آخر رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، إذ لا فرق بين الولد دون الأم أو الأم دون(11/42)
الولد. وقوله في آخر المسألة إلا أن يشتريها سيد ولدها، لا يستقيم على المسألة التي ذكر، وهو أن تكون الأمة وولدها للراهن الذي عليه الدين، بدليل قوله فيها: إلا أن يفضل فضل عن ثمن الوليدة، فيكون أسوة الغرماء في ثمنهم؛ لأنها لم تخرج عن ملكه والدين عليه، وكيف يشتريها؟ وإنما يبيعها مع ولدها فيما عليه من الدين، أو تباع عليه مع ولدها في التفليس، فيكون أحق من الغرماء بما ناب الأم، فإن فضل من دينه فضل عما ناب الأم، كان أسوة الغرماء فيما ناب الولد. وإنما يستقيم على وجهين: أحدهما أن تكون الأمة وولدها لغير الذي عليه الدين، فيرهن الأم منها دون الولد، عند الذي له الدين، عن الذي عليه الدين؛ لأن الحكم في ذلك إذا حل الأجل أن تباع الجارية مع ولدها، فيكون للمرتهن ما ناب الأم من الثمن، وللراهن ما ناب الولد منه إلا أن يشاء أن يأخذها بما ينوبها مما يعطى فيها مع ولدها، فيكون ذلك له، وتبقى الجارية على ملكه مع ولدها، ويدفع ما ناب الأم من الثمن إلى المرتهن، ويتبع به الذي عليه الدين والوجه الثاني، أن يكون الولد لغير الراهن الذي عليه بهبة أو صدقة، مثل أن يكون لرجل فيهب أحدهما لرجل، أو يهب الأم لرجل، والولد لآخر؛ لأن الحكم في ذلك أن يقرا على ما هما عليه من افتراق الملك، ويقضى عليهما بأن يجمعا بينهما في حوز واحد، فإن رهن صاحب الأمة الأمة فيما عليه من الدين، جاز ذلك، وحاز المرتهن الأمة مع ولدها إن رضي بذلك سيد الولد، وإن لم يرض بذلك كانت الأم عنده مع ولدها، فكان من ذلك حائزا للمرتهن، فإذا حل الأجل بيعت الجارية مع ولدها من رجل واحد، فكان ما ناب الأم للمرتهن، وما ناب الولد لصاحبه، إلا أن يشتري الأم سيد الولد على ما قال، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يبيع جاريته من جار معه في الدار ولها ولد صغير]
مسألة قيل له: أفرأيت الرجل يبيع جاريته من جار معه في الدار، ولها ولد صغير، يختلف إليها، ويكون معها؟ قال: لا أرى ذلك،(11/43)
لا أرى أن يباعا إلا جميعا في واحد، إن ذلك الجار قد ينتقل ويموت، فتباع الجارية، فلا أرى أن يباعا إلا جميعا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يجوز أن يبيع الرجل أمته دون ولدها الصغير، من جار معه في بيت واحد، صحيح على أصله، في أنه لا يجوز في البيع أن يجمع بينهما في حوز واحد، بخلاف الهبة والصدقة، فإنه أجاز فيهما الجمع في حوز واحد. هذا مذهبه في المدونة. وقوله في المسألة التي قبل هذه: والقياس ألا فرق بينهما؛ لأن العلة التي اعتل بها في البيع، من أن ذلك الجار ينتقل ويموت، موجودة في الهبة والصدقة، ووجه التفرقة بينهما على ضعفها، أن البيع على سبيل المكايسة، ويمكن رده، والهبة والصدقه على سبيل المعروف، ولا يمكن رده، فاستخف في الهبة والصدقة من الجمع في حوز واحد لهذه العلة، ما لم يستحف في البيع. وقال ها هنا في بيع الأم دون ولدها الصغير: لا أرى ذلك، ولم يقل ما يكون الحكم فيه إذا وقع. وقد اختلف في ذلك على قولين: أحدهما أنه بيع فاسد، لمطابقة النهي، والثاني أنه ليس ببيع فاسد، لإمكان زوال المعنى الذي من أجله منع منه، كاشتراء النصراني مصحفا أو مسلما. واختلف على القول بأنه بيع فاسد إذا فات، فقيل: إنه يمضي بالثمن، وقيل: إنه يرد إلى القيمة ويباع عليهما جميعا من رجل واحد مضى بالثمن أو رد إلى القيمة. واختلف أيضا على القول بأنه ليس ببيع فاسد، فقيل: إنهما يؤمران أن يجمعا بينهما في ملك أحدهما، فإن أبيا رد البيع، وقيل: إنهما يؤمران بذلك، فإن أبيا بيع عليهما، ولم يرد البيع، وقيل: إنهما يؤمران أن يجمعا بينهما في ملك أحدهما، أو يبيعاهما من رجل واحد، فإن أبيا من ذلك رد البيع، فالقول الأول على قياس المنع من جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ لأنه على هذا القول إذا أبيا أن يبيع أحدهما من صاحبه، لم يكن بد من رد البيع، وإن لم يكن فاسدا. والقول الثاني على قياس إجازة جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ لأنه إذا أمكن أن يجمع بينهما في ملك واحد، بأن يباعا عليهما من(11/44)
رجل واحد، لم يرد البيع، إذ ليس ببيع فاسد، ووجه القول الثالث أنه رأى رد البيع أيسر من جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، فحكم بذلك إذا أبيا من الجمع بينهما على حال. وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع من رجل بيعا بدنانير إلى ستة أشهر ورهنه بذلك رهنا]
مسألة وسئل عن رجل ابتاع من رجل بيعا بدنانير إلى ستة أشهر، ورهنه بذلك رهنا قبضه، وحازه، ثم ابتاع بعد ذلك بأيام من رجل آخر بيعا بدنانير إلى أجل شهر، ورهنه، فضل ذلك الرهن الذي رهنه الأول، وقال له: فلان مبدأ عليك في الرهن، ثم ما فضل لك رهن بحقك، فحل أجل المرتهن الآخر قبل الأول المبدإ عليه في الرهن، فقال مالك: ألم يعلم المرتهن الآخر أن حق الغريم الأول إلى ستة أشهر؟ فقيل له: لم يعلم أن أجل حق المرتهن الأول إلى ستة أشهر، فقال: أرى أن يباع ويعطى حقه من ثمنه. فقيل له: إذا بيع هذا العبد المرتهن، أيعطى الذي لم يحل حقه جميع حقه، ثم يعطى هذا ما فضل؟ أو يوضع له حقه حتى يحل الأجل، ويعطى المرتهن الآخر ما فضل في حقه؟ فقال بل يعطى صاحب الحق الذي لم يحل حقه كله، أحب إلي، ثم يعطى هذا ما فضل.
قال محمد بن رشد: لم يذكر في هذه الرواية أن المرتهن الأول علم بما فعل الراهن من رهنه فضلة الرهن الذي بيده لغيره، وقال: إن فضلة الرهن تكون له، واعترض ذلك ابن دحون فقال: إن ذلك من قوله خارج عن الأصول، كيف يصح أن تكون له فضلة الرهن ولم يقبضها له المرتهن الأول؟ ولا يلزم عندي هذا الاعتراض؛ لأن المسألة محتملة للتأويل. وقد اختلف فمن رهن رجلا رهنا قبضه وحازه ثم رهن فضلته من آخر، فقيل: إن الفضلة تكون له رهنا وإن لم يعلم المرتهن الأول بذلك، وهو قول أشهب في(11/45)
الواضحة وغيرها، وقول ابن القاسم في المبسوطة، وقيل: إنها لا تكون رهنا له، إلا أن يعلم بذلك المرتهن الأول، ويرضى به، وهو المشهور المعلوم من قول مالك في المدونة وغيرها، وهذا إذا كان الرهن بيد المرتهن الأول، وأما إن كان موضوعا على يدي عدل فالاعتبار في ذلك إنما هو بعلمه بدون علم المرتهن صاحب الحق. ومن مذهب مالك في المدونة أن قبض المحرم قبض للموهوب له وكذلك المودع على مذهبه، وإن لم يعلم خلاف ما في سماع سحنون من كتاب الصدقات والهبات، فالظاهر من مذهب مالك أنه فرق في هذا المعنى بين الرهن والهبة؛ لأن الرهن أقوى في الحيازة. فيأتي في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك حيازة في الرهن والهبة، والثاني أن ذلك ليس بحيازة لا في الرهن ولا في الهبة، والثالث أن ذلك حيازة في الهبة، وليس بحيازة في الرهن. وفائدة هذا الاختلاف، إنما هو إذا قام الغرماء على الراهن، هل يكون المرتهن الثاني أحق بالفضلة من الغرماء أم لا؟ وأما إذا قام المرتهن الأول والثاني على الراهن، ولم يكن له غرماء أو قبل قيام الغرماء، فلا كلام في أن فضلة الرهن تكون له، إذ لا ينازعه فيها أحد، فيتحمل أن يكون إنما تكلم في هذه المسألة على أن المرتهن الثاني، قام يريد قبض فضلة الرهن في حقه الذي حل أو لم يحل بعد حق المرتهن الأول، ولا غرماء على الراهن، فلا يلزم على هذا التأويل اعتراض ابن دحون على المسألة. وقول مالك: ألم يعلم المرتهن الآخر، أن حق الغريم الأول إلى ستة أشهر؟ يدل على أن القصد بالسؤال، إنما هو إلى هل يكون للثاني أن يأخذ فضلة الرهن، إذ قد حل حقه أم لا يكون ذلك له حتى يحل المرتهن الأول فيأخذ حقه؟ إذ هو مبدأ عليه في الرهن، لا إلى هل يكون المرتهن الآخر أحق بالفضلة من الغرماء أم لا؟ ولو كان القصد عنده بالسؤال إلى هذا السائل، هل علم المرتهن الأول بذلك ورضي به أم لا؟ على(11/46)
المعلوم من مذهبه، في أن المرتهن لا يكون حائزا لغيره فضلة الرهن إلا أن يعلم بذلك ويرضى به، ولو علم المرتهن الثاني بأجل المرتهن الأول، لم يبع الرهن له حتى يحل أجله؛ لأنه على ذلك دخل، وقوله: إنه إذا بيع الرهن يعطى الذي لم يحل حقه كله، ولا يوضع له، إلا أن يحل أجله، معناه: إذا لم يأت برهن يشبه الرهن الأول، وهو خلاف ما مضى في رسم الأقضية الثاني من هذا السماع، مثل قول سحنون، وظاهر ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة ويشبه أن يقال في هذه المسألة: إنه يعجل للمرتهن فيها حقه باتفاق، ولا يكون للراهن أن يأتي برهن آخر؛ لأنه أدخل على المرتهن بيع رهنه، فأشبه ذلك إذا باع الرهن بغير إذن المرتهن، وهو الأظهر، وما يبقى من الرهن بعد أن يباع منه بحق الأول مجهول، فيقوم من هذه المسألة جواز رهن الغرر في أصل البيع، وقد اختلف في ذلك، والقولان قائمان من المدونة، يقوم ذلك من اختلاف قول مالك وابن القاسم فيها في المرتهن يشترط في أصل البيع الانتفاع بالرهن، وهو ثياب أو حيوان، وبالله التوفيق:
[مسألة: يرهنه رهنا ويُشهدان على ذلك ثم يأتي الراهن فيزداد منه سرا]
مسألة وسئل عن الرجل يرتهن من الرجل رهنا بعشرة دنانير، ويُشهدان على ذلك شهودا عدولا، ثم يأتي صاحب الرهن إلى المرتهن سرا، فيزداد منه فيه خمسة دنانير، فإذا تقاضاه حقه قال: إنما رهنتك الرهن بعشرة دنانير، وقال الذي في يديه الرهن، بل رهنتنيه بخمسة عشر دينارا، جئتني سرا، فازددت مني فيه خمسة دنانير، فقال مالك: على الذي في يديه الرهن بذلك البينة، وإلا حلف الراهن ما ازداد منه فيه شيئا، وكان القول قوله في الخمسة دنانير التي تداعيا فيها. قيل له: أرأيت الذي يرهن الرجل رهنا بلا بينة، ثم يتداعيان فيه، فيقول الذي في يديه الرهن: ارتهنته بخمسة عشر، ويقول الراهن: بل رهنه بعشرة دنانير؟ قال: فالقول قول(11/47)
الذي في يديه الرهن، ويحلف، ويقبل قوله، وليس هذا مثل الأول الذي سأل عنه الرجل. قلت: أليس إنما يكون في هذا القول قول الذي في يديه الرهن ويحلف إذا كانت قيمة الرهن مما ادعا فيه المرتهن؟ قال لي: إنما يصدق الذي في يديه الرهن في مثل هذا فيما بينه وبين قيمة الرهن، وليس هذا مثل الأول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة مفسرة لجميع المسائل، إنما يكون القول قول المرتهن إلى مبلغ قيمة الرهن على مذهب مالك وأصحابه إلى أن الرهن شاهد لمرتهنه إلى مبلغ قيمته، وخالفه أهل العراق فقالوا: القول قول الراهن؛ لأنه مدعى عليه، والمرتهن مدع، وليس قولهم بصحيح؟ إذ ليس كل مدعى عليه يكون القول قوله، بل قد يكون القول قول المدعي إذا كان له دليل على دعواه، والقرآن دليل لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه. وقد ذكرنا ذلك في غير هذا الكتاب. ومن أهل العلم من قال: إن القول قول المرتهن وإن ادعا أكثر من قيمة الرهن وهو قول شاذ. ففي المسألة ثلاثة أقوال وبالله التوفيق.
[العبد المرتهن يجرح]
من سماع عيسى بن دينار
من ابن القاسم من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم في العبد المرتهن يجرح: إن المرتهن أولى بجرحه حتى يستوفي حقه لأن ذلك نقص من رقبته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن ما يغرمه الجارح ثمن ما نقص منه. وأما ما يغرمه الجارح في الجراح التي(11/48)
لها ديات، ولا ينقص من قيمته شيئا، مثل المأمومة، والمنقلة، والموضحة والجائفة، فهي للسيد، ولا حق للمرتهن فيها، إلا أن ينقص ذلك من قيمته، فيكون له مما أخذ السيد قدر ما نقص من قيمته. وبالله التوفيق. اللهم لطفك.
[الرجل يأمر الرجل أن يرهن له رهنا بدينارين فذهب فرهنه له بخمسة]
ومن كتاب العرية وسألته عن الرجل يأمر الرجل أن يرهن له رهنا بدينارين، فذهب فرهنه له بخمسة، فجاءه صاحب الرهن يطلب رهنه، فقال المرتهن: ارتهنته بخمسة وقال صاحب الرهن: إنما أمرته بدينارين، وقال الرسول: إنما رهنته بدينارين. قال: إن كان لصاحب الرهن بينة إنما أمره بدينارين، غرم دينارين وأخذ رهنه، ولم يكن للمرتهن على الرسول إلا يمينه بالله ما رهنته إلا بدينارين ويبرأ وإن لم تكن له بينة، وإنما هو قوله وقول الرسول. وقال المرتهن: ارتهنته بخمسة دنانير، فالقول قول المرتهن فيما بينه وبين أن يحيط بالرهن مع يمينه، ثم يقال لصاحب الرهن افد رهنك بقيمته أو دعه بما فيه، فإن كان الذي ادعى المرتهن أكثر من ثمن الرهن، أحلف الرسول بالله ما رهنته إلا بدينارين، ثم يبرأ، ولا يكون لصاحب الرهن ولا للمرتهن أن يتبعاه بشيء، قلص: ولم لا(11/49)
يتبع المرتهن الرسول بثلاثة دنانير، إذا أقام صاحب الرهن البينة أنه إنما أمره بدينارين، والرهن يساوي خمسة؟ لم لا يصدق المرتهن فيما بينه وبين أن يحيط بثمن الرهن، فيكون لهذا رهنه يغرم الدينارين، ويرجع المرتهن فيتبع الرسول بثلاثة دنانير، إذا كانت قيمة الرهن خمسة دنانير كما ادعى المرتهن؟ قال: لأن الرسول إنما يدعي أنه رهنه بدينارين فالمرتهن مدع قبله بثلاثة دنانير؛ لأن الرهن الذي كان يصدق عليه فيه قد أخرجه صاحب الرهن من يديه، فكل رهن استحق في يدي المرتهن، فأخرج من يديه، فالقول قول الراهن فيما يزعم أنه رهنه مع يمينه، ألا ترى أن مالكا قال: لو أن رجلا رهن عند رجل عبدا فمات العبد في يديه، وقيمته عشرون دينارا، فقال المرتهن: ارتهنته بعشرة دنانير، وقال الراهن رهنته بدينارين، كان القول قول الراهن مع يمينه إذا مات العبد، ولا يلتفت إلى قيمة العبد يوم مات، ولو أن رجلا مات وفي يديه رهن يوم مات، فقال لورثته: هذا الرهن لفلان، ولم يسم بكم رهنه، ثم مات، كان القول قول الراهن مع يمينه، ولا يلتفت فيه إلى قيمة الرهن، وكل وديعة أو عارية أو شيء من الأشياء رهنه رجل فاستحقه صاحبه في يدي المرتهن، بوجه من الوجوه، حتى أخرجه من يده، فالقول قول الراهن فيما زعم أنه رهنه به مع يمينه، ولا يلتفت إلى الرهن، وإن من قول جميع العراقيين، إن القول قول الراهن في الرهن، وإن كان الرهن قائما في يدي المرتهن لم يستحقه أحد؛ لأنهم يرون أن المرتهن مدع فكيف يرى أيضا أن القول قول المرتهن إذا خرج من يديه؟ فهذا هو الصواب إن شاء الله.
قلت: فإن قال الرسول رهنته بخمسة، وقال المرتهن ارتهنته بخمسة، وقال صاحب الرهن: إنما رهنته بدينارين، قال: إن كان(11/50)
لصاحب الرهن بينة، أنه إنما أمره بدينارين، غرم دينارين، وأخذ رهنه، واتبع المرتهن الرسول بثلاثة دنانير، وإن لم تكن له بينة على ما أمره به وهو مدع أنه أمره بدينارين، وله البينة على أن الرهن له، والرسول يقول: إنما أمرتني بدينارين، ورهنته بخمسة، أحلف أنه لم يأمره إلا بدينارين، ثم غرم قيمة الرهن إن كانت قيمته أدنى من خمسة دنانير، وأخذ رهنه، واتبع المرتهن الرسول بما نقص من الخمسة دنانير، واتبعه صاحب الأصل بما غرم فوق الدينارين التي زعم أنه رهنه بهما، وإن كان قال الرسول: أمرتني بخمسة، وقال الآمر: لم آمرك بدينارين، كان القول قول الرسول مع يمينه، وقيل لهذا: افد رهنك أو دعه. فإن فداه لم يتبع الرسول بقليل ولا كثير، إذا حلف أنه أمره بخمسة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع ابن القاسم، والأصل فيها أن الرهن شاهد لمرتهنه إلى مبلغ قيمته إذا اختلف مع الراهن فيما رهنه به عنده، والرهن قائم بيده، أو بيد من جعلاه على يده، لم يستحق، ولا تلف تلافا لا يلزمه غيره، ولا يخلو اختلافهما من أربعة أحوال: أحدها: أن يدعي المرتهن أكثر من قيمة الرهن، والراهن أقل من قيمة رهنه، والثاني: أن يدعي المرتهن قيمة الرهن فأقل، والراهن أقل من ذلك، والثالث: أن يدعي المرتهن أكثر من قيمة الرهن والراهن قيمة الرهن. والرابع: أن يدعيا جميعا أكثر من قيمة الرهن.
فأما إن ادعى المرتهن أكثر من قيمة الرهن، والراهن أقل من قيمته. مثال ذلك: أن تكون قيمته عشرة، فيدعي، المرتهن أنه ارتهنه بخمسة عشر، ويقول الراهن: بل رهنته إياه بخمسة، فالحكم في ذلك أن يقال للمرتهن: احلف لقد أرهنته بخمسة عشر، فإن حلف على ذلك، قيل للراهن: احلف لقد رهنته إياه بخمسة، فإن حلف على ذلك، فقيل: إنه يلزمه غرم قيمة(11/51)
الرهن، ويأخذ رهنه، وهو ظاهر قول مالك في أول سماع ابن القاسم، وقيل: إنه يكون مخيرا بين أن يفتك رهنه بالعشرة، وبين أن يتركه للمرتهن بما فيه، وهو المشهور من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك؛ لأن الرهن لا يشهد على ما في الذمة، وقيل: إنه يكون مخيرا بين أن يترك الرهن بما فيه أو يفتكه بالخمسة عشر التي حلف عليها المرتهن، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب.
وأما إن ادعى المرتهن قيمة الرهن بأقل، وقال الراهن: بل رهنته إياه بأقل من ذلك. مثال ذلك أن تكون قيمة الرهن عشرة، فيدعي المرتهن أنه ارتهنه بعشرة أو بثمانية، ويقول الراهن: بل رهنته بخمسة، فالحكم في ذلك أن يحلف المرتهن، لقد ارتهنته منه بعشرة أو بثمانية، فإن حلف بذلك لزم الراهن، أداء ذلك إليه على قياس ظاهر قول مالك في أول سماع ابن القاسم، وأما على المشهور من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، من أن الرهن لا يكون شاهدا إلا على نفسه، لا على ما في الذمة، بدليل أنه لو تلف تلفا ظاهرا لم يكن للمرتهن شاهد، فيقال للراهن: إما أن تؤدي للمرتهن ما حلف عليه، وتأخذ رهنك، وإلا فاحلف وابرأ.
وأما إن ادعى كل واحد منهما أكثر من قيمة الرهن، أو ادعى المرتهن أكثر من قيمة الرهن، وادعى الراهن قيمة الرهن، فلا اختلاف في المذهب في أن القول قول الراهن. وبالله - تعالى - التوفيق. اللهم لطفك.
[ارتهن منه رهنا وشرط عليه أن يجعل الرهن على يدي عدل]
ومن كتاب أوصى بوضع نجم من نجومه وسئل عن رجل باع من رجل بيعا، وارتهن منه رهنا وشرط المرتهن على الراهن عند عقده البيع، أنه يجعل الرهن على يدي عدل، ثم زعم المرتهن أن الرهن ضاع عند الذي وضعه على يديه،(11/52)
وصدقه الذي زعم أنه وضعه على يديه، وقال الراهن: لم تضعه على يدي أحد، وإنما هلك عندك، وليس للمرتهن بينة على أنه وضعه على يدي الذي زعم أنه وضعه على يديه، إلا قوله وقول الذي زعم أنه وضعه على يديه. قال ابن القاسم: إن كان الذي زعم أنه وضعه على يديه عدلا، فلا ضمان عليه، ويرجع بجميع حقه على الراهن.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في هذه المسألة بعينها عن ابن القاسم، من رواية أصبغ عنه. وحكى عن أصبغ أنه قال: أراه ضامنا، وإن أقر له الأمين، ولا يبرأ إلا ببينة على دفع ذلك إليه، وإياه اختار ابن حبيب. وقول ابن القاسم عندي أظهر؛ لأنه لما رهنه عنده بشرط أن يجعله عند غيره، لم يحصل في ضمانه، لكونه كالرسول به، فوجب أن يصدق في دفعه إليه إذا أقر بقبضه، وادعى تلفه على أحد قولي ابن القاسم في المودع يؤمر بإيداع الوديعة عند غيره، فيزعم أنه أودعها وتلفت عند المودع، ويقر بذلك المودع، وهو مذهبه في المدونة خلاف ما في كتاب ابن المواز وقوله: إن كان الذي زعم أنه وضعه على يديه عدلا، فلا ضمان عليه صحيح؛ لأنه إنما أذن له أن يدفعه إلى عدل، فإن وضعه على يدي غير عدل لزمه الضمان، وإن قامت البينة على تلفه عنده، فإن ادعى أنه لم يعلم أنه غير عدل، وأنه إنما دفعه إليه وهو يظنه عدلا، صدق في ذلك، إلا أن يكون معلنا بالفسق، مشهورا به عند الناس، وهو قول ابن القاسم في الدمياطية سئل عن رجل قال لرجل ادفع هذه الدنانير إلى ثقة يدفعها إلى أهلي، فدفعها الرجل إلى رجل عنده ثقة فيما يرى، فتلفت، قال: إن قال: إنه كان عند ثقة، لم أر عليه شيئا، ولا ضمان على الموضع على يديه بحال، كان عدلا أو غير عدل وسواء سمى له العدل الذي شرط عليه أن يضعه على يديه، أو لم يسمه له فيما يجب من تصديقه في دفعه إليه، وقد قال ابن دحون: إنه إن سماه له لم يصدق في(11/53)
الدفع إليه إذا ضاع عنده، وإن صدقه، بخلاف إذا لم يسمه له، ولا وجه لتفرقته في ذلك. ووجه قول أصبغ الذي اختاره ابن حبيب، أن المرتهن لما كان ضامنا للرهن الذي قبضه، إذا ادعى تلفه ولم يأت على ذلك ببينة، أشبه من دفع من ذمة إلى أمانة، فأقر القابض وادعى التلف؛ لأن المشهور في هذا أن الدافع ضامن، إلا إن قيم البينة على معاينة الدفع، ويتخرج على قول ابن القاسم في مسألة اللؤلؤ، من كتاب الوكالات من المدونة، إنه مصدق في ذلك مع يمينه وبالله التوفيق.
[ارتهن رهنا وحازه فترة ثم أتى رجل فزعم أنه قد ارتهنه قبله وحازه]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وسئل عن رجل ارتهن رهنا وحازه، فمكث في يديه سنة أو سنتين، ثم أتى رجل، فزعم أنه قد ارتهنه قبله وحازه، وأقام البينة على الرهن والحيازة، وادعى أنه لم يعلم برهن هذا، قال أرى أن يبدأ الأول ويكون لهذا الآخر ما بقي عن الأول دون الغرماء، فقال له صاحب الحق الآخر: إن الرهن كان دارا فباعها القاضي في حقي، فاشتريتها ثم أتى الذي استحقها بالرهن الأول بعد اشترائي إياها، فقلت: إذا استحقها هذا برهنه، فافسخ الاشتراء عني، قال: يمضي الاشتراء عليك، ويبدأ بهذا المرتهن الأول، ويكون لك ما فضل بعده، قال عيسى: قلت لابن القاسم: كيف جعلت ما فضل عن المرتهن الأول لهذا دون الغرماء، وأنت تقول: من رهن رهنا فليس له أن يرهن فضلته من آخر إلا بإذن المرتهن؟ قال: هذا قد حاز وقبض، فأرى أن ينفعه حيازته وقبضه.
قال محمد بن رشد: في هذه المسألة معنى خفي، يجب أن يوقف عليه، وهو أن الرهن لا يبطل برجوعه إلى الراهن بعد أن حازه المرتهن، إلا(11/54)
أن يعلم بذلك فيسكت، ولا يقوم برد رهنه إلى حوزه؛ لأنه لم ير رهن الراهن الرهن من الثاني بعد أن كان رهنه الأول. وحوزه إياه إبطالا لرهنه، إذ لم يعلم بذلك، فجعله أحق برهنه إلى مبلغ حقه، وجعل للثاني ما فضل منه عن حقه؛ لأنه قد حازه لنفسه، بمنزلة من ارتهن رهنا فحازه ثم استحق منه بعضه، ولا يلزم ابن القاسم ما اعترض به عليه عيسى؛ لأنه إنما احتيج إلى علم المرتهن الأول في رهن فضلة الرهن، فيكون حائزا له إياها، لا لنفسه، وفي مسألة المرتهن الثاني قد حازها لنفسه، إذ حاز جميع الرهن، فلو علم الأول بذلك وأذن فيه لبطل رهنه جملة، وكان الثاني أحق بجميعه. وقوله: إن الاشتراء يمضي عليه صحيح؛ لأنه بيع وقع بحكم حاكم على صاحب الدار الراهن، ولم يستحق المرتهن الأول من رقبة الدار شيئا، فيفسخ البيع فيه، وإنما استحق ارتهان الدار في حقه، فيكون أحق بثمنها الذي بيعت به حتى يستوفي حقه، ويكون للآخر ما فضل عنه. وبالله - تعالى - التوفيق. اللهم لطفك يا مولاي.
[أخذ سوارين لامرأته من غير أمرها فرهنهما]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل عن رجل أخذ سوارين لامرأته من غير أمرها، فرهنهما، فافتقدت المرأة سواريها، فقال لها زوجها: أنا أخذتهما ورهنتهما، وسأفتكهما، فأقامت زمانا تنتظر افتكاكهما، فلما طال ذلك عليها، تعلقت بسواريها عند المرتهن، قال: إن قامت بحدثان ما علمت، بذلك، فذلك لها، وتحلف بالله ما دفعتهما إليه، ولا علمت بأمرهما حتى افتقدتهما، وإن تطاول ذلك بعد علمها بذلك، فلا شيء لها.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: فأقامت زمانا تنتظر(11/55)
افتكاكهما، كلام وقع في السؤال حكاية لقول المرتهن، ودعواه من غير أن تكون المرأة مقرة بذلك، إذ لو أقرت المرأة أنها أقامت منتظرة لافتكاكه إياهما، لما كان إليهما سبيل، وإن قامت بحدثان ذلك، وإنما يكون لها أن تقوم. فيهما بحدثان ذلك، إذا سكتت حين أعلمها، فقالت: لم أسكت إلا على أن أقوم بحقي، لا راضية بما فعلت، ولا منتظرة لفكه إياهما. فقوله: وإن قامت بحدثان ما علمت بذلك فذلك لها، وتحلف بالله ما دفعتهما إليه، ولا علمت بأمرهما حتى افتقدتهما، يريد وتزيد في يمينها، إنها ما سكتت منذ علمت، إلى حين قيامها، إلا على أن تقوم بحقها، لا رضي منها بفعله، ولو قامت ساعة علمت، لم يكن عليها أن تزيد ذلك في يمينها، والقول قولها إنها لم تعلم إلا حين قيامها، فإن ادعى عليها أنها علمت قبل ذلك وسكت، حلفت على ذلك، واختلف إن طال سكوتها بعد علمها، فقال: ها هنا: إن ذلك يبطل قيامها، ووقع في سماع أصبغ، ما ظاهره أن لها أن تقوم بعد طول الزمان، وتحلف ما رضيت، ولا كان سكوتها تركا لحقها، والذي ها هنا أظهر، والله أعلم.
وهذا كله إذا كانت علمت بعد الارتهان ولم تحضره، وأما إذا كانت حاضرة الارتهان، فإن أنكرت في الحال، لم يلزمها ذلك، وإن سكتت حتى تم التواجب بينهما على الارتهان، ثم أنكرت بعد ذلك قبل انفصالهما من المجلس، جرى ذلك على الاختلاف في السكوت، هل هو كالإقرار أم لا؟ وأما إن لم تنكره ولا تكلمت حتى انقضى المجلس، وانفصلا عنه، فليلزمها ذلك قولا واحدا. والله أعلم.
[جاء بثوب فقال هذا رهن عندي قد هلك صاحبه ولي عليه دينار]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وعن رجل جاء بثوب، فقال هذا رهن عندي قد هلك صاحبه، ولي عليه دينار، وليس له بينة، والورثة لا يعرفون الثوب، ولا(11/56)
يعرفون ما يقول الرجل، قال: أرى إن أنكر الورثة وزعموا أنهم لا يعرفون شيئا مما يدعي من الرهن، حلفوا على علمهم، وأخذوا رهنهم، ولا يقبل قوله إلا ببينة.
قال محمد بن رشد: إنما يحلف الورثة إذا كان فيهم من يتهم أن عنده من هذا علما فأما الغائب منهم وشبهه ممن يعلم أنه لا علم عنده، فلا يمين عليه. وسيأتي هذا المعنى في آخر رسم الرهون. وقد مضى في رسم شك في طوافه، ورسم صلى نهارا ثلاث ركعات، من سماع ابن القاسم، عكس هذه المسألة، إذا اختلف ورثة المرتهن مع الراهن. ويأتي أيضا في رسم إن أمكنتني من هذا السماع، وبالله التوفيق.
[ارتهن جارية وضعها على يدي رجل فعمد الرجل فأرسلها إلى الراهن]
ومن كتاب حبل حبالة وسئل عن رجل ارتهن جارية، وضعها على يدي رجل، فعمد الرجل الذي وضعت على يديه، فأرسلها إلى الراهن وردها إليه فوطئها، فحملت. قال ابن القاسم: إن كان للغريم مال، أخذ منه الحق، فدفع إلى صاحب الحق، وكانت الأمة أم ولده، وإن لم يكن للغريم مال، أخذ قيمة الأمة من الأمين يوم وطئها إن كان له مال، واتبع الأمين الغريم بما أدى عنه، وإن لم يكن لسيد الأمة ولا للأمين مال، بيعت الأمة إذا وضعت، وقضي حق الغريم إن كان الحق محيطا بقيمتها، أو بيع منها قدر حق الغريم، واعتق ما بقي. قال: والولد يتبع أباه، ولا يباع مع أمه على حال. وهذا إذا كان المرتهن لم يعلم بوطئه إياها.(11/57)
قلت لابن القاسم: فلو لم تحمل وهو يطؤها حتى فلس سيدها، هل كانت تكون خارجة من الرهن ويكون الأمين ضامنا؟ قال: إن كان للأمين مال، كان ضامنا لقيمتها، وكان مع الغرماء فيها وفي غيرها من ماله أسوة، وكانت القيمة للمرتهن. قال عيسى: وإن لم يكن للأمين مال كان المرتهن أحق بالجارية. وهذا كله إذا لم يعلم المرتهن بالرد، فإذا علم فلا رهن له.
قال محمد بن رشد: الأمين الموضوع على يديه الجارية المرتهنة، متعد على الراهن في دفعها إلى المرتهن، وعلى المرتهن في صرفها إلى الراهن، فإن صرفها إليه ضمن للمرتهن ما انتقص من حقه بسبب ذلك إن حملت من الراهن، أو قبلها، أو دخل عليه الغرماء فيها، على القول بأنها تخرج من الرهن بإسلامه إياها إلى الراهن. وقد اختلف في ذلك، قيل: إنها تخرج من الرهن، ويكون المرتهن فيها أسوة الغرماء إن قاموا بتفليسه، والجارية بيده قبل أن يقوم فيها المرتهن فيقبضها، وهو قول عيسى بن دينار ومحمد بن المواز، وقيل إنها لا تخرج من الرهن، ويكون المرتهن أحق بها، وهو مذهب ابن القاسم، وقول أصبغ. وهذا إذا لم يعلم المرتهن برد العدل إياها إلى الراهن، وأما إذا علم بذلك، فلا اختلاف في أنه لا رهن له فيها. والقول بأنها لا تخرج من الرهن على قياس القول بأن كون الرهن بيد العدل، ككونه في يد المرتهن يكون له شاهدا، والقول بأنها تخرج من الرهن على قياس القول: بأن الرهن لا يكون شاهدا للمرتهن إذا كان بيد عدل، فإذا دفع العدل الجارية إلى الراهن بغير إذن المرتهن فوطئها، فحملت نظر، فإن كان للغريم الراهن مال، يفي بحق المرتهن، أخذ منه الحق، فدفع إليه، وكانت الأمة أم ولد للغريم الراهن، وإن لم يكن للغريم مال، قال في الرواية: أخذ قيمة الأمة من الأمين يوم وطئها، يريد، إلا أن يكون الحق أقل من ثمنها، فلا يؤخذ منه إلا الحق، فيدفع ذلك إلى المرتهن، ويتبع الأمين للغريم الراهن، وإن لم يكن لسيد الأمة مال، ولا للأمين، قال(11/58)
في الرواية: بيعت الأمة إذا وضعت، وقضي حق الغريم إن كان الحق محيطا بقيمتها، أو بيع منها قدر حق الغريم، وأعتق ما بقي، يريد، إلا أن لا يوجد من يبتاع منها بقدر حق الغريم، فتباع كلها ويقضي المرتهن من ذلك حقه، ويتصدق الراهن بالفضل؛ لأنه ثمن لأم ولده، وقد قيل: إنها تباع كلها، وإن وجد من يبتاع منها بقدر حق الغريم، من أجل الضرر الذي عليها في تبعيض عتقها، ولا تباع إن كان الحق مؤجلا حتى يحل الأجل، قاله محمد بن المواز. وهذا على القول بأن الرهن لا يخرج من الرهن بإسلام العدل إياه إلى الراهن بغير إذن المرتهن، وهو نص قول أصبغ في آخر هذه الرواية، وأما على القول بأنه يخرج من الرهن فلا تباع، وتكون أم ولد للراهن، ويتبع المرتهن بحقه إياهما أيسر أولا، من الراهن أو الأمين، فإن أخذ حقه من الأمين، رجع به الأمين على الراهن، وإن أخذه من الراهن لم يكن له رجوع على أحد. وقوله: إنه يعتق من الأمة ما بقي إن كان الحق لا يحيط بقيمتها، هو على قياس قول ابن القاسم في كتاب أمهات الأولاد من المدونة وعلى قياس قول غيره فيه: يبقى الباقي أم ولد، فمتى ما اشترى ما بيع منها حلت له، وأما إذا دفعها إليه بغير إذن المرتهن، فلم تحمل، فعلى القول بأنها لا تكون خارجة من الرهن يكون المرتهن أحق بها، وعلى القول بأنها تكون خارجة من الرهن، يكون المرتهن فيها أسوة الغرماء، ويكون له الرجوع على الأمين فيما انتقص من حقه في كونه فيها أسوة الغرماء. وتفسير ذلك أن ينظر كم دين المرتهن؟ فإن كان عشرين، ودين الغريم الآخر عشرين، وقيمة الرهن عشرون، كان الرهن بينهما بنصفين، ورجع المرتهن على الأمين بعشرة؛ لأن ذلك هو الذي انتقصه من حقه بالمحاصة، ولو كان قيمة الرهن عشرة، وللغريم عشرة، ودين كل واحد منهما عشرون، لرجع المرتهن على الأمين بثلاثة وثلث؛ لأن مال الغريم على هذا التنزيل عشرون: عشرة نقدا وعشرة قيمة الرهن، فيصير لكل واحد منهما من ذلك بالمحاصة عشرة، عشرة، نصف حقه، ويقول المرتهن للأمين: لو كان الرهن بيدك لكنت(11/59)
أحق به، ولحاصصت في العشرة، ببقية حقي، وهو عشرة، فصار لى منها ثلاثة وثلث، فادفعها إلي فإنها هي التي انتقص من حقي بالمحاصة، ولو كان الرهن قد أفاته الراهن على الأمين، ووجدا له عشرين دينارا، فتحاصا فيها، وصار لكل واحد منهما منها عشرة، عشرة، لرجع المرتهن على الأمين بسبعة إلا ثلثا؛ لأنه يقول له: لو كان الرهن حاضرا بيدك، لأخذته وكنت أحق، وحاصصت الغريم في العشرين ببقية حقي، وهو عشرة، فصار لي منها سبعة إلا ثلث، فادفعها إلي، فإنها هي التي انتقص من حقي بالمحاصة، بجميع حقي في العشرين، إذ تلف الرهن الذي فوته علي، وكنت أحق به، ولو طرأ للغريم مال بعد المحاصة؛ لأنتقضت المحاصة، وتحاصا ثانية في جميع مال الغريم، مثال ذلك، أن يكون الأمر على ما ذكرناه، من أن قيمة الرهن عشرة، للغريم عشرة، ولكل واحد منهما عشرون، فتحاصا في ذلك على ما ذكرناه، ورجع المرتهن على الأمين بثلاثة وثلث، ثم طرأ للغريم عشرة، فإنه ينتقض المحاصة الأولى، ويتحاصان ثانية، على أن مال الغريم ثلاثون: عشرة قيمة الرهن، وعشرة كانت بيده، وعشرة طرأت له بعد المحاصة، فيصير لكل واحد منهما خمسة عشر، ثلاثة أرباع حقه، ثم يقول المرتهن للأمين: لو كان الرهن بيدك، لكنت أحق به، ولحاصصت في العشرين الباقية، ببقية حقي، وهو عشرة، فصار لي منها سبعة إلا ثلثا، فجملة ما كان يصير لي سبعة عشر إلا ثلثا، وأنا قد أخذت خمسة عشر، وبقي لي ديناران إلا ثلثا فادفعها إلي، وأرد عليك الثلاثة إلا ثلثا التي قبضت منك بالمحاصة الأولى التي انتقضت، أو قاصني بها وأرد عليك الباقية وذلك دينار. وكذلك كل ما طرأ بعد ذلك يستأنف فيه العمل، وينتقض ما تقدم. ولما سأله في الرواية هل تكون الأمة خارجة من الرهن إذا فلس سيدها وهو يطؤها ولم تحمل؟ لم يعطه في ذلك جوابا بينا، وقال: إن كان للأمين مال، كان ضامنا لقيمتها، وكان مع الغرماء فيها وفي غيرها من ماله إسوة، وكانت القيمة للمرتهن، ولا كلام في أن الأمين لا يكون أحق بها من الغرماء فيما(11/60)
يرجع به على الغريم، إذا رجع عليه المرتهن، إذ ليست له برهن، وإنما الخلاف هل يكون المرتهن أحق بها؟ فمذهب ابن القاسم أنها لا تكون خارجة من الرهن، ويكون المرتهن أحق بها، بدليل قوله: إنها تباع إذا حملت منه ولا مال له ولا للأمين، بمنزلة إذا تسور عليها فوطئها وهي عند المرتهن فحملت، على ما في المدونة. وقال عيسى: إن لم يكن للأمين مال، كان المرتهن في الجارية إسوة الغرماء، وقال أصبغ: إن لم يكن له مال، كان المرتهن أحق بالجارية، وكذلك إن كان للأمين مال، كان المرتهن في الجارية عند عيسى إسوة الغرماء إن لم يرد الرجوع على الأمين، وعند أصبغ أحق بها إن لم يرد الرجوع عليه، إذ لا فرق في كون المرتهن أحق بالجارية بين أن يكون الأمين مليا أو معدما، إذا لم يرد الرجوع عليه. وإنما تكلم كل واحد منهما على أنه إن كان مليا لا يختار الرجوع إلا عليه، فلا يقام من قول واحد منهما دليل على أن الملي عنده في ذلك بخلاف المعدم، وقد ذهب إلى ذلك بعض الناس، فيأتي في هذه المسألة على ما ذهب إليه أربعة أقوال: أحدها أن المرتهن أحق بالجارية من الغرماء في ملإ الأمين وعدمه؟ والثاني أنه إسوة الغرماء فيها في ملائه وعدمه، والثالث أنه أحق بها في ملائه، وإسوة الغرماء فيها في عدمه، وهو قول عيسى؛ والرابع بعكس ذلك أنه أحق بها في عدمه، وإسوة الغرماء في ملائه. وهو بعيد، وبالله التوفيق.(11/61)
[كتاب الرهون الثاني] [غلة الحائط المرهون والدار والعبد]
من سماع عيسى من كتاب الرهون قال في غلة الحائط المرهون والدار والعبد: إنها للراهن، وإنها لا تكون رهنا مع الرهن، إلا أن يشترط ذلك المرتهن في رهنه، ولا يصلح للمرتهن أن يشترط أن يتقاضى في البيع غلة الرهن في كل عام؛ لأن ذلك ليس بشيء ثابت معلوم، إنما ذلك يكون مرة ويخطئ مرة أخرى، ويكثر مرة، ويقل أخرى، ولا بأس به في السلف، ولا يلزم المرتهن في الوجهين جميعا كلاهما عمل الحائط، ولا مرمة الدار ولا إصلاحها، ولا نفقة العبد ولا كسوته، اشترط المرتهن الغلة أو لم يشترطها، وإنما ذلك على الراهن الذي له الغلة، يلزمه ذلك المرتهن، اشترط ذلك أو لم يشترطه عليه، ولا يترك الراهن وخراب الرهن وهلاكه؛ لأن ذلك يدخل على المرتهن في هلاك حقه وذهابه ضررا ووهنا. وقد كان الرهن وثيقة من حقه، ومن أجل ذلك جعلت الغلة في السنة للراهن؛ لأنه لا يقوى على عمل الراهن وإصلاحه ونفقته إلا بالغلة، وليس للمرتهن(11/63)
رهنا له غلة أن يحول بين الراهن وبين استعمال رهنه، وليس للراهن أن يفعل ذلك إلا بإذنه وعلمه، وإن لم يشترط المرتهن الغلة رهنا مع الأصل؛ لأن المرتهن قد قبض رهنه من الراهن، وحازه دونه أو وضع له على يد من حازه له وقبضه، فلو جاز للراهن أن يعامل في الحائط من أحب أو يكري الدار أو يؤاجر العبد ممن أحب، لأدخل عليه الراهن بذلك في رهنه ضررا إذ صار يقضي عليه بإذنه وبغير إذنه. وقال ابن القاسم: المرتهن هو الذي يعامل في عمل الحائط، ويبيع الغلة، ويؤاجر الدار، وليس للراهن في ذلك أمر.
قال الإمام القاضي قوله في غلة الحائط المرهون والدار والعبد: إنها للراهن، وإنها لا تكون رهنا مع الرهن، إلا أن يشترط ذلك المرتهن في رهنه، هو المشهور في المذهب، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الرهن لمن رهنه، له غنمه، وعليه غرمه وغنمه وغلته» . وقد وقع في المبسوطة من رواية ابن القاسم عن مالك، أنه سمعه يقول: من استرهن دارا أو عبدا قبضه أو لم يقبضه، فإن إجارة العبد وكراء الدار، لجمع لا يصل إلى الراهن ولا إلى المرتهن حتى يفك الرهن، فيكون تبعا للرهن، فإن كان في الدار أو العبد كفاف الحق، كانت الإجارة للراهن، قال ابن الماجشون: لا أعرف هذا، والخراج والكراء للراهن، إلا أن يشترطه المرتهن، وقال ابن نافع مثله، وزاد، إنما يجوز له أن يشترطه من مبايعة لا من سلف، وهذه الرواية عن مالك شاذة، لا تعرف في المذهب، وقول ابن(11/64)
الماجشون هو المعلوم، وأما قول ابن نافع: إنما يجوز للمرتهن أن يشترط ذلك من مبايعة لا من سلف، فهو غلط. والله أعلم؛ لأن ذلك إنما هو إذا اشترط ذلك المرتهن لنفسه، كذا وقع في المدونة وغيرها في اشتراط المرتهن الانتفاع بالرهن، وأما اشتراطه أن يكون الرهن رهنا معه، فلا اختلاف في جواز ذلك في أصل البيع وبعده، وفي أصل السلف وبعده، ولا تدخل الثمرة في رهن الأصول، إلا باشتراط المرتهن، كانت قد أبرت أو لم توبر، وإنما يفترق ذلك في البيع، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع نخلا قد أبرت فثمرهما للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» . فدل ذلك من قوله على أنها للمبتاع، إذا كانت لم تؤبر، كما يكون له ما ينبت بعد الابتياع والسنة قد أحكمت أن الغلة في الرهن للراهن، فوجب أن تكون له الثمرة أبرت أو لمن تؤبر أو نبتت بعد الارتهان، إلا أن يشترط ذلك المرتهن في الرهن، والجنين داخل في الرهن وإن لم يشترط، بخلاف الثمرة التي لم تؤبر، وإن استويا في البيع والفرق بين الجنين والثمرة التي لم تؤبر في الرهن، أن السنة قد أحكمت أن غلة الرهن للراهن، والجنين ليس بغلة، وإنما هو عضو من أعضاء أمه، فوجب أن تكون معه في الرهن، كما تدخل في البيع، والأصل في هذا أن النماء في الرهن على وجهين: متميز عن الرهن وغير متميز عنه، فأما غير المتميز عنه، فلا اختلاف في أنه يدخل في الرهن، وذلك مثل سمن الدابة والجارية، وكبرهما، ونماء النخل، وكبرها. وأما المتميز عنه فإنه على وجهين: أحدهما أن يكون على صورته(11/65)
وخلقته، والثاني ألا يكون على صورته وخلقته. فأما ما كان على صورته وخلقته، كالولد من بني آدم ومن سائر الحيوان، وكفسلان النخل، فإنه داخل مع الأصول في الرهن وإن لم يشترط وأما ما كان على غير صورته وخلقته، فإنه لا يدخل في الرهن إلا بشرط، كان متولدا عنه، كثمرة الحائط ولبن الغنم وصوفها، أو غير متولد عنه ككراء الدار، وخراج الغلام. هذا على ما ذكرناه من المشهور في المذهب.
ودهب أبو حنيفة إلى أن ذلك كله داخل في الرهن، كان متميزا عنه أو غير متميز، متولدا عنه على خلفته وصورته، أو على غير خلقته وصورته، قياسا على نسل الحيوان، وعلى النماء المتصل بالرهن الذي لا يتميز منه.
وذهب الشافعي إلى أنه لا يدخل في الرهن من النماء، إلا ما كان غير متميز منه كسمن الدابة والجارية وكبرهما. وأما قوله: إنه لا يصلح للمرتهن أن يشترط أن يتقاضى في البيع غلة الرهن في كل عام؛ لأن ذلك ليس بشيء ثابت معلوم؛ لأنه يكون ويخطئ ويقل ويكثر، ولا بأس به في السلف فهو صحيح، ومثله في كتاب حريم البئر من المدونة أن ذلك لا يجوز في عقد البيع، وهو جائز في أصل عقد السلف وبعده.
وأما قوله ولا يلزم المرتهن عمل الحائط ولا مرمة الدار، ولا إصلاحها ولا نفقة العبد ولا كسوته، اشترط المرتهن الغلة أو لم يشترطها، وإنما ذلك على الراهن الذي له الغلة، فهو أمر صحيح لا اختلاف أعلمه فيه، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن لمن رهنه،(11/66)
له غنمه وعليه غرمه» وقوله: وليس للمرتهن رهنا له غلة أن يحول بين الراهن وبين استعمال رهنه، معناه: ليس له أن يحول بينه وبين مؤاجرته إن كان ممن يؤاجر، وكرائه إن كان ممن يكرى وأما استعماله بأن يستخدم العبد، أو يلبس الثوب، أو يركب الدابة وما أشبه ذلك، فله أن يمنعه منه؛ لأن ذلك إن أذن له فيه، خروج من الرهن، وقد وقع في هذه الرواية اضطراب ألفاظ فيمن يلي مؤاجرة ذلك وكراءه، فقال في أول كلامه: ليس للمرتهن رهنا له غلة أن يحول بين الراهن وبين استعمال رهنه، يريد ليس له أن يحول بينه وبين ولاية عقد الإجارة والكراء فيه. قال: وليس للراهن أن يفعل ذلك إلا بإذنه وعلمه، فدل ذلك من قوله على أن الراهن هو الذي يلي ذلك بإذن المرتهن، وقال في آخر المسألة: والمرتهن هو الذي يعامل في عمل الحائط، ويبيع الغلة، ويؤاجر الدار، وليس للراهن في ذلك أمر، فدل ذلك من قوله على أن المرتهن الذي يلي ذلك.
والذي أقول به في تفسير ذلك، أنه إن كانت الغلة للراهن، لم يشترطها المرتهن، ولي المرتهن الكراء، ولم يجز أن يليه الراهن؛ لأنه إذا ولي الكراء بإذن المرتهن، وأخذ الغلة، فقد صار منتفعا بالرهن، وبطلت حيازة المرتهن، وهذا نص قوله في المدونة: إنه إذا أذن له أن يكري الدار، فقد خرجت من الرهن، معناه عندي: إذا أذن له أن يكريها ويأخذ كراءها، وعلى هذا يحمل قوله في آخر المسألة: والمرتهن هو الذي يعامل في ذلك، وليس للراهن فيه أمر، وإن كانت الغلة رهنا باشتراط المرتهن، وعلى هذا(11/67)
يلي الراهن عقد الكراء والإجارة لها بإذن المرتهن، وعلى هذا يحمل قوله في أول الكلام: وليس للراهن أن يفعل ذلك إلا بإذنه وعلمه.
فيتحصل من هذا أنه لا يجوز للراهن أن يلي عقد الكراء والإجارة بغير إذن المرتهن، ويجوز أن يلي ذلك بإذنه إن كانت الغلة رهنا مع الأصل، ولا يجوز إن لم تكن الغلة رهنا مع الأصل؛ وأما ولاية المرتهن لعقد الكراء دون إذن الراهن ففي ذلك اختلاف.
قال محمد بن المواز: لا يكري المرتهن الرهن إلا بإذن الراهن، معناه: إذا كان الكراء للراهن، ومثله في حريم البئر من المدونة، قال: إن لم يأمره الراهن أن يكري ترك ذلك ولم يكر، وإن أمره بذلك أكراه، وكان الكراء لرب الأرض، وأما إن كان الكراء في الرهن باشتراط المرتهن له، فله أن يكريه بغير إذنه، وليس للراهن أن يمنعه من كرائه؛ لأن ذلك من حقه. قال ذلك أشهب، وعلى ذلك تحمل رواية ابن عبد الحكم، أن للمرتهن أن يكري الرهن دون إذن صاحبه. وقد قيل: إن ذلك يجب على المرتهن، فإن لم يفعل ضمن إذا كان الرهن مما يتخذ للكراء، وله قدر، وهو قول ابن الماجشون. وقال أصبغ: لا ضمان عليه، وهو ظاهر ما في المدونة وغيرها من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، إذ لم يفرق في شيء من ذلك بين ما كان متخذا للكراء، أو غير متخذ له، وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن لرجلين يقوم أحدهما ببيع الرهن وقد كان الآخر أنظره بحقه سنة]
مسألة وقال في رجلين يكون لهما رهن بينهما، فيقوم أحدهما على بيع الرهن في حقه، وقد كان الآخر أنظره بحقه سنة، إنه إن كان(11/68)
يقدر على قسم الرهن بما لا ينقص الذي قام على أخذ حقه قسم، ثم بيع له نصف الرهن فأوفي حقة، وأوقف النصف الآخر للذي أنظره بحقه إلى الأجل.
قلت: فإن كان لا يقدر على قسم الرهن إلا بما ينقص حق الذي قام على أخذ حقه، بيع الرهن كله، فأعطي الذي قام على الأخذ بحقه حقه كله من ذلك، فإن طابت نفس الذي أنظر بحقه سنة، أن يدفع بقية ثمن الرهن إلى الراهن إلى أن يحل حقه، دفع إلى الراهن، فإن كره أحلف بالله ما أنظرته بحقي إلا ليوقف في رهنه على هيئته، ثم أعطي حقه ولم يحبس عنه، ولم يوقف له إلى الأجل وقد بيع رهنه؛ لأن إيقاف الرهن على المرتهن في غير منفعة تصل منه إلى الراهن، وهو له ضامن، فدفع الحق إلى المرتهن، وإبراء الراهن من ضمانه خير لهما جميعا.
قال ابن القاسم: قال مالك: إلا أن يأتي الراهن برهن يكون فيه وفاء بحق الذي أنظره، فيكون له أخذ ثمن الرهن إلى الأجل.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم عن مالك: إلا أن يأتي الراهن برهن يكون فيه وفاء بحق الذي أنظره، فيكون له أخذ ثمن الرهن إلى الأجل صحيح مبين لما تقدم من قوله ". والمسألة كلها صحيحة بينة، وهي متكررة في سماع أبي زيد، ولا اختلاف في شيء منها إلا إذا لم يأت الراهن برهن يشبه الرهن الأول يكون فيه وفاء بحق الذي أنظره، هل يوقف الثمن إلى الأجل الذي أنظره إليه أم يعجل له؟ فقيل: إنه يعجل له كما قال ها هنا، وقيل: إنه يوقف إلى الأجل ولا يعجل له، لعل الغريم يجد في باقي الأجل رهنا يضعه في مكان الثمن وينتفع به إلى الأجل.
وقد مضى الاختلاف في ذلك في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن(11/69)
القاسم، وفي رسم الأقضية الثاني والثالث من سماع أشهب. والقولان قائمان من المدونة من كتاب الرهون وكتاب التجارة إلى أرض الحرب، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضمان المرتهن ما ضاع من الحلي والثياب والمتاع عنده]
مسألة قال ابن القاسم: وإنما يضمن المرتهن ما ضاع من الحلي والثياب والمتاع عنده قيمة ما ضاع عنده يوم ضاع وليس قيمته يوم ارتهنه.
قال الإمام القاضي: قال ها هنا إنه يغرم المرتهن قيمة ما ضاع عنده من الحلي والثياب يوم ضاع، وقال فيما يأتي قرب آخر هذا الرسم: إنه يغرم قيمته يوم ارتهنه، وليس ذلك عندي اختلافا من القول، ومعنى ما ها هنا أنه ظهر عنده المتاع والحلي في الوقت الذي ادعى أنه ضاع فيه، فعلم أنه لم يضع قبل ذلك؟ ومعنى ما يأتي في آخر هذا إذ لم يعلم متى ضاع ولا ظهر عنده منذ ارتهنه، وغاب عليه، فيلزمه قيمته يوم ارتهنه، إذ لا يصدق في وقت ضياعه، كما لا يصدق في ضياعه، إلا أن تكون قيمته في الوقت الذي ادعى أنه تلف فيه أكثر من قيمته يوم ارتهنه، فيلزمه قيمته يوم ضاع؛ لأنه مقر على نفسه، وكذلك لو ظهر عنده بعد ارتهانه إياه بمدة، لسقطت عنه قيمته يوم ارتهنه، إذ قد علم بظهوره عنده سقوط الضمان عنه فيه فيما مضى من المدة، ولزمته قيمته يوم ظهر عنده، ولم يصدق إن ادعى أنه تلف بعد ذلك بمدة، إلا أن تكون قيمته في اليوم الذي ادعى أنه تلف فيه أكثر. وذهب ابن دحون إلى أن ذلك اختلاف من القول. فقال: أكثر أقواله، إن الضمان إنما يكون يوم ارتهنه، قال: وهو القياس؛ لأن في ذلك اليوم دخل في ضمانه، وكل من دخل في ضمانه شيء ثم ضاع بعد ذلك بمدة، فإنما عليه قيمته يوم دخل ذلك في ضمانه كالغاصب والصانع ونحوهما، وليس قوله بصحيح، أما الغاصب فهو كما قال، وأما الصانع والمرتهن فالحكم فيهما بخلاف ما(11/70)
ذكر. وقد قال غيره: إنما يلزم المرتهن قيمة الرهن يوم ضاع، إذا لم يعلم قيمته يوم الرهن ولا بعده، فلم يجعل ذلك اختلافا من القول، ورد ما ها هنا بالتأويل، إلى الذي يأتي بعد هذا، من أن على المرتهن في الرهن إذا هلك عنده قيمته يوم ارتهنه، خلاف ما ذهبنا إليه من رد ما يأتي بعد هذا إلى ها هنا، من أن المرتهن يلزمه إذا ضاع الرهن عنده قيمته يوم ضاع بما ذكرنا من التأويل، فإن جهل وقت الرهن، كان القول فيه قول المرتهن، فإن ادعى أنه تلف بعد ذلك بمدة، وقيمته في ذلك الوقت أقل من قيمته يوم الرهن، لم يصدق في ذلك، على ما ذكرناه. وفي سماع أصبغ من كتاب الوديعة ما يبين ما ذهبنا إليه في هذه المسألة. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا في حق له إلى أجل فأتى رجل يطلبه بدين قبل محل الأجل]
مسألة وقال فيمن ارتهن غريمه دارا أو رقيقا في حق له إلى أجل، فيأتي رجل يطلبه بدين قبل محل الأجل، أجل المرتهن، إنه إن كان في الرهن فضل عما رهن فيه بيع فقضى صاحب الحق والغريم الذي جاء، وإن لم يكن في الرهن فضل لم يبع حتى يحل الحق الذي رهن فيه؛ لأنه رهن.
قال الإمام القاضي: هذا مثل ما تقدم في المسألة التي قبل هذه المسألة، مسألة في تعجيل الحق قبل حلول الأجل. وقد مضى ذكر الخلاف في ذلك هنالك، وفي المواضع المذكورة فيه. ومعنى هذا: إذا كان الدين الذي لم يحل عينا أو عرضا من قرض، وأما إن كان عرضا من بيع لم يبع إلا أن يحل أجل المرتهن. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهنه رهنا فأتى الراهن إلى رجل فقال له بعني سلعتك هذه بدين إلى أجل]
مسألة قال في رجل رهن رجلا رهنا في سلعة له: عليه إلى أجل، فأتى الراهن إلى رجل فقال له: بعني سلعتك هذه بدين إلى أجل،(11/71)
لأفتك به رهنا لي عند فلان، فسأله البائع حميلا، فلم يجد إلا صاحب رهنه، فلا ينبغي للمرتهن أن يتحمل عنه شيئا يصير من حقه إليه، كما لا ينبغي له أن يبيع له شيئا يصير له قضاء من حقه.
قال محمد بن رشد: تنظيره مسألة الذي سأل الرجل أن يتحمل عنه بثمن شيء يصير من حقه إليه، بمسألة الرجل يبيع الرجل شيئا يصير له قضاء من حقه، ليس بتنظير صحيح؛ لأنهما مسألتان متغايرتان متباينتان مفترقتا المعنى، أما مسألة الحمالة فالعلة فيها أن الحميل تحمل بالرجل، رجاء أن يقضيه المتحمل عنه السلعة التي اشتراها فأشبه الحمالة بالجعل. وأما مسألة الذي يبيع الرجل شيئا يصير له قضاء من حقه، فمعناها أن يبيعه شيئا بثمن إلى أجل، يصير له قضاء من حقه الذي قد حل له. والعلة فيها أنه يدخلها فسخ الدنانير في أكثر منها إلى أجل، وهو الربا المحرم بالقرآن، مثال ذلك: أن يكون للرجل على الرجل عشرة دنانير حالة، فيبيعه سلعة قيمتها عشرة دنانير، بخمسة عشر إلى أجل، ليبيعها بعشرة، ويقضيها إياه، فيكون البائع قد رجع إليه ثمن سلعته، فكأنه باعها من غيره أو منه بعشرة دنانير، وأخره بالعشرة الحالة التي كانت عليه إلى أجل، على أن يزيده فيها خمسة دنانير ربا، ووجه التنظير بينهما على تغايرهما وافتراقهما، أن المكروه في كل واحدة من المسألتين، لم يشترطاه، وإنما رجواه، ولو اشترطاه، فقال الحميل: إنما أتحمل عنك بثمن السلعة، على أن تقضيني إياها في حقي، وقال البائع للشيء: إنما أبيعك إياه بالدين، على أن تبيعه أنت بالنقد، وتوفيني ثمنه فيما لي عليك، لكان المكروه في كل واحدة منهما أشد وأبين. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرهن يحل بيعه وصاحبه ناء عن السلطان فيأمره ببيعه]
مسألة وعن الرهن يحل بيعه، وصاحبه ناء عن السلطان، فيأمره ببيعه، فلا يجد أحدا يعنى فيه إلا بجعل، على من يكون الجعل،(11/72)
أعلى صاحب الرهن أم على المرتهن؟ فقال: الجعل على من طلب البيع منهما والتقاضي، قال عيسى ما أرى الجعل إلا على الراهن.
قال محمد بن رشد: قول عيسى بن دينار أظهر من قول ابن القاسم لأن الراهن مأمور بالقضاء، واجب عليه فعله، فهو أولى بغرم الإجارة على ما يتوصل به إلى أداء الواجب عنه.
ووجه قول ابن القاسم: إن الراهن يقول: أنا لا أريد بيع الرهن؛ لأني أرجو أن يتيسر لي الحق دون بيع الرهن، فإذا أردت أنت تعجيله، فأد الجعل على بيعه. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهنه عبدا لامرأته بعلم منها فقال رجل للمرتهن أنا آخذه وأضمنه لك]
مسألة وقال في رجل رهن رجلا عبدا لامرأته بعلم منها ورِضى، فقام رجل غير الذي عليه الحق، فقال للمرتهن: أنا آخذ هذا الرهن، فيكون بيدي وأضمنه لك من كل شيء إلا الموت، فإن حل الأجل أعطيتك حقك، فرضي بذلك صاحب الحق، وأقر الحميل العبد عند المرأة، ولم يقبضه، ولم يحزه، فلما حل الأجل، قام الحميل على العبد لبيعه في قضاء الحق، فحالت المرأة دونه، وقالت: غلامي بيدي، لم يفارقني ولم يقبضه، واحتج الحميل بإذنها في رهن العبد ورضاها، قال: يغرم الحميل لصاحب الرهن ما ضيع حين لم يقبض الرهن، وغر المرتهن من الرهن، ويطلب الحميل زوج المرأة بما غرم عنه وليس له قبل المرأة في عبدها شيء؛ لأن الرهن ليس مقبوضا. ولو باعت المرأة العبد أو أعتقته، جاز ذلك لها، ولم يرد، ولو أن الحميل أقر العبد عند المرأة أياما، ثم قام على أخذه قبل محل الأجل، لم يكن للمرأة تحول بينه وبين(11/73)
قبض العبد؛ لأنه يقدر في مثل هذا بالشغل يعرض له والسفر، فأما إذا أخر قبضه حتى يحل الحق، فإنه يعلم أن ليس ذلك برهن مقبوض؛ لأن الناس إنما يأخذون الرهن لأن يكون لهم وثيقة من حقوقهم إذا حلت.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله، من أن الحميل الضامن للرهن يلزمه أن يغرم لصاحب الرهن ما ضيع حين لم يقبض الرهن وتركه بيد المرأة حتى حل الأجل؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد رضي بتركه عندها وإبطال حق المرتهن فيه، بخلاف إذا تركه عندها الأيام اليسيرة، ثم قام على قبضه حسبما قاله.
وقد مضى في أول سماع ابن القاسم، القول فيما يلزم الضامن للرهن إذا قال أنا ضامن لرهنك، أو لما نقص من رهنك، أو لما نقص من حقك، أو لما أصاب رهنك مستوفى، فلا معنى لإعادته. والله الموفق.
[مسألة: اشترى من رجل أرضا إلى أجل على أن يعطيه كل شهر دينارا]
مسألة وعن رجل اشترى من رجل أرضا إلى أجل، على أن يعطيه كل شهر دينارا، فإذا حل الأجل أعطى له بقية الحق، وجعله له رهنا بحقه على يدي رجل، فهلك المشتري قبل أن يحل أجل الحق، ولا مال له، إلا الأرض، وليس في ثمن الأرض وفاء بحقه ذلك، وعليه ديون للناس، سوى هذا الحق، فأراد الورثة أن يعطوه دينارا كل شهر، على ما كان اشترط عند البيع، ولا يكسر عليهم أرضهم. قال: أما إذا مات الذي عليه الحق، فقد حل عليه كل حق عليه إلى أجل، وإن لم يأت ذلك الأجل، وتباع الأرض بما قامت، وإن لم يكن في ثمنها وفاء للحق الذي رهنت فيه، والمرتهن أولى بثمنها من الغرماء؛ لأنها رهنت في حقه.(11/74)
قال الإمام القاضي: وكذلك لو اشترط تكون الأرض رهنا بيده إلى ذلك الأجل، لجاز ذلك؛ لأن الأرض يجوز أن تباع على أن تقبض إلى أجل، بخلاف العروض والحيوان التي لا يجوز أن تباع على أن تقبض إلى أجل، فلو باع رجل شيئا من الحيوان أو العروض بثمن إلى أجل، واشترط أن يبقى ذلك بيده رهنا إلى ذلك الأجل لم يجز، وكان بيعا مفسوخا. كذلك روى ابن وهب عن مالك في الحيوان، قاله ابن القاسم في العروض، ولو وضع هذه الأشياء التي لا يجوز ارتهانه إياها عند بيعها على يدي غيره، لكان ذلك جائزا، وكان أحق به من الغرماء. وقد قيل: إنه لا يجوز أن يبيع الرجل شيئا من الأشياء بثمن إلى أجل، على أن يكون له رهنا بحقه وإن وضعه على يدي عدل، قال ذلك أصبغ ورواه عن أشهب في سماع سحنون من كتاب السلم، والآجال، وعلى قياس ذلك يأتي ما حكى ابن حبيب في الواضحة من رواية أصبغ عن ابن القاسم، أنه لا يحل أن يتواضع الثمن في البيع المضمون، ولا بأس بالرهن والحميل من البائع إذ انتقد الثمن، والعلة في ذلك عندهما أنه إذا حل الأجل وأعسر بالثمن، بيع الدار، فإن كان فيها فضل كان للمشتري، وإن كان نقصان فعليه، فكأنه باع منه دارا أو شيئا لا يقبضه، على أن يكون له ما زاد، وعليه ما نقص، وقد اختلف إذا وقع على هذا القول، فقيل: إنه بيع فاسد، يسلك به مسلك البيع الفاسد في كون الغلة للمشتري بالضمان، وسائر أحكام البيع الفاسد، وقيل: أنه ليس ببيع فاسد، وإنها هي إجارة فاسدة، كأن رب الدار استأجره على أن يبيعها له بثمن سماه، على أن يكون له ما زاد على الثمن إجارة له، فإن باعها كان الثمن لرب الدار، وكان للذي باعها أجر مثله، في بيعه إياها، وإلى هذا ذهب أصبغ، على ما اختاره من اختلافهم في الذي يبيع من الرجل السلعة على ألا نقصان عليه، فقد قيل فيها القولان جميعا، اختلف في ذلك قول مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة.
وقد مضى القول على هذا في سماع سحنون من كتاب السلم والأجال.(11/75)
وفي رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق. وبالله التوفيق.
[مسألة: باع رجلا بيعا فرهنه خدمة مدبر]
مسألة وقال في رجل باع رجلا بيعا فرهنه خدمة مدبر له، فقال: لا يعجبني هذا، إلا أن يكون مؤاجرا أو مخارجا، فيرهنه أجرته.
قال محمد بن رشد: إنما لم يُجز خدمة المدبر لأن ذلك غرر إذ لا يدري مبلغ ما يوأجره به، ومعنى ذلك، إذا كان الرهن في أصل البيع، على القول بأن رهن الغرر لا يجوز في أصل البيع، والمشهور أن ذلك جائز، وهو الظاهر من قول ابن القاسم في المدونة في إطلاقه إجارة رهن الثمرة التي لم يبد طلاحها، والزرع الذي لم يبد صلاحه، وقد أجاز في كتاب المدبر منها رهن المدبر، ولم يفرق بين أن يكون ذلك في أصل البيع وبعد عقده. وإذا جاز رهن المدبر مع ما فيه من الغرر، إذ لا يباع للمرتهن في حياة الراهن، وجاز ارتهان الثمرة قبل أن يبدو صلاحها فما الذي يمنع من ارتهان خدمة المدبر؟ وهو يقدر على أن يؤاجره في الوقت، فتكون إجارته رهنا له، وذلك أخف في الغرر والجعل من رهن الثمرة التي لم يبد صلاحها، والزرع الذي لي يبد صلاحه، وأما رهن إجارته إذا كان مؤاجرا فلا إشكال في جواز ذلك. والحيازة تصح في ذلك بإشهاد المرتهن على الراهن بحضرة المستأجر، فإذا حلت الإجارة عليه قبضها المرتهن، وطبع عليها عنده، لئلا ينتفع بها، وجعلت على يدي عدل، وفي قوله: إلا أن يكون مخارجا نظر؛ لأن كونه مخارجا هو أن يكون السيد قد ضرب عليه خراجا معلوما يأخذه منه مياومة أو مشاهرة، وإذا كان ذلك، فلا يصح ارتهانه؛ لأن الرهن لا يصح إلا بالحيازة لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ولا يصح أن يكون العبد حائزا(11/76)
للمرتهن ما عليه من الخراج؛ لأن يده كيد سيده الراهن فيما ضرب عليه من الخراج. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرهن إذا لم يقبض من الراهن ويحز عنه بأمر الراهن فيه]
مسألة قال ابن القاسم: وكل رهن لم يقبض من الراهن ويحز عنه بأمر الراهن فيه جاز، إن أعتق أو وطئ أو باع أو وهب أو نحل أو تصدق، وكل ما صنع فيه من شيء فهو جائز له إذا كان موسرا، ويؤخذ منه ما عليه من الدين، ويعطى صاحبه، وإن لم يكن موسرا لم يجز منه شيئا، إلا أن يطأ أمة فتحمل منه، أو شيئا فيبيعه فينفذ بيعه، فأما عتق أو هبة أو صدقة فإنه لا يجوز له أن يكون موسرا لأنه لم يقبض منه فليس هو برهن، وإن أفلس الراهن قبل أن يقبض المرتهن رهنه، ويقوم عليه، كان المرتهن فيه إسوة الغرماء، فإن قام المرتهن على قبضه وحوزه قبل أن يحدث الراهن فيه شيئا مما يفوت به، كان للمرتهن أن يخرجه من يد الراهن حتى يكون له رهنا مقبوضا يجعله المرتهن على يديه أو يدي من يرضى به، إن كره الراهن أن يكون على يدي المرتهن، ولم يكن المرتهن اشترط ذلك على الراهن عند ارتهانه الرهن، بجعله المرتهن على يدي من يرضى به، وكذلك كل من اشترط رهنا في بيع أو سلف، ولم يشترط قبضه، ثم طلب ذلك قبل أن يفوت الرهن، فإن ذلك له، وإن كره الراهن أن يكون في يدي المرتهن، فقال لا أرضى أن يكون رهني في يديك وضع لهما على يدي من يرضيان به جميعا، ولم يجعل على يدي المرتهن؛ لأنه لم يشترط ذلك على الراهن عند ارتهانه إياه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا(11/77)
اختلاف في شيء من وجوهها ومعانيها. وقوله فيها: فإما عتق أو هبة أو صدقة، فإنه لا يجوز له، إلا أن يكون موسرا، معناه: موسرا بما عليه من الدين وقوله: إن للمرتهن أن يقوم على الراهن، بأن يخرج الرهن من يديه، حتى يكون له رهنا مقبوضا يجعله المرتهن على يديه، أو يدي من يرضى به، إن كره الراهن أن يكون بيد المرتهن، معناه: إذا رضي الراهن أن يكون بيد الذي رضي المرتهن أن يكون بيده، فإن لم يرض بذلك وضعه السلطان بيد من يرضى به إذا لم يتفقا جميعا على من يكون بيده، يبين هذا قوله في آخر المسألة: وضع لهما على يدي من يرضيان به جميعا، وإنما جاز تفويت الراهن للرهن بعد أن رهنه بما ذكره وإن كان الرهن يلزم بالعقد، ويحكم للمرتهن بقبضه، مراعاة لقول من يقول: إنه لا يكون رهنا، ولا يلزم الحكم به، وإن تشاهدا عليه، ما لم يقبض، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] والرهن في هذا بخلاف الهبة والصدقة ومن وهب أو تصدق، فلا يجوز له بيع ما وهب، ولا هبته لغيره، وإن لم يحز عنه ولا قبضت منه؛ لأن الحيازة في الرهن ألزم منها في الهبة والصدقة. قد قال ناس في الهبة والصدقة: إنهما لا يفتقران إلى حيازة، ولم يقل ذلك، أحد في الرهن، لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
فصل وهذا إذا أطاع الراهن للمرتهن بالرهن بعد عقد البيع، أو بعد عقد السلف، وأما إن باعه بيعا أو أسلفه سلفا على أن يرهنه عبدا أسماه فباعه أو أعتقه قبل أن يقبضه المرتهن، فإن كان فرط في قبضه حتى باعه الراهن أو أعتقه، فلا حق للمرتهن فيه، ولا شيء له على الراهن المبتاع لأنه قد ترك رهنه بتفريطه في قبضه، وإن كان أعتقه أو باعه بفور رهنه إياه، دون أن يطول، ولم يكن من المرتهن تفريط في قبضه، مضى البيع والعتق أيضا، وكان للمرتهن أن يفسخ البيع عن نفسه؛ لأنه إنما بايعه على ذلك الرهن بعينه، فلما فوته عليه كان أحق بسلعته إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت فائتة. هذا معنى ما في كتاب الرهون من المدونة. وقد قيل: إن الثمن يوضع(11/78)
له رهنا. قاله أبو إسحاق التونسي، على قياس قول أشهب في الراهن يكاتب العبد الرهن قبل أن يقبضه المرتهن إن الكتابة تكون رهنا. وفي كتاب ابن المواز: إنه يوضع له رهن مكانه، وقد سأله في المدونة عن هذا فلم يجبه عليه، وهذا إذا كان المرتهن قد دفع السلعة أو السلف، وأما إن كانت سلعته لم تخرج من يده ولا سلفه فهو أحق بسلعته أو سلفه، سواء فرط في القبض أو لم يفرط، ولم يختلفوا إذا دبر قبل الحوز أن خدمة المدبر، لا تكون رهنا؛ لأنها نحلة ولم يكن ارتهن شيئا من الغلة. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا فكتب أنه قبضه المرتهن وحازه ولم يفعل ثم باعه صاحبه]
مسألة ومن ارتهن رهنا فكتب أنه قبضه المرتهن، وحازه ولم يفعل، ثم إن صاحبه باعه، فبيعه جائز؛ لأنه ليس برهن مقبوض، فأمر صاحبه فيه جائز، وليس كتاب المرتهن أنه قبضه وحازه ولم يفعل بشيء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الشاهد في الرهن على الحيازة والقبض، لا معنى له في وجه من الوجوه، إذا علم أن ذلك لم يكن بإقرار المرتهن بذلك، ولو تشاهدا على القبض والحيازة، ولم تعاين البينة ذلك، ثم باع الراهن الرهن، فادعى المرتهن أنه باعه تعديا عليه، ومناقصة له فيه بعد أن قبضه منه على ما تشاهدا عليه، لوجب أن ينفذ البيع ويبطل الرهن، إن كان الرهن بيد الراهن أو بيد المبتاع، وأن لا ينفذ على اختلاف إن كان بيد المرتهن، وكذلك لو قام الغرماء على الراهن، فألفي الرهن بيد المرتهن، فقال: قبضته حين تشاهدنا على ذلك قبل قيام الغرماء، وقال الغرماء: بل قبضته بعد قيامنا، لكان المرتهن أحق به على اختلاف.
والقولان في هذين الوجهين يتخرجان على القولين القائمين بين كتاب الهبة والصدقة من المدونة في الذي يهب الجارية لرجل، ويشهد له أنه قد(11/79)
قبضها وحازها ولم تعاين البينة القبض والحيازة، ثم مات الواهب وألفيت الجارية في يد الموهوب له، فقال: قبضتها في صحة الواهب، حين أشهد لي بقبضها، وقال الورثة: بل قبضتها بعد موته، ولما تشاهدا على الرهن والهبة دون القبض والحيازة، فألفي الرهن بيد المرتهن، أو الهبة بيد الموهوب له بعد الموت أو بعد قيام الغرماء، فادعيا أنهما قبضا ذلك، لم يصدق واحد منهما في ذلك باتفاق، إلا أن تكون لهما بينة على ذلك، ولا ينتفع في الرهن بإقامة البينة على أنه قد مضى قبضه وحازه قبل قيام الغرماء إلا أن تشهد البينة أنه قبضه وحازه بأمر الراهن وإذنه، والرهن في هذا بخلاف الهبة؛ لأن القبض فيه أوجه لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ولأن من أهل العلم من يقول: لا يكون رهنا حتى يكون مقبوضا. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا بحق له إلى أجل واشترط وضع الرهن على يد رجل]
مسألة ولو أن رجلا ارتهن من رجل رهنا بحق له إلى أجل، واشترط وضع الرهن على يد رجل ضمن للمرتهن قبضه وحوزه، وتحمل له مع ذلك بالحق إلى الأجل الذي رهن الرهن إليه فيه، فتركه عند الراهن ولم يقبضه، فقام صاحب الحق على قبض الرهن وحوزه، فقال الحميل: أنا أخرته عند الراهن، إرادة الرفق به، وأنا له وللحق ضامن إلى الأجل، فإن الحجة في ذلك إلى المرتهن؛ لأنه يقول: أخاف أن يفلس الحميل، والذي عليه الحق، فيدخل معي في الرهن عندي ولا آخذ من حقي وفاء فأرى أن يؤمر الحميل بقبض الرهن من الراهن، فإن لم يفعل نزع منه، ووضع للمرتهن على يدي غيره. والحمالة بالحق عليه كما هي.
قال محمد بن رشد؛ هذه مسألة بينة صحيحة، لا وجه للقول فيها، إذ لا إشكال في شيء من وجوهها ومعانيها. وبالله التوفيق.(11/80)
[مسألة: المرتهن يفتات على الراهن في بيع الرهن فيفوت]
مسألة وقال في المرتهن يفتات على الراهن، في بيع الرهن، فيفوت، ولا يعرف له الراهن ولا المرتهن صفة ولا قيمة يؤخذ بها، ولا بينة بينهما، واختلفا على ذلك، واجتمعا على الحق، ولم يختلفا فيه: إن المرتهن يحلف على ما باع به الرهن، ثم يجعل ذلك ثمنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة: أن الراهن يدعي أن قيمة الرهن رهنه أكثر مما باعه به المرتهن، والمرتهن يقول: بل قيمته ما بعته به، وهذا وجه قوله: واختلفا على ذلك، ويحتمل أن يكون وجه اختلافهما أن كل واحد منهما يدعي على صاحبه أنه يعلم صفته، فالراهن يقول للمرتهن: صفه فيتبين من وصفك إياه أنك بعته بأقل من قيمته، والمرتهن يقول للراهن: صفه أنت فيتبين من وصفك إياه أني بعته بقيمته. ووجه الحكم في ذلك إن ادعى الراهن أن قيمة الرهن أكثر مما باعه المرتهن، ولم يدع واحد منهما على صاحبه أنه يعلم صفته، أن يحلف المرتهن ما كانت قيمته أكثر مما باعه به، ويزيد في يمينه: ولقد باعه بكذا وكذا إن لم يكن له بينة على معرفة ما باعه به، فإن نكل عن اليمين حلف الراهن أن قيمته كذا وكذا، واستوجب ما حلف عليه، وأما إن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يعرف صفته، فيحلف كل واحد منهما على صاحبه أنه يعرف صفته لصاحبه ابتداء أنه ما يعلم صفته، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا أو حلف الراهن، ونكل المرتهن عن اليمين، كان الحكم في ذلك على ما وصفت لك من يمين المرتهن، إن لم يدع واحد منهما على صاحبه أنه يعرف صفته، وإن حلف المرتهن أنه ما يعلم صفته، ونكل الراهن عن اليمين أنه ما يعلم صفته، لم يجب على المرتهن اليمين، بأن يحلف ما كانت قيمته أكثر مما باعه به، ويحلف لقد باعه بكذا وكذا، إن لم تكن له بينة على معرفة ما باعه به، وقوله(11/81)
في الرواية: إن المرتهن يحلف على ما باع به الرهن، ثم يجعل ذلك ثمنه، معناه: إذا لم تكن له بينة على معرفة ما باعه ولم يدع عليه الراهن أنه باعه بأقل من قيمته، ولو ادعى ذلك عليه، لوجب أن يزيد في يمينه وما كانت قيمته أكثر من ذلك، ولو لم يدع ذلك عليه وكانت له بينة على معرفة ما باعه، لم يجب عليه يمين.
ووقع في بعض الكتب في هذه المسألة مكان واختلفا على ذلك: وحلفا على ذلك، ومعناه: إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يعلم صفته على ما ذكرناه، ورأيت لابن دحون أنه قال في ذلك: يمين الراهن لا معنى لها، هو يأخذ ما أقر به المرتهن من الثمن إذا جهلا الصفة، فلا معنى ليمين الراهن، وإنما يصح قوله إذا لم يدع واحد منهما على صاحبه، أنه يعرف صفته، وإنما اختلفا في مبلغ ما باع به الرهن. وظاهر الكلام خلاف هذا لأن قوله على ذلك، إنما هو إشارة منه إلى ما تقدم من أن كل واحد منهما يقول: لا أعرف صفته ومعناه، ويقول لصاحبه: وأنت تعرفها، فلا وجه للمسألة غير ما ذكرناه فيها. وبالله التوفيق.
[مسألة: الراهن والمرتهن يختلفان في الرهن بعينه]
مسألة وقال في الراهن والمرتهن يختلفان في الرهن بعينه فيقول الراهن: رهنتك ثوبا جديدا ويقول المرتهن: بل رهنتنيه ثوبا خلقا، وهو هذا بعينه، ولا بينة بينهما، واجتمعا على الحق، كان القول قول المرتهن مع يمينه.
قال محمد بن رشد: أما إذا اتفق الراهن والمرتهن على الرهن بعينه، واختلفا في صفته يوم رهنه إياه، فقال الراهن: كان جديدا وقال المرتهن: كان خلقا على ما هو عليه، فلا اختلاف ولا إشكال في أن قول المرتهن، في أنه رهنه إياه خلقا على ما هو عليه؛ لأن الراهن مدع عليه أنه(11/82)
لبس الثوب حتى أخلقه، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. وأما إن أتى المرتهن بالثوب خلقا فقال الراهن: ليس هذا ثوبي؛ لأني رهنتك ثوبا جديدا وقال المرتهن: بل هو ثوبك بعينه، رهنتنيه إياه خلقا على ما هو عليه، قال ابن القاسم ها هنا: إن القول قول المرتهن، ظاهر قوله أشبه أن يكون ذلك الثوب خلقا على ما هو عليه، يرهن في مثل ذلك الحق، أو لم يشبه، إذ لم يفرق بين ذلك، خلاف قول أصبغ في نوازله بعد هذا ومثل قول أشهب. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن عبدا فأعتقه الراهن أو دبره]
مسألة وعن رجل رهن عبدا فأعتقه الراهن أو دبره، إن الراهن إذا كان موسرا بما عليه دفع إلى المرتهن حقه، وجاز عتقه أو تدبيره وإن كان غير موسر بما رهنه، فلا عتاقة ولا تدبير له، والمرتهن أحق برهنه حتى يستوفي حقه.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين العتق والتدبير، في اليسر والعدم، فقال: إن كان موسرا بما رهنه به، عجل له حقه، وجاز عتقه أو تدبيره، وإن كان غير موسر بذلك، فلا عتاقة له ولا تدبير، وفرق بينهما في المدونة في اليسر والعدم أيضا، فقال في التدبير: إنه جائز، ويكون رهنا بحاله؛ لأن للرجل أن يرهن مدبره.
قال محمد بن المواز: فإذا حل الأجل ولا مال له بيع، يريد: وإن كان موسرا يوم رهنه، بخلاف ما قاله في العتق، والذي يوجبه النظر الصحيح في هذه المسألة، أن يفرق فيها بين أن يكون الراهن يوم دبره موسرا بما رهنه فيه، أو غير موسر بذلك، فإن كان موسرا بذلك، عجل له حقه وجاز تدبيره على ما قاله في هذه الرواية، خلاف ما في المدونة؛ لأن التدبير إن أجيز على ما في المدونة دون أن يعجل للمرتهن حقه، فحل الأجل ولا مال للراهن غير(11/83)
المدبر، فإن لم يبع للمرتهن من أجل أن الراهن كان موسرا يوم دبره، والتدبير لا يرد. في حال الحياة الدين الحادث بعده دخل عليه ضرر في رهنه، وإن بيع له في رهنه على ما قاله محمد بن المواز، كان ذلك إبطالا للتدبير الذي قد توجه تنفيذه بإجازته، وإن لم يكن موسرا بذلك، جاز تدبيره على ماله في المدونة خلاف قوله في هذه الرواية: إنه إن كان غير موسر بما رهنه فلا عتاقة ولا تدبير له؛ لأنه إن لم يكن موص بما رهنه يوم دبره بما رهنه على المرتهن ضرر في تدبيره، إياه؛ لأن من حقه أن يباع له في دينه إذا حل أجله وإن كان قد دبره؛ لأن دينه قد سبق التدبير، فلا وجه لرد تدبيره إذا لم يكن موسرا يوم دبره بما رهنه به، وكذلك اختلف، إذا كاتب الراهن عبده بعد أن رهنه، فقال محمد بن المواز يبقى مكاتبا، وفي هذا نظر؛ لأنه قد يعسر يوم حلول الأجل، فلا يكون في ثمن الكتابة إذا بيعت وفاء بالدين، فتبطل الكتابة. وقال في المدونة: إن ذلك بمنزلة العتق، إن كان للسيد مال، أخذ منه ومضت الكتابة، يريد: وإن لم يكن له مال نقضت الكتابة، إلا أن تكون قيمة الكتابة مثل الدين، فيجوز بيع الكتابة في دينه، وإن لم يكن في قيمة الكتابة وفاء بالدين، نقصت كلها؛ لأنه لا يكون بعضه مكاتبا، بخلاف المدبر إذا كان بعضه يفي بالدين؛ لأنه يجوز أن يكون بعضه مدبرا عند ابن القاسم. وقال محمد: لا يكون بعضه مدبرا، كما لا يكون بعضه مكاتبا. والذي في المدونة من أن الكتابة في هذا بمنزلة العتق هو الصواب المشهور في المذهب، ولم يختلفوا في العتق أنه إن كان له مال أخذ منه الحق معجلا، ومضى العتق، وإن لم يكن له مال، وكان في العبد فضل، بيع منه، وقضي الدين، وأعتق الفضل، وإن لم يكن فيه فضل لم يبع حتى يحل الأجل، لعله أن يكون فيه حينئذ فضل، فقوله في هذه الرواية: وإن كان غير موسر بما رهنه، فلا عتاقة له ولا تدبير، معناه: إن لم يكن فيه فضل للعتق أو للتدبير، وقال أبو الزناد: إذا لم يكن مع السيد مال، فقضى العبد ما هو فيه مرهون أعتق ولم يتبع سيده بشيء من ذلك، والصواب أن يتبع سيده بذلك، إذا أداه(11/84)
عنه على سبيل السلف لأنه لما تعدى بعتق العبد، فقد رضي ببقاء الدين في ذمته، فلو رضي المرتهن بإجازة العتق واتباع ذمته بحقه، لكان ذلك له، ولو أدى ذلك الدين أحد عنه سلفا، لكان له أن يتبعه له، ويمضي عتق العبد، ولم يكن له في ذلك كلام، إذ قد رضي بعتق العبد، وبقاء الدين في ذمته. فلو رضي المرتهن بإجازة العتق واتباع ذمته بحقه، لكان ذلك له، ولو أدى ذلك الدين أحد عنه سلفا، لكان له أن يتبعه به ويمضي عتق العبد، ولم يكن له في ذلك كلام، إذ قد رضي بعتق العبد وبقاء الدين في ذمته، فكذلك العبد إذا أراد أن يسلف سيده المال، ويتبعه به دينا في ذمته. ووجه ما ذهب إليه أبو الزناد، أن عتقه لما لم يتم إلا بقضاء الدين، صار كأنه أداه، وهو في ملك سيده. وفي هذا نظر، قد ذكره أبو إسحاق التونسي في كتابه فمن شاء وقف عليه فيه. هذا كله إذا أعتق الراهن العبد المرهون أو دبره بعد أن حازه المرتهن.
وقد مضى القول في هذا الرسم إذا فوت الراهن الرهن بشيء من وجوه الفوت، قبل أن يحوزه المرتهن، فلا وجه لإعادته، بالله التوفيق.
[مسألة: يرتهن الجارية فيزوجها غلاما له بغير إذن سيدها فتلد وتموت]
مسألة وعن الرجل يرتهن الجارية فيزوجها غلاما له، بغير إذن سيدها، فتلد له، فتموت من نفاس أو لا تموت، إن ولدها لسيدها، وهم رهن مع أمهم، ويفسخ نكاحها، وأما إن ماتت من نفاس نكاحها ذلك، فلا ضمان عليه. قال ابن القاسم بلغني هذا عن مالك ولست آخذ به، وأراه ضامنا لها إذا ماتت من قبل الحمل.
قال محمد بن رشد: قد قال مالك في غير هذا الكتاب: إنه ضامن، مثل قول ابن القاسم. وقال أشهب: لا ضمان عليه في الموت من(11/85)
الولادة؛ لأن الحمل ليس بإرادة المرتهن. وقال أصبغ: لأنه إنما تعدى في النكاح لا في الوطء. وقول ابن القاسم، هو الصحيح؛ لأن الحمل سببه الوطء، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جل النساء على الحمل، فإذا زوجها المرتهن، فقد أباحها للوطأ وعرضها للحمل. وقد قالوا فيمن طرد صيدا من الحرم إلى الحل؛ إن عليه الجزاء، من أجل أنه عرضه للصيد. وهذا مثله في المعنى وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن رهنا في حق له إلى أجل فأقاما الرهن بأربعة دنانير فضاع الرهن]
مسألة وقال في رجل رهن رجلا رهنا في حق له إلى أجل، فأقاما الرهن بأربعة دنانير، فضاع الرهن، فأرى قيمة الرهن، ما قوماه به، إلا أن يكونا قصرا في قيمة الرهن أو زادا فيه، فيرد إلى قيمته إذا علم ذلك. قال ابن القاسم: كل من ارتهن رهنا مما يغاب عليه، فالقيمة فيه يوم رهنه، وإن تداعيا في الحق والرهن قائم، فالقيمة فيه يوم يتداعيان فيه.
قال محمد بن رشد: قال ها هنا في الرهن الذي يغاب عليه إذا أهلك عند المرتهن: إن عليه قيمته يوم ارتهنه. وقال فيما تقدم في هذا الرسم: إن عليه قيمته يوم ضاع عنده.
وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى فلا معنى لإعادته. وإذا وجبت عليه قيمته يوم ارتهنه على ظاهر هذه الرواية، أو على ما حملناها عليه، وكانا قد قوما الرهن يوم الارتهان، فالواجب أن تكون قيمته ما قوماه به، إلا أن يكونا قصرا في تقويمه كما ذكر. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا بغير بينة ثم زعم أنه قد رده إلى صاحبه وأخذ حقه منه]
مسألة ومن ارتهن رهنا بغير بينة ثم زعم أنه قد رده إلى صاحبه، وأخذ حقه منه، فينكر ذلك صاحب الرهن، إن صاحب الرهن(11/86)
يحلف على ما قال، ويضمن المرتهن الرهن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن ما كان لا يصدق في دعوى الضياع فيه من العواري والرهون التي يغاب عليها، فلا يصدق في دعوى الرد فيه، سواء قبض ذلك ببينة أو بغير بينة. وهذا ما لا اختلاف فيه لحفظه في المذهب، إلا ما وقع في آخر سماع أبي زيد من كتاب الوديعة، فإن فيه دليلا على أنه يصدق في دعوى رد الرهن إذا قبضه بغير بينة، وهو بعيد، فلعله إنما تكلم على الرهن الذي لا يغاب عليه، فتصح المسألة وتأتي على الأصل.
وقد مضى في أول سماع عيسى وسماع أصبغ من كتاب الرواحل والدواب، تحصيل القول في هذا الأصل. وبالله التوفيق.
[مسألة: كان عنده رهن فمات المرتهن والرهن عنده]
مسألة ولو أن رجلا كان عنده رهن فمات المرتهن والرهن عنده، واستخلف رجلا فأعطى الخليفة الرهن بعض ما يلي ممن استخلفه عليه من ورثة الميت أن يقتضي له دين أبيه، فانطلق المأمور برهنه، فطلب الخليفة نقض ذلك، وأخذ الرهن، قال: يحلف الخليفة بالله أنه لم يأمره أن يرهنه ثم يأخذه:
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إنه ليس له أن ينقض ذلك ويأخذ الرهن، إلا بعد يمينه أنه لم يأمره أن يرهنه إن ادعى عليه المرتهن أنه أمره بذلك، وحقق الدعوى وأما إن لم يحقق عليه الدعوى بذلك وأراد أن يحلفه من غير تحقيق الدعوى، فيجري ذلك على الاختلاف في وجوب لحوق يمين التهمة. وبالله التوفيق.
[مسألة: جاء إلى ورثة رجل فقال إن أباكم رهنني سيفه هذا بكذا]
مسألة وعن رجل جاء إلى ورثة رجل، فقال لهم: إن أباكم رهنني(11/87)
سيفه هذا بكذا وكذا، فهاتوا حقي، وخذوا سيف أبيكم، فقال الورثة: ما نعلم ما تدعي من الحق والرهن، فهات سيف أبينا، فقال: إن جاء ببينة على ما ذكر من الحق والرهن، أخذه، وإن لم يأت ببينة لم يصدق، ودفع السيف إلى أهله، وحلفوا إن كان فيهم من يظن أنه يعلم ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، على معنى ما في المدونة وغيرها. وقد تقدمت في رسم أسلم من سماع عيسى. والقول فيها. وبالله التوفيق.
[مسألة: باع من رجل سلعة بثلاثين درهما وارتهن بها منه غلاما]
مسألة وعن رجل باع من رجل سلعة بثلاثين درهما إلى شهر، وارتهن بها منه غلاما يغل كل يوم درهما، واشترط أنه يطرد حقه كل يوم في خراج غلام، وإن لم يجد الغلام كل يوم درهما، أخذه من سيده، وكان له ضامنا. قال: إذا كان مضمونا كما ذكرت، إن لم يجده عند الغلام أخذه من الراهن، كان جائزا لا بأس به، ولو لم يكن البيع على ذلك من الشرط أنه يضمن له درهما كل يوم، إلا أنه ارتهن العبد في حقه إلى محله، فطاع له الراهن بدرهم كل يوم من خراج غلامه، لم يكن بذلك بأس أيضا ما لم يرد المرتهن العبد على سيده لذلك فيكون الراهن إنما فعل ذلك للذي رد عليه من رهنه. قال عيسى: وهذا كله في البيع، فأما في السلف فلا بأس فيه.
قال الإمام القاضي: أما إذا وقع البيع على أن يرهنه العبد وهو يغل كل يوم درهما على أن يقتضي غلته من حقه، فلا يجوز، إلا أن يكون السيد ضامنا لذلك، إن لم يجد عند الغلام الدرهم كل يوم أخذه من السيد الراهن. ولو رهنه الغلام بعد عقد البيع، وطاع له أن يأخذ غلته من حقه، لجاز ذلك(11/88)
من غير ضمان. وأما السلف فذلك جائز فيه من غير ضمان، كان شرطا في أصل السلف أو طوعا بعد ذلك، إلا أن يطوع له بذلك على أن يرد عليه العبد، فلا يجوز بحال، لا في البيع ولا في السلف، وإن التزم السيد ضمان ذلك، إلا أن يكون الأجل قد حل ففي قول عيسى بن دينار: وهذا كله في البيع، فأما في السلف فلا بأس به، وفيه نظر، إذ إنما يفترق البيع من السلف في موضع واحد، وهو أن يشترط ذلك في أصل البيع وأصل السلف، ولا يجوز في أصل البيع. وهو نص قول مالك في كتاب حريم البئر من المدونة وعلى هذا الوجه خاصة، ينبغي أن يرد قول عيسى بن دينار، ولا يحمل على عمومه في كل المواضع. وبالله التوفيق.
[يموت المرتهن ويأتي الراهن ببينة أنه رهنه ولا يشهد له بكم رهنه]
ومن كتاب إن أمكنتني من حلق رأسك وسألته عن الرجل يرهن الرهن ثم يموت المرتهن، ويأتي الراهن ببينة، أنه رهنه ولا يشهد له بكم رهنه، ويزعم أنه رهنه بدينار، أو يسمى شيئا هو أدنى من الرهن، ويقول للورثة: لا علم لنا بما رهنه به عندك، القول قول من يكون؟ قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول في المرتهن يموت: إن القول قول الراهن فيما زعم، أنه رهنه به، إذا لم يكن الميت ذكر شيئا، ولم يدع الورثة علما، ويحلف على ذلك، وإن كانت قيمة الرهن أكثر مما ذكر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة. وقد تقدمت والقول فيها في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم. ومضت أيضا في رسم شك منه. ومضى في الرسم الذي قبل هذا من هذا السماع، وفي رسم أسلم منه إذا أنكر الراهن ما ادعاه ورثة المرتهن من الرهن، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك. وبالله التوفيق.(11/89)
[يرتهن الرهن على من يكون كراء موضعه]
ومن كتاب العتق وسئل عن الرجل يرتهن الرهن، على من ترى كراء موضعه؟ قال: أما ما يحوزه المرتهن في منزله، مثل الرأس والثوب وما أشبه مما لا يكون في مثله مؤونة فلا كراء فيه لأن هذا يرتهنه الرجل ويحوزه معه في منزله، وعلى هذا أمر الناس، وأما إن كان الشيء له قدر وبال، مثل الشيء يخزنه وما أشبهه، فكراؤه على صاحبه؛ لأن هذا من النفقة، ونفقة الرهن على صاحبه.
قال الإمام القاضي: أما الشيء الكثير مثل الطعام يختزن، أو المتاع أو العدد من العبيد الذين يحتاجون إلى مسكن يكونون فيه، فلا اختلاف ولا إشكال في أن الكراء في ذلك كله على الراهن، كما قال. وأما مثل الرأس وشبهه الذي يحوزه الرجل في منزله ولا يشغل له مكانا لكرائه، قدر وقيمة. فقال في هذه الرواية: إنه لا كراء للمرتهن في ذلك. وقال الشيوخ: إن هذا معارض لقول ابن القاسم في المدونة: إن للحاضنة على الأب السكنى مع النفقة والكسوة، يريد على عدد الجماجم، مثل قول ابن وهب في الدمياطية وأحد قولي ابن القاسم فيها: إنه لا سكنى لها ولا خدمة والاختلاف في هذا عندي جار على اختلافهم في الحضانة، هل هي من حق الحاضن، أو من حق المحضون؟ فمن رآها من حق الحاضن، لم يوجب نفقة ولا سكنى؛ إذ لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويؤويه إلى نفسه ويجب له بذلك حق، ومن رآها من حق المحضون، أوجب له السكنى والنفقة، أجرة لحضانته فيجب على قياس هذا الذي قلناه أنه إن كان المرتهن اشترط كون العبد الرهن بيده فأخذه لحقه وحازه في بيته أن لا يكون له كراء إن طلبه، وإن كان لم يشترط كونه بيده فدفعه إليه الراهن بطوعه، ليحوزه لنفسه في بيته أن يكون له الكراء إن طلبه. وبالله التوفيق.(11/90)
[مسألة: يستعير الثوب من رجل ليرهنه بعشرة دنانير فرهنه بها ثم تلف الثوب]
مسألة وسئل عن الرجل يستعير الثوب من رجل ليرهنه بعشرة دنانير، فرهنه بها ثم تلف الثوب، فقال: يضمن المرتهن للراهن، ويضمنه الراهن لصاحبه، وهو بمنزلة ما لو بيع في حقه؛ لأنه يقص به عن الراهن في حق المرتهن، فإذا كان يحط به من دينه لمكانه، فهو يغرم ذلك لصاحبه.
قال الإمام القاضي: المعنى في هذه المسألة: أن الثوب ضاع بيد المرتهن، ولذلك قال: إنه يضمنه للراهن، ولو جعله الراهن المستعير للمرتهن بيد عدل فضاع عنده لضمنه الراهن لربه، ولم يكن على المرتهن شيء، ولو جعلاه جميعا المعير والمستعير للمرتهن بيد عدل فضاع عنده، لكان ضمانه من ربه المعير، ولم يكن على المستعير ولا على المرتهن شيء. وقال أشهب: إنه إذا ضاع عند المرتهن ضمن قيمته للراهن، وضمن الراهن المستعير قيمته لربه المعير يوم طلبه به، يريد أشهب والله أعلم إن المرتهن يغرم للراهن من قيمته يوم ضاع، إذا علم أنه كان عنده يوم ادعى ضياعه على ما ذكرناه في رسم الرهون، وفي قوله: إن المستعير يغرم للمعير قيمته يوم يطلبه نظر، فتدبره. قال: وإذا بيع للمرتهن في حقه، فليس على المستعير من ثمنه إلا ما قضى عنه منه، إن كله فكله، وإن بعضه فبعضه، ويرد الباقي إلى المستعير، يريد فيدفعه إلى المعير وإن ذهب عند الأمين الذي باعه بأمر السلطان، فضمانه من المعير، وليس على المستعير إلا ما قضى عنه منه. وبالله التوفيق.
[مسألة: يرتهن الرهن ثم يعيره للراهن لبعض حوائجه فيغيب به الأيام ثم يرجع]
مسألة وسئل عن الرجل يرتهن الرهن، ثم يعيره المرتهن الراهن، لبعض حوائجه، فيغيب به الأيام الثلاثة أو أقل أو أكثر، ثم يرجع،(11/91)
فيريد المرتهن قبضه على رهنه كما هو، ويأبى ذلك الراهن، ويقول: قد فسخت رهنك، وعاريتك إياي ترد، قال: لا أرى له رهنا ولا أرى له أخذه، إلا أن يرده إليه طائعا، وإن فلس قبل أن يرده إليه، لم يكن له رهن، وكان إسوة الغرماء، وقد اختلف في إن رده إليه بعد ذلك وفلس، هل يكون رهنا أو لا يكون رهنا؟ فمالك قال: ليس برهن، والغرماء أولى به، وهو معهم إسوة، وأما أنا فأحب إلي أن يكون رهنا إن هو حازه قبل أن يفلس. وفي كتاب أسد: قلت لابن القاسم: أيكون على الراهن أن يرده ويكون للمرتهن أن يقوم على الراهن فيأخذ رهنه؟ قال: لا إلا أن يكون أعاره على ذلك.
قال محمد بن رشد: الرهن لا يكون إلا مقبوضا لقول الله عز وجل {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فإذا صرف المرتهن الرهن إلى الراهن بعارية أو إجارة أو إيداع، فقد نقض رهنه، وأبطله وأخرجه عن أن يكون رهنا، فإن أراد أن يقوم عليه بعد ذلك، فيأخذ منه رهنه ليرده إلى حالته الأولى، فأما في العارية فليس له ذلك، أراد أن يأخذه منه قبل أن ينتفع به الراهن القدر الذي يرى أنه إنما أعاره إياه لذلك، ولا اختلاف في هذا، بخلاف إذا أعار الرجل متاعه لرجل، ثم أراد أن يأخذه منه قبل أن ينتفع به، فقد قيل: إن ذلك له، وهو الذي يأتي على ما في كتاب العارية من المدونة؛ لأنه قال فيها: إن الرجل إذا أعار أرضه رجلا على أن يبني فيها، إن له أن يخرجه منها قبل أن يبني، وبعد أن يبني، ويعطيه قيمة بنيانه قائما إلا أن يكون قد مضى في المدة ما يرى أنه أعاره إلى مثله، فيكون له قيمة بنيانه منقوضا. وقيل إنه ليس له أن يخرجه منها بنى أو لم يبن حتى يمضي لعاريته من الأجل، ما يرى أنه أعاره إلى مثله. وأما إن أراد أن يأخذه منه بعد أن انتفع به الراهن القدر الذي يرى أنه أعاره إليه لذلك، ففي ذلك اختلاف. قال ابن القاسم في هذه الرواية: وفي المدونة(11/92)
ليس ذلك له. وقال أشهب: ذلك له، وأما إن كان أراد أن يأخذه منه بعد انقضاء أجل العارية، وقد كان ضرب لها أجلا فذلك له باتفاق، بمنزلة إذا أعاره إياه، على أن يرده إليه، فإن رده إليه في الموضع الذي يلزمه أن يرده إليه باتفاق، رجع رهنا على حاله باتفاق، وكذلك يرجع رهنا على حاله إن رده إليه في الموضع الذي يختلف هل يلزمه أن يرده إليه أم لا؟ على مذهب من يرى أنه يلزمه أن يرده إليه. واختلف إن رده إليه باختياره في الموضع الذي لا يلزمه أن يرده إليه باتفاق، أو في الموضع الذي يختلف هل يلزمه أن يرده إليه أم لا؟ على قول من يرى أنه لا يلزمه أن يرده إليه هل يرجع بمجرد رده إليه رهنا على حاله الأول أم لا؟ فأما مالك فقال في هذه الرواية: إنه لا يكون رهنا، يريد أنه لا يرجع بمجرد رده إليه، إلا أن ينص على أنه قد رهنه إياه برده إليه، إذ قد خرج من الرهن الأول بعاريته إياه، وأما ابن القاسم فقال فيها: إنه يكون رهنا، يريد أنه يرجع بمجرد رده إليه رهنا على حاله الأول، فالاختلاف في هذا راجع إلى الرهن، هل تفتقر صحته إلى التصريح به أم لا؟ ومن مذهب ابن القاسم في المدونة أن صحته تفتقر إلى التصريح به حسبما بيناه في سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس، لكنه راعى في هذه المسألة تقدم الرهن، فأقام ذلك مقام التصريح به، فليس قوله بخلاف لمذهبه في المدونة من أن الرهن تفتقر صحته إلى التصريح به، وأما مالك فلم يراع تقدم رهنه، إذ قد بطل برده إلى الراهن، فرأى أنه إذا رده إليه لا يكون رهنا حتى يصرح بذكر الرهن، ويجب على مذهبه إذا لم يكن رهنا أن يكون أحق به، ما لم يكن ثم غرماء، على معنى ما في المدونة وفي سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس، وأما إذا رد المرتهن الرهن إلى الراهن بإجارة، فله أن يقوم عليه ويأخذه منه، فيكون رهنا بيده على حاله الأول إذا انقضت الإجارة، وأما إن قام عليه فأراد أخذه منه قبل انقضاء أجل الإجارة، فليس ذلك له، وقد قيل: إنه إن ادعى أنه جهل أن ذلك يكون نقضا لرهنه، وأشبه ما قال، إنه يحلف على ذلك، ويكون له رده، ما لم يقم عليه(11/93)
الغرماء، وأما إذا رده إليه بإيداع، فلا أقف في وقتي هذا على نص الرواية في ذلك، والذي أقول به: إن له أن يقوم عليه فيأخذه منه، ويكون له رهنا. إن لم يكن عليه دين يستغرقه باتفاق، أو ما لم يقم عليه الغرماء على اختلاف قول مالك فيمن رهن رهنا وعليه دين محيط بماله. وبالله سبحانه التوفيق.
[مسألة: يرتهن الدار وللدار طريق لجميع الناس فيسلكها الراهن معهم]
مسألة وسئل عن الرجل يرتهن الدار، وللدار طريق لجميع الناس، فيسلكها الراهن معهم، فقال: إذا حاز المرتهن البيوت وأكراها، فلا يضره؛ لأنه حق لغير صاحب الدار.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إنما رهنه البيوت التي له، ولم يرهنه الطريق الذي ليس له من الحق فيه إلا ما لغيره من المرور فيه. وبالله التوفيق.
[يرتهن الحيوان فيهلك في يديه فيدعي أنه ارتهنه بعشرين دينارا]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الصلاة قال يحيى وسألت ابن القاسم عن الرجل يرتهن الحيوان فيهلك الرهن في يديه، فيدعي أنه ارتهنه بعشرين دينارا، أو يزعم الراهن أنه رهنه إياه بعشرة دنانير، والبينة تثبت أن قيمة الرهن الذي هلك عشرون دينارا، إن البينة على المرتهن فيما ادعى فوق العشرة دنانير التي أقر بها الراهن؛ لأنه لا يقاص شيء من قيمة الرهن الهالك، وهو فيها ادعى فوق العشرة، كمن ادعى مثل ذلك فيمن لم يرتهن شيئا، فليس له إلا ما أقر به غريمه إذا هلك الرهن في يديه. قيل له: أرأيت الذي يرهن المتاع الذي يغيب عليه، فتقوم البينة على هلاكه وقيمته، والقيمة عشرون دينارا، وادعى أنه ارتهنه(11/94)
بعشرين دينارا؛ وأنكر الراهن أن يكون رهنه بأكثر من عشرة دنانير؟ فقال: إذا هلك الرهن هلاكا ظاهرا يشهد به العدول حتى يبرأ بذلك المرتهن من ضمان الرهن، فلا حق له على الغريم الراهن، إلا ما أقر له به مع يمينه، أو ما أثبتته البينة، وإنما جعله مالك مصدقا فيما يدعي فيما بينه وبين قيمة الرهن، إذا كان هلاك الرهن غير معروف، ووجب ضمانه على المرتهن، فعند ذلك يصدق المرتهن مع يمينه فيما ادعى ما بينه وبين قيمة الرهن.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في سماع عيسى من أن الرهن إنما يكون شاهدا لمرتهنه إذا كان قائما بيده لم يفت، أو كان قد فات وادعى ضياعه، وهو مما يغيب عليه، فلزمته قيمته؛ لأن القيمة الثانية في ذمته، كالرهن القائم في يديه. وأما إن استحق من يده أو تلف تلفا ظاهرا؛ كان مما يغاب عليه، أو ادعى ضياعه وهو مما لا يغاب عليه، فصدق في ذلك مع يمينه، وسقط عنه ضمانه، فلا يكون شاهدا له. وهذا مما لا أعرف فيه نص خالف في المذهب، وهو بين، على القول بأن الرهن لا يكون شاهدا على ما في الذمة، وإنما يشهد على نفسه، وأما على القول بأنه يشهد على ما في الذمة، وهو ظاهر قول مالك في أول سماع ابن القاسم على ما ذكرناه هناك، فيتخرج على قياسه أن يكون شاهدا له بقيمته يوم رهنه، كان قائما بيده لم يفت باستحقاق ولا غيره، أو كان قد استحق أو تلف لزمته قيمته أو لم تلزمه، وهو القياس، إن كانوا لم يقولوا ذلك؛ لأنه إنما يكون شاهد له من أجل أنه يدل على صدق دعواه؛ لأنه يقال للراهن: إذا قال: إنه رهنه بخمسة في التمثيل، وادعى المرتهن أنه ارتهنه بعشرة، والرهن يساوي عشرة، قول المرتهن أشبه من قولك، إذ لو لم يكن له عليك إلا خمسة فما رهنته بها رهنا قيمته عشرة، فوجب على هذا التعليل، ألا يلتفت إلى ما أصاب الرهن بعد ذلك من نقصان قيمته بحوالة الأسواق، أو تلافه، أو استحقاقه. وبالله التوفيق.(11/95)
[مسألة: تواضعا الرهن بيد أمين ثم اختلفا فيمن رهن به ولا بينة]
مسألة قيل له: أرأيت لو أن الرهن كان سالما ظاهرا بيد المرتهن، وقيمته خمسة عشر دينارا؟ فقال: إنما ارتهنته منك بعشرين دينارا، وقال الراهن بل رهنتكه بعشرة دنانير، فصدق المرتهن فيما ادعى إلى أن بلغ قيمة الرهن الخمسة عشر دينارا، فقال الراهن: أنا آخذ رهني وأقضيك الخمسة عشر التي صدقت بها، أيكون ذلك له؟ فقال: لا يكون له أن يأخذ الرهن إلا أن يعطيه العشرين التي ادعى كلها، قيل له: فإذا لم يكن ذلك له، فإن قال المرتهن للراهن: أنا أتطوع لك به على أن تعطيني الخمسة عشر التي صدقت بها، فكره ذلك الراهن، وقال: بل احبس رهنك بجميع حقك علي، فقال إن يرى المرتهن إلى الراهن بالرهن لم يكن له عليه إلا العشرة دنانير التي أقر بها. قال أصبغ: وكذلك لو تواضعا الرهن بيد أمين، ثم اختلفا فيمن رهن به، ولم تكن بينهما بينة: إن القول قول المرتهن مع يمينه؛ لأنه لم يتله في يديه ولم يقبضه على الائتمان.
قال محمد بن رشد: لم ير ابن القاسم في هذه الرواية إذا اختلف الراهن والمرتهن في مبلغ ما رهن فيه الرهن، فادعى المرتهن أكثر من قيمته، وادعى الراهن أقل من قيمته، فحلف كل واحد منهما على ما ادعاه من حق الراهن على المرتهن أن يفتك الرهن منه بقيمته، ولا من حق المرتهن على الراهن، أن يسلمه إليه بقيمته، ورأى الراهن إذا حلفا جميعا بما فيه، ليس للراهن أن يأخذه من المرتهن، إلا أن يدفع إليه جميع ما ادعاه، وحلف عليه، ولا للمرتهن أن يسلمه إلى الراهن، ويأخذ منه قيمته، وإنما له أن يمسكه او يأخذ من الراهن ما أقر. وهذا هو حقيقة القياس، على القول بأن(11/96)
الرهن لا يكون شاهدا إلا على نفسه، خلاف قول عيسى بن دينار وقول سحنون في سماع ابن القاسم، وقول ابن القاسم في أول رسم العرية، من سماع عيسى إن الراهن مخير بين أن يفتك الرهن بقيمته، أو يتركه بما فيه، وخلاف ظاهر ما في المدونة، وما في أول سماع ابن القاسم من قول مالك: إن الراهن يلزمه أن يفتك الرهن بقيمته، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها قول مالك: إن الراهن يلزمه افتكاك الرهن بقيمته، والثاني: إنه مخير بين أن يكون يفتكه بقيمته، أو يسلمه، وهو قول سحنون وعيسى بن دينار وروايته عن ابن القاسم. والثالث إنه مخير بين أن يفتكه بما حلف عليه المرتهن، أو يسلمه، وكلا هذين القولين: الثاني والثالث، قد تؤولا على ما في الموطأ. وأما قول أصبغ: إن القول قول الراهن فيما رهن فيه الرهن، إذا وضع بيد أمين، فهو دليل ما في الموطأ خلاف المشهور في المذهب الذي تدل عليه ظواهر الروايات في المدونة وغيرها. وقد نص على ذلك ابن المواز في كتابه فقال: إن القول فيه قول المرتهن، وإن وضع بيد أمين. وحكى ذلك إسماعيل القاضي عن مالك في أحكام القرآن. وهو القياس، إذ لا فرق في كونه دليلا على صدق المرتهن، بين أن يكون في يديه، أو على يدي عدل، ويلزم على قياس قول أصبغ أن يكون من حق المرتهن الرهن، أن يكون على يديه، ليكون له شاهدا وإن كره ذلك الراهن، خلاف ما مضى في رسم الرهون من سماع عيسى. وبالله التوفيق.
[مسألة: يرهن الرجل أمته ولها ولد صغير]
مسألة قال يحيى: قال ابن القاسم: وسمعت مالكا كره أن يرهن الرجل أمته ولها ولد صغير، لا يجوز له أن يفرق بينهما، وينهى عن ذلك. قال يحيى: وسألت عنه ابن وهب فلم ير به بأسا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم شك في طوافه الثاني من سماع ابن القاسم، وفي رسم الأقضية الثالث(11/97)
من سماع أشهب فلا معنى لإعادة شيء من ذلك. وبالله التوفيق.
[يرتهن الرهن بحق له على أن يضمن له رجل ما نقص الرهن من حقه]
ومن كتاب يشتري الدار والمزارع وسئل عن الرجل يرتهن الرهن بحق له على أن يضمن له رجل ما نقص الرهن من حقه، فحالت الأسواق حتى قل ثمن الرهن جدا، أو دخله عيب أعطبه أو نقصه نقصانا فاحشا أو هلك، ماذا يضمن الحميل للمرتهن؟ قال: إن هلك الرهن بعطب أصابه من مرض أو مات، ضمن الحميل جميع الحق، وكذلك يضمن ما دخله من النقصان، قل أو كثر كان ذلك النقصان من عيوب حدثت به، أو حوالة الأسواق.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه إذا ضمن ما نقص الرهن من حقه، إنه ضامن لما نقص من حقه إذا بيع الرهن، ولكل ما أصاب الرهن، ولا اختلاف في ذلك.
وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[يسأل الرجل سلفا ويأتيه برهن مما يغاب عليه ليدفعه إليه]
ومن كتاب المكاتب قال وسألته عن الرجل يسأل الرجل سلفا ويأتيه برهن مما يغاب عليه ليدفعه إليه، فيقول له المستسلف: ضع رهنك عندي وعد إلي غدا أدفع إليك ما سألتني من السلف، فإذا غدا إليه ليقتضي ما وعده، وجد الرهن قد هلك عند الذي قبضه، أتراه له. ضامنا أو يكون مؤتمنا فيه؟ قال: بل يضمنه، وذلك أنه إنما أخذه على حال(11/98)
الاستيناف، فما أراد أن يسلفه، ولم يؤتمن عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إنما دفعه إليه، ليكون عنده رهنا له، فيما وعده به من السلف، وهو أبين في الضمان، من مسألة كتاب تضمين الصناع من المدونة، في الصانع يفرغ من عمل الثوب، فيقول لصاحب الثوب: خذه، فلا يأتي حتى يضيع عنده إنه ضامن له على حاله.
[يرتهن الثمرة فتهور البئر]
ومن كتاب الأقضية قال: وقال ابن القاسم في الذي يرتهن الثمرة، فتهور البئر، إن إصلاحه على الراهن حتى تتم الثمرة ويتم الرهن لصاحبه، قيل له: فإن أبى أن يصلح، قال: يجبر على ذلك إن كان له مال، فإن لم يكن له مال، نظر، فإن رأى أن يبيع بعض الأصل خير له، بيع منه ما يصلح به بئره، فإن تطوع المرتهن في بنيانها، فإن رأى أن تطوعه خير لرب الأرض، قيل للمرتهن: إذا تطوعت فابن وأنفق، ويكون الأصل رهنا لك بالذي تنفق في البئر، قيل له: فبماذا يطلب الراهن، أبما أنفق بعينه أو بقيمته ما وضع من الجص والحجارة وأشباه ذلك مقلوعا أو قيمته قائما؟ فقال: بالذي أنفق كاملا؛ لأنه كالسلف على الراهن.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الراهن يجبر على إصلاح البئر حتى تتم الثمرة ويتم الرهن لصاحبه، إلى آخر قوله، خلاف ما في المدونة إن(11/99)
الراهن إذا أبى أن يصلح البئر، كان للمرتهن أن يصلحها ليحيى رهنه، ولا يرجع بذلك على الراهن، وتكون نفقته في الرهن مبدأة على الدين، فإن وفى الرهن بالنفقة والدين، وفضل منه فضل، كان للراهن، وإن لم يكن في الرهن إلا مقدار النفقة، رجع المرتهن بذمته على الراهن، وإن لم يف الرهن بالنفقة لم يرجع على الراهن بما بقي له من نفقته، قال أشهب: ويكون أولى بماء البئر، حتى يعطيه بقية نفقته، فإذا أعطاه إياها أخذ البئر بمائها، ولم يكن له عليه بما انتفع من مائها شيء؛ لأنه كان ضامنا له بنفقته، لو غار ماؤها ذهبت نفقته، فيكون له الماء بالضمان. فقول ابن القاسم في المدونة: إن المرتهن إذا أنفق في إصلاح الرهن لا يرجع بشيء من ذلك على الراهن، وإنما تكون نفقته في الرهن مبدأة على الدين، فإن لم يف الرهن بها، لم يتبعه بالبقية، يدل على أن الراهن عنده لا يلزمه إصلاح البئر، وإن كان له مال، خلاف رواية يحيى هذه، إن ذلك يلزمه إن كان له مال، ويأتي على مذهبه بأن ذلك يلزمه أن المرتهن إن تطوع بإصلاحها فلم يف الرهن بنفقته في إصلاحها، اتبع الراهن بما بقي من نفقته مع دينه، ويحتمل أن نتأول في هذه الرواية على أن الرهن كان مشترطا في أصل البيع أو السلف، فلا يكون ذلك اختلافا من القول. وبالله التوفيق.
[باع سلعة من رجل وارتهن عبدا فاستحق من يده]
من سماع سحنون من ابن القاسم قلت لسحنون: بلغني عنك أنك تقول في رجل باع سلعة من رجل، وارتهن عبدا فاستحق من يده، فقلت: إن كان الراهن غره به، كان الحق عليه كله معجلا، وهو بمنزلة ما لو كان باعه ثقة، وإن كان لم يغره كان بمنزلة موته، أفأنت تقوله؟ قال نعم، أنا أقوله، فقلت: له: فسواء عندك أن كان بايعه على رهن بعينه، أو بغير عينه، فقال: ليس ذلك عندي سواء، إن كان الرهن بعينه، فهو على ما ذكرت لك، وإن كان بغير عينه، أتاه برهن آخر من حقه.(11/100)
قال محمد بن رشد: فوت الرهن المعين واستحقاقه، إذا لم يغر به، بمنزلة سواء، إذا كان ذلك قبل لبعض المرتهن له، كان بالخيار بين أن ينقض البيع، أو يمضيه برهن غيره إن طاع له بذلك المبتاع، أو بغير رهن، وإن كان قد دفع السلعة استردها إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت فائتة. قال عبد الملك: وله إن شاء إذا فاتت بالعيوب المفسدة، أن يجيز البيع إلى الأجل، وهو بعيد؛ لأنه يكون على هذا مخيرا بين عشرة نقدا وخمسة عشر إلى أجل، وإن كان ذلك بعد قبض المرتهن له كانت مهيبته منه ولم يكن له على الراهن شيء، وأما إذا غره به، فاستحق من يده بعد قبضه، ففي ذلك اختلاف. قال سحنون في هذه الرواية: يعجل للمرتهن حقه بمنزلة ما لو باعه. وقال عبد الملك يكون عليه رهن مثله.
قال محمد: فإن لم يفعل، رجع في سلعته. إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت فائتة، إلا أن يشاء أن يجيز البيع بلا رهن. وفي تخييره في إمضاء البيع إذا فاتت السلعة بعد، على ما تقدم، وأما إن استحق من يده قبل قبضه، فعلى ما تقدم، إذا لم يغره به، إذ لا فرق في استحقاقه قبل قبضه بين أن يغر منه أو لا يغر. وبالله التوفيق.
[يرتهن السلعة منه بحق له عليه إلى أجل ويشهد له على ذلك]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قيل لسحنون: أرأيت الرجل يرتهن السلعة من رجل بحق له عليه إلى أجل، وأشهد له على ذلك الحق إلى أجله، ودفع الرهن إليه، فلما حل الأجل قام طالب الحق بحقه، فألفى الرهن بيد المرتهن، وزعم أنه دفع إليه الحق وأخذ رهنه، ويقول: لم يكن ليعطيني الرهن إلا بقبض الحق، وقد بريت إليه بحقه، ورأيت قبض الرهن براءة لي، فذلك منعني من الإشهاد على الدفع، وصاحب الحق يقول؛ سرقه مني أو اختلسه من يدي، أو أعرته(11/101)
إياه، أو أخذه مني على أن يأتيني بالحق فلم يفعل، فإن القول قول المرتهن بجميع ما ذكر من العذر، إذا كان قيامه ومطالبته بحدثان حلول الأجل، وفي فوره مع يمينه، فإن نكل حلف الراهن وبرئ وهو عندي مثل الصناع يحملون الأمتعة للناس، ويدفعونها إليهم، ثم يقومون يطلبون الأجر. فقول أصحابنا وقولنا: إن كان قيامهم بحدثان دفعها إلى أربابها بالأيام القليلة صدقوا، وكان القول قولهم إن طلبوا ذلك بعد الرفع بالأيام الكثيرة، والبعد والأمر المتفاوت، وما يري أن مثل ذلك من معاملتهم ينقطع إلى ذلك الوقت، كان القول قول أهل الأمتعة، وكذلك المرتهن عندي في تباعد قيامه بطلب الحق عند الأجل، مثل ما ذكرت في أمر الصناع: إن القول قول الراهن مع يمينه، وهو بريء، فإن نكل حلف المرتهن واستحق، قيل: أرأيت إن كانا لم يضربا أجلا لحلول الحق، ومسألتي على حالها، وجعلاه حالا، متى شاء صاحب الحق أخذه فألفي الرهن بيد الراهن، وقال: دفعه إلي منذ شهر، ودفعت إليه الحق، وقال المرتهن: دفعته إليه بالأمس، مثل الذي ذكرت لك في أول المسألة، ثم يتوصل إلى معرفة قرب دفع المرتهن الرهن إلى الراهن، فقال: ينظر في ذلك ويكشف عنه ويستخبر، فإن عرف كان الأمر فيه على ما فسرت لك، فإن عمي أمرهما، فلم يعلم ذلك، كان القول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن قيامه عليه كحلول الأجل ساعتئذ، فإن نكل عن اليمن حلف الراهن وبرئ.
قال محمد بن رشد: في المختصر لابن عمر الحكم مثل قول سحنون فيمن دفع إلى رجل ذهبا برهن، ثم قضاه ودفع إليه رهنه، ثم ادعى أنه لم يوفه إياه كله، وأعطاه رهنه إلى المرتهن، يحلف ويسقط عنه ما ادعاه عليه الراهن، وساوى سحنون في هذه الرواية بين أن يدعي المرتهن على(11/102)
الراهن إذا ألفى الرهن بيده بعد حلول الأجل أنه دفعه إليه ليأتيه بحقه فلم يفعل، أو أنه أعاره إياه، وأنه سرقه منه أو اختلسه من يده، في أن القول قول المرتهن إذا كان ذلك بقرب حلول الأجل، وذلك يفترق، أما إذا ادعى أنه دفعه إليه ليأتيه بحقه فلم يفعل، فيتخرج ذلك على قولين، قد مضى توجيههما في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم. وأما إذا ادعى عليه أنه أعاره إياه، فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: إن القول قول المرتهن، يحلف أن حقه باق عليه ويأخذه، وليس عليه أن يحلف لقد أعاره إياه، وهو الذي يأتي على قول سحنون في هذه الرواية؛ لأنه لو أقر له بما ادعاه عليه من أنه دفعه إليه ليأتيه بحقه، لكان القول قوله أيضا على مذهبه، إنه لم يقبض منه حقه إذا كان بالقرب، فلا معنى ليمينه على ذلك.
والقول الثاني إنه يحلف على الوجهين جميعا، فإن نكل عن اليمين على الوجهين جميعا، أو على أنه ما قبض منه، حلف الراهن، لقد دفعه إليه وبرئ، وإن نكل أن يحلف لقد أعاره وقال: أنا أحلف ما قبضت حقي، لم يمكن من اليمين على ذلك، وحلف الراهن ما أعاره إياه، وما قبضه منه إلا بعد أن وفاه حقه. أو ما قبضه منه إلا على أن يأتيه بحقه، وأنه قد أتاه به ودفعه إليه، وهذا القول يأتي على ما في سماع الشريكين من سماع ابن القاسم من أن القول، قول الراهن، إنه قد أدى إليه حقه إذا أقر المرتهن أنه دفع إليه الرهن، على أن يأتيه بحقه، وادعى أنه لم يأت به.
والقول الثالث: إن القول قول الراهن، يحلف على الوجهين جميعا، فإن نكل عنهما جميعا أو عن أن يحلف أنه ما دفع إليه حقه، حلف المرتهن ما أخذ حقه منه وأخذه، وإن قال: أنا أحلف لقد دفعت إليه حقه، ولا أحلف ما قبضت الرهن على سبيل العارية، لم يمكن من اليمين على ذلك، وحلف المرتهن على الوجهين جميعا، أنه ما دفع إليه الرهن إلا على سبيل العارية، وأنه لم يقبض حقه ويأخذه منه، وكذلك إذا ادعى المرتهن على الراهن أنه سرق منه الرهن أو اختلسه من يده، وكان ممن يشبه منه السرقة، والاختلاس، يدخل في ذلك الثلاثة الأقوال،(11/103)
التي ذكرتها في دعوى العارية، وهذا كله إذا كان اختلافهما بالقرب، وأما إذا طال ذلك، فلا اختلاف في أن القول قول الراهن إذا أقر المرتهن أنه دفع إليه الرهن، على أن يأتيه بحقه فلم يفعل. وأما إذا ادعى أنه أعاره إياه، أو أنه سرقه منه أو اختلسه من يده، وهو ممن يليق به ذلك، فالقول قول الراهن مع يمينه أنه ما سرقه منه، ولا أعاره إياه، وأنه ما قبضه منه حتى وفاه حقه أو أنه إنما قبضه منه على أن يأتيه بحقه، وأنه قد فعل، فإن نكل عن اليمين حلف المرتهن أنه أعاره إياه، أو أنه سرقه منه، وما قبض منه حقه، ويأخذه منه. وأما إن كان الراهن ممن لا يليق به السرقة والاختلاس، فلا يمين عليه للمرتهن في دعوى ذلك عليه، فإن كان ذلك بالقرب، جرى ذلك على القولين في تصديق الراهن في الدفع، إذا أقر المرتهن أنه دفع. إليه الرهن على أن يأتيه بحقه، وادعى أنه لم يفعل. وأما إن كان ذلك بعد طول، فالقول قول الرهن: لقد دفع إليه حقه قولا واحدا. وأما إذا قال المرتهن: إنه تلف له أو سرق منه، فحصل عند الراهن، فالقول قول المرتهن في القرب، وقول الراهن في البعد، ولا يتصور في هذا عندي خلاف.
وقد مضى بيانه في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب المديان.
وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن الكرم فإذا كان إبان حفره أتاه الراهن بالحفار والعمال ليحفره]
مسألة وسئل عن الرجل يرتهن الكرم، فإذا كان إبان حفره، أتاه الراهن بالحفار والعمال ليحفره، فقال لا يحضر حفره ولا يدخل الحفار فيه، وإنما يدخل الحفار في الكرم المرتهن، هو الذي يأمرهم أن يحفروا ويأمرهم من حيث يبدؤون، وكذلك حرث الأرض إذا رهنت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا إشكال فيه ولا(11/104)
اختلاف؛ لأن حيازة الرهن إنما يكون بارتفاع يد الراهن عنه وحصوله في يد المرتهن، أو في يد الأمين يقبضه للمرتهن بإذنه أو بإذن الراهن والمرتهن، فإذا تولى الراهن حفر الكرم الرهن فلم ترتفع يده عنه ووجب أن يبطل الرهن فيه. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن دارا فمات الراهن ولا مال له غير الدار]
مسألة وسئل عن رجل رهن دارا فمات الراهن ولا مال له غير الدار، والدين يحيط بجميع الدار، فلم يترك الميت مالا يكفن فيه، هل يكفن من الدار أم يكون من فقراء المسلمين؟ فقال: لا يكفن من ثمن الدار، إذا كان الدين يحيط بجميع الدار وهو من فقراء المسلمين.
قال الإمام القاضي: قد مضت هذه المسألة متكررة في سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وفي كتاب الجنائز، في رسم باع غلاما منهما وهي مسألة صحيحة، لا اختلاف فيها؛ لأن الرهن قد تعين حق المرتهن فيه، فوجب أن يكون أحق به من الميت في كفنه، كما هو أحق به من الحي في كسوته، وكذلك بخلاف الرجل يموت وعليه دين قد استغرق ماله، إن له أن يكفن فيما يستره من ماله من غير سرف لأن ماله لم يحزه الغرماء، والرهن قد حازه الغرماء، ولا اختلاف في هذا أحفظه إلا ما يروى عن سعيد بن المسيب، من أن الكفن من الثلث، فعلى قوله لا يكفن الميت من ماله إذا استغرقه وهو شذوذ من القول. وقد مضى من القول على هذه المسألة في كتاب الجنائز ما فيه كفاية. وبالله التوفيق.(11/105)
[مسألة: أسلف رجلا ورهنه عبدا ووضعه على يدي رجل]
مسألة قال سحنون: سئل مالك عن رجل أسلف رجلا سلفا ورهنه عبدا ووضعه على يدي رجل وشرط الذي أسلف على الذي وضع الرهن على يديه أنه ضامن لما أصاب الرهن، فهلك العبد أتراه ضامنا؟ قال: أراه ضامنا. قيل له: فإن قال له: ما نقص من رهنك ضمنته، قال ما أراه أن يضمن الرهن، قال سحنون: قال ابن القاسم: إذا جعل الرهن على يدي رجل واشترط صاحب الحق على الذي وضع الرهن على يديه، أنه ما نقص من الرهن من كفاف الحق، فأنت له ضامن، فهلك الرهن في يدي الذي جعل على يديه أنه ضامن لجميع المال.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إذا ضمن ما أصاب الرهن , يضمنه إن كان عبدا فمات، وكذلك إن ضمن ما نقص الرهن من حقه، يضمنه إن مات، مع ما نقص من الحق. وإنما الاختلاف إذا قال: أنا ضامن لرهنك، أو لما نقص من رهنك.
وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم. فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: عليه لرجل دين فباع له سلعة إلى أجل]
مسألة وقال سحنون عن ابن القاسم: إنه قال في رجل عليه لرجل دين. فباع الذي عليه الدين، الذي له الدين سلعة إلى أجل، وارتهن في ثمنها الدين الذي عليه إلى الأجل الذي باع إليه السلعة، إنه إن كان ذلك إلى الأجل الذي عليه الدين لصاحب الدين أو أدنى، لم يكن بذلك بأس، وإن كان بيعه سلعته إلى أجل، أبعد من(11/106)
أجل الدين الذي عليه، فاشترط أن يكون ما عليه من الدين رهنا في يديه إلى الأجل الذي باع إليه سلعته، لم يحل ذلك؛ لأنه يصير بيعا وسلفا؛ لأنه حين اشترط حبس ما عليه من الدين بعد حلول أجله، إلى حلول أجل دينه، فكأنه سلف من الذي له الدين أسلفه إياه، على أن باع منه سلعته إلى الأجل الذي سمى، وهذا تفسير لقول مالك: وإن كان دين المشتري قد حل فاشترى سلعته من البائع على رهن البائع منه في ثمنها دينا للمشتري عليه، لم يحل ذلك أيضا، ودخله البيع والسلف، إلا أن يوضع ذلك على يدي عدل إلى حلول أجل الدين، فيجوز ذلك. وهذا تفسير قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله: إنه إذا باع منه سلعته بدين إلى أجل على أن يرهن في ذلك دينا له عليه حالا أو إلى أجل، دون الأجل الذي باع السلعة إليه، فلا يجوز؛ لأنه يدخله البيع والسلف، إلا أن يشترط وضع الدين عليه على يدي عدل إلى أن يحل الدين الذي له. وقد اختلف إن وقع البيع على هذا، فقيل: إنه يفسخ على كل حال، فإن فات كانت فيه القيمة بالغة ما بلغت، وقيل إنه يفسخ إلا أن يرضى البائع بإسقاط ما اشترط من ارتهان الدين الذي عليه أو بأن يوضع على يدي عدل، إن كان حالا أو عند حلول أجله، إن لم يكن حالا بفور ذلك إن كان الدين حالا أو عند حلول الأجل إن كان مؤجلا قبل أن ينتفع لبقاء الدين في ذمته. وقيل: إن البيع يجوز، إن لم يعثر عليه بفور ذلك، إذا رضي بإسقاط الشرط، أو وضع الدين على يدي عدل، فإن لم يرض بذلك فسخ البيع، إن كانت السلعة قائمة، وإن فاتت كان فيها الأقل من القيمة أو الثمن. وبالله التوفيق.
[مسألة: بينهما أرض فرهن أحدهما نصيبه من رجل آخر فأعسر بالثمن]
مسألة قال سحنون وسئل مالك عن رجلين كانت بينهما أرض فرهن(11/107)
أحدهما نصيبه من رجل آخر، فلما حل الحق أعسر الرجل بالثمن، فقال صاحب الحق: بعني نصيبك، قال له الذي عليه الحق: ما ينفعك، إن بعتك، أخذه شريكي بالشفعة، فأنا أتكارى منك نصيبك سنين، وأقاصك بما أسلفتك حين أستوفي حقي. قال: لا خير في هذا.
قال الإمام القاضي: إنما لم يجز هذا؛ لأنه أخذ من دينه شيئا لا يتعجل قبضه، فدخله الدين بالدين، وقد قيل إن ذلك جائز؛ لأنه لم يتحول من دينه إلا إلى أرض بعينها، يستوفي حقه من كرائها، فكان قبض ما يستوفي منه الكراء، كقبض الكراء. وهذا القول قائم من كتاب الزكاة الأول من المدونة في قوله: إن الذمي إذا أكرى إبله بالمدينة، راجعا إلى الشام، إنه يؤخذ منه العشر بالمدينة، وإن لم يستوف المكري بعدما اكترى لأنه جعله يقبض ما يستوفي منه ما اكترى في حكم القابض لما اكترى، وهذا بين. ولو اكترى المرتهن النصيب الذي ارتهن من غيره فأحاله الراهن عليه بحقه لجاز ذلك. وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى حقا فقضي له به فسأله المقضي عليه أن يجعله له رهنا]
مسألة قال سحنون عن أشهب في رجل ادعى قبل رجل حقا فقضي له به عليه، فسأل المقضي عليه المقضي له أن يؤخره ويجعل في يديه رهنا حيوانا ففعل، فمات الحيوان عند المرتهن، فأقر المقضي له، إن دعواه وما قضي له به كان باطلا. قال أشهب: هو ضامن للرهن؛ لأنه أخذ منه رهنا في غير حق، فكأنه غصبه إياه.
قال محمد بن رشد: قول أشهب في هذه المسألة: إن المرتهن ضامن للحيوان الذي ارتهن صحيح؛ لأنه قد أقر على نفسه بالعدو على الراهن فيها في ارتهانه إياها منه دون حق وجب له عليه، ولو قامت للراهن بينة على(11/108)
بطلان ما ادعاه قبله لما أن يلزمه ضمانها إذ لم يأخذها على الضمان، ولا ادعاها ملكا لنفسه، بخلاف الأمة تكون بين الشريكين، فيجحد أحدهما نصيب صاحبه، ويدعيها ملكا لنفسه، فتموت عنده، ثم يقيم شريكه البينة أنها بينهما، فقيل: إنه يضمن، وهو ظاهر ما في آخر كتاب الشركة من المدونة إذا لم يفرق في ذلك بين الحيوان وغيره. وروى أصبغ عن ابن القاسم أنه لا ضمان عليه في الحيوان. وفي رسم قطع الشجر من سماع ابن القاسم من كتاب الدعوى أنه لا ضمان عليه فيمن مات من أولادها، وهو بين؛ لأن الغاصب للأمة يضمن ما مات من أولادها عند ابن القاسم، خلاف قول أشهب إنه ضامن لقيمة الأولاد يوم ولدوا، كما يضمن الأم إذا ماتت يوم غصبها، ولم يتكلم في الرواية على ضمان نصف الجارية للشريك لو ماتت، فقيل: إن مراده فيها إنه ضامن لذلك على ظاهر ما في آخر كتاب الشركة من المدونة. وقيل: إنه لا ضمان عليه فيها على رواية أصبغ عن ابن القاسم. وهذا الاختلاف عندي إذا لم يمر الشريك بالغصب ولا قامت به عليه بينة، وإنما قامت البينة على أنها بينهما، يفيد هذا ما وقع في رسم حمل صبيا من سماع عيسى، من كتاب الاستحقاق في الرجل يدعي على الرجل أنه استودعه أمة أو غصبه إياها، فيجحد ذلك ثم يموت، ويقيم البينة عليه بعد موتها بالإيداع أو الغصب، إنه ضامن. وبالله التوفيق.
[كان عنده غلام فرهنه ثم ادعى بعد ارتهانه أنه ابنه ثم مات]
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله ابن القاسم قال عبد الملك: سئل ابن القاسم وأنا أسمع عن رجل كان عنده غلام فرهنه، ثم ادعى بعد ارتهانه أنه ابنه، ثم مات، قال: يلحق به، ويكون ابنه، ويبيعه صاحب الحق بماله، إن كان له مال، وإن لم يكن له مال، كان دينا يتبع به، متى ما ظهر له على(11/109)
مال أخذ ماله، قال الإمام القاضي هذا كما قال، وهو صحيح على أصولهم في أن لحوق النسب يرفع التهمة، فهو بخلاف الرجل يكون عنده العبد، فيرهنه ثم يقر بعد أن رهنه أنه حر فلا يقبل قوله، إلا أن يكون له مال، فإن كان له مال، عجل للمرتهن حقه، وإن كان لم يحل. والله الموفق.
[مسألة: ترتهن من زوجها خادما له في حق لها عليه]
مسألة وسألت ابن وهب عن المرأة ترتهن من زوجها خادما له في حق لها عليه، فتقيم في بيتها أعواما، فلما اقتضت من زوجها دينها، أراد أن يحاسبها بأجرة خادمه، فيما عملت لها، فقالت: إن الخادم كانت في عملي وعملك، وكان عليك أن تخدمني خادما، فكيف يكون له أجرها؟ وقال الزوج: إنك لم تسلني الخدمة، فتلزمني لك الخدمة، إذ سألتنيها، فإذا تركت طلب ذلك مني، فهي موضوعة عني، فهل يكون عليها أجرة الخدمة؟ فقال: إن كانت الخادم إنما تعمل للمرأة خاصة، أو تستخدمها خاصة، مثل أن تشغلها بالعمل لنفسها، مثل الغزل والصناعة، أو خارجا من بيتها، فعليها الأجرة له، وليس للمرتهن استعمال الرهن ولا غلته دون صاحبه، وإن كانت الخادم إنما كانت تخدم خدمة البيت معهما بحال ما كانت قبل الرهن، وما أشبه ذلك، فلا أري ذلك شيئا، ولا أرى له في ذلك أجرة. والله أعلم وقال أشهب لا أجرة له.
قال محمد بن رشد: تفرقة ابن وهب في إيجاب أجرة الخادم للزوج الراهن، بين أن تعمل لها خاصة في غير خدمة بيتها، وبين أن تعمل لها فيما، هو من خدمة بيتها، صحيح لا ينبغي أن يختلف في ذلك، لقول(11/110)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الرهن ممن رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» لأن إجارته من غنمه. ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» معناه عندهم: أن حلبه وأجر ركوبه للراهن، كما أن عليه نفقته. فقول أشهب لا أجرة له، ليس بخلاف لقول ابن وهب؛ لأن معناه: إنما هو لا أجرة له فيما عملت لها مما هو من خدمتها وعمل بيتها، وذلك بين على القول بأن على الزوج أن يخدم زوجته، وأما على القول بأن عليها الخدمة الباطنة، من الكنس والفرش والخبز والطبخ واستقاء الماء، إذا كان في داخل الدار، فالقياس أن يحلف أنه لم يتركها تخدمهما إلا على أن يتبعها بأجرته، ويكون ذلك له، ويشبه ألا يكون ذلك له مراعاة للخلاف، وأما ما عملت لها من غير عمل بيتها، فللزوج في ذلك الأجرة دون يمين. وقد قال ابن دحون: إن الأجرة لا تجب لها إلا بعد أن يحلف أنه ما أباح لها خدمة الخادم، وهو بعيد، إلا أن تدعي ذلك عليه. وفي إجازة ابن وهب: الرهن في الخادم وإن كانت في البيت معها في خدمتها، اختلاف قد مضى تحصيله في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[يبيع البيع ويرتهن الدار أو العبد ويشترط الانتفاع به إلى أجل معلوم]
من سماع أصبغ وسؤاله ابن القاسم من كتاب البيع والصرف قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن الذي يبيع البيع ويرتهن الدار أو العبد أو الثوب، ويشترط الانتفاع به إلى أجل معلوم، قال: لا بأس به، قيل له: فإن كان ذلك إلى أبعد من أجل الرهن أو قبله، قال: نعم لا بأس به.
قال محمد بن رشد: إجازته في هذه الرواية، أن يرتهن في أصل البيع دارا أو عبدا أو ثوبا، ويشترط الانتفاع بذلك إلى أجل معلوم، هو مثل(11/111)
قوله في المدونة خلاف قول مالك فيها من أن ذلك يجوز في الرباع والأصول، ولا يجوز في الحيوان والثياب، إذ لا يدري كيف يرجع ذلك؟ واحتج ابن القاسم عليه في قوله: إذ لا يدري كيف يرجع ذلك؟ بأن الإجارة في ذلك جائزة، وإن لم يدر كيف ترجع، ولا حجة على مالك في ذلك؛ لأنه لم يكره ذلك من ناحية الغرر في الإجارة، كما ظن ابن القاسم، وإنما كرهه من ناحية الغرر في الرهن، إذ لا يدري ما تكون قيمته بعد استعماله، قال أبو إسحاق التونسي: فيأتي على قوله في هذه المسألة: إنه لا يجوز رهن الغرر، مثل الثمرة التي لم يبد صلاحها والزرع الذي لم يبد صلاحه في أصل البيع خلاف ظاهر الروايات في ذلك، في المدونة وغيرها وكره ذلك مالك في المدونة ولم يقل ماذا يكون الحكم فيه إذا وقع، ويتخرج في ذلك أربعة أقوال: أحدها: إنه يفسد البيع والرهن، فلا يكون أحق به من الغرماء، والثاني: إنه يفسد البيع ولا يبطل الرهن، فيكون رهنا بالأقل من القيمة أو الثمن، والثالث: إنه لا يفسد البيع ولا الرهن، وإنما يكره ذلك ابتداء، فإذا وقع نفذ ومضى، وهو الظاهر من مذهب مالك في المدونة، والرابع: إنه يصح البيع ولا يفسد، ويبطل الرهن، فلا يكون أحق به من الغرماء. وما قاله أبو إسحاق التونسي من أنه يأتي على قياس قول مالك في هذه المسألة، إنه لا يجوز رهن الغرر، مثل الثمرة التي لم يبد صلاحها في أصل البيع ليس بصحيح، والصواب جواز الثمرة التي لم يبد صلاحها في أصل البيع وفيما بعده، والفرق بين المسألتين، أن الغرر في هذه المسألة في الرهن إنما كان غررا فيما شرطاه فيه من الشرط الفاسد، وذلك مثل أن يشترط أنه إن جاءه بحقه إلى أجل كذا وكذا، وإلا فالرهن له بما فيه، أو مثل أن يشترط أنه رهن بيده إلى أجل كذا وكذا، فإذا انقضى الأجل، خرج الرهن من أن يكون رهنا وما أشبه ذلك. والثمرة التي لم يبد صلاحها، لا صنع لهما فيها، ولا يقدران على رفع الغرر عنها. وهذا هو المشهور في المذهب، أن ارتهان الثمرة التي لم يبد صلاحها جائز في أصل العقد. وفي المبسوطة لمالك من رواية ابن القاسم عنه أن ذلك(11/112)
لا يجوز، وأما ارتهان ما في بطون الإناث، فلا يجوز على ما في كتاب الصلح من المدونة. وأجاز ذلك أحمد بن عيسى، وهذا الاختلاف إنما هو إذا كان الارتهان في أصل البيع، وأما ارتهان ذلك بعد عقد البيع، فلا اختلاف في جوازه. وحكى عبد الحق عن الشيخ أبي الحسن، أنه قال: إنما كره مالك في الثياب؛ لأنها تضمن في الرهن، ولا تضمن في الإجارة، فكره اجتماعهما للشك فيما يكون الحكم فيها لو ادعى المرتهن تلفها، قال: وأما الحيوان، فقد اختلف قوله في وجوب ضمانها على المرتهن إذا ادعى تلفها، فلعل قوله في هذه المسألة على قوله في أن المرتهن ضامن للحيوان، وليس قوله بصحيح؛ لأن مالكا قد بين أنه إنما كره ذلك من أجل أنه لا يدري كيف يرجع إليه الدابة أو الثوب؟ ولو ادعى المرتهن تلف الثوب لوجب أن يغلب في ذلك حكم الرهن، فلا يصدق في تلفه. وقد قال أبو إسحاق التونسي: إن الذي ينبغي في ذلك أن ينظر إلى القدر الذي يذهب منه بالإجارة، مثل أن يقال: إذا استؤجر شهر، أينقصه الربع؟ فيكون قدر ربعه غير مضمون، ولأنه مستأجر، وثلاثة أرباعه مضمونة؛ لأنه مرتهن، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه لم يستأجر منه ربع الثوب، وارتهن ثلاثة أرباعه، فيكون ما ذكر هو الحكم فيه. وإنما ارتهن جميعه، واستأجر جميعه، فإما أن يحكم له في دعوى الضياع بحكم الإجارة، وإما أن يحكم له بحكم الرهن. والصواب ما ذكرناه، من أن يغلب فيه حكم الرهن، فلا يصدق فيما ادعى من تلفه، ويغرم قيمته على ما هو عليه يوم يحكم عليه بضمانه، فإن ادعى ضياعه بقدر ارتهانه إياه قبل استعماله، غرم قيمته على ما كان عليه يوم رهنه إياه، وسقط عنه ذلك القدر من الإجارة، ونظر ذلك القدر كم هو من الجملة؟ فيرجع بجزئه من قيمة ثوبه المبيع، أو يشاركه فيه إن كان قائما على اختلاف في ذلك لضرر الشركة، وإن ادعى ضياعه بعد انقضاء الأجل الذي شرط الانتفاع به إليه ضمن قيمته ناقصا على ما يقدر أن الاستعمال نقصه، وتلزمه الإجارة، ولا يصدق إن ادعى بعد حلول الأجل أنه تلف قبل ذلك على مذهب ابن القاسم لأنه يقول:(11/113)
إذا ادعى المستأجر ضياع الثوب المستأجر، حين حل الأجل وأن ضياعه كان قبل ذلك لم يصدق في إسقاط الإجارة عنه، ولزمه جميع الإجارة، إلا أن تقوم له بينة على الضياع، أو على التفقد والطلب، وخالفه في ذلك غيره. وبالله التوفيق.
[أخذ الزوج الحلي فرهنه ثم أعلم الزوجة فحسبته ثم سكتت ومات الزوج]
ومن كتاب البيوع وقال في امرأة أخذ زوجها لها حليا فرهنه، ثم أعلمها بذلك، وقال لها: أنا أفكه، قال فحسبته قال: فسكتت حين مات الزوج، ثم طلبته، قال: تحلف بالله ما رضيت، ولا كان سكوتها تركا لذلك، وتأخذه حيث وجدته، ويتبع المرتهن مال الميت، قال أصبغ: وذلك إذا عرف أن الشيء شبيها أو ثبتت عليه بينة.
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب في هذه المسألة مكان فحسب فخشيته، فعلى رواية من روى فحسبته، تأتي هذه الرواية، خلافا لما تقدم في رسم خرجت من سماع عيسى؛ لأنه لم يوجب لها هناك الرجوع إذا طال الأمر بعد علمها، وأما على رواية من روى فخشيته، فليست بمخالفة لها: لأنها تعذر بالخوف على نفسها من زوجها، ويكون لها أن تأخذ حقها بعد يمينها أنه لم يكن سكوتها حتى مات زوجها إلا لخوفها إياه على نفسها، وإن لم يعرف ما ادعته من مخافتها إياه، فذلك على ما يعلم من حالها معه في غلظ الحجاب والشدة والسطوة، فإن جهل ذلك، فالقول قولها.
وقد مضى القول في هذه المسألة في الرسم المذكور من سماع عيسى فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.(11/114)
[ارتهنت خادما من زوجها ببقية صداقها قبل الدخول]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن امرأة ارتهنت خادما من زوجها ببقية صداقها قبل الدخول، وأقامت أشهرا بعد ارتهانها إياها، ثم دخلت على زوجها ودخلت بالخادم معها بيت زوجها، فكانت تخدم، فتعدى عليها الزوج، فسرقها، فباعها، قال: بيعه جائز، وذلك أن الرهن قد انفسخ، قلت: وترى دخولها بها على زوجها، وإنما دخلت بها تخدمها ردا للرهن؟ قال: نعم، حتى يضعها عند غيرها، أرأيت لو ارتهنتها وهي تحته، فتركتها معه في البيت أذلك رهن؟ ليس ذلك برهن، قلت: إنها حازتها قبل الدخول، قال: قد ردتها. انظر كل أمر إذا ابتدئ فلا يكون ذلك حوزا، فهو إذا فعل بعد حوز، فدخله فوات، فقد انفسخ الحوز، وذلك مخالف للصدقة والهبة، إذا وهب الزوجان، كل واحد منهما لصاحبه، وتصدق عليه بخادم، فدفعها إليه، فكانت في البيت تخدمهما، فذلك حوز لكل واحد منهما. وأصل هذا من قول مالك: في أن من حبس حبسا فقبضه المحبس عليه، وحازه سنين، ثم أسكن فيه المحبس، فإن ذلك يبطل حبسه، والصدقة مثل ذلك، وأن من ارتهن رهنا فقبضه وحازه ثم رده إلى صاحبه، فإن ذلك يبطل رهنه، ويفسده ويفسخه. وقد قال لي مالك في امرأة ارتهنت من زوجها خادما فكانت معها في البيت تخدمها وتخدمه: إن ذلك ليس برهن، حتى يخرجها. وقال أصبغ: كله المسألة كلها، وهو رأي، وهي صحيحة جيدة - إن شاء الله - مع الاتباع لأهل العلم.(11/115)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادتها. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرهن إذا لم يصفه الراهن ولا المرتهن]
مسألة قال أشهب في الرهن إذا لم يصفه الراهن ولا المرتهن، قال: فليس له شيء، يعني الراهن، إنه لا شيء له ولا للمرتهن، وأن الرهن بما فيه. قال أصبغ: وذلك إذا عمي أمره، وكذلك الحديث: «الرهن بما فيه» إذا هلك الرهن وعميت قيمته وكذلك قال ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قالا، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب، إن الرهن يذهب بما فيه إذا ادعى المرتهن هلاكه، وهو مما يغاب عليه وعميت قيمته، ولم يصفه هو ولا الراهن، وحمل الحديث «الرهن بما فيه» ، على هذا الموضع على ما حمله عليه أصبغ حسن. وأما إذا عرفت قيمته، فإنهما يترادّان فيما بينهما، وكذلك إن اختلفا في صفته، يترادان على ما يحلف عليه المرتهن، وإن قامت بينة على تلفه، فمصيبته من الراهن وقد روى عن مالك أن ضمانه من المرتهن، وإن قامت البينة على تلفه، ويتقاصان فيما بينهما. وأما ما لا يغاب عليه من الحيوان والأصول، فالمصيبة فيه من الراهن، والقول قول المرتهن فيما يغاب من الحيوان فيما يدعي من موته، أو إباقه مع يمينه، إلا أن يتبين كونه فيما يدعي في ذلك من الموت؛ إذ لا يخفى ذلك إذا كان في جماعة. هذا تحصيل ما في المذهب في هذه المسألة. ومن أهل العلم من رأى أن الرهن يذهب بما فيه إذا تلف، كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه، قامت بينة على تلفه أو لم تقم، على ظاهر(11/116)
قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن بما فيه» ومنهم من رأى ضمانه من المرتهن على كل حال، ومنهم من قال: يذهب بما فيه إذا كانت قيمته مثل الدين أو أكثر، وإن كانت قيمته أقل من الدين، رجع المرتهن على الراهن ببقية حقه. ومنهم من رأى ضمانه من الراهن على كل حال؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه» كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه. وهو مذهب الشافعي. والصحيح ما ذهب إليه مالك من الفرق بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه، ومن الفرق فيما يغاب عليه بين أن تقوم بينة على هلاكه، أو لا تقوم. وبالله التوفيق.
[مسألة: وضع على يديه رهن وتحمل به من جميع ما نقصه إلا الموت]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يوضع على يديه رهن ارتهنه رجل، وتحمل به للذي ارتهنه من جميع ما نقصه مما ارتهنه به إلا الموت، وكان حيوانا، فمات، قال: ينظر إلى قيمته يوم رهنه، فإن كان فيه كفاف لما تحمل به، فلا شيء عليه، وإن عجز عما تحمل به غرم فضل ذلك الذي تحمل له، واتبع بذلك الغريم، وكانت قيمته للذي ارتهنه على الغريم، ولا يلزم المتحمل شيء إلا بعد قيمته يوم ارتهنه. قال أصبغ: لا بل قيمته يوم يموت، ليس يوم تحمل؛ لأنه الذي كان ينظر فيه من أمره، ويقضي به عنده، ولو بقي الرهن ولم يفت، وهو الذي يراد بالحمالة، ولو كان إلى قيمته يوم ارتهنه لم يؤخذ، فهو على قيمته يوم يموت، حتى يشترط قيمته يوم الحمالة والرهن، اشتراطا ممن يستثني ذلك لنفسه منها، مثل أن يستثنيه المرتهن، مخافة النقصان، والعيوب تدخله، والجناية والجروح، أو ما يستثنيه الضامن، مخافة الزيادات والنماء، فذلك(11/117)
له، وهو رأي.
قال محمد بن رشد: لكلا القولين وجه من النظر، وقول أصبغ أظهر؛ لأن الرهن على ملك الراهن فكما يكون على الحميل قيمته يوم يموت إذا ضمن قيمته إن مات، فكذلك تسقط عنه قيمته يوم يموت إذا ضمنه ما نقصه من حقه، إلا أن يموت. ووجه قول ابن القاسم، أن الظاهر مما التزمه أن يغرم له ما نقصه من حقه بعد قيمته يوم التزامه؛ لأنه على هذا يكون قد التزم معلوما، وحمل التزامه على المعلوم أولى من حمله على المجهول.
وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من القول على هذه المسألة ما فيه بيان لهذا. وبالله التوفيق.
[يرتهن الحائط فيضعه على يد أجيره في الحائط أو مساقيه]
ومن كتاب القضاء المحض قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يرتهن الحائط، فيضعه على يد أجيره في الحائط أو مساقيه: إنه ليس برهن حتى يحوزه ويجعله على يد غير من في الحائط.
محمد بن أحمد: هذا بين على ما قال؛ لأن المرتهن إذا وضع الحائط الذي ارتهنه بيد أجير الرهن أو مساقيه، فليس برهن مقبوض، إذ لم يرتفع يد الراهن عنه بكونه في يد أجيره أو مساقيه. وهذا مثل ما في المدونة فيمن أجر عبده ثم وهبه إن المؤاجر ليس بقابض للموهوب له، وكذلك وكيل الواهب، لا يكون حائزا للموهوب له. وقد وقع في سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، ومن كتاب المديان والتفليس في رسم مساجد القبائل ما يعارض هذه المسألة. وهو قوله: إن للجمال أن يرهن المكتري فيما تسلف منه ما تحته من الجمال، وتحت غيره من المكترين، وهو بعيد. وقد مضى القول عليه في السماع المذكور، من الكتابين. وبالله التوفيق.(11/118)
[ارتهن رهنا بألف دينار فلما جاء ليقضيه الألف أخرج إليه ثوبا ثمنه مائة دينار فقال هذا رهنك]
من نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ في رجل ارتهن رهنا من رجل بألف دينار فلما جاء ليقضيه الألف ويدفع إليه رهنه، أخرج إليه ثوبا ثمنه مائة دينار، فقال: هذا رهنك، وقال الراهن: لا والله ما هذا رهني، وما كنت أنت لتأخذ رهنا بألف دينار، وهو لا يساوي إلا مائة دينار، وما أشبه ذلك، ولقد كان رهني الذي رهنتك بهذه الألف ثوبا وشِيًّا صفته كذا وكذا صفة يشبه مثلها، وأن يكون يسوى الألف أو نحوها. قال أصبغ: إذا تصادقا فيما رهن به الرهن، واختلفا في الرهن على فعل هذين، حتى يتباين هكذا ويتفاوت، رأيت القول قول الراهن؛ لأن قوله يشبه أن يكون مثل هذا الثوب الذي ادعى برهن، بألف. وقد أقر المرتهن أنه ارتهن منه الثوب بألف، وجاء بثوب لا يساوي إلا مائة دينار، فقد تبين كذبه فيما زعم، فالقول قول الراهن؛ لأنه ادعى ما يشبه، فله أن يحلف على صفة ثوبه الوشي، ويحاسبه بقيمته، وسقط عنه قول المرتهن؛ لأنه قد تبين كذبه حين ادعى ما لا يشبه، وكذلك كل متداعيين في الرهن والبيوع، إذا ادعى أحدهما ما يشبه، وادعى الآخر ما لا يشبه، فالقول أبدا قول الذي يشبه، وسقط قول الذي لا يشبه. قال أصبغ: وقد قال لي أشهب: إن القول قول المرتهن، وإن لم يسو إلا درهما، وهو باطل، ليس شيئا، وهو إغراق في العلم.
قال الإمام القاضي: الأشبه في هذه المسألة، ألا ينظر فيها إلى دعوى الأشباه، على ما قاله أشهب، وهو مذهب ابن القاسم، وظاهر قوله في رسم الرهون سماع عيسى بخلاف اختلاف المتبايعين في ثمن السلعة الفائتة؛ لأنه يبعد أن يبيع الرجل ما قيمته مائة، بعشرة، وأن يشتري المشتري ما قيمته(11/119)
مائة بعشرة، وأن يشتري المشتري ما قيمته عشرة بمائة فوجب أن ينظر في ذلك إلى الأشباه، ولا يبعد أن يرتهن الرجل ما قيمته عشرة في مائة، وما قيمته مائة في ألف؛ لأن الرهن وإن قلت قيمته، يسلم المرتهن بارتهانه إياه، من محاصة الغرماء فيه، فهو بمثابة ما لو أقر أنه اقتضى ذلك القدر من حقه، وادعى الذي عليه الحق أنه دفع إليه أكثر من ذلك، فوجب أن يكون القول في ذلك قول المرتهن؛ لأن لما ادعاه وجها، وهو المدعى عليه. وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. وكذلك القياس، إذا جاء المرتهن بثوب قيمته دينار، فادعى أنه ارتهنه في مائة دينار، أو في ألف دينار، على ما قاله أشهب، إلا أنه إغراق فيه، كما قال أصبغ. والعدول عنه في هذا الموضع إلى مراعاة الأشباه، أنه يبعد أن يرتهن الرجل في مائة دينار أو ألف ما قيمته دينار، أولى وأظهر من قول أشهب استحسانا؛ لأن الاستحسان في العلم أغلب من القياس.
فقد قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان، وإذ أدى طرد القياس إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، كان العدول عنه إلى الاستحسان أولى، ولا تكاد تجد التغرق في القياس إلا مخالفا لمنهاج الشريعة. وبالله التوفيق.
[مسألة: يرتهن العبد من رجل ويضعه على يدي رجل]
مسألة قال أصبغ في الرجل يرتهن العبد من رجل ويضعه على يدي رجل، وضمن الذي وضع العبد على يديه، لصاحب الحق العبد، حتى يستوفي حقه، فمات العبد، أو استحق، أو بيع بأقل مما رهن فيه، قال: هو ضامن، إلا في النقصان قال لي بعد: وفي النقصان اختلاف، وأحب إلي أن يضمن.
قال محمد بن رشد: أما إذا استحق الرهن فلا اختلاف في أنه ضامن له؛ لأن سببه من قبل الراهن؛ إذ لعله غره به وخدعه. وأما الموت(11/120)
فالاختلاف فيه منصوص عليه في أول رسم من سماع ابن القاسم. وأما النقصان، فإن كان من شيء أصاب الرهن من عيب أو مرض وشبهه، فيجري ذلك على اختلاف قول مالك في الموت، وأما إن لم يكن النقصان من شيء أصاب الرهن، وهو الظاهر من مراده في هذه الرواية، فالمعلوم أنه لا يلزم الضامن ضمانه إذا قال: أنا ضامن لرهنك، أو ما نقص من رهنك، وإنما يلزمه ضمان ذلك، إذا قال: أنا ضامن لرهنك، وما نقص منه حقك. وقد وقع في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، أنه ضامن للنقصان، إذا قال: أنا ضامن لما نقص من رهنك. وأما الاختلاف الذي حكاه في هذه المسألة فلا يبعد، لقوله فيها: إنه ضامن له، حتى يستوفي حقه، ولو قال: إنه ضامن له. ولم يقل حتى يستوفي حقه، لما صح دخول الاختلاف في ذلك، إلا على ما وقع في رسم كتب عليه. وهو بعيد، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم. وبالله التوفيق.
[مسألة: يرتهن الرهن فيأتي الراهن ليفتكه فيختلفان فيما رهن فيه]
مسألة وسألته عن الرجل يرتهن الرهن، فيأتي الراهن ليفتكه، فيختلفان فيما رهن فيه، فيقول المرتهن: ارتهنتُه بمائة دينار، وقيمة الرهن ما ادعاه أو أكثر، ويقول الراهن: ما ارتهنتَه إلا بمائة إردب اشتريته منك، أو تسلفته. من ترى أن يصدق؟ قال أصبغ: إن كانت المائة الإردب تكون أكثر من المائة الدينار، فإن القول قول الراهن، وقبضت منه وبيعت، وفي هذا مائته. وإن كانت أقل فالقول قول المرتهن واختلافهما في هذين النوعين، كاختلافهما في النوع الواحد في الأقل والأكثر: إن القول قول المرتهن إن كان الرهن حينئذ يسوى ما قال المرتهن، فافهم تصب إن شاء الله.
قلت: فسواء عندك كان اختلافهما في جميع الأشياء، مثل(11/121)
الثياب والحلي والطعام، والإدام يسلك بذاك مسلك ما ذكرت في أول المسألة، قال: نعم.
قال الإمام القاضي: لا تخلو المائة الإردب في هذه المسألة من ثلاثة أحوال: أحدها أن تكون قيمتها أكثر من المائة دينار التي ادعى المرتهن، والثاني أن تكون قيمتها مثل المائة والثالث أن تكون قيمتها أقل من المائة، فأما إن كانت قيمتهما أكثر من المائة، فقال في الرواية: إن القول قول الراهن، وتقبض منه وتباع، فيوفى المرتهن مائته، يريد: ويوقف الباقي؛ لأن كل واحد منهما مقر به لصاحبه، فأيهما يدرأ إلى تكذيب نفسه، وتصديق صاحبه أخذه. وفي هذا اختلاف هو مذكور في غير هذا الكتاب.
وقال بعض أهل النظر: قوله. إن القول قول الراهن، معناه: إن القول قوله بغير يمين، إذ لا معنى ليمينه؛ لأنه سواء حلف أو نكل، لا بد أن يباع من الطعام بمائه دينار للمرتهن، ويوقف الباقي، وليس قوله بصحيح، بل لا بد من يمينه؛ لأنه إن حلف بيع الطعام على ملك المرتهن، وإن نكل على اليمين، حلف المرتهن وبيع الطعام على ملك المرتهن، ولو بدر السلطان فباعه قبل أن يحلف الراهن، ووقف البقية، لمضى ذلك من حكمه ولم يحتج في ذلك إلى أن يتعقب حكمه بيمين، ولو تلف الطعام، في حال بيعه، لم يكن بد من الرجوع في ذلك إلى الأيمان. فإن حلف الراهن كانت مصيبته من المرتهن، وإن نكل عن اليمين وحلف المرتهن، كانت مصيبته من الراهن. وأما إن كانت قيمته مثل المائة، فالقول قول الراهن مع يمينه، يحلف، ولا يكون للمرتهن إلا المائة إردب، فإن نكل عن اليمين حلف المرتهن، وأخذ المائة، ولا كلام في هذا الوجه لأن الرهن لا يشهد للمرتهن بصفة الدين إذا اختلفا في نوعه، وإنما يشهد في مبلغه إذا اختلفا في قدره، على اختلاف بين أهل العلم في ذلك، قد مضى ذكره، وأما إن كانت قيمتها أقل من المائة التي ادعى المرتهن، وهي قيمة الرهن، فوجه الحكم في ذلك(11/122)
أن يحلفا جميعا؛ لأن كل واحد منهما في حكم المدعي والمدعى عليه: الراهن مدعى عليه في الدنانير التي لم يقر بها، وهو في حكم المدعي على المرتهن فيما نقص من قيمة الرهن؛ لأنه يصدق في ذلك مع يمينه، لشهادة الرهن له، والمرتهن مدع في الدنانير التي لم يقر له بها الراهن وهو في حكم المدعى عليه فيما نقص من قيمة الرهن؛ لأن القول قوله في ذلك مع يمينه، لشهادة الرهن له بذلك، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا دفع الراهن إلى المرتهن المائة الإردب، ووفاه قيمة ما نقصت قيمتها من المائة دينار. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما، إن كان الراهن هو الحالف، لم يكن للمرتهن إلا المائة إردب، وإن كان المرتهن هو الحالف، كانت له المائة دينار على الراهن. فقوله: واختلافهما في هذين النوعين كاختلافهما في النوع الواحد، ليس على عمومه؛ لأن القول قول الراهن في النوع الذي يقر به على كل حال. وإنما معناه: أن الرهن للمرتهن شاهد إلى مبلغ قيمته، اتفقا على النوع أو اختلفا فيه. وسواء كان اختلافهما في عين وعرض، أو في نوعين من العروض، أو في دنانير أو دراهم، الحكم في ذلك كله سواء، على ما تقدم. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون للرجلين عليه حق إلى أجل فيرهنهما]
مسألة من سماع أبي زيد بن الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في الرجل يكون للرجلين عليه حق إلى أجل، فيرهنهما ذكر حق على رجل، على أن أحدهما مبدأ على صاحبه في أول ما يتقاضاه من الحق الذي رهنهما فيجمع بينهما وبين الذي عليه الحق، ويقر لهما به: إن ذلك جائز على ما اشترطا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا علة تمنع من جوازها. وبالله التوفيق.(11/123)
[مسألة: يكون لهما رهن بينهما فيقوم أحدهما على بيع الرهن في حقه]
مسألة وقال في رجلين يكون لهما رهن بينهما، فيقوم أحدهما على بيع الرهن في حقه، وقد كان الآخر أنظره لحقه سنة: إنه إن كان يقدر على قسم الرهن مما لا ينقص حق الذي قام على أخذ حقه قسم، ثم بيع له نصف الرهن، فأوفى حقه ووقف النصف الآخر للذي أنظر لحقه إلى الأجل، وإن كان لا يقدر على قسم الرهن إلا بما ينقص حق الذي قام على أخذ حقه، بيع الرهن كله، فأعطي الذي قام على أخذ حقه حقه من ذلك، فإن طابت نفس الذي أنظر بحقه سنة أن يدفع بقية ثمن الرهن إلى الراهن، إلى أن يحل حقه، دفع إلى الراهن، وإن كره أحلف بالله، أنظرت بحقي، إلا ليوقف لي رهني على هيئته ثم أعطي حقه من ذلك، ولم يحبس عنه حقه، ولا يوقف له إلى الأجل. وقد بيع رهنه؛ لأن إيقاف حقه ضرر على المرتهن في غير منفعة تصل منه إلى الراهن، وهو له ضامن، ودفع الحق إلى المرتهن وإبراء الراهن من ضمانه خير لهما جميعا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة وأصلها في الموطأ.
وقد مضت متكررة في رسم الرهون من سماع عيسى، ومضى هناك القول على الموضع المختلف فيه منها فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن من رجل دارا إلى أجل ثم أكراها المرتهن من رجل بدينار إلى أجل]
مسألة وعن رجل ارتهن من رجل دارا، إلى أجل، ثم إن المرتهن أكراها من رجل بدينار إلى أجل برضى من صاحب الدار، ثم إن الذي اكتراها أكراها من الراهن إلى ذلك الأجل، فهل يفسخ هذا رهنه؟ وكيف يصنع؟ قال ابن القاسم: إن كان ذاك من سبب(11/124)
صاحب الدار فالكراء له لازم، وذلك فساد لرهنه، ولا رهن له فيها ما دامت في يديه، وإن كان ذلك من أجنبي من الناس، وصح ذلك، فذلك جائز.
قال الإمام القاضي قوله: إنه كان المكتري الذي اكتراها من المرتهن، فأكراها من الراهن من سبب الراهن، فالكراء لازم له، والرهن يفسخ، صحيح على ما في المدونة، من أن من حلف ألا يبيع من رجل سلعة، فباعها من رجل اشتراها للمحلوف عليه، إنه حانث، إن كان الرجل الذي باعها منه من سبب المحلوف عليه؛ لأنه إذا أكراها ممن هو من سبب الراهن، فكأنه قد أكراها من الراهن، وهذا بيّن إذا علم أنه من سببه، وأما إذا لم يعلم أنه من سببه، فيجري الأمر في انفساخ الرهن على الاختلاف في تحنيث الحالف، فأشهب يقول: إنه لا حنث عليه، وروى ذلك عن مالك، وظاهر ما في المدونة أنه حانث. والاختلاف في هذا عندي إنما يرجع إلى تصديقه في دعواه أنه لم يعلم أنه من سببه. وفي قوله: ولا رهن له فيها ما دامت في يديه، دليل أنه إن انقضى الكراء، فرجعت إلى المكتري الأول، الذي أكراها منه المرتهن، أو إلى المرتهن، ترجع على الرهن، وهذا مما لا اختلاف فيه، بخلاف إذ أراد الراهن إليه باختياره، قبل انقضاء أجل كرائه.
وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك، وتوجيهه في رسم العتق من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته. وأما قوله: وإن كان ذلك من أجنبي وصح فذلك جائز، فالمعنى في ذلك أن الكراء يجوز ولا ينفسخ الرهن، وإنما لم ينفسخ الرهن وإن كان قد صار بيد الراهن؛ لأن المرتهن مغلوب على ذلك بما لزمه من عقد الكراء، فأشبه ما لو سرقه الراهن، فلم يعلم المرتهن بذلك حتى قام عليه الغرماء، إن الرهن لا ينفسخ، أو لو كان عبدا فأبق من عند المرتهن، فأخذه الراهن، ولم يعلم بذلك المرتهن. وقد مضى بيان هذا في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.(11/125)
[مسألة: ارتهن عبدا إلى أجل ثم جاءه الراهن فسأله أن يرد العبد]
مسألة قال: ولو أن رجلا ارتهن من رجل عبدا إلى أجل، ثم جاءه الراهن، فسأله أن يرد العبد ويعطيه مكانه رهنا غيره، فلا بأس.
قال محمد بن أحمد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها ولا كلام.
وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن حائطه بعشرة دنانير ثم رهن نصف الحائط ثانية]
مسألة وقال في رجل ارتهن رجلا حائطه بعشرة دنانير، ثم رهن نصف الحائط ثانية من رجل آخر بإذنه بعشرة دنانير، ثم قضى الأول، فأراد أن يرهن نصف حائطه من رجل آخر، يريد النصف الذي قضى عنه ما كان رهنه به، قال: ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما رهن الثاني نصف الحائط، فلا حجة له بمنعه بها من أن يفك النصف الأول من المرتهن الأول، ويرهنه من غيره؛ لأنه إذا فعل ذلك حل المرتهن الثالث في النصف الذي افتكه من المرتهن الأول، فحل الذي افتكه منه، وارتفعت يد الراهن عنه، فصحت الحيازة في الحائط للمرتهنين، كان الحائط بيد أحدهما أو بأيديهما جميعا، ولو أن صاحب الحائط لما افتك النصف الذي رهنه من الأول، بقي بيده، لبطل رهن الثاني، فلا يصح رهن الثاني إذا افتك صاحب الحائط النصف الذي رهنه من الأول، إلا أن يسلمه إليه، فيحوز جميعه، أو يجعلانه جميعا على يدي عدل. وقد اختلف إن أكرياه جميعا، فقيل: يصح الحوز، وقيل: لا يصح حتى يقتسماه، فيكري المرتهن نصيبه، وكذلك إن عمراه جميعا على الإشاعة، يتخرج ذلك على القولين في الرجل يتصدق بجزء من أرض، على الإشاعة، فيعمر المتصدق عليه الأرض مع المتصدق، على وجه التقصي لحقه، والتشاح إلى أن يموت المتصدق، فرأى ذلك ابن القاسم(11/126)
حيازة، وخالفه في ذلك أصبغ والأظهر في الصدقة أن تكون حيازة، وفي الرهن ألا يكون حيازة؛ لأن الحيازة أقوى في الرهن منها في الصدقة والهبة، لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى من رجل عبدا بمائة دينار إلى أجل ورهنه دارا إلى أجل]
مسألة وعن رجل اشترى من رجل عبدا بمائة دينار إلى أجل، ورهنه دارا إلى أجل، ثم قال له: أنا أرهنك في عبدك ما بعد مائة دينار، من ثمن الدار، يقول: إذا بعت الدار، فابدأ بأخذ مائة، فما كان بعد المائة فهو رهن لك من حقك، فقال: لا يجوز هذا الرهن.
قال محمد بن رشد: قال ابن المواز عن مالك: إنه على شرطه، ولغرمائه المائة، وما بعدها رهن.
وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة وما كان في معناها في تكلمنا على أول مسألة من سماع أصبغ، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن النحل ولمن يكون العسل]
مسألة وقال في رجل ارتهن نحلا لمن يكون العسل؟ قال: للراهن، وهو مثل النحل:
قال محمد بن رشد: يريد: إن النحل تكون له بأجباحها ولا يكون له عسلها، إلا أن يشترطه، وهذا مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» فكما يكون(11/127)
للراهن لبن الغنم المرهونة، فكذلك له عسل النحل المرهونة، وكذلك لو رهنه الأجباح، لكانت له بنحلها، ولا يكون له عسلها الذي فيها يوم الرهن، ولا ما يصير فيها بعد ذلك، إلا أن يشترطه على حكم البيع إذا باع النحل دخلت الأجباح في البيع دون ما فيها من العسل، وإذا باع الأجباح دخلت النحل فيها دون ما في الأجباح من العسل. وبالله التوفيق.
[مسألة: دار بين رجلين فرهن أحدهما حصته ووضعها على يدي الآخر]
مسألة وقال في دار بين عبد الله وعبد الرحمن، فرهن عبد الله حصته من رجل بعشرة دنانير، ووضع حصته من الدار على يدي عبد الرحمن، وهو ساكن في الدار كلها. قال: أليس يسكن في حصته عبد الله بكذا؟ قال: نعم. قال لا بأس به.
محمد بن أحمد: هذه المسألة من مسائل المجالس لم تتدبر وفيها نظر؛ لأن حيازة الرهن لا يكون إلا بأن يوضع على يدي عدل، أو يكريه المرتهن بإذن الراهن، إن كان له الكراء، أو بغير إذنه، إن كان لم يشترط الكراء في رهنه، وأما إن أكراه الراهن بإذن المرتهن، أو بغير إذنه، والكراء له، لم يشترطه المرتهن في رهنه، فقد بطلت حيازة الرهن. وهذا نص قوله في المدونة: إنه إذا أذن له أن يكري الدار، فقد خرجت من الرهن. فقوله في هذه الرواية: أليس يسكن في حصته عبد الله بكراء؟ قال نعم. قال: لا بأس به، يدل على أنه لو سكن فيها بغير كراء، لم يجز.
وصواب هذا أن يكون بالعكس، إذا وضع حصته التي رهن بيد شريكه على أن يسكن فيها بالكراء، لم يجز على ما بيناه من أن الراهن إذا أكرى الدار التي رهن، بطلت الحيازة فيها، وإن كان أكراها بإذن المرتهن. إذا كان الكراء له، وإذا وضعها بيده على أن يسكن فيها بغير كراء، بإذن المرتهن، جاز ذلك، وكان الشريك حائزا؛ لأنه كالعدل الموضوع على يديه الرهن، فلا تصلح المسألة إلا على تأويل فيه بُعد، وهو أن يحمل على أن الراهن وضع حصته من الدار، بيد(11/128)
شريكه فيها قبل الرهن، ثم رهنها وهي بيده، فإن كانت بيده بكراء، ورهنها بكرائها جاز، وإن كانت بيده بغير كراء على سبيل الائتمان له عليها، ورهنها، لم يجز، إلا أن يُخرجها من يده؛ لأن كونها بيد أمينه، ككونها بيده؛ لأن يده كيده؛ لأنه متى حملت المسألة على أن الراهن وضع حصته التي رهن من الدار بيد شريكه بعد الرهن، لم يستقم قوله بحال، إلا أنه إن كان وضعها بيده بغير إذن المرتهن، تكون حيازة، كان وضعه إياها بيده بكراء أو بغير كراء، وإن كان وضعها بيده بإذن المرتهن؛ تكون حيازة، إن كان وضعها إياه بغير كراء، ولا تكون حيازة، إن كان وضعها بيده بكراء إلا أن يكون الكراء رهنا، وهذا كله خلاف قوله، فتدبره، وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن رجلا دابة أو عبدا فماتا في يدي المرتهن]
مسألة
وعن رجل رهن رجلا دابة أو عبدا، فماتا في يدي المرتهن، واختلفا فيما رهن فيه، فقال: القول قول الذي عليه الحق، وليس هو إذا مات بمنزلة إذا كان حيا، والذي في يديه الرهن إذا كان حيا مصدق فيما بينه وبين قيمة الدابة.
محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقد مضى القول فيها في أول سماع ابن القاسم، في رسم العارية، من سماع عيسى، وفي رسم الصلاة، من سماع يحيى مستوفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل حق فرهنه حائطا له ووضعه على يدي رجل وأراد أن يساقيه]
مسألة
وقال في رجل له على رجل حق، فرهنه حائطا له، ووضعه على يدي رجل، وأراد الذي وضع على يديه، أن يساقيه الذي له الحق. قال: لا بأس بذلك. قيل له: فأراد الذي وضع على يديه أن يأخذه مساقاة قال: لا يأخذها مساقاة إلا برضا منهما جميعا.(11/129)
قال محمد بن رشد: مساقاة العدل للحائط الذي وضع على يديه، ككرائه للدار التي وضعت على يديه سواء، فإذا أكرى الدار من المرتهن، أو ساقاه في الحائط، جاز ذلك؛ لأن كون ذلك في يديه بالمساقاة أو الكراء، أبين في الحوز من كونه بيد غيره بذلك، ولا يلزم الراهن ذلك، إلا أن يرضى به؛ إذ من حقه أن لا يساقي فيه، وأن يستأجر عليه من ماله، فيكون جميع الثمرة له.
وأما قوله: إن الذي وضع الحائط على يديه، لا يأخذ مساقاة من ربه، إلا برضاهما جميعا، ففيه نظر؛ إذ لا فرق بين عقد المساقاة في ذلك، وبين عقد الكراء، ولا بين أن يعقد ذلك الراهن بالعدل، أو مع غيره، فلا يجوز أن يلي الراهن عقد المساقاة، وإن أذن له في ذلك المرتهن؛ إذا كانت الثمرة له، وأما قوله: إن الذي وضع الحائط على يديه للراهن، لم يشترطها المرتهن في رهنه، قياسا على عقد الكراء، وإنما يلي العقد في ذلك، مع العدل المرتهن إذ أرضى الراهن صاحب الحائط، بأن يساقي؛ إذ من حقه أن يستأجر عليه من ماله، فيكون جميع الثمرة له، ولا يساقي فيه، حسبما ذكرناه، فقوله: إلا برضاهما جميعا معناه: مع أن يكون المرتهن منهما هو الذي العقد فيه معه، وقد مضى فوق هذا من هذا السماع، وفي رسم الرهون، من سماع عيسى تحصيل القول فيمن يلي عقد الكراء في الرهن، وهو بين ما ذكرناه في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يرهن العبد بمائة دينار ثم يجرح العبد فيخير السيد في أن يسلمه أو يفتديه]
مسألة
وعن رجل يرهن العبد بمائة دينار، ثم يجرح العبد، فيخير السيد في أن يسلمه أو يفتديه، فيسلمه، هل يحل عليه الدين إذا فات الرهن وهو مليء بالحق؟ فقال: لا يحل عليه الحق، قلت له: فكيف يكون؟ أيكون عليه الدين إلى أجله، قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ إذ لا يحل عليه الدين بإسلام العبد الرهن بجنايته؛ إذ لا يلزمه أن يفتكه، فلم يتعد فيما صنع، إلا أن من(11/130)
حق المرتهن أن يفتكه بجنايته، فيكون أحق به فيما فداه به رب الدين الذي له، ويباع معجلا إن شاء، فإن كان فيه فضل عما فداه به، نَضّ له من دينه، واتبعه ببقية دينه إلى أجله، وإن لم يف بما فداه، لم يكن على سيده من ذاك شيء، وإن أراد أن يؤخر بيعه إلى أن يحل أجل الدين، كان ذلك له، ولم يكن للراهن في ذلك كلام؛ لأن المرتهن يقول: إن أراد تأخير بيعه، أرجو أن تزيد قيمته إلى الأجل، فيكون فيه وفاء بالدين، وبما افتككته به، وإن أراد تعجيل بيعه، أخشى أن يتلف أو تنحط قيمته، فأخسر ما افتككته به، ولو أبى الراهن أولا من افتكاكه، وأراد أن يباع، فيؤدي ما من ثمنه الجناية، ويأخذ المرتهن الباقي من دينه، لم يكن ذلك له، إلا أن يرضى المرتهن بذلك رهنا. قال في المدونة: إنه لا يباع حتى يحل أجل الدين، وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن جارية ووضعها على يدي رجل فأرسلها إلى الراهن فوطئها فحملت]
مسألة
وقال ابن القاسم في رجل رهن جارية ووضعها على يدي رجل، فعمد الذي جعلت على يديه، فأرسلها إلى الراهن، أو ردها إليه، فوطئها فحملت، قال: الأمين ضامن لقيمتها يوم أحبلها، وليس لجميع الرهن، ولكن لقيمتها يوم أحبلها، وتكون أم ولد لسيدها، ويتبع الأمين السيد، إلا أن لا يكون للأمين مال، فإن لم يكن للأمين مال، كان المرتهن أحق بالجارية، وهذا كله إذا لم يعلم المرتهن بالرد، فإذا علم فلا رهن له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكررت في رسم حبل حبلة من سماع عيسى، ومضى الكلام عليها مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(11/131)
[مسألة: رهن رجلا رهنا ووضعه له على يدي عدل فباع ذلك العدل الرهن]
مسألة
وعن رجل رهن رجلا رهنا، ووضعه له على يدي عدل، فباع ذلك العدل الرهن، وقضى الغريم كما أمره، فاستحق الرهن عند المشتري، على من يرجع المشتري بالثمن؟ قال: إن كان لصاحبه الذي رهنه مال، رجع عليه، وإلا رجع على الذي بيع له، فأخذ الثمن منه، وإنما هو بمنزلة الذي يفلس، فيباع ماله، فيستحق شيء منه، فإنما يرجع على الغرماء؛ إذا لم يكن لصاحبه شيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها، ولا لبس في شيء من معانيها، فلا تفتقر إلى التكلم عليها، والله الموفق.
[مسألة: أخذ منه رهنا في حقه ووضعه له على يدي رجل فحل الأجل وغاب المدين]
مسألة
وعن رجل كان له على رجل حق إلى أجل، وأخذ منه رهنا، ووضعه له على يدي رجل، ورضيا به جميعا فحل الأجل، وغاب الذي عليه الحق، فجاء صاحب الحق إلى الذي وضع الرهن على يديه، فقال له: قد حل حقي، فادفع إلي الرهن، حتى أبيعه وآخذ حقي، فدفعه إليه، فضاع منه الرهن، قال: يضمن الذي وضع الرهن على يديه، ولا شيء على صاحب الحق الذي ضاع الرهن منه؛ لأنه إنما اؤتمن عليه، فلا يلزمه شيء. قلت: وإن كان الرهن مما يغيب إليه، قال: نعم.
قال الإمام القاضي: اعترض ابن دحون هذه المسألة فقال فيها: إنها غير جيدة، كيف يضمن الأمين؟ وإنما جعل الرهن على يديه ليبيعه عند حلول الأجل. والمسألة عندي صحيحة، ولا وجه لاعتراض ابن دحون، بما اعترضها به؛ لأن العدل الذي وضع على(11/132)
يديه الرهن، ليس له أن يبيعه؛ إذ لم يجعل إليه بيعه، ولا ارتُهن إلا على أن يجوزه للمرتهن، ولو جعل إليه بيعه؛ لكان متعديا في دفعه إلى صاحب الحق، وائتمانه عليه، ولوجب أن يكون ضمانه إن تلف عنده من العدل الذي دفعه إليه، كمن دفع إلى رجل سلعة لبيعها، فدفعها إلى غيره ليبيعها، فتلفت منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن جارية فوضعت على يدي رجل فأعارهها للسيد فوطئها فحملت]
مسألة
وقال في رجل ارتهن جارية، فوضعت على يدي رجل، ثم إن سيدها سأل الذي وضعت على يديه أن يعيره إياها في عمل فأعاره، فوثب عليها فوطئها فحملت منه. قال: إن كان سيدها مليا غرم الحق، ودفع إلى صاحب الحق، وإن لم يحل الأجل، إلا أن يكون الذي عليه طعام أو عرض، فيغرم رهنا مكانه إلى ذلك الأجل، وإن لم يكن مليا أخذ من الذي وضعت على يديه قيمتها، ورجع هو على سيدها.
قال محمد بن رشد: قوله: إلا أن يكون الذي عليه طعام أو عرض، فيغرم رهنا مكانه، إلى ذلك الأجل، معناه: إلا أن يرضى المرتهن بقبضه قبل حلول أجله، فيجبر الراهن على تعجيله. وهذا إذا كان الطعام والعرض من بيع؛ إذ ليس لمن عليه طعام أو عرض من بيع أن يعجله لصاحبه، قبل محل الأجل، إلا برضاه. وأما إن كان الطعام أو العرض من قرض، فهو بمنزلة العين، يجبر الراهن على تعجيله، لتعديه على الرهن بما أفاته به.
وقد مضت هذه المسألة فوق هذا في هذا السماع، وتكررت أيضا في رسم حبل حبلة، من سماع عيسى، ومضى القول عليها مستوفى، وبالله التوفيق.(11/133)
[مسألة: رهن وصيفا له يرضع]
مسألة
وسئل ابن القاسم عن رجل رهن وصيفا له يرضع، قال: أمه تكون معه في الرهن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم شك في طوافه، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أرهن رهنا إلى سنة ثم رهنه أيضا من آخر إلى شهر برضا من الأول]
مسألة
وسئل ابن القاسم عن رجل أرهن رهنا إلى سنة، ثم رهنه أيضا من آخر إلى شهر برضا من الأول، فجاء الشهر وطلب المرتهن الآخر حقه، قال: إذا كان ليس فيه فضل، لم يبع الرهن إلى ذلك الأجل، وإن كان في الرهن فضل عما رهنه عند الأول، بيع الرهن، فأعطي للأول حقه قبل حلول الأجل، فما بقي أعطي الآخر منه حقه، قال: فإن قال قائل: لم يبدأ هذا اليوم، وأجله الذي إليه دينه لم يحل، قال: فإنه يقال له: لأن هذا كان مبدأ عليك، فهو يأخذ قبلك، فما فضل كان لك، وإن لم يكن في الرهن فضل شيء كان على حاله إلى ذلك الأجل.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة: ثم رهنه أيضا من آخر إلى شهر برضا من الأول، كلام ليس على ظاهره، ومراده به: ثم رهن أيضا فضلته من آخر إلى شهر برضا الأول؛ لأنه إذا رهن الرهن من رجل ثم رهنه من آخر برضا من الأول، بطل رهن الأول، وأما إذا رهن فضلته من آخر، فهو كما قال في المسألة. وقد مضى القول على ارتهان فضلة الرهن مستوفى في أول رسم الأقضية الثالث، من سماع أشهب، وفي رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى، فقف على ذلك في الموضعين، وبالله التوفيق.(11/134)
[مسألة: رهن العبد]
مسألة
وقال في العبد الرهن يخرج إن عقله رهن مع رقبته، ويوضع على يدي الذي وضع الرهن على يديه؛ لأنه ينقص من رهنه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن ما نقصت الجناية عنه كعضو من أعضائه، فوجب أن يكون رهنا معه، وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن عندي سوارا فقال صاحب الرهن لا أدري بكم رهنته]
مسألة
وقال في رجل رهن عندي سوارا، فقال صاحب الرهن: لا أدري بكم رهنته؟ وقلت: لا أدري بكم ارتهنته؟ قال: أرى أن ترجع إليه قيمة الرهن، ثم أنت أعلم بعد، إن شئت فخذ، وإن شئت فدع، إلا أنه يقض على صاحب الرهن بأن لا يأخذه حتى يدفع قيمته.
قال محمد بن رشد: الجهل بما رهن فيه الرهن، كالجهل بمبلغ قيمة الرهن سواء، فإذا مضى الرهن بما فيه؛ إذا جهلت قيمته على ما لأشهب، في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، وجب أن يمضي بما فيه من الدين إذا جهل مبلغ ذلك الدين، ولم يكن للراهن أن يأخذه حتى يدفع قيمته إلى المرتهن، ويوزع المرتهن في أخذها، أو أخذ شيء منها لجهله بمبلغ حقه منها، وبالله التوفيق.(11/135)
[كتاب الاستحقاق] [أرض بين رجلين فاحتفر أحدهما بيرا فيريد الآخر أن يدخل معه]
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك، في أرض بين رجلين، فاحتفر أحدهما بيرا، أو غرس فيها غرسا، فيريد الآخر أن يدخل معه؛ أنه يكون عليه في البير بقدر ما له في الأرض.
محمد بن رشد: قال مالك في هذه الرواية: إن الشريك إذا أراد أن يدخل مع شريكه فيما بنى أو حفر أو غرس، يكون عليه في البير بقدر ما له في الأرض، ولم يبين إن كان يكون عليه في ذلك قدر حظه من النفقة التي أنفقها، أو من قيمة العمل قائما، أو من قيمته منقوضا، وفي ذلك تفصيل؛ إذ لا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يكون بنى وغرس واحتفر، وشريكه غائب، بغير إذن منه ولا علمه. والثاني: أن يكون بنى وغرس به، واحتفر بحضرة شريكه، دون أن يأذن له في ذلك. والثالث: أن يكون بنى وغرس واحتفر بإذن شريكه، فأما إذا كان بنيانه وغرسه وحفره، وشريكه غائب بغير إذنه ولا عمله، فيتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أن الشركة بينهما في الأرض شبهة، توجب أن يكون له قدر حظ شريكه من قيمة عمله قائما، إلا أن يكون قدر حظه من النفقة التي أنفقها أقل من ذلك،(11/137)
فلا يزاد عليه، يقوم هذا القول مما وقع لابن القاسم في رسم القطعان، من سماع عيسى، من كتاب الشركة. والقول الثاني: أن الشركة ليست بشبهة، فلا يكون له فيما بنى أو غرس أو احتفر، إلا قيمة ذلك منقوضا. وقول ابن القاسم في المسألة التي تلي هذه، ويقوم ذلك أيضا مما وقع في سماع سحنون، من كتاب المزارعة.
وأما إذا كان بنيانه وغرسه وحفره بحضرة شريكه وعلمه، دون أن يأذن في ذلك، فيتخرج ذلك على الاختلاف في السكوت، هل هو كالإذن أم لا؟ فعلى القول بأنه كالإذن إن كان قد مضى من المدة ما يراه أنه إذن له إلى مثلها، كان عليه قدر حظه من ذلك قائما. ويختلف على هذا القول، هل يكون له كراء في حصته، لما مضى من المدة أم لا؟ فقيل: إنه لا كراء له، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في آخر هذا الرسم، وقيل: إن له الكراء بعد أن يحلف أنه ما رضي بترك حقه من الكراء في ذلك، وهو قول عيسى بن دينار من رأيه في آخر سماعه، من كتاب الشركة.
وعلى قول بأنه ليس كالإذن، يكون له كراء حصته لما مضى من المدة قولا واحدا، ويكون عليه قدر حظه من البنيان منقوضا، وإن لم يمض من المدة ما يرى أنه ينهى إلى مثلها. وأما إذا كان بناؤه وغرسه وحفره بعلم شريكه وإذنه له في ذلك، فالحكم في ذلك على ما ذكرناه؛ إذا سكت ولم يأذن له، على القول بأن السكوت كالإذن. وهذا كله إذا رضيا بالمقام على الشركة، أو كان ذلك مما لا ينقسم، وأما إذا دعوا جميعا إلى القسمة، وكان ذلك مما ينقسم، فالحكم في ذلك على ما قاله ابن القاسم بعد هذا متصلا بقول مالك، ولو دعا إلى ذلك أحدهما لدخل الخلاف فيه عندي من مسألة كتاب الشفعة من المدونة حسبما نذكره بعد هذا إن شاء الله.(11/138)
[مسألة: غرس أو بنى في أرض بينه وبين شريك له وشريكه غائب]
مسألة
قال ابن القاسم: من غرس أو بنى في أرض بينه وبين شريك له، وشريكه غائب، فإنهما يقسمان الأرض، فإن كان بنيانه فيما صار له من الأرض، كان له وكان عليه من الكراء بقدر ما انتفع من نصيب صاحبه، وإن كان البنيان والغرس في نصيب غيره، خير الذي صار في حظه بين أن يعطيه قيمته منقوضا، وبين أن يسلم إليه نقضه ينقله، ويكون له أيضا من الكراء على الباني بقدر ما انتفع به من مصاب صاحبه الغائب. قال عيسى: قال ابن القاسم: ولو بنى بمحضر شريكه، لم يكن لشريكه كراء؛ لأنه كالإذن.
قال محمد بن رشد: لم ير ابن القاسم في هذه الرواية الشركة بينهما في الأرض شبهة للباني منهما؛ إذ قال: إنه إذا بنى وشريكه غائب، يقتسمان الأرض، فإن حصل البناء بالقسمة في حظ شريكه، لم يكن له عليه فيه إلا قيمته منقوضا؛ يريد طال زمان ذلك أو لم يطل. وقد ذكرنا الاختلاف قبل هذا في كون الشركة بينهما في الأرض شبهة للباني منهما فيما بنى.
وظاهر قوله: إن الحكم يكون في ذلك على ما ذكره من قسمة الأرض إلى آخر قوله، سواء اتفقا على القسمة ابتداء أو دعوا إليها، أو اختلفا إليها أحدهما ابتداء، أو دعا الآخر إلى أن يحكم بينهما في الغرس والبناء قبل القسمة، ولا اختلاف إذا اتفقا على القسمة، ودعوا إليها ابتداء، وأما إذا اختلفا في ذلك، فالذي يأتي في هذه المسألة على ما في آخر كتاب الشفعة من المدونة في الدار تكون بين الرجلين، فيبيع أحدهما طائفة منها بعينها أن يشتركا في البنيان، بأن يعطي الذي يبنى للباني من قيمته منقوضا، قدر حظه من الأرض، ثم يقتسمان بعد أو يتركان، ولو بنى بإذن شريكه أو بعلمه وهو ساكت لا يغير ولا ينكر، على القول بأن السكوت كالإذن؛ لوجب على مذهبه، وروايته عن مالك أن يكون له قيمة بنيانه قائما إن اقتسما، فصار(11/139)
البنيان في حظ شريكه أو قيمة حظه منه قائما، إن رضيا بالبقاء على الشركة، أو كانت الأرض لا تنقسم، إلا أن تطول المدة إلى أن يمضي منها ما يرى أنه إذن له في البناء إلى مثلها، فتكون القيمة فيه منقوضا، خلاف رواية المدنيين عن مالك في أن القسمة لا تكون في ذلك إلا قائما، سواء طال زمان ذلك أو قصر؛ إذا بنى بإذنه أو بعلمه وهو ساكت؛ إذ لا يكون على روايتهم عنه لمن بنى قيمة بنيانه منقوضا، إلا أن يكون بنى متعديا على غير وجه شبهة، ورواية عيسى عن ابن القاسم في قوله، في آخر المسألة: إنه لو بنى بمحضر شريكه، لم يكن لشريكه كراء؛ لأنه كالإذن خلاف قوله من رأيه في سماعه من كتاب الشركة، وقد ذكرنا ذلك في المسألة التي قبل هذه. والمسألة كلها متكررة في رسم إن خرجت من سماعه من هذا الكتاب بالمعنى، وإن اختلف اللفظ، وبالله التوفيق.
[ابتاع أمة فقبضها ثم ادعت الجارية الحرية عنده وسمت بلادها وقبيلتها]
ومن كتاب القبلة
وقال مالك في رجل ابتاع أمة فقبضها، ثم ادعت الجارية الحرية عنده، وسمت بلادها وقبيلتها ونسبت أهلها في بلدة بعيدة أو قريبة، قال: يرفع ذلك إلى الوالي، فإن كان ما ادعت شيئا له وجه، كتب بأمرها حتى يستبري ذلك، وما كان من ذلك من نفقه أو مئونة فعلى المشتري، ولا ترد على البائع بقولها، ولا يلزمه شيء من النفقة في طلب استبراء ما ذكرت، فإن تبين صدق ما قالت، رد البائع على المشتري الثمن، ولم يلزم البائع شيء مما أنفق، وإن سمت بلادا بعيدا، ولم تنتسب نسبا لعرف، ولا شيئا بينا إلا ملتبس، لم يكن من ذلك على البائع شيء، وإن هي نزعت عن قولها، بطل(11/140)
ذلك، إلا أن يخاف أن تنزع عن خوف.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إنه إن كان ما ادعت شيئا له وجه، كتب بأمرها، حتى يستبرأ ذلك، يريد: بعد أن يؤخذ من سيدها حميل. ولم يفرق في هذا بين القرب والبعد، بل يريد التسوية بينهما. وقد قيل: إنه لا يلزم السيد شيء إذا كان الموضع بعيدا، وهو دليل ما في سماع عبد المالك بن الحسن، من كتاب الأقضية. وحد القرب في ذلك باليوم ونحوه. وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة، بما لا مزيد عليه.
وقوله: إن ما كان في ذلك من نفقة أو مئونة فعلى المشتري؛ معناه: إنه ليس له أن يرجع بشيء من ذلك على البائع على حال، ثبتت حريتها، أو لم تثبت؛ إذ لا يجب شيء من ذلك عليه، إلا أن يتطوع به، وإنما يجب ذلك على الإمام من بيت المال.
وقوله: إنها لا ترد على البائع بقولها، صحيح؛ لأنه عيب حدث عند المشتري، فإن باعها هو ولم يبين بأنها ادعت الحرية عنده، كان ذلك عيبا يجب به الرد عليه. قال ذلك في أول سماع ابن القاسم من كتاب العيوب.
وقوله: وإن سمت بلدا بعيدا، ولم تنتسب نسبا يعرف، ولا شيئا بينا إلا ملتبس، لم يكن من ذلك على البائع شيء، كلام فيه نظر؛ إذ لا اختلاف ولا إشكال في أنها لا ترد على البائع بدعواها الحرية عند المشتري، وإن أشبه ما ادعته من ذلك، ولا يرجع عليه المشتري بما أنفق في استبراء ما ادعته، فينبغي أن يتأول على أنه إنما أراد أنه إن باعها ولم يبين بدعواها الحرية عنده، لم ترد عليه إن كانت سَمَّت بلدا بعيدا، أو لم تنتسب نسبا يعرف، بخلاف إذا أتت من ذلك بأمر يشبه، والله أعلم.
وإذا استحقت الجارية بحرية لم يلزمها الذهاب مع المشتري إلى موضع بائعه، ليسترجع منه ثمنه، وإنما يكتب له القاضي بصفتها، ذكر ذلك ابن عبدوس، عن ابن القاسم، وذكر ابن حبيب في وثائقه على ما حكى عنه الفضل: إن من حق المشتري الذي استحق من يده، أن ترفع معه ليأخذ رأس ماله من البائع، مثل ما لو استحق برق، وقال ابن كنانة: ترفع معه إن كانت غرت، ولا ترفع معه إن كانت لم تغر،(11/141)
وهو جيد، فينبغي أن يحمل قوله على التفسير لقول ابن القاسم وقول ابن حبيب. وقد مضى هذا المعنى بزيادة فيها بيان، في آخر سماع عيسى، من كتاب الجهاد، فقف على ذلك وتدبره، وبالله التوفيق.
[الرجل يعترف الدابة بالبلد فيقيم شاهدا واحدا ويسأل أن توقف له]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك عن الرجل يعترف الدابة بالبلد، فيقيم شاهدا واحدا، ويسأل أن توقف له، حتى يأتي بشاهد آخر، فيوقف في طلب ذلك، فيقيم فيه أياما ثم يستحق ذلك بعد، على من ترى نفقتها في إقامتها؟ قال: والجواري كذلك، ثم قال: أرى النفقة ممن تكون له الدابة.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى النفقة ممن تكون له الدابة، هو مثل ما في المدونة، إن النفقة على الشيء المدعى فيه في حال التوقيف ممن يقضى له به، يريد: إن المدعى عليه ينفق في حال التوقيف ممن يقضى له به، فإن قضي به للمدعي رجع عليه صاحبه بالنفقة، وقد قيل: إنهما ينفقان عليه جميعا لمن قضى له به منهما، ورجع عليه صاحبه بنصف النفقة. وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت، من كتاب الدعوى والصلح،
وفي المجموعة.
وقد اختلف في الحد الذي يدخل به الشيء المستحق في ضمان المستحق، وتكون الغلة له، ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال؛ أحدها: إنه لا يدخل في ضمانه، ولا تجب له الغلة، حتى يقضى له به. وهو قول ابن القاسم في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، من كتاب الدعوى والصلح، والذي يأتي على قول مالك في المدونة: إن الغلة للذي في يديه حتى يقضى بها للطالب، وعلى قول سحنون في نوازله، من كتاب الغصب: إن المصيبة من المشتري حتى يحكم به للمدعي، وعلى هذا القول لا يجب توقيف الأصل المستحق، توقيفا يحال بينه وبينه، ولا توقيف غلته، وهو قول ابن القاسم في(11/142)
المدونة: إن الرباع التي لا تحول ولا تزول، لا توقف، مثل ما يحول ويزول، وإنما توقف وقفا يمنع من الأحداث فيها. والثاني: إنه يدخل في ضمانه، وتكون له الغلة، ويجب توقيفه وقفا يحول بينه وبينه؛ إذا ثبت له بشهادة شاهدين، أو شاهد وامرأتين. وهو قول مالك في رسم مرض بعد هذا من هذا السماع.
وظاهر قوله في موطئه إذ قال فيه: إن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت الحق، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة؛ إذ قال: إن التوقيف يجب إذا أثبت المدعي حقه، وكلف المدعى عليه المدفع. والقول الثالث: إنه يدخل في ضمانه، وتجب له الغلة، فالتوقيف بشهادة شاهد واحد، وهي رواية عيسى، عن ابن القاسم، في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب الدعوى والصلح؛ أنه يحلف مع شهادة شاهده، وتكون المصيبة منه.
وإن كانت يمينه بعد موتها، فإن قيل: كيف يحلف لتكون المصيبة منه، ويستحق المستحق بينه الرجوع على بائعه بالثمن؟ قيل: ألا يحلف؛ لأنه إن نكل عن اليمين على هذه الرواية، يحلف المستحق منه الذي مات العبد عنده، أنه لا حق للقائم فيه، ولقد ادعى باطلا، ويرجع عليه بقيمته؛ لأنه أحق عليه يمينه العدا في توقيفه عليه بغير حق، ويؤيد هذا ما يأتي في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى بعد هذا.
وقول أشهب في نوازل سحنون، من كتاب الرهون: فليست يمين المستحق على هذه الرواية ليستحق غيره، وهو المستحق منه الرجوع على بائعه بالثمن، وإنما هي لينفي عن نفسه العدا في التوقيف الذي يدعيه عليه المستحق منه، فإن نكل عن اليمين حلف هو، وأغرمه القيمة؛ فما وقع في أحكام ابن زياد من أن التوقيف يجب في الدار بالقفل، وتوقيف الغلة بشهادة الشاهد الواحد، يأتي على هذا القول الثالث.
وكذلك النفقة أيضا، القول فيها يجري على هذا الاختلاف، فعلى القول الأول لا يجب للمقضي عليه الرجوع بشيء من النفقة على المقضي له؛ لأنه إنما أنفق على ما ضمانه منه، وغلته له. وعلى القول الثاني يجب له الرجوع عليه بما أنفق بعد ثبوت الحق بشهادة شاهدين، أو شاهد وامرأتين؛ لوجوب الضمان عليه، وكون(11/143)
الغلة له من حينئذ. وعلى القول الثالث يجب له الرجوع عليه بما أنفق منذ وقف، بشهادة الشاهد الواحد، لوجوب الضمان عليه، وكون الغلة له من حينئذ. وقد فرق في رسم حمل صبيا من رواية عيسى، عن ابن القاسم، من كتاب الدعوى والصلح، بين النفقة والضمان والغلة. فقال: إن النفقة ممن تصير إليه، والغلة للذي هي في يديه؛ لأن الضمان منه، وساوى بين ذلك عيسى من رأيه، وهو القياس، وكذلك ظاهر المدونة أنه مفرق بين النفقة والغلة. والصواب أن لا فرق بينهما، وفي أن يكونا تابعين للضمان، إما من يوم وجوب التوقيف بشهادة شاهد واحد، وإما من وجوبه بشهادة شاهدين، وإما من يوم القضاء والحكم، وبالله التوفيق.
[العبد يدعي الحرية ويذكر بينة غائبة والجارية مثل ذلك]
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان المضمون قال مالك في العبد يدعي الحرية ويذكر بينة غائبة، والجارية مثل ذلك، قال مالك: لا أرى أن يقبل قول العبد، إلا أن يأتي ببينة، أو أمر يشبه فيه وجه الحق، فإن أتى بذلك، رأيت له ذلك، وإني لأستحب في الجارية أن يوقف صاحبها عنها، وإن كان مأمونا أمر أن يكف عن وطئها، وإن كان غير مأمون؛ إذا جاءت بأمر قوي في الشهادة، رأيت أن توضع علي يدي امرأة، ويضرب في ذلك أجل الشهرين والثلاثة، مثل الشاهد والعدل البين العدالة.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى أن يقبل قول العبد إلا أن يأتي ببينة، أو أمر يشبه فيه وجه الحق، فإن أتى بذلك، رأيت له ذلك، كلام وقع على غير تحصيل؛ إذ لا يصح أن يقبل قول العبد فيما ادعاه من الحرية، إلا إذا أتى على ذلك ببينة عدلة، لا إذا أتى على ذلك ببينة غير عدلة، أو بأمر يشبه فيه وجه الحق، والحكم في ذلك يفترق بين أن يأتي على دعوى بينة غير عدلة، أو بشاهد واحد عدل، وبين ألا يأتي بمن يشهد له ويشبه قوله، وبين(11/144)
أن لا يأتي بمن يشهد له، ولا يشبه قوله، حسبما مضى تحصيل القول فيه في سماع عبد المالك بن الحسن، من كتاب الأقضية، وقد مضى منه في رسم القبلة قبل هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون بيده الأرض يزرعها في حياة أبيه زمانا يحوزها ثم يهلك أبوه]
مسألة
وسئل مالك عن الرجل تكون بيده الأرض يزرعها في حياة أبيه زمانا يحوزها، ثم يهلك أبوه، فيقول: قد حزتها، وهي لي، قال مالك: ليس له ذلك إلا ببينة، أرأيت لو كان أبوه حيا، ثم قال ذلك، أكان ذلك له إلا ببينة؟ ومن ذلك أن يكون الولد في مال أبيه يدبر أمره، فهو وغيره ممن لا يدبر، بمنزلة واحدة، فقيل له: يا أبا عبد الله، فإن كان أجنبيا من الناس، قال ذلك أقوى أن يقول: اشتريت، ومات الشهود، وطال الزمان، فقيل له: أفترى ذلك للأجنبي؟ فوقف ولم يقض فيها بشيء، وكان رأيه أن يراه قويا. قال ابن القاسم: وهو رأيي، قال الإمام القاضي: مجرد الحيازة، لا ينقل الملك عن المحوز عليه إلى الحائز باتفاق، ولكنه يدل على الملك، كإرخاء الستر، ومعرفة العفاص والوكاء، وما أشبه ذلك من الأشياء، فيكون القول بها قول الحائز مع يمينه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» ؛ لأن المعنى عند أهل العلم في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو له، أي إن الحكم يوجبه له بدعواه، فإذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيها الحيازة عاملة، وهي عشرة أعوام، دون هدم ولا بنيان، أو مع الهدم والبنيان، على ما نذكره من الخلاف في ذلك بعد هذا وادعاء ملكا لنفسه، بابتياع أو هبة أو صدقة، وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه.
واختلف إن كان هذه الحائز وارثا، فقيل: إنه بمنزلة الذي ورث ذلك عنه، في مدة الحيازة،(11/145)
وفي أنه لا يتبع بها، دون أن يدعي الوجه الذي تصير به ذلك إلى مورثه، وهو قول مطرف وأصبغ، وقيل: تكون مدته في الحيازة أقصى، وليس عليه أن يسأل عن شيء؛ لأنه يقول: ورثت ذلك، ولا أدري بما تصير ذلك إليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم إن خرجت، من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب. وقول ابن الماجشون: وقوله عندي بين في أنه ليس عليه أن يسأل عن شيء، وأما المدة فينبغي أن يستوي فيها الوارث والمورث؛ لعموم قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حاز شيئا عشر سنين هو له» ، وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة المورث، مثل أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام ما كان مورثه، قد حاز خمسة أعوام، فيكون ذلك حيازة على الحاضر.
وقد اختلف على القول بأن العشرة الأعوام ليست بحيازة؛ إذا لم يكن هدم ولا بنيان، أو مع الهدم والبنيان إن طالت حيازته مدة تبيد فيها الشهود، وهي العشرون عاما على اختلاف في ذلك، فقيل: إن القول قوله في البيع والهبة والصدقة، وهو قول ابن القاسم في رسم البراءة، من سماع عيسى، من كتاب القسمة، وقيل: إن القول قوله في البيع، لا في الهبة والصدقة والنزول. وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من هذا الكتاب.
[أقسام الحيازات]
والحيازات تنقسم على ستة أقسام؛ لأنها على مراتب ست، أضعفها حيازة الأب على ابنه، والابن على أبيه، ويليها حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث، بعضهم على بعض، وتليها حيازة القرابة بعضهم على بعض، فيما ليس شرك بينهم فيه،(11/146)
والموالي والأختان الأشراك بمنزلتهم، وتليها حيازة الموالي والأختان بعضهم على بعض فيما لا شرك بينهم فيه، وتليها حيازة الأجنبيين الأشراك بعضهم على بعض، فيما لا شرك بينهم فيه، وهي أقواها، وقد قال: إن سبب الشركة أقوى من سبب القرابة، فالحيازة بينهم أضعف وهو بعيد، وإنما الذي يشبه أن يستوي السببان، وسنزيد هذا المعنى بيانا في رسم الكبش، من سماع يحيى، إذا وصلنا بالشرح إن شاء الله.
والحيازة تكون بثلاثة أشياء: أضعفها السكنى والازدراع، ويليها الهدم والبنيان، والغرس والاستقلال، ويليها التفويت بالبيع والهبة، والصدقة والنحل والعتق، والكتابة والتدبير والوطء، وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله، والاستخدام في الرفيق، والركوب في الدواب، كالسكنى فيما يسكن، والازدراع فيما يزرع، والاستقلال في ذلك كله كالهدم والبنيان في الدور، وكالغرس في الأرضين.
فأما حيازة الابن على أبيه، والأب على ابنه، فلا اختلاف في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع، ولا في أنها تكون بالتفويت من البيع والهبة والصدقة، والعتق والتدبير والكتابة والوطء، واختلف هل يحوز كل واحد منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس أم لا على قولين؛ أحدهما: أنه لا يحوز عليه بذلك، إن ادعاه ملكا لنفسه، قام عليه في حياته أو بعد وفاته، وهو قول مالك في هذه الرواية، والمشهور في المذهب، يريد والله أعلم، إلا أن يطول الأمر جدا إلى ما تهلك فيه البينات، وينقطع فيه العلم. والثاني: أنه يحوز عليه بذلك، قام عليه في حياته أو على سائر ورثته بعد وفاته؛ إذا ادعاه ملكا لنفسه، وكان لا ينتقل بالحيازة(11/147)
من موضع إلى موضع، وهو قول ابن دينار في كتاب الجدار، وفي الواضحة وقول مطرف في الواضحة أيضا.
وأما حيازة الأقارب الشركاء بالميراث، أو بغير الميراث، فلا اختلاف في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع، إلا على ما تأوله بعض الناس على ما في المدونة في قوله: وهذا من وجه الحيازة الذي أخبرتك من أنه لا فرق على مذهبه في المدونة في الحيازة بين الأقارب والأجنبيين، وهو بعيد، ولا في أنها تكون حيازة بالتفويت من البيع والهبة والصدقة، والعتق والكتابة والتدبير والوطء، وإن لم تطل المدة.
فصل: وهذا الذي ذكرناه من أنه لا اختلاف في أن الحيازة تكون بين أهل الميراث بالتفويت من البيع والهبة والصدقة والعتق، والكتابة والتدبير، وما أشبه ذلك من الوطء، الذي لا يصح للرجل أن يفعله إلا فيما خلص من ماله، وإن لم تطل المدة، هو أمر متفق عليه في الجملة، ويفترق الحكم فيه على التفصيل؛ إذ لا يخلو من أن يكون فوت بذلك كله الكل أو الأكثر، أو الأقل أو النصف، وما قاربه.
فأما إذا فوت الكل بالبيع، فإن كان المحوز عليه حاضر الصفقة، فسكت حتى انقضى المجلس، لزمه البيع في حصته، وكان له الثمن، وإن سكت بعد انقضاء المجلس، حتى مضى العام ونحوه، استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه أنه انفرد بالوجه الذي يذكره من ابتياع أو مقاسمة أو ما أشبه ذلك، وإن لم يعلم بالبيع إلا عند وقوعه، فقام حين علم، أخذ حقه، وإن لم يعلم إلا بعد العام ونحوه، لم يكن له إلا الثمن، وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة، لم يكن له شيء، واستحقه الحائز بما ادعاه بدليل حيازته إياه.
وأما إذا فوته بالهبة أو الصفقة، أو التدبير أو العتق، فإن كان حاضرا فسكت حتى انقضى المجلس، لم يكن له شيء، وإن لم(11/148)
يكن حاضرا، فقام حين علم، كان على حقه، وإن لم يقم إلا بعد العام ونحوه، كان القول قول الحائز، وإن لم يكن له هو شيء.
وأما إذا فوته بالكتابة، فيتخرج ذلك على الاختلاف بالكتابة، هل تحمل محمل البيع، أو محمل العتق؟ وقد مضى القول في كل واحد منهما، وكذلك إذا حاز الكل بالوطء والاتحاد بعلم المحوز عليه من الورثة فهي حيازة، وإن لم تطل المدة، فإن حاز شيئا مما ذكرناه الأكثر، كان الحكم فيه على ما تقدم، ويختلف في الباقي على قولين؛ أحدهما: أنه يكون تبعا للأكثر، فيستحقه الحائز بحيازته الأكثر، مع يمينه على ما ادعاه من أنه صار به إليه. وهو قول ابن القاسم قرب آخر رسم الكبش، من سماع يحيى بعد هذا، إلا أنه لم يذكر اليمين. والقول الثاني: أنه لا يكون تبعا له، فيكون للمحوز عليه حقه فيه بعد يمينه على تكذيب صاحبه في دعواه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع سحنون؛ إذ لم يفرق في ذلك بين القليل والكثير، فكان الشيوخ يحملونه على الخلاف لما في سماع يحيى.
وإن حاز بشيء مما ذكرنا الأقل، فقيل: إنه يستحقه بحيازته إياه، ولا يكون تبعا لما لم يحز، وهو ظاهر قول ابن القاسم أيضا في سماع سحنون بعد هذا، وقيل: إنه لا يستحقه بحيازته إياه بذلك، ويكون تبعا لما لم يحز، فيأخذ المحوز عليه حقه فيه، إن كان عبدا فأعتق كان له قيمة حظه على الذي أعتقه، وإن بيع كان له حظه من الثمن الذي بيع به، وإن وهب أو تصدق به أخذ حظه منه، إلا أن لا يجده فيكون له قيمة حظه منه على الذي وهب أو تصدق به. وهو قول ابن القاسم قرب آخر رسم الكبش، من سماع يحيى بعد هذا.
وأما إذا فوت بشيء من ذلك كله النصف أو ما قاربه، فلا اختلاف في أنه لا يكون بعض ذلك تبعا لبعض، فيستحق الحائز بحيازته ما(11/149)
حاز منه، ويكون ما لم يحز منه بينهما على سبيل الميراث. فيتأول ما في سماع سحنون على أن الذي حازه الوارث بهذه المعاني متناصفا أو متقاربا، فلذلك قال: إنه لا يكون القليل تبعا للكثير، لا فيما حاز ولا فيما لم يحز، فلا يكون على هذا ما في سماع سحنون مخالفا لما في سماع يحيى، ولا يكون خلاف في أن القليل تبع للكثير فيما حيز وفيما لم يحز، على ما وقع في سماع يحيى.
وهو أول من حمل ذلك على الخلاف على ما كان يحمله عليه الشيوخ، وكذلك القول فيما حازه الوارث على أوراثه بالهدم والبنيان، أو الاستغلال العشرة الأعوام، على القول بأن ذلك يكون حيازة بين الأوراث، يختلف هل يكون القليل من ذلك تبعا للكثير فيما حيز، وفيما لم يحز على ما ذكرناه، ولا فرق في مدة حيازة الوارث على أوراثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض، وإنما يفترق ذلك في حيازة الأجنبي مال الأجنبي بالاعتمار والسكنى والازدراع في الأصول، والاستخدام والركوب واللباس في الرقيق والدواب والثياب، فقد قال أصبغ: إن السنة والسنتين في الثياب حيازة إذا كانت تلبس وتمتهن، وإن السنتين والثلاث حيازة في الدواب إذا كانت تركب، وفي الإماء إذا كن يستخدمن، وفي العبيد والعروض فوق ذلك، ولا يبلغ في شيء من ذلك كله بين الأجنبيين إلى العشرة الأعوام كما يصنع في الأصول قال: وما أحدث الحائز الأجنبي فيما عدا الأصول من بيع أو عتق أو تدبير أو كتابة أو صدقة أو إصداق أو وطء في الإماء بعلم مدعيه أو بغير علمه، فلم ينكر ذلك حين بلغه استحقه الحائز بذلك.
هذا كله معنى قول أصبغ دون نصه، واختلف قول ابن القاسم في حيازة الشركاء بالميراث بعضهم على بعض بالهدم والبنيان، فمرة قال: إن العشر سنين في ذلك(11/150)
حيازة، ومرة قال: إنها لا تكون حيازة إلا أن يطول الأمر أزيد من الأربعين سنة، كحيازة الأب على ابنه والابن على أبيه، وقع اختلاف قوله في رسم الكبش، من سماع يحيى، من هذا الكتاب. وأما حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شرك بينهم فيه، فمرة جعله ابن القاسم كالقرابة الأشراك، فرجع عن قوله في أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان، إلى أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير، وهو نص قوله في الرسم المذكور، من سماع يحيى بعد هذا؛ ومرة رآهم بخلاف القرابة الأشراك، فلم يرجع عن قوله في أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان، وهو دليل قوله في الرسم المذكور من رواية يحيى.
ثم رجع ابن القاسم فيما يحوزه الوارث على أشراكه بالهدم والبنيان؛ لأن فيه دليلا أنه لم يرجع عن قوله فيما سواهم من الموالي والأصهار والقرابة، الذين لا شركة بينهم، فيتحصل على هذا فيهما جميعا ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان حيازة فيهما جميعا. والثاني: أنها ليست بحيازة فيهما، إلا مع طول المدة. والثالث: الفرق بينهما، وأما حيازة الموالي والأختان والأصهار، فيما لا شركة لهم فيه، فمرة جعلهم ابن القاسم كالأجنبيين، تكون الحيازة بينهم بالعشرة الأعوام، دون هدم ولا بنيان، وهو قوله في رسم شهد، من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب، وقوله في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، من كتاب الدعوى والصلح، ومرة جعلهم كالقرابة الذين لا شركة بينهم، فيتحصل فيهم ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الحيازة تكون بينهم في(11/151)
العشرة الأعوام، وإن لم يكن هدم ولا بنيان. والثاني: أنها لا تكون الحيازة بينهم في العشرة الأعوام إلا مع الهدم والبنيان. والثالث: أنها لا تكون الحيازة بينهم بالهدم والبنيان، إلا أن يطول الزمان جدا.
وأما الأجنبيون الأشرك، فلا حيازة بينهم في العشرة الأعوام. إذا لم يكن هدم ولا بنيان، وتكون في العشرة الأعوام حيازة مع الهدم والبنيان، ولا يدخل اختلاف قول ابن القاسم في ذلك، الواقع في الرسم المذكور من سماع يحيى، بدليل قوله فيه بين الورثة يحاص، وقد قيل: إنه يدخل اختلاف قول ابن القاسم في ذلك، وهو تأويل عيسى بن دينار في كتاب الجدار، وسنزيد هذا المعنى بيانا في رسم الكبش، من سماع يحيى إن شاء الله.
وأما حيازة الأجنبيين بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه، فالمشهور في المذهب، أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام، وإن لم يكن هدم ولا بنيان، وفي كتاب الجدار لابن القاسم، أنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان، وهو قول ابن القاسم في رواية حسين بن عاصم عنه، ودليل ما في رسم إن خرجت من سماع عيسى بعد هذا، من هذا الكتاب، ويشهد لهذا القول ما وقع في الموطأ من قول ابن عبد الرحمن بن عوف في الأرض التي مكثت في يد أبيه سنين، فما كنت أراها إلا لنا من طول ما مكثت في يديه. ولا اختلاف في أنها تكون حيازة بينهم مع الهدم والبنيان، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق، اللهم لطفك.
[ابتاع جارية فتصدق بها على رجل ثم توفي واعترفت الجارية حرة]
ومن كتاب أوله سلعة سماها
وسئل عن رجل ابتاع جارية، فتصدق بها على رجل، ثم إن(11/152)
الذي ابتاعها توفي، واعترفت الجارية حرة، فأخذ الثمن من البائع، لمن تراه؟ الورثة المتصدق، أم للذي تصدق بها عليه؟ قال: بل لورثة الذي تصدق بها، وليس للذي وهبت له من الثمن شيء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب الشفعة من المدونة زاد فيها، وكذلك لو اشترى دارا فوهبها لرجل، فأتى رجل، فاستحق نصفها، وأخذ النصف الباقي بالشفعة، لم يكن للموهوب له من نصف الثمن الذي يأخذه المستحق بالشفعة شيء؛ لأن الواهب إنما وهب له الدار، ولم يهب الثمن، بخلاف إذا اشترى شقصا من دار، فوهبه لرجل، وهو يعلم أن لها شفيعا؛ لأن الواهب قد علم أن الشفيع إن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فليس له من الثمن شيء، ولو لم يعلم أن لها شفيعا لكان الثمن له، وقد اختلف هل هو محمول على العلم أو على غير العلم؟ وفي الشفعة من المدونة دليل على القولين جميعا، وبالله التوفيق، اللهم لطفك.
[يشتري السلعة فتوجد مسروقة فيقيم الذي اعترفها البينة عليها]
ومن كتاب الشريكين
قال مالك في الرجل يشتري السلعة فتوجد مسروقة، فيقيم الذي اعترفها البينة عليها أنه ما باع ولا وهب في عملهم، ويحلف على ذلك ثم يعطاها، فإن أراد الذي اعترفت في يديه، أن يذهب بها إلى صاحبها الذي اشتراها منه ليأخذ ثمنها، فإن ذلك له، ولكن يضع قيمتها للذي استحقها، ثم تدفع إليه حتى يستخرج حقه، ولا بد له من ذلك، فإن دخل السلعة تلف من موت أو نقصان، لحق أو(11/153)
غيره ضمنها، وكانت قيمتها للذي اعترفها، فإن تلفت القيمة، فهي من الذي كانت تصير إليه. قال مالك: وإن كانت جارية لم يأمنه عليها، رأيت أن يلتمس قوما ممن يخرج إلى تلك البلاد، فتدفع إليهم يكونون معها حتى يبلغونها، ويستخرج حقه، وإن لم يجد أحدا رأيت أن يستأجر عليها من يؤمن عليها، يخرج بها معه. قال ابن القاسم: وتكون تلك الأجرة على من يطلب بها حقه.
قال محمد بن رشد: قوله: فيقيم الذي اعترفها البينة عليها، أنها ماله وملكه، وأنه ما باع ولا وهب في علمه، يريد فيقيم الذي اعترفها البينة عليها، أنها ماله وملكه، وأنه ما باع ولا وهب في علمهم. وقوله: ويحلف على ذلك صحيح؛ لأن ما تشهد البينة فيه على العلم، فاليمين عليه من تمام الشهادة، وسقط في بعض الروايات من هذه المسألة في علمهم، وإذا سقط ذلك كان الظاهر أن البينة شهدت بذلك على القطع، وفي ذلك اختلاف، قد مضى القول فيه مستوفى في رسم الأقضية، من سماع أشهب، من كتاب الشهادات، فمن أحب الوقوف عليه، والعثور على حقيقة القول فيه، تأمله هناك، وسائر وجوه المسألة كلها بينة صحيحة لا اختلاف فيها، ولا إشكال في شيء من معانيها، وأصلها في المدونة وغيرها، وقد مضى طرف منها في رسم القبلة قبل هذا، وبالله التوفيق؛ اللهم لطفك.
[شهدوا في السرقة تسرق من رجل]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وقال مالك في الشهود: إذا شهدوا في السرقة تسرق من رجل، قال: يشهدون أنهم ما علموه باع، ولا وهب على العلم. قال ابن القاسم: هذا في الاستحقاق، ولا يقطع السارق بهذه الشهادة،(11/154)
ولا يقطع حتى يشهد أنهم رأوه يسرق.
قال محمد بن رشد: قوله: يشهدون أنهم ما علموه باع ولا وهب، معناه: أنهم يزيدون ذلك في شهادتهم على معرفة الملك بالبت؛ إذ لا بد من الشهادة على معرفة الملك بالبت، وأما الزيادة على ذلك بأنهم لا يعلمونه باع ولا وهب، فهو من كمال الشهادة. ومما ينبغي للقاضي أن يوقف الشاهد على ذلك ويسأله عنه، فإن أبى أن يزيده في شهادته بطلت، ولم يصح الحكم بها، وإن قصر القاضي عن توقيف الشهود على ذلك، وسؤالهم عنه حتى ماتوا، أو غابوا حكم بشهادتهم مع يمين الطالب؛ إذ لا يصح للشاهد أن يشهد بمعرفة الملك، إلا مع أن يغلب على ظنه أنه لم يبع ولا وهب، فهي محمولة على الصحة. وقول ابن القاسم: إن السارق لا يقطع بهذه الشهادة، ولا يقطع إلا بالشهادة على معاينة السرقة بين واضح، لا إشكال فيه ولا اختلاف، وبالله التوفيق.
[وجد جاريته عند رجل قد ابتاعها وادعى أنها مسروقة فشهد عدلان أنها جاريته]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد وقال مالك في رجل وجد جاريته عند رجل قد ابتاعها، وادعى أنها مسروقة، فأقام رجلين عدلين، فشهدا أنها جارية له، ثم هلكت بيد الذي هي بيده، ولم يقض له بها. قال: أراها من الذي قامت له البينة بأنها مسروقة منه، ولا أرى له في ثمنها شيئا، وأن مصيبتها منه. قال ابن القاسم: ويرجع الذي كانت الجارية في يديه على بائعه بالثمن، وذلك إذا كان الذي استحقت في يده منتفيا من وطئها، ومن حمل إن كان بها، وأما إذا كان مقرا بوطئها ولم يدع الاستبراء، فماتت قبل أن تستبرأ فمصيبتها من الذي استحقها في يديه؛ لأن كل من كان عليه أن يستبرأ منه، فمصيبتها منه حتى يستبرئ.(11/155)